نصائح غالية من الشيخ -حفظه الله- لطلبة العلم
إن الدعوة إلى الله من أجل وأشرف الأعمال التي يحبها الله ويرضاها للعبد، ولا يكون الإنسان داعية بكل ما تعنيه الكلمة إلا إذا كان طالب علم يثني ركبتيه في حلق الذكر، وبين أيدي العلماء، ويحتاج الداعية في طلبه للعلم إلى جد واجتهاد وصبر، حتى يصبح داعية موفقاً مقبولاً عند الناس.(1/1)
العلم سلاح الداعية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
أما بعد: فالدعوة إلى الله من أحب الأعمال إليه سبحانه وتعالى، ويشهد بذلك قوله عز وجل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] (ومن دعا إلى هدى كان له أجره وأجر من عمل به إلى يوم القيامة لا ينقص من أجورهم شيء) ومن حمل هم وأمانة الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالة الله إلى عباده؛ فقد حمل أشرف الأشياء وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، بل إنه الشيء الذي خلق الله من أجله خلقه وهو عبادته، ولا عبادة إلا بالعلم، ولا عبادة إلا بالبصيرة: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108].
فلا بد للداعية أن يستشعر -أولاً- ما هي الدعوة، وما هي الرسالة التي يحملها والأمانة التي في عنقه لأهلها، فإذا عرف عظم هذه المسئولية علم أنه يتكلم لله وفي الله، وابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، وأنه يعقد الصفقة فيما بينه وبين الله أن يكون أجره على الله لا على أحد سواه {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} [سبأ:47] وقال عن أنبيائه، نوح وهود وصالح وشعيب ولوط: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] أجرك على من بيده خزائن السموات والأرض، ويده سحاء في الليل والنهار أجرك على من يكتب لك الكلمة والجملة والحرف، على من يكتب لك الخطوة والتعب والنصب والسهر، ويكتب لك كل صغيرة وكبيرة سبحانه وتعالى، يحصيها لك فيكتب لك أجرها وثوابها، فتوافيه يوم توافيه بمثاقيل الحسنات إن تقبلها منك، وأجرك على من لا يضيع أجر من أحسن عملاً، وهو الله جل جلاله.
على الداعية أن يستشعر أن هذا المقام أحب المقامات إلى الله عز وجل، وهو مقام الأنبياء والرسل، فإن (العلماء ورثة الأنبياء)، ولابد على الداعية أن يجتهد في طلب العلم حتى يكون عالماً، ولا تكون دعوة إلا بعلم، ومن يريد أن ينال فضل الدعوة على أتم وجوهه، وأن يكون في أكمل صوره فليتم العلم وليأخذ وينهل منه، ويحرص على مجالسه، ويكون من أهل تلك الرياض التي تنشر فيها رحمة الله ويبتغى فيها ما عند الله، وعليه أن يصبر ويصابر ويجد ويجتهد فيها، ويحتسب الأجر عند الله سبحانه وتعالى في جميع ذلك حتى يبلغ من العلم أعلى المراتب، فإذا بلغ ذلك قام بالدعوة على أتم وجوهها وأكملها.
أول ما ينبغي علينا هو طلب العلم، وإذا طلبت العلم فاطلبه بقوة وعزيمة وهمة صادقة، لا يثنيك عنها شيء، لا تثنيك عنها الدنيا وزينتها وغرورها وما فيها من متاعها الزائل وغرورها الحائل، إنما تجد وتجتهد وأنت تعلم أنك أنت الرابح، فلا تقوم بضعف وتظن أن الدنيا ستفوتك، وأن أهل الدنيا يتاجرون ويربحون وأنت لا تربح، لا، بل تطلب العلم وتعلم أنك أربح صفقةً وأكثر ربحاً في تجارتك مع الله سبحانه وتعالى، طلب أقوامٌ العلم فكفاهم الله همَّ الدنيا والآخرة، واقرأ في سير العلماء، فمنهم من كان لا يجد طعمة يومه، وتراه مرقع الثياب، حافي الأقدام، ولكنه أغنى الناس في الله جل جلاله، وأسعد الناس وأشرحهم صدراً، وألينهم جناناً، وأصدقهم لساناً، وأوضحهم بياناً، أغنى الناس بالعلم الذي وضع الله في قلبه وفي لسانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] لما صبروا في طلب العلم وتحصيله، لا يشتكي أحدهم من السهر ولا من التعب في طلب العلم، إنما يبحث عن هذا العلم بكل همة وبكل صدق وعزيمة.
فإذا جدَّ طالب العلم في طلبه فعليه أن يعلم أن منزلته عند الله على قدر ما يحصل من العلم، فإن الله يرفع بهذا العلم درجات، وقد تجلس في المجلس الواحد وتدرس فيه مسائل قل من يضبطها ويحصلها، فتكفي الأمة همها، وتسد ثغرها، فيكون أجرك عند الله عظيم، فترفع درجتك على نفاسة هذا العلم، وبقدر ما كان علمك نفيساً عظيماً محتاجاً إليه بقدر ما تكون درجتك عند الله أعلى وأسمى.
ويجب أن تعلم أن هذا العلم يحتاج منك إلى الأمانة، فإذا جلست في مجالس العلم ضبطت وتقيدت بما سمعت، فلا تزيد من عندك شيئاً، ولا تحدثن في دين الله برأيك ما لم يكن عندك حجة أو برهان.
احرص في مجالس العلم على أن تسمع وتحفظ ثم بعد ذلك تعمل بضوء ما علمت، وتبلغ ما سمعت، وهذا أكمل ما يكون في العلم، أن يكون قلبك واعياً بكل ما يقال، وتتقيد بالكلمة لا تزيد ولا تنقص، وإن استطعت ألا تأتي بالمعنى وإنما تأتي باللفظ نفسه فهذا شيء حسن، فإذا بلغت ذلك كملت نضارة وجهك، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها فحفظها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) إذا أردت أن تدعو إلى الله على أكمل المراتب وأفضلها فعليك أن تضبط العلم ضبطاً تاماً.
إذا تعودت على هذا الضبط وضع الله لك القبول، وثق ثقةً تامة أن الله مطلع على سريرتك وعلى ما في قلبك، واعلم أن نظر الله إليك في كل مجلس وفي كل درس، فحاول أن تفهم وتضبط كل كلمة وكل عبارة وكل جملة، فالعلم تسمو به الأرواح والأنفس.(1/2)
الاجتهاد في طلب العلم والصبر على ذلك
أبو عبيد القاسم بن سلام؛ إمام من أئمة السلف، وديوان من دواوين العلم والعمل، كان آية في القراءات، وفي علم اللغة في لسان القرآن آية في الحديث ويروي بالأسانيد، وآية في الفقه، وهو صاحب كتاب الأموال -رحمة الله عليه- وغيره من الكتب النافعة، وصاحب كتاب الغريب، فهذا الإمام العظيم وقف بعد صلاة العشاء بعد أن استوقفه رجل قدم عليه من خراسان يسأله عدة مسائل في الفقه، يقول: إنه وقف معه في شدة البرد، فقام معه رحمه الله يذاكره ويسأله وهو يراوح بين قدميه، فلم يشعر إلا وقد أذن الفجر.
لا تستغربوا من ذلك، لا تظنوا أنه ضربٌ من الخيال، والله إنك إذا ذقت لذة العلم تسمو عن كل شيء، فإذا ذهبت إلى تلك المعاني المستنبطة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإلى هذا الكنز العظيم أحسست بالغبن أن سلفك الصالح سهرت عيونهم وتعبت أجسادهم من أجل أن يخرجوا لك هذا العلم، وأنت عنه بعيد ولو لم يجد -الرجل منهم- إلا صخرة يكتب عليها لنقش العلم عليها حتى لا يفوت عمن بعده؛ لأن النصيحة لله ولأمة الإسلام، فرضي الله عنهم ورحمهم برحمته الواسعة، فإذا كانت هذه همة صادقة بذلها السلف لنا من أجل أن نحفظ علومهم، فالغبن كل الغبن أن ننظر إلى كتبهم وبيننا وبينها حواجز، ما نعلمها؛ لأن علمنا علم سطحي لا نتعمق فيه ولا نضبطه ولا نجتهد في طلبه.
طالب العلم اليوم يقف عند الحكم فقط، دون أن يبحث عن الدليل ووجه الدلالة، وهل هو صحيح أو غير صحيح، وإذا كان غير صحيح فلماذا ليس بصحيح؟ فتغوص في أعماق العلم، فإذا أصبحت بهذه المثابة بوأك الله من العلم أعلى المكانة، فإذا تعبت وأصبحت تبحث عن كل صغيرة وكبيرة، وتجد وتجتهد، فلا تشتك من سهر ليل ولا من ظمأ الهواجر أو من غربة أو من تعب ونصب، وإنما تشعر بأنك أنت الرابح.
لا إله إلا الله! كم من تاجر تجده الآن في الموسم، اذهب الآن إلى الأسواق في رمضان وفي ذي الحجة تجد التجار يسهرون ويتعبون ويحسون بالنشاط، والرجل تجده أمام أولاده يقول لهم: هذا موسمي هذا رزقي من الله عز وجل لا أفرط فيه، ويعتبر رجلاً لأنه وضع الشيء في موضعه، وهو يبحث عن الدنيا، فكيف بمن يخوض في رحمة الله جل جلاله؟ مكانك عند الله على قدر العلم، فابحث عن العلم الموروث من الكتاب والسنة، وابحث عن العلم المستنبط من الكتاب والسنة، فكن رجلاً يطلب العلم، ويجد ويجتهد، ولا تقف عند الأمور السطحية، وحاول أن تغوص في أعماق العلم، فإذا تعبت في طلب العلم طالباً أراحك الله مطلوباً، وإذا تعبت في طلب العلم طالباً وذللت فيه أعزك الله مطلوباً.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: (ذللت طالباً وعززت مطلوباً) فكان رضي الله عنه يقف في يوم عرفة يفسر القرآن، يقول بعض أصحابه: (لقد شهدت من ابن عباس مشهداً في يوم عرفة لو رأته الروم لأسلمت) لقد وقف يفسر سورة النور آية آية، وكأنه يغرف من بحور، كان إذا تكلم في اللغة خاض فيها وفي لسانها وبيانها وأسرارها ونكتها وبلاغتها وفصاحتها، وإذا تكلم في علم القرآن رأيت العجب في استنباطاته وهو يستنبط، كيف وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل)، ومع كل ذلك العلم ورع وعمل مصحوب مع علمه رضي الله عنه وأرضاه، فهذا هو الذي يبحث عنه الإنسان.(1/3)
من اجتهد في طلب العلم طالباً أكرمه الله مطلوباً
ما دمت قد عرفت شرف هذا العلم فعليك أن تضحي بكل ما تجد من أجل بلوغه، فإذا نظر الله إليك أثناء الطلب وأنت تتعب وتحصل، فاعلم أنه لا أكرم من الله ولا أوفى منه، فإذا تعبت اليوم فإن الله سبحانه وتعالى سيريك ثمرة تعبك، ولن تموت حتى يقر عينك بما ترى، إن كنت تعبت في الطلب وكنت تحرص على أخذ العلم كاملاً سخّر الله لك طلاب علم يتعبون كما تعبت، ويحبون العلم كما أحببته، ويأخذونه من فمك -طيباً مطيباً- كما أخذته من علمائك طيبا مطيباً، وكما أصبحت أنك قرت عين للعالم الذي أخذت عنه وهو يراك مجداً محصلاً فلا بد أن يقر الله عينك لطلابك، وهذه سنة لله عز وجل، وانظر في السلف؛ فإنك لا تجد طالباً لزم عالماً وأخذ عنه وضحَّى معه إلا ونبغ بعد وفاته، وأصبح مكانه يحاكيه ويماثله؛ ابن عباس عندما توفي جاء بعده سعيد بن جبير، وطاوس بن كيسان، ومجاهد بن جبر، فإذا نظرت إلى تلامذة ابن عباس كدت لا تفرق بينهم وبينه علماً وعملاً، فلا بد وأن يقر الله عينك بقدر تعبك في طلب العلم.
الآن انظر إلى الذين يأخذون من الكتب ويقرءون فيها -ولو كانوا أذكى الناس- فإنهم إذا رقوا منبراً أو تكلموا في أمة لن تجد لهم من القبول والمحبة والرضا ما تجده لمن تغبَّرت قدماه وذلَّ تحت أقدام العلماء لله جل جلاله، فإنك تجد من المحبة والألفة والقبول لهذا ما لا تجده لذلك، مع أنه أذكى وأحفظ، لكن لن تجد له من القبول مثل ما تجد لهذا؛ لأن الله سبحانه وتعالى عدل، ومن عمل خيراً فإن الله سبحانه وتعالى يوفيه خيراً في الدنيا وفي الآخرة.
وفي زمن طلبي للعلم قلَّ أن نرى شاباً يطلب العلم، والله يشهد، ولا نقول هذا تفاخراً بل كل الفضل والمنة لله، وقد كنت -والله- أدخل المسجد النبوي وأرى كثيراً ممن يجلسون في مجالس العلماء هم من كبار السن، وكان الشيطان يأتيني ويقول لي: إذا مات هؤلاء فمن الذي يطلب عندك؟ ولو جلست تطلب العلم عشر سنوات فسيموتون أو يهرمون ولن يحضروا دروسك.
هكذا كان عدو الله يقول لي، فلم نكن نرى الشباب بالكثرة التي نراها اليوم، ولكنها كلمة الله ودين الله، وإذا تولى الله دينه فإنه نعم المولى ونعم النصير.
المقصود: أنه ينبغي على من أراد أن يدعو إلى الله عز وجل أن يتعب في طلب العلم، ويحرص على ألا يتصدر إلا بعد الضبط والجلوس بين أيدي العلماء حتى يكون له من القبول مثل ما كان لهم، بل إن الله يزيدك، وكان أحد السلف رحمه الله يقول: اللهم اجعلني كفلان، فقيل له: لا، بل قل: خيراً من فلان، فإن فضل الله عظيم وخزائنه ملأى، ويده سحاء في الليل والنهار، ومن أحسن ظنه بالله فإن الله لا يخيبه كما في حديث أحمد في مسنده قال صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فمن ظن بي خيراً كان له).
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح، اللهم اجعلنا ممن ظن بك الخير، ووفيته وزدته من فضلك يا كريم، اللهم اجعل علمنا حجةً لنا لا حجة علينا، اللهم بيض به وجوهنا، وثقل به موازيننا، وارحمنا به يوم عرضنا عليك يا أرحم الراحمين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وآله.(1/4)
حقيقة الالتزام
إن من ينتسب إلى الالتزام ينبغي عليه أن يكون قلبه مطمئناً بذكر ربه جل وعلا، وأن يكون راضياً بقضاء الله وقدره، حريصاً على فضائل الأعمال والإكثار منها، وأن يعلم أن هذه الطريق شاقة، ومليئة بمخاطر السخرية والاستهزاء والابتلاءات؛ فلا يثبت عليها إلا الرسل وورثتهم من العلماء الربانيين وطلبة العلم المحتسبين.(2/1)
وصايا للملتزمين
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين والمؤمنات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالآيات البينات بشيراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:(2/2)
تذكر الموت في كل لحظة
الوصية الأخيرة التي يوصى بها كل من التزم بدين الله عز وجل: أن يحس بقرب الأجل؛ فإن طول الأمل في الدنيا يقسي القلوب، وإذا قست القلوب عميت البصائر -نسأل الله ألا يعمي لنا بصيرة- فإذا عميت بصيرة العبد ضل وأضل وشقي وأشقى، نسأل الله السلامة والعافية.
فإذا قصر أملك في الدنيا خفت من الآخرة، وإذا خفت من الآخرة عملت لها فقوي التزامك، وكملت هدايتك، وأصبحت قوي القلب في طاعة الله عز وجل، وصورة ذلك: (إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
واحسس كأن الموت أدنى إليك من شراك نعلك، فكم من إنسان ضحك لأخيه وتبسم في وجهه ثم فارقه في طرفة عين! فالآجال مكتوبة، إذا جاء الأجل لا يستأخر ساعة ولا يستقدم.
إذا أراد العبد أن يبارك الله له في هدايته جعل الموت نصب عينه، فإن ذلك يزيد من الطاعة ومن الالتزام والهداية، وكما أنه يزيد من الخوف من الله وخشيته سبحانه وتعالى، ولقد نغص الموت كل طيب إلا ما طاب لله جل جلاله: علمي بأني أموت نغص لي طيب الحياة فما تحلو الحياة لي فالإنسان إذا تذكر أنه سيموت ويرحل أحس أن أشجانه كلها للآخرة، وأن هذه الدنيا ما هي إلا كبلغة يتبلغ بها لدار ليس من بعدها دار، ولقرار هو القرار، إما في جنة وإما في نار، وسيعلم الإنسان منقلبه بينهما، فلا منزل ثابت يصير إليه غيرهما.
نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يثبتنا بالقول الثابت، وأن يعصمنا من الزلل في القول والعمل، وأن يعيذنا من مضلات الفتن، فقد ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال كما في الصحيح: (تعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن) فقولوا: نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله.(2/3)
مدار الالتزام على القيام بحقوق الله والرضا بقضائه
وليعلم الملتزم أنه مهما التزم بطاعة الله فلا بد أن يمتحن، والله يقول في كتابه: {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:186] فلا بد من الابتلاء، وعلى هذا يكون مدار الالتزام على هاتين القاعدتين العظيمتين: إحداهما القيام بحقوق الله على أتم الوجوه وأكملها، ويدخل في ذلك الحرص على النوافل والخيرات، والثاني: الرضا عن الله سبحانه وتعالى في كل صغير وكبير وجليل وحقير، فمن التزم فإنه لا ينتكس عن التزامه إلا بأحد الأمرين: إما بإضاعته لحقوق الله، وإما بسبب سخطه على قضاء الله وقدره فضاقت نفسه؛ فضيق الله عليه في الدنيا والآخرة.
فعلى الإنسان الذي ذاق حلاوة الهداية وأحب أن يبارك الله له فيها وأن يختم الله له فيها بخير أن يحرص على هذين الأمرين: أحدهما القيام بحقوق الله، فإن الله يرضى من عبده أن يقوم بحقه: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق:31 - 34] ادخلوها بسلام يوم سلمتم جوارحكم وأركانكم لله جل جلاله، أسلمت واستسلمت، وكل من أسلم واستسلم في بلاء فإن الله يعده على ذلك بالخير في الدنيا والآخرة.
يقول الله عن نبيه إبراهيم وهو في أشد مواقف الابتلاء وأعظمها وأكربها، وقد أضجع ولده ووضع السكين عليه لكي يقيم حق الله الذي أمره به: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات:103 - 105] قال العلماء: لما أسلم، أي: استسلم لأمر الله جاء الفرج.
فكل من استسلم لقضاء الله وقدره ونزلت به الهموم والغموم فأسلمها لله معتمداً على الله متوكلاً عليه؛ فإن الله لا يخيبه، ومن ذلك: إذا التزم بدين الله وطاعته ومحبته.(2/4)
الالتزام وحب القرآن والسنة
وإذا أحب الله عبداً وأراد أن يبارك له في التزامه حبب إلى قلبه كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فإذا أراد الإنسان أن يرى مقدار حب الله له فلينظر إلى منزلة القرآن من قلبه، فإن وجد أنه يتأثر بالقرآن صدق التأثر، ويشتاق إلى القرآن كمال الشوق، وأن هذا الكتاب يبكيه وعيده وتهديده ويشوقه وعده، فليعلم أن له عند الله مكانة.
إذا أصبح من أهل القرآن المتأثرين بآياته ومواعظه، المحبين لسماعه، والمتلهفين على تلاوته وتدبره، فليعلم أن تلك رحمة من الله سبحانه وتعالى، يصطفي لها من شاء من خلقه وعباده، جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل.
إن العبد لا يزال يقرأ القرآن ويحبه حتى يشفعه الله فيه: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89]، ولا يزال العبد يحب كتاب الله حتى يقر الله عينه بكلامه، وما من إنسان أحب القرآن صدق محبة ورغب فيه بصدق الرغبة إلا تبوأ منزلة عند الله وعند خلقه، ولذلك ترى أهل القرآن أشرح صدراً وأيسر أمراً وأكثر ذكراً، وهم عند الله بمكان، ولقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم: (أن القرآن يأتي يوم القيامة شهيداً أو شفيعاً لأصحابه) فنعمت الشهادة من كلام الله جل جلاله، ونعمة الشفاعة من كلام الله سبحانه وتعالى، فهو الشفيع الذي لا ترد شفاعته.
والشهيد الذي لا تكذب شهادته! وإذا أراد الله بالملتزم خيراً حبب إلى قلبه سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا أردت أن ترى عبداً بارك الله له في هدايته فانظر إلى ذلك العبد الذي يبحث عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إذا أراد أن يتكلم أخذ يبحث كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم؟ وماذا كان يقول؟ (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) (المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه) فيكون مسلماً حقاً قد سلم المسلمون من هناته وزلاته وخطيئاته وعوراته، فإذا تكلم تكلم كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم؛ عفيفاً عن أعراض المسلمين، دالاً على الخير، مذكراً بالله سبحانه وتعالى، فلا تسمع منه إلا الذكر أو الشكر أو كلمة في منافعه الدنيوية، أما ما عدا ذلك فإنه أعف الناس عن قول الحرام، وأبعدهم عن فضول الكلام، فمن يتأسى بهديه صلوات الله وسلامه عليه في الأفعال حتى أنه لا يرفع قدماً ويضع أخرى إلا وهو يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم في رفعها ووضعها، قال بعض السلف: (إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بسنة فافعل) بمعنى أنك لو أردت أن تقوم على شأنك الخاص فلتتذكر أن هديه عليه الصلاة والسلام أنه يبدأ باليمين قبل الشمال؛ فتبدأ باليمين قبل الشمال تأسياً به عليه الصلاة والسلام.
فإذا وجدت الشاب المهتدي يسأل عن السنة، ويحرص على تطبيقها، ويغشى مجالس العلماء للعلم بها والعمل؛ فاعلم أن الله بارك له في التزامه وهدايته، وإذا وجدته غافلاً عن سنة النبي صلى الله عليه وسلم وعن هديه، فإن المحروم من حرم.(2/5)
حرص الشباب الملتزم على فضائل الأعمال
مما يبارك الله به في التزام العبد: حرصه على فضائل الأعمال، فإن الله أوجب الواجبات، وحرم المحرمات، ودعا إلى الحسنات والطاعات، فالسابق إلى الخيرات الذي ذكره الله في كتابه، وأثنى عليه وجعله من أحبابه وصفوة خلقه هو الذي يحرص على النوافل كحرصه على الفرائض، فالذي يريد أن يبارك الله له في التزامه فليكمل إيمانه بالحسنات الفاضلة ولا يستهين بشيء من ذلك، فإذا أصبحت وأمسيت وأنت تحرص على كل حسنة -ولو كانت من الفضائل- لن تمسي وتصبح إلا وإيمانك على أحسن المراتب وأكملها، والعبد الذي تراه يحرص على السنة والنافلة التي ليست بعزيمة فإنه على الواجبات والفرائض ألزم وأحسن وآكد، والله تعالى جعل الحسنة تدعو إلى أختها، فمن حرص على الفضائل ونوافل العبادات، فأصبح طليق الوجه بالبشر والسرور للمسلمين يشتري رحمة الله عز وجل في سروره ويسره ورفقه بالعباد، يشتري رحمة الله بإفشاء السلام وإطعام الطعام وقيام الليل والناس نيام.
إلى غير ذلك من خصائل الكرام، يقوى إيمانه، ويثبت قلبه، ويكمل يقينه، ويجد في قرارة قلبه حلاوة الإيمان التي لا لذة مثلها بفضائل الأعمال، ليس لنا عند الله حسب وليس بيننا وبينه نسب، ولا ينظر الله إلى ألواننا ولا إلى جمالنا، ولكن ينظر إلى ما كان منا من الأقوال والأعمال.
فلترِ الله منك في التزامك وهدايتك حقيقة الالتزام بالكثرة من ذكر الله وطاعته عز وجل؛ ولذلك تجد العلماء وطلاب العلم الفضلاء أقرب الناس إلى الخير بسبب ما ألفوه من كثرة فضائل الأعمال، وقلّ أن تجد شاباً يحافظ على فضائل الأعمال ثم ينتكس، وقلّ أن تجد شاباً يحافظ على فضائل الأعمال فيقع في الانحراف؛ لأن الذي حفظ النوافل من باب أولى أن يحفظ الحدود والمحارم، والذي حفظ النوافل من باب أولى أن يحفظ الواجبات والفرائض، ولا تزال نفسك تحب هذه النوافل والفرائض حتى تعرف بها وتصبح ديدناً لك بحيث لو فقدتها كأنك فقدت الطعام والشراب.
كان من السلف الصالح من إذا نام عن قيام الليل يبكي كأنه فجع بولده؛ لأنه يحس أنه ما فقد القيام في هذه الليلة إلا لأن منزلته نزلت عند الله عز وجل.
عندما التزم السلف الصالح بهذا الدين التزموا التزام الموقن الذي يتحسس في كل صغيرة وكبيرة، بل حتى البلاء الذي ينزل إليه يتلذذ به، فقد أثر عن بعض العلماء قصة عجيبة: أثر عن هذا العالم أنه كان ذات يوم مهموماً مغموماً، وكان أحد طلابه ينظر إليه وهو في همه وغمه، فلما كان المساء جاءه رجل من عبيده وكلمه بشيء ففرح وزوال عنه الهم والغم، فقال التلميذ يستعجب مما جرى للشيخ: إني رأيتك يومي هذا وأنت مهموم مغموم، حتى أتاك فلان فأخبرك بخبر فسري عنك، فأخبرني يرحمك الله، قال: إني أصبحت ولم أر مصيبة في نفسي ولا في أهلي أو مالي أو ولدي، فقلت: قد نزلت مكانتي عند الله عز وجل، فلما أمسيت جاءني الرجل فأخبرني أن عبدي فلاناً مات، فعلمت أن منزلتي عند الله ما زالت.
كانوا يعلمون أن الله إذا ابتلاهم أنه يحبهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم) فقوم بهذه المثابة يتلذذون بالمصائب وبالبلايا لعلمهم أن الله قدرها وكتبها، فيرضون بقضائه وقدره، لقد أصابوا منزلة عند الله بمكان، قوم بلغوا هذه المنزلة حتى تعود عليهم المصائب والمصاعب سلواناً وفرحة فوالله لقد كمل إيمانهم وعظم يقينهم، ولذلك عندما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة السوداء: (إن شئتِ صبرتِ ولكِ الجنة، وإن شئتِ دعوت الله لكِ؟ قالت: أصبر ولي الجنة) ما دام أن النهاية الجنة أصبر وأحتسب وأرجو عند الله الثواب.(2/6)
الالتزام والابتلاء
العبد الملتزم والشاب الصادق في التزامه وهدايته يجد ويجتهد، ثم إن ربك إذا أحب عبده ابتلاه، فإذا التزم بدين الله صب الله عليه البلاء فضاقت عليه الدنيا ووسع الله ضيقه وعظمت عليه الهموم والغموم، حتى يفر من غير الله إلى الله، ويصبح في ليله ونهاره ينادي رباه رباه.
إذا أحب الله الملتزم المهتدي المستقيم على طاعته صب عليه البلاء والهموم والغموم؛ لأن النفس البشرية إن غفلت وأعطيت النعمة أرخت لنفسها العنان في معصية الله جل جلاله، واتبعت الشيطان فكان صاحبها من الغاوين، ولكن الله يحب هذا العبد فيصب عليه الوساوس والهموم والغموم حتى ينطرح عند باب الله يناديه ويناجيه ويحس أنه لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، تمر عليه اللحظات تلو اللحظات وقد ضاقت عليه نفسه، وعظمت عليه كربته، واشتدت عليه بليته ولكنها بالله هينة، وبمناجاته لله سبحانه وتعالى سعة ورحمة، وإذا بها اليوم تؤذيه ولكنها في الغد ترفعه وتكرمه بين يدي الله جل جلاله، اليوم تصب عليك الهموم والغموم والحسرات والفتن والمحن حتى من أعداء الله عز وجل عندما يستهزءون ويسخرون ويكيدون، ولكن الله سبحانه وتعالى يبدد هذه الأشجان والأحزان عنك، فيثقل بها ميزانك، ويعظم بها أجرك، ويكثر بها ديوانك، فتبكي اليوم من الهموم ولكن تضحك بين يدي علام الغيوب عندما ترى صحائف الأعمال حسناتها كأمثال الجبال.
إذا رأى أهل البلاء ما عند الله من الأجر والمثوبة تمنوا أن حياتهم كلها بلاء، فإذا رأى الملتزم والمستقيم على طاعة الله جل جلاله أن سخرية الساخرين واستهزاء المستهزئين يثقل الميزان ويعظم الأجر عند الرحمن تمنى أن حياته كلها من هذا الضرب والمثيل، فاصبر وصابر واحتسب، وإذا أحب الله عبداً ملتزماً بدينه حببه للخير وحبب الخير إلى قلبه، فأصبح لا يرتاح ولا يأنس ولا يحس بسعادة إلا إذا كان قريباً من الله جل جلاله، تضيق عليه نفسه إلا في مجلس ذكر أو شكر، إذا خرج من المسجد أحس أنه ضيق النفس، فإذا دخل إلى المسجد إذا به يدخل منشرح الصدر مطمئن النفس، يدخل كأنه ورد على رحمة كورود الإبل التي اشتد ظمؤها على الماء البارد في اليوم الصائف أو أشد، كان صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال).
فإذا كمل التزام العبد كمل إقباله على الله جل جلاله، فصلاته صلة، ودعاؤه صدق، وإقباله على الله عز وجل إقبال المجد المشمر عن ساعد الجد في رحمته ومرضاته جل شأنه وتقدست أسماؤه، ومعنى ذلك: أن كل من التزم بطاعة الله عليه أن يجعل نصب عينيه أنه مأجور على كل هم وغم وبلاء متى احتسب ذلك عند الله سبحانه وتعالى.(2/7)
الالتزام قرب إلى الله سبحانه
إنها لمناسبة طيبة أن نجتمع في هذا المجلس المبارك على ذكر الله عز وجل وطاعته، خير ما اجتمعت عليه القلوب والتفت عليه الأرواح، فإن القلوب تصدأ وجلاء صداها بذكر الله عز وجل، والقلوب في قلق وحيرة لا طمأنينة لها إلا بذكر الله جل جلاله، وصدق الله تعالى إذ يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] إذا لم يكن في ذكر الله جل جلاله إلا أن الله يذكر من ذكره لكفى بذلك شرفاً وفضلاً للذاكرين.
إن الله خلق العباد: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:26] منهم مهتدٍ ملتزم بطاعة الله جل جلاله أحب الله وأحبه الله، لا يبتغي عن سبيله تحويلاً ولا عن هدي رسوله صلى الله عليه وسلم بديلاً يدرك أن هذا الوحي أصدق قيلاً وأحسن تأويلاً التزم بدين الله جل جلاله يوم رأى السعادة والنور والرحمة في كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، حينما وجد شيئاً طالما فقده، ووجد أمنية طالما تمناها، حينما أحس أنه أحوج من يكون إلى القرب إلى الله جل جلاله، فنفحه الله برحمته فدخلت الهداية من قلبه، فإذا أراد الله أن يبارك له في هذه الهداية رزقه ذكره سبحانه وتعالى؛ فأصبح قلبه متعلقاً بالله جل جلاله ينسى مع الله كل شيء، ويقبل على الله جل جلاله إقبال الصادقين، ويحب الله محبة المؤمنين الموقنين يعبد الله كأنه يسمعه ويراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، وهي مرتبة المحسنين التي نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من أهلها أجمعين، قال جبريل عليه السلام: (يا محمد! ما الإحسان؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك) فإذا كملت هداية الإنسان بلغ مراتب الإحسان.
أصبحت أشجانه -أي: الملتزم- وأحزانه كلها لله جل جلاله، ولا يرتاح قلبه ولا تطمئن نفسه إلا بالكلمة التي تقربه إلى الله أو الخصلة -من خصال الخير- التي تدني به إلى جنة الله جل جلاله، يشتري رحمة الله حتى بالابتسامة يبتسمها في وجه أخيه، يشتري رحمة الله حتى بالكلمة الطيبة يريد بها ما عند الله سبحانه وتعالى، لا نفاقاً ولا رياءً ولا تصنعاً ولا تكلفاً؛ لكي يجذب بها قلوب الناس، ولكنه يريد ما عند الله جل جلاله من واسع رحمته وما يدريك فلعل هذه الحسنة التي تحرص عليها ينقذك الله بها من النار، فإن العبد قد تستوي حسناته وسيئاته فيستوي خيره وشره؛ فقد تكون عنده حسنات كأمثال الجبال تذهب بمظالم الناس فتستوي حسناته وسيئاته حتى يكاد يؤمر به إلى النار فتأتي حسنة واحدة ترجح بها ميزان الحسنات فينجو من نار الله جل جلاله.(2/8)
الأسئلة(2/9)
تحضير الخطب والمواعظ
السؤال
هل يشترط في إلقاء المحاضرات أو المواعظ التحضير؟
الجواب
هذا يختلف باختلاف الأشخاص، وينبغي لطالب العلم أن يكون علمه في صدره، وبعض العلم الذي يُلقى بدون تحضير قد يكون فيه من الفتح ما لم يكن في المحضر، فإن كان عنده أهلية وقدرة ووفقه الله عز وجل للأخذ بأسباب النجاح في الإلقاء فليتوكل على الله، أما إذا كان ضعيف الشخصية ولا يستطيع أن يتكلم إلا بتحضير فلا يتكلم بل يسكت؛ لأنه لا يأمن من التلعثم أمام الناس، فمن تعود على أن يعظ الناس من ورقة فلا يحرج نفسه ويحرج المقام الذي يقومه، فقد كان بعض العلماء والمشايخ إذا لم يحضر درسه لم يلقه؛ لأن الدرس يقوم على التحضير وقد تعوَّد هو على التحضير، وبعضهم يلقي بدون تحضير، فالبعض يكون مستحضراً متمكناً من علمه، والله تعالى يقول: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [النساء:162] وهذا يدل على أن أهل العلم منهم من يكون فيه رسوخ في العلم، والرسوخ في العلم أي: ثبات القدم فيه، ولا يكون ذلك إلا بتوفيق الله عز وجل ثم سعة العلم حتى يكون به على بصيرة، أشار الله إلى هذا المعنى بقوله: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57].(2/10)
ترك البكاء أثناء وعظ الناس خشية الرياء
السؤال
ماذا تقولون فيمن يترك البكاء أمام الناس حين يعظهم خشية الإصابة بالرياء والعجب؟
الجواب
هذا عمر بن عبد العزيز خطب فأبكى الناس ثم قعد، خاف على نفسه الرياء، هذا يختلف بعض الناس يقوى خوفه من الله جل وعلا، حتى إنه يخاف أن يبكي أمام الناس، بل بعضهم لا يعظ الناس حتى يعرض موعظته على نفسه، فمنهم من يبكي بينه وبين نفسه أكثر من بكائه أمام الناس، فيجعل الله أثر محاضرته وموعظته وكلامه وخطبته بعد سماع الناس لها أكثر مما لو بكى فيها؛ لأنه لو بكى ربما دخله الرياء والعجب.
ولذلك الله الله في المعاملة مع الله: {إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا} [الأنفال:70] يعني: إن يعلم الإخلاص، والإنسان إذا تكلم والجنة والنار بين عينيه لا شك أنه يقول ويبلغ ويجعل الله لكلامه القبول، وهذا الشيء بيد الله جل جلاله، فهو المطلع على الخفيات وعلى النيات وهو الأعلم بالسرائر وبما تكن الضمائر.
فالإنسان إذا خاف الرياء، نعم، لكن هناك أناس رزقهم الله قوة الإيمان، حتى لو بكى أمام الناس لا يبالي بهم، بل قد يبلغ من نعم الله على العبد أنه يدخل في المسجد وهو مليء بالناس كأنه جالس مع أخيه، لا يبالي بكثرة الناس أمامه ولا يلتفت لذلك، وهذا من كمال إخلاصه لله جل جلاله.(2/11)
اشتراط السجود على السبعة الأعضاء في سجود التلاوة
السؤال
هل يشترط في سجود التلاوة السجود على الأعضاء السبعة؟
الجواب
نعم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في الصحيح من حديث ابن عباس: (أمرت أن أسجد على سبعة أعضاء) وسجود التلاوة سجود.(2/12)
استحباب سجود التلاوة على طهارة
السؤال
هل تشترط الطهارة لسجود التلاوة أو سجود الشكر؟
الجواب
فضلاً لا فرضاً، يعني: الأفضل أن يكون متطهراً.(2/13)
شروط المسح على العمامة
السؤال
ما شروط وكيفية المسح على العمامة؟
الجواب
أولاً: أن تكون العمامة من عمائم المسلمين لا من عمائم أهل الذمة وهي -أي: عمامة أهل الذمة- العمامة المقطوعة التي لا ذؤابة لها، وعمامة المسلمين تكون لها ذؤابة، مثل هذه العمامة تعتبر من عمائم أهل السنة، وإلى ذلك أشار حسان بن ثابت يصف الصحابة: إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبعُ يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا فوصفهم بقوله: إن الذوائب، فدل على أن العمائم كانت لها ذؤابة، وجاء في الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عمم عبد الرحمن بن عوف وأرسل عذبة بين كتفيه، وقال: هكذا فاعتم يا ابن عوف) وكانت عمامته لها عذبة.
والشرط الثاني: أن تكون على غالب الرأس، أن تغطي ما جرت العادة بتغطيته، فلو أنه كشفها عن رأسه إلى النصف إلى ما فوق الربع فلا يصح المسح، فلقد حددها بعض العلماء، أما لو كشف عن الناصية، بقدر ثلاثة أصابع، فهذا لا حرج فيه؛ لأنه في حديث المغيرة في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم: (توضأ ومسح بناصيته وعلى العمامة).
الشرط الثالث: أن تكون طاهرة.
أما القلنسوة إذا لف طرفيها وعقدها من مؤخرتها فتعتبر عمامة، ويجوز المسح عليها.(2/14)
حكم خلع العمامة بعد المسح عليها
السؤال
إذا خلع شخص العمامة بعد المسح عليها، هل ينقض ذلك الوضوء أم لا؟
الجواب
في المسألة تفصيل فإن كان خلعه قبل أن تجف الأعضاء التي قبل الرأس الممسوح وهي غسل الوجه واليدين، فإن كان الوقت الذي خلع فيه قد يبست فيه يداه يستأنف الوضوء، أما لو مسح ثم غسل رجليه ثم قال: لا أريد العمامة، ولا زالت أعضاؤه لم تجف، فيمسح على رأسه ويغسل رجليه ويجزيه.(2/15)
حكم المسح على الشماغات والغتر
السؤال
هل يقاس بالمسح على العمامة المسح على الشماغ والغترة؟
الجواب
لا، لا يقاس؛ لأنها لا تعتبر عمامة.(2/16)
نصائح للداعية إلى الله
السؤال
بعض الشباب وفق لطلب العلم وربما أصبح داعية إلى الله، يعظ الناس في المجالس والمساجد، ونريد منكم أن تذكروا لنا الضوابط في المواضع التي يتكلم فيها الداعية لعامة الناس، وذلك لأنه وقع إشكال في استخدام ذلك؟
الجواب
بالنسبة للمسائل الشرعية الفقهية المطروحة من العوام يعني حاصل السؤال أنه ربما يشوش على العامة، مثلاً: عندما يأتي ويفتح درساً ويكون فوق مستوى الناس فيحدث عندهم نوع من التشويش أو يحدث عندهم ارتباك في المسائل، فهذا لا يحبذ، بل تترك المسائل الدقيقة لمجالس طلاب العلم، أي: يجعل له درساً خاصاً بطلاب العلم الذين يفهمون، ويجعل للعوام درساً بالقدر الذي يناسب عقولهم، ولا شك أن تعليم أبناء المسلمين فيه خير كثير ويستوجب للعبد الرحمات والدرجات، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فيجعل للعوام بعد الفجر أو بعد صلاة العصر درساً يقوم فيه ألسنتهم بالفاتحة ثم ما بعد الفاتحة من قصار السور، ويتكلم عن آية أو آيتين في الآداب والأحكام يوجههم ويسددهم، هذا شيء طيب، فالناس بحاجة إلى ذلك، والقلوب تحتاج دائماً إلى من يذكرها، ولو لم يكن في الجلوس في مثل هذه المجالس إلا أن الله يرحم أهلها لكفى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الملائكة تقول: يا رب! فيهم فلان -عبد خطَّاء كثير الذنوب- جاء لحاجة معهم، قال: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) تأملوا في هذا الشخص الذي جلس مع الصالحين، ولم يكن جاء قاصداً المجلس، فكيف بمن قصد المجالس؟! ثم كيف بالعالم الداعية الذي تقوم عليه المجالس! فنسأل الله العظيم من فضله، لا شك أن هذا من بركة العلم، فالداعية أو الشاب الذي بمجرد أن يتفقه في الدين ثم ينشر علمه وينفع الناس ويبين لهم الحق فهذا يدل على أن فيه خيراً كثيراً.
إذاً: من الصعب أن نضع الضابط المعين لما سبق، مثلاً: عندك بعض المساجد يكون أهلها في لهو الدنيا، كأصحاب الأعمال والمهن والحرف، فهؤلاء يختلف وعظهم باختلاف الشيء الذي تذكرهم به، والوقت الذي تذكرهم فيه، فمثل هؤلاء الذين يشتغلون أو أن عليهم ضغوطاً في الأعمال فتنفر وتسوء أخلاقهم بسبب ضغط الأعمال، فتأتيهم أنت بشيء من الدين لكي يقوي إيمانهم فتحسن معاملاتهم، فتربطهم بالله عز وجل من جهة أن الإنسان يبتلى في عمله ويكون العمل عليه شاقاً لكن الله يثيبه، وتذكرهم بأنهم قائمون على أولادهم وزوجاتهم فهم مأجورون عليهم، فتربطهم بالدين وتربطهم بالطاعة مع أنهم في حرف وأعمال يكونون في غفلة عن هذه النية، فيصبح الرجل ملتزماً بدين الله حتى في أثناء عمله، فتحيي في نفسه ارتباط بك والارتباط بالشرع.
هذه الخطوة الأولى.
الخطوة الثانية: بعد أن تعطيه هذه الطعمة وقد ارتبط بك تأتي له بالمرغبات من التذكير بالجنة وما عند الله من الرحمة، ثم بعد ذلك تأتي له بالمرهبات، أما الضابط والمقدار فهذا أمر يرجع إليك.
وأقول: إن مدار الأمر على أعظمها وهو الإخلاص، فإنك إذا أخلصت لله عز وجل سيأتيك من التوفيق ما لم يخطر لك على بال، ولربما تخرج من الصلاة ثم تنتهي من الأذكار فتقف واعظاً دون أن يكون في نيتك الوقوف، لكن بمجرد أن تقف يفتح الله عليك بقول كلمة، فيهدي الله بها قوماً ظالمين، ويسعد بها أشقياء ومحرومون.
فهذا من الأهمية بمكان أن يكون الإنسان صالح النية والمعاملة مع الله عز وجل، فأما أن نضع نحن الضوابط لذلك، فهذا صعب جداً، ولذلك أرى أن الأفضل أن يترك هذا لأحوال الناس، فإذا كان الإنسان مخلصاً لله عز وجل فإن الله سيفتح عليه.
أذكر مسجدين كنت أصلي فيهما في أيام طلب العلم، فأما المسجد الأول: فكنت إذا أتيت إليه وأنا ليس بخاطري شيء وصليت مع أهله، فما إن أسلم إلا ونفسي تشتاق لوعظهم فيفتح الله عليَّ بكلام ما حضرته، ولكنه من الله سبحانه وتعالى، هؤلاء هم كبار في السن ومن البادية على فطرتهم، محبون للخير بشكل عجيب.
وأما المسجد الآخر فلو أتيته وأنا محضر إذا بنفسي تستغلق، فلا أستطيع وعظهم؛ لأنهم مشغولون بالبيع والشراء وأهل دنيا، فكأنهم لا يدخلون المسجد إلا وهم يقادون بالسلاسل، فيصلون ويخرجون مباشرة، فسبحان الله! البون بينهم وبين أولئك شاسع.
بعض الناس -مثلاً- قد يأتيك ويسألك مسألة في الفقه، وأنت تعلم منه الصدق والإخلاص وأنه يحبك ويجلك ويكرمك ويعظم العلم الذي تقوله، فتنشرح نفسك فتعطيه من العلم، وتحس أنك تأتيه بكل شاردة وواردة في المسألة، ويأتيك شخص -نسأل الله السلامة والعافية- غير ملتزم بالدين الالتزام المطلوب، أو يأتيك وهو معترض على السنة وعلى الوحي، سبحان الله العظيم! تريد أن تفتح فتجد الأمور كلها مغلقة في وجهك؛ لأنه ما هيأ نفسه بالإخلاص؛ لأن هناك ارتباط بين الواعظ والموعوظ، والمتكلم والسامع، والأمر مجرب، ولذلك نسأل الله أن يرحمنا برحمته.
فوضع ضوابط شيء صعب، لكن أقول: الإخلاص، ثانياً: تحيُّن الفرص المناسبة، وهذا يرجع إلى ذكاء الإنسان، ثالثاً: الرفق، يعني: لماذا نقول: لا يطول الإنسان في صلاته ولا في خطبته؟ ليست القضية قضية أن الجمعة هذه يصلون معك في حدود ربع ساعة، لا.
لكن القضية أنك إذا خطبت الخطبة الأولى -مثلاً- ربع ساعة والخطبة الثانية ربع ساعة والثالثة ربع ساعة وجئت يوماً وخطبت ساعة ونصف فلن تجد أحداً يقول لك: أطلت؛ لأن النفوس جبلت على أنك ترحمها وعلموا أنك رفيق بهم.
فعندما تنظر إلى قضية أن هذا يختلف باختلاف الدعاة أمر مهم جداً، فإذا أوجدت عند الناس شعوراً في حب الخير والإقبال عليه سهل عليك أن تجد الأوقات المناسبة لوعظهم.
والأخلاق الحميدة تفتح لك ما لم يخطر لك على بال، يعني: تصور الآن إماماً طليق الوجه للناس دائماً، فعندما يأتيه أفقر الناس يهش له ويبش كأغنى الناس، لا يوجد عنده تمييز بين الناس، فيراه الناس وهو طليق الوجه والجبين، وصفحة قلبه كوجهه، لا يغشهم بأن يكون في قلبه -والعياذ بالله- دخن، مثل هذا الشخص تكون دعوته مباركة، فأنت مثلاً -إن جئت للخطبة أو للموعظة- فمن حب الناس لك يأتيك المذنب لكي تنصحه، ويأتيك العاصي لكي تذكره، ما السبب؟ بفضل الله ثم بسبب أخلاقك، فصارت شخصية الداعية تعين على الدعوة وتعين على تهيئ الفرص المناسبة.
فمعظم من يقع في الجرائم يأتي إلى المسجد منهاراً نفسياً، فلولا الله سبحانه وتعالى ثم إنه رأى من شخصية الإمام وما يسمع عنه وعن أخلاقه خيراً كثيراً لما أتى إليه.
ولذلك حقيقة الضوابط ترجع إلى توفيق الله سبحانه وتعالى والإخلاص وكذلك شخصية الداعية، فهذا أمر مهم جداً، دائماً نحرص على قضية أنه يكون الإنسان رفيقاً ودوداً مع الناس حتى يستطيع أن يصل إلى قلوبهم، أما إذا كان الإمام جافاً مستعلياً وينظر الناس منه التناقض بين قوله وفعله، يرون إذا جاء الفقير لا يبالي به لكن إذا جاءه الغني أقبل عليه وسأل عنه وحيا به، فيرى الناس أنه ليس أهلاً لوعظهم ولا أهلاً لأن يرجعوا إليه.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم ولكن سعوهم بأخلاقكم) فلذلك الأمر مهم جداً.(2/17)
حكم من أفطر قبل الوقت لأذان المؤذن ثم تبين أن المؤذن مخطئ
السؤال
مرض المؤذن في رمضان فأناب عنه أحد الإخوة، وفي جدة الأذان بعد أذان المدينة بخمس دقائق، فالأخ استمع إلى المذياع وكان أذان المدينة، فبعد سكوت أذان المدينة شرع في الأذان وأفطر معظم الناس على أذانه، مع العلم أن هناك فرقاً بما يقارب حوالي خمس دقائق فما حكم الذين أفطروا؟
الجواب
أولاً: مسألة أن أذان جدة لا يكون إلا عند انتهاء أذان مكة أو المدينة، هذا باطل، وينبغي إعادة النظر فيه، فإن أذان مكة ربما يطول وربما يقصر، ولا يقع فيه الاستعجال في بعض الأحيان، ولذلك لا يجوز الاعتداد بهذا الأذان؛ لأنه قد يطول أحدهما وقد يقصر في الآخر، فإن طول في السحور فقد أفطر الناس وإن قصر في الفطر واستعجل فإنه يفطر الناس قبل الوقت، والضابط أن كل بلد يعتبر بمغيب الشمس، وعلى الإخوة أن ينظروا إلى غروب الشمس فهو الضابط المعتبر أو تكون هناك تقاويم مضبوطة من أهل الخبرة، أما مسألة إذا سكت أذان مكة أو بلغ حيَّ على الصلاة أو حيَّ على الفلاح، كل هذا لا أصل له، ولذلك لا بد من ضبط هذه المواقيت ضبطاً دقيقاً، ومن هنا وصف المؤذن بالمؤتمن كما في حديث أبي هريرة في السنن: (الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن) هذه أمانة.
وأما مسألة فطر الناس على هذا الأذان فالذي يلزمهم قضاء هذا اليوم الذي أفطروا فيه قبل الوقت بخمس دقائق، والله تعالى أعلم.
وقضية وضع التقاويم، إنما هي من عمل الفلكيين الذين لهم خبرة في درجات المدن، أما أن يطلق القول في هذا فلا.
فالمسائل الطبية تتوقف على الأطباء، والمسائل التي ترجع إلى أعمال الناس ومعاشهم وأعراف التجار يبدع فيها التجار، هذه الأمور تضبط بضوابطها، ويكون المفتي يقعد القاعدة.
المفتي يقول: العبرة في غروب الشمس، لكن أن ننظر إلى انتهاء أذان مدينة كذا، فهذا شيء باطل؛ لأنه من المعلوم أن الأذان قد يطول وقد يقصر، فحينما يقول: أشهد أن محمداً رسول الله ويمد، ليس كالذي يقول: أشهد أن محمداً رسول الله ويحذف، فهذا الفرق قد يصل إلى دقائق، فإذا كان المد في السحور فسيتأخر سحور الناس إلى وقت مؤثر، وإذا كان قد استعجل في الفطور فإنه سيكون الأذان القادم قبل الوقت بنصف دقيقة أو بدقيقة.
فأنا أقول: من الخطأ الرجوع إلى أذان المؤذنين، فهذا خطأ، ولابد أن يوضع مقدار بين لأهل جدة، ولا ينبغي عليهم أن يفطروا الناس على هذا الأذان، بل ينبغي عليهم أن يضبطوا الوقت، حتى لو قالوا: بعد ثلاث دقائق، فلا حرج إذا قال الخبراء والفلكيون أنه بعد ثلاث دقائق، يصير في هذه الحالة أن الأوقاف تلزم المؤذنين بوقت الغروب فلا يتقيدون لا بأذان ولا بغيره، بل يصبح مردهم إلى الوقت حتى لا يضروا بإفطار الناس وسحورهم، فيا حبذا لو ينبه المؤذنون على هذا، والأئمة -أيضاً- عليهم أن ينصحوا المؤذنين.(2/18)
علاج الفتور
السؤال
ماذا يجب على المسلم إذا فتر في عبادته وقصر حتى في السنن؟
الجواب
عليه أن يستغفر الله عز وجل، فإنه ما نزل هذا البلاء إلا بذنب، قال سفيان الثوري: (أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل أربعة أشهر).
فإذا وجد الإنسان قصوراً في طاعة الله، فقد يكون بسبب عقوق للوالدين، أو قطيعة رحم، أو ظلم للزوجة أو الأولاد، أو أذية جار، ونحو ذلك من المظالم التي يغضب الله عليه بسببها، فمحق بركة الخير الذي كان فيه، فإن الخير لا يسلب إلا بذنب: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
فإذا فتر الإنسان فيكثر من الاستغفار؛ لأن الله قال: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] فالذي يستغفر يرحمه الله.
ثانياً: أن يدعو الله عز وجل ويندم حتى يبلغه الله أجر عامل.(2/19)
حكم خروج المرأة من بيت العدة لقضاء حوائجها
السؤال
هل يجوز لها أن تخرج من بيت العدة لإحضار أموال وأغراض من أهل بيت زوجها المتوفى؟
الجواب
هي ينبغي عليها أن تبقى في بيت زوجها المتوفى، وأما بالنسبة لخروج المرأة في النهار لقضاء مصالحها ففيه حديث صحيح، ولذلك إذا كان عندها أيتام وهي أرملة تسعى عليهم، وعندها عمل ولا كسب لها إلا من هذا العمل وأيتامها في عنقها لا تجد لهم عائلاً ولا من يقوم عليهم، فحينئذٍ يجوز لها أن تخرج وتعمل، لكن في الليل لا تبات إلا في بيتها، وترجع بعد العمل مباشرة وتأوي إلى بيتها تجلس فيه، لكن لو عندها كسب آخر وترك لها زوجها الثمن أو الربع وفيه غنى لها وكفاية، فتعتذر عن وظيفتها وتقدم إجازة، ولا يجوز لها أن تترك المقام في بيت زوجها؛ لأن عذرها زائل بوجود البديل.(2/20)
حكم خروج المرأة من بيت زوجها المتوفى عنها أثناء العدة
السؤال
امرأة مات زوجها، فهل يجوز لها أن تجلس في بيت والدها أثناء العدة؛ لعدم وجود من يجلس معها في بيت زوجها المتوفى؟
الجواب
هذه المسألة الأصل في المرأة أن تسكن في بيت زوجها في العدة، قال صلى الله عليه وسلم في حديث فريعة بنت مالك بن سنان عندما توفي عنها زوجها: (امكثي في بيتك الذي جاءك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله) وأمر الله عز وجل من توفي عنها زوجها أن تتربص ببيت الزوجية أربعة أشهر وعشراً، وفي الصحيح من حديث أم سلمة أنه اشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم امرأة تتألم من عينها تريد أن تكتحل وهي في عدتها، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا، إنما هي أربعة أشهر وعشراً) وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث أم حبيبة في الصحيحين أنه قال: (لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليالٍ، إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً) ودلائل النصوص تلزم المرأة المتوفى عنها زوجها أن تمكث في بيت زوجها.
لكن إذا كانت في موضع لا يؤمن على عرضها فيه، أو تخاف أن تقتل، أو تخاف الجوع، أو تخاف الضرر، يجوز أن تنتقل، وللعلماء تفصيل في هذا الانتقال: بعض العلماء يقول: تنتقل إلى أقرب أقرباء لها قريبين من بيت زوجها الأول، مثال: لو كان لها أقرباء في جدة وأقرباء في المدينة وبيت زوجها في جدة، فلا يجوز أن تنتقل إلى أقربائها في المدينة كابنها مع وجود أخيها -مثلاً- في جدة، بل تنتقل إلى أقرب بيت لها وهو بيت أخيها في جدة، وبعض العلماء يقول: وجود هذه الضرورة يبيح لها أن تعتد في أي بيت؛ لأنها عندما انتقلت من بيت زوجها صارت البيوت كلها بمثابة البيت الواحد، لكن الأحوط أن تكون في أقرب البيوت، وإذا انتقلت إلى بيت أبعد فلهذا وجه من فتوى العلماء.
إذاً: لا يستثنى إلا من لم يؤمن عليها من الأذية في عرضها أو في نفسها أو تخشى أن يحصل لها ضرر فما تجد أحداً قريباً منها، فمثلاً: المرأة التي تكون في البادية والصحراء كان معها زوجها يحفظها بعد الله عز وجل، فتوفي عنها فلا تستطيع أن تبقى في البادية لوحدها، ولا تستطيع أن تبقى في بيت زوجها في ذلك المكان الذي لا تأمن فيه، لا على عرضها ولا على نفسها من أي شيء كان، ففي هذه الأحوال يستثنى للمرأة المتوفى عنها زوجها أن تخرج وتعتد في بيت أهلها.(2/21)
صيام يوم عرفة بنية قضاء يوم من رمضان
السؤال
رجل صام يوم عرفة بنية قضاء يوم من رمضان، دون أن يقصد صيام يوم عرفة لذاته، فهل يكتب له أجر صيام يوم عرفة؟
الجواب
سئل عليه الصلاة والسلام عن صيام يوم عرفة فقال: (يكفر السنة الماضية والسنة الباقية) فيقول بعض العلماء: لا يتأتى هذا إلا بالقصد، يعني: أن يقصد يوم عرفة، ولذلك يخرج من الإشكال في أن يصوم يوم عرفة لذاته، ويترك القضاء إلى يوم آخر.(2/22)
إذا انتهت عدة المطلقة ثم رجعت إلى زوجها بعقد جديد فلا يهدم الطلاق الماضي
السؤال
إذا طلق رجل زوجته وانقضت عدتها ثم تزوجها بعقد ومهر جديد، فهل تعد تلك الطلقة أم لا؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف بين الجمهور والحنفية، وهي التي يسمونها: هل انتهاء العدة يهدم فيه أو يبني؟ يهدم بمعنى: أنه عندما عقد عليها عقداً جديداً فإنه حينئذٍ يصبح كأنه تزوج من جديد، هذا إذا كان قد تزوجها أحد من بعده، فيقولون: إنها تعود إلى الأول بعدد جديد ولا تعود بالأعداد الأولى.
والصحيح مذهب الجمهور: أنه إذا خرجت من عدتها سواء تزوجها أحد أو لم يتزوجها أنها تعود ببقية الطلاق؛ لأن الله تعالى في كتابه قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة:230] وقال: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة:229] فأخبر أن الإنسان طلق طلقتين رجعيتين من حقه أن يسترجع فيها، ثم قال: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} [البقرة:230] يعني: إذا راجعها أو عاد إليها فطلقها، فلم يفرق في الطلقة الثالثة بين كونها عادت بعقد جديد أو عادت بعد زوج أو لا، وهذا هو الصحيح، وهو مذهب الجمهور: أنها تعود وله بقية الطلقات، فلو طلقها طلقة ثم تزوجها رجل من بعده ثم عادت للأول فإنها تعود له بطلقتين، يقولون: يبني.
أما الحنفية فيقولون: أنها تعود بعد الزوج الثاني بعقد جديد وعدد من الطلاق جديد؛ لأنهم يرون أن البناء بالزوج يهدم، والصحيح ما ذكره الجمهور.
والله تعالى أعلم.(2/23)
جناحا السلامة للمؤمن الخوف والرجاء
السؤال
ما قولكم فيمن يخاف الموت خوفاً شديداً جعله ذلك يعطل مصالحه ومصالح أبنائه، فلا يرى أن يقوم ببناء بيتاً لأهله مثلاً، فكيف تحثه على ترك هذا الغلو؟
الجواب
تحثه على ذلك بأن تذكر له أن الله يعظم أجره ويجزل ثوابه يوم أحسن لورثته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير لك من أن تذرهم عالة يتكففون الناس) دين الإسلام دين عمل وليس دين عبادة فحسب، بل جعل العمل من العبادة: (حتى اللقمة يضعها الرجل في في امرأته يكون له بها أجر) (قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له بها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في الحرام أكان عليه وزر) فالإسلام دين عمل وليس دين خمول وكسل، فإذا كان ذكر الموت يمنع الإنسان من الوقوع في محارم الله، فهذا شيء طيب، أما أن يمنعه من أن يصلح حاله وحال أولاده ويحسن إليهم من بعد موته فهذا غير صحيح، وقد يعرضهم ذلك للفتن وللوقوع في الحرام، وفي أمور لا تحمد عقباها، فينبغي عليه أن يأخذ بالأسباب من الآن، ولا حرج عليه أن يشتري الأرض ثم يبني عليها الدار وأن يحسن لأولاده، فهذا مما يثاب ويؤجر عليه بإذن الله عز وجل.
ومن حسنات الإسلام أنه لا يجعلنا فقط نقتصر على الرهبنة، والخوف نوعان: خوف فيه التزام بحدود الله عز وجل وهو الخوف المحمود، وأشار إليه شيخ الإسلام بكلمة جميلة لطيفة فقال رحمة الله عليه: أصل الخوف ما كف عن حدود الله، وما زاد فلا يضرك تركه.
لماذا؟ لأن الزائد قد يوصل الإنسان -والعياذ بالله- إلى درجة القنوط، الخوف لا يراد لذاته إنما يراد لمعانٍ وهي المعاملة مع الله عز وجل، فيعينك على كثرة الخير وقلة الشر، فإذا حملك على هذا فإنه لا يضرك ما زاد عنه.
النوع الثاني من الخوف: الخوف الذي يخرج به إلى ترك المباحات، يقول مثلاً: لا آكل الطعام اللذيذ، لماذا؟ يقول: أخاف أن الله يحاسبني عليه، هذا -كما قال العلماء- الورع الكاذب.
سئل الإمام أحمد عن رجل يقول: (لا آكل الفالوذج، فقال الإمام أحمد: ولماذا؟ قالوا: لأنه يقول: لا أستطيع أن أؤدي شكرها، قال: قبّحه الله، أويستطيع أن يؤدي شكر الماء البارد في اليوم الصائف؟) يعني: لو كان هذا المبدأ لما أكلنا ولا شربنا، فهذا هو الورع الكاذب، في بعض الأحيان الشيطان إذا يئس من العبد في باب الشر جاءه من باب الخير.
فالإنسان يكون خوفه منضبطاً بالعلم وبأصول الشرع، ولا بد من جناحي السلامة: الخوف والرجاء، فيكون الإنسان بين الخوف والرجاء، ولذلك وصف الله أهل الجنة بهما قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] فجمع بين الخوف وبين الرجاء، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16] فهذا يدل على أنه لا بد من الجمع بين الخوف والرجاء، وهما كما يقول العلماء: جناحي السلامة.
والسلف الصالح شبهاهما بالجناحين؛ لأنه لا يستطيع الطائر أن يطير بجناح واحد، فإذا كان الإنسان لا يعبد الله إلا بالخوف فقط فلا يأمن على نفسه أن يقنط من رحمة الله وأن ييأس من روح الله والعياذ بالله، وإذا عبد الله بالرجاء فقط وترك الخوف فإنه لا يأمن من الاستخفاف بحق الله والوقوع في محارمه، نسأل الله السلامة والعافية.(2/24)
حكم صيام النوافل قبل قضاء الصيام الواجب
السؤال
هل يجوز لمن عليه قضاء من رمضان أن يصوم ستاً من شوال ثم يقضي ما عليه؟
الجواب
يجوز صوم ستة من شوال قبل القضاء؛ لأن القضاء موسع، وإذا كان القضاء موسعاً يجوز أن يتنفل الإنسان قبله، ولا حرج على المرأة -مثلاً- أن تصوم ستة من شوال، ولا حرج أن تصوم يوم عرفة والعاشر من محرم وتصوم يوم الإثنين والخميس وتؤخر القضاء، لكن الأفضل أن تصوم قبل الست من شوال، لكن لو أخرت لا حرج عليها؛ لأننا لو قلنا إنه لا بد أن تقضي -أولاً- ثم تصوم الست فعندما تكون نفساء قد تستغرق رمضان كله، فبناءً على ذلك ستخرج من الفضل؛ لأنه لا يكون عليها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (من صام رمضان ثم أتبعه ستاً من شوال ... ).
فصيام رمضان يأتي على صورتين: إن كان في رمضان فهو في رمضان، وإن كان أفطر لعذر فصيام رمضان ينتقل إلى عدة من أيام أخر لقوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة:184] فإذا كان عدة من أيام أخر يصبح من صام العدة من أيام أخر كأنه صام رمضان؛ لأن القضاء ينزل منزلة الأداء.
والله تعالى أعلم.(2/25)
حكم من أفطرت في صيام القضاء طاعة لزوجها
السؤال
امرأة عليها قضاء من رمضان، فصامت ثم جاء زوجها وقال لها: أفطري، فأفطرت، وربما وقع شيء من الجماع، فماذا يترتب عليها؟
الجواب
من صام في القضاء لا يجوز له أن يفطر إلا من عذر، بل قال بعض العلماء: من صام القضاء وأفطر بدون عذر عليه الكفارة.
والصحيح أنه ما عليه كفارة، فإذا صامت قضاءً ثم أفطرت ثم وقع الجماع بعد الفطر فإنه لا شيء عليها، لكن عليها الندم والاستغفار وتقضي مكان هذا اليوم يوماً آخر.(2/26)
حكم السارق غير البالغ
السؤال
رجل كان في صغره يأخذ من قريب أموالاً ليست له وكان عمره آنذاك اثنتي عشرة سنة -أي: قبل أن يبلغ- وكان يأخذ هذه الأموال بدون علم صاحبها، وقد مات صاحب هذه الأموال منذ فترة طويلة، والآن يريد أن يرد هذه الأموال، فماذا يعمل؟
الجواب
أولاً: الصغير إذا سرق أو أتلف مالاً فإنه يجب ضمان هذا المال بإجماع العلماء، ولذلك يقولون: لو قتل الصبي وكان قتله قتل عمد فإنه يصير خطأً، فيجب عليه الضمان فتكون عليه الفدية، ولا تكون عليه كفارة ولا يكون عليه إثم؛ لأنه غير مكلف.
فعند الشرع جانبان: الجانب الأول: الحكم التكليفي.
الجانب الثاني: الحكم الوضعي.
فالحكم التكليفي: هو الحكم بالإثم، كالوجوب والندب والاستحباب، أي: الأحكام التكليفية المعروفة، فهذه لا يكلف بها الصبي، أما بالنسبة للضمان: فهو حكم وضعي، سواء كان الصبي مكلفاً أو غير مكلف فإنه يجب ضمان ما أتلفه.
فالمال الذي سرقه الصبي يجب ضمانه، والمال هذا يقدره الصبي بعد بلوغه، فإذا عرف مقدار ما سرق فيجب عليه أن يرده لورثة الميت، وحكمه حكم التركة، ويستغفر الله -أيضاً- للميت.
أما إذا كانت هذه الأموال لا يعلم صاحبها، ففي هذه الحالة قال العلماء: يتصدق بها على نية صاحبها، والسبب في هذا، أنه إذا وقف بين يدي الله عز وجل يوم القيامة وجاء صاحب المال يطالبه بهذا الحق وجد من الحسنات على قدر مظلمته؛ لأنه تصدق بها على نية صاحبها، فيوفى لصاحب الحق حقه، وهذا هو أصح الأقوال عند العلماء.
والله تعالى أعلم.(2/27)
سؤال في الأذكار
السؤال
قول: (لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت بيده الخير وهو على كل شيء قدير) في الصباح والمساء، وما صحة هذا الذكر؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسوله الله، الرواية: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير) يقولها عشراً إذا أصبح، وعشراً إذا أمسى، هذا من أذكار الصباح والمساء، وهذه الزيادة لا أحفظ فيها شيئاً صحيحاً ثابتاً عن النبي صلى الله عليه وسلم.(2/28)
كيف نواجه الفتن؟
إن الله عز وجل يمحص إيمان المؤمن ويختبر معدنه، وقد جعل الله ما يكون في هذه الدنيا من الفتن والمحن والبلايا فتنة للمؤمن، وبعضها يكون محكاً يميز المؤمن من المنافق، والصادق من الكاذب، فالمؤمن يعتصم بالكتاب والسنة، ويضبط جوارحه وفقهما.(3/1)
ضوابط مواجهة الفتن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة عباد الله المهتدين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الأخيار المهتدين، وعلى جميع من سار على نهجهم إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا المجلس خالصاً لوجهه، وأن يجعله موجباً لرحمته ومغفرته، وأسأله كما كتب لنا هذا الاجتماع الطيب المبارك في الدنيا أن يكتبه لنا في الآخرة، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
إخواني في الله! الإيمان بالله عز وجل يحتاج من صاحبه إلى أمورٍ مهمّة، وقواعد ثابتة، ومن خلال هذه الأمور والقواعد، يستطيع المؤمن أن يكون صادقاً في إيمانه، صادقاً في طاعته وعبوديته لربه.(3/2)
ضبط الجوارح والابتعاد عن الأهواء
يا شباب الصحوة! إننا بحاجة لمراقبة الله في أقوالنا وأسماعنا وأبصارنا وفي جميع حركاتنا وسكناتنا، إذا جاءت أي فتنة بنا إذا بنا نفترق شيعاً وأحزاباً! هذا يقول: لا، وهذا يقول: نعم، وهذا يقول: لا أقول لا ولا نعم؛ لأننا بعدنا عن كتاب الله، فأصبحنا في حيرة، وأصبحنا نقيم أنفسنا في الفتن والمحن بالأهواء والشهوات، فالله الله في دين آمنّا به! الله الله في سنة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم سلمنا لها! أعط كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم هواك، والتزم ما قاله الله وقاله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وإياك ثم إياك أن ينظر الله إليك لحظة في الحياة وقد عبدت هواك! فإن الله عز وجل يقول: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:23] يقول بعض العلماء: الغريب أن هذه الآية أخبر الله عز وجل فيها عن أمرين: الأمر الأول: قال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ)، والأمر الثاني: قال: (أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ) فأخبر أنه ضال، وأنه على علم -يعني عنده علم وبصيرةٌ- نسأل الله السلامة والعافية، يقول بعض العلماء: في هذا دليل على خطر الأهواء، إذا جئت إلى قضية إياك والهوى! ولذلك قال صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به) إذا جئت في أي قضية وأنت تهوى شخصاً معيناً أو طائفةٍ معينة فالتزم الحق، ولا تلتزم الأهواء، ولا تلتزم زيداً ولا عمراً، ولكن التزم كتاباً من الله أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير، التزم كتاباً من اعتصم به نجا، ومن ابتغى الهدى في غيره ضل وغوى، التزم هذا الكتاب، واشرح له صدرك، وارضَ به حكماً وفيصلاً لك، فمن رضي بكتاب الله أرضاه الله، وكان له حسن العاقبة من الله.
إخواني في الله! أخوف من نخافه بعد الالتزام والهداية هي هذه الفتن، فتن القيل والقال، وأعظم ما تكون هذه الفتن إذا كانت فيها حقوق للمسلمين، والبلاء كل البلاء إذا كان الإنسان يتحدث بشيء لم تره عينه، ولم تسمعه أذنه، ولم يشهده ولم يحضره، والله تعالى يقول: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف:81] فالإنسان المؤمن البر والعفيف الصالح لا يشهد إلا بما علم، وأما ما لا علم له، فيكله إلى الله عز وجل علام الغيوب، فالله الله إخواني في الله، أن تأتي هذه الفتن فتصدنا عن دين الله، أو تجتالنا عن صراط الله، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن ينجينا وإياكم منها، وأن يعصمنا وإياكم من مضلات الفتن، ما ظهر منها وما بطن، وأن يثبتنا وإياكم على الصراط المستقيم، والسبيل القويم، إنه هو البر الرحيم، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(3/3)
الاعتصام بالكتاب والسنة
فأول ما يفكر فيه الشاب الملتزم في أي قضية تمس دينه، وأي مسألة تنزل به أن يفكر في طاعة الله عز وجل، أن يسأل ماذا قال الله؟! وماذا قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟! هذه القضية الأولى، إذا جاءك أي قول فاعرضه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ثم بعد ذلك التزم حكم الله ولو كان بخلاف ما تهوى، قال الله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] أهل الإيمان من صفاتهم التسليم للرحمن وأهل الإيمان من صفاتهم الانقياد لكلام الديان هذا هو الإيمان الحق، والله إذا نظر الله عز وجل إليك في الفتن والمحن لا تبتغي سبيلاً غير سبيله، ولا طريقاً غير طريقه أحبّك وأدناك، واصطفاك واجتباك، وأنقذك من شرور هذه الفتن والمحن، ولذلك يقول بعض العلماء: إن الله عز وجل أخبر عن الفتن على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أخبر بعلاجها حينما أمر الصحابة بالاعتصام بالكتاب والسنة.
وفي الحديث الصحيح -حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه وأرضاه- أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم خطب الصحابة، وكانت خطبة بليغة، وموعظة عظيمة، حتى أن العرباض رضي الله عنه قال: (وعظنا موعظةً وجلت منها القلوب، وذرفت من العيون، فقلنا: يا رسول الله! كأنها موعظة مودع فأوصنا) قال: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) فأول ما يفكر فيه الإنسان الملتزم الحق إذا جاءته فتنة أن لا يقيم الفتن بالرجال، ولا يقيمها بالقيل والقال، ولكن يقيِّمها بكتاب الله وسنة المهدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يقيِّمها حينما يسمع الأقوال والأفعال، ويزنها بهذا الميزان، ولذلك لا نجاة إلا لأصحاب هذا الخلق المبارك، خلق الرجوع إلى الكتاب والسنة، وهذه منحة من الله لا يشرح لها كل صدر، ولكن يشرح لها عباده الصالحين الصادقين في الإيمان، الصادقين في العبودية للرحمن، وخير ما يوصى به المؤمن في خضم هذه الفتن والمحن أن يعف لسانه، وسمعه وبصره، قال صلى الله عليه وآله وسلم: (تكون فتنة، النائم فيها خير من القاعد، والقاعد خير من القائم، والقائم خير من الماشي) فتن تهز القلوب، قد تخرج منك كلمة توجب دمار الحياة، وتنتهي بالإنسان إلى الدمار والشقاء، في خضم الفتن لا تأمن أن تخرج منك كلمة في إخوان لك في الدين، أو تخرج منك عبارة يضل بها أقوام، أو تشهد على أناس بشهادة تُغل بها عنقك بين يدي الله عز وجل: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] فالله الله في الفتن!(3/4)
التسليم والانقياد لله تبارك وتعالى
هذا الإيمان أساسه التسليم والإذعان لله تبارك وتعالى، فالمؤمن الحق هو الذي أسلم لله ظاهراً وباطناً، وهذا الإسلام يستلزم منك أموراً ينبغي عليك أن تقوم بها، وهذه الأمور دلائل تدل على صدق عبوديتك لله عز وجل، وقد شاء الله عز وجل أن يمتحن أهل الإيمان، وأن يبتلي صبر أهل الإحسان، ليميز الله الخبيث من الطيب، وليُظهر عز وجل صدق الصادقين، ونفاق المنافقين، وأعظم أمرٍ يظهر به إيمان المؤمن، وتسليمه لله عز وجل وإذعانه لله إذا نزلت الفتن، وادلهمّت المحن، وأصبح الإنسان بين الدعاة، كلٌُ يدعو إلى سبيل، وكلٌ يَظن أنه دليلٌ ونعم الدليل، وأصبح الإنسان بين أممٍ مختلفة، وآراء متباينة، تعصفه فتنٌ كهذا النوع، عندها يظهر إيمانه ويقينه وإسلامه وانقياده لله عز وجل، ولذلك أهم سمة للمؤمن في الفتنة والمحنة أنه معتصم بالله عز وجل، راجعٌ إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، إن المؤمن الصادق إذا حصلت أي فتنة بين إخوانه أو خلانه له سبيل لا يرضى بسواه، وطريق ومنهج لا يبتغي عداه، له سبيل واضح أساسه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا السبيل سار عليه سلفنا الصالح، وسارت عليه الأمة المهدية الصالحة التقية، التي عرفت ربها، وراقبت خالقها، وانتهجت المناهج التي فيها فلاحها وفوزها.
إذا نزلت الفتن أو المحن بالمؤمن فإنه لا يعتصم بغير الله عز وجل، ولا يعرف طريقاً غير طريق الكتاب والسنة ولا جماعة غير جماعة الكتاب والسنة، من دعا إلى قول الله أجابه: لبيك وسعديك! ومن دعا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أجابه قلباً وقالباً، إننا في أمس الحاجة أن نحقق التزامنا، وأن يكون الملتزم صادقاً في التزامه وإيمانه، فليس الإسلام بالتحلي ولا بالتمني، ولكن الإسلام الحق: الاستسلام والانقياد لله تبارك وتعالى، العبودية الخالصة التي يرضاها الله عز وجل منك في أي حالة وأي ظرف، فنحن نحتاج إلى هذا الاستسلام لأن الأهواء كثيرة، والآراء متناقضة متباعدة، ولكن كتاب الله حبلٌ متين، وصراطٌ مستقيم، لا يضل عنه إلا هالك، وقد أشار النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى فضل هذا السبيل، وعلى علو مقام هذا الدليل، فأخبر أن من رحمة الله عز وجل أنه أبقاه ما بقي النيِّران -أبقى الكتاب والسنة- ما بقيت الدنيا، وما بقيت الحياة، غضة طرية كأنها نزلت اليوم.(3/5)
الأسئلة(3/6)
المجيء إلى صلاة الفجر بدون حذاء
السؤال
هل ثبت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه كان يأتي لصلاة الفجر بدون نعال؟
الجواب
لا أحفظ سنة في أنه كان عليه الصلاة والسلام يأتي إلى صلاة الفجر بدون حذاء، وقد تكون هناك سنة، أنا لا أحفظ حسب علمي حديثاً في ذلك، النبي صلى الله عليه وآله وسلم انتعل، وكذلك أيضاً ورد عنه أنه احتفى، وكلٌ جائز، والأمر على السعة، لكن بعض العلماء يقول: إن الشيء قد يجوز، لكن قد يكون فيه نوع من خوارم المروءة في بعض الأحيان، أو إساءة ظن فيتقى ما أمكن، حتى يكون الإنسان أبعد عن الريبة، وأسلم له ولغيره، والله تعالى أعلم.(3/7)
حكم قضاء صلاة الليل والوتر بعد طلوع الشمس
السؤال
ما حكم من نام عن صلاة الليل والوتر، هل يقضي عندما يستيقظ لصلاة الفجر؟
الجواب
يقضيها بعد طلوع الشمس، والوتر يشفعها بركعة لحديث عائشة في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا فاته قيام الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة) فالسنة أنه يقضيها، وأصح الأقوال أن الوتر يقضى بعد طلوع الشمس، ولا يقضى بين الأذان وإقامة الفجر على الصحيح، وإن قضاه بين الأذان والإقامة كما هو مذهب بعض الصحابة فلا حرج، لكن الأولى والأحسن أن يقضي بعد طلوع الشمس، والله تعالى أعلم.(3/8)
صلاة الضحى تبدأ من بعد الإشراق إلى قبل الزوال
السؤال
متى يبدأ ومتى ينتهي وقت صلاة الضحى؟
الجواب
صلاة الضحى تنتهي في الضَحّى، لأن هناك ضُحى وهناك ضَحى، فالضُحى بالضم يكون بعد الإشراق إلى اشتداد النهار قبل الزوال، والضَحى بالفتح، يكون قبل زوال الشمس بساعة تقريباً، فينتهي الضحى قبل الظهر بساعة ويبدأ وقت الضَحى التي فيها القيلولة وفيها حديث في البخاري، فنرجع إلى بيوتنا فنقيل قائلة الضَّحى، وبالمناسبة قائلة الضَحى هذه خير ما يعين على قيام الليل، وهي القيلولة التي قبل صلاة الظهر، وهي غالباً إذا نام الإنسان تعينه على قيام الليل، لكن لا يترك الوظيفة وينام، فيفعل ذلك إن أمكن، وإن لم يستطع إن شاء الله يعينه الله عز وجل، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على محمد وسلم تسليماً كثيراً.(3/9)
مراقبة الله في السمع والبصر والفؤاد
السؤال
أريد منك يا شيخ كلمة توجيهيةً تبين لنا فيها مضار التلفاز؟
الجواب
ابحث عن واحد يجلس أمام التلفاز يعرفك بأخطاره.
والأهم من ذلك أن نأتي إلى أصل القضايا، فأصل القضايا هي الإيمان، وبدلاً من الكلام عن التلفاز وما فيه، فنتكلم عن أساس الأمور وهو الإيمان بالله ومراقبته في السمع والبصر والفؤاد، هذا الذي نتكلم عنه، والله ثم والله لا نؤثر هذا الطريق إلا لعلمنا بنفعه وصلاحه؛ لأن الإنسان قد ينتقد مثلاً وسيلة معينة، ويتكلم عنها، ثم تأتي وسيلة جديدة، ما رأيكم؟ يقول هذا شيء ما سمعنا أحداً يحرمه فيفعلونه، لكن حينما تأتي بالشاب وتغرس في قلبه إيماناً بالله، ومراقبة لله في السمع والبصر والفؤاد، فما من شيء يدعو إلى حُرمات الله، إلا هو مستعد لأن يتركه، كالتلفاز، مستعد أن يترك أي شيء فيه فتنة، متى؟ إذا وجد الإيمان، فهو القضية الأساسية أهم شيء عندنا، فكل الذي نريده أن يوطِّن الإنسان نفسه على الإيمان بالله، وتقواه ومراقبته عز وجل، وبعدها ائت بأي شخص وقل له: ما حكم النظر إلى المرأة الأجنبية؟ هل يتجرأ أن يقول حلال؟ أبداً والله، لا يستطيع، فالأمور واضحة لا تحتاج إلى أن يجلس الإنسان يفصّل ويتكلم فيها، ويذكر مجون أهل المجون، فتقسوا القلوب لا والله، والله إني أجل هذا المجلس عنهم، ولذلك أقول: الأساس أن تغذي قلبك بالإيمان وبطاعة الله تبارك وتعالى، وأن نحرص أن نربي أبناءنا على ذلك، ونسأل الله عز وجل أن يكرمنا وإياكم بأن نراقب فيها جوارحنا في طاعة مولانا وربنا إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(3/10)
خير الأدعية ما كان من الكتاب والسنة
السؤال
هناك كتاب اسمه: (حرز الجوشن) فهل هو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أم لا؟ وما حكم الدعاء به؟
الجواب
أما هذا الكتاب ما وقعت عيني عليه ألبتة، ولا أعرفه، وسمعت أحد المشايخ يذكره، ويقول: إنه من كتب المبتدعة، وهو ممن يوثق بعلمه، ولذلك يتقى ويبتعد منه، وأوصي إخواني الذين يريدون الأدعية وكتبها، أن يبحثوا عن أدعية كتاب الله عز وجل، وكذلك صحيح البخاري وصحيح مسلم، ينظرون كتاب الدعوات، ويدعون بهذه الأدعية المأثورة، وأذكار الصباح والمساء الثابتة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه فيه الغناء والبركة، والآن ما شاء الله هناك بعض الكتب صدرت طيبة منقحة، وأحاديثها معتنى بها، كزاد المسلم، وحصن المسلم، فهذان الكتابان أنا أراهما أنهما يغنيان عن غيرهما، ولو كان الشاب الصالح يريد كتاباً يعتني بأذكار الصباح والمساء والأدعية، أرى أنه يرجع إليهما ففيهما خير كثير، والله تعالى أعلم.(3/11)
نصيحة لمن يحتفل بالمولد النبوي
السؤال
هل من نصيحة توجيهية إلى أتباع محمد صلى الله عليه وآله وسلم -الصادقين- نحو المبتدعة، خاصة وأنهم على مرمى قوسٍ من احتفالهم بالمولد كما يدعون؟
الجواب
نصيحتي أولاً أن تقيم حجة الله على عباد الله، تنصح وتذكر بالله عز وجل بأسلوب طيب وحكمة، وموعظة حسنة، عل الله عز وجل أن يشرح على يديك صدوراً طالما عميت عن طاعة ومرضاة الله، تبين لهم الحق، وتدلهم عليه بأسلوب طيب، وحكمة وموعظة حسنة.
الأمر الثاني: أن الإنسان ينبغي عليه أن يكون حكيماً في تعامله مع أهل الباطل أياً كان باطلهم، فلا يفعل الأفعال التي تؤدي إلى النفور من الحق، أو تؤدي إلى عدم قبول الحق، بل عليه أن يتعاطى الأسباب التي تهيئ لمن ينصحه القبول، وتهيئ عاملاً نفسياً وروحياً أن يتقبل ممن ينصح، ومثل هؤلاء يمكن للإنسان أن يؤثر عليهم من خلال المحبة التي يدعونها للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، فتبين لهم أن المحبة الكاملة هي محبة أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم للنبي صلى الله عليه وسلم، وأنهم ما كانوا يحتفلون، فتقول له: إما أنك خيرٌ منهم، وإما أنهم خيرٌ منا، ولا شك في ذلك، فإذا كانوا خيراً منا فينبغي أن نفعل ما فعلوا من عدم الاحتفال، وإن كان -لا سمح الله- يعتقد أنه خيرٌ منهم فهذا ضلال مبين! وشقاء مستبين! {زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} [فاطر:8] نسأل الله السلامة والعافية، فالمقصود أنه ينبغي التناصح بالأسلوب الذي يكون سبباً في قبول الحق والإذعان له، والله تعالى أعلم.(3/12)
حكم الأناشيد الإسلامية
السؤال
ما حكم الأناشيد الإسلامية الجديدة التي يوجد فيها حداء يشبه ألحان الغناء وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً أشهد الله عز وجل على حبكم جميعاً في الله، وأسأل الله العظيم أن يجمعني وإياكم في مستقر رحمته، ثم ما أدري الأناشيد منها جديد وقديم، الله المستعان! كل يوم نأتي بجديد، حتى الأناشيد فيها موديلات جديدة، على العموم: قديمها وجديدها، بالنسبة للأناشيد أنا رأيي الاقتصار في الدعوة على الكتاب والسنة، وقد بينت ذلك أكثر من مرة في السؤال عن هذه الأناشيد، وأما بالنسبة للألحان والإتيان ببعض الأمور التي تكون سبباً للفتنة، فلا أشك في حرمة ذلك لئلا يفضي إلى الفتنة، وهذا أمر بنقل الثقات أنه قد يتسبب في الفتنة، وأيضاً فتنة لمن ينشد، إذا كان المقصود به الألحان ومحاكاة الفساق في ألحانهم، أما بالنسبة لقضية أن الإنسان ينشد عند السآمة والملل فهذا ثابت في السنة، وهو حكم على كل أحد، وقد وردت الأحاديث في الصحيحين وغيرهما، كقوله: اليوم نضربكم على تأويله ضرباً يزيل الهام عن مقيله وكذلك ما كان بين يدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في بناء المسجد، وحفر الخندق، وهم يقولون: والله لولا الله ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا إن الألى قد بغوا علينا وإن أرادوا فتنة أبينا فكان عليه الصلاة والسلام يقول: (أبينا أبينا! ويرفع بها صوته)، فالسنة ثابتة، وكان يُحدى بالإبل وعليها النساء في محضر من النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ومسمع منه، فيسعنا ما وسع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هذا نسلمه عند وجود السآمة والملل، لكن التوسع في ذلك والمبالغة فيه، هذا مما لا أصل له، والأولى اتقاؤه وتركه ما أمكن، والله تعالى أعلم.(3/13)
حكم الجهاد بغير إذن الوالدين
السؤال
ما حكم من يذهب إلى الجهاد بغير إذن الوالدين، هل هو عاصٍ أم لا؟
الجواب
هذه المسألة سبق وأن تكلمت فيها غير مرة، أنه بالنسبة للجهاد لا يجوز الخروج بدون إذن الوالدين، للنص الثابت في الصحيح أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أحيٌ والداك؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد)، وبناءً عليه، فأوصيك أخي في الله أن ترجع إلى والديك، وأن تطلب منهما السماح، فإن الفترة التي يقضيها الإنسان في سفرٍ لم يستأذن فيه والديه تعتبر عقوقاً والعياذ بالله، فتب إلى الله عز وجل، وسلهما الصفح عنك، أما لو كنت تتأول فتوى من يرى أن الجهاد فرض عين، فخرجت على أساس هذه الفتوى، ثم استبان لك أن الحق في غيرها، فما مضى فأنت غير مأجورٌ فيه وغير آثم، والمستقبل تستقبل فيه أمرك، فلا تخرج إلا بإذن والديك، فمن كان يتأول فتوى من يرى ذلك، فهذا لا يحكم بإثمه، لأنه خرج بفتوى بعض أهل العلم، وله تأويل؛ وبناءً على ذلك يفرق بين الطائفتين، فالفترة التي كنت تخرجها على الصفة التي ذكرتها دون إذن والديك يعتبر الإنسان فيها آثماً، وأما الفترة التي تليها -المستقبلة- فلا تخرج بدون إذن والديك وإذا كان الإنسان يتأول فتوى فبين له السنة التي رجعت إليها حتى يكون ذلك أدعى للنصح، والله تعالى أعلم.(3/14)
ذم السهر بعد العشاء للهو واللعب
السؤال
ما حكم السهر بعد العشاء لغير فائدة سوى الضحك واللعب؟
الجواب
ما ينبغي، ولذلك ورد في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان في صلاة العشاء: (يكره النوم قبلها والحديث بعدها)، وكانت عائشة رضي الله عنها تبعث إلى جيرانها تقول: (أريحوا السفرة الكرام البررة) يعني: يكفيكم ذنوب النهار، فلا خير في إضاعة الأوقات، هذا أمر لا يتخلق به المؤمن، فالمؤمن حياته جد، لكن ممكن له أن يمزح وأن يلهو بشرط ألا يصل إلى درجة المجون والسخف، أو المزح في الأمور المحرمة، هذا أمر جائز ولا حرج أن الإنسان يمزح، ولكن المزح الذي ليس فيه انتهاكاً لحدود الله عز وجل، والله تعالى أعلم.(3/15)
الفرق بين حسن الظن بالله وعدم المبالاة
السؤال
ما هو الفرق بين حسن الظن بالله، وعدم المبالاة والاستغفار من الذنب بعد وقوع الذنب وقبله؟
الجواب
حسن الظن بالله يأتي بعد الندم، إذا أصابك الندم حتى جاءك الشيطان وقال لك: الله لا يغفر لك، فقل: بلى إنه هو الغفور الرحيم، فتحسن الظن بالله بعد أن تندم، وأما عدم المبالاة -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا من موت القلب، فإن القلب قد يحيا ويموت، وحياته بالندم، وموته بعدم المبالاة والعياذ بالله، فإذا كان القلب حياً ندم على الإساءة في جنب الله، وفرح بطاعة الله، فالمؤمن من سرّته حسنته، وساءته سيئته، فإذا كنت -بارك الله فيك- تحس بعد الذنب بالندم والألم للتقصير في جنب الله عز وجل واهب النعم ودافع النقم فهذا من حياة قلبك، فإذا أحسست بالندم فاقرن ذلك الندم بحسن الظن بالله، واقرنه بحسن الرجاء فيما عند الله، فالمؤمن على جناحين جناح الخوف من الله، والرجاء لرحمة الله عز وجل، أما مسألة عدم المبالاة فهذا من موت القلب، حتى قال بعض العلماء: إن الله قد يستدرج صاحب المعصية بعدم المبالاة، حتى يمكر به -والعياذ بالله- فيأخذه أخذ عزيز مقتدر، أشار الله تعالى إلى ذلك فقال: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] وقال تعالى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} [القلم:44] فالله يستدرج العبد من حيث لا يعلم، فهذا يأتي بسبب عدم المبالاة والعياذ بالله، وغالباً من لا يبالي بمعصية الله يستدرجه الله بمعصية تلو معصية، حتى يختم له بخاتمة السوء، نسأل الله السلامة والعافية منها وألا نكون من أهلها، فهذا بالنسبة لقضية عدم المبالاة، فلا تقترن بالندم، وقضية حسن الظن بالله تأتي مركبةً على الندم، ولذلك قرن الله لأهل الجنة بين الصفتين: الخوف من الله، والرجاء في رحمة الله، قال تعالى: {يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء:57]، وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] لا بد من الأمرين، الخوف والرجاء، ولذلك قال بعض السلف: إنهما جناحا السلامة، والطائر لا يستطيع أن يطير بأحد الجناحين، فلو غلّب جناح الخوف وانكسر جانب الرجاء هلك فقنط من رحمة الله، ولو انكسر جانب الخوف وأصبح في الرجاء ربما استرسل في محارم الله حتى يُكتب له سوء الخاتمة بمعصية الله، فالمقصود لا بد من الأمرين، الخوف والرجاء لله تبارك وتعالى، والله تعالى أعلم.(3/16)
حكم القنوت في كل جمعة بحجة أن الأمة تمر بأزمات ومحن مستمرة
السؤال
ماذا نقول لإمامٍ في أحد المساجد في جدة، يقنت في كل صلاة جمعة، بحجة أن الأمة تمر بأزمات ومشاكل في كل مكان؟
الجواب
أما بالنسبة للقنوت في صلاة الجمعة أنا ما أحفظه، وعلى الصفة التي ذكرتها لا أحفظ لها أصلاً، وأما مسألة أن الأمة في محنة أو في فتنة، فالأمة منذ أن أوجدها الله وهي تمر في فتن، النبي صلى الله عليه وآله وسلم منذ أن بعث بالرسالة وهو من هم إلى هم! ومن غم إلى غم! لكي يرفع الله درجته، ويعلي مقامه، والسلف الصالح رحمة الله عليهم مرت عليهم الفتن، ومرت عليهم والمحن، ومع ذلك ما استداموا القنوت إلا في مواضع معينة، النوازل التي تعم المسلمين، هذه التي يشرع فيها القنوت، وينبغي نصح مثل هذا وتذكيره وبيان الحق له، والله تعالى أعلم.(3/17)
الاهتمام بالجانب العلمي والعملي في العبادة
السؤال
إني شاب أمر بحالة عسى أن أجد لها حلاً! وهي: عندما أكون منشغلاً بالتحصيل العلمي، أو بقراءة كتب السلف أشعر في نفسي بتقصير شديد في جانب العبادات البدنية، كالصلاة والصيام، فما هو الحل، لجعل هناك توازن بين العبادات الذهنية والعملية؟
الجواب
أولاً الإنسان مركب من شيئين جسده وروحه، والطاعة لله عز وجل تكون بالروح والجسد، تكون بالروح حينما يغذي الإنسان إيمانه، ويقوي عقيدته بربه، ويكون ذلك بكثرة تلاوة القرآن والتفكر في آياته والتفكر في ملكوت الله وعظمته وفي الكون، كل هذه تغذي روح الإنسان، وتجعله في طمأنينة، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، فهذه نشوة المؤمن، ولذته وراحته، ذكر الله والعبادة.
الأمر الثاني: العبادة بالروح بمعنى: التأمل والنظر، وهي التي ترجع إلى العقل والفهم.
وأما النوع الثاني من العبادات، عبادة البدن كالصلاة ونحوها، ولذلك أخي في الله اجمع بين الحسنيين، بين عبادة النظر والتفكر، وقراءة كتب السلف، وتغذية روحك بالإيمان بالله، واجعل لك حظاً من قيام الليل وصيام النهار يكون تطبيقاً لذلك الإيمان، والله تعالى أعلم.(3/18)
شبهة تأخير الدعوة إلى التوحيد والبدء بغيره والرد عليها
السؤال
ما رأيك فيمن يقول بتأخير الدعوة للتوحيد حتى قيام الخلافة الإسلامية، هل هذا منهج صحيح؟ وما حكم هذا العمل؟
الجواب
أول ما ينبغي أن يدعى إليه توحيد الله، وهذه قضية لا أحسب أنه يكابر أو يجادل فيها، أول ما ينبغي الدعوة إليه توحيد الله، وهذا لا يمكن أن يُشك فيه، وهو الذي من أجله نزلت الكتب، وبُعثت الرسل، ومن أجله كانت السماوات والأرض، ومن أجله كان الحساب والعرض، لا يختلف اثنان بأن توحيد الله هو الأساس، وأصدق وأفضل دعوة، وأفضل كلمة خرجت من فمك كلمة تدعو إلى توحيد الله عز وجل، بل إن الخلافة والولاية المقصود منها إقامة توحيد الله عز وجل، فتوحيد الله هو الأساس، وغيره تبعٌ له، وليس هو تبعاً لغيره، ومن قال ذلك فقد حاد عن صراط الله عز وجل.
وتوحيد الله ينبغي أن يغار عليه كل إنسان يؤمن بالله واليوم الآخر، ولذلك بين العلماء رحمهم الله أن الدعوة إلى التوحيد فرض على كل أحد، لو رأيت إنساناً مشركاً يعبد الوثن، فلا تقل: لا يدعو إلا العلماء لا، أنت يجب عليك أن تقول له: اعبد الله ولا تشرك به شيئاً، هذه قضية ليس فيها إشكال، ولا يختلف فيها اثنان أن التوحيد هو الأساس، وأنه تجب الدعوة إليه، وهنا أنبه أنه ينبغي الدعوة إلى التوحيد، وإلى فروع الدين، وليس الأمر مقصوراً على شيء معين، فالإسلام كلٌ لا يتجزأ، فيه العقيدة، والأحكام والصلوات، والخلافة الشرعية، وفيه جميع الأمور التي فيها محبة الله ومرضاته، كما يدعى إلى الأصول يدعى إلى الفروع، وكما تصحح الأصول تصحح الفروع، ويقام الحكم لله، والأمر لله على شريعة ترضيه سبحانه، والله تعالى أعلم.(3/19)
حكم الإعداد للجهاد في سبيل الله
السؤال
هل الإعداد في سبيل الله فرض عين أم فرض كفاية، كمثل الجهاد في أفغانستان؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن الإعداد للعدو يعتبر من فروض الكفايات، وقد أشار إلى ذلك أهل العلم رحمهم الله، وأشار إليه بعض المفسرين في قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60] وهذا الخطاب وإن كان عاماً -كما يقول العلماء- إلا أن المراد به طائفة خاصة تحصل بها الكفاية، فإذا حصلت الكفاية بهذه الطائفة فإنه حينئذٍ يسقط الإثم عن البقية، ويجب على الأمة أن تُعد من رجالها وأهلها والصالحين من عباد الله من تَسُد به الحاجة، بحيث لو دهم العدو كانت فيهم الكفاية، فالذي يظهر من خلال دلالة الآية الكريمة أنه من فروض الكفاية، وتعميمه والقول بأنه فرض عين بناءً على عموم الأمر في الآية معارضٌ لكثير من الآيات في القرآن التي ورد فيها الأمر على العموم، والمراد به قومٌ مخصوصون، وقد أشار إلى ذلك ابن عطية رحمه الله في تفسيره، وأشار إليه القرطبي رحمه الله في التفسير، أنه قد يرد النص في الآية على العموم والمراد به الخصوص، كقوله تعالى: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} [النور:32] خاطب الأمة كلها، والمقصود بعضها، وكثير من الآيات التي وردت في شأن النكاح، وكذلك في شأن إقامة الحدود، كقوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، فإن الذي يجب عليه الجلد البعض، وهم الذين تحملوا مسئولية ذلك، والمقصود أن آيات القران قد ترد عامةً، والمراد بها المتلبس بها، كما أشار القرطبي إلى ذلك في تفسير قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة:282] فبين في قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] أن الأمر عام، والمراد به قومٌ مخصوصون، وهكذا بقية الآيات التي يراد بها وجوب الكفاية، فإن وجدت الكفاية سقط الإثم عن الأمة، وإلا فلا، والله تعالى أعلم.(3/20)
كيف ترق قلوبنا
رقة القلوب مطلب من مطالب الصالحين، ومنشد للطامحين إلى رضوان رب العالمين، فعن أهمية رقة القلوب وقسوتها، نهدي إليك هذه المادة، لتستفيد منها في علاج قلبك من مرض القسوة.(4/1)
أهمية رقة القلوب
الحمد لله علام الغيوب، الحمد لله الذي تطمئن بذكره القلوب، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أعز مطلوبٍ وأشرف مرغوب، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه إلى يوم الدين، وعلى جميع من سار على نهجه واتبع سبيله إلى يوم الدين.
أما بعد السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن رقة القلوب وخشوعها، وانكسارها لخالقها وبارئها منحة من الرحمن، وعطيةٌ من الديان، تستوجب العفو والغفران، وتكون حرزاً مكيناً وحصناً حصيناً من الغي والعصيان، ما رق قلبٌ لله عز وجل إلا كان صاحبه سابقاً إلى الخيرات، مشمراً في الطاعات والمرضاة، ما رق قلبٌ لله عز وجل وانكسر إلا وجدته أحرص ما يكون على طاعة الله ومحبة الله، فما ذُكِّر إلا تذكّر، ولا بُصِّر إلا تبصر، وما دخلت الرقة إلى القلب إلا وجدته مطمئناً بذكر الله، يلهج لسانه بشكره والثناء عليه سبحانه وتعالى، وما رقّ قلبٌ لله عز وجل إلا وجدت صاحبه أبعد ما يكون عن معاصي الله عز وجل.
فالقلب الرقيق قلبٌ ذليلٌ أمام عظمة وبطش الله تبارك وتعالى، ما انتزعه داعي الشيطان إلا وانكسر خوفاً وخشيةً للرحمن سبحانه وتعالى، ولا دعاه داعي الغي والهوى إلا رعدت فرائص ذلك القلب من خشية المليك سبحانه وتعالى.
القلب الرقيق صاحبه صدّيق وأي صديق، القلب الرقيق رفيقٌ ونعم الرفيق؛ ولكن من الذي يهبُ رقة القلوب وانكسارها؟ ومن الذي يتسبب بخشوعها وإنابتها إلى ربها؟ من الذي إذا شاء قلب هذا القلب فأصبح أرق ما يكون لذكر الله عز وجل، وأخشع ما يكونُ لآياته وعظاته من هو؟ هو الله سبحانه لا إله إلا هو.
القلوب بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيف يشاء، فتجد العبد أقسى ما يكون قلباً، ولكن يأبى الله إلا رحمته، ويأبى الله إلا حلمه وجوده وكرمه، حتى تأتي تلك اللحظة العجيبة، التي يتغلغل فيها الإيمان إلى سويداء ذلك القلب، بعد أن أذن الله تعالى أن يصطفى ويجتبى صاحب ذلك القلب، فلا إله إلا الله من ديوان الشقاء إلى ديوان السعادة، ومن أهل القسوة إلى أهل الرقة، بعد أن كان فظاً جافياً لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً إلا ما أشرب من هواه، إذا به يتوجه إلى الله بقلبه وقالبه، إذا بذلك القلب الذي كان جريئاً على حدود الله عز وجل، وكانت جوارحه تتبعه في تلك الجرأة إذا به في لحظةٍ واحدة يتغير حاله، وتحسن عاقبته ومآله، يتغير لكي يصبح متبصراً يعرف أين يضع الخطوة في مسيره.
أحبتي في الله: إنها النعمة التي ما وجدت على وجه الأرض نعمةٌ أجل وأعظم منها: نعمةُ رقة القلب، وإنابته إلى الله تبارك وتعالى، وقد أخبر الله عز وجل أنه ما من قلبٍ يحرم هذه النعمة إلا كان صاحبه موعوداً بعذاب الله، فقال سبحانه: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22].
ويلٌ: عذابٌ ونكالٌ لقلوب قست عن ذكر الله عز وجل، ونعيم ورحمةٌ وسعادةٌ وفوزٌ لقلوب انكسرت وخشعت لله تبارك وتعالى؛ لذلك إخواني في الله: ما من مؤمنٍ صادق في إيمانه إلا وهو يتفكر كيف السبيل لكي يكون قلبي رقيقاً؟ كيف السبيل لكي أنال هذه النعمة؟ فأكون حبيباً لله عز وجل، ولياً من أوليائه، لا يعرف الراحة والدعة والسرور إلا في محبته وطاعته سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أنه لن يحرم هذه النعمة إلا حُرم من الخير شيئاً كثيراً؛ ولذلك كم من أخيار تنتابهم بعض المواقف واللحظات يحتاجون فيها إلى من يرقق قلوبهم! فالقلوب شأنها عجيب وحالها غريب، تارةً تقبل على الخير، وإذا بها أرق ما تكون لله عز وجل ولداعي الله، لو سُئِلتْ أن تنفق أموالها جميعها لمحبة الله لبذلت، ولو سُئِلتْ أن تبذل النفس في سبيل الله لضحت، إنها لحظات ينفح فيها الله عز وجل تلك القلوب برحمته، وهناك لحظات يتنعر فيها المؤمن لله تبارك وتعالى، لحظات القسوة، وما من إنسان إلا تمر عليه فترة يقسو فيها قلبه، ويتعلل فيها فؤاده، حتى يكون أقسى من الحجر والعياذ بالله.(4/2)
أسباب رقة القلوب
وللرقة أسباب وللقسوة أسباب، ولكن الله تبارك وتعالى تفضل وتكرم بالإشارة إلى بيانها في كتابه العزيز.(4/3)
تذكر الآخرة
ومن الأسباب التي تعين على رقة القلب وإنابته إلى الله تبارك وتعالى تذكر الآخرة؛ أن يتذكر العبد أنه إلى الله صائر، أن يتذكر أن لكل بدايةٍ نهاية، وأنه ما بعد الموت من مستعتب، وما بعد الدنيا من دار إلا الجنة أو النار، فإذا تذكر الإنسان أن الحياة زائلة، وأن المتاع فانٍ وأنها غرورٌ حائل، دعاه والله ذلك إلى أن يحتقر الدنيا ويقبل على ربها إقبال المنيب الصادق وعندها يرق قلبه، ومن نظر إلى القبور، ونظر إلى أحوال أهلها انكسر قلبه، وكان قلبه أبرأ ما يكون من القسوة ومن الغرور والعياذ بالله.
ولذلك لن تجد إنساناً يحافظ على زيارة القبور مع التفكر والتأمل والتدبر؛ إذ يرى فيها الآباء والأمهات، والإخوان والأخوات، والأصحاب والأحباب، والإخوان والخلان، يرى منازلهم ويتذكر أنه قريباً سيكون بينهم، وأنهم جيرانٌ بعضهم لبعض قد انقطع التزاور بينهم مع الجيرة، وأنه قد يتدانى القبران وبينهما كما بين السماء والأرض نعيماً وجحيماً، ما تذكر عبدٌ هذه المنازل التي ندب النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذِكْرها إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى، ولا يقف على شفير قبرٍ -فرآه محفوراً- فهيأ نفسه أن لو كان صاحب ذلك القبر، وما وقف على شفير قبرٍ فرأى صاحبه يدلى فيه، إلا سأل نفسه على ماذا يغلق وعلى من يغلق وعلى أي شيءٍ يغلق، أيغلق على مطيعٍ أم على عاصٍ، أيغلق على جحيمٍ أم على نعيم، فلا إله إلا الله هو العالم بأحوالهم، وهو الحكم العدل الذي يفصل بينهم.
ما نظر عبدٌ هذه النظرات، ولا استجاشت في نفسه هذه التأملات، إلا اهتز القلب من خشية الله، وانشطر هيبةً لله تبارك وتعالى، وأقبل إلى الله تبارك وتعالى إقبال صدقٍ وإنابةٍ وإخبات.(4/4)
تدبر القرآن
السبب الثاني: الذي يكسر القلوب ويرققها، ومعين العبد على رقة قلبه من خشية الله عز وجل: النظر في آيات هذا الكتاب، النظر في هذا السبيل المفضي إلى السداد والصواب، النظر في كتاب وصفه الله بقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1].
فما قرأ العبد تلك الآيات وكان عند قراءته حاضر القلب متفكراً متأملاً إلا وجدت العين تدمع، والقلب يخشع، والنفس تتوهج إيماناً من أعماقها، تريد المسير إلى الله تبارك وتعالى، وإذا بأرض ذلك القلب تنقلب بعد آيات القرآن خصبة طريةً للخير، ومُحبة لله عز وجل ولطاعته، فما قرأ عبدٌ القرآن ولا استمع لآيات الرحمن إلا وجدته بعد قراءتها والتأمل فيها رقيقاً قد اقشعر قلبه، واقشعر جلده من خشية الله تبارك وتعالى: {كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
فالقرآن تأثيره عجيب! هذا رجل من الصحابة تليت عليه بعض آيات القرآن، فنقلته من الوثنية إلى التوحيد ومن الشرك بالله إلى عبادة رب الأرباب سبحانه وتعالى في آياتٍ يسيرة، هذا القرآن موعظة رب العالمين، وكلام إله الأولين والآخرين: ما قرأه عبدٌ إلا تيسرت له الهداية بقراءته؛ ولذلك قال الله في كتابه: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، هل هناك من يريد الذكرى؟ هل هناك من يريد العظة الكاملة والموعظة السامية؟ هذا كتابنا؛ لذلك أحبتي في الله ما أدمن قلبٌ ولا أدمن عبدٌ على تلاوة القرآن وجعل القرآن معه إذا لم يكن حافظاً يتلوه آناء الليل وآناء النهار إلا رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى.(4/5)
الإيمان بالله عز وجل
ما رقّ القلبُ بسببٍ أعظم من سبب الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولا عرف عبد ربه بأسمائه وصفاته إلا كان قلبه رقيقاً لله عز وجل، وكان وقّافاً عند حدود الله، لم تأته الآية من كتاب الله ولم يأته حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قال بلسان الحال والمقال: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
فما من عبدٍ عرف الله بأسمائه الحسنى، وتعرف على هذا الرب الذي بيده ملكوت كل شيءٍ وهو يجير ولا يجار عليه، إلا وجدته إلى الخير سباقاً وعن الشر محجاماً، فأعظم سبب تلين به القلوب لله عز وجل وتنكسر من هيبته المعرفة بالله تبارك وتعالى، أن يعرف العبد ربه، وما من شيء في هذا الكون إلا ويذكره بذلك الرب، يذكره الصباح والمساء بذلك الرب العظيم، وتذكره النعمة والنقمة بذلك الحليم الكريم، ويذكره الخير الشر بمن له أمر الخير والشر سبحانه وتعالى، فمن عرف الله رق قلبه من خشية الله تبارك وتعالى، والعكس بالعكس، فما وجدت قلباً قاسياً إلا وجدت صاحبه أجهل العباد بالله عز وجل، وأبعدهم عن المعرفة ببطش الله وعذابه، وأجهلهم بنعيم الله ورحمته، حتى أنك تجد بعض العصاة أقنط ما يكونون من رحمة الله، وأيئس ما يكونون من روح الله والعياذ بالله؛ لمكان الجهل بالله، فلما جهل معرفة الله جرؤ على حدوده، وجرؤ على محارمه، ولم يعرف إلا ليلاً ونهاراً وفسوقاً وفجوراً، هذا الذي يعرفه من حياته، وهذا الذي يعده هدفاً في وجوده ومستقبله.
لذلك أحبتي في الله المعرفة بالله عز وجل طريق لرقة القلوب، ولذلك كلما وجدت الإنسان يديم العبرة، ويديم التفكر في ملكوت الله وجدت في قلبه رقة، ووجدت في قلبه خشوعاً وانكساراً لله تبارك وتعالى.(4/6)
أسباب قسوة القلوب
أحبتي في الله: أعظم داءٍ يصيب القلب داء القسوة والعياذ بالله.(4/7)
مجالسة الفساق
ومن أسباب قسوة القلوب، بل ومن أعظم أسباب قسوة القلوب، الجلوس مع الفُسّاق، ومعاشرة من لا خير في معاشرته؛ ولذلك ما ألف الإنسان صحبة من لا خير له في صحبته إلا قسى قلبه من ذكر الله تبارك وتعالى، ولا طلب الأخيار إلا رق قلبه لله الواحد القهار، ولا غشي مجالسهم إلا جاءته الرقةُ شاء أم أبى، جاءته لكي تسكن سويداء قلبه، فتخرجه عبداً صالحاً مصلحاً قد جعل الآخرة نصب عينيه.
لذلك ينبغي للإنسان إذا عاشر الأشرار أن يعاشرهم بحذر، وأن يكون ذلك على قدر الحاجة، حتى يسلم له دينه، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى، أن تهب لنا قلوباً لينة تخشع لذكرك وشكرك، اللهم إنا نسألك قلوباً تطمئن لذكرك، اللهم إنا نسألك ألسنةً تلهج بشكرك، اللهم إنا نسألك إيماناً كاملاً، ويقيناً صادقاً، وقلباً خاشعاً، وعلماً نافعاً، وعملاً صالحاً مقبولاً عندك يا كريم.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(4/8)
الركون إلى الدنيا
ومن أعظم أسباب القسوة بعد الجهل بالله تبارك وتعالى: الركون إلى الدنيا، والغرور بأهلها، وكثرة الاشتغال بفضول أحاديثها، فإن هذا من أعظم الأسباب التي تقسي القلوب والعياذ بالله تبارك وتعالى، إذا اشتغل العبد بالأخذ والبيع، واشتغل أيضاً بهذه الفتن الزائلة والمحن الحائلة سرعان ما يقسو قلبه؛ لأنه بعيدٌ عمن يذكره بالله تبارك وتعالى.
فلذلك ينبغي للإنسان إذا أراد أن يوغل في هذه الدنيا أن يوغل برفق، فديننا ليس دين رهبانية، ولا يحرم الحلال سبحانه وتعالى، ولم يَحُل بيننا وبين الطيبات، ولكن رويداً رويداً، فالأقدار قد سبق بها القلم والأرزاق قد قُضيت يأخذ الإنسان بأسبابها دون أن يغالب القضاء والقدر، يأخذها برفق ورضاً عن الله تبارك وتعالى في يسيرٍ يأتيه، وحمدٍ وشكرٍ لباريه، سُرعان ما توضع له البركة ويكفى فتنة القسوة التي تفتح عليه فتنة كل شيء، فتجدهم يضحون بأوقات الصلوات، ويضحون بارتكاب الفواحش والموبقات، ولكن لا تؤخذ هذه الدنيا عليهم، ولا يمكن أن يضحي الواحد منهم بدينار أو بدرهمٍ منها، فلذلك دخلت هذه الدنيا إلى القلب، والدنيا شعب، ولو عرف العبد حقيقة هذه الشعب، لأصبح وأمسى ولسانه يلهج إلى ربه، رب نجني من فتنةِ هذه الدنيا، فإن في الدنيا شُعباً، ما مال القلب إلى واحدة منها، إلا استهوى القلب لما بعده، ثم إلى ما بعده، حتى يَبعد عن الله عز وجل، وعندها تسقط مكانته عند الله وما يبالي الله به في أي وادٍ من أودية الدنيا هلك والعياذ بالله.
هذا العبد الذي نسي ربه، وأقبل على هذه الدنيا مجلاً مكرماً لها، فعظم ما لا يستحق التعظيم، واستهان بمن يستحق الإجلال والتعظيم والتكريم سبحانه وتعالى، فلذلك كانت عاقبته والعياذ بالله من أسوأ العواقب.(4/9)
زاد الحجيج
إن حج بيت الله الحرام من أعظم الفرائض التي أوجبها الله سبحانه على عباده المؤمنين، ومن رحمته لهم أن أوجبه عليهم في العمر مرة مقيداً بتوفر شروط الاستطاعة، ولذلك على المرء الحاج أن يعرف زاده في حج بيت الله الحرام، وأن يحمد الله ويشكره على توفيقه وامتنانه عليه بهذه النعمة، وأن يحرص على الالتزام بالسنة في كل المواضع والمواقف والمناسك والعبادات.(5/1)
الإخلاص لله أساس زاد حجاج بيت الله الحرام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن الله فرض الحج إلى بيته الحرام، وجعله شعيرة من شعائر الإسلام، وركناً من أركانه الجليلة العظام، غفر به الذنوب، وستر به العيوب، وفرج الكروب، ومحا الآثام.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
يخرج من ذنوبه جميعها، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، هؤلاء هم حجاج بيت الله الحرام، طلاب عفوه ومغفرته ورحمته، وبره وإحسانه.
وإن زاد حجاج بيت الله الحرام أساسه وروحه وقاعدته ولبه: الإخلاص لله، الذي لا يقبل الله ديناً سواه، إذا خرجت من بيتك فاخرج وليس في قلبك إلا الله، ترجو رحمة الله وتخشى عذابه.
(لبيك) خالصة من قلبك! (لبيك) نقية تقية لربك! لا للسمعة والرياء، لا للمدح ولا للثناء، تتمنى أن حجك بينك وبين الله لا تراه عين، ولا تسمع به أذن، ولا يخطر على قلب بشر.
من حج للسمعة والرياء والمدح والثناء قال الله يوم القيامة له: اذهب إلى من حججت له فخذ أجرك منه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
من حج للأصحاب والأحباب متعه الله بأصحابه وأحبابه، وحرمه الجزيل من رحمته وثوابه.
إذا خرجت ونظر الله إلى قلبك -وقد أخلصت في حجك- أحبك ووفقك وسددك، وفتح أبواب الخير في وجهك، وجعل حجك مبروراً، وسعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأجرك محظوظاً موفوراً.
تصعد أقوالك وأفعالك إلى السماء فتفتح أبوابها {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] يرفعه سبحانه وتعالى لك لكي ينشره أمام عينيك في يوم تبعثر فيه ما في القبور، ويحصل فيه ما في الصدور: {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11].
في يوم قرت فيه عيون المخلصين يقول الله فيه وهو رب العالمين: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119] رضي الله عنهم بالإخلاص رضي الله عنهم لما أرادوا وجهه وما عنده سبحانه، فتقبل الأقوال والأفعال خالصة لوجه ذي العزة والجلال.
أخلص لله في حجك وعمرتك وإلا حبط العمل؛ وكان العبد من الخاسرين.(5/2)
زاد الحجيج إلى بيت الله العتيق(5/3)
الخشوع
من علامة بر الحج ومن علامة قبوله: الخشوع.
فالله سبحانه وتعالى إذا رزق الإنسان سلامة القلب بالإخلاص لوجهه، ورزقه الشعور بعظيم نعمة الله عليه، ورزقه سلامة اللسان والجوارح والأركان؛ استقام في حجه فأقبل على الله قلباً وقالباً، أقبل على الله سبحانه وتعالى وهو يستشعر كل حركة يفعلها، وكل كلمة يقولها.
الحج من أول لحظة فيه يدعو للخشوع، ويدعو للاستكانة والخضوع، فالمسلم من أول لحظة يخرج فيها من بيته تنبعث في نفسه ذكريات الآخرة، ويتحرك في قلبه ذكر لقاء الله سبحانه وتعالى، فاليوم يخرج مفارقاً لأهله وأولاده، وغداً هو غريب عنهم في سفره، وعن قريب يفارقهم بلا رجعة.
وإذا قدم على الميقات فأزال ثيابه، وتجرد من لباسه لإحرامه، تذكر ساعة تنزع منها ثيابه وينزع من الدنيا فلا يعود إليها أبداً، فلا لا إله إلا الله من يوم لبست فيه ثيابك، وقد كتب الله جل جلاله ألا تنزع هذا الثوب الذي لبسته! فلا إله إلا الله من يوم لبست فيه ثيابك وكتب الله جل جلاله ألا تنزع هذا الثوب الذي لبسته وأنه ينزع منك! فإذا تجردت لإحرامك تذكرت هذه الساعة التي تنزع فيها من أهلك وأولادك وأحبابك وجيرانك، وإذا اغتسلت تذكرت خرير الماء عليك وأنت تغسل لكفنك ولحدك، وإذا صرت في جموع المؤمنين استشعرت في كل لحظة وأنت ضيف على الله رب العالمين.(5/4)
استشعار عبادة الحج في كل موطن ونسك
من علامة الحج المبرور: أن يكون الحاج في كل حركة وفي كل سكون يستشعر هذه العبادة، يقول: (لبيك) بقلب حاضر وبلسان صادق، يستشعر معناها وما فيها من دلائل.
قال العلماء: (لبيك) من لبى إذا أجاب وكأنه يأخذ العهد على نفسه أنه يستجيب لطاعة الله ربه إجابة بعد إجابة.
وقيل: (لبيك): من لب الشيء وهو خالصه وناصحه وأفضله الذي لا شائبة فيه، فكأنك تقول: أنا على الإخلاص لك يا رب، وكأنك تعاهد الله على أن تكون أفعالك وأقوالك لوجهه سبحانه وتعالى، ليس فيها لأحد سواه حظ ولا نصيب.
وقيل: (لبيك): من قولهم: داري تلب بدارك إذا جاورتها، فكأنك تقول: أنا مجاور لطاعتك، ومقيم عليها إقامة بعد إقامة، فكأنه يأخذ العهد على نفسه أن يقيم على طاعة الله، وأن يستقيم على محبة الله سبحانه وتعالى.
وإذا كتب الله جل جلاله للعبد فدخل البيت الحرام فإنه يحمد الله سبحانه وتعالى أن بلغه هذا المكان، انظر إلى هذا المكان الطيب المبارك الذي شرفه الله وكرمه، واستشعر عظمة الله سبحانه وتعالى، هذا المكان الذي وطئته قدماك كان يوماً من الأيام وادياً لا أنيس فيه ولا جليس.
أمر الله الخليل أن يأتي بأهله وذريته، فجاء بامرأة ضعيفة وصبي صغير، فأمره الله وابتلاه واختبره أن يضعهما في هذا المكان، فلما أراد أن ينصرف عنهما تعلقت المرأة الضعيفة وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ قال: لله.
فقالت: إذن لا يضيعنا الله، فلما انتصبت قدماه في الوادي وولى، وقد جعل أهله وذريته وراء ظهره صدع، بالدعوات المباركات، استجاب لأمر الله ثم دعا ربه فقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37].
كانت أشجانهم وأحزانهم للدين ولطاعة رب العالمين، ما كانت للدنيا ولا للهوى: {أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ} [إبراهيم:37] لتوحيدك وطاعتك والإنابة إليك.
{فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم:37] سبحان الله! إذا دخلت في حجك أو في عمرتك فرأيت الألوف وهي تطوف ببيت الله جل جلاله فاذكر دعوة الخليل عليه الصلاة والسلام، استجاب الله دعوته فحنت القلوب إلى بيت الله الحرام، وأصبح الرجل تراه قد شاب شعر رأسه ولحيته يتمنى من الله سبحانه أن يبلغه البيت العتيق، كل ذلك استجابة من الله لدعاء الخليل.
قال العلماء: استجاب لأمر الله وأقام أمر الله عز وجل بإحضار أهله وذويه، ثم دعا فاستجاب الله دعوته.
فمن أطاع الله وامتثل أوامره استجاب الله دعوته، وها هي الجموع تكتظ في هذا المكان، فانظر إلى عظيم رحمة الله عز وجل! ومن استجاب للخليل لما أخلص لوجهه وأناب إليه سبحانه سيجيب دعوتك، ويفرج كربتك، ويستر عورتك إن صدقت معه كما صدق.
وإذا سعيت بين الصفا والمروة فاذكر أن بين هذين الجبلين كربة من الكربات فرجها الله من فوق سبع سماوات، امرأة ضعيفة ليس معها أحد، وقد عطش صبيها، فأصبحت تقبل وتدبر في هذا المكان مفجوعة خائفة وجلة، ولكن كان قلبها متعلقاً بالله، منصرفاً إلى الله لا إلى شيء سواه؛ فجعل الله تفريج كربها من تحت قدم صبيها وابنها، وجعل الله الماء الذي جرى من تحت هذه القدم يبقى إلى الأبد طعام طعم وشفاء سقم؛ لما أخلصت لله في دعائها.
وإذا كنت مكروباً فإن الله سيفرج كربتك، وإن جئت شاكياً ضارعاً إلى الله جل جلاله، وصدقت كما صدقت هذه المحرومة الفزعة الوجلة الخائفة الذليلة؛ فإن الله يؤمِّن خوفك كما أمن خوفها، ويقضي حاجتك كما قضى حاجتها، ويزيل عناءك كما أزال عناءها.
تستشعر وأنت بين الصفا والمروة همومك وغمومك وأشجانك وأحزانك وكرباتك فتضعها بين يدي الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، بين يدي الله جل جلاله منتهى كل شكوى، وسامع كل نجوى، وكاشف كل ضر وبلوى، ادعه بقلب مخلص موقن لا يعرف أحداً سواه {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] فتستشعر في هذه الأماكن والمنازل أن الله يجيب الدعوات.
واستمع المؤمنين والمؤمنات، وانظر إلى عظمة جبار السموات والأرض يوم عجت ببابه الأصوات، واختلفت اللغات، والله لا يضيع منها حرف واحد، ولا تغيب منها كلمة واحدة، ولا تخفى عليه مسألة منها سبحانه وتعالى، في هذا المقام العظيم تستشعر همومك وغمومك أنك تنزلها بأكرم الأكرمين، وملاذ الهاربين، وأمان الخائفين، وجوار المستجيرين، تبارك الله رب العالمين! أستودع الله أموري كلها إن لم يكن ربي لها فمن لها لنا مليك محسن إلينا من نحن لولا فضله علينا تبارك الله وجل الله أعظم ما فاهت به الأفواه سبحان من ذلت له الأشراف أكرم من يرجى ومن يخاف فتدعوه وأنت موقن أنه لا يخيبك، وأنه لا يردك.
وإذا مضيت إلى عرفات، وأشرقت عليك شمس ذلك اليوم المبارك، فاحمد الله جل جلاله أنها أشرقت عليك وأنت ضيف على الله، احمد الله جل جلاله أنها أشرقت عليك فما كنت من المحرومين، وما كنت من المثبطين، فقل: يا رب! أكرمتني بهذا الموقف ولو شئت لحرمتني، فلا تجعلني أشقى عبادك في هذا اليوم العظيم.
إذا أشرقت عليك شمس يوم عرفات فاذكر رحمة الله فاطر الأرض والسموات، وانظر إلى ذلك الموقف العظيم بقلب يعظمه، بقلب أسلم إليه سبحانه وتعالى، من بيده مقاليد السماوات والأرض جل جلاله وتقدست أسماؤه.
وصل، وأخلص لله جل جلاله في صلاتك، ثم انصرف إلى الدعاء، وهذه الساعات لا تضيع في أي لحظة منها، ولا تضيع منها دقيقة، وأفضل ما يكون منك أن تذكره سبحانه وتعالى بتوحيده، قال صلى الله عليه وسلم: (خير يوم طلعت عليه الشمس يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له) فالإنسان يقبل على هذا الموقف وهو يذكره ويمجده ويعظمه، لا إله إلا الله خالصة من قلبك، معظمة لربك، وأنت تحس أنه أقرب إليك من حبل الوريد، وأنه يسمعك وأنه يراك سبحانه جل جلاله.
وإذا وقفت بين يديه وقفت وأنت تحس أن الذنوب قد كثرت، وأن العيوب قد عظمت، وأن الخطايا قد جلت، ولكنه أرحم الراحمين، وأنه لم يسئ ظنك فيه وهو الحليم الرحيم، فتقبل على الله جل جلاله بقلب يناجيه ويناديه بصدق وإخلاص، تدعوه من كل قلبك أن يغفر ذنبك وأن يستر عيبك، وأن يفرج كربتك وأن يرحمك.
فلا إله إلا الله كم أشرقت شمس ذلك اليوم على أشقياء فغابت وهم سعداء! لا إله إلا الله كم أشرقت شمس ذلك اليوم على أقوام مذنبين مسيئين فغابت وهم مطهرون مرحومون مغفور لهم! لا إله إلا الله إذا رحم الله برحمته، وسمح بحلمه وعفوه وكرمه سبحانه وتعالى! لا إله إلا الله إذا نزل جبار السماوات والأرض نزولاً يليق بجلاله وعظمته على الحقيقة، ينزل إلى السماء الدنيا لأنه علم أنه لا يجيب دعاء ما سواه، وعلم أنه ليس للمسألة أحد عداه كائناً من كان، ولو كان نبياً مرسلاً أو ملكاً مقرباً.
ينزل إلى السماء الدنيا لكي يرحم المذنبين ويغفر للمسيئين، ويقيل عثرة النادمين سبحانه وتعالى، ينزل إلى السماء الدنيا في تلك الساعة المباركة لكي يباهي بالجموع المؤمنة ملائكته (انظروا إلى عبادي! أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق؛ يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم).
فلله نفحات ولله رحمات، ولربما غفر الله جل وعلا لأهل الموقف جميعهم، لربما غفر الله -جل جلاله- لأهل الموقف نساءً ورجالاً، ورحمهم جميعاً شباباً وشيباً وأطفالاً، فرحمته واسعة، وخزائنه ملأى، بيده سبحانه وتعالى الخير كله، فتناديه وأنت موقن برحمته، وتحس أنك أفقر العباد إليه، وأغناهم به سبحانه وتعالى، وتعج ببابه جل جلاله مسترحماً مستحلماً مستعطفاً لله سبحانه وتعالى.
فإذا غابت شمس ذلك اليوم خرجت وأنت تحسن الظن بالله سبحانه وتعالى؛ أن يجعل سعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأجرك موفوراً، فتنطلق إلى تلك المشاهد الباقية بقلب مستحضر لعظمة الله سبحانه وتعالى.
فتقف بمزدلفة وأنت تحس بجلال ذلك الموقف، الذي أثنى الله عز وجل عليه في كتابه، هذا الموقف الذي قل أن يدعو الإنسان فيه بإخلاص وترد دعوته، وكان بعض السلف يقول: (ما سألت الله حاجة وحال الحول إلا قضاها الله لي).
هذا الموقف -الذي هو موقف المشعر الحرام- أثر عن بعض السلف أنه قال: (لقد وقفت في هذا الموقف في كل عام وأنا أسأل الله ألا يجعله آخر العهد فيستجيب الله دعوتي، وإني لأستحي أن أسأله هذا العام فرجع ومات رحمه الله).
هذا الموقف -وهو موقف المشعر الذي غاب عن كثير من الناس- أدب الله المؤمنين فيه فذكرهم أن تكون دعوتهم للآخرة، وأن تكون جامعة بين خيري الدنيا والآخرة، فالناس فيه بين سائل للدنيا وبين سائل خيري الدنيا والآخرة، من الناس: {مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200] هذه الكلمة يقول العلماء: معناها أنه يقول: اللهم أصلح لي تجارتي، اللهم أصلح لي أموالي، اللهم اشف لي ولدي، اللهم عافني من كذا وكذا.
وينسى الآخرة، هذا هو الذي عناه الله بقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:200].
فاجمع بين ثلاث مسائل: المسألة الأولى: أن تسأل الله أن يصلح دينك الذي هو عصمة أمرك.
والثانية: أن يصلح دنياك التي فيها معاشك.
والثالثة: أن يصلح لك آخرتك التي إليها معادك.
أما إذا سألته صلاح دينك الذي هو عصمة أمرك؛ فأنت بين أمرين: تسأله العفو عما كان من الذنوب والعصيان، والإحسان فيما بقي من عمرك، فقل: اللهم إني أسألك حياة ترضيك، اللهم اغفر لي ما سلف وما كان، وارحمني ووفقني فيما بقي لي من زمان، واجعل ما بقي لي من الحياة عوناً لي على طاعتك، فكم من إنسان حيي إلى فتنة!، وفي الحديث الصحيح: (أنه لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل على قبر أخيه ويقول: يا ليتني مكانك) يتمنى أن يكون مكانه من كثرة الفتن والمحن!، نسأل الله العظيم رب ا(5/5)
إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً
إذا أراد الله أن يكون حجك مبروراً وسعيك مشكوراً رزقك المال الحلال والكسب الطيب، حتى إذا قلت: يا رب! أجاب دعوتك (قال سعد بن أبي وقاص: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة.
قال: أطب مطعمك تستجب دعوتك) كم من لقمة من حرام حجبت صاحبها عن الله! كم من لقمة من حرام حجبت إجابة الله! فإذا أراد الله أن يجعل حجك مبروراً وسعيك مشكوراً قيض لك الكسب الحلال: (والله طيب لا يقبل إلا طيباً).
إذا حججت بمال لست تملكه فما حججت ولكن حجت العير لا يقبل الله إلا كل صالحة ما كل من حج بيت الله مبرور يقول عليه الصلاة والسلام: (كم من أشعث أغبر ذي طمرين، يطيل السفر، يرفع يديه إلى السماء يقول: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام؛ فأنى يستجاب لذلك؟!).(5/6)
الرفقة الصالحة في الحج
إذا أراد الله أن يجعل حجك مبروراً وسعيك مشكوراً قيض لك رفقة صالحين، إذا نسيت الله ذكروك، وإذا ذكرته أعانوك، غضيضة عن الشر أعينهم، ثقيلة عن الباطل أرجلهم، أمضاء عبادة وأطماح سهر.
الحج المبرور يستعان عليه بالرفقة الصالحة والإخوان الصالحين؛ فكم غير الله أقواماً برفقةٍ صالحين! كم أصلح الله من أحوالهم!، وكم أصلح الله من شئونهم عندما كانوا مع الصالحين: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
إن رفقة الصالحين معونة على الخيرات، والرفقة الصالحون إما أن يكونوا أكثر منك فتتمنى خيرهم؛ فيبلغك الله أجرهم، قال أحدهم: (يا رسول الله! الرجل يحب القوم ولما يعمل بعملهم؟ قال: أنت مع من أحببت) فمن أحب الصالحين أحب الخير وهدي إليه، فإن لم يستطع فعله بلغه الله أجره بالأمنية والنية.
ومن خيار من تصحبه لحجك وبيت ربك عالم فاضل، تهتدي بهديه، وتقتدي بسمته ودله، عالم يأخذ بحجزك عن النار، ويقيمك على سبيل الأبرار، إذا نظرت إليه ذكرت الله، وإذا سمعته أعانك على طاعة الله.
صحبة العلماء وطلاب العلم الأتقياء الصلحاء معونة على الحج المبرور، معونة على كل خير وبر ورحمة، قال صلى الله عليه وسلم: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وإذا صحبت العلماء فاحفظ حقوقهم وحرمتهم، وكن كأحسن ما يكون الصاحب لصاحبه، الله الله! أن يكون منك شين الخلال أو سيئ الخصال، فيشهد على ذلك خيار عباد الله عليك، كن كأحسن ما يكون عليه طالب العلم، وكأحسن ما يكون الرفيق لرفيقه، تحفظ مشهدهم وغيبتهم وترعى مشاعرهم، وتهتدي بسمتهم ودلهم.(5/7)
حفظ اللسان
إذا أراد الله أن يجعل حجك مبروراً وسعيك مشكوراً؛ عصم لسانك عن الزلات والهمات وتتبع العورات؛ حتى لا تبلى بالدركات، قال معاذ: (يا رسول الله! أو إنا مؤاخذون بما نقول؟ قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم) فتتقي الله في لسانك، وتكون مسلماً منقاداً لله مستسلماً، قد سلم المسلمون من لسانك وزلات جوارحك وأركانك.
احفظ اللسان! كان شريح إذا أحرم بالحج والعمرة كأنه حية صماء، كان السلف يحفظون ألسنتهم حتى يبلغوا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
اشترط النبي صلى الله عليه وسلم لهذه المغفرة والرحمة سلامة لسانك، وهي وصية الله في كتابه، ووصيته لأوليائه وأحبابه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
اتفقت كلمة السلف وعبارة الأئمة رحمة الله عليهم في قوله سبحانه: (فلا رفث): هو الكلام الذي يكون عند النساء مما يثير الشهوة ويبعث عليها، وأما الفسوق: فمذهب طائفة من السلف أنه المعاصي كلها، فإذا أراد الله أن يجعل حج العبد مبروراً عصم لسانه؛ وحفظه عما لا يليق؛ فأصبح لله ذاكراً، ولنعمته شاكراً، ومن ذكر الله ذكره، ومن شكر الله فإن الله يجزي الشاكرين ولا يضيع أجر المحسنين.
إذا رأيت العبد يلهج لسانه بذكر الله، ويعمر أوقات حجه بالكلام في طاعة الله؛ فاعلم أن ذلك من بشائر القبول من الله سبحانه وتعالى.
احفظ لسانك؛ فإن حفظ اللسان سبيل إلى الجنان، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من يحفظ لي ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة) فضمن الله الجنة لمن حفظ اللسان من هماته وزلاته، والفرج من مساوئه وتبعاته.
إذا لبى الملبي تعمر لسانك بذكر الله، وتذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر وشجر حتى تنقطع الأرض) تذكر الله قائماً، وتذكره قاعداً، وتذكره على جنب في طاعته سبحانه على جميع الشئون والأحوال.
من علامة الحج المبرور: سلامة جوارحك وأركانك من أذية المؤمنين؛ فإن الله عز وجل إذا أحب عبده وفقه لاستغلال جوارحه في طاعته، وبلوغ أعلى المنازل من محبته ومرضاته.
من برور الحج: أن تكون محسناً إلى المسلمين لا مسيئاً، سئل عليه الصلاة والسلام -كما روى الطبراني وأحمد في مسنده- عن برور الحج، فقال صلوات الله وسلامه عليه: (إفشاء السلام، وإطعام الطعام).
قال العلماء: من برور الحج إفشاء السلام، وإطعام الطعام، ليس المراد أن ينحصر في هاتين الخصلتين، وإنما هو إشارة إلى صلاح اللسان، وصلاح الجوارح والأركان، معناه: أنه حاج بار ما رأى المسلمون منه إلا الخير في لسانه، وفي جوارحه وأركانه؛ فقل أن تجد مسلماً يفشي السلام إلا كان لسانه معصوماً من الآثام؛ لأن الذي يسلم فيه: خصال المؤمنين الحقة، فيه التواضع ومحبة الخير للمسلمين، ولذلك يسلم حتى يكون دعاؤه وسلامه رحمة لإخوانه المسلمين.
الذي يفشي السلام ويطعم الطعام قد قيض قلباً يخاف الله ويرجو رحمته، الذي يفشي السلام ويطعم الطعام قد قيض قلباً نقياً تقياً لعباد الله المؤمنين؛ ولذلك أحب لهم الخير فكان في أعلى المراتب، وهي مرتبة الإحسان إلى الناس لا مرتبة الإساءة.(5/8)
حفظ الجوارح عن المحرمات
قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] الفسوق معصية الله جل جلاله؛ فتكون بالعين بالنظر، وتكون باللسان بالكلام، وتكون بالسمع بسماع الحرام والآثام، وتكون بالأقدام، وتكون بالأيدي؛ فيحفظ الحاج لبيت الله جوارحه، يحفظها حينما يستشعر أنه ضيف على الله جل جلاله، والضيف يرعى حرمة مضيفه، ويتقي الله جل جلاله، فمن تقواه لله سبحانه: أن يحفظ جوارحه وأركانه، فلا يرسل عينه بالنظرات إلى عورات المؤمنين والمؤمنات، ولكن يتقي الله جل جلاله.
كل الشرر مبداها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور عاد بالضرر لا خير والله في نظرة إلى الحرام في البلد الحرام والشهر الحرام، ولحجاج بيت الله الحرام.
قال العلماء: المعصية تتعاظم بالزمان وبالمكان وبالحال.
فهي لا تضاعف؛ لأن الله لا يضاعف السيئات وإنما يضاعف الحسنات، قالوا: إنما يعظم إثمها ووزرها إذا كانت في زمان محرم، أو كانت في مكان محرم، أو كانت على حالة ينبغي للمسلم أن يرعى حرمتها، ففي الزمان الحرام كالأشهر الحرم.
وأشهر الحج هي شوال وذو القعدة وذو الحجة فهي أشهر الحج، ومنها شهران محرمان نهى الله عباده المؤمنين أن يظلموا فيها أنفسهم، هذان الشهران الحرامان قد يعصي الإنسان فيهما فتكون الحرمة والذنب والمعصية أعظم من الوقوع في غيرها؛ فالنظر إلى الحرام في بيت الله الحرام، وكذلك في الشهر الحرام، والإنسان متلبس بحرمات الإحرام؛ فإن ذنبها أعظم ووزرها أكبر، فينبغي للإنسان أن يخاف الله جل جلاله، والله سبحانه وتعالى إذا اطلع على قلب العبد أنه يخافه وفقه، وعصمه من الفتن والمحن، فالذي يقع في الفتن والمحن غالباً لا يكون إلا وهو مستخف بعظمة الله سبحانه وتعالى.
فيحرص الحاج إلى بيت الله الحرام على حفظ نفسه من الفسوق والآثام، يحرص على سلامة لسانه من الغيبة والنميمة والسباب والشتائم، وغير ذلك من المحرمات، فإن رأى خيراً ذكره، وإن رأى سوءاً وشراً ستره، وهذا هو حال أهل الإسلام.
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن وفق لهذه الخصلة من الخصال الكرام.(5/9)
خروجك من بيتك للحج توفيق إلهي
مِنْ زادك للحج: أن تعلم إذا خرجت من بيتك أن الله وحده هو الذي أخرجك، ولو شاء لثبطك ولحرمك، لو شاء الله لجعل الدنيا أكبر همك، ومبلغ علمك، وغاية رغبتك وشغلك، فحبستك الأموال والتجارات، وتعلقت بك الأبناء والبنات، فآثرتهم على ما عند الله: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
لو شاء الله ما خرجت، لو شاء الله ما لبيت؛ ولكنه سبحانه هو الذي أخرجك لرحمته: {وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64] أخرجك برحمته وبره وإحسانه وهو أكرم الأكرمين، أخرجك إلى عفوه ورضوانه.
نظر الله إليك وقد أحاطت بك الذنوب فأحب أن يغفرها، نظر الله إليك وقد كثرت منك العيوب فأحب أن يسترها، نظر الله إليك وقد أحاطت بك الهموم والغموم فأحب أن ينفسها، نظر الله إليك وقد آلمتك الأسقام والآلام فأحب أن يذهبها، نظر الله إليك وقد أقلقتك الديون وحقوق الناس فأحب أن يتحملها سبحانه ما أرحمه! سبحانه ما أفضله! وما أكرمه وما أوفاه وما أبره! اختارك من بين الملايين برحمته وهو أرحم الراحمين، اختارك وأنت أفقر ما تكون إليه، وهو أغنى ما يكون عنك، اختارك لرحمته فتشكره وتذكره.
لو أن عبداً من عباد الله اختارك من بين المئات والألوف لضيافتك أو لمناسبته لشكرته وذكرته وحمدته، ولله المثل الأعلى، ما قدرناه حق قدره، ولا شكرناه حق شكره؛ فاحمده فإنه يرضى عن الحامدين، واشكره فإنه تأذن بالمزيد للشاكرين.(5/10)
الأسئلة(5/11)
نصيحة في حض النساء على الحجاب
السؤال
نرجو منكم كلمة تحضون بها الأخوات على الخير وخاصة الحجاب.
الجواب
يا معاشر المؤمنات! يا معاشر الصالحات القانتات! إن الله وعظكن فأحسن وعظكن، وأدبكن فأحسن تأديبكن، وأثنى على الخيرات الدينات، فقال سبحانه وتعالى فيما أنزل من آيات: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34].
يا أمة الله: اتقي الله جل جلاله في جنانك، فاعمريه بالإيمان والعبودية للرحمن، فإن الله رضي لك ذلك، والبسي لباس الحياء والحشمة والعفة، وكوني على الخير والصفاء يستقم لك أمر الدنيا والآخرة، أصلحي لله السريرة في كل ما تقولين وكل ما تفعلين وكل ما تذرين وتتركين تستوجبي رحمة الله وهو أرحم الراحمين.
احرصي على الخير حيثما كنت، وعلى طاعة ربك حيثما نزلت، فإن كنت كذلك بارك الله لك في الأيام والليالي، وقرت عينك بالباري.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لمرضاته، وأن يبلغنا منازل الرحمة في جناته.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(5/12)
حكم أخذ الزوج لراتب زوجته
السؤال
أنا امرأة متزوجة، وأعمل في مجال التدريس، وزوجي لا يسمح لي بالتصرف في راتبي، بل يأخذ منه الشيء الكثير، وقد يقترض ولا يرد القرض، وأنا لست راضية بهذا، ولا يسمح لي بأن أعطي والدي ووالدتي، ولا يسمح لي بشراء الملابس، وهو الذي يختار ما ألبسه، مع العلم أني حريصة على الملابس الشرعية، وسؤالي: هل يحق للزوج أخذ راتب زوجته؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أوصي هذا الزوج وكل زوج أن يتقي الله جل جلاله، أوصي الزوج أن يتقي الله في زوجته، والزوجة أن تتقي الله في زوجها، وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إني أحرج حق الضعيفين: المرأة، واليتيم) قرنها باليتيم؛ لأنها إذا اشتكت قد لا تجد من تشتكي إليه إلا الله جل جلاله، ويتخلى عنها أبوها وأخوها وابنها وقرابتها، فلا تجد إلا الله: {وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا} [النساء:45].
ظلم النساء لا خير فيه، ظلمهن بالأقوال، وظلمهن بالأفعال، وظلمهن في الحقوق لا خير فيه، ولذلك ذكر الله المرأة وهي تشتكي إليه، فأخبر أنه سمع شكواها من فوق سبع سماوات، لما جادلت رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتكت إليه، وبثت إليه حزنها، وتقول: إلى الله أشتكي ثعلبة.
فصعدت هذه الشكوى إلى الله جل جلاله منتهى كل شكوى، ولذلك بالتجربة: قل أن تجد إنساناً يظلم أزواجه ويسيء إليهن إلا عاقبه الله جل جلاله؛ ورأيت في الدنيا عاجل ما يكون من حاله، إلا أن يتقي الله ويغير ما به.
ولذلك: ينبغي على المسلم أن يتقي الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بالنساء وهو في حجة الوداع، وجعل وصية النساء في هذا اليوم المشهود العظيم، قال العلماء: لكي ينص ويبين على حقوقهن، وأنه ينبغي الوفاء بها وردها إليهن؛ لضعفهن في الغالب؛ وعجزهن عن المطالبة حتى عند الخصومة.
المرأة إذا ظلمتها أو ظلمت وأرادت أن تخاصمك أو تقف في وجهك لا تستطيع، لربما تقول الكلمة والكلمتين ويغلبها البكاء، ولربما تقول الكلمة والكلمتين فيغلبها الخوف والرهبة فاتق الله جل جلاله! أمانة في عنقك، إما إلى جنة وإما إلى نار، أحسنوا إليهن، ولذلك ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من ضرب النساء وقال: (ما أولئك بخياركم).
شاع عند كثير من الناس -إلا من رحم الله- في هذا الزمان التسلط على النساء، بالأذية لهن، والقهر لهن، والتضييق عليهن دون خوف من الله جل جلاله، ودون استشعار لنقمة الله العاجلة والآجلة، فالله الله! في النساء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أوصى بهن خيراً، صحيح أنهن ضعيفات وقد يكون منهن التقصير، ويكون منك كما يكون منها، ولكن الإنسان يغفر السيئة بالحسنة، ومن منا كمل؟! ولعلك ترحم هذه المسكينة فيرحمك الله جل جلاله.
ووالله لقد عهدت علماء وفضلاء وأتقياء صلحاء تنازلوا عن كثير من الحقوق للنساء؛ فوجدت أحوالهم على خير ما يكون عليه الحال، لأن من رحم يرحمه الله، ومن وسع على أقرب الناس إليه وسع الله عليه في الدنيا والآخرة.
هذه وصية مهمة: التوسيع على الأهل، وإذا دخلت إلى بيتك دخلت حليماً رحيماً رفيقاً رقيقاً، خاصة الشباب الملتزمون بدين الله، فإنهم قدوة، ولربما يكون هو وحده من بين الأخوة كلهم ملتزماً بدين الله، والبقية على فجور أو على عصيان، فينظرون إليه أنه قدوة.
فالله الله! في أذيتهن والتضييق عليهن، خاصة إذا رأيتها أمة تخاف الله جل جلاله.
احمد الله سبحانه وتعالى إذا رزقك امرأة صالحة، اقدرها قدرها، فكم من نساء يتقلبن في الفتن وأهلكن أزواجهن وضيقن عليهم في الفتنة الحرام، وهذه الولية المؤمنة الأمة الصالحة اشكر منها صلاحها، في هذا الزمان تجدها بين أربع أركان بيتها، لا تستطيع أن تخرج، لا تطالبك بخروج ولا تبرج ولا فتنة، ولا تطالبك بشيء يفتنها عن دينها؛ فاشكر منها ذلك، ولو رأيت منها زلة فليتسع صدرك، ولتكن ذلك الرجل، لأن الله فضلك بالصبر والحلم والرحمة تسعها بحنانك، وعطفك وإحسانك.
كان بعض الأخيار -أعرفه- تؤذيه زوجته، فكنت أقول له: لم تصبر؟! فقال: والله إن أباها قد أكرمني، وإنها رضيت بي زوجاً، وإني أرى فيها الخير، وقد أجللت هذه الثلاث، وأرجو من الله ألا أردها إلى بيتها يوماً من الأيام تشتكي مني أو أشتكي منها.
الوفي كريم، ولعلك أن تصبر اليوم فيخرج الله منها ذرية صالحة فاصبر! وقد ذكر عن ابن أبي زيد القيرواني، ذلك الإمام الذي قال عنه النسائي: كان ثقة، وكانوا يقولون له: مالك الأصغر في صلاحه وديانته، كانت امرأته تسبه حتى أمام طلابه وأمام خاصته، ومع ذلك يصبر.
قالوا له: لم تصبر؟! قال: إن الله سلطها علي بالذنب، وأخشى أنني لو طلقتها أبدلني الله شراً منها.
فلذلك ما رأيت منها من هذه الإساءة فبذنبك، وكن حليماً رحيماً؛ فإن الله يرحمك.
أنت قادر أن تطلق وأن تنتقم وتأخذ حقك بالقوة؛ ولكن تحلم فيحلم الله عليك، وترحم فيرحمك الله.
وصية: أن نتقي الله، وكذلك يوصي الشباب الأخيار بعضهم بعضاً بالصالحات، النساء الصالحات في هذا الزمان لهن فضل كبير، والله! إن المرأة الصالحة في هذا الزمان درة ثمينة، ينبغي أن نعينهن على الالتزام بالتوسعة عليهن والرحمة بهن والإحسان إليهن.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا لذلك، وأن يرحمنا برحمته.
والله تعالى أعلم.
أما بالنسبة للسؤال: فإن الزوج ظالم، والمال مال المرأة، حقها وعناؤها وكدها وشقاؤها هو حق من حقوقها، ليس من حقه أن يطالبها بهذا الراتب، وليس من حقه أن ينتزعه منها، ولقد ظلم وفجر، وبلغ من ظلمه وفجوره أن يحرمها من بر والديها -نسأل الله السلامة والعافية-! فقد ظلمها في مالها، ولا يحل له من مالها إلا ما طابت به نفسها، أما إذا لم تطب نفسها بشيء فإياك إياك! ومالها وحقها.
ولذلك: يعتبر ظالماً من وجهين: لأخذه من مالها بدون حق، ويلزمه في التوبة أن يرد المال إليها كاملاً، وأن يتوب إلى الله مما بدر منه.
وأما الأمر الثاني: فإنه يستغفر الله من العقوق الذي أمرها به.
وانظروا إلى الشقاء! {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37] نسأل الله السلامة والعافية، فقد يكون عاقاً ويأمر زوجته بالعقوق.
وأنا أطيل في هذه المسألة وأركز عليها -ولو تأخرنا- والله لأهميتها، فكم من بيوت هدمت، ولقد سمعت من بعض الشكاوى حتى من الصالحات يشتكين الصالحين، بعض الشباب فيه خير، وقد يلتزم على ذكر وعلى طاعة وبر، ولكنه يسيء التعامل، وقد تجد المرأة عنده السنة والسنتين لم يدخل السرور عليها يوماً من الأيام.
يأتي لكي يدقق في كل صغيرة وكبيرة، ناسياً فضلها واستقامتها، المرأة بشر المرأة ضعيفة بين هذه الجدران الأربعة، تصور لو أنك سجنت بين هذه الأربعة الجدران يوماً كاملاً لضاقت عليك الدنيا، أنت تخرج هنا وهناك تبدد همومك وأحزانك، ولكن هذه الضعيفة لمن تشتكي غير الله جل جلاله؟! فلذلك: الرحمة! وينبغي على الأخيار أن يوسعوا، وأن يكونوا مثلما كان النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقف على قدميه يوم العيد لـ عائشة -نبي الأمة، وإمام الرحمة- من أجل أن تنظر إلى الحبشة وهم يلعبون بالسلاح، فيقول: هل فرغت؟ تقول: لا بعد.
يقول: هل فرغت؟ لا بعد.
هل قال لها: أنا نبي الأمة أقف لك؟! لو أن شاباً خيراً اليوم قالت له امرأته: أريد أن تخرج بي لكي أنفس عن نفسي.
لأقام الدنيا وأقعدها، أنت تتشبهين بالفاجرات! أنت كذا وأنت كذا! ونبي الأمة يقف على قدميه صلوات الله وسلامه عليه! يقود الأمة والجحافل في الجيوش والجهاد، وإذا دخل إلى بيته دخل حليماً رحيماً موطأ الكنف صلوات الله وسلامه عليه، فيأخذ بمجامع تلك القلوب ببره وإحسانه، فيأخذ القصعة من أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيقسم عليها أن تشرب قبل أن يشرب من يفعل هذا الفعل؟! تشرب قبل شربه، ثم إذا شربت وضع فمه حيث وضعت فمها من يفعل هذه الأفعال الكريمة غير الصالحين؟ وإذا لم يفعلها الصالحون فمن يفعلها؟ فالله الله! في حقوق النساء! في التوسعة عليهن! وإدخال السرور عليهن! نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من الخيار للأزواج.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(5/13)
لا يجوز الرمي عن المرأة إلا بعذر
السؤال
رجل يرمي عن زوجته وهي تستطيع الرمي ولكن يخشى عليها من الزحام، فما الحكم؟
الجواب
الرمي عن المرأة بدون وجود عذر لا يجوز ولا يشرع، ولذلك إذا كانت المرأة قادرة على الرمي ورمى عنها زوجها أو محرمها أو أي شخص فإن هذا الرمي وجوده وعدمه على حد سواء، فلا يصح التوكيل على هذا الوجه الذي خلا فيه المكلف من العذر، وحينئذٍ يلزمها أن تعيد الرمي إذا كان الوقت يمكن فيه التدارك، وإذا كان لا يمكن فيه التدارك ففيه ما في واجبات الحج.
والله تعالى أعلم.(5/14)
وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الحجاج
السؤال
ما هو واجب أهل الاستقامة من الحجاج الذين يرون كثيراً من الحجاج يجاهرون بشرب الدخان والتصوير والتخلف عن الصلاة؟
الجواب
الحج جمع الله فيه المؤمنين والمؤمنات؛ حتى نحس أننا مسلمون ومؤمنون؛ وأن الله قد ألف بين أرواحنا وجمع بين قلوبنا، فيكمل بعضنا بعضاً.
كم أصلح الله من أحوال أقوام في هذا الحج!، وكم استقامت قلوب لله جل جلاله بالنصائح الغالية والتوجيهات والمواعظ الهادفة في حج بيته الحرام!، غير الله قلوباً وقوالب فأذعنت واستسلمت وصلحت واستقامت بالذكر بالتواصي بالحق بالأمر بما أمر الله والنهي عما حرم الله جل جلاله.
فتحرص -أخي في الله- أن تؤدي لإخوانك حقهم عليك: النصيحة، وأعظم ما تكون النصيحة في أصول الدين، فإذا رأيت منه أخطاءً في عقيدته سددته ووفقته وقومته، ودللته على أصل الأصول، وعلى الأساس الذي لا يمكن أن يقبل الله به عمل عامل حتى يصححه، ويقيمه على المنهج السوي والطريق الرضي، وتأخذ بحجزه عن النار، وتذكره بحق الله جل جلاله عليه.
تسمع منه كلمة فيها استغاثة بغير الله أو استجارة بغير الله تدله على توحيد الله، وإسلام القلب لله، وأنه ما جاء لهذا المكان إلا لكي يقيم حق لا إله إلا الله، فتبين له هذا الأصل وتقرره.
واعلم رحمك الله أنك لو رأيت منه هذا الذنب العظيم وسكت تعلق بك بين يدي الله جل جلاله، وقال: يا رب! رآني على هذا المنكر، ورآني على هذا الخلل والزلل ولم يأمرني بأمرك ولم ينهني عن نهيك.
كذلك إذا رأيت منه الأخطاء في أقواله وأفعاله، سواء كان رجلاً أو كانت امرأة هتكت حجابها واعتدت حدود ربها؛ ذكرتها بالله: يا أمة الله! اتقي الله يا أمة الله! افعلي يا أمة الله! اتركي (وإن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه) ربما تمر على عاصٍ منتهك لحدود الله، فيتمعر قلبك لله، فتقول من كل قلبك: اتق الله؛ فيكتب الله لك بهذه الكلمة رضاً لا سخط بعده أبداً.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قاعدة الخير وأساس البر؛ ولذلك عظم الله به الأجور، ورفع به الذكر، وما رفع قدر العلماء إلا لما قاموا بدينه، ما رفعهم بأحسابهم ولا أنسابهم ولا ألوانهم؛ ولكن رفعهم لما رفعوا دينه وأقاموا حجته على عباده سبحانه وتعالى.
وجعلهم ورثة للأنبياء، وشرفهم وكرمهم بالأمر بأمره والنهي عن نهيه، فمن أراد أن ينال أو يبلغ مبلغ مرضاة الله فليتشبه بالعلماء العاملين الصديقين، الذين يأمرون بأمر الله وينهون عن حدود الله ومحارم الله، فتأمر بطاعة الله وتنهى عن معصية الله، ولا عليك، يقبل من يقبل ويرد من يرد، فما كلفت بنتائج عملك، إنما كلفت أن تقيم بحق الله جل جلاله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين.
والله تعالى أعلم.(5/15)
نصيحة عامة لشاب قيدته المعاصي
السؤال
هل من نصيحة لشاب قيدته المعاصي، كلما أراد التوبة عاودته الذنوب، فهل من سبيل لأن يكون حج هذا العام تطهيراً له من هذه الذنوب، وتوبة صادقة خالصة بإذن الله؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن التوبة بابها مفتوح، الله جل جلاله يفرح بتوبة التائبين، ويقيل بحلمه وإحسانه عثرات النادمين، ما صد أحداً عن بابه، ولا حرم أحداً رجاه في مغفرته وعفوه وإحسانه، الله جل جلاله لا يهلك عليه إلا هالك، يفرح بتوبتك أشد من فرحك بالتوبة، ولو علمت مقدار حبه سبحانه لتوبتك وإنابتك لكنت أعجل الناس بالتوبة وأسرعهم إليها، ولو تكررت منك الذنوب، وكثرت منك الإساءة والعيوب؛ فإن الله جل جلاله رحيم لطيف كريم، فأبشر بخير، ولا تقنط من رحمة الله، ولا تيأس من روح الله، فإنه لا يهلك على الله إلا هالك.
قتل رجل مائة نفس آخرها عابد صالح قانت مقبل على ربه، فقتل هذا العابدَ تمام المائة وما قنط من رحمة الله جل جلاله، فسأل عن أعلم أهل زمانه؛ فدل على أعلمهم وسأل عن التوبة، فقال له: وما الذي يمنعك منها؟! ولكن قومك قوم سوء، وقوم فلان قوم صالحون، انطلق إلى قرية كذا وكذا فخرج إلى قرية الصالحين تائباً نادماً مقبلاً على الله جل جلاله، فأدركه الموت بعد هذه الجرائم الفظيعة، والدماء التي سفكها، والمحارم التي أصابها، ففرح الله بتوبته، وأجل الله منه الخطوات وهو مقبل عليه سبحانه وتعالى.
إن تقربت منه شبراً تقرب منك ذراعاً، وإن تقربت منه ذارعاً تقرب منك باعاً سبحانه، وأنت أفقر ما تكون إليه، وهو أغنى ما يكون عنك.
(يا عبادي: إنكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني، ولن تبلغوا ضري فتضروني) فالله -سبحانه وتعالى- لا تنفعه طاعة المطيعين، ولا تضره معصية العاصين، تبارك وهو رب العالمين.
فلا تيأس من رحمته، ولا تقنط من روحه، ولو تكرر الذنب منك مرات وكرات ولو ملايين المرات، فلا تقنط من رحمة الله، وأغظ عدو الله إبليس، فإن الله إذا رآك كلما افتتنت تبت فرح بتوبتك؛ لأنه يحب التوابين، و (التوابون) هذه الصيغة في لغة العرب تدل على أنهم أكثروا التوبة، وأكثروا الإنابة إلى الله سبحانه وتعالى.
فأبشر بخير ما دمت ترجو رحمة الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح-: (من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه).
نسأل الله العظيم أن يتوب علينا وعليكم في التائبين، وأن يرحمنا وإياكم وهو أرحم الراحمين.
والله تعالى أعلم.(5/16)
حكم حج من عليه دين مقسط
السؤال
ما الحكم فيمن أراد الحج وعليه أقساط شهرية لا تنتهي إلا بعد أربع سنوات؟
الجواب
الدين يمنع وجوب الحج، الأصل في ذلك: أن المديون إذا لم يجد سداد دينه فإنه عاجز عن بلوغ البيت؛ لأن حقوق العباد محيطة به، وهو مطالب بسدادها، ولا يؤمر بحجه إلا بعد أن يملك النفقة والزاد، لقوله سبحانه وتعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97] فالمديون الذي لا يجد سداد دينه لا يستطيع إلى البيت سبيلاً، لأنه ذمته مشغولة بحقوق العباد، ولذلك أجمع العلماء رحمهم الله على أنه ينبغي عليه أن يبدأ بسداد دينه، ولا يجب عليه الحج ما دام أنه غير قادر من ناحيته المادية.
أما إذا كان الدين أقساطاً، فقال بعض العلماء: الدين المقسط الذي يكون على أنجم شهرية أو سنوية، إذا أدى قسطه لشهر حجه فإنه لا حرج عليه أن يحج، وهكذا إذا كان عليه دين، واستأذن أصحاب الديون فأذنوا له؛ فإنه لا حرج عليه أن يحج.
والله تعالى أعلم.(5/17)
حكم استخدام المرأة للحبوب المانعة من الدورة حال الحج
السؤال
سائلة تريد الحج وتسأل عن حبوب منع الدورة ما حكمها؟
الجواب
هذه المسألة لم تكن موجودة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يعتبرها العلماء من مسائل النوازل، وقد نزلت في العصور المتأخرة، فبعد المائة السابعة أو الثامنة وجد الدواء، وكان عند العطارين يوجد ما يقطع الدم عن المرأة ويؤخر الحيض عنها، فقال بعض العلماء: إنها إذا شربت الدواء الذي يقطع حيضها ويؤخر عادتها فعبادتها صحيحة.
وهذا هو القول الصحيح؛ لأن الشرع علق الحكم على وجود الدم، فإن وجد الدم تعلق به المنع، وإن انتفى فإنها لا تعتبر ممنوعة من عبادتها؛ لأن الأصل فيها أنها مكلفة.
وبناءً على ذلك قالوا: إنها إذا شربته وصامت صح صيامها، ولو شربته وحجت وطافت صح طوافها وحجها؛ لأن الله علق الحكم بوجود الدم.
والله تعالى أعلم.(5/18)
الكتاب والسنة هما مرجع المسلم في حياته كلها
السؤال
ما الكتب التي تنصحون بالاستعانة بها في الحج؟
الجواب
كتاب الله والسنة الصحيحة فيهما الغنى والكفاية، وما حرم كثير من الناس من حصول الخير على أتم وجوهه وأكملها إلا لما حرموا كتاب الله جل جلاله، فتجد الإنسان إذا أراد موعظة يبحث عن الأشرطة والكتيبات، وموعظته في كتاب الله سبحانه وتعالى، يترك خير الواعظين جل جلاله ورب العالمين، الذي إذا وعظ بلغته موعظته، فلربما الآية الواحدة تقلب الإنسان من الشقاء إلى السعادة، فكم من كلمات في كتاب الله لو استحضرها الإنسان لجعلها نصب عينيه إلى لقاء الله سبحانه وتعالى.
ما ضر الكثير -حتى من الدعاة والهداة- إلا إقبالنا على كلام الناس أكثر من إقبالنا على الله، ولذلك كان السلف يصحبون هذين الكتابين وهذين النورين، صحبوا كتاب الله جل جلاله بقيام الليل بالقرآن، وبكاء الأسحار بآياته وتأثرهم بعظاته، حتى بلغ كتاب الله منهم المبلغ، فتقرحت قلوبهم، وأقبلوا على الله ربهم يدعونه ليلاً ونهاراً، ويخبتون إليه سراً وجهاراً أن يرزقهم جنة ويحجب عنهم ناراً.
كانوا أئمة في الخير بهذا الكتاب، اصحب كتاب ربك واصحب مواعظه معك وانظر إلى أثر هذه المواعظ وعظيم انتفاعك بها.
قرأنا القرآن وما حضرت قلوبنا عند قراءته، وسمعناها وما حضرت قلوبنا عند سماعه، والله تعالى يقول: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] هل من مدكر؟ هل من مشتر لرحمة الله فيستمع لهذا القرآن فيرحم، كما قال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف:204]؟.
الاستماع لكتاب الله وكثرة التلاوة والتدبر هي التي تعين على كل خير، وما نال السلف الصالح -رحمة الله عليهم- الاستقامة على أتم وجوهها وأكملها، فشرفهم الله أئمة لهذه الأمة الصالحة إلا بكتاب الله جل جلاله، كان الرجل يختم على الأقل كل شهر مرة، ومنهم من لا تمر عليه عشر ليالٍ إلا وقد ختم كتاب الله، ومنهم -وهو من أكملهم وأفضلهم، الذي أصاب السنة- من يختم كل ثلاث ليالٍ.
يعرض كتاب الله -أوامره ونواهيه، ووعده ووعيده، وتخويفه وتهديده، وبشارته ونذارته- في كل ثلاثٍ مرة، يقف لكي يعرض قلبه وقالبه وأقواله وأعماله على هذا الكتاب.
فأوصيك أن تصحب كتاب الله معك فتتلوه إن كنت حافظاً، وتسمعه إذا لم تكن حافظاً، وتقرؤه ولو بالنظر؛ وسترى الخير الكثير من الله سبحانه وتعالى؛ فإنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] ففيه الخير كله.
كذلك تصحب سنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، وتعلم ما الذي أمرك الله به فتفعله، وما الذي نهاك عنه فتتركه، وتسأل دائماً عن هديه وسمته ودله، فإن العلم بالسنة رحمة، ولذلك أقرب الناس لرحمة الله جل جلاله علماء السنة، العاملون بها المهتدون بهديها، الداعون إليها، تجدهم في رحمة، حتى إن وجوههم مشرقة في الدنيا والآخرة، قال صلى الله عليه وسلم: (نضر الله امرأً سمع مقالتي فحفظها ووعاها، وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع) (نضر الله): من النضارة، وهي الحسن والوضاءة والجمال.
قال العلماء: إن هذا الحديث يدل على أن الله سبحانه وتعالى يهب لأهل الحديث النور في وجوههم.
قال بعض العلماء: (نضر الله) أي: في الآخرة، فيحشرون يوم القيامة ووجوههم مشرقة من نور السنة جعلنا الله وإياكم من أهلها.
وقال بعض العلماء: الحديث عام -وهو الصحيح- (فنضر الله) أي: في الدنيا والآخرة، ولذلك قل أن تجد عالماً عاملاً بالسنة إلا وجدت وجهه كالشمس والقمر بنور السنة، ولذلك عرف أهل السنة بهذا النور في وجوههم: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29] من أثر التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم والاقتداء به، ولذلك يحرص الإنسان على هذين النورين أن يصحبهما.
نسأل الله العظيم أن يرزقنا حبهما، والعمل بهما، والائتساء بهما، حتى يكون القرآن شفيعاً لنا في موقفنا بين يدي ربنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تعالى أعلم.(5/19)
المواطن الفاضلة للدعاء في الحج
السؤال
ما هي الأوقات الفاضلة للدعاء في الحج؟ وهل من جدول مقترح لمن أراد حجاً مبروراً؟ أولاً: احرص بارك الله فيك على أمر هو قاعدة كل خير، وأساس كل بر في العبادات، وهو: التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فما من موقف وقف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرص فيه على الدعاء إلا كنت كذلك حريصاً على الدعاء، وتجتهد -رحمك الله- في التأسي به صلوات الله وسلامه عليه: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] كتب الله الرحمة والهداية والخير والبر لمن سار على نهجه والتزم بسنته صلوات الله وسلامه عليه.
لا تستحدث من عندك أوقاتاً ولا مناسبات، ولا تستحسن شيئاً على شيء، إنما تكون خطواتك وآثارك وسيرتك وسريرتك على وفق السنة.
قال بعض السلف: إن استطعت ألا تحك رأسك إلا بأثر فافعل.
وإن استطعت ألا تفعل أي شيء إلا بسنة فافعله، وكانوا إذا أرادوا أن يثنوا على الرجل قالوا: هو صاحب سنة.
فإذا أردت مواطن الدعاء فاجتهد في التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم.
دعا عليه الصلاة والسلام وهو يطوف بالبيت، ودعا لما رقى على الصفا، وهذه السنة يضيعها كثير إلا من رحم الله، لما رقى على الصفا كبر الله وهلله ووحده سبحانه وتعالى.
الله أكبر! في هذا المقام الذي وقف عليه -عليه الصلاة والسلام- في أول دعوته الجهرية، قال لهم: (قولوا لا إله إلا الله) فقال له أبو لهب: تباً لك ألهذا جمعتنا؟! عمه وقريبه وأمام الناس يسفهه ويهينه صلوات الله وسلامه عليه وهو الكريم، وإذا به في حجة الوداع يرده الله إلى نفس المكان ويوقفه صلوات الله وسلامه عليه ومعه مائة ألف من أمته وأصحابه صلوات الله وسلامه عليه، كلهم يفديه بنفسه وروحه خلفاً من الله وعوضاً.
فلما رقى قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله نصر عبده، وأعز جنده، وصدق وعده) فهلله سبحانه وتعالى ثم شرع يدعو، ثم رد ثانية فهلل وكبر ثم دعا، ثم هلل وكبر.
(ثلاث مرات).
هذه السنة يضيعها الكثير كنا إذا حججنا مع بعض مشايخنا رحمة الله عليهم لربما في العمرة يمكث الساعتين إلى ثلاث ساعات، أما الآن فتجد المعتمر يقف في هذا الموقف قد تكون لحظات يسيرة، قد تبلغ الدقائق بل ثواني يريد أن يعجل حتى ينتهي من عمرته، هذا الموطن موطن دعاء، وموطن مكروبة مفجوعة منكوبة فرج الله كربتها ونكبتها، فهذا موطن دعاء فاجتهدوا فيه.
وإذا كان يوم عرفة ثبت في الحديث عنه عليه الصلاة والسلام أنه ذهب إلى الموقف، فإذا صليت مع الإمام فليس بوقت نوم ولا راحة، فاجتهد بذكر الله وتوحيده والثناء عليه، ثم اجتهد في الدعاء والمسألة والإلحاح على الله عز وجل، وكلما دعوته استلذ بالكلمات التي تخرج منك، ادعه بقلب حاضر.
كذلك في المشعر الحرام وقف صلى الله عليه وسلم ودعا وتضرع حتى أسفر، ثم دفع قبل الإسفار؛ مخالفة للمشركين كما ثبت في الحديث الصحيح، ثم لما كان اليوم الثاني -وهو اليوم الحادي عشر- رمى الجمرة الصغرى، ثم أخذ ذات اليسار ورفع يديه ودعا دعاءً طويلاً، ثم مضى إلى الجمرة الوسطى ورماها، ثم أخذ ذات اليسار، ثم دعا دعاءً طويلاً، ثم مضى ورمى جمرة العقبة ولم يقف عندها، فما ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه دعا عند جمرة العقبة، لا في يوم العيد ولا في أيام التشريق.
فهذه المواطن هي أفضل المواطن، يقول العلماء: من تحرى السنة في أي طاعة وذكر كان له أجران: أجر الدعاء، وأجر التأسي.
فأنت إذا وقفت هذه المواقف تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتفعل كما فعل؛ تثاب بثوابين: الثواب الأول: ثواب العمل.
والثاني: ثواب الاقتداء واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يجعل عبادتك أفضل وأكمل؛ ولذلك بعض العلماء يرون -وهو مذهب الجمهور- أن المضاعفة تختص بالحرم، وإن كان الأقوى أن المضاعفة تشمل الحرم كله لأحاديث منها حديث الحديبية، وتسمية الله لمكة كلها بالمسجد الحرام.
الشاهد: أنه على القول الذي يقول إن مضاعفة مائة ألف صلاة تختص بالمسجد نفسه يقولون: في يوم الثامن -الذي هو يوم التروية- صلاة الحاج في منى الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر أفضل من صلاته بمكة؛ لأنه إذا صلاها بمنى نال فضل التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم، فهي فضيلة الاتباع، وحينئذ يكون التأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم فيه الأجران، ولذلك قال العلماء: ما ورد من القربة اتباعاً أفضل مما لا يكون فيه اتباع كأن يكون مندرجاً تحت أصل عام، إلا إذا بلغ حد البدعة.
فالمقصود: أن تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم، وتجتهد في السؤال والمسألة والإلحاح على الله، خاصة في المواطن التي ألح فيها صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لم يختر هذا الموقف للإلحاح إلا وهو يعلم أنه موطن إلحاح، ولذلك كان أعلم الناس بربه، وكذلك أتقاهم وأخشاهم لربه صلوات الله وسلامه عليه.
والله تعالى أعلم.(5/20)
حج الفرض لا يشترط فيه إذن الوالدين
السؤال
هل يحق للوالدين أن يمنعا ابنهما من الحج لخوفهما عليه، خاصة وأنه سوف يحج مع رفقة صالحة، وليس لديه عائق إلا موافقة والديه؟
الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل: إما أن يكون الحج واجباً وفرضاً لازماً فلا طاعة للوالدين، تطيع الله جل جلاله، ونص العلماء -رحمهم الله- على أن الحج المفروض لا يشترط فيه إذن الوالدين.
أما إذا كان الحج نافلة فإنك لا تخرج إلا بإذن والديك، فإن منعك الوالدان -خاصة إذا كان لهما مبرر، أو يخافان عليك، وكان لخوفهما مبرر: كضعف جسد الإنسان، أو كون الإنسان لا يحسن التصرف في السفر- فهذا من حق الوالدين، وبرك وجلوسك عند والديك تصيب به الأجران.
قال العلماء: إذا منع الوالدان فقد بر والبر فرض، ولو خرج ترك الفرض لسنة ونافلة.
فيجلس مع والديه ويكتب الله أجر الحج كاملاً بالنية، قال صلى الله عليه وسلم: (إن بالمدينة رجالاً ما سلكتم شعباً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، إلا شركوكم الأجر.
قالوا: يا رسول الله! كيف وهم في المدينة؟ قال: حبسهم العذر).
قال العلماء: العذر عذران: عذر حسي يكون في الإنسان من مرض ونحو ذلك مما سن الله عز وجل.
وعذر حكمي: وهو العذر الشرعي، أن يمنعك عذر شرعي، فإذا امتنعت لبر الوالدين فهذا عذر شرعي، يكتب لك الأجر، وتبلغ بالنية ما لم تبلغه بعملك والله تعالى أعلم.(5/21)
حث الحجاج بالدعاء للمسلمين في البلاد المضطهدة
السؤال
أحوال المسلمين في كل مكان لا يعلمها إلا الله، فيا حبذا لو حثثتم المسلمين عموماً والحجاج خصوصاً على الدعاء لهم، فعسى أن تخرج دعوة صادقة ينفس الله بها الكربات، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن الدعوة سهم من سهام المؤمنين، الدعوة إذا استجيبت لا ترد، والدعوة إذا استجابها الله فإنها ماضية نافذة؛ ولكن من الذي يوفق للدعوة المستجابة، ومن حق المسلم على المسلم أن يتألم بآلامه، وأن يحزن لأحزانه وأشجانه، فكلما سمع بأخيه المسلم كربة أو نكبة تألم لها وكأنها به.
كان بعض العلماء إذا سمع بضر بالمسلمين تألم وسقم جسده حتى يعاد في بيته؛ وهذا من كمال الإيمان الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المسلمين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد) فيتألم المسلم لضعفاء المسلمين ولنسائهم وأطفالهم، وشبابهم وشيبهم، وصغارهم وكبارهم، وكأن البلايا نزلت به، فإذا بلغ هذه المرتبة فليحمد الله جل جلاله أن رزقه الإيمان والشعور، فيقدم لإخوانه المسلمين، وأقل ما يقدمه -وليس بقليل-: أن يدعو لهم بظهر الغيب.
سل الله أن يفرج كرباتهم، سله في مواطن الإجابة ومواطن الدعاء، وأنت ساجد بين يديه، وفي الأسحار، وبين الأذان والإقامة.
ونحو ذلك من المواضع المستجابة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يفرج هم المهمومين، وأن ينفس كرب المكروبين، وأن يفك الضيق عن المأسورين، إنه ولي ذلك والقادر عليه والله تعالى أعلم.(5/22)
حكم التكاسل عن الحج مع الاستطاعته
السؤال
بعض الإخوة لم يحج حجة الإسلام، وهم مترددون في ذلك مع استطاعتهم، فما توجيهكم لهم جزاكم الله خيراً؟
الجواب
من ملك الزاد وجب عليه الحج إلى بيت الله سبحانه وتعالى، ومن لم يقم بفريضة الله فقد عصى الله جل جلاله، فإن كانت الأموال هي التي تمنعه فإن الله قد يمحق بركة ماله، وإن كانت الأبناء والبنات والزوجات فإن الله يشقيه ببناته وأبنائه وزوجاته.
لا خير في الدنيا إذا صرفت عن الله سبحانه وتعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} [ص:32 - 33] وكانت عزيزةً عليه -عليه الصلاة والسلام- فالدنيا إذا ألهت عن ذكر الله أشقت صاحبها نسأل الله السلامة والعافية! فإذا كان الإنسان يتخلف عن الحج بدون عذر فليعلم أن الله فتن قلبه، وأن الله كره انبعاثه فثبطه: {وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:46].
لا يقصر في أوامر الله إلا من كان محروماً من كمال الإيمان، فالإيمان هو الذي يبعثك على طاعة أمر الله، والاستجابة لما يحييك إذا دعاك الله، والإيمان هو الذي يكفك ويحجزك ويخوفك من حدود الله جل جلاله، فإذا كان الله قد أمر عبده بالأمر فامتنع وقصر وهو يرفل في نعمة الله سبحانه وتعالى فليبك على نفسه، فإنه ذنب ومعصية وسيئة وخطيئة، وسيسيئه الله بهذا الذنب إما في الدنيا وإما في الآخرة، وإما أن يجمع له بين إساءة الدنيا والآخرة.
من تخلف عن الحج فقد عصى الله جل جلاله، وسيرى عاقبة هذه المعصية.
كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يعرفون التقصير في الطاعات والواجبات حتى في خلق الدابة والزوجة.
من عصى الله جل جلاله فترك أمره، واقترف نهيه وزجره؛ فإن الله يعذبه بما فعل.
قال العلماء: سميت السيئة سيئة لأنها تسيء بصاحبها إما في الدنيا وإما في الآخرة، وإما أن يجمع الله له بين إساءة الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية! فمثل هذا وإن ارتاح قليلاً فسيتعب كثيراً، وإن لم يتداركه الله بتوبة نصوح، والندم عما سلف وكان، ويستغفر الله مما بدر منه، ويبادر إلى حج بيت الله الحرام، ويحمد الله جل جلاله أن يسر له السبيل، فليؤذن نفسه بعقوبة من الله سبحانه وتعالى: إما عاجلة، وإما آجلة، وإما عاجلة وآجلة.
نسأل الله العظيم ألا يبتلينا بمثل هذا، إنه ولي ذلك والقادر عليه والله تعالى أعلم.(5/23)
رسالة من طالب علم
إن طالب العلم إذا أحب أن يرتقي بعلمه، فيصبح من أهل العلم الأمناء على دين الله وشرعه، المجانبين لأهوائهم، المتبعين لكتاب الله وسنة رسوله؛ فعليه أن يلازم أهل العلم، ويأخذ علمه وسمته من المشايخ قولاً وعملاً، وهنا ثمة وصايا يحتاجها طلاب العلم في حياتهم، ليتأدبوا بآداب العلماء، وليتخلقوا بالكتاب والسنة.(6/1)
وصايا لطلاب العلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه واستن بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد: فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الحج مبروراً، والسعي مشكوراً، والذنب مغفوراً.
اللهم اجعلنا مرحومين لا محرومين! واجعلنا فائزين غانمين! برحمتك يا أرحم الراحمين! في بداية هذا الدرس الأول من النصف الثاني من العام الدراسي، سيكون حديثنا عن بعض الأمور التي يحتاجها طالب العلم؛ حتى يستطيع أن يقوم برسالته؛ ويؤدي أمانته على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
ولاشك أن النفوس محتاجة دائمة إلى التذكير بالله عز وجل، وأي نفس مؤمنة صحبها التذكير بالله أنست بربها، واستقامت على سبيل خالقها؛ لأن الله تعالى شهد لها بالانتفاع بالذكرى فقال سبحانه وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55].(6/2)
وجوب التمسك بالكتاب والسنة
وآخر ما نختم به هذا المجلس: وصية بالتمسك بالكتاب والسنة، وعدم الالتفات إلى الفتن والمحن، والاستعصام بحبل الله عز وجل، فإن الله عز وجل وصى عباده بالرجوع إلى دينه، والاستمساك بحبله، والاستعصام به، وقرن النجاة في ذلك، فقال لنبيه عليه الصلاة والسلام -والأمر له ولأمته-: {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} [الزخرف:43] فمن أراد النجاة من الفتن الظاهرة والباطنة فليستمسك بكتاب الله عز وجل، وليعلم أن الله جعل القرآن نوراً وشفاءً وهدى ورحمة لمن استهدى به.
والاستعصام بكتاب الله والسنة يعني الرجوع إليهما في الصغير والكبير والجليل والحقير، وتطبيق ما قال الله وقال رسوله؛ حتى يكون الإنسان المسلم مستسلماً لله ومنقاداً لشرعه كما أمر الله عز وجل، وأي حكم من أحكام الله عز وجل في كتابه وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم يبلغك تطبقه بكل تسليم وإذعان، كما قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65].
ولا يمكن للإنسان أن يحكم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم إلا بمحبة العلماء، والرجوع إلى العلماء الربانيين الموثوق بدينهم وعلمهم، وسؤالهم، والعمل بما يقولون، وأن يحرص طالب العلم عند سؤال العلماء على الأدب، ورعاية الحرمة، وعدم التشويش والتضييق عليهم؛ فإن أذية العلماء عواقبها وخيمة، وكم من مصاحب للعلماء رفع الله قدره بصحبتهم! وكم من صاحب لعالم جعله الله في سفال في صحبته من الأذية له والتضييق عليه، وعدم الإحسان في السؤال، وعدم التهذب في الألفاظ، وعدم رعاية الحرمة.
ولذلك ينبغي لطالب العلم أن يوطن نفسه بالرجوع إلى الكتاب والسنة، وإذا كان العالم يرى من سائله ما يعينه على أداء الحق وبيان الحق بين له.
إن المعلم والطبيب كلاهما لا ينصحان إذا هما لم يكرما فاقنع بدائك إن جفوت طبيبها واقنع بجهلك إن جفوت معلما فعلى الإنسان أن يحرص على الرجوع إلى الكتاب والسنة، ففيهما نجاة من الفتن والمحن، حتى إن طالب العلم الموفق السعيد قد جعل القرآن أمام عينيه في جميع أموره، ولذلك الفتن لا تجد سبيلاً لما قد يقال بالعلم، الموفق المسدد يخرج من بيته فيرى فتنة من الفتن أمام عينيه يتذكر أن الله يقول له: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] فيغض بصره.
يجلس في مجلس فيسمع أحداً يغتاب مسلماً يقول له: لا تغتب.
فإن امتنع قام من المجلس؛ لأنه يعلم أن الله نهاه أن يغتاب مسلماً، ونهاه أن يجلس في مجلس فيه ظلم للمسلمين، وخوض في آيات الله، وانتهاك لحرمة أولياء الله.
هكذا إذا حرص الإنسان على تطبيق الإسلام -كما ينبغي- في نفسه وأخلاقه وشئونه وفقه الله وسدده، وجماع الخير كله في تقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله وقاه وجعل له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى، ونسألك أن تبلغنا مقام الرضا، اللهم اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تقدمنا إلى شر ولا تؤخرنا إلى شر، اللهم احفظنا بحفظك واكلأنا برعايتك وعنايتك، سدد أقوالنا وصوب آراءنا يا حي يا قيوم! وارحم ضعفنا، واجبر كسرنا، وكمل نقصنا، والطف بنا، يا حي يا قيوم! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(6/3)
الإخلاص أساس الدين وطريق الخلاص
خير ما يوصى به طالب العلم بل ويوصى به الناس جميعاً، وينبغي أن يكون في نفس كل مؤمن في كل لحظة أن يكون مخلصاً لله عز وجل؛ لأن الإخلاص هو أساس الدين، وطريق الخلاص، وطريق النجاة في الدنيا والآخرة.
فمن عرف الله وعمل لله نال ولاية الله جل جلاله، ومن كان لله قلباً وقالباً بارك الله قوله وعمله؛ وشكر سعيه؛ وجعل له حسن العاقبة التي لا تكون إلا لأهل التقوى كما قال سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال سبحانه: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:132].
فحري بطالب العلم دائماً أن يسأل نفسه ويحاسبها عن حق الله في قوله وعمله، وظاهره وباطنه، وسريرته وسيرته، فإذا جد واجتهد في تكميل نقصه بالإخلاص، وجبر كسره بإذن الله عز وجل في ذلك نال سبيل الخلاص.
إنه الإخلاص الذي لا يمكن أن يقبل القول أو العمل إلا بتحقيقه، والقيام بحقوقه: أن يراد به وجه الله ولا يبتغى شيء سواه سبحانه وتعالى.(6/4)
الجد والاجتهاد في طلب العلم
حري بطالب العلم أن يجد ويجتهد، ولا يسأم ولا يمل من حمل هذه الرسالة، وضبط هذه الأمانة، والعناية بالعلم حفظاً ومراجعة ومذاكرة؛ كل ذلك لكي يعظم أجره، ويثقل ميزانه، فأعظم الناس أجراً في طلب العلم أعظمهم تعباً، وأكثرهم مشقة ونصباً، وقرن الله العلم بالتعب، وجعل أهله أهل جد واجتهاد، فما نظر طالب علم في سيرة العلماء والأئمة الفضلاء إلا وجدهم قد اكتحلوا السهر، وجدوا واجتهدوا في طلب هذا العلم حتى نالوا بفضل الله وحده ما نالوه من الخير والبركة.
إن الجد والاجتهاد في العلم يعني المسئولية، والشعور بالمسئولية يعني إكرام العلم، والمحبة الصادقة له، لا يجد ولا يجتهد في مراجعة العلم وضبطه وإتقانه إلا الأمين، الذي يستشعر أنه مؤتمن -من أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على قول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم.
فالعلم لا ينال بالتشهي ولا بالتمني، ولا بالدعاوى العريضة، ولا بالألقاب الفارغة، إنما هو منحة لها أسباب بفضل الله لا بفضل أحد سواه، الجد والاجتهاد لا يمكن أن يكون إلا من إنسان استشعر المسئولية والأمانة، واستشعر أن العلم ثقيل كما قال تعالى: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:5].(6/5)
الأسباب المعينة لطالب العلم على ضبط العلم وإتقانه
ولذلك يجب على كل طالب علم أن يبحث عن الأسباب التي تقوي روحه ونفسه على ضبط العلم وإتقانه.
ومن أعظم هذه الأسباب: أن يستشعر أن كل آية وحديث وحكم شرعي يسمعه في مجلس عالم أو في فتوى أو يقرؤه في كتاب إنما هو أمانة في عنقه، وأن العالم إذا بين العلم فقد وضع الأمانة في رقاب طلابه، ومن حضر واستمع فقد حمل الأمانة.
قال صلى الله عليه وسلم -يشير إلى هذا المعنى-: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أمناء على دين الله وشرعه، وأنهم مطالبون بتبليغ الرسالة، وجعل اجتماعهم وشهودهم أمانة عليهم، وعليهم مسئولية عليهم أن يبلغوا، وهذا لا شك أنه يحفز نفس طالب العلم إلى ضبط العلم وإتقانه.
وعلى كل طالب علم أن يهيئ الأسباب، وينظم وقته ويرتبه للمذاكرة وللجد والتحصيل، ويبحث عن طالب علم يثق في دينه وأمانته وجده واجتهاده، فيذاكر ويراجع معه، وإذا لم يجد فإن الله نعم المولى ونعم النصير، فيكون له من ربه معين وظهير؛ لكي يضبط هذا العلم ويقوم بحقه وحقوقه.(6/6)
ضرورة التعرف على العوائق والشواغل المثبطة عن طلب العلم واجتنابها
إذا أخلص طالب العلم لله وجد واجتهد في ضبط هذا العلم وإتقانه، عليه أن يعلم أن هناك عوائق تحول بينه وبين هذه الغاية، وبين الوصول إلى هذه المراتب العالية في ضبط العلم وإتقانه.
وهذه العوائق والشواغل تثبط العباد عن طاعة الله عز وجل، وهي من امتحان الله لخلقه؛ لأنه ما من عمل صالح إلا وقد جعل الله بين العبد وبينه ابتلاءات، وبقدر هذه الابتلاءات ترتفع الرتب وتعلو الدرجات، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره).
ومن أعظم ما يجابه المسلم وطالب العلم في طلبه للعلم عدم تقدير العلم والعلماء، الذي يكون من النفس الأمارة، تكون من إنسان لا يعرف حق العلم ولا قدره ولا قدر العلماء، فتارة يستهزئ بالعلم الذي يتعلمه، وقد يشكك في الحق الذي تتعلمه، وتارة يستهزئ في جلوسك في مجالس العلم والعلماء.
ولذلك تجد بعض العوام والجهلة يستخف بطلاب العلم وأين يذهب؟! وأين يجلس؟! ويقول له: إنه يضيع عمره؛ لأنه لم يجده في تجارة ولا بيع ولا شراء، لا يريده إلا في حطام الدنيا! فيستخف به، وربما وجد من الناس من يقول له: لماذا تضيع وقتك مع العلماء، وهؤلاء العلماء فيهم وفيهم؟! فينتقص العلماء ويتكلم فيهم.
وإن أعظم ثلمة في الدين -بعد ضياع حق الله عز وجل- إضاعة حق الرسل وحق ورثتهم من العلماء، فالتشكيك في العلماء، والطعن في مكانتهم وأمانتهم، وتتبع عثراتهم وزلاتهم، ونزع ثقتهم من قلوب الناس أمر لا خير فيه، بل هو شر، وبلاء لا عافية، وما عاشت هذه الأمة إلا على حب علمائها، وحسن الظن بصلحائها، واحترامهم وتقديرهم وحملهم على أحسن المحامل، فإذا نزعت هذه الثقة من قلوب الناس، من الذي يعلم الناس دينهم؟! ومن الذي يدلهم على ربهم؟! ومن الذي يرشدهم على خالقهم؟! وهب أن عند العلماء أخطاء، فهل معنى ذلك أن تتبع عوراتهم، وأن تكشف سوآتهم والعياذ بالله؟! فعلى طالب العلم أن يوطن نفسه بمحبة أولياء الله، وليعلم أن أهل العلم بشر يخطئون ويصيبون؛ ولكن لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، ولا يمكن أن يسوى من وضع الله في قلبه أنوار التنزيل بمن كان جاهلاً بدين الله عز وجل، ولا يفقه شرعه، ولا يعرف حكمه؛ فإن الله تعالى يقول في كتابه: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
فإذا وجدت من ينتقص العلماء ويثبطك عن طلب العلم في هذا الزمان فاحذر! إنها الفتن التي أصبح الإنسان فيها غريباً في كل شيء فيه طاعة الله ومرضاته، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ) فمن غربة الإسلام أن يصبح العلماء غرباء لا يسلمون من العامة، ولا من الخاصة، إن تكلموا وبينوا ثلبوا، وإن سكتوا رعاية لمصالح نظروا إليها باجتهادهم ثلبوا، فهم لا يسلمون لا من هؤلاء ولا من هؤلاء: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
عليك أن تحذر من هذه الآفة التي أصبح الناس يخبطون فيها خبط عشواء، وقل أن تجد إنساناً يتقي الله يكف لسانه عن ذلك، فضلاً عمن يدافع عن أهل العلم ويحسن الظن بهم.
فإذا وجد طالب العلم مثل هذا التخذيل فلا يلتفت إليه، ولو أن الأمة -في أزمنة الفتن والمحن- التفتت إلى هذه الفتن، وشغلت علماءها بها، وأصبحت تشكك في علمائها؛ لما انتقل الدين إلينا.
حاصر الحجاج بن يوسف مكة ورمى الكعبة بالحجارة، وكان العلماء في مساجدهم يعللون ويبينون، ومنهم من آثر ما آثر من رعاية المصالح ودرء المفاسد مما يراه قربة لربه، وسيلقى الله باجتهاده، وفيهم من الصحابة رضوان الله عليهم أئمة العلم والفتوى وغيرهم، وهذا عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه، الذين أمرنا باتباع سنته، المحدث الملهم- كان يمنع الفقهاء من الصحابة أن يخرجوا إلى الجهاد والأمة بحاجة إليهم، وكانت الأمة أحوج ما تكون إلى خروجهم إلى ثغور الشام للفتوحات.
كان يحرم على الصحابة الذين كانوا على علم بالسنة أن يخرجوا من المدينة؛ لعظيم حق العلم وشدة الحاجة إليه، فلا يمكن للأمة أن تستغني عن علمائها، ولا يمكن للأمة أن تصيب الحق إذا نزعت الثقة من علمائها، علينا أن ندرك ذلك، وأن نعلم أنه لا خير في طعن بعضنا في بعض، وتشكيك بعضنا في أمانة ونزاهة بعض.
علينا أن نجد ونجتهد في محبة هذا العلم، والتضحية من أجله، والصدق في رغبته؛ لعل الله سبحانه وتعالى أن يرى منا ما يرضيه.(6/7)
ابتاع العلم بالعبادة والقول بالعمل
كذلك أيضاً مما ينبغي لطالب العلم: أن يشوب علمه بالعبادة، والقول بالعمل، وأن يحرص على أن تكون بينه وبين الله عبادات من الحرص على ذكر الله عز وجل، وحسن عبادته، ومن ذلك كثرة تلاوة القرآن، فما عرف لأهل العلم شيء أعظم بركة ولا خيراً من كتاب الله عز وجل.
فطالب العلم ينبغي عليه أن يكون له حظ من كتاب الله وافر، فيكثر من تلاوة القرآن وتدبره، والخشوع عند سماعه وتلاوته، فإن الله يبارك له في علمه، وإذا استطاع طالب العلم ألا يمر عليه أسبوع أو لا تمر عليه ثلاث ليالٍ إلا وقد ختم القرآن فذلك خير كثير.
كم من الأوقات يجد الإنسان نفسه فيها في سراب! كم من الأوقات يجد الإنسان فيها نفسه صامتاً! وكم من الأوقات يجد الإنسان نفسه فيها متحدثاً بما لا خير فيه من فضول أحاديث الدنيا! فليشغل وقته بذكر الله، وأطيب الذكر وأفضله كتاب الله عز وجل؛ لأن الله يحفظ به دينه؛ ويسدد به قوله؛ ويصوب به عمله.
القرآن نعم المؤنس في الوحشة! ونعم المعلم من الجهالة! ونعم الهادي من الضلالة! فهو نور من الله ورحمة، فمن استبصر بالقرآن سلمت بصيرته، ومن اهتدى بالقرآن تمت هدايته.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن، واجعله ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا يا حي يا قيوم! وأسعد الناس نجاة من الفتن من أكثر من تلاوة القرآن، وبالأخص أن يكون له حظ من قيام الليل، وليسأل كل طالب علم كم للقرآن من حظ في ليله؟! وكم يعطي القرآن في قيامه بالليل ومن ساعات ليله؟! فإذا وجد خيراً حمد الله عز وجل، وسأل الله الثبات، وإذا وجد التقصير كمل نقصه وجبر كسره.
يا طالب العلم: لابد لك من قيام الليل؛ فإنه روحك ومدد من الله لك؛ وفيه خير لك في الثبات إذا عظمت الفتن وكثرت المحن؛ لأن الله يحفظ عبده بدعائه وسؤاله وعبادته، فمن تهجد بالليل حفظ الله له دينه في النهار وعصمه، ولذلك قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6].
وكان العلماء والأئمة يوصون طلاب العلم بالمحافظة على قيام الليل، فليسأل كل طالب علم نفسه كم يقوم من الليل؟! وفي كم يختم كتاب الله عز وجل؟! عيب على طالب العلم ألا يكون قواماً لليل! وعيب على طالب العلم ألا يكون ذكاراً لله! وألا يكون صواماً للإثنين والخميس وثلاثة أيام من كل شهر! وألا تكون عنده عبادات بينه وبين الله فكيف يذكر الناس غداً؟! ولذلك تجد بعض من يتصدر للوعظ وتذكير الناس في إمامته وخطبته أو في بعض مجالسه -وليست عنده عباده- تجده يقول قولاً لا يجد طعمه في قلبه، وكثيراً ما يشتكي البعض، يقول: أنا أذكر الناس وأجد الغفلة! نعم، لم يذكر الناس أحد بلسانه! ولن تنفع الذكرى إذا كانت باللسان دون الجوارح والأركان! فكيف يُخشع الإنسان القلوب ويذكر بالله علام الغيوب وهو أغفل الناس عن ربه؟! وكيف يكون هادياً مهدياً واعظاً مؤثراً إذا كان لا يقوم الليل، ولا يصوم النهار، ولا يتلو القرآن إلا هجراً أو بعد مدة طويلة؟! كيف يكون لأقواله ومواعظه أثر في النفوس؟! نسأل الله السلامة والعافية! ولذلك استضاف الإمام أحمد بعض طلابه، فوضع عنده الماء بعد صلاة العشاء ثم نام الإمام أحمد، فلما كان الفجر وجد الماء لم يتغير، فعلم أن هذا الطالب لم يقم الليل، فصار يتعجب الإمام أحمد ويقول: طالب علم لا يقوم الليل! فمن يريد أن يطلب العلم عليه أن يعلم ما هي حقوق طلب العلم؟! وأين مكان طالب العلم في العبادة وفي النزاهة وفي التحفظ وفي الصيانة؟! إن الجلوس في مجالس العلماء له حق، والتأدب بصحبة العلماء له حق، فأنت غداً الأمل فيك -بعد الله عز وجل- أن تكون للأمة في قولك وعملك، فمن اختار الخير في بداية طلبه للعلم، واختار الذكر والطاعة والاستقامة، وأصبح له لسان ذاكر، وقلب شاكر، وإنابة صادقة لله عز وجل، وخشية لله سبحانه وتعالى، ووطن نفسه على محاسن الأمور من العبادات الصالحة والكلمات الطيبة، واستقام لربه كما ينبغي أن تكون الاستقامة، فإنه بإذن الله سيبارك له في علمه ودعوته غداً.
إن الله مطلع على القلوب والقوالب، ومطلع على السرائر والضمائر، والله لا يخادع، ولن ينال الله من عباده القول والعمل فالله غني عن خلقه، قال تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
فعلى طالب العلم أن يوطن نفسه بأن يكون كما ينبغي أن يكون عليه من طلب العلم، تجد من ينتسب إلى العلم من طلاب العلم يقول: أنا في قسوة! أنا في غفلة! أجد ضيقاً! أجد هماً! حتى أصبح بعض طلاب العلم مثل العوام يشتكي مما يشتكي منه العوام! نعم لأن أحوالنا كأحوال العوام وقد تكون أردأ، وقد تجد في العامة من ذكر الله والخوف منه مالا تجده في بعض طلاب العلم.
فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وأن نوطن أنفسنا لطلب العلم، وعلى طاعة الله عز وجل.
قال الإمام إبراهيم النخعي -يحكي حال السلف في طلبهم للعلم-: كان الرجل إذا طلب العلم ظهر في وجهه وسمته ودله.
مجرد ما كان يجلس الشخص في مجالس العلماء تجد في وجهه نور العبادة، ومن الخشوع والسكينة والوقار مثل ما تجده في العلماء؛ لأن أشبه الناس بالعلماء هم طلاب العلم.
إنها وصية لكم ولأنفسنا المراد بها المعونة على طاعة الله عز وجل.(6/8)
الأسئلة(6/9)
لزوم طلب العلم على أيدي المشايخ لا الأشرطة والكتب
السؤال
أنا في بداية طلب العلم، وأحفظ شيئاً من كتاب الله تعالى وبعض المتون، وأسمع شرحها من الأشرطة فهل هذه الطريقة صحيحة؟ علماً أن الدروس لا يوجد مشايخ يشرحونها حالياً أثابكم الله.
الجواب
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: العلم سنة متبعة تؤخذ من أفواه الرجال، ولابد لطالب العلم من شيخ يتتلمذ عليه، ويحصل العلم على يديه، ويأخذ من منهجه الفعلي كما يأخذ من منهجه القولي، لابد من هذا، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء -بعد إذ وعوه- ولكن يقبضه بموت العلماء).
قال الإمام الحافظ وغيره: إن في هذا دليلاً على أن العلم لا يؤخذ من الكتب، وإذا لم يؤخذ من الكتب لا يؤخذ من الأشرطة؛ بمعنى أن طالب العلم لا ينحصر فيها، وينبغي لطالب العلم أن يجلس في مجالس العلماء إذا لم يوجد عالم في قريتك ومدينتك تنظر إلى العطلة وإلى أوقات الفراغ، فتسافر إلى منطقة فيها علماء، تقرأ عليهم متوناً أو كتباً تستطيع أن تحصل بها العلم وتستطيع أن ترجع بها إلى أهلك، ولو على فترات، تسافر إلى الشيخ تقرأ عليه كتاب الطهارة، كتاب الصوم، كتاب الحج، كتب العبادات، كتب المعاملات، لابد من هذا، لابد من وجود العالم، ولا يصح العلم بسماع الأشرطة فقط مجردة عن حضور العلماء.
ولذلك كثير من الآفات وجدناها: طلاب العلم الذين يتخرجون عن طريق الأشرطة يخطئون أخطاءً بشعة؛ والسبب في هذا عدم جلوسهم على أيدي علماء، وعدم تربيتهم، وعدم تلقيهم للعلم كما ينبغي ظاهراً وباطناً بالجلوس على أيدي العلماء ومعرفة منهج العلماء وكيفية فتواهم وتعليلهم، ونحو ذلك مما يستفاد من مخالطة أهل العلم، ولا أشك أنه إذا سمع الشريط ونزلت عليه -مثلاً- مشكلة أو نازلة لا يستطيع أن يسأل سؤالاً مباشراً، ولا يستطيع أن يجد جواباً لهذا الإشكال.
لكن لو أن الإنسان يحضر دروساً، ثم إذا غاب الشيخ وسمع الشريط لا بأس؛ لأنه قد استفاد من طول مجالسته للعلماء، والغالب أنه يباشر السماع للعالم، والغياب هذا في فترات لا يقدح، ومن هنا كان الصحابة إذا غاب أحدهم سمع من أخيه، فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يستنيب رجلاً حينما كان يذهب إلى مزرعته بالعوالي، وهذه طريقة من طرق السلف؛ لكنه استناب رجلاً يسمع ويعلم، وحينئذ يكون التلقي كالتلقي المباشر؛ لأن الفرع تابع لأصله.
وعلى كل حال: ينبغي الحرص على أخذ العلم مشافهة من العلماء ما أمكن.
والله تعالى أعلم.(6/10)
من علامات الساعة اتخاذ الناس الجهال أمناء على الدين
السؤال
لقد انتشر في هذا الزمان بعض ممن ينتسب للعلم وأهله، ويتحدث بغير علم ويفتي في دين الله بلا دراية، فهل من توجيه لهؤلاء أثابكم الله؟
الجواب
الشكوى إلى الله عز وجل.
العلم دين! ولا يؤخذ الدين إلا من أهله، وعلى الناس أن يتقوا الله عز وجل في هذا الدين، فلا يأخذوه إلا من العلماء الأمناء، وكون كل إنسان يتكلم ويفتي هذا من أمارات الساعة، ومن علاماتها: كثرة الجهل، وقلة العلم، وقبض العلماء؛ لأنه لو كان العلماء موجودين وكثيرين لخرست أفواه الجهلاء، ولما استطاعوا أن ينطقوا؛ لأن العلم حق يقذف به على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
ولكن حينما يقبض العلماء يسترسل الناس في دين الله وشرعه، كما قال صلى الله عليه وسلم: (حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس) وانظر إلى كلمة (اتخذ الناس) ما اتخذه رب العالمين، الله تعالى يقول: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:269] (اتخذ الناس) هذه الأساليب اللغوية الجميلة البديعة! (اتخذ الناس) تجدهم يضعونه في الفضائيات، ويشهِّرون به، وهو الإمام! وهو الشيخ وهو المفتي! وهو المنظر! وهو الذي يعرف الدين وهو الذي يعرف كيف يؤصل ويقعد؛ لأنه على الهوى وعلى ما تشتهي الأنفس، وعلى ما يريدون، فهم يريدون الدين كيف شاءوا وكيفما أرادوا، لا كما أراد الله عز وجل؛ لأنهم لو كانوا يريدون الدين كما أراد الله لرفعوا مكانه العلماء الربانيين الذين يرجع إليهم ويؤخذ عنهم، وينصحون لأمة محمد صلى الله عليه وسلم في إظهارهم للناس وبيان علمهم.
(اتخذ الناس) اتخاذ الناس من أكثر ما يوجد بالمدح والثناء، وإعطاء الألقاب الكبيرة، والأوصاف المفخمة التي والله لو أعطيت لعالم جهبذ من علماء السنة والسلف وهو أهل لذلك لجثا على ركبتيه؛ خوفاً من الله عز وجل أن يقال له! ومع ذلك تجد الإنسان -والعياذ بالله- يغتر بها وينجرف وراءها، وهذا هو شأن الجهلاء.
فعلينا أن نحذر من هؤلاء الذين تقمصوا ثوب العلم والدعوة.
العلم نور والله! ولو أطبقت شموس الدنيا على أن تضيء ظلمة أظلمها الله ما استطاعوا، ولن يظلموا على الحق؛ فإن عليه ضياء، ولو أطبق أهل السماوات والأرض على قول باطل وأرادوا أن يفتوا به ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً.
ليتكلم المتكلمون! وليفتي المفتون! وليفعلوا ما شاءوا! وليقولوا ما شاءوا! فلا يبقى إلا الحق الذي أراده الله {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17] لا يبقى إلا الحق، ليسوا أول من تكلم ولا آخر من تكلم، ولا يتكلم المتكلمون، ولكن لا يبقى إلا ما أريد به وجه الله، وهذه سنة ماضية.
السلف الصالح رحمهم الله عانوا من ذلك ومنهم: ربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ الإمام مالك الذي كان يقال له: ربيعة الرأي من قوة رأيه وفتواه واجتهاده، والذي تتلمذ على يديه الإمام مالك، وقالت أم مالك لـ مالك: اذهب إليه فخذ من سمته ودله قبل أن تأخذ من علمه.
فرزق السكينة والعلم والوقار بهذا العالم الرباني بعد فضل الله عز وجل.
هذا العالم ماذا كان يقول؟ ليس بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم إلا رجلين يعني: قريب العهد في المدينة المنورة دار النبوة ودار الهجرة! وفي زمن القرون المفضلة! ومع ذلك دخل عليه مالك وهو يبكي فيقول: والله إن فلاناً يتكلم في العلم أحق أن يقطع لسانه من يد السارق.
يبكي من كثرة القول على الله بغير علم، وهذا في الزمان الأول، فكيف بزماننا نحن؟! ولذلك لا يبالي الإنسان بهذا، دين الله منصور وكلمة الله ماضية، الله عز وجل يقول: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18] الذي عند الناس سيبلى ويفنى، والذي عند الرحمن يبقى، ولا يبقى إلا ما أريد به وجه الله.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} [الأنعام:115] ستبقى كلمة الله! ويبقى دينه وشرعه، فلا يحزن الإنسان هذا؛ لأن الله يقول: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] يأتون بالفتاوى ويتتبعون بها رخص العلماء، ويخرجون الأمة من دينها بأشياء من عزائم الدين ويرخص فيها؛ فيصبح الدين سهلاً على رأيهم ونظرهم، وكأنه ليس في الدين شيء مع عزائمه والعياذ بالله، يسلقون الدين -والعياذ بالله- وينقضونه عروة عروة في الآداب والأخلاق والشيم! حتى أنك تجد العالم من يتسمى منهم بالعلم ويدعي العلم، الأمة بحاجة أن تنصح في أمور عظيمة، ومع ذلك يخرج يتكلم عن رخصة من الرخص قد يكون لا يقول بها إلا الشذاذ، ويقعد لها وينظر لماذا؟ لأنهم يتبعون الهوى، ما خرجوا غيرة لله ولا لدينه وشرعه.
فهذه الآفة الموجودة من كثرة المفتين والقائلين على الله آفة عظيمة! لكن ليس البلاء على هؤلاء أن يتكلموا، البلاء كل البلاء على من ينصت لهم ويستمع إليهم ويعمل بقولهم، فإياك إياك! أن تعطي سمعك إلا لمن تثق بدينه وأمانته.
كان أيوب بن أبي تميمة السختياني -من تلامذة ابن عمر رضي الله عنهما ورحم الله الجميع- من أصلح خلق الله، وكان ديواناً من دواوين العلم والعمل في حفظه للسنة عن ابن عمر رضي الله عنه، من خيار أصحاب ابن عمر، كان ابن عمر يقول لأصحابه: أيكم الأبيض المشرب بحمرة؟ قالوا: أيوب.
قال: أراه أصلحكم.
كان يتفرس ابن عمر أنه أصلح طلابه، وكان كذلك في الصلاح والخير والصيانة، نحسبه ولا نزكي على الله أحداً.
هذا الإمام العالم الصالح كان إذا جاءه شخص من أهل البدع القدرية وأهل الأهواء يريد أن يناظره -وهو عالم رباني متمكن- يقول له: أريدك أن تسمع مني.
فيضع أصبعيه في أذنيه.
يقول: اسمع مني، فقط اسمع مني.
يقول: ما شاء الله! حرية الرأي والمناقشة، نريد نناقش من تناقش؟ أتركك تقول على الله بدون علم، أُجرئك على أن تقول؟! قل لي من أنت؟ أين طلبت العلم؟! ما الذي تحفظ من كتاب الله؟! ما الذي تحفظ من سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟! سم لي رجالاً حتى أصغي إليك وأعرف ما عندك، أما إذا كان ما عندك علم فمثلك ما يستمع إليه؛ لأن مثلك ليس بأهل بأن يتكلم في هذا الأمر.
يخرج العالم الرباني ليتكلم في مسألة فتجد شخصاً يقول: عندي مداخلة يا شيخ! عندي إضافة يا شيخ! يا لله ياللأسف!! ذهبت حرمة العلماء والعلم، وهذا كله من غربة الدين! والناس تنظر إلى هذا، كما قال أنس: (إنكم لتفعلون أعمالاً هي أدق في عيونكم من الشعر، كنا نراها في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثال الجبال).
توقير دين الله وشرعه أمر عظيم، واحترام أهل العلم والفتوى، كان الناس إذا تكلم العالم بالفتوى لم يراجع، مؤتمن على دين الله عز وجل وشرعه محبوب! مهاب! مكرم! المرأة تأتي إلى بيت زوجها وأبيها وأخيها وابنها وتقول: سأفعل كذا وكذا يقال لها: من قال لك؟! كيف تشقين على نفسك؟! تقول: الشيخ أفتى.
يقولون: سمعنا وأطعنا.
ما أحد يتقدم ولا يتأخر؛ لأن هذا دين وشرع! ومعروف من الذي يتكلم في الدين والشرع، أما أن يفلت الزمام لكل من هب ودب، وكل يوم تدخل المرأة على زوجها بفتوى قال فلان وأفتى فلان وعلان، فعلى كل إنسان أن يعلم أن هذا الدين من تكلم فيه فهو حجة له بين يدي الله عز وجل.
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله.
أذكر في مجلس من المجالس أنني كنت أفتي فيه، وكان هناك رجل يرخص في الفتوى، فكان بعضهم يأتي ويرخص له، يقول أحد القائلين: وكان يناقش كثيراً، وهو من خيار طلبة الوالد ومن طلبة العلم، وكان يستفتي غيري ثم يناقشني، فمكثت على هذا أكثر من خمس سنوات، فذات يوم قال لي: يا شيخ! أنت تشدد علينا.
كثيراً ما يقول لي هذا وأنا أدفعه بالتي هي أحسن! فيوم من الأيام قال لي: يا شيخ! أنت تشدد علينا.
فقلت له: اتق الله! سأسألك سؤالاً، هل الذي أفتيت به فيه قال الله وقال رسوله؟ قال: اللهم نعم -نعم أنت تذكر الفتوى بالدليل-.
قلت: إذا ذكرت الفتوى بالدليل فلا يجوز لك أن تقول لي أني شددت؛ لأن هذا حكم الله عز وجل، ولا أن تقول لي: أنت تتساهل.
ما دام عندي دليل من كتاب الله وسنة رسوله.
فإذا به يقول -وهذا موضع الشاهد، أحكيها للعبرة ولا أحكيها عن غيري، واحتجت أن أقولها عن نفسي حتى يكون مثالاً-: والله يا شيخ! وأقسم بالله -وغلظ اليمين- إنك تفتينا في المسألة ويدخل علينا عشرات ممن يرخصون لنا، لكن والله لا نجد الطمأنينة إلا في قولك.
الحق عليه نور، الحق منصور بذاته: {وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الإسراء:105] الحق لا يحتاج إلى أحد ينصره، الله عز وجل هو الذي تولى نصرته.
فنسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا هذه المنهجية: وهي الرجوع إلى العلماء الأمناء، نوصي أبناءنا وبناتنا وزوجاتنا، وجميع من حولنا على ألا يسمعوا إلا ممن يوثق بدينه وعلمه هذا أول شيء.
ثانياً: إذا جاءوا بفتاوى من الغرائب وممن لا يوثق بدينه وعلمه نذكرهم بالله، ونقول لهم: هذا دين وشرع لا تصح الفتوى إلا ممن يوثق بدينه وعلمه، ومشهود له أنه من أهل للفتوى.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يجعلنا وإياكم هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(6/11)
حكم من تمتع بالعمرة إلى الحج يوم التروية
السؤال
كنت متمتعاً واعتمرت عمرة التمتع صباح اليوم الثامن ثم أحرمت للحج، فهل عملي هذا صحيح أثابكم الله؟
الجواب
إذا وقعت العمرة قبل الوقوف بعرفة فهي عمرة تمتع، والسنة: أنك تحرص على صلاة الظهر بمنى، فلو وقعت العمرة في يوم التروية فأصح الأقوال -وهو مذهب الجمهور- صحت العمرة، وهناك بعض العلماء من شدد في العمرة في يوم التروية، وبعضهم يشدد في العمرة يوم النحر، ولكن بالنسبة للعمرة على هذا الوجه فهي عمرة صحيحة؛ لأن الوصف الشرعي بكونك تمتعت بعمرتك إلى الحج واقع وحاصل بها، ولذلك يلزمك ما يلزم المتمتع وعمرتك مجزئة.
والله تعالى أعلم.(6/12)
من تعجل بالخروج من منى قبل غروب الشمس ثم عاد بعد الغروب لأخذ متاعه
السؤال
رجل أراد أن يتعجل فخاف أن تغرب عليه الشمس فرمى وخرج من منى، ثم عاد بعد الغروب لأخذ متاعه هل فعله صحيح أثابكم الله؟
الجواب
هذا لم يتعجل! التعجل: أن يخرج بمتاعه وجسده، أو الخروج التام، الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ} [البقرة:203] فالإنسان يفقه عن الله وعن رسوله، وهذا يقتضي أنه قد خرج كاملاً بمتاعه وبنفسه من حدود منى.
أما إذا خرج من حدود منى وانتظر حتى تغرب الشمس ورجع مرة ثانية فهذا لم يتعجل، ولذلك قرن الحكم بوصف لابد من تحقيقه على الصفة الواردة الشرعية، فمن خرج وليس معه متاعه غابت عليه الشمس لم يتعجل! بدليل أن أغراضه لا زالت باقية بمنى، ومن هنا نأخذ الصفة الشرعية كما وردت، وهذا من العبث والاحتيال والتلاعب على الشرع، الله يقول: (لمن اتقى) وعلى هذا لا يكون الاحتيال على الله وعلى الأحكام الشرعية، فالتعجل ينبغي أن يكون تاماً كاملاً بحيث -فعلاً- إذا رأيت صاحبه قلت: قد تعجل.
يقول بعض مشايخنا رحمة الله عليه: من خرج من حدود منى قبل غروب الشمس ومتاعه بمنى، ثم رجع مرة ثانية؛ فإنه في هذه الحالة لم يتعجل حقيقة؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل هذا الفعل -وهو فعل التعجل- يستلزم أن تغيب عليه الشمس وقد أدى أفعالاً يصدق عليها أنه استعجل فيها.
كيف يكون تعجل يعني بجسمه؟! من دقة هذا الآن يقول: لو خرج قبل غروب الشمس.
ما الذي وقع منه؟ هل وقع منه الخروج الحقيقي، وتعجل بمتاعه ونفور حقيقي؟ الواقع: لا، ما خرج إلا جسده، ومتاعه بمنى، فهل فعل ما أمره الله؟ أصلاً الذي يريد التعجل قبل أن تغرب عليه الشمس يكون قد أدى أفعالاً معينة، ورتب نفسه ووضعه وجميع أموره على أنه يريد أن يخرج، أما أن يجلس إلى غروب الشمس! أصلاً ما يقع هذا الشيء إلا من إنسان مسوف ومتساهل، تجده يجلس ويتغدى وينبسط إلى قبل غروب الشمس بنصف ساعة أو بساعة -خاصة إذا كان عند الجمرات- خرج إلى آخر حدود منى ثم رجع مرة ثانية، وما شاء الله متعجل! ولا بأس ولا حرج وانتهى الأمر! هذا ما يصح.
ولذلك الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] واللام للتخصيص، أي: هذا الحكم لمن اتقى، والذي اتقى يأخذ بالأسباب والأوصاف التي يصدق على مثله أنه اتقى الله عز وجل، أما أن يجلس ويماطل وينتظر إلى قبل غروب الشمس بشيء يسير، يقف على حدود منى ثم يخرج ثم يرجع مرة ثانية ويأخذ متاعه فهذا ليس بمتعجل! وإنما هو متحايل، وقاصد لترك المبيت، حتى إن بعض العلماء يقول لقوله تعالى: {لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203] معناه: أنه يخرج من منى وهو يحب العبادة، ولكن يخرج يريد أن يتعجل إلى أهله، عنده ظرف! عنده استعجال! عنده عجزة! عنده ضعفة! عنده رفقة! عنده عمل ودوام.
ما يخرج كارهاً للمبيت ونافراً من العبادة، فالذي يخرج كارهاً للمبيت ونافراً للعبادة فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- لم يتق الله عز وجل.
ومن هنا نجد أن الآية أعطت رخصة مقرونة بصفة شرعية، وأنها جاءت على وجه مخصوص، فينبغي التقيد بالوارد والحكم بالرخصة لمن كان من أهلها، وقام بها على وجهها.
والله تعالى أعلم.(6/13)
لا يلزم التتابع في صيام فدية الحج
السؤال
من ارتكب محظوراً من المحظورات وأراد صيام ثلاثة أيام، فهل تكون متتالية أو متفرقة أثابكم الله؟
الجواب
صيام الثلاثة الأيام في فدية الحج متفرقة، ولا يجب فيها التتابع على الصحيح، وذلك لأن الكتاب والسنة ثابتان بالإطلاق، الله تعالى يقول: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة:196] ولم ينص على التتابع في الصيام، وثبت في الصحيحين من حديث كعب بن عجرة رضي الله عنه، حينما رآه النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: (حملت إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي؛ فقال صلى الله عليه وسلم: ما كنت أرى أن يبلغ بك الجهد ما أرى! ثم قال له: أطعم فرقاً بين ستة مساكين، أو انسك نسيكة، أو صم ثلاثة أيام) قال: (أو صم ثلاثة أيام) ما قال: متتابعة، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، والتتابع صفة زائدة يحتاج إلى التنبيه عليها، ولم ينبه الشرع عليها، فمن صام ثلاثة أيام متفرقة فقد صام ثلاثة أيام، ومن هنا تبرأ ذمته، وتصح فديته، ولا يلزمه التتابع.
والله تعالى أعلم.(6/14)
تقديم نية طواف الإفاضة ويجعل نية طواف الوداع تبعاً له
السؤال
من أدرك طواف الوداع مع الإفاضة، فأيهما يقدم في النية أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: ينبغي تحري السنة، واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
الإفاضة طواف ومن السنة أداؤه يوم النحر، فيحرص المسلم على التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأداء هذا الطواف هو يوم النحر، والوداع يكون عند مفارقة البيت والرجوع إلى الأهل، فهذا طواف وهذا طواف؛ فإذا كان عنده عذر كالحائض تطهر آخر أيام التشريق تنزل وتطوف الطوافين وتأخذ بالرخصة، لكن أن يتقصد ذلك دون وجود حاجة أو عذر، فمثلاً الشيخ الكبير، والمرضى والعجزة، والناس الضعفاء يمكن أن يقال: أنهم يجمعوا.
لكن بالنسبة للقوي السوي، والإنسان الذي جاء للحج حتى ولو كان امرأة، النبي صلى الله عليه وسلم يقول في النساء: (عليهن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) فجعل الحج جهاداً، ومعنى ذلك أنه مشقة وعناء، فيحرص على اتباع السنة واتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا كان هناك عذر: المرأة تحيض ثم تطهر آخر أيام التشريق فطافت للإفاضة عند خروجها فيغنيها طواف الإفاضة عن طواف الوداع.
أما النية: أول شيء نية طواف الإفاضة، ويجعل طواف الوداع تبعاً للإفاضة؛ لأن طواف الإفاضة ركن، وطواف الوداع واجب، ولا يندرج الركن تحت الواجب، وإنما يندرج الواجب تحت الركن؛ لأن الأصغر يندرج تحت الأكبر.
ونقول بصحة ذلك؛ لأن مقصود الشرع من طواف الوداع أن يكون آخر العهد بالبيت طوافاً، وهذا يتحقق لو طافت طواف الإفاضة عند خروجها أو طاف الرجل طواف الإفاضة عند خروجه، فقد صار آخر عهده بالبيت طوافاً، فينوي النيتين: ينوي الإفاضة وينوي تحتها الوداع، وحينئذ يجزيه.
فإن نوى الوداع واندراج الإفاضة تحته، فهذا له وجهان: قال بعض العلماء: يجزيه عن الإفاضة؛ لأن ذمته مشغولة بالأكبر والأصغر يجبره، وهذا مبني على مسألة مشهورة، وهي: أنه لو نوى أن يصوم غير رمضان في رمضان أنه ينقلب إلى رمضان، ولكن هذا القول مرجوح والقول الثاني أرجح؛ لأن محل ذلك أن لا يسع المحل للعبادتين، لا يسع إلا لعبادة واحدة كما في أيام رمضان، لا يمكن إلا أن تتسع إلا صوم واحد، أما هنا فالوقت متسع وقد قال صلى الله عليه وسلم: (وإنما لكل امرئ ما نوى).
ومن هنا نقول: إنه لا يصح ولا يجزي، وهو القول الثاني وهو مذهب الجمهور القائلين بطواف الوداع، ويلزمه أن يطوف، وهذا القول قول ضعيف، وهو لبعض أصحاب الإمام مالك رحمهم الله، وحينئذٍ يلزمه أن يطوف للإفاضة طوافاً مستقلاً.
وعلى هذا: النية للأكبر، والأصغر يندرج تحت الأكبر إذا تحقق مقصود الشرع، فالأكبر هو الإفاضة، والأصغر الوداع، ومقصود الشرع أن يكون آخر عهده بالبيت طوافاً، وهذا يحصل على هذا الوجه؛ فلذلك كان مشروعاً.
والله تعالى أعلم.(6/15)
من اعتمر لغيره وحج لنفسه في أشهر الحج لا يعتبر متمتعاً
السؤال
إذا اعتمر رجل عن غيره وحج عن نفسه، وكان ذلك في أشهر الحج هل يعتبر حجه تمتعاً أم ماذا؟
الجواب
الأشبه في هذه المسألة أنه مفرد وليس بمتمتع، ويلزمه إن مر بالميقات الأبعد ناوياً للنسكين أن يرجع بعد عمرته؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] الأشبه: أنه مفرد، وهذا أحوط وأبرأ للذمة.
والله تعالى أعلم.(6/16)
حكم من خرج من مكة ولم يطف طواف الوداع لأجل الزحام ثم رجع بعد يومين وطاف
السؤال
ما حكم من ترك طواف الوداع وهو من أهل جدة؛ لأنه رأى الازدحام فرجع إلى جدة فجلس يوماً أو يومين ثم رجع فطاف للوداع؟
الجواب
إذا خرج ولم يطف لزمه دم؛ لأن من خرج من أهل جدة قبل أن يطوف خوف الزحام، أو رأى المشقة في جلوسه ثم ذهب وجلس في جدة إلى أن خف الزحام، ثم رجع وطاف، فإن الطواف الثاني طواف نافلة وليس بطواف وداع؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اجعلوا آخر عهدكم بالبيت طوافاً) وهذا صدر إلى أهله ورجع قبل أن يطوف بالبيت، ومن هنا يجب عليه دم الجبران بهذا الواجب، وأهل جدة على الصحيح أنه يلزمهم طواف الوداع، والسبب في ذلك: أن الوداع ليس واجباً لمسافة القصر، بل إنه واجب لكل من يغادر مكة بعد حجه.
ولذلك حتى أهل مكة فلو أن المكي بعد الحج عنده عمل ووظيفة مثلاً في عسفان أو في مكان آخر، وخرج إلى هذا العمل والوظيفة بعد انتهاء حجه لزمه أن يطوف طواف الوداع، وهذا منصوص عليه عند الأئمة رحمهم الله؛ فدل على أن الأمر راجع إلى مفارقة البيت سواءً كان على مسافة القصر أو دون مسافة القصر، فأهل الجموم وأهل جدة وأهل عسفان كل هؤلاء يطوفون طواف الوداع؛ فإذا خرج الجداوي أو غيره من مكة ممن لزمهم طواف الوداع، وجلس في بلده حتى خف الزحام ورجع فطاف طواف الوداع؛ فإنه يلزمه دم الجبران؛ لأنه صدر قبل أن يجعل آخر عهده بالبيت طوافاً.
والله تعالى أعلم.(6/17)
حكم من طاف للوداع وخرج من مكة ثم رجع لغرض نسيه
السؤال
طفت طواف الوداع، ثم ذهبت إلى المطار، فوجدت أني نسيت بعض الأغراض فرجعت إلى مكة، فهل يجب علي أن أعيد طواف الوداع؟
الجواب
من طاف طواف الوداع ثم صدر ورجع مرة ثانية؛ فالعبرة بخروجه الأول، وعند العلماء وجهان: بعض أهل العلم رحمهم الله يقول: إذا صدر إلى مسافة القصر ثم رجع ثانية؛ فإنه قد انتهى طواف الوداع ولا يلزمه طواف وداع ثانٍ؛ لأنه قد أنشأ سفراً بعد السفر الأول، وحينئذ يلغى، ولو قلنا: كل شخص يعيد لكان كل شخص خرج من مكة ورجع إليها مرة ثانية يلزمه أيضاً أن يعيد طواف الوداع، ولا قائل بهذا.
ومن هنا قالوا: إنه إذا صدر عن البيت فالعبرة بطواف الوداع عند صدوره الأول.
وأما إذا كان دون مسافة القصر وخرج فعلى ضربين: الضرب الأول: أن يخرج خروجاً قاصداً به الانفصال عن البيت؛ كأن يكون له غرض، أو يكون عنده أهل في الجموم، أو أهل -مثلاً-في عسفان، أو له قرابة أو جماعة في منطقة تبعد عن مكة دون مسافة القصر، خرج فزارهم ثم رجع، فأيضاً العبرة بالصدور الأول؛ لأن الخروج إلى هذا الغرض يعتبر خروجاً.
وفي الحديث الصحيح عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها -في صحيح مسلم وغيره- أنها قالت: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات؛ فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً) وهذا قد صدر وخرج، ولذلك صح طوافك للوداع الأول ويجزيك إن شاء الله.
والله تعالى أعلم.
مداخلة: مثلاً شخص يخرج لمجرد خروجه من حدود مكة يتذكر غرضاً له في الفندق، أو عند جماعة، أو يتصل عليه شخص ويقول له: اذهب إلى فلان في مكة وخذ من عنده الحقيبة أو غرضاً، فيرجع مرة ثانية، فإن رجع مرة ثانية بعد خروجه من مكة وبقي بعد هذا الخروج بقاءً يقطع الوداع -وهو الذي ذكره العلماء: بقاء القصر- فإنه حينئذ يلزمه أن يعيد طواف الوداع.
أما في الأول وقد قال: خرجت إلى المطار، وصدرت صدوراً صادقاً للحاجة، ثم بعدما ذهبت وخرجت تبين أن الرحلة متأخرة فرجعت.
فحينئذ قد انقطع جلوسك الأول، وصح طوافك الأول للوداع، ولا تأثير لرجوعك الثاني.
ولا يستثنى إلا هذه الحالة التي ذكرناها: إن رجع قريباً من مكة -وأشار إليه بعض الأئمة رحمهم الله، وفي كلام الإمام ابن قدامة رحمه الله ما يشير إلى ذلك- يعني: بمعنى أنه ما بلغ مسافة القصر، ومثلاً خرج من مكة، ولما كان في التنعيم رجع مرة ثانية مباشرة وجلس، فمثلاً بات بمكة أو جلس أو تغدى عند الرجل أو تعشى عنده فحينئذ انقطع الوداع، ويلزمه أن يعيد الوداع مرة ثانية.
أما إذا كان الخروج لحاجة وغرض، وبلغت هذا المقصد الذي تريده، وأنت في خروجك الأول قد قطعت العلائق عن مكة، وليس عندك نية للرجوع، ثم حصل طارئ ويجب عليك الرجوع؛ فالعبرة بخروجك الأول لا بخروجك الثاني.
والله تعالى أعلم.(6/18)
حكم من شك في طواف الإفاضة بعد انتهائه منه
السؤال
بعد الانتهاء من طواف الإفاضة أصبت بشك هل الطواف كاملاً أم ناقصاً فما هو الواجب عليَّ أثابكم الله؟
الجواب
إذا كان الشخص مبتلى بالوسواس، ويجد أن الشيطان متسلط على عبادته، فإن الموسوس على حالتين: الحالة الأولى: إن جاءته هذه الوسوسة بعد فراغه من الطواف وانتهائه منه، وخرج من المسجد أو وصل إلى بيته، فجاءه الشيطان؛ فهذا الشك ساقط، والشك بعد العبادة بالوسوسة لا مقام له، كأنه غير موجود؛ لأن هذا حديث النفس، وتسلط الشيطان الذي لا يسلم منه.
الحالة الثانية: وأما إذا كان الشك في أثناء العبادة وهو يطوف حصل عنده شك أهو ستة أم خمسة أشواط، فإنه يبني على الأقل، وحينئذ إذا بنى على الأكثر ننظر فيه: إن كان قريباً وجاء فسألنا بعد الطواف مباشرة نقول له: ارجع وأكمل هذا الشوط السابع.
قال: شككت أهي ستة أشواط أو سبعة؛ فالواجب عليه أن يبني على أنها ستة، فإذا بنى على أنها سبعة أشواط نقول له: ارجع وطف الشوط الأخير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدة صلى أو اثنتين، فليبن على واحدة؛ فإن لم يتيقن اثنتين صلى أو ثلاث فليبن على اثنتين؛ فإن لم يدر أثلاث صلى أو أربع فليبن على ثلاث، وليسجد سجدتين قبل أن يسلم) الحديث.
فهذا يدل على أنه ينبغي في العدد أن يبني على الأقل لأنه اليقين، فإذا قال: أنا بنيت على الأكثر خالف السنة والحكم الشرعي؛ فنقول: لا زال عليك شوط.
فإن كان وقت سؤاله قريباً بحيث لا يقطع شرط الموالاة؛ لأن من شروط صحة الطواف بالبيت: أن يكون على طهارة، وأن يتم عدده، وأن يتم الطواف بالبيت، وأن يجعل البيت عن يساره، وأن يستر عورته، وأن يوالي بين الأشواط؛ فإذا كان هناك فاصل: طاف اليوم شوطاً، ثم ذهب فتغدى وتعشى ثم جاء يطوف بقية الأشواط لا يصح! لابد أن يوالي بين الأشواط؛ لأنها عبادة وقعت بالموالاة فلابد منها، فإذا قطع الموالاة لزمه أن يستأنف طوافه، وأن يعيد الطواف تاماً كاملاً.
وهذا مذهب الجمهور رحمهم الله خلافاً للحنفية الذين يعتدون بأكثر الطواف، ويوجبون عليه دم، يقولون: إذا طاف أربعة أشواط وكان الشك بعد الأربعة وجب عليه دم جبراً لهذا النقص إن شك في التمام.
والصحيح مذهب الجمهور.
وعلى هذا فإنه ينظر: إن كان طواف إفاضة نقول: إذا قطعت التتابع لزمك أن ترجع، ولا يزال في ذمتك هذا الطواف -الركن- ولو رجعت إلى بلدك، ويلزمك أن ترجع ولو بعد سنوات من أجل أن تطوف هذا الطواف الركن الذي أجمع العلماء أنه لا يتم الحج إلا به لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
والله تعالى أعلم.(6/19)
التفصيل فيمن اعتمر متمتعاً إلى الحج ثم خرج إلى جدة
السؤال
إذا ذهب المتمتع إلى جدة بعد عمرته، فهل يبقى حكمه حكم المتمتع أثابكم الله؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: التمتع يشترط فيه أن يؤدي الإنسان العمرة في أشهر الحج أي: بعد دخول شهر شوال من ليلة العيد، فإذا أدى العمرة بعد دخول شهر شوال وفرغ منها يبقى بمكة إلى أن يحج من ذلك العام، فإذا رجع بعد العمرة نظرنا في رجوعه: فإن كان رجوعه إلى بلده فهو مفرد بإجماع العلماء إلا قولاً شاذاً وهو قول طاوس بن كيسان تلميذ ابن عباس أنه متمتع وإن رجع إلى بلده.
وظاهر القرآن يرد هذا القول، كما ذكر الأئمة في قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة:196] ومن رجع إلى بلده لم يتمتع بالعمرة، ولذلك يعتبر مفرداً وليس عليه دم التمتع.
وأما إذا رجع إلى غير بلده فإن كان آفاقياً -يعني: من أهل الآفاق من أهل المواقيت- فما فوق، فإنه اختلف فيه العلماء، وأصح الأقوال أن العبرة بمسافة القصر؛ لأنه إذا سافر سفراً بعد عمرته الأولى فقد قطع السفر الأول للعمرة، ولم يتمتع بسفره الأول، وحينئذ يكون مفرداً لا متمتعاً.
وتوضيح ذلك: لو أنه قدم -مثلاً- من المدينة، وأدى العمرة في أشهر الحج، ثم رجع إلى الطائف وأحرم بالحج من الطائف فهو مفرد؛ لأنه في هذه الحالة قطع السفر الأول بالسفر الثاني، ويحرم من ميقات الطائف ويصبح مفرداً.
وأما إذا رجع إلى جدة فهي ليست على مسافة القصر في زماننا، وكانت في القديم على مسافة القصر؛ وعلى هذا فإن رجوعه إلى جدة لا يسقط دم التمتع؛ وأيضاً يتفرع على قولنا: إن جدة ليست على مسافة القصر أن أهل جدة يتمتعون، ويكونون في حكم حاضر المسجد الحرام؛ لأنهم دون مسافة القصر، فإذا تمتعوا لم يلزمهم دم؛ لأنهم من حاضري المسجد الحرام، وهذا هو مذهب طائفة من أئمة العلم رحمهم الله.
وعليه: فإنه من رجع إلى جدة ننظر فيه: إن كان من أهل جدة صار مفرداً، وإذا أراد أن يتمتع يأتي بعمرة ثانية قبل حجه.
وإن كان من غير أهل جدة من الذين هم آفاقيون فإنه حينئذٍ يكون متمتعاً، ورجوعه إلى جدة لا يسقط سفره الأول؛ لأنها ليست مسافة قصر.
وأما إذا كان دون المواقيت مثل أن تكون مسافة بيته وأهله بينها وبين مكة كما بين جدة ومكة فإنه أيضاً مفرد، كما لو كان من الجموم وجاء بعمرة ثم سافر إلى جدة؛ فإنه ليس بمتمتع، وعليه أن يأتي بعمرة ثانية.
والله تعالى أعلم.(6/20)
وصية لمغترب
لقد اشتدت غربة الدين في هذه الأزمان، وذلك أنه كلما ولى زمن كان الذي بعده شراً منه، ومن العواصم للمسلم من السقوط التذكير والتثبيت.
ومن أعظم أسباب غربة الدين وضعف المسلمين إخلالهم بالعقيدة، وتتجلى أهمية العقيدة وترسيخها في النفوس في دعوة النبي أثناء المرحلة المكية؛ حيث إنها استمرت ثلاث عشرة سنة تثبت العقيدة والتوحيد في قلوب المسلمين وقد نتج عن غربة العقيدة غربة في الأحكام والأخلاق، فلابد من السعي لإصلاح حال المسلمين بالاعتماد على الله والتوكل عليه أولاً، ثم بترتيب الأولويات في حياة أبناء الأمة.(7/1)
اشتداد غربة الدين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله العظيم في بداية هذا المجلس المبارك أن يجزي من تسبب فيه خير الجزاء، وأن يشكر مسعى الجميع، وأن يجعل القول خالصاً لوجهه، والعمل موجباً لمحبته ومرضاته.
أيها الأحبة في الله: إن المؤمن كلما بعد زمانه عن عهد النبي صلى الله عليه وسلم عظمت غربته، واشتدَّت فتنته ومحنته وبليته، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى بقوله: (ما من زمانٍ إلا والذي بعده شرٌ منه حتى تقوم الساعة) بدأ هذا الدين غريباً، بدأ بداعية إلى الله، ورسولٍ أحبه الله، فحمل أعباء الرسالة، وقام بواجبات الأمانة، فبلغ الرسالة على أتمِّ الوجوه وأكملها، وأدى الأمانة على أتم الوجوه وأكملها، صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين.
بدأ به هذا الدين، ثم انتشر بين الخلق والعالمين، فاستضاءت به الأنوار في المشارق والمغارب؛ ففتح الله به القلوب، وشنف به الأسماع، وطهر به الجوارح من أدناس الجاهلية، وأدران الشرك والوثنية، وصاغ العباد بالطاعة والعبودية والحنيفية، وما زال هذا الدين يسطع نوره، وتشرق تلك الأنوار على مشارق الأرض ومغاربها، حتى بلغ ما شاء الله أن يبلغ، ثم بدأت الفتن والمحن والويلات والآهات، وغير ذلك من النكبات، والفجائع المبكيات، حتى فرقت شمل المسلمين، وقوضت معالم الدين، وأصبح العبد في غربةٍ عن رسالة سيد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليه.
بدأت هذه الغربة، فضعف المسلمون من بعد قوة، وتفرقوا من بعد اجتماع، وخارت قواهم، وتشتت أذهانهم وأفكارهم، وكل ذلك بقضاء الله وقدره، والله غالبٌ على أمره، ولكنَّ كثيراً من الناس يجهلون ذلك، ولا يعلمون بحكمة الله التي هي من وراء ذلك.(7/2)
حاجة المسلم مع هذه الغربة إلى التذكير والتثبيت
إن المسلم كلما بعد زمانه عن الوحي، يحتاج إلى من يثبت قلبه، ويربط ذلك القلب الذي آمن بالله بذلك الوحي النير والصراط المستبين، والطريق المبين، حتى يلقى الله جلَّ وعلا وهو راضٍ عنه، لكن تحقيق هذه الأمنية العظيمة، وتحقيق هذه الغاية الجميلة الكريمة، يحتاج إلى الجد والصدق والإخلاص في العبودية لله عز وجل.
وجميع نكبات المسلمين، وفجائعهم المبكية المحزنة، إنما تعود لسبب واحد هو أساس الأسباب، وهو منشأ الدمار والخراب، ألا وهو: البعد عن الدين.(7/3)
أهم أسباب غربة الدين وضعف المسلمين
فبُعد الناس عن دين الله عز وجل؛ بعدٌ عن حياتهم، وبعد المسلمين عن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، هو بعدٌ عن سعادتهم وعزهم، وبعدٌ عن كرامتهم، بعدهم عن خير دينهم ودنياهم وآخرتهم، وأعظم ما وقع للمسلمين من بعدٍ، وأجل وأشد ما وقع منهم؛ الإخلال بالتوحيد، وبالإيمان، والعقيدة.
لما تساهل المسلمون في هذا الأصل العظيم، وأصبحت معالم الحنيفية مندثرةٌ منطمسةٌ في ديار كثيرٍ من المسلمين، حينئذٍ سلَّط الله على العباد أنواع البلاء، وأراهم صنوف الشدة واللأواء والعناء، ونسأل الله أن يلطف بالعباد.(7/4)
أهمية التمسك بكلمة التوحيد
الإسلام يقوم على الإخلاص، يقوم على رسالة الأنبياء والرسل "لا إله إلا الله"، والأمة متى عرفت هذه الكلمة وجعلتها نصب عينها؛ فإنها تكون قويةً عزيزةً، مستميتةً من أجل الحق وللحق، ولكن إذا ضعفت صلتها بالله، فأصبحت في غربة عن هذا الأصل العظيم، وفي حيرة عن تحقيق هذا الهدف الجليل الكريم -وهو إخلاص العبودية لله عز وجل- فتح الله عليها أبواب البلاء، وأصبحت مع أعداء الله في كفة واحدة؛ لأنه لا فرق بين المسلم والكافر إلا بتحقيق هذه الكلمة، وهي لا إله إلا الله، وانظر في عصور المسلمين، ودهور المؤمنين، فلن تجد عصراً رفعت فيه راية الإسلام، وعاشت الأمة فيه بعزٍ وكرامةٍ وسلامٍ، إلا وجدتها مؤمنةً حقاً، مخلصةً لربها صدقا، ولن تجد عصراً تفرق فيه شملها، وتبددت جموعها، وخارت قواها إلا وجدتها تستغيث بغير الله، وتستجير بأحد العداة، قد تعلقت بغير الله، من شهواتٍ وشبهاتٍ وملهياتٍ وغير ذلك مما حرم الله عز وجل، فلما نسيت الأمة هذا الأصل العظيم فتح الله عليها أبواب البلاء.
والسعادة، والفلاح، والنجاح، والربح، والصلاح لهذه الأمة والقاعدة التي ينبغي أن تشيد، والأساس الذي ينبغي أن يُبنى، والدعوة التي ينبغي أن يركز عليها، وأن يُدعى إليها، هي تحقيق كلمة التوحيد "لا إله إلا الله".
فمتى كانت الأمة على هذا الأصل العظيم، صافية عقائدها من الشوائب، نقية لربها في النكبات والنوائب، لا تدعو غيره، ولا تستجير بأحدٍ عداه، فأنعم بها من أمة! إذا أصبح المؤمن إن أصابته السراء شكر ربه، واعترف بالجميل لله، لا لأحدٍ سواه، وإن أصابته ضراء نصب وجهه لله، لا لأحدٍ سواه، فكيف يكون حاله؟ {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] ومن يتوكل على الله هذا الشرط -الإيمان، التوحيد، العقيدة- والجزاء؛ فهو حسبه، وقائمٌ بأمره، وإذا كفى ربك عبداً فكيف يكون حاله؟ كفى بالله إذا كفى عباده وكفى خلقه، فقد كفى أنبياءه ورسله وكفى خيار عباده الصالحين، {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] تكفل الله لمن حقق الإيمان (رسلنا) أي: رسلنا بالتوحيد، (والذين آمنوا) ما قال: والناس، (والذين آمنوا) أهل العقيدة، أهل الإيمان، ما قال المسلمون، بل قال: الذين آمنوا، أي: الذين حققوا هذه الكلمة وطبقوها؛ فلذلك كانت دعوة النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة، وفي توجيهها، وفي تسديدها، وفي دلالتها على الخير، تقوم على هذه الكلمة، على "لا إله إلا الله".
كانت شئون المسلمين بينهم وبين الله في العقيدة، كانت شئون المسلمين في السراء، وفي الضراء، في الرفعة، وفي المهانة كلها بهذه الكلمة، فكانت شئونهم بينهم وبين الله عز وجل في "لا إله إلا الله،" لا يمكن للواحد منهم أن يصرف حقاً لله لأحدٍ سواه؛ فكانت أمورهم بينهم وبين الله صالحة.
أما شئونهم بينهم وبين العباد فكانت بهذه الكلمة، بها يأخذون، وبها يعطون، وبها يوالون، وبها يعادون، وبها ينتصرون، وبها يُنصرون.
هذه الكلمة أحبوا بها في الله، وكان إذا لقي الرجل منهم أخاه قال: [تعال بنا نؤمن ساعة]، نؤمن: أي الإيمان العقيدة التوحيد.
وكان كل واحدٍ منهم إذا لقي أخاه، شد من أزره؛ لكي يحقق الإيمان، كما قال تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] أي: بـ (لا إله إلا الله)، قال بعض العلماء: (الحق هو "لا إله إلا الله") و"َتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ" أي: بالصبر على هذا الحق، وهو تحقيق هذه الكلمة، فكانت شئونهم مع الناس بهذه الكلمة.
ولما أصبح ميزانهم هو هذه الكلمة، قربوا الغريب عنهم بالإيمان، وأبعدوا القريب منهم بالكفران، فكان الرجل يعادي أباه، ويعادي أمه، ويعادي أبناءه، ويعادي زوجه وعشيرته، من أجل "لا إله إلا الله"، تهون الدنيا -كلها- بأسرها إذا مسَّت كرامة هذه الكلمة، وكان الميزان للحب والعداء، والبغض والولاء في "لا إله إلا الله"، فكلما وجدت المسلم تدور أشجانه وأحزانه مع هذه الكلمة كلما وجدته منغمساً في نعيم السعادة الأبدية، وإذا كانت هذه الكلمة لا تُسعد صاحبها، فمن هو السعيد؟؟ إنها الكلمة التي عليها قامت السماوات والأرض، وعنها سيكون السؤال، ومن أجلها سيكون السؤال والحساب والعرض، بل من أجلها خلقت الخلائق، ومن أجلها كان الليل والنهار، والشمس والقمر، والأفلاك كلها من أجل "لا إله إلا الله"، فكلما جئنا في أي زمان ننظر إلى مشاكل المسلمين، وهمومهم، وغمومهم، أول ما ينبغي أن يصب عليه حديثنا، وأن تلتفت إليه أنظارنا، وأن يعتني به المصلحون، وأن يركز عليه الدعاة المهتدون الموفقون، تحقيق "لا إله إلا الله".
ثلاث عشرة سنة والقرآن في مكة يدعو إليها، ويحققها، ويغرسها في القلوب؛ حتى إذا تمكنت هذه الكلمة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت معركة بدر وأحد والأحزاب، ومواقف الإسلام والكفر أولاً، غرس الإيمان؛ ولذلك إذا غُرس الإيمان في القلوب، تفجرت ينابيع الحكم، وتبددت دياجير الظلم، ووجدْت صاحبه على ثبات وقوة وإيمان، تجد أهل هذه الكلمة إذا أخلصوا لله عز وجل، نالوا بها عز الدنيا والآخرة، هذه الكلمة تطهر القلوب، وتزكي الأعمال، تجد صاحبها على أكمل ما أنت راءٍ من إسلامٍ وصدق، بالإخلاص، بتوحيد الله وإخلاص العمل لله، قال شيخ الإسلام رحمه الله كلمة نفيسة، قال رحمه الله: (بل إخلاص الدين لله، هو الدين الذي لا يقبل الله سواه).
أي: إذا جئت تعبد الله عز وجل، فاعلم أن أساس العبادة والديانة هو "لا إله إلا الله"، الإخلاص، الخلوص والصفاء والنقاء في القلوب لله جل جلاله.
فإذا كان الإنسان متعلقاً بالله عز وجل، طهر قلبه، ولذلك وصف الله الشرك بالدنس والقذر {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج:30] اجتنبوه، أي: ابتعدوا عنه، فهو دنس الحس والمعنى.
كذلك -أيضاً- تزكو بهذه الكلمة أخلاق المؤمنين، ولذلك تجد الإنسان أعف ما يكون عن حدود الله حينما يمتلئ قلبه بالإيمان بالله عز وجل.
والإيمان باليوم الآخر أساس من أساسيات "لا إله إلا الله"، وهو ركن من أركان الإيمان، فإذا امتلأ قلب الإنسان إيماناً بالله واليوم الآخر، هل يسرق؟ هل يزني؟ هل يقتل؟ هل يشرب الخمر؟ أبداً، إذا كان الإنسان يشاهد الآخرة بين عينيه، وجدته أخوف ما يكون لله، وأتقى ما يكون له، ولذلك تزكو به الأعمال، وكلما وجدت الإنسان يخل في شهوة أو شبهة؛ فاعلم أن وراء ذلك إخلالاً بهذه الكلمة، ونقصاً في العبودية لله عز وجل، وإلا لو كمل خوفه من الله، وخشيته لله، وتوحيده له، ما كان منه شيءٌ من ذلك.
فالمقصود: أنه ينبغي العناية بهذا الأصل، وغرسه في القلوب والدلالة عليه، وتحبيبه إلى النفوس، وتقريب القلوب إليه، ولا شك أنها دعوة الرسل (ما بعث الله نبياً ولا رسولاً إلا كانت كلمته الأولى: قولوا لا إله إلا الله) ولذلك إذا وجدت الإنسان يحرص عليه، وجدته أثبت الناس قلباً، وأخلصهم منهجاً، وأصفاهم مشرباً، وأكثرهم صدقاً في العبودية لله سبحانه وتعالى، بسبب العناية بهذا الأصل العظيم.(7/5)
غربة الأحكام والأخلاق والآداب
ثم للمسلمين غربة في أخلاقهم، وآدابهم وأحكامهم، فأول غربة وقعت للمسلمين، غربة العقيدة، ثم بعدها غربة الأحكام، فتجد الإنسان يصلي كيف يشاء، ولربما تأتي تنصح الرجل فتقول له: يا أخي! ما هذا الفعل الذي تفعله في صلاتك؟! فيقول: ليس هذا من شأنك، دعني أصلي كيف أشاء، غربة الأحكام ابتدأت بالصلاة التي هي عماد الدين، فهو يخرج إلى المسجد متى شاء، ويحضر الجماعة إن شاء وإن لم يشأ لم يحضر.
وكذلك أيضاً يُخل بطهوره وبغسله، وباستنجائه، وبغير ذلك مما أوجب الله عز وجل عليه أن يحفظه، وهي أمانة حمَّلها الله عز وجل العبد.
ثم غربته في زكاته، فيحرمها الفقراء، والعجيب أنك قد تجده يزكي، ولكن يزكي كيف يشاء، لا كما أمر الله عز وجل، فتجده يعطي الزكاة لمن هب ودب، فإذا قلت له: يا أخي! ما هذا الذي تفعل؟ قال لك: أفعل ما أشاء، هذا مالي، وأنا حرٌ فيه.
وإذا قلت له: لا يجوز، ادفعها إلى الفقير أو إلى المسكين.
يقول: لا، هذا مالي، وأفعل به ما أشاء.
فأصبح في غربةٍ من أحكامه، في غربة من صيامه من حجه من معاملاته البيع والشراء الحلال: ما حل في يده، والحرام: ما لم يحل في تلك اليد يتبايع كيف يشاء إذا جئته في أي مسألة من الأحكام تقول له: افعل كذا، أو لا تفعل، أو العلماء يقولون: لا يجوز أو كذا.
يقول: لا، افعل ما أشاء، ولا تحجِّر عليَّ واسعاً.
إذاً المشكلة الرئيسية في قضايا المسلمين: الغربة؛ غربة العقيدة، وغربة الأحكام، وغربة الآداب.
الإسلام فيه الآداب الكريمة، والأخلاق العظيمة، التي ملكت بها القلوب، ومن أعظمها وأجلها وأساسها، الأمانة، ابحث عن مؤمنٍ أمين، قلَّ أن تجد، أو مسلم أمين، قل أن تجد، حتى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم (أنه تقبض الأمانة من القلوب -نسأل الله السلامة والعافية- ولا يبقى إلا أثرها، كجمرٍ دحرجته على قدمك).
فإذاً قبضت الأمانة من المسلمين -إلا من رحم الله- فتجده يدخل في وظيفته، يتساهل في ساعات العمل يتساهل في أخذ الرشوة يتساهل في أخذ حقوق الناس يؤخر هذا يعد هذا ويخلف ساعات العمل عنده للقيل والقال والزيارات، وكأن مكتب عمله بيته، أو مكانه، يفعل فيه ما يشاء، لماذا؟! غربة، لا يوجد دين يحكم المسلم في أخلاقه، وفي تعامله؛ ولذلك لما أخل المسلم بالأمانة، حقر حتى في عين عدوه، فترى المسلمين ضائعةً أماناتهم، مفرطين في حقوق الناس، لا يبالون بمشاعر الناس، قد يأتي الكبير الشائب الذي وصى النبي صلى الله عليه وسلم باحترامه وإجلاله، فيأتيه ذاك المتسمي بالإسلام، لا يرحم شيبته، ولا يرحم ضعفه، فيرفع عليه صوته، ويجهل عليه في الكلام، ويعده الوعود الكاذبة، ويمنيه الأماني الباطلة، أين الدين؟! إذاً: لما آل حال المسلمين إلى هذا، أصبحت أمور المسلمين إلى وبال، وساء بهم الحال، ولا فرق بينهم وبين أعدائهم، بل إنك قد تجد بعض الأعداء في بعض الأمور، يفوقون المسلمين، فتجد بعض المسلمين يعامل الكفار، فتقول له: لماذا تعاملهم؟ يقول: هؤلاء إذا وعدوا وفَّوا، وإذا قالوا صدقوا.
سبحان الله! نحن أحق بهذا منهم، أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أنه لما أتي بكنوز كسرى، ووضعت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، غطيت، حتى إن المسجد تلألأ من كثرة الكنوز والأموال: ذهب وجواهر ونفائس؛ تلألأ المسجد في شدة الظلام من كثرة الأموال، فلما دخل عمر إلى صلاة الفجر، ورأى ذلك، بكى، قالوا: يا أمير المؤمنين! ما يبكيك في يومٍ أعز الله فيه الإسلام والمسلمين؟ قال: [إن أناساً أدوا هذا لأمناء].
كان الصحابي يسير على بعيره في الفلوات، معه كنوز كسرى، وهو في الفلاة يستطيع أن يسرقها، ويستطيع أن ينقص منها، أو أن يذهب بها يميناً أو يساراً، أو يدفنها في مكان، لكن يذكر قوله تعالى: {وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَ} [آل عمران:161] فيخاف الله عز وجل.
إذاً كان الإسلام عقيدة، وحكماً من ناحية الأحكام، وأدباً من ناحية التعامل والتعاشر، والمسلم بهذه الثلاث الأمور: عقيدة، أحكام، آداب.
فإذاً: لا ننظر إلى أي واقع للمسلمين أو مشاكل لهم إلا من خلال هذه الثلاثة الأمور: العقيدة، الأحكام، الآداب.
وأي مجتمع نريد أن ننظر فيه، أو أي مجتمع نريد أن نقيمه، وهو يتسمى بالإسلام أياً كان، في أي زمان أو في أي مكان، ينبغي أن ينظر إلى هذه الأسس الثلاثة، أين هو من عقيدته، وأحكامه، وآدابه؟ انظر إلى كثيرٍ من بلاد المسلمين، تدخل إلى بعض مساجده؛ فتجد المشاهد، وتجد القبور يُطاف بها كما يُطاف ببيت الله عز وجل! ويستغاث بأصحابها كما يُستغاث بالله عز وجل! ويستجار بهم كما يستجار بالله أو أشد من ذلك! فأين الإيمان؟! حتى إنك لو دخلت في بعض الأماكن تبكي على الإسلام بين أهله، وترثي للإسلام بين حزبه.
فلذلك نحن بحاجة إلى إعادة النظر في عقائدنا، وتصفيتها وتخليصها لربنا ونقائها من الشوائب، وإعادة النظر في تعاملنا ومعاشرة بعضنا لبعض؛ البيع والشراء، الأخذ والعطاء، العبادات، المعاملات، نقيمها على كتاب الله، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثالث: الآداب، نريد إسلاماً يظهر من خلال المسلمين، لا من خلال الكلمات ولا الندوات، ولا المحاضرات ولا الشعارات، ولا الرسائل ولا المجلات، نريد إسلاماً يظهر من خلال التعامل، خاصةً في البلاد التي يكون فيها أقليات مسلمة، يكون الإسلام معروفاً بأخلاق المسلمين، وليس برسائلهم ولا بمجلاتهم ولا بمقالاتهم، لكن بتعاملهم، فلذلك يحرص المسلم على أنه يتعامل بحذر، لكي يعطي الصورة السامية الزاكية التي تظهر الإسلام بصورته الحقيقية.(7/6)
الأمور التي يصلح بها حال المسلمين
إذا كان هذا هو الداء، وهذا هو الدواء فإننا لن نستطيع أن نصلح أحوال المسلمين إلا بأمور:(7/7)
الاعتماد على الله
أولها: اعتمادنا على الله، لا نعتمد على ذكائنا، ولا على اجتهادنا، ولا على حسن ما يكون من بعضنا، ولكن نعتمد على الحي القيوم الذي لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، يتوكل العبد ويتوكل المؤمن على الحي الذي لا يموت {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] وسبح بحمده، فكفى به سبحانه نصيراً وولياً، فإذا كان الداعية أو الموجِّه أو المربي، بل أنت أيها المسلم في بيتك، في بلادٍ كافرة، أنت داعية بمجرد ما تقول: "لا إله إلا الله" حملت مسئولية هذه الكلمة، فنحتاج منك أن ترسم الإسلام، وتبين صراطه ومنهجه بالعمل مع القول؛ حتى لا يكون الإنسان ممقوتاً عند الله، بأن يكون قوله مخالفاً لعمله.
نحتاج إلى إسلام يترجَم بالأفعال والأخلاق، حتى إذا رآنا أعداء الإسلام قالوا: نعم، هذا الدين ونِعْم الدين! أما أن نتكلم ونتشدق ونحدر الخطب ونقيم الجماعات، ونتفرق إلى جماعات متعددة وشعارات متباينة، وكل منا يدعي أنه هو المسلم الحق، وكلٌ منا في معزل عن أخيه، مع ما فيها من اعتوارٍ ونقص في بعض الأمور التي ينبغي ألا يكون فيها النقص، هذا لا يليق، بل هذا يزيد الجرح اتساعاً، ويزيد الخرق اتساعاً.
ولذلك ينبغي علينا أن نعي رسالتنا.(7/8)
ترتيب الأولويات
الأمر الثاني: نبدأ بالأهم فالأهم، نبدأ بالعقيدة، نصحح عقائد الناس، نقول للكبير والصغير والجليل والحقير: قل لا إله إلا الله، كلمة تحاج لك بين يدي الله، قلها واعمل بمقتضاها؛ ألا معبود بحقٍ سوى الله، توحده رباً فتعلم علم اليقين أنه لم يرزقك ولم يطعمك ولم يكسك أحدٌ سواه، وتوحده إلهاً بالقصد والطلب، فلا تسأل أحداً سواه، فلا تدعو غيره، ولا ترجو سواه، ولا تخاف ولا ترهب ولا تتوكل ولا تستعين، ولا تعبد أحداً سواه سبحانه وتعالى.
وتوحده في أسمائه وصفاته، فلا تسمع أذنك آيةً فيها صفة من صفات الله جل وعلا إلا أثبتها لله، وتقول: آمنا بالله.
كما أخبر الله على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وتثبت لله ما أثبت لنفسه، فنبدأ بهذا الأساس، نبدأ بالأهم فالمهم.
أما إذا جاءنا شخص وقال: نبدأ بكذا، والثاني يقول: نبدأ بكذا، وهذا بكذا فكلا، نبدأ بدعوة الرسل "الإيمان والتوحيد".
ثم إن صلحت عقائد الناس نبدأ بالأحكام، وبعد الأحكام نبدأ بالأخلاق، ويدل على هذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم، أول ما بدأ في مكة بالتوحيد، وغرس في قلوب الناس الإيمان، ثم بعد ذلك دعا إلى الأحكام، فعندما انتقل صلوات الله وسلامه عليه إلى المدينة بين الله له الحلال والحرام، وفصل له الشرائع والأحكام، ولذلك تجد السور المدنية تتسم بطول آياتها وكثرة أحكامها، أما السور المكية فتتسم بقصر الآيات، والحجج الدامغات للذين كفروا عن سبيل الله فاطر الأرض والسماوات، تجدها شواهد الوحدانية، تنصب السور المكية، كلها قوارع تنزل على الذين كفروا، تبين لهم أنه لا إله إلا الله، وتأخذ بالقلب طوعاً أو كرهاً لكي يقول: "لا إله إلا الله"، فتأخذه تارة لكي ينظر أمامه، وتارة لكي ينظر فوقه وتحته وعن يمينه وشماله، ثم تلتفت حتى على دلائل التوحيد في نفسه وفي جسده {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] فكانت آيات القرآن كلها تنصب في بدايته على هذا الأساس.
نوصي جميع إخواننا في مشارق الأرض ومغاربها أن يبدءوا بهذا الأساس، وإذا جاءت الأمة المهتدية في بلاد الكفر، أو غيرها -حتى من بلاد الإسلام- إذا جاءت عقيدة صافية وفق الله وسدد وأصلح؛ لأن الله يحب المخلصين، ويوفقهم، وهو معهم ينصرهم ويؤيدهم، ويربط على قلوبهم.
والأمر الثاني: بعدما نجد من المسلمين من صفت عقيدته وخلصت من الشوائب -بعد هذا الأصل العظيم- نبدأ ببيان الأحكام، لا يمكن أن نقول للإنسان: صل.
وهو يعبد القبر! ولا يمكن أن نقول للإنسان: صل.
وهو يستغيث بصاحب القبر! ولا يمكن أن نقول للإنسان: صل.
وهو يذبح لزيد أو عمرو! لا بد -أول شيء- أن نبدأ بالعقيدة، فإذا صفيت جاءت الأحكام (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقةً تؤخذ من أغنيائهم إلى فقرائهم) ما قال له: وأمرهم بالصلاة ولا الزكاة إلا بعد التوحيد والإيمان.
إذاً هذا سبيل الرسل، هذا هو عين الحكمة والصواب، لا يمكن أن تجلس مع إنسان أو تصلي معه وأنت تعلم أنه يستغيث بغير الله، ويستجير بغير الله، تتبطنه وتواليه، وتحس أنه كالمسلمين تغشه لنفسه أبداً، قل له في وجهه: هذا مسارٌ غير صحيح، أخلص لله أولاً (قل آمنت بالله ثم استقم) أول شيء الأساس فليعتن به، يعتنى به بأمور: عن طريق الدعاة، عن طريق الرسائل، والأشرطة التي تعتني بغرس العقيدة، فإذا وفق الله وخلصت العقائد، جاء التوجيه في الأحكام فنبدأ بالطهارة، ثم بالصلاة، كيف نتوضأ كيف نصلي؟ تعرف المرأة أحكام الحيض، أحكام الغسل من الجنابة، نقرأ فيها ونبحث عن رسائل مفيدة في هذه المسائل.
بعد هذا -بعد الأحكام- ننتقل إلى المعاملات، كيف نبيع؟ كيف نشتري؟ ما الذي أحل الله أن نأخذه؟ ما الذي حرم الله أن نأخذه؟ بعد هذا ننتقل إلى جمال الإسلام وكماله وبهائه في تلك الأخلاق العطرة، والسير الجميلة النضرة، فإذا أردت أن ترى المسلم الجميل الكامل الفاضل، فانظر إلى ذلك المسلم الذي جمع هذه الثلاثة الأمور، وانظر إليه حينما تأتيه الرحمة من الله فيتخلق بأخلاق المؤمنين قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] والإنسان إذا صفت عقيدته وكملت عبادته، واستقامت معاملته ظهرت آثارها على أخلاقه، فتجد أثر ذاك الإيمان الخالص الصافي من الشوائب يظهر في التعامل، وإذا بالرحمة تدخل إلى قلب المؤمن فيبدأ -سبحان الله- يرحم إخوانه المؤمنين، تجد التواضع، وتجد الكلام الطيب، العفة عن أذية المسلمين، تجد المسلم الحق قد سلم المسلمون من يده ولسانه، لا يغتاب، ولا ينم، ولا يفشي الحديث ليوقع الضغينة بين المؤمنين، يحرص على أخلاقه، يرحم من المسلمين ضعافهم، ويستر بإذن الله عوراتهم، ويفرج كرباتهم، الناس همهم الدنيا وهم ذلك العبد الصالح مكروباً يفرج كربته، أو مهموماً ينفس بإذن الله همه، فتجد أخلاق الإسلام تظهر بعد تحقيق هذه الثلاثة الأمور.
هذه الأمور التي هي العقيدة والأحكام، تجد بعدها الآداب، فإذا استقام القلب لله استقامت الجوارح: (ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله).
فنسأل الله العظيم أن يصلح الأحوال، وأن يوجب لنا ولكم حسن العاقبة والمآل، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين , وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(7/9)
وصايا للمتخرجين
إن من أعظم نعم الله علينا أن منَّ علينا بهذا العلم الذي هو سبيل إلى الجنة، ونور يستضاء به في الطريق إلى الله، فلابد من تحقيق ذلك بالإخلاص لله سبحانه وتعالى، وتزيين هذا العلم بالعمل، ودعوة الناس إلى هذا العلم والاستكثار من الأعمال الصالحة.(8/1)
تذكير للمتخرجين بعظيم نعمة الله عليهم
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين والمؤمنات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بالآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله وسار على نهجه إلى يومٍ تتفطر فيه الأرض والسماوات.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
في بداية هذا المجلس المبارك أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يتقبله منا ومنكم، وأن يجعله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم، وأن يجزي من تسبب في هذا اللقاء بخير وأفضل ما يكون به الأجر والجزاء، وشكر الله للشيخ: صالح فضله ونبله بالدعوة إلى هذا المجلس المبارك، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يرزقنا القول السديد والعمل الصالح الرشيد.
أيها الأحبة في الله: إن كان لي من كلمة فما أحوجنا جميعاً إلى أن نذكر نعمة الله علينا، وجليل فضله علينا، فقد أحسن إلينا سبحانه مع عظيم إساءتنا، وأكرمنا مع التقصير الذي يكون منا، فخيره إلينا نازل، وشرنا إليه صاعد.
الله أعلم كم أسبغ علينا من النعم، وكم دفع عنا من الشدائد والنقم، تحبب إلينا بالخيرات، وبسط يده آناء الليل وأطراف النهار بالخيرات والنعم التي لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، فاللهم لك الحمد كالذي نقول، ولك الحمد خيراً مما نقول.
إخوانكم من طلاب العلم أكرمهم الله بهذه النعمة العظيمة، فقرت عيوننا وعيونهم وعيون المسلمين حينما يسر لهم سبيل العلم وسهله، وبين لهم طريق العلم فهداهم إليه وحببه إلى قلوبهم.
وقفوا اليوم بعد أن أكرمهم الله جل وعلا من قضاء الأعوام التي شرفهم وكرمهم بتعلم العلم فيها، فاليوم يقفون كما نقف جميعاً بعد كل نعمة من نعم الله علينا حامدين شاكرين ذاكرين لفضله وإحسانه معترفين.(8/2)
وصايا لطلاب العلم المتخرجين(8/3)
التزام حمد الله سبحانه وتعالى وشكره
وأول ما ينبغي على من وفقه الله فأنهى تعليمه أن يحمد نعمة الله جل وعلا، فإن الله قرن المزيد بالشكر، وقرن البركة فيما أسدى وأولى من النعم لمن ذكره سبحانه وتعالى، فكل من شكر نعم الله تأذن الله له فيها بالمزيد، ووضع له فيها البركة حتى ينتفع وينفع غيره بما تعلم وعلم.(8/4)
إخلاص العمل لله
أما الوصية الثانية: فما كان لله دام واتصل، وما كان لغير الله انقطع وانفصل، ومن سلك سبيل الله سهل له الخيرات، وتأذن له بكل توفيق وسداد ورشاد في جميع أموره، حتى ينتهي إلى رحمة الله وجنته.
المعاملة مع الله وذلك لا يكون ولن يتحقق للإنسان إلا بالإخلاص لوجهه الكريم.
نقفُ اليوم لكي نجدد إخلاصنا لوجه الله سبحانه وتعالى، ونعقد العزم أن ننصب وجوهنا لوجهه الكريم، لا لأي شيء سواه، فلا يزال الرجل بخيرٍ إذا قال قال الله، وإذا عمل عملاً لله جل جلاله، فمن عامل الله سبحانه، واطلع الله على قلبه فوجد فيه الإخلاص لوجهه، سهل له السبيل وأقام له الحجة، وبيَّن له الدليل وجعله من الأخيار، والأئمة الأبرار، فيخوض في رحماته آناء الليل وأطراف النهار.
الإخلاص! فلا يمسي الواحد ولا يصبح إلا وهو يعامل الله جل جلاله في أقواله وأفعاله.(8/5)
تزيين العلم بالعمل
يا معاشر طلاب العلم، إن الله شرفكم بهذا العلم فزينوه وجملوه بالعمل: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل فبركة هذا العلم وخيره أن ينتفع به صاحبه، وإذا أردت أن ترى العلم النافع فانظر إلى من ظهرت آثار العلم في وجهه ويده وأخلاقه وجميع فعاله، العلم كما أنه في الصدور يترجمه العبد الصالح بأقواله وأفعاله، حتى يكون من الأئمة الذين سمى الله في كتابه.
يحتاج العلم إلى عمل، ومن عمل بالعلم ورثه الله علم ما لم يعلم، جاء بعض التابعين إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وكان يسألها ويستفيد منها، فأكثر عليها المسائل فقالت له ذات ليلة: [يا بني! أكل ما سألتني عنه عملت به؟ فقال: يا أماه! وأخذ يشكو التقصير وقلة العمل، قالت: أي بني! لم تستكثر من حجج الله عليك؟]، العلم إذا قرن بالعمل كان خيراً وبركة على صاحبه، وهذا هو الذي سأله النبي صلى الله عليه وسلم ربه، وهو العلم النافع، واستعاذ بالله جل جلاله من أن يحرمه بركة هذا العلم ونفعه، وذلك بزوال العمل، فكان يقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من قلبٍ لا يخشع، ومن علمٍ لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع).
فكان يستعيذ بالله عز وجل من علم لا ينفع، العلم النافع: هو الذي كسر قلب صاحبه لله جل جلاله، العلم النافع الذي يزيد الإنسان قرباً من الله سبحانه وتعالى، وحباً في الله سبحانه وتعالى، لا يتعلم قليلاً ولا كثيراً إلا ازداد من العمل والقرب من الله سبحانه وتعالى، هذا هو العلم النافع الذي جعله الله للقلوب كالغيث للأرض الطيبة، تجد آثاره على جميع جوارح الإنسان، ولذلك قال إبراهيم النخعي واصفاً أئمة السلف الأخيار، الصفوة الأبرار: كان الرجل منهم إذا طلب العلم ظهرت آثاره في وجهه وخشوعه وركوعه وصلاته وسمته.
كان العلم يراد للعمل، وعتب الله على بني إسرائيل حينما حُملّوا التوراة ولم يحملوها، وضرب لهم المثل كالحمار يحمل أسفاراً: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].
من حرم العمل بالعلم مقته الله جل جلاله، فكبر مقتاً عند الله أن يقول الإنسان ما لم يعمل.
فلذلك ينبغي أن يفكر كل واحدٍ منا في هذه الأحكام والمسائل، والسنن والشرائع التي شرفه الله بها فعلمها، كيف يعمل بها؟ ويحاول أن يظهر هذا العلم في أخلاقه وشمائله وآدابه، والناس لا تنتظر الكلام بمثل ما تنتظر العمل والتطبيق، فالمتكلمون كثير، والمخلصون قليل، والعاملون أقل، فينبغي للإنسان أن يقرن علمه بالعمل.
ومما يعين على العمل بهذا العلم: استشعار أن الله سائل العبد عن هذا العلم، ولذلك بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يسأل العبد يوم القيامة، ولا تزول قدمه من موقفه بين يدي الله حتى يسأل عن علمه ماذا عمل به.
فمن الأمور التي ينبغي أن نتواصى بها جميعاً، أن نظهر هذا العلم في أقوالنا وأفعالنا وشمائلنا وأخلاقنا، فإذا ظهرت آثار العلم على عبد الله الصالح وفقه الله وسدده، وجعله محل القبول عند الخلق: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
من عمل بالعلم وضع الله له القبول، ووضع الله له المحبة، فأصبحت القلوب تقبل عليه، ووضع الله له الأثر في هذه القلوب، فأصبحت كلماته ومواعظه وجميع ما يكون منه من الدعوة إلى الله مؤثراً في القلوب، بفضل الله جل جلاله، الذي بيده القلوب يقلبها كيف يشاء سبحانه وتعالى.
العمل بالعلم يجعل الإنسان في انكسارٍ دائمٍ لله سبحانه وتعالى، ويجعله أيضاً في ربح من المتاجرة مع الله جل جلاله، وقد كان أئمة السلف أئمة في الأعمال، وأئمة في الأقوال، فجمعوا بين العلم والعمل، وكانت أخبارهم وأحوالهم وما يكون منهم مع الناس كافة، تدل على أثر هذا العلم في قلوبهم، فينبغي أن يحرص كل واحدٍ منا على العمل بالعلم.(8/6)
دعوة الناس إلى العلم
النقطة الثالثة التي ينبغي للإنسان أن يحرص عليها، بعد أن وفقه الله جل جلاله للإخلاص لوجهه والعمل بهذا العلم، بعد شكره سبحانه وتعالى: أن يحرص على دعوة الناس إلى العلم أن يحرص على تبليغ رسالة الله، وأداء أمانة الله، امتثالاً لما أوجب الله.
فإذا أردت أن ترى من بارك الله له في علمه، ووفقه وسدده للقيام بحقه، فانظر إلى الذي لا يفتر ولا ينصب في تبليغ رسالة الله، وإقامة حجة الله على عباد الله، هذه هي الخيرية التي شهد الله بها لأوليائه المؤمنين، أن يدعوا إلى طاعته، ويحببوا في مرضاته، فيأمرون بأمره، وينهون عما نهى الله جل جلاله، فإذا بلغ الإنسان هذه المرتبة أحبه الله سبحانه، وقذف في قلوب العباد حسن الذكر له، ولذلك تجد للعلماء والأئمة من حسن القبول، ودعاء الناس، والهيبة في قلوب الناس، ما لا يمكن للإنسان أن يحصيه أو يصفه؛ والسبب في ذلك بعد فضل الله جل جلاله، بما كان منهم من الخير، وما نشروه من رسالة الله، وبلغوه من أمانة الله، فكان من شكر الله لسعيهم أن وضع لهم القبول بين عباده، فتجد الناس تذكرهم بالجميل، وتثني على ما كان منهم من عملٍ صالحٍ جليل.
وانظر! إلى أئمة السلف ودواوين العلم، كيف عطر الله سيرتهم في الحياة وعطرها بعد الممات، فماتوا وما ماتت علومهم، وماتوا وما ماتت مآثرهم، وما كان منهم من خير ودعوة إلى صلاحٍ وبر، نسأل الله العظيم أن يلحقنا بهم غير خزايا ولا مفتونين ولا مغيرين ولا مبدلين، إنه ولي ذلك وهو أرحم الراحمين.(8/7)
الاستكثار من العمل الصالح
الوصية الأخيرة التي أوصي بها نفسي وكل مسلم يرجو لقاء الله عز وجل: الاستكثار من العمل الصالح، ينبغي للداعية إلى الله جل جلاله أن تكون بينه وبين الله أعمالٌ صالحة خفية، لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، يجعل بينه وبين الله قياماً في الأسحار، أو تكون ساعات يبكي فيها من خشية الله آناء الليل وأطراف النهار، أو تكون له صدقات خفية على الأرامل والأيتام ونحوهم من ضعفة المسلمين، فقد كان أئمة السلف رحمة الله عليهم يحرصون على مثل هذه الأعمال الصالحة، فإذا كان بينك وبين الله عمل صالحٌ خفي، فإنها قربى ووسيلة يحب الله بها عباده، قربة ووسيلة تزيد العبد حباً في الله سبحانه وتعالى، وتستوجب له الدعوات الصالحة، وقد تكون من فقراء المسلمين وضعفائهم بما سد من حوائجهم، وفرج بإذن الله من كرباتهم.
كان أئمة السلف يحرصون على الأعمال الصالحة الخفية، فهذا علي بن زين العابدين رحمة الله عليه مع العلم والصلاح والعمل، كان إذا جن عليه الليل لبس ثيابه، ثياباً مبتذلة وحمل على ظهره الطعام ومضى به إلى بيوت الأرامل والأيتام، وهو إمام في زمانه ولم يعلم أحد أن هذا هو الإمام علي بن زين العابدين، سليل بيت النبوة رحمه الله برحمته الواسعة، وما علم الفقراء والضعفاء أنه هذا الإمام إلا بعد أن توفي، فلما توفي فقدوا من كان يقرع عليهم بيوتهم في جوف الليل رحمة الله عليه.
هكذا يكون الإنسان بينه وبين الله صدقات خفية.
وهذا شعبة بن الحجاج بن الورد الإمام الذي يقول فيه سفيان الثوري رحمه الله: كان شعبة أمير المؤمنين في الحديث.
وكان يهابه ويجله، وفعلاً كان خليقاً بهذا الخير، كان رحمه الله لا يرد سائلاً سأله، حتى إنه دخل عليه رجل وبكى واشتكى أن دابته قد فقدت منه، فسأله: كم قيمتها؟ قال: ثلاثة دنانير، فأدخل يده في جيبه، وقال: هذه ثلاثة دنانير والله لا أملك غيرها!! وكانوا رحمهم الله يضحون ويبذلون، منهم من كان يخرج عن ماله، ومنهم من كان يتصدق بنصف ماله؛ لأن العلم إذا كسر القلوب لله جل جلاله، لم يبالِ الإنسان بالدنيا جاءت أو ذهبت، والذي ضرنا ركوننا إلى الدنيا، فالأعمال الصالحة الخفية تعلم الإنسان الإقبال على الله سبحانه وتعالى، وتزيد من المعاملة الرابحة ولعله أن يصيب دعوة تكون مستجابة عند الله سبحانه وتعالى، وقل أن تجد عالماً يجمع بين العلم والإحسان إلى الناس، إلا وجدته في أعلى المراتب، والقبول له كأحسن وأجمل وأكمل ما يكون، جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل.
والذي ضر كثيراً منا أننا نفقد مثل هذه المواقف؛ لأن هذه المواقف تنبئ عن رحمة، وتنبئ عن انكسار القلوب لله سبحانه وتعالى، فلا يرحم المسلمين إلا الرحيم، ولا يحن عليهم إلا الحنون، فإذا زين الله الإنسان بالعلم، والسعي في تفريج كربات المسلمين، وبذل قيمة هذا الجاه لقضاء حوائجهم والإحسان إليهم؛ وفقه الله وسدده وجعل الخير له وحليفه حيثما كان، فإذا مات كان وراءه الرحمات والدعوات الصالحات من المؤمنين والمؤمنات.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا مفاتيح خير، وأن ينشر بنا كل إحسان وبر، إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(8/8)
الأسئلة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.(8/9)
وصية وتوجيه لطالب العلم إذا أراد أن يدعو إلى الله
السؤال
ما هي وصيتك وتوجيهك لطالبٍ يسر الله له مفاتيح علمٍ، وبعد تخرجه سيرجع إلى بلده حيث لا يوجد فيها علماء راسخون، حتى يواصل معهم والناس محتاجون للدعوة والتعليم؟
الجواب
أوصيه بالإخلاص وما كنا فيه من ضبط العلم وإتقانه، فيراجع ما قرأه ويضبطه، وكل ما تعلمه من القليل والكثير فإن الله سائله عنه، فكل ما تعلمته من القليل والكثير وكل آية وكل حديث وكل علمٍ تعلمته ستقف بين يدي الله عز وجل وتسأل عليه، ترجع وتراجع جميع معلوماتك، وتتأكد منها وتستثبت، وتجدد النية وتصححها، ثم تنطلق للدعوة وتبدأ أول ما تبدأ بنفسك، ثم بمن تعول، ثم تحقق هذا العلم بالعمل وتبدأ بالأخلاق الفاضلة، وتأخذ الناس بالتيسير لا بالتعسير، وبالتبشير لا بالتنفير.
قال صلى الله عليه وسلم لما بعث أبو موسى الأشعري رضي الله عنه ومعاذاً إلى اليمن قال: (يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا)، فييسر الإنسان ويبشر، ولا ينفر ولا يعسر، فإن دين الله يسر.
وتأخذ الناس أولاً بما يعرفون حتى تأتلف قلوبهم حولك، وتذكرهم بالجنة والنار حتى تكون عندهم الرغبة والرهبة، بعد أن توقفهم على النار كأنهم يصعقون من زفيرها، وتوقفهم على ظلال الجنة وأشجارها كأنهم يقطفون من ثمارها، عندئذٍ تبين لهم وتأخذهم بالعزائم، ولذلك أدب الله عباده، تقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (كان أول ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة وذكر النار، ولو نزل لا تسرقوا لا تشربوا الخمر؛ ما آمن أحد).
فإذاً أولاً: نقرب الناس ونثبت قلوبهم، حتى إذا جاءت العزائم جاءت والنفوس قوية.
وأما منهج الدعوة فتبدأ أول ما تبدأ بتوحيد الله؛ لأنه أساس العمل الذي لا يمكن أن يقبل الله عمل عامل إلا به: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
تبدأ بالعقيدة وأصول الدين، تدعو الناس إلى التوحيد والإيمان بالله، وتبين لهم أركان الإيمان، وتقوي في قلوبهم هذا الإيمان وتذكي جذوته، حتى إذا قوي هذا الإيمان كفاك بإذن الله عز وجل، إذا قوي إيمان الناس أصبح الواحد هو الذي يأتيك فيقول لك: ماذا أفعل في نفسي؟ وماذا أفعل في أهلي؟ وماذا أفعل بين أولادي؟ وماذا أفعل في متجري وبيعي وشرائي بعد أن يزيد إيمانه؟ ولذلك أول ما تحرص عليه العقيدة والإيمان، بعد أن تغرس العقيدة في قلبه والتوحيد والإخلاص لوجه الله عز وجل، وتعود الناس على المعاملة مع الله عز وجل بعد ذلك يسهل عليك أن تقودهم إلى الخير، وأن يأخذوا بعزائم الإسلام بقوة، نسأل الله لنا ولك التوفيق، والله تعالى أعلم.
ونسأل الله العظيم في ختام هذا المجلس أن يجزي الشيخ صالح كل خير، وأن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وإن كنا والله نود أن الشيخ يعطر المجلس فأعينوني على الشيخ، وهذا من الأدب مع العلماء والمشايخ.(8/10)
تفسير قوله تعالى: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون)
السؤال
ما هو الفهم الصحيح لتفسير قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44]؟
الجواب
نعم، إذا استحل الإنسان الحكم بغير ما أنزل الله واعتقد أنه حلال أو قال: الشريعة الإسلامية لا يصلح الحكم بها، فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- هو الذي سمى الله بالكفر، أما لو أن إنساناً لم يستحل هذا العمل فلا يوصف بكونه كافراً، مثال ذلك لو أن إنساناً أخذ الرشوة ولم يقض بالحق، فبالإجماع لا يعد كافراً، ولو أن إنساناً جاءه قريبه فحاباه -والعياذ بالله- في القضاء فقضى له وهو يعلم أنه ظالم في حكمه، لا يوصف بكونه كافراً بإجماع العلماء، ولذلك نص العلماء في المستحل دون غيره.(8/11)
الطريقة المثلى للحفظ
السؤال
ما هي أمثل طريقة للحفظ؟
الجواب
يقولون أن شعبة رحمة الله عليه كان إماماً في الحفظ، وكان يقول: ما خططت سوداء في بيضاء، ولا سألت رجلاً أن يعيد علي حديثه مرتين من قوة حفظه، قالوا له: ما دواء الحفظ؟ قال: ترك المعاصي، ما جربت دواءً مثله.
فالعلم نور، ونور الله لا يؤتاه عاصٍ، فالذي يريد أن يقوى حفظه فليستدم طاعة الله، وليتجنب معصية الله، فإن معصية الله تمحق البركة في الحفظ والفهم، حتى إن الإنسان إذا ما نظر إلى حرمة من حرمات الله، وجاء يفتي أو يتكلم بانت في خلجات لسانه، نسأل الله السلامة والعافية، وضره في علمه وفي بصيرته نسأل الله العافية.
فالإنسان يحرص على طاعة الله، فمن الأمور التي تعين على حفظ العلم ووقته: الطاعة والتقوى والالتزام بحدود الله كما قدمنا.(8/12)
حكم الرضاع من امرأة بعد بلوغها سن اليأس
السؤال
هل رضع المرأة بعد سن اليأس مؤثر؟
الجواب
هل هناك حليب؟ إذا كانت يائسة وفيها حليب فهذا من أندر النادر، والسؤال قد يكون من الأسئلة الفرضية، لكن بالنسبة للحكم لا، فإذا ثاب الحليب في امرأة وبقي فيها وكانت متزوجة من قبل، وارتضع منها طفل فإنه يعتبر ابناً لها، وابناً لزوجها الذي ثاب الحليب من وطئه، ومعنى ذلك أنه بقي فيها الحليب من بعد وطئه.(8/13)
العوامل التي تساعد على محاربة الهوى
السؤال
ما هي العوامل التي تساعد على محاربة الهوى وعدم اتباعه؟
الجواب
الأمور التي تساعد على محاربة الهوى: أن تقفل على نفسك جميع الأبواب المخفية لهذا الهوى، فالإنسان الذي يبتلى بالهوى والضلالة -نسأل الله السلامة والعافية- لا بد من وجود أسباب أفضت به إلى ذلك: إما قرين السوء، ولذلك قال الله تعالى حكاية عن عبادة المجرمين: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ * قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَمَا أَضَلَّنَا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ} [الشعراء:94 - 99].
وقال أيضاً: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
فقرين السوء من أعظم أسباب الهوى، ما زين الخمر وحببها إلى شاربها إلا قرين السوء، ولا زين المعاصي وجعلها سهلة ميسرة لمن فعلها إلا قرين السوء، الذي لم يتق الله في أخيه وأورده الموارد، ولذلك يأتي يوم القيامة فيتبرأ منه: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ} [البقرة:166]، فنسأل الله السلامة والعافية، فقرين السوء من أعظم أسباب الهوى.
كذلك أيضاً من أسباب الهوى: الجلوس في مجالس أهل الضلالة، فهذا الإمام مالك رحمة الله عليه المشهودٌ له، حتى يقول عنه عبد الرحمن بن مهدي: جالست سفيان ويحيى -يعني: يحيى القطان - ومالكاً، ما رأيت أعقل من مالك، كان هذا الإمام رحمة الله عليه معروفاً بوفرة العقل، حتى إن الإمام أحمد رحمة الله عليه قال: كان من أكمل الناس عقلاً في فضلٍ وعلم.
وأثنى عليه، فمن عقل الإمام مالك لما قيل له ذات مرة: حدثنا.
فحدثه، فقيل له: عمن حدثت؟ أي: من الذي حدثك بهذا الحديث؟ قال: ما جالست سفيهاً يوماً قط.
فالذي يريد أن يعافيه الله من الهوى لا يجالس السفهاء وأهل الهوى، فمن جالس قوماً تأثر بهم، ففي اليوم الأول ينكر، واليوم الثاني يضعف إنكاره، حتى يصبح يوماً من الأيام لا يفرق بينهم وبين نفسه -نسأل الله السلامة والعافية- فالإنسان الذي يريد أن يسلمه الله من الهوى عليه أن يقفل أسباب الهوى، فيجلس مع أهل الهدى حتى ينقل إلى الهدى، ويكون من أهل الهدى، ويسلم من الردى والهوى، فيحرص الإنسان على هذه الأمور.
أيضاً من الأمور التي تسلم من الهوى: كثرة قراءة القرآن مع التدبر؛ لأن القرآن يأخذ بمجامع القلب فتتجه جميع الشعب إلى الله جل جلاله، فيأتي الشيطان فلا يجد منها شعبة، وتأتي الشهوات والشبهات فلا تجد شعبة؛ لأن جميع شعب القلب اتجهت إلى كتاب الله، وإلى كلام الله.
ولذلك كان السلف الصالح رحمة الله عليهم لا يفترون عن كتاب الله آناء الليل وأطراف النهار، فصاموا به النهار وقاموا به الأسحار رحمة الله عليهم.
فلذلك الذي يريد أن يسلمه الله من الهوى؛ يحرص على هذين الأمرين: الأمر الأول: ألا يجالس أهل الهوى وأهل البدعة وأهل الضلالة، ويحرص على أهل السنة والحق، والذين هم على نور من الوحي من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: أن يحرص على ما ذكرناه من البعد عن قرناء السوء ومن لا خير في مجالسهم.(8/14)
فضيلة العلم الأخروي على العلم الدنيوي
السؤال
ما جاء في وصف العلماء في القرآن هل ينطبق على أصحاب العلم الدنيوي؟
الجواب
لا.
العلم إذا ذكر تشريفاً وتكريماً هو العلم الأخروي: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وأما بالنسبة للعلوم الدنيوية فيوصف صاحبها بكونه باحثاً، ويوصف بعلمه الذي هو فيه، وأما بالنسبة لمن قال: العلم لكل من هب ودب، فهذا فيه انتقاص لشرف العلم، العلم الذي أثنى الله عليه ورفع قدره هو: العلم الأخروي، الذي هو قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم.
أما أن تكون منزلة علماء الدنيا كعلماء الدين فلا!! يأبى الله ورسوله وعباده المؤمنين، وهؤلاء لهم فضل، فنحن نقر للأطباء بطبهم، وللمهندسين بهندستهم، وكل من كان له علم فيه منفعة ومصلحة نقر له بفضله فيه، لكن بالنسبة للذي له شرفه وله مكانته، والذي أثنى الله عليهم ورسوله هم علماء الدين.
وأما علم الدنيا فهذا من الأمور التي تكون بحالها وبحسبها، يقال: هذا طبيب ويبين فضله في علمه، أما أن يوصف بكونه عالماً لا، العلم إذا أطلق كان العلم الأخروي، ولذلك قال الله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7]، فوصفهم بكونهم يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا: {وَهُمْ عَنْ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وهذا في قومٍ ليسوا على إيمان، ومع ذلك من الأمور التي استوى فيها العلماء الآن أن يقال: لفظ العالم والمهندس والطبيب على مرتبة واحدة وهذا خطأ.
وبعضهم يقول: لا، هؤلاء علماء، فيقال: علماء الطب، وعلماء الهندسة، وهذا غير صحيح يقال للأطباء بطبهم ويوصفون بطبهم، لكن العلم إذا أطلق بين المسلمين ينبغي أن تصان هذه الكلمة وتحفظ؛ لأن العلماء لهم هيبة ولهم مكانة، والسلف الصالح من القديم على هذا، إذا قيل العالم فمعروف من هو العالم.
لأنه كان هناك الأطباء وكان غيرهم من علماء الدنيا، وهذا لا ينقص العلوم الدنيوية في نظر الإسلام، خطأ أن يظن أحد أننا إذا قلنا هذا الكلام كأننا ننتقص من العلوم الدنيوية، إنما نقول: إن العلم الأخروي له ميزة في شريعتنا وله مكانة عند أهل العلم وعند المسلمين، لا ينبغي أن يسوى العالم الديني بالعالم الدنيوي، شتان ما بينهما، ولذلك يختص هذا العلم بالعلم الديني، وهو الذي عنى الله عز وجل أهله وسماهم وشرفهم.
جعلنا الله وإياكم منهم.(8/15)
الواجب على طالب العلم تجاه المعلم
السؤال
ما هو الواجب على طالب العلم تجاه المعلم؟
الجواب
العلماء لهم حقٌ كبير على الناس، وبين الله تعالى علو شأنهم فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9]، وأخبر أنه يرفعهم درجات عنده سبحانه وتعالى، فالعلماء لا يستوون مع عامة الناس، وفي تفسير قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69]-جعلنا الله وإياكم منهم- فابتدأ بالأنبياء، ثم قال: "والصديقين" قال العلماء: الصديقون هم العلماء العاملون، فالعالم العامل له حق كبير على الناس.
من حق العالم على طالب العلم إذا كان في مجلس العلم أن يصغي إليه، كما أخبر الله عن الجن: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف:29]، وقال الله لنبيه موسى: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} [طه:12 - 13].
فالواجب الإنصات إليه إذا حدث، وعدم مقاطعته، وعدم الاستهانة برأيه، والاستخفاف بعلمه، فإن العلم شعيرة من شعائر الله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
فالذي يتقي الله يعظم العلماء في الحدود الشرعية، ولا يغلو بهم ولا يتنطع، ولكن أيضاً لا يجحف، فنحن بين الإفراط والتفريط، لا نغلو ولا أيضاً نجحف بعلمائنا بل نحترمهم ونقدرهم إذا تكلموا وبينوا.
الأمر الثاني: العمل بما يدعون إليه، ونشر فتاويهم وعلومهم بين الناس؛ لأن الله ينفع بها ويكون لك مثل أجره، فمن حبك للعالم أن تنشر خيره، فتقول: جلسنا معه فذكر كذا، ونصح بكذا، ووعظ بكذا، فتكون شبيهاً بالعلماء وإن لم يكن عند الإنسان علم فلينشر هذا الخير.
الأمر الثالث: ذكرهم بالجميل، أن يذكر العلماء بالخير؛ لأن انتقاص العلماء عند العامة ثلمة في الدين، فإن العامة إذا احتقر العلماء عندهم ضاع الدين، من يسألون؟ وإلى من يرجعون؟ فينبغي ذكرهم بالجميل وإجلالهم، ولا ينادونهم بأسمائهم وإنما ينادونهم بما شرفهم الله به وكرمهم، ولذلك قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
الذي ينادي العالم باسمه أو يجعل العالم في مرتبة واحدة مع العامة جاهل، فإن الله يبين أنهم لا يستوون، فينبغي إجلالهم، فيقول: قال العلماء يقولون بإجلال العلم ذكره الشيخ والإمام، ويقال: عفا الله عنك وأحسن الله إليك.
فيجلون ويقدرون في الحدود الشرعية.
كذلك من حق العالم إذا كان ميتاً أن يترحم عليه الإنسان، كعلماء الأمة وسلف الأمة الصالح، ويذكرون بالجميل، ويترحم عليهم، فإن الإنسان إذا ذُكر عظام المسلمين من العلماء والأخيار والصالحين وذكرهم بدعوة صالحة قيض الله له من يدعو له، ويترحم عليه، فما جزاء الإحسان إلا الإحسان.
ولذلك كان من منهج السلف الصالح ذكر علماء الأمة من الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان، كما يقول الإمام الطحاوي في عقيدته: أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر، من الصحابة التابعين، لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، فينبغي ذكرهم بالجميل.
كذلك أيضاً من حقوقهم: أن الإنسان يحرص كل الحرص على التأدب معهم في المناقشة والسؤال والاستفتاء، لا يرهقهم ولا يحملهم ما لا يطيقون، ولذلك أمر الله أصحاب نبيه أن يتأدبوا معه حتى في مجالسهم الخاصة، وأن لا يطيلوا الجلوس عنده؛ لأنه ربما كان مشغولاً بما هو أهم وأعظم، فالعالم يحتاج إلى حفظ وقته، وهكذا إمام المسجد والخطيب ونحوهم ممن يوجه الناس، قد تكون عندهم أمور خاصة يحتاج إلى تفرغ لها، ويحتاجون أن يتزودوا، فإذا أصبح الناس لا يبالون بأوقات العلماء، ويرهقونهم بكثرة الزيارات التي لا يصحبها استفادة، فهذا أمر فيه ضرر عليهم، بل هو من إساءة الأدب.
ولذلك من الأمور التي شاعت بين الكثير إلا من رحم الله كثرة زيارة العلماء والجلوس معهم دون استفادة.
فتجدهم يسألون عن حاله، وعن شأنه، ويسألونه عن أموره الخاصة، وشئونه الخاصة، دون أن يسألوا عن علمٍ نافع، حتى مل العلماء من مجالس الناس وأصبحوا يقولون: نجلس ويضيع الوقت في أمور دنيوية.
وقد يجلسون بالساعات، فإذا أراد العالم أن يقوم، قال أحدهم: عندي سؤال، وقال هذا: عندي مشكلة، مع أن العالم يجلس بالساعات، ولا يجد من يسأله.
فينبغي أن نشفق عليهم، وأن نختار الأوقات المناسبة لزيارتهم، وكذلك أيضاً إذا رأينا عليهم العناء والتعب نشفق عليهم، فهذا أيضاً من احترام العلماء ومن الأدب معهم.
كذلك أيضاً من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يراعيها في أدبه مع العلماء، أن يشعرهم بالإجلال والتقدير، وبالسلام عليهم وتفقد أحوالهم، فإن كانوا مرضى نزورهم ونعودهم ونقضي حوائجهم؛ لأنهم مشغولون بمصالح المسلمين، ومن قضى حوائجهم وسعى في إسداء الخير إليهم أعانهم على ما هم فيه من الخير.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل، وأن يوفقنا إلى حب علمائنا والنصح لهم، وذكرهم بالجميل والإحسان إليهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه.(8/16)
كيفية تسديد الدين عند تغير سعر العملة
السؤال
في بلادنا تنقص العملة نقصاناً كبيراً، فمثلاً: قبل ست سنوات كانت وحدة العملة في بلادنا تساوي اثنا عشر دولاراً والآن تساوي ستمائة دولار، فهل يجوز أن يشترط على الإنسان عند الدين تقويمها عند الأداء؟
الجواب
لا يجوز، من أخذ ديناً بأي عملة فإنه يرده بنفس العملة، سواءً ارتفعت أو انخفضت واجتهد بعض أهل الرأي فقالوا: يجوز أن ينظر إلى قيمة العملة ويعطيه إياها، وهذا باطل من وجوه.
أولها: أن الله تعالى يقول: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، فدلت هذه الآية على أن صاحب الدين، يستحق رأس مال الدين بدون تفريق بين غلاءٍ ونقص.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث عائشة رضي الله عنها عند أبي داود: (الخراج بالضمان) وهو حديث صححه غير واحدٍ من العلماء ومتنه مجمع عليه، ومعناه: أن الربح لمن يضمن الخسارة، يقولون: من يتحمل الخسارة يأخذ الربح، فنقول: أرأيت لو أن هذه العملة أصبحت قيمتها بأضعاف أضعافها لطالبك صاحب الدين أن تدفع له نفس العملة، قالوا: كما أنه يطالبك عند غلائها بنفس العملة أيضاً تعطيه نفس العملة عند نقصها، للقاعدة: "إن الغنم بالغُرم".
ولذلك أصول الشريعة تقتضي أن تسدد بنفس العملة ارتفعت أو انخفضت، وهذا وارد، فإن الإنسان قد يأخذ الشيء وقيمته شيء ثم يرده وقيمته أدنى وقد يرده وقيمته أعلى فليس لك إلا مثله، ولأن صاحب الدين قد رضي أن يأخذ هذا القدر بعد سنوات، سواءً كان بغلاءٍ أو كان بنقص.
لكن لو أن إنساناً أعطاك ديناً فأخذت مائة ألف فإن له فضلاً عليك، ومن شكر المعروف أن ترد جميله، فإذا نقصت هذه القيمة تقول له: هذا مائة ألف التي أعطيتني إياها وهذه خمسمائة من عندي، أو هذه ألف من عندي، فقد ثبت أن رجلاً قال: (يا رسول الله! لا نجد إلا خياراً رباعية، قال: أعطه، فإن خير الناس أحسنهم قضاء)، تعطيه من باب المكافئة على معروفه، ويجوز رد الدين بزيادة إذا لم يكن بشرط؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن خير الناس أحسنهم قضاء)، فنحن نخرج من الإشكال ونقول له: هذه مائة ألف التي استدنتها منك، وأنت صاحب فضل عليَّ أشكره ولا أكفره وأذكره ولا أنساه، هذه عشرة آلاف مني لك جزاك الله خيراً، وأعظم لك الأجر، ففي هذه الحالة يكون الإنسان قد وفى وكفى وخرج من الشبهة؛ لأنه خرج من الحرام والشبهة ببينة من أمره.(8/17)
حكم دفع مبلغ مقابل الإقالة من البيع
السؤال
رجل اشترى سيارة من آخر وبعد يومين طلب المشتري الإقالة، لكن البائع رفض أن يقيله، فتبرع المشتري بدفع ألف لإعادة السيارة، فما الحكم، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
مسألة الإقالة فيها جانبان: الجانب الأول: المستحب والمندوب للمسلم إذا جاءه أخوه المسلم يسأله الإقالة في بيع أن يقيله، فإن الإنسان إذا رحم أخاه رحمه الله، والأغنياء يبتليهم الله بمثل هذه المواقف فمن شكر نعم الله عز وجل على الإنسان أن يقيل النادم.
والإنسان ربما استعجل وقبل منك السيارة أو الأرض أو العقار، ثم رجع إلى بيته فتذكر ديونه أو تذكر همومه وغمومه وتذكر أنه سيحمل عبئاً كبيراً، فيأتيك وهو مكروب ويقول لك: يا أخي! فرج عني عسى الله أن يفرج عنك، إني نادم، رد عليَّ بيعتي فإذا رحمته رحمك الله جل جلاله: (من أقال نادماً أقال الله عثرته يوم القيامة) لأن هذا المتن له ما يشهد له من المتون الصحيحة: (من نفس عن مؤمنٍ كربة نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة)، فأجمع العلماء على فضل إقالة النادم.
الأمر الثاني: مسألة هل يجوز أن يدفع له الألف ويتنازل؟ هذه المسألة مبنية عند العلماء على مسألة: هل الإقالة بيع مستأنف أو هي فسخ للبيع الأول؟ وتوضيح ذلك أنه إذا قال: أقيلك وأعطني ألفاً، فإننا إن قلنا: بيع صح وجاز، كأنه اشترى السيارة بمائة ألف ثم باعها له مرة ثانية بيعاً ثانياً بالإقالة بتسعين ألفاً، هذا لا حرج فيه؛ لأنه باع ما يملك، فهو اشترى بمائة من البائع ثم باع المشتري بتسعين، فأشبه ما لو باعها للغير، فهذا لا حرج فيه إن قلنا إنه بيع.
أما لو قلنا أن الإقالة رد وفسخ للبيع فهنا إشكال، كأنه يدفع له المائة ألف مقابل التسعين الألف، ففيها شبهة، ولذلك شدد العلماء على هذا الوجه الثاني، إذا قال له: خذ من المائة ألف ألفاً وأقلني قالوا: كأنه يقول له: أعطني المائة ألف وفي مقابل الإعطاء خذ ألفاً، فبادله المال بالمال متفاضلاً وقيمة المال في السلعة، ولذلك ترد فيها الشبهة في هذه الحالة، فالأقوى أن يبيعها عليه والأفضل أن يقول له: أبيعكها بتسعين ألفاً هل تشتريها مني؟ فينشئ عقد البيع؛ لأنه لو أنشأها بصيغة البيع فبالإجماع يصح البيع وينعقد، والله تعالى أعلم.(8/18)
حكم ترك الدعوة بحجة الخوف من عدم العمل بما يدعو إليه
السؤال
يقول بعض طلاب العلم: إني أخشى أن أدعو إلى عمل ولا أعمله فآثم على ذلك، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
بعض طلاب العلم يمتنع من الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الخير، يقول: لأني لا أعمل، وهذا فيه تفصيل؛ لأن الإنسان إذا عجز عن العمل لعذرٍ يقوم به، أو لم يستطع أن يفعل هذه الأعمال الصالحة لعذر يقوم به؛ فإنه بالإمكان أن ينال الخير بالدعوة إلى الخير، ولذلك الناس يختلفون.
فمثلاً: لو أن إنساناً كان قليل ذات اليد ليس عنده مالٌ يتصدق به، فإنه لا يقول: لا أدعو الناس إلى الصدقة؛ لأنني لا أتصدق، بل يدعو الناس إلى الصدقة.
ولذلك المراتب مختلفة: فأعلاها أن يجمع الله للإنسان بين الدعوة لفضائل الأعمال والعمل بها، ودونها أن يدعو وأن يمنع ويحال بينه وبين العمل بالعجز، فيكتب له الأجر إن شاء الله تعالى، كما في الصحيح من قوله عليه الصلاة والسلام: (هذا بعمله وهذا بنيته).
فكون الداعية يمتنع عن الدعوة إلى الخير لقوله: لا أعمل في فضائل الأعمال، هذا محل نظر، بل ينبغي عليه أن يدعو حتى ينال الأجر بالدعوة، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يندب أصحابه إلى دعوة الناس إلى الخير؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان وأصحابه في قلة من ذات اليد، وكان يأمر بالصدقات ويحث عليها صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبتت في ذلك الأحاديث الصحيحة.
ومنها قصة غزوة تبوك صلوات الله وسلامه عليه نادى المؤمنين إلى الإنفاق، فإذا عجز الإنسان عن العمل الصالح لقصور به أو ضيق وقت، أو وجود مشاكل أو تحمل أمور تشغله عن القيام بعمله، فلا يمتنع من أمر الناس بالخير، وهل كل إنسان يعمل بكل ما يدعو إليه؟ هذا أمر من الصعوبة، لو قلنا إنه لا يدعو إلا بما عمل، ولكن يكون في نفسه أنه ترك العمل لعذر.
أما -والعياذ بالله- إنسان يدعو الناس إلى الخير وهو زاهدٌ فيه هذا هو الذي فيه الوعيد -نسأل الله السلامة والعافية- عنده مال ويقول للناس: تصدقوا فإذا دعي للصدقة انكف وانزجر -نسأل الله السلامة والعافية- فهذا هو الذي فيه الوعيد، وفيه حديث الرجل الذي تندلق أقتابه -أمعائه- في النار فيلتف عليه أهل النار ويقولون: (يا فلان! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: نعم، كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه) نسأل الله السلامة والعافية! فهذا يقع بأسوأ الأحوال يوم القيامة.
لذلك إذا كان الإنسان تقصيره من استخفاف ونحو ذلك فهذا هو الذي يخشى عليه، أما إذا كان لضيق ونحوه فإنه معذور.(8/19)
الأمور التي تعين على الخشوع
السؤال
كيف يكون الشاب المسلم دائم الخشوع لله تعالى مع ما يعتري قلبه من القسوة؟
الجواب
الله المستعان أما الخشوع فهذا من أعظم الأمنيات وأجلها وأكرمها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم للصحابة: (والذي نفسي بيده، لو أنكم تستديمون على ما أنتم عليه عندي لصافحتكم الملائكة عيانا، ولكن يا حنظلة ساعة وساعة)، من منا يستطيع أن يبقى خاشع القلب دائماً، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إنه ليغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم ... )، فهذا يدل على أن الإنسان أين ما كان فيه بشرية وفيه ضعف، ولكن العاقل الحكيم الذي يتعاطى الأسباب في القرب من الله، فمن الأمور التي تعين على الخشوع: أولها وأعظمها: الدعاء، قل: اللهم إني أسألك قلباً خاشعاً اللهم أصلح لي قلبي اللهم اقذف في قلبي نور الخشوع، واجعلني من أهله ونحو ذلك من الدعاء الذي ترجو به رحمة الله، فإنه نعمة لا يعطيها إلا الله جل جلاله.
الأمر الثاني الذي يعين على الخشوع: الكسب الحلال والمال الطيب، فمن طاب مطعمه طاب قلبه وصلح، فإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يصل إلى الحلال، فليبتعد قدر المستطاع عن الحرام وليجاهد نفسه، فإن الله يرزقه من الخشوع على قدر جهاده.
الأمر الثالث مما يعين على الخشوع: قيام الليل، وتدبر القرآن في الأسحار، والبكاء في جوف الليل، وتذكر الذنوب والإساءة والعيوب، فإنها تكسر القلوب لله جل جلاله.
ومما يعين على الخشوع: قراءة سيرة السلف الصالح وتأمل أحوالهم، وما كانوا عليه من الخوف الدائم من الله سبحانه وتعالى.
كذلك أيضاً مما يعين على الخشوع: زيارة الموتى، وتشييع الجنائز، والنظر في أحوال أهلها من الأغنياء والأثرياء والضعفاء والفقراء.
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها هل راح منها بغير القطن والكفن فإذا نظر الإنسان إلى جنازة غني أو ثري كيف يوسد في قبره، وكيف يترك في لحده، وكيف آل إلى هذا المكان، انكسر قلبه لله جل جلاله وأصابه الخشوع وأحس أنه في ذلة واستكانة لله سبحانه وتعالى.
كذلك أيضاً مما يعين على الخشوع: البحث عن العلماء الأتقياء، الذين فيهم ورع وصلاح، وتمسك بالكتاب والسنة، الذين إذا نظرت إليهم ذكرك منظرهم بالله، وإذا استمعت إليهم أحيا الله قلبك بما يكون منهم من ذكره وشكره سبحانه وتعالى.
مما يعين على الخشوع: البعد عن المظالم وأذية الناس والشرور بجميع أنواعها.
مما يعين على الخشوع: كف البصر وكف الجوارح التي فيها فتنة، فإن الإنسان إذا حبس جوارحه لله جل جلاله قذف الله في قلبه نور الخشوع، وكان من الخاشعين، هذه من الأمور التي تعين على خشوع القلوب وصلاحها، نسأل الله العظيم أن يمن علينا بهذه النعمة العظيمة، وأن لا يسلبنا لذة الخشوع إنه ولي ذلك والقادر عليه.(8/20)
الأمور التي تعين على حفظ الوقت
السؤال
كيف يحفظ الإنسان وقته إذا كان من طلاب العلم؟
الجواب
على العموم حفظ الوقت لا يكون إلا إذا هيأ الإنسان نفسه لحفظ هذا الوقت، وإذا أراد الإنسان أن يحفظ وقته فليستكثر من الطاعة، فإن الإنسان إذا كثرت طاعته بارك الله له في عمره.
يقولون: إن حفظ الوقت من البركة التي يجعلها الله في العمر، ولذلك من أكثر الناس بركة في أوقاتهم هم العلماء والأخيار، والذين هم على استقامة على دين الله عز وجل يبارك الله في أوقاتهم، ولذلك تجد العالم يعيش مدة وجيزة ولكن يحيي الله عز وجل به أمماً.
كذلك من الأمور التي تعين على حفظ الوقت من الأعمال الصالحة: صلة الرحم وبر الوالدين: (من أحب منكم أن ينسأ له في أثره، ويبسط له في رزقه، فليصل رحمه).
صلة الرحم تضع البركة في العمر، ويبارك الله بها في الوقت، وطالب العلم الذي يقصر في صلة الأعمام والعمات والأخوال والخالات ونحوه من القرابات يحرمه الله عز وجل بسبب هذا الذنب.
قال سفيان الثوري: أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل ستة أشهر، فقد يقصر الإنسان في صلة رحمه أو بر والديه فينزع الله عز وجل الخير من وقته.
من الأمور التي تعين على حفظ الوقت: كثرة ذكر الآخرة وتذكر الإنسان أنه ستمر عليه مثل هذه اللحظة، ومثل هذه الساعة وهو رهين الأجداث والبلى، قد أقبل على الله جل وعلا، بما كان منه من خيرٍ أو من شر، فإن هذا يهون عليه هذه الدنيا، ويجعل عمره في نظره قصيراً، وإذا أحس الإنسان أن عمره قصير استنفذه فيما فيه الخير، واستنفذه فيما فيه الطاعة أو البر.
فإذا حرص الإنسان على كثرة ذكر الآخرة بارك الله له في وقته، وأعانه على تنظيمه.
ولا أستطيع أن أضع منهجاً معيناً لحفظ وقت طالب العلم؛ لأن الأمور تختلف، فلو قلت لك مثلاً: قم من الصباح الباكر من بعد صلاة الفجر وافعل كذا وكذا، ربما كانت أوقاتك لا تتهيأ في مثل هذا الوقت، ولو قلت احفظ آخر النهار وأدمن السهر، ربما كانت أحوالك لا تعين على ذلك.
فوضع منهج معين من الصعوبة بمكان، وأنا ألاحظ أنه من الخطأ أن نضع للناس منهجاً معيناً، إنما نضع لهم القواعد تأسياً بالكتاب والسنة، ونقول له: احرص على ما ينفعك، واحرص على ضبط وقتك والله يعينك.
فإذا تهيأت أسباب حفظ الوقت فإن الله يعين.
لكن ننبه على أمور مهمة تضيع الوقت، منها ومن أعظمها: قرناء السوء، وقد يكون الإنسان ولو كان قريناً صالحاً فإنه قد يكون ليس عنده عقل، وقد يكون ممن يضيع أوقات الناس فيما لا خير فيه.
ولذلك إذا أردت أن يبارك الله لك في الوقت، ابحث عمن حولك فإذا وجدت الذين حولك من الصالحين والأخيار، الذين يعينون على حفظ الوقت فاعلم أن وقتك سيحفظ.
ومن الأمور التي تعين على حفظ الوقت في هؤلاء الأخيار: أن يكونوا من الناصحين، أهم شيء في حفظ الوقت بعد توفيق الله: وجود القرين الصالح الذي لا يغشك، فإذا رآك على خيرٍ سددك وثبتك، وإذا رآك على تقصير نبهك ووعظك وذكرك فأحيا الله قلبك بهذا، ولذلك قال بعض السلف: أخوف الناس فيك من نصح لك، فإذا رزقك الله قريناً صالحاً حفظ وقتك؛ لأنه إذا رآك تضيع الوقت نصحك وذكرك بالله عز وجل.
إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيك شمله ليجمعك هذا هو الأخ الصالح الذي إذا نسيت الله ذكرك، وإذا ذكرت الله أعانك، فابحث عن القرناء الصالحين، والذي ضرنا اليوم الجلساء والخلطاء، الواحد منهم يجلس الساعات قل أن يذكر الله جل جلاله، وقل أن يسدي إليك خيراً في دينك ودنياك وآخرتك.
تفقد من حولك، ولو كانوا من طلاب العلم، فبعضهم إذا جلست معه تقوم وإيمانك أزيد من ذي قبل، وتقوم وأنت قد استفدت الحكم والفوائد، وكان لك من الخير ما الله به عليم.
فإن ضاقت عليك الدنيا، ولم تجد قريناً صالحاً تستفيد منه ويفيدك ويعينك على ضبط وقتك، فانتقل إلى جلساء أرباء لا يملون ساعة، وهم العلماء الماضون، تجلس مع كتبهم وعلومهم النافعة.
وقد كان الوالد رحمه الله لا يحب ضياع الوقت، حتى كانت تمر عليه في بعض الأحيان مناسبات لبعض القرابة أو لقاء مع العلماء فيخرج، والله قل أن أراه يخرج إلا وكتابه معه، فإن وجد المجلس فيه علم نافع ومذاكرة جلس، وإن وجد القيل والقال والغيبة مضى إلى ظل شجرة فجلس يقرأ حتى يحضر الطعام فأصاب من الطعام وأجاب الدعوة ثم انصرف.
لا يسمح لأحد أن يضيع عليه وقته، وإذا جاء أحد وقال له: فلان يقول وفلان، يقول له: اسمع! إما أن تستفيد أو تقوم عني، لا يأذن لأحد أن يضيع عليه وقته، وكان في بعض الأحيان يعتب على من يذكر أحداً عنده بسوء، ويقول له: لا تذهب عليَّ حسناتي، لا آذن لك أن تأخذ من حسناتي.
فهكذا طالب العلم، إن وجدت الذي حولك يأتيك بعلم نافع يقول: جلست مع العالم الفلاني فقال وفعل فأكرم به وأنعم به من أخٍ وصديق، وأما إذا جاءك وقال: قال فلان وقال علان بالغيبة والنميمة، ويفسد قلبك على المؤمنين والمؤمنات فاحذره.
فصلح قرين السوء للقرين كصلح بين اللحم والسكين فالإنسان الذي يخالطك ويضيع عليك الوقت هذا لا خير فيه، ولو كان من أقرب الناس منك، فتفقد من حولك، إن وجدت وقتك يضيع فيما فيه فائدة ومنفعة فاعلم أن الله قد قيض لك الخير بالقرناء الصالحين، وإن وجدت على العكس من ذلك فاتركهم والله يبدلك خيراً منهم، والله تعالى أعلم.(8/21)
حكم تغيير لون الشعر بالأصباغ
السؤال
هل يجوز صبغ الرأس للمرأة بما يسمى بالميش؟
الجواب
الميش يغير خصلة الشعر، ويؤثر فيها، ويعتبر من تغيير الخلقة، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لعن الواشرة والمستوشرة والواصلة والمستوصلة وقال: والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله)، فتغيير لون الشيء من تغيير الخلقة، لما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (غيروا هذا الشيب) فوصف صبغة الشيب بكونه تغييراً، وقال: (المغيرات خلق الله)، فلا يجوز تغيير لون الشعر من السواد إلى الأحمر الذي هو الصبغ؛ لأن المسألة راجعة إلى الاعتقاد كما يقول العلماء.
قالوا: كيف يرد اللعن في النمص والوشم، قالوا: لأن المرأة حينما تشر الأسنان -بمعنى: تبردها- كأنها لا ترضى عن طول أسنانها، فتريد أسناناً قصيرة، فأصبحت مسألة عقدية: وهي عدم الرضا بما وهب الله، وكذلك الواصلة نفس الشيء.
وكذلك أيضاً: الوشم بما يكون من تغيير بشرة الإنسان التي خلقه الله جل وعلا عليها، فتغيير اللون؛ لأنه يتحكم في نفس خصلة الشعر، تغيير اللون ولو كان مؤقتاً بالنسبة للميش لكنه هو يغيره، ولذلك نهي عن صبغ اللون بالسواد، فالمرأة حينما تأتي إلى سواد شعرها ولا ترضى وتنقله إلى الحمرة أو العكس، فإن هذا يعتبر من عدم الرضا بخلقة الله عز وجل.
فعلى الصحيح من أقوال العلماء أن الميش يعتبر من التغيير؛ لأن ظاهر الحديثين يدل على ارتباط هذا التغيير بالمحرم، وذلك في قوله: (غيروا هذا الشيب) وقوله هناك: (المغيرات لخلق الله) فعلى المرأة أن تحمد نعمة الله عز وجل عليها، وما أعطاها من لون شعرها وتشكره على ذلك، ولا حاجة إلى هذه الأصباغ، والله تعالى أعلم.(8/22)
مقدار الكفارة على من اشتركوا في قتل نفس
السؤال
اشترك اثنان في حادثٍ خطأ، وكان النسبة ثلاثين في المائة على أحدهما، وعلى الآخر سبعين في المائة، فما الحكم في كفارة القتل؟ هل يشتركان في قيمة العتق بالنسبة للرقيق أو ماذا؟ وما الحكم إذا عجز أحدهما أو كلاهما عن العتق وهل يجوز الصيام أو لا؟
الجواب
هذه المسألة إذا اشترك اثنان أو ثلاثة في قتل خطأ؛ فإنه يلزم كل واحدٍ منهما أن يكفر؛ لأنه قاتل من وجه، ولذلك لو اشترك الثلاثة أو الأربعة في قتل العمد قتلوا جميعاً، ولذلك الأصل عند العلماء أن الكفارة لا تتجزأ، وعلى هذا فإنه تلزمهم جميعاً، كل واحدٍ منهم في خاصة نفسه، أن يكفر كفارة مستقلة، وتجزؤ الخطأ لا يؤثر في الكفارات، والله تعالى أعلم.
السائل: لو كان أحدهم قادراً على العتق دون الآخر فهل يلزم من كان قادراً على العتق؟ الشيخ: هذا طبعاً إذا قلنا بالاشتراك، أما إذا قلنا أن كل واحدٍ منهم مطالب بالتكفير فإنه إذا عجز عن العتق ينتقل إلى الصيام، والله تعالى أعلم.(8/23)
حكم من أوقف مزرعة ثم تلفت
السؤال
رجل أوقف نخلاً ثم كبر هذا النخل ومات، هل له أن يستفيد من الأرض؟
الجواب
إذا كانت المزرعة قد أوقفها الإنسان ونصب الوقف على الأرض، فإن الوقفية لا تزول؛ لأنه أوقف العين وهي الأرض، وأوقف غلة ما على الأرض من النخل، وانقطاع الأصل التي تكون منه الغلة وهو النخل لا يقتضي زوال الوقفية عن الأرض، فالأرض سبيل محبسة إلى يوم القيامة.
وأما بالنسبة لبيعها واستبدالها فهذا يحتاج إلى القضاء فلا يكون بالفتوى وإنما يكون بالقضاء، يرفع إلى القاضي وحكم القاضي هو الذي يرفع الوقفية، وذكر العلماء أن من المسائل التي يحكم فيها القاضي بارتفاع الوقفية، أن تتعطل مصالح الوقف، فإذا تعطلت مصالحه، مثلاً: أوقف مزرعة لكي تكون غلتها للفقراء والمساكين، فإذا جفت الآبار ولا يمكن أن تبقى هذه المزرعة؛ فإن القاضي يحكم باستبدالها فتباع ويشتري مزرعة أخرى، يمكن معها تحقيق ما قصده الواقف من وقفه.(8/24)
حكم التراجع عن الوقف
السؤال
رجل أوقف داراً وهو لا يعلم بأحكام الوقف، ثم افتقر هذا الرجل هل له الاستفادة من وقفه وبيعه؟
الجواب
الوقف لا يباع ولا يوهب، وفي الصحيحين من حديث عمر أنه لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إني أصبت أرضاً بخيبر هي أحب مالي) انظروا كيف كان الصحابة رضوان الله عليهم، وكيف كان السلف الصالح لما جاءتهم الدنيا لم يتصرفوا بها، وإنما انطلق إلى رسول الله وقال: (يا رسول الله، هي أحب مالي فماذا تأمرني؟) يعني: بماذا تشير عليَّ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: (إن شئت حبست أصلها).
فأجاز له أن يحبس الأصل وأن يسبل المنافع، قال: (إن شئت حبست أصلها فتصدق بها عمر -على ألا تباع ولا توهب- على الفقراء والمساكين وابن السبيل) فهذا يدل على أن الأرض إذا أوقفت أنه لا يملك الإنسان التصرف فيها لا ببيع ولا بهبة، وإنما يباع الوقف في حالة مستثناه وهي: أن تتعطل مصالحه، ثم ينظر القاضي ويحكم بانتقاله إلى ما يمكن أن يحقق مقصود الواقع مما هو شبيه به.
وأما بالنسبة له هو فإن المال قد خرج عن ملكه، ولذلك لا يرجع إليه، وإذا رجع إليه فإنه يعتبر متصرفاً في مالٍ لا يملكه، فلو أن إنساناً أوقف أرضاً أو مزرعةً على المساكين، ثم أزال هذه الوقفية بسبب فقره فباعها وأخذ ثمنها، فالمال سحت وحرام؛ لأنه لما أوقف الأرض خرجت ملكية الأرض عن ملكيته، والأوقاف بإجماع العلماء لا تملك، ولا يمكن للإنسان أن يهبها للغير.
وعلى هذا فإن هذا الدار قد خرجت عن ملكه، وكونه لا يعلم بأحكام الوقف لا يبيح له أن يتصرف في الوقف، فما دام أنه قد سلبها في سبيل الله فقد خرجت من يده، ولا يجوز له أن يرجع فيها إذا كان وقفاً بأي حالٍ من الأحوال.
إنما اختلف العلماء فيما إذا وهب لشخصٍ، كأن يهب لفقيرٍ على سبيل الصدقة أو على سبيل الإحسان، ثم يرجع في هبته، والصحيح أن الهبة تملك بالقبض، وأنه ليس من حقه أن يرجع على أصح أقوال العلماء رحمة الله عليهم.
أما الوقف فلا، فإن الوقف لا يملكه، فهو قد خرج عن ملكيته وهو لله عز وجل.(8/25)
الطريقة المثلى لزيادة الإيمان
السؤال
ما هي الطريقة المثلى لزيادة الإيمان؟
الجواب
الطريقة المثلى لزيادة الإيمان: أن يعرض الإنسان نفسه على كتاب الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، ومن عرض قلبه على كتاب الله عز وجل أصلح الله بذلك العرض قلبه، وإذا صلح القلب صلح الجسد كله، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)، فمن عرض قلبه على كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، أصلح الله شأنه ووفقه فازداد من الإيمان.
من الأمور التي تزيد في الإيمان: كثرة ذكر الآخرة، فإن الإنسان إذا أكثر من ذكر الموت والبلى، وقرب مصيره إلى الله جل وعلا، هانت عليه الدنيا وعظمت في عينه الآخرة، وأصبح همه وغمه أن يحسن لقاء الله جل جلاله، ولذلك أثنى الله على الأخيار والصفوة الأبرار، فذكر أنهم لا يفترون عن ذكر الآخرة، وأخبر أنه خص بهذا الذكر من اصطفى واجتبى من عباده المؤمنين، فقال في كتابه المبين: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46]، فالإكثار من ذكر الآخرة يزيد في إيمان العبد، ويجعله في توجه واستقامة وطاعة لله سبحانه وتعالى.
من الأمور التي تزيد في إيمان العبد: قراءة سير السلف الصالح رحمة الله عليهم، فإن الإنسان إذا قرأ سيرة الأئمة والأخيار اهتدى بهديهم وأحبهم، وأحب ما كانوا عليه من الخير وتشبه بهم.
كذلك أيضاً مما يزيد في الإيمان: معاشرة الصالحين، والحرص على حلق الذكر ومجالس العلماء، فإن مجالسة العلماء تزيد في العلم، ومجالسة الحكماء تزيد في الحكمة، ومجالسة الأخيار تزيد في الخير، ولذلك ينبغي للإنسان ألا يمر عليه يوم إلا وقد جلس في مجلسٍ يذكر فيه الله جل جلاله، فمن جالس العلماء كان من القوم الذين لا يشقى بهم جليس، وكم من أقوامٍ عظمت ذنوبهم فجلسوا في مجالس العلماء، فقاموا قد بدلت سيئاتهم حسنات.
ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: (قالت الملائكة: إن فيهم فلاناً عبداً خطاءً، كثير الذنوب مر فجلس معهم، فيقول الله جل جلاله: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
فمن جالس الأخيار لا يشقى، من جالس الأخيار والصالحين وأحبهم وأحب ما يعملون به من طاعة الله أسعده الله، وهذا من دلائل السعادة، قال ابن مسعود رضي الله عنه: [ثلاث من سعادة المؤمن: كثرة الصلاة، وكثرة الصيام، وصحبة العلماء]، ثلاثٌ من سعادة المؤمن: كثرة الصلاة؛ لأنها تزيد صلة العبد بربه، ويحفظه الله بها ويرفع درجته ويزيده نوراً، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (الصلاة نور).
وكثرة الصيام؛ لأن الصيام يحبس عن الشهوات، ويضيق مجال الشيطان، ويزيد من تقوى الله جل جلاله، ومن امتنع عن الطعام والشراب الحلال بالصيام يمتنع عن الطعام والشراب الحرام، ومن امتنع عن الشهوة الحلال بصيامه يمتنع عن الشهوة الحرام.
أما الأمر الثالث: فصحبة العالم؛ لأن صحبة العلماء بصيرة ونور، وحبهم والحرص على مجالسهم خيرٌ كثير، نسأل الله أن يرزقنا حبهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من أحب قوماً حشر معهم)، فنسأل الله أن يرزقنا حبهم، وأن يرزقنا الحرص على مجالسهم والاهتداء بهديهم.(8/26)
وصايا للمدرسين
السؤال
فهذا السؤال حاصله أنه يدور حول ما كنا فيه من النصيحة لبعض الخريجين، لكن هنا يقول: خاصة أن معظمهم مدرسون في المدينة وخارجها نرجو نصيحتك لهم في تنظيم الوقت في طلب العلم والدعوة؟
الجواب
أما بالنسبة للتدريس والتعليم فهو من أفضل الأعمال، وأحبها إلى الله سبحانه وتعالى، وتعليم أبناء المسلمين وبناتهم مهمة عظيمة صعبة إلا أن ييسرها الله، وشاقة إلا أن يسهلها الله على العبد، فالأمور التي أوصي بها الإخوة الذين شرفهم الله وكرمهم بحمل هذه الأمانة العظيمة وهي: الضبط في العلم والإتقان، فكل من تقلد أمانة التعليم عليه أن يضبط هذا العلم، وأن يكون على بصيرة، ولا يقف أمام طلابه وإخوانه إلا وهو على بينة وبصيرة، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، على الإنسان إذا وقف أمام الناس يعلمهم أو يوجههم أن يكون على أرضٍ ثابتة، والحرص على الزيادة من العلم، فلا تقف عند التخرج أو عند المعلومات التي وفقك الله إليها، ولكن تجاوز ذلك إلى الضبط والتحصيل والزيادة في العلم.
والأمر الثاني الذي يوصى به من تقلد أمانة التعليم: الصبر في التوجيه، خاصة أثناء إلقاء الدروس والمواد على الطلاب، فإن الطلاب ربما تكون منهم الهنات والزلات، ولربما يكون منهم التقصير في الضبط والإتقان، ولربما يأتيك العيي بعيه، ويأتيك أيضاً الجاهل بجهله، فيحتاج منك إلى صبر وحلم ورفق، وأن يكون صدرك منشرحاً للقيام بهذه الأمانة على أتم الوجوه في تعليمه وتوجيهه وتربيته، والصبر من أهم الأمور التي تعين على نجاح المعلم في تعليمه.
وينبغي كذلك أن يقرن هذا الصبر باحتساب الأجر عند الله سبحانه وتعالى، فكل من احتسب أجره عند الله، وعلم أنه سيتعب وينصب وأن الله سيأجره، هانت عليه المصاعب والمتاعب، وأصبح قوياً في تحمل هذه المشاق، فأوصي بالصبر! الأمر الثالث الذي أوصي به: أن يقرن هذا العلم بالتربية، فكوننا نعطي الأبناء والبنات معلومات جافة، بعيدة عن الروحانية والتربية المأخوذة من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة الثابتة عنه، هذا أمرٌ محل نظر.
فلا بد أن نربيهم؛ بالآداب والأخلاق وهدي السلف الصالح رحمة الله عليهم، في أدب طلبة العلم، وأدبهم أيضاً في الحقوق العامة، وحقوق الوالدين والأقارب، فينبغي أن يخرج من بين يديك هذا الابن وقد جمع بين العلم وبين التربية، فلا يكفي أن نلقي هذه المعلومات هكذا سرداً، لا، بل ينبغي أن نقرنها بالتربية لأبناء المسلمين وبناتهم.
وهذه التربية تحتاج منا إلى تفقد مشاكل الأبناء والبنات والطلاب والطالبات، والنزول لهم بالتواضع والحلم، فلا يستطيع الطالب أن يبث مشاكله، ولا أن يبدي ما في نفسه إلا إذا وجد معلماً حليماً رحيماً، ووجد يداً حانية تأخذه بلطف وحنان ورحمة.
فإذا وفق الله المعلم لذلك جمع الله له بين العلم والتربية، وكان لعمله خيرٌ كثير، وهذا أمر قلَّ من يوفق له، قضية أن نفتح صدورنا إلى مشاكلهم وما يكون لهم من أمور تحتاج إلى توجيه وإرشاد وتربية.
الأمر الرابع: التعاون والتكاتف والتعاطف والتراحم والتواصل بين طلاب العلم، المعلمون والمعلمات يحتاجون دائماً إلى أن يتصل بعضهم ببعض لكي يستفيد بعضهم من بعض، وكون الإنسان يحس أنه في كمال وأنه في غنىً عن إخوانه فإنه في نقص، ولذلك قالوا: من اعتقد الكمال فقد نقص، وأصلاً الإنسان من حيث هو ناقص إلا أن يكمله الله عز وجل، ولذلك ينبغي أن يحرص المعلمون على الاستفادة من إخوانهم وأن يتواضعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، ونسأل الله العظيم أن يأخذ بالأيدي إلى ما يحبه ويرضاه، والله تعالى أعلم.(8/27)
واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله
نعم الله كثيرة لا تحصى، وإن من أعظمها معرفة كتاب الله تبارك وتعالى، ذلك الكتاب الذي احتوى على مواعظ وقوارع تقرع الأسماع والقلوب، ومن هذه المواعظ قوله تعالى: (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ)؛ حيث بين الله فيها أنه لابد للإنسان من رجوع إلى الله للحساب ولفصل القضاء، ثم إلى جنة أو نار، فمن اتقى الله وأصلح فهو من أهل الجنة، ومن غفل أو تغافل فالنار موعده.(9/1)
القرآن العظيم من نعم الله التي لا تحصى
الحمد لله الذي خلق الخلق، فأحصاهم عدداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لم يتخذ صاحبةً ولا ولداً، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95]، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً إمام الهدى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه شُموس الدجى، وعلى جميع من سار على نهجهم المبارك ثم اهتدى.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: إن لله على العباد نعماً عظيمة ومِنَناً جليلةً كريمة، وقد كان من أجلِّها وأعظمها على الإطلاق: هذا الكتاب المبين والصراط المستبين، الذي أخرج الله به العباد من الظلمات إلى النور، فأنار به القلوب، وشرح به الصدور، فانتقلت تلك النفوس المؤمنة من جحيم الهوى والشرور وأليم العذاب والغرور.
هذا الكتاب المبين الذي لا تنتهي عجائبه، ولا تنقضي غرائبه، هذا الكتاب الذي جعله الله تبارك وتعالى نوراً، هادياً للسداد والصواب.
كم نبَّه الله به من غافلين! وأيقظ به من نائمين! وهدى به من ضالين حائرين! هذا الكتاب الذي فيه الوعد والوعيد، وفيه التخويف والتهديد، وفيه الترغيب والترهيب، وفيه ذكر النعيم وذكر الجحيم، كم فيه من آياتٍ تضمنت تلك العظات البالغات! كم فيه من آياتٍ أنار الله عز وجل بها السبل لطاعته وجنته! فما ألذ الموعظة إذا كانت من الله جل جلاله! وما أطيب العظات إذا كانت من فاطر الأرض والسماوات!(9/2)
مواعظ القرآن تقرع القلوب قرعاً
إن العظة من الله تبارك وتعالى رحمة بتلك القلوب الحائرة التائهة السادرة النائمة في غيها، إن هذه المواعظ يقرع الله عز وجل بها القلوب، وينير بها السبل والدروب، علَّ تلك القلوب أن تنيب إلى الله علاَّم الغيوب.
إن المواعظ رحمة من الله تبارك وتعالى، يهدي بها من الضلال، ويرحم بها من العذاب.
ومن هذه المواعظ: موعظةٌ خَتَمَ الله عز وجل بها مواعظ القرآن.
من هذه المواعظ: آية كريمة كانت هي آخر الوصايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قرع بها القلوب، فذكرها بالوقوف بين يدي الواحد الديان، آيةٌ ما عاش النبي صلى الله عليه وسلم بعدها إلا أياماً قليلة، كانت هي آخر الآيات، جاءت بعد مائتين وثمانين آية من الزهراء الأولى، تذكِّر العباد بيومٍ مشهود ولقاءٍ موعود، لا يغني فيه والدٌ ولا مولود، اشتملت على موعظتين ومشهدين عظيمين.(9/3)
المشهد الأول: قوله تعالى: (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله)
أما المشهد الأول: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
وأما المشهد الثاني: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أما المشهد الأول: فذكَّرنا بيومٍ طالما نسيناه، وموقفٍ حقٍّ آمنا به وصدقناه، ذكَّرنا بيومٍ هو آخر الأيام، وذكَّرنا بيومٍ هو إما عذابٌ أو مسكٌ للختام، ذكَّرنا باليوم الآخر الذي تغصُّ فيه الحناجر، فلا يوم بعده، ولا يوم مثله، إنه اليوم العظيم، والموقف الجليل بين يدي العظيم الكريم.
{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]: هي الآية التي أقضَّت مضاجع الصالحين، {كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، فيا لله مِن أجساد إذا أوت إلى فراشها تذكرت يوم لقاء ربها، فقامت تتقلب بين يديه، تناجيه وتناديه، تسأله الرحمة إذا حلَّت بناديه.
{وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]: هذا اليوم العظيم الذي كتب الله عز وجل على كل صغيرٍ وكبير، وكل جليل وحقير أن يُقاد إليه عزيزاً أو ذليلاً، كريماً أو مهاناً، كتب الله عز وجل علينا أن نصير إلى ذلك اليوم المشهود، واللقاء الموعود.
ولكن قبل ذلك اليوم، وقبل ذلك المشهد العظيم: لحظةٌ ينتقل الإنسان فيها من دار الغرور إلى دار الشرور أو دار السرور، لحظةٌ من اللحظات التي يُكتب فيها للعبد أنه منتقل إلى ذلك اليوم، تلك اللحظة التي يُلقي الإنسان فيها آخر النظرات على الأبناء والبنات والإخوان والأخوات، يُلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من صميم قلبه الآهات والزفرات.
إنها اللحظة التي يؤمن فيها الكافر، ويوقن فيها الفاجر.
إنها اللحظة التي يعرف الإنسان فيها حقارة الدنيا.
إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها أنه فرَّط كثيراً في جنب الله.
إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فرَّط فيها في جنب الله، ينادي: ربَّاه ربَّاه، {ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100].
إنها اللحظة الحاسمة، والساعة القاصمة التي يدنو فيها رسول الله -أعني: ملك الموت- لكي ينادي، فيا ليت شعري هل ينادى نداء النعيم أو نداء الجحيم؟! ويا ليت شعري هل يقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28].
أو يقال: (يا أيتها النفس الخبيثة! اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضب)؟! ويا ليت شعري كيف تكون الخواتم؟! ويا ليت شعري من تلك الساعة التي أقضَّت مضاجع الصالحين؟ {رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193]، وفي لحظةٍ واحدة أسلمت الروح إلى بارئها، {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:29 - 30]؟! هناك يحس العبد بدارٍ غريبة، ومنازل رهيبة عجيبة! فلا إله إلا الله! في لحظة واحدة ينتقل العبد من دار الهوان إلى دار النعيم المقيم! ولا إله إلا الله! في لحظة واحدة ينتقل من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة! وفي لحظة واحدة ينتقل من جوار الأشرار إلى جوار الواحد القهار! وفي لحظة واحدة طويت صفحاتُ الغرور، وبدا للعبد هولُ البعث والنشور! ولا إله إلا الله! مضت الملهيات والمغريات، وبقيت التَّبِعات! ولا إله إلا الله! من ساعةٍ تُطْوَى فيها صحيفتك، إما على الحسنات أو على السيئات، فتتمنى حسنة تزاد في الأعمال، أو حسنة تزاد في الأقوال، تتمنى صلاح الأقوال والأفعال! {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10]، فتحس بقلبٍ متقطعٍ من الألم، تحس بالشعور والندم؛ أن الأيام انتهت، وأن الدنيا قد انقضت؛ لكي تستقبل عالم الجد أمام عينيك، وتُرْهَن بما قلتَه وفعلتَه بين يديك، هناك حيث يُسْلِم الإنسان روحَه لبارئها، وينتقل إلى الآخرة بما فيها، وفي لحظةٍ واحدة أصبح العبد كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، طُوِيت الصفحات، وصرتَ في عداد الأموات، تذكرُ كأن لم تكن في الدنيا، كأن عينك لم ترَ، وكأن أذنك لم تسمع، وكأن الأرض لم تَضْرِب عليها الخُطى! ولا إله إلا الله! من ساعةٍ نزلتَ فيها أول مراحل الآخرة! ولا إله إلا الله! إذ صرتَ في عداد تلك السفينة الماخرة، واستقبلت الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة أو عيشة نكيدة، ونزلت في عداد أولئك الغرباء بين الأجداث والبلاء، هناك حيث تُفْسح القبور لأهلها، ويَزداد السرور على من حل بها، هناك حيث تنسى نعيم الدنيا مع النعيم المقيم، هناك حيث تنال من الله البركات والرحمات والتكريم! فيا ليت شعري ما حال أهل القبور! كم من قبورٍ في كهوفٍ مظلمة، وفي أماكن موحشة ملئت أنواراً وسروراً على أهلها! ولا إله إلا الله! كم من قبورٍ حولها الأنوار مضيئة، والناس يسرحون ويمرحون، وفيها الجحيم والعذاب المقيم.
ولا إله إلا الله! من دارٍ تقارَب سكانها، وتفاوَت عُمَّارها، فقبرٌ يتقلب في النعيم والرضوان العظيم من الرحيم الحليم الكريم، وقبرٌ في دركات الجحيم والعذاب المقيم، ينادي ولا مجيب، ويستعطف ولا مستجيب، انقطعت الأيام بما فيها، وعاين الإنسان ما كان يقترفه فيها! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، يا أمة محمد، {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]، يوماً لا يغني فيه والد ولا مولود، إنه اليوم المشهود، واللقاء الموعود.
فاللهم يا سامع الدعوات، ويا من تُحْيِي الأموات بعد الرفات، نسألك أن تجعل أسعد اللحظات وأعزها: لحظة المصير إليك.
اللهم اذكرنا فيها برحمتك، وعُمَّنا فيها بمغفرتك، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير.(9/4)
المشهد الثاني: قوله تعالى: (ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون)
أيها الأحبة في الله: ومن المشهد الأول إلى المشهد الثاني، الذي وعظ الله به الأولين والآخرين: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281]: فلما ضَمَّت القبور أهلَها، وانطوت بمن حل فيها، ونُعِّمَ أو عُذِّب فيها، ولما جُمِعَت تلك الأشلاء، وتلك الأعضاء، نادى منادي الله عليها أن تخرج إلى اللقاء الموعود، واليوم المشهود، إلى {يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48] {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان:41]، فصاح الصائح بصيحته، ففزعت الأسماع والآذان إذ قُرِعَت بصوته، وخرجت من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربها حفاةً عراةً غُرلاً، فلا أنساب، ولا أحساب، ولا جاه، ولا عز، ولا مال، {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101] {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، أتاه العزيز ذليلاً، وأتاه الكريم مهاناً، {أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل:87]، نُسِيت الأنساب، ومضت الأحساب؛ لكي تُذَلَّ تلك الأجساد بين يدي رب الأرباب.
إنه اليومُ الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين.
إنه اليومُ الذي تنتهي عنده الأيام، وتتبدد عنده الأوهام والأحلام.
إنه يومٌ تجتمع فيه الخصوم، وينصف فيه الظالم والمظلوم.
إنه اليوم الذي أعده الله للعباد فتُنْشَر فيه الدواوين، وتُنْصَب فيه الموازين لحكومة إله الأولين والآخرين.
إنها المسئولية العظيمة.
إنها المسئولية الجليلة الخطيرة.
إنها مسئولية الآخرة.
كل هذه الجموع وكل هذه الأمم أقيمت في ذلك المشهد العظيم، وذلك اليوم العظيم؛ لكي تنهال عليها الأسئلة، وتعد لها درجاتها ودركاتها بما تجيب.
إنه اليوم الذي جمع الله فيه الأولين والآخرين من أجل السؤال هناك حيث تغص الحناجر بغصصها هناك، يوم الطامة والصاخة، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37].
{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ} [المعارج:11 - 14].
وخرج العبد حسيراً كسيراً أسيراً، خرج حقيراً ذليلاً؛ فلا ثوب يكسيه، ولا ثوب يواريه، خرج إلى الله حافياً عارياً، خرج إلى ربه، خرج إلى خالقه، خرج إلى جبار السماوات والأرض وقهارهما؛ لكي يسأله ويحاسبه ويجزيه.
فلا إله إلا الله! في يومٍ نُسِيَت فيه الملهيات، وزالت فيه المغريات، وعاينَ العبدُ فيه الحقائقَ أمام عينيه، جُمِعَت فيه الأمم على عرصةٍ واحدة، {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ} [الأنعام:94]! ولا إله إلا الله! من أرضٍ لم تطأها قدم غير تلك الأقدام! ولا إله إلا الله! إذا شعت الشمس وتبدد الظلام! ولا إله إلا الله! إذا طال الوقوف بين يديه! ولا إله إلا الله! يوم يُرْهَن العبد بما جناه بيديه! خرجت تلك الأمم حفاةً عراةً غرلاً، فأين الحرير واللباس؟! وأين الشدة والشوكة والبأس؟! قد انكسر العباد لرب الجِنَّة والناس خرجوا منها صفر اليدين إلا من رحمته، ووقفوا في ذلك المشهد العظيم {يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلىً عَنْ مَوْلىً شَيْئاً * إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان:41 - 42]، يوم يفر المرء فيه من أحب الناس إليه، فلا يلتفت عن يمينه ولا عن يساره، وأبى الله إلا أن يشخص العبد إلى السماء بعينيه، ينتظر فصل القضاء، ينتظر حكم رب الأرض والسماء، أفي الجنة أم في النار يكون السواء! وشخُصَت الأبصار، وولَّت بين يدي الواحد القهار، وخرج أهل الصالحات وقد ابيضَّت الأيدي والوجوه بآثار الحسنات، خرجوا بذلك الأثر العظيم من الله الكريم، فابيضت عند الله وجوههم، وما عَظُمَ المقام عليهم، {وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103] ووقف العباد بين يدي رب العباد لكي يفصل بينهم في يوم التناد.
ونادى منادي الله لكل عبدٍ بما جنت يداه، ودعيتَ على رءوس الأشهاد لكي تسأل عن كل قولٍ قلتَه، وعن كل عملٍ عملتَه.
هناك حيث تقف بين يدي الله، والشهود حاضرة، والعيون إلى الله ناظرة.
هناك حيث يوقف العبد بين يدي الله جل جلاله فينادي منادي الله: يا فلان بن فلانة، قم للعرض على الله، فلا ينادَى أحدٌ بأبيه؛ لكي تزول الأحساب والأنساب، ويَذِل العباد بين يدي الله رب الأرباب، ودعيتَ أمام الأولين والآخرين فرَعَدَت فرائصك من خشية الله، واصطكَّت القدمان بين يدي الله، وجئتَ بزادك للقاء الله، وسألك الله عن هذه الأيام التي مضت، وعن هذه السنين والأعوام التي انقضت، سألك عن الشباب، وما كان فيه من اللهو مع الأصحاب والأحباب، سألك الله عن أيامٍ فنُشِرَت بين يديك، لا تخرِم منها لحظةٌ واحدة، فإما لك وإما عليك، عُرِض الشباب عليك بأيامه وما فيه من الشهوات والملهيات، فكُشِفت الأستار، وتبدَّت للأنظار.
هناك حيث تبيِّن الليالي بما اجترحتَ فيها.
هناك حيث تحمد عيناً سهرت على طاعة الله، وقدماً طالما انتصبت بالوقوف بين يدي الله، فقلتَ: رباه! أما ليلي: فوقوفٌ بين يديك أناجيك بالقرآن، وأما نهاري: فصيامٌ لوجهك يا رحمن.
وأما يديَّ: فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم سَتَرْتُ بها من عورات! وكم فرَّجْتُ بها من كربات! أنفقتُها لهذا اليوم العظيم، اللهم مددتها لهذا اليوم العظيم، وحُسْن ظني فيك، فلا تخيبني إذ وقفتُ بين يديك.
وأما جَناني: فأسكنته حبك وتأييدك، فعشتُ وأنت الشهيد، ووحَّدتُك وأنت الحميد المجيد، ما ناديتُ أحداً سواك، ولا تعلقت بشيء عداك، ربِّ صبَبْتَ عليَّ البلايا فعذتُ بك وحدك ولم أعذ بشيء عداك، وصبَبْتَ عليَّ الرزايا فصبرتُ واحتسبتُ لهذا الموقف بين يديك.
وأما لساني: فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم ذكرتك به مع الذاكرين! وكم أثنيت عليك به مع المثنين! وكم تلوت به آياتك! اللهم فعلتُها وقلتُها لوجهك العظيم، اللهم فعلتُها ابتغاء رضوانك الكريم.
اللهم قدمي: ضربتُ بها الخطى إلى بيتك اللهم خرجت بها في الظلمات، فقمتُ بها مع القائمين، ونصبتها مع الراكعين الساجدين.
أما يديَّ: فكم تبطنها الليل منتصباً بين يديك! وأما وجهي: فقد عفَّرته بالسجود بين يديك! فيا من خشع لك سمعي وبصري! نجني من هول هذا اليوم العظيم.
اللهم قليلٌ فعلتُه في جنبك، كثيرٌ أحسنتُ به إليك، اللهم مع هذه الحسنات والباقيات الصالحات فالفضل لك جل جلالك، والفضل لك وحدك لا إله غيرك، فقيل: مشهودك؟ فشهدت الأرض التي أقلتك، والسماء التي أظلتك، وقال الله: صدقتَ وبررتَ، خذوا عبدي إلى جنان النعيم، خذوه إلى الرضوان العظيم.
فنال الكتاب باليمين، وصاح أمام العالمين: {هَاؤُمْ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:19 - 21]، وفتحت أبواب الجنان، وطاف الحور والوِلدان، وذهب النكد والنصب، وزال العناء والتعب.
فهنيئاً لتلك الأقدام التي انتصبت في جوف الليل بين يدي الله تنادي! وهنيئاً لتلك الألسن التي ضجَّت بالدعاء بين يديه تناجي! اليوم يومها، والنعيم نعيمها، والسرور سرورها.
ونادى منادي الله تلك النفس الظالمة في جنب الله: يا فلان بن فلانة، أنْ قُمْ إلى العرض بين يدي الله.
فسُئِل عن ليلٍ طالما قضاه في معصية الله، وعن نهارٍ أضاعه، وما الخير فيه أسداه.
فنادى منادي الله: أي حسنةٍ ترجوها عندنا؟! وأي صالحة قدمتَها في جنب الله؟! فنُشِرَت الفضائح، وصاح بين يدي الله الصائح: فقالت القدم: إلى الحرام طالما مشيتُ! وفي جنبك رباه أسأتُ واعتديتُ! وقالت اليد: كم خطفتُ من الآثام! وكم هتكتُ وأكلتُ من الحرام! فلا منك خفتُ ربِّ حقيقة الخوف، أرجو رحمتك إذ وقفت بين يديك.
وقالت العين: أما أنا فقد نظرتُ وتمتعتُ، رباه! متَّعَنِي بالحرام، وتزيَّن بي في الفواحش والآثام! وشهدت الفروج بآثامها! والجوارح بخطيئاتها! ثم عَرَضت على الله مظالمها.
وقالت الآذان: اللهم استمعتُ للحرام، فطالما سَهِر ليله يُمَتِّعُني بالآثام! وكم سمعتُ من الغيبة والنميمة! اللهم إن عبدك هذا قد ظلم وفجر، وشَهِدَت الجوارح بآثامها، وعُرِضَت الفضائح بين يدي الله ربِّها، فقال الله: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه، فقد اشتد غضبي على مَن قلّ حياؤه مني.
ووقفت تلك النفس الآثمة الظالمة على نارٍ تلظى وجحيم تغيظ وتزفر، وبدا لها مآلُها، فقالت وتمنَّت أن لو رجعت لكي تحسن في جنب ربها، فكُبْكِبَت على رأسها وجبينها، فهوت في تلك المهاوي المظلمة، وتقلبت بين الدَّرَكات والجحيم والحسرات، مضت الشهوات بأهلها، وانقضت الملهيات بأصحابها، وذاق الهوان بعد المعزة والكرامة، ونزل إلى ذلك الدَّرْك العظيم من الجحيم، فكأن لم يكن مَرَّ به نعيم قط.
روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه (يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار، فيُغْمَس في النار غمسة، فيقال: عبدي! هل مرَّ عليك نعيمٌ؟ فيقول: لا وعزتك) وهوى في تلك الدَّرَكات رهين السيئات، فلا مال، ولا بنون، ولا عشيرة، ولا أقربون، فُرِّق بين الأم وولدها، والآباء وأبنائهم، وفُرِّق بين الأصحاب والأحباب فراقاً(9/5)
الأسئلة(9/6)
التوبة تجبُّ ما قبلها
السؤال
ماذا يقول العبد الذي فرط في ماضيه إذا تذكر بعض المواقف التي فيها شيءٌ من المعاصي؟
الجواب
المُنْبَغي على المؤمن أن لا ييئس من رحمة الله، وأن لا يقنط من روح الله، فإن الله يفرح بتوبة التائبين.
يقول: رباه أذنبتُ، وليس لذنوبي أحدٌ سواك، رباه أسأتُ وليس لإساءتي يمحوها أحدٌ عداك، يطَّرح بين يدي بارئه ويناديه ويناجيه ويسأله أن يمن عليه بالعفو فيما سلف، وأن يبدل الإساءة بالإحسان، وأن يجعله من أهل الطاعة والإيمان.
هذا الذي يقوله، والقلب يتمزق حسرة وألماً في جنب الله جل جلاله.
والله تعالى أعلم.(9/7)
سبب الفتن والبلايا وزوال النعم
السؤال
بعض الإخوة من الملتزمين ومن المتمسكين بدين الله؛ لكنهم يعانون من بعض المعاصي مثل الوقوع في العادة السرية، والنظر المحرم، وغيرهما من الأمور، فما هي النصيحة في ذلك؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يسلمنا وإياكم من الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
اللهم إنا نسألك العافية، اللهم إنا نسألك العافية، وأن تمن على من ابتُلي بها في هذا المجلس بالعفو والعافية.
اللهم مُنَّ علينا جميعاً بالعفو والعافية، يا ذا الجلال والإكرام.
أخي في الله: إذا خلوتَ وغبتَ عن الأنظار، وأرخيت عليك الأستار، تذكر نعمة الله عز وجل عليك.
إذا خلوتَ تذكَّر المريض الذي يتأوه، واللهُ متَّعَك بالعافية! تذكر الفقير الذي يكدح آناء الليل والنهار من أجل لقمة عيشٍ يسد بها رمقه الذي يؤلمه، واللهُ أغناك! تذكر -أخي في الله- الخائف القلق المعذب الذي يعيش العذاب والنكد في الحياة، واللهُ أمَّنك من خوفها ونكدها! أكان الجزاء أن تعصيه؟! أكان الجزاء أن تحاربه بنِعَمِه التي أسداها إليك؟! أهذا جزاء الإحسان؟! فما جزاء الإحسان إلا الإحسان، لا الجحود ولا الكفران.
فاتقِ الله بارِئَك، وخف من الله عز وجل فيما تقترفه بيديك، واعلم أن لله سطواتٍ، وأن له أخذاتٍ، فإن الله عز وجل لا يدع العاصي، ولا تزال المعصية بأهلها تتبعهم، فتنكِّد عليهم حياتهم أو آخرتهم، أو يجمع الله لهم بين العقوبتين، فإما أن يعذبه الله بمعصيته في الدنيا، وإما أن يعذبه بها في الآخرة، أو يجمع له بين النقمتين والمصيبتين.
فاتق الله عز وجل، وازجر نفسك بقوارع التنزيل، وذكرها سطوة العظيم الجليل، فإن ذلك أعظم زاجرٍ من حدود الله جل جلاله.
والله تعالى أعلم.(9/8)
حقيقة الإجازة في حياة المسلم
السؤال
ونحن مقبلون على إجازة نصف العام، يخرج كثيرٌ مِن الناس إلى البَرِّ للتَّنَزُّه، فما هي نصيحتك للإخوة في قضاء هذه الإجازة وخاصة الشباب؟
الجواب
إن المؤمن ليست له إجازة، إن المؤمن لا يزال في هم وغم حتى يلقى الله، فيلقي عصا الهموم والغموم بين يدي الله جل في علاه، فإن الله كتب على أهل الإيمان أنهم في ابتلاء واختبار، ولا تزال الدنيا تصب همومها وغمومها على أهل الإيمان حتى يلقوا الله العظيم الرحمن؛ ولكنها إجازة بمعنى.
فيا مَن متعك الله بأيامٍ خلوتَ فيها عن الأشغال! تذكر نعمة الكبير المتعال.
تذكر المأسور برزق أهله، لا يجد إجازة في مسائه ولا يومه.
تذكر المريض طريح السرير الأبيض، لا يستطيع أن يقوم على قدميه؛ لكي يتمتع بما أنت فيه.
فليكن من شكر الله عز وجل الذي أعطاك الفراغ: أن تحمد الله جل جلاله أولاً وآخراً، وقل بلسان الحال والمقال: اللهم لك الحمد أن فرَّغت قلبي من الشواغل، فأسألك يوماً يرضيك وغداً يكون في مراضيك، سل الله عز وجل أن يوفقك فيه للصالحات، ثم اغتنم هذه الإجازة، فإنها أيامٌ قليلة إما حُجَّةٌ لك، أو حُجَّةٌ عليك، (كل الناس يغدو فبائعٌ نفسه، فمعتقها، أو موبقها).
أخي في الله، إخواني في الله: كم من إنسان سرَّه أن يبقى إلى زمان ساءه ذلك الزمن إذا بقي إليه، فسلوا الله العافية، فإن الأيام فيها مغيَّبات لا يعلمها إلا الله عالم المغيَّبات، سلوا الله العافية، واسألوه أن يمتعكم بأيامٍ ترضيه عنكم، واعلموا -إخواني- أن أفضل ما تُقْضَى فيه الأعمار، وأفضل ما يُسْتَغل فيه الليل والنهار: ذكر الله الواحد القهار، فأكثروا من ذكر الله، فإن خرَجْتَ إلى البَرِّ: فانظر إلى الأرض، وقل: سبحان من دَحَاها! {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات:31].
ثم ارْمِ إلى السماء بطرفك وقل: سبحان من بناها! {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات:28 - 29].
ثم انظر إلى هذا الملكوت الذي جعله الله مذكِّراً بالله جل جلاله، كل مَن حولك يقول بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله! انظر إلى الأوراق فقل: سبحان من أجرى الماء فيها! سبحان من أحياها بعد موتها! وانظر إلى الربيع بساطاً أخضر على الأرض فقل: سبحان مَن ألقى خضرته! وسبحان من زيَّنه وأنبته جل جلاله، وتقدست أسماؤه! ثم انظر إلى حشراته، وهوامِّه فقل: سبحان من أحصاها عداً! ولا يغيب منها شيءٌ عنه فرداً، جل جلاله وتقدست أسماؤه! وانظر إلى تلك الأمم التي تسعى وتدب بين يديك فقل بلسان الحال والمقال: سبحان من تكفَّل بأرزاقها! سبحان من أغناها وأولاها! ثم انظر إلى كل شيءٍ حولك؛ انظر إلى الليل إذا أرخى بظلامه، فقبل لحظات يسيرة وأنت في ضياء الشمس، وإذا بك في ليل بهيم! لم يختلط الليل بالنهار، ولم يسبق العشي الإبكار! وسبحان الله الواحد القهار! سبحانه! وفي لحظة واحدة أظلمت عليك الدنيا، لو أخرجتَ يدك لن تَرى شيئاً فيها! سبحان الله جل جلاله! وانظر إلى تلك الظلمات، واذكر ظلمة الحُفَر والقبور، علَّها أن توقظ قلبك لله العظيم الشكور.
ثم إذا أرخى عليك الليلُ سدولَه؛ فانظر إلى السماء وقل: سبحان من زيَّنها بالكواكب زينة وشهباً! لا يفوت عنها شيطان غائب.
ثم انظر إلى النهار فقل: سبحان من أقبله بضيائه! سبحان من أجرى شمسه! سبحان من أشع نوره! وأبلج ضياءه! إنها آياتٌ ما أوجدها الله عبثاً، بل أوجدها لكي تخرج من هذا المكان الذي نزلتَه وأنت على عقيدة بأنه "لا إله إلا الله".
ثم إذا مضت عليك الأيام، وجاءك اليوم تلو اليوم فانظر إلى آخر الأيام إذا طُوِيَت رحلتُك وآذَنَتْ بالرحيل! فأين اللذات؟! وأين الملهيات؟! كأن لم يكن شيئاً، كأنك لم تنزل إلى ذلك المكان.
كأن شيئاً لم يكن إذا انقضى وما مضى مِمَّا مضى فقد مضى فقد مضت الأيام، فالله أعلم بما خبَّأْتَ فيها من خير ترجوه، أو شرٍ تلقى الله به إذا لقيتَه.
فخير ما يوصى به الإنسان: أن يعمِّر وقته بذكر الله.
والوصية الأخيرة: أن تسخِّر أبناءك وبناتك وزوجك لكي يتفكروا في ملكوت السماوات والأرض، {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس:101].
قل لهم بلسان الحال والمقال: من الذي دبر هذا الوجود؟! من الذي جعل الشمس تجري، {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:39 - 40]؟! هل استطاع أحدٌ أن يكف شعاعها يوماً من الأيام؟! هل استطاع أحدٌ أن يجعل الليل ضياءً يوماً من الأيام؟! سبحانه جل جلاله! {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ} [القصص:71]، سبحانه! لا إله إلا الله! فخذ من هذه المواقف مدارس التوحيد، واغرس في تلك القلوب البريئة تعظيم الله الحميد المجيد، واللهِ إن أحبَّ الأشياء إلى الله، وأعظمها زلفى بين يديه: أن تغرس الإيمان في قلب ابنٍ من أبنائك، وأن تخرج من هذه الدنيا وابنك يوحد الله حق توحيده، ويعظم الله حق تعظيمه وتمجيده.
اللهم إنا نسألك أن تجعلنا من الذاكرين، وأن لا تجعلنا من الغافلين، وأن تجعل هذه الإجازة عوناً لنا على طاعتك، وأن توفقنا فيها لسبيل محبتك.
والله تعالى أعلم.(9/9)
حكم الإحسان إلى الوالدين إن أساءا المعاملة والتربية
السؤال
مشكلة يعاني منها بعض الشباب، يقول أحدهم: إني شابٌ معاملتي سيئةٌ لوالديَّ وإخواني وذلك بسبب سوء تربيتهم لي، فهل علي شيءٌ في ذلك؟ أرجو الإرشاد جزاك الله خيراً.
الجواب
أما الشيء الذي عليك: فتراه إذا اجتمع الخصوم بين يدي الله جل جلاله، تراه حينما تصْطَكُّ قدمك، فترى في صحيفة عملك أنك قد خَرَجْتَ من الدنيا عاقَّاً لوالديك والعياذ بالله.
إن إساءة الوالدين لا تدعو الابن للإساءة، إذا أساءا إليك فأحسن إليهما، فإن الله قد أمرك ببرهما، أحسِن إلى الوالدين ولو أساءا، وأنعم إليهما ولو كَفَرا، وكن معهما ولا تؤذهما، فإن الله أوصاك من فوق سبع سماوات أن تقول لهما قولاً كريماً، وأن تخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وأن تقول: {رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:24].
لا تؤذهما، فإن الله لا يرضى منك أذيتهما، قابِلِ الإساءة بالإحسان، فإن أحبَّ البَرَرَة إلى الله وأعظم ما يكون البِرُّ: إذا كان من ابن يؤذيه أبوه وأمه، أفضل ما يكون البِرُّ إذا كان الوالد يؤذيك، وأفضل ما يكون البِرُّ إذا كانت الأم تهينك، أفضل البِرِّ يكون حينما تجد الإساءة وتقابلها بالإحسان؛ لأنك تريد ما عند الله، وتريد أن تمتثل أمر الله، ولا تريد منهما جزاءً ولا شكوراً.
فيا للهِ من ابن أحسن إليهما مع إساءتهما! فأحبه الله بذلك الإحسان، وبُشِّرَ البارُّ بكل خيرٍ من الله، فمَن حَفِظَ وصية الله في والديه فإن الله عز وجل سيوفقه لكل خيرٍ يرجوه، واللهِ ما قرع البارُّ باباً من الخير إلا فتحه الله في وجهه، ولا سلك سبيل طاعةٍ إلا يسر الله له من أمره.
بر الوالدين من أعظم القربات، وأحبها إلى الله، فابكِ على الأيام التي مضت، ثم تذلل لهما، {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء:24]، واسألهما قبل أن تبيت ليلتك هذه العفوَ منهما، واطَّرِح بين أيديهما، وقل: قد أسأتُ إليكما، وإني تائب من الإساءة إليكما.
فلا تدري فقد تكون هذه هي آخر ليلةٍ لك من الدنيا، فاللهَ الله أن تصبح وقد عققت والديك! ثم أعلموا يا إخواني: أن من أفضل ما يتقرب به الشاب المهتدي بعد توحيد الله: بر الوالدين، وقد قرنه الله بتوحيده، فالذي يريد التوفيق، والذي يريد المعونة والتيسير فليكن بوالديه رحيماً، حتى ولو كانا أمواتاً، فإن الوالدان أحوج ما يكونان إلى بر الولد إذا قُبِضا وانتقلا من الدنيا، أحوج ما يكون الوالدين إلى بر الولد إذا انتقلا إلى الله جل جلاله، أحوج ما يكونان إلى دعوة صالحة منك، قال: (يا رسول الله، هل بقي من بري لوالدَي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما)، واللهِ ما ذكرتَهما بدعوة إلا سخر الله لك إذا صرت إلى مصيرهما من يذكُرك بمثلها وخيرٍ منها، فاحتسب عند الله في بر والديك أحياءً وأمواتاً.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لبرِّ الوالدين، وأن ينجينا من العقوق، وأن لا يجعلنا من أهله.
فإن العاق ولو كان مطيعاً فهو محبوس عن الجنة، قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ} [الأعراف:46] قال: إنهم رجال خرجوا إلى الجهاد دون إذن الوالدين، استشهدوا وقُبِلَت شهادتهم، فإن أرادوا دخول الجنة بالشهادة حبسهم العقوق؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة عاقٌّ)، وإن أرادوا دخول النار بالعقوق حبستهم الشهادة، فالشهيد كريم عند الله جل جلاله، فيُحْبَسون عن دخول الجنة، ثم بعد فترة يؤذن بدخولها، ولذلك قال الله عنهم: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف:46] يعني: يطمعون في دخولها؛ ولكن يُحبسون بسبب عقوق الوالدين.
فعقوق الوالدين أمر خطير.
بل قال بعض العلماء في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة عاقٌّ) قال: إن معناه أن الغالب في العاق أن لا يوفق لحسن الخاتمة -نسأل الله السلامة والعافية- والغالب أن الله يستدرجه حتى يمكر به -والعياذ بالله- فيأخذه على سيئةٍ يَشْقَى بها، فيخسر الدنيا والآخرة، نسأل الله السلامة والعافية.
نعوذ بالله من العقوق.
فإياك أن تصبح وفي قلب والديك عليك شيء.
إياك أن تخرج من هذا المسجد وتفكر في شيء إلا أن ترضيهما قبل أن يناما ليلتهما هذه، فلعلها أن تكون آخر ليلةٍ لك من الدنيا.
فاتقِ الله في والديك، اتقِ الله في الوالدين، وامتثل أمر الله.
نسأل الله العظيم أن يسلمنا من الزلل، وأن يعصمنا في القول والعمل.
والله تعالى أعلم.(9/10)
سبب قسوة القلوب وجفاف العيون
السؤال
كثير من الإخوة صدروا أسئلتهم بقولهم: أنهم يحبونك في الله.
ما هو الحل، وما هو العلاج لقسوة القلوب التي تنتاب كثيراً من الناس، وكذلك قلة البكاء والخشية من الله، والتكاسل عن قيام الليل، والتهاون في الصلوات، وغيرها من الأمور والمعاصي التي تحدث من جرَّاء قسوة القلب، فما هي النصيحة؟ وما هو العلاج لذلك فضيلة الشيخ؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأحبك الله الذي أحببتني فيه، وأُشْهِد الله العظيم رب العرش الكريم أني أحبكم في الله، وأسأل الله أن يجمعنا بكم بهذا الحب {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
أخي في الله: إن قسوة القلب بلاء وأي بلاء! وإذا قسا لعبد قلبُه فقد حِيل بينه وبين الله، فالقلب القاسي بعيدٌ من الله، والقلب القاسي محروم من رحمة الله، فمن وجد في قلبه قسوةً فليبكِ على ما ابتُلي به، وليطَّرِح بين يدي الله.
أما العلاج لقسوة القلوب: فتسألُ اللهَ مقلِّبَ القلوب أن يرزقك قلباً ليناً، وعيناً دامعة من خشيته، وقلباً رقيقاً لجلاله ومحبته، إذا ذُكِّر تذكَّر، وإذا بُصِّر تبصَّر، سَلِ اللهَ أن يعطيك، ونادِهِ، وناجِهِ يولِك، ولا يخيب ظنُّ عبدٍ صَدَقَ ظنُّه في الله بارِئِه.
أما الوصية الثانية: فأوصيك -أخي في الله- أن تبتعد عن الذنوب والمعاصي، فإن الذنب يطفئ نور الطاعة من القلوب، وإذا انطفأ نور الطاعة في القلب أظلم ذلك القلب، وتَحجَّر، واستحكمه الشيطان، فلا يستجيب بعدُ لداعي الرحمن.
أوصيك -أخي في الله- أن تفر من الله إلى الله.
أوصيك أن تتفقد المظالم التي بينك وبين بارئك، فلا بد من ذنب بينك وبين الله أوجب لك قسوة القلب، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس:44]، تفقَّد نفسك، وتفقَّد أهلك وزوجك، وتفقَّد أبناءك وبناتك، فلعل مظلمة حالت بين قلبك وبين الخشوع، ولعل مظلمة حالت بين عينك وبين الدموع.
ثم أقبل على الله بالتوبة النصوح إن وجدتَها، قال بعض السلف: أذنبتُ ذنباً فحُرِمْتُ قيام الليل ستة أشهر، فإذا كان هذا في ذنبٍ واحد يُحْرَم العبد المقام بين يدي الله، فحَرِيٌّ أن يُحْرَم التذكُّر والتدبُّر لآيات الله.
أما الوصية الثالثة: فخذ مِمَّا يرقِّق قلبك: خذ هذا القلب الغافل الساهي إلى منازل الأموات، واجعله يعيش بين أهلها، وذكِّره تلك المنازل.
وأكثر من تشييع الجنائز، فإن تشييعها يحيي -بإذن الله- موات القلوب، انظر إليه محمولاً وحيداً فريداً، وانظر إلى أبنائه وأقاربه، وعشيرته، وأحبابه، كلٌّ يكفكف دمعه، وكلٌّ يجفف -مما أصابه- جفنه، ومع هذا لا يغني له من الله شيئاً.
فإن لم ينكسر قلبك، فخذه إلى المرضى، وأقمه مع أهل البلاء، واسمع تلك الصيحات، والآهات، والآلام التي يعيشها أهل الأسقام، عِشْ مع المرضى حتى تعرف عافية الله ونعمة الله التي نعَّمك بها، ثم خذ من العلاج النبوي.
أَدْنِ اليتيمَ إليك، وامسح برأسه، وضمه إليك ثم أحسن إليه، وقربه، وواسِه، فإن ذلك مما يزيل قسوة القلوب؛ لأن الله يرضى على مَن أحسن، ومِن أعظم الإحسان: الإحسان إلى اليتيم.
ثم كذلك خذ من عبير السلف الصالح، وسِيَر الصالحين من عباد الله المؤمنين من الماضين، وأدعوك أن تعيش مع الأموات من أهل الصالحات والطيبات، وأدعوك -أخي- أن تقرأ سيرة السلف الصالح، فإنها ترقق القلوب لله جل جلاله.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحول بيننا وبين قسوة القلوب.
اللهم إنا نعوذ بك من قسوة القلب.
اللهم إنا نعوذ بك من قلب قاسٍ أمام ذكرك.
والله تعالى أعلم.(9/11)
نصائح للمعلمين والمعلمات
إن هذا العلم الذي علمنا الله إياه هو منة ونعمة منه جل وعلا، فعلى من سلك هذه الطريق الجد والصبر على الطلب، وإن من تمام شكر هذه النعمة تعليم الناس هذا العلم ونشره بينهم.(10/1)
شكر الله على نعمة تعليم الناس الخير
باسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأوصي الجميع ونفسي بتقوى الله عز وجل، ومن اتقى الله جعل له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، وعلى المعلم والمعلمة أن يشعر كلٌ منهما بفضل الله عز وجل عليه، وجميل إحسانه، وجليل ما أسدى إليه سبحانه وتعالى، فإن الله إذا اختارك لتعليم الناس فقد فضلك وشرفك وقدمك على غيرك، وعلى المعلم أن يستشعر نعمة الله عليه، ومن عظَّم نعمة الله شكرها، ومن شكر نعم الله بارك الله له في نعمته، فعليك أن تعلم أن الله أعطاك خيراً كثيرا، فليكن من أول شكرك لله أن تعظم نعمة الله في قلبك، قال العلماء: الشكر ثلاثة أقسام: شكر الجنان، وشكر اللسان، وشكر الجوارح والأركان.
فأما شكر الجنان: فهو أن تعتقد من قلبك أن الفضل كله لله، ولذلك قال الله عز وجل في هذا النوع من الشكر: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] فلا يعتقد المعلم أنه بلغ إلى هذه المرتبة أو عين في هذا المكان من أجل ذكائه أو فهمه، ولكن الفضل كله لله سبحانه وتعالى، فإذا أحس أن الله وحده هو الذي اختاره عظَّم نعمة الله عليه وشكرها.(10/2)
سعي المعلم لتحسين ظن الناس به
أما الأمر الثاني: فعليه أن يسعى جاهداً إلى أن يحسن ظن الناس به، وأن يكون عند حسن ظنهم به، حيث حملوه الأمانة وأناطوا به المسئولية، وجعلوه في هذا المكان، الذي صرفوا عنه غيره، واختاروه بحسن ظنهم به، فليكن عند حسن ظن الناس به، وهذا يستلزم منه أن يسأل ما هو المطلوب منه، وما هو الواجب عليه، فأول ما ينبغي عليه ضبط العلوم التي يعلمها، وأفضلها وأزكاها وأعظمها أجراً عند الله سبحانه وتعالى: علم الدين، الذي يتعلق بالأحكام الشرعية، سواءً كان في العقيدة أو المعاملات، أو العبادات الأخر، فعليه أن يتقي الله عز وجل ويضبط هذا الباب، ويخرج أبناء المسلمين عالمين بما نيط بهم.
إن أسند إليك تعليم التوحيد، فاعلم أن الله سائلك عن هذه القلوب التي تعلمها، هل وجهتهم إلى ما فيه صلاح عقائدهم ودللتهم على الأصل العظيم الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، وما كان عليه السلف الصالح من هذه الأمة من العقيدة في ألوهية الله وربوبيته وأسمائه وصفاته.
فلا تدخر جهداً ولا وسعاً إلا وقد بذلته من أجل أن تعلمهم ذلك الأمر على أتم الوجوه وأكملها وأفضلها.
كذلك إذا أسند إليك تدريس الفقه، ينبغي عليك أن تجد وتجتهد في ضبط المسائل وتحريرها وبيانها، ومعرفة الأدلة عليها والراجحة من أقوال العلماء مدعماً بالدليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، إذ أن أعظم ما يكون في التعليم تعليم الدين.
وهنا مسألة أنبه عليها أنه ينبغي على المعلم والمعلمة أن يرغبوا أبناء المسلمين وبناتهم في العلوم الدينية، وأن يكون هناك مما في الأسلوب والطريقة والتناول للمسائل والعرض لها ما يشوق أبناء المسلمين وبناتهم لدينهم، وما يحببهم لا ما ينفرهم ويبغضهم بالأسلوب المنفر، أو بالطريقة المنفرة، ينبغي أن يبذل قصارى جهده للوصول إلى الأفضل والأكمل، وأن يغرس في تلك القلوب البريئة حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم، وحب هذا الدين، ويبلغهم ما علمه من الأحكام الشرعية بكل وضوحٍ ودلالة صحيحة، كذلك أيضاً: إذا نيطت به العلوم الدنيوية، فإن الإسلام لا يمنع تعلم العلوم الدنيوية، لكن بشرط ألا تعارض الأسباب، وألا تعارض العقيدة، وألا تتنافى مع أصل الدين، فإن تنافت معه، فلا ولا كرامة، فالأصل ديننا وإسلامنا، فينبغي أن تكون الدنيا ذليلة صاغرة لهذا الدين، لا أن تكون حاكمةً على ديننا وإسلامنا، فتعليم العلوم الدنيوية أمرٌ مطلوب، خاصة إذا توقفت عليه مصالح المسلمين كالطب.
كان الإمام الشافعي رحمه الله قد ذكر عنه بعض العلماء بالسند الصحيح، كما ذكر صاحب كتاب المنهل السوي في الطب النبوي، أشار إلى الشافعي أنه كان يقول في علم الطب: "لا أعلم علماً بعد الحلال والحرام أنبل من الطب" وكان يقول كلمته المشهورة: "ضيعوا ثلث العلم ووكلوه إلى اليهود والنصارى"؛ لأنه كان في زمان الشافعي لا يوجد طبيب مسلم، وأكثر ما يوجد من الأطباء هم من أهل الكتاب، فكان يتأسف أن المسلمين لم يتقنوا علم الطب حتى احتاجوا إلى غيرهم، لا بد من إتقان العلوم الدنيوية حتى تسد حاجة المسلمين عن غيرهم، وتسد ثغور المسلمين بالرجل والمرأة المؤمنة المسلمة اللذان يخافان الله عز وجل ويرعيان النصحية للمسلمين.
كذلك أيضاً: علوم الحساب، والهندسة، ونحوها من العلوم التي تنفع، ويُستعان بها لتحسين المصالح الدنيوية، لكن الأفضل والأكمل والأعظم ثواباً علم الدين، وهو الأصل وهو الذي شرف صاحبه ونبل في الدين والدنيا والآخرة، وحيثما ذكر العلم في أكمل صوره، وأجمل حلله فهو علم الإسلام، وعلم الدين المتصل بالعقيدة والأحكام الشرعية كما لا يخفى.(10/3)
النصح لأبناء المسلمين وبناتهم
كذلك أيضاً: على المعلم والمعلمة أن ينصحا لأبناء المسلمين وبناتهم، وذلك برعاية المشاعر ومحاولة المعلم أن يكون معلماً ناجحاً من خلال الطريقة والأسلوب في جذب الأبناء، وكذلك المعلمة من حيث الطريقة والأسلوب في جذب البنات، ولا يخفى على الجميع أن العصر الذي يعيش فيه الناس عصرٌ مختلف عن العصور التي تقدمت ومضت، الناس اليوم في زخم من مشاغل الدنيا وشواغلها، وقلَّ أن تجد أباً يتفرغ لأبنائه، وقل أن تجد أماً تتفرغ لبناتها، فينبغي علينا أن ننظر إلى هؤلاء الصغار خاصة إلى القلوب البريئة من الصغار، ألا نعاملهم بالعنف؛ لأننا ننظر إلى أنهم فقدوا كثيراً من جوانب التربية وأصبحت حالة الناس اليوم في كثرة المشاغل والشواغل، حتى قد تجد بعض الأخيار قد لا يستطيع أن يُربي أولاده من ضيق الوقت، فينبغي علينا أن نشعر بهذا الإحساس، وأن الأبناء قد فقدوا جوانب كثيرة من التربية، فلا تنظر إليهم بالبيئة التي نشأت فيها، حينما كانت الأم تمسح على رأس ابنها، ولا يفارق سواده سوادها، وكان الأب يراقب الابن في كل كلمة وحركة، ومع من يمشي وإلى أين يذهب، شتان ما بين العصرين والواقعين، فينبغي على المعلم وعلى المعلمة أن ينظروا إلى هذا العصر من خلال هذه الأمور التي يعيشها كثير من الأبناء والبنات، فإذا أدركوا ذلك فقد أحسنوا التصرف في هذه الأمور، فإذا وجدوا الطفل يتصرف تصرفاً شاذاً بسبب ما حوله من قرناء السوء، أو كانت بيئته بيئة جهل، أو بيئة يغلب عليها الجهل ينبغي أن يتعامل معها بما يليق، وأن يتعامل معه بما يليق، وأن تتعامل المعلمة مع أمثال هؤلاء بما يليق.
كذلك أيضاً: ينبغي عليه ألا يخلوا العلم عن التربية، فإن أبناء المسلمين وبناتهم كما هم محتاجون للعلم كمادة فإنهم يحتاجون إلى التربية، فالتربية أن تكون قدوة في تعليمك، بالابتسامة والآداب الفاضلة والأخلاق الزاكية، التي تُنبئ وتدل على شرف ما تحمله من العلم النافع حتى ولو كان من علوم الدنيا، فإن الأخلاق الحميدة والآداب الكريمة جبلت النفوس على حبها وحب أهلها، وإذا كان المعلم أو المعلمة محبوبة، ووضع الله له القبول، فإن الله ينفع بعلمه وتعليمه ولو كان من أمور الدنيا.
كذلك أيضاً: هناك أمر ينبغي التنبه له في مسألة التعامل مع الأبناء والبنات في التصرفات الشاذة، فإن الأبناء الصغار يحدثون التشويش واللغط، فينبغي في هذه الحالة أن يكون المعلم والمعلمة وسطاً بين الإفراط والتفريط، حزماً بدون عنف، ليناً بدون ضعف، ينبغي حزم الأمور ووضعها في نصابها، مما ينبغي على المعلم أن يراعيه: الأمانة في حفظ وقت المحاضرة والحصة ويؤدي ذلك على أتم الوجوب وأكمله، وينتظر الثواب من الله سبحانه وتعالى، ويبرئ ذمته في الواجب والمسئولية المناطة به، فلا يتخلف ولا يتأخر ولا يسند ذلك على وجه تضيع به أبناء المسلمين أو بناتهم، إذا كانت المعلمة تدمن الغياب، والمعلم يدمن الغياب، ضاعت الحقوق والواجبات، وضيعت الأمانات، وللابن وللبنت في التعليم حظ منك، هذه الساعة التي هي محاضرة أو حصة قد تستهين بها ولكنها شيءٌ كبير؛ لأنه هرم ينبني عليه التعليم، وإذا فقد هذه الساعة فاعلم أنها ستؤثر على تحصيله في كليته أو جامعته، فالله الله ينبغي أن يشعر المعلم بالأمانة وألا يضيع وقت المحاضرة أو وقت الحصة، والخروج عن المقصود يكون المعلم مناط به تعليم مادة فتجده يضيع الوقت في الترهات أو يضيع الوقت في القصص والحكايات، فيخرج الأبناء دون نتيجة ويخرج الطلاب ضاحكين مستبشرين من اللهو واللعب، ولكن قد دمرت حياتهم بسبب هذا الجهل الذي فات عليهم تحصيل العلم الذي يزول به ذلك الجهل، فينبغي على المعلم أن يتقي الله وأن يعلم أن هذا الوقت أمانة ومسئولية يستفرغ كاملاً في التوجيه والتعليم مهما كلفه الأمر، وعليه أن يعلم أنه إذا نصح وغيب في قلبه إرادة النصح إن الله يعينه ويسدده.(10/4)
التحلي بالصبر والتحمل
كذلك مما يوصى به المعلم: الصبر والتحمل؛ لأن العلم فيه تعب، وفيه جهد عظيم، وقد يكون المعلم أو المعلمة يخرج من المدينة إلى السفر وهذا يحمل مشقة كبيرة فيحتاج إلى أن يحتسب ولا ينسى فضل الشيء الذي يحمله.
إن أهل الباطل يسافرون إلى الأدغال حيث المهلكة والهلاك الذي يغلب على الظن أن صاحبه يفضي إليه، ومع ذلك يضحون، وتجد الرجل يتبع النصرانية فلا يبالي أن يذهب إلى أدغال أفريقيا في شدة الحر أو البرد، وبين الجاهلين منهم وقد يتعرض للقتل والموت وهو لا يبالي، كل ذلك كما زعم من أجل الصليب، ومن أجل تعظيم دينه وهو على الباطل، فوا عجباً من صبرهم على الباطل وعدم صبرنا على الحق! ينبغي أن تصبر وتصابر وتحتسب وتجد وتجتهد وتكون عندك همة عالية، ولا شك أن شرف كل معلم كلما كان تعليمه بعيداً ونائياً في القرى النائية، والمناطق النائية التي هي بحاجة إلى المعلمين أن يصبر ويحتسب، خاصة إذا كان من الشباب الأخيار والقدوة عليه أن يصبر ويحتسب ويكون في جده وقيامه بمسئولية التعليم على أتم الوجوه وأكملها، ونحن والله لا نقولها مجاملة، نحن في نعمة عظيمة ومنة جليلة كريمة خاصة في هذا العلم الذي بلغ الجبال والأودية السحيقة، تجد فيها من يعلم، وتجد فيها من المدارس ودور التعليم، فنسأل الله بعزته وجلاله -ونقولها من قلوبنا- أن يوفق ولاة أمورنا وأن يجزيهم عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، والله لو علمنا ما وراء الجهل من مصائب ومتاعب وكوارث لا يعلمها إلا الله، لعلمنا مقدار هذه النعمة التي نعيشها، فكونها تجند هذه النعم من أجل أبناء المسلمين وبناتهم فهذه نعمة عظيمة، ولقد مرت قرون قد تجد الرجل عمره أربعين سنة وهو لا يعرف كيف يتوضأ أو يغتسل من الجنابة، والمرأة تعمر وتبلغ الخمسين وما علمت كيفية غسل الجنابة إلا قبل موتها بالسنة أو السنتين، فالعلم نعمة -يا أخوان- ومنة جليلة كريمة، فإذا أحسن بك الظن، ونيطت بك الأمانة في بلدٍ بعيد أو قرية نائية لا تسخر ولا تجهل، ينبغي التعاون والتظافر والصبر والاحتساب، وإذا ضحت الأمة وضحى أفرادها سمت إلى المجد والعلياء، إذا حسنت الظنون وصار الرجل ينتظر الأجر من الله عز وجل ثبته الله ووفقه، فلا تنتظر من أحدٍ أن يثيبك أو يكافئك إلا الله جل جلاله، فعلى هذا ينبغي أن يصبر ويحتسب المعلم ما أمكن، وهكذا المعلمة تصبر وتحتسب في تعليم أبناء المسلمين وبناتهم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل الأعمال خالصة لوجهه الكريم ووجلة لرضوانه العظيم، والله تعالى أعلم.(10/5)
الأسئلة(10/6)
وصية للنساء في طلب العلم وتعليمه
السؤال
سائلٌ يقول: تعلمون يا فضيلة الشيخ أن النساء قد يصعب عليهن أن يفرغن من وقتهن لطلب العلم من المشايخ والعلماء، فما هي الطريقة التي توصون بها النساء بطلب العلم وتعليمه، وكيف يوفقن بين أعمال البيت وطلب العلم؟
الجواب
بالنسبة للمرأة علمها بالأحكام وما يتعلق بحياتها من المسائل فرضٌ عليها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم تأتيه الصحابية تسأله عما أشكل عليها في طهارتها وصلاتها وعبادتها وحق بعلها وعشيرها وزوجها عليها، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يفقههن ويعلمهن ويدلهن على ما فيه صلاح دينهن ودنياهن، وعلى هذا قال العلماء: المرأة تتعلم ما فرض الله عليها، هذا هو الأساس وهو الواجب عليها أن تتعلم، وما وراء ذلك فإنها في الأصل مطالبة بحقوق البيت، وإدارة بيتها؛ لأن رسالة المرأة تربية أبناء المسلمين وبناتها، وإذا كانت الأم في بيتها قائمة على حقوق أولادها، وأتقنت هذا الثغر وقامت بحقه، قويت الأمة وعزت وسادت وبزت وغلبت؛ لأن بيوت المسلمين قد سدة ثغورها فهذا هو الأصل، الأصل أن رسالتها أولادها، والله عز وجل حملها المسئولية عن أولادها وأبنائها وبناتها، فإذا كانت تستطيع أن تنتقل بعد ذلك لنفع بنات المسلمين ودلالتهن على الخير واحتيج إليها لتعليمهن، وقامت بهذه الحاجة على أتم الوجوه وأكملها، فهذا فضلٌ عظيم، وخيرٌ كثير.
أما بالنسبة لطلبهن للعلم فإن عرضن أن يطلبن العلم فلهن من الفضل ما للرجال، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يرجعون إلى أمهات المؤمنين في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته، ولما اختلف الصحابة رضوان الله عليهم في مسألة حديث مسلم: (إنما الماء من الماء)؛ من جامع ولم ينزل.
أرسل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى عائشة، ولما سألها ذكرت له حديث رسول صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: (إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل، أنزل أو لم ينزل) فقال عمر قولته المشهورة: [من خالف بعد اليوم جعلته نكالاً] فكانوا يرجعون إلى أمهات المؤمنين، ويجعلون أمهات المؤمنين فيصلاً في هديه عليه الصلاة والسلام داخل البيت، كما كان أمهات المؤمنين يحلن إلى الصحابة في مسائل السفر ونحوها، فالمرأة تتعلم وهن شقائق الرجال، ولكن إذا خرجت من بيتها للعلم فعليها أن تراعي الحقوق والواجبات التي فرض الله عليها: أن تكون بعيدة عن الفتنة، وحضورها إلى مجلس العلم يكون على السمت الشرعي البعيد عن الإغراء والفتنة، وإذا فعلت ذلك وتفقهت في دينها أو علمت أبناء وبنات المسلمين ووجهتهم فهي على خيرٍ كثير! أما الطريقة: فالمرأة إذا أمكنها أن تحضر درس علمٍ في مسجد، فإن هذا خير وهذا من طلب العلم، وتعتبر طالبة علم، وهكذا إذا تعلمت في دور التعليم وصانت نفسها وابتعدت عن قرينات السوء فهذا أيضاً من التعليم، فالمقصود أن الأصل الشرعي يقتضي أن المرأة تتعلم ولكن بشرط ألا تضيع ما هو أوجب عليها وما هو آكد وما هو الأصل، ثم بعد ذلك إذا قامت بتعلمها على الوجه الشرعي بعيدة عن الفتنة فهذا خيرٌ لها وللأمة، نسأل الله العظيم من الجميع التوفيق والسداد، والله تعالى أعلم.(10/7)
من سير الصالحات
في كل زمان ومكان تحتاج المسلمة إلى القدوة الحسنة التي تسير على نهجها، وتسلك سبيلها، تحتاج إلى تلك النماذج الطيبة الطاهرة التي أحسن الإسلام صياغتها فغدت هممها عالية، وقلوبها مؤمنة راضية تقية.(11/1)
القدوة وأهميتها
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ألا هو العزيز الغفار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الصفوة الأخيار، وعلى جميع من التزم شرعه من الصفوة الأبرار: السلام عليكن ورحمة الله وبركاته: السلام على كل مؤمنة بالله السلام على كل منيبة إلى الله السلام على كل مهتدية بشرع الله السلام على تلك المرأة المؤمنة التي آمنت بربها، والتزمت بدينها، وسارت على نهج خالقها.
سلام على تلك المرأة المؤمنة التي أقبلت إذ أدبر الناس، وآمنت إذ كذب الناس، وجدّت في طاعة الله إذ استهزأ الناس.
السلام على ذلك القلب الذي وعى، والسلام على ذلك الفؤاد الذي رضي وبهدى الله اهتدى.
السلام عليكن إذ خرجتن إلى طاعة الله ومرضاته، خرج النساء إلى الأسواق وخرجتن إلى سوق الجنة، وخرج النساء إلى الرياض، وخرجتن إلى روضة من رياض الجنة، وباهت النساء بالأزياء وباهيتن بسربال التقوى، واستمسكتن بعروة الله الوثقى، هنيئاً لكن معشر المؤمنات! هنيئاً لكُنَّ معشر الصالحات الداعيات! هنيئاً لكن على الإيمان والثبات! هنيئاً لكن على الجد في الحسنات والمرضات! بيَّض الله وجهكن، ونور الله قلوبكن في زمان الغربة الذي تباعد عن زمان الوحي، وقفت الصالحة أمام تيارات فكرية، ومذاهب هدامة لكي تعلنها صريحة قلباً وقالباً أن لا إله إلا الله فعاشت مع الله، مع أوامره إذ التزمتها، ونواهيه إذ ابتعدت عنها.
وقفت الواحدة أمام هذه الفتن والمحن فثبتت بتثبيت الله، واعتصمت بحبل الله، فطوبى لذلك الإيمان، وطوبى لذلك الجنان، وطوبى للصدق في العبودية للرحمن.
يا فتاة الإسلام: إن هذه رحمة من الله أسداها إليك، ومنة تفضل بها عليك، إن الله تبارك وتعالى قد رحمك بهذه الهداية التي حرمها كثيراً من النساء، رحمك بهذه الهداية التي عاش قلبك أحاسيسها، وارتاح فؤادك لمعانيها، فسرت بتلك الخطا راضية أي الرضا، سرت على طاعة الله ومرضاته ومحبته.
امتلأت القلوب حباً للدنيا وامتلأ قلبك حباً للصالحات، امتلأت قلوب النساء حباً للماجنات الداعرات وامتلأ قلبك حباً للصالحات الداعيات، امتلأت قلوب النساء محبة لهذه الدنيا وفتنة بزهرتها، وامتلأ قلبك حباً للآخرة وسعياً لتحصيلها، طوبى لتلك العين منك إذ سحت بالدمع من خشية الله، وقد اكتحلت عيون النساء بمكاحيل الزينة، ولكن تزينت عينك بالعبرة من خشية الله، طاب للنساء أن يتجملن بالمظاهر وطاب لك -أمة الله- أن تتجملي بالجواهر! طوبى للإيمان! طوبى لسلوك سبيل الرحمن! طوبى لهذا العفاف؛ طوبى له وحسن مآب! أخواتي المسلمات: إن المسلمة تحتاج في كل زمان ومكان إلى قدوة حسنة صالحة تسير على نهجها، وتسلك سبيلها، تحتاج إلى تلك النماذج الطيبة الطاهرة التي حملت المعادن الكريمة وقلوباً تعظم الله وجواهر تؤمن بلقاء الله وتعظمه وتجله، تحتاج إليها لكي تسير على نهجها، وتتخلق بأخلاقها وتتأدب بآدابها، وقد بين القرآن فضل القصة، وفضل الأسوة والقدوة، فبين أن فيها عبرة، وأنه بهدى الأخيار يُهتدى، وبحذوهم يُقتدى، وبسبيلهم يُربى.(11/2)
نماذج من سير الصالحات
لقد قصَّ الله عز وجل في كتابه قصص الصالحات، وبين على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم تلك المواقف المشرفة من تلك النماذج الطيبات الطاهرات من قرونٍ خلت، وأزمنة مضت؛ مضت بإيمان، وصبر ويقين بالرحمن، مضت تلك الخلوف الصالحة وقد سطرت في دواوين المجد عبراً لا تنسى، وذكريات توجب من الله عز وجل الرحمة والرضا، ومع هذه القرون الخالية، ومع تلك النماذج السامية، ومع ذلك الرعيل، ونسمة من عبير ذلك الجيل تسمو إلى هذه النماذج {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
تحب المرأة المؤمنة الصالحة سير الصالحات حتى يطمئن بذكرهن قلبها، ويسعد بالائتساء بهن قالبها، ومع ذلك الرعيل، ونسمة من عبير ذلك الجيل، نقف مع النساء الطاهرات من سلف هذه الأمة.(11/3)
عائشة رضي الله عنها
ومن سمية -التي قدمتُ لسبق شهادتها- إلى الصديقة بنت الصديق، إلى المبرأة من فوق سبع سماوات، إلى امرأة سكن الإيمان قلبها، ونزل الإيمان واليقين بفؤادها؛ عائشة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، صديقة بنت صديق، لست أدري ما الذي أختار لكِ من طهارتها وعفتها، أأختار لكِ إيماناً لا شك معه ولا مرية؟ أأختار لكِ جناناً مليئاً بمحبة الله؟ أأختار لكِ علماً وفضلاً وأدباً وخلقاً؟ إنها النجم الزاهر، والروض الناضر الذي يستهوي من رآه، ويستهوي من سمع أخباره، إنها عائشة التي تربت في بيت الصديق، وفي بيت النبوة مع خاتم الأنبياء والمرسلين، صلوات الله وسلامه وبركاته عليهم أجمعين.
مع عائشة التي رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمدٍ صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً وزوجاً محبوباً، أكرمته وأحبته فلما خُيرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزلت آية التخيير لنسائه، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: (إني مخيركِ في أمرٍ فلا تعجلي فيه حتى تراجعين فيه أباك وأمك) فما إن خيرها بين الدار الآخرة وبين أن يمتعها ويسرحها سراحاً جميلاً، حتى أبت وأصرت إلا البقاء معه صلى الله عليه وسلم، بل إنها أجابت مباشرة بأنها تختار الله ورسوله والدار الآخرة، وعجلت أن تخير والديها، فهو الأمر الذي لا يحتاج إلى خيار غير خيارٍ واحد، وهو الذي أحبته وارتضته، وهو اختيار رحمة الله ومحبته، عاشت هذه الطيبة الطاهرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً لكل زوجة وفية لزوجها، أحبها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام، أحبها لديانتها ولطهارتها، ولصلاحها وعفتها رضي الله عنها وأرضاها.
وعاشت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيشة الفقر؛ فقر الظاهر وغنى الجواهر، عاشت فقيرة في الظاهر ولكنها غنية بالله عز وجل، ثلاثة أشهر وما يوقد في بيتها نار، فرضيت بهذه العيشة لعلمها بأن رضوان الله عز وجل فيها، ماذا أختار لكِ من هذه الصالحة الطيبة الطاهرة المباركة الصديقة بنت الصديق التي عاشرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينٍ تراقب حركاته وسكناته، وسمعٍ يصغي لكل لفظ من حديثه، فكانت وعاءً من أوعية السنة، وحافظة من حفاظ الصحابة، وعت أكثر من ألف حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنضر الله ذلك الوجه، ونضر الله -عز وجل- تلك الصورة التي حفظت للأمة دينها، وما اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء من هديه داخل بيته إلا ورجعوا إلى الصديقة يختارونها حكماً بينهم، قال أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه: [ما اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمرٍ ورجعوا إلى عائشة إلا وجدوا عندها خبراً وأثراً].
إنها عائشة علماً وأدباً وفضلاً ونبلاً، رسمت منهجاً للصالحات في المثابرة على محبة رب البريات بطلب العلم، فهي مثال لكل زوجة عالم، ومثال لكل زوجة داعية أن تتقي الله عز وجل في زوجها، رسمت المنهج الصالح بمعاشرة النبي الكريم ولخلفاء الأنبياء من العلماء العالمين، والدعاة المخلصين بصبرها على العيشة اليسيرة، وعفتها عن الغنى الذي يرديها ويهلكها، رضيت فأرضاها الله عز وجل برضاها، ونحن اليوم نعيش مع عائشة اليوم، نعيش مع تلك النماذج الحية من نساء مؤمنات صالحات طاهرات ذكرن عائشة في علمها وأدبها، فجعلنها قدوة بها يحتذى، وأمة بها يُقتدى.
نعيش اليوم مع تلك النماذج الطيبة الطاهرة، مع النساء الحافظات لكتاب الله، اللاتي خرجن إلى بيوت الله لحفظ آيات الله، نعيش مع عائشة اليوم وهي ساهرة في طلب العلم بعين ترجو رحمة الله، وهي تخط بيدٍ ترجو الفوز بالكرامة من الله، وهي تصغي بسمعٍ يطلب رضوان الله، نعيش مع عائشة اليوم تلك الداعية المخلصة التي نذرت نفسها للدعوة إلى الله، مع عائشة اليوم التي جرت محبة الدعوة في عروقها.
إنها عائشة الصالحة عائشة الفاضلة عائشة التي صبرت على البلاء، فأوذيت في أقدس شيء -بعد الإيمان- وهو عرضها فمست كرامتها، ولكن لتنال من الله رضواناً، وصفحاً من الرحمن وبراً وإحساناً، وقفت عائشة رضي الله عنها أيام محنة الإفك؛ ذلك الموقف العصيب الرهيب، ولكنها كانت أكبر من تلك المقالة حينما تعلقت بالله ولاذت به، واستعاذت بالله فكانت معه، قيل عنها ما قيل فبرأها الله عز وجل، وغار عليها إذ نزل آيات التنزيل، وما كانت تظن أن ينزل الله عز وجل فيها قرآناً إلى يوم الدين، فكل امرأة اليوم تؤمن بربها، فتؤذى في عرضها، تترسم نهج هذه الصالحة فتصبر لوجه الله، وتحتسب الأذية عند الله، وترجو في مصابها وبلائها المثوبة من الله.
عائشة اليوم تؤذى وتتهم في عرضها وعفتها ولكنها ثابتة لوجه الله، صادقة إيماناً بالله، تصبر على تلك المكائد، وتصبر على ما يروجه كل معاند وحاسد، تتمثل هدي تلك المرأة الصالحة، وتترسم خطى تلك الصديقة الفاضلة.
عائشة رضي الله عنها التي كانت مثالاً في الزكاة، ومثالاً في الجود والسخاء، فتحت لها أموال الدنيا فما التفتت إلى تلك الأموال، بعث إليها عبد الله بن الزبير رضي الله عنها وعنه مائة ألفٍ فجاءتها وهي صائمة لله، فما إن وقعت في يدها حتى تذكرت جنان الخلد التي ترجوها عند ربها؛ فبذلت تلك المائة في طاعة الله ومحبته، فرقت تلك المائة حتى أمسى المساء وما عندها منها شيء، فطلبت فطورها وطلبت شيئاً ترد به جوعها وظمأها، فإذا به لم يبق من المائة ألف شيء تطعم به طعاماً، ولكنها أبقت رضوان الله، والرجاء فيما عند الله، صامت لوجه الله عز وجل ذلك اليوم، وصامت مع صيام الجسد عن شهوة الدنيا وفتنتها وزهرتها، فبذلت ذلك المال كله لوجه الله حتى نسيت طعام فطورها! يا لله من قلب يؤمن بالله! ويا لله من فؤاد يرجو رحمة الله! ويا لله من صديقة تلتمس رضوان الله! قالت لها أم ذر: [هلا تركت من المائة ألف ما تفطرين به؟ فقالت: لا تلوميني، هلا ذكرتني؟] ذهلت عن الدنيا حينما تذكرت رحمة الله، ورجت الفوز بما عند الله.
إنها ذهبت ومضت وخلفت لنساء المؤمنين ذلك المثال الصادق لبذل المال لوجه الله واحتساب الأجر عند الله، ذهبت عائشة إلى رحمة الله ورضوانه، ولكنها رسمت المنهج لـ عائشة اليوم حينما اقتدت بها وائتست، فكم نسمع من قصص تذكر بها! كم نسمع من قصص عن تلك الصالحة! وعن تلك المؤمنة الموقنة التي جددت عائشة الأمس رضي الله عن تلك وعن هذه رضواناً لا سخط بعده.
امرأة من نساء المؤمنين في العصر الحاضر كانت بنت ثري من الأثرياء، شاء الله عز وجل أن يقبض روحه فخلف الأموال الكثيرة، فجاءها زوجها مساء ذلك اليوم بتلك الورقة التي فيها خمسة ملايين من الريالات، فلما أخبرها الخبر وقال لها: هذا قسمك من ميراث أبيك.
قالت: كم هو؟ قال: كذا وكذا.
قالت: والله لا أطعم منه شيئاً وأيتام الأفغان يعانون الجوع، وأرامله يقاسون البرد والعناء.
وقالت: والله لا يمسي هذا المال وعندي منه شيء، فخرجت منه ترجو رضوان الله، فيا لله من مؤمنة صابرة! ويا لله من مؤمنة صادقة! إنها قلوب الصادقات التي آمنت برب البريات، فنسيت عند الإيمان به حظوظ الدنيا وزهرتها، إنها أمثلة ونماذج حية بنقل الثقات عن تلك الصالحات اللاتي يُذكِّرن بـ عائشة الأمس رضي الله عن الجميع وأرضاهن.(11/4)
خديجة رضي الله عنها
وأول وقفة -مع الإيمان والثبات على الإيمان- مع امرأة آمنت بربها، ورضيت عن الله ورضي الله عنها، امرأة لا كالنساء، كاملةٌ، مطهرةًٌ، مختارةٌ من الله لنبيه، امرأة أحبها الله وأحبت الله، ورضيت عن الله ورضي الله عنها، إنها خديجة بنت خويلد التي أحبها الله عز وجل، وأحبها نبيه صلى الله عليه وسلم، أحبها الله حتى نزل جبريل الأمين يحمل سلام الله عليها، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن جبريل قال: (يا رسول الله! هذه خديجة قد جاءتك بإناء فيه إدام -أو شراب، أو طعام- فأقرئها من الله السلام ومني، وبشرها ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب) إنها خديجة مثال الإيمان، واليقين بالرحمن، إنها خديجة التي ثبت الله عز وجل بها أحب القلوب إليه، إنها خديجة التي واست رسول الله صلى الله عليه وسلم بمالها، وواسته بفؤادها إذ شاركته أحزانه، وشاطرته آماله وآلامه، ما جاءها خائفاً إلا أمنته بعد الله، ولا جاءها مهموماً محزوناً إلا بددت همومه وأحزانه بإذن الله، زوجة ونعم الزوجة! مؤمنة بالله عز وجل حقيقة الإيمان، ما إن جاءها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخوف قد استولى عليه حتى قالت له: [كلا والله، لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق] فيا لله من امرأة! أتعجب من إيمانها وثباتها إذ هي تعاني وتقاسي عذابها في الله! أم تعجب من حكمتها وبيانها إذ ثبتت قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم! مضت هذه الطيبة الطاهرة إلى رحمة الله، ومضت إلى عفوه وغفرانه، ولكنها سطرت لأجيال المؤمنات ديواناً من المجد ائتست به صالحات وأي صالحات، مشى على دربها الفاضل نساءٌ مؤمنات قد بعن الدنيا واشترين الآخرة.
إن مضت خديجة الأمس فإن خديجة اليوم باقية، فكم من نساءٍ صالحات طاهرات نسمع عنهن في هذا الزمان قصصاً تعيد لنا ذكرى خديجة! كم من زوجة صالحة الآن اهتدى زوجها على يدها، عرفته سبيل المساجد، وأقامته مع كل راكع وساجد، وحببته أن يكون مع الخير العابد.
إن ذهبت خديجة فقد أبقت لنا أمثالها، وإن ذهبت خديجة فقد أبقت لنا أشباهها، وإن واست خديجة الأمس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدين والمال والنفس، فـ خديجة اليوم تواسي زوجها وهو داعية إلى الله، فتضحي بمالها في سبيل الدعوة إلى الله، وتضحي بأوقاتها كي تعينه على مرضاة الله.
كم في زماننا من أشباه لتلك المرأة المؤمنة؟ قال الأب لابنته يوماً من الأيام: إن ابن عمك يريد الزواج منكِ.
قالت له: يا أبتاه أتأمرني بذلك؟ قال: نعم.
قالت: سمعاً وطاعة.
وشاء الله ذلك الزواج، وما إن مضت أيامٌ يسيرة حتى تبدى لها ذلك الزوج وإذا به شيطانٌ مريد، من رحمة ربه شقي طريد، فما إن بلغ الخبر بذلك القلب الذي يعامل الله، وذلك الفؤاد الذي يرجو رحمة الله، حتى احتسبت المعونة من الله وقالت: لقد بررت أبي بزواجي منه، والله يعينني على هدايته.
فيا ألله من امرأة صالحة تفجرت ينابيع الحكمة على لسانها، فأخذت بمجامع ذلك الزوج إلى طاعة الله! وأخذت بمجامعه إلى محبة الله، وهدته إلى رضوان الله وطاعته، فما ذكر فضلها يوماً من الأيام إلا بكى اعترافاً بجميلها، وإقراراً بفضلها.
إنها خديجة اليوم التي تحتسب عند الله عز وجل في التأسي بتلك الطيبة الطاهرة، إنها خديجة اليوم مهما رأت من زوجها إعراضاً عن الله؛ كان قلبها أكمل ما يكون يقيناً بالله، وكان جنانها أقوى ما يكون ثباتاً على طاعة الله، إنها خديجة اليوم التي نطمع أن نرى أمثالها وأن نسمع ذكراها، فنضَّر الله وجهها، وكثَّر في المسلمين سوادها.(11/5)
سمية رضي الله عنها
ومن خديجة إلى مقام الإيمان والتوحيد والصبر على الإيمان بالحميد المجيد، إلى سمية وهي تُكاد على الإيمان بالله، وتهان من أجل لا إله إلا الله، إلى تلك المرأة التي آمنت بربها، وصَدَّقت بوحدانية خالقها فقيدت إلى العذاب الذي يفضي بها إلى رحمة رب الأرباب، قيدت إلى العذاب الذي فيه مهانة الدنيا، ولكن مآله كرامة الآخرة، إنها سمية أول شهيدة في الإسلام، التي رضيت أن تنال العذاب، وأن ترى ما ترى من صنوف البلاء والمهانة في الله ولله، وكل ذلك من أجل أن يرضى عنها الله، فما وهنت في طاعته، وما ضعفت في سبيله، فيا له من قلب موحد لله! قلب سكن التوحيدُ بشعابه، ونزل إلى أعماق جذوره، فاهتدت بهدي ربها فلم تبتغ عن سبيله تحويلاً، ولا له بديلاً.
إنها سمية الأمس التي صبرت على طاعة الله ومحبته، وأوذيت في الله، وعايشت ما عايشت من البلاء والضنك في سبيل طاعة الله ومرضاته.
وأشباه سمية في عصرنا الحاضر كثير، وما زال الخير في الأمة، فكما أن الخير في الرجال فإن الخير موجود في النساء، فما زالت سمية في الأمة باقية إنها سمية التي تعيش بهدايتها وحيدة بين أسرة كاملة إنها سمية التي تعيش بإيمانها وطاعتها لربها وعفافها بين أخواتٍ وزميلاتٍ بعيدات عن الله إنها سمية اليوم التي تؤذى في لباسها فتصبر وتحتسب، وتؤذى في حيائها فتصبر وتحتسب، وتؤذى في شيمتها وعفتها فتصبر لوجه الله وتحتسب.
إنها سمية اليوم الصادقة مع ربها، الموقنة بلقاء خالقها إنها سمية اليوم التي لم تلتفت إلى مفاتن الأزياء، ولم يغرها ما غر غيرها من النساء إنها سمية التي أوذيت باللسان، فسمعت من الكلام ما كرهت ولكن رضيت بالله، ورضيت البقاء على طاعة الله ومحبته؛ فطوبى لها وحسن مآب!(11/6)
يا فتاة الإسلام! هذه هي القدوة
أخواتي المسلمات: إن نماذج الصالحات نورٌ في القلوب، ودليل يدل على رحمة علاَّم الغيوب، إنها النماذج الحية التي إذا قرأت المؤمنة سيرهن تذكرت كتاب الله، فكلامهن، وأفعالهن، وأخلاقهن تذكر بالقرآن، فالله الله أن تستبدل المؤمنة الصادقة بتلك السيرة العطرة، والمواقف النضرة سير الماجنات الداعرات! الله الله أن تنسى المرأة المؤمنة تلك النماذج الحية التي تسبقها إلى رياض الجنان.
فيا طالبة الجنة! فيا أيها المؤمنة التي تعلق قلبها بالجنان! ويا أيتها المؤمنة التي ترجو الرحمة من الكريم الرحمن! شمري عن ساعد الجد في زمان الغربة، وجددي مآثر الإسلام في هذا الزمان الذي عظمت فتنته وجلت محنته، جددي مآثرهن بالأخلاق الفاضلة، والآداب الرفيعة.
كم كان بودي أن أبقى معكن في سير الصالحات التي لا تنتهي، في سير أولئك الداعيات المصلحات اللاتي أحيا الله عز وجل بهن قلوب البريات، في سيرة تلك الصالحات الداعيات إلى الله والمحتسبات للأجر عنده، ولكن ضاق الوقت، وأرجو من الله عز وجل أن يجعل فيما مضى الخير والبركة، وليست العبرة أن نذكر سيرهن، وليست العبرة أن نقص أخبارهن، ولكن العبرة كل العبرة أن يترجم أمثالكن يا معشر المؤمنات الصالحات، ويا معشر التائبات العابدات، ويا معشر المنيبات القانتات، أن تجددن تلك المواقف، وأن تترجمن هذه السير وهذه المواقف إلى حياة عملية، فنضر الله عز وجل وجه امرأة أحيت تلك السيرة الفاضلة، ودعت إلى تلك المواقف المشرفة، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يكثر سواد الصالحات في الأمة، وأن يثبت قلوبهن على الطاعة والملة.
اللهم ثبت قلوب نساء المؤمنين على طاعتك يا رب العالمين، اللهم أعذهن من شرور أهل الفتن وأهل المحن، وأسمعنا عنهن كل خير وكل فضل وبر، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه الأمين.(11/7)
الأسئلة(11/8)
حكم ترتيل المرأة القرآن بصوت حسن أمام معلمها
السؤال
كثير من الدارسات في هذه الدورة في الفصول الدراسية عند تلاوة القرآن يقمن بتنغيم الصوت والتغني عند تلاوة القرآن، فهل هذا الترتيل جائز عندما نُسمعه شيوخنا الكرام، أرجو توضيح ذلك للكثيرات وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا السؤال يتضمن مسألتين: المسألة الأولى: في مشروعية الترتيل.
والمسألة الثانية: في مشروعية سماع الرجل الأجنبي لصوت المرأة التي يعلمها.
أما المسألة الأولى: وهي مشروعية ترتيل القرآن، فإن الألحان، وحسن التغني بكتاب الله، وحسن الترتيل لآيات الله محبوب عند الله عز وجل، ومحبوب عند نبي الله وعباد الله، فإذا خرج كتاب الله من فم معطر بتلك التلاوة التي تعطي الحروف حقوقها، وتعطي آيات القرآن صفاتها فإنها التلاوة المحبوبة وهي التلاوة المطلوبة، ولذلك أذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة بذلك وقال لـ أبي موسى الأشعري: (لقد أوتيت مزماراً من مزامير آل داود) فكان ذلك ثناءً، وكان ذلك إقراراً فدل على محبة الترتيل.
ولكن يشترط في جواز هذا الترتيل وجواز هذا اللحن أن يكون بدون تكلف يخرج الحروف عن أوصافها أو تجاوز المرأة المرتلة حدود التجويد وضوابطه، ولذلك قال القائل: اقرأ بلحن العرب إن تُجوِّدِ وأجز الألحان إن لم تعتد فالضابط عند أهل العلم في جواز الترتيل وحسن النغمة ألا يجاوز القارئ الحد المعروف والمطلوب والمألوف، فإذا جاوزه إلى التمطيط والتغني الخارج عن الحد السوي فإنه محرم، فإذا جاوز هذا الحد الذي ذكرناه وكان الترتيل المذكور من جنسه فينبغي تركه والبعد عنه، أما إذا كان في الحدود المعتبرة شرعاً وكان وفق قواعد الشرع فهو محمود وغير مردود وصاحبته مأجورة غير مأزورة إن شاء الله.
المسألة الثانية: في جواز سماع الرجل الأجنبي قراءة المرأة.
يجوز له أن يسمعها عند الحاجة كالحال في سماع المعلم من المرأة التي يعلمها ونحو ذلك فهذا لا حرج فيه، ولا وزر فيه بشرط ألا يوجب فتنة السامع، فإن خاف السامع من الفتنة فإنه ينبغي له أن يسعى في نجاة نفسه ولا يهلك نفسه وينجي غيره، والله تعالى أعلم.(11/9)
أساس قبول الأعمال
السؤال
ما نصيحة فضيلتكم لمن تعمل الأعمال الصالحة، وتبذل الجهد في الدعوة إلى الله ويشوب إخلاصها لله بعض الشوائب مثل: مضايقتها لبعض المخلصات في العمل معها، أو محاولة إبراز أعمالها للغير وحب الظهور والتسلط؟
الجواب
أولاً: أوصي كل امرأة مؤمنة نذرت نفسها للدعوة إلى الله أن تكون مشعل خير حيثما كانت أو حلت.
وأوصي بأمرين مهمين للداعية إلى الله: أمر بينها وبين الله، وأمر بينها وبين عباد الله: أما الأمر الذي بينها وبين الله: فإخلاص قلبها لله عز وجل، فتتكلم وتنطق لله، وترجو رحمة الله على نور وبصيرة من الله.
إن هذه الكلمات التي تتفوهين بها ترجين بها رحمة الله عز وجل ورضوانه، ليست باليسيرة عند الله، إن اللحظة الواحدة وأنت تذكرين فيها بالله عز وجل لها ثمن عند الله غالٍ، ولها أجر عند الله عظيم {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114].
لذلك أختي المسلمة احتسبي عند الله كلامك الذي تذكرين به بالله، احتسبي به وجه الله، وارجي به ما عند الله، وإياك والالتفات إلى الأنظار، أو الالتفات إلى حظوظ الدنيا من الشهرة والسمعة، فهو متاع حائل وظل زائل، فاتقين الله عز وجل، فإن الدعوة إلى الله قد اختارها الله واختار أهلها للآخرة، فأهل الدعوة إلى الله هم أولياء الله وصفوته عز وجل من خلقه بعد أنبيائه والعلماء العاملين.
احتسبي عند الله تلك الكلمات التي تذكرين بها، واحتسبي عند الله تلك الكلمات التي تتلفظين بها، فإذا بليت بالرياء أو بطلب السمعة فالله الله بتوبة نصوح، الله الله في إنابة إلى الله، بادري بالرجوع إلى الله ولا تقنطي من رحمة الله، وعودي علَّ الله عز وجل أن يتوب عليك، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين.
أما الوصية الثانية للداعيات إلى الله: فوصية بالتآلف، وبالتعاون والتكاتف، وبالمحبة والوفاء، وبالإيثار والإخاء.
إن هذه الداعية التي تراها عينك عزيزة عند الله إن هذه الداعية التي تسامتها أقدامك عزيزة عند الله خطاها عزيزة عند الله كلماتها عزيزة عند الله دعوتها.
إنها المرأة التي باعت وقتها لله وفي الله فأحبيها في الله، والله إنا لنسمع ببعض الصالحات الداعيات فنحتقر أنفسنا بجوار ما يبلغنا عنهن من الصلاح، والديانة، والاستقامة، والحرص على الدعوة، فكوني مُجِلَّة لهذه الداعية وأحبيها في الله، حينما تتذكرين تلك العدوة التي لا ترضى بك، ولا تحبك، ولا ترضى بالدنو منك ولا بحياتك، فالله الله في مُحِبَّة لكِ في الله، فإن حصلت منها الزلة وبدرت منها الهفوة فاغفريها لوجه الله، فقد وقع بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما وقع ولكن بقيت الدعوة إلى الله وبقيت الهداية إلى سبيل الله ولم يغير ذلك من منهجهم في طاعة الله ومرضاته.
ثم أوصي أخواتي الداعيات إذا حصلت أية نفرة بينهن أن يكون نقاشها في الخلوة، وأن يكون هادفاً، وأن يكون الجميع طالباً لرحمة الله.
الله الله يا معشر الداعيات أن يشمت بالإسلام بسببكن، الله الله في هذا النزاع، وفي هذا الخلاف الذي لا يستفيد منه إلا أعداء الله، إن الله قرن الفشل والخيبة بالنزاع فقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] إذا لم تجتمع الداعيات إلى الله فكيف تقف الواحدة أمام النساء تذكرهن بالمحبة والوفاء؟ إذا لم تتألف قلوب الداعيات إلى الله فكيف تأتلف بهن القلوب على طاعة الله؟ الله الله يا معشر الداعيات! لينسى كل خلاف بيننا، ولتنصب قلوبنا وقوالبنا على طاعة الله ومحبته، إننا والله نخشى أن نكون حجر عثرة في سبيل الله وطاعته.
الله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكن، فاحتسبن عند الله في الصبر على البلاء، واحتسبن عند الله في البعد عن النزاع والشقاق، ونسأل الله العظيم أن يجمع القلوب على محبته وأن يؤلف الأفئدة على مرضاته، والله تعالى أعلم.(11/10)
أسباب الانتكاسة وكيفية علاجها
السؤال
توجد ظاهرة بين الأخوات الملتزمات وهي: أن بعضهن تلتزم باللبس والحجاب والزينة الإسلامية، ولكنها تمر أحياناً بانتكاسات، فتجدها -مثلاً- في أكثر الأيام ملتزمة بما شرع الله، فتلتزم باللبس والحجاب والزينة، ولكن يحدث لها في إحدى الأيام أن تنتكس فتلبس الملابس القصيرة والضيقة، وتسرح شعرها وتقصه كفعل الفاسقات، وتلطخ وجهها بالمساحيق، ثم تعود بعد ذلك من جديد لحشمتها والتزامها، فما هي أسباب هذه الانتكاسات؟ وكيف علاجها؟
الجواب
الانتكاسة -والعياذ بالله- عن طاعة الله أسبابها كثيرة أعظمها وأهمها: السبب الأول: ضعف الإيمان في القلوب؛ فإذا قوي الإيمان في القلب تعلق القلب والقالب بالله، وصار القلب إلى الله، وتبعته الجوارح إلى رحمة الله، فالعين تنظر بطاعة الله، والسمع يسمع ما أمر الله، والبصر يبصر ما أذن الله، واللسان يتكلم بما أذن الله، فإذا ضعف هذا الإيمان تنكبت الجوارح في معصية الرحمن.
أول ما تحرص عليه المؤمنة التي تريد الثبات على هدايتها وعقيدتها بربها، بأسمائه، وصفاته، وبألوهيته وربوبيته، الأسماء والصفات تخوفها من الله، وتجعلها في طمع برحمة الله، والإيمان بألوهية الله يجعلها متعلقة بالله وحده لا إله إلا هو، وإيمانها بربوبية الله يجعلها في حياء من الذي أطعمها وسقاها وكفاها وآواها؛ فتكون سائرة على طاعة ربها ورحمة خالقها.
وهذا الإيمان يأتي بأسباب أعظمها: القرآن، أن تدمن المرأة التفكر والتدبر لآياته، والتأثر من زواجره وعظاته.
السبب الثاني الذي يدعو إلى الانتكاسة -والعياذ بالله-: هن قرينات السوء، الداعيات إلى الردى، المانعات من سبيل الرضا، المثبطات عن طاعة الرب جل وعلا، صديقات سوء، كلامهن يقسي القلوب ويصرفها عن محبة علاَّم الغيوب ومرضاته، صديقات سوء غضب الله عز وجل من كلامهن فلم يقلن من الكلام ما يرضيه، فأصغت تلك المرأة وتساهلت في إصغائها فنفذت تلك الكلمات التي لا ترضي الله إلى قلبها، فحببتها في معصية الله، ودعتها إلى سخط الله والعياذ بالله، فما أشقاها من جليس كان عوناً على سبيل إبليس! وما أشقاها من امرأة لا تعرف حدود الله! فالله الله -يا أيتها المؤمنة- أن تتساهلي في صحبة الأشرار، إذا رأيت المرأة على طاعة الله فاجعليها مثالاً لك في سبيل الله ومرضاته، وإن رأيتها على معصية الله فكوني معها على حالين: الحالة الأولى: تذكير بالله.
والحالة الثانية: إن لم تتذكر فصدود وإعراض عنها يرجى به رحمة الله.
السبب الثالث من أسباب الانتكاسة: عين تمتعت بالحرام، وأذن أصغت إلى الفواحش والآثام، فقادت تلك العين القلب إلى معصية الله، وقاد ذلك السمع القلب إلى حدود الله، فالجوارح هي التي توجب الانتكاسة، وتوجب -والعياذ بالله- الارتكاس، كم من جارحة أصغى بها العبد فأوردته الردى، وصدته عن سبيل الهدى فعاش عذابها وبلاءها، فالمؤمنة التي ترجو الثبات على طاعة رب البريات تحفظ سمعها وبصرها ولسانها وفؤادها عن حدود الله ومحارمه.
إذا أردتِ الثبات إلى الممات فأسكني قلبك ذكر الآخرة، والمصير إلى الله عز وجل في السفينة الماخرة، تذكري أن الأيام تنقضي، وأن الأعمار تنتهي، وأن الآجال توجب قطع الآمال، فما من امرأة تذكرت مصيرها إلى الله إلا ثبتت على طاعة الله ومحبته.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبت قلوبنا على طاعته ومحبته، والله تعالى أعلم.(11/11)
ضرورة الصبر على الدعوة إلى الله
السؤال
أنا فتاة أعيش في بيت فيه من أنواع الفساد الشيء الكثير، ولا يوجد من يساعدني على أن أسمو إلى ما وصلت إليه الصالحات، فكيف المخرج حفظك الله مع العلم أن كثيراً من الفتيات يعشن نفس ظروفي؟
الجواب
أولاً: أهنئكِ بنعمة الله عز وجل عليك بالهداية، أهنئكِ بهذا القلب الذي وعى مع أنك في عيشة لا تعينه على الوعي، أهنئكِ على ذلك الفؤاد الذي تذلل لطاعة رب العباد فتبتِ وأنبتِ إلى الله، فهذه نعمة من الله أهنئكِ أولاً عليها.
أما ثانياً: فإنني أدعوك بدعوة الله عز وجل؛ أدعوك أن تدعي من حولك إلى طاعة الله ومحبته، وإلى الجهاد والصبر في محبة رب العباد، حينما تحتسبين هداية تلك القلوب الحائرة التائهة، احتسبي بكلمة ترجى بها رحمة الله، ذكري بالله، وبصري به، واهدي إلى سبيله ورضوانه، ولا تيئسي! فكم من شابة كانت وحدها، هدى الله عز وجل بها أمة، وأرشد بها أمة.
لذلك -أختي المسلمة- أدعوك أولاً إلى دعوتهن إلى طاعة الله ومرضاته، وأن تحتسبي عند الله عز وجل تذكيرهن بالله، وإياك والقنوط من رحمة الله أو اليأس من روح الله، لا تيئسي فلا بد لليل من فجر، ولا بد للظلام من أن ينجلي، وأقل ما تقومين به وهو كثير: أن تقيمي حجة الله على إماء الله، ذكري بالله، وانصحي فيه، وتقربي إليه بذلك اللسان، لا فض فوك من رحمة الرحمن.
أختي المسلمة: احتسبي عند الله عز وجل إنقاذ أهلك من معصية الله ودلالتهن على مرضاته، وخذي بالأسباب التي تهيئ القلوب إلى طاعة رب الأرباب، إذا كان نصحك لهؤلاء النسوة أمام الملأ يوجب رد نصيحتك فخذيهن واحدة واحدة، وذكريهن منفردات، واغسلي قلوبهن بالآيات والعظات، وإذا كان هناك أسلوب ترغيبٍ يذكرهن أو ينفع في تذكيرهن فخذي بذلك الأسلوب، المهم أن تحتسبي أولاً دعوتهن إلى طاعة الله، وثانياً: أن تصبري في دعوتهن إلى طاعة الله ومرضاته، فكم من شابة كانت في البداية ولكن غنمت النهاية.
وأسأل الله العظيم أن يثبت قلبك على الطاعة، وأن يجعلك من عباده المهتدين، وأن يجعلك هاديةً إلى سبيله ومرضاته، والله تعالى أعلم.(11/12)
الحذر من الاغترار بالطاعة
السؤال
بعض الأخوات الطيبات والحريصات على الخير والملتزمات بكثير من تعاليم الإسلام إذا طلب منهن المزيد من الالتزام بتعاليم الإسلام يرفضن بحجة أن وضعهن أفضل من المتبرجات والمتسكعات في الأسواق، ومن العاكفات على الفيديو والمجلات، فما توجيه فضيلتكم لمثل هؤلاء الأخوات؟
الجواب
المرأة المؤمنة الموقنة تنظر في طاعة الله عز وجل إلى من هو أعلى منها، ففي طاعة الله عز وجل ومرضاته تنظر إلى من هو أسبق منها إلى الطاعة، وأجد منها في مرضات الله ومحبته، وأكثر اجتهاداً، وعبادةً، وصلاحاً، وعند ذلك تغار على نفسها، ولا ترضى بالقليل لنفسها، لذلك أوصي هذه النماذج أن تنظر إلى من هو أعلى وأشرف وأسمى، أن تنظر المرأة إذا كانت على نوع من الصلاح إلى من هو أصلح منها، كم من امرأة صالحة كانت قليلة الصلاح؛ فلما نظرت إلى من هو أصلح منها شمرت في سبيل الفلاح فنافست وسابقت وفازت برحمة الله ورضوانه.
ليست المرأة العاقلة تلك التي تقول: أنا خير من كثير، نعم إذا ذكرت نعمة الله فانظري إلى من هو دونك حتى تعظمي فضل الله عز وجل عليك، ولكن في الطاعة والمحبة والمرضاة، انظري إلى من هو أعلى منك مقاماً، وأكثر التزاماً، فإذا كانت المرأة في بداية الهداية نظرت إلى من هو أصلح منها، وأكمل هداية وولاية، إذا كانت تقتصر على صلاتها نظرت إلى المحافظة على السنن الراتبة، وإذا كانت محافظة على الصلاة والسنة الراتبة نظرت إلى قائمة الليل وصائمة النهار فنافست في محبة الواحد القهار، واحتسبت رضوان الله عز وجل في تلك المنافسة.
فهذا هو حسد الغبطة، وهو التنافس المحمود الذي ندب إليه الواحد المعبود {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26] ومن المجرب إذا نظرت المرأة إلى من هو دونها في طاعة الله فإنها سرعان ما تغتر، والغرور من أسباب الانتكاس والعياذ بالله، فلا تنظري إلى من هو دونك في طاعة الله ومرضاته، ولكن انظري إلى الدامعة من خشية الله الباكية من عذابه، وانظري إلى قائمة الليل وصائمة النهار، وتشبهي بالكريمات فإن التشبه بهن فلاح وأي فلاح.
والله تعالى أعلم.(11/13)
نصيحة في عدم تأخير الزواج لغير عذر
السؤال
أمر خطير متفشٍ بين النساء وهو أنهن تجاوزن الثلاثين من أعمارهن ولا رغبة لهن في الزواج، إما بحجة أن الوقت ما زال مبكراً وتريد أخذ حريتها في الذهاب والإياب بدون ارتباط بزوج أو أولاد، أو بحجة عدم وجود رغبة لديهن بالزواج، فما رد فضيلتكم على هذه الحجج؟
الجواب
المرأة المؤمنة حريصة على طاعة الله ومحبته ومرضاته، وهي قد سمعت عن نبيها المصطفى وحبيب ربها صلوات الله وسلامه عليه أنه ندبها إلى الزواج والتناكح والتناسل، فأحبت أن تكون سباقةً إلى ذلك ما دام أنها لم تكن مشغولة بما هو أعلى وأسما من ذلك، فنافست وسابقت وأخرجت للأمة رجالاً صالحين ونساءً صالحات.
فنصيحتي إلى هذه المرأة المسلمة: أولاً: من يضمن لها البقاء إلى الزواج، ومن يضمن لها زوجاً صالحاً؛ فقد تتأخر المرأة المسلمة في زواجها عن هذا السن التي هي عز شبابها ونضرة بهجتها والرغبة فيها، فإذا ولت هذه السن انصرفت عنها الأنظار وساءتها -بإذن الله- الأقدار، وعندها تندم حين لا ينفع الندم، ترى من حولها النساء قد ولدن الرجال والنساء، قد ولدن الأبناء والبنات، وربينهم على محبة رب البريات، وأبقين للأمة الصالحين والصالحات، وهي تبقى بلوعتها وحسرتها.
والمرأة أشد من الرجل، فإن الرجل قد يطلب الزواج مع التأخر، ولكن المرأة يتعذر زواجها عند التأخر غالباً، فاحتسبي عند الله أن تعفي عبداً لله، وأن تحصنيه بحصن الله، احتسبي عند الله ليالٍ ترجين بها رحمة الله إذ تسهرين على الأولاد، وتربيهم على محبة رب العباد.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح منا ومنكن ما ظهر وما بطن، والله تعالى أعلم.(11/14)
واجب المرأة في حماية بيتها من وسائل الإعلام
السؤال
لا يخفى عليكم خطورة وسائل الإعلام المقروءة، والمسموعة، والمرئية وما ننتظر من البث المباشر على البيت المسلم، وحيث إن المرأة عماد هذا البيت؛ فما هو الواجب عليها لحماية بيتها من خطورة هذه السموم؟
الجواب
الواجب على المرأة المسلمة التي ترجو رحمة الله عز وجل أن تفر إلى الله، وأن تلوذ بالله بالبعد عن هذه الوسائل، نظراً لخبثها وعظيم ما اشتملت عليه من فتنتها، تفر إلى الله بعصمة نفسها عن السماع، وبعصمة بصرها عن النظر، وبعصمة لسانها عن المحاكاة والمشابهة، وأن تبقى على طاعة ربها حافظة لدينها، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين، عجبٌ والله أن يكون الزوج على استقامة لربه فتأتي تلك المرأة تأن عليه وتزن في طلب فتنة تفتن بها القلوب، في طلب تلك المحنة التي تصرف عن محبة علام الغيوب.
إننا ننتظر منك أن تكوني خير معين للبعد عن هذه الوسائل التي لا تأتي بخير إلا ما شاء الله، فالله الله -أختي المسلمة- في سمعك الله الله في بصرك الله الله في لحظاتك وأنفاسك إذ تقضينها على حدود الله ومحارمه، فاتقي الله في أبنائك وبناتك فأنت قدوة لهن إن سهرت على معصية الله، كم من امرأة اقتدت بها ابنتها، وكم من امرأة اقتدى بها ابنها، فحملت وزره ووزرها والعياذ بالله {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13] فمتعي سمعك بطاعة الله، واحجزيه عن حدود الله، والله تعالى أعلم.(11/15)
المظهر اللائق بقارئة القرآن
السؤال
مظهر منتشر بين بعض النساء وهو تفريط منهن في بعض الأمور الشرعية، فمثلاً: قد تأتي لحلقات تحفيظ القرآن أو لدورة حفظ القرآن مع سائق بدون محرم، أو تلبس ملابس غير محتشمة، أو أن يكون سلوكها خارج الحلقات لا يليق بأهل القرآن، فما نصيحة فضيلتكم لأولئك النسوة؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أولاً: أهنئ تلك الشابة الصالحة على صلاحها وفلاحها إذ خرجت إلى حلقة تتلو فيها كتاب ربها أهنئ تلك المؤمنة الصالحة التي رضيت بوقتها، وضحت بشبابها في سبيل حفظ كتاب ربها، طوبى لتلك الخطوات التي خرجت بها إلى رياض الجنة طوبى لتلك الخطوات التي اشترت بها رحمة الله، وطوبى لتلك المجالس التي تعطرت بكلام الله، نور الله قلوبكن، وبيَّض الله وجوهكن يا من اجتمعتن على كتاب الله في هذا المجمع المبارك، وجزاكن الله كل خير، وثبت الله قلوبكن على طاعته، وإلى الأمام في طاعة الله، وإلى الأمام إلى جنان الخلد ورحمة الله، سابقن إلى تلك الجنان بترجمة هذا القرآن وهذه الآيات التي تتلى والمواعظ التي ترتل، عِشن مع هذا الكتاب قولاً وعملاً واعتقاداً وجناناً، عشن مع هذا القرآن بالمظاهر الكريمة التي تدل على الجواهر الكريمة، عِشن مع هذا القرآن رحمكن الله، وكنَّ مثالاً لمن حمل كتاب الله.
الله الله أن يؤتى الإسلام من قبلكن، فيرى الحافظات الحاملات كتاب الله، بعيدات عن شرع الله -لا سمح الله- تأدبن بآداب هذا الكتاب فإنه إما حجة لكن أو عليكن.
ثانياً: يا فتاة الإسلام: إن هذا الكتاب الذي تقرئينه، وهذا الكتاب الذي تسمعينه إما لكِ أو عليك، فالله الله في أقواله! فالله الله في آياته وعظاته! الله الله في زواجره وحدوده! ترسمي هديه عندما تلبسين جلباب الحشمة والحياء، وترسمي هديه حينما تخريجين، الله الله أن تختلي بأي أجنبي ليس بذي محرم لك! وخذي بما يعينك على طاعة الله ومحبته؛ حتى تفوزي بتلك الساعات في رضوان الله، فلا تختلي بسائق أجنبي إلا ومعك ذو محرم، واتقين الله وأطعن الله ورسوله، وإياكن والبعد عن الحشمة والعفاف بلبس ثياب لا تليق بحاملة كتاب الله، وتصرفات لا تليق بالمتأدبة بشرع الله.
إنني لأرجو من الله أن يكون هذا آخر العهد بتلك التصرفات التي لا تليق، وبتلك المناظر التي لا تليق، وأسأل الله العظيم لنا ولك خير الدنيا والآخرة، والله تعالى أعلم.(11/16)
وصية بالإنفاق في سبيل الله
هذه وصية من الإخوان للحث على الإنفاق في سبيل الله وطاعته عز وجل.
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أوصيكن أخواتي المسلمات بإنفاق المال في طاعة الله ومحبته، فهذه أبواب الخير لكُنَّ قد فتحت، وهذه سبل الطاعة والرضوان لكن قد مهدت، هذا مجال خير ينتظر يداً لا شلت تلك اليد، باذلة لوجه الله معطية ابتغاء رضوان الله، ولقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف على النساء فقال: (تصدقن يا معشر النساء فإنكن أكثر حطب جهنم، فأمرهن بالصدقة، فجعلن يهوين ويلقين من حليهن وأقراطهن).
فلذلك أوصي كما أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفقة تحتسبينها ومال ترجينه عند لقاء الله عز وجل، احتسبي عند الله عز وجل النفقة، فإنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اتقوا النار ولو بشق تمرة) وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار).
قد تبذلين مالاً يغفر الله عز وجل به ذنوب عمر مضت منك، وقد تبذلين مالاً يصرف الله عز وجل عنك به ميتة السوء، وخاتمة السوء، فاحتسبي عند الله يا أمة الله في معونة الحفَّاظ ومن يعين على تحفيظ كتاب الله، احتسبي عند الله عز وجل هذا الباب من الخير الذي يقصد به إحياء مدارس القرآن، هذا الكتاب الذي أخرجنا الله به من الظلمات إلى النور، فشرح لنا به الصدور، وأنقذنا به من مزالق الهوى والردى والشرور، فاحتسبي عند الله عز وجل ببذل ما تستطيعين من المال، كم من امرأة بذلت ما في جيبها رضي الله عز وجل عن بذلها، فالله الله في احتساب الأجر عند الله.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(11/17)
رسالة إلى الدعاة
الدعوة إلى الله من أشرف المقامات وأعلى المنازل، حيث إن الداعي إلى الله هو أحب العباد إليه، وقوله هو أطيب القول لديه، والدعوة مرتبطة بالعلم ارتباطاً وثيقاً، بل يعتبر العلم أول لبنة تبنى عليها الدعوة، فإنْ توفَّر العلم وجب التزام العمل، وفي هذا الطريق الطويل يجب على الداعية التزام أمور وخصال تعينه على الاستمرار والثبات، وهذه الخصال مذكور كثير منها في هذه المحاضرة.(12/1)
شرف الدعوة إلى الله وعلو منزلتها
الحمد لله الذي اصطفى العلماء العاملين والأئمة المهتدين فجعلهم حملة لهذا الدين، وشعلة نور يستهدي بها من أراد رضا رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم المبارك إلى يوم الدين، أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأسأل الله العظيم أن يبارك لنا في هذا المجلس المبارك، وأن يجزي إخواننا الذين تسببوا فيه كل خير بما صنعوا.
إخواني في الله: أشرف المقامات وأعلى المنازل في هذه الحياة ذلك المقام لذلك الداعية، وذلك العالِم العامل الرباني، الذي اصطفاه الله عز وجل لدينه فصقل قلبه وصقلت قلبه روحانية الكتاب والسنة، ففقه عن الله دينه وعلم عن الله شرعه، فسار على هدى من الله، ونور من الله يهدي عباد الله إلى الله، ذلك العالِم الذي نور الله بصيرته ونور بهدايته الخلق، الذي ما إن تكلم حتى تفجرت ينابيع الحكمة من لسانه، وإذا أبان تفجرت ينابيع الحكمة من بيانه، عالِم وداعية نور الله قلبه، وهادية نور الله بصيرته.
إنها النعمة التي اختص الله عز وجل لها رجالاً واصطفى لها رجالاً هم صفوته من خلقه، فصفوة العباد من عباد الله هم المطيعون لله، وصفوة أولئك المطيعين هم العلماء الربانيون الذين تعلموا وعملوا وعلّموا، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى فضلهم فقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) فمن تعلم كتاب الله وعلم بما فيه من آيات الله وانشرح صدره لهداية العباد به إلى الله فهو خير العباد عند الله.
وإذا أردت أن تعرف مقام الإنسان عند الله عز وجل فانظر إلى علمه وعمله واجتهاده في الدعوة إلى الله، إذا علم هذا الأصل وهو أن أحب العباد إلى الله هم ورثة أنبياء الله، العلماء العاملون والهداة الربانيون الذين علموا فكانوا قدوة في العلم جداً واجتهاداً ومثابرةً وتحصيلاً وأخذاً للعلم عن أهله، وحفاظاً على الوقت، وحفاظاً على الزمان، وحرصاً على الفائدة، وفرحاً بها وتأدباً بأخلاق أهلها الذين يريدون وجه الله والدار الآخرة، ثم اجتهدوا بعد ذلك في العمل بالعلم فما إن تعلموا سنة حتى طبقوها والتزموها وكانوا أسبق الناس إلى العمل بها والتزامها، فأصبحت أقوالهم وأفعالهم تسير مع العلم الذي علموه، وتسير مع الفهم الذي أوتوه، وقد أشار الله تعالى إلى أنه لا فلاح للعالِم إلا بالعمل فقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] فمن أبأس ما يكون أن يكون العالِم بعيداً بعلمه -والعياذ بالله-.(12/2)
مراتب الناس في العلم والدعوة
إذا علم فضل العلم، وأن الله اصطفى أهله واجتبى أهله، فينبغي أن يعلم أن الناس في هذه النعمة على مراتب: فمنهم مستكثر ومنهم مستقل، ومنهم ذلك العالِم الذي نزل إلى أعماق العلم وأخذ من المعين الصافي فلم يشبع من ري، وارتوى حتى نضحت أضلاعه مما روى محبة لله وطلباً لرحمة الله، ومنهم من هو أقل ودون ذلك وصدق الله إذ أشار إلى ذلك بقوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76].
لذلك -أحبتي في الله- إذا أراد الإنسان الخير وأراد السعادة والفلاح فليجند نفسه لكي يكون من العلماء والهداة والدعاة إلى الله، فالعلم إذا كان نعمة من الله فينبغي للإنسان أن يستكثر من هذه النعمة، وأن لا يستقل عطية الله فيها، وكل واحد منا إذا تعلم أي سنة وعلم أي حكم من الشرع فليعلم أنه طالب علم، وأن طلب العلم لا يقتصر على الجلوس في حلق العلماء فقط بمعنى: أن يكون الإنسان مداوماً مداومةً كاملة بل كل عالِم بقدر ما علم، وقد كان أصحاب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، ورضي الله عنهم أجمعين يجلسون مع النبي صلى الله عليه وسلم المجلس الواحد، ثم ينطلقون دعاة وهداة إلى الله، فلذلك كل واحد علم أي حكم أو أي سنة فليعلم أن الله شرفه بطلب العلم.(12/3)
طلب العلم والدعوة ليس مقصوراً على طائفة معينة
الإنسان إذا أراد أن يسلك هذا السبيل يأتيه الشيطان من كل فج ومن كل صوب، يأتيك ويقول لك مثبطاً ومخذلاً: من أنت حتى تكون عالماً؟ ومن أنت حتى تكون طالب علم؟ ومن أنت ومن أنت؟ فما أبوك بعالِم ولا أنت من بيت علم إلى آخر ما يقوله عدو الله، فينبغي للمؤمن أن تكون همته عالية وأن تكون نفسه أبية تنافس في طاعة الله، وتسابق في مرضاة الله فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
إن العلم ليس حجراً على أحد، وطلب العلم ليس حكراً على قوم معينين، ولا على طائفة معينة، ولا على قبيلة بعينها، ولا على جنس معين، طلب العلم إنما هو منحة من الله لعباد الله، قال تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269].
هو المعلم وهو المفهم وهو الهادي إلى سواء السبيل، فإياك أن يثبطك الشيطان عن طلب العلم، وإذا وفق الله لك في البلدة أو المدينة التي أنت بها ووجدت فيها رجلاً من أهل العلم فاحتسب عند الله بخطواتك إليه، واحتسب عند الله جلوسك في مجلسه، واحتسب عند الله بإنصاتك لحديثه وعملك بما يقول، قال تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة:122].
فينبغي لنا إذا كنا في أي مكان وتيسر وجود العالِم ألا نقصر في غشيان حلق العلم، الله الله أن توجد تلك الحلقة ويسبقك غيرك إليها فتكون أدنى منزلةً عند الله؛ لأنك إذا كنت بين قوم يطلبون العلم وأنت متقاعس عن طلب العلم فهذا زهد في الخير ونقصان في الأجر -والعياذ بالله-، ولذلك قال بعض السلف يوصي ابنه: إياك أن تعرض عن العالِم، فإنك إن أعرضت كان الضرر عليك ولم تضر العالِم شيئاً.
فالعالِم لا يضره إعراض المعرضين وإنما يستضر من أعرض عن العالِم، قال الجد رحمة الله عليه: ومن صد عنا بحسبه اللوم والقلى ومن فاتنا يكفيه أنا نفوته فالمقصود: أنه ينبغي لك أن تشمر عن ساعد الجد في طلب العلم.(12/4)
أهمية العمل بالعلم وتطبيقه والدعوة إليه
لا تتعلم أي سنة أو أي علم إلا طبقته ولو مرة واحدة، سمعت عن آية فيها ذكر لله طبقها ولو مرة، سمعت عن حديث فيه ذكر عند القيام عند القعود عند النوم عند المساء عند الصباح طبقه ولو يوماً واحداً، التزم بالسنة، فإن الإنسان إذا عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم، فالعمل بركة العلم، ولذلك قال السلف: هتف العلم بالعمل فإن أجابه ولا ارتحل فينبغي لك أن تقدم على العمل هذه المرحلة الأولى.
والمرحلة الثانية: العمل بالعلم.
وينبغي للإنسان أن يستكثر من هذا العمل، فإن الإنسان قد يتعلم السنة الواحدة يبلغ بها درجةً عند الله عز وجل ومغفرة.(12/5)
أهمية الدعوة إلى الله
أما الأمر الثالث وهي المرحلة التي يدور عليها الحديث: قضية الدعوة إلى الله.
فبعد أن تعلم وتعمل تنطلق مشعل نور ورحمة وهداية في مجتمعك، تنطلق هادياً إلى الله وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً بين قومك وأهلك، حتى تتشرف فتكون وارثاً للنبي صلى الله عليه وسلم، حتى تتشرف ويثقل ميزانك بحسنات أقوام هديتهم إلى الله، حتى تتشرف فتقيم حجة الله على عباد الله، فأعلى مقام للعبد مقام الدعوة إلى الله، وقد أشار الله تعالى إلى هذا المقام الشريف والمنصب المنيف بقوله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] و (مَن) هنا بمعنى: لا، أي: ولا أحسن قولاً ممن دعا إلى الله.
فما أطيبها من كلمات عند الله حينما تذكر بها عباد الله! وما أسعدها من لحظات حينما تجلس بين قوم تهدي قلوبهم إلى الله! فليحتسب كل واحد منا أن يقوم بهذا الواجب، وهذا الواجب لا يقتصر على قوم معينين، بل واجب الدعوة إلى الله أمانة في عنق كل واحد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدعوة إلى الله واجب على كل أحد، حتى إن الإنسان العامي من المسلمين تجب عليه الدعوة بمقدار ما علم، فلو مر على إنسان يعبد غير الله لا يقول أنا عامي فإن الدعوة إلى توحيد الله ونبذ ما يعبد من دون الله واضحة لا تحتاج إلى كثرة علم، وهناك أمور خاصة كمعرفة الأحكام والشرائع فالدعوة إليها خاصة بأهل العلم، ولكن هناك دعوة عامة وهي الدعوة إلى أصل الدين، وتوحيد رب العالمين، وإقامة حجة الله على خلقه أجمعين، وهي التي وردت فيها الآيات العامة، ثم يليها الدعوة إلى ترك المحرمات والفواحش والمنكرات.
فما حَيَّتْ الأمة إلا بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ماتت القلوب ولا هانت الأمة إلا حينما أضاعت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولن تجد الأمة في زمان سما مكانها وعز بين العباد شأنها إلا وجدتها أحرص ما تكون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولو نظرت إلى زمان من عصور الإسلام الزاهرة وأزمنته الغابرة التي كانت فيها في عز ومجد ورفعة، لو قرأت التراجم وجدت تلك الأمة التي كانت تعتصر قلوبها غيرة على الدين، وجدت الصغير يغار على الدين قبل الكبير، ووجدت القلوب تتمعر لله، ووجدت الألسن تهدي إلى الله وتدعو إلى الله، فلما كانت الأمة بهذا الحال صلحت أحوالها وعظم عند الله مكانها وعز بين الخلق شأنها.
فالمقصود أن الإنسان ينبغي له أن يقوم بهذا الواجب، فلو مر إنسان على إنسان يعصي الله عز وجل في كبيرة من الكبائر أو صغيرة من الصغائر لا يقول: أنا لست بعالِم، بل هذه الكبيرة أو هذه الصغيرة يستوي في النهي عنها الصغير والكبير، ليس الأمر بعسير على إنسان تراه يشرب حراماً أن تقول له: اتق الله يا هذا، اتق الله فيما تشرب، أو ترى إنساناً يأكل حراماً تقول له: اتق الله فيما تأكل، أو ترى إنساناً ينتهك حرمةً لله ليس بالصعب أن تذكره بالله، فلربما كلمة تكلمت بها من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم تلق لها بالاً كتب الله لك بها رضواناً لا سخط بعده، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، تمر عليه وتقول له: اتق الله! بقلب يتمزق غيرةً على دين الله، يكتب الله لك بها رضاً لا سخط بعده.
فالله الله في هذا الواجب العظيم، الله الله في رسالة أفضل الأنبياء والمرسلين، إذا تخاذلنا عن هذا الدين، من الذي يقوم به؟! وإذا تقاعسنا ولم تكن عندنا غيرة على هذا الدين، من الذي يغار على سنة سيد المرسلين وإمام المتقين صلوات الله وسلامه عليه؟! والخوف كل الخوف أننا إذا تقاعسنا، سيبدل الله عز وجل من هو خير منا، سيبدل الأمة بمن هو أفضل منا، والله إذا تقاعس طلاب العلم أورث الله الأمة طلاب علم صادقين خيراً ممن تقاعس، وإذا تقاعس العلماء أبدل الله علماء ربانيين خيراً ممن تقاعس {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [محمد:38]، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ} [المائدة:54] فالله الله أن يستبدل الله بنا قوماً ولا نضره شيئاً، فينبغي للإنسان أن يحيي هذا الواجب في قلبه وأن يحيي هذا الفرض في نفسه وأن ينطلق مشعل هداية.(12/6)
كيف يؤهل الإنسان نفسه للدعوة؟
أما النقطة الأخيرة من
السؤال
فكيف يؤهل الإنسان نفسه للدعوة؟(12/7)
الأمور التي يجب أن تكون قبل الدعوة وأثناءها
يؤهلها أولاً: بالعلم.
هناك أمور يجب أن توجد قبل الدعوة، وهناك أمور ينبغي أن توجد أثناء الدعوة، وهناك أمور ينبغي أن توجد بعد الدعوة؛ أما الذي يسبق الدعوة فعلم عن الله وفقه عن الله وبصيرة في دين الله {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] ليس عن عمى، ولا عن غي وهوى، ولكنه على سبيل الطاعة والهدى، أما الذي يكون مع العلم وأثناء العلم فتلك الآداب الطيبة والأسلوب اللين الذي يؤثر في القلوب {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
فالإنسان يبتدئ بالأسلوب الطيب، ولذلك قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان أول ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آيات فيها ذكر الجنة والنار، ولو نزل لا تسرقوا لا تشربوا الخمر ما آمن أحد).
أولاً: تأليف القلوب بأسلوب الحكمة، وباللين، وبالموعظة الحسنة، فإذا جاء إنسان لإنسان عاصٍ أحس أنه أمام إنسان غريق، أحس أنه أمام إنسان يحتاج إلى من ينقذه، ولا ينظر إليه على أنه إنسان عدو بمعنى: أن يسيء له في الخطاب والأسلوب الذي يوجب نفرته، فلذلك ينبغي للإنسان أن يراعي الأسلوب الطيب في الدعوة، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم إمام المتقين وقدوة الدعاة المهتدين كيف كانت أساليبه؟! كان يغزو القلوب بحسن خلقه قبل أن يغزو العقول بأفكاره ومبادئه صلوات الله وسلامه عليه، وكانت الكلمة إذا خرجت منه خرجت بعد أن تمهدت القلوب لسماعها، وبعد أن طابت القلوب لوعيها، فينبغي للإنسان أن يترسم سبيله، وأن يسير على طريقه، وأن يكون أسلوبه أثناء الدعوة أسلوباً طيباً، حكيماً جذاباً رقيقاً رفيقاً.(12/8)
الأمور التي تنبغي على الداعية بعد الدعوة
أما ما ينبغي على الداعية بعد الدعوة فهناك أمور: منها أنه لا يخلو من حالتين: إما أن تستجاب دعوته، وإما أن ترد دعوته، فإن استجيب لدعوتك ووقعت في موقعها فالله الله في الإخلاص، الله الله أن يدخلك الغرور بالنفس، فكم من داعية هلك بسبب الغرور، وكم من ناصح هلك بسبب الغرور، وكم من عالِم أهلكه الله بغروره بعلمه، فلا تعتقد أن الناس تأثرت بأسلوبك وبلاغتك، ولكن للقلوب مفاتيح ربانية وهبات إلهية ومنح من الله عز وجل يتفضل بها على من يشاء، هو الهادي إلى سواء السبيل، وهو الذي يشرح الصدور بفضله وينورها بكرمه، وليس الفضل لأحد، بل الفضل كله لله وحده لا شريك له، وأصدق شاهد على ذلك نبي الله نوح، ونبي الله لوط، نبي قام في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً ما استطاع أن يهدي زوجته وكانت من أهل النار، فدل هذا أننا لا نملك لأنفسنا فضلاً عن أن نملك لغيرنا شيئاً، فينبغي للداعية ألا يغتر بأسلوبه.
الأمر الثاني: أنه ينبغي عليه إذا وجد القبول أن يحرص على سقي تلك البذرة الطيبة، فإذا وجد القلب استجاب له لان له أكثر وتوطأ له أكثر واقترب منه أكثر وأعطاهم من الود والمحبة أكثر مما كان عليه، هذا صنيع من يغار على الدين ويريد أن يهدي عباد الله إلى رب العالمين، تنزل نفسك للعباد إذا وجدت الاستجابة والقبول بنفس طيبة ونفس منشرحة ترجو بذلك رحمة الله، وتطمع في رضوان الله وعفو الله سبحانه وتعالى.
أما الأمر الثاني أيضاً مما يترتب على الإنسان بعد الدعوة وهي الحالة الثانية: إذا نفر الناس من موعظتك وأعرضوا عن كلمتك وجفت لدعوتك فماذا تصنع؟! أولاً: عليك بالدعاء أن يشرح الله صدورهم وأن ينور قلوبهم، وأن يحسن الاستجابة منهم.
ثانياً: إياك أن تقنط، فإن الشيطان حريص على إبعادك منهم.
ثالثاً: ربما أن الله -لحكمة- لا يجعل أذناً تصغي لموعظتك؛ لعلمه أن ذلك أعظم في أجرك وأثقل في ميزانك وأرفع لدرجتك، يكون معك زميل في العمل أو يكون معك جار بجوار البيت تدعوه فلا يستجيب وتذكره فلا يجيب، وهكذا اليوم ثم الغد ثم بعد الغد وهكذا، وإذا بتلك الكلمات تمر عليك سنة كاملة وأنت تنصح وما تدري كم لك من الحسنات في تلك النصائح، ولربما أنه لو استجاب من أول مرة ما فزت بتلك الدرجات، فلله حكمة في إعراض الخلق عنك، فإن نوحاً عليه الصلاة والسلام مكث ألف سنة إلا خمسين عاماً وما قنط إلا في الأخير حينما قال: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح:27] فقامت الدلائل على أن لاّ منفعة فيهم، فقنط منهم ويئس من دعوتهم، فالمقصود أن الإنسان لا ينبغي له أن يقنط أو ييئس من دعوته، وهناك أمور ينبغي عليه أن يراعيها إذا حصلت الإساءة من الغير: وهي مقابلة الإساءة بالإحسان، فإذا وجدت من الناس أذية في دعوتك وتهمة في كلمتك وسوء ظن بمنهجك فلا تلتفت إلى ذلك، وإنما علق الأمل بالله، ولا ترد السوء بالسوء فإن خُلُقَ أنبياء الله والدعوة إلى الله أن يردوا السوء ولا يردوا عليه بسوء {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف:66] {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67] كان بإمكانه أن يقول لهم: أنتم السفهاء، ولكن انظر إلى أسلوب الأدب الإلهي الذي أدب به أنبياءه: {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} [الأعراف:67] فالمقصود أن يبتعد الإنسان عن الخنا وعن الكلمات التي لا خير فيها، وعن تنفير العباد بسوء أسلوبه، وفي الحقيقة أنني لا أحب أن أسترسل في هذا الموضوع وهو موضوع من الأهمية بمكان، ولكن نظراً لضيق الوقت أقتصر على هذا، وأرجو من الله تعالى أن يضع فيه البركة، فقليل مع البركة خير من كثير لا بركة فيه، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.(12/9)
الأسئلة(12/10)
حكم قول الصحابي
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: إن قول الصحابي ليس بحجة؟
الجواب
إذا ورد القول عن الصحابي لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون مما لا مجال للرأي فيه، كإخبار عن علم بالغيب من أمور القبر أو البرزخ.
فهذه أمور غيبية سمعية مثلها لا يقوله الصحابي باجتهاد منه، فهذا يسميه العلماء الموقوف لفظاً المرفوع حكماً، وهو حجة؛ لأن الصحابة كان عندهم ورع، ما كانوا يتكلمون في هذه المسائل إلا بدليل، فهذه حالة، وهي إذا كانت المسألة مما تحتاج إلى نص ودليل.
الحالة الثانية: أن تكون من المسائل التي فيها رأي واجتهاد، فلا يخلو قول الصحابي من حالتين: الحالة الأولى: أن يكون قوله موافقاً للنص، فحينئذٍ لا إشكال أن قوله حجة، فالأصل في تلك الحجة التي وردت هو السنة التي اعتبرها الصحابي.
والحالة الثانية: أن يخالف قوله السنة، ويعتذر له بعدم بلوغ السنة له، أو نسيانه للسنة، كما ورد في فتوى أبي هريرة رضي الله عنه حينما روى غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً وأفتى بالثلاث، فإن العبرة بما روى لا بما أفتى كما يقول العلماء، وهو مذهب جمهور العلماء من المالكية والشافعية والحنابلة أن الصحابي: إذا روى وخالف قوله ما روى عُمل بما روى لا بما أفتى، ومن أمثلته أيضاً، قول ابن عباس: "إن المرأة إذا ارتدت لا تقتل"، وقد روى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَن بدل دينه فاقتلوه) فإن (مَن) مِن صيغ العموم تشمل الذكر والأنثى، فقوله في هذا مرجوح والعمل بالنص.
والله تعالى أعلم.(12/11)
حكم شراء السيارة بالتقسيط مع زيادة الثمن
السؤال
فضيلة الشيخ أريد أن أشتري سيارة من معرض بالأقساط، ولكن صاحب المعرض لا يبيع السيارة إلا بالدفع الفوري، ولكن قال لي: بإمكانك أن تشتري السيارة بالأقساط عن طريق شركة الراجحي، يقول هنا ملاحظة: معنى الشراء أن يبيع صاحب المعرض سيارة لشركة الراجحي ثم أشتريها من الراجحي بالأقساط بقيمة تزيد عن قيمة الدفع الفوري؟
الجواب
أنا عندي قاعدة في الحقيقة وهي أنه إذا سُميت شركة فلا أجيب؛ لأنه أحياناً قد يكون الإنسان فهم نظامها خطأ، فيأتي ويقول: لا يجوز، فيصبح الناس يقولون: لا يجوز التعامل مع شركة كذا.
فإذا سأل شخص مرة ثانية فمن أدب السؤال أن يجعل السؤال عاماً، فيقول هناك شركة تقول: كذا وكذا، حتى يكون أدعى؛ لأنه أحياناً قد يفهم الإنسان المعاملة خطأ، وهذا حتى لا نظلم الناس، أو قد يأتي موظف عادي فيفهم منه الشخص خطأ ويأتي ويقول: ذهبت إلى شركة كذا فقالت كذا فهل يجوز، فيقول العالِم: هذا ربا، فيصبح الناس يقولون: شركة كذا تتعامل بالربا، فأنا في الحقيقة أرى أنه يحتاط فيه، وإذا سألت اسأل سؤالاً عاماً؛ لأن الهدف الفائدة فما هناك أي داعي لتسمية شركة كذا أو كذا؛ لأن ذلك أقرب وأبعد عن الأذية وبناء على ذلك نطبق القاعدة ولو الليلة فقط.
لكن على العموم إذا كان الإنسان اشترى السيارة وحازها -أي شركة حازت السيارة وقبضتها- فيجوز لك أن تشتريها بعد الحوز، ولا يجوز لك أن تتعاقد مع الشركة قبل الحوز، فلو جئت إلى أي شركة وقلت لها: أنا أريد أن أشتري سيارة كذا، قالوا: نحن نشتريها بخمسين ونقسطها عليك بمائة، فهذا ربا، لماذا؟ لأنها دفعت عنك خمسين مقدمة بمائة مؤجلة، كأنه قال لك: خذ هذه الخمسين وردها مائة وخمسين أو مائتين، فهذا المقصود يعتبر من الربا، فإن الله تعالى يقول: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ} [البقرة:279]، أما لو حازتها الشركة وقبضتها وتعاقدت مع شركة أخرى وأصبحت في ملك الشركة الثانية، فيجوز لك أن تأتي وتشتري من الشركة الثانية تقسيطاً أو نقداً، والله تعالى أعلم.
وهذه شبهة أخرى وهي: فيما لو تعاقد مع الشركة الوسيطة هذه قبل قبض السلعة وحوزها يعتبر من (بيع المجهول) وأيضاً يعتبر من (ربح ما لم يضمن) ويعتبر من (بيع ما ليس عندك) وكل هذا يعتبر من الآفات، والعيوب، فهذه فيها عدة آفات وليست ربا فقط.
أما بيع المجهول بالوصف، فأصح الأقوال فيه: أنه يصح إذا كان وصفه وصفاً صحيحاً، فإذا وصفه -مثلاً- فقال لك: عندي بيت على صفة كذا وكذا وكذا يصح، ولو لم تر البيت، ثم يكون لك الخيار بعد الرؤية إن وافق الصفة لزمك البيع، وإن كان خالف الصفة فإنه في هذه الحالة كان لك خيار الرد؛ لأنه قد خالف الصفة، وهذا مأثور عن قضية عثمان رضي الله عنه مع أبي طلحة، وأصح الأقوال صحة هذا البيع؛ وهو بيع الموصوف في الذمة إذا كان غائباً، والله تعالى أعلم.(12/12)
حكم القول بضرورة تجديد أصول الفقه الإسلامي
السؤال
بعض أهل العلم المعاصرين يقولون بتجديد أصول الفقه الإسلامي، واستدلوا بقول القائل: (هم رجال ونحن رجال فنأخذ من حيث ما أخذوا) فما قولكم في ذلك؟
الجواب
هذا السؤال قولهم: إن أصول الفقه تحتاج إلى تجديد، أو يقولون: إن الشريعة تحتاج إلى تجديد، لا فرق بين القولين، هذا القول ابن أخت خالة القول الأول، على العموم هي كلمة حق أريد بها باطل؛ فإن الشريعة قديمها جديد وجديدها قديم، والشريعة صالحة لكل زمان ومكان، وهذا أمر مسلَّم من البدهيات، فإن الله تعالى يقول: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] رضي بهذه الشريعة التي آمن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا إليها منذ أربعة عشر قرناً، رضيها الله عز وجل لنبيه، ورضيها لأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين، وكذلك رضيها للأمة إلى يومنا هذا، بل إلى قيام الساعة.
فلو جاء أي شخص يريد أن يغير في مفاهيمها أو يقلب أصولها وموازينها، ولو كانت عبارته منمقة أو مزوقة فقد حاد عن سواء السبيل -نسأل الله السلامة والعافية-.
فلذلك هذه الكلمة كلمة حق أريد بها باطل، فأصول الفقه هي أصول فهم الدليل، وأصول فهم الدليل باقية إلى قيام الساعة، والذي فهم به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نفهم به نحن، وإذا خالف فهمنا فهمهم بمعنى: أنا تركنا موازينهم في الفهم وتركنا موازين السلف الصالح في الفهم فقد ضللنا -والعياذ بالله-، فلذلك إذا كانت هذه مفاهيم خير القرون فهي صاحلة لشر القرون، فقرننا من شر القرون التي قبله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تقوم الساعة) كما ثبت في صحيح مسلم.
فإذاً الذي صلح لخير القرون من باب أولى أن يصلح لما هو شر منه، هذا الأصل الأول.
الأمر الثاني: قولهم: (هم رجال ونحن رجال) نعم هم رجال ونحن رجال، لكن شتان ما بين رجال ورجال، شتان ما بين رجال شهد التنزيل أنهم رجال ورجال هم أشباه الرجال، شتان ما بين رجال رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بلسانهم فعايشوا أحوال الكتاب، وعرفوا ناسخه من منسوخه، وحلاله من حرامه، وواجبه وحدوده، عرفوا كل صغير فيه وكبير، ففقهوا عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، شتان ما بين هؤلاء وما بين من جاء من بعدهم من الخلوف، ووالله لو جئت تزن الواحد منهم بهذه الأمة قد يكون راجحاً لهم، فأين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن بعدهم؟!! فالمقصود: أن هذه كلمة حق أريد بها باطل، وأما قول الإنسان: نحن نأخذ من حيث ما أخذوا.
فهذا ضلال، فإن الله تعالى أمرنا بالرجوع إلى العلماء فقال: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43]، ولو كان كل شخص يذهب إلى الكتاب والسنة فما فائدة العالِم، ولو كان كل شخص يفهم الكتاب والسنة فما فائدة أهل العلم، والله تعالى يقول: {لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] ولم يقل كلهم، وإنما قال منهم قال: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ} [النساء:162] {بِاللَّهِ} [النساء:162] وهم الذين يفقهون عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، والذي ينبغي الرجوع إليهم والفهم عنهم وأخذ السنة عنهم، ومن قال: هم رجال ونحن رجال.
فقد ضل سواء السبيل، ونقص من مكانة سلف هذه الأمة، والغالب أن لا يقول ذلك إلا إنسان مفتون، أو من عنده فتنة يريد الدعوة إليها وترويجها، فالله الله في سلف الأمة، والله الله في أولئك العلماء الأفاضل الذين أبقى الله علومهم وبارك في أفهامهم، ولو لم يكن من الدليل على إخلاصهم إلا بقاء علومهم لكفى في ذلك دليلاً.
فأوصي إخواني طلاب العلم، بل أوصي كل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر أن يتأدب مع سلف الأمة، وأن يكون ورعاً فيما يقوله تجاه سلف الأمة، فمن أجلهم وأكرمهم فإنه عبد تقي؛ لأن إجلالهم إجلال لدين الله، وإكرامهم إكرام لدين الله، وانتقاصهم ثلمةٌ في الإسلام -والعياذ بالله-.
وقول القائل: هم رجال ونحن رجال.
هذه كلمة حق أريد بها باطل، فإن الكلام قد يكون حقاً لكن فيه سوء أدب، وفيه خروج عن الهدي، والهدي الكامل الذي ينبغي للمؤمن أن يلتزمه، ولذلك لو قال قائل: الله رب القردة والحمير والخنازير، كلمته صحيحة ولكن فيها نوع سوء أدب، فلو قال: رب الخلق.
لكان أكمل أدباً، وكان أرعى حرمةً لله عز وجل، فليس كل كلام ظاهره أنه مزوق أنه يقبل، فالإنسان يرجع إلى سلف الأمة ويرتبط حاضر الأمة بماضيها، هذا الباب الذي فتح الآن من بعض المتفيهقين الذي يقولون -سامحهم الله وهدانا وإياهم إلى سواء السبيل- يقولون: نعيد النظر، ونريد تجديد الشريعة ومسايرتها للعصر، هذا مما لا ينبغي، ومقالته هذه قد تؤدي -والعياذ بالله- إلى هدم الشريعة ونقضها، لكن قد يكون مقصود البعض مقصوداً حسناً في جانب نستثنيه وهو أن يقال: إننا نريد من يترجم فهم السلف للخلف بأسلوب معاصر، فهذا كلام طيب، وكلام مقبول بمعنى: أن تأخذ الكتب التي عن سلف الأمة وتأتي بأسلوب صحيح سوي يناسب الأفهام، فهذا كلام صحيح، وهو واجب الدعاة وواجب العلماء، والحمد لله هم قائمون به في فتاويهم وتعليمهم ودروسهم.
أما لو قيل: نريد أن نغير الفتاوى لتغير الزمان، أو نريد أن نجدد الشريعة، فالله أعلم أنها فتنة وقانا الله وإياكم شرها، فلا خير في إنسان يعرض عن خيار هذه الأمة.
ولذلك أقول: ينبغي أن نبدأ من حيث انتهوا ولا نكرر ما فعلوا؛ لأنهم سلف الأمة المختار لها -نسأل الله عز وجل أن يرزقنا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى حبهم، وأن يرزقنا سبيلهم، وأن يرزقنا الحشر في زمرتهم، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.
أما أصحاب المذاهب فالناس فيهم على ثلاث طوائف: طائفة تقول: هؤلاء رجال ونحن رجال كأصحابنا من قبل، وطائفة ثانية تقول: هؤلاء المعصومون، وهؤلاء الذين لا يمكن أن يخرج الحق عنهم، وهؤلاء هؤلاء حتى بلغوا بهم مقاماً قد يصل إلى مقام الأنبياء، وأقوام وسط نزلوا أهل العلم منزلتهم، وأجلوا حملة الدين إجلالهم، ووقروا حملة الشرع توقيرهم، فحفظوا مكانتهم، ونظروا في قولهم، فما وافق الحق قبلوه، وما خالف الحق اعتذروا لصاحبه، وتأدبوا في الاعتذار عنه؛ لأن هؤلاء الذين اختلفوا من سلف الأمة كان هدفهم الحق وكانوا يريدون وجه الله ويريدون الدلالة على الصواب في دين الله لا أقل ولا أكثر، ما كانت عندهم شهوات وأهواء وأغراض، فلذلك ينبغي للإنسان أن يسلك السبيل القيم ديناً قيماً لا اعوجاج فيه {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153].
والمتون الفقهية التي يقرأ الناس فيها على ثلاث طوائف: طائفة قالت: ما نقرأها، هذه أقوال قوم (هم رجال ونحن رجال) وهم كمن قبلهم.
وطائفة قالت: هذه الكتب لا نجاوزها ولو كان النص بخلافها -والعياذ بالله-.
وطائفة قالت: هذه كتب على أعيننا ورءوسنا ما وافقت كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن خالفت فإننا نظن بأهلها خيراً، ولكن الحق أحب إلينا منهم فيلتزموا صواب ما دل عليه الكتاب والسنة من الصواب، ولا يحيدون عن ذلك قيد شعرة طلباً لمرضاة رب الأرباب فهؤلاء هم السعداء، وانظر في سلف الأمة لن تجد عالماً إلا وجدته قد التزم مذهباً بدليله.
انظر إلى علماء الإسلام وفقهائه الأعلام تجدهم قد قرءوا المذاهب بالدليل، ما قرءوها مجردةً عن الدليل ولا تعصبوا، انظر إلى الحافظ ابن عبد البر الإمام الجليل كان على مذهب المالكية رحمة الله عليه ثم صار مجتهداً، ومع ذلك وافق الإمام مالك فيما وافقه وخالف الإمام مالك فيما خالفه، واعتذر عند مخالفته، ومع ذلك ينتسب إلى مذهبه، ويناصر مذهبه إن وافق الحق، ويرده إذا خالف الحق.
شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول في فتاويه: قال أصحابنا، وأجاب أصحابنا، وهو مذهب أصحابنا، من هم أصحابه؟ أصحاب الإمام أحمد رحمه الله، وبه يقول إمامنا، واحتج إمامنا بكذا وكذا، مراده الإمام أحمد رحمه الله، ولكن قرأ فقهه بالدليل، ثم وافق الإمام أحمد وخالف الإمام أحمد فما نقص ذلك من قدر الإمام أحمد، ولا نقص كذلك من فضل شيخ الإسلام رحمه الله وقدره، وهكذا علماء الإسلام ما تجد أحد إلا وقد قرأ مذهباً لكن بدليله، هذا هو السبيل البين الذي نسأل الله عز وجل أن يقيمنا وإياكم على صراطه، والله تعالى أعلم.(12/13)
حكم صنع أهل الميت طعاماً للضيوف إكراماً لهم
السؤال
بعض الناس ربما يحرجون من ضيوفهم يأتي في البيت فيحتاج إلى أن نصنع له طعاماً، وهو لا يصنعه على أنه يعتقد فيه أنه للميت ولكن يصنعه من باب إكرام الضيف، أحياناً يكون البيت مملوءاً بالضيوف فماذا يفعلون؟
الجواب
إذا جاء الضيف للإنسان، هو في الأصل والحقيقة أنه ليس هناك حاجة أن يتكلف الناس بالسفر والانتقال والمبالغة، فهذا كله مما لا أصل له، لكن قد ينتقل الأخ والقريب الذي له صلة فيأتيك ضيفاً فتحب أن تكرمه، فلا حرج في ذلك، وهذا نص العلماء رحمة الله عليهم من المتأخرين على أنه لا حرج في إكرام الضيف بقدره أو بحقه، وأما بالنسبة للممنوع أن يتوسع في ذلك وأن يخرج به عن الهدي المعروف، والله تعالى أعلم.
سائل: إذا كنا نعرف أنه لأضيافه فندعو المتواجدين ونقول لهم: تعالوا الليلة لعشاء أو غداء عندنا وهو لضيوفه.
الشيخ: نعم هو هذا.(12/14)
كيفية التعزية الشرعية
السؤال
فضيلة الشيخ فصّل لنا في كيفية التعزية الشرعية، وعن حكم الاجتماع عند أهل الميت، وصفة الطعام منهم ولهم، وأكل الناس عندهم، ومدة التعزية مع ذكر الأدلة ما استطعتم؟
الجواب
أولاً: قضية التعزية يقصد منها تسلية المؤمن في مصابه وتعزيته في كربه وبلائه، والمقصود من التعزية طمأنة القلوب حتى لا تنفر، وكذلك تسليتها حتى يعظم لها الأجر عند الله عز وجل.
الأمر الثاني: إذا علم هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان هديه في ذلك أكمل الهدي، فإنه قال للمرأة المصابة: (مرها فلتصبر ولتحتسب) وقال عليه الصلاة والسلام: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار، فلتصبر ولتحتسب) فهذا يدل على أن المقصود من التعزية تثبيت القلوب وطمأنتها ودفع القلق عنها، ويذكره الإنسان بما له عند الله من الأجر حتى يكون لهم مثل أجره.
الأمر الثاني: إذا علم أن هذا المقصود، فإن التوسع فيه والخروج عن هدي النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر خارجاً عن هذا الأصل، والذي ينبغي الاقتصار عليه، وأما مسألة الطعام للميت، فإنه ثبتت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يصنع لأهل الميت طعاماً، قال عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً فقد أتاهم ما يشغلهم) ويصنع لأهل الميت خاصة، ويكون ذلك على المعروف وذلك بالخروج عن الإسراف والبذخ، وكذلك دعوة الناس إلى هذه الوليمة، فإن الدعوة إليها مما لا أصل له، فيقتصر على أهل الميت.
أما الأمر الثالث: ما يفعله الناس من دعوة الغير إلى هذه الولائم وتكثير الناس عند أهل الميت، فإن هذا خروج عن الهدي وخروج عن السنة، وكره العلماء ذلك ونصوا على بدعية الاجتماع عند أهل الميت خاصةً في هذا الزمان، الذي بلغ ببعضهم أنه يجلس عند أهل الميت أياماً ويحرص على الكلام في فضول الدنيا، تقول له: يا أخي اتق الله ما يصلح أن تتكلم وهؤلاء مصابون، يقول لك: حتى أروح عنهم، وهذا نوع من الخطأ بمكان.
سبحان الله!! يعني: أن الإنسان ما يكفيه أنه خارج عن الهدي حتى يأتي بأمور يكون فيها إساءة لأهل الميت؛ لأن الكلام في فضول الدنيا دليل على الغفلة، تروح عنهم بماذا؟ موت الميت هذه نعمة من الله قد تهديهم إلى الله، قد تذكر الغافلين منهم بالله، فتأتي وتزيدهم غفلة على غفلة ولا حول ولا قوة إلا بالله! هذا من البلاء، الناس في العزاء وعند موت أقاربهم يتذكرون، وتكون فرصة للدعوة إلى الله، ويأتي هذا لكي يسهر الليلة الأولى والثانية والثالثة ليس عنده قصد إلا الإتيان بالمضحكات والمسليات، يقول: حتى أروح عنهم، إنا لله وإنا إليه راجعون! فهذا بلاء {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8] نسأل الله عز وجل ألا يطمس لنا ولكم بصيرة.
أما الأمر الثالث: فهناك منكر عظيم وهو أن أهل الميت يقومون بصنع الطعام، ويكون ذلك أشد حرمة ومنكراً إذا كان من أموال اليتامى والقاصرين، وهو داخل في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء:10] فهذا إذن وقع لا شك أنه منكر واعتداء على أموال اليتامى، فاليتامى أموالهم تحفظ قال تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء:2] فنهى عن أكل مال اليتيم قال: {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام:152] {ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام:152] فمن حفظ وصية الله يبتعد عن هذا المنكر العظيم.
الأمر الأخير الذي ينبغي التنبيه عليه: أن الإنسان إذا جاء ليعزي أخاه يحاول دعوته وتذكيره بالله، إن كان بعيداً عن الله قربه إلى الله وقال له: انظر إلى فلان كان بالأمس أمامك حياً واليوم كأن لم يكن.
بينما امرئٌ بين يديك حياً إذ صرت لا تبصر منه شيّا في لحظة واحدة كأن لم يكن، فتذكره بالله، وإن كان طائعاً منيباً خيراً وكان والميت على صلاح تسليه وتثبته.
إنا نعزيك لا أنا على ثقة من البقاء ولكن سنة الدين ليس المعزى وإن طال عمراً بعد صاحبه ولا المعزي بباقي إلا إلى حين فذكره بالله وثبته على الصبر على هذه المصيبة، ولله در القائل: أبكيه ثم أقول معتذراً له وفقت حيث تركت ألأم دارِ جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري تسليه وتثبته، فهذا الذي ينبغي تعاطيه، والله تعالى أعلم.(12/15)
المقصود من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً)
السؤال
نريد المزيد عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) لعله أن يكون السبب لأنه استشهد معه زيد بن حارثة واستشهد عبد الله بن رواحة وكذلك حمزة وكثير من الصحابة ما قال الرسول صلى الله عليه وسلم (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) لأن هذا الحديث احتج به كثير من الناس حتى الآن يأتوا بالذبائح ونحن نصنعه في المطابخ، فلعلك تعطينا المزيد جزاك الله خيرا؟
الجواب
هذا الحديث الناس فيه على طوائف بين إفراط وتفريط، قوم قالوا: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) فأخذت الذبائح تنهال على أهل الميت، وأصبح بيت الميت أشبه ببيت فيه وليمة عرس، وهؤلاء القوم قد أفرطوا في ذلك وبالغوا وجاوزا هدي الشرع.
والقسم الثاني فرطوا وقالوا: أبداً ما نصنع شيئاً، وتراهم يقصرون في حق أهل الميت، نعم وردت السنة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً) وهذا قاله وخصه؛ لأنه كان من قرابته عليه الصلاة والسلام، فكانت سنة للأمة وليست خاصة بـ جعفر؛ لأنه لو أخذ بهذه القاعدة لعم الخبر على الكل، لو أخذ بهذه القاعدة لتركت كثير من السنن، ولقيل: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قال ذلك في غير هذا، ألا ترى في تعزية ابنه إبراهيم حينما قال: (إن لله ما أعطى وله ما أخذ ... ) ما قال هذا الكلمة حينما بلغه استشهاد كثير من الصحابة، فالمقصود أنه لا يقال بالتخصيص، فقوله عليه الصلاة والسلام عند ورود الحادثة المعينة لا يقتضي التخصيص، والذي نص عليه العلماء رحمهم الله تعميم هذه السنة؛ لأن العلة المذكورة في النص تقتضي التعميم؛ لأنه قال: (فقد جاءهم ما يشغلهم) وهذه العلة يستوي فيها آل جعفر وغيرهم.
فنقول: إن السنة باقية ولكن في حدود الشرع وهذا أمر مجرب، تجد الإنسان تأتيه الفاجعة -مثلاً- قبل صلاة الظهر، يموت الميت عنده، وتراه في شغل وحزن وأهله في حزن حينما يأتي جاره بالطعام أو يأتي قريبه بالطعام يحس أن إخوانه معه وقرابته والأمة بأكملها، وهذه أمور لها مقاصد شرعية نبيلة يتعزى ببعض مصابه، لكن لو جاع يومه لربما بلغ ما به ما بلغ ولاجتمعت عليه مصيبتان: ظاهرة وباطنة، فالمقصود: أنه ليس المقصود الطعام بذاته ولكن المقصود تأليف القلوب والربط بين عباد الله وتآلف المجتمع، فالذي نص العلماء عليه بقاء هذه السنة، ولا يقال: بأن النبي صلى الله عليه وسلم خصها فالعلة عامة، ويبقى هذا على الأصل الذي قررناه، صحيح أن الناس توسعوا وأفرطوا وزادوا فهذا أمر منكر ليس له أصل في الشرع، والله تعالى أعلم.(12/16)
العلاقة بين قيام الليل ورضا الله
السؤال
فضيلة الشيخ أخبركم بأنني أحبكم في الله، وسؤالي: هو أنني كلما حاولت قيام الليل لا أستطيع ذلك هل هذا يدل على عدم رضا الله عني وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني فيه، أولاً أشهد الله على حبكم جميعاً فيه، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم في مستقر رحمته.
إن الإنسان إذا لم يوفقه الله لقيام الليل فإن ذلك لا يدل على عدم رضا الله عز وجل عنه، وإنما هو نقص إذا كان على استقامة في بقية أموره، فإن هذا يدل على نقص الرضا وليس على نفي الرضا، وفرقٌ بين نقصان الرضا وفقد الرضا، فإن الناس في رضوان الله على مراتب -نسأل الله أن يجعلنا وإياكم في أعلاها وأسناها- فإذا كان الإنسان محافظاً على الفرائض والنوافل والطاعات سباقاً إليها على أكمل ما يكون فهو أكمل الناس رضا، ومن نقص عن ذلك فهو أنقص، والله تعالى أعلم.(12/17)
وصية للوالدين
للأبناء على الوالدين حقوق أوصى بها الشارع الحكيم، فهما مسئولان عن تربيتهم وتنشئتهم، وكذلك عن تصرفاتهم وأخلاقهم، وغير ذلك من الأمور المناطة بالوالدين.
وإذا قصَّر الوالدان في حقوق الأولاد، فقد يكون ذلك التقصير سبباً في عقوق الأولاد آباءهم وأمهاتهم، فينبغي للآباء والأمهات إعطاء الأولاد حقوقهم التي أمر الشارع بها؛ حتى يكون النشء طيباً كريماً يؤدي واجباته وحقوقه في إطار المجتمع المسلم.(13/1)
وصية للآباء والأمهات
الحمد لله الحليم الغفور {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى:49].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تنفع قائلها يوم البعث والنشور، يوم يُبَعْثَر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات:11] وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المبعوث بالهدى والنور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين كانوا في الحق نِعْم الشموس ونعم البدور، وعلى جميع من سار على نهجهم إلى يوم الهول والبعث والنشور.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله: هذه وصيةٌ إلى والدَين؛ إلى أبوَين حليمَين كريمَين.
إلى أبٍ يخاف الله ويتقيه، ويعلم أنه مسئول بين يديه وملاقيه.
وإلى أمٍ تخاف ربها، وترعى صغيرها، وتكرم بعلها.
إلى أم صالحة مصلحة، هادية مهدية، ما أمست ولا أصبحت إلا هدت ودلت وأرشدت! وصيةٌ إلى الوالدَين.
إلى القلبَين الغافلَين النائمَين السادرَين.
إلى من أضاع حقوق الأبناء والبنات، وترك لهم الحبل على الغارب في الملهيات والمغريات.
إلى من ترك القلوب البريئة ترتع في المعاصي والشهوات، فذاقت جحيم المعاصي والمنكرات، ورتعت في الحدود والمحرمات، وبُليت بجحيم المسكرات والمخدرات.
إلى من أضاع حقوقها، ولم يرحم صغيرها، ولم يكرم كبيرها.
إلى من أبكى الصغير، وأهان الكبير.
إلى من حَمَّل الأبناء والبنات العناء، وخلَّفهم وراء ظهره في تضرع واستكانة وبكاء.
إلى من لا يخاف الله ولا يتقيه، ولا يعلم أنه ملاقيه.
إلى تلك القلوب القاسية.
إلى تلك النفوس الظالمة الناسية.
إلى من أضاع حقوق الأبناء والبنات، فتركهم يرتعون في الملهيات والمغريات، وحَمَل بين يدي الله المسئوليات والتبِعات، يوم ينصب للآخرة موازينها، وينشر لها دواوينها، يوم يجادلُ الأمَّ رضيعُها، يوم يجادل الأمَّ جنينُها! وصيةٌ للآباء والأمهات عن حقوق الأبناء والبنات، وهل قامت بيوت المسلمين إلا على رعاية الحقوق والذمة والدين؟! وهل قامت بيوت المسلمين إلا على التنشئة الصالحة التي ترضي الله رب العالمين؟! وصيةٌ بحقوق الأبناء والبنات، قبل أن يَدْهَمَ الممات، وقبل أن يصير العبد إلى الرفات، وقبل أن يحمل بين يدي الله المسئوليات والتبِعات! ألا وإن من أجلِّ الوصايا، وأعظم الحقوق التي تُدفع بها الهموم والغموم والرزايا: أن تعلم أن الله أنْعَمَ وتَفَضَّلَ عليك بالولد وتَكَرَّم، فكان من أحق الحقوق عليك أن تشكره ولا تكفره، وألاَّ تنساه وأن تذكره، وأن تَحْمَدَ نعمة الله ومنته إذ متع عينيك، وجمَّل الولد في ناظرَيك يوم صاحت صيحتُه، يوم رأيتَه بشراً سوياً يدب على وجه الأرض مرضياً.
أيها الأحبة في الله: إن من آكد الحقوق والواجبات وأعظم الأمانات والمسئوليات التي يحملها الآباء، وتحملها الأمهات عن الأبناء والبنات: تنشئتهم على حب الله ورسوله صلى الله عليه وسلم: لا خير في الأبناء ولا في البنات، ولا خير في الأولاد ولا في الأحفاد إلا إذا أقمتَهم على محبة الله رب العباد، فلن تجني منهم مالاً ولا حالاً، لن تجني منهم إلا صلاحاً يرضي الله عنهم، أقِمْهم على محبة الله ومرضاتهِ، عوِّدهم على العبودية والطاعة، ومرهم بالصلاة والزكاة، ونشِّئهم على خوف الله وتقواه؛ فإن ذلك من أعظم ما تثقَّل به الموازين، وتبيَّض به الصحائف والدواوين.(13/2)
حقوق الأبناء على الآباء والأمهات
ألا وإن للأولاد على الآباء والأمهات حقوقاً:(13/3)
العفو عن التقصير وذلك في حدود
ألا وإن من الحقوق والواجبات على الآباء والأمهات، ومن الوصايا للوالدين: أنه إذا قصر الأبناء والبنات أن يعفوا ويصفحوا؛ فإن الله جل جلاله قد وصَّى من فوق سبع سماواتٍ بالعفو والصفح عن الأبناء والبنات.
إن لهم الزلة والهفوة والخطيئة؛ فطوبى لمن قابل الإساءة بالإحسان، وطوبى لمن قابل السيئة بالعفو والغفران؛ فإن الله وعد على ذلك بالأجر العظيم، والثواب الكريم، ما لم يكن عفوك حاملاً لهم على الجرأة في حدود الله ومحارمه.
كن ليناً بدون ضعف، وشديداً بدون عنف، ربِّهم على طاعة الله ومحبته، فإن أساءوا وظلموا واحتَمَلَتِ الإساءةُ العفوَ فاشْتَرِ رحمة الله بالعفو عنهم، فهم أحق الناس بعفوك، وهم أحق الناس بحِلمك ورحمتك، يوم ينظر إليك الصبي وتنظر إليك الصبية بعطف الحنان، ينتظران منك الصفح والغفران؛ فبادرهما بذلك؛ فإنه مما يثقُل به الميزان؛ فإن الله يرحم من يرحم عباده.
وإياك والسطوات، والشدة على الأبناء والبنات، فلأن دعتك قدرتك على الإساءة إليهم، فإن الله قادر عليك يوم تظلمهم.
اعلم أن عافيتك من الله، وأن حولك وقوتك بين يدي الله، فالله الله في زلات لسانك، والله الله في زلات جوارحك وأركانك يوم تُرْسِل لليد عنانَها، فتضرب الصبي والصبية دون خوف من الله أو مراعاة للحقوق الشرعية؛ فإن الله يسألك عن ضربهم.
ولئن كفَأَتِ الأمُّ صبيَّها فرَبَّتَتْ على ظهره، فإن الله يسألها يوم القيامة عن تربيتها؛ فاتقِ الله في الأبناء والبنات، إن ضعفهم لا يدعوك إلى القوة عليهم، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو إليه أمراً من أموره، ويبث إليه حزناً وشجناً من أحزانه وأشجانه فقال: (يا رسول الله! إن لي أرقاء أو لي موالي آمرهم فيعصونني؛ فأضربهم وأشتمهم وألعنهم، فما تأمرني فيهم؟ قال صلى الله عليه وسلم: إذا كان يوم القيامة نُظِر في أمرك لهم وعصيانهم لك، ثم أُخِذْتَ بذلك، فتولَّى الرجل يبكي وقال: أشهدك أنهم أحرار لله جل جلاله).
فالله الله في الأبناء والبنات! إن الله يسألك عن ضربهم، إن الله يسألك عن دموعهم وعبراتهم، إن الله يسألك عن إهانتهم.
إن الله يسألك يوم يُنْشر لك الديوان بزلات اللسان، وبتلك الكلمات الجارحات، والعبارات المؤذيات القاسيات؛ يوم أطلقتها، ويوم لفظتَ بها فلم تعبأ بها، ولم تراقب الله عز وجل يوم لفظتَها.
فاتقِ الله في ضعفهم، وخذهم بالمودة والإحسان، وكن حبيباً مهاباً، ولا تكن فظاً غليظاً، فإن العبد إذا عامل الناسَ بالإحسان، وقابل الإساءة بالغفران، فإن الله يصفح عنه، وما جزاء الإحسان إلا الإحسان.(13/4)
ردعهم عن حدود الله
ألا وإن من أجلِّ الحقوق والواجبات التي تجب على الآباء والأمهات: ردعهم عن حدود الله والفواحش والمنكرات:- يوم أن يزل الابن، وتزل البنت في كلامها أو مشيها أو سلوكها، فإن الله سائلك -أيها الأب- عن حقها، فأقم حق الله عليها.
إن بيوت المسلمين لا تقوم على الاستهتار والاستخفاف بحدود الله الواحد القهار، فهي تحتاج أباً يحفظ حدود الله، ويردع من يجاوزها إلى محارم الله.
فخذهم -أيها الأب- بما أمر الله حينما تردعهم عن حدود الله ومحارمه، وإياك والعواطف التي تمنعك من أن تقول كلمة الحق لهم، إياك -والعواطف- أن تحول بينك وبين أمرهم بما أمر الله، ونهيهم عما نهى الله.(13/5)
تربيتهم على أداء الحقوق والواجبات
ألا وإن من حقوق الأبناء والبنات: تعويدهم وتربيتهم وتنشئتهم على أداء الحقوق والواجبات:- عوِّدهم -أيها الأب- على صلة الأرحام، عوِّدهم على صلة الأعمام والعمات والأخوال والخالات، وخذهم إلى ذلك، فإنه من أجلِّ الطاعات والقُرُبات، فما ربيتَ صبياً على صلة القرابة إلا كَتَب الله لك أجره، فلا رَفَع قدماً يَصِلها، ولا تكلم بكلمة يبرها إلا أُجِرْتَ عليها.
عوِّدهم على خصال الخير، وطاعة الله، والبر: مِن إفشاء السلام، وإطعام الطعام، وغير ذلك من موجبات دار السلام.
عوِّدهم على الخصال الكريمة حينما تنشئهم على توقير الصغير وإجلال الكبير، فليس منا من لم يوقر كبيرنا، ولم يرحم صغيرنا، قال صلى الله عليه وسلم: (ليس منا -أي: ليس على هدينا ولا على شريعتنا الكاملة- مَن لم يوقر كبيرنا ولم يرحم صغيرنا).
عوِّدهم على حب المساكين، والإحسان إلى الأيتام والأرامل والمحتاجين، فوالله ما مَدَّ كفاً يحسن إليهم بها إلا أُجِرْت عليها، وكان لك مثل أجرها.
عوِّدهم على الخيرات، وحسن الظن بالمسلمين والمسلمات، فإن ذلك من أجلِّ القربات والطاعات، فلا يَسْمع الصبي منك كلمة تغتاب بها مسلماً، أو تنتهك بها عرض مسلم؛ فإن الله يسألك عن تلك القدوة السيئة إذ تَبِعَك في ذلك مما لا يرضي الله جل جلاله.(13/6)
تعليمهم الصلاة
ألا وإن من حقوق الأبناء والبنات إذا بلغوا وَعْيَ الخطاب عن الله جل وعلا أن يؤمروا بالصلاة:- قال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر، وفرقوا بينهم في المضاجع) إذا بلغ الصبي سبع سنين، فأمُرْه -أيها الأب- بالصلاة، وطاعة الله رب العالمين؛ فذلك من حقوق الله في البنات والبنين.
مُرْهم بالصلاة والزكاة، وأمرهم بالاستجابة لله جل في علاه، وخذهم إلى المساجد، وتَرْجِم ذلك الأمر بالعمل، فكن أسبقهم إلى تلك الطاعة بكل خوفٍ من الله ووجل.
فادعُ الأبناء والبنات إلى الصلاة وكن لهم القدوة الصالحة في ذلك، فحينما تأمرهم بطاعة الله أتْبِعِ القولَ العمل؛ فإن الله يمقت مَن خالف قولُه عملَه.
فإياك ثم إياك وإضاعة الصلاة، وإضاعة الحقوق والزكاة! فإن ذلك من أعظم المسئولية بين يدي الله، فلقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن أول ما يُنْظَر من أمر العبد: الصلاة، فإن صلحت نُظِر في سائر عمله، وإن فسدت وضيَّعها فهو لِمَا سواها أضيع).
فطوبى لمن رَبَّى على هذا الحق العظيم، ونشَّأ الأبناء والبنات على المحافظة على الصلاة لله رب العالمين.
مُرْهم بالصلاة في أول أوقاتها بشرائطها، وبيِّن لهم أركانها، وبيِّن لهم أحكامها، فوالله ما من صبي ولا صبية علمته شيئاً من كتاب الله أو الطهارة للطاعة والصلاة إلا أُجِرْتَ على ذلك، ولو علَّمته الوضوء فوالله ما أصاب ذلك العضو ماءٌ من الوضوء إلا أُجِرْتَ عليه الدهر كله، ولا علَّمته كتاب الله ولا الفاتحة يقرؤها في الصلاة فلَفَظَها لسانه إلا أُجِرْتَ مثل أجره من الله.
فأنْعَمْ بذلك عيناً حينما يَعْظُمُ أجرك بأمرهم بطاعة الله ومحبته.(13/7)
أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وتنشئتهم على ذلك
ألا وإن من الحقوق والواجبات التي تجب على الآباء والأمهات تجاه الأبناء والبنات: تنشئتهم على رعاية حدود الله، والبعد عن الفواحش والمنكرات:- إن قلوب الأبناء والبنات قلوب بريئة، ينبغي أن تُغَذَّى بخوف الله وخشيته، حتى يكون العبد أعف ما يكون عن حدود الله ومحارمه.
عوِّدهم -أيها الأب- على العفة والحياء، والخوف من الله فاطر الأرض والسماء.
عوِّدهم على البعد عن الفواحش والمنكرات، وعلى العفة عن المعاصي والسيئات، فإن ذلك من أعظم وأجلِّ القُرُبات يوم تخلِّف وراء ظهرك ابْناً يخاف حدود الله ومحارمه.
واعلم أنك لا تفتح على الابن والبنت باب شهوة أو باب فتنة إلا حُمِّلْتَ وزرها بين يدي الله، واللهِ ما من ساعة ولا لحظة تَمَتَّع فيها الأبناء والبنات بملهيات أو مغريات إلا حُمِّلْتَ بين يدي الله ذنوبَها، وعُرضْتَ بين يدي الله بأوزارها.
فاتقِ الله عز وجل في تلك القلوب البريئة، خاصةً قلوب الصغار التي هي أوعى ما تكون للخير والشر، اتقِ الله في تلك القلوب البريئة أن تفتح عليها أبواب الملهيات والمغريات، فتجتالهم عن طاعة الله ومرضاته، فتكون بذلك قد فتحت لهم سبيل الحرب والعدوان على حدود الله ومعاصيه، اتقِ الله في كلِّ ما تجلبه، وكلِّ ما تُمَكِّن منه الأبناء والبنات، فإن الله سائلك ومحاسبك عن كل ما تسبَّبْتَه فيما يجلب عليهم من السوء والشر في دينهم ودنياهم وآخرتهم.(13/8)
بذل الحنان والمودة لهم
ألا وإن من حقوقهم في التربية: بذل الحنان، والمودة، والإحسان:- فـ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:195] أحسني -أيتها الأم- إلى ذلك الصبي، وأنعمي عينَه بكلمة طيبة، وحنانٍ وبِر، وأدخلي السرور عليه، فمن سرَّه سرَّه الله يوم المساءة، فأنعمي عينه بالإحسان لا بالإساءة.(13/9)
حسن الاختيار لبعضهما
أول هذه الحقوق: أن يُحْسِن الأبُ وتُحْسِن الأمُّ الاختيار:- إن للولد عليكما -أيها الوالدان- حقاً عظيماً: أن تختار -أيها الأب- أمَّه ذات الدين الكريمة الأمينة التي تخاف الله وتتقيه، وتعلم علم اليقين أن العبد ملاقيه.
أن تختار له أمَّاً كريمة، لا خَبَّةً ولا لئيمة؛ تختارها لا لجمالها، ولا لمالها، ولا لحسبها، ولا لنسبها؛ ولكن لطاعةِ اللهِ ربِّها.
أن تختار للولد تلك اليد الأمينة التي إن غِبْتَ عنها حفظتك، وإن نظرتَ إليها سرَّتك، وإن أمرتها أطاعتك.
أن تختار الصالحة المصلحة، الهادية المهدية، التي تسير على السيرة المرضية.
وأن تختاري -أيتها الأمُّ- لابنكِ ذلك الأبَ الكريم، فاختاريه دَيِّناً، لا صعباً ولا ليناً، واختاريه عبداً مطيعاً مستجيباً لله سميعاً، واختاريه على حب الله وغشيان مراضيه.
فإذا اختارت الأم بعلها، واختار الزوج زوجته، فإن الله سائلهما.
فأول حقوق الولد عليك -أيها الأب-: أن تحسن الاختيار لأمه، فكم من أم نشَّأت وربَّت وأصلحت لَمَّا أحسن البَعْل اختيارها! وكم من أم أفسدت وأشقت وأضلت حينما أساء الزوج اختيارها! فالله الله في اختيار الأزواج والزوجات.
إن اختيار الآباء والأمهات مسئولية عظيمة على الأزواج والزوجات؛ فليتق العبد بارئه، وليعلم أنه ملاقيه وسائله عن اختياره لزوجه وولده.(13/10)
الدعاء له بالصلاح
الوصية الثانية: إذا أنعم الله عليكَ بالولد، وصاح صيحته فاحمَد الله جل جلاله، واشكره على نعمه وآلائه:- إذ متع الله ناظريك؛ وأخْرَجَ لك بشراً سوياً، فاضرع إلى الله بصالح الدعوات، وصادق المناجاة والابتهالات، أن يجعله عبداً مطيعاً، وقل: ربِّ أسألك {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38].
فلقد ابتهل المتقون، ونادى العباد الصالحون إلهَ الكون أن يرزقهم الذرية الطيبة، فذكر الله عن نبيٍّ من أنبيائه، وحبيبٍ من أحبابه وأصفيائه أنه سأله الولد الصالح: {قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38].
فسَلِ اللهَ خيرَ الولد، فكم من ولدٍ أنعم الله به الوالدين! وكم من ولدٍ أشقى الله به الوالدين! فاسأل الله خيرَه، واستعذ به من شره، واسأله أن يكون نعم الخليفة لك على طاعة الله ومحبته، كما قال الله عن حبيبه: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً} [مريم:6].(13/11)
تنشئتهم تنشئة صحيحة والقيام على حقوقهم وواجباتهم
أحبتي في الله: الوصية الثالثة: تنشئة الأبناء، والقيام على حقوقهم وواجباتهم على الوجه الذي يرضي الله.
إن للأولاد على الآباء والأمهات حقوقاً، فالله سائل الآباء والأمهات عن حقوق الأبناء والبنات.
فعلى الأم حق عظيم: أن تربي الابن بعد أن أنعم الله عليها بوجوده، وأن تطعمه، وتسقيه، وتتفقَّده في حوائجه حتى يبلغ السن التي يعي فيها أوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أيتها الأم المؤمنة: إن الله يسألكِ عن هذا الابن عن طعامه وشرابه، وسقائه ودوائه وكسائه، حتى إن الأم لو فرَّطت في طعام صبيها وتأخرت، فالله سائلها يوم القيامة: لِمَ ضيعت؟ وأن تعلم الأم أن هذا الجنين وأن هذا الرضيع سيكون لها خصماً بين يدي الله عز وجل حتى عن طعامه وشرابه، وحتى عن الإناء لو فرطت وتساهلت فيه فتسبَّب في سقمه ومرضه، أو تسبب في وفاته وموته، فحملت بين يدي الله إثماً.
فينبغي على المؤمنة أن تعلم أن الله حمَّلها أمانة عظيمة، فكما أنها مطالبة بالتنشئة على الدِّين، كذلك هي مطالبة بأداء حقوق الدنيا على الوجه الذي يرضي الله، يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يَطْعَم معك) فكان هذا من كبائر الذنوب، وقد عرض الله مشاهدَ الآخرة، فأخبر عن الشمس إذا كورت، وعن الموءودة أنها تُسأل لماذا قُتِلَت؟! وبأي ذنب وُئِدَت؟! فينبغي على الأم الصالحة أن تعلم أن الله يسألها عن طعام صبيها وشرابه، إنَّ تساهُل الأمهات عن الصراخ والصيحات من تلك النفوس البريئات، يوم جاعت وظمئت وهنَّ مشتغلات بفضول الحديث والترهات، كل ذلك مسئولة عنه بين يدي الله فاطر الأرض والسماوات.
وأن تحفظ للصبي طعامه، وسقاءه وشرابه، وكساءه، ودواءه.
وأن تترسم في ذلك حب الله ومرضاته، فترفع الكف لسقائه، وترفع الكف لطعامه، وتحتسب الأجر عند الله، قال صلى الله عليه وسلم يبين لنا عظيم الأجور عند الله لنا: (حتى اللقمة يضعها الرجل في فيّ امرأته يكون له بها أجر).
فاتقي الله في هذا الطفل الضعيف، فإنها ذرية ضعيفة، ولقد وصفها الله جل وعلا بالضعف حتى تعطف عليها قلوب المؤمنين والمؤمنات.(13/12)
وصايا متفرقة للوالدين
وصيةٌ إلى الوالدين يوم يَكْفُرُ الأبناءُ والبنات الفضائلَ، ويوم يقف الأب عند المشيب والكِبَر ينتظر من الابن البر والإحسان؛ فإذا به يفاجأ بالتمرد والعصيان.
وصيةٌ إلى الوالدين يوم وقفت الأم عند مشيبها وضعفها وكِبَرها تنتظر بر ابنتها، فخابت الظنون، وتغيرت الأحوال، وسبحان الله إله الكون! إذا وقفتَ هذه المواقف فاعلم أن الله هو الذي يأجرك، وأن الله هو الذي يعوض خيرك وبرك، واعلم أن ما كان منك من حسنات؛ فإنه لا يضيع عند الله فاطر الأرض والسماوات، فاحتسب الأجر عند الله يوم تجدهم كُفَّاراً للجميل يوم تجدهم كُفَّاراً للنعمة والفضل، واسألِ الله أن يجبر كَسْرَك، وأن يُعْظِم أجرك، وإياك وزلات اللسان التي تُذْهِبُ بها ما سَطَّرْتَ من الخير والأجور والإحسان.
وصيةٌ للوالدين إذا فُجع الأب وفُجعت الأم بتلك الفواجع، يوم يُقْرَع العبد بتلك القوارع، فإن الحياة فانية، وهي ذاهبة زائلة، فإذا ربَّى الأب ابنه والأم ابنتها، وجاءت عند مشيبها وكِبَرها بعد أن متع الله ناظرَيها ومتع سمعَيها بسماع تلك الصيحات، إذا بها تفاجأ بابنتها في عداد الأموات، وقد صارت إلى رفات.
وصيةٌ إذا نَزَلت الفواجع، وقرعت تلك القوارع أن يقول العبد ما يرضي الله، وأن يحتسب الثواب عند الله، فكلنا إلى الله صائرون، وكلنا إليه منقلبون، والله جل جلاله منه الخلف وفيه العوض من كل فائت.
فاحتسبي -أيتها الأم- المصاب، وارجي من الله حسن العاقبة وحسن الثواب، واحتسبي عند الله أجرها يوم فُجِعتِ بتلك المصيبة التي سمعتِها؛ فإن في الجنة بيت الحمد لمن صبر على المصاب، واسترجع وأناب، ومن الله حُسْن الأجر والثواب.
وصيةٌ إلى الوالدين في خضم هذه الفتن والمحن بالمحافظة على الأبناء والبنات، وعدم الغفلة عنهم بكثرة الخروج والزيارات، فإن كثيراً من الأمهات قد أغفلن حقوق الأبناء والبنات، وأصبحت الأم لا تحفظ صغيرها، ولا ترعى طفلها، فهي كثيرة الخروج والولوج، وأصبح الأب غائباً في تجارته، وفي شئونه وأعماله، حتى ضاع أبناء المسلمين، وحرموا الخير مِن فَقد الرعاية من الآباء والأمهات.
فاتقِ الله عز وجل -أيها الأب- في أبنائك وبناتك.
إن حقوق الأبناء والبنات مقدمة على الأموال والتجارات.
إن حقوق الأبناء والبنات مقدمة على الزيارات والمناسبات.
إن حقوق الأبناء والبنات مقدمة على جميع ذلك؛ لأنها من الفرائض والواجبات.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل ما وهب من نعمة الولد عَوناً على طاعته ومحبته، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه، وآله وصحبه أجمعين.(13/13)
الأسئلة(13/14)
كيفية معاملة الولد العاصي
السؤال
أنا قصَّرت في تربية ولدي، فقد ربيته على بعض المعاصي؛ ولكن لم أكن أعلم بأن هذه الأشياء محرمة؛ ولكني عرفتُ الآن أن هذه الأمور محرمة، وقد تبتُ ورجعتُ إلى الله؛ ولكن ابني قد بلغ السابعة عشرة من سِنِّه، وصار لا يطاوعني في ترك هذه الأمور، فهل أنا آثمة في هذا الأمر؟ فإن قلبي يتقطع عليه، وما أدري ماذا أفعل، ولا كيف أصلحه، وبارك الله فيك!
الجواب
أسأل الله أن يقبل منا ومنك التوبة والإنابة، وأسأله أن يمنَّ على الولد بصلاح حاله وتوبته واستقامته.
ابذلي ما تستطيعين من التذكير والتوجيه، فإن ذلك يكون سبباً -بإذن الله عز وجل- في غفران الله لزلتك وخطيئتك، ذكِّريه وانصحيه في الأمور التي كنتِ سبباً في وقوعه فيها من المحارم، وبيِّني له أنها لا تجوز، ولعلَّ الله أن يمنَّ علينا وعليك بالعفو والمغفرة.
والله تعالى أعلم.(13/15)
حكم الصلاة على من مات على كبيرة من الكبائر
السؤال
هل يجوز الصلاة على مَن يموت بسبب المخدرات؟ وهل يجوز تعزية أهله على ذلك؟
الجواب
مَن مات بسبب المخدرات فإنه يعتبر مسلماً مرتكباً لكبيرة من الكبائر، ومذهب أهل السنة والجماعة أنه يُصَلَّى على مرتكب الكبيرة، ويدعى له ويُتَرَحَّم عليه، وهو أحوج ما يكون إلى الدعاء؛ ولكن استحب العلماء ألاَّ يصلي عليه أهلُ الفضل، أي: أن الإمام العام لا يصلي على من مات بسبب المخدرات حتى يزجُرَ غيره، وهذا من باب التعزير، أما إذا توفي فهو من المسلمين، وله ما للمسلمين من الدعاء والتَّرَحُّم، فالله ابتلاه، وهذا شيء ابتلاه الله جل وعلا به، فاسأل الله له العفو والمغفرة، فلعل دعاءك له وترحُّمَك عليه يكون سبباً في رحمة الله به، فيكون ذلك من الخير الذي يسديه المسلم لأخيه المسلم، وإذا كان لا يُصَلَّى إلا على المطيعين، ولا يُصَلَّى إلا على الأبرار المتقين فأين رحمة الله التي وَسِعت عباده أجمعين؟! والله يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً} [الزمر:53].
فاستغفِرْ له وترحَّمْ عليه؛ فإن الله جل وعلا نفع المؤمنين بدعاء إخوانهم فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ} [الحشر:10] وكذلك يُعَزَّى أهلُه، فتُعَزِّي أهلَه وتسأل الله جل وعلا أن يُعَظِّم لهم الأجر في فَقده، وكونه أساء فإن ذلك لا يمنع حق قرابته مِن صلتهم؛ فإنهم مفجوعون، وقد يكونون على استقامة وخير وطاعة وبر؛ فمِثْلُهم يُعَزَّى، ولا يُضَرُّ أهلُه كونه على معصية الله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] والله تعالى لا يُحَمِّلهم ذنبه، ولا يُحَمِّلهم تَبِعَتَه ومسئوليته.
والله تعالى أعلم.(13/16)
نصيحة لشاب مفرِّط في حق والديه
السؤال
ما نصيحتك يا شيخ لشاب مفرِّط في حق والديه؟
الجواب
أوصيك -أيها الشاب- ونفسي بتقوى الله، وأن تعلم أن الله جل وعلا إذْ أنعم عليك بحياة الوالدين فقد يسلبك هذه النعمة عاجلاً أو آجلا، فاغتنم وجود الوالدين، فكم -والله- من قلوب تفطَّرت على فَقد الأب والأم! إن الله جعل لك بابين من أبواب الجنة، وبابين من أبواب الرحمة، فاغتنم وجود الوالدين، وأقبِلْ بجدٍّ وإخلاص ومثابرة على إدخال السرور عليهما، وحسن البر بهما، واللطف معهما، ولعلَّ الله جل وعلا أن يُخْرِج من ألسنتهما دعوة صالحة تكون سبباً في سعادتك في دينِك ودنياك وآخرتِك.
فاحتسب عند الله الأجر في إدخال السرور عليهما، وأحسن إليهما ولا تسئهما، وأكرمهما ولا تهنهما، وارفعهما ولا تضعهما، وكن على أحسن ما يكون الابن مع والديه.
وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ممن بر، وأن يعيذنا وإياكم من العقوق.
وآخر دعوانا: {أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:10].(13/17)
كيفية أخذ الأبناء لزيارة أقاربهم العصاة
السؤال
ذكرتُم -جزاكم الله خيراً- أنه يَجب تعويد الأولاد على صلة الأقارب، فماذا ترون إذا كان هؤلاء الأقارب لا يلتزمون بتعاليم الدين الإسلامي في العادات والتقاليد، وقد يفعلون ما هو خَطَرٌ على تربية الأولاد من الأقوال والأفعال؟
الجواب
هذا فيه تفصيل! عليك أن تأخذ مِن الأبناء مَن عنده رشد وفَهم وتزور به القرابة، ثم تنبِّهه إلى أن هذا الأمر خطأ، وأنه لا يجوز، فتؤدي للقرابة حقوقهم، ولله عز وجل حقه، فالمنكر تَعْلَم أنه منكر، والابن تبيِّن له أن هذا لا يجوز، هذا أفضل من أمرك للابن أن لا يزورهم، بل زُرْهم بابنك، وعلِّم الابن أن هذا منكر لا يجوز، وأن هذا حرام، وانصح القرابة، وذكِّرهم بالله جل وعلا، فإن كانت هذه المنكرات تؤثِّر على الذرية؛ فلا يأخذ الإنسان الذرية الضعيفة، وربما يقتصر على الزيارة في حدودٍ لا يقع فيها الأبناء والبنات والذرية في حدود الله ومعاصيه.
والله تعالى أعلم.(13/18)
كيفية التعامل مع الوالد الذي يتعامل بالربا
السؤال
والدي يتعامل بالربا، وقد نصحتُه مرَّاتٍ عديدة، ويدَّعي أنه يتعامل بالمضاربة؛ ولكنها ليست الحقيقة، وقد قمتُ بإرسال الرسائل إليه؛ ولكن دون جدوى، فكيف أتعامل معه؟ أرشدني أرشدك الله!
الجواب
إذا قال الوالد إنه يتعامل بالمضاربة فاسأل عن ذلك، وتحرَّ عنه، فإن كان صواباً فلا يحل لك أن تتهمه بالربا، وإن كان كذباً فإنه لا يجوز الأكل من مال الربا.
والله تعالى أعلم.(13/19)
ضرورة عدم إظهار الخصومات التي تقع بين الزوجين أمام الأبناء
السؤال
صارت بين زوجٍ وزوجةٍ خصومةٌ أدَّت إلى تَفارُقِ الزوجين دون طلاق، وتَهاجُرِهِما، وتضرَّرَ من ذلك البنون والبنات، علماً بأن هذه الزوجة كانت تحاول جاهدة أن تبر زوجها؛ لكنها لم تُطق يا فضيلة الشيخ، فما نصيحتك؟ وما موعظتك لهذه الأم؟ عسى الله أن ينفعها بها!
الجواب
على الأم أن تتقي الله، وأن تحتسب الأجر عند الله في الصبر على أذية زوجها وبَعلها؛ خاصة إذا كان عندها أولاد، وكان لها منه أبناء وبنات؛ فإنه ينبغي عليها أن تتحمل الأذى، وأن تصبر على ما يكون من البلوى، فإن الله يأجرها على حسن هذه النية، ولو كان الأمر فيه ما فيه من الأذية والمهانة فإن الله يكرمها، ويعوضها ويخلف عليها، ويأجرها، فهذه من الأمور التي ينبغي أن تُوصَى بها المؤمنة إذا بُلِيت بالزوج وأذيته مع وجود الولد.
إن هَدْمَ البيوت وتَفَرُّقَ الأزواج والزوجات على حساب الأبناء والبنات يخَلِّف من التبعات والعواقب -التي لا يعلمها إلا الله- الشيء الكثير.
فينبغي على الأب والأم أن يفكر كلٌّ منهما فيما تجنيه التصرفات والأفعال التي بينهما، فإن قلوب الأبناء والبنات تتفطر حزناً حينما ترى تَنَكُّدَ الحياةِ في وجه الأب والأم، وكم من أبناء وبنات فقدوا حتى عقولهم بسبب أذية الآباء والأمهات لهم بالعبارات القاسية، وبتلك المعاملات الغليظة التي تكون من الزوج لزوجته أو من الزوجة لزوجها! ويقف الابن حائراً تائهاً لا يدري أأبوه المصيب ومعه الحق، أم أمه المصيبة؟! أأبوه المخطئ أم أمه المخطئة؟! فيعيش في حياة الهم والغم من صباه ومن صغره، حتى ربما يفقد تفكيره وشعوره.
فمن الذي يحمل هذه المسئولية؟! ومن الذي يحمل إثم هذه الهموم والغموم غير الأب والأم؟! فينبغي على الأب والأم أن يكونا بعيدَي النظر، وأن يتقيا الله جل وعلا في الأولاد، وأن يرحما هذه القلوب الضعيفة، فإن الله سمى الأولاد والبنات ذرية ضعيفة، ووصفهم بالضعف؛ لأنهم لا حول لهم ولا قوة، وأفكارهم وعقولهم صغيرة، فإذا فُجِعَت هذه العقول الصغيرة البريئة بالخصام والشجار والكلمات القاسية تَعَذَّبت وتألَّمت، خاصة إذا كان الابن قوي الإحساس، وكانت البنت قوية الإحساس ضعيفة المشاعر؛ فإن هذه كلها أمور تكون لها من العواقب أشياءٌ كثيرةٌ.
فليتقِ الله الآباء، ولتتقِ الله الأمهات.
إن مشاكل الزوجين ينبغي أن تكون بمنأىً وبُعْدٍ عن الأبناء والبنات، وينبغي أن تكون في خلوتهما وفي حال انفرادهما، لا تَسْمَع بها أذُن، ولا تنظر إليها عين، ولا ينبغي للأب -خاصة بعض الآباء- إذا كبر سنه وشاب أن يسيء المعاملة للزوجة أمام أبنائها وبناتها، ويهينها ويذلها، حتى إن بعض الأبناء والبنات يتعلم -والعياذ بالله- ويأخذ من أبيه إهانة أمه.
كذلك بعض الزوجات إذا شاب زوجها وكبر وضعف أساءت إليه، وآذته، وفتحت له أبواب المشاكل، فيتعلم الأبناء والبنات منها -والعياذ بالله- العقوق، وإهانة الأب عند المشيب والكبر، والله المستعان مِن يومٍ يشيب فيه الوِلدان، يومَ تُنْصَب الموازين، وتُنْشَر الدواوين، لكي يُؤْخذ كل إنسان بقوله وعمله! الله المستعان على ذلك اليوم العظيم الذي ينصف الله عز وجل فيه الظالم والمظلوم، والبائس والمحروم! فليتقِ الله الآباء والأمهات في حقوق الأبناء والبنات من عدم إساءة بعضهم إلى بعض بمحضر الأبناء والبنات، ونسأل الله العظيم أن يعصمنا من الزلل.
والله تعالى أعلم.(13/20)
حكم المستحاضة التي كان لها عادة
السؤال
امرأة تأتيها العادة الشهرية -عادةً- في كل شهر لمدة سبعة أيام، وفي هذا الشهر جاءتها ثمانية عشر يوماً، وما زالت مستمرة، وهذا أول شهر يحصل لها فيه هذا الأمر؛ فما الحكم في هذه الحالة بالنسبة للصلاة وقراءة القرآن إلى غير ذلك؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإنه ينبغي عليها أن تعتدَّ الأيام التي كانت تعتدُّها قبل أن يصيبها الذي أصابها؛ فتَعْتَبِر حيضَها الأيامَ التي اعتادتها، ثم تَعْتَبِر الأيامَ الزائدةَ أيامَ استحاضة لِمَا ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لتنظر الأيامَ التي كان تحيضهن قبل أن يصيبها الذي أصابها؛ فإذا هي خَلَّفَت ذلك فلتغتسل، ثم لتصلي).
فدل هذا على أن المرأة التي لها عادة؛ ينبغي عليها أن تبقى قدر عادتها، ثم بعد ذلك تلغي ما بقي ولا تعتبره من الحيض.
والله تعالى أعلم.(13/21)
كيفية معاملة الوالدين عند صلتهما أقاربهما العصاة
السؤال
إذا خفتُ على والديَّ من زيارتهما للأقرباء، وذلك لفسادهم، مع العلم أنهم أقرب الأقرباء، فماذا أفعل تجاه ذلك؟
الجواب
انصح الوالدَين وذكِّرهما بالله جل وعلا في زيارتهما للقرابة، ولا تنههما عن زيارتهم؛ فإن الزيارة واجبة، وكون القرابة يسيئون أثناء الزيارة فإن ذلك لا يمنع من أداء حق الزيارة؛ ولكن انصح هؤلاء القرابة بحفظ جوارحهم أثناء الزيارة، فإن نصحتهم، فقد أديت ما عليك.
والله تعالى أعلم.(13/22)
طاعة الوالدين في مرضاة الله
السؤال
لي إخوة بالغون وهم على سلوكٍ غير سليم، وقد بذلتُ لهم النصح؛ أحياناً باللين، وأحياناً بتغليظ القول، إلى آخر ذلك؛ ولكنَّ والدتي ربما تتدخل عندما أقسو عليهم؛ فأتركهم لذلك خوفاً من غضبها عليَّ، فماذا أفعل؟ أرشدني مأجوراً -بارك الله فيك-!
الجواب
ظاهر قولك أن الوالدة تتدخل إذا قسوتَ.
هذا هو الذي ورد في السؤال.
وبناءً على ذلك فإنك تأخذ بأساليب اللين، وإذا أردتَ أن تقسو، فاقسُ عليهم دون علم الوالدة، فتأمر بطاعة الله، وبُرَّ والديك في حدود مرضاة الله.
والله تعالى أعلم.(13/23)
حكم دفع الأذى عن الوالدين
السؤال
إن لي أخاً يعقُّ والدتي، وحينما أذكِّره بفضل الوالدين يزداد غضباً، فيضرب، ويشتم، ويأخذ بالسخرية والاستهزاء بها! فماذا تنصحني أن أفعل؟
الجواب
أولاً: إذا كانت عندك قوة تمنعه من الضرب فاضربه إذا كان يضرب الوالدة وأنت أقوى منه وتستطيع كفه، فإنه يجب عليك كفه، ومثل هذا لا حرمة له، وإذا كان الوالد موجوداً فإنك ترفع الأمر إليه، ولا تضربه، وتنصح الوالد وتبين له أنه مسئول بين يدي الله عن مجاوزة هذا الابن لحدود الله مع أمه.
هذا الأمر الأول.
الأمر الثاني: إذا كنت تعجز عن كفه ومنعه عن ضرب الوالدة؛ فإنه ينبغي أن تختار أفضل الأوقات لتوجيهه وإرشاده ودلالته إلى الخير وتحذيره من مغبة الشر.
فأما نصحك له في حالة الغضب فأظن أن هذا هو الذي يتسبب في شدة إعراضه وتماديه في الضرب، وبناءً على قولك بأنه يزداد في الضرب إذا نصحتَه؛ فإنه لا ينبغي أن تنصحه على وجه يزداد فيه من أذية الوالدة، ولذلك نهى الله عن سب آلهة الكفار؛ لأنها تفضي إلى سب الله جل وعلا، فكذلك الحال: إذا كان نصحك له أثناء الضرب يزداد فيه من الضرب فإنك تتوقف عن نصحه إلى وقتٍ ترجو فيه استجابته.
ثم خذ بالأسباب: فإذا كان الوالد يستطيع كفه فأخبر الوالد.
وإذا كان هناك أخ أكبر منك وهو موجود فاطلب منه أن يَكُفَّه.
وإذا كان هناك من القرابة من الأعمام والعمات أو الأخوال والخالات من يستطيع زجره كذلك فاستعن به بعد الله.
وإذا لم تجد في القرابة فانظر إلى إمام الحي أو إمام المسجد أو الصلحاء أو قرنائه وأصدقائه، حتى ولو كان عن طريق مسئوله ومديره، حتى يذكِّره ويردعه.
فابذل كل ما تستطيع لكفه عن ظلم الوالدة وأذيتها.
والله تعالى أعلم.(13/24)
حكم ضرب الأبناء
السؤال
ما هي الحدود الشرعية في ضرب الأبناء؟ وما هي أنواع الضرب الجائزة شرعاً؟
الجواب
أولاً: لا يُضْرَب الابن إلا من حاجة، وذلك إذا أعيت الحيلة بالتوجيه، ولذلك ينبغي على الأب في أول شيء أن ينصح، وأن يوجه، فإن حصل العمل بنصيحته وتوجيهه فالحمد لله، وإذا لم يحصل العمل يُهَدِّد، ومما اتفق عليه الحكماء أن الأب إذا لاحظ من ابنه أو ابنته تقصيراً، فهدَّد وخوَّف بالضرب أو العقوبة فليس من المحمود أن يتخلف عن العقوبة إذا فعل الابن أو فعلت البنت التقصير، بمعنى إذا قلتَ له: إذا عدت إلى هذا الأمر فسأضربك، فإن عاد فاضربه مهما كان الأمر؛ لأن ذلك من أبلغ ما يكون من الزجر؛ لأنه إذا هدَّده بعد ذلك مرة ثانية عَلِم أنه إذا فعل سيُضْرَب وسيُؤَدَّب، والضرب يُعْتَبر من أساليب التربية التي أقرها الكتاب وأقرتها السنة الصحيحة الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن من الأبناء والبنات من يُقرع باللسان، ومنهم من تقرعه اليدان، فلا ينفع فيه توجيه ولا إحسان، فيحتاج إلى الزجر وإلى العقوبة؛ ولكن بعد أن تُعْيِي الحيلة في التوجيه.
فالأول: أن تكون هناك حاجة؛ كمعصية الله جل وعلا، أو ترك أمرٍ من أوامر الله، فهذان أمران: إما فعل حرام.
أو ترك واجب.
فترك الواجب مثل: الصلاة.
وفعل الحرام مثل: السب والشتم، أو النميمة، أو الأذية للناس، فتقول له: لا تسب بعد اليوم ولا تشتم؛ فإن سبَّ مرةً ثانية وشتم، فإنه إذا غلب على ظنك أن تأديبه بالضرب ينفعه فاضربه؛ ولكن بحدودٍ وقيود، فلا تقبِّح الوجه، ولا تكسر العظم، ولا تشوِّه الصورة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن لطم الوجوه، ولذلك نص بعض العلماء على أن ذلك يعتبر من الذنوب.
فلا يُلْطَم الوجهُ خاصةً من المسلم، فإذا أردتَ أن تضرب فاضربه في قفاه، أو في قدمه، أو في يده، بشروط: ألاَّ تكسر له عظماً.
وألاَّ يكون ضرباً مبرحاً.
كذلك ينبغي أن يكون هذا الضرب بعيداً عن الغير.
فإن الآباء لا يفرقون بين أمرين: الضرب للتوجيه والإرشاد ومحبة الخير.
والضرب من أجل إشفاء الغليل، وإثبات السلطة والقوة والقهر.
فإن كان ضرب الوالد من أجل أن يثبت السطوة والقوة والقهر في البيت، فإنه يعتبر آثماً شرعاً والعياذ بالله؛ لأن نيته تخالف مقصود الشرع، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات) فهو آثم بنيته، وأما فعله فإن جاوز فيه الحد فهو آثم أيضاً.
فالمقصود: أن الأب ينبغي أن يكون ضربه للتوجيه والإرشاد، ولذلك يظهر هذا الخلل حينما يَضْرِب الإنسانُ من أجل التوجيه والإرشاد تجد ضربَه على قدر الحاجة، ولكن إذا ضربَ من أجل شهوةِ النفس وحظوظها، فإن ذلك -والعياذ بالله- يكون بمجاوزةٍ لحدود الله في الغالب، وقد ينتهي في الغالب إلى كسر عظم، أو تشويه صورة، أو غير ذلك، نسأل الله السلامة والعافية من الأمور المحرمة.
فلا ينبغي للوالدين أن يؤذيا الأولاد بكثرة الضرب، وقد قال الحكماء والأطباء: إن كثرة الضرب للأبناء تُحْدِث عندهم نوعاً من شرود الذهن، وكثرة الخوف والرعب، وقد يصاب الابن -بسببها- بأمراض خطيرة، منها: أمراض في نفسيته.
وقد تكون أمراضاً في جسده.
وقد تسبب له أذية حتى في شهوته.
وإذا حصل هذا كله فيحمل وزره -والعياذ بالله- الأب والأم الجائران في ضربه.
فلا ينبغي هذا، بل ينبغي أن يتقي اللهَ العبدُ، وأن يصلح ولا يفسد، وأن يحسن ولا يسيء، نسأل الله للجميع التوفيق والرعاية.
والله تعالى أعلم.(13/25)
كيفية تربية الزوجة للأبناء مع فساد زوجها
السؤال
أنا أمٌّ أحاول بكل جهدي أن أربي أولادي وبناتي التربية الإسلامية، والتربية الصالحة؛ لكنَّ زوجي لا يساعدني على ذلك ويقول: لا تعقِّدي الأولاد، فأنا أبْنِي وأعمر وهو يهدم، وإذا نصحتُه على انفراد وفي الوقت المناسب يقول لي: كوني صالحة لنفسك، وما لك وللأولاد، وهو لا يصلي الصلاة في الوقت، ولا يصليها في المسجد، وهو كثير السفر إلى بلاد الكفر، حتى إنني قررتُ ألا أحمل منه، ويكفي ما رزقني الله منه من أولاد؛ لأنني أخاف عليهم من تربية هذا الرجل، وبالأصح هو لا يربي ولا يريدني أن أربي، فأرجو الدعاء لهذا الزوج وتصبيري على هذا الحال المكتوب عليَّ أثابكم الله فضيلة الشيخ؟
الجواب
أسأل الله العظيم أن يهدي قلبه، وأن يصلح أمره، وأن يكف شره عن ولده.
أختي في الله: احتسبي الأجر عند الله جل وعلا، والله يكتب لك ما يكون منك من إحسان في تربية الوِلْدان، احتسبي عند الله الأجر، والله لا يضيع أجرك، وأجرك عظيم، فالمرأة التي تُبْلَى بزوجٍ لا يقدِّر عناءها وتعبها في إصلاح الذرية أعظم أجراً من المرأة التي تجد من يشكر حسنتها، ويذكر جميلها، فاحتسبي عند الله الأجر، واعلمي أن الله معك، وأنه {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الأنفال:40].
هذه الوصية الأولى.
أما الوصية الثانية: فاستديمي على ما أنت عليه، وابني؛ فنِعْمَ -والله- ما بنيتِ، واهدي ودُلِّي؛ فنِعْمَ -والله- ما هديتِ ودلَّيتِ، وكذلك أيضاً ذكريه بالله وخوفيه من عقوبة الله، لعل الله أن يهديَه، ومِن عذابه أن ينجيَه! والله تعالى أعلم.
أما الطرف الثاني من السؤال: وهو ما قررتيه من عدم الحمل، فلا ينبغي هذا، بل ابقَي على ما أنت عليه، واحملي، وذَكِّري، وانصحي، واثبُتي؛ فإن الله يحب الصابرين في البلاء، ولذلك لا ينبغي أن تفكري هذا التفكير، فإن الله يقول في كتابه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام:95] قال بعض العلماء: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام:95] أي: الولد الصالح من العبد الفاجر.
ولذلك أخرج الله من أبي جهل: عكرمة، وما ضَرَّ عكرمة كفر أبيه.
فلا يدعوكِ هذا إلى اليأس والقنوط من رحمة الله، ولعل الله عز وجل أن يكتب لك درجات في الجنة تبلغينها بسبب هذا البلاء، ثم يَمُنُّ عليه بالهداية، فيجمع لك بين خيرَي دينِكِ ودنياكِ وآخرتِكِ.
فلا تفكري هذا التفكير، وعليكِ بالبناء والاجتهاد في طاعة الله، وتربية الأبناء على محبة الله.
والله تعالى أعلم.(13/26)
واجب الوالدين تجاه المنكرات التي قد يقع فيها الأبناء
السؤال
إن بعض بيوت المسلمين تئن من وجود الخادمات بلا محارم، مما يؤثر على تلقي الأبناء أوامر الشرع، ناهيك عن الذي يكون في حالات عديدة من الخلوة، بل الوقوع في الحرام -والعياذ بالله-! فما توجيهكم أثابكم الله؟
الجواب
أولاً: ينبغي أن يعلم الأب وتعلم الأم أن أول مَن يُسأل عن الولد هما، وليس الخادمة ولا غيرها.
فينبغي على الأب والأم إذا استشعرا المسئولية أن يسعيا في فكاك أنفسهما من النار؛ فإن الله عز وجل جعل الحنان بين الابن وأمه، ولا يمكن تعويض هذا الحنان بخادمٍ ولا خادمة، ولذلك لا ينبغي استقدام الخادمات والخدم إلا عند وجود الضرورة وبضوابط شرعية، ولا يجوز للمرأة أن تترك أمر جنينها وأولادها إلى الخادمات، وإلى الأيدي الغريبة، أما إذا كن كافرات فلا أشك في حرمة ذلك؛ فالمرأة الكافرة لا يجوز أن يُوْدَع عندها الصبي المسلم؛ فإنه لا يختلف اثنان أنها ستفسده، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (كل مولودٍ يولد على الفطرة، فأبواه يُهوِّدانه أو يُمجِّسانه أو يُنصِّرانه)، قال بعض العلماء: يتأثر الابن بوالديه بمكان المداخلة، وهذه المداخلة ستحل فيها الخادمة محل الأم، ويحل الخادم فيها محل الأب.
فلا يجوز ترك الأبناء والبنات بأيدي الكافرين والكافرات، فإن ذلك من أعظم الشرور وأعظم الآثام، فلا يحل بِوَجْهٍ تَرْكُهُم لدى أمثال هؤلاء، وإذا تَرَك صبيَّه أو صبيتَه عند أمثال هؤلاء، فاجتالهم هؤلاء عن طاعة الله وعن توحيده، فإنه يحمل وزر ذلك القلب بين يدي الله جل جلاله.
فينبغي أن يستشعر الإنسان مسئوليته بين يدي الله، ولا يجوز ترك الأبناء والبنات للخدم والخادمات الكافرات.
هذه المسألة الأولى.
المسألة الثانية: إذا وجدت الضرورة والحاجة، فينبغي على الأم أن تربي وتنشئ، ثم تنظر في هذه الخادمة، فمتى ما وجدت أنها تعين على التربية والتنشئة على طاعة الله جاز إبقاؤها، وأما إذا كانت سبباً في الوصول إلى حدود الله ومحارمه؛ فإنه لا يحل إبقاؤها، ومن ذلك لو أن الخادمة هذه كانت في بيتٍ فيه البالغون، أو فيه من يُخشى منه الوقوع في المحرمات، أو النظر إلى هذه الخادمة، والوقوع فيما لا تحمد عقباه، فإنه يجب على الأب والأم أن يضَعا كل الأسباب التي تمنع وتحول دون الوقوع في هذا الحرام، فإن حصل أي تقصيرٍ أو إهمال أو تساهل؛ فإنه يكون عليهما من الوزر والإثم على قدر ما يكون من الآثام من الأبناء والعياذ بالله.
فينبغي المحافظة على أبناء المسلمين وعلى بناتهم.
إن التساهل في أمر الخدم والخادمات مصيبة عظيمة، ووزر كبير، فكم من أبناء كانوا على عفة وحياء وخجل فذهب الحياء من وجوههم بسبب التساهل في هذه الأمور! فليتق الله الوالد، ولتتق الله الوالدة يوم تناشِد بَعلها أن يُدخل الغريبة على أبنائها وبناتها.
فاصبري واحتسبي واعلمي أن الله يأجركِ على تربية الأبناء والبنات، وإذا كان ولا بد من وجود أمثال الخادمين والخادمات؛ فليكن ذلك مع المحافظة على حدود الله جل وعلا، فلا خير في الدنيا إذا أَفْسَدَت الدين.
والله تعالى أعلم.(13/27)
حكم الإكثار من السبِّ واللعن
السؤال
ما نصيحتكَ لوالدَيَّ حيث أنهما يكثران اللعن والشتم عند أقل الأعمال أثابكم الله؟
الجواب
ثبت في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن اللعانين لا يكونون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة) فالذي يكثر اللعن والسب والشتم -والعياذ بالله- لا يكون يوم القيامة شفيعاً ولا شهيداً، فينظر إلى إخوانِه وأخواتِه وزوجِه وولدِه في النار، ويريد أن يشفع لهم فلا يؤذن له في الشفاعة، وذلك بسبب كثرة اللعن -والعياذ بالله-.
هذا الأمر الأول.
وأما الأمر الثاني: أن اللعنة إذا خرجت من الفم، انطلقت إلى السماء، فتُغَلَّق دونها أبواب السماء، ثم تعود إلى الأرض فلم تجد مجالاً، ثم تذهب إلى صاحبها، فإن كان كما قال، أصابته ولُعِن -والعياذ بالله- وإلا رَجَعَت إلى الذي قالها، نسأل الله السلامة والعافية.
ولذلك لا ينبغي الإكثار من اللعن، وقد جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان في سفر فلَعَنَت امرأةٌ دابتها فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تصحبنا ملعونة).
فينبغي الحذر من كثرة اللعن والسباب والشتائم، فإنه لا خير فيها، وينبغي على المرأة المؤمنة أن تصون لسانها، وعلى الأب المؤمن أن يصون لسانه؛ فإنه قدوة لأبنائه وبناته.
والله تعالى أعلم.(13/28)
حكم من حضر حلقة علم وأمه ساخطة عليه
السؤال
إني أتيتُ وأمي عليَّ غاضبةٌ، فهل عليَّ إثم؟ ثم هل خروجي من هذا المجلس يَغْفِر جميع ذنوبي، ومنها غضب أمي؟
الجواب
أناشد الله العظيم كل من كانت بينه وبين أمه أو رَحِمِه قطيعة ألاَّ يحضُر لي محاضرةً ولا يَغشى لي مجلساً، فقد صح في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (أحرِّج بالله على كل قاطع رحم أن يقوم من مجلسي، فلما قيل له في ذلك قال: أخبرني خليلي رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الرحمة لا تنزل على قومٍ فيهم قاطع رحم)، ولولا أني أخاف أن يكون تشهيراً بك لحرَّجت عليك بالله العظيم أن تقوم من المجلس الآن؛ ولكن لا أحل لأحد أن يحضر مجلساً لي أو محاضرة، وأمه غاضبة عليه أو والده.
فليتقِ الله فينا، وليتق الله في مجالسنا أن نُمْنَع الرحمة بسببه، فهذا أمرٌ عظيم! إذا غَضِبَت عليك أمك غضب الله عليك! فاتقِ الله في والدتك، ولا تيئس فإن رحمة الله واسعة، ارجع إلى والدتك بعد الصلاة، وابكِ عندها، واسألها الرضا منها، فإن الله تعالى يرضى عنك إذا رَضِيَتْ عنك، ويسخط عليك بسَخَطِها.
فاتقِ الله فيها، وأدخل السرور عليها، واحتمل ما يكون من أذاها.
وأما جلوسك بيننا فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يغفر ذنبك، وأن يغفر ذنوبنا، وأن يرزقك رضا الوالدين، وأن يرزقنا ذلك الرضا، وأن يتوب علينا وعليك وعلى جميع المسلمين.
والله تعالى أعلم.(13/29)
مدى مسئولية الوالدين عن الأبناء
السؤال
متى يكون الوالدان غير مسئولَين أمام الله عز وجل عن الأولاد والبنات؟
الجواب
لا أعرف والدين خالييَن من المسئولية أبداً! فالأم بِمُجرد ما تحمل جنينها يسألها الله عز وجل عن كل أمر يكون فيه صلاحٌ لهذا الجنين أو فسادٌ له، وبِمُجرد ما تضعه كذلك هي مسئولة، وبِمُجرد ما تربيه وتقوم على شأنه، بل وكل حركاتِها وسكناتِها مع هذا الصبي تُسأل عنها بين يدي الله.
كذلك الأب مسئول عن هذه النطفة بِمُجرد ما تتخلق في رحم أمها.
فلذلك لا أعرف أماً وأباً خالييَن من المسئولية، بل هما مسئولان، وأول مَن يسأل عن ذلك الابن هما، ولذلك قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36] فقال: يفر الرجل من أبنائه، وذلك مِن عظيم خوفه من مسئوليتهم بين يدي الله عز وجل.
فليس هناك والدان خاليان من المسئولية عن الولد.
والله تعالى أعلم.(13/30)
حكم طاعة الوالدين عند إساءتهما للولد
السؤال
شاب يقول: إن والده يقسو عليه، وهذا الشاب لا يستطيع أن يليِّن الكلام مع والده بسبب سوء المعاملة، فما السبيل إلى برِّ الوالدين ولِيْنِ الكلام معهما؟
الجواب
استشعر عظيم ما عند الله من الثواب؛ فإنَّ أبلغ ما يكون البر إذا أساء الأب إلى ابنه، وأصدق ما يكون البر يوم يحسن الابن إلى أبيه، والأب يؤذيه، وأبلغ ما يكون البر حينما تعطيه الكلمة الطيبة فيبادلك بكلمة خبيثة، وحينما تُحسن فيسيء، وتكرمه فيهينك، كل ذلك من أبلغ ما يكون من البر.
أما لو كان الأب إذا قابلته بالإحسان كافأك على الإحسان، فهذا خير وبر؛ ولكن أصدق ما يكون البر وأعظم ما يكون من الثواب والأجر عند الله أن يقابِل إحسانك بالإساءة، وأن يقابل جميلك بالكفران.
فيا أخي في الله: احتسب الأجر عند الله -جل جلاله- واعلم أن الله هو الذي يثيبك، والله جل وعلا هو الذي يُخْلِفُك الأجر.
إن إساءة الأب لا تدعوك إلى الإساءة، وظلم الأب لا يدعوك إلى الظلم، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فلا تطعهما في المعصية؛ ولكن صاحبهما في الدنيا معروفاً، فإذا أساء الوالدان فلا تسيء، وإذا كان من الوالدين ما يسوءُك فلا تقابلهما بما لا يرضي الله جل جلاله، فأوصيك بالصبر! فإن الإنسان يصبر على أذية الناس، فكيف بأذية الوالدين؟! ولعل الله جل وعلا -بهذا الصبر- أن يُكَفِّر وزرك، وأن يُعْظِم أجرك، وأن يُثَقِّل ميزانك.
والله تعالى أعلم.(13/31)
حكم تضايق الزوجة من معاملة الزوج أمه معاملة حسنة
السؤال
فضيلة الشيخ! رزقني الله بزوجة مؤمنة؛ ولكنها تتضايق عندما أجلس مع والدتي، فما هي نصيحتك لهذه الزوجة أثابكم الله؟
الجواب
أوصي الزوجات أن يتقين الله جل وعلا في حقوق الأمهات، المرأة المسلمة عليها أن تكون أكبر عون للزوج على طاعة الله ومرضاته، ولا يجوز للمرأة أن تفسد قلب زوجها على أمه، ولا خير في زوجٍ يُقَدِّم زوجته على أمه.
إن حق الأم عظيم، وفضلها جليل كريم، فينبغي للإنسان أن يجعله نصب عينيه، قال: (يا رسول الله! مَن أحقُّ الناس -مَن أحقُّ الخلق؟ مَن أحقُّ البشرية- بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أمك، قال: ثم مَن؟ قال: أبوك)، فأحق مَن تحسن إليه، وأحق من تكافئه وتبذل المعروف إليه هو: والدتك.
فإياكَ أن تؤثر الزوجة على الوالدة، وإياكِ أيتها المرأة المؤمنة أن تكوني سبباً في العقوق والقطيعة.
الله الله في قلب زوجكِ أن يَفْسُد على قلب أمه! فاتقي الله في البعل، واتقي الله في تلك الأم، ولا تكوني سبباً في الدعوة إلى العقوق والقطيعة، لا يجوز للمرأة أن تتدخل فيما يجري بين الزوج وأمه بكثرة السؤال والبحث عما تطلبه الأم، وعما يعطيه الزوج، كل ذلك من الأمور التي تعتبر من الفضول، وقد تصل إلى حد الحرمة، والله تعالى يقول: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:36].
فالمرأة ليس من حقها أن تبحث عن شيء ليس من شأنها فإن (مِن حُسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه) فليس مما يعني المرأة أن تتدخل فيما يعطيه الزوج لأمه، وفيما يبذله لها من الحنان والإكرام، فتَجْعَل تُتابِعُهُ في كلِّ ما يكون منه من صغير وكبير، وجليل وحقير، وتفسِّر ذلك بأنه إهانة لها، وتضييع لحقها، كل ذلك مما ينبغي للمرأة المؤمنة أن تتقيه وتبتعد عنه.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الزلل، وأن يوفقنا في القول والعمل.
والله تعالى أعلم.(13/32)
حكم طاعة الوالدين في معصية الله
السؤال
إن والدي يطلب مني أحياناً أن أشتري له أمراً محرماً مثل الدخان، ويقول لي: إن لم تشترِ الدخان فأنت مطرود من البيت، فماذا أفعل؟ هل أشتري له هذا وأطيعه أم أعصيه وأُطْرَد من البيت؟ وآخر يقول: والدي يطلب مني بعض الأحيان أن أذهب بالأهل إلى أماكن تكثر فيها المنكرات، فهل أطيعه؟ أرشدني يرحمك الله؟
الجواب
( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، إذا أمر الوالد ولده بمعصية الله جل وعلا؛ فينبغي على الولد أن يذكِّر والده بالله جل وعلا، وأن تَخرج النصيحة من قلبه لذلك الأب، فيقول له: لا أستطيع أن أعصي الله جل جلاله، وليحاول معه المرة تلو المرة.
وأنا لا أستطيع أن أفتيك بطاعة المخلوق في معصية الخالق، فليس عندي من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يبيح لي أن آذن لك أن تفعل المحرم، وأحْمِلُ وزره بين يدي الله.
فأوصيك أن تذكِّر والدك بالله جل جلاله، ولا أزيد على ذلك، ولا أُنْقِص منه.
والله تعالى أعلم.(13/33)
ضرورة المداومة على نصح الوالدين بالحكمة واللين
السؤال
يا شيخ! إننا نحبك في الله؛ أنا شاب لي والدان لا يصليان، وقد دعوتهما كثيراً؛ ولكن والدي ربما يستجيب أحياناً، أما والدتي فلا تصلي، وتخرج متبرجة متعطرة، ونصحتُها كثيراً؛ ولكن بدون جدوى، فماذا أفعل؟ أفتونا مأجورين!
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأحبَّك الله الذي أحببتني من أجله، وأُشْهِدُ الله العظيم رب العرش الكريم على حبكم جميعاً في الله، وأسأل الله العظيم أن يجمعنا بهذا الحب في دار كرامته.
أما ما سألتَ عنه -أخي في الله- من كون الوالدين لا يصليان والعياذ بالله، فذلك ذنبٌ عظيم، وإثم كبير، فاستَدِم على نصحهما وتذكيرهما بطاعة الله ربهما، ولا تيئس ولا تعجز، وأسألُ الله أن يفتح لك قلبيهما؛ فإن من أعظم الحقوق للوالدين على الولد أن يأمرهم بطاعة الله، وأن ينهاهم عن معاصي الله وحدوده، فاستَدِم على أمرِهم بذلك، وحُثَّهم على ذلك، ولا تيئس، والله يأجرك.
والله تعالى أعلم.(13/34)
أساس التوفيق والسداد
السؤال
فضيلة الشيخ! هناك رجل يسكن بعيداً عن والديه أي: أنه في بلدٍ ووالدَيه في بلد أخرى، ولم يزرهم منذ ثمان سنوات، علماً بأن هذا الغياب كان لظروفه الخاصة، حيث إنه يريد تكوين نفسه وجمع بعض المال، ومن ثَمَّ السفر إلى بلده ليعيش هناك، ويبني مستقبلاً أفضل كما يقول، فما هي نصيحتك له يا شيخ، علماً بأن والده قد توفي؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله! عَظَّم الله أجرك في هذا العقوق، وهذا القلب القاسي الذي لا يتقي الله في الوالدين، ثمان سنوات تحرم والديك رؤيتك؟! أما تتقي الله جل جلاله؟! وأي مستقبل ترجوه؟! وأي مستقبل تؤمِّله؛ لو أن الله عز وجل غضب عليك ومَقَتَك بسبب والديك؟! المستقبلُ الذي تنتظره مفاتيحُه البر، ومن أعظم أسباب نجاحك وفلاحك بر الوالدين، ومَن بر والديه كفاه الله همَّ دِينه ودنياه وآخرته، فكم مِن ابن أصبح وأمسى ووالداه راضيان عنه! قد رَفَعَا له أَكُفَّ الدعاء بأدعية لن تُرَدَّ من عند الله جل جلاله، فحاز سعادتي الدنيا والآخرة! أي مصيبة أعظم إذا فتنتك الدنيا وألهتك عن هذا الحق العظيم؟! أما ما ذكرتَه من كونك تغربتَ للأموال وللمستقبل الذي تزعمه فليس ذلك عذراً في الانقطاع عن الوالدين إلا إذا أذِنا، وإذا أذِنا فابكِ بكاءً حاراً من قلبك على فَقد رؤية الوالدين، ابكِ على ذنب حرمك الله بسببه أن تكون بجوار والديك، ولو كنتَ في وظيفة، أو في عمل؛ فإن هذا ابتلاءٌ من الله جل وعلا.
إن من أجل نعم الله أن يوفَّق العبد إلى القرب من الوالد والوالدة، فابكِ على ذنب حال بينك وبين هذا الباب من أبواب الجنة.
هذه الوصية الأولى.
أما الوصية الثانية: فأوصيك من الليلة أن تفكر في طريق الرجوع إلى الوالدَين، وكفى ما مضى، وأقبِل على والدتك وأدخِل السرور عليها، واسأل الله أن يتجاوز عما كان منك من التقصير في حق أبيك؛ وليكن رجوعك عن هذا الذنب العظيم أن تكثر له من الدعوات، وأن تسأل الله عز وجل أن يسبغ عليه شآبيب الرحمات.
أدرك بر والديك بالرجوع إلى والدتك، وكفى ما مضى من الأمور التي كنت فيها، وما كان من الخير الذي أصبته من الدنيا ففيه الخير، فعُد إلى أهلك وأنْعِم عينيك ببر والدتك، قال: (يا رسول الله! أقبلت من اليمن أبايعك على الهجرة والجهاد، فقال صلى الله عليه وسلم: أَحَيَّةٌ أمُّك؟ قال: نعم، قال: فالزم رِجْلها، فإن الجنة ثَمَّ) فالزم رِجْل والدتك، وعُدْ إلى والدتك، واسألها أن تعفو عما كان منك من غابر الزمن.
والله تعالى أعلم.(13/35)
نحو ترشيد الصحوة
تعاني الصحوة الإسلامية من مظاهر سلبية مختلفة ترافق مسار الدعوة إلى الله، لذلك قام الشيخ الفاضل حفظه الله بإسداء نصائح ووصايا لشباب هذه الصحوة، تقويماً لمسارهم، وإصلاحاً للعيوب والآفات التي انتشرت بينهم.(14/1)
أثر النصيحة والتذكير بين الأخيار والصالحين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين ومن سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين.
أما بعد: فيعلم الله كم كنت أريد أن يستمر الشيخ حفظه الله ووفقه وزاده علماً وحلماً وسداداً ورشاداً، فما أحوجنا إلى أن يذكر بعضنا بعضاً بهذه الأمور التي يكمل بها نقص الإنسان، ويدل بها على صدق العبودية لله العظيم الرحمن، فلا خير في الأخيار إذا لم يتناصحوا، ولا خير في المؤمنين على الكمال إذا لم يتواصوا.
المؤمن يحتاج من أخيه إلى كلمة تدله، ونصيحة على الخير ترشده، وعلى طاعة الله ومحبة الله تثبته، وإذا أراد الله بالعبد خيراً رزقه القرين الصالح الذي يبصره بعيوبه، ويذكره بخطاياه وذنوبه، حتى يسلم له أعز شيء في الحياة وهو دينه، فلا سلامة للدين إلا بتوفيق الله ثم بالوصية من الإخوان الصادقين، ولذلك شهد الله جل وعلا أنه لا نجاة من الخسارة إلا بالنصيحة التي تدل على طاعة الله ومحبة الله، وتحذر من معصية الله وحدود الله، كما قال في السورة العظيمة التي قال عنها الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله عليه: لو لم ينزل الله في القرآن إلا سورة العصر لكفت الخلق، وفيها قوله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
وإذا بُصر الإنسان في وصية خالصة صادقة، بُصر بعيوبه وذُكر بزلاته وذنوبه احتقر نفسه ودعاها إلى الكمالات وذكرها برفعة الدرجات، فسمت إلى محبة الله فاطر الأرض والسماوات، النصيحة غالية، النصيحة لا تصدر إلا من أخٍ صالح، وإذا نظرت في إخوانك فوجدت أخاً يتعاهدك بالنصيحة، فاعلم أنه يحب الخير لك.
ولذلك أثر عن عمر ويؤثر عن غيره أنه قال: [رحم الله امرأً أهدى إلينا عيوبنا].
فإذا أهديت العيوب، عرف الإنسان قدر نفسه، ودل على طاعة ربه ومع هذا كله أيها الأحبة! إذا كان هذا هو الداء؛ فإنه تثور في النفس أشجان وأحزان، إنا لمقصرون وعندنا عيوب وذنوب، فكيف المخرج من التقصير؟ وكيف السلامة من العيوب والذنوب؟(14/2)
وصايا تعين على التخلص من العيوب والآفات(14/3)
الوصية الثامنة والأخيرة: تقوى الله
وختاماً أيها الأحبة! أحب أن أوصيكم ونفسي بتقوى الله جلا وعلا التي هي مظنة الصلاح والفلاح والربح والنجاح؛ فإن الله تعالى جعل بها فرجي الدنيا والآخرة، فجعل سعادة الدين في التقوى، وأخبر أن المتقين على سدادٍ وصلاح ولو لم يكن لهم إلا محبة الله ومعيته لكفى، وأخبر سبحانه وتعالى عن صلاح دنياهم؛ أنه يجعل لهم من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً، فإذا ضاقت النفوس وخشي الإنسان من الانتكاسة أو تغير الأحوال؛ فليتق الله فلعل ذنباً بينه وبين الله غير حاله الذي هو عليه، وذلك تقوى الله هي أزمة الأمور، ومن أعظم الأسباب التي تنشرح منها الصدور: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء.
يتفقد الإنسان نفسه فلعل ذنباً في عين أو في سمع أو في قدم أو في يد أو في فرج أو مظلمة لوالدة أو والد أو رحم؛ فإن الله عزوجل ذكر أن الذنوب من أعظم الأسباب التي تحول بين الإنسان والخير؛ فقال تعالى عن الذين قطعوا أرحامهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] قال بعض العلماء: إن الإنسان إذا قطع رحمه أصابه الصمم وعمي البصيرة، والمراد بالصمم: أنه لا تنفع فيه موعظة، ولو عرضت المواعظ التي تفتت الجبال عليه ما أثر فيه، ولو أثرت فيه تأثر بها لحظة ثم تزول نسأل الله السلامة والعافية: {وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] فلا يرى خيراً ولا يوفق لطاعة، نسأل الله السلامة والعافية، فالذنوب من أعظم الأسباب التي تحرم الإنسان من هذا الخير، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يثبت قلوبنا وقلوبكم على ما يرضيه عنا.
وختاماً والله إنها لمناسبة طيبة، أسأل الله أن يجزي الأحبة كل خير، وكان مما يبهج نفسي ويدخل السرور عليه -والله شهيد على ذلك- وجود الشيخ، ويعلم الله كم تمنيت لقائه، أسأل الله أن يجمعنا وإياكم وإياه في دار كرامته، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين في جلاله، الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
اللهم لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلق الله أجمعين، وآله الطيبين الطاهرين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين، والله تعالى أعلم.(14/4)
الوصية السابعة: أن يكون للإنسان هدف سام في الحياة
كذلك أيضاً من الأمور التي تعين على التمسك بالدين والبقاء على حلاوة الالتزام والاستقامة وطاعة الله جل وعلا: أن يكون نظر الإنسان إلى ما هو أسمى وأسنى، بعض الشباب يقول: سأنتكس والعياذ بالله، ويأتيه هاجس في النفس قلّ أن يلتزم أحد إلا والشيطان يقول له: ستنتكس، فأنت اجعل الجنة والنار بين عينيك، وعد نفسك بإذن الله أنك يوماً من الأيام ستبلغ مرضاة الله العليا؛ لأن الله لما أخرج العبد من الظلمات إلى النور وهو لم يرفع كفاً له يوماً أن يهديه؛ فإن الله جلا وعلا أكرم سبحانه، من أن يضيع عبده وقد سأله الثبات والهداية.
هل أحد في الجاهلية رفع كفه وقال: اللهم اهدني؟ أعرف كثيراً ممن كانوا في الجاهلية، كثير منهم لم يسأل الله يوماً من الأيام أن يهديه، والله الذي هداه سبحانه، فإذا كان أعطاه الهداية بدون سؤال؛ فيكف إذا سأل الله وهو على استقامة وصلاح والتزام أن يثبت قلبه إلى لقائه! فمن الأمور المهمة أن الإنسان يسعى ويحرص قدر الاستطاعة على أن يجعل له هدفاً سامياً، وهذا الهدف الأسمى والأسنى، أن تحاول أن تتمثل هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تهيئ نفسك لعلم أو عمل تبلغ به معالي الأمور، مثلاً: اجعل في نفسك أن الله يجعلك يوماً من الأيام من أعلام المسلمين، وما ذلك على الله بعزيز؛ فإن الذي علم آدم وداود وفهم سليمان قادر سبحانه وتعالى على أن يعلمك أو يفهمك، وقد قال تعالى: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] {نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ} [يوسف:56] فإذا تذللت لله عز وجل وجعلت نفسك أنك تسمو إلى هذه الكمالات فبإذن الله سيثبت الله قلبك ويشرح صدرك.(14/5)
الوصية السادسة: التفاعل مع حلق الذكر
كذلك أيضاً من الأمور التي ينبغي التنبيه عليها: التفاعل مع حلق الذكر، بعض الشباب يسمع الشريط المرة والمرتين ثم يمله، والعبد الصالح الموفق لا يسأم من خير، ولا يمل من طاعةٍ وبر، ولو كثر هذا الحديث، ولو كان من أوضح الواضحات! وأذكر موقفاً طريفاً: ذات مرة الشيخ ناصر الألباني حفظه الله، حصلت حادثة في المدينة -حريق- بسوق بجوار المسجد وقام رجل من العوام بجوار باب السلام -لا زلت أذكر ذلك بعد صلاة الظهر- فقام يتكلم ويعظ الناس، عامي ولكنه رجل محافظ على الصف الأول وأراه صاحب سنة؛ لما ترى -سبحان الله- فيه من الوقار، وتلك اللحية البيضاء الجميلة الوقورة، والمحافظة على الصف الأول، والمحافظة على حلق العلم، شخص صالح وفيه خير، فقام هذا الرجل وأظنه كان رجلاً باكستانياً عامياً من العوام؛ فتكلم كلاماً عامياً وكنا جالسين، لكن مع أنه عامي وعادي ينفذ إلى القلوب والله أعلم بقلب الرجل، وقد تُوفي رحمة الله عليه، والله -أيها الأحبة- يكاد يكون المجلس كله بكى، تكلم كلاماً لامس شغاف القلوب، فما شعرنا فجأة إلا به يضع يديه على رأسه وقال: الشيخ ناصر -الشيخ ناصر كان موجود في الحلقة- فاستعظم أن الشيخ موجود، فقال له الشيخ وكان بعيداً عني قليلاً تكاد تكون فيه عبرة، يقول له: استمر، بالله استمر، ما قال: أنا الشيخ ناصر، ولا افتخر، ولا قام من الحلقة، هكذا صنيع أهل الفضل؛ لأن الله عزوجل إذا رفعك بالهداية فتذلل لهذه الهداية لله جل وعلا، لا تستنكف عن مجلس خير، لا يكن جلوسك في مجالس الخير للمشهورين، ولكن اجلس لكلام الله رب العالمين، حتى ولو حلقة قرآن، وثق أنك إذا حضرت مجالس الذكر، أنك لا تجد -بإذن الله- تغيراً إلا إلى كمال، حتى ولو كان عند الإنسان نقص وعيوب لعل الله أن يسترها ويغفرها بمثل هذه المجالس، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول عن الله تعالى: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) هذه أمور مهمة جداً منها الحرص على المحاضرات.(14/6)
الوصية الخامسة: عدم السأم والملل من الطاعة
كذلك أيضاً من الأمور التي تعين على ترك هذه الأخطاء وهذه الزلات التي لا منجى ولا ملجأ فيها من الله إلا إلى الله: كون الإنسان كثير الخير بمعنى: ألا تسأم من طاعة، إن كثيراً من الشباب قد تجده في بداية الأمر حريصاً على الصلوات، حريصاً على الطاعات، حريصاً على الخيرات، ثم يخف قليلاً قليلاً حتى -والعياذ بالله- ينتكس، والسبب في هذا السآمة من الطاعة، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يمل حتى تملوا) فالإنسان إذا ملَّ الطاعة -نسأل الله السلامة والعافية- حُرم الخير، بعض الإخوان أصلحهم الله تجده في بداية الهداية لو قيل له: هناك محاضرة فلا يمكن أن تفوته، أي مجلس خير لا يمكن أن يفوته، فما أن يمضي الشهر والشهران عليه؛ فيعتاد العلماء ويعتاد مجالسهم، لو قيل له يوماً من الأيام: تعال إلى محاضرة تتحدث عن رمضان، يقول: يا أخي هذا موضوع واضح، لا ينظر إلى أن خطواته في سبيل الله، ولا ينظر أنه يحضر مجلساً من مجالس الخير والرحمات، لولا الله ثم هذه المجالس لما نال كثير من الشباب هذه الروحانية واللذة التي يجدها مع ما فيها من علم وميراث نبوة وتوجيه وإرشاد؛ لا تسأم ولو قيل لك محاضرة عن الصبر، ولو قيل لك محاضرة من أوضح الواضحات فاذهب إليها واشتر رحمة الله بخطوة تمشيها، وبمزاحمة الناس على الخير أن يُقسم ميراث النبي صلى الله عليه وسلم ولا تشهده!! أتقسم الدرجات والحسنات ولا تكون في ذلك المكان الطيب المبارك؟! وما يدريك لعل هذا الشيخ غير المشهور الذي يحضر له الصف والصفان مقبول عند الله جل وعلا، ما يدريك فليست العبرة بالكثرة، ولا بالمشهورين، ولا بالسمعة، ولكن العبرة بالقلوب (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
كثير من الشباب الآن بدأ يألف الخير لقلة حضور المحاضرات، لقلة غشيان حلق الذكر، لقلة غشيان مجالس العلماء، أي شاب تجده يجد في نفسه الضيق بعد السعة، فاسأله قل له: أناشدك الله أما كنت تحضر المحاضرات وتقاعست عنها؟ قال لك: نعم، أما كنت تحضر حِلق العلم وتقاعست عنها؟ قال لك: نعم، إذن: {لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] إن الله يحب من العبد الجد والاجتهاد في طاعته: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] فالله ندبنا إلى استباق الخيرات، والسلف الصالح رحمة الله عليهم كانوا يجلسون في مجالس من هو دونهم في العلم والفضل، حتى أذكر من علمائنا ومشايخنا سماحة الشيخ الوالد عبد العزيز -رحمه الله- كان عندنا في المدينة بمرأى من عيني وأشهد له بذلك يصلي في الصفوف الأول في الحرم النبوي، ثم يرجع خارجاً من المسجد يكون مثلاً ما عنده درس، قلَّ أن توجد حلقة عالم إلا جلس فيها ما شاء الله، وقد يكون ذلك العالم من طلابه، هل قال: أنا الشيخ عبد العزيز أو اغتر؟ الإنسان الذي يغتر بنفسه يهلك، نقصان الطاعة الموجود في الشباب من أسبابه -والعلم عند الله- الاغترار، الإنسان دائماً يسعى إلى الكمال، يحرص على طاعة الله، لا تسمع بحلقة عالم إلا حضرتها، ولا حلقة ذكر إلا جلستها، ولا مجلس علم إلا شهدته، هل ترضى أن تفتح حلقة علم في مسجد الحي، أو في مدينتك وتُرفع أسماء من حضرها في دواوين الصالحات إلى الله، تصعد الأعمال الصالحة وليس فيها اسمك؟ أترضى لنفسك بهذا؟ ولذلك الذي يحتقر العلم ويحتقر العلماء، سيصيبه السفال، والذي يعظمهم يعظم من الله ويجل ويكرم: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] هذه آفات حصلت بأسباب، تغير القلوب، حصول نقص من الإيمان عند كثير من الشباب من أسباب هذه الأمور.(14/7)
الوصية الرابعة: القرب من العلماء الصالحين
الوصية الرابعة التي تعين على البعد من هذه الآفات: القرب من العلماء الصالحين، فكلما وجدت الشاب الصالح اهتدى؛ ثم اقترب من العلماء فاعلم أن الله قبل هدايته، لكن يقترب الإنسان من العلماء بالمحبة والمودة والتوقير والإجلال وذكرهم بالجميل وتعطير المجالس بذكرهم الحسن وأخلاقهم وآدابهم؛ حتى ينتفع الناس ويكون قرب الإنسان منهم رحمة له ولغيره، لا يقترب مغتراً كما ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن كثيراً من أهل الفسوق اغتروا بصحبة الصالحين؛ فهلكوا بتلك الصحبة.
فالقرب من العلماء والصالحين، ينبغي على الإنسان أن يحذر فيه وأن يكون هذا القرب بالمحبة والمودة الصادقة التي عله أن ينال بها ذلك الشرف الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنه في حديث أنس في الصحيحين، حديث الأعرابي الذي جاء -أعرابي عامي ليس عنده كثير صلاةٍ ولا صيام- إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذلك القلب المنكسر والنفس المتعطشة المتلهفة؛ يشكو إليه ذلك الشجن في قلبه فقال: (يا رسول الله! المرء يحب القوم ولما يعمل بعملهم، فقال صلى الله عليه وسلم: المرء مع من أحب).
فالذي يحب العلماء ويبادل العلماء المحبة والمودة والتقدير والتوقير والإجلال، يغفر زلاتهم وينشر خيراتهم ولا يتتبع عثراتهم، ولا يشهر في المجالس بأخطائهم، يبادلهم المحبة الصادقة؛ فإن الله ينفع بذلك، ولذلك أقرب الناس من الخير بعد العلماء هم طلاب العلم، ومثل العلماء لذلك بالعين؛ فإن أخصب مكانٍ في أرض الله جل وعلا منفعة بتلك العين ما كان قريباً منها، ولذلك قلَّ أن تجد عيناً للماء إلا وجانباها قد اعشوشب من ذلك الماء، فتجد أكمل خضرة وأجمل خضرة على الأرض من ماء تلك العين ما كان قريباً من العين، وكذلك ينبغي لطالب العلم أن يقترب ويكون تحت كرسي العالم، ويتقرب إلى الله والله يشهد أنه ما اقترب إلا لوجهه؛ وما اقترب إلا لرحمته؛ فلعله إذا اقترب أن يجلس ذلك المجلس الذي تبدل فيه سيئاته حسنات، وما من أحد إلا وعنده زلات وهلات، فإذا أصبح حريصاً على مجالس العلماء يغفر له في كل مجلس يجلسه، قالوا: (يا ربنا إن فيهم فلاناً عبد خطاء كثير الذنوب مر وجلس معهم، قال: وله قد غفرت هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فإذا كان هذا مر وجلس؛ فكيف بمن لزم ذلك المكان تحت قدم العالم يتقرب إلى الله جل وعلا دون غلوٍ ولا تنطع؛ هذه نعمة كبيرة وفضل عظيم؛ ولذلك تجد أقرب الناس إلى الخير طلاب العلم الأخيار.
وينبغي أن يقترب الإنسان من العلماء بقلب صافٍ من ناحية الغل والبعد عن العجب، يقترب وهو يتذلل لله تعالى بهذا القرب علَّ الله أن يرفع درجته، وأن يعظم أجره وأن يضاعف حسنته، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.(14/8)
الوصية الأولى: دعاء الله الصادق بالسلامة من العيوب
والوصية الأولى: أن تسأل الله جل وعلا الذي يلطف بمن شاء من عباده، ويرحم من شاء من خلقه، أن يرحمك فيسلمك من عيوبك، ويغفر لك ما بدر من خطاياك وذنوبك، سل الله أن يلطف بك، فإنه لا يلطف بالعبد في هدايته وصلاحه إلا ربه، وهو الذي بيده القلوب يقلبها كيف شاء سبحانه وتعالى، وكم من عبدٍ كثير الزلات كثير الخطايا والهنات، ضرع إلى الله بدعوة صالحة فاستجيبت من بين الدعوات ونظر الله إلى قلبه أنه يريد وجهه، صادقاً في سؤاله، فقلب الله قلبه بين العشية والضحى عبداً صالحاً كاملاً، سلوا الله أن يعافيكم وأن يسلمنا ويسلمكم من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال.(14/9)
الوصية الثانية: الاهتداء بهدي السلف الصالح
ثم الأمر الثاني: الأخذ بالأسباب: أن يأخذ الإنسان بالأسباب التي تعينه على ترك مثل هذه المآخذ والمخالفات والأمور التي لا تليق به وهو منتسب إلى خير ما ينتسب إليه وهو الدين والاستقامة، ومن أعظم هذه الأسباب: الاهتداء بهدي السلف الصالح؛ فإذا وفق الله جل وعلا العبد رزقه السير على منهج السلف الصالح؛ فتشبه بالأخيار حتى صار منهم، واهتدى بهديهم حتى حُشر معهم، والدليل على ذلك أن الله جل وعلا أخبر أن قصص الأنبياء تثبت القلوب على طاعة الله: {وَكُلّاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] يثبته على ماذا؟ على الهدى، على المحبة والرضا، على الطاعة التي تُرضي الله جل وعلا.
فمن أعظم الأسباب بعد الدعاء: أن يحاول الإنسان قدر استطاعته أن يأخذ بالقدوة الصالحة من السلف الصالح الذين تمسكوا بهدي الكتاب والسنة، وقلّ أن يقرأ الإنسان سيرة من سير العلماء، أو يتدبر قدوة صالحة من الأخيار الصلحاء الفضلاء من سلف هذه الأمة إلا دمعت عيناه، وخشع قلبه، وأخذ في كمال نفسه وحملها على طاعة الله ربه، ولذلك قال الله تعالى لنبيه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90] أولئك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، الأخيار الذين هدى الله فبهداهم اقتده، فالذي يريد أن يكون على أكمل المناهج، وأقوم السبل بعيداً عن الزلات والهنات؛ يهتدي بالأخيار من سلف هذه الأمة الصالحين من العلماء العاملين، الأئمة المهديين، الذين عضوا على كتاب الله رب العالمين، وسنة خير الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
وقد أشار الصحابي الجليل أبو حمزة أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه إلى هذا العلاج الكريم حينما قال: [لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها].
فقراءة سيرة السلف الصالح تغسل عن القلوب كثيراً من الأدران، وتجعل الإنسان دائماً يتفقد نفسه، ويحاول أن يكمل نقصه، وأن يترك خلله، وأن يُصلح خطأه؛ وهذه نعمة يوفق الله إليها من شاء من عباده، وكان الوالد رحمة الله عليه يقول: يا بني لا أوصيك بشيء بعد كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم مثل قراءة تراجم العلماء والسلف الصالح.
لها أثر عظيم في القلوب، ولها أثر عظيم في النفوس، تحبب الخير إلى القلوب، وتنفر المعاصي إلى الطباع، وتجعل الإنسان دائماً يبحث عن خصلة من الخصال، أو طاعة من الطاعات حتى يدرك ما أدركوا من الخير، أو يكون قريباً مما نالوه من الفضل، ونسأل الله بعظمته وجلاله أن يبلغنا ما بلغوه، وأن يكرمنا كما أكرمهم، وإن كنا لسنا أهلاً لذلك؛ فهو أهل الفضل وأهل الرحمة والعطاء والنول، سبحانه لا إله إلا هو.(14/10)
الوصية الثالثة: ترك الغفلة
أما الوصية الثالثة التي تعين على ترك مثل هذه الأمور: ترك الغفلة؛ فإن الإنسان إذا أخطأ وهو غافل عن خطئه؛ قل أن يتبصر بعيبه إلى أن يلقى الله جل وعلا، إذا رأيت الإنسان يخطئ وهو غافل عن عيوبه، غافل عن ذنوبه؛ فاعلم أنه مستدرج من الله، نسأل الله السلامة والعافية.
فلا ينبغي للشاب أن يغتر بحاله وسمته، وما يكون منه من بعض الصالحات، فلذلك ينبغي ألا يغفل عن الأخطاء والعيوب؛ دائماً يحاسب نفسه كما قال الحسن البصري رحمه الله: [لا يزال المؤمن يتهم نفسه يقول: ما أردت بهذا وجه الله] أي: إني لست مخلصاً، أو لست أريد به وجه الله خالصاً.
هكذا المؤمن دائماً يتفقد نفسه بالاحتقار الذي يدعوه إلى الكمال، أما إذا كان الاحتقار كما سبق في كلام الشيخ حفظه الله يدعو إلى النقص، كون الإنسان يحتقر نفسه ويمتنع من الكمالات لا، لكن احتقاراً يدعو إلى الكمال فنعم هذا الاحتقار، كون الإنسان يحتقر نفسه، ويتهم نفسه دائماً؛ لكي يسمو إلى معالي الأمور فهذا فضل، قال بعض السلف: والله ما جلست مجلساً وأرى نفسي أصغر القوم إلا خرجت وأنا أعلاهم، ولا دخلت مجلساً وأرى نفسي أني أعلاهم إلا خرجت وأنا أدناهم.
فالاحتقار للنفس نعمة كبيرة، قال مطرف بن عبد الله الشخير: [لأن أبيت نائماً وأصبح نادماً أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً] فالذي ضرنا العجب، ننظر إلى من هو دوننا ولا ننظر إلى من هو فوقنا، فلا ينظر الإنسان إلى الشباب الذين ابتعدوا عن طاعة الله أصلحهم الله لكي يقول: أنا الشاب الصالح الذي أغشى حلق الذكر وأسمع الندوات والمحاضرات؛ ولكن يقول: أنا المذنب، أنا المقصر، أنا المسيء، أنا الخطاء، أنا الذي عندي الذنوب التي لا أعرف أحداً أكثر ذنباً مني، يتهم نفسه وهو في عداد الصالحين وإلا فقد يكون الكفار أكثر ذنوباً منا، ولذلك قال بعض السلف وهو واقف بعرفة: لو نادى منادٍ من الله: غُفر لأهل هذا الموقف إلا واحداً لعددت نفسي ذلك الرجل.
الإنسان إذا احتقر نفسه سما إلى الكمالات.(14/11)
صنائع المعروف
من نعمة الله على عبده أن يشرح صدره للطاعة، ويكمل ذلك عليه بنعمة مكارم الأخلاق، فيصير للخيرات سباقاً، ولطاعة ربه ورحمته تواقاً ومشتاقاً، حتى يصير مفتاحاً من مفاتيح الخيرات، وسبباً من أسباب الرحمات، مستجمعاً لصنائع المعروف التي تفرج هموم المسلمين، وتعين الفقراء والمساكين.(15/1)
فضل صنائع المعروف
الحمد لله الذي اصطفى لمحبته الأخيار، فصرف قلوبهم في طاعته ومرضاته آناء الليل وأطراف النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار، وعلى جميع أصحابه الأخيار، ومن سار على نهجهم ما أظلم الليل وأضاء النهار.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخواني في الله! إن الله إذا أحب عبداً من عباده شرح صدره لطاعته، فإذا أراد أن يتمم عليه نعمته وأن يكمل عليه منته تممها وكملها بمكارم الأخلاق، يوم يصير للخيرات سباقاً، ولطاعة ربه ورحمته توَّاقاً ومشتاقاً، يوم يصير مفتاحاً من مفاتيح الخيرات، وسبباً من أسباب الرحمات، يوم يفرج الله به هموم المسلمين وغمومهم يوم يفرج الله به كربات المكروبين، ويرحم به المعذبين، ويغني به الفقراء والبائسين، يوم يجعله الله جل وعلا رحمة من رحماته، حين يملأ قلبه عطفاً على المسلمين، ورحمةً بهم ومواساة للمحتاجين.
إنها صنائع المعروف التي اصطفى الله لها رجالاً واختار لها على مر العصور والدهور أجيالاً، يوم جعلهم مفاتيح الخيرات والرحمات، فعاشوا في هذه الحياة بالذكر الجميل والعمل الصالح الجليل، وخرجوا من الدنيا والله راضٍ عنهم غير غضبان، يوم أصبحوا نعمة على العباد لا نقمة عليهم، أصبح الواحد منهم مسلماً لله منقاداً مطيعاً مستسلماً ما إن يسمع رحمة من الرحمات ولا باباً من أبواب الخيرات إلا كان إليه سباقاً طالباً له ومشتاقاً، إنها الرحمة التي أسكنها الله قلوب الرحماء ولم تدخل الرحمة إلى قلب عبد من عباد الله، إلا أهله الله لرحمته، فالله يرحم من عباده الرحماء والله يحلم على الحلماء، وييسر على الذين ييسرون على عباده، ويرفق بمن رفق بخلقه وعبيده.
إنها أبواب الخيرات، وأبواب الطاعات والرحمات التي يحقق بها المسلم إسلامه، التي يحقق بها المؤمن طاعته لربه والتزامه، إنها الاستقامة الصالحة، إنها الاستقامة الصادقة، يوم يتفطر قلب العبد شوقاً وحنيناً إلى رحمة من رحمات الله، وما يدريك فلعل دمعة اليتيم التي كفكفتها يكفكف الله بها دموعك في الحشر، وما يدريك عن هذه الكربة من أرملة من أرامل المسلمين فرجتها عنها فلعل الله أن يفرج عنك بها كربة من كرب يوم الدين، في يوم شديد الأهوال، في يوم تشيب منه ذوائب الأطفال، في يوم تضع فيه الأثقال ذوات الأحمال.
أيها الأحبة في الله: ما شرح الله صدر عبدٍ من عباده لهذه الخيرات إلا جعله من أحب الخلق إليه، ومن أكرمهم وأعظمهم زلفى لديه، لذلك كان من أجلِّ نعم الله بعد الهداية أن يشرح صدر الإنسان لصنع المعروف.
صنائع المعروف وما أدراك ما صنائع المعروف؟ التي يخط بها العبد الصالح في دواوين الصالحات تلك الحسنات العظيمة.
صنائع المعروف وما أدراك ما صنائع المعروف؟ التي غفر الله بها الذنوب، وستر بها العيوب وفرج بها الهموم والغموم والكروب، فيا لله من أقوام عاملوا الله جل وعلا بهذه الأعمال الصالحة، خرجوا وقد ملئت دواوين أعمالهم بالحسنات الباقية، إنه الأجر الذي يتقدم الإنسان إلى الدار الآخرة، إنها مزارع الآخرة التي يحصدها الإنسان في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
لذلك أيها الأحبة في الله! كل مؤمن صالح ينظر في كتاب الله أو يقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يجد تلك الأبواب أمام عينيه مفتحة، يجد أمام عينيه الخيرات مؤهلة، تلك الخيرات وتلك الرحمات التي ندب الله إليها الصالحين والصالحات، فقال في كتابه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148].(15/2)
قواعد وأسس في صنائع المعروف(15/3)
امتلاك القلب الرقيق
القاعدة الثانية والتي لا يمكن للإنسان أن يكون من أهل المعروف إلا بها: أن يرزق الله العبد قلباً رقيقاً، القلب الرقيق الذي يفتحه العبد الصالح لهموم المسلمين وغمومهم، لن تستطيع أن تدخل تلك الأبواب التي فيها الرحمات وفيها عظيم الأجور والحسنات إلا بقلب رحيم بعباد الله المسلمين، إنها الرحمة التي قال الله جل وعلا يخاطب بها نبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
أن يكون عند الإنسان قلب رقيق، قلب إذا جاءه المهموم بهمه لا يتحمل أن تفيض عيناه، وكأنه صاحب شكواه.
أن يكون عند الإنسان قلب يعيش أشجان المسلمين وأحزانهم، فإذا جاءه المكروب بكربه أو جاءه المهموم بهمه أو المغموم بغمه فتح له ذلك القلب الرقيق الرحيم؛ حتى تهون على صاحبه الدنيا فيشتري بها رحمه الله جل جلاله.
أن يكون عند الإنسان قلب يعطف على المسلمين ويرحم المسلمين، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الله) الراحمون أي: الذين أكرمهم الله جل وعلا بلين القلوب، والعطف على عباد الله، والشفقة على خلق الله جل جلاله، فليكن الإنسان رحيماً بعباد الله.
إذا أتاك المهموم أو صاحب الحاجة أو المغموم فاعلم أن له فضلاً عليك يوم اختارك من بين الناس لهمه وغمه.
ولذلك قال ابن عباس: [ما سألني صاحب حاجة حاجته إلا اعتقدت الفضل له أن اختارني من بين الناس] اختارك من بين الناس لحزنه، واختارك من بين الناس لهمه وغمه، فأعطه من الحنان وأعطه من الرحمة والإحسان فوق ما يرجوه منك.
فإذا رزق الله الإنسان إخلاص العمل ورزقه قلباً رقيقاً بعباد الله رحيماً رفيقاً؛ تهيأت له أبواب الخيرات وتيسرت له سبل المكرمات جعلنا الله وإياكم منهم.(15/4)
إخلاص العمل لله جل جلاله
أول قاعدة في صنائع المعروف وأساسها وأعظمها والتي يبارك الله بها: إخلاص العمل لله جل جلاله، فأول ما ينبغي على العبد الذي يريد أن يجعله الله جل وعلا صانعاً للمعروف المقبول أن يخلص لله جل جلاله، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، أن ينفق الإنسان وتسح يمينه بالخيرات آناء الليل وأطراف النهار، يشتري بذلك رحمة الله جل جلاله، لا ينفق رياءً ولا سمعةً ولا ثناءً، ولكن يريد رحمة الله، يريد ما عند الله، كما قال الله جل جلاله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان:9 - 11] اللهم إنا نسألك أن تجعلنا منهم.
أن تنفق يوم تنفق والآخرة أمام عينيك، أن تنفق يوم تنفق ومزارع الجنة كأنها أمام ناظريك، أن تشتري رحمة الله بكل مالٍ تُعطيه ولكل فقير تواسيه، أن تشتري رحمة الله بقلب لا يريد إلا ما عند الله جل جلاله، ما كان لله دام وبقي ما كان لله نفع العبد في الدنيا وفي الآخرة.
فينبغي على الإنسان إذا فتح أبواباً من أبواب الخير، أو أوقفه الله جل وعلا أمام باب من أبواب الخير أن يفكر أول ما يفكر في المتاجرة مع الله.
إن المتاجرة مع الله باقية، وهي الصدقة الطيبة الخالدة التي يثيب الله صاحبها عليها في الدنيا والآخرة إخلاص العمل لله.
وكم من عامل أحبط الله عمله بالرياء! وكم من عامل أحبط الله عمله بالثناء! فاشترِ ما عند الله جل وعلا، فإن الثناء كل الثناء من الله، وإن أعظم ما ينتظره العبد رضوان الله جل جلاله، ولذلك ورد في الحديث وإن كان قد تكلم بعض العلماء على إسناده ولكنه عبرة وعظة ومعناه صحيح: (أن العبد إذا أقامه الله يوم القيامة وذكره أعماله الصالحة، قيل له: قرِّب، فيقرب أعماله، فيقول الله: ما تقبلت منها شيئاً) نسأل الله السلامة والعافية.
وجاء في رواية أن الله تعالى يقول له: (اذهب فخذ أجرك ممن رائيته) اذهب وخذ الحسنات والأجور من ثناء الناس، خذ ما تريد من مدح الناس، خذ ما تريد من ذكر الناس، فاليوم لمن أراد الله والدار الآخرة، اشتر رحمة الله فإنها باقية خالدة تالدة.(15/5)
أبواب صنائع المعروف
أما صنائع المعروف فهي أبواب عظيمة وكثيرة، ولذلك قال الله في كتابه: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148] فليست باباً واحداً، ولكنها أبواب كثيرة يعيشها المسلم مع هموم وغموم المسلمين لا يعلمها إلا الله جل جلاله، فلا تقتصر على إنفاق الأموال ولا تقتصر على ستر العورات وتفريج الكربات، ولكنها تعيش مع المسلم في كل خير وطاعة أمر الله بها ورسوله صلى الله عليه وسلم، كل خير يحبه الله ويحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم ذو نفعٍ متعدٍ فإنه من صنائع المعروف.(15/6)
إعانة المكروب
ومن صنائع المعروف إعانة المكروب عند كربه، وذلك يكون بأمور كثيرة تختلف باختلاف الناس، باختلاف الأزمنة والأمكنة، فكل ذي حاجة جاءك في حاجته فأعنه على تلك الحاجة التي لا تغضب الله، فذلك من صنيع المعروف الذي يحبه الله جل جلاله، ويشمل ذلك ما كان بالأموال، وما كان بالجاه من الشفاعة الحسنة التي لا تحول بين حد من حدود الله، يوم يأتيك عبدٌ ضعيف يريد من جاهك أن تشفع شفاعة لا يؤثر بها على ذي حق، ولا يتوصل بها إلى مظلمة فتلك من الشفاعات المباركة.
وقال بعض العلماء: من زكاة الجاه والذكر الجميل، أن يسعى الإنسان في تفريج كربات الناس بذلك الجاه، من شكر نعمة الله بالجاه أن تبذله في تفريج الهموم وتفريج الغموم بالشفاعة الحسنة قال الله تعالى: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] الشفاعة الحسنة التي تعين على إيصال الخير للناس وتفريج الهموم والغموم عن عباد الله من صنائع المعروف.(15/7)
مواساة المصابين والمكلومين
ومن صنائع المعروف التي يحبها الله جل علا: مواساة المصابين والمكلومين، فإن الإنسان إذا سمع عن أخيه أنه أصيب بمصيبة في نفسه أو أهله أو ولده؛ فعليه أن يؤهل نفسه لكي يقترب منه، فيذكره بحسن الثواب، وحسن العاقبة عند الله والمآب، علَّ ذلك يكون سبباً في صبره وسلوانه وعظم أجره عند ربه، فتثبيت القلوب عند الكربات وتثبيت القلوب عند المصائب من صنائع المعروف.
فالمسلم يحتاج من أخيه إذا نزلت به ضائقة أن يواسيه ويسليه، يحتاج من أخيه إذا نزل به همٌّ وغمٌّ أن يثبته، فإن القلوب إذا نزلت بها المصائب تزلزلت، إلا أن يثبتها الله جل وعلا من عنده، فإذا جاء العبد الصالح وذكّر أخاه بما عند الله من الأجر والمثوبة كان ذلك من أعظم المعروف الذي يسديه إليه.(15/8)
الصلح بين الناس
ومن صنائع المعروف: الصلح بين الناس إذا تقاطعوا، والصلح بين الناس إذا تهاجروا، وقطع أسباب الضغائن والشحناء، وقطع أسباب الفتن والبغضاء، فإنها من أعظم الأمور المقربة إلى الله جل وعلا، والتي شهد الله من فوق سبع سماوات أنها خير النجوى، قال سبحانه وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114].
إنها لخطوات عزيزة عند الله يوم تسعى في لمِّ شملٍ قد تفرق يوم تسعى لجمع قلوب المؤمنين، فما أحوج الناس إذا وقعت بينهم الخصومات والنزاعات إلى من يجمع شملهم إلى من يؤلف بين قلوبهم إلى من يقطع سبيل الشياطين عنهم إلى من يقف معهم لكي يذكرهم بما في العفو من الأجر عند الله جل جلاله! فلذلك كان من أحب الأعمال إلى الله: السعي بالصلح بين الناس الصلح بين الزوجين الصلح بين المتخاصمين، فلا تعلم بقطيعة بين مسلم ومسلم إلا أهّلت نفسك للصلح بينهم، فإن الله يشكر خطوات الصلح ويحب أهلها ويثني عليهم كما أخبر الله جل وعلا بحسن الأجر لهم، وأن من احتسب أجره وثوابه عند الله أن الله يؤتيه أجراً عظيماً.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم مفاتيح للخيرات، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات وتفريج الكربات، اللهم فرج عنا همومنا، وفرج عنا غمومنا، اللهم أصلح لنا أحوالنا إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على البشير النذير، وعلى آله وصحبه أجمعين.(15/9)
الدعوة إلى الله
إن أعظم معروف تبذله إلى الناس وأعظم خير تبذله إلى خلق الله الدعوة إلى الله جل جلاله، تقريب القلوب إلى الله وتحبيب عباد الله في الله أعظم ما يكون من الخير والمعروف، يوم ينقذ الله بك حائراً يوم يهدي الله بك ضالاً تائهاً يوم تأخذ إنساناً غريباً عن ربه بعيداً عن طاعته، فتأخذ بمجامع ذلك القلب إلى الله، فما ركع ركعة بين يدي الله إلا كان لك مثل أجره، ولا صنع خصلة من خصال الخير إلا أجرت على تلك الخصلة أياً كانت.
ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يقام للرجل يوم القيامة ديوانه فتأتي أعمال كالغمامات فيقول: يا رب ما هذا؟ فيقال: سنن هديت إليها كان لك أجر من عمل بها) أي: سنن وخيرات دللت عليها وصنعت بها المعروف أجرت مثلما أجر أصحابها.(15/10)
المعونة على الدعوة إلى الله
ومن صنائع المعروف بعد الدعوة إلى الله المعونة على الدعوة إلى الله، وذلك بحب العلماء ونشر فتاويهم وذكرهم بالجميل، وتحبيبهم إلى الناس وتقريبهم إلى قلوب الناس، فذلك من المعروف بالعلماء، وذلك من رد الجميل لهم ذكرهم بالجميل ونشر خيرهم بين الناس من أعظم الحسنات وأعظم الأجور المقربة إلى الله، فوالله لا يحب العلماء إلا الصالحون ولا يسعى لنشر خيرهم بين عباد الله إلا عباد الله المتقون، جعلنا الله وإياكم منهم.(15/11)
السعي على الأرامل والأيتام
ومن صنائع المعروف التي يحبها الله جل جلاله: السعي على الأرامل والأيتام التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن فضلها كالصيام والقيام، يوم تسعى على الأرملة التي لا تجد من يعولها فتكفيها بإذن الله همها وغمها يوم تذكر تلك المهمومة المغمومة حزنها وشجاها بفقد ولدها فتجد من عباد الله المسلمين من يفرج همها وغمها بإذن الله رب العالمين.
والسعي على الأرامل والأيتام قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة واليتيم كالصائم النهار الذي لا يفطر، والقائم الذي لا يفتر) قال بعض العلماء: إنما فضل النبي صلى الله عليه وسلم السعي على الأرامل والأيتام بهذا الفضل لأن النفع متعدٍ، ومثل اليتيم والأرملة لا يجد من يعينه إلا الله جل جلاله، فإذا أهَّل الإنسان نفسه للسعي عليهم وتفريج كرباتهم والإحسان إليهم كان ذلك من أعظم الخير والبر.(15/12)
الأسئلة(15/13)
الدعاء لإخواننا في مختلف بقاع المسلمين
السؤال
نحن هاهنا قد اجتمعنا في بيت من بيوت الله، ونتفرق إلى بيوتنا وأولادنا وأطعمتنا وأمننا وأماننا، ولنا إخوة في شتى بقاع المسلمين كالبوسنة والهرسك وإريتريا وفلسطين وغيرها من بلدان المسلمين لا يجدون مثل هذا، فهل من دعاء وتوجيه للإخوة في إرخاء أيديهم في دعمهم؟ وهل من دعاء في هذا الجمع المبارك لإخواننا خصوصاً في البوسنة والهرسك، فنحن في فصل الشتاء نعلم أنه قد مات منهم الكثير بسبب الجوع والبرد، رقق قلوبنا رقق الله قلب الحاضرين وقلبك، ونفعنا بدعائك وتقبل من الجميع؟
الجواب
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولداً، يا من عز جاهك! وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله غيرك.
يا ذا الحبل الشديد! يا مبدئ يا معيد! يا جبار يا قهار! يا واحد يا أحد! يا فرد يا صمد! يا من عجت ببابك الأصوات! وفرجت منك الهموم والغموم والكربات، يا من أنت السند والعضد! وأنت الملجأ والمنجى والمهرب، أسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى وجلالك العظيم، اللهم مُنَّ على إخواننا في البوسنة والهرسك بالصبر والثبات، اللهم ارحم موتاهم، اللهم تقبل شهدائهم، اللهم استر عوراتهم، اللهم آمن روعاتهم، اللهم إنهم خائفون فأمنهم، اللهم إنهم متفرقون فاجمعهم، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم اجمع شملهم، اللهم داو جرحاهم، وارحم موتاهم، والطف بنا وبهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم عليك بالصرب ومن شايعهم، اللهم أحصهم عددا، اللهم اقتلهم بدداً، اللهم لا تغادر منهم أحداً، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك في الدنيا قبل الآخرة، اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم ألق الرعب في قلوبهم، اللهم انتقم منهم فإنك عزيز ذو انتقام، اللهم أنزل بهم بأسك الشديد، وعذابك الأكيد، يا ذا الجلال والإكرام، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل الرعب في قلوبهم، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر.(15/14)
من عقبات الزواج ممن كبر سنها
السؤال
هذا تعقيب على سؤال الأخت السائلة التي تشكو حالها، وأنها كانت تطلب الشهادة في دراستها وتركت الزواج، يقول: فضيلة الشيخ تعليقاً على الأخت التي سألت عن حالها ولم تتزوج هي ولا أخواتها، نقول: يا فضيلة الشيخ! قد يتقدم البعض لأمثال هذه الأخت ولكن قد يواجه عقبات، لأنه يريد هذه الأخت أو إحدى أخواتها زوجة ثانية أو ثالثة أو رابعة، أليس بعض زوج أفضل من عدم زوج.
السبب الثاني: أن بعض الأخوات تتمسك بالعمل وترفض الزواج من أجل العمل، فما توجيهك وفقك الله خصوصاً في المسألة الأولى وهي مسألة التعدد، أليس نساء الصحابة، بل نساء النبي صلى الله عليه وسلم، بل كتاب الله تعالى ذكر التعدد في النساء، نرجو التوجيه وبيان أن ذلك الأمر ليس عيباً، وإنما هو من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
الله المستعان، الله يعين النساء علينا! أما قضية التعدد فهي قضية بيَّن الله حكمها وأنزل على نبيه فصل القول فيها، فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحرم ما أحل الله.
أختي المسلمة: ارضي بما كتب الله وأعيني زوجك على تحصين فرجه، حتى يكون ذلك أغض له عن الحرام وعن الفواحش والآثام، ليس في التعدد غضاضة، فلو كانت فيه غضاضة لما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بأمهات المؤمنين، إن التعدد يجمع شمل أهل الإيمان، حتى إن الرجل يتزوج أربع نسوة إذا مرض مرضت بيوت المسلمين؛ لأن هذا رحيمه وهذا رحيم لرحيمه فتجتمع القلوب وتتآلف ويصبح الناس كالبيت الواحد، ولذلك ما إن فقد الناس هذا المعنى حتى أصبح الرجل يعيش في الحياة هو وزوجه فقط، فلذلك التعدد هدف سامٍ إسلامي نبيل يكثر به عباد الله وأولياء الله، وينتشر به النسل الطيب، وكذلك يعم به الخير ويكون فيه من المصالح والمنافع ما الله به عليم، والله أعلم بخلقه وأحكم بشرعه ونظامه.
فينبغي على المؤمنة أن ترضى بحكم الله جل وعلا، ولا ينبغي لها أن تضايق زوجها، ولا تضيق على بعلها في زواجه من الثانية، اتقي الله فإن الله سيجعل لك فرجاً ومخرجاً، كم من امرأة كرهت زواج الثانية فكان زواج الثانية سبباً في صلاح زوجها، تزوج زوجها الثانية فعرف فضل الأولى وهذا من حكمة الله جل وعلا، أن المرأة لا يعرف فضلها إلا بغيرها.
فلذلك أوصي أخواتي المسلمات خاصة الصالحات والمتدينات، فإنه للأسف أن بعض الصالحات والمتدينات يكرهن ذلك ويشنعنه، حتى إن بعضهن يقلن: ذاك رسول الله وتلك الصحابيات، ومن لنا نحن برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمن يشبهه في حسن عشرته وغير ذلك من الأعذار، لا ينبغي هذا ولا يجوز، ينبغي على المؤمنة أن تتقبل حكم الله بكل رضاً وبكل تسليم، يقول الله جل وعلا لنبيه: {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:65] يقسم سبحانه {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
فسلمي رحمك الله تسليماً، وإذا علمت أن زوجك يريد تحصين فرجه فأعينيه، أو كفي أذاك عنه؛ فإن الله لا يحب من المؤمنة أن تكون أذية على المؤمن، أسأل الله العظيم أن يبصرنا بحكم دينه، وأن يعيننا على التزام شريعته، والله ما منعت امرأة بعلها وضيقت عليه من الزواج من الثانية فصبر خوفاً من قطيعة رحم، وما زال يتعرض للفتن فآذته أن يتزوج الثانية حتى وقع في فتنة أو في حرام إلا كان لها من ذلك نصيب.
اتق الله إذا رأيت البعل يريد أن يحصن فرجه خاصة في هذا الزمان الكثير الفتن، الكثير المحن، فأعينيه أعانك الله أعينيه على دينه أعينيه على إعفاف فرجه وإحصان نفسه، وكوني مؤمنة حقاً ملتزمة بشريعة الله تعالى، فلعل الله أن يجمع شملك بامرأة صالحة، وبصالحات يعنك على ذكر الله وطاعة الله، ودعي وساوس الشيطان وكوني من الصالحين من أهل الإيمان، والله تعالى أعلم.(15/15)
كيفية الجمع بين طلب العلم والعمل في التجارة
السؤال
أنا طالب علم، وقد جربت التجارة فوجدت أنني موفق في التجارة، وأنا الآن محتار بين طلب العلم أو العمل في التجارة، ووالله لست بجامع للدنيا، ولكن أريد أن أستعمل هذه التجارة لوجه الله تعالى، فبماذا ترشدني وفقك الله؟
الجواب
أنت بين تجارتين: تجارة فانية وتجارة باقية، فإن قلت: أطلب التجارة للدين فهذا فضل ونية صالحة، ولكن هل تستطيع أن تضمن نفسك على هذا الثبات، وعلى هذا الحب لما عند الله جل وعلا إلى أن تصيب التجارة؟ لا تستطيع، ولكن إذا طلبت العلم نفعت الناس في تجارة مصلحتها باقية، فأنت بين تجارتين: تجارة مصلحتها مضمونة وتجارة مصلحتها باقية خالدة تالدة حتى تكاد تكون قطعية؛ لأن الإنسان إذا طلب العلم كسر قلبه للآخرة.
ولذلك الإنسان إذا طلب العلم وفقه الله لبذله إذا أخلص لوجه الله، فأنا أوصيك أن تؤثر تجارة الآخرة على تجارة الدنيا، فلعل الله أن يرى منك صدقاً في طلب تجارة الآخرة وتطلب العلم، ثم يفتح لك باباً من أبواب الدنيا، فيكون قد جمع الله لك بين التجارتين، فلذلك لا أوصيك أن تترك تجارة العلم، والله إنها لأعظم التجارات وأربحها وأحبها إلى الله جل وعلا، يأتيك الرجل في دياجير الظلمات لا يدري امرأته تحل له أو تحرم عليه، مهموماً مغموماً مكروباً فتفتيه الفتوى، فيقول: الله يرحم والديك، سبحان الله! يعني ليس خيرها لك فحسب، بل حتى لوالديك، فقد يكونا ميتين تغشاهم الرحمات بهذه الدعوة الصالحة، تجارة العلم تجارة رابحة.
ولذلك قال بعض العلماء في قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} [النساء:69] ثم من بعدهم {وَالصِّدِّيقِينَ} [النساء:69] قال بعض العلماء: الصديقون هم العلماء العاملون جعلنا الله وإياكم منهم.
العلم مع العمل أفضل وأعلى وأسمى وأصل التجارات وأقربها إلى الله جل وعلا وأحبها إليه، فلذلك أوصيك بهذه التجارة الباقية، أما تجارة الدنيا فاتركها لأهلها، ولذلك ورد في الحديث الصحيح في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أحب البقاع إلى الله مساجدها) هذه تجارة العلم التي فيها مساجدها: (وأبغض البلاد إلى الله أسواقها).
قال بعض العلماء: أبغض البلاد إلى الله أسواقها؛ لأن فيها النجش، وفيها الحلف بالله كاذباً، وفيها غش المسلم، وفيها أكل أموال الناس بالباطل، وفيها الربا، وفيها المحرمات والمنكرات، وغير ذلك من الغفلة عن الله جل وعلا وعن ذكر الله.
فلذلك لا أوصيك أن تزج بنفسك إلى هذه الفتن، وقد تقول: إني أريد المال للآخرة، لكن لا تضمن نفسك، ولذلك لما أمر المنصور أبا قلابة أن يتولى القضاء فر إلى الشام رحمة الله عليه، فقيل له: لم لا تتولى القضاء وأنت أنت؟ فقال رحمه الله: أرأيتم لو أن رجلاً يسبح ورمي في البحر إلى متى يسبح.
حتى لو كان سباحاً إذا رمي في البحر فإلى متى يسبح؟! تأتيه الأمواج تلو الأمواج تلو الأمواج حتى يفنى ويهلك ثم يغرق.
هكذا الإنسان ولو كان قوي الإيمان في خضم الفتن الكثيرة تأتيه الفتنة تلو الفتنة، ويأتي رجل يكذب ويقول: لمصلحة العمل، ويأتي آخر يغش ويقول: لمصلحة العمل، قد يخالط الأشرار، قد يخالط الفجار، قد يسمع الحلف بالله كاذباً، يسمع المنكرات فلا يستطيع أن ينكر منها منكراً، فلا يزال يفقد نوراً من الإيمان نوراً من الإيمان، حتى لربما دخل السوق وليس في قلبه إلا مثقال الذرة من الإيمان نسأل الله السلامة والعافية.
هذه فتن سلم نفسك وفر من الله إلى الله، وخذ بصلاح دينك ودنياك وأخراك، والله تعالى أعلم.(15/16)
حكم صدقة الإنسان الذي عليه دين
السؤال
ذكرت في صنائع المعروف التصدق على الآخرين والمحتاجين، فهل يجوز للإنسان أن يتصدق وعليه ديون كثيرة، وقد خصص لها من راتبه الشهري، ولا يبقى منه إلا النفقة فقط، فهل يحل له الصدقة وهو في مثل هذه الحال؟
الجواب
الله أكبر! تسألوني وعندكم عالم العلماء وإمام الأئمة الشيخ محمد حفظه الله، أنا لا أفتي في الأحكام، ولن أفتي إن شاء الله بعد هذا السؤال في الأحكام، نسأل الله أن يحفظ الشيخ وأن يرعاه وأن يبقي خيره للإسلام والمسلمين، والله إني لأذوب خجلاً ووجلاً في بلد فيه مثل هذا العالم، أسأل الله أن يحفظه وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين كل خير.
أما الأحكام فجنبوني، فعندكم الشيخ حفظه الله، ولكن سلوني عن أمور القلوب، ومع ذلك والله إني لأعده من الخطأ أن أفتي في هذا المكان المبارك الذي فيه الشيخ، أسأل الله أن يحفظه، وأن يرعاه وأن يعلي قدره، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء فاعذروني رحمكم الله.(15/17)
علاج من وسوس له الشيطان بترك العلم وجمع له الهم والغم
السؤال
وفدت إلى هذه البلاد لطلب العلم أسأل الله أن يجعل نيتي ونية كل مسلم صالحة خالصة، ومع الجو الدراسي والدروس وحفظ المتون جاءني الشيطان يرغبني عن العلم ويصرفني عنه، ويضعف عزيمتي ويشغلني بما لا يفيد، فقسا قلبي وانشغلت عن كتاب الله وعن التركيز في دروسي، واجتمعت علي هموم وغموم وأحسست بضيق شديد، فيا شيخنا الفاضل -جزاك الله خيراً- ابذل لي النصيحة ولمن وقع في مثل ما وقعت به لعلها تقع في قلبي موقعاً ينفعني الله به، نفع الله بك وجزاك الله خير الجزاء؟
الجواب
أسأل الله العظيم أن يكتب خطواتك، وأن يعظم أجرك، وأن يكثر من حسناتك يوم أن خرجت من بيتك طالباً للعلم راغباً فيما عند الله فأبشر بخير من الله إن شاء الله.
أخي في الله! أحسن الظن بالله فإن الله جل وعلا عند حسن ظن عبده به، هذا ابتلاء ابتلاك الله به، ولعل الله بعده أن يرفع درجتك، وأن يعظم أجرك وأن يحسن وأن يعلي بالعلم ذكرك، أبشر بخير، فما طلب أحدٌ العلم إلا ابتلاه الله، إن الله يبتلي طالب العلم بالهموم والغموم فيجد من يخذله ويجد من يهينه، ويجد الشدائد في التغرب في غربة الأسفار والبعد عن الأوطان والأحباب والخلان، ومفارقة الأهل والولدان، إلى غير ذلك من المحن والفتن، حتى يكون عاقبتها رضوان الله الواحد الديان، إن العلم يحتاج إلى جهاد لأن فيه فتناً ومحناً لا يعلمها إلا الله جل جلاله.
قال بعض العلماء: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أوحى الله إليه بجبريل أخذه فغطه حتى رأى الموت، ثم أخذه فغطه حتى رأى الموت، ثلاث مرات وهو يقول له: اقرأ فيقول: ما أنا بقارئ، ففي هذا دليل على أن العلم لا يكون ولن يكون إلا بعد الامتحان، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يعلمه الله رأى الموت، (أخذني فغطني) يعني حتى كاد أن يهلك صلوات الله وسلامه عليه، وهذا فيه سلوان لكل طالب علم، تحفظ وتسهر الليل وتتعب ولا تجد لذة النوم ولا لذة الدنيا، كل ذلك من عاجل الامتحان؛ لأن الحياة التي ترضي الله مبنية على الجهاد {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] أي: والله لنهدينهم سبلنا، أنت الآن في الثمن وغداً بإذن الله تنال المثمن، حين تفوز بعلم يرضي الله، وجنة هي المأوى من الله جل جلاله.
أبشر بخير وأحسن الظن بالله، وقل لعدوك إبليس: اخسأ عدو الله فلن تنثني لي عزيمة ولن يضعف لي عزم في طاعة الله ومرضاة الله بطلب هذا العلم.
كان السلف الصالح يتغرب الرجل منهم عن أهله حتى لا يسمع عنهم خبراً، وكانوا يتغربون عن أوطانهم، وكانوا يسيرون الأسفار التي ترى فيها الأهوال والشدائد والموت والمصائب، ومع ذلك كله رفع الله بالعلم قدرهم، وعظم بالعلم أجرهم، فلا يزال أهل العلم وطلاب العلم في هذا الامتحان من الله جل جلاله.
أبشر بخير وأحسن الظن بالله جل جلاله، ولكن لا تستجب لنوازغ الشيطان وتوهين الشيطان، واستعن بالله العظيم المنان، وسل الله أن يثبتك فإن الله بيده ثبات القلوب.
أما الوصية الثانية التي أوصيك بها: تفقد نفسك في الذنوب التي بينك وبين الله، وفي الذنوب التي بينك وبين عباد الله، فإنه ما دخل همٌّ ولا غمٌّ على عبد إلا بسبب ذنب: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] فلعلك في يوم من الأيام أتاك العجب بطلب العلم، وقلت: إني سافرت لطلب العلم، أو إني أفعل وأفعل فمقت الله منك ذلك فكان سبباً في هذا الابتلاء، قال سفيان: أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل أربعة أشهر، وهو إمام من أئمة السلف وديوان من دواوين العلم، فلعل هناك ذنباً بينك وبين الله أو بينك وبين عباد الله، ربما مع إخوانك وطلاب العلم من جيرانك، آذيت أحداً منهم من أحباب الله والأخيار، فغضب الله عز وجل عليك بأذيته فحرمك لذة العلم.
تفقد معاملتك مع إخوانك ومعاملتك خاصة مع طلاب العلم، فإن كثيراً من طلاب العلم يبتليهم الله بسبب التعامل مع بعضهم.
أما الوصية الأخيرة: فانطرح بين يدي الله، وأكثر من سؤال الله وناجه وناده فإنه عليه المعول وهو مصلح الأحوال، وإليه المرجع والمآل، سبحانه الكبير المتعال، والله تعالى أعلم.(15/18)
علاج قسوة القلب وجلساء السوء
السؤال
أنا شاب أريد التوبة والهداية، ولكن كيف السبيل وما الطريق، وكيف أترك المعاصي وأترك جلساء السوء وهم يأتون إليَّ ويجالسونني وأشاركهم في سماع الأغاني واستعمال ما يغضب الله تعالى، وأحس بقسوة في قلبي، فكيف العلاج لي ولأمثالي جزاك الله خيراً، فلعل الله أن ينفعني بك؟
الجواب
أخي في الله أهنئك ببشارة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم (أنه تصعد الملائكة إلى الله جل وعلا -وقد جلست في مجلس ذكر في بيت من بيوت الله- فيذكرون لله جل وعلا حال هؤلاء الأخيار يوم جلسوا في المسجد يذكرون الله العظيم، فقالوا: أتيناهم وهم يذكرونك ويسبحونك ويمجدونك فيقول: ماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة.
قال: وهل رأوها؟ قالوا: لا.
قال: كيف لو رأوها لكانوا أشد طلباً لها أو رغبة فيها، ثم يقول: ممَّ يستعيذونني؟ فيقولون: من نارك.
فيقول: هل رأوها؟ فيقولون: لا يا رب.
قال: كيف لو رأوها؟ ثم يقول: قد غفرت لهم.
فتقول الملائكة: إن فيهم فلاناً، عبد خطاء كثير الذنوب جلس معهم؟ فيقول الله: وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فأسأل الله بعزته وجلاله كما جلست في مجلسنا أن يغفر لك ولكل مذنب ذنبه، وأن يفرج لنا ولكل مكروب كربه.
أبشر أخي في الله! ومن هذه الساعة عاهد الله جل وعلا على توبة نصوح، أوصيك أخي في الله يوم أثقلتك الذنوب وعظمت عليك الخطايا والعيوب أن تتذكر رحمة الله علام الغيوب، واعلم أن الله يناديك ويبسط يده بالليل لتتوب إليه بالنهار (لكي تنيب إليه) فأبشر يوم أقبلت عليه، أقبل على الله، ومن هذا المجلس أحسن الظن بالله، واطو صفحة الماضي وقل: يا نفس توبي، ويا نفس أنيبي، وأقبل بصفحة جديدة فلعل الله جل وعلا أن يغفر لك ذنوبك الماضية وأن يجود ويتفضل فيجعلها حسنات باقية، أقبل على الله وأحسن الظن بالله فإنه نعم المولى ونعم النصير.
من منا لا يخطئ، ومن منا لا يذنب، ومن منا لا يسئ، ومن منا لم يقفل بابه على ذنب بينه وبين الله، ومن منا من لم يرخ حجابه على ذنب بينه وبين الله، ومن لهذه الذنوب والهموم والخطايا والعيوب غير الله جل جلاله، ولذلك نادى عباده فقال: {قُلْ يَا عِبَادِ} [الزمر:10] سبحانه ومن لهم غيره! فهو اللطيف بهم وهو الرحيم بهم وهو العليم بحالهم، فأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يمن علينا جميعاً بالتوبة النصوح.
اللهم إنا نسألك الإنابة إليك، وأن تتقبلنا من عبادك التائبين المنيبين، والله تعالى أعلم.(15/19)
هل طلب العلم وحفظ القرآن من صنائع المعروف؟
السؤال
تكلمت وفقك الله عن صنائع المعروف، فهل القيام بهذه الصنائع أفضل من بعض القربات الخاصة بالإنسان التي يعملها الإنسان لنفسه، كطلبه للعلم وحفظه للقرآن وتدبره، وغير ذلك مما يعود أثره على الإنسان نفسه لا على الآخرين؟
الجواب
أخي في الله: ورد في السؤال أن طلب العلم منفعة للنفس وهذا محل نظر، فإن طلب العلم جمع الله فيه بين الفضلين: فضله على النفس وفضله للغير، ولذلك فإن طلب العلم أفضل من صنائع المعروف لأنه أشرفها وأعظمها وأعلاها وأجزلها ثواباً عند الله جل وعلا؛ لأنه أعظم المعروف.
فأعظم المعروف أن تأخذ بحجز القلوب عن النار، وأعظم المعروف أن تقرب العباد إلى رحمة الله الكريم الغفار، فأبشر بخير ما أنت فيه من طلب العلم، ففيه خير كثير.
ولكن كما قال العلماء: ينبغي على طالب العلم أن يمزج طلب علمه بشيء من الصالحات؛ مثل تفريج كربات المكروبين، والإحسان إلى الضعفاء والمحتاجين؛ فإن هذا يعينه على طلب العلم، ولذلك كانوا يستحبون لطلاب العلم أن يجمعوا بين الحسنيين لكن شريطة ألا يؤثر على طلب العلم، فاجعل لك صدقة في الشهر جارية ابحث عن بيت من بيوت الأيتام والأرامل تعطيه كل يوم طعاماً {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ * ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:11 - 17].
فلذلك أوصيك أن تجمع بين الحسنيين توصي بالصبر والمرحمة عن علم حينما تتعلم العلم، وتقتحم العقبة فتفك الرقبة وتطعم في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة.
فيا أخي في الله: اجمع بين الحسنيين، والغالب في طالب العلم أنه إذا انشغل بطلب العلم وترك الأعمال الصالحة أن يكون علمه جافاً، ولذلك تجد بين طلاب العلم تفاوتاً كبيراً؛ فمن طلاب العلم من جمع الله له بين العلم وبين الإحسان، وهذا أعلى المراتب وأفضلها وأحبها، ومن طلاب العلم من عود نفسه من البداية على الاقتصار على نفسه، والاقتصار على تعليم الناس دون تفريج كرباتهم وقضاء حوائجهم، ودون السعي في مصالحهم وهو على خير، ولكن يفوته من الخير ما هو أعظم، فهذا حسن وهذا أحسن، وهذا فاضل وهذا أفضل.
فلذلك ينبغي لطالب العلم أن يجمع بين الحسنيين، والله تعالى أعلم.(15/20)
دواء خلو الصلاة من الخشوع
السؤال
أحب أن تبين لي قضية الخشوع في الصلاة، فإن الإنسان يصلي الصلاة ثم يخرج منها وقد خرج بأفكار وخطط وأعمال، وأما الصلاة فإنه قد لا يدرك إلا القليل منها، فإذا كان هذا الداء فما الدواء؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فجزاك الله خيراً على هذا السؤال الذي هو من أهم الأسئلة لتعلقه بالصلاة.
أما الخشوع في الصلاة فهي نعمة إلهية، ومنة ربانية يمنحها الله من يشاء، وذلك فضله، ونعم والله العطاء يوم يكرم الله العبد فيقبل على الله بقلبه وقالبه يوم يقبل على الله جل وعلا يستشعر هيبة الموقف بين يديه جل جلاله.
أوصيك أخي في الله إذا دخلت إلى بيت من بيوت الله فادخله وليس في قلبك إلا الله، أثر عن بعض السلف أنه أكثر من عشرين عاماً ما سها في صلاة واحدة، فقيل: لقد أممت في أكثر من عشرين عاماً ما سهوت في صلاة واحدة فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما دخلت المسجد وفي قلبي غير الله.
أن تدخل إلى هذه المساجد وأنت على عقيدة وإيمان أنها لله لا للدنيا أن تدخلها وأنت ترعد فرائصك من خشية الله جل جلاله أن تخاف المقام بين يدي الله.
كان علي زين العابدين إذا توضأ احمر وجهه وتغير لونه، فقيل: ما هذا الذي يعتريك عند الوضوء؟ قال: ألا تدرون من الذي أناجيه وأقف بين يديه.
كان السلف الصالح رحمة الله عليهم يدخلون بيوت الله بقلوب نقية، بقلوب خالية ليس فيها إلا الله، يشترون رحمة الله بكل عمل صالح، وهذا من أعظم الدلائل على الإخلاص لوجه الله جل جلاله.
فإذا دخلت المسجد وقلبك معمور بذكر الله انشغلت عن كل شيء سوى الله، وقد أثر عن مسلم بن يسار رحمه الله -إمام من أئمة التابعين علماً وصلاحاً وخيراً- أنه كان يصلي في مسجده بالكوفة، فسقط المسجد -وذلك في الضحى- فهرع الناس من السوق يقولون: هلك مسلم، فلما جاءوا وجدوه يتشهد وسلَّم من صلاته فقال: والله ما شعرت به إلا بعد السلام.
نصف المسجد يسقط ولا يشعر به من لذة مناجاة الله، كانوا إذا دخلوا دخلوا بقلوب فارغة ليس فيها إلا الله سبحانه وتعالى.
الأمر الثاني: أخي في الله! تذكر هذه الصلاة يوم يجعلها الله لك نوراً في القبرِ، تذكر يوم يجعلها الله لك نوراً في الحشر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة نور) الصلاة نور أي: نور في القبور، ونور يوم البعث والنشور، وهذا النور أحوج ما يحتاجه الإنسان، فإن للقبور ظلمة، نسأل الله العظيم بعزته وجلاله وكماله أن يكفينا ظلمتها ووحشتها، ولا يستطيع الإنسان أن يجد لتلك الظلمة نوراً إلا من فضل الله جل جلاله ورحمته وحلمه به سبحانه وتعالى، فلا إله إلا الله من قوم أدوا الصلاة على أتم وجوهها أصبحت عليهم القبور اليوم أنواراً، الصلاة نور واستشعار عظيم الأجر بها، وأنها ستكون لك نوراً بالقبر ونوراً في الحشر ونوراً لك على الصراط، ذلك يدعوك إلى إتقانها وإكمالها، فاستشعر هذا.
أولاً: لا تدخل إلى المسجد وفي قلبك غير الله.
ثانيا: اشعر بحاجتك إلى هذه الصلاة، ودائماً إذا تذكر الإنسان القبر وهول القبر، وأنه ستمر عليه مثل هذه اللحظة وهو ضجيع القبر أحوج ما يكون إلى ما يؤنسه، دعاه والله ذلك إلى استشعار هيبة الموقف بين يدي الله جل جلاله.
الأمر الثالث: أن تصلي صلاة المودع، أن تجعل هذا الصلاة ولو كانت سنة، اجعلها آخر عهدك من الدنيا، فإن العبد إذا صلَّى صلاة مودع فإن الله جل وعلا يرزقه الخشوع، ويرزقه إحسان هذه الصلاة وإتقانها.
الأمر الرابع: استشعر عواقبها الحميدة، فوالله ما أديت الصلاة على أكمل خشوع إلا حفظك الله به، ولذلك أخبر الله جل وعلا أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، لكنه قال: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45] من هم يا رب {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:46] حتى قال بعض العلماء: إن هذه الآية تدل على أن الخشوع في الصلاة سببه وأساسه كثرة ذكر الآخرة {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة:46] يظنون بمعنى: يوقنون، كقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة:20] فالظن يستعمل بمعنى اليقين أي: توقن بلقاء الله، وذلك يدعوك إلى إتقان الصلاة بين يدي الله جل وعلا.
الأمر الخامس: الحياء والخجل وأنت تقف بين يدي الله وقلبك مصروف إليه، يخجل الإنسان ويستحي من الله جل جلاله، حين يقول: الله أكبر ويقبل على الله ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، ومن بيده ملكوت كل شيء سبحانه لا إله إلا هو، الذي لا أعظم من نعمته ولا أجل من منته، ومع ذلك يجد الإنسان أنه فضله وأكرمه أنه يقف بين يديه، وهو يقول: الله أكبر ودون حياء ولا خجل ولا وجل ينصرف إلى دنيا فانية ومتاع حائل وظل زائل، فإنا لله وإنا إليه راجعون! صدق الله يوم أن قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91] إيه والله ما قدرنا الله حق قدره، ولكن نسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا وإياكم تعظيمه، ونعوذ به من عين لا تدمع، ومن دعاء لا يسمع، ومن علم لا ينتفع به، استعذ بالله جل جلاله، سل الله يعطك، سل الله أن يرزقك خشوع العبادة، فوالله إن القلوب بين إصبعين من أصابعه وفي طرفة عين لربما قلبك فأصبحت من الخاشعين، إذا دخلت الصلاة تمنيت أن حياتك كلها صلاة فاسأل الله يعطك فإنها خزائن ورحمات من الله ينفح بها من يشاء.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من أهل هذا الفضل وهذا العطاء والنوال، والله تعالى أعلم.(15/21)
الأسباب المعينة على أداء صلاة الفجر جماعة
السؤال
أنا شاب قليل الانتباه لصلاة الفجر، مع أني أفرح لصلاة الفجر، فبماذا تنصح الذين يقصرون في صلاة الفجر، حتى إنه في بعض المساجد لا يصلي إلا ثلاثة في صلاة الفجر، مع أن حول المسجد ما يقارب الثلاثين منزلاً، وما هي الأسباب المعينة على مجاهدة النفس في أدائها؟
الجواب
بكل اختصار أولاً: لا يمكن للإنسان أن يشهد الصلوات ويحافظ عليها إلا بكمال الإيمان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم عن المنافقين: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء) فالإيمان هو الذي يحرك القلوب لشهود الصلوات مع الجماعة.
ثانياً: احتساب الأجر والثواب، ولذلك قال العلماء: إن الإنسان يحافظ على الخير إما رغبة أو رهبة، والنبي صلى الله عليه وسلم ذكر رغبتهم في الدنيا، فقال: (لو يعلم أحدهم أنه يجد عظماً سميناً) فإذا استشعرت ما في الصلاة مع الجماعة من عظيم الأجر والرحمة والرضا من الله جل وعلا أعانك ذلك على ترك الفراش والمبادرة إلى الصلاة.
ثالثاً: كثرة الخطا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ وذكر منها: كثرة الخطا إلى المساجد)، فخروجك إلى الصلاة مع الجماعة، واحتسابك للأجر في كثرة الخطا وشهود الصلاة، فإن شهدتها من أول ما تكون من تكبيرة الإحرام والتأمين مع الإمام وغير ذلك من الفضائل كان ذلك أعظم حظاً لصاحبها.
إن استشعار هذا الثواب من الله جل وعلا هو الذي يحرك الإنسان لما عند الله، لكنه لم يكن إلا بإيمان، فإذا كان عند الإنسان إيمان وشعور بالثواب من الله عز وجل حركه إلى المبادرة والمسارعة إلى مثل هذه الصلوات.
رابعاً: الأخذ بالأسباب، فمن أعظم الأسباب النوم مبكراً، فقد قرر العلماء أنه إذا كان سهر الإنسان ولو في النوافل يؤدي إلى ضياع صلاة الفرض أنه لا يجوز له أن يسهر، لأنه من باب ما لا يتم الواجب إلا به، فإذا كان سهر الإنسان يؤدي إلى ضياع صلاة الفجر فلا يجوز له السهر إلا من ضرورة ملحة، فإن سهر وضع بجواره منبهاً أو يوصي أحداً أن يوقظه، أو يوصي جاره، أو يوصي إمام المسجد أو مؤذن المسجد أو نحو ذلك، أو من يتصل عليه، يأخذ بالأسباب، فإذا أخذ بذلك فإن الله يعينه.
والأصل في هذا حديث أبي حذيفة في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما عرس في مقدمه من غزوة، قال: يا بلال اكلأ لنا الليل) قال العلماء: في هذا دليل على أنه يجب على الإنسان إذا تأخر نومه أن يهيئ الأسباب لاستيقاظه بتوصية من يوقظه، ومن هذه ما تيسر الآن من وجود المنبهات ونحوها، وهذه من الأمور المهمة التي يجب على الإنسان أن يحافظ عليها حتى تعينه على صلاة الفجر.
خامساً: يقول بعض العقلاء والحكماء: إن من الأمور التي تعين على الاستيقاظ أن الإنسان يجعل في نفسه الرغبة في القيام، فإنه إذا جعل في نفسه ذلك دعاه إلى القيام، وهذا مجرب فإنك إذا نمت وفي نفسك أن تقوم آخر الليل أعانك الله على قيام آخر الليل، وإذا جعلت في نفسك أن تقوم لصلاة الفجر أعانك الله على قيام صلاة الفجر، ولذلك تجد الكثير إذا وضع في نفسه أنه يقوم لاختباره أو لامتحانه قام بكل سهولة ويسر، نسأل الله السلامة والعافية.
فلذلك ينبغي على الإنسان أن يأخذ بالأسباب، وإذا أخذ الإنسان بالأسباب أعانه الله جل وعلا، وأجر عليها وكفي المئونة والذنب، والله تعالى أعلم.(15/22)
علاج ترك الطاعات خشية النفاق
السؤال
أنا شاب أرغب في صيام يوم الإثنين والخميس، ولكن أكون مرتبطاً في المدرسة بإفطار جماعي مع الطلاب، وكذلك في يوم الخميس أرتبط مع عائلتي وأخشى إن انقطعت عنهم على نفسي من النفاق وأن يعلموا عني أني صائم، وكثيراً من الطاعات أتركها وأصرف نفسي عنها خشية من النفاق، فماذا علي وما العلاج في مثل هذا؟
الجواب
أوصيك بهذا الصيام الذي ندب إليه النبي صلى الله عليه وسلم واحتسب الأجر عند الله، وما تجده في نفسك من هذا الحديث فلعله وسوسة من الشيطان، احتسب عند الله الأجر وصم الإثنين والخميس واحتسب الثواب عند الله جل وعلا في صيامها، فإن وجدت شيئاً من الرياء أو شيئاً من العجب فاستغفر الله وتب إليه، فإن الله غفار لمن تاب ويصفح عمن ندم وأناب، والله تعالى أعلم.(15/23)
علاج العادة السرية
السؤال
كثير من الشباب ابتلي بالعادة السرية وأصبحت مزعجة لهم إزعاجاً شديداً، يقول: وأنا شاب ابتليت بهذه العادة ولم أستطع ترك هذه العادة، فما توجيهك لي ولإخواني جزاك الله خيراً، وكيف العلاج في تركها؟
الجواب
أولاً أحب أن أنبه على أمر مهم وهو الوصف لقولك: كثير من الشباب، لقد اتهمت الشباب والله سائلك عن هذه التهمة، عليك نفسك وقل: إني أجد هذا البلاء في نفسي فلا تقل: كثير من الناس، فإن الأخيار إن شاء الله هم أقرب إلى الخير، فلعل سامعاً أن يسمع هذا السؤال فيظن بالأخيار سوءاً، وأرجو من الله أنهم خير من ذلك وأرفع، ولا يحكم الإنسان إلا على نفسه.
أما الأمر الثاني: فإن الذنب إذا بلي به العبد ينبغي عليه أن يتفقد نفسه، فإن الله لا يخذل الإنسان بذنب إلا بسبب بينه وبين الله، فتفقد نفسك وحالك مع الله جل وعلا، واقترب من الله جل وعلا حتى يعينك على التخلص من هذا البلاء، وخذ بالأسباب: أولاً: ألا تخلو بنفسك قدر المستطاع، فإنه قد حكى بعض الإخوان ممن بلي بهذا البلاء أنه ما وجد شيئاً مثل إشغال نفسه بأكثر الوقت، وأنه لا يقدم إلى بيته إلا في ساعة متأخرة منهكاً متعباً حتى يرتاح وينام، فهذه من الأسباب التي تعين على ترك هذه المعصية.
ثانياً: ذكر الآخرة وخشية الله جل جلاله، وهي من أعظم الأسباب، أن تذكر أنه تمر عليك مثل هذه الساعة وأنت ضجيع اللحد والبلاء، هل يسرك أنك فعلت هذا الفعل؟ وأنه قد تمر عليك هذه الساعة وأنت في سكرات الموت وشدة الموت وآخر نظرتك إلى الدنيا، هل تتمنى أنك فعلت هذا الفعل؟ الآخرة هي التي تهذب سلوك المؤمن كثرة ذكر الآخرة ذكر الموت وسكرته، والقبر وضغطته، والحساب وشدته، والصراط وزلته، والجبار وسؤاله وهيبته، كل ذلك يعين على كبح جماح النفس على معصية الله.
والناس في خوف الله وذكر الآخرة مراتب: فإن كمل خوفك وأصبحت كثير الذكر للآخرة كمل ردع الآخرة لك عن الأمور التي لا ترضي الله جل وعلا، كلما كمل خوف الإنسان من الآخرة كلما كان ذلك أحصن لفرجه وأعف لنفسه، فلا زال ذكر الآخرة بأهله حتى أخرجهم من الدنيا أعفة عن الحرام أعفة عن الفواحش والآثام، أكثر من ذكر الموت وذكر سكرته، وذكر القبر وضغطته، وكذلك الحساب وفجعته وشدته، فإن ذلك من أعظم الأسباب التي تحول بين هذا الإنسان وبين الخطايا، وأسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يمن علينا وعلى المسلمين جميعاً بصلاح الأحوال، والله تعالى أعلم.(15/24)
معنى: صنائع المعروف تقي مصارع السوء
السؤال
ما معنى هذا الحديث إن كان حديثاً: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء) أرجو شرح هذا الحديث شرحاً وافياً؟
الجواب
أما هذا الحديث فقد تكلم العلماء رحمهم الله على سنده، فهو حديث ضعيف ولكن معناه صحيح، فهو صحيح المعنى لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب كما يطفئ الماء النار) فأخبر أن الصدقة تطفئ غضب الرب، والصدقة من صنائع المعروف.
وثبت في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها -في صلاة الكسوف- (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس إذا كسفت الشمس أن يدعوا وأن يصلوا وأن يتصدقوا)، فدل هذا -كما يقول العلماء- على أن أعظم أسباب الخير الصدقة وفعل المعروف.
وأذكر حادثة قصها رجل من أصدقاء الوالد غريبة جداً، وسمعته بأذني يحكيها للوالد رحمة الله عليهما -فقد توفيا- يقول هذا الرجل -أحسبه من الأخيار والصالحين وهو رجل كان أميراً في قومه- أنه كان نازلاً من الطائف إلى مكة في يوم الجمعة وكان معه ابنه، فأراد الله عز وجل أنه رأى رجلاً ضعيفاً، فقال لابنه: قف لهذا الضعيف، فكأن الابن رأى إلى رثاثة حال هذا الضعيف وما هو عليه من الملبس الرث، فكره أن يركب معه في هذه السيارة الفارهة.
يقول الوالد: فعلمت ما في نفس ابني، فلما ركب الرجل ذكرت ابني بصنائع المعروف، وأن الله يقي بها مصارع السوء، وأن الله يحفظ بها، وأن الله يلطف بها، فلما دخلنا إلى مكة ونحن في أشد ما تكون السيارة في السرعة لندرك الجمعة، وإذا بطفل أمام السيارة تماماً لا نستطيع أن نفر عنه، فمرت عليه السيارة، فأصابه شيء من الرعب، فتوقفنا على أن الابن قد قضى ومات، وإذا به قائم على رجليه ليس به أي بأس.
يقول: فلما ركبت السيارة انكفأت على وجهي وأنا في حالة لا يعلمها إلا الله، قلت: يا بني والله ما أعرف لك إلا هذا المعروف الذي فعلته فحفظنا الله وإياك به.
وهذا عاجل ما يكون في الدنيا، فالله يلطف، وغالباً إذا رحم الإنسان عباد الله لطف به الله عز وجل، والقصص في ذلك كثيرة جداً في لطف الله، وأن صنائع المعروف يحفظ الله جل وعلا بها، والله تعالى أعلم.(15/25)
نصيحة إلى من فاتها قطار السعادة (الزواج)
السؤال
أنا بنت بلغتُ من العمر ما يقارب الأربعين عاماً، وكنت أظن السعادة في الحصول على شهادة عليا، وكان يتقدم إليَّ كثير من الشباب للزواج وكنت أرفضهم ظناً مني أن السعادة في تحصيل الشهادة التي أجمع بها المال ويكون لي منصب ومركز في المجتمع، وأنا الآن لا أشعر بالسعادة بل فاتني قطار السعادة، علماً بأن في بيتنا خمس بنات، الكبرى منهن عمرها خمسون سنة، والصغرى خمس وعشرون سنة، ولم تتزوج منا واحدة، ظناً من الشباب أن البنت إذا كان عمرها أكثر من عمر الشاب فإنه يعزف عن الزواج منها.
أرجو من فضيلتكم أن تبين لي ولأخواتي لكي لا يخطئن مثل خطئي أين تكون السعادة؟ هل هي في الشهادة أم في غيرها؟ كذلك أرجو نصيحة لإخواني الشباب الذين يعزفون عن الزواج بأخواتهم في الله تعالى إذا كبرن عن السن المختار؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن السعادة كل السعادة ليست في جمع الأموال، ولا إصلاح الأحوال، ولكنها في حب الله الكبير المتعال، يوم يحب الله عبده فيشرح صدره وييسر أمره، ويجعله عبداً تقياً من معصية الله خلياً نقياً، يوم يفتح الله عز وجل له أبواب الطاعات حتى يصير من السعداء، فالسعادة كل السعادة في تقوى الله جل وعلا.
ولست أرَ السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد السعادة في تقوى الله؛ لأن الله جمع فيها خيري الدنيا والآخرة، فخير الدنيا في أمرين: إما أن يدفع عنك ضرراً أو يجلب لك نفعاً، فقال الله في التقوى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} [الطلاق:2] وقال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] فجمع له الدنيا في هاتين الآيتين.
وأما الآخرة فإن الله جل وعلا جعلها للمتقين: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً * حَدَائِقَ وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً} [النبأ:31 - 33] فالسعادة في تقوى الله جل وعلا، يوم تمسي المرأة المؤمنة وتصبح وليس في قلبها إلا الله جل جلاله، يوم تعمل للدار الآخرة فتلك هي السعادة الحقيقية، حتى تجد آثار الصالحات في دنياها وأخراها، والله ما اتقى عبد ربه إلا أقر عينه في الدنيا قبل الآخرة، ولا أطاع عبدٌ مولاه على أكمل ما تكون عليه الطاعة إلا أسعده في الدنيا قبل الآخرة {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] أي: والله لنحيينه حياةً طيبة، السعادة كلها في حب الله، والسعي الحثيث لمرضاة الله جل جلاله.
أما القضية الثانية: فإن الابتلاء الذي بليت به جاء من سوء النية {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] أنعم الله على المرأة بحسن الحال، وكانت في شبابها وعز حالها، والناس يطلبونها لكرامتها عليهم، فلما كفرت نعمة الله ونظرت إلى ما ورائها من طلب الشهادات وعلو الدرجات من هذه الدنيا الفانية، بليت بهذه العاقبة الوخيمة نسأل الله السلامة العافية، فهذه من عاجل العقوبة أنك طلبت العلم للدنيا ومن طلب العلم للدنيا مكر الله به في الدنيا قبل الآخرة، هذا معلوم ونص عليه العلماء: أن من طلب العلم للدنيا لشهادة لعلو درجة لطلب جاه، فإن الله يمكر به في الدنيا قبل الآخرة نسأل الله السلامة والعافية.
فأوصيك أولاً: بالاستغفار من هذه النية، فالزواج يهون ولكن الخطب كل الخطب (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لينال به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة) نسأل الله السلامة والعافية، هذه هي المصيبة العظيمة مصيبة الدين.
أما الوصية الثانية التي أوصيكِ بها: فمن الليلة استغفري ربك وتوبي إليه، فإن الله يصلح حالك، فإن الله يقول: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46] فإنكِ إن استغفرتِ الله واستدمتِ الاستغفار وسؤال الله الرحمة فليرحمنك الله في الدنيا قبل الآخرة، أكثري من الاستغفار علّ الله أن يغفر لك الذنب الذي بليت به حتى حيل بينك وبين هذا الخير الكثير، وما يدريك لو تزوجت فأخرج الله منك ذرية صالحة تعبد الله آناء الليل وأطراف النهار، فاغتنمي أختي المسلمة هذه الفرصة وهي كثرة الاستغفار، فإنها من أسباب الرحمة من الله جل وعلا.
الوصية الثالثة: يجب أن تكون مثل هذه المواقف عبر للمؤمنين والمؤمنات، عبرة للمرأة المؤمنة ألا تتأخر بعذر الدراسة أو بإكمال الدراسة، فإن المرأة المؤمنة جعلها الله جل وعلا حرثاً للمؤمنين، لكي تبني الأسرة المسلمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم ندبنا إلى النكاح والتناسل والتكاثر، فقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث النكاح: (تناكحوا تناسلوا تكاثروا فإني مفاخر بكم الأمم يوم القيامة).
الوصية الرابعة: لا تيأسي من رحمة الله، فأكثري من الدعاء أن يسخر الله لك زوجاً صالحاً، وأحسني الظن بالله، فإن الله على كل شيء قدير.
الوصية الخامسة: أوصي الشباب الأخيار الذين يلتمسون رحمة الله ورضوان الله أن يفرجوا هموم أمثال هؤلاء من النساء، إن في النساء صالحات قانتات، إن في النساء خيرات دينات ولكن بُلين بكبر السن، فإما بسبب ولي أو بسبب منها، فتجد وليها لا يرغب كل زوج ويماطل في زواجها، وإما أن يكون السبب منها كحال هذه السائلة.
فأوصيكم إخواني في الله أن تفرجوا هموم أمثال هؤلاء، فإنه من احتسب الأجر في أمثال هؤلاء فلعل الله أن يخرج منهن ذرية صالحة، فإن العبد إذا احتسب الأجر عند الله فإن الله يجزيه على حسن نيته، فاحتسب الأجر عند الله، فليس السن هو المهم، ولكن المهم كل المهم الصلاح والديانة والاستقامة وشراء مرضاة الله جل وعلا بتفريج كرب مثل هذه، فإن المؤمنة إذا لم تجد من يحصنها قد تتعرض للحرام والنفس ضعيفة والشهوات كثيرة، فاحتسب الأجر عند الله.
عبد الله: إذا علمت بامرأة صالحة أنها لا تجد من يخطبها لكبر سن فاحتسب، فلعلك أن تخرج من الدنيا ولك صحيفة عمل أنك تزوجت لا لجمال ولا لمال ولكن لوجه الله الكبير المتعال، أن تخرج من الدنيا بحسنة من حسنات مؤمنة تفرج عنها كربها، وهذا أمر يتساهل فيه الكثير، فالبعض يبحث عن الشابات والجمال، هذه كلها متع زائلة وفانية، ولعلك أن ترزق بامرأة كبيرة عاقلة يكون من ورائها خير كثير، فإن الله ثبت قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بـ خديجة وهي أكبر منه سناً رضي الله عنها وأرضاها، جاءها ذعراً مرعوباً مرهوباً فقالت له: [كلا والله ولا يخزيك الله، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق] فثبّت الله قلب نبيه صلى الله عليه وسلم بهذه المرأة الصالحة، لما كانت كبيرة السن عاقلة، فالمرأة الكبيرة لها عقل، ولعل الإنسان أن يأجره الله على نيته فيكون منها ذرية صالحة، فاحتسبوا الثواب في أمثال هؤلاء، وكذلك احتسبوا الثواب في المطلقات والأرامل.
إن الإنسان إذا علم أن هناك مطلقة أو أن هناك امرأة صالحة أرملة ابتلاها الله بزوج سيئ فطلقها وأهانها، وتستطيع أن تتزوجها، فاحتسب عند الله، فهذه هموم وغموم من نوى فيها الخير آجره الله جل جلاله، فاحتسبوا أيها الأحبة في الله الزواج يكون للدنيا والآخرة، فما كانت للدنيا فلذة ساعة وألم دهر، ولكن ما كان للآخرة فلذة الدنيا والآخرة، وسعادة الدنيا والآخرة، والتجارة الرابحة، نسأل الله العظيم أن يلهمنا السداد والرشاد.
والكلمة الأخيرة التي أحب أن أوجهها، فأوجهها لكل ولي امرأة بأن يتقي الله جل جلاله فيها، اتقوا الله في النساء فإن الله حملكم أمانتهن، ليتق الله الوالد، وليتق الله الأخ، وليتق الله كل ولي امرأة، ولا يبق متمسكاً بأمور قد لا ترضي الله جل وعلا من العصبيات ونحوها، فإنها قد تحول دون زواج المؤمنين والمؤمنات.
بعض النعرات التي لا ترضي الله وهي من أمور الجاهلية كالفخر بالأحساب والطعن في الأنساب، فالكل من التراب وإلى التراب.
فإن المرأة إذا حبسها وليها بدون حق وماطل في زواجها حتى عنست وربما تعرضت للزنا لاشك أنه يحمل ذنبها بين يدي الله جل جلاله، والله إن هموم الليل والنهار التي تعيشها كثير من النساء المظلومات من أوليائهن يحملها الأولياء على ظهورهم، فاتقوا الله يا عباد الله! إنها مسئولية عظيمة، وكل إنسان يعلم أن أخته قد تأخر زواجها أو أن ابنته قد تأخر زواجها فعليه أن يتقي الله فيها، وكم من هموم وغموم يسلطها الله على أمثال هؤلاء لأنهم لم يتقوا الله في النساء، فاتقوا الله إخواني في هذه الأمانة العظيمة، والمسئولية الجليلة الكريمة، وليخرج الأب بهذه الأمانة بما يرضي الله جل جلاله، نسأل الله العظيم أن يوفقنا للسداد، وأن يكرمنا بحسن العاقبة في المعاد، والله تعالى أعلم.(15/26)
طلب زيادة وقت المحاضرة
السؤال
فضيلة الشيخ! قد كنا بانتظارك من بعد صلاة المغرب ونرجو منك زيادة الكلمة وإعطاءنا وقتاً وإن كان فيه شيء عليك من التعب، ولكن قد اجتمعنا لنسمع منك، وأصحاب المباريات لا يقبلون أن ينقص زمن اللعب، فنحن والله أولى بذلك، لا سيما وأننا في ليل الشتاء، وليل الشتاء طويل فنرجو من فضيلة الشيخ أن يكرمنا من وقته جزاه الله خير الجزاء؟ باسم الله، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فلا أحب في المحاضرة أن يكون الحديث لي وحدي، بل يكون هناك طرف للأسئلة، علَّ أن يكون الأجر للجميع، فمن سأل له أجر مثل أجرنا، وهذا من صنائع المعروف، أسأل الله العظيم أن يكتب خطاكم وأن يقرن بطيب الجنة مسعاكم، لا خيبكم الله، وأسأل الله بعزته وجلاله أن يجعل كل خطوة خطوتموها درجة في الجنان، موجبة للروح والريحان والحب منه والرضوان.
أما أنا فبين أيديكم، وما جئت إلا شوقاً إليكم، فأسأل الله أن يدخلنا بهذا الشوق والحب فيه إلى الجنان، وأن يمتعنا بها وإياكم في الرضوان، وما يمنعني أن يكون هناك مشاركة في الأسئلة، وهذا أفضل من أن يكون الحديث مني وحدي.(15/27)
توجيه إلى من حرم قيام الليل وصيام النهار
السؤال
من صنائع المعروف تلذذ العبد بالخلوة مع الله تعالى، وأنا عبدٌ قد حُرمت قيام الليل وصيام النهار، رغم أن الشتاء ربيع المؤمن فما توجيهك لي ولإخواني المسلمين؟
الجواب
أخي في الله: ما ألذ العبودية لله، فلقد ذهبت من الدنيا حلاوتها ومضت طلاوتها ولم يبق إلا مناجاة الله، لقد تغير الزمان وكثرت الفتن، ولم يبق إلا الأُنس بالله الواحد الديان، إن مناجاة الله خاصة إذا هدأت العيون وسكنت الجفون ولم يبق إلا الحي القيوم، إنها ساعة وأي ساعة هي الساعة التي دمع عليها الأخيار آخر الدموع من الدنيا، فقال قائلهم: والله لا أبكي على فراق الدنيا فما غرست فيها الأشجار، ولا أحبها لغرس الأشجار ولا لجري الأنهار ولكن لمكابدة الأسحار وظمأ الهواجر.
ما ألذ الساعة التي يقوم فيها ولي الله من حبه وزوجه؛ لكي يناجي الله جل جلاله، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن العبد إذا قام في الليل من عند زوجه لكي يتعبد ويتذلل لله ويناديه ويناجيه، يقول الله: يا ملائكتي عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه وفراشه؟ قالوا: يرجو رحمتك ويخشى عذابك، قال: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي).
ما ألذها من ساعة حين يقف العبد بين يدي الله جل جلاله وقد رمى بالدنيا وراء ظهره يناجيه ويناديه بذلك الكلام العظيم، حين يقرأ القرآن فينقله القرآن من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ينقله مع أهل النعيم والرضوان المقيم، ينقله إلى مراتع جنات الخلود مع المقربين الشهود، وكأن نسماتها تحركت.
ما ألذها من ساعة حينما يتلذذ العبد بكلام الله جل جلاله، إنها ساعة الصدق، فلا تراك عين ولا تسمعك أذن، ولا يعلم بك أحد إلا الله جل جلاله.
ما ألذها من ساعة، والله لو أن العبد صدق مع الله جل وعلا وابتدأ قيام الليل لربما بزغ عليه الفجر وهو لا يشعر بنفسه، وأذكر عن الوالد رحمة الله عليه أنني تذاكرت معه في قراءة القرآن في الليلة الواحدة: هل يختم الإنسان القرآن في ليلة واحدة؟ وأحرجته وألححت عليه في السؤال، قال: والله يا بني لقد كنت أخرج من المسجد بعد العشاء وأستفتح قيام الليل وفي ركعة واحدة لا أشعر إلا وأني في آخر القرآن عند السحر، من لذة مناجاة الله جل جلاله، إنها اللذة التي لا يعلم حلاوتها إلا من ذاقها.
جرِّب فوالله إنك ستحس بحقارة الدنيا وأن هناك متعة غير متعتها، ومع هذا كله فعاقبة السجود وعاقبة الركوع إذا صار الناس إلى الهجود رضوان الله الواحد المعبود، مع هذا كله لربما بزغ عليك الفجر وأنت قائم بين يدي الله في شدة البرد أو ضيق الحر فلم تنفتل من السجدة الأخيرة إلا ربما تنفتل من ذنوبك كيوم ولدلتك أمك، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن العبد إذا توضأ فأسبغ الوضوء ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه -في إحدى الروايات- ثم سلم إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
قيام الليل هو دأب الصالحين الذين عرفوا قيمة الآخرة وقيمة الدنيا، مزارع للآخرة يشتري العبد بها رحمة الله في ركعة أو سجدة أو في تسبيحة أو استغفار، فنسأل الله بعزته وجلاله أن يرزقنا هذه اللذة، وأن يجعلنا من أهلها وأن يميتنا عليها، والله تعالى أعلم.(15/28)
ثمار الأخوة
حين تنبني الأخوة على أساس العقيدة، فإنها تؤتي ثمارها اليانعة في الدنيا، والتي تتمثل في الإيثار، والمناصحة، وغيرها، ثم بعد ذلك تؤتي ثمارها الأخروية، والتي قلّما يتنبه إليها من يحرص على مثل هذه الخصلة.(16/1)
الأخوة صلة بين المؤمنين
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأسأل الله العظيم أن يجزي أخانا أبا محمد كل خير ومن تسبب في هذا الاجتماع الطيب، وأسأله تعالى أن يوفقنا جميعاً فيه لما يحبه ويرضاه من صالح القول والعمل.
إخواني في الله: الأخوة في الله وشيجة بين المؤمنين وصلة بين عباد الله المتقين، جمعت القلوب على طاعة الله، وألفت بين الأفئدة في سبيل مرضاة الله، وهي أوثق عرى الإيمان، فما آمن عبد بالله عز وجل إلا أحب أحباب الله واتجه قلبه لمحبة إخوانه في الله، ولذلك بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الأخوة الصادقة لا تكون إلا لمن ذاق حلاوة الإيمان، كما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله) فقلوب المؤمنين أحبت رب العالمين وأحبت أحباب رب العالمين وأولياءه المتقين، وسارت إلى الله وإلى سبيل محبة الله بموالاة أولياء الله وأحباب الله.
ومن هذا الأساس والمنطلق برئت قلوب المؤمنين من حمل الضغائن على إخوانهم، وبرئت قلوب المؤمنين من إيجاد الشحناء بينهم، ولو تأملت في كتاب الله عز وجل لوجدت نصوص الكتاب والسنة تدعوك دعوة صادقة لتكون مع أخيك ولأخيك، لكي نكون عباد الله إخواناً؛ ولكي تنتشر بيننا خصال الإيمان الصادقة التي انتشرت بين أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فما وجدت أخوة أصدق من أخوة أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعضهم لبعض؛ ولذلك أثنى الله عز وجل عليهم وبين في الكتاب فضلهم، وجعلهم قدوة لنا، ووصف الأخيار التابعين لهم بإحسان أنهم على هذا المنهج.
وقال جل شأنه: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [الحشر:10].
سبحان الله! أخوة الإيمان تبقى حتى بعد الوفاة، تبقى بينك وبين المؤمنين فتذكر أموات المسلمين بالخير فتترحم عليهم، وتسأل لمحسنهم أن يزداد إحساناً ولمسيئهم أن يشمله الله جل وعلا عفواً من لدنه وغفراناً، ومن تدبر القرآن وجده يهدي إلى هذه المحبة ويأمر بها ويحث عليها، ولذلك بين الله تبارك وتعالى فضل أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينما وصفهم بقوله {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] فمن سمات الإخوان في الله والأحباب في الله أنهم رحماء وبينهم الرحمة التي هي نابعة من الإيمان، فالمؤمن حليم رحيم.(16/2)
أحق من ترحمه أخوك في الدين
وأحق من ترحمه أخوك في الدين الذي قد تبلغ أخوته في الدين علواً وشرفاً فوق أخوة الحسب والنسب، ووالله ما دخل الإيمان إلى قلب عبد إلا أعز إخوانه في الله، وإن بعض الصالحين -يعلم الله عز وجل - أنه يحب أحبابه في الله وإخوانه في الله أكثر من محبته لإخوانه في الحسب والنسب؛ لأن الأخوة في الله عز وجل نابعة من عقيدة ونابعة من إيمان ونابعة من شعور، ولذلك توعد الله عز وجل من أراد قطع وشائج الأخوة في الله بأشد الوعيد، ولذلك جاء هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبين فضل هذه الأخوة حينما حذر من قطعها، فلذلك نهى الإسلام عن القطيعة وحرم أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث ليال، فمع أخوة الإسلام لا تستديم الخلافات أكثر من ثلاث ليل وإن كان ولا بد فثلاثة أيام، أما الزائد عن ذلك فهو إثم وسيئة وخروج عن منهج الله، وخلاف للأخوة في الله، وهذا يدل دلالة واضحة على عظيم شأن الأخوة في الله عند الله، ثم بين فضلها حينما حرم على العباد أن يسعى بعضهم بين بعض بالقطيعة فبين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن الله تبارك وتعالى أعد لكل من قطع بين إخوانه المحبة بالنميمة أن الله أعد له فتنة القبر وعذاب القبر -والعياذ بالله- قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القبرين المعذبين: (أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستنز من بوله، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) ما هي النميمة؟ هي نقل الأحاديث بين العباد لإفساد المودة بينهم، فلذلك توعد الله صاحب هذا الخلق الذي اعتدى على أخوة الإسلام توعده بهذا الوعيد الشديد، وبين الله تبارك وتعالى العكس أن من سعى في العكس وهو جمع القلوب على طاعة الله، وتأليف الإخوان على منهج الله ومحبة الله أن الله يحبه، قال الله تعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:114].
و (عظيماً) من الله ليست بالهينة (من يفعل ذلك) أي: من يفعل الصلح بين الناس ابتغاء مرضاة الله {فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} [النساء:114] ولذلك كم هي خطوات عزيزة عند الله عز وجل إذا خطاها المؤمن للجمع بين المفترقين والتأليف بين عباد الله المؤمنين.
المسلم يجمع بين المفترقين من أجل طاعة الله ومرضاة الله ولا يعرف القطيعة، والمسلم أحرص ما يكون على تأليف قلوب إخوانه وأحبابه على طاعة الله ومرضاة الله.
فهذه من الأمور التي تعين على وشيجة الأخوة في الإسلام، إنها الوشيجة التي تنفع العبد بإذن الله يوم لا ينفع مال ولا بنون، فقد يبتلى الإنسان بسيئة من السيئات تثقل بها كفة السيئات -والعياذ بالله- فينجيه الله عز وجل بشفاعة أخ له في الله.
ولذلك قال تعالى في كتابه العزيز لما ذكر عن أصحاب النار: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101].
قال بعض العلماء: لأنهم يرون المؤمنين يشفع بعضهم لبعض.(16/3)
كونوا عباد الله إخواناً
والله إن لذة العيش إذا صفيت القلوب من الضغائن، ولذة الحياة إذا خلت القلوب من الأحقاد والحسد والبغضاء، ففيمَ التحاسد؟! وفيمَ التهاجر؟ وفيمَ التقاطع وفيما التدابر، والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوصي أهل الإيمان وينادينا فيقول: (لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخواناً)؟ لا تحاسدوا؛ لأن الحسد طريق الفساد، ولا تباغضوا؛ لأن أهل الإيمان لا يعرفون البغضاء، ولا تدابروا؛ فالمؤمن لا يولي دبره إلى أخيه كناية عن القطيعة، ولكن كونوا عباد الله إخواناً، أمر من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نكون عباداً لله في الله إخواناً، وكل واحد منا يتوجه إليه هذا الحديث، كن مع عباد الله أخاً لهم في الله ولله.(16/4)
الحاجة إلى الأخوة في الله
كل منا مأمور أن يكون أخاً لأخيه صادقاً في أخوته ومحبته، وهذه الأخوة لها ثمرات طيبة ومن أعظمها وأجلها وأكرمها عند الله، حينما تكمل نقص أخيك وحينما تكون عوناً لأخيك على طاعة الله ومرضاة الله، كل منا والله ولو كان عالماً يحتاج إلى من يناصره، يحتاج إلى من يؤازره، يحتاج إلى من يكون قريباً منه يذكره بالله إذا نسي، ويعينه على ذكر الله إذا غفل، كلنا نحتاج إلى ذلك.
ووالله إني لمن أحوج الناس أن أجد أخاً صادقاً يذكرني بالله إذا نسيت، ويعينني على ذكر الله إذا غفلت، فمن منا الكامل؟! فلذلك من أجل نعم الله بعد الهداية وجود الإخوان الصادقين، كلنا سيعاشر أخاه ولكن والله شتان بين عبدين، عبدٌ إذا ذكر في المجالس قيل: نعم فلان والله.
نِعم الأخ ونِعم الأخوة، ونِعم الحبيب ونِعم المحبة، سيقال عنك ذلك إن كنت على كمال الأخوة في الله وإلا -والعياذ بالله- العكس بالعكس.
فكن رحمك الله ذلك الأخ الموفق ولن تكون كذلك إلا إذا ابتدأت من أسس أهمها: براءة الصدر للمسلمين.
صدرك لا تدخل فيه غلاً على مسلم وإياك أن تضع رأسك وتسلم روحك لربك وفي قلبك غل على مسلم، ووالله إن بعض الصالحين يأرق في ليلته ويتأخر نومه وهو يجاهد قلبه على إنسان أخطأ عليه حتى ينام وقلبه مرتاح، ويقول: إن خطأه لعله يقصد كذا وكذا، ولعله يقصد كذا وكذا، والله لو أن كل واحد حاول من الليلة أن يبيت سليم الصدر للمسلمين لوجد والله حلاوة الإيمان.
هذه الضغينة التي تدخلها في قلبك أو لا سمح الله يدخلها الإنسان في قلبه قد تطفئ نور الإيمان، وقد تحدث قسوة في القلب، وقد تحدث صدوداً وإعراضاً عن الرب، فقد يستهين الإنسان باحتقار مسلم، وقد يستهين الإنسان بازدراء مسلم وهو عند الله عظيم.
قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) فلا تستخف بالمسلمين، وإياك وسوء الظن بعباد الله المؤمنين، كن ذلك الرجل الذي إذا ذكرت مسلماً كأنك تذكر نفسك لنفسك؛ فإن الله تعالى يقول: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ} [النور:12] الله أكبر! نزل المؤمن منزلة النفس، فإذا أردت أن تعرف كمال إيمانك فانظر إذا ذكر أخوك بالغيب، إذا نزلت نفسك منزلته فاعلم أن الله أعطاك إيماناً، وإذا كان العكس فكان كلما ذكر للإنسان أخوه لم يأبه أن يذكر بسوء أو غير ذلك فليبكِ على نفسه، فإن الله وصف المؤمنين بهذه الصفة والله أعلم بخلقه من خلقه بأنفسهم، فهذه قضية مهمة وهي: سلامة الصدور وبراءتها من الإحن، وإياك ثم إياك أن تمسي وتصبح إلا وأنت نقي السريرة محسن الظن بالعباد، وإذا قيل لك فلان أو فلان فقل: أنا المخطئ، أنا الذي مني التقصير، أنا الذي أحتاج إلى من يسد ثغرتي ولمن يجبر كسري، وكذلك يكمل نقص العيب فيّ.
المؤمن دائماً يتهم نفسه؛ فالمؤمن في نفسه له شغل عن ذنوب العباد.
ولكن هناك أحوال خاصة قد يجب فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنصيحة للمسلمين، فهذه مستثناة، كأن يكون إنسان على بعد عن طاعة ومنهج الله، يفسد بين عباد الله، أو إنسان حاد عن صراط الله المستقيم عقيدة أو سلوكاً أو خلقاً، فهذا له حكمه المستثنى، وإنما قضيتنا الأصلية وكلامنا في الأصل، وهو ما ينبغي أن يكون للمسلم الذي لم تثبت عليه شائبة تشوبه في دينه وخلقه.(16/5)
قضايا تتعلق بالأخوة ينبغي الإلمام بها
ثم هناك قضايا ينبغي أن نلم بها وهي:(16/6)
من شواهد عهد النبوة في الأخوة
ومن شواهد عهد النبوة لما جاء أهل النفاق فأورثوا الشحناء والبغضاء بين الأوس والخزرج وقال الأوسي: يا للأوس! وقال الخزرجي: يا للخزرج! فثاروا إلى السلاح حينما تذاكروا يوم بعاث، هذه الضغينة التي كانت بينهم حركها ذلك اليهودي قاتله الله وعامله بما يستحق، وهو شاس بن قيس اليهودي لما حركها وبلغت تلك الصيحة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج يجر رداءه لكي يتدارك أخوة الإسلام، اشتغل بثوبه يجر رداءه من أجل أن يدرك هذه الأمة الطاهرة، فجاءهم وهم يريدون أن يقتتلوا، يا للأوس! وياللخزرج! كل منهم ينادي أخاه للفتنة والضغينة، فشاء الله عز وجل أنه نادى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالناس فاجتمعوا، فرقى المنبر وتلا آيات من الكتاب عليه الصلاة والسلام في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ * وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران:100 - 101].
سبحان الله! أساليب ربانية تحرك هذه القلوب وتدل على أن بيننا صفاء ومودة عظيمة.
صفاء ومودة بماذا؟ بعقيدة الإيمان التي هي أقدس شيء وجد على وجه الأرض: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ} [آل عمران:101] استفهام إنكاري وأسلوب رباني رفيع في معالجة الداء: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّه وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ِوَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] ثم بين لهم أهمية الأخوة، ثم أوجد لهم الأمل: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} [آل عمران:101] كأنه يقول لهم: ارجعوا واعتصموا بالله واتركوا هذا الخلاف: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101] ثم يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:102 - 103].
يقول بعض العلماء: إن ذكر الاعتصام بعد الإسلام والوصية بالإسلام يدل على أن من آكد الفرائض بعد التوحيد والإيمان تحقيق الأخوة في الله، هذه من آكد الفرائض بعد الإيمان، ولذلك قال الله: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] هذه العقيدة والأساس والأصل: ((وَاعْتَصِمُوا)) [آل عمران: 103] هذه ثمار العقيدة وفروع العقيدة ولازم العقيدة.
ما دمنا أننا أهل إيمان ماذا نفعل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران:103].
يقول الوالد رحمة الله عليه في تفسيرها: يمتن بجمع القلوب قبل النجاة من النار قال الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103] ولذلك السياق له تأثير، يعني: ذكر الشيء قبل الشيء يدل على أهميته؛ لأن العناية بالبداية تدل على فضل الشيء المبتدأ به.
فالمقصود: قيل إنه أراد أن يبين خطر الفرقة، وهذه الآيات ما إن تلاها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أقوام قد غلت قلوبهم من الأحقاد والذكريات الأليمة من ذلك الخبيث الذي أشعل نار الفتنة، ما إن تلاها وإذا بتلك العيون تدمع من خشية الله، قاموا يتباكون ويعانق بعضهم بعضاً من شدة أثر القرآن في قلوبهم، ما استطاع أحد منهم فرموا السلاح وأقبلوا يتعانقون ويبكون من شدة أثر القرآن في قلوبهم فرضي الله عنهم وأرضاهم، نعم والله القوم! نعم والله العبد الذي ما إن تبلغه الآية من كتاب الله، أو تبلغه الوصية من وصايا الله إلا وجدته أسبق الناس إلى فعلها والعمل بها! جعلنا الله وإياكم ذلك الرجل.(16/7)
ثبوت الأخوة باتساع الصدور
إذاً: لا بد لهذه الأخوة أن تثبت ولكنها تحتاج إلى رجال صادقين، تحتاج منا أن تتسع صدورنا إذا حصل أي خلاف أو شقاق، فلا نعين أهل الخلاف والشقاق على الخلاف والشقاق، وإنما قول بالحسنى وابتغاء لمرضاة الله جل وعلا، وإحسان لا إساءة، وجمع لا تفريق، وتأليف لا شتات، فهي وصية النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ومن رحمة الله أن الغالب في أهل الإيمان مهما وقع بينهم من الخلافات، ومهما وقع بينهم من الشقاق؛ فإن صدورهم رحبة، أهل الإيمان -غالباً- مهما يقع بينهم فإن صدورهم رحبة.
وأذكر ذات مرة أن شابين كانا دعاة في بلدهما، وكان بينهما من العداوة والفرقة شيء كثير، وحصل ما حصل وكنت لا أعرفهما، فجاء شخص وأخبرني وشاء الله أنهما اجتمعا في المدينة في مناسبة من المناسبات فدعوتهما -وهذه أقصها لكي أبين أن القلوب لا زال فيها خير- وكان بينهم من القطيعة والتهم وبينهم من الشقاق الشيء الكثير، فشاء الله أني انفردت بأحدهما وذكرته بالله عز وجل، وبينت له ما للعفو وللصفح من خير، وما للإسلام من مقصد في جمع القلوب إلى آخره، ورهبته بالله، كيف يكون هذا من هذه القلوب البريئة؟! يقسمون المسلمين وكل ذلك لمصالح شخصية، وكل ذلك لأشياء لا تمت إلى الإسلام بصلة، كل يتهم الآخر، وكل منهما ينابذ الآخر، كلمت الأول وكلمت الثاني ثم جمعتهما مع بعضهما، فشاء الله أنني رغبتهما بالصلح قبل أن يصطلحا وبينت لهما الخير والفضل في الذي يبدأ قبل الآخر، ووالله بمجرد أن انتهيت من الحديث وكل منهما يهجم على الآخر يريد أن يكون هو البادئ بالسلام، يريد أن يكون هو الذي يعفو ويبكي ويقول له: سامحني! وكل منهم يحس أن التقصير منه، وببداية الأمر كل منهما يحس أنه هو صاحب الكمال، لكن إذا قرعت قلوب أهل الإيمان بقوارع التنزيل عرفت قدر نفسها؛ ولذلك لا يعرف إنسان قدر نفسه بشيء مثل خشية الله، خشية الله إذا دخلت إلى القلب جعلت صاحبها في الحضيض وجعلت تتهمه بكل تقصير.
فلذلك -سبحان الله عجبت!! - فما تمالكت نفسي في موقف عجيب! كان بينهما من القطيعة والتهم الشيء الكثير وكل منهما يحاول أن يسبق الشخص الآخر وجمع الله قلوبهما، ونسأل الله أن يجمعها إلى يوم الدين، ويجمع قلوبنا أيضاً معهم على طاعته ومرضاته، المقصود أن هذا يدل على أن القلوب فيها خير.(16/8)
العفو عمن ظلمك
إذا وقفت في موقف بينك وبين أخيك فاعلم أنك بين الجنة والنار، واعلم والله أنه إذا أساء إليك أخوك أنك أولاً وقبل كل شيء ممتحن من الله، نحن بحاجة إلى من يغذي قلوبنا عند حصول الفتن، فقد تحصل بعض الخلافات فلا يوجد أحد كامل، فرب يوم من الأيام يزل أخوك بكلمة أو تخرج من فمه زلة، أو يذكر أمراً من أمور الجاهلية؛ فما العمل؟ جاء الإسلام بالعلاج، جاء بالعلاج حينما ذكرك بأنه ينبغي عليك أن تعامل الله عز وجل وأن ترجو الله والدار الآخرة.
وكيف ترجو الله والدار الآخرة؟ ترجو الله والدار الآخرة حينما تقول لأخيك: أنا عاف عنك لوجه الله.
هذه الكلمة لها ثقل عند الله.
كأنك تقول: أنا لا أعفو إلا من أجل أنني إذا لقيت الله أجد عنده حسنة هذا العفو، لوجه الله أي: من أجل وجه الله عز وجل.
ولذلك ثبت في الأثر وقد حكاه بعض أهل التفسير في قوله تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134] ورد في الأثر أن الله تبارك وتعالى يقول: (من كان أجره على الله فليقم - في عرصات يوم القيامة- فتقول الملائكة: ومن هذا الذي أجره على الله؟ يقول النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلا يقوم إلا من عفا عن ذنب).
وهذا من أسمى ما يكون المنهج؛ لأن منهج التشريع كماله أن يضع المشرع فرضاً واحتمالاً بأن تقع خلافات، فالشريعة حببت الأخوة وذكرت ثمارها في الدنيا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتواصي في طاعة الله، وذكرت ثمارها في الآخرة من الشفاعة، وجاءت بالفرض المحتمل وهو فرض الخلافات، فعالجت المختلفين، وأيضاً عالجت من خارج المختلفين، عالجت المختلفين حينما أمرتهم أن يقولوا التي هي أحسن، وعالجت من خارج المختلفين: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] كأنهم ما خلقوا إلا من أجل الأخوة: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات:10] عالجت من الخارج وعالجت من الداخل ثم كذلك حببت فيما عند الله عز وجل من الأجر، والفضل والثناء وحسن الذكر.
ووالله لن يتسع صدرك لأذية مؤمن يؤذيك فترجو رحمة الله ويتسع صدرك وتقول: أنا عاف لوجه الله إلا رفع الله قدرك، ففي الصحيح عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً) لا تظن أنك إذا عفوت ذليل، لا، صحيح أن الذلة للمؤمن مستحبة: {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] أقوام ليل وصوام نهار لا.
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54].
هذا أول شيء، كيف أذلة على المؤمنين؟ بمعنى أنه إذا أساء إليه الغير لا يقابل الإساءة، بل يذل له؛ لأنه يأتيه الشيطان ويقول له كيف تترك؟ أنت ضعيف أنت جبان أنت تخاف، يقول: نعم ضعيف جبان أمام لا إله إلا الله، أريد أن أنتقم لكن بيني وبينه كلمة " لا إله إلا الله " لا أستطيع أن أضرب مسلماً، وهذا يدل على كمال الإيمان، يدل على أن الإيمان قد توغل إلى أعماق ذلك الفؤاد وذلك القلب.(16/9)
إبليس وتفريق قلوب المؤمنين
إن هناك أعداء أعظمهم عدونا إبليس الذي أقسم على تفريق هذه القلوب، هذا العدو دائماً يأتيك بالضغائن وبالمنغصات التي تنغص الأخوة، ولذلك يقع الخطأ من بعض إخوانك - مثلاً - يمر عليك ولا يسلم لكونه مشغول البال، فيأتيك الشيطان فيقول: فلان لا يحبك، فلان يكرهك، فلان يخالفك، فلان كذا وكذا، وهكذا وحتى تتربى أو يتربى في ذلك القلب الحقد على أخيه المسلم؛ فلذلك يحذر المسلم إذا جاءته وساوس الشيطان أو ألمت به خطرات ذلك العدو اللدود برئ إلى الله وضرع إلى الله فقال: أعوذ بالله، قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] قل لعبادي، أي: قل لأهل الإيمان، قل للذين يرجون لقائي، انظر أسلوب التشويق، ووالله بمجرد ما تقرأ بداية الآية: (قل لعبادي) كأنها تشعر بأن الذي يتخلق بهذا الخلق عبد صادق لله.
قل يا محمد لعبادي الذين يرجون لقائي ويرجون محبتي، قل لعبادي وينسبهم إليه جل شأنه مثلما قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الفرقان:63].
يقول بعض العلماء: من أجل الأوصاف وصف العبد بالعبودية لله، ولذلك لما أراد الله أن يشرف نبيه قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] فرفعه وشرف قدره، كذلك أهل الإيمان شرفهم فقال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] إذا جاءك إنسان بضغينة أو جاءك فقال لك: فلان يقول كذا وكذا، فهناك حسن وهناك أحسن ما قال: يقولوا حسنى، بل: يقولوا التي هي أحسن أفعل التفضيل، يدل على أنك لا تبادل الإساءة بالإساءة؛ لأنه إذا أساء الغير فمن حقك أن ترد الإساءة بالإساءة، ولكن الأحسن أن ترد الإساءة بالإحسان: {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] يقول تعالى مبيناً فضل عباده المتقين: {فَبَشِّرْ عِبَادِ} [الزمر:17] من هم يا رب؟: {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر:18].(16/10)
وصية في الأخوة
إخواني! هذه وصية أقولها لأننا تمزقنا، أقولها لأننا تفرقنا، لأنه دخلت بيننا دواخل كثيرة وأصبحنا والله نعايش آلاما، أصبح الإنسان في بعض الأحيان يشتكي أموراً والله قد لا تحصل بين أهل الدنيا، وتعتبر من أهم الأمور الموجبة للقطيعة فكيف بأهل الإيمان؟ لماذا هذه الشحناء ولماذا هذه البغضاء؟ هل يتصور إنسان مسلم أخاه لله وفي الله سمته سمت صالح يمر ولا يسلم عليه؟ والله إنه لأمر لا يمكن أن يحتمله قلب، لا أتحمل إنساناً مسلماً يمر سمته الصلاح ولا يسلم علي أو لا أسلم عليه، أعتبرها كأنها جريمة، وهي ليست جريمة في الشرع بل السلام مندوب ومطلوب، ولكن هذه الأمور من دعائم الإيمان، وهذا يدل على ضعف الإيمان في القلوب، ولذلك ينبغي أن نحيي هذا الأمر، والله تبارك وتعالى بين أنه يوجد في كتابه وسنة نبيه صلوات الله وسلامه عليه ما يجمع القلوب، ولذلك ليس هناك أخوة أصدق من أخوة أهل الإيمان، وليس هناك أخوة أصدق من أخوة المسلمين بعضهم مع بعض، فلذلك إخواني! أمامنا كتاب الله الذي هو الحبل بيننا والرابطة لنا، عليها نجتمع، وعليها نأتلف، ومن أجلها نقول، وبها نصول ونجول.
هي كلمة الله؛ كلنا قد رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً.
ما المانع أن يهش المؤمن لأخيه إذا لقيه وأن يسأله عن حاله، وأن يتفقده ولو لم يكن يعرفه؛ لأن ذلك من أدعى ما يكون من وشائج الإيمان.
تصور لو أن إنساناً غريباً نزل بين المسلمين -وهو مسلم- فوجد هذا يسلم عليه، ووجد هذا يهش له ويبش، كيف يكون أثر الإيمان؟ يزداد إيماناً ويزداد ثباتاً.
لكن، نخشى والله أن نكون حجر عثرة أمام المهتدين إلى طاعته، والله نخشى من ذلك، ولذلك عندي وصية أخيرة أوصيكم بها ونفسي، وأوصي الدعاة والمربين والإخوان بها.
الشباب المهتدون الذين هم في بداية الطريق إلى الله، أوصيكم يا إخوان، وأوصيكم أن توصوا إخوانكم بهم خيراً، والله إنهم أمانة في أعناقنا، الشاب إذا ابتدأ في الهداية يكون عنده طاقة عجيبة من الإيمان فأقل شيء قد يؤثر عليه، وأقل تصرف من الصدود أو الإعراض أوالاحتقار أو النظر إليه كأنه حديث عهد بجاهلية، يكون له أثر لا يعلمه إلا الله، وقد انتكس البعض -والعياذ بالله- وهو في ميزان سيئات من كان السبب في انتكاسته والعياذ بالله، فإياك أن تكون رحمك الله ذلك الرجل الذي يكون حجر عثرة في طاعة الله ومرضاة الله.
افتح صدرك لعبد يريد أن يقبل على الله وإذا لم تنفتح صدورنا لأمثال هؤلاء التائبين المنيبين المنكسرين لرحمة رب العالمين فلمن تنفتح؟ وأقسم بالله العظيم أنني أعرف بعض المجالس للتائبين حديثي التوبة أجد فيها من الرقة والخشوع وحلاوة الإيمان ما لا أجده في بعض الأحيان في مجالس بعض طلاب العلم، أقولها عن تجربة! وجدت فيهم من الصدق ومن حلاوة الإيمان شيئاً عجيباً، وفيهم خصال عجيبة من الإقبال على الهداية وتحس كأنه يريد أن يبتلعك من شدة ملازمتك، فبعض الأحيان يتضايق بعض الشباب يحس أنه دائماً وراءه وراءه يسأل ويقول: ما هذا الرجل؟ فسرعان ما ينفر منه، لا.
إياك أن تنفر منه، يعطيك بعضه أعطه كلك، يعطيك شيئاً يسيراً أعطه شيئاً كثيراً، فوالله ما وجدنا في ذلك إلا كل خير، ومن فتح لهم صدره فإنه مرحوم برحمة الله، وهو الموفق وهو السعيد، فالله تعالى يعاتب نبيه من فوق سبع سماوات على أعمى جاء يريد من يهديه إلى سواء السبيل، وهو لم يهتد يريد من يهديه، عاتبه الله من فوق سبع سماوات، سبحان الله! فكيف بمن اهتدى؟ {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:1 - 3] إلى الآن ما اهتدى {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس:3 - 4] يعاتبه الله عز وجل في ذلك وهو ما اهتدى فكيف بمن اهتدى؟ ولذلك والله أخشى في بعض الأحيان منهم، أخشى أن أحدهم يكون سبباً في طريق لي إلى النار إذا قصرت معه، والله لا أقولها مبالغة، أخشى أن تخرج مني فلتة يغضب الله عزوجل عليّ بها أو يمقتني الله عز وجل بشاب يمتلئ قلبه من الإيمان، يريد أن يتوجه إلى الله فآتيه بكلمة تثبطه عن طاعة الله، أو آتيه بكلمة تحقره أو آتيه بكلمة أقتل فيه روح الإيمان والحماس في طاعة الله، هذه وصية أقولها عن معاناة الشباب حديث العهد بطاعة الله، افتحوا لهم صدوركم، وحببوهم واشرحوا لهم الصدور.
فبعض الإخوان لا يألف إلا لإخوان لهم قدم سابقة في الهداية، والله ما ندري من المقبول ولا ندري من المحروم والأمور مردها إلى الله، فلا تحتقر عبداً يريد أن ينيب إلى الله؛ فإن الله عز وجل نهى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يعرض عن مجالس أمثال هؤلاء فلذلك هذه وصية أقولها عن معاناة عاناها بعض الشباب واشتكى من ذلك.
فرفقاً رفقاً يا دعاة الإسلام، ورفقاً يا هداة الإسلام، ورفقاً يا أساتذة، ورفقاً يا معلمين، رفقاً يا مربين، فكل مسلم مطالب أن يرفق بأمثال هؤلاء المهتدين، وأن يحس بأنه على خير، إذا جلس مع مثل هؤلاء أشعره بأنه قد أصاب خيراً، وأنه قد أصاب رحمة من رحمات الله، وينبغي أن تشعره أنه في بداية طريق خاتمته السعادة الحقيقية ونهايته الفوز برضوان الله تبارك وتعالى.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم من المؤمنين الذين حققوا الإيمان صدقاً، ونسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم من المتحابين في جلاله الذين يظلهم في ظله يوم لا ظل إلا ظله إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وختاماً جزى الله من تسبب في هذا المجلس المبارك كل خير، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(16/11)
الأسئلة(16/12)
النصيحة للعاصي
السؤال
كيف أنصح أخي إذا رأيته على خطأ؟
الجواب
نأخذ بوصية الشيخ حماد، يقول: إذا حضر الهرس بطل الدرس، كيف تنصحه أولاً: إخلاص، أسلوب حسن، ووقت مناسب، وإن شاء الله وبإذن الله عز وجل تأتي النتيجة، يعني تحاول أن تخلص وأن يكون الأسلوب حسناً والوقت مناسباً، فبإذن الله عز وجل يكون هناك أثر، غالباً بعد انتهائه من المعصية أو الخطأ انصحه حتى تعرفه بقيمته تقول له: ما الذي استفدت الآن؟ فهذا إن شاء الله إذا صدق العبد مع الله صدق الله معه.
والله تعالى أعلم.
هذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(16/13)
جوانب من حياة الشيخ في طلب العلم
السؤال
كثير من الإخوة يرغبون أن يتكلم الشيخ عن حياته في طلب العلم؟
الجواب
باسم الله، والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: أما طلبي للعلم فأسأل الله العظيم أن يجزي الوالد كل خير، وأحمد الله تبارك وتعالى أن هيأه لي وسخره لي، وما كان العبد ليصيب ذلك لولا فضل الله، كان رحمه الله حريصاً على أخذنا إلى مجالسه في الحرم وإحضارنا في دروسه في البيت، وكنت من الصغر أحياناً أنام في حجره في الحرم رحمة الله عليه؛ لأنه كان يدرس بعد الفروض كلها عدا فرض العصر يكون في درسه في البيت.
فلما بلغت الخامسة عشرة أمرني أن أجلس بين يديه وأن أقرأ عليه دروس الحرم فابتدأت معه بسنن الترمذي وتعرفون بداية واحد مثلي بداية ضعيف، يعني: أمام جمع من الناس في داخل الحرم، ولكنه أراد رحمة الله عليه أن يشحذ الهمة وكان يحسن الظن بي كثيراً، وأسأل الله عز وجل ألا يخيب ظنه فيّ، فابتدأت بقرءاة سنن الترمذي ثم انتهيت منه، فابتدأ بالموطأ وختمته عليه، ثم بعد هذا ابتدأت بسنن ابن ماجة، وتوفي رحمه الله ولم يكمله ونسأل الله أن يكتب له أجر إكماله هذا بالنسبة للدرس الأول الذي بعد المغرب.
ثم يأتي طالب ويقرأ عليه درساً في اللغة، ثم طالب يقرأ عليه درساً في الفقه، وكنت أحضر معه، وبعد العشاء قرأت عليه صحيح مسلم حتى ختمه ثم ختمه الختمة الثانية وتوفي في آخرها.
ومن غريب ما يذكر أنه توفي عند باب فضل الموت والدفن في المدينة، وأذكر أنه ذكر في آخر مجالسه حديث فضل الدفن في المدينة وهذا الحديث قد قرأته عليه قرابة أربع مرات في صحيح البخاري، وكذلك في صحيح مسلم ولا أذكر أنه دعا إلا في آخر مجلس من حياته وكان صحيحاً ليس به بأس، فبعد أن ذكر الفضل وذكر أقوال السلف رحمهم الله، قال: وأسأل الله جل وعلا أن لا يحرمنا ذلك فأمن الحاضرون، ولا زلت أذكرها حتى قلت: من تأمينك مثل آمين في الحرم من كثرة الحضور رحمة الله عليه في درسه، فكنت حافظاً لذلك المجلس لأنني أعرف في العادة يمر على هذا الحديث وما دعا.
ثم في الفجر كان يقرأ بعد صلاة الفجر التفسير حتى تطلع الشمس، وأما بعد صلاة الظهر فقد كنت أقرأ عليه صحيح البخاري حتى ختمته، ثم أيضاً ابتدأ قراءة ثانية فتوفي ولم أكملها عليه.
وأما بالنسبة لقراءتي الخاصة عليه، فقرأت عليه في الفقه: قرأت عليه متن الرسالة حتى أكملته، وقرأت عليه في بداية المجتهد من مذاهب العلماء والفقهاء شيئاً كثيراً من مسائلها وكنت أحررها وكان رحمه الله واسع الباع في علم الخلاف، ويذكر الأدلة لكن كان عنده ورع في الترجيح، وأما بالنسبة لعلم الأصول: فقرأت عليه لكنه كان رحمه الله لا يحب كثرة الجدل الموجود في علم الأصول -كما تعرفون أن علم الأصول يقوم على المنطق في كثير من مسائله- فكان إذا دخلت معه في المنطق يقول: قم -يطردني- لأنه كان يرى تحريم المنطق وهذا قول لبعض العلماء وإن كان اختيار بعض المحققين منهم شيخ الإسلام بالتفصيل.
كما أشار إلى ذلك الناظم بقوله: وابن الصلاح والنووي حرما وقال قوم ينبغي أن يعلما والقولة المشهورة الصحيحه جوازه لكامل القريحه ممارس السنة والكتاب ليهتدي به إلى الصواب المقصود: أنا أدلل بهذه الكلمة ما استوعبت معه جانب الأصول من ناحية المنطق والخلافات، وكان هناك بعض المشايخ ممن له قوة باع في المنطق، قرأت عليهم بعض المسائل التي أرجو من الله تعالى أن يكون فيها تعويض لبعضها.
أما بالنسبة للمصطلح: فقرأت عليه بعض المنظومات منها: منظومة البيقونية، وكذلك طلعة الأنوار، وكذلك قرأت عليه في تدريب الراوي جزء منه رحمة الله عليه.
وأما السيرة فكان له درس في رمضان يقرأ فيه البداية والنهاية وكان رحمه الله في التاريخ شيء عجيب، أذكر أن الشيخ: ابن عثيمين يقول لي: والدك يحفظ البداية والنهاية.
قالها عن معرفة رحمة الله عليه، كان يلم ومعرفته بالتاريخ والأنساب عجيبة، وهذا العلم الحقيقة قصرت فيه ولم آخذه، ويعلم الله عز وجل ما كان يمنعني منه إلا خشية أن الإنسان يأتي ويقول: إن هذه القبيلة تنتهي إلى كذا فيتحمل أوزار أنساب أمم هو في عافية عنها.
لكن الحمدلله في الفقه والحديث والعلوم التي أخذتها عليه - إن شاء الله - غناء عن غيرها.
جوانب من طلب العلم: كان رحمه الله قوياً في طلب العلم، وكان لا يقبل كل طالب علم -يعني: لا يحتضن أو يضم كل طالب علم إليه- لا يضم إلا الفذ الصابر، وذلك له أثر لأنه هو بدايتة كانت بهذه الطريقة، كان رحمه الله من المعروف عنه يقول لي العم محل إجماع عندنا في القرابة: أن والدك رحمة الله عليه ما عرفت له صبوة إلى الحرام من الصبا وكان معروفاً لا يعرف ضياع الوقت، وكان وهو ابن تسع عشرة سنة يرتحل إليه في علم رسم القرآن من إتقانه رحمة الله عليه، ونزل عند بعض مشايخه وكان لا يأتي لقرابته إلا بقدر ما يسلم ويؤنسهم ثم ينطلق إلى دروسه.
هذا كشاهد على صبره في طلب العلم وأنه لا يقبل كل أحد، أذكر منه -رحمه الله- أنه يذكر عن بعض مشايخه أنه سهر الوالد سهر في الليل وهو يراجع درسه في القرآن أيام ما كان يحفظ، أظن أنه استظهر القرآن وهو لم يتم الحادية عشرة من عمره، المقصود أنه سهر الليل في مراجعة حزبه ثم لما صلى الفجر ارتاح قليلاً فمر عليه شيخه -تعرفون التعليم في البلاد خاصة في قضية التحفيظ هذه لها طابع خاص وفيه من الضرب والتأديب شيء لا يخطر على البال- فلما نام بعد صلاة الفجر مر عليه شيخه وركضه برجله وقال: له يا مخيتير ما بلغت الساعة التي تنام، ما بلغت من العلم ما يؤهل لك أن تنام مثل هذه الساعة.
يقول: فقمت من ساعتي أراجع حفظي، يعني: من شدة الضبط والتحرير، وكان عنده همة وكان من أهم الأمور التي رأيتها فيه أنه لا يحب ضياع الوقت، يمكن أن يقبل كل شيء إلا ضياع الوقت، يدخل البيت أول ما يستفتح يصلي ما كتب له، ثم -والله يا إخوان- ينقلب على فراشه والكتاب في حجره، آتيه بمشكلة معضلة يلتفت إليّ فقط والكتاب في حجره، ماذا تريد؟ أقول: كذا وكذا، يقول: افعل كذا وكذا ثم يلتفت إلى الكتاب.
همة عجيبة، لما هاجر من البلاد وخرج -رحمة الله عليه - خرج بكتبه وعزت عليه الكتب في شدة البرد وضعها على جراب من جلد، يقول: إنه لما حملها وكثرت تفسخ معه جلد ظهره، ومع ذلك عزت عليه الكتب أن يفرط فيها، فالأولون الحقيقة كان لهم همة.
وذات مرة كأني أعتذر من كثرة المشاغل علي معه رحمة الله عليه ما كنت أفارقه أحمد الله تبارك وتعالى وأشكره، ولو أني الطالب المهمل والتلميذ المقصر كان رحمة الله عليه في آخر حياته لا أفارقه حتى إذا جاء ينام لا أفارقه حتى يرتاح، وأسأل الله أن يتولى عني حمد هذه النعمة، فأنا أحقر في حمدها ومقصر في شكرها، كنت أعتذر أحياناً بالتعب فذات مرة كنت أراجع مسألة فتعبت، قال: سبحان الله! والله يا بني! لقد كنت أوقظ الفتيل لأقرأ المسألة فيمتلأ الدخان في أنفي حتى لا أعي ما أقرأ - من شدة الدخان- يقول: فأطفئ الفتيل ثم أوقده ثم أطفئه ثم أوقده إلى قرابة منتصف الليل حتى أستظهر المسألة، فأنت الآن في مصباح وفي براد وفي كذا وفي كذا يعني: يحقر منه.
وإذا أخذ كتاباً وقرأ نسي الدنيا وما فيها، قصة طريفة تخبرني بها الوالدة: ذات مرة كان يقرأ في كتابه فجيء له بحليب فبرد الحليب فوضع الدفاية الصغيرة حتى يسخن الحليب، ثم جلس يقرأ، طبعاً فار الحليب واشتعل ناراً ودخن في الغرفة وما انتبه له إلا الوالدة من الغرفة الثانية وهو جالس يقرأ في كتابه، كان عنده انصراف عجيب، إذا أقبل إلى العلم أعطاه كله، وإذا أعطى لك المسألة يعطيها عن تحرير، وقل أن يقدم على الشيء إلا وهو يحسنه، أما الشيء الذي لا يحسنه ما يقدم عليه رحمة الله عليه.
أما الجوانب التي يحفزني فيها في طلب العلم فمن أهمها: كان يعتني بجانب الإخلاص ويعلم الله كم له من كلمات، والله إلى اليوم في قلبي كلمات يسيرات لكن كانت تقرع القلب، وكان يحرص أن يكون العلم هذا لوجه الله، إنه لا يراد به إلا ما عند الله عز وجل، وهذا جانب في الحقيقة أحوج ما يكون إليه طالب العلم، وهو بداية النجاح والفلاح والتوفيق في طلب العلم.
الأمر الثاني: من الأمور في طلب العلم، أنه يعتز ويفتخر إذا جئت تسأل ويعطيك الوقت، والله أحياناً يكون مريضاً وأذكر أن بعض الدروس كان يأتيه الطلاب وهو في الحمى رحمة الله عليه ومع ذلك لا يعتذر وينزل ويصبر، حتى أذكر أنه مرض فجئته بالطبيب بعد ذلك، قال الطبيب: كيف أعالجه وهو جالس -وليس متصور- يقول كيف هذا جالس؟ كان عنده صبر وجلد وتحمل من أجل العلم، ومع ذلك لا يعد نفسه شيئاً رحمة الله عليه، أسأل الله عز وجل أن يجزيه عن المسلمين خير الجزاء.
وكان دائماً ينبه على قضية أن العلم مشاع، وأنه لا يحتكر، وأن المقصود به نشره وبذله، وكان يقول: إذا جاء السائل إن كنت نائماً فأيقظوني، وإن كنت بين الأهل فآذنوني ولا تمنعوا السائل عني، ولو كان من أحقر العباد، والله يأتيه الرجل من البادية مرقع الثياب، يقول: أين الشيخ؟ عندي فتوى نقول: عندك فتوى نذهب نوقظه من النوم في الظهيرة وينزل ولا يمل ولا يسخط ويجيب له سؤاله، ويأتي الرجل من علية القوم ورفعة القوم يقول: أريد أن أودعه لأنني مسافر نقول له: نائم لا نستطيع أن نوقظه، كان من يريد العلم أو الفائدة لا يضن به عليه، في الحقيقة حياته سجل.
أما بالنسبة للقراءة العامة في الجامعة فكما هي معلومة عند الجميع.
ولولا إلحاح الإخوان والله ما كنت أريد أن أتكلم بهذا ولكن نسأل الله أن ينفع بها.(16/14)
أن تقول نفس يا حسرتا
في هذه المادة يعرض الشيخ لآيات في كتاب الله تصور حال العصاة، وتحذرهم من الوقوع فيما يندمون منه يوم القيامة، مع بيان حكم هجران الأهل بسبب المعاصي، وأسباب التردي في المعاصي، والعلاج للخروج من هذه الحال، وبيان الأسباب التي تلين القلوب.(17/1)
وقفة مع سورة الزمر
الحمد لله الذي يقبل توبة التائبين, ويمحو بفضله وعفوه وحلمه إساءة المذنبين, الحمد لله الذي وسعت رحمته كل شيء وهو أرحم الراحمين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الأمين, صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين, وصحابته الغر الميامين, وعلى جميع من سار على نهجهم واهتدى بهديهم إلى يوم الدين, وحشرنا وإياكم معهم بمنه وكرمه وهو أرحم الراحمين, أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته إخواني في الله! آية من كتاب الله، وكلمة عظيمة جليلة كريمة من كلام الله, وموعظة بليغة من مواعظ الله, ما وقف أمامها مذنب إلا رجع إلى ربه وتاب, ولا تفكر فيها ولا تدبر مسيء مخطئ إلا أناب, آية من الكتاب أخذت القلوب إلى رحمة الله رب الأرباب, جاءت هذه الآية بين ثنايا تلك السورة الجليلة العظيمة الكريمة التي سماها بعض العلماء رحمهم الله بسورة التوحيد والإخلاص, استفتحها الله رب العالمين ببيان نعمته ومنته على العالمين, فشهد الله أنه أنزل على رسوله ذلك الكتاب المبين, ثم انتقلت تلك الآيات بعضها تلو بعض, تقرر معالم التوحيد وتدل على عظمة الله الحميد المجيد, انتقلت تلك الآيات لكي ترسم مناهج الحنيفية وتبطل شعارات الوثنية والجاهلية, ثم ما هي إلا آيات حتى أخذت القلوب إلى الدار الآخرة فذكرت العباد بيوم المعاد, وذكرت كيف يتفرق الآباء والأولاد, وكيف يخسر الآباء أبناءهم, والأمهات بناتهن, وكيف يفرق بين العزيز وأخيه, وأمه وأبيه, وصاحبته وبنيه, وحكمت بأن هذا الفراق هو الخسارة التي لا تطاق {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] يوم فارق الأب ابنه فراقاً لا لقاء بعده, وفارقت الأم ابنتها فراقاً لا لقاء بعده {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
فرجفت القلوب من خشية ربها، وأنابت إلى الله خالقها من عظيم ما وقر في مسامعها, أن يفرق بين الحبيب وحبيبه، فأصابتها خشية الله فما هي إلا آيات حتى أتتها رحمات الله, فذكر الله بأهل الجنان, وما هم فيه من الروح والريحان, ومنازل العفو والصفح والرحمة والرضوان, يوم هم في غرف مبنية بعضها فوق بعض قد أصابهم من الله ما أصابهم من الرحمة المرضية.
ثم انتقلت تلك الآيات العظيمة وأنت تعيش بينها في تلك السورة الجليلة الكريمة فذكرت تلك القلوب الغافلة، وذكرت القلوب المنتبهة, فبينت أحوال القلوب وكيف حالها تجاه أمر الله علام الغيوب, وذكرت أن هناك قلوباً رقيقة لا تحتمل كلام الله حتى تجل من خشية الله, إنها القلوب التي قُرعت بكلام الله فاقشعرت جلودها من خشية الله {كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الزمر:23] فما أحلى كلام الله في قلوب أولياء الله, وما أطيب تلك القلوب يوم تفتحت لكلام الله, وما أسعد تلك الجوارح يوم خشعت وسكنت وذلت لجلال الله.
ثم انتقلت تلك السورة العظيمة فضربت معالم الحنيفية، وأقامت الدلائل على العقيدة المرضية, ضربت مثل الموحدين ومثل المشركين والوثنيين في أصدق العبارات وأبين الدلائل والعظات, ثم وقفت تلك الوقفة العظيمة التي لما قرأها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رقت قلوبهم لها وأذعنت لجلالها، إنها الوقفة التي نعى الله عز وجل فيها نبي الهدى صلى الله عليه وسلم إلى الملأ فأخبر أنه ميت وأنه إلى الله صائر, يوم أن نعى الله عز وجل نبي الهدى إلى الأمة والملأ فأخبر أن لا خلود وأنه سينتقل من هذا الجوار إلى جوار الله الواحد القهار.
ثم أخبر أن هذه السنة سيتبعه عليها خلائق, لا يعلمهم إلا الله ولن يستطيع أحد أن يفوتها, ولن يستطيع أحد أن ينجو منها {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] إنها الآية التي إذا قرأها المؤمن هانت عليه الدنيا وعلم أن أيامه فيها قليلة, وأن حياته فيها محدودة, وأن ساعاته معدودة, يوم يحس أن أفضل الخلق وأشرف العباد وأحبهم إلى الله قد صار إلى الله فكيف بمن سواه؟! {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر:30] وإذا بالقلوب تتساءل: فما الذي يكون؟ وما الذي يحدث لهذا الكون؟ فأخذ الله عز وجل بمجامع القلوب إلى ذلك اليوم المشهود واللقاء الموعود، إلى تلك المشاهد العظيمة فعبر عنها في آية واحدة كريمة, وإذا بالقلوب تنتقل إلى مشهد من المشاهد بين يدي الله علام الغيوب, إنه المشهد الذي تطول فيه الخصومة, إنه المشهد الذي يعظم فيه السؤال والحكومة, إنه مشهد ديان يوم الدين, يوم يأتي الله لفصل القضاء، يوم يحكم الله بين العباد ويؤذن للأشهاد: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا} [النحل:111] يوم يأتي الصغير والكبير, يوم ينكشف الجليل والحقير, يوم يسأل عن الخردلة والقطمير والنقير.
{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] يوم يخاصم الابن أباه, وأخته وأخاه, يوم يخاصم الزوج زوجه, وصاحبته وبنيه, إنه اليوم العظيم الذي تطول فيه الخصومة بين يدي الله الجليل العظيم {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:31] يوم تنقطع المعاذر، وتغص الحناجر، وتخشع القلوب، وتعنت الوجوه للحي القاهر.(17/2)
مواعظ وعظات من سورة الزمر
ثم انتقلت تلك الآيات الكريمة في عظات عظيمة حتى وقفت مع المذنبين، ووقفت مع المسيئين المخطئين يوم ثقلت أحمالهم من الذنوب, وعظمت إساءتهم عند الله علام الغيوب, فنادتهم نداء الرحمات، وفتحت أمام أبوابهم المغفرات فناداهم الله فاطر الأرض والسماوات نداءً يهز القلوب، ويعظم رجاءها في الله علام الغيوب, يوم يحس العبد بعظيم إساءته, وجليل ذنبه في حق ربه, فإذا بالأبواب تفتح، وإذا بالنداء يقرع القلوب والأسماع, ألا يخيب الرجاء في الله جل جلاله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] يوم زل اللسان, وزل الجنان, وأخطأت الجوارح والأركان, يا من حملتم ذنوبها, يا من عظمت عليكم إساءتها؛ إني لها وكفى بالله لها, يوم يحس العبد بطول غربته, وبعده عن ربه وعظيم إساءته فيناديه الغني الحليم، ويناديه الجليل الرحيم: ألا تيئسوا من رحمة الله أرحم الراحمين.
علم الله جل جلاله أن ليس للذنوب أحد سواه, وأن ليس للعيوب أحد عداه, فناداهم وهم في الذنوب غارقون, ودعاهم وهم في الإساءة يتهافتون, ثم بين جل جلاله أن هذا النداء قد وقتت أوقاته، وحددت ساعاته ولحظاته، فقبل الفوات قبل الممات, قبل الفوات قبل الفوات، وقبل الممات قبل الممات: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] يناديهم لكي يتداركوا, لكي يقبلوا ويجذبوا, لكي يقبلوا على الله جل وعلا وينيبوا {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] إنها النفس الظالمة, إنها النفس الآثمة, إنها النفس الظلومة الغاشمة التي ما تركت باباً من الذنوب إلا قرعته, ولا باباً من الإساءة إلا ولجته, أن تقول: يا حسرتى!! وما أعظم الحسرة إذا خسر أصحابها, وعظمت خسارة أربابها, وخرجوا من الدنيا صفر اليدين من رحمة الله! ما أعظمها من خسارة إذا طويت الصحائف باللعنات! ما أعظمها من خسارة يوم يطبع على القلوب! يوم يتأذن غضب الله علام الغيوب؛ من عظيم الإساءة وعظيم الذنوب, ما أعظمها من خسارة يوم لا يستطيع الرجوع، يوم لا تنفع المعذرة ولا تغني الدموع, يوم يتقطع القلب من الألم، ويعتصر من شديد الندم! أن تقول نفس ومتى تقول؟ حين تضع آخر أقدامها من أعتاب هذه الدنيا وتستقبل الدار التي هي غريبة عليها, يوم تنقطع المعاذر, وتغص السكرات في الحناجر, ويصير العبد ذليلاً حقيراً إلى الله الواحد القاهر: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى} [الزمر:56] يا حسرتى يوم طال السهر، يا حسرتى يوم ضاعت الأعمار, يا حسرتى على الساعات واللحظات, يا حسرتى على الليل والنهار, يا حسرتى على أصحاب لم ينفعوا, يا حسرتى على أحباب لا يشفعون, يا حسرتى على عمر مضى وزمان ولّى وانقضى, يا حسرتى إذا كشف الديوان بخطيئة اللسان وزلات الجنان, يا حسرتى يوم يعرض على الله حافياً عارياً, يا حسرتى إذا عرض الشباب وما فيه من خطأ وصواب, ولم يفقد العبد فيه زلة ولا حسنة بين يدي الله رب الأرباب, يا حسرتى على ثلاثين عاماً أو أربعين أو خمسين أو ستين حين يلقى العبد بها الله رب العالمين.
{يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] ذهب الليل فما تمتعت عيني بالبكاء فيه من خشية الله, ذهب الليل وما تمتعت قدمي بالوقوف بين يدي الله, يا حسرتى يوم يذهب العمر دون وجود الغنيمة والذخر, يا حسرتى يوم مضى ليله وطلعت شمسه ولم تنعم يداه بالسجود بين يدي الله, يا حسرتى على صلاة أضعتها, يا حسرتى على زكاة منعتها, يا حسرتى على أيام أفطرتها, يا حسرتى على ذنوب فعلتها, يا حسرتى على خطايا تلبست بها, يا حسرتى إذا كشف الديوان وعظم الوقوف بين يدي الله الواحد الديان! يا حسرتى وهل تغني الحسرات؟! يا حسرتى وهل يؤذن بالرجوع عند الممات؟ يا حسرتى يوم لم أشكر النعم, يا حسرتى يوم لم أشكر الله على دفع النقم, يا حسرتى يوم لم يلهج لساني بذكره, يا حسرتى يوم لم يتلذذ لساني بشكره, يا حسرتاه يوم فاز الفائزون, وغنم الغانمون, وجئت صفر اليدين مما هم فيه يتنعمون, يا حسرتى يوم فاز الصالحون بالدرجات, وسموا إليها بنفوس عاليات أبيات, ووقفت في الأخريات أنظر إليهم بتلك الحسرات, يا حسرتى لو كنت مطيعاً على ما فرطت في جنب الله إذ كنت مستطيعاً, يا حسرتى يوم يلفظها اللسان ويعتقدها الجنان فيخرج كل حرف منها من كل عضو وأركان.
يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله لعظيم حقه عليّ, وجليل منته لديّ, فكم أنعم وتفضل وكم وهب وأجزل, سبحانه العلي الأكمل.
يا حسرتى يوم لم أعظمه حق تعظيمه, ولم أمجده حق تمجيده, يا حسرتى على التفريط في جنب الله, يوم فتحت لي أبواب الخيرات فقلت: هيهات هيهات!! ما زالت الأعمار والبقيات {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56] يقولها المذنبون, ويوقن معناها المسيئون المخطئون.
يا حسرتى ولو كان العبد مطيعاً, يا حسرتى ولو كان العبد خيراً ديناً مستقيماً؛ ولذلك سمى الله ذلك اليوم المشهود واللقاء الموعود بيوم التغابن؛ لأنه ما من نفس إلا وهي في غبن ولو كانت من نفوس الصالحين, في غبن أن لم يفوزوا بالخيرات, ولم يستكثروا من الطاعات, في غبن أن لم يفوزوا بالرحمات ولو كانوا على خيرات وحسنات.
{يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] فويل لذلك اللسان الذي تمتع بالسخرية من أولياء الرحمن, إنها الكلمة التي يقولها من زل لسانه وخاب جنانه، وأساءت جوارحه وأركانه, يا حسرتى يوم ضحكت من المطيعين, واستهزأت بعباد الله الصالحين, يا حسرتى يوم نظرت إليهم وهم ذاهبون إلى المساجد فقلت: إلى أين يذهبون؟! يا حسرتى يوم رأيتهم مع كل راكع وساجد فقلت: لماذا يتعبون؟! يا حسرتى إذ لم أقدر الله حق قدره, فاستهزأت بعباده واستخففت بأمره.
{يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] وما زالت آيات هذه السورة الكريمة الجليلة العظيمة تهز كيان المؤمنين, وتوقظ عباد الله الغافلين, إنها سورة الزمر، سورة التوحيد والإخلاص, ما من آية من آياتها إلا وتحتاج وقفة معها.
سورة تهز القلوب والمشاعر, سورة تحيي القلوب والضمائر, سورة تعيش فيها مع أهل النعيم في نعيمهم فكأنك في الجنان تقطف من ثمراتها, وتنال ما فيها من خيراتها, وتعيش مع أهل الجحيم في دركاتهم, فكأن زفير جهنم لتلك القلوب بين آذانهم.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى: اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت العظيم ألا تجعلنا من أهل هذه الكلمة, اللهم إنا نعوذ بك أن نكون من أهلها, اللهم إنا نعوذ بك أن تنطق ألسنتنا بها, اللهم حرمها على ألسنتنا، اللهم حرمها على ألسنتنا، وأخرجنا من الدنيا وأنت راض عنا, اللهم إنا نسألك فعل الخيرات, وترك الفواحش والمنكرات, قبل أن يدهمنا الممات, يا حي يا قيوم، يا فاطر الأرض والسماوات.
اللهم استر عوراتنا, اللهم آمن روعاتنا, اللهم أمِّن يوم الوعيد خوفنا, اللهم استر عوراتنا فيه, اللهم آمن روعاتنا فيه, اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك, اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك, اللهم لا تفضحنا يوم العرض عليك, اللهم لا تمنع عنا بذنوبنا عظيم عفوك عنا يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نسألك حبك وحب كل شيء يقربنا من حبك, نسألك فعل الخيرات، وترك الفواحش والمنكرات, وحسن الختام عند الممات يا فاطر الأرض والسماوات, اللهم حرم وجوهنا على النار, اللهم حرم وجوهنا على النار، اللهم حرم أجسادنا على النار يا ذا الجلال والإكرام والعزة التي لا ترام, والملك الذي لا يضام, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها لحظة الوقوف بين يديك, اللهم اجعل أسعد اللحظات وأعزها وأشرفها لحظة الوقوف بين يديك, اللهم اجعلها أسعد اللحظات, اللهم استر لنا فيها العورات, واغفر لنا فيها السيئات, وارفع لنا الدرجات, اللهم أكرمنا بعدها فوراً بالدخول في الجنات يا ذا الجلال والإكرام, سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(17/3)
الأسئلة(17/4)
إرشاد من يهجر أهله في المأكل والمجلس بسبب بعض المعاصي
السؤال
أنا شاب قد أهجر أهلي في المأكل والمجلس بسبب بعض المعاصي كالتلفاز وغيرها, وأخرج لصلاة الفجر ولا أرجع إلا بعد منتصف الليل, فانصحني جزاك الله خيراً إلى الطريق المستقيم؟
الجواب
الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد: فاعلم أخي رحمك الله أن لأهلك عليك حقاً ولزوجك عليك حقاً, وكون الأهل في إساءة وذنب لا يدعو ذلك مثلك أن يذنب وأن يسئ, إن هجر النساء في الفرش باب من أبواب الإساءة, ولا يجوز فعله إلا إذا ترتبت على ذلك المصلحة الشرعية, ولذلك أخبر الله تعالى أن اللاتي يخاف نشوزها أنه ينبغي عظتها وزجرها, فإن لم تتعظ فإنها تهجر في المضاجع بقدر, وإذا كان الإنسان يديم هجر أهله حتى يخشى وقوعهم في الزنا فإن ذلك لا يجوز؛ لأن المفسدة لا تدرأ بالمفسدة, والشر لا يدفع بالشر, وكونهم أخطئوا فيما بينهم وبين الله لا يوجب لك أن تخطئ في حقهم, ولذلك قال الله عن الوالدين: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً} [لقمان:15] فأمر الابن أن يؤدي حق الوالدين مع كفرهما وشركهما, فاستنبط العلماء من هذا دليلاً على أن الإنسان إذا أساء إليه الغير أن ذلك لا يفتح له باب الإساءة للغير, أعطهم حقهم كاملاً.
وأما ما بينهم وبين الله فأوصيك بأمور: ذكرهم بالله, واستدم نصحهم وتوجيههم إلى صراط الله, فهذا هو الذي عليك, وأما ما عدى ذلك فلست عليهم بمسيطر, إن عليك إلا البلاغ والله يتولى العباد, والله تعالى أعلم.(17/5)
الأسباب التي تلين لها القلوب
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم، يقول السائل: إني أمر بحالة عظيمة من قسوة القلب, فأسألك يا شيخ أن تدعو لي.
ويقول الآخر: هلا وضحت بعض الأمور التي من خلالها يجد العبد لذة العبادة بين يدي الله تبارك وتعالى؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه, أما بعد: فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قلوباً رقيقة لذكره وشكره, اللهم إنا نسألك قلوباً ترضيك عنا يا ذا الجلال والإكرام, نسألك أن ترقق قلوبنا, وأن تعيذنا من قسوة القلوب.
أما ما سألت عنه -أخي في الله- من قسوة القلب, فإن من أعظم الأسباب التي تلين لها القلوب: أن يكثر الإنسان من الدعاء, ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله جل وعلا أن يعيذه من القلب القاسي, ففي الحديث الصحيح أنه قال: (اللهم إني أعوذ بك من عين لا تدمع, ومن قلب لا يخشع, ومن دعاء لا يُسمع, ومن علم لا ينفع, أعوذ بك من هؤلاء الأربع) فسل الله أن يعيذك من قسوة قلبك.
أما الثانية: فابحث عن الأسباب التي قسا بها قلبك, فتش عن ذنوبك بينك وبين الله, وفتش عن حقوق الله التي أضعتها, وحدوده ومحارمه التي جاوزتها وانتهكتها, فلعل صلاة أضعتها صعدت إلى السماء فقالت: ضيعك الله كما ضيعتني.
فاستغفر الله ثم تب إلى الله وأنب إليه جل جلاله.
أما الأمر الثالث بعد الدعاء والبحث عن الأسباب التي تقسي القلوب من حقوق الله: كذلك حقوق العباد, فقد يكون هناك مظلوم ظلمته, أو محروم حرمته, فرفع كفه إلى ربه جل وعلا فاستجاب الله دعوته, وقال الله لدعوته: (وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين) فأصابتك دعوة الرجل الصالح, فاسأل الله عز وجل أن يغفر لك, وأن يذهب عنك ذنوب ما كان من آثار ذنوب العباد وظلمهم, وفتش عن حقوق الناس فيما بينك وبين أهلك وأولادك وزوجك وجيرانك وأرحامك, فتش عن نفسك فلابد من وجود أمر: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] فاتق الله في نفسك وفيمن ولاك الله من أهلك وولدك وغيرهم.
الوقفة الرابعة: خذ بالأسباب التي ترقق القلوب ومن أعظمها أن تكثر من ذكر الآخرة, فالقلب لا يقسو إلا من الدنيا, والدنيا لا يذكرها الإنسان إلا إذا طال أمله وأصبح يؤمل فيها الآمال, ولا يطول أمل الإنسان إلا من طالت غفلته عن الآخرة والعياذ بالله, ولا تطول غفلة الإنسان عن الآخرة إلا إذا قلل من ذكرها, فأصبح العلاج أن تكثر من ذكر الآخرة, فإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء, وكن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل, فهذه من أعظم الأسباب: قصر الأمل في الدنيا, فإنه يعين على رقة القلوب, وكثرة ذكر الموت والبلاء, وقرب المصير إلى الله جل وعلا, كل ذلك مما يرقق القلوب.
ومما يرقق القلوب: أن تشيع الجنائز، وأن ترى ما هي سائرة إليه من عذاب أو جوائز, أن تشيع الجنائز وتعيش مع أهلها حتى إذا غادروها نظرت إليها وحيدة فريدة قد تولى عنها الآباء والأبناء والإخوان والأصدقاء, فأصبحت رهينة القول والعمل، فدعاك ذلك إلى أن تنيب إلى الله جل وعلا فيرجف قلبك من خشية الله, وتذهب عنه القسوة.
ثم كذلك مما يعين على رقة القلوب: زيارة المرضى، والنظر في أحوالهم, واسمع بأذن واعية إلى ما هم فيه من الآلام والأسقام، وسل الله العافية, انظر إلى تلك الأجساد التي كانت تتمتع بالصحة والعافية، رجل كالجبل, فيضربه الله بنقمة من النقم يخر صريعاً لا يستطيع أن يبرح مكانه, لا إله إلا الله ما أعظم سطوة الله بالعباد! ولذلك النظر في نقم الله في العباد وبلاياه وما ينزله بهم وهو الحكم العدل جل جلاله من أعظم الأمور التي ترقق القلوب, فإن هذا الأمر إذا رأيته خفت أن تكون لك عاقبة مثل عاقبة هذا الرجل, فإن العبد تراه غنياً ثرياً ظالماً غاشماً حتى يضربه الله بمرض في قلبه أو في مخه أو في قدمه, ولا يستطيع أن يبرح فراشه، يئن كما يئن الطفل الصغير, ينسى أهله, ينسى أولاده, ينسى ماله, والله لو خير في لحظات شدة الألم بين جميع التجارات التي جمعها في حياته لدفعها، وأصبحت نفسه أحقر ما تكون وأهون ما تكون عليه, فلذلك ينبغي للإنسان أن يقف في هذه المواقف لكن لا يقف بقلب غافل، بل يقف وهو معتبر, متبصر مدكر.
كذلك أيضاً مما يرقق القلوب: الإحسان إلى الناس, الإحسان إلى الأيتام، إلى الأرامل, ابحث عن جيرانك, فإن وجدت فيهم أرملة فاقتحم العقبة {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:12 - 16] ثم تكون بعد ذلك من الذين آمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة, كن منهم بهذا القلب الرقيق, هذه من الأمور التي تعين على رقة القلوب, تأتي إلى الأرملة في شدة حاجتها فتعطيها مالاً من عنائك, وكد يدك، وهو عزيز عليك تعطيه احتساباً لوجه الله جل وعلا, في ظلمة ليل أو ضياء نهار, ويريد الله أن تلك اللحظة تفتح فيها أبواب السماء فترفع تلك الأرملة لك كفاً فتستجاب دعوتها, فأحسن إلى الناس فإن الإحسان إلى الناس من الأمور التي ترقق القلوب, وقلّ أن تجد إنساناً كريماً جواداً محسناً إلا وجدته أرق الناس قلباً, ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الراحمين يرحمهم الله.
كذلك أيضاً: خذ اليتيم وامسح برأسه, فإن اليتيم فقد أباه, ويعيش في هذه الحياة بدون أب, فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المسح على رأس اليتيم من الحسنات والقربات؛ لأنك لما تمسح على رأسه تسد الثغرة التي في قلبه, لما تمر يدك على ذلك الرأس الذي فقد الحنان وعاش في هذه الحياة كأنه وحيد, فتشعره كأنك أباً ثانياً، فإن هذه المسحة تقع عند الله بمكانة، والله يحب الحسنة ويحب الخير ويشكره, ولا يضيع العرف بين الله والناس, لا ينسى الله جل وعلا الحسنات, ولا ينسى ما يكون من العبد من إسداء الخير إلى البريات, فأحسن إلى الناس فإن ذلك مما يعين على رقة القلب.
نريد رقة القلب ونحن أبخل الناس يداً! ونحن أكثر الناس تكبراً وتعنتاً! ونحن أفظ الناس وأغلظهم قولاً! لا شك أن هذه الأمور تحتاج إلى مجاهدة وإلى عمل صالح وإلى قربة, ولذلك وصف الله المؤمنين بماذا؟ قال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] المؤمن ذليل لكن هذه الذلة عزة عند الله عز وجل, لما تكون سهلاً ميسراً يرق قلبك, لكن لما يأتي الإنسان فيتعاظم على الناس, ويفتخر عل الناس، ويتعالى على الناس لا يزال يهوي -والعياذ بالله- في سفال حتى يمقته الله جل وعلا, وقال صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر) والعياذ بالله.
فنسأل الله العظيم أن يرزقنا رقة القلوب, والله تعالى أعلم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(17/6)
سبب نزول قوله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ... )
السؤال
ما سبب نزول الآية الكريمة: {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56] وما المناسبة لهذه جزاك الله خيراً؟
الجواب
الأصل في هذه الآية من قوله: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] أن أناساً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تعاظموا ما كانوا يفعلونه في الجاهلية من الذنوب والزنا والمحرمات وغيرها, فأنزل الله هذه الآية, رغبهم فيها في التوبة، وأخبرهم أن الله عز وجل سيمُن عليهم إذا أنابوا بالرجوع والتوبة, هذه الآية الكريمة بين الله جل وعلا فيها سعة رحمته, حينما ظن بعض الأصحاب أن الذنوب لا تشملها تلك الرحمة الواسعة، فهذا هو أصل نزول الآية.
وأما بالنسبة للآية التي ذكرناها فهي مرتبة على آية قبلها، وهي أن الله أمر بالإنابة, وحذر من لم ينب أنه ستمر عليه مثل هذه اللحظة التي يبكي فيها على تفريطه في جنب الله, والله تعالى أعلم.
أما المناسبة: فالمناسبات بين الآيات للعلماء فيها وجهان: من أهل العلم من قال: لا ينبغي أن يبحث عن المناسبات بين آيات السور؛ لما في ذلك من التكلف, والله يحكم ولا يعقب حكمه, ويقول وما أصدق ما يكون من قوله, فالله جل وعلا لا يسأل عما يفعل, ولا يقال: لماذا قال كذا؟ ولماذا جاءت آية كذا بعد كذا؟ فإن الذي تكلم بالقرآن هو العظيم الرحمن, وهذا الكلام إذا صدر من عظيم فإن فيه من الحكم والأسرار ما لا تدركه العقول, فيه من الحكم والأسرار وحسن البيان وكماله ما لا يعلمه إلا الله جلا وعلا, فلا يستطيع العبد مهما بلغ من العلم أن يدرك حقائق المناسبات بين السور والآيات, ولذلك شدد بعض العلماء رحمهم الله في ذلك، وكان السلف رحمهم الله في تفسير القرآن يتوقفون على قدر المعاني لا يزيدون ولا ينقصون, والمناسبات بين السور والآيات حدثت بعد السلف بعصور.
ولكن قال بعض العلماء: يجوز أن تذكر بعض اللطائف، ولا يعتبر ذلك توقيتاً للورود, بمعنى: لا تقول هذه الآية جاءت من أجل كذا بعد هذه الآية، ولكن تقول: من الحكم والفوائد كذا وكذا.
فاعلم رحمك الله أن من كمال منهج المشرع أنه إذا أمر بشيء فإنه ينبغي أن يضع تقديراً أن الشيء يطاع أو يعصى, فإن أطيع وعد بالمثوبة، وإن عصي رهب بالعقوبة, فالله جل وعلا فتح أبواب الإنابة، ولما كانت النفوس البشرية منها من يسابق فينال الرحمة، ومنهم من يتقاعس فينال النقمة؛ فلذلك كان لوجود هذه الآية نوع من التأثير، وهو أن النفس الضعيفة التي لا يفيد فيها الترغيب سيأتيها أسلوب الترهيب, فأول الآية ترغيب: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] هذا ترغيب, فالنفوس التي ينفعها الترغيب تتأثر, ثم جاء النوع الثاني وهي النفوس التي لا تقرع ولا ينفع فيها الترغيب، وهي النفوس التي تزجر وترهب فقال: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الزمر:54 - 55] {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} [الزمر:56] فهذا من أبلغ ما يكون في حسن البيان, وكمال التوضيح من العظيم الرحمن، والله تعالى أعلم.(17/7)
نصيحة للذين يتوبون من المعصية ثم يعودون لها وبيان أسباب الهداية
السؤال
كثير من التائبين عندما يعودون إلى الله تبارك وتعالى ما إن يلبث حتى يعود إلى عصيانه لربه تبارك وتعالى, فماذا تنصح هؤلاء الإخوان بارك الله فيكم؟ ثم ذكر أيضاً سؤالاً: ما هي الأسباب المؤدية للهداية؟
الجواب
إن من أعظم النقم وأشدها على العبد في الدنيا والآخرة مصيبة الدين, تلك المصيبة التي إذا حلت ونزلت فلا يجبر كسرها إلا الله جل جلاله, ولذلك في الدعاء المأثور: (ولا تجعل مصيبتنا في ديننا) ومن أعظم المصائب أن يعرض العبد عن الله جل وعلا, فإنه قد يعرض إعراضاً يحرم الله عليه بعده أن يقبل أبداً, ولذلك من أخوف وأخطر ما يكون على العبد بعد أن يذوق حلاوة الإيمان أن يعرض عن الله العظيم الديان, فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعصمنا من الانتكاسة, وأن يعيذنا منها وأن يثبتنا وإياكم على الصراط المستقيم إلى لقائه.
ومن أعظم الأسباب التي ينبغي أن يتنبه لها كثير من الإخوان: أنه ينبغي على الإنسان إذا التزم أن يلتزم بصدق, وإذا اهتدى أن يهتدي بحق, وأن يأخذ بالدين كله لا بجزئه, وأن يأخذ بهذا الالتزام كلاً لا بعضه, فإذا جاء لهذا الدين يأخذه كاملاً، فإنه إن أعرض عن أمر من أوامر الله لا يأمن الضلال كما قال أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه: [والله لا يبلغني شيء من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأمره إلا فعلته، إني أخاف إن تركت شيئاً من سنته أن أضل] فهذه من الأمور التي ينبغي للإنسان أن يتنبه لها.
الحرص على الأخذ بأوامر الشرع كاملة, يأمرك الشرع أن تحفظ جوارحك فعليك أن تحفظها, يأمرك أن تحفظ أركانك فعليك أن تحفظها, يأمرك أن تعطي فتعطي, يأمرك أن تمنع فتمنع, وإذا قال هذا حلال فهو حلال, وهذا حرام فهو حرام, حينما تأخذ بالدين كاملاً يتغلغل إلى سويداء قلبك, وتأتي الساعة التي يصبح هذا الدين أعز عليك من الطعام والشراب, عليك أن تأخذ بالالتزام كاملاً، ولازم ذلك أن تبحث عن أوامر الدين, وكلما جاءك أمر من الله ورسوله تقل: سمعت وأطعت غفرانك ربنا وإليك المصير.
الصحابة رضوان الله عليهم لما دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم واستجابوا جاءت استجابتهم على أحسن وأصدق، وأبهى وأكمل وأجمل ما تكون عليه الاستجابة, فتحوا قلوبهم لهذا القرآن, وكان الواحد منهم تخرجه آية واحدة من ماله لوجه الله جل جلاله, التزام حق، أخذ بالدين بصدق, والله يقول: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف:170] الدين يريد جهاداً ويريد أخذاً {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] يحتاج إلى عزيمة، يحتاج إلى رجولة, فإن الله لما أثنى على أهل طاعته قال: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ} [النور:37] ما كسرتهم تجارة الدنيا، ولا أهانتهم الدنيا ولكن وضعوها تحت أقدامهم, ووضعوا الدين نصب أعينهم, فمن حمل هم هذا الدين وأخذه كلاً بمجرد ما يأتيه أمر عن الله فيقول: لبيك.
يأتيه النهي عن الله يقول: كففت وانزجرت.
ولو كان شيئاً يهواه في نفسه وفي أهله وولده لا يبالي, إذا فعل ذلك فقد أصاب رحمة الله, فلا يزال يستجيب لأمر تلو أمر حتى يحبه الله محبة يتأذن بهداية لا ضلال بعدها, وقد يتأذن له برحمة لا عذاب بعدها, ولذلك كلما وجدت الشاب الصالح يقبل على هذا الدين بصدق كلما وجدت آثار الإسلام في جوارحه، وفي أركانه، حتى وجهه عندما تراه تراه يتلألأ ويشرق من هذه الطاعة.
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل, الكثير يلتزم ولكن التزام ماذا؟ في الصور؟! في الظواهر؟! في القوالب والقلوب غافلة عن الله جل جلاله؟ الالتزام يحتاج إلى صدق, يحتاج إلى إنابة حقة, فمن التزم للعبة أو هوى أو شهوة أو جلوس مع أصحاب, أو التزم بطريقة فيها فكاهة وتندر وأصبح يجلس مع أصحابه فإذا ضحكوا ولعبوا استأنس، حتى إذا ذهبت الفكاهة واللعابة جاءت السآمة والملل, فأصبح يحن ويئن إلى الجاهلية الأولى، وفي هذا يقول الله جل جلاله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الحج:11] على حرف، أي: آخر درجة بحيث لا يبقى له إلا شعرة واحدة إما إلى جنة أو إلى نار {يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} [الحج:11] حينما يأتيه شيء في الإسلام يهواه يقول: هذا هو الإسلام، فتراه يلتزم ويستجيب {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].
نسأل الله العظيم أن يعافينا وإياكم من هذا، إن أصابته فتنة، والفتنة إما تكون شبهة أو شهوة, فلذلك الوقفة التي نحتاج أن نقولها: الالتزام يحتاج إلى عمل, كثير من الشباب التزموا ولكن تأتيهم أوامر الله ورسوله فيصرفونها إلى غيرهم, وأضرب أمثلة كثيرة, الشاب تجده على استقامة والتزام ولكن ما إن تأتي فتنة لا يستطيع أن يعف عنها لسانه, ولا يعف عنها جنانه, ولا تعف عنها جوارحه وأركانه, فأين الالتزام؟ الدين فيه ابتلاء وفيه اختبار وفيه تمحيص, وأخبر الله جل وعلا أن من صبر على هذا الالتزام والتمحيص أن الجنة نصب عينيه هداية ورحمة من الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} [العنكبوت:69] أي: لوجهنا ومن أجلنا {لَنَهْدِيَنَّهُمْ} [العنكبوت:69] أي: والله لنهدينهم {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] الذين أخذوا بالدين بصدق.
فالمقصود أن الكثير يلتزم ولكن التزاماً هشاً، حتى إن الرجل إذا جاءته الفتنة في لسانه وجنانه يقول: ما أستطيع أتركها! وتجده يلتزم فينهى عن أمر حرمه الله ورسوله ولا يستطيع أن يتركه, ويقول: ما أستطيع! فأين الالتزام؟! فمثل هذا لا يأمن أن ينتكس, من يلتزم التزاماً هشاً يعبث به الشيطان، وقد يأتي إلى شعبة من شعب قلبه يفضي فيها إلى صميم فؤاده والعياذ بالله, ولذلك قد يقال للإنسان: يا أخي! عف لسانك عن عوام المسلمين, فضلاً عن العلماء والدعاة؛ هذا أمر من أوامر الله أن نعف ألسنتنا, ابحث عمن يصون لسانه عن أذية العلماء اليوم, مع الالتزام والديانة والاستقامة, تقول له: يا أخي! من كمال دينك وخوفك من ربك ورجائك لرحمته أن يكون عندك ورع تخاف به وتخشى به من لقاء الله جل وعلا, حتى كان العلماء يتكلمون في الجرح والتعديل وقلوبهم ترعد من خشية الله جل جلاله, مع أنهم يقولون ذلك غيرة على الدين, يخافون أن شعبة من شعب القلب تذهب وتقول الجرح والتعديل تشفياً وغيظاً, فيكون ذلك ذنباً في عباد الله المؤمنين.
المقصود أننا نحتاج إلى وقفة نعيد فيها النظر في هذا الالتزام, هل الالتزام في الأشكال والصور والمعادن خاوية تأتيها الأوامر وهي في السحيق والهاوية؟ نحتاج إلى وقفة مع هذه القلوب حتى تعرض على رحمة الله علام الغيوب {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] من حب الله ورسوله، يغيروا ما بأنفسهم، من الليلة تجعل في قلبك أن تأخذ بهذا الدين كاملاًَ, إن جاءك أمر تجعله نصب عينيك, وأقسم بالله العظيم إنك لن تعظم لله أوامره ونواهيه, ومن الليلة جرب إذا جعلت في قلبك أن تأخذ بالدين كاملاً، وأن تغار على حدود الله وحرمات الله غيرة كاملة فإن الله سيجعل لك من الحب والود وهيبة في قلوب العباد على قدر ما هبته سبحانه وتعالى.
كان الإمام مالك رحمة الله عليه إمام دار الهجرة إذا جلس السائل بين يديه يرعد من هيبته رحمة الله عليه, كان مهاباً حتى إنه يفتي الفتوى وقد لا يستطيع السامع أن يسمع، ولا يستطيع أن يقول له: أعد عليّ يا إمام؛ من الهيبة التي وضعها الله له في قلوب العباد.
ويقول الإمام محمد بن الحسن: لقد جلست بين يدي الهادي والمهدي والرشيد، والله ما وجدت الهيبة التي وجدتها لما جلست بين يدي مالك.
هذه الهيبة يقول فيها أحد أصحاب الإمام مالك مقالة مشهورة: [ولا نظن ذلك إلا لشيء بين مالك وبين الله].
كان يعظم الله ويهاب الله ويخاف الله, ولذلك الصحابة رضوان الله عليهم لما عظموا الدين وهابوه غرس الله في قلوب الأعداء خوفهم ورعبهم, فنسأل الله العظيم أن يرزقنا الالتزام الحق, وأن يجعلنا من أهل الولاية الصادقة التي يحبها ويرضاها, والله تعالى أعلم.
أما أسباب الهداية فنجملها في أمور: أولها وأعظمها: الدعاء, فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى) اسأل الله الهدى.
الأمر الثاني: أن تأخذ بالأسباب، ومن أعظمها تلاوة كتاب الله, والوقوف عند عظات الله, تحلل حلاله وتحرم حرامه, وتتبع شرعه وأحكامه ونظامه دون زيادة ولا نقص, دون غلو ولا شطط, ولا إجحاف ولا اعتساف, فإذا رزقك الله عز وجل ذلك تمسكت بالدين ورأيت حلاوة الهداية, فإن الله يقول عن هذا الكتاب العظيم: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] الكتاب الذي بين أيديكم يحمله الصغير والكبير، ولكنه عظيم القدر عند الله {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] أقوم في العقيدة, أقوم في السلوك, أقوم في الأخلاق, أقوم في الأحكام, حتى مع أهلك وولدك في ساعة عسرك ويسرك, حتى إذا طلقت المرأة يقول: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة:237] ما ترك شيئاً إلا جاءت فيه الهداية على أجمل صورها وأبهى حللها, الهداية بكتاب الله.
النقطة الثالثة: الهداية بسنة النبي صلى الله عليه وسلم, اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قراءة المتأمل المتدبر, وقف مع تلك السيرة العطرة النظرة, وتلك المواقف الجميلة التي تذكرك بالإيمان بالله جل جلاله, وتحيي في قلبك معالم التوحيد والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى, اقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وأكثر من(17/8)
المشكلات الزوجية وعلاجها
الزواج نعمة من الله ومنة امتن بها على عباده، تغض به الأبصار، وتحصن به الفروج، وقد جعل الله بين الزوجين مودة ورحمة لا تقارن بنعيم في الدنيا، غير أنه قد تطرأ على هذه الحياة الجميلة منغصات تسبب تعكيرها، وتؤدي إلى مشاكل تجعل من تلك الحياة السعيدة حياة ضنكة وتعيسة.
فلابد للمؤمن التقي من البحث عن الأسباب والبحث عن علاجها؛ حتى تكون حياته سعيدة لا تشوبها شائبة أو يعكر صفوها مشكلة.(18/1)
نعمة الزواج وأثر التدين في سعادة الأسرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: إخواني: الزواج نعمة من نعم الله ومنة من مننه عز وجل، جعله الله تبارك وتعالى آية شاهدةً بوحدانيته، دالةً على عظمته وألوهيته، فيه السكن والرحمة، وفيه العفة للإنسان عن الحرام، والبعد عن إصابة الفواحش والآثام، الزواج وما الزواج؟ الذي تغض به الأبصار عن محارم الله، وتحفظ به الفروج عمَّا لا يرضي الله، هذه النعمة يجد فيها عبد الله الراحة والسكن، ويجدها رحمة من الله تبارك وتعالى إذا ترسّم هدي الكتاب، وأقام نفسه على مناهج الصواب.
الزواج إنما يكون نعمةً حقيقيةً يحفظ الإنسان بها دينه ويعصم بها نفسه عن الفتن، ويجد الراحة والسرور والدعة، إذا كان الزوج قد ترسّم هدي الكتاب والسنة وكانت الزوجة -كذلك- قد ترسّمت هدي الكتاب والسنة، فعاشر كل واحد منهما الآخر عشرةً صالحةً طيبةً مباركة مبنيةً على الشيمة والوفاء، مبنية على الذمة وحفظ العهود والمواثيق.
إن ترسّم الزوجين لمنهج الكتاب والسنة هو الطريق الحقيقي للسعادة الزوجية الحقيقية، فما من بيت من بيوت المسلمين يترسّم فيه الزوج وتترسّم فيه الزوجة هدي الكتاب والسنة إلا وجدت السعادة قد ضربت أطنابها في رحاب ذلك البيت المسلم، والعكس بالعكس، فمتى تنكب الزوجان أو تنكب أحدهما عن هدي الكتاب والسنة فانحرف عن صراط الله المستقيم، واعوجَّ عن هدي الدين القويم، عندها تنتهك حدود الله وتغشى محارم الله.
إذا نسيت تلك الآيات العظيمة وتلك العظات البليغة التي وعظ الله عز وجل بها كلا الزوجين، إذا رميت وراء الظهور وأصبح الزوج لا يبالي بأوامر الشرع ونواهيه، يخبط خبط عشواء في عشرته لأهله وزوجه، وأصبحت الزوجة لا تبالي بحقوق الله عز وجل في العشير، وأصبحت لا تبالي بأوامر الكتاب والسنة، عندها تفتح أبواب المشاكل على ذلك البيت المسلم، وعندها تغشى حدود الله فلا يبالي الزوج بما يقوله ولا تبالي الزوجة بقولها، ولا يبالي الزوج بما يفعله ولا تبالي الزوجة بفعلها.
إذا كان ذلك فإنك تدمع الدمعة الحارة على ذلك البيت المسلم؛ لأنه ما من عبد ينحرف عن منهج الكتاب والسنة في عشرته لأهله إلا أذاقه الله نكد الحياة وتنغص عليه العيش، وإذا فتحت المشاكل أبوابها على ذلك البيت المسلم فإن الإنسان يصيب الشقاء بعينه ويجد مرارة الحياة فتدمع الزوجة حين لا تنفع الدموع وتندم حين لا ينفع الندم، ويدمع الزوج حين لا تنفع الدموع ويندم حين لا ينفع الندم.
نعم.
متى نسي كتاب الله، وغشيت حدود الله، وانتهكت محارم الله؛ ذاق الزوج سوط عذاب لا رحمة فيه، وأصبحت هذه الحياة التي كان من الفرض أن تكون حياة السعادة والراحة والدعة، إذا بها حياة جحيم لا يطاق.
وليت هذه المشاكل تقتصر على الزوج والزوجة، ليتها يعاني عناءها الزوج والزوجة؛ لأن بلاءها كان بسببهما، ولكن البلاء كل البلاء إذا تفشت هذه المشاكل فسرت إلى أب الزوجة وأمها، وإلى أب الزوج وأمه ثم إلى الأخ والأخت، ثم إلى الخلان والإخوان ثم الضحية البريئة تلك القلوب البريئة قلوب الأبناء والذرية، عندها تنظر إلى ذلك الابن الذي خلفته تلك الزوجة الظالمة أو ذلك الزوج الظالم، تنظر إليه وقد دمع دمعة حارةً من صميم قلبه وفؤاده لما يرى من تنكد العيش أمام أبيه وأمه، يبكي ولكن لا راحم لبكائه ويشتكي ولا أذن تصغي لشكواه.
إخواني: إذا فتحت أبواب المشاكل فإن القلوب تصطرع بفتحها، حتى إن العبد إذا بلي بالمشاكل الزوجية يحار حتى في صلاته ولا يستطيع عبادة ربه، كل ذلك مرارة يقاسيها وحرارة يعانيها كل من تنكب عن صراط الله واعوج عن هدي الله.
إنها المشاكل التي لا ترحم صغيراً ولا كبيراً، ولا تعرف جليلاً ولا حقيراً، إذا سرت في الأسر سرت كَسُرى النار في الهشيم لا رادع لها ولا موقف لها إلا رحمة من الله يتدارك بها عباده، إنها المشاكل التي أصبحت تعج بها بيوت المسلمين تلك البيوت الطيبة الطاهرة المباركة التي كانت معروفة بالسعادة والهناءة والراحة، أصبحت تعج بتلك المشاكل وتشتكي إلى الله صباح مساء من كلام لا يطيب لسامعه وكذلك أفعال لا ترضي من يراها.
كل ذلك -إخواني- هموم وغموم نعانيها، ونجد مرارتها في القلوب
و
السؤال
ما المخرج من هذه الفتن والمحن؟ لقد كانت بيوت المسلمين بيوتاً مليئةً بالراحة والدعة والسكون، حتى إنك قلَّ أن ترى قاضياً يفصل في قضية بين زوج وزوجه، كانت بيوت المسلمين إذا وقعت فيها المشاكل طفئت نارها في مهدها، وجدت عقولاً ورجالاً ووجدت نساءً بررةً صادقين يعرفون كيف يتصرفون ويحسنون التعامل مع هذه الفتن العظيمة والمشاكل الأليمة.
فلما تنكب العباد عن صراط الله وحاد الخلق عن طريق الله، جاءت هذه المشاكل بخيلها ورجلها، وأصبحت أُسر المسلمين تعاني هموماً وغموماً لا يعلمها إلا الله تبارك وتعالى، حينما فقدنا زوجاً يحفظ الذمم وحينما فقدنا زوجةً تحفظ حقوق العشير، وحينما فقدنا أماً تحفظ ابنتها وأباً يرعى ابنه، حينما فقدنا رجالاً صادقين صالحين يقربون المفترقين ويجمعون شمل المتباعدين، حينما فقدنا قلوباً رحيمة يؤلمها إذا رأت بيوت المسلمين تشتت سعت بتلك الخطوات العزيزة عند الله عز وجل، حينما فقدنا أولئك الصادقين وتنكدت الحياة وتغير الحال، فأصبح بعد رجال الصدق رجال الكذب، حتى أن الرجل إذا بلي بالمشكلة مع زوجته وجد صديقاً لا يذكره بربه ولا يصبره على شكواه، وجد من يلهب ضميره إلى الشكوى ويلهب قلبه إلى الأذية والإضرار، ووجدت الزوجة من يعينها على الإضرار ويعينها على الشقاق والأذية.
فلما تغيرت الحياة وتغير الناس بعد صلاح، وأصبحت الحياة على هذه الصفة، لم يكن من العجيب أن تعج مشاكلنا وأن تُملأ دور القضاء من هذه المشاكل المؤلمة المحزنة، حتى إنك إذا دخلت سمعت صراخاً وعويلاً، امرأة تناشد زوجها وتسب عشيرها، وزوجاً يناشد زوجه ويسب أهله وعرضه ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، إنا لله وإنا إليه راجعون.
أهذه الأمة الطاهرة المباركة؟ أهذه الأمة التي تأدبت بكتاب الله، وكان لها أكمل منهج وجد على الأرض سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أتعيش هذه الآلام؟ أتعيش هذه الأحزان والأشجان؟(18/2)
أثر الإعراض عن كتاب الله على الحياة الزوجية
أحبتي في الله: من هذا كله نخلص إلى أهمية هذا الموضوع، أهمية طرحه، ومناقشته، أهمية فتح أبوابه لكي نعرف خباياه ولنأخذ من ذلك المعين الطيب المبارك؛ من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدواء وأي الدواء، والعلاج وأي العلاج من {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] من كتاب مبارك أنزله الله لكي نتدبره ونعرض عليه همومنا وغمومنا، فوالله ما من أمة أصابها حزن أو أصابتها مصيبة في دينها فعرضتها على كتاب ربها إلا وجدت علاجاً صالحاً لدائها وبلائها.
والسؤال ما هذه المشاكل؟ وكيف سيكون حديثنا عنها؟ لي في هذه المشاكل ثلاث نقاط: النقطة الأولى: ما هي أسباب هذه المشاكل؟ والنقطة الثانية: ما هو علاجها ودواؤها؟ والنقطة الثالثة: كيف يتصرف الزوج؟ وكيف تتصرف الزوجة؟ وكيف يتصرف القريب والصديق إذا بلي بإنسان بلي بهذه المشاكل؟ ومن الله أستمد العون والتوفيق.
أما المسألتان الأوليان ما هي أسباب المشاكل، وما هو علاجها في كتاب الله عز وجل وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأجمعهما في حديث واحد.
هذه المشاكل كل من نظر إليها وتدبر فيها وجدها ترجع إلى سبب واحد، جميع المشاكل الزوجية إذا تدبرت فيها ونظرت إليها نظرة المتأمل وجدتها تعود إلى سبب واحد، هذا السبب منه تولدت ومنه خرجت ونشأت، وما هو هذا السبب؟ هذا السبب هو: الإعراض عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو الذي عناه الله تبارك وتعالى بقوله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] وعيد من الله، ما من عبد يريد الزواج أو يقع في الزواج وينحرف عن هدي الكتاب والسنة إلا أذاقه الله من الحياة الضنكة على قدر إعراضه عن كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لقد أدب الله الزوجة وأدب الزوج في القول وأدبهما في العمل، ورسم منهجاً سوياً وطريقاً قويماً وصراطاً مستقيما لا يضل ولا يزيغ عنه إلا هالك.(18/3)
المعاشرة بالمعروف أو التسريح بإحسان أساس السعادة الزوجية
لو أن كل زوجٍ وكل زوجةٍ أرادت أن تدخل إلى بيت الزوجية، سألت: ما هي حقوق الزواج في كتاب الله؟ وما هي حقوق الزواج في سنة النبي صلى الله عليه وسلم؟ لو أن الزوج والزوجة سأل كل واحد منهما: ما هو هدي رسول الله صلوات الله وسلامه عليه في عشرة الأزواج؟ لقد رسم هذا الكتاب الحياة الزوجية السعيدة في آية واحدة وهذا من إعجاز القرآن، جمع لك السعادة الزوجية في آية واحدة لو أن كل زوج عمل بهذه الآية والله ما وقعت مشكلة زوجية.
وما هي هذه الآية؟ يقول الله تبارك وتعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] إعجاز في اللفظ والبيان، إما أن تمسك بمعروف أو تسرح بإحسان، وصية من الله من فوق سبع سماوات، إذا أردت أن تعاشر وإذا أردت أن تدخل إلى بيت الزوجية فضع نصب عينيك هاتين الكلمتين، إما أن تمسك بمعروف وإما أن تسرح بإحسان.
ولذلك لا إمساك بإضرار: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231] ولو أن الأزواج أمسكوا بمعروف أو سرحوا بإحسان والله ما قامت مشكلة، إن أمسكها أمسكها مؤمناً صادقاً صالحاً براً سوياً في قوله وعمله، هذا هو المعروف الذي أمر الله به، وإن سرحها سرحها بإحسان، سرحها وهو لا ينسى ما بينه وبينها من العهود والمواثيق.
ولذلك
السؤال
ما هو الإمساك بمعروف الذي أمرنا الله تبارك وتعالى إذا أمسكنا النساء أن نمسكهن على صفته؟ المعروف إذا أردت بيانه وأردت حقيقته في عشرة الأزواج؛ فانظر إلى سيرة النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه، فوالله ليس هناك زوج أبر ولا أوفى ولا أكمل سيرةً وهدياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاشر أزواجه، سيرة عطرة، والله إن بعض الأحاديث حينما تقف أمامها قد يستولي عليك الحزن من واقعك.(18/4)
أمثلة توضح حقيقة المعاشرة بالمعروف
هذه ثلاثة أمثلة، ولو أننا استعرضنا هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته التي تفسر هذا المعروف لأخذنا جلسات وحق لهذه السنة أن تأخذها: المثال الأول: تقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدنى إليه الإناء فيه الشراب فيقسم عليَّ أن أشرب قبله -هل أحد أقسم على زوجته يوماً من الأيام أن تشرب قبله؟ - قالت: فإذا شربت قبله أخذ الإناء فوضع فمه على المكان الذي وضعت فمي فيه -صلوات ربي وسلامه عليه إلى يوم الدين- ثم يؤتى بالعرق من اللحم -العظم من اللحم- فيقسم عليَّ -يحلف بالله أنها تأكل قبله؛ لأنها كريمةٌ بنت كرام لا ترضى أن تتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا ترضى إلا إذا أقسم عليها، فيقسم عليها بالله أن تأكل قبله-قالت: فأنهسه فيأخذ العظم ويضع فمه حيث وضعت فمي) صلوات الله وسلامه عليه.
من منا يفعل ذلك ولو يوماً واحداً يجبر به قلب تلك المرأة المسلمة التي بين يديه؟ هل أحد منا طبق هذه السنة؟ ولذلك لما بعد الناس عن هذه الرحمة ولما فقدت الرحمة في الحياة الزوجية أصبحت الحياة حياةً جافةً، أصبحت بيوت المسلمين لا تجد فيها الرحمة والحنان الذي يجب وينبغي أن يكون من أهم سمات الزوجية، ولذلك وصف الله الزوجة بأنها سكن ورحمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21] المودة والرحمة طبقها النبي صلى الله عليه وسلم على أكمل صورة ومنهج.
الصورة الثانية والمثال الثاني: الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم براً رحيماً في معاشرته لأهله، تقول رضي الله عنها: (أتى الحبشة يلعبون بالحراب في المسجد يوم العيد، فأحببت رؤياهم فقمت لأنظرهم وراء ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم -رسول الأمة يقوم على قدميه وساقيه من أجل صبية تنظر إلى قوم يلعبون- قالت رضي الله عنها: فهو يقول لي: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد، فيقول: هل فرغت؟ فأقول: لا بعد، ثم تقول رضي الله عنها: فاقدروا قدر الصبية الجهلاء).
يعني كم جلس من الوقت فما تذمر ولا قال: أنا أقف لك، ولا استحيا ولا تكبر صلوات الله وسلامه عليه، من منا يوماً من الأيام، لا نقول يقف لأجل أن تنظر امرأته إلى من يلعب! لكن نقول: يحرص -ولو يوماً في الشهر أو يوماً في السنة- على أن يدخل السرور إلى أهله، نعم فقدنا هذه السيرة العطرة، فقدنا الإحسان إلى الأهل ونريد حقوقنا كاملة، نمنع أزواجنا من العشرة الطيبة المباركة ونريد حقوقنا كاملة، ولذلك ليس غريباً لما فقدنا وشائج هذه الرحمة التي فعلها المصطفى صلوات الله وسلامه عليه أن نرى الحياة المؤلمة.
أما المثال الثالث: فقد جاء الأسود بن يزيد هذا التابعي الجليل إلى أم المؤمنين عائشة -والحديث في صحيح البخاري - قال لها: (كيف يكون النبي صلى الله عليه وسلم في بيته وما هو حاله؟ قالت رضي الله عنها: يكون في خدمة أهله) أي: إنه إذا رأى أهله بحاجةٍ إلى المساعدة وإلى المعاونة ساعدهم صلوات الله وسلامه عليه.
هل يوماً من الأيام كلفنا أزواجنا أمراً فوقفنا معهم وتأسينا بالنبي صلى الله عليه وسلم وعاشرنا بالمعروف على أكمل صورة ومنهج، أين أولئك البررة الأوفياء الذين يحسنون معاملة الأزواج، ويحسنون معاملة الزوجات، حتى تملك القلوب بإحسانهم ومودتهم وعطفهم وحنانهم؟! لا يمكن لهذه الحياة الزوجية أن تستقيم إلا بالرحمة، ولقد عرف ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فطبقه فكان من أهم سماته في عشرته أنه كان حليماً رحيماً بأهله وزوجه.
ومن هنا -أحبتي في الله- لو أن الأزواج عاشروا بالمعروف أو سرحوا بإحسان لما بقيت هذه المشاكل، انظر في أي مشكلة زوجية إما أن تجد زوجاً لا يعاشر بمعروف أو تجد زوجةً لا تعاشر بمعروف، أو تجد زوجاً يمسك ولا يطلق ويسرح بإحسان، أبداً لن تخرج عن هذه الثلاث القضايا التي هي محور كل مشكلة زوجية، إذا عرفنا أن أساس المشاكل يرجع إلى هذا السبب العظيم، فالمخرج والعلاج أن نقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في معاشرته لأهله وزوجه، وأن نستلهم منها هذه المواقف الطيبة المباركة، وهذه الأخلاق الزاكية العطرة، حتى نخلف في قلوب من نعول ونخلف في قلوب زوجاتنا تلك المحبة التي تقوم عليها بيوت المسلمين، وتلك العاطفة التي تبنى عليها بيوت الزوجية السعيدة.
وكما عرفنا أن الإعراض عن الكتاب والسنة هو السبب الرئيسي لوجود هذه المشاكل فكيف نفصل هذا الإعراض؟(18/5)
أسباب المشكلات التي تسبق الزواج
نظرت إلى الأسباب التي توجب المشاكل الزوجية فوجدتها أسباباً عديدة ولكنني سأختار بعض هذه الأسباب وأقسمها على قسمين: القسم الأول: أسباب تسبق الزواج.
القسم الثاني: أسباب تكون في الزواج.
أما الأسباب التي تسبق الزواج.(18/6)
الإكراه على الزواج بمن لا يرغبه أحد الطرفين
فأولها: إكراه الزوج على الزواج وإكراه الزوجة على الزواج بمن لا يريد ولا يرغب، لأن إكراه الزوج على الزواج وإكراه الزوجة على الزواج ممن لا ترغبه ولا تحبه، ضرب من الخطأ بيّن، إن العشير إذا عاشر من لا يحب عشرته فإنه نافر عنه من أول لحظة، ولا يمكن لبيت زوجية أن يقوم وقد وجدت النفرة بين الزوج وزوجته، لا يمكن أن تستقيم بيوت الزوجية والرجل كاره لزوجته وكذلك المرأة كارهةٌ لزوجها.
لذلك ينبغي على كل ولي امرأة أن يتقي الله عز وجل فيها، وألا يزوجها إلا لمن فيه الصلاح والدين وترغبه المرأة، فإذا اعترضت المرأة على الزواج فينبغي عليه ألا يستعجل وأن ينظر في اعتراضها، فإن كان له سبب وعذر يقبل شرعاً فالحمد لله وحيهلاً، وأما إذا كان لا تعذر فيه شرعاً فينبغي عليه إحسان المعاملة حتى تقبل على ذلك الزوج وترضاه، وهذا السبب قد بين النبي صلى الله عليه وسلم علاجه وبين دواءه فقال فيما صح عنه عليه الصلاة والسلام: (البكر تستأذن وإذنها صماتها والثيب تستأمر) وفي رواية عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (والثيب أحق بنفسها من وليها) كل هذا لكي يبين النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا تستقيم بيوت المسلمين ولا يستقيم الزواج إلا إذا كان الزوج قد رضي من تزوجها وكذلك الزوجة.(18/7)
سوء التربية
السبب الثاني الذي يسبق الزواج ويكون قبل الزواج: سوء التربية، إن الشخص إذا نشأ نشأة غير مستقيمة، وقصَّر الأب أو قصرت الأم في تربية ابنها وابنتها؛ فإن الذي يجني عواقب سوء التربية هو ذلك الابن بعد سنين طالت أم قصرت، قل لي بربك: إذا كان الابن ينشأ في بيت مليء بالخصام والسباب، إذا نشأ الابن على يد أب لا يحسن معاملة زوجته ولا يحسن بِر زوجته، فظاً غليظاً مؤذياً لا يتقي الله والرحم، كيف سيكون حاله وكيف سيتصرف مع أهله؟ لا شك أنه سيعامل أهله بمثل ما عامل به والده أهله.
فلذلك -أحبتي في الله- تربية الأبناء وتربية البنات تربيةً صالحةً مستقيمةً أمرٌ من الأهمية بمكان.
وحسبي أن أذكر صورة عجيبة تعتبر من أهم الأسباب التي توجب فساد الزوج على زوجه والزوجة على زوجها، هذه الصورة أن بعض الآباء إذا أراد ابنه أن يدخل على امرأته جلس معه وأعطاه أشنع صورة عن المرأة ونفره من زوجته، وقال له: لن تستقيم لك حياة الزوجية إلا إذا عبست في وجهها وضربتها وآذيتها، وإياك أن تفعل وإياك أن تفعل، فيلقنه ويجعل الزواج في نظره شراً لا بد منه، ما الذي تنتظر من هذا الابن؟ ما الذي ينتظر من ابن دخل بهذه الأفكار؟ وكذلك الأم، ويا للأسف! حينما فقد المسلمون أمهات صالحات، بدلاً من أن كانت المرأة تجلس مع ابنتها تصبرها وتعللها وتبين لها حقوق بعلها، وتهديها إلى الصراط السوي في معاشرة زوجها، لما تغيرت الأمهات وأصبحت الأم تلقن ابنتها الأفكار الرديئة، يا ابنتي إياكِ أن تخضعي له إياكِ أن تكوني ذليلة إياكِ إياكِ، ثم تكون النتائج بعد ذلك على رأس الزوج والزوجة، والله ثم والله ما من أب يربي ابنه على ذلك وما من أم تربي بنتها على ذلك إلا لقيت ربها ولقي الأب ربه بجميع الأوزار التي ترتبت على كلامه، والله ما من مشكلة نتجت عن ذلك الكلام الخاطئ إلا وسيحمل وزرها أمام الله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13].
فلذلك إذا كان الأب لا يحسن تربية ابنه فإنه تكون النتائج والعواقب الوخيمة على تلك الزوجة المظلومة، وإذا كانت الأم لم تحسن تربية ابنتها فإنها ستكون العواقب الوخيمة على ذلك الزوج المظلوم.
لذلك -أحبتي في الله! - علاج هذه المشكلة وعلاج هذا السبب بينه النبي صلى الله عليه وسلم حينما دعا إلى تربية الأبناء والبنات حتى رغب شرع الله في التربية الحسنة قال صلى الله عليه وسلم: (من ابتلي بشيء من هذه البنات فرباهن فأحسن تربيتهن، وأدبهن فأحسن تأديبهن، إلا كن له حجاباً من النار) فإذا ربت الأم ابنتها على الكلام الطيب وخرجت تلك البنت سويةً في أفكارها، مستقيمةً في نظرتها؛ فإنها سرعان ما تطبق ذلك في عشرتها لزوجها، لقد ربت أمهات -وأي أمهات- بناتهن على الإحسان إلى الزوج وكانت تلك البنت وفيةً بارةً، ولها مثل أجر ابنتها في إحسانها إلى زوجها، ولذلك بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن من سبل الجنة أن تحسن المرأة عشرة زوجها، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت بعلها، دخلت من أي أبواب الجنة شاءت) لذلك أحبتي في الله! تربية الأبناء والبنات أمر من الأهمية بمكان.(18/8)
المغالاة في المهور
أما السبب الثالث الذي يعتبر من أسباب المشاكل الزوجية السابقة: فالمغالاة في المهور، والمغالاة في كلفة الزواج.
إذا تكلف الزوج وأصبح يعاني من ذلك المال الذي دفعه مهراً لزوجته، ويعاني كذلك في كلفة زواجه من امرأته، فإنه سيدخل إلى بيت الزوجية مثقلاً بالديون وهمومها، مثقلاً بالديون وغمومها، وكيف تنتظر من إنسان مثقل بالدين أن يحسن العشرة لزوجه وأهله، لذلك فإنه ما من إنسان يبذخ في زواجه، إلا وجدت العاقبة السيئة لذلك البذخ، والزوج إذا دفع مالاً كثيراً في زواجه من امرأته نظر إليها وكأنها خادمةٌ اشتراها، وقدمت عليه إذا دفع مالاً كثيراً يحس أن له حقاً كبيراً على الزوجة، ومن هنا إذا حصل من الزوجة أي خطأ فإنه ينظر إليه وكأنه جريمة لا تغتفر، ومن هنا ينشأ سبب هذه المشاكل، فلا يمكن أن يتنازل عن حقه بعد ذلك العناء وبعد ذلك المال الباهظ الذي دفعه في زواجه.
لذلك -أحبتي في الله- أشار النبي صلى الله عليه وسلم وأشار هدي السلف إلى علاج هذه المشكلة، حينما بيَّن صلى الله عليه وسلم: (أن أبرك النساء أيسرهن مئونة) ولذلك قال بعض العلماء: من الدلائل التي يُظن فيها البركة للزوجين في زواجهما، ويُظن أن تبقى تلك العشرة؛ أن يبتدأ الزواج بكلفة يسيرة، فإذا ابتدأ الزوج زواجه بكلفة يسيرة بارك الله له في زواجه، أما إذا ابتدأه بالإسراف والبذخ وحارب الله من أول ساعة في زواجه فما الذي تنتظر؟!! لذلك -أحبتي في الله! - الإسراف في المهور والمغالاة فيها، والمغالاة في حفلات الزواج؛ كل ذلك يعين على المشاكل ويفتح بابها ويهيئ لدى الزوج عاملاً نفسياً للانتقام من زوجته والتضييق عليها، فينبغي للمسلم الذي يراقب الله ويرجو البركة في زواجه من الله أن يبتعد عن الإسراف والبذخ.(18/9)
أسباب المشاكل التي تقع بعد الزواج
أما الجزئية الثانية: ما هي أسباب المشاكل التي تقع بعد الزواج؟! فهناك عدة أسباب:(18/10)
التدخل في شئون الزوجين
ومن أسباب المشاكل الزوجية -بل من أعظمها وأهمها- والتي تنشأ بعد دخول الزوج على زوجته: تدخل الغير في شئون الزوج والزوجة، فإذا تدخل الغير في شئون الزوج والزوجة، فإنه حينئذٍ يعاني الزوجان من المشاكل.
ولذلك إذا أراد الله عز وجل أن يرحم الزوج أو الزوجة فإنه يكرمها بأن لا يدخل أحد بينهما، كم من نساء صالحاتٍ طاهراتٍ وكم من رجال صادقين مباركين وقعوا في مشاكل مع زوجاتهم لم يعلم بها أحد غير الله عز وجل، ولذلك من سداد العبد وصلاحه وكذلك من سداد المرأة وصلاحها ألا يدخل الغريب بينهما، ولذلك كان من الخطأ البين تدخُّل الأب في شئون ابنه، وكذلك تدخل الأم في شئون ابنتها، فيجلس كل واحد منهما يتعقب الزوج والزوجة يسأله عن أمور قد لا يحل له السؤال عنها، وهو مسئول بين يدي الله عز وجل عن كشف تلك العورة والسؤال عن ذلك العيب الذي لم يأذن الله عز وجل به.
وإذا أراد الله أن يصلح حال زوجين فإن الله تعالى يقطع عنهما كل غريب يدخل بينهما.
إذا أردت أن تعرف حكمة الرجل في معاملته لزوجه فانظر إليه في أسراره مع أهله، إن وجدته كتوماً لا يخبر أحداً، يعول على الله ويشتكي إلى الله ويعلق الرجاء في الله، ويحسن إدارة الأمور بنفسه متوكلاً على ربه معتمداً عليه فظن به خيراً.
وكذلك المرأة الصالحة لا تأذن لأحد أن يدخل بينها وبين زوجها، ولذلك تحاول رغم أذية زوجها لها ألا يعلم قريب ولا أحد بما جرى بينهما، وهذا قمة في الوفاء وقمة في العشرة الصالحة السوية والعكس بالعكس.
لما أصبحت الأمهات وأصبح الآباء يتدخلون في شئون الأزواج والزوجات، وكل منهما يدلي برأيه ويحاول أن يتعقب وأن يفسر الأمور ويحملها على غير ما ينبغي، لما كان ذلك وقعت المشاكل وعانينا منها.
لذلك أحبتي في الله! لنتقي الله في التدخل في أمور الزوجين.
وهناك مسألةٌ أيضاً: بالنسبة للأصدقاء في تدخلهم في شئون أصدقائهم، حتى في شئون الإنسان مع زوجه، هذا أمر لا يجوز ولا يحل شرعاًَ لإنسان يؤمن بالله واليوم الآخر إلا أن يأذن له ذلك الزوج ويدخل على وجه الإصلاح لا على وجه الإفساد، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك حينما بيَّن خطر ذلك فقال: (لعن الله من خبب امرأةً على زوجها، ولعن الله من خبب زوجاً على زوجته) لعن الله من أفسد زوجاً على زوجته، فالمسئولية عظيمة، إذا جاءك الإنسان يشتكي فينبغي عليك أن تعول وأن تحس أنك أمام عورة وأنك أمام أمر ينبغي ستره، فعوده الصبر وحاول قبل أن يتكلم أن تذكره بالله، وأن تعوده على التوكل على الله، وأن تكون مشاكله بينه وبين زوجه، وعوده الصبر والتأسي واذكر له من قصص السلف ما يثبت جنانه وفؤاده.
إنك إن فعلت ذلك كان لك خيراً في الدنيا والآخرة، فرحم الله رجالاً صادقين ونساءً صادقات ثبت الله بهن قلوب الأزواج والزوجات، أولئك الأصفياء البررة الذين يوصون بالصبر ويوصون بالتحمل واحتساب الأجر.
لقد أوجد الله عز وجل رجالاً صادقين كادت الأسر أن تتمزق لولا نصائح منهم قيمةً، ولولا الله ثم نصائح منهم قيمة وكلمات منهم مباركة سديدة، أولئك الذين عناهم الله عز وجل بقوله {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] التواصي بالصبر من كانت فيه هذه الخصلة فهو من الناجين لا محالة إذا كان الرجل يصبَّر صديقه على زوجه ويسليه في محنته ومشكلته، فإنه من أهل الخير ومن الذين عناهم الله عز وجل بالنجاة.(18/11)
سوء الظن بين الزوجين
السبب الثاني من أسباب المشاكل التي تقع بعد الزواج: سوء الظن بين الزوج والزوجة؛ الزوج يدخل إلى بيت الزوجية ولا يحسن الظن بامرأته إما في معاملتها أو في تصرفاتها، فإذا كان من هذا الصنف الذي لا يحسن الظن بزوجته فإنه سرعان ما يفتح على نفسه وعلى غيره باب المشاكل، وقد تنشأ المشاكل العظيمة التي قد تفتك بأسرة الزوج وكذلك أسرة الزوجة بسبب سوء ظن أحد الزوجين بالآخر، إذا تصرفت الزوجة وأخطأت أي خطأ فسره الزوج على أنها تكرهه وعلى أنها تبغضه، ولا يلتمس المخرج، ولذلك ينبغي -إذا كنت حكيماً تريد العافية من المشاكل- إذا رأيت الخطأ من الزوجة فأنت تحمله المحمل الحسن، وإذا بلغ الأمر أقصاه وأصبح الإنسان لا يجد مخرجاً فليقل: زلة غفر الله لي ولها، هذا أقصى ما يكون، فإن الله عز وجل بشر العافين عن الناس بخير عظيم، وإذا لم يكن العفو عن الأهل فعمن تعفو؟ إذا لم تتسع صدورنا عن زلات الزوجات والأهل فلمن يتسع الصدر؟ فإذا لم تتسع الصدور للقرابة فلمن تتسع؟ ولقد بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حينما أوصى بالنساء خيراً، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استوصوا بالنساء خيراً).
فمن حفظ وصية رسول الله حفظه الله تبارك وتعالى، ومن ضيع وصية الله ووصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيعه الله، فينبغي للرجل أن يصبر على زوجته وأن يتحمل أذاها، وأن يذكر أن عند الله عز وجل له جزاءً.
فإذا ساءت ظنون الزوج وساءت ظنون الزوجة بزوجها فتح كل واحد منهما على الآخر باب المشاكل وعانى منها.
وعلاج ذلك أن نترسم هدي الكتاب حينما نهانا عن إساءة الظن بالمؤمنين، فقال جل وعلا في كتابه المبين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] قال بعض العلماء في تفسير هذه الآية الكريمة: في هذه الآية دليل على أن المظاهر ليست قطعية الدلالة على الجواهر، فقد ترى من المرأة تصرفاً عجيباً لكن هذا التصرف لا ينمي على أنها قاصدة السوء، والعكس بالعكس كذلك أيضا.(18/12)
سوء المعاشرة
أولها: سوء المعاشرة من الزوجين أو أحدهما، فإذا أساء الزوج عشرة زوجته وأصبح لا يبالي بالكلام الذي يقوله ولا يبالي بالفعل الذي يعمله، عندها تبدأ المشاكل، وعندها يراقب كل من الزوجين الآخر في كلامه وتصرفاته، ولذلك ندب الله تبارك وتعالى عباده المؤمنين وحثهم في كتابه المبين على الكلام الطيب في عشرة الأزواج: أن يعاشروهم معاشرةً طيبة وصية من الله تبارك وتعالى، يقول جل شأنه وتقدست أسماؤه: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] قال بعض السلف وهو قول مأثور عن ابن عباس وغيره: {وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} [النساء:19] أي ولداً صالحاً.
ولذلك قالوا: إن الزوج إذا صبر على أذية زوجته وعاشرها بالمعروف مع أذيتها وإساءتها قد يرزقه الله منها ولداً صالحاً، وقد ذكروا عن رجل من السلف الصالح رحمه الله أنه دخل عليه طالب من طلابه فرأى ابناً باراً فعجب ببره فلما خرج الابن قال ذلك العالِم الجليل: أتعجب من بره؟ قال: إي والله، قال: والله لقد عاشرت أمه عشرين أو ثلاثين عاماً ما تبسمت في وجهي يوماً قط فصبرت فعوضني الله ما ترى، وعن بعض السلف -وهو أبو زيد محمد القيرواني رحمة الله عليه إمام جليل من أئمة العلم والدين- أنه كانت امرأته فظةً غليظةً تؤذيه بلسانها، فلما أكثرت عليه اشتكى طلابه وقالوا له: كيف تصبر عليها؟ وكيف تعاشرها بالمعروف وهي تسيء إليك؟ فقال رحمه الله -أقوام يعرفون كيف يعاملون الله-: إني أعاشرها بالمعروف، وأما قولها فبلاء لعلي أصبت ذنباً فعوقبت بها، فلو طلقتها لعاقبني الله عقوبة أشد منها.
فلذلك كان السلف رحمهم الله يعاشرون بالمعروف مع إساءة الزوجة وإعراضها، فأصدق معاشرة من الزوج لزوجه وأصدق معاشرة من الزوجة لزوجها إذا أساء إليها، لن تكون معاشراً بالمعروف إلا إذا كانت زوجتك تسيء إليك، ولن تكون المرأة معاشرة بالمعروف الحق الذي تؤجر عليه من الله ويعظم فيه ثوابها إلا إذا كان زوجها يسيء إليها، فالمعاشرة الكاملة بالمعروف التي يعظم ثوابها عند رب العالمين إذا كانت الإساءة من الزوجة، فعلاج هذه المشكلة وهي سوء المعاشرة أن يعاشر الزوج أهله بالمعروف وأن يصبر ويتحمل.
جاء عقيل بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد آذته امرأته بسبابها وشتائمها، فجاء إلى عمر لعله أن يشتكيها إليه، فلما وقف بباب عمر في الظهيرة سمع امرأة عمر تسب عمر فعجب وقال: إذا كان هذا أمير المؤمنين فما حال عقيل؟! فرجع من ساعته ورآه عمر فناداه فقال: يا عقيل! ما شأنك؟ قال: خيراً يا أمير المؤمنين، قال: عزمت عليك أن تخبرني، قال: يا أمير المؤمنين! ما هو إلا أن فلانة آذتني وأسمعتني ما أكره فقلت: آتي أمير المؤمنين وأشتكي إليه، فلما وقفت بالباب سمعت امرأة أمير المؤمنين تسب أمير المؤمنين، فقلت: إذا كان هذا أمير المؤمنين فكيف بـ عقيل؟ فقال عمر رضي الله عنه: يا عقيل! إنها امرأتي ترضع صغيري وتغسل ثوبي فأنا أمسكها من أجل ذلك.
يعني: إذا ذكرت لها المعروف وإذا ذكرت لها الإحسان غفرت إساءتها، وهذا معنى لطيفٌ مستنبطٌ من الحديث الشريف الذي ثبت في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً -لا يفرك: أي: لا يبغض مؤمن مؤمنة- إن كره منها خلقاً أحب منها آخر).
ولذلك كان من وصايا الحكماء: أن الإنسان إذا رأى الزلة غفرها بما هو أعظم منها، فإذا وجد كلامها غير مستقيم، أو تسبه أو لا تحسن الخطاب معه غفر لها ذلك بإحسانها في طعامها وشرابها وتذكَّر من يسيء بالقول الذي هو أشد، وإذا كانت تسيء بالقول الذي هو أشد فتذكر من يسيء ويؤذي الأبناء، ثم هكذا فما من مصيبة إلا وهناك ما هو أعظم منها.
ومن حكمة الله تبارك وتعالى أنه ما من زوج يصبر على أذى زوجته إلا كانت له العاقبة، بعض الأزواج بلوا بزوجاتٍ آذينهم أذية عظيمة فصبروا، فمنهم من رزقه الله هداية زوجته وأصبحت في شجن وحزن وندم لا يعلمه إلا الله، وأصبحت تستحي منه وتخجل منه خجلاً شديداً، ومنهم من يعوضه الله عز وجل بصلاحها وصلاح أبنائها، فالخلف من الله مضمون، وما من إنسان يصبر ويعاشر بالمعروف مع إساءة الزوجة وأذيتها إلا كان له من الله أجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
فمن أراد أن يكون من الأخيار فليحسن إلى زوجته ويكرمها.
ولذلك أثر في كثير من قصص العلماء والصالحين أنهم كانوا مبتلين بإساءة زوجاتهم وكانوا على وفاء وتذمم وصبر.
فلذلك -أحبتي في الله! - من أراد أن ينجو من تلك المشاكل التي تقع بسوء المعاشرة؛ فعليه بالصبر والتحمل ما استطاع إلى ذلك سبيلاً خاصة الزوج؛ لأن الرجل فضله الله على المرأة بالقوة، ولذلك أعطاه من الصبر والتحمل ما لم يعطه للزوجة، فإذا بلي الزوج بزوجة لا تحسن معاشرته فعليه بالصبر والتحمل.(18/13)
علاج المشاكل الزوجية
أحبتي في الله: ما هو علاج هذه المشاكل؟ كيف تتصرف الزوجة؟ وكيف يتصرف الزوج إذا وقف أمام المشكلة؟ وهذه هي النقطة الثالثة.(18/14)
الابتعاد عن أسباب المشكلة
الأمر الثالث: ابتعد عن أسباب هذه المشكلة، فإذا دخلت البيت -لا سمح الله- فوجدت خصاماً وشجاراً أو خطأً ما فاخرج من البيت ولا تبق فيه لأن الشيطان يستزلك، وقد يجرك إلى كلمة تودي بهذا البيت إلى كارثة قال تعالى: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53].
فاخرج من البيت أو غير من حالتك فاذهب وتوضأ وصلِّ وادخل إلى غرفتك، المهم لا تبق أمام ذلك الموقف، إلا المواقف التي تحتاج إلى فصل، والمواقف التي تحتاج إلى حل في حينها فحينئذٍ استلهم من الله الصواب، ثم امض ولا حرج ولا عتب عليك، وهذا أمر من الأهمية بمكان.(18/15)
الالتجاء إلى الله عز وجل
إذا بلي إنسان بمشكلة، فأول ما ينبغي عليه اللجوء إلى الله تبارك وتعالى، ولذلك يقول بعض العلماء: من دلائل الفرج أن تجد العبد إذا أصابه الكرب توجه إلى الله عز وجل، فإذا وجدت الزوجة قد تغير خلقها أو جئت في قضية اختلفتما في الرأي فاستخر الله عز وجل وادع في صلاتك واسأل الله تبارك وتعالى أن يشرح صدرك وصدرها للخير، فأول ما ينبغي اللجوء إلى الله.
وهناك لطيفةٌ عجيبة، كنت أقرأ في القرآن في سورة البقرة -وكثيراً ما تمر هذه السورة- فمن عجيب ما يلفت النظر أن الله تعالى ذكر مشاكل الطلاق وجاء بينها فقال: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] كأنه ينبه على أن هذه المشاكل تنشأ من ضعف الصلة بالله تبارك وتعالى، ومما يدل على أن الدعاء والتعلق بالله عز وجل مفتاح الفرج في المشاكل الزوجية قول الحق تبارك وتعالى: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:89 - 90] فبين تعالى أنه أصلح له زوجه ثم قال: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا} [الأنبياء:89] فدل على أن الدعاء مفتاحٌ في صلاح الزوج والزوجة.
وهكذا المرأة إذا تنكر عليها زوجها فلتقرع باب ربها وتشتكي إلى الله: اللهم أصلح لي زوجي، والزوج يقول: اللهم أصلح لي أهلي.
وتجد من تلك الدعوة منحة من الله لا يخيب صاحبها، فوالله ما من عبد يتعلق بالله فيخيب في تعلقه أبداً، وما من إنسان يلهمه الله أن يدعوه في كربه إلا كان موفقاً مجاباً.(18/16)
الاتصال بالعلماء
الأمر الثاني: إذا نزلت بك المشكلة أو بالمرأة فأوصيك وصيةً، أن تتصل بالعلماء، فاستشر أول من تستشير العلماء حتى تعرف، قد تكون المسألة متعلقة بالدين والشرع تحتاج إلى أن تتصرف تصرفاً شرعياً واجباً عليك، فاتصل بأحد العلماء، وقد كان الناس في خير وكانوا يسألون العلماء في كل صغير وكبير، وكان العالِم إذا خرج من المسجد يخرج بخلية نحل من كثرة الناس، كان الناس يتعلقون بهذا الدين ويتعلقون بالعلماء الربانيين تعلقاً -والله- أشد من تعلقهم بالآباء والأمهات، فلما فقدت هذه الوشيجة وأصبحنا نستشير ونسأل ونذهب إلى إنسان لا دين له ولا أمانة، فما الذي يتوقع من هذا الإنسان؟ وقد يذهب إلى إنسان غشاش لا يتقي الله في بيوت المسلمين.
فلذلك ينبغي أن تتصل على العالِم، وكن نقياً صادقاً فيما تقول، أميناً فيما تنقل، وأنصف المرأة من نفسك وقل: وقع كذا وكذا وكذا يا شيخ فنورني، ودلني ماذا أصنع.
والله ما من إنسان يُجلُّ أهل العلم ويكون على صلة بالعلماء إلا بلَّغه الله الخير في أمره، وهذا أمر مهم جداً أن ترجع للعلماء.
فرضنا أنك في مكان لا يتيسر فيه العالِم أو اتصلت ولم يوجد العالِم، فاذهب إلى كبار السن من أهل العقول الصائبة والآراء المستقيمة، واعرض عليه مشكلتك وبين له ما تعانيه واستشره: شاور أخاك إذا نابتك نائبةٌ يوماً وإن كنت من أهل المشورات فالعين تبصر ما دنى ونأى ولا ترى ما بها إلا بمرآة العيب الذي في العيون ما تستطيع رؤياه إلا بمرآة، قد تظن أنك أنت المحق وأنت المبطل، أو أنك المبطل وأنت محق، فأين ومن الذي يدلك على هذا العيب؟ غيرك من أهل العقول المستقيمة الذين نور الله بصائرهم وأبصارهم، ولا يخلوا مجتمع -إن شاء الله- من وجود أمثال هؤلاء، فارجع إلى عالِم أو ارجع إلى إنسان من أهل العقل والرزانة أو إنسان يجمع صفتين: الدين؛ لأن الدين يستلزم الورع.
والأمر الثاني: الأمانة، فيكون أميناً وليس خائناً.
فإذا وجدت ذلك فعض عليه بالناجذ واسأله عما جدَّ وطرأ عليك.(18/17)
واجب المحيطين بالزوجين تجاه مشاكلهما
الأمر الثاني: أما واجبنا نحن أمام إنسان نراه يعاني من المشاكل فهو: أن ندله على ما سبقت الدلالة عليه في المحاضرة.
الأمر الثاني: ينبغي أن تتوفر فينا صفات أهل الإيمان كالتصبير، فكثير منا لا يحسن المعاملة مع أصدقائه، يحاول إذا جاءه صديقه يقول له: والله اليوم قالت المرأة كذا وكذا فيقول له: المرأة تقول كذا وكذا!! امرأتك تقول كذا وكذا!! هل أنت رجل؟! هل كذا؟!! وكذلك المرأة تأتيها المرأة مسكينة متألمة من موقف فتقول: كيف تسكتين؟ ولماذا كذا؟! هذه الأنفس التي لا تراقب الله عز وجل فتثير الضغائن بين المسلمين هذا لا ينبغي، أين أولئك الحكماء الحلماء الرحماء؟ أخي المسلم: والله لن تكون مسلماً حقاً -إذا جاءك أخوك يشتكي من امرأته- إلا نزلت هذه المرأة كأختك، نزلها كأختك وانظر الضرر الذي سيجري وسيكون عليها، وعندها تعرف أين الصواب، وتعرف ما الذي تقول وما الذي تنصح به أخاك؛ لأنها أختك في الدين، كيف تحرض الزوج عليها؟ ولذلك بعض النساء حرمن التوفيق وبعض الرجال حرم التوفيق فلا يحسن حين يرى الزوج أو يرى الزوجة في انفعال وغضب؛ لا يحسن معاملته، فالنار لا تطفأ بالنار والمفاسد لا تطفأ بالمفاسد، ولكن النار تطفأ بالماء، والطيش يطفأ بالحكمة، والاستعجال يطفأ بالأناة.
أحبتي في الله: لنتق الله في الأزواج، كلمةٌ طيبةٌ منك تقولها للزوج تصبره.
وأذكر أن أحد العلماء جاءه رجل في مشكلة زوجية فقال له: يا أخي أخيرك بين أمرين: إما أن تصبر عليها ووالله إني لأرجو لك عند الله أجراً عظيماً، وإما أن تسرحها وتطلقها بعد إذ أعيتك الحيلة فحينئذٍ تكفى شراً بليت به، فقال له: يا شيخ! كيف أمسكها وأنا أعاني من كذا وكذا؟ وذكر الأشياء التي يعاني منها؟ فقال له: يا أخي تصور هذه المرأة لو كانت أختك، فجاءتك يوماً من الأيام تحمل متاعها على ظهرها وتسوقه إلى بيت أبيها وإخوانها، هل ترضى ذلك؟ وما موقفك من ذلك؟ أتحب أن تعامل أخواتك بهذه المعاملة؟ قال: لا، قال: فعامل نساء المؤمنين كذلك.
فلذلك -أحبتي في الله- واجبنا عظيم حينما نسلي الزوج والزوجة بالصبر والسلوان، قل للزوجة وللزوج: من هذا الكامل؟ لو أن الأم إذ جاءتها ابنتها صبرتها وسلتها لصلحت أحوال كثيرة، ولكن الذي يقع هو العكس، فإن كلاً منهم يحرض ابنه ويحرض ابنته ومن ثم نبكي على الأضرار.
أحبتي في الله! إخواني في الله! إن علاج هذه المشاكل بالرجوع إلى كتاب الله وإلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يعي كل واحد منا مسئوليته تجاه إخوانه وتجاه أبنائه وبناته.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح منا ومنكم ما ظهر وما بطن، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم تدارك برحمتك بيوت المسلمين من هذه المشاكل، اللهم اقسم لها رحمة ترحم بها من عذاب، اللهم اكشف تلك الغمة وذلك البلاء عن بيوت المسلمين، لا إله إلا أنت سبحانك إنا من الظالمين، نستغفرك ونتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.(18/18)
الأسئلة(18/19)
مسائل حول تعدد الزوجات
السؤال
وردت أسئلة كثيرة حول مسألة تعدد الزوجات، ولها جوانب وأحد جوانبها يقول: هل الأصل تعدد الزوجات أو الأصل أن يكون للرجل زوجة واحدة؟ ثم بعض السائلين يشتكي من المشاكل التي تحدث بينه وبين زوجته وما يحدث بعد ذلك من تفككٍ بسبب رغبته في الزواج من زوجة ثانية، وبعض الزوجات تشتكي من سوء المعاملة عندما يتزوج الزوج زوجة أخرى، وأمثال ذلك من المشاكل التي تحدث من التعدد وبسببه، فنرجو -حفظكم الله- أن توضحوا حكم الله في هذه المسألة وهي مسألة تعدد الزوجات وما يتعلق بها، وما يمكن أن يحدث بين الزوجين بسببها؟
الجواب
أما تعدد الزوجات فقضية بيَّن الله حكمها وفصَّل فيها من فوق سبع سماوات، شرعٌ بينه الله في كتابه وشرعه على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذه القضية لا تحتاج إلى قول بعد قول الله تبارك وتعالى، والمؤمن الذي يؤمن بالله واليوم الآخر لا يسعه إلا الرضا بما أمر الله تعالى به، وحينئذٍ نقول قد بين الله تبارك وتعالى مشروعية التعدد في كتابه فقال سبحانه وتعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3] وبناءً عليه يجوز للإنسان أن يطلب التعدد، وهو مقصود شرعاً لما فيه من تكثير سواد هذه الأمة المباركة، وإيجاد النشء الصالح وتربيته للقيام بواجبه ومسئوليته في طاعة الله وعمارة الكون بتلك الطاعة.
إذا تبين هذا فلن تكون المرأة مؤمنة، ولن يكون الرجل مؤمناً إلا إذا رضي بكتاب الله وبحكم لله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36].
فالمرأة المؤمنة الصالحة البرة المتقية تعي هذه القضية، قضيةٌ حكم الله فيها بكتابه وبين حكمها بكلامه -سبحانه- حكماً لا إشكال فيه ولا غموض ولا لبس فيه، فلا إيمان إلا بالتسليم: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
إذا ثبت هذا واستقر، فإن الإسلام دين عدل لم يأمر الزوج أن يطلق عنانه بطلب الزوجات وتكثيرهن إلا بشروط وقيود بينها الله تبارك وتعالى بقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] فإذا كان الرجل براً وفياً عادلاً مستقيماً، فإنه لا حرج عليه أن يعدد، فالله أذن له، ولن تكون المرأة مؤمنة حقاً إلا إذا رضيت بحكم الله عليها، وإذا أصبحت تضار الزوج وتضيق عليه وتؤذيه وتعنته، فوالله إن في رضاها بحكم الله دخن.
يا أمة الله! لمَ تخافين من حكم الله تبارك وتعالى؟ ولمَ تمنعين عن هذه الأمة المباركة نسلاً صالحاً يعمر الكون بطاعة الله ومحبة الله؟ إنه لمن الشجى والأسى أن تدخل علينا العادات الغريبة، فتؤذي عبد الله وأمة الله في قضية بيَّن الله عز وجل حكمها من فوق سبع سماوات.
الزواج إذا كان بتعدد وكان الذي عدد الزوجات رجلاً عادلاً مستقيماً، فلا حرج ولا عتب ولا غضاضة على المرأة، وكم من امرأة رضيت بالتعدد فأظهر الله فضلها به، كانت صالحةً طيبة مستقيمة ما عرف الزوج فضلها وصلاحها إلا لما تزوج غيرها فحمد أخلاقها وآدابها وعرف فضلها وشهد لها بالخير.
لذلك -إخواني في الله- لا ينبغي للإنسان أن يكون بعيداً عن منهج الشرع، ويغفل عن قضية حكم الله فيها من فوق سبع سماوات، والمرأة المؤمنة الصادقة في إيمانها ترضى بحكم الله عز وجل، وإذا كانت المرأة تخشى من هذه المرأة التي يراد إدخالها عليها أنها سيئة في خلقها سيئة في أدبها، فلا حرج عليها أن تقول لزوجها: لا أرضى بفلانة وأرضى بغيرها إن كانت برة مستقيمة، فلذلك ينبغي للمرأة الصالحة المستقيمة أن ترضى بحكم الله، وأن نرضى جميعاً بحكم الله، أليس عائشة الصديقة بنت الصديق قد تزوج عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن أنتِ أمام هذه البرة الطاهرة المستقيمة العفيفة، وإذا كانت هذه أم المؤمنين الطاهرة المطهرة المزكاة من فوق سبع سماوات قد شرع الله التعدد عليها، فلم هذه الغضاضة؟ ولماذا هذا الحزن؟ يا أمة الله: القضية قضية حياة زوجية مستقيمة وليست بقضية عنت وتضييق وحرج.
كذلك لو أن كثيراً من النساء تفكرن في الموضوع، وكذلك كثير من الرجال فكروا فيه لوجدوا أنه مجرد وسوسة يؤثر الشيطان بها على القلب، وإلا فالمسلمون من قرون عديدة يعددون، وبالتعدد اجتمعت الأرحام واجتمعت الوشائج على اختلاف القبائل والأنساب، وكان في التعدد من الخير ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، فكان البيت الواحد إذا أصيب بمصيبة أتت لها بيوت لا تحصى كثرةً، فهذا كله من خيره.
فلذلك لا ينبغي لإنسان أن يعترض على حكم فصَّل الله فيه من فوق سبع سماوات، ولا ينبغي للمرأة أو للرجل أو لأي شخص كائناً من كان أن يؤثر في هذا الحكم، أو يحاول أن يوجد ضعفه أو يلتمس فيقول: قد تغير الزمان فيتغير الحكم بتغير الزمان، بل ينبغي علينا أن نكون مؤمنين حقاً كما أمرنا الله أن نكون.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يهب لقلوبنا رحمةً تجعلنا على التسليم والإذعان الذي يرضيه عنا إنه ولي ذلك والقادر عليه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(18/20)
حكم طاعة المرأة زوجها في غير معصية الله
السؤال
عندما يطلب الزوج من زوجته الاستقامة وترك بعض المحرمات، كمشاهدة المسلسلات ورؤية التلفزيون أو غيره من الآلات الفاسدة الجامعة لبعض المفاسد، فترفض الزوجة الانصياع لذلك وتحدث المشاكل الزوجية، فما توجيهكم حفظكم الله لهؤلاء الزوجات ولغيرهن من أخواتنا المسلمات؟
الجواب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد: فإن محور هذا السؤال يدور حول قضية الطاعة للزوج، ذلك أن الزوج قد يطلب من زوجته أن تطيع الله تبارك وتعالى، فلا تستجيب لذلك الأمر ولا تصغي له، والسؤال: ما الذي ينبغي فعله؟ والجواب: أنه ينبغي على المرأة أن تتقي الله عز وجل وأن تكون على استجابةٍ لزوجها إذا دعاها لمحبة الله ومرضاته، ولذلك نص العلماء رحمهم الله على أنه يجب على المرأة أن تطيع زوجها بالمعروف، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم -والذي تقدمت الإشارة إليه- أن المرأة إذا أطاعت زوجها واتقت الله عز وجل في بعلها فإنها تدخل الجنة من أي أبوابها شاءت، وهذا يدل على أن حرمان الزوجة من الجنة مرتبط بطاعتها لزوجها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما خطب يوم العيد قال: (تصدقن يا معشر النساء فإنكن أكثر حطب جهنم، قالت امرأة: ولم يا رسول الله؟ قال: بكفركن، قلنا: يكفرن بالله؟ قال: وإنما يكفرن العشير).
فالمقصود أنه ينبغي للمرأة أن تكون مطيعةً لزوجها مصغيةً إليه، خاصةً إذا أمرها بطاعة الله ومرضاته والعكس بالعكس، فإنها إذا عصت زوجها في أمرها بطاعة الله تبارك وتعالى فقد خرجت عن هدى الله المستقيم وطريقه القويم وهي آثمة شرعاً، ولذلك قال بعض العلماء: إذا أمر الزوج زوجته بطاعة الله فلم تطع الله ونهاها عن معصية الله فلم تتق الله عز وجل بترك تلك المعصية أثمت من وجهين: الوجه الأول: عصيانها لربها بفعل تلك المعصية.
والوجه الثاني: عصيانها لزوجها بعدم الاستجابة له إذ أمرها بطاعة الله.
فلذلك ينبغي للزوجات أن يتقين الله تبارك وتعالى وأن يبتعدن كل البعد عن معصية الزوج إذا أمر بطاعة الله، ولا خير في امرأة لا تقدر لزوجها إذا أمرها بطاعة الله قدره وتستجيب له، إنها لمن نعم الله تبارك وتعالى على المرأة المسلمة أن توفق بزوج يدعوها إلى طاعة الله ومحبته، والله تعالى أعلم.(18/21)
إذا اجتمع حق الزوجة وحق الأم فأيهما يقدم؟
السؤال
هناك مشكلة أخرى كثر السؤال عنها ولها وجهان: ألا وهي علاقة الرجل بزوجته وأمه، فكثرت الأسئلة حول هذه العلاقة فأسئلة تقول: إن بعض الأزواج يهملون أمهاتهم لصالح زوجاتهم، أي إنهم يجورون في معاملتهم لأمهاتهم من أجل زوجاتهم، والعكس أيضا، فطائفة أخرى تشتكي بأن بعض الأزواج يهملون زوجاتهم ويخلون بحقوقهن من أجل أمهاتهم، وبعض الأمهات يتدخلن في شئون أبنائهن وزوجاتهم، ويفتحن أبواباً للمشاكل كبيرةً، وطائفة أخرى تقول: إن أمهات الزوجات يتدخلن في إيجاد مشاكل زوجية وأمور خلافية بين الأزواج؟
الجواب
هذا السؤال يدور حول قضية مهمة وهي أن الزوج قد يقع بين خيارين: بين بِر الوالدة وكذلك طاعة الزوجة أو الإحسان إليها في أمر ما!! فيقف بين هاتين القضيتين: الأم ترغب شيئاً ما والزوجة ترغب شيئاً خلافه أو لا ترغب في ذلك الشيء الذي ترغبه الأم، كيف يتصرف المؤمن أمام هذين الخيارين المتناقضين؟ فبعض الأزواج يفضل رأي الأم مطلقاً ويصغي لها حتى إلى درجة أنه يضيِّع بسببها حقوق زوجته، وبعض الأزواج -أيضا- يفضل رأي الزوجة ولو كان على حساب بِر الوالدين.
فهاتان قضيتان هامتان يقف المسلم أمامهما: القضية الأولى بِر الوالدين وهو فرض لازم على المكلف ولازم على الزوج، إذا أمرته أمه أو أمره أبوه في غير معصية من معاصي الله عز وجل وجب عليه أن يطيع، وكذلك الزوجة لها حق حسن العشرة فلذلك أقول: ينبغي للسائل أن يوازن بين رأي الأم ورأي الزوجة فلا تخلو القضية من أمرين: الحالة الأولى: إما أن تكون قضيةً شرعيةً قد فصل الله حكمها من فوق سبع سماوات، فلا خيار للأم ولا للزوجة، بل طبق ما أمرك الله بتطبيقه، إذا وقفت في الخيار وكان الخيار في قضية شرعية واجبة أو نهي عنها، فقدم أمر الله وشرع الله سواءً كان مع الأم أو كان مع الزوجة.
الحالة الثانية: أن يكون في القضايا التي وسع فيها كفضول الأمور، فحينئذٍ بِر الوالدين فرض لازم وقد تعارض بِرٌ واجبٌ مع أمر قد يكون من المستحبات كالإحسان إلى الزوجات، فلو فرضنا أن أماً دعت ابنها في عصر ذات يوم إلى أن يأتيها لقضاء حاجةٍ تحتاجها وقالت المرأة: إنها تريده لأمر ما من الفضول كالخروج في نزهة ونحوه من فضول الأمور، فحينئذٍ لا إشكال في أنه يقدم بِر الوالدة وطاعتها على تلك الزوجة؛ لأن الله تعالى أوجب على الإنسان أن يبر والديه وهذا فرض، وأما الإحسان في العشرة فإذا لم يصل إلى مراتب الفروض والواجبات فحينئذٍ لا إشكال في تقديم غيره عليه كما قرر العلماء ذلك في المسألة المعروفة بازدحام الفروض، يعني: إذا اجتمع فرضان أيهما يقدم؟ فالمقصود أنه إذا كانت هذه الأمور من الأمور الموسعة فيقدم بِر والدته على حق زوجته.
أما إذا كانت من الأمور الواجبة كأن تحتاج المرأة أمراً واجباً عليه كالنفقة والسكنى ونحو ذلك، فحينئذٍ لا إشكال، يبر والدته في غير معصية الله؛ لأنه إذا برها في هذه الحالة التي يضيع فيها حق الزوجة، كان في هذه الحال مطيعاً للأم في معصية الله، فحينئذٍ يقدم حق الزوجة والأبناء والبنات على بره لوالدته.
إذاً إما أن نقول: تكون القضية شرعيةً، فيعمل بوفق الشرع، هذه الحالة الأولى.
والحالة الثانية أن تكون قضيةً موسعاً فيها فحينئذٍ يقدِّم الفروض على المستحبات، وإذا اجتمعت الفروض كان التقديم فيها كما سبق بيانه والله تعالى أعلم.(18/22)
مواقف من الآخرة
الموت هو المصير المحتوم الذي أوجبه الله على كل حي في هذا الكون، وهو مصيبة، ولكن المصيبة العظمى والأدهى ما بعد الموت: من سؤال منكر ونكير، ومن بعث وحساب، مشي على الصراط.
فالاستعداد لما بعد الموت أمر مطلوب، وذلك بالعمل بما يرضي الله سبحانه وتعالى، واجتناب معاصيه، وتذكر الآخرة وأهوالها، فإنه عامل مساعد على الاستقامة على دين الله جل وعلا.(19/1)
ساعة الاحتضار وحال العبد عندها
الحمد لله الذي خلق الخلق فأحصاهم عدداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وإليه المآب والمرجع يوم الدين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما بعد: فيا إخواني في الله! وقفات ولحظات مع البرزخ والدار الآخرة، لقطات وومضات مع السفينة الماخرة إلى ذلك اللقاء المشهود، واليوم الموعود إلى لقاء رب العالمين وملك يوم الدين مواقف تهتز لها قلوب المتقين، وتَجِلُ لها أفئدة الخاشعين المتقين.
الآخرة ما الآخرة؟ هي التي أقضت مضاجع الصالحين، فكانوا قليلاً من الليل ما يهجعون، وبالأسحار هم يستغفرون، عرفوا ربهم وعظّموا خالقهم ووجلت أفئدتهم من هيبة المقام بين يديه.
الآخرة ما الآخرة؟ وما أدراك ما الآخرة؟ هي التي حرمت الأخيار لذة النوم والكرى، وانفطرت لها أفئدة المتقين العابدين، فساروا إلى الله حثيثاً، أما الأموال فبذلوها لوجه الله، وأما جاه الدنيا فسخروه لمحبة الله، الآخرة لا يعرف حقها وقدرها إلا من عرف عظمة الله وعرف هيبة الموقف بين يدي الله وقد تحدثت عنها آيات التنزيل فما تركت للعبد من قيل الآخرة التي بيّن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن السعيد فيها سعيد، وأن المحروم فيها شقي طريد.
أول منازل الآخرة وأول وقفة لنا معها، هي في تلك اللحظات التي يلقي العبد فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، أول منازل الآخرة: إذا وجل الفؤاد من لقاء الله تبارك وتعالى، وتهيأ للرحيل، فساعة الرحيل أول موقف يراه العبد من الآخرة، هناك حيث تبدو المعالم واضحة، هناك حيث تنتاب السكرات، وتعلو الزفرات، وتفيض العين بالعبرات، ويَجِلُ العبد من خشية الله تبارك وتعالى، إنها الساعة التي يؤمن فيها الكافر، ويوقن فيها الفاجر، يلقي العبد فيها نظراته على الأبناء والبنات، على الإخوان والأخوات، على الأصحاب والخلان، على الأحباب والإخوان، يُلقي آخر النظرات مودعاً وإلى ربه منتقلاً.
أول موقف من مواقف الآخرة إذا حانت ساعة الفراق {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:29 - 30] فهناك حيث يزول الغرور، ويبدوا للعبد هول البعث والنشور هناك حيث تزول عن العبد سكراته، وتذهب عنه آماله وطموحاته، تتنزّل عليه ملائكة الله تؤذنه بالرحيل من الدنيا هناك حيث يبكي العبد بكاء الندم، رب! ارجعون، رب! ارجعون {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100] {رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [المنافقون:10] ينادي بقلب متقطع، ونفسٍ متقطعة من الحنين والألم، عرف قدر الأيام والليالي، وعلم أن الله لم يخلقه عبثاً، وأنه لم يُوجد في هذه الحياة سدى، هناك حيث يُوقن العبد بلقاء ربه.(19/2)
تبشير الملائكة للمؤمن عند حضور أجله
إن أسعد اللحظات وأعزها على المؤمن إذا دنت ساعة الرحيل، تلك الساعة التي لا كرب بعدها على المؤمن أبداً، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه لما طفقت سكرات الموت عليه، قالت فاطمة رضي الله عنها: (واكرب أبتاه، فقال صلى الله عليه وآله وسلم: لا كرب على أبيك بعد اليوم) لقي الحبيب حبيبه، ولقي المؤمن من كان يتمنى لقاءه، كم اشتاق إلى لقاء الرحمن! وكم اشتاق للنقلة إلى دار الجنان! في تلك الساعة حيث تتنزل ملائكة الرحمن على ذلك العبد الصالح، تبشره بما عند الله من المثوبة، فيحب لقاء الله، فيحب الله لقاءه، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (إذا حضر العبد الموت، تنزلت عليه الملائكة فبشرته بما عند الله من المثوبة فأحب لقاء الله، وأحب الله لقاءه)، إن العبد إذا دنت ساعته، وحانت قيامته، وبدت سكراته وزفراته، عندها إما محسن سعيد بربه، وإما مسيءٌ شقي بعمله.
دخل أبو حازم رحمه الله على سليمان بن عبد الملك، فقال له سليمان: يا أبا حازم! كيف القدوم على الله؟ فقال رحمه الله: أما المحسن فكالمسافر يقدم على أهله، وأما المسيء فكالعبد الآبق يقدم على سيده.
إن المؤمن إذا بدت له معالم الآخرة، تنزلت عليه الملائكة فبشّرته بما عند الله من العفو والرضوان؛ فثبتت له الجنان وأورثت في القلب حباً وأورثت في القلب لهفاً وشوقاً إلى لقاء ملك الملوك إلى لقاء رب العالمين، واشتاق القلب إلى الجنان وإلى لقاء الصديقين والشهداء والصالحين، بشرته بلقاء الله، فأحب لقاء الله، وقد بيّن الله تبارك وتعالى تلك اللحظات وقص بيانها في التنزيل، فقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:30 - 32].
إذا حضر الموت للمؤمن وجد الحزن والشجا على فراق أبنائه، نظر إلى أبنائه فخاف عليهم العالة والفقر من بعده، خاف ألا يجد اليد الأمينة التي ترعاهم بعده، وخاف أن يجدوا من ضنك الدنيا وشدتها، فعند ذلك يحزن قلبه ثم يلتفت ويقلب عينه، ليرى ما أمامه في الآخرة فيخاف أهوالها وشدة نكالها، فعند ذلك يبشر بالأمرين، ألا تخافوا مما أنتم قادمون عليه، ألا تخافوا من لقاء الله، وألا تحزنوا على فراق الأبناء والذريات، عجبٌ والله! إن الله تبارك وتعالى تكفل للمطيع أن يرعى ذريته، حتى من بعد فراقه للدنيا، ولذلك انظروا إلى موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، يبعثه الله تبارك وتعالى مع عبدٍ من عباد الله الصالحين، لكي يرفع جداراً، فيقول ذلك العبد الصالح قاصاً للنبي خبره: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] قال بعض المفسرين: (وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا) إنه الجد السابع لهما، الله أكبر! صلاح العبد يحفظ الله عز وجل به الذرية إلى سابع ابن من النسل، فالله وفيٌ لعبده بعهده، ومن أوفى من الله عهداً؟ إن الطاعات والقربات ومحبة رب البريات والإقبال على الله في هذه الحياة والتقرب إليه في اللحظات والحركات والسكنات له موقع عند الله تبارك وتعالى عظيم لا يعرفه العبد إلا إذا لقي ذلك الرب الذي تعبّده، وذلك السيد الذي أطاعه، فيعرف ثمرة الطاعات إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال على الآخرة.
إن أول بشائر الرحمات وبشائر الفوز بالجنات تتنزل على العبد إذا اشتدت عليه الكربات وبدت في السياق الحسرات، وحشرجت في النفس ما تجده من أنين السكرات، حينئذ يتنزل من الله على العبد من البشائر والرضوان، لذلك لا يعرف العبد قيمة هذه الساعات وهذه اللحظات إلا إذا رأى هذا الموقف الأول من مواقف الآخرة، عندها يبكي على ساعات الليل والنهار بكاء الحرقة والندم عندها يعرف قيمة هذه اللحظات التي متّعه الله عز وجل بها، وأكرمه بما أكرمه به من نعمه.(19/3)
القبر أول منازل الآخرة وحال السلف عند تذكره
أما الموقف الثاني من مواقف الآخرة: هي تلك اللحظات التي يُدلّى فيها العبد إلى قبره، ويُوسد في لحده وشقه، وعندها تبدو حقائق الأمور للعبد، فأول ما يرى العبد الملكين حينما يقعدانه في ذلك المضجع.
قف على القبر فانظر إلى ذلك الميت المسجى، ثم انظر إليه إذا تدلى، ثم انظر إليه إذا صف إلى القبلة، فعندها تعلم أن للحياة خبراً وشأناًَ، إن القلوب المؤمنة تعي حقائق هذه المواقف، فبعد تلك الضجعة أهوالٌ لا يعلمها إلا الله ونعيم وسرورٌ ومننٌ من الله تبارك وتعالى لم تخطر للعبد على بال.
إخواني في الله! تهيئوا وتجملوا لهذا اللقاء الأكبر بالصالحات، حتى إذا أُضجع العبد إلى قبره وأوسد في لحده جاءه ذلك العمل الصالح، فرآه فقال: من أنت فوالله لوجهك الذي يأتي بخير؟ فيقول له: أنا عملك الصالح.
نعم، إنها الكلمات الطيبات، من ذكر للرحمن وتلاوة للقرآن، والتعبد إلى الله عز وجل بالطاعات والقربات، هذه الأعمال التي يجد العبد آثارها إذا لقي الله جل وعلا وحيداً فريداً في قبره، موسَداً في لحده، وقد كان السلف الصالح رحمهم الله كلما تذكروا ضجعات القبر أورثهم ذلك الخوف وأورثهم المسارعة إلى قيام الليل وصيام النهار، {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
ثبت في الحديث الصحيح عن عثمان رضي الله عنه أنه كان إذا وقف على القبر بكى، وكان إذا ذُكرت له الجنة والنار لم يبك مثل بكائه للقبر، فقالوا له: (تذكر الجنة والنار ولا تبكي وتذكر القبر وتبكي، قال: أخبرني خليلي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أن القبر أول منزل من منازل الآخرة).
إنها كلمات صادقة من نبيٍ كريم فالقبر أول منزلٍ من منازل الآخرة، فتفكّر أخي في تلك الليلة الأولى إذا أضجعت في تلك اللحود وحيداً فريداً بالأعمال والأقوال تذكر أخي تلك الليلة! أول ليلة تمر عليك في القبر تذكرها فإن لها في قلوب المؤمنين وقعاً، إن لها في قلوب الصادقين أثراً، إن لها أثراً يدفع إلى الطاعات ويجعل العبد في جدٍ واجتهاد من المرضاة، تذكر أول ليلة في القبر، وحفز النفس للقاء الله، وتهيأ وتجمل بالعمل الصالح لعلك أن تصيب من رحمة الله ما يكون لك سبب في النجاة من ذلك الهول.
ورد عن المروزي رحمه الله -صاحب الإمام أحمد - أنه قال: أتيت في ليلة من الليالي، فسرت حتى آخر الليل، فلما أردت أن أنام قمت فصليت ركعتين ثم أوترت ونمت، قال رحمه الله: فرأيت في نومي رجلاً يقول: من أنت فقد آذيتني رحمك الله ليلتي؟ لأنه كان نائماً على القبر، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أنه نهى عن الجلوس على القبر)، فقال المروزي لصاحب القبر: من أنت؟! فقال: أنا مقبور تحتك، فقال: حدثني عن الآخرة، فقال له: إنا في دار علم لا عمل عندنا، وأما أنتم ففي دار العمل ولا علم عندكم، والله لو تعلم ما لركعتيك هاتين عند الله؛ لكانت لك خيرٌ من الدنيا وما فيها.
ولو كشف الله لنا عن تلك القبور وما فيها من الأهوال، وما فيها من سعادة أهل السعادة ما فيها من نظرة النعيم لأهل الطاعات والقربات، ما فيها من نفحات رب العالمين، ورحمات ملك يوم الدين؛ لهانت -والله- على العبد الدنيا.
جاء في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله بالبكاء)، إن الذي يعلم حقائق القبور هو رب العالمين، ممتِّع الصالحين برحماته، ومهين العاصين بعقوبته ونكاله، لذلك إخواني فتلك هي المحطة الثانية التي يراها الإنسان إذا حُط فيها تبينت وتبدت له معالم الآخرة.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن العبد الصالح إذا سُئل من الملكين، فأجاب -بتثبيت الله عز وجل له -فتح له في قبره، ومُد له مد بصره، فيقول: يا رب! أقم الساعة، يا رب! أقم الساعة، يا رب! أقم الساعة)، يقول ذلك حنيناً إلى لقاء الله وشوقاً إلى رحمة الله؛ لأنه علم أن ما وراء هذا القبر أعز وأسمى عند الله عز وجل.(19/4)
موقف البعث والنشور
أما الموقف الثالث فموقف عصيب رهيب يلي القبر وهو: موقف الحشر والنشر، وقد بينه الله تبارك وتعالى بقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ * وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ * وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر:68 - 70] إذا بدت تلك الصيحة، خرجت الأمم جماعات وأرسالاً، ينادي منادي الله: يا أيتها العظام النخرة! يا أيتها الأجساد البالية! فتخرج من تلك القبور، فلو رأيتها لعَظُم عليك موقعها، وقد بيّن الله تبارك وتعالى أحوال الصادقين والكاذبين في لقاء تلك الساعات، فقال جل من قائل: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} [الصافات:19] فهذه صيحة للجميع وزجرة واحدة: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات:14] الساهرة هي: أرض المحشر، أرضٌ لم تعمل عليها خطيئة قط، يخرج العبد للقاء الله وحيداً فريداً، لكي يلقى الله عز وجل بقوله وفعله.(19/5)
موقف الحساب وشدته
وأما الموقف الرابع فقد بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم خبره، فهو ما بعد نفخة الصور، وما بعد هول البعث والنشور، وهو الموقف للحساب، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قوله: (إن الله تبارك وتعالى يجمع الأولين والآخرين في صعيدٍ واحد، فينزل العرق في الأرض سبعين ذراعاً) فلو تذكّر الإنسان ذلك الموقف عندما يكون واقفاً بين يدي الله تبارك وتعالى ليس له ظلٌ إلا العمل الصالح، ليس له شفيع ولا موجب لذهاب ذلك الهم والغم سوى عمله الصالح، وتلك الطاعات والقربات، فهي التي تزيل عن العبد لفح شمس يوم الدين، وتزيل عنه همه وغمه، فقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن الله جل وعلا يجعل ذلك اليوم على العبد المؤمن كأنه ساعة واحدة {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [الحج:47] يمر على العبد كاللحظة الواحدة إذا كان مؤمناً.
إن هذه المواقف ليس فيها شفيع ولا عملٌ تتبدى به عند لقاء الله عز وجل أجلّ وأسمى من فعل الطاعات والتقرب إلى الله تبارك وتعالى بها، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد ذكر الله تعالى من أخبار عباد الله الذين جدّوا واجتهدوا في مرضاة الله بأنهم بعيدون عن تلك اللفحات، حيث قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103] إذا لقي العبد تلك الشدائد ثم وجد من تيسير الله عز وجل فذلك بفضل الله أولاً، ثم بصلاح قوله وعمله.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أُظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) المحبة في القلوب أوجبت للعبد في ذلك الموقف الرهيب العصيب شفاعة بين يدي الله عز وجل، فكيف بمن جد في الطاعات وشمّر في المرضاة؟!(19/6)
المرور على الصراط وحال المارين عليه
وأما الموقف الخامس من مواقف هذه الدار فهو: الاجتياز على الصراط -أي: المرور على الصراط-، فمن شدّته وهوله ما يجعل العبد داعياً لنفسه أن يُعد العدّة للقاء ربه في ذلك اليوم، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (يضرب الصراط على متن جهنم، وينادى العباد: أن مروا عليه، وكل يمر بقدر عمله) وصح في الحديث -أيضاً- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (تقول النار: جُزْ يا مؤمن، جز يا مؤمن، فقد كاد نورك يطفئ لهبي) نور الطاعات نور القربات نور الصلاة نور ما تحبب به إلى الله تبارك وتعالى في ليله ونهاره، إنها الطاعات التي بقيت بعد الممات شافعة وموجبةً لنجاة العبد بين يدي الله تبارك وتعالى.
وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (لا يزال المؤمن في هم وغم وكرب، حتى يخلِّف جسر جهنم وراء ظهره) هذا الجسر الذي ورد أن العبد يجوزه حتى يصل إلى منتصفه فتخطفه كلاليب النار والعياذ بالله، بذنبٍ أصابه أو بحدٍ انتهكه، فالله عز وجل أراد أن يُطهره بالنار من ذلك الذنب بسبب نفاق في قلبه أو رياءٍ في عمله، أو نفسٍ أراق دمها، أو حُرمة انتهكها أو زنية أصابها، أو كأس خمر شربها، يعذب بالنار على قدر تلك الإساءة ويُكبكب فيها -والعياذ بالله- على قدر ما أصاب من حدود الله دعوى الأنبياء في تلك الساعة الرهيبة: اللهم سلم سلم، اللهم سلم سلم.
ومن صفات هذا الصراط: أنه أرقّ من الشعرة، وأحد من السيف، يمرُّه المؤمن كالبرق الخاطف بسبب تلك الطاعات التي تحبب بها إلى الله تبارك وتعالى، إن من عمَّر الليالي والساعات واللحظات بذكر الله تبارك وتعالى وبمحبة الرحمن، واشتغل بذكر الديان، وأصبح يراقب الله في حركاته وسكناته، كل ذلك يشفع له من تلك الأهوال وينجيه من ذلك الفزع، ولن يخيب عند الله سعيه، ولن يضيع عند الله عمله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30] كيف يضيع الله من كفل الأيتام وقام على الأرامل ورعى ضعفة المسلمين؟ كيف يضيع الله من فرّج الكربات؟ كيف يضيع الله عبداً فرّج الكربات وتنافس في المرضاة وتسابق إلى الطاعات؟! كيف يضيع عند الله سعيه؟ أم كيف يضيع عند الله عمله؟ إخواني! إن التجارة مع الله رابحة، فلنعدها للقاء الله.
إن ذكر هذه المواقف ليست قصة تذكر، وليست موعظة تمر؛ ولكنها لكي تحرك النفوس للقاء الله، وتحركنا أن نتذكر ونتبصر فيم يمضي الليل والنهار؟ فإلى متى ونحن عن الله غافلون؟ وإلى متى ونحن عن رحماته بعيدون؟ إلى متى ونحن عن هذه المواقف المفزعة المرهبة غافلون؟ إن هذه المواقف توقظ القلوب النائمة وتنبه القلوب الحائرة للمسير إلى العلي الكبير، تنبهها من هذه الغفلة التي طفقت بسبب وساوس الشيطان وخطراته، فكم للشيطان من مصائد أعدها لأولياء الله المتقين من التسويف في التوبة والتأخير في الإنابة والحوبة.
لذلك إخواني! أدعوكم إلى التفكر في مثل هذه المواقف، والقرآن قصة حقيقية، ذكر الله تبارك وتعالى فيها مشاهد الآخرة وقص فيها خبرها، يعيها ويتذكر بها ويتبصر بها من أحيا الله قلبه، قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
سئل رجل من السلف -وكان رجلاً صالحاً مجداً في طاعة الله تبارك وتعالى، فكان يصوم يوماً ويُفطر يوماً، ولا يأتي ثلث الليل الآخر إلا وهو قائم بين يدي الله يتهجد- قالوا له: كيف أصبت هذه النعمة العظيمة من الله تبارك وتعالى؟ فقال: صورت نفسي أنني في نزعات الموت، فقلت: يا نفس! ما تشتهين؟ فقالت: أشتهي أن أرجع إلى الدنيا فأزداد من صالح العمل، ثم صورت نفسي كأنني في ضجعة القبر، فقلت: يا نفس! ما تشتهين؟ فقالت: أشتهي أن أرجع إلى الدنيا فأزداد من صالح العمل، ثم صورت نفسي وقد حُشرت ونشرت وبُعثت بين يدي الله عز وجل ووقفت، فقلت: يا نفس! ما تشتهين؟ فقالت: أشتهي أن أرجع إلى الدنيا، وأزداد من صالح العمل، فقلت: يا نفس، هذه الدنيا وهذه الأمنية التي ترضَين، فجدي واجتهدي في مرضاة الله تبارك وتعالى.
فانظر كيف كان السلف يشغلون القلوب بذكر الآخرة؛ لأن ذكر الآخرة حياة للقلوب، وتدعوها إلى المسير إلى الله، وتدعوها إلى أن تكون واعية، لم خلقها الله عز وجل وأوجدها؟ إذا وعت ذلك، حينها تستريح نفس المؤمن بطاعة الله تبارك وتعالى وتنفر من معصيته.
إن هذه المواقف ذكرها حياة للقلوب، ودعوة للإقبال على علام الغيوب إن ذكر الآخرة دعوة لكي نحيي القلوب بذكر الله تبارك وتعالى، ونعمُر الأيام والليالي بمحبة الله قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّه} [الحديد:16] إلى متى والإنسان في غفلة؟ إلى متى وهو في تسويف من طاعة الله؟ مهما بلغنا من الطاعات فإن وراءنا طاعات وقربات، والله أجل وأعظم مما نتصور إن وراءنا من الخيرات والطاعات التي فتح الله عز وجل أبوابها وسهل السبيل إليها لهذه الأمة ما لم نصبه وما لم نصل إليه في يوم من الأيام.
إخواني في الله! ذكر هذه المواقف فيه دعوة لنا أن نقبل على الله تبارك وتعالى، وآخر ما يوصى به العبد من ذكر هذه المواقف: أن تكون الآخرة زاجرة له عن حدود الله وعن كل ما لا يُرضي الله تبارك وتعالى، إن الذي يعي حقائق الآخرة ويعلم أنه سيرتحل في السفينة الماخرة للقاء الله عز وجل بعيدٌ عن محارم الله التي بينه وبين ربه، وعن محارم الله التي بينه وبين عباد الله تبارك وتعالى، أما اللسان فقد كبح جماحه عن أن يتعدى حدود الله، وأما الأعضاء فقد سخرها في محبة الله ومرضاته.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن يعمر قلوبنا وقلوبكم بذكر الآخرة، وأن يجعل أسعد اللحظات وأعزها وأشرفها لحظة الوقوف بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(19/7)
عدة الداعية
الدعوة إلى الله مسئولية كل من ينتسب إلى الإسلام بحسب جهده وعلمه، ومما ينبغي للداعية أن يتسلح به أثناء دعوته إلى الله: الإخلاص، والعلم، والأخلاق العالية الحسنة، كما أن عليه أن يترفق بالناس عند دعوتهم.(20/1)
الدعوة إلى الله أمانة في أعناقنا
الحمد لله رب العالمين، وأشهدُ أن لا إله الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وعلى جميع أصحابه الغر الميامين، وعلى من اهتدى بهديهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! أيُ شيءٍ أعظم وأجل وأكرم من رضوان الله على عبده؟ هذا الرضوان الذي شهد الله جل جلاله أنه أكبر من كل شيء، فقال سبحانه: {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} [التوبة:72] وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا: (أن أهل الجنة إذا نزلوا في منازل الجنة، ورأوا نعيمها، وذاقوا لذتها وسرورها، وقالوا: الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن، إن ربنا لغفورٌ شكور، قال الله جل وعلا: ألا أزيدكم؟ فيقولون: ربنا أعطيتنا وأعطيتنا، فيقول الله جل جلاله: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً).
إذا رضي الله على عبده أرضاه وسدده ووفقه، وجعل السعادة بين عينيه، ولذلك كتب الله لأوليائه بسعادة الدنيا والآخرة.
وأحب العباد إلى الله وأكرمهم عليه -سبحانه- من تمسك بدينه والتزم بشريعته، الذي أحب الله من كل قلبه وظهرت آثار هذه المحبة في جوارحه.
أسعد الناس بالله، من عرف الله؛ فهابه واتقاه، والتزم حدوده جل في علاه، ولقد اصطفى الله جل وعلا لهذه السعادة أحب الخلق إليه، وأكرمهم عليه، وهم الأنبياء والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
اصطفى الله الأنبياء والرسل، فجعل من دلائل حبه لهم أن حمّلهم الأمانة، وقلّدهم المسئولية، فجعلهم أمناء على وحيه ودينه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
لقد حمل رسل الله أمانة الله إلى عباده، على نورٍ من الله، يرجون رحمته، فأدوا رسالته، وبلغوا أمانته، وقرت عيونهم برضوان الله عليهم، ثم اصطفى الله جل جلاله لختم هذه الصفوة -خير خلقه وأفضل رسله وأكرمهم عنده سبحانه- نبينا صلى الله عليه وسلم.
اختاره الله جل جلاله خاتماً للأنبياء والمرسلين، وهدىً لعباده المتقين، ما ترك باب خيرٍ إلا دلنا عليه، ولا سبيل رشدٍ إلا هدانا إليه، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح للأمة، وكشف -بإذن الله- عن العباد الغمة، ووقف أمام الأمة يوم حجة الوداع، فأشهد الله من فوق سبع سماوات أنه بلغ رسالته، وأدى أمانته، ورجع إلى طيبة الطيبة، ففاضت روحه ولقي الله جل جلاله، حمل هذه الأمانة من بعده الصحابة الكرام، الأئمة الأعلام، الذين هم القدوة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، حملوا هموم الدعوة، هموم الدعوة إلى الله، وتبليغ رسالة الله جل جلاله، وأحس كل صحابي أنه مسئولٌ أمام الله عما سمعته أذنه وأبصرته عيناه ووعاه قلبه، فنشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السنن والآثار، وحدثوا بالسيرة والأخبار، ففتح الله بها قلوباً غلفاً وأذانٌ صماً وأعيناً عمياً، وقادوا إلى صراطٍ مستقيم.
حمل الصحابة رضوان الله عليهم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم للأمة، وبلغوا الرسالة، فكانوا خير قدوةٍ بعد النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله.
كان أشبه الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم -في علمه وحلمه وعمله ودعوته- هم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وما زالت الأمة تحمل هذه الأمانة وهذه المسئولية، جيلاً بعد جيل، ورعيلاً بعد رعيل، ووقفنا -أيها الأحبة في الله- في هذا الزمان، بعد أن مضت قرونٌ عديدة وأزمنةٌ مديدة بيننا وبين رسول الأمة صلى الله عليه وسلم.
وقفنا أمام هذه الشريعة الغراء، بعد أن ذاق من شاء الله رحمته، ذاق لذة الهداية وطعم العبودية لله والولاية، فأخذ يتساءل: كيف أبث هذا الخير، وأدعو الناس إلى الإحسان والبر، فما من مسلم يهديه الله إلى صراطه المستقيم ويذوق لذة هذا الدين إلا تمنى أن الأمة كلها تشاركه في هذا الخير الكثير من ذاق حلاوة الإيمان ولذة العبودية للرحمن تمنى أن هذه الأمة كلها تشاركه هذا الخير، ولذلك يرد
السؤال
كيف السبيل؟ ما هو الطريق الأمثل للدعوة إلى الله وتبليغ رسالته؟(20/2)
أهمية الإخلاص في الدعوة إلى الله
على الداعية إلى الله أن يعلم علم اليقين أن أول ما يجب عليه، أن يخلص لله جل جلاله، ما كان لله دام واتصل، وما من داعية إلى الله يخلص في قلبه إلا أظهر الله له التوفيق والسداد في جوارحه وأعماله، وفتح الله أبواب الخير أمام دعوته وكلماته ومواعظه؛ لأن الله سبحانه يحب ما كان خالصاً لوجهه، ولا يرضى من الأقوال والأعمال إلا ما أريد به وجهه.
من كان لله كان الله له، ومن وطئت قدماه سبيل الدعوة إلى الله، مفرغ القلب من كل شيءٍ سواه، ملأ الله قلبه بالحكمة والنور والتوفيق والسداد، وجعل الله البركة والخير في قوله وعمله.
فقبل كل شيء: أن يخلص الإنسان، فإذا تكلم سأل نفسه: لمن يتكلم؟ وإذا خطب أو وعظ أو ذكّر: هل هذا الكلام لله، أو لأحدٍ سواه؟ فالوقفة الأولى: أن يخلص الداعية في عمله لله: إن الله سبحانه مطلعٌ على القلوب والضمائر، مطلع على من يريد وجهه ومن يريد حظوظ الدنيا، ومن أراد الإخلاص لله، فليعلم أن التجارة مع الله رابحة، وأنه إذا سلك سبيل الإخلاص، فلم يتكلم بكلمة إلا خطها الملك الأمين الحافظ؛ لكي يراها العبد أمام عينيه يوم القيامة حجةٌ له لا عليه.
من أراد أن يدعو إلى الله، فليعلم أن هذا الدين لله وليس لأحدٍ سواه، لا يدعو للدنيا ولا يدعو رياءً، لا يدعو ليمدح أو يثنى عليه، ولكن لله جل جلاله، فلا يقف أمام الناس إلا وقلبه معمورٌ بالله، فطوبى لقلوبٍ آمنت وأسلمت وأخلصت، فنظر الله إليها -يوم تكلمت ووعظت وقالت- أنها تريد وجهه، وتريد أجره ورضوانه ورحمته، وما ضرتنا إلا حظوظ من الدنيا ساقتنا عن سبيل الله إلى سبيل من سواه {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].
الداعية الموفق نظر إلى ما عند الله، فعلم أنه باقٍ وما عند سواه فانٍ زائل {مَا عِنْدَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96].(20/3)
الدعوة إلى الله على بصيرة
الوقفة الثانية: الدعوة إلى الله على بصيرة وحكمة يهتدي به الداعية ويهدي به من وراءه.
العلم الذي به يستنير قلب الداعية، وينال به البصيرة {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57] فمن كان على بينةٍ من الله اتضح له الحق، فأحبه والتزمه ودعا إليه، ومن كان جاهلاً بالله وبشرعه ضل وأضل، ومن علامات الساعة وأمارتها: (أن يتخذ الناس رءوساً جهالاً، سئلوا فأفتوا بغير علمٍ فضلوا وأضلوا).
فأول ما ينبغي على الداعية: العلم إن على كل داعية أن يبتدئ دعوته بمجالس العلم ورياض الجنة ويسير في طريق طلب العلم، ويحب العلماء يتزود منهم وينتفع بهم، ويلتمس رحمة الله جل جلاله، فالعالمُ الرباني إمامٌ للداعية يهتدي به بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا بد للداعية من وقفة مع طلب العلم، ينتهل فيها من المعين الصافي؛ من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا تعلم وعلم واستنار قلبه، أمكنه أن يهتدي في نفسه وأن يهدي غيره.
لا دعوة بالجهل، والداعية إذا كان جاهلاً ضل وأضل وراءه؛ فيهلك وتهلك به أمم، فيحاسبه الله جل وعلا عليها.
فحريٌ بطالب العلم والداعية إلى الله، أن يجد ويجتهد في طلب العلم، وليعلم أن سبيل الدعوة والتذكير بالله والهداية إليه تحتاج إلى سلاح ونورٍ وبصيرة، لا يمكن أخذ ذلك كله إلا عن طريق العلماء الأمناء الثقات الأثبات.
إذا جلس الداعية في مجالس العلم وأحب العلماء والتزم بسبيلهم وحرص على الاستفادة منهم، وتأدب ورأى حرمتهم؛ فإن الله يوفي له كما وفى لعلمائه الذين ائتمنهم على دينه.
ما من داعيةٍ إلى الله يحب أهل العلم ويلتزم بحلقهم وينتفع بعلومهم؛ إلا وجدت آثار ذلك كله في دعوته؛ فيقيض الله له من يأخذ من علمه وينتفع به ويتأدب معه كما كان حاله مع العلماء.
العلم لابد منه، وقد قال بعض العلماء في قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57] قالوا: لا يجوز لأحدٍ أن يدعو الناس ويدلهم على الدين إلا بعد البصيرة والبينة من رب العالمين.
قال بعض العلماء: قل إني على بينة، أي: حجةٌ ومحجة، حجة: يعرف بها الحق من الباطل والهدى من الضلال، ومحجة يسير عليها حتى تنتهي به إلى الجنة.(20/4)
ضرورة اقتران علم الداعية بعمله
الوقفة الثالثة: لابد للداعية إلى الله أن يوطن نفسه من بداية دعوته على العمل، فالدعوة إذا كانت نابعة من إنسان ذاق حلاوة العمل بالعلم، وذاق لذة المعاملة مع الله، أمكنه إذا ذكّر الناس ووعظهم أن يذكرهم بشيءٍ ذاق حلاوته ولذته، أما فاقد الشيء لا يعطيه.
الداعية إلى الله الذي قرن علمه بالعمل يضع الله له البركة في قوله وعمله، فإن الناس تنظر إلى قول كل قائل وعمله، فإذا وافق القول العمل أحبه الناس وتأثروا بكلامه إذا وقف أمام الناس يحدثهم ويعظهم وضع الله عز وجل لمواعظه أثراً نافعاً في قلوب الخلق فوق ما يرجو ويؤمل.
إذا تحدث عن الإخلاص لله كان أخلصهم لله، وإذا تحدث عن الطاعات والقربات كان أسبقهم إليها، وأحبهم لها، وأكثرهم مداومةً عليها، وفاقد الشيء لا يعطيه، ولذلك عاتب الله من قبلنا، أنهم حملوا التوراة ثم لم يحملوها فكانوا كمثل الحمار يحمل أسفاراً، فمقتهم الله جل جلاله حينما قالوا بما لم يعملوا.
قال بعض السلف: (كونوا دعاةً وأنتم صامتون، قالوا: وكيف ندعو ونحن صامتون؟ قال: ادعوا الناس بأخلاقكم وأقوالكم وأعمالكم قبل أن تدعوهم بتذكيركم).
فالذي يدعو الناس بأخلاقه وأقواله وآدابه وشمائله؛ تتأثر الناس بدعوته، ولن يكون ذلك إلا بالعمل، لن يكون ذلك إلا إذا رأى الناس آثار السنة وأخلاق الإسلام في الداعية إلى الله، سواءً كان خطيباً أو واعظاً أو مذكراً أو معلماً، ونسأل الله العظيم أن يوفقنا إلى القول والعمل، فإنها من أعظم نعم الله عز وجل على عبده، حتى قال بعض العلماء: لن يكون العبد هادياً مهدياً إلا إذا قرن العلم بالعمل.(20/5)
تحلي الداعية بأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم
الوقفة الرابعة: الدعوة إلى الله تحتاج إلى تأسٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظم ما ينبغي أن يتحلى به المسلم أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه الأخلاق التي إذا نظرها المسلم في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم العطرة، وشمائله الجليلة النضرة، هذه الأخلاق التي نراها في أكمل صورها وأجمل حللها في هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ في عسره ويسره، وفي منشطه ومكرهه.(20/6)
طلاقة الوجه وسلامة الصدر
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم داعيةً إلى الله خرج إلى الناس طليق الوجه، دائم البشر والسرور صلى الله عليه وسلم، ما كان يلقى الناس مكفهر الوجه أو عابساً أو محتقراً لهم، بل كان يلقاهم صلوات الله وسلامه عليه بالوجه الطليق والقول الرقيق، قال جرير بن عبد الله رضي الله عنه وأرضاه: (ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسمَ في وجهي).
فالداعية إلى الله، يتحلى بمثل هذا الأدب النبوي الكريم.
كان يخرج صلى الله عليه وسلم لأصحابه نقي السريرة والقلب، ليس في قلبه غل ولا حسد ولا بغضاء على المسلمين، إنما كان يخرج لهم بالمحبة والصفاء والمودة والإخاء صلوات الله وسلامه عليه.
لن نستطيع أن نهدي الناس إلا إذا سلمت صدورنا من آفات القلوب، لن نستطيع أن نأخذ بمجامع قلوب الناس إلا إذا سلمت سرائرنا وضمائرنا من الحقد على عباد الله، وسوء الظن بهم، ولن يكون الداعية كما ينبغي أن يكون عليه الداعية إلا بمجاهدة القلب، فإذا خرج إلى المسلمين أحب لهم ما يحب لنفسه، وكره لهم ما يكره لنفسه؛ لعلمه أن الله يحب منه ذلك.
إذا لم يسلم صدرك ولم يكن نقياً لإخوانك المسلمين، أظهر الله ما في قلبك في فلتات لسانك وزلات جوارحك وأركانك، وقد قال بعض العلماء: ما أسر عبدٌ في قلبه سريرة إلا أظهرها الله في فلتات لسانه، أو في جوارحه وأركانه.
فالذي يريد أن يدعو إلى الله ينبغي له أن يجعل في صدره السريرة النقية للناس التي تتمنى لهم الخير، فإذا قوي هذا الباعث في القلب دعاه إلى أن يبذل كل ما يستطيع لهدايتهم ودلالتهم على الخير وتحبيبهم في طاعة الله جل جلاله.(20/7)
التواضع
ومن الأمور التي كان يتحلى بها عليه الصلاة والسلام: التواضع، فلا يرى الداعية نفسه أنه فوق الناس، وإنما يتواضع لهم، يتواضع للصغير والكبير والجليل والحقير، والناس عنده في كفةٍ واحدة، من حيث التواضع وتوطئة الكنف، وقد ذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يَألفون ويؤلفون).
ما أجمل الدعوة إذا جمل الله الداعية بالأخلاق والتواضع والحلم وتوطئة الكنف! إن كريم الأصل كالغصن؛ كلما ازداد من خيرٍ تواضع وانحنى.
كان صلى الله عليه وسلم يقف لصغار المسلمين وكبارهم وشبابهم، لن يستطيع الداعية أن يكون موفقاً في دعوته إلا إذا حرص على أخلاق الإسلام وآداب النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت مع الصحب الكرام.
وإذا وفق الله الداعية لهذه الأخلاق والآداب أحبه الناس، فإذا كانت أخلاق الداعية وآدابه وشمائله وتصرفاته تدل على حبه للناس وتوطئته للكنف أحبه الناس.
إنما يتواضع الداعية ويكون قريباً من الناس؛ لأن حوائجهم عنده، فالضال ينتظر منه الهداية بإذن الله عز وجل، والمهموم والمغموم ينتظر منه الكلمة التي تبدد -بإذن الله- الهم والغم، والحائر والتائه ينتظر منه التوجيه والإرشاد حتى تذهب الحيرة ويذهب التيه، فإذا به يلتزم بدين الله عز وجل.
فإذا جاء هذا الحائر أو التائه إلى الداعية ووقف أمامه، فرأى من آدابه وشمائله وتواضعه وحبه الخير للناس ما يشجعه على الاقتراب اقترب ودنا وأنصت وأحب، وتمنى أنه معه وعلى سبيله ونهجه الذي يسير فيه على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(20/8)
سعة الصدر
ومن الأمور التي ينبغي للداعية أن يحرص عليها وأن يكون محافظاً عليها: سعة الصدر.
فالداعية تواجهه مواقف حرجة، يأتيه السفيه بسفهه، والطائش بطيشه والغاوي بغوايته، فيتسع صدره للناس حتى يستطيع أن يسع الناس بهذا الحلم، قال صلى الله عليه وسلم: (إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، ولكن سعوهم بأخلاقكم).
فالداعية إلى الله إذا كان واسع الصدر لزلات أهل الزلل وخطيئات أهل الخلل؛ أحبه الناس وتأثروا بدعوته، وأصدق شاهدٍ على ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ثبت عنه في الحديث الصحيح: (أنه عندما قسم غنائم حنين، وجاءه ذو الخويصرة فجذبه وقال له: يا محمد! اعدل، فقال صلى الله عليه وسلم: ويحك، من يعدل إذا لم أعدل!) ما تذمر عليه الصلاة والسلام، ولا أمر بقتله ولا سبه أو شتمه، فما كان عليه الصلاة والسلام سباباً ولا شتاماً ولا لعاناً، ولكن كان رحمةً للعالمين، صلوات الله وسلامه عليه.(20/9)
تسلح الداعية إلى الله بالصبر
من الأمور المهمة التي ينبغي للداعية أن يحرص عليها في دعوته: التضحية والصبر والتحمل.
إن الدعوة إلى الله تحتاج من الداعية أن يصبر، ولن يستطيع أن يصبر إلا إذا صبره الله عز وجل، فالصبر من أجل النعم التي يمتن بها الله عز وجل على عباده، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: (وجدنا ألذ عيشنا بالصبر)، وقال صلى الله عليه وسلم: (ما أعطي عبدٌ عطاءً أفضل من الصبر).
يصبر الداعية في تبليغ رسالة الله، وقد يفاجأ بما يوجب السآمة والملل، فيصبر ويحتسب الأجر عند الله، ولا يقتصر هذا الأمر على الداعية في مسجده أو الخطيب في جمعته، بل إنه يشملك وأنت أمام الابن أو البنت أو الزوجة أو أمام القريب، إذا رأيت منه الصدود والإعراض، أو رأيت منه السخرية والتهكم، تعلم أن هذا البلاء الذي ابتلاك الله به قد يكون لحكمةٍ منه سبحانه وتعالى، فتصبر ولا تتضجر أو تمل أو تسأم، ولكن وطن نفسك على الصبر، فلعل الله -لحكمة- أن يؤخر عنك هداية الأخ أو الأخت أو القريب.
إلخ، حتى يكون ذلك أصدق شاهدٍ على صبرك على طاعة الله.
قال تعالى: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران:179]، فهناك من هو أطيب الطيبين في صبره وتحمله، وهناك من هو دون ذلك، فلا تسأم، بل كرر الدعوة، واقرع القلوب مرةً بعد مرة، واعلم أن هذه الكلمات والنصائح والتوجيهات في ميزان حسناتك، فلو عدت المرة بعد المرة لم تسأم ولم تمل؛ لعلمك أن الله يرضى عنك عند تكرارها، ولعلمك أن الله يحب منك الصبر والتحمل، فتصبر وتصابر وترابط على طاعة الله جل جلاله، تتحمل مهما سمعت ومهما رأيت، فسيأتي اليوم الذي تقر فيه عينك على الصبر الذي صبرك الله، ولن تقف موقف ابتلاءٍ فتهان فيه من أجل الله إلا أقامك الله مقاماً أعز منه وأكرم، فمن أهين في الله جل جلاله -كأن يسخر منه أهله أو أقاربه- فإن الله يعزه ويكرمه، ويأتي اليوم الذي تقر فيه عينه، فيرى فيه بشائر صبره، وحسن عاقبة مرابطته في طاعة ربه.
لقد صبر أهل الدنيا على الدنيا وما ملوا، وصبر أهل الباطل على باطلهم فما سئموا ولا تضجروا، وأنت على الصراط المبين، والسبيل المستبين، وفي رحمة أرحم الراحمين، فأنت أحق بالصبر منهم.
ألا ترى إلى التاجر كم يصبر ويتحمل ويجد من الجهد والتعب وأذية الناس! وهو في تجارته يتحمل، ويتحمل لعلمه بالأرباح التي تكون في الأخير، فتعامل الله جل جلاله، لئن سمعت سخريةً من ساخر، فاحمد الله جل جلاله أن تغيب عليك شمس ذلك اليوم وقد أهنت في ذات الله سبحانه وتعالى، وإذا سبك أو عابك أو شتمك غويٌ أو ضال، فاعلم أن هذا الشتم والسب مكتوب في صحيفة عملك، فلا يزيدك إلا صبراً وتحملاً واحتساباً عند الله وثواباً وأجراً، والله جل وعلا لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ومن أعظم الإحسان: أن تصبر في ذات الله جل جلاله، فلقد ضحى أهل الباطل، فترى النصراني يدعو إلى نصرانيته وهو في الأدغال فلا يستوحش أو يسأم، ولا يمل أو يتكدر، وأنت على صراط الله، وفي سبيلٍ يحبه الله، فأنت أولى بالصبر منه.
فهذه أمور ينبغي أن يجعلها الداعية نصب عينيه، واعلم رحمك الله أن الصبر يختلف، فلا تتوقع من الله عز وجل أن يبتليك بشيءٍ تألفه، لا، بل قد يأتيك الابتلاء بشيءٍ لا تألفه، فأنت في دعوتك إذا كنت في بيتك أو في خطبتك أو موعظتك أو درسك وتعليمك، قد يسلط الله عليك من الابتلاء ما يوجب السآمة والضجر بما لم يكن في حسبانك، فما عليك إلا أن تعلم أن الله رقيب وحسيب، وتعلم أن الله معك عندما صبرت لوجهه واحتسبت الأجر عنده سبحانه وتعالى.
لقد نعمت وقرت عيون الصابرين حينما سمعوا قول الله: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146] فمن علم أن الله يحبه إذا صبر وثبت على صبره ازداد صبراً وثباتاً، وتكمل محبة الله لعبده على قدر كمال صبره، فعندما كمل صبر النبي صلى الله عليه وسلم كملت محبة الله جل جلاله له.
لقد أوذي عليه الصلاة والسلام فانطلق إلى الطائف يريد دعوتهم وهدايتهم إلى سبيل الله، فأغروا به السفهاء، وقد وقف أمامهم يدعوهم بدعوة الله ويهديهم إلى صراطه، فقال له القائل: أما وجد الله رسولاً غيرك؟ وقال الآخر: أنا أمزق ثيابي إن كان الله بعثك، ثم أغروا به السفهاء -صلوات الله وسلامه عليه- فانطلقوا يرمون بالحجارة خير خلق الله، وأحب عباد الله إلى الله! فانطلق وهم وراءه يرمونه بالحجارة حتى آوى -عليه الصلاة والسلام- إلى الظل من شدة التعب والنصب.
نعم أوذي عليه الصلاة والسلام، وسمي: الساحر والكاهن، والأبتر، والصابئ، والأفاك، ومات وهو سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وسلم.
مضت تلك الأيام وما مضى ثوابها، والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
فيا من يريد الدعوة إلى الله! اجعل نصب عينيك مواقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم شج في وجهه، وكسرت رباعيته، وسالت دماؤه على وجهه، ويقول: (كيف يفلح قومٌ شجوا وجه نبيهم) والله لا تضجر، ولا سئم، بل زاده ذلك ثباتاً على دين الله وتمسكاً بصراطه حتى أتاه الموت وقد رضي الله عنه وأرضاه، فما من إنسانٍ يصبر لله إلا أقر الله عينه بحسن العاقبة، فلن تجد داعية يبتلى ويصبر إلا وجد الثمار اليانعة والعواقب الحميدة.
على الداعية إلى الله أن يعلم أن توجيه الناس ودلالتهم إلى الخير مقام شريف، واعلم أنك إذا وقفت أمام الناس واعظاً أو مذكراً أو هادياً، فأنت تقف في موقف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليكن أول ما يكون منك أن تحمد الله جل جلاله، وأن تقول: يا رب! من أنا حتى تجعلني مذكراً وهادياً ودليلاً إلى سبيلك؟! فلتحمد الله على نعمته وتشكره على فضله.
ثانياً: أن تعلم علم اليقين، أنه إذا أراد الله أن يرضى عنك في دعوتك جعل أتباعك كثيرين، قال صلى الله عليه وسلم: (إني لأرجو أن أكون يوم القيامة أكثرهم تابعاً) فالداعية الموفق يحرص على أن يكون أكثر الناس أتباعاً، وهذا يحتاج منه أن يبحث عن الأسباب والوسائل التي تحبب الناس في دعوته، وترضي الناس عن قوله وعمله، فيرضي الله أولاً، ثم يرضي عباد الله بعد ذلك.(20/10)
رفق الداعية إلى الله بالمدعوين
على الداعية إلى الله أن يلتزم بالقول الحسن والأسلوب الذي فيه رفقٌ بالناس، فإن الله بعث رسوله صلى الله عليه وسلم رحمةً للعالمين، ما بعثه صخاباً ولا لعاناً ولا سباباً، إنما بعثه لكي يكون رحمةً للأمة ولكل من اتبعه، فما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما؛ وكان صلى الله عليه وسلم رفيقاً بالأمة، فكل ما كان من تشريع أو أمر فيه ضيقٌ على الأمة إلا سأل ربه أن يخفف وأن يلطف بعباده.
فينبغي على الداعية إلى الله أن يلتزم هذا النهج في تحبيب الناس للخير، وهذا يحتاج منه إلى القول الطيب، وأن يكون في دعوة الناس حليماً رحيماً رفيقاً، قال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق في شيءٍ إلا زانه، ولا نزع من شيءٍ إلا شانه).
وإذا أراد الله أن يحرم الداعية التوفيق، سلّط عليه الشيطان فأزله بلسانه، فاتجه إلى الناس ساباً أو شاتماً أو كاشفاً لعوراتهم أو مبدداً لأعمالهم، حتى ينفر الناس من دعوته.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (إن منكم منفرين) فليتق الله الداعية، ولا يكن حجرة عثرة في قبول الخير.
ينبغي أن يأخذ الناس باللطف واللين، وعليه أن يعرف كيف يخاطب الناس، وكيف يقرع القلوب، وكيف يوجه، وكيف يدل، وإذا لم يجد في نفسه ذلك، فليسأل العلماء ما هو السبيل.
وإذا أراد الله أن يوقف الإنسان على أكمل هديٍ في التوجيه، فإنه يوقفه ويحبب إلى قلبه هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي الحديث الصحيح: (عندما بال الأعرابيُ في المسجد، طفق الصحابة يريدون أن يؤذوه، فقال عليه الصلاة والسلام: لا تزرموه، فلما قضى بوله وأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام: إن هذه المساجد لم تبنَ لهذا) فلو كان عليه الصلاة والسلام أخذه بالعنف والشدة لأضر به وأضر ببيت الله عز وجل.
انظر إلى الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينما رأى من المحسن الإساءة كيف تحمله، وأخذه بحلمه ورفقه، ففي الحديث الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما أراد فتح مكة، هيأ أصحابه، وغيّب عن قريشٍ خبره، فكتب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه وأرضاه- إلى قريشٍ كتاباً يحذرهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانطلقت المرأة ومعها الكتاب، فنزل جبريل من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبره الخبر، فبعث عليه الصلاة والسلام علياً، فأدرك المرأة في الروضة، فقال لها: أخرجي لي الكتاب، فأنكرت، فقال لها: إن لم تخرجيه لأجردنك، فتنحت عنهم وأخرجت كتاب حاطب رضي الله عنه من تحت شعرها، فأخذ علي الكتاب، وأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) تصوروا مثل هذا الموقف، صحابي يكتب بسر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أعدائه، وفعل ذلك على غرة دون علمٍ من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، (فلما وقف عليه الصلاة والسلام على الخبر، وقرأ الكتاب واستبان الأمر، وحاطب أمامه، قال: يا حاطب! ما حملك على هذا؟) ما الذي حملك على أن تكتب لقريشٍ بهذا الأمر؟ هل سبه أو شتمه؟ لا، بل يسأله عن العذر أولاً؛ لكي يعلم ما الذي دفعه إلى ذلك (قال حاطب رضي الله عنه: والله -يا رسول الله- ما فعلت ذلك حباً للكفر، ولا إيثاراً له عن الإسلام، ولكنني رجل لا عشيرة عندي، وإني أخاف على قومي، فأحببت أن أتخذ يداً عند قريش، فقال عمر: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عمر! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم؛ فقد غفرت لكم).
قد ترى من رجل بعض الزلات والهنات، فاذكر ما لهذا الرجل من الحسنات أو المواقف الطيبة، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عظم الله -من فوق سبع سماوات- لـ حاطب موقفاً شهده، نصر به الإسلام، فما كان ربك نسياً.
فينبغي على الداعية إلى الله أن يأخذ الناس بالتي هي أحسن إلى السبيل الأقوم والهدي الأكمل والأجمل بلسانه الطيب وكلماته الرقيقة.
وما من إنسان يحرص على الدعوة بالأسلوب الطيب والكلمات الطيبة إلا وضع الله له الأثر؛ فإن الكلام الطيب حسن الوقع والأثر في القلوب، فالطيب لا ينبت إلى طيباً، ولا يأتي إلا بالطيب، والله عز وجل قال: {قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة:100].
فاتقوا الله، فكلما كان الإنسان في دعوته يخرج منه الكلمات الطيبة ويأخذ بمجامع قلوب الناس بالتي هي أحسن؛ كلما نفع الله بدعوته.
أيها الأحبة في الله: الحديث عن الدعوة يطول، ولكن أحب أن أنبه على أن الدعوة إلى الله لا تقتصر على منبر، ولا تقتصر على تعليم أو توجيه في مكانٍ جامع، بل أنت داعيةٌ إلى الله في كل لحظة وفي كل طرفة عين ما دمت منتسباً للإسلام ومتبعاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واعلم أنك إذا جئت بين قومٍ ضلوا السبيل، وأنت مهتدٍ بسبيل الله، فاعلم أن العيون تلحظك، وأن الناس ينظرون إليك كقدوة وإمام وداعية إلى الخير.
علينا أن نعلم أن الدعوة ليست محجورة أو محصورة على الخطبة أو الموعظة، أو على من يخطب أو يعظ، بل أنت داعية إلى الله في كل كلمة تقولها وتهدي بها إلى صراط الله، لو قلت لابنتك: اتق الله، فأنت داعيةٌ إلى الله، ولو قلت لابنك: خف الله، فأنت داعيةٌ إلى الله، ولو أمرت بأمرٍ أمر الله به أو نهيت عن نهيٍ نهى الله عنه، فأنت داعيةٌ إلى الله.(20/11)
إكثار الداعية من ذكر الموت والآخرة
أختم هذه الكلمات بأمرٍ عظيم ما وفق الله له الداعية إلا كان له خير الدنيا والآخرة، هذا الأمر العظيم الذي لا ينال إلا بتوفيق الله ذي العزة والجلال، هذا الأمر العظيم الذي إذا وقر في القلب أتبعه الإنسان العمل، ألا وهو كثرة ذكر الآخرة.
ينبغي للداعية إلى الله أن يعلم أنه إلى الله صائر، وأنه منقلبٌ إلى الجنادل والحفائر، فإن وجد ثمار دعوته، فرمقته العيون، وأصغت إليه الأسماع، فليعلم أن الله يحاسبه، وأن الله سائله، وأن الله موقفه بين يديه، وقائلٌ له: عبدي ماذا أردت بهذا؟ فإن قال: أردت وجهك وما عندك -وكان صادقاً- قال الله: صدقت، وقالت الملائكة: صدقت، وقال الله: اذهبوا بعبدي إلى الجنة.
إذا أحس الداعية إلى الله أن له موقفاً بين يدي الله هانت عليه الدنيا وما فيها.
إذا أكثر الداعية من ذكر الموت والبلاء وقرب المصير إلى الله جل وعلا، هانت عليه الدنيا وما فيها وأصبحت كلماته ومواعظه للآخرة، فنفع الله به وانتفع.
أيها الأحبة في الله! نقول ونعمل، وبين يدي الله نسأل، ولسنا ندري أهذه الأمم التي وراءنا تقاد إلى روضة جنة أم إلى حفرة نار.
فنسأل الله العظيم بعزته وجلاله أن يجعلنا ممن أراد وجهه وأراد ما عنده، ونسأله جل وعلا أن يعمر قلوبنا بإرادة وجهه الكريم.
اللهم إنا نسألك الفقر إليك، والغنى بك، والتوكل عليك، وصدق اللجوء إليك.
اللهم املأ قلوبنا بحبك وحب كل شيءٍ يزيدنا من حبك، واجعل جوارحنا في طاعتك، واجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، نسألك عيشة السعداء، وميتة الشهداء، ومرافقة الأنبياء، والنصر على الأعداء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، وأسأله تعالى أن يجعل هذا كله خالصاً لوجهه الكريم، موجباً لرضوانه العظيم.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(20/12)
الأسئلة(20/13)
وصايا تقوي الهمة في طلب العلم
السؤال
إذا بدأ طالب العلم طلبه للعلم فإنه يجد العزيمة والهمة في ذلك، ولكن بعد فترة تصيبه الفترة والخمول؟ فهل يؤثر ذلك في إخلاصه؟ وما هو سبب ذلك الخمول؟
الجواب
هذا الفتور ابتلاءٌ وامتحان من الله عز وجل، فإذا ابتدأ طالب العلم في طلبه للعلم فإن الله عز وجل يمتحنه ويختبر صبره، فيجد شيئاً من الفتور والضعف، والله عز وجل من حكمته أنه يجعل للعلم في أوله لذة وحلاوة حتى يتمنى طالب العلم أنه عالم بين العشية والضحى، بسبب ما يجده من حب للعلم، لكن الله سبحانه وتعالى لابد وأن يختبر صبرك وإيمانك وصدقك في العزيمة والرغبة فيما عند الله عز وجل، فيبتليك بالفتور.
وقد يكون هذا الفتور بسبب الذنوب والمعاصي، نسأل الله السلامة والعافية، فما على طالب العلم إذا وجد مثل هذا إلا أن يتضرع بالدعاء لله عز وجل أن يعينه ويوفقه ويثبته، فكم من طالب علم ابتلي بمثل هذه الابتلاءات، فصبر وصبره الله عز وجل حتى جاءته العاقبة الحسنة، فالذي أوصي من وجد الفتور، أوصيه بأمور: أولاً: الاستغفار، فإن الله تعالى يقول: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46].
فإذا أراد طالب العلم أن يصرف الله عنه الفتور وما يجد في نفسه من الضيق فليكثر من الاستغفار؛ لأنه معذب، والعذاب لا يرفع إلا بالتوبة والرحمة من الله عز وجل.
أما الأمر الثاني: أن يبحث عن عالمٍ يشحذ همته، فيوصيه ويقرع قلبه بقوارع التنزيل، وبما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم من الأمور التي تحيي في النفس حب الخير والإقبال عليه، وتشحذ الهمة بطلب العلم أكثر.
ثالثاً: أوصيه بكثرة قراءة سير السلف الصالح، فإنك ما أصبت بضعف أو فتور في طلب العلم فتقرأ سيرة عالم إلا خشع قلبك، وصدقت عزيمتك، وأحببت أن تكون مثله؛ لأن الله جبل قلوب أهل الخير على حب الخير والشوق إليه، فإذا قرأت سيرة العالم العامل تأثرت، فإذا لم تجد كتباً بحثت عن عالم تجلس معه يحدثك عن سير العلماء وما لاقوا من البلاء، فسافروا وتغربوا عن الأوطان والأهل والولدان، ونحن اليوم تأتينا فتن أخرى من الملهيات والمغريات والشواغل، فلكل زمانٍ بلاؤه، فعلى طالب العلم أن يعلم أن هذه الأمور تنصرف بحسن الظن بالله عز وجل وقراءة مواقف العلماء الصادقين؛ لأنها تسلي وتقوي العزيمة كما قال الله عز وجل: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120] قال العلماء: فيه دليل على أن القصص تثبت القلوب، فإذا أحس طالب العلم أن قلبه يريد أن يضعف ثبته بسير الصالحين وسير العلماء العاملين الأئمة المهديين، فزاده ذلك عزيمةً على الخير، وثباتاً على الخير.
ومما يقوي الهمة: تذكر حسن العاقبة، فإن لأهل العلم وطلاب العلم مراتب ومنازل، فمن كان أكمل صبراً وأكمل وثباتاً كانت عاقبته أعظم.
ويقول بعض العلماء: قل أن تجد إماماً يصل إلى درجة عالية في العلم إلا وجدت صفحات صدره على أكمل ما تكون، فإذا جاء البلاء وانصب عليك بقوة، فاعلم أنك صبرت بقوة كان فتح الله عليك بقوة وبكثرة، كما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24] فكل من يصبر يكون إمام هدىً وداعيةً إلى الخير على قدر صبره، ومعنى الآية: أنه إذا كمل الصبر كمل فتح الله على العبد، فبمقدار تعبك ونصبك وجدك واجتهادك وثباتك يكون فتح الله عليك، فاصبر وصابر واحمد الله جل جلاله.
وانظر إلى أهل المعاصي وهم يسهرون عن المعاصي ويصبرون عليها حتى يتعلمون الشرور والآفات، فكيف وأنت على طاعة الله جل جلاله؟! إنك تجد بعض أهل الفساد يتغرب عن أهله ويبتعد عنهم ويعاني من المشقة ما الله به عليم، وهو في مخدرات ومعاصٍ ومنكرات، نسأل الله السلامة والعافية، أما أنت فتخوض غمار رحمة الله جل جلاله، فعليك أن تعرف قدر النعمة التي أنت فيها.
المشكلة أن كثيراً من طلاب العلم يأتيهم الضعف بأسبابٍ من أنفسهم، وهذه هي البلية، فلو أن كل طالب علم أحس بضيق نظر إلى نفسه وقال: أنا حينما أخرج من بيتي إلى مجلس هذا العالم، أليس الله عز وجل يكتب لي خطواتي وحركاتي وسكناتي أنفاسي وجهدي؟ فلو حدث نفسه بذلك لهانت عليه الدنيا وما فيها من تعبٍ ونصب، فأي طاعة أو قربة تريد أن يثبتك الله عليها فاستشعر أن الله يسمعك ويراك وأنه يرضى عما تعمل؛ فإذا جلست في مجلس ذكر وأنت تعلم أن الله يرضى عن جلوسك ويحب أن يراك بين العلماء وبين طلاب العلم، وأن الله يحب أن يراك ساهراً في العلم، مذاكراً له منتفعاً به، إذا علمت أن الله يحب منك ذلك كله أحببت العلم وصبرت عليه، ما الذي جعل السلف الصالح رضوان الله عليهم يكتحلون السهر وتتقرح أقدامهم في الأسفار والمشقات والمصاعب، يتغربون عن الأوطان ويرون الموت وهم يخوضون البحار والفيافي والقفار لطلب الحديث؟ إنما فعلوا ذلك كله لأنهم علموا أن هذه المشقات والمتاعب كلها في ميزان الحسنات، إذا شعرت بسآمة وملل فما أتتك إلا من الغفلة؛ لأن من غفل عن أنه يعامل الله، لن يستطيع السير والصبر.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم، ألا يزغ قلوبنا بعد إذ هدانا.
ربنا هب لنا من لدنك رحمةً إنك أنت الوهاب، اللهم اجعلنا هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين، سلماً لأوليائك، حرباً على أعدائك، نحب بحبك من أحبك، ونعادي بعداوتك من عاداك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(20/14)
التدرج في طلب العلم على ضوء ما يقرره العلماء
السؤال
فضيلة الشيخ! ما الكتب التي تنصح الداعية بقراءتها في الأصول والفقه والعقيدة والتفسير؟
الجواب
خير ما يوصف به من أراد أن يتعلم العلم النافع، وأن يهتدي إلى الصراط المستقيم، فليلتزم بكتاب الله، قال الله عز وجل: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] فالله عز وجل جعل هذا الكتاب هادياً لأقوم السبل، فإذا أردت أن تتعلم فأول ما تسأل عنه: ماذا قال الله، وقال رسوله عليه الصلاة والسلام؟ تبحث عن الأساس، فكتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم هما السبيل الأقوم والصراط الذي لا نجاة للعبد إلا بهما، وهما الصراط الذي تسأل الله في كل صلاةٍ تصليها بين يديه، وتقف بين يديه حين تقول: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] وليس هناك صراط مستقيم إلا صراط القرآن.
قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:153] قالوا: هو كتاب الله جل جلاله، فالذي يريد أن يدرس العقيدة والفقه والحديث ويدرس الأحكام فعليه أن يبدأ أولاً بكتاب الله عز وجل، وإذا بدأ بكتاب الله، فإنه يصيب السداد والرشاد على أتمه وأكمله.
ما ضرنا اليوم إلا الاشتغال بالفروع عن الأصول، وتجد الشخص إذا أراد أن يخطب خطبة أو يحضر موعظة يبحث عن كتب معينة فيها كلمات وأساليب وألفاظ وعظية معينة، وقلَّ أن تجد من تنعم عينه بكتاب الله جل جلاله، ولو أن كل داعية قبل أن يدعو وقف أمام كتاب الله وسأل نفسه قبل أن يتكلم، ماذا قال الله وماذا قال رسوله صلى الله عليه وسلم لكان خيراً له، فإذا جاء يبث للناس بث لهم كلاماً من كتاب الله، حتى وإن لم يأتِ بالآيات أتى بمضمونها وبما فيها من دلائل وحجج: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود:1] فلا أصدق من الله قيلاً: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} [النساء:58] فأكمل ما يكون الهدي والاهتداء في الكتب والرسائل والمسائل كتاب الله جل جلاله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وينبغي أن يكون الفقيه أو المعلم ملتزماً بكتاب الله، فيأتي إلى الباب وينثر حجج القرآن والسنة ودلائلهما، وما كان عليه سلف الأمة بينة ومحجة واضحة، فإذا وفق الله طالب علم بهذا فإنه سيوفق كما وفق سلفه، وقد كان بعض العلماء يقول: من أراد التوفيق على أتم ما يكون، فلينظر إلى حال السلف رضوان الله عليهم.
السلف لم يتجاوزوا كتاب الله، بل كانوا مع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل منهم إذا أراد أن يتكلم فأول ما يبحث في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلم يقدموا بين يدي الله ورسوله.
جاءت امرأة إلى الشافعي -رحمه الله برحمته الواسعة- وسألته عن حجية السنة، فقالت: لماذا السنة حجة ودليل؟ قال لها: أنظريني ثلاثة أيام -وهنا وقفة: انظروا إلى أمانة السلف وإلى علمهم، لم يتسرع بالإجابة، بل قال: أنظريني ثلاثة أيام، أتعرفون لماذا ثلاثة أيام؟ لأنه كان -رحمه الله- يختم كتاب الله في ثلاثة أيام، ومعنى قوله: أنظريني ثلاثة أيام، أي: سأعرض ما سألتي عنه على كتاب الله حتى أعلم ماذا يقول الله- ثم في اليوم الثالث -في وقت السحر- كبّر رحمه الله عندما قرأ قوله تعالى: {َمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، فجاءت المرأة فأخبرها بالآية التي هي من أقوى الحجج -وإن كان كتاب الله فيه حجج أخرى، لكن: {َمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وهناك حجج أخرى موجودة {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور:63] فـ الشافعي رحمه الله أراد أن يعرض القرآن كاملاً، فوجد أقوى الحجج والآيات وأدمغها في الدلالة على حجية السنة، فأهم ما يتواصى به طلاب العلم -بل الناس جميعاً- الرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ففي العقيدة ترجع إلى ما قال الله وما قال رسوله صلى الله عليه وسلم، انظر إلى كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله برحمته الواسعة وجزاه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء- تجده مشبعاً بآيات الله وبأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد عجبت في بعض الأحيان عند بعض المسائل التي يختارها رحمه الله، تكاد المسألة لا تتجاوز ألفاظ الآية، وهذا والله لا شك أنه توفيق، ثم انظروا كيف وضع الله له القبول، وكيف نفع الله به الناس، فكلما كان الإنسان ملتزماً بالكتاب والسنة وكان مهتدياً بهديهما، نفع الله بقوله.
ولا يعني ذلك أن نرجع مباشرة إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ونترك العلماء، قال الإمام ابن القيم: نصٌ من كتابٍ وسنةٍ وطبيب ذاك العالم الرباني لا يكفي الكتاب والسنة، بل لابد من دليلٍ وهادٍ يهدي إليهما، ويبين ناسخ القرآن من منسوخه، ويبين حججه ومحجته، وهو العالم العامل.
ليرجع طالب العلم إلى العلماء ويفهم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم عن طريقهم، فالله تعالى يقول: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] اسألوا أهل الذكر، فمن عرف بحب كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم ولزومهما، فهو العالم الذي تنعم به العيون، وهو العالم الهادي إلى صراط الله، الدال على طريق الله الذي ينتهي بمن اتبعه وسلك سبيله إلى الجنة.
أما الكتب: ففي كل علم مراتب ومتون ذكرها العلماء يتدرج فيها طالب العلم، والأفضل لطالب العلم إذا أراد أن يتعلم أن يأخذ بصغار العلم قبل كباره، فإذا أراد أن يقرأ العقيدة فليرجع إلى شيخه ليختار له الكتاب الذي يقرؤه عليه، ابدأ -مثلاً- بكتاب التوحيد ثم تدرج حتى تصل إلى العقيدة الطحاوية، ويتدرج في المتون في الفقه، فيبدأ -مثلاً- بعمدة الفقه للإمام ابن قدامة، ثم المقنع، ثم الكافي، ثم المغني، ويتوسع بعد ذلك حتى يبلغ درجة الاجتهاد، ويبدأ في أصول الفقه بالورقات، ثم يتوسع بعدها إلى الروضة، ثم المستصفى ثم المطولات، وهكذا في الحديث، يبدأ بما صح من الصحيحين كعمدة الأحكام فيحفظها ويبدأ بالأحاديث الجامعة كالأربعين النووية، ثم بعد ذلك يتوسع بعد عمدة الأحكام وينتقل إلى المحرر، ثم ينتقل إلى بلوغ المرام، ويتوسع بعد ذلك في متون الحديث على حسب ما يقره له علماؤه ومشايخه، والله تعالى أعلم.(20/15)
تعيير الناس الداعية بفساد أقاربه
السؤال
فضيلة الشيخ! إذا كان بيت الداعية على غير استقامة وأصبح يعير لذلك في حيه إذا أراد أن يدعو إلى الله، فما هي الوصية في هذا الأمر؟
الجواب
الداعية إلى الله يدعو إلى الناس بقوله وعمله، ولو كانت بيئته وأهله وقبيلته وأمته التي خرج منها ضالة بعيدة، فلا يضره ذلك شيئاً، ما ضر عكرمة كفر أبيه.
فالداعية إلى الله يبحث عن رضوان الله، ولا يلتفت إلى ما يقوله الناس، فلست بمسئولٍ عن قرابتك إذا بلغتهم رسالة الله على وجهها، فالرسول عليه الصلاة والسلام قد وقف أول موقف في الجهر بالدعوة، فكان أول من سفهه ورد عليه على الأشهاد عمه أبو لهب، (فقال له: تباً لك، ألهذا جمعتنا) فأنزل الله من فوق سبع سماوات غيرةً على نبيه، قال سبحانه وتعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] فجعله في تبابٍ إلى يوم القيامة، وجعله يوم القيامة في أعظم التباب وأشد النكال، نسأل الله السلامة والعافية.
فالذي يريد أن ينظر إلى أهله وجماعته وإخوانه أو أحدٍ يقول له: كنت وكنت، وفعلت وفعلت، فإنه لن يستطيع أن يدعو، فلا عليك من كلام الناس إذا وجدت الحلاوة وأردت أن تعامل الله وأن تشكر نعمته عليك، فعاجل ما تنتظره من عظيم الأجر عند الله؛ أن تؤذى في ذات الله جل جلاله.
يقول بعض العلماء: من دلائل القبول للداعية أن يؤذى في بداية دعوته.
ولذلك بمجرد ما يأتي الداعية يريد أن يتكلم يقول له قائل: اسكت فمن أنت؟ أنت الذي كنت تفعل وتفعل، اسكت فمن أنت حتى تتكلم، فأبوك ليس بعالم، ولا جدك، فما عليك من سخرية الساخرين وتهكم المستهزئين، وعليك برضوان الله رب العالمين.
فهذا لوط عليه السلام أوذي بزوجه، وهذا إبراهيم عليه السلام أوذي بأبيه، وأوذي نوحٌ عليه السلام بابنه، ويقول العلماء: ما ذكر الله هذه القصص إلا لكي تكون سلواناً لكل داعيةٍ إلى الله ولكل هادٍ يهدي إلى صراط الله، فعليك أن تبحث عن مرضاة الله جل جلاله ولا تلتفت إلى غيره، وأسأل الله العظيم أن يصرف عنا قول الناس وضرهم، وأن يجعلنا ممن أراد وجهه وابتغى ما عنده.
قال الله تعالى: {لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} [الأحزاب:69].
فمن أراد الوجاهة عند الله فليصبر على طعن الناس فيه وفي زوجته وأهله وولده، قد يأتي الداعية يريد أن يدعو فينتشر بين الناس أن زوجته ليست بملتزمة، وأن أولاده ليسوا بملتزمين، فما دام أنه نصحهم ووعظهم وذكرهم بالله فهو على خير، ولا يضره كلامهم شيئاً وإذا صدق مع الله وبلغ رسالته إليهم، فقد أعذر إلى الله، وذلك لا يمنعه من تبليغ رسالة الله إلى عباده، والله تعالى أعلم.(20/16)
وصايا لمن وضع له القبول بين الناس
السؤال
إذا وجد الداعية القبول لدعوته، فإنه يجد لذلك ارتياحاً وفرحاً وانشراحاً فهل يقدح ذلك في إخلاصه؟
الجواب
الله المستعان، ينبغي على الداعية ألا يلتفت إلى الناس، فلو أن الأمة كلها أحبت العبد والله ساخطٌ عليه فماذا ينفعه؟ وإذا رضي الله عن العبد والأمة كلها ساخطةٌ عليه فلا يضره ذلك.
إذا كان العبد لله ورضي الله عنه، نعمت عينه وإن كان الناس كلهم بمعزلٍ عنه، ولكن إذا وجد القبول، فليعلم أن عليه -أولاً-: أن يشكر الله جل جلاله مقلب القلوب والأبصار، فيقول: يا رب! ما زلت تُنعمُ علي، وما زلت تتفضل علي، فأنت صاحب الفضل أولاً وآخراً، ولا يعتقد أن لسانه أو كلماته ومحاضراته ودروسه تغني له من الله شيئاً، ولو شاء الله في طرفة عين أن يسلب من قلوب العباد حبه لسلبه، فهو على كل شيءٍ قدير، ولو شاء الله في طرفة عين أن يقلب العباد كلهم على حبك وإجلالك وهم في سخطٍ لك لفعل، فالله على كل شيءٍ قدير.
فينبغي على الداعية ألا يلتفت إلى الناس، بل ينظر ويراقب الله جل جلاله، حتى إذا علم أن الله سبحانه وتعالى أنعم عليه بهذه النعمة أجلَّ نعمة الله، ومن عرف نعم الله شكرها وحفظها وحافظ عليها وقام بحقوقها.
فعلى الداعية إلى الله إذا رأى القبول أن يثني على الله بما هو أهله، وأن يعلم أن هذا القبول كله مسئوليات وتبعات وأمانات يحملها على ظهره في الدنيا ويسأل عنها بين يدي الله جل جلاله، فلو سأله الله: قد وضعت لك القبول، فماذا قدمت لي؟ فماذا يقول وبماذا يجيب؟ ثانياً: ألا يأمن من مكر الله فتزل قدمٌ بعد ثبوتها، فإن الله مطلعٌ على قلبه، فإن رأى في قلبه أنه لا يميل إلى الناس ثبته ووفقه وسدده، والله على كل شيءٍ قدير، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:27].
وكان صلى الله عليه وسلم يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك أستغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين) أنت بكلماتك ومواعظك لا شيء، فإذا كنت تظن أن كلامك ومواعظك وحسن بيانك هو الذي جمع الناس حولك، فما صدقت ولا بررت، فكم من بليغ هو أبلغ منك ولا يجد ربع ما تجده، وكم من فصيح هو أفصح منك، ويجد ثُمنَ أو عُشرَ معشار ما تجده، ولكن الفضل كله لله.
فأول ما ينبغي على الداعية أن يوطن نفسه على حب الله وإجلاله وشكره والثناء عليه.
ثالثاً: إذا أحس الإنسان أن النعمة نعمة الله وأن الفضل كله لله؛ خاف من الله جل جلاله أن يكون استدراجاً، فإن الله يستدرج العبد من حيث لا يحتسب، فعليه أن يتقي الله فيما يقول ويعمل، فيأخذ بهذه الأمة التي وضع الله له القبول فيها إلى كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، لا إلى مجده وإلى شخصه والثناء على نفسه، ولا يحتكر هذه النعمة، فيخون الأمانة ويضيع عباد الله على حساب ما يكون له من حظوظ، بل ينبغي أن يصوغ القلوب كلها لله، وفاءً وشكراً لنعمة الله جل جلاله عليه.
انظر إلى هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما رأى بأم عينيه القبول في الأرض؛ قام حتى تفطرت قدماه من طول القيام، وقالت له أم المؤمنين: (يا رسول الله! أوتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبداً شكوراً) فينبغي على الداعية أن يجعل كل ما عنده -ممن التزم سبيله وسار على نهجه- على صراط الله، فالله معك لئن أقمت الصلاة، وآتيت الزكاة، ووفيت له في دعوتك، فهذه من الأمور التي ينبغي أن يتواصى بها، فإذا وجدت في حيك ومسجدك القبول بين الناس، فصغ عباد الله لله، وارجُ الثواب من الله، فإنك إن فعلت ذلك شكر الله سعيك، وأعظم أجرك، ورفع ذكرك، وأحسن العاقبة لك في الدنيا والآخرة.
ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، ونسأله تعالى ألا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يصرف عنا فتنة الرياء، وفتنة السمعة والثناء، وأن يجعل أقوالنا خالصة لوجهه حتى نقف بين يديه، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(20/17)
التفصيل بين طلب العلم وغيره من العبادات التفرغ لطلب العلم وإتقانه إولى
السؤال
فضيلة الشيخ! هل الأولى أن يصرف العبد أغلب أوقاته في العبادة والنوافل، أم الأفضل أن يعكف على طلب العلم والدعوة إلى الله؟
الجواب
هذا أمر يختلف باختلاف الناس، فإذا كان الإنسان يستطيع أن يفرغ نفسه لطلب العلم ويعطي العلم حقه من الحفظ والفهم والإتقان ويخرج للأمة إمام هدىً، على بصيرةٍ من الله ونورٍ يخرج إلى الناس لكي يسد لهم ثغرةً من ثغور الإسلام، فإن تعلم العقيدة أتقنها، وعرف ما فيها، وأقام الناس على الصراط السوي في العقيدة، وذب عن الإسلام فردّ الشبهات والضلالات، وقام لله بحقه، وإن تعلم الفقه تعلم كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعرف الحلال والحرام، وعرف الشريعة والأحكام، وقام بذلك على أحسن وجه وأتقن أتم الإتقان وأكمله، فهو على خيرٍ عظيم، وهو بخير المنازل يوم القيامة؛ لأن العلم هو أشرف ما يطلب، وأفضل ما يكون، وهو أفضل من العبادة.
أما إذا كان الإنسان قد فتح الله عليه في العبادة ويريد أن يجمع بين العلم والعبادة فهذا شيءٌ طيب، ولكن الأفضل والأكمل أن يتقن العلم، وأن يفرغ نفسه للعلم ولضبط العلم حتى يسد الناس ثغرة هذا العلم وخاصةً في هذا الزمان الذي قل فيه العلماء، وكلما فقدت الأمة عالماً قل أن تجد من يخلفه.
كانت القرون الماضية إذا مات عالم خلف للأمة علماء فعندما توفي زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه -الصحابي الجليل العالم العامل العابد القانت- وبلغ الخبر أبا هريرة رضي الله عنه بكى، وقال: (لقد دفن الناس اليوم علماً كثيراً -فقد كان زيد رضي الله عنه أعلم الناس بكتاب الله أعلمهم بالحلال والحرام، وأعلمهم بما في القرآن من حدود، وأعلمهم بأوامر الله ونواهيه- ولعل الله أن يجعل لنا في ابن عباس خلفاً من زيد).
لأن ابن عباس لزمَ زيداً، وقد كان يأتي في شدة الظهيرة وينام على بابه، ويأتي في ظلمة السحر وينام على باب زيد، إعظاماً لكتاب الله، وإجلالاً لأهل كتاب الله -رضي الله عنه وأرضاه وجزاه عن الأمة والإسلام خير الجزاء- فخرج بحراً حبراً للأمة وعالماً من علماء المسلمين، فكان العلماء إذا ماتوا وفقدوا خلفوا من ورائهم أمة، ولكن اليوم إلى الله المشتكى! فكون طالب علم يحتسب عند الله أن يتقن ثغر العلم، وأن يلتزم بالتعلم وبحلق العلم، ويحب العلماء، ويحرص على مجالسهم والاستفادة من علومهم، فهذا من أفضل ما يكون، فقراءة العلم والنظر في كتب أهل العلم عبادة، والتفكر والتدبر في المسائل ومناقشتها ومناظرتها بنية الوصول إلى الحق عبادة، ولا تزال في عبادة ما كتبت وسمعت وتعلمت ومشيت، فأي مقامٍ مثل هذا المقام؟ وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله -وإذا سهل الله فلا تسأل- له به طريقاً إلى الجنة) يقول العلماء: أقرب السبل إلى الجنة طلب العلم، فنحن نقول: إذا كان الإنسان يستطيع أن يتفرغ للعلم ويعطي العلم كليته ويجعل له حظاً من قيام الليل ومن صيام النهار وحظاً من العبادة والبكاء والخشوع والقراءة في سيرة السلف الصالح، فقد جمع بين الحسنيين، نسأل الله العظيم أن يجعلنا ذلك الرجل، والله تعالى أعلم.(20/18)
أفضلية الجمع بين طلب العلم والدعوة إلى الله
السؤال
فضيلة الشيخ! ما هو الأفضل للداعية: أن يعكف على طلب العلم حتى يبلغ الحد الذي يؤهله ليكون داعية، أم يجمع بين طلب العلم والدعوة؟
الجواب
الأفضل والأكمل أن يجمع الإنسان بين الحسنيين، أن تجعل لك وقتاً لطلب العلم، ووقتاً للدعوة إلى الله، وطلاب العلم يختلفون، فهناك من هو قليل العلم، لا ينبغي أن يشغل نفسه بالدعوة حتى يتسلح بالعلم، وهناك من هو في بيئة تحتاج إلى كل كلمةٍ منه، وتحتاج إلى العلم القليل الذي عنده، فينبغي عليه أن يؤدي رسالة الله، وأن يتكلم بما عنده من الخير ويبثه للناس.
كان بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- يأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الليالي ذوات العدد، فيمكث عنده، فيقول عليه الصلاة والسلام: (انطلقوا إلى أهليكم فعلموهم) فإذا كان الإنسان في بيئة تحتاج إليه، وتحتاج إلى مواعظه وتذكيره وإلى خطبه، فليحرص على أن يجعل لهم حظاً من ذلك ونصيباً، فإن الله سائله عن ذلك، ولا ينتظر حتى يكمل طلب العلم، بل يبذل ما عنده من العلم والتوجيه حتى يعذر إلى الله عز وجل بتبليغ رسالته وأداء أمانته.
والأفضل أن يجعل له وقتاً من الأسبوع للدعوة، فيخرج مثلاً يوم الخميس أو الجمعة حسب المستطاع له، ولن نستطيع أن نضع للناس برنامجاً أو طريقة؛ لأن وضع البرامج في هذا من الخطأ، فقد يناسبُ قوماً ولا يناسبُ آخرين، ولكن اتق الله وسدد وقارب، فلن تزال بتوفيقٍ من الله ما سددت وقاربت، والله تعالى أعلم.(20/19)
ساعدوا أهل كوسوفا
لقد ربط الله عز وجل بين المسلمين برابطة الإسلام، وجعلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وما نراه اليوم من تكالب الأعداء على أمة الإسلام، وتداعيهم عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، ليؤذن باتحاد المسلمين وتعاطفهم وتراحمهم فيما بينهم، والتناصر بالنفس والمال والدعاء على قدر الاستطاعة.(21/1)
وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد: أحب في الحقيقة أن أذكر الإخوان جميعاً بأمرٍ مهم لابد من العناية به، خاصةً في هذه الأيام، وهو ما أصاب إخواننا الألبان في كوسوفا، وهم الآن في أشد الحاجة إلى معونة إخوانهم المسلمين، والوقوف معهم، فإن الله جمع بالإسلام بين المسلمين، وألّف بين أرواحهم، وجعلهم كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ومن كمُل إيمانه وإسلامه كان مع أخيه كالجسد الواحد، يتألم بآلامه! ويفرح بأفراحه! وإن المسلم ليأرق ويتألم وهو في مشرق الأرض لأخيه في مغربها؛ لأن أخوة الإسلام أعز من أخوة النسب، وأعز من كل أخوة، وإن الله ليرضى عن المسلم الذي تدمع عينه، ويتقرح قلبه لإخوانه المسلمين؛ لأن هذا الألم والحزن يدل على كمال الإيمان والرحمة التي أودعها الله في القلوب، ومن رحم أخاه المسلم رحمه الله في الدنيا والآخرة.(21/2)
النصرة بالمال والدعاء
وهذه هيئات الإغاثة، والمؤسسات الخيرية، أسأل الله العظيم أن يمدهم بعونه وتوفيقه وتسديده، وأن يلهمهم الصواب والرشد، لقد فتحت ذراعيها للمعونة والمساعدة، قد تزور إنساناً غنياً تقول عنده كلمة، تأمره فيها بنصرة هؤلاء الضعفاء، يكتب الله لك بها رضاه إلى يوم تلقاه، (إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يلقي لها بالاً يكتب الله له بها رضاه إلى يوم يلقاه)، تأتي إليه وتذكره بهؤلاء الضعفاء، والله سبحانه وتعالى جعل أبواب الجنة خاصةً في الكربات، فقد تكون الكربات سبباً في دخول الجنة، فكم من متكلم في مثل هذه الحوادث والنكبات يكتب الله له رضاه بكلمات! وكم من كلمات حرّكت القلوب فكفكفت دموع اليتامى، وجبرت قلوب الثكالى، كتب الله عز وجل بها مثاقيل الحسنات! فاحتسبوا الأجر عند الله سبحانه وتعالى، تكون المساعدة بالمال وبكل ما يستطيع الإنسان، تجب علينا نصرتهم ومعونتهم بكل ما تعنيه هذه الكلمة، فالمسلم أخو المسلم! ونصوص الكتاب والسنة واضحة جلية في هذا الأمر وجب علينا أن نستشعر هذا الأمر، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه استنصر، وأنه رفع يديه وكفه إلى الله مستغيثاً مستنصراً.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلى، اللهم إنا نسألك أن تجعل لإخواننا في كوسوفا وفي كل مكانٍ من كل همٍ فرجاً، اللهم اجعل لهم من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية.
اللهم ثبت أقدامهم، اللهم ثبت أقدامهم، وسدد سهامهم، وصوب آراءهم.
اللهم اعطف قلوب عبادك عليهم يا حيُ يا قيوم! اللهم اجبر كسرهم، وارحم ضعفهم، وفرج عنا وعنهم يا حيُ يا قيوم! اللهم إن نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت، أن تدمر الكافرين ومن أعانهم.
اللهم شتت شملهم، اللهم فرق جمعهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم أحصهم عدداً، اللهم اقتلهم بدداً، اللهم لا تغادر منهم أحداً، اللهم اجعل بأسهم بينهم، وسلم المسلمين من شرورهم، يا حيُ يا قيوم! يا حيُ يا قيوم! يا حيُ يا قيوم! إنك على كل شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله.(21/3)
وجوب النظر في أحوال المسلمين والشعور بالمسئولية
فالواجب علينا أن نتذكر وأن ننظر في أحوال إخواننا، وأن نحس بالمسئولية، والواجب الذي يحتمه علينا ديننا، ويفرض عليه إسلامنا أن يحس المسلم بما أصاب إخوانه من هذه الأذية، وهذا الاضطهاد والظلم والعسف والجوع الذي ضيعت فيه حقوقهم! وانتهكت فيه أعراضهم! وسفكت فيه دماؤهم! ولا حول ولا قوة إلى بالله العلي العظيم! الواجب على المسلم أن يبذل كل ما يستطيع، بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ لنصرة إخوانه المسلمين، وهذا أمر محتم يوجبه علينا إسلامنا وديننا أن نرى هؤلاء المسلمين يشردون ويقتلون، وما نقموا منهم إلا الإسلام، والله لا الأرض، ولا المال، ولا النسب، ليس هناك إلا الإسلام! والمسلم العاقل الواعي يدرك هذه الحقيقة، فليس هناك أي أمر يؤذون من أجله إلا الدين، وما نقموا منهم إلا الإيمان بالله عز وجل، في تلك البقعة التي قلَّ أن يوجد فيها مسلم.
حنق أعداء الله -شتت الله شملهم، وفرق جمعهم، وجعل بأسهم بينهم- كيف يكون الإسلام في عقر تلك الدار التي قل أن يوجد فيها مسلم! ويبقى هذه القرون وهذا الردح من الزمن! وهذه الأمة تفتخر بإسلامها، متمسكةً بدينها، تحس أنها مرتبطة بالدين! مرتبطة بأعز شيء! وهي اليوم تقف في أمس الحاجة إلى رحمة ربها أولاً وقبل كل شيء، ثم رحمة إخوانهم من المسلمين، الله الله إخواني في الله!(21/4)
مسئولية طلاب العلم والخطباء تجاه إخوانهم المضطهدين
على طلاب العلم والأئمة والخطباء أن يعتنوا بهذا الأمر، لا يجوز خذلان المسلم، ومن خذل أخاه المسلم خذله الله في الدنيا والآخرة، والمصائب والنقم تحل سنين إذا خذل بعضهم بعضاً، والله يرفع البلاء على المسلمين إذا كانوا متراحمين متعاطفين، يعطف بعضهم على بعض.
كان بعض العلماء يمرض إذا سمع بكارثة نزلت على المسلمين في صقع من الأرض، وكان بعضهم ربما يمرض حتى يعاد مما يجد من الأسى والحزن، ونحن لا نبدي الخور والضعف، فالله يعلم بما يسكن قلوبنا من الثقة بالله جل جلاله، وخير ما تنصرون به إخوانكم أولاً قبل كل شيء ألا تنسوهم من صالح الدعاء، فإن الدعاء حبل متين، ولا يستهن الإنسان بدعوة، فلعل الله أن يجعل دعوتك تفتح لها أبواب السماء يكتب لك أجرها.
فأنت إذا قلت اللهم ارحم ضعفهم، واجبر كسرهم، كتب الله لك كل ما يكون من هذه الدعوة، فتكون معهم بالدعاء، في سجودك وبين الأذان والإقامة وفي الأسحار.
تصور أن هذه المرأة المنكوبة المكلومة المفجوعة المفزوعة أنها أمٌ لإنسان! أو أنها أخت! أو أنها بنت! ماذا يكون حال الإنسان؟! أليس بيننا وبينهم الإسلام؟ أليست هناك وشيجة أعز وأعظم من وشيجة النسب؟ لو أن إنساناً من ذي قرابتك أصابه عشر ما أصابهم لتقرح قلبك! وشعرت بالأسى والحزن فكيف بإخوانك في الله والإسلام؟! فالله الله أيها الأئمة والخطباء وطلاب العلم أن توجهوا الناس وتذكروهم، وأن تعظوهم بهذه الحقوق، ومن نصر مسلماً نصره الله في الدنيا والآخرة، وليس هناك أعز من أن نعتز بديننا، وأن نشعر أن بيننا وبين إخواننا حقاً عظيماً يحتم علينا الوقوف بجوارهم.(21/5)
رسالة إلى تاجر
التجارة نعمة أنعم الله بها على عباده، يصون الإنسان بها نفسه عن مذلة السؤال، ويكفي بها نفسه وأهله؛ لكن الله جعل للتجارة ضوابط وشروطاً تضبط تداول الأموال بين الناس، فمنع منها ما فيه ضرر على الفرد أو المجتمع، فعلى التاجر -إذا أراد البركة في تجارته- أن يلتزم بضوابط الشرع في البيع، وأن يشكر نعمة الله عليه، فيخرج زكاة ماله، ويتصدق على الفقراء والمساكين، ويصل رحمه؛ فهذه أمور تزيد من بركة التجارة، وتحقق رضوان الله على العبد.(22/1)
أهمية التجارة في الإسلام
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي المؤمنين والمؤمنات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، الذي أرسله بالآيات البينات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين.
أما بعد: الحمد لله الذي جمعنا في هذه الساعة الطيبة المباركة من هذا الشهر المبارك الكريم، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأسأله بمنه وكرمه كما أكرمنا بهذا الاجتماع في هذه الدار، أن يجمعنا في دار كرامته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
بادئ ذي بدء أشكر من كان له الفضل -بعد الله عز وجل- في هذا اللقاء، وشكر الله لكم مسعاكم، وقرن بطيب الجنة ممشاكم؛ حيث أقبلتم على هذه الروضة من رياض العلم، التي نتدارس فيها ما ينبغي على المسلم في تجارته مع الله عز وجل وتجارته مع الناس.
أيها الأحبة في الله: التجارة نعمة من نعم الله عز وجل، وهي مهنة شريفة كريمة، ولو لم يكن في شرفها إلا أن نبي الأمة صلى الله عليه وسلم عمل بها يوماً من الأيام، فقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه تاجر في مال خديجة رضي الله عنها وأرضاها.
هذه التجارة تولاها الأخيار على مر القرون والأعصار من صحب النبي الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، تولاها أبو بكر صديق هذه الأمة، وكان تاجراً ونعم التاجر، وكذلك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كـ عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عن الجميع.
وكان عبد الرحمن له في التجارة ثلاثة مواقف عظيمة جليلة: أولها: أنه قدم إلى المدينة -وهو من أهل الهجرتين رضي الله عنه وأرضاه- فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينه وبين سعد بن الربيع، فقال له سعد: يا عبد الرحمن! هذا مالي، أشاطرك هذا المال نصفه لك ونصفه لي، ولي زوجتان انظر إلى أجملهما وأحسنهما أطلقها وتنكحها من بعدي.
فقال عبد الرحمن رضي الله عنه وأرضاه: بارك الله لك في مالك، دلني على السوق.
كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لهم همة عالية، ونفوس طاهرة زاكية، فاستغنى عبد الرحمن بالله ففتح الله له أبواب الغنى، أقبل على السوق فتعب ونصب، وكان تاجراً أميناً صادقاً وفياً براً في تجارته ومعاملته؛ ففتح الله له أبواب الرحمة؛ فكان له من الخير ما كان.
الموقف الثاني الذي كان له: أنه كان ممن يجهز جيش النبي صلى الله عليه وسلم في الغزوات، فصدق فيه قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح).
أما الموقف الثالث: فهو أن إحدى أمهات المؤمنين خشعت بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وذكرت وفاته صلوات الله وسلامه عليه؛ فقال عليه الصلاة والسلام: (يحفظكن من بعدي الصادقون) فكان عبد الرحمن رضي الله عنه وفياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أزواجه من بعده، فكان يتحمل نفقاتهن ويكثر الإحسان إليهن، فيا لها من تجارة عادت عليه بخيري الدنيا والآخرة! التجارة نعمة من الله وشرف للإنسان، وأي شرف أن يأكل من كد يديه وعرق جبينه! الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم، حينما سُئل عن أطيب الكسب؟ فقال: (عمل الرجل بيده).
الإسلام دين عمل، ودين جد واجتهاد، ودين سعي وتحصيل، وليس بدين خمول ولا كسل، فشحذ الهمم إلى هذا العمل المبارك، يصون الإنسان به وجهه عن ذل السؤال وشدة الحال، ولذلك كان من أعظم الأمور بلية على العبد أن يتعلق أو تتعلق حوائجه بالناس.
ذكروا عن إبراهيم بن أدهم -عابد من العباد، ورجل من الأخيار الصالحين من سلف هذه الأمة رحمة الله عليهم أجمعين- أنه كان في سفينة فتحركت الرياح وكادت السفينة أن تغرق، فسلم الله ولطف، فلما نجوا من الكربة قال قائلهم: يا إبراهيم! ألم تر إلى هذه الشدة؟ قال: لا والله، إنما الشدة الحاجة إلى الناس.
الشدة حاجة الإنسان إلى الناس فإنه يريق بها ماء وجهه، ويذهب بها كرامته، وينال بها شدة الحياة وقسوتها، فإذا فتح الله على العبد أبواب رحمته، ويسر له من عظيم منته ونعمته، فوجد كسباً طيباً يريق به عرقه لكي يحصل به طيب رزقه؛ فهي نعمة من الله عظيمة.(22/2)
البيوع نوعان مباحة ومحرمة
وقد بين الله عز وجل أن هذه التجارة تنقسم إلى قسمين: تجارة مباحة، وتجارة محرمة.
أما التجارة المباحة: فقد أشار الله عز وجل إليها بقوله: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275].
وأما التجارة المحرمة: فقد أشار إليها باختصار في قوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275].
قال بعض العلماء: إن الذي أحل الله من البيع أكثر من الذي حرم.
ولذلك لما أراد أن يبين سبحانه الحلال قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ما فرق بين بيع وآخر، ولم يقل: أحل الله بيع البيوت ولا بيع الدواب ولا بيع الأطعمة، ولا الأكسية ولا الأغذية، ولكن قال: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275]؛ حتى يعلم المسلم أن الأصل في البيوع أنها حلال ومباحة، حتى يدل الدليل من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم على حرمتها.
فعمم الله -جل وعلا- في الحلال، لكن لما أراد أن يحرم قال: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]، قال بعض العلماء: في هذا دليل على سماحة الإسلام ورحمة الله بالعباد؛ حيث جعل الحلال أكثر من الحرام.
والذي حرمه الله إما لضرر على الإنسان أو ضرر على الناس، أو ضرر على الاثنين، أو لمقصد شرعي يعلمه الله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:216].(22/3)
تحريم البيوع يرجع إلى أربع قواعد أساسية
لقد أجمع العلماء على أن التجارة المحرمة أصولها تعود إلى أربعة أمور: أولها: أن يكون الشيء محرماً بذاته.
وثانيها: أن يكون محرماً لوجود الربا.
وثالثها: أن يكون محرماً من أجل الغرر.
ورابعها: أن يتضمن شروطاً فيها الربا أو الغرر أو هما معاً.(22/4)
تحريم البيع لوجود الغرر والخداع
هناك نوع ثالث من المحرمات في التجارة، فمن أسباب تحريم التجارة: الغرر.
الغرر باختصار -والكلام فيه يطول-: هو المخادعة، يقال: غره إذا خدعه، بمعنى أن البيع يتضمن شيئاً من المخاتلة التي يخدع فيها المشتري، مثلاً: يعطيه شيئاً يحتمل أن يقع ويحتمل ألا يقع، مثل: (سحب الأرقام)، يعطيه أرقاماً معينة، يقول له: اسحب منها رقماً، فإن كان رخيصاً فهو لك، وإن كان غالياً فهو لك.
لكن الإسلام يقول: هذا البيع محرم؛ لأن الإنسان قد يدفع ماله، ويظن أنه يحصل على الغالي، فإذا به قد حصل على الرخيص؛ فيندم ويتألم ويغبن في حقه، ويكون ذريعة لأكل الأموال بالباطل، والشريعة تريد من المشتري إذا جاء يشتري ومن البائع إذا جاء يبيع أن كلاً منهما يكون على بينة وعلم، لا تريد الغش ولا تريد الخداع؛ لأن هذا يفسد القلوب.
ولذلك قال: إذا كان المبيع مجهولاً أو كان الثمن مجهولاً لا يصح البيع، مثلاً: قال له: بعني هذه السيارة.
قال: بعتك.
قال: بكم؟ قال: نتفق فيما بعد، فهذا لا يجوز، لابد أن يحدد بكم يكون البيع؛ لأنه ربما أخذتها منك على أننا نتفق، وقيمتها في ظني عشرة، فتقول: هي باثني عشر أو ثلاثة عشر أو أربعة عشر؛ فتتقطع أواصر الأخوة؛ وتحصل النزاعات والخلافات بين المتبايعين.
إذن: الشريعة لا تتدخل إلا إذا وجد الضرر أو وجد موجب الفساد.
وبيوع الغرر كثيرة جداً، وقد منع النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة، وبيع المنابذة، وبيع الحصاة، فما معنى بيع الملابسة والمنابذة والحصاة؟ فمن صور بيع الملامسة: في الجاهلية لم يكن هناك أماكن، ورفوف لعرض البضائع وإنما كانوا يفرشون بضاعتهم على الأرض، فيأتي المشتري والبائع يعرض -مثلاً- ثوباً، ويريد المشتري أن يقلب الثوب، فيقول له البائع: لا تقلب الثوب، أبيعك على أن يقوم لمسك مقام نظرك، فحرم النبي صلى الله عليه وسلم هذا النوع من البيع؛ لأنه قد يكون العيب موجوداً داخل المبيع؛ فإذاً لا يريد الشرع أن يدفع المشتري شيئاً دون أن يكون على بينة من أمره.
فنخرج من هذا كله: إلى أن الشريعة حرمت البيع إذا كان هناك ضرر، أما إذا لم يكن هناك ضرر، ولم يكن هناك ما يوجب تحريم البيع؛ فالأصل حل البيع وجوازه.(22/5)
تحريم البيع لحرمة عين المبيع
أما تحريم عين المبيع فإن الله له حكمه سبحانه وتعالى، يقول هذا حلال وهذا حرام، {يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41]، ملك العباد وما ملكوا، فقد يحرم الشيء لذاته، وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا النوع من البيوع المحرمة في خطبته حينما فتح مكة -صلوات الله وسلامه عليه- في يوم أعز الله جنده، ونصر فيه عبده وصدق فيه وعده -سبحانه وتعالى- فدخل عليه الصلاة والسلام إلى مكة متواضعاً متخشعاً متذللاً لربه سبحانه وتعالى.
ولما كان اليوم الثاني -وكان اليوم الأول الناس هم في الحر، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وفتحها- قام خطيباً صلوات الله وسلامه عليه، وعليه عمامته السوداء ممسكاً بعضادتي الباب، فقال في خطبته: (إن الله ورسوله حرما بيع الميتة والخمر والخنزير والأصنام).
أربعة أمور ذكرها: الميتة، والخمر، والخنزير، والأصنام.
هذا النوع من التحريم في الشريعة راجع إلى ذات الشيء المبيع، بمعنى أن المبيع لا يصلح أن تدفع الثمن بمقابله.
الميتة: أكلها ضرر وأذية، ولا يمكن أن ينتفع بأجزائها، وهي نجسة؛ ولذلك حرم الله بيعها، فلا تباع بذاتها ولا بأعضائها وأجزائها، إلا ما استثنى الشرع منها وهو جلد الميتة إذا دبغ؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (أيما إهاب دبغ فقط طهر).
من أمثلة هذا النوع الموجود الآن ويخفى على الكثير: تحريم بعض الدواب الميتة، قد يُؤخذ مثلاً ثعبان ويحنط، وهو ميت فيباع، إذا نظرت إلى هذا البيع فإنه يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم بيع الميتة)، إذا تأملت ونظرت وتدبرت وتفكرت هذا الثعبان إذا حنط ودُفعت فيه المبالغ الباهظة والكثيرة، التي تسد الرمق، ويكون فيها الخير لو أنفقها الإنسان في مجالات أخرى، أي مصلحة في دفع هذا المال الكثير لحيوان يحنط ويجسم؟! فإذاً تحريم الشرع فيه الحكمة البالغة لمثل هذا، لكن لو أن الحيوان ذُكي وحنط فلا حرج؛ لأنه أصبح طاهراً، وفي هذه الحالة يزول معنى النجاسة الموجودة فيه، وإن كان بعض العلماء يعده ممنوعاً من جهة المصلحة؛ لعدم وجود المصلحة في بقائه.
إن الله ورسوله حرم بيع الميتة والخمر؛ فالله حرم الخمر لكونه يفسد العقول ومقاصد الشريعة والأديان السماوية حفظت على الناس دينهم وأنفسهم وعقولهم وأموالهم، فأي شيء يمس هذه الأمور الخمسة فإنه يعتبر في هذه الحالة محرماً، فالخمر تمس العقل الذي يكون الإنسان مرتقياً به عن مرتبة البهيمة؛ فحرم الله بيعها.
ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه فتح الطائف، وكان له صديق في الجاهلية، فرأى النبي صلى الله عليه وسلم قد أنعم الله عليه بفتح الطائف فجاءه بهدية، وكانت الهدية عبارة عن قربتين من خمر، فلما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بهديته -وكان صلى الله عليه وسلم حكيماً حليماً رحيماً، لا يعنف ولا يقهر الإنسان في وجهه، بأبي وأمي صلوات الله وسلامه عليه! - نظر إليه وقال: أما علمت أن الله حرم الخمر -يعني تعطيني هذه من باب الهدية، أما عندك علم أنها حرام-؟! قال: لا.
فقام رجل -وكان جالساً- فسارَّ صاحب الهدية -بمعنى كلمه سراً في أذنه-، فقال صلى الله عليه وسلم: بم ساررته -ما الذي قلت؟ - قال: أمرته أن يبيعها -ما دام النبي صلى الله عليه وسلم لا يريدها، وهي محرمة في الشرع- فقال صلى الله عليه وسلم: إن الذي حرم شربها حرم ثمنها -وفي رواية: بيعها-).
تبيعها؟! فمن الذي يأخذها؟ ومن الذي يستفيد منها؟ فحرم الله مثل هذا البيع لهذا.(22/6)
قواعد فرعية تتعلق بتحريم البيع
فهذه أربعة قواعد للتجارة المحرمة، وقد يرد التحريم لأمر يتعلق بالوقت أو بالزمان، أو بصفة تتعلق بالبائع أو بالمشتري، فيحرم الله من أجل الوقت كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] فحرم الله البيع في هذا الوقت؛ لأن الوقت مستحق لما هو أهم وأجل، وإذا تعارضت تجارة الدنيا وتجارة الآخرة فتجارة الآخرة مقدمة؛ لأن الله خلق الخلق من أجل هذه التجارة {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات:56 - 58].
فإذا تعارضت تجارة الدنيا وتجارة الآخرة؛ قدمت تجارة الآخرة على تجارة الدنيا؛ فحرم البيع؛ لكن لا لذاته وإنما لعارض يعرض على ذلك البيع، وقد يحرم الله التجارة بسبب قطع أواصر الأخوة والمحبة، وتشتيت المجتمع وتفريقه، وإيجاد الشحناء والبغضاء.
ومن هنا نعلم ترابط الشرع، أنه يربط بين العبادة والمعاملة، فكما أن المسلم يكون في مسجده عابداً لربه كذلك في دكانه وتجارته.
أما المثال على تحريم المنع بالتجارة؛ بسبب كونها تفسد أواصر الأخوة وتقطعها؛ وتكون سبباً في إيجاد الضرر: فتحريم الله لبيع النجش.
وبيع النجش: أن يزيد الإنسان في السلعة وهو لا يريد شراءها؛ فإنه إذا فعل ذلك خدع أخاه وخذله وآذاه، وجعل تجارته وسيلة للإغرار؛ فخرجت عن المقصود الأسمى والأسنى وهو نفع الناس؛ صارت التجارة حرباً وأذية وبلاء فقال الشرع: لا.
لماذا؟ لأن هذا النجش يفضي إلى الأذية بالغير، والإسلام يريد من المسلم أن يكون على محبة وصفاء ونقاء لإخوانه المسلمين؛ فحرم الله النجش.
حرم الله بيع المسلم على بيع أخيه؛ حتى لا يقطع أواصر المحبة: (ولا يبع بعضكم على بيع بعض) لأنه إذا قال المسلم: هي بعشرة.
قال الآخر: عندي سلعة أجود منها أو مثلها بتسعة أو بثمانية.
فكان في ذلك حنقاً للبائع، كيف يدخل بينه وبين من يريد منه تجارته أو بيعه، فحرم الله بيع المسلم على بيع أخيه؛ لأن التجارة أصبحت قاطعة لأواصر الأخوة؛ ممزقة لمعاني المحبة.
فقد يحرم الله عز وجل البيوع والمعاملات لأمر خارج، أما القواعد الأربع التي ذكرناها فهي لذات البيع ولأصل البيع، فإذا وجدت في البيع هذه الأربعة كانت محرمة، والقواعد الأربع هي: - تحريم عين المبيع.
- الربا.
- الغرر.
- الشروط المتضمنة للربا أو للغرر أو لهما معاً.(22/7)
نعم المال الصالح عند الرجل الصالح
التجارة نعمة من الله، وإذا صارت في طريقها المحمود فهي خير عاجل، خير من الله لعبده، وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم التجارة في كلمتين هما أساس الخير حيث قال: (نعم المال الصالح عند الرجل الصالح) أما قوله: (نعم المال الصالح) أي: نعم ما يكون من مال إذا صلح ذلك المال من الخبث وهو الحرام، ولن نستطيع أن نعرف صالح الأموال من فاسدها إلا بالرجوع إلى العلماء، والاهتداء بهدي كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
لذلك: أوصي إخواني التجار، بل نتواصى جميعاً أن نقف عند حدود الله، فإذا قال العالم: لا يجوز؛ فقل: سمعنا وأطعنا.
وإذا قال: يجوز؛ فقل: الحمد لله الذي أحل لنا الطيبات وحرم علينا الخبائث.
فالمال الصالح يتوقف على حكم من الله بصلاحه، وقد بينا المحرمات.
والجملة الثانية في قوله: (عند الرجل الصالح)، والرجل الصالح المراد به: من أصلح الله سريرته وأصلح الله علانيته، فإن الرجل إذا باع بيعه واتقى الله في بيعه، فهي شهادة من النبي صلى الله عليه وسلم بصلاحه، وهذا خير للتاجر الصالح: أن يظفر بتزكية النبي صلى الله عليه وسلم له بكونه صالحاً، (عند الرجل الصالح) فالرجل الصالح هو الذي يسلم من الدخل في قلبه، فإذا جاء إلى دكانه أو إلى بقالته أو إلى متجره أو إلى محل عمله دخل وقلبه نقياً للمسلمين، يحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكره لنفسه، فإن بلغ ذلك فقد نصح لله ورسوله ولعباده المؤمنين.
أن يدخل بنية صافية، وقلب نقي زاكٍ، يحب لإخوانه ما يحب لنفسه.
فهذا جرير اشترى فرساً، وأعجبه هذا الفرس، فكانت قيمة الفرس بالمال، فجاء إلى بائع الفرس وزاده في المال، ثم ذهب وركب الفرس فأعجبه، فرجع ثانية وزاده في المال، ثم ركب مرة ثالثة فأعجبه فجاء إلى الرجل وزاده، فنظر إليه الرجل -كأنه يظن أن جريراً به شيء في عقله- فقال جرير رضي الله عنه: (بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة والنصيحة لكل مسلم) فلن أغشك، رأيت أن فرسك هذا يستحق أكثر فلذلك زدتك.
فهذه الوصية الأولى: أن يكون الإنسان صالحاً في قلبه وباذلاً النصيحة للمسلمين.
الوصية الثانية: الصدق في وصف المبيع، في الثمن الذي تدفعه، عدم المبالغة، عدم الكذب، عدم الحلف الكاذب الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يذهب البركة، قال صلى الله عليه وسلم: (البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما).
فكل بيع تبتاع أو تبيعه للغير فأنت بين أمرين: بين قوله عليه الصلاة والسلام (فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما -وقوله-: وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما).
فنسأل الله العظيم أن يجعلنا ممن صدق وبر، ولذلك دعا النبي صلى الله عليه وسلم بالرحمة لمن وفق لهذه السماحة، فقال عليه الصلاة والسلام: (رحم الله امرأً سمحاً إذا باع، سمحاً إذا اشترى، سمحاً إذا قضى، سمحاً إذا اقتضى).(22/8)
الرضا بالقليل من الربح دليل القبول والبركة
قال بعض العلماء: السماحة في البيع أن ترضى بالقليل من الربح، لا تبالغ، ولذلك ذكر عن عبد الرحمن بن عوف أنه قيل له: كيف أصبحت غنياً وقد قدمت المدينة فقيراً؟ فذكر كلمة يقول عنها بعض العلماء: هي كنز في التجارة، فقال رضي الله عنه: (كنت إذا أعطيت أقل الربح رضيته؛ فبارك الله لي).
يقول بعض العلماء: هذا كنز التجارة.
وتوضيح لذلك قالوا: لأنه إذا رضي بأقل الربح رغب الناس في بيعه؛ فيقبلون على بضاعته؛ لأن ربحه قليل، فيشتهر بين من يشتري منه.
كذلك أيضاً: إذا اشترى الناس منه نفدت منه السلع، فصار يشتري من غيره، فيحبه من يأخذ منه لكثرة أخذه ممن يبتاع إليه، فأصبح محبوباً بين من يبيع له وبين من يشتري منه، فلذلك يقولون: هي كنز من كنوز التجارة.
الأمر الثاني قالوا: إنه إذا رضي بقليل الربح وقعت البركة، ولذلك الإسلام لا يحرج عليك أن تبيع الذي اشتريته بعشرة بألف، فلا يحرج عليك، وأما ما يقوله بعض المتأخرين -هداهم الله وأصلحهم-: من أنه لا يجوز المبالغة في الربح، ليس هناك دليل على تحديد نسبة معينة في الأرباح، هذا في أصل الشرع؛ لكن أجاز العلماء لولي الأمر أن يتدخل في التسعير عند وجود المصلحة، إذا وجدت المصلحة فله أن يسعر ولا حرج، لكن نحن نقول: كون الشخص يشتري بعشرة ويبيع بمائة، فهذا مباح: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة:275] ما دام أن نفسك طابت أن تشتري بمائة فلا حرج.
وقد ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ عروة البارقي -أحد الصحابة رضي الله عنه- يوماً من الأيام: (خذ ديناراً واشتر لنا من هذا الجلب شاة.
فأخذ عروة الدينار، فذهب إلى الجلب فوجد شاة بنصف دينار، فاشترى شاتين بدينار، ثم باع إحدى الشاتين بدينار، فرجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم بدينار وشاة، فقال: يا رسول الله! هذه شاتكم وهذا ديناركم.
فقال صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك له في صفقة يمينه) فكان لو اشترى تراباً ربح فيه رضي الله عنه، وهذه من معجزاته عليه الصلاة والسلام.
الشاهد أنه اشترى بنصف دينار وباعه بدينار، وهذا يدل على جواز ربح المائة بالمائة.
لكن يقول العلماء: السماحة والبركة والخير في عدم التضييق على الناس، فالله عز وجل قد ينعم على الإنسان ويأخذ الأرباح الباهظة، لكن لا يأمن أن يسلط الله على ماله بلاءً، ولا يأمن أن يسلط الله عز وجل على ماله نقمة، ولكن إذا اتقى الله عز وجل ورضي بقليل الربح؛ فتح الله له أبواب البركة؛ فأصبح ربح الواحد كالعشرة.
فليس المهم أن يأخذ الإنسان المائة ولا الألف ولا الألفين، ولكن المهم البركة، والبركة تكون في الأموال، وتكون في الأولاد، وتكون في الأرزاق والأقوات، ولذلك قالوا: ربما أن الإنسان يكون له ولد واحد يضع الله فيه البركة عن عشرة وعن عشرين، وربما يكون له عشرة من الولد ليس فيهم بركة نسأل الله السلامة، حتى يتمنى أنه ما ولد له ولد -نسأل الله السلامة والعافية-.
فالمهم البركة، فقد تأخذ العشرة ويضع الله فيها بركة الألف، وقد تأخذ العشرة فيصلح بها دين العبد ودنياه وأخراه، يتصدق منها، ويصل الرحم، ويغنم منها في أمور بيعه وتجارته.
فالمقصود: أن هذه من دعائم الخير: الصدق في المعاملة، النقاء في القلوب، الرضا بالقليل كما أثر عن هذا الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه.(22/9)
الحذر من المشتبهات في البيع
كذلك هناك أمور ينبغي أن ينبه إليها، وهي: أن البيع منه الحلال ومنه الحرام ومنه المشتبه، وهو الذي يقع الإنسان به في الشبهة ولا يدري أحلال هو أو حرام؟! فإذا وقفت أمام الشبهات فاحتط لدينك، واستبرئ لدينك؛ يسلم لك دينك؛ وتسلم لك آخرتك،؛ ويعوضك الله خيراً مما فقدت، ولذلك قالوا في الحكمة -وتروى مرفوعة، ولكن الصحيح عدم ثبوتها-: (ما ترك عبد شيئاً لله إلا عوضه الله خيراً منه).
فقد تقف أمام بيع أو تجارة أو معاملة، ولكن فيها شبهة، والنفس غير مطمئنة، وتسأل العلماء فتجد هذا يحلل وهذا يحرم؛ فتقع في لبس من أمرك؛ فحينئذ الأتقى لربك، والأنقى لصدرك، والأعظم لأجرك أن تدعها لله، فإن تركت باباً فتح الله عليك أبواباً، وإن تورعت عن شيء فتح الله لك غيره، فما عامل أحد الله عز وجل فخاب.(22/10)
شكر النعمة وأنواعها
الوصية الأخيرة التي أختم بها هذا المجلس المبارك: أن الله عز وجل وعد المحسن على الإحسان إحساناً، فمن نعم الله على التاجر أن يفتح له أبواب رحمته، فيشرح صدره بشكر نعمة الله عز وجل باللسان وبالجنان وبالجوارح والأركان.
فإياك أن تدخل متجرك أو تخرج من محلك إلا وأنت تثني على الله حق ثنائه! وقل: يا رب! كنت وضيعاً فرفعتني، وكنت فقيراً فأغنيتني، وكنت ضائعاً فآويتني، فلك الحمد الذي أنت أهله، فإن الله تأذن بالمزيد لمن شكر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
وأوحى الله إلى نبيه نوح أن اشكرني فقال: يا رب! كيف أشكرك وشكرك نعمة تستحق الشكر؟ قال: أما وقد علمت أنك لن تستطيع شكري فقد شكرتني.
ما دمت تعتقد أنك لن تصل إلى شكر النعم على الحقيقة فقد شكرتني، هذا شكر القلوب: أن تعتقد اعتقاداً جازماً أنه ليس بالذكاء ولا بالشطارة ولا بالفهم، ولكن بفضل الله ورحمته، ما فتح الله من رحمة لا يستطيع أحد أن يغلقها، وما قفل من أبواب لا يستطيع أحد أن يفتحها سبحانه لا إله إلا هو!(22/11)
النوع الأول: شكر النعمة بالقلب
فأول شيء: شكر نعم الله من جهة الجنان، أن تعتقد فضل الله عليك، ولذلك من اعتقد فضل الذكاء وفضل الفهم والشهرة أن لها أساساً في ربحه وتجارته؛ لا يأمن من مكر الله به، ولذلك انظر إلى قارون {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [القصص:78] فلما قال ذلك، خسف الله به وبداره الأرض، فهو يتزلزل فيها إلى يوم القيامة.
فاشكر نعمة الله عز وجل عليك، اعلم أنك الفقير الذي لا غنى لك عن الله، وأنك الغني بالله وحده لا بالذكاء ولا بالفهم.(22/12)
النوع الثاني: شكر النعمة باللسان
الأمر الثاني: شكر اللسان، وهو التحدث بنعمة الله، فاذكر ما كنت فيه وما كنت عليه، واجمع أبناءك، ولينظر الله إليك يوماً من الأيام وأنت مع أهلك وأولادك تقول لهم: يا أبنائي! كنت فقيراً فأغناني ربي، وكنت ضائعاً فآواني ربي، وكنت جائعاً فأطعمني ربي، وعارياً فكساني ربي، فله الحمد الذي هو أهله.
فطوبى لك ونعمت عينك إذا نظر الله لك يوماً وأنت جالس مع ولدك تتحدث بنعمة الله عليك! هذه نعمة من الله سبحانه وتعالى، ولذلك كان العقلاء والحكماء وكبار السن دائماً يجلسون مع أبنائهم، يذكرون ما كانوا فيه من شدة وبلاء؛ حتى يعرف الأبناء ويعرف الصغار ما كان فيه الكبار؛ فيدركوا فضل الله عز وجل عليهم.(22/13)
النوع الثالث: شكر النعمة بالجوارح
النوع الثالث من الشكر: شكر الجوارح والأركان، اقتحام العقبة بفك الرقبة، وإطعام ذي المسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، الإحسان إلى الناس؛ فإن العبد إذا أحسن، أحسن الله إليه، فإذا نظر الله إليك فقد شكرت نعمته وشكرت منته، فأطعمت الجائع وكسوت العاري.(22/14)
الصدقات الخفية أكثر ثواباً وأعظم أجراً
اجعل بينك وبين الله صدقات، واجعل هذه الصدقات خفية؛ فإن الله يحب العمل الخفي، ولذلك ذكروا عن زين العابدين -سيد من سادات التابعين وعلمائهم المجتهدين رحمة الله عليه- أنه كان إذا جن عليه الليل حمل على ظهره الطعام إلى بيوت الأرامل والأيتام رحمة الله عليه، وهو إمام في العلم والورع والزهد والصلاح رحمة الله عليه، حتى إنهم لما أرادوا أن يغسلوه ويكفنوه خلعوا ثيابه من أجل أن يغسل، فوجدوا ظهره متشحطاً من أثر الدقيق الذي كان يحمله على ظهره رحمة الله عليه.
فكان يحسن ولكن كان في الخفاء، لم يحسن أمام الناس، ولم يحسن ليقال: إنه كريم.
لا، فإن العبد إذا أحسن أمام الناس على رياء منه وسمعة؛ سمع الله به يوم القيامة، فيأتي العبد بحسناته وأجوره بين يدي الله فيسأله الله: ماذا أردت عبدي؟ فإذاً لابد أن تكون للإنسان صدقات خفية.
نعم تستطيع أن تربح الألف والعشرة الآلاف والعشرين والثلاثين من أي باب خير كان، ولكن الأكمل والأجمل والأعظم أجراً أن تخطو في ظلمات الليل بثيابك، وتغبر قدمك في طاعة الله؛ فإنها خطوات عزيزة عند الله جل جلاله، وتقرع أبواب الأيتام والأرامل؛ حتى تصيب صالح دعائهم، فلعلك في لحظة من اللحظات تطرق فيها باباً تكون أبواب السماء مفتوحة، فيدعى لك بالخير، ويكون لك به حسن العاقبة في دينك ودنياك وآخرتك؛ فإن الله لا يضيع دعوات الأيتام والأرامل.
وكم من محسن كريم عاش الأيتام والأرامل على يديه! ويا لها من نعمة عظيمة إذا مات الإنسان فافتقدت الأرامل أثره! ولذلك لما توفي علي زين العابدين، فقده ثلاثون -وفي رواية ستون- من بيوت الضعفة ممن يطرق عليهم في ظلمات الليل أبوابهم، فعرفوا أنه علي زين العابدين رحمة الله عليه.
اجعل بينك وبين الله صدقات خفية، أما الظاهر فجزاك الله عنه خيراً: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ} [البقرة:271] (خير): بمعنى أخير، أي: أعظم أجراً وأكثر ثواباً لكم، لأن هذا ينمي عن حب الله عز وجل وإرادة وجه الله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ} [الإنسان:9 - 11] حتى إن القرآن لم يسكت، بل ذكر أمنيتهم؛ فقال: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10] وما سكت الله عز وجل عن هذا فقال: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:11].
سروا الأيتام؛ فسرهم الله عز وجل يوم القيامة، سرهم الله يوم المساءة، وضاعف لهم من الخير والإحسان لما كان منهم لعباده.
واعلم رحمك الله! أن الأيتام والأرامل والضعفاء يزعجون ويقلقون، ولربما تضيق عليك الأرض بسبب سؤالهم، فمن من الأمور التي توسع عليك، شعورك أن الله عز وجل يرحمك برحمته، وأن أي شيء تقدمه ولو كان قليلاً أنه عند الله كثير.
وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (فاتقوا النار ولو بشق تمرة)، سبحان الله! ما قال: اتقوا النار بركعة ولا بسجدة، وإن كان الركوع والسجود يحفظ بإذن الله من النار، ولذلك لا تمس النار مواضع السجود من بني آدم، وهذه من صفات المؤمنين، لكن لما أراد أن يذكر الفضل قال عليه الصلاة والسلام في حديث عدي في الصحيحين (ما من عبد منكم إلا وسيكلمه الله ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم -يعني من الصالحات- وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم -يعني من السيئات- وينظر تلقاء وجه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) يعني نصف تمرة يمكن يحجب الله عز وجل العبد من النار بها، نصف تمرة.
ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن امرأة طرقت على عائشة رضي الله عنها وكانت معها ابنتان، فاستطعمتها فأطعمتها ثلاث تمرات، فأعطت كل بنت تمرة، وأخذت تمرة تريد أكلها، فاستطعمتها إحدى البنتين، فأخذت التمرة وأعطتها لها.
فعجبت عائشة رضي الله عنها من رحمة هذه الأم! فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فذكرت له ما صنعت.
قال: أو تعجبين مما صنعت؟! إن الله قد حرمها على النار بتمرتها تلك).
فالإحسان لا يذهب عند الله عز وجل، ولذلك من جاد ساد وأحيا العالمون له بديع حمد بمدح الفعل متصل كم من أناس ماتوا وهم أحياء في الناس! أحياء بأخبارهم الحميدة ومآثرهم المجيدة، وكم من أناس فرجت بهم كربات، فأصبح المكروبون كلما ذكروهم ترحموا عليهم، وهذا هو الذي يبقى، وهذا الذي يراه الإنسان أمام عينيه شكر نعمة الله بالإحسان، وتفقد ضعفة المسلمين.
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا وإياكم من أهل البر والتقوى، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(22/15)
الأسئلة(22/16)
حكم التستر عن أناس لا توجد عندهم إقامات مشروعة
السؤال
التستر أحد الآفات التي يعاني منها مجتمعنا، هل من كلمة في هذا الموضوع عن هذه الظاهرة.
الجواب
الحقيقة ما دام أنه يوجد طريق مشروع لاستقدام الناس وإعطائهم الإقامات المشروعة والنظامية، بالطريق الذي لا وجه فيه ولا شبهة فلا يجوز لأحد أن يتستر على أحد، وينبغي للإنسان أن يسمع ويطيع؛ لأن هذه الأمور قصد بها مصالح الناس عامة، فكم من جرائم تنتشر في المجتمعات، وإخلالات بحقوق الناس العامة والخاصة والمصالح العامة بسبب عدم معرفة من ورائها؛ لأن الرجل الذي ليست له إقامة نظامية ينام حيث شاء ويذهب حيث شاء ويفعل ما يشاء، ليس له كفيل يتابعه، ليس له إنسان يراقبه ويعرف مدخله ومخرجه ويتحمل مسئوليته.
فإذا نظر إلى المصلحة في هذا واندراء المفسدة فلا يشك عاقل أنه ينبغي، بل يجب التعاون في هذا، ولا يجوز -في الحقيقة- التستر على هذا الوجه الذي يضر بمصالح الناس، ويعتبر الإنسان آثماً من وجهين: الوجه الأول: معصيته لولي الأمر فيما ينبغي طاعته فيه.
والوجه الثاني: أنه إذا حصل ضرر من هذا الذي يتستر عليه، فإن الإنسان يحمل وزره بين يدي الله عز وجل؛ لأنه أعان على وجوده.
فإذا أراد الإنسان أن يعين أخاه على خير، فليذهب ويطرق الأبواب المشروعة لإقامة هذا الشخص بصورة نظامية؛ حتى يكون في ذلك الخير لهذا الشخص؛ وعصمةً لكرامته؛ وأبعد عن الإضرار بمصالح الناس العامة والخاصة.(22/17)
حكم الأموال التي يأخذها الشخص بوجاهته
السؤال
ما حكم الأموال التي يأخذها الكفيل بوجاهته؟
الجواب
الحقيقة نحن ذكرنا هذه الصورة من جهة التزام الكفيل بالوجاهة، هذا يتخرج في بعض الأحوال على شركة الوجوه، كأن هناك شراكة بين الكفيل والعامل فيما هو قريب من هذه الصورة.
الآن مثلاً: إذا قال له الكفيل في عمل ما أنا أؤمن لك هذا العمل، ويوجد له فرصة هذا العمل، ويلتزم الكفيل بهذا العمل، كأنه بوجاهته يتحمل مسئولية هذا العمل، حينئذ لا حرج أن يتفق مع العامل على جزء معقول، وبشرط أن لا يجحف فيه بالعامل، حينها لا حرج، لكن إذا فرض عليه من جهة مشبوهة ومحرمة على الإطلاق، يطلقه الشخص ويقول له: ائتني بأربعمائة كل شهر.
ولا يتدخل له في أي عمل، حتى لو جاءه من عمل محرم، المهم أن يدفع الأربعمائة أو المبلغ المتفق عليه، هذا هو الذي يمنع منه.(22/18)
ضرورة توضيح الأسئلة ليسهل على العلماء الإجابة عليها
السؤال
ما حكم بعض الفتاوى التي تكون الفتوى فيها غير واضحة وخاصة فيما يتعلق بالمؤسسات والشركات العامة؟
الجواب
الحقيقة -يا إخوان- هناك أمر مهم أحب أن أنبه عليه في الفتاوى: هناك بعض القضايا من السهل أن يجاب فيها، لكن لما تكون مشهورة وذائعة وموجودة بين الناس بطرق معينة، أحب أن يكون هناك تصور كامل قبل الفتوى فيها، وأنا لأول مرة أسمع بهذا النوع من الفتاوى، لكني أؤكد على أن تكتب صورة كاملة عن واقع هذه المؤسسات والشركات، ولو عن طريق الغرفة التجارية؛ لأني أرى الحقيقة في بعض الأحيان حينما يُسأل بعض العلماء أسئلة، ويجيبون بفتاوى يتأثرون بطبيعة السؤال، خاصة إذا كان هناك شركات ومصانع فيها مصالح للعامة، ربما يأتي الشخص ويسأل سؤالاً عن صورة ما، وينسى أشياء مهمة في السؤال وفي الجواب، فيأتي العالم فيقول: حرام، ما يجوز.
فيشيع بين الناس أن هذه الشركة فيها معاملة محرمة؛ فتهضم حقوق الناس.
فأنا أرى الأفضل والأكمل أن يكون هناك تصور كامل، وأي قضايا فيها مصالح عامة وترتبط بالمؤسسات والشركات، ممكن عن طريق الغرفة -إن شاء الله- يكون هناك تعاون، يحدد لقاء أو ندوة أخرى نذكر فيها بعض المعاملات الموجودة الآن، وإن شاء الله ما يكون إلا كل خير.
وأنا مستعد بإذن الله، والفتوى جاهزة نسأل الله المعونة والتوفيق.
ونسأل الله أن يرزقنا الصواب في القول والعمل، فإنه المرجو والأمل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(22/19)
حكم من يخرج زكاة ماله من السلع الموجودة عنده
السؤال
ما حكم من يخرج زكاة ماله من السلع الموجودة عنده؟
الجواب
تاجر الأقمشة يقوم بإخراج زكاة ماله من الأقمشة، تاجر الأطعمة يخرج زكاة ماله من الأطعمة، هذا لا يجوز بإجماع العلماء، كونه يخرج الزكاة من الأعيان لا يجزيه، وعليه إعادة جميع الزكوات.
والسبب في هذا: أن الزكاة حق لله، وهذا الحق جعله الله بعينه للسائل والمحروم: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24 - 25] هذا حق، ليس فيه منة حتى قال بعض العلماء: ينبغي على الغني إذا جاء يزكي -قالوا:- لا يرفع يده عند إعطائه الزكاة للفقير، حتى لا يكون فيه منة؛ لأنه حقه، فإذا رفع يده كأنه تفضل على الفقير، قوله تعالى: {حَقٌّ مَعْلُومٌ} [المعارج:24] * {لِلسَّائِلِ} [المعارج:25] (اللام) للتمليك، فهو ملك للسائل، فلا يجوز فيه التصرف.
تصور يا أخي! لو أنك تعمل في عمل ما أو وظيفة ما، وكان الاتفاق أن تأخذ خمسة آلاف في الشهر، ولما جاء آخر الشهر قال: لن نعطيك خمسة آلاف، بل نعطيك ثياباً، ونعطيك أطعمة وأكياس رز، وأكياس سكر، أترضى؟ لن ترضى، تقول: أريد مالي، أريد حقي.
وكذلك هم، كيف ترضى أن إنساناً جعل الله له هذا المال، أو فقيراً قد يريد منه سداد الدين، لا يستطيع أن يسدد بأكياس الأرز ولا يسدد بالقماش ما عليه من الديون؟! الأمر الثاني: أنه ذريعة للتخلص من بعض الأمور الكاسدة التي تكون عند الإنسان وهو يريد أن يتخلص منها.
فلذلك: لا يجوز هذا النوع من الزكاة.(22/20)
عدم إخراج البدل في الزكاة إلا في الذهب بدلاً عن الفضة
السؤال
هناك فتوى من العلماء أن إخراج زكاة المال من السلع جائز؟!
الجواب
بالنسبة للذي ظهر من نصوص الكتاب والسنة أنه غير جائز.
السائل: يعني أنه لا يوجد من العلماء المتقدمين من أجاز ذلك.
لا أحد -حسب علمي- بالنسبة للعلماء المتقدمين من أجاز بإخراج البدل، وإنما المحفوظ: أن يخرج المال بعينه، إن كان من الذهب فمن الذهب، وإن كان من الفضة فمن الفضة، وأجازوا إخراج الذهب بدل الفضة، هذا فقط في المالين، وأما بالنسبة للسلع فالقول: أنه يخرج الزكاة منها، هذا الذي نعرفه من أقوال أهل العلم.
هذا الذي أحفظ أنه بالإجماع، ومن عاش فسيرى اختلافاً كثيراً.(22/21)
حكم استقدام العمال للعمل عنده وعند غيره
السؤال
هل يجوز استقدام العمال لغرض تقديم خدمات للمواطنين، ويكون الاتفاق مع العامل -مثلاً- بستمائة ريال في الشهر، ويشترط لدى من يعمل عنده تسعمائة أو أكثر؟
الجواب
قضية عمل العامل: الأصل في العمل أن الإنسان إذا استقدم العامل يستقدمه للعمل عنده، أو يستخدم لإقامة عمل عند الغير مبني على كفالته ووجاهته، فإذا كان العامل يقوم بعمل الإنسان في بيته، أو يقوم بعمل التزم به لغيره كبناء عمارة، أو بناء بيت، وجاء بعمال ليشتغلوا، فهذا لا إشكال ولا حرج في جوازه.
ويعتبر التعاقد مع العمال مندرج تحت عقد معروف في الفقه الإسلامي الذي هو عقد الإجارة، فحينئذٍ لا حرج، لكن يشترط أن تكون أجرة العامل معلومة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أخرجه عبد الرزاق في مصنفه: (من استأجر أجيراً فليعلمه أجره) لا يقول له: سأرضيك، أو سنتفق فيما بعد يعني يجعله على غرر مثلما ذكرنا في البيع، لا، بل لابد من أن يكون على علم وبينة، حتى يكون الأمر لا غرر فيه ولا خلاف، وبناءً على هذا إذا حصل التعاقد على هذا الوجه فهو جائز ومشروع ولا حرج.
الحالة الثانية: أن يترك العامل يذهب ويعمل حيث أراد ثم يقول له: اعمل عند من شئت وأتني بمائة أو مائتين.
فهذا من أكل أموال الناس بالباطل، وفيه أذية وإضرار؛ لأن الكفيل ما قام بعمل.
فلو قال قائل: الكفيل متحمل بكفالته، ويأخذ لقاء (الفيزة) أو الإقامة التي وفرها لهذا العامل.
فجواب هذا: أن (الفيزة) ليست ملكاً للكفيل، وإنما هي ملك للدولة، والدولة لا تأذن بهذا، ولا تأذن باستغلاله على هذا الوجه؛ لأنه يضر بمصالح الناس.
العامل إذا ألزمته بقيمة في الشهر ولم يجد عملاً ماذا يفعل، خاصة إذا كان عليه ديون، ربما اضطر إلى السرقة، ربما اضطر إلى الأمور التي تخل بشرفه وتخل بحقوق الناس، وربما يبالغ في أمور قد تنتهي به إلى ما لا يحمد عقباه.
فهذا النوع لا شك في حرمته: كونه يقول له: اذهب اشتغل عند من شئت، وأعطني كل شهر مائتين فهذا -نسأل الله السلامة والعافية- من الأمور المحرمة.
ومن باب العبرة: أذكر رجلاً كان قد أنعم الله عليه بالمال، ونسأل الله السلامة والعافية- فتح عملاً من هذا القبيل، ونُصح وذكر من بعض العلماء، وشاء الله عز وجل أنه أصر على ذلك العمل ولم يكف عما هو عليه، فنسأل الله السلامة والعافية ابتلي بالداء الخبيث -نسأل الله السلامة والعافية- فأنفق أمواله التي كان يأخذها من هؤلاء الضعفاء، حتى إنه خرج على الناس وهو مجنون نسأل الله السلامة!، كان في غنى وثراء ونعمة، فوالله العظيم إني لأعرفه، نسأل الله السلامة والعافية! نسأل الله أن يغنينا بحلاله عن حرامه.(22/22)
حكم بيع السلع المعلبة والتي تتغير بكثرة اللمس
السؤال
هل يجوز بيع علبة مغلقة مكتوب عليها ما بداخلها، ولكن الكتابة لا تغني عن معاينة السلعة؟
الجواب
الإجماع قائم على أنه لا يجوز بيع الشيء إلا إذا كان معلوماً.
هذه مشكلة: فالتاجر عنده سلعة، وقد تكون بعض السلع لو كشفت لتضرر التاجر، وقد يقول الزبون: لا أريدها.
وإذا خفيت حينئذ يُظلم المشتري، فالشريعة بين ظلم البائع وظلم المشتري.
مثلاً: الثياب تكون مطوية مطبقة، عرض السلعة له أثر في قبول الزبون، فلو قلنا مثلاً: هذه الثياب لابد أن تفتش وتقلب، فكل من جاء يفتش الثوب ويقول: لا أريده؛ لأن البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، قال: رأيت فما أعجبني، والشريعة ما تلزمني بالشراء.
حسناً: الآن سيتضرر البائع بعرض السلعة.
فإذا قلنا: يبيع السلعة وهي محفوظة سيتضرر المشتري، فما الحل؟ هناك حل وسط: أن يخرج عينة واحدة من المبيع، ويجعل المشتري يتأمل هذه العينة، إن كان يبيع ثياباً أخرج ثوباً من هذه الثياب، بشرط أن تكون الثياب الموجودة في (الكراتين) أو المغلفة لا تختلف صفتها عن الثوب الذي يعتبر كعينة، إذا فعل هذا -بل يلزم فعل هذا- فحينئذ يصح البيع ولا حرج فيه.
أما إذا كانت غير معروفة فلا، لأنه لا يجوز بيع المجهول، ولذلك: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الملامسة والمنابذة) لمكان الجهالة، فلابد أن يعرف حقيقة هذا البيع.
أما المعلبات فيمكن أن يجعل عينة للمعلبات يعرف بها، أو يجعل مواصفات دقيقة؛ لأن السائل هنا يقول: والكتابة لا تغني عما بداخلها، أما إذا كانت المعلبات مصنعة والكتابة تغني مثل ما هو موجود الآن في كثير من المعلبات، تكون المعلومات واضحة، يكتب عليها -مثلاً- ما بداخلها، يكتب الغذاء الموجود بداخلها والمواد المركبة، يعني الآن الموجود في السوق -في الغالب يعني- معلومات شبه كاملة، فالمعلومات الموجودة على هذه العلب تكفي، ما دام أنه دقيق والغالب فيه، ولذلك العلماء يقولون: حكم الغالب.
لأن الغالب وبالتجربة وجدنا أنها صحيحة، تفتح العلبة فلا تجد اختلافاً بين الموجود على المعلبات والموجود بداخلها؛ لأن الشركات طبعاً متابعة ومراقبة، سواء من جهات مختصة أو من جهة الناس أنفسهم للحصول على سمعتهم، وليس من المعقول أن يجعل الكتابة شيئاً، ويكون بداخلها شيء آخر؛ لأن هذا يضر بسمعتهم كثيراً.
فنحن نقول: إذا كانت الكتابة واضحة فلا حرج، أما كون الكتابة لا تفي بالغرض، فهذا من النوع المحرم ولا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى بيع المجهول، وبيع المجهول لا يجوز.(22/23)
حكم من لم يخرج زكاة ماله وما يجب عليه
السؤال
رجل لم يخرج زكاة ماله لمدة خمس سنوات، فهل يخرج الزكاة لهذه المدة؟
الجواب
أولاً: عليه الندم والاستغفار، وأن يحمد الله على العافية، فلو قبضت روحه قبل أداء هذه الزكاة لكانت له شجاعاً أقرع يعذبه الله به في قبره، كما روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا صفحت له صفائح من نار، يكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيد عليها فأحميت في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار، وما من صاحب إبل لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها بقاع قرقر لا يفقد منها فصيلاً، يجدها أوفر ما تكون - يعني: أسمن ما تكون- تطؤه بأخفافها وتعضّه بأفواهها، كلما مر عليه أخراها أعيد عليه أولاها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار).
منع الزكاة هذا أمر عظيم جداً، ولو يوماً واحداً، ويحاسب الله عز وجل عن ذلك، الزكاة ينتظرها المحروم، ينتظرها المجنون، ينتظرها المهموم، حق جعله الله في مالك، أعطاك الكثير ورضي منك القليل.
فعليه بالتوبة والاستغفار، والمبادرة بإخراج الزكاة قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة، وينبغي عليه أن يبادر.
الأمر الثاني: عليه أن يخرج الزكاة الآن، يقدرها للسنوات التي مضت، وإذا فعل ذلك وتاب تاب الله عليه.
والله تعالى أعلم.(22/24)
وصايا ونصائح لبائعي الكتب الدينية والأشرطة الإسلامية وللتجار عموماً
السؤال
تجارة بيع الأشرطة الإسلامية والكتب الدينية من الأعمال التي يبتغى بها وجه الله، ما نصيحتكم لأصحاب التسجيلات الإسلامية، علماً أنني منهم ولله الحمد؟ وما نصيحتكم لأصحاب الأموال؟ نرجو التوجيه.
الجواب
أما بالنسبة للأشرطة والتسجيلات فلا شك أنها قامت بجهد عظيم، وكذلك المكتبات الإسلامية أغنت وأفادت وأجادت وسدت ثغراً عظيماً.
أسأل الله العظيم أن يتقبل منا ومنكم ومنهم صالح الأعمال، ولا شك أنها نعمة عظيمة، فما يدريك لعل هذا الشريط أن يخرج الله به عبداً من الظلمات إلى النور، وكم أصلح الله من بيوت! وكم أصلح الله من جماعات بهذه الأشرطة القيمة! ولا شك أن وجود الشريط في هذه الأيام فتح من الله عز وجل، وهذا تبليغ عن الله ونصرة لله عز وجل ولكلمته سبحانه وتعالى.
فتجد الإنسان وهو راكب في سيارته يسمع إلى العالم، من كان يتوقع أن عالماً يركب معه في سيارته يحدثه، ويفتيه، ويجيبه، ويجد هذا الخير الكثير وهو جالس في السيارة أو نائم على فراشه! هذا نصر من الله ورحمة، فنسأل الله أن يبقي هذا الخير، وأن يعظم للإخوة أجورهم.
أوصيهم بالنصيحة وإعطاء هذا الأمر حقه، والرضا بأجر الآخرة، ولا حرج أن يكون للإنسان حظ من أجر الدنيا، ولكن يجعل الهم هم الآخرة، فإن هذه الكلمات الطيبة والنصائح الغالية والمحاضرات القيمة والندوات العلمية فيها أجر كثير، ومن أعان عليها أُجر كأجر صاحبها.
من أعان على خير أجر كأجر صاحبه، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الخادم الأمين الذي يؤدي ما أمره به سيده له مثل أجره)، هذه نعمة كبيرة جداً، فنوصيهم بالإخلاص لله عز وجل.
الأمر الثاني: أن يتقنوا هذا العمل، فإن الشريط الإسلامي يحتاج إلى إتقان وإخراج جيد، بعيداً عن التشويش في إلقاء المحاضر، وبعيداً عن الأمور التي تكدر عند سماعه، كما أحثهم على الاهتمام بتنقيته، وتهذيبه وإخراجه بالصورة الحميدة، وكذلك محاولة نشر هذا الشريط بالتشجيع على توزيعه، وكذلك إخبار ذوي الأموال والغنى أن يكون لهم حظ في المساهمة لنشره.
وأوصي إخواني التجار أن يكون لهم حظ، اشتر مائة شريط ليوزع في توجيه مشكلة اجتماعية، توجه الناس إلى حلها؛ لأننا نريد ما ينفع الناس، ونريد بهذه المحاضرات تقويم الناس وإرشادهم، والذي ليس عنده إلا الدلالة على طاعة الله، والتقريب إلى محبة الله ومرضاة الله، فعليك بنشر الأشرطة الهادفة التي تعالج مشاكل المجتمع الأخلاقية ونحوها، فإنها تدل على طاعة الله وتقرب منه، فهذا خير كثير.
وأسأل الله العظيم أن يتقبل من الجميع صالح الأعمال.(22/25)
زكاة السلع المعروضة تكون عند البيع على الراجح من الأقوال
السؤال
مسألة القيمة الشرائية للمال.
الجواب
إذا كان الشخص مثلاً عنده سلعة اشتراها بمبلغ وعرضها للبيع، إذا قلنا -مثلاً-: عليه أن يزكي.
فهل ينظر إلى القيمة التي اشترى بها أم القيمة التي يعرضها؟ هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، أصح الأقوال عند من يقول بالزكاة على عروض التجارة: أنه ينظر إلى قيمة البيع في يوم حولان الحول، فلو كان حوله أول محرم، ومثلاً لديه سيارات يعرضهن للبيع، وفي اليوم الأول من محرم سنة (1414هـ) كانت قيمة السيارة بناءً على قرب وقتها مائة وعشرين، لكن لما صار في حولان الحول نزلت القيمة -فرضاً إلى الربع- فصارت أقل، فرضنا السلعة بمائة فصارت بخمسين ألفاً، فالعبرة بالقيمة التي ثبتت عليها في العرض للتجارة؛ لأنه يملك هذه القيمة، لأن حولان الحول على هذه السلعة في ذلك اليوم فالعبرة بالقيمة فيه.
فحينئذ إذا كان قيمة السلعة مائة ألف بالشراء، وفي حولان الحول أصبحت مائتين، تزكي على مائتين، ولو اشتريت مائتين وأصبحت في حولان الحول مائة تزكي على مائة، فالعبرة بقيمة البيع، وهذا هو أصح الأقوال.
ولذلك: هذا القول فيه إنصاف؛ لأن في الحقيقة أنك مالك للقيمة التي هي قيمة السوق في يوم حولان الحول، فكأنها في جيبك، فأنت تزكي مالاً في حكم ما هو مقبوض في اليد، لذلك يعتبر في يوم الحول.(22/26)
حكم زكاة المصانع وحالتها
السؤال
ما مقدار زكاة المصانع؟
الجواب
المصانع زكاتها فيما يخرج منها، أي: ما يخرج من المصانع إذا كانت تصنع ذوات الأشياء، لأن المصنع له حالتان: الحالة الأولى: إما أن تكون مهمة المصنع أن يصنع الأشياء الموجودة، وتخرج إلى السوق وتباع، فالزكاة في الأشياء الموجودة.
الحالة الثانية: أن يكون المصنع مستأجراً للتصنيع، فيكون صاحب المصنع يصنع للناس ويصنع لهم، فتأتي شركة -مثلاً- تعطي المصنع مواد خام من أجل أن يصنع، فحينئذ الزكاة على صاحب المصنع في رأس المال الذي يجنيه من المصنع، بشرط حولان الحول عليه.
المصنع له طاقة، هذه الطاقة كل يوم يصنع بألف، الألف تقبض، كل ألف في كل يوم لها حولها، وإن أحب في بداية السنة أن يجمع جميع ما عنده ويزكيه زكاة واحدة فلا حرج، وهذا يقول به طائفة من العلماء، مثل الرواتب، الذي لديه رواتب، فبدلاً من أن يجعل لكل راتب شهر حولاً، يجعل حوله شهراً واحداً، وإذا جاء هذا الشهر جمع ما عنده قليلاً أو كثيراً وزكاه، قياساً على زكاة الغنم، لا يشترط فيها حولاً عن حول.
وإن أحب أن يجعل لطاقة كل يوم وكل أسبوع وكل شهر رأس مال، يعني كل عمل ينتجه المصنع تكون القيمة على هذا العمل، بشرط أن يحول الحول على هذه الألف التي هي قيمة الإنتاج.
أما آلات المصنع وُعدد المصنع وما في داخل المصنع فهذا لا تجب فيه الزكاة، مثل الثلاجة التي في البقالة لا تجب فيها الزكاة، ومثل الآلات التي تستخدم في المصانع، هذه ليس فيها زكاة؛ لأنها ليست بعرض للتجارة، وإنما المقصود أن يتاجر بما يكون منها من نفع.(22/27)
حكم زكاة العقارات ومذاهب العلماء فيها
السؤال
نود توضيح مقدار الزكاة في العقارات، علماً بأن الإنسان يشتري أرضاً وقد يبيعها أو يبني عليها مستقبلاً.
الجواب
إن اشترى أرضاً فلا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: إما أن يشتريها بنية البناء، وتظل عنده سنوات بنية أنه إذا يسر الله عليه بنى هذه الأرض، فهذه الأرض ليس فيها زكاة بإجماع العلماء؛ لأنها ليست بعرض للتجارة، وإنما هي قنية، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (ليس على المسلم في عبده ولا فرسه زكاة)، هذا إذا كان نيته أن تكون عنده لا للبيع.
الحالة الثانية: أن ينوي بيعها، يعرضها في السوق أو ينتظر غلاء السوق ويبيعها، فهذه الحالة فيها الزكاة، وللعلماء قولان: قال بعض العلماء: إذا عرضت بيتاً أو أرضاً أو مزرعة للبيع فتجب الزكاة في كل حول.
كل سنة تجب عليك، ويبتدئ الحول من نيتك للبيع؛ بشرط أن تمر عليك السنة كاملة وأنت تنوي البيع، فلو في نصف السنة حولت النية للبناء، أو حولتها هبة للغير، أو حولتها للاستثمار -كأن تبنيها- من أجل أن تكون مستودعات، أو تكون مثلاً دكاكين- قالوا: فلا تجب الزكاة، أي أنه لابد من سنة كاملة تعرض.
هذا المذهب الأول.
والمذهب الثاني: أنه تجب عليك الزكاة إذا حصل البيع حقيقة، وهذا مذهب طائفة من السلف منهم القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وسعيد بن المسيب، وخارجة بن زيد وغيرهم من العلماء، وهو أصح القولين إن شاء الله: أنه تجب عليه الزكاة إذا باعها لسنة واحدة.
ولذلك قد تجد الرجل يعرض الأرض للبيع عشر سنوات ثم يطرأ أن يبنيها لنفسه، فلم يتحقق بيعها أصلاً، ولذلك أصح الأقوال في هذا: أن الأرض تزكى لعام، فإن خرج الإنسان من الخلاف وأحب أن يزكي كل سنة فلن يضيع الله أجر من أحسن عملاً.
كيف تزكى؟ المبلغ الذي يقبضه يزكيه، وقد ورد في السؤال: وقد يبيعها أو قد يبني عليها مستقبلاً.
فنقول: هذه نية مترددة، إذا كان متردداً بين أن يبيع وبين أن يبني، فلا تجب عليه الزكاة، وإنما تجب الزكاة إذا تمحضت النية، وقصد فعلاً البيع، وثبت على هذه النية.(22/28)
عدم اختصاص الاحتكار بالأرزاق على القول الراجح
السؤال
هل الاحتكار في جميع الأموال أم يقتصر على الطعام؟
الجواب
هذا فيه خلاف بين العلماء رحمة الله عليهم، بعض العلماء يقول: الاحتكار خاص بالأرزاق، ومنهم من يرى العموم، والذين يرون العموم يقولون: لعموم النص: (لا يحتكر إلا خاطئ) حيث لم يفرق.
والحقيقة: مذهب العموم قوي من ظاهر الحديث والرواية، لكن تخصيص العلماء كان من جهة الإضرار، لأن المعنى الموجود في النص هو الإضرار بالناس.
ولو احتاط الإنسان أفضل، أعني خروجه من الخلاف أفضل.(22/29)
حقيقة الاحتكار وحكمه وحالاته
السؤال
ما حكم احتكار البضائع؟
الجواب
احتكار البضائع ورد فيه الحديث الذي في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يحتكر إلا خاطئ) وورد النهي في أحاديث أخرى منها الحسن ومنها الضعيف، حتى ورد الوعيد الشديد على الاحتكار، لكن العلماء -رحمة الله عليهم- فصَّلُوا: أولاً: الاحتكار -كما هو معلوم- أن يمسك السلعة ولا ينزلها للبيع في السوق وينتظر غلاء الأسعار.
هذا الاحتكار له حالات: الحالة الأولى: أن يمتنع من بيعها بسبب عدم وجود رأس المال أو الربح المعقول فيها، مثال ذلك: اشترى طعاماً بمائة ألف، فالمائة الألف هذه قيمة رأس المال في الطعام، وكانت تكلفة جلب هذا الطعام عشرة آلاف، فأصبح رأس المال وتكلفة جلب الطعام مائة وعشرة آلاف، فجاء يقدر الوضع الموجود الآن -قبل شهر رمضان فرضاً- قال: لو بعت فإنني سأحصل على مائة أو على تسعين أو على مائة وخمسة -مثلاً- إذن فيه خسارة، قال العلماء: يجوز الاحتكار في مثل هذا؛ لأنه يتوصل إلى حقه، وليس قصده الإضرار، فلذلك قالوا: نيته ليست مخالفة للشرع، لا يقصد الأذية، والذي يطلبه حقاً من حقوقه؛ فجاز الاحتكار من أجله.
الحالة الثانية: أن يجد الربح المعقول، ويمتنع من إخراج السلعة لربح أكثر، أو ينتظر ضيق السوق حتى يتحكم في قيمته، فهذا هو الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (لا يحتكر إلا خاطئ).
فإذا كان يريد غلاء السوق، أو يريد أن يحتكر السوق عنده حتى يعرفه الزبائن، ولا ينطلقون إلى غيره؛ صحيح أنه يبيع ويأخذ قيمة الشيء وينال المال، ولكن نيته آثمة، وإنما الأعمال بالنيات.
فلذلك هذا ينطبق على هذا الحكم، ولا يجوز الاحتكار في مثل هذه الصورة.(22/30)
رحلة غريب
إن الإنسان مهما طال عمره في هذه الدنيا، فلابد له أن يصير إلى الموت، ومهما عمّر فيها من الدور والقصور، فيوشك أن يفارقها إلى ظلمات القبور، فهي رحلة لكل إنسان يصل بعدها إلى ربه، وكلما زاد ركون المرء إلى الدنيا وإعمارها؛ كلما زاد شعوره بالغربة في حياته الأبدية الأخرى، والتي تبدأ بلبس الأكفان، ومجاورة الديدان.(23/1)
بداية الرحلة إلى الدار الآخرة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل).
رحلة غريب رحلة غريب رحلة غريب.
سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني الموت.
!! {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران:185].
طويت الصفحات، وصرت في عداد الأموات، كأن لم تكن في الدنيا.
القبر!! وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني وكشف الثوب عن وجهي لينظرني.
القيامة!! وخرجت من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربها حفاة عراة غرلاً، فلا أنساب ولا أحساب.
الحساب!! {قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق:28] * {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق:29].
حطت الرحال، ففريق في جنة الله الكبير المتعال في دار الخلد والإجلال، وفريق في دار الخزي والندامة والعذاب والملامة.
{فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
وبدأت الرحلة وبدأت الرحلة.
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
إنها بداية الرحلة إلى الآخرة، إنها بداية عظيمة! فتخيل نفسك إذا ضعف جنانك، وثقل لسانك، وكثرت خطوبك، وعظمت كروبك، إذا عرضت عليك عند كشف الغطاء ذنوبك! إنها اللحظة التي يعرف الإنسان فيها حقارة الدنيا إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها أنه فرط كثيراً في جنب الله إنها اللحظة التي يحس الإنسان فيها بالحسرة والألم على كل لحظة فرط فيها في جنب الله، ينادي: رباه! رباه! {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:100].
يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تحرقني {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].(23/2)
القبر أول منازل الآخرة
ثم نقلت عن الأحباب، وحملت إلى التراب، فيا ساكن القبر غداً! ما الذي غرك من الدنيا؟ أين دارك الفيحاء؟ وأين نخلك المضطرد؟ أين رقاق ثيابك؟ فيا مجاور المهلكات! صرت في محل الأموات.
وأنزلوني إلى قبري على مهل وقدموا واحداً منهم يلحدني وكشف الثوب عن وجهي لينظرني وأسبل الدمع من عينيه أغرقني فقام محترماً بالعزم مشتملاً وصفف اللبن من فوقي وفارقني فلا إله إلا الله! من ساعة نزلت فيها أول منازل الآخرة، لا إله إلا الله! إذ صرت في عداد تلك السفينة الناخرة، واستقبلت الحياة الجديدة، فإما عيشة سعيدة أو عيشة نكدة، ونزلت في عداد أولئك الغرباء، بين الأجداث والبلاء، هناك في ظلمة القبر لا أم هناك ولا أب شفيق ولا أخ يؤانسني أين صديقك المؤانس؟ أين رفيقك المجالس؟ لقد وضعت في القبر على غير وهاد ولا وساد، ولا مقدمة زاد ولا استعداد، فتخيل نفسك في ذلك المكان.
فيه الظلام كذا السكون مخيم والروح رُد وجاءني الملكان فلا إله إلا الله! من دار تقارب سكانها وتفاوت عمارها، فقبر يتقلب في النعيم والرضوان العظيم من الرحيم الحليم الكريم، وقبر في دركات الجحيم، والعذاب المقيم.
ننادي ولا مجيب، ونستعصم ولا مستجيب، انقطعت الأيام بما فيها، وعاين الإنسان ما كان يقترف فيها.
وهالني صورة في العين إذ نظرت من هول مَطْلَعِ ما قد كان أدهشني من منكر ونكير ما أقول لهم قد هالني أمرهم جداً فأفزعني وأقعدوني وجدوا في سؤالهم ما لي سواك إلهي من يخلصني أصبحت في ضيق وكربات، وهم وحسرات، من ظلمات القبور وسؤال منكر ونكير، والخلود في البرزخ إلى يوم البعث والنشور.(23/3)
بعث الناس من القبور
ضمت القبور أهلها، وانطوت على من حل فيها، فلما حان الموعد جمعت تلك الأشلاء والأعضاء، ونادى منادي الله عليها أن تخرج إلى اللقاء الموعود واليوم المشهود إلى يوم تتبدل فيه الأرض غير الأرض والسموات {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [إبراهيم:48].
وخرج الناس من تلك الأجداث وتلك القبور إلى ربهم حفاة عراة غرلاً، فلا أنساب ولا أحساب، ولا جاه ولا عز ولا مال {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المؤمنون:101].
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس:51 - 52].
خرج العبد حسيراً كسيراً أسيراً خرج حقيراً ذليلاً، فلا أحد يكفيه، ولا شيء يواريه، خرج إلى الله حافياً عارياً خرج إلى ربه خرج إلى خالقه خرج إلى جبار السماوات والأرض ووقف أمامه حتى يسأله ويحاسبه {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ * فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:52 - 54].
فلا إله إلا الله! من يوم بطلت فيه الملهيات، وزالت فيه المغريات، وعاين العبد فيه الحقائق أمام عينيه، جُمع فيه الناس على أرض واحدة: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام:94].
كيف احتيالي إذا جاء الكتاب غداً وقد حشرت بأثقالي وأوزاري وقد نظرت إلى صحفي مسودة من شؤم ذنب قديم العهد أو طاري وقد تجلى لهتك الستر خالقنا يوم المعاد ويوم الذل والعار فلا إله إلا الله! من أرض لم تطأها قدم غير تلك الأقدام، ولا إله إلا الله! إذا شعت الشمس وتبدد الظلام، ولا إله إلا الله! إذا طال الوقوف بين يديه، ولا إله إلا الله! يوم يرهن العبد بما جناه بيديه.
{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
إنه يوم تجتمع فيه الخصوم، وينصف فيه المظلوم إنه اليوم الذي أعده الله للعباد، فتنشر فيه الدواوين، وتنصب فيه الموازين، لحكومة إله الأولين والآخرين.(23/4)
حال الإنسان عند حلول سكرات الموت
وتخيل نفسك طريحاً بين أهلك، وقد وقعت في الحسرة، وجفتك العبرة، وثقل منك اللسان، واشتدت بك الأحزان، وعلا صراخ الأهل والإخوان.
كأنني بين كل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد تجمع حولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني ويدعى لك الأطباء، ويجمع لك الدواء؛ فلا يزيدك ذلك إلا هماً وبلاءً.
وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أرَ الطب هذا اليوم ينفعني وبعدها: تيقنت أن الموت قد فاجأك، وأن ملك الموت قد وافاك، فيئس منك الطبيب، وفارقك الحبيب، فوقعت في الحسرة، وجاءتك السكرة.
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
فتخيل نفسك وأنت في نزع الموت وكربه، إذا نظرت ببصرك إلى من هم حولك، فرأيت أمك وأباك وأختك وأخاك، وقد سالت منهم الدموع فلا ترد عليهم جواباً، ولا يستطيع لسانك خطاباً.
تلك اللحظة التي يلقي الإنسان فيها آخر النظرات على الأبناء والبنات، والإخوان والأخوات، يلقي فيها آخر النظرات على هذه الدنيا، وتبدو على وجهه معالم السكرات، وتخرج من قلبه الآهات والزفرات.
واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريراً حين غرغرني ثم اشتد بك النزع والسياق، وقد بلغت الروح التراقي.
{كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة:26 - 29].
وبطلت بعدها كل حيلة، وعجزت كل وسيلة، وعلمت أن نهاية المطاف: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:30].
لا إله إلا الله! من ساعة تطوى فيها صحيفتك، إما على الحسنات أو على السيئات، تتمنى حسنة تزاد في الأعمال، تتمنى حسنة تزاد في الأقوال، تتمنى صلاح الأقوال والأفعال.
{رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون:10].
تحس بقلب متقطع من الألم، تحس بالشعور والندم؛ أن الأيام انتهت، وأن الدنيا قد انطوت.
وغمضوني وراح الكل وانصرفوا بعد الإياس وجدوا في شرا الكفن وقام من كان أولى الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني فتخيل حالك -أيها الغافل- يوم تقلّب على المغتسل بيد الغاسل، قد زال عزك عنك، وسلب مالك منك، وأُخرجت من بين أحبابك، وجهزت لترابك، ونودي أين المغسل؟! فجاءني رجل منهم فجردني من الثياب وأعراني وأفردني وأودعوني على الألواح منطرحاً وصار فوقي خرير الماء ينظفني وأسكب الماء من فوقي وغسلني غسلاً ثلاثاً ونادى القوم بالكفن وألبسوني ثياباً لا كمام لها وصار زادي حنوطاً حين حنطني ثم ألبسوك الكفن، وحملت إلى العفن، وأخرجت من بين أحبابك، وجهزت لترابك، وأسلمت إلى الدود، وصرت رهيناً بين اللحود، وصار القبر مأواك إلى يوم القيامة ومثواك.
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].
في لحظة واحدة أصبح العبد كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، طويت الصفحات، وصرت في عداد الأموات، تذكر كأن لم تكن في الدنيا، كأن عينيك لم تر، وكأن أذنك لم تسمع، وكأن الأرض لم تضرب عليها الخطى.
وأخرجوني من الدنيا فواأسفا على رحيل بلا زاد يبلغني وحملوني على الأكتاف أربعة من الرجال وخلفي من يشيعني وقدموني إلى المحراب وانصرفوا خلف الإمام فصلى ثم ودعني صلوا علي صلاة لا ركوع لها ولا سجود لعل الله يرحمني(23/5)
وقوف العبد بين يدي الله
إنها المسئولية العظيمة المسئولية الجليلة الخطيرة، إنها مسئولية الآخرة، كل هذه الجموع، وكل هذه الأمم أقيمت في ذلك المشهد العظيم، وذلك اليوم العظيم؛ لكي تنهال عليها الأسئلة، وتعد لها درجاتها ودركاتها بحسب ما تجيب.
إنه اليوم الذي جمع الله فيه الأولين والآخرين من أجل السؤال، هناك حيث تغص الحناجر بغصصها، هناك {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر:17].
وأبى الله إلا أن تشخص إلى السماء بعينيك، تنتظر فصل القضاء، تنتظر حكم رب الأرض والسماء، أفي الجنة أم في النار يكون القرار!! وشخصت الأبصار بين يدي الواحد القهار.
{إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95].
ليت شعري إذا أتيت فردا والموازين قد نصبت حيالي والدواوين قد نشرت وجئنا والنبيون يشهدون سؤالي ما اعتذاري وما أقول لربي في سؤالي وما يكون مقالي هناك حيث تقف بين يدي الله، والشهود حاضرة، والعيون إلى الله ناظرة هناك حيث يوقف العبد بين يدي الله جل جلاله، فينادي منادي الله: يا فلان ابن فلانة! قم للعرض على الله.
فلا ينادى أحد بأبيه؛ لكي تزول الأحساب والأنساب؛ ويذل العباد بين يدي الله رب الأرباب.
{يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا * يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:108 - 109].
فدعيت أمام الأولين والآخرين، فارتعدت فرائصك من خشية الله، واصطكت القدمان بين يدي الله، وجئت من دارك إلى لقاء الله، وسألك الله عن الأيام التي مضت، وعن السنين والأعوام التي انقضت، سألك عن الشباب وما كان فيه من اللهو مع الأصحاب والأحباب فنشرت بين يديك الأوقات لا تفوت منها لحظة واحدة، فإما لك وإما عليك.
{وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
وعرض عليك الشباب بأيامه وما فيه من الشهوات والملهيات، وكشفت الأستار وتبدت للأنظار، هناك حيث تشهد عليك الليالي بما اجترحت فيها.
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران:30].(23/6)
مصير أهل السعادة يوم القيامة
تذكر حالك وحال قلبك يوم تقف بين يدي الله حافياً عارياً مكشوفاً ذليلاً، مذهولاً متحيراً، قد ترادفت عليك الهموم والكروب، وأحاطت بك الأهوال والخطوب.
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
هناك حيث تحمد عيناً سهرت على طاعة الله، وقدماً طالما انتصبت بالوقوف بين يدي الله، فقلت: رباه! أما ليلي فوقوف بين يديك أناجيك بالقرآن، وأما نهاري فصيام لوجهك يا رحمان، وأما يدي فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم سترت بها من عورات، وكم فرجت بها من كربات، ونفقات أنفقتها لهذا اليوم العظيم، فحسن فيك ظني، فلا تخيبني وقد وقفت بين يديك.
{وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا * وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا} [طه:111 - 112].
وأما جناني فأسكنته حبك وتوحيدك، فعشت -وأنت الشهيد- أوحدك وأنت الحميد المجيد، ما ناديت أحداً سواك، ولا تعلقت بشيء عداك.
ربي! صببت علي البلايا، فعذت بك وحدك ولم أعذ بشيء عداك، وصببت علي الرزايا فصبرت واحتسبت لهذا الموقف بين يديك.
وأما لساني فأنت الشهيد وأنت المطلع، فكم ذكرت به مع الذاكرين، وكم أثنيت عليك به مع المثنيين، وكم تلوت به آياتك، اللهم فعلتها وصغتها لوجهك العظيم اللهم فعلتها ابتغاء رضوانك الكريم.
{يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
وأما رجلي فضربت بها الخطى، اللهم خرجت بها في الظلمات فقمت بها مع القائمين، ونصبتها مع الراكعين الساجدين.
وأما يدي فكم رفعتها ضارعة بين يديك.
وأما وجهي فقد عفرته بالسجود بين يديك.
فيا من خشع لك سمعي وبصري! نجني من هول هذا اليوم العظيم.
يا واحداً صمداً بغير قرين ارحم ضراعة عبدك المسكين واعطف علي إذا وقفت مروعاً حيراناً بين يديك يوم الدين ما حيلتي في يوم نشر صحيفتي إذا قيل لي خذها بغير يمين لا حيلة عندي ولا لي موئل إن خانني طمعي وحسن ظنوني يا رب لا تترك عبيدك هالكاً وارحم بفضلك عبرتي وشجوني اللهم مع هذه الحسنات والباقيات الصالحات فالفضل لك جل جلالك، والفضل لك وحدك لا إله غيرك {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [النحل:111].
فقيل: من شهودك؟ فشهدت الأرض التي أقلتك، والسماء التي أظلتك.(23/7)
مآل المؤمنين دخول جنات النعيم
وقال الله: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف:68 - 69].
خذوا عبدي إلى جنات النعيم، خذوه إلى الرضوان العظيم، فنال الكتاب باليمين، وصاح أمام العالمين: {هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:19 - 24].
ففتحت أبواب الجنان.
هذي الجنان تزينت وتفتحت أبوابها فعجبت للعشاق أينام من عشق الجنان وحورها وكرائم الجنات للسباق بل كيف يغفل موقن بعظيم سلعة ربه وبذا النعيم الباقي فهنيئاً لتلك الأقدام التي انتصبت في جوف الليل بين يدي الله تناديه، وهنيئاً لتلك الألسن التي عجّت بالدعاء بين يديه تناجيه، اليوم يومها، والنعيم نعيمها، والسرور سرورها.
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:31 - 35].
هي جنة طابت وطاب نعيمها فنعيمها باق وليس بفانِ وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحوم طير ناعم وسمان وفواكه شتى بحسب مناهم يا شبعة كمُلت لذي الإيمان لحم وخمر والنسا وفواكه والطيب مع رَوح ومع ريحان فيا لها من لحظات سعيدة! إنها لحظة الفوز العظيم إنها لحظة الزحام على الخلد والنعيم المقيم، وعلى السعادة الأبدية، فكأني بأهل الجنة وقد فتحت أبوابها، وقد ذهلوا من عبقها وأريجها وتربها وترابها! وهيج الشوق فيهم قصورها وحسانها! وخطف الأبصار منهم ديباجها وسندسها وإستبرقها! {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * هَلْ جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:54 - 60].
فطوبى لمن كانت الجنة مأواه!، وهنيئاً لمن كان هذا أمله وذلك منتهاه!، فيا غافلاً: انتبه! فيا غافلاً: انتبه! فقد جد الرحيل.
يا غافلاً عما خلقت له انتبه جد الرحيل ولست باليقظان أألهتك اللذائذ والأماني عن الفردوس والظل الدواني؟ ولذة نومة عن خير عيش مع الخيرات في غرف الجنان تيقظ من منامك إن خيراً من النوم التهجد بالقرآن(23/8)
عرض الظالمين على رب العالمين
ونادى منادي الله لتلك النفس الظالمة في جنب الله: يا فلان ابن فلانة! أن قم إلى العرض بين يدي الله، فسئل عن ليل طالما في الإثم قضاه، وعن نهار طالما في الباطل أضاعه، فنادى منادي الله: أي حسنة ترجوها عندنا؟ وأي صالحة قدمتها في جنبنا؟ فنشرت الفضائح، وصاح بين يدي الله الصائح: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
فقالت القدم: إلى الحرام طالما مشيت، وفي جنبك -رباه- أسأت واعتديت.
وقالت اليد: كم افترفت من الآثام! وكم هتكت وأكلت من الحرام! فما خفت منك -ربي- حقيقة الخوف.
وقالت العين: أما أنا فقد نظرت وتمتعت، رباه! متعني بالحرام، واستعان بي في تزيين الفواحش والآثام، وشهدت الفروج بآثامها، والجوارح بخطيئاتها، ثم عرضت على الله مظالمها {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت:21].
فشهدت الجوارح بآثامها، وعرضت الفضائح بين يدي الله ربها، فقال الله: يا ملائكتي! خذوه، ومن عذابي أذيقوه؛ فقد اشتد غضبي على من قل حياؤه مني.
عصيت الله ألوان المعاصي كأني لست أوقن بالقصاص فما لي لا أنوح على ذنوبي وأبكي يوم يؤخذ بالنواصي {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ * لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [الأعراف:40 - 41].
ووقفت تلك النفس الآثمة الظالمة على نار تلظى، وجحيم لا يفنى، وبدا لها مآلها، وتمنت أن لو رجعت لكي تسكن في جنب ربها، فكبكبت على رأسها وجبينها، فهوت في جهنم كالبهائم، وتقلبت بين الدركات والظلمات والحسرات.
{وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:103 - 108].
مضت الشهوات بأهلها، وانقضت النيات بأصحابها، وذاق الهوان بعد المعزة والكرامة، ونزل إلى ذلك الدرك العظيم من الجحيم، فكأن لم يكن مر به نعيم قط.(23/9)
مآل الظالمين يوم القيامة
روى مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه يؤتى يوم القيامة بأنعم أهل الدنيا من أهل النار فيغمس في النار غمسة، ثم يقال له: هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، وعزتك).
فيا سبحان الله! بغمسة واحدة في النار نسي النعيم والسرور، ونسي المرح والحبور، فكيف بمن يكبون على وجوههم مغلولين! النار من تحتهم، والنار من فوقهم عن يمينهم نار، وعن شمالهم نار، فهم غرقى في النار طعامهم نار، وشرابهم نار، ولباسهم نار، ومهادهم نار، تغلي بهم النار كغلي القدور {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ * وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} [الحج:19 - 21].
أما سمعت بأهل النار في النار وعن مُقاساة ما يلقون في النار أما سمعت بأكباد لهم صدعت خوفاً من النار فانزالت على النار أما سمعت بأغلال تناط بهم فيسحبون بها سحباً على النار أما سمعت بأنفاس لهم حبست عن التنفس من حرارة النار أما سمعت بأجساد لهم نضجت من العذاب ومن غلي على النار {وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
وهوى في تلك الدركات، رهين السيئات، فلا مال ولا بنون، ولا عشيرة ولا أقربون، فرق بين الأم وولدها، والآباء وأبنائهم، وفرق بين الأصحاب والأحباب، فراق لا لقاء بعده أبداً، نعيم لا جحيم بعده، وجحيم لا نعيم وراءه {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7]، {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} [الزخرف:76].
{الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف:51].(23/10)
فريق في الجنة وفريق في السعير
وحطت الرحال ففريق في جنة الله الكبير المتعال، في دار الخلد والإجلال، وفريق في دار الخزي والندامة والعذاب والملامة، ووجد المؤمن ما قدم من الإحسان في درجات الجنان في جوار الرحمن مع الخيرات الحسان، وهناك يجد الكافر ما عمل من العصيان، في سموم النيران في جوار الشيطان مع الذل والهوان، ووجد المؤمن النعيم والخلود، ووجد الفاجر عذاباً غير مردود.
فهل يستوي الفريقان؟ كلا -والله- لا يستويان.
{أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة:18 - 21].
أخي: تذكر أن لك موعداً مع الموت وسكرته، والقبر وضمته، ويوم القيامة وكربته، والحساب وشدته، ثم إلى جنة أو إلى نار.
ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن إن الغريب له حق لغربته على المقيمين في الأوطان والسكن لا تنهرن غريباً حال غربته الدهر ينهره بالذل والمحن سفري بعيد وزادي لن يبلغني وقوتي ضعفت والموت يطلبني ولي بقايا ذنوب لست أعلمها الله يعلمها في السر والعلن ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تحرقني دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتفكير والحزن دع عنك عذلي يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني كأنني بين كل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد تجمع حولي من ينوح ومن يبكي علي وينعاني ويندبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريراً حين غرغرني(23/11)
دمعة في الحج
إن للحج أهمية عظيمة في الإسلام، وهو مدرسة فيها من العبر والعظات الكثير، وكثير من أعماله عبادات محضة لا تدرك الحكمة منها؛ لكن من أمعن النظر وغاص بفهمه في مناسك الحج ومواقفه؛ فإنه يقف على لطائف يشهد بها ضعف نفسه وحاجته إلى ربه، ويشهد منها كمال مولاه وعظمته، ومغفرته ورحمته، وعزته وجبروته، كما يشهد فيها حقارة الدنيا وقصرها، وأن الراكن إليها مغتر بزخرف منقطع.(24/1)
وقفات مع الحاج إلى بيت الله الحرام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد: الحج ركن من أركان الإسلام، وشعيرة من شعائره العظام، دعا إليه رب العالمين، وأوجبه على عباده المستطيعين، نادى به نبيه الخليل، كما قص الله عز وجل خبره في التنزيل، نادى به فأذن، فبلغ الله أذانه، فلما علم عباد الله المؤمنين بذلك الدعاء وذلك النداء، تفتحت له أسماعهم، وتفتحت له قلوبهم، فصاروا له مجيبين ولداعيه ملبين، قطعوا الوهاد وساروا الفيافي وجاوزوا النجاد؛ محبة ومرضاة لرب العباد، ساروا إلى الله ملبين، ولرحمته طالبين، لم يخرجوا للدنيا، وإنما خرجوا لرحمة الله طامعين، وفي جوده وإحسانه وعظيم كرمه آملين، خرجوا إلى الله وقلوبهم مليئة بالإجلال والشوق والحنين إلى عفو الله، خرجوا وما كانت الدنيا نصب أعينهم إذ خرجوا، خرجوا وكلهم أمل في الله تبارك وتعالى أن يناديهم: حج مبرور، وسعي مشكور، وذنب مغفور.
لذلك أحبتي في الله! ما ضربت قدم على الأرض أشرف عند الله عز وجل ولا أزكى من قدم المطيع لربه، وما وفد وافد يسير على الفجاج أحب إلى الله من وافد على بيته من هذا الركب العزيز الذي فارق كل عزيز.
إنه ركب الله ووفد الله القادم على الله، لذلك قصة هذا الركب قصة مليئة بالعبر والعظات، فهو الوفد الذي لله خشع، وفي رحمة الله طمع، إنه وفد الله الذي تذكرك أقواله وأفعاله برحمة الله، أقوام باعوا الساعات واللحظات لكي يتقربوا إلى رب البريات.
خرجوا إلى الله تبارك وتعالى بهذه الرحلة التي سطرت في دواوين الحسنات، فأقيلت بها العثرات، ورفعت بها الدرجات، فيا لله! كم فائز منهم برحمة الله! ويا لله! كم سعيد منهم برضوان الله!(24/2)
الوقفة الأخيرة: حال الحاج عند طواف الوداع
أحبتي في الله! وبعد ذلك -وما بعد ذلك؟ - يسير العبد إلى آخر مرحلة من حجه، وهي: طواف الوداع، وهيا للحظة الأخيرة التي يودع فيها الإنسان بيت الله الحرام، يودع فيها دار السلام، يطوف بذلك البيت لكي يكون آخر عهده بالبيت طوافاً، ولطواف الوداع حلاوة، ولطواف الوداع لذة وطلاوة.
طواف الوداع يذكرك بفضل هذه المنازل، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان الناس يسفرون من فجاج منى وعرفات) كان الناس يسفرون، يعني: يخرجون إلى ديارهم، ويرجعون إلى أمصارهم من فجاج منى وعرفات (فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً).
فإذا طاف الإنسان طواف الوداع طافت به أشجان وأحزان، لأن العبد الصالح من أعظم ما يؤلمه، وأشد ما يجده في دينه إذا فارق الطاعة والعبادة، ولذلك كان بعض السلف إذا كانت آخر ليلة من رمضان جلس يبكي ويقول: ألا ليت شعري من هو المحروم فنعزيه؟ ألا ليت شعري من هو المقبول فنهنيه؟ فالإنسان إذا قضى عبادته وانتهى من حجه، فإنه لا يدري أقبل الله حجته أم لم يقبلها، وإن كان الظن بالله حسناً، فوالله لو عاملنا الله بما نحن أهل ما طمعنا في شيء، ولكن هي رحمته، وهو حلمه، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله.
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا؛ إلا أن يتغمدني الله برحمته).
فما هذه العبادة التي قمت بها؟ وما هذا الموقف الذي وقفته؟ وما هذه الجمرات التي رميت؟ وما هذه الليالي التي بت في جنب نعم الله، وفي جنب منن الله، وفي جنب فضائل الله وإحسان الله بي؟ فتأتي تلك الساعة وهو يحتقر العبادة.
إياك ثم إياك أن يأتي وأنت تدلي على الله بالعمل، إياك ثم إياك أن تحس من النفس غرورها، أو يلتهب في النفس شرورها، فتقول: أنت العبد الصالح، ها قد أديت فريضة الله، ها قد فعلت وها قد فعلت.
لا، إنها ساعة الفراق التي يمتلئ فيها القلب ذلة لله عز وجل وطمعاً في أن يتقبل الله منك العمل.
كان عبد الله بن عمر صحابياً جليلاً، حتى ورد في بعض كتب السير: -كما في الحلية وغيرها- (أن النبي صلى الله عليه وسلم بشره بالجنة) من صلاحه رضي الله عنه وأرضاه، وكان إذا رأى عبداً يصلي ويكثر الصلاة أعتقه لوجه الله، قالوا له: إنهم يخدعونك بكثرة الصلاة.
قال: من خدعنا لله انخدعنا له.
هذا الصحابي الجليل حضرته الوفاة فجلس يبكي فجاءه ابنه سالم، وقال: يا أبتاه! ألم تكن كذا وكذا وكذا.
يذكره بما كان عليه من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم، وأخذ يعدد فضائله التي فضله الله عز وجل بها حتى أكثر عليه، فقال رضي الله عنه: أجلسوني، ثم قال: يا بني! أتدري ممن يتقبل الله؟ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27] ما عد نفسه شيئاً.
إذا كان هذا عبد الله بن عمر، فكيف نحن نطمع بحسناتنا وصالح أقوالنا وأفعالنا؟! وما يدري العبد لعل ذنباً أصابه أوجب عليه سخطاً لا رضا بعده، ولعل كبيرةً أصابها، ولعل عبداً من عباد الله ظلمه بمظلمة لم يقبل الله عز وجل عليه بعدها؟! والأمور مردها إلى الله عز وجل: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة:105].
لا أحد يدري هل قبل الله العبادة أم لم يقبلها؟! لذلك فإن الإنسان في هذه اللحظات يوصى باحتقار العمل، ولذلك قال العلماء: إن احتقار العمل من مظان القبول.
إذا جاءت هذه اللحظة وصدرت عن البيت صدرت وكلك شوق وحنين أن يرحمك الله بقبول الحجة، وناديه وناديه وقل: يا رب! اقبل حجتي، واغفر ذنبي، وضع عني إصري.
ادع الله دعاء المضطر ودعاء المستغيث المستجير به جل شأنه.
حتى إذا انتهيت من ذلك فاسأل الله أن لا يجعله آخر العهد ببيته، بل تعود مرات ومرات.
ذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله عن بعض السلف: أنه وقف بمزدلفة -في المشعر- وقال: والله الذي لا إله إلا هو! إن لي ثلاثين عاماً أسأل الله ألا يجعله آخر العهد بهذا الموضع، وقد استجاب الله دعوتي، وإني لأستحيي أن أسأله هذا العام.
فرجع فقبضه الله عز وجل.
ولذلك من طمع في أن الله عز وجل لا يجعلها آخر حجة له فإن الله كريم قد لا يخيبه في طمعه، فاجعل في نفسك حنيناً ألا يجعلها آخر العهد ببيته، وألا يجعله آخر العهد بطاعته.
حتى إذا رجعت إلى الديار، وأقبلت على الأمصار عندها تذكر ما بينك وبين الله من العهود، تذكر ما بينك وبين الله من المواثيق، وقل بلسان الحال والمقال: توبة نصوح لا ذنب بعدها إن شاء الله.
قال بعض العلماء: من علامة قبول الحج أن يكون العبد بعد الحج أصلح منه حالاً قبل الحج.
يا عبد الله! إذا لبيت لله فاعلم أنك قد عاهدت الله على توحيده؛ فإياك أن ترجع -والعياذ بالله- بالله مشركاً، إياك بعد أن ناديته وتشرفت بالوقوف بين يديه أن تستغيث بأحد سواه، أو تستجير بمن عداه، فقد وجدته حليماً رحيماً، ووجدته جواداً كريماً، فإلى أين تفر؟! إلى أين تعرض؟! فلذلك اجعله عهداً بينك وبين الله أن لا معاذ ولا ملاذ ولا منجى ولا ملجأ من الله إلا إلى الله، اجعله عهداً مؤكداً، واجعله عهداً موثقاً أن تكون على طاعة واستقامة إلى أن تلقى الله تبارك وتعالى.
إذا كنت بالمعاصي مبتلى فخذها طريقاً إلى التوبة النصوح، خذها حجة تمنعك وتحجبك عن معاصي الله عز وجل، فقد حللت به ضيفاً، وضيف الله يستحيي من الله، فبعد أن أقدمك الله إلى هذه الديار، وتشرفت بذكر العظيم القهار، عندها ترجع عبداً صالحاً تقياً ورعاً.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى حجاً مبروراً! وسعياً مشكوراً! وذنباً مغفوراً! اللهم إنا نسألك أن تيسر لحجاج بيتك الحرام حجهم، اللهم يسر لهم حجهم! اللهم ارحم ضعفهم! اللهم ارحم غربتهم! اللهم ارحم فقرهم! اللهم ردهم إلى ديارهم سالمين غانمين رابحين! اللهم ردهم إلى ديارهم مرداً جميلاً! اللهم ردهم إلى ديارهم مرداً جميلاً! وهب لهم عملاً صالحاً مباركاً جليلاً، برحمتك يا أرحم الراحمين!! اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تؤمنهم في حجهم بأمنك! اللهم أمنهم في حجهم بأمنك! اللهم أمنهم في حجهم بأمنك! اللهم الطف بهم حضراً وسفراً! اللهم الطف بهم حضراً وسفراً! اللهم ادفع عنهم الوباء! وأزل عنهم الشعث والعناء، واجعلهم في صحة وعافية، وبلغهم رضوانك يا رب العالمين! اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا ولمن له حق علينا، ولجميع المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات! سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(24/3)
الوقفة السابعة: حال الحاج عند إفاضته من عرفات إلى المشعر الحرام
ثم إلى المشعر وعند المشعر يفيضون إليه بقلوب مغسولة، مليئة بالخشوع مليئة بالإنابة والخضوع، قلوب تعظم الله تبارك وتعالى، كيف وقد حطت الخطايا، كيف وقد غسلت الرزايا.
يقفون بالمشعر حتى إذا شاء الله عز وجل لهم وقضوا منسكهم فصلوا فجرهم ووقفوا موقفهم أنابوا وتضرعوا، ورفعوا الأكف إلى الله وقالوا: ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
يحسون بهيبة المشعر وجلال ذلك الموقف، يقفون وكلهم شوق إلى رحمة الله بعد أن أفاضوا وأنابوا إلى ربهم، ولرحمته أصابوا.(24/4)
الوقفة الثامنة: حال الحاج في منى
ثم إلى منى، ومن منى إلى البيت العتيق: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] في هذه الأيام المباركات الأيام المعدودات ذكر وشكر واستغفار وتعظيم للعظيم القهار، أيام منىً أيام الذاكرين أيام الشاكرين، أحسوا بأن الله أصابهم برحمته، وأصابهم بعفوه ولطفه؛ فأخذت الألسن لا تفتر عن ذكره وشكره، وحق لها والله! بعد أن أصابت رحمة الله أن تثني على الله، وكيف لا تثني عليه وقد أعطاها عطاءً هو العطاء في الدنيا؟! فليس هناك عطاء أعظم من أن يغفر الله ذنبك وأن يضع عنك وزرك، وهي المنة التي امتن الله بها على عباده، وامتن بها على خير خلقه صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين.
وفي منى تلك الساعات الطيبات، تلقى فيها الوجوه مضيئة، تلقى فيها الوجوه مشرقة من آثار العبادة، تلقى فيها إخواناً لك في الإسلام والدين لم يجمعك بهم حسب ولا نسب، ولم تجمعك بهم قربى، بل لم ترهم عينك من قبل قط، ولكن ترى وجهه فتعلم أنه يشهد أن لا إله إلا الله فتحبه وتسلم عليه وتهنئه، تهنئه برحمة الله عليك وعليه.
يا أحبتي في الله! أيام منى أيام جمع للمسلمين، لا يليق بالمسلم وهو يسير أمام إخوانه إلا وهو يفشي السلام بين المسلمين ويحسن إليهم بالإجلال والإكرام.
إذا ضاعت أخوة الإسلام في أيام منى وأنت مع إخوانك الطيبين المباركين، الذين أصابهم الله برحمته، فأين توجد أخوة الإسلام؟! أحبتي في الله! إنها الأيام الطيبات، أيام تتلذذ فيها الأسماع بالتكبير والتحميد.
أين المكبرون؟! أين الحامدون؟! أين المهللون؟! أين الذاكرون؟! ولقد كنا منذ أعوام يسيرة في الحج إذا مضينا إلى الجمرات والله ثم والله لا تفتر ألسنتنا عن ذكر الله: الله أكبر، ترتج بها أسواق منى وترتج منها خيام منى، فأين تلك الصفوة المباركة، ما بالنا قد نسينا شرعنا؟! ما بالنا نظرنا إلى هذا الحج وكأنه طقوس لا معنى لها؟! أحبتي في الله! حق لمن وقف بها، وحق لمن نزل إليها أن يرفع صوته بالتكبير إعظاماً للعلي الكبير، وشكراً للعزيز الغفور.(24/5)
الوقفة السادسة: فضل يوم عرفة وحال الحاج في هذا اليوم
حتى إذا شاء الله عز وجل ما شاء فمضيت بين الصفا والمروة، تنتقل من معلم توحيد إلى معلم توحيد لرب العبيد، حتى إذا شاء الله لك أن تبلغ الموطن المبارك، الذي هو الحج الأكبر، إنه عرفات، وما أدراك ما يوم عرفات؟! يوم تفطرت فيه القلوب لرب البريات، ما طلعت الشمس على يوم أفضل عند الله من يوم عرفة.
أخي في الله! إذا طلعت عليك الشمس ذلك اليوم فنادي النفس نداءاً صادقاً، هو يوم واحد، وقد كان من لطف الله وتيسيره أن جعل الموقف بعد الزوال سويعات، فاحتسب عند الله تبارك وتعالى فيها بالدعوات، وادخل إلى عرفات بقلب منكسر لرب البريات، وأصب من سنن النبي صلى الله عليه وسلم ما بين لك.
حتى إذا انتهيت من صلاتك، وسمعت المواعظ التي ينبغي لكل مؤمن بالله واليوم الآخر أن يترسم نهجها، وأن يسير على سبيلها، حتى إذا قضيت ذلك كله سرت إلى الموقف، سرت بذلك القلب المنكسر إلى الله تبارك وتعالى، سرت وأنت تتذكر ذنوباً بينك وبين الله، والعبد يسير إلى الموقف بخطىً ثقيلة؛ حينما يتذكر الذنوب فيما بينه وبين الله، يسير وهو منكسر إلى العلي الكبير، يسير وهو يحس من نفسه أن الذنوب تؤرقه، وأن الخطايا تحطه وتهده.
حتى إذا صار إلى موقفه ووقف بين يدي الله تبارك وتعالى نسي الدنيا وما فيها، وأقبل على الله يناجيه ويناديه، بين لوعتين: لوعة الماضي، ولوعة المستقبل؛ أما الماضي فبينه وبين الله حدود طالما جاوزها، ومحارم طالما أصابها، وبينه وبين الله حدود لعباده أصابها، وحقوق لخلقه ضيعها، فإذا صار العبد إلى ذلك الموقف، يصير بذلك القلب الخاشع الذليل، ويا لله ما أعظمه من موقف! لو أن الإنسان استشعر تلك الساعة المباركة، التي يدنو الله عز وجل فيها دنواً يليق بجلاله وعظمته لأهل الموقف، ويقول لملائكته: (ما أراد هؤلاء؟) يقول بعض العلماء: استفهام إجلال وإعظام وإكبار، أي: أي شيء أراد هؤلاء؟ يدل على أن الله سينزل عليهم من رحمته ورضوانه بما لم يخطر على بال، (ماذا أراد هؤلاء؟) أينسى الله تبارك وتعالى؟! {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
تلك الخطى التي قدمت بها عليه، أينسى إذ تغبر الخطى إليه؟ أينسى الشعث الذي تقربت به إليه؟ حتى إن الإمام أحمد رحمه الله سئل: هل ينظر الحاج في المرآة؟ قال: إن كان ينظر من أجل إصلاح شعره فلا؛ حتى لا يذهب شعثه.
يقول بعض العلماء: إن الله تعالى يباهي بشعث الإنسان وغبره، ولذلك استحب العلماء إذا كان الإنسان له إزاراً فاتسخ أو أصابه شيء من القذر أن يقف به، حتى يكون أبلغ في الذلة لله عز وجل، حتى يكون أبلغ في التجرد من الدنيا، حتى يكون أبلغ في أنه يحس بالآخرة، وأنه والله ما قدم لكي يتعالى على عباد الله؛ ولكن ليذل لله حق والله للعبد أن يتذلل له سبحانه، وحق له أن ينكسر لربه تبارك وتعالى.
تبارك الله وجل الله فهو أعظم ما فاهت به الأفواه! سبحان من ذلت له الأشراف أكرم من يرجى ومن يخاف وإذا لم يذل العبد لربه فلمن يذل؟! ثم ارم بطرفك إلى هذه الأمم التي اجتمعت على عرفات، ذابت أنسابهم، وذهبت أحسابهم، وأصبحوا لا تستطيع أن تفرق بين الغني والفقير، لا تستطيع أن تميز بين الجليل والحقير، أكف إلى الله رافعة، وعيون من خشيته دامعة، وقلوب وأفئدة لجلاله منكسرة، كم فيها من مظاهر تراهم وكأنهم على صفة رجل واحد، ولكن بين بعضهم بعضاً من الفضل والدرجات كما بين السماء والأرض، بماذا؟ بالقلوب.
وقفوا في تلك المواقف، وقلوبهم متباينة في الإجلال والإعظام والانكسار، والذكر للعليم القهار؛ لذلك يوم عرفة يوم مشهود، هذا اليوم يذكر بالموقف بين يدي الله عز وجل، ولذلك إذا وقف العبد بعرفات، ونظر إلى تلك البريات، ونظر إلى تلك الأصوات والصيحات، فسبحان من علم لغاتها! وسبحان من ميز ألفاظها! وسبحان من قضى حوائجها! لا يخفى عليه صوت، ولا تعجزه حاجة، أحد فرد صمد، لا يعييه سؤال سائل! لذلك أحبتي في الله! النظر في حال يوم عرفة يذكر بالله تبارك وتعالى.
كان الناس مع الخليفة سليمان بن عبد الملك فجاءت صاعقة وهم وقوف بعرفة، ففزع الناس فزعاً شديداً، وفزع الخليفة سليمان رحمه الله فزعاً شديداً من تلك الصاعقة، فقال له عمر: يا أمير المؤمنين! هذه بين يدي رحمته؛ فكيف بالتي بين يدي عذابه؟! إذا كان هذا والناس وقوف بين يدي الله يرجون رحمته؛ فكيف إذا وقفوا بعرصات يوم القيامة؟! وكما ثبت في الخبر يقول: (لقد غضب الله في هذا اليوم غضباً لم يغضب قبله قط ولم يغضب مثله قط)، وهذا يدل على عظم الموقف بين يدي الله تبارك وتعالى.
اللهم سلمنا في ذلك الموقف! اللهم سلمنا فيه بعظمتك يا عظيم! ورحمتك يا رحيم! أحبتي في الله! يوم عرفة وما يوم عرفة! كل من حولك يحرك وجدانه، كل من حولك يحرك إحساسه، إن كان القلب قاسياً فإنه يصير خاشعاً، تسمع هذا يبكي وهذا يشتكي، وهذا يشجي، فتقول: سبحان الله! من لهذه الحاجات سوى الله؟ من لهذه الدعوات غير الله؟ جاءوا إليه من بلاد بعيدة، وقطعوها في أزمنة مديدة، جاءوا بهموم لا يفرجها سواه، وكربات لا ينفسها أحد عداه، جاءوا وكلهم يقين في أنه ليس لحاجتهم أحد غيره؛ وحق لهم ذلك.
أحبتي في الله! وما هي إلا لحظات حتى يشاء الله عز وجل للعبد، فينقضي موقفه، وتغيب عليه شمسه، ويأذن الله لأهل ذلك الموقف بالانصراف.
وتأتي تلك الساعة العصيبة، والله إنها لمن أمر الساعات في الحج، وأعظم ساعة يتألم الإنسان فيها أثناء الحج، إنها ساعة الانصراف من عرفة، لا يدري هل الله عز وجل قبل دعوته أم لم يقبلها؟! لا يدري هل أجاب الله سؤاله أم لم يجبه؟! لا يدري أمرحوم أم محروم؟! لا يدري أيعطيه أم يحرمه؟! فلذلك يبلغ بالإنسان من الشجن والأسى ما لا يعلمه إلا الله، فهو يقول: أأفيض ربي؟! فهل أنت راضٍ عني، أم لست راضياً عني؟! يناديه بقلب متقطع منفطر، رباه! إن لم ترض عني قبل هذا الموقف فارضَ عني قبل أن أفارق موقفي، يناديه بحسرة، يناديه بقلب متقطع يرجو رحمة الله؛ حتى لا يكون محروماً من عفو الله وفضل الله.
أحبتي في الله! تلك ساعة مؤلمة، ساعة تهز وجدان المؤمن، حينما يتذكر أنه ينصرف من ذلك الموقف، ولذلك كان بعض السلف إذا حضرت ساعة النفرة من عرفة والدفع منها يشتد بكاؤه، ويعظم تضرعه إلى الله تبارك وتعالى، وقال بعضهم: والله! لو نادى منادي الله في أهل هذا الموقف: قد غفرت لكم إلا واحداً لعددت نفسي ذلك الرجل.
أخي في الله! حتى إذا سرت بين الشعاب وسرت بين تلك الوهاد، فلا إله إلا الله كم يسير عليها عبد غفرت ذنوبه فهو كيوم ولدته أمه! لا إله إلا الله يدفعون من عرفات، دخلوها مثقلين، ليخرجوا منها من الذنوب والخطايا مغسولين! ما أعظمه من موقف، لا إله إلا الله! يسيرون بين تلك الشعاب، يسيرون بين تلك الأودية كيوم ولدتهم أمهاتهم، ما نظر الله إلى سيئات مضت ولا عاملهم بها.
فيا لله! كم دعوة كتب لصاحبها سعادة لا يشقى بعدها أبداً! ويا لله! كم دعوة كتب لصاحبها رحمة لا يعذب بعدها أبداً! يسيرون بين تلك الشعاب العزيزة عند الله، بقلوب مليئة بإجلال الله، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، يحسون معناها، ويتلذذون حلاوتها، ويصيبون فضلها وبغيتها.(24/6)
الوقفة الأولى: تذكر فراق الدنيا عند وداع الأهل والأحباب
لذلك أحبتي في الله نسير مع هذه الركاب، وننتقل مع هذه الرحلة مرحلة مرحلة، لماذا عز عند الله شأنهم وارتفع عند الله قدرهم؟ لأن الحاج إلى بيت الله في جهاد وجلاد، من أول لحظة تدخل فيها تلك الكلمة التي تدعوه إلى الإقبال إلى بيت الله يعيش الصراع، هل أحج هذا العام أم أرجئ إلى الأعوام القادمة؟ يعيش أول ما يعيش في صراع مع نفس متخاذلة عن طاعة الله متثابطة، يصارعها يجالدها يجاهدها، ثم مع الزوجات، ثم مع الأبناء والبنات، ثم مع الأموال والتجارات، أأحج أم لا أحج؟ أأنتظر أم أبادر؟ حتى يشاء الله عز وجل أن يختاره في الركاب.
فإذا عقدت النفس النية، وعقد القلب العزم على المسير إلى الله، والانتقال إلى رياض رحمة الله، إلى البيت العتيق، حتى إذا صدق عزمه وقوي يقينه؛ عندها تكون أول وقفة لنا مع الحاج إلى بيت الله الحرام.
إذا عقدت الحج إلى بيت الله الحرام كانت أول وقفة حينما تشد الرحال، وتعزم على المسير إلى الكبير المتعال.
فتقف على الباب لكي تنظر إلى الابن والبنت، لكي تنظر إلى الأخ والأخت، لكي تنظر بدمعة تسح على الخد لفراقهم، حتى إذا أصابت سويداء قلبك تلك الحسرة على فراقهم، إذا بنداء من الأعماق يذكرك بيوم عظيم، يذكرك بساعة للفراق وأي ساعة فراق! تناديك نفسك: يا عبد الله! اليوم تودعهم، وأنت قادر على الوداع بكلمات رقيقات؛ فكيف إذا انقطع الأثر وخسف البصر ونفذ القدر.
كيف بك إذا أصبحت أسيراً للمسير إلى الله؟ فلذلك تتحرك في النفس ذكر الآخرة، تتحرك في سويداء القلب تلك العظة البالغة، اليوم تودعهم وغداً يودعونك، واليوم تنظر إليهم وغداً ينظرونك، اليوم تبادلهم الكلمات فمن لك إذا انقطع لسانك، ووجل جنانك، ولم تستطع أن تبيح بما في النفس من حسراتها.
فهذه أول وقفة، ومن هذه الوقفة إلى ختام الحج تنتقل من مرحلة إلى مرحلة تذكر بالآخرة؛ فتجيش في النفس عبرتها؛ وتحرك في القلوب خشوعها.(24/7)
الوقفة الثانية: العظات والعبر التي يستفيدها الحاج من لبس الإحرام
أما الوقفة الثانية: فبعد لحظات يسيرة فارقت الأهل والإخوان، وودعت الأحباب والخلان، فإذا بأوامر الشرع تأتيك عند الميقات، انزع ثيابك، وتجرد عن مخيطك، واغتسل لحجك وعمرتك؛ فاستجبت ولبيت، وقلت: سمعاً وطاعة.
فغسلت واغتسلت وأزلت عنك الثياب.
وما إن رفعت الثوب عن الجسد حتى تحركت في النفس أشجانها، وانبعثت في القلوب أحزانها، اليوم أزيل لباسي بنفسي، فكيف بغدٍ إذا أزيل عني لباسي؟! اليوم أرفع ثوبي بنفسي وأجرد عني المخيط، فكيف بي غداً إذا جردت من الثياب، وولجت من ذلك الباب مصيراً إلى رب الأرباب؟! اليوم أغسل نفسي، فكيف بي غداً إذ يغسلونني؟! وكيف بي إذ يكفنونني؟! وما هي إلا لحظات حتى تلبس الإزار وتنزع المخيط، وتنخرط مع تلك الجماعات؛ تلبية توحيداً تكبيراً تمجيداً، لا إله إلا الله! ما أعزها من خُطىً عند الله، وما أكرمها من وفود على الله، منذ أن تجردت من لباسك وأصبحت في عداد المحرمين، كأن هيئتك تقول لك: الآن أصبحت مع المحرمين، وغداً ستصير في عداد المغتربين.
كما أن صاحب الإحرام تحظر عليه محظورات الإحرام، فلا طيب ولا متعة من الأمور المرفهة، كذلك إذا أوسد في لحده وأودع في قبره، فكأنه في المرحلة الثانية بعد لبس إزاره وردائه، فالله أكبر! ما أجلها من عظات، والله أكبر! ما أعظمها من آيات، دلت وشهدت بوحدانية رب البريات، فسارت الخطى على تلك الأرض، التي والله ما رفعت قدماً ولا حططت أخرى إلا سطرت في ديوانك، ولقيت بها رباً يبيض بها الوجوه إذا لقيه أصحابها.(24/8)
الوقفة الثالثة: العظات والعبر التي يستفيدها الحاج حين يتوجه إلى بيت الله
حين تسير مع الوافدين في عداد المسافرين، وكأن سفر الحج يذكرك بالسفر الطويل، يذكرك بالمسير إلى العظيم الجليل، سرت معهم فرأيت عبراً لا تنسى، وآيات عظيمة جل من وضعها وعلا، تسير في الركاب فترى في السفر عجباً وأي عجب! تسير مع الأصحاب والأحباب وترى إن نظرت أمامك إلى قفار ووهاد، إلى أشجار وثمار، إلى جبال وأنهار، تذكر بالواحد العظيم القهار.
ما تقدمت ولا خطوت إلا وكان في قلبك أثر يذكرك بأن لا إله إلا الله، إنه كون مليء بالعبر، وعبادة تهز كيانك حتى تكون من المعتبرين، فسرت مع الراحلين وسرت مع المغتربين، وما هي إلا أيام حتى وطئت دار السلام.(24/9)
الوقفة الرابعة: ما ينبغي على الحاج حين وصوله إلى بيت الله
أخي في الله! تصدع بشكر الله والثناء على الله، فكم من وفود تمنت! وكم من قلوب حنت لكي تدخل البيت الحرام! كم من عيون تمنى أصحابها رؤية البيت الحرام! وكم من أجساد وأرواح طمعت أن تطوف ببيت الله! اخترمتها البحار، والتقمتها القفار، وصارت إلى العزيز القهار، والله تفضل فاختارك من بين العباد حاجاً وافداً، فما أجلها من نعمة وما أعظمها من منة! حتى إذا وطئت بيت الله وطئته وأنت تجل نعمة الله، وتعظم منحة الله، وطئت البيت الحرام وكلك إجلال وإعظام للملك العلام.
أي بيت؟! أي مكان؟! أي بلد؟! أي منزل؟! إنه البلد الذي اختاره الله من بين البلاد، صحيح أنه ليس فيه أنهار ولا أشجار ولا فتن من الدنيا بادية، ولكن فيه الروح والريحان، فيه الرضا والغفران، فيه الصفح والإحسان، فيا لله! ما أعظمها من منازل! عظمها الله ورفع شأنها الله، ما أعظمها من منازل! لو أذن لتلك البقاع أن تتحدث، لو أذن لتلك المواضع أن تنطق، فكم عليها من دعوات أجيبت! وكم عليها من هموم فرجت! وكم عليها من أمور نفست،! إنها منازل الله، ومحط رحمة الله، حتى إذا وطئتها وطئتها بقلب يعظمها: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
يا عبد الله! إذا نزلت إلى بيت الله فادخله لله منكسراً، ومن هيبته خاشعاً، ادخله بذلة لله، ادخله بالسكينة والوقار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دخل يوم الفتح في يوم أعز الله فيه أهل دينه، دخل صلوات الله وسلامه عليه مطأطئاً رأسه ذلة لله، حتى إن لحيته تكاد تمس رحل دابته صلوات الله وسلامه عليه؛ ذلة وتواضع لله عز وجل، منازل لا ترفع فيها الرءوس خشية لله، ولا يظهر الإنسان فيها إلا الفاقة والحاجة إلى الله، فيها بيت توجهت إليه القلوب والقوالب، من الصفا، والمروة، ومنى، ومزدلفة، وعرفات، وأي عرفات! منازل مباركات، منازل عند الله جليلة، وأماكن عند الله عظيمة! لذلك أحبتي في الله! إذا دخل الحاج إلى تلك المواطن دخلها بقلب يعظم الله، دخلها وكله ثناء على الله إذ بلغها، وأما إجلالها فكله شوق وطمع في الله أن يرزقه الأدب في جوار بيته المحرم، فما أسعده من عبد رزقه الله عز وجل عفة السمع والبصر! وما أسعده من عبد رزقه الله عز وجل الأدب معه، والأدب مع خلقه، في جوار كعبته وبيته! وما هي إلا لحظات حتى يرى العبد بيت رب البريات، وعندها يخشع القلب لله، ويذل لله تبارك وتعالى، ويبتدئ في طوافه، وينتهي من مطافه حتى يرقى الصفا.(24/10)
الوقفة الخامسة: أن يتذكر الحاج حال النبي عند ما قى الصفا
لقد رقى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا، فلما رقاها قال: (لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير).
لماذا هلل؟ هلل لأنه بالأمس القريب كان يقف على الصفا يقول لهم -منذراً ومحذراً ومبيناً-: (سلوني من مالي ما شئتم، لا أغني عنكم من الله شيئاً، فقال له أبو لهب: تباً لك! ألهذا جمعتنا؟!) فبالأمس يكذب وبالأمس يهان وعلى هذا المكان، ويشاء الله عز وجل يوم حجة الوداع أن تأتي مائة ألف نفس تأتمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما رقى الصفا تذكر عندما كان يهان بجوار البيت، فكان أول ما لفظ به توحيد الله، فقال: (لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده) تذكر نعمة الله عز وجل، وهذا هو شأن الأخيار، شأن الصفوة الأبرار، إذا أصابهم الله بنعمته، وتفضل عليهم بمنته؛ أجلَّوا الله عز وجل حق إجلاله؛ وعظموه حق إعظامه.(24/11)
الأسئلة(24/12)
نصيحة لأهل البلاء بأن لا يقنطوا من رحمة الله
السؤال
إنني أعيش في حزن وهم وغم بما أعانيه من مرض قد أصابني كم تمنيت الموت! تمر اللحظة تلو اللحظة وأتمنى الموت في اللحظة الأولى قبل الثانية، والشيطان يوسوس لي ويقول لي: افعل كذا كأنه يقول: هل أقتل نفسي أم ماذا أفعل؟ وهل من نصيحة تعيد لي الأمل في الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
أخي في الله! لمن هذا الكون؟ لمن الأمر كله؟ الأمر كله لله، أنزل بك البلاء وهو أرحم بك من أمك التي ولدتك، أرحم بالخلق منهم بأنفسهم، والله لو علمت رحمة الله تباك وتعالى لامتلأ قلبك رجاءً فيما عند الله عز وجل.
أخي! هذا بلاء أنزله الله بك، وأنت مسلم تؤمن بالله واليوم الآخر، ولذلك ليس البلاء أن يصاب المؤمن؛ ولكن البلاء كل البلاء للكافر الذي إذا أصابه البلاء لا يدري أين يذهب، ولا يدري إلى أين يشتكي، هذه الآلام التي تحصل للبعض إنما تكون مؤلمة حقيقة لأهل الكفر الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، لا يدري أين ربه والعياذ بالله! لا يدري أين يذهب! حائر، ولكن المؤمن الصادق في إيمانه يعرف أين يذهب، يعرف من ينادي.
لقد بلغ الضر بنبي الله أيوب مبلغه فنادى ربه نداءً صادقا؛ فجاءته رحمة الله {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:83 - 84].
يقول بعض العلماء: من رحمة الله بعباده أن المبتلى إذا صدع بالدعاء وكان صادقاً فإنه لا يفرج كربه فقط، بل يفرج كربته وزيادة، ولذلك قال تعالى: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} [الأنبياء:84] ما معنى: ذكرى للعابدين؟ معناه: إذا عبدت الله ودعوته بدعاء صادقٍ، فإن الله عز وجل يستجيب لك كما استجاب لأيوب.
ناده وقل: يا من لك الرحمة التي رحمت بها أيوب! ارحمني، يا من أنت الحليم بخلقك والرحيم بعبادك! أصابني وأصابني، وناد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وأذكر أن بعض الناس أصيب بشيء قريب من هذا، لقد عاش حياة مؤلمة، وشاء الله عز وجل يوم من الأيام أن جاء فاشتكى، فقلت له: يا أخي! الأمر يسير.
يقول لي: هل تعرف طبيباً نفسياً يداوي؟ هل تعرف رجلاً يداوي بالقرآن؟ قلت له: لا، أعرف لك من إذا جئته لم تخب في مجيئه، وإن دعوته لم تخب في دعائه.
قال: من؟ قلت: الله.
قال: سبحان الله! قلت له: لو قلت لك: زيد أو عمرو أو فلان لرفعت رأسك، ولو قلنا: الطبيب الفلاني، ولو قلنا: فلان وفلان، لقلت: أين؟ من يعرفه؟ كيف السبيل إليه؟ فكيف برب الأرباب؟! يا هذا! دعوة الأسحار وما أدراك ما دعوة الأسحار! إذا رفعت إلى العظيم القهار من قلوب تجله، وهو العزيز الغفار، دعوة، وأنت واقف أمام الله عز وجل تناديه بصدق، وتشتكي إلى الله عز وجل.
وشخص ثانٍ كان مبتلى بوساوس لا يقر قراره فيها، وشاء الله عز وجل أن يجلس مع بعض أهل العلم، فقوى فيه عقيدته بالله، يقول: فمضيت لأعتمر ودعوت واستجرت بالله عز وجل، والله إني لواقف أدعو وأستغيث بالله في صلاتي بعد انتهائي من طوافي، يقول: والله ما انتهيت من صلاتي حتى وانتهى عني كل شيء.
من بيده الأمر كله؟ {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} [المؤمنون:88] ولكن ضعف يقيننا بالله ضعف إيماننا بالله، لم نعرف من هو الله، لم نعرف من هو الذي بيده ملكوت كل شيء، يعلم أنَّاتك، ولا يخفى عليه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] ونحن ما قدرنا الله حق قدره.
الانتحار وقتل النفس هذا لأقوام لا يؤمنون بالله أقوام ضائعين أقوام تائهين، أما المؤمن الصادق فإنه يتلذذ بالبلاء أشد من تلذذه بالعافية، والله تعالى يقول عن أيوب: {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].
وأذكر أن الوالد رحمة الله عليه -وأقولها عن الوالد؛ لأنني قد أقولها عن شخص فيظن أنها قصة خيالية- بلي بمرض الحساسية، وتورم عليه جلده، والله مكث ثلاث سنوات ونحن لا ندري أنه مريض، حتى تقرح جسمه رحمة الله عليه.
البعض يتلذذ بالبلاء لماذا؟ لأن حسنات وأجور البلاء لا يعلمها إلا الله عز وجل، وإذا وقفت في عرصات يوم القيامة، وثقل ميزانك بهذا الهم والغم، وعظم عند الله أجرك تمنيت والله أن حياتك كلها بلاء: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10] وبغير حساب من الله ليست بالهينة! فهو شيء لا يخطر على بال.
فذلك أخي في الله! أدعوك إلى ربك، أدعوك أن تلوذ بخالقك، أدعوك أن تستجير بمن بيده حياتك وموتك، وبيده غناك وفقرك، وبيده عذابك ورحمتك، ناده واشتك إليه واستجر به، واسأله إحدى الحسنيين؛ إما أن يثبت قلبك ويصبرك على البلاء حتى تصيب من الله رضواناً، ورحمة وغفراناً؛ وإما أن يزيل عنك البلاء بالكلية.
ولذلك المرأة التي كانت تتكشف كانت مبتلاة في عقلها، (جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله! ادع الله أن يشفيني أو يعافيني.
قال: إن شئت صبرت ولكي الجنة، وإن شئت دعوت لك.
قالت: أصبر؛ ولكن ادع الله لي ألا أتكشف) رضي الله عنه وأرضاها؛ ولذلك كانت مبشرة بالجنة وهي تمشي على وجه الأرض.
يا أخي! ما يدريك ما في هذا البلاء؟! أخي! لو أن والدتك علمت بما بك؛ تألمت وتأوهت؛ وأحست بمرارة العيش من ألمك، حتى إن بعض قرابة المريض يتألم أكثر من المريض، والله لألم والدتك ورحمة والدتك بك لا تساوي مثقال ذرة من رحمة الله بك، هو يعلم أنك مبتلى، ويعلم أنك تقاسي وتعاني، ولكن يختبر صبرك، يختبر ثباتك؛ ولذلك اثبت وداوم على ذكر الله، وكن مع الله، وكن في راحة وطمأنينة وانشراح صدر مع الله، فوالله ما خاب عبد قرع باب الله.
اللهم إني أسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن تفرج عن هذا العبد كربه، وأن تثبت قلبه، وأن تزيل حسرته، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(24/13)
حكم صيام يوم عرفة لغير الحاج
السؤال
وماذا عن صيام يوم عرفة؟
الجواب
أما صيام يوم عرفة فقد سئل عنه من هو أفضل منا صلوات الله وسلامه عليه فقال: (أحتسب عند الله أن يكفر السنة الماضية والباقية) فصيام يوم عرفة مسنون وله فضل، لكن لغير الحاج، أما الحاج فيسن له أن يفطر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر، وقد جاء بها حنيفية سمحاء لا حرج فيها ولا مشقة ولا عنت، فأفطر صلوات الله وسلامه عليه؛ لأن الفطر يقوي على الذكر الذي هو المقصود من يوم عرفة، والصيام منفك، فتقدم العبادة المتصلة على العبادة المنفصلة، ولذلك لم يشرع للمقاتل إذا كان في وجه العدو أن يكون صائماً؛ لأنه بالصيام يضعف عن البلاء المقصود من قتاله.
وهكذا بالنسبة لمن وقف في يوم عرفة، فإن مقصوده ذكر الله، فينبغي أن يتقوى وأن يأخذ بالأسباب التي تقويه على ذلك.
أما بالنسبة لموافقته يوم الجمعة: فالذي يظهر والذي يستحب للإنسان أن يصوم الخميس والجمعة، وأما السبت فيوم عيد ولا يصام، وقد اجتمع فيه النهي عنه على الانفراد، وكذلك أيضاً كونه يوم عيد، فلذلك يسن للإنسان أن يصوم يوم الخميس والجمعة.
والله تعالى أعلم.(24/14)
حكم تغطية الوجه للمحرمة وكشف شعرها أمام محارمها
السؤال
هل غطاء الرأس بالنسبة للمرأة طول الوقت يكون عليها حتى في الخيمة وهي بعيدة عن الرجال؟ وإذا أزالت الغطاء هل يفسد الإحرام، وكذلك حكم تغطية الوجه بالنسبة للمحرمة؟
الجواب
المرأة يشرع لها أن تغطي وجهها ورأسها إذا رأت الأجانب أو إذا كان هناك أجانب، أو كانت بين الأجانب، للحديث الصحيح عن أسماء رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (فإذا مر بنا الركب سدلت إحدانا خمارها) فدل هذا على مشروعية سدل المرأة لخمارها عند مرور الرجال الأجانب، وأما إذا كانت بين محارمها، أو كانت في خيمتها، أو كانت بمعزل عن رؤية الغير لها؛ فإنه يجب عليها كشفها لوجهها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ضمناً، كما في حديث ابن عمر رضي الله عنهما في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تنتقب المرأة ولا تلبس القفازين) فنهاها عن سترها لوجهها.
وأما بالنسبة لقولك: هل تكشف؟ نعم، القاعدة تقول: (ما أبيح للحاجة يقدر بقدرها)، فهي في الأصل يمنع عليها السدل، لكن لمكان الحاجة شرع لها السدل.
والقاعدة: إن ما شرع لحاجة يبطل بزوالها، فإذا لم يوجد الأجانب فإنه قد زالت الحاجة؛ فيجب عليها الرجوع إلى الأصل.
أما بالنسبة لشعر الرأس فإن المرأة تغطي شعرها وجوباً إذا كانت بين الرجال الأجانب، وأما بالنسبة لمحارمها فإنه يجوز لهم النظر إلى شعرها، ولكن كره بعض العلماء ذلك من السلف وقال: أخشى على محرمها الفتنة.
ولذلك من ناحية الأصل لا يجب عليها كشف شعرها، شعر الرأس لا يجب كشفه في الإحرام، الإحرام للمرأة في الوجه والكفين، لحديث ابن عمر الذي سبقت الإشارة إليه، وأما الرأس فإنها تغطيه، وهذا مما يختلف فيه الرجل والمرأة.
والله تعالى أعلم.(24/15)
اندراج طواف الوداع في طواف الإفاضة
السؤال
هل يجوز الجمع بين طواف الإفاضة وطواف الوداع، وكيف تكون الصفة في ذلك؟
الجواب
نعم إذا أخر الحاج طواف الإفاضة، أو كان عند المرأة عذر الحيض فلم تطف طواف الإفاضة، وطهرت ثم أرادت أن تجمع بين طواف الوداع والإفاضة جاز لها؛ لأن المقصود من طواف الوداع أن يكون آخر العهد بالبيت طوافاً، وهذا يتحقق بطواف الإفاضة، فينوي طواف الإفاضة أصلاً وطواف الوداع اندراجاً، ينويه تحت طواف الإفاضة، فإذا نوى ذلك أجزأه، وسقط عنه طواف الوداع.
والله تعالى أعلم.(24/16)
فضل عشر ذي الحجة وأحكامها
السؤال
فضيلة الشيخ! لو تحدثت عن العشر الأوائل من شهر ذي الحجة وعن فضلها والعمل فيها، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما عشر من ذي الحجة فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح أنه قال: (ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة.
قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع بشيء من ذلك).
فدل هذا على فضل هذه الأيام المباركات، يغتنمها الإنسان في ذكر الله وطاعة الله، ويستكثر فيها من خصال الخير، وإن صامها فحسن صيامها، ولا حرج عليه في ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل الصالح) والعمل الصالح يشمل الصيام، بل إن الصيام من أفضل الأعمال الصالحة وأحبها إلى الله تبارك وتعالى؛ لما فيه من عبادة الصبر؛ ولما فيه -أيضاً- من كسر شهوة النفس.
إلى غير ذلك من فضائله.
وأما أحكام هذه العشر: فيسن فيها التكبير، قال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28] قالوا: هي عشر من ذي الحجة، وهو: التكبير المطلق، يكبر الإنسان سواءً كان تكبيره شفعاً أو وتراً: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر ولله الحمد.
وإن شفع فلا حرج عليه، وقد كان السالف الصالح يحيون التكبير، فهذا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يغدو إلى السوق وليس له حاجة في السوق فيكبر، فيكبر أهل السوق بتكبيره؛ إحياءً لهذه السنة.
فينبغي للإنسان أن يحرص على إحيائها، وأن يرفع صوته إحياءً لهذه الشعيرة؛ علّ الله أن يرفعه، فما رفع عبد شعيرة إلا رفعه الله عز وجل بها.
ومن أحيا سنة أحياه الله كما أحياها، فلذلك ينبغي إحياء هذه السنن، والحرص عليها والدلالة عليها، وقد كان الناس إلى عهد قريب يكثرون من ذكر الله في هذه العشر لفضلها.
قال بعض العلماء في قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] قالوا: هي عشر من ذي الحجة؛ لأن الله أقسم بها للدلالة على فضلها وشرفها، فهذا يدل على فضلها.
أما أحكامها: فإن الإنسان إذا نوى الأضحية في عشر من ذي الحجة فإنه لا يمس شعراً ولا يقلم ظفراً؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا دخلت العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمسن شيئاً من شعره).
والله تعالى أعلم.(24/17)
اختلاف العلماء في المراد بالحج الأكبر
السؤال
ما المراد بالحج الأكبر الوارد في كتاب الله؟ ولماذا سمي بالحج الأكبر؟
الجواب
قيل: هو يوم عرفة، وقيل: يوم النحر.
وقول بعض العلماء أن يوم النحر هو الحج الأكبر؛ لأنه يجتمع فيه طواف الإفاضة وكذلك تجتمع فيه الشعائر من رمي الجمار وحلق الرأس والتحلل.
وأما يوم عرفة فلأن عرفة هي الحج، ولكن القول الثاني قواه بعض العلماء لاجتماع الفضائل التي لا توجد في غيره.
والله تعالى أعلم.(24/18)
معنى التشريق
السؤال
ما معنى كلمة: التشريق، المذكورة في أيام التشريق؟
الجواب
هذا من تشريق اللحم، لكن الثلاجات أضاعت التشريق، كانوا يشرقون اللحم يقطعونه ويعرضونه للشمس.(24/19)
عدم وجوب الحج على المديون وإن حج فحجه صحيح
السؤال
إنني رجل عليَّ ديون كثيرة لا أستطيع سدادها، وإنني أملك سيارة كبيرة وأرغب في الحج والعمل بالسيارة، فهل يصح لي الحج وأنا مديون، أفيدوني جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما بالنسبة للشخص المديون فإن الأصل فيه أن يقضي دينه، ولا يجب الحج على المديون حتى يؤدي دينه؛ لأنه مطالب بقضاء حقوق عباد الله، وبعد أداء الحقوق يتوجه إليه الخطاب بالحج، فإذا كانت عليه ديون؛ فإنه غير مستطيع للحج، فلا يجب عليك الحج، لكن لو استأذنت صاحب الدين فأذن لك فحججت صح حجك وأجزأك، ولا حرج عليك؛ لأنك استأذنت.
وأما إذا كان الإنسان لم يستأذن فإن حجه أيضاً صحيح، ومسألتك التي ذكرتها من كونك ذاهب إلى مكة من أجل التجارة فيها وجه للترخيص؛ لأن ذهابك من أجل التجارة معونة على قضاء الدين، وليس المقصود الحج بأصله، فلذلك لما كان ذهابك متعيناً وأردت أن تصيب الأمرين -الحج والحاجة- فلا حرج عليك، وقد ورد الشرع بالإذن في ذلك، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198].
ولذلك ورد في الحديث أنها نزلت في قوم يحجون بنية التجارة، أي: جمعوا بين نية الحج والتجارة، على أن الحج أصل والتجارة تبع.
والله تعالى أعلم.(24/20)
تقديم طواف الوداع عن الرمي مخالف للسنة
السؤال
هل يجوز أن يخرج الحاج من منى قبل الظهر ويطوف طواف الوداع، ثم يعود إلى منى ويرمي، ثم يخرج إلى بلده؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن السنة المطلوبة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيها بطواف الوداع، أن يكون آخر العهد بالبيت طوافاً، فإذا طاف الإنسان طواف الوداع ورجع إلى منى لم يكن آخر عهده بالبيت طوافاً، ومن ثم فإنه ينبغي له أن يؤخر الطواف إلى ما بعد الرمي، وهذا قد يرخص فيه البعض من المتأخرين؛ ولكن لا أحفظ دليلاً يدل عليه، بل ظاهر حديث عائشة في الصحيح وغيره؛ أنها قالت: (كان الناس يصدرون من فجاج منى وعرفات، فأمروا أن يجعلوا آخر عهدهم بالبيت طوافاً) وهذا يدل على تعين المصير إلى البيت.
والله تعالى أعلم.(24/21)
حكم تأخير طواف الوداع إلى ما بعد الخروج إلى جدة ومن ثم العودة إلى مكة
السؤال
هل يصح لأهل جدة أن يؤخروا طواف الوداع إلى بعد النزول من الحج بيوم أو يومين -يقصد النزول إلى جدة- حيث يقول: إنني سمعت بعض العلماء يقول: يصح لأهل جدة أن يؤخروا طواف الوداع أي: قبل نهاية شهر ذي الحجة؟
الجواب
طواف الوداع يشرع للحاج إذا صدر عن البيت، فلو صدر بعد اليوم واليومين كما ورد في السؤال فلا حرج عليه، سواء كان من أهل جدة أو من غيرهم، بل لو أنه تأخر صدوره إلى آخر شهر ذي الحجة فإنه يطوف طواف الوداع عند صدوره.
أما في مسألة النزول فالسائل لم يبين أنه نزول إلى جدة أو غيرها، فنقول: المسألة فيها تفصيل: فإن كان نزولهم إلى مكة يبقون حتى يعقدوا العزم على الذهاب إلى بلدهم وهو جدة، فيطوفون إذا صدروا، وإما إذا كان نزولهم إلى جدة ورجوعهم بعد ذلك إلى مكة لطواف الوداع، فهذا محل نظر؛ لأن النص عام شامل لمن جاور البيت ومن كان بعيداً عن البيت، وتخصيصه بالاجتهاد محل نظر، ولذلك الذي يظهر من ظاهر النص أنه يطوف عند صدوره وانتهائه من حجه، لا يؤخر ذلك إلى نزلة أخرى أو ذهاب آخر.
والله تعالى أعلم.(24/22)
وجوب الإحرام لمن مر بميقات غير ميقاته إن نوى الحج
السؤال
رجل يريد أن يحج من جدة، ولكنه قبل الحج يريد أن يذهب إلى أبها لزيارة بعض الأقارب في شهر ذي الحجة، ويعود إلى جدة ليحرم منها، هل هذا يصح، علماً بأنه قد ارتبط مع جماعة للحج من هنا، فعليه أن يعود إلى جدة؟
الجواب
من خرج إلى أبها أو خرج إلى موضع غير جدة قاصداً زيارة رحم أو غير ذلك، ثم قدم وفي نيته الحج؛ فإنه يجب عليه أن يحرم من ميقات يلملم لماذا؟ لأنه يمر بالميقات ناوياً الحج بذلك السفر، صحيح أنه سيمر بجدة، ولكنه يمرها متوقفاً، وهذا السفر إلى جدة ليس أصالة، والمقصود أصالة: أن ينزع منها إلى مكة؛ فلذلك يجب عليه أن يحرم من ميقات أهل أبها، وذلك لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في المواقيت: (هن لهن، ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ممن أراد الحج والعمرة).
صحيح أنك من أهل جدة، ولكن لما مررت بميقات أبها وما جاورها -وهو يلملم- فإنك أخذت حكم أهلها.
والله تعالى أعلم.(24/23)
جواز الإتيان بعمرة التمتع يوم التروية
السؤال
هل يجوز أن آتي بعمرة التمتع يوم الثامن من ذي الحجة؟
الجواب
نعم يجوز للإنسان أن يأتي بالعمرة في اليوم الثامن من ذي الحجة، وبعد ذلك يتحلل ولو بتقصير شعره، ثم يلبس مرة ثانية، فإن نزع ولبس ثيابه يعود مرة ثانية ويلبس إزاره ورداءه ويمضي إلى منى، وإلا مضى إلى عرفات إن تأخر إلى يوم عرفة.
والله تعالى أعلم.(24/24)
الموضع الذي يحرم منه من له بيت بمكة وخارجها
السؤال
رجل له بيت في مكة وبيت في جدة وعمله في جدة، يمكث في جدة مع أهله أربعة أيام، وبقية أيام الأسبوع يقضيها في مكة -أيضاً- مع أهله، حيث يذهب بهم من جدة إلى مكة، فمن أين يحرم؟
الجواب
هذه المسألة يعتبرها العلماء -رحمهم الله- مسألة المكي الذي يأخذ حكم الآفاقي من وجه، يعني: يعتبر صاحب منزلين، يعتبر آفاقياً من وجه، ويعتبر مكياً من وجه آخر، ومثلوا لها بصاحب التجارة بصاحب المزرعة، أن يكون له -مثلاً- بيت في المدينة وبيت في مكة، فيعطى حكم أهل مكة إن كان بمكة، ويعطى حكم أهل المدينة إن كان بالمدينة.
ولذلك أقول: إذا أنشأت نية الحج فإن كنت في جدة أخذت حكم أهل جدة، وإن كنت في مكة أحرمت من مكة وأخذت حكم أهلها، فينظر إلى الحالة التي عقدت العزم فيها على الحج، فيجب عليك الإحرام من موضعك.
والله تعالى أعلم.(24/25)
من اعتمر في رمضان وحج من عامه دون أن يقرن حجة بعمرة لا يكون متمتعاً بل مفرداً
السؤال
أريد أن أحج متمتعاً، هل تكفيني العمرة التي أديتها في رمضان؟
الجواب
بالنسبة للمتمتع لا يعتبر الإنسان متمتعاً إلا إذا أوقع العمرة في أشهر الحج، وأشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
وتوضيح ذلك: أنك إذا أحرمت بالعمرة في رمضان، وتحللت منها في رمضان، ثم حججت في عامك ذلك دون أن تقرن مع حجك عمرة؛ فأنت مفرد ولست بالمتمتع، هذا إذا وقعت العمرة بكاملها في رمضان.
ولذلك أقول: من أحرم في رمضان، لا يخلو من حالتين: الحالة الأولى: أن يوقع العمرة بكاملها في رمضان، وحكمه أنه مفرد كما قلنا.
الحالة الثانية: أن يوقع بعض العمرة في رمضان وبعضها في شوال، مثال ذلك: شخص قبل غروب شمس آخر يوم من رمضان لبى بالعمرة ونوى، ولم يطف ولم يسع إلا صبيحة يوم العيد أو ليلة العيد، فهذه مسألة خلافية عند العلماء رحمهم الله: القول الأول: فمذهب طائفة من العلماء: أن العبرة في الإحرام بالنية، قالوا: إذا أتى الميقات ونوى قبل غروب شمس آخر يوم فهو مفرد، وإن نوى بعد غروب شمس ذلك اليوم فهو متمتع، وهذا مذهب طائفة ومنهم الظاهرية.
القول الثاني: في أن العبرة بدخوله مكة، وهو مذهب بعض السلف ومنهم عطاء، فإن دخلها قبل غروب الشمس كان مفرداً، وإن دخلها بعد الغروب كان متمتعاً.
والقول الثالث: العبرة بطوافه، فإن طاف وابتدأ الطواف قبل غروب الشمس فهو مفرد، وإن ابتدأ الطواف بعد غروب الشمس فهو متمتع.
والقول الرابع: قول الحنابلة والحنفية في أن العبرة بأكثر الطواف.
والقول الخامس: قول المالكية في أن العبرة بالتحلل.
فهذه خمسة أقوال في المسألة، أصحها -والعلم عند الله-: أن العبرة ببداية الطواف، فإن ابتدأت الطواف في ليلة العيد بعد مغيب شمس آخر يوم من أيام رمضان فأنت متمتع، وإن كان قد وقع بداية الطواف قبل الغروب فأنت مفرد.
أما بالنسبة للمتمتع فيشترط ألا يرجع إلى بلده بعد العمرة؛ لأن حقيقة التمتع أن يجمع بين النسكين في سفر واحد، فإذا كان قد رجع من عمرته وأتى بسفر مستقل للحج فهو غير متمتع، وإنما يعتبر مفرداً، ومن هنا أهل جدة لو نزلوا للعمرة ثم رجعوا بعد العمرة وما أقاموا بمكة، ثم حجوا من عامهم فهم مفردون لا متمتعون ولا دم عليهم.
والله تعالى أعلم.(24/26)
أقوال العلماء في كون الرسول صلى الله عليه وسلم أوتر ليلة النحر أم لا
السؤال
هل أوتر الرسول صلى الله عليه وسلم ليلة النحر؟
الجواب
هذه المسألة للعلماء فيها وجهان: يقول بعض العلماء: إنه لم ينقل أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر ليلة العيد -وهي ليلة النحر-، فلذلك نقول: إنه لا يسن فعل الوتر ليلة العيد، ولأنه ما دام لم ينقل ذلك؛ فإن هذا يدل على أنه لا يسن فعل الوتر.
ويقول جمهور العلماء: إنه يسن للإنسان أن يوتر ليلة العيد؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أوتروا يا أهل القرآن) ولم يقل إلا ليلة النحر، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (أوتروا قبل أن تصبحوا)، وقال: (صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الفجر فليوتر بواحدة) ولم يقل: إلا ليلة النحر، قالوا: فهذه نصوص تأمر بالوتر وتحث عليه، كما في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (إن الله أمركم بصلاة هي خير لكم من حمر النعم، وهي الوتر).
فلذلك قالوا: هذه النصوص ليس فيها تخصيص، وسكوت الصحابي عن الرواية لا يدل على الإسقاط، إذ قد يكون الصحابي سكت عنه للعلم به، وعدم اطلاع الصحابي لا يدل على النفي أيضاً.
ثم أكدوا ذلك بأمر ثانٍ، قالوا: لو أن إنساناً قال: لا يشرع للإنسان أن يصلي سنة الفجر صبيحة يوم العيد، هل هو مصيب أم مخطئ؟ قالوا: لا هو مخطئ، إذاً لماذا الوتر فقط؟ وفي رغيبة الفجر لم ينقل لنا أنه صلاها أيضاً صبيحة العيد.
فالذي يظهر -والعلم عند الله-: أن يأخذ الإنسان بالأحوط، وإن أخذ بالقول الثاني فلا حرج عليه، والأمر على السعة: من ترك متأولاً السنة كتب له الأجر، ومن فعل متأولاً السنة كتب له الأجر.
والله تعالى أعلم.(24/27)
حكم مشط الشعر للمحرم
السؤال
هل يجوز للإنسان -رجلاً أو امرأة- أن يمشط شعره وهو محرم، وإن تساقط شعر من رأسه فهل عليه دم؟
الجواب
يجوز للإنسان أن يمشط شعره لكن بحيث لا يسقط الشعر، ومن العلماء من منع ذلك لأنه اعتبره نوعَ ترفهٍ، وليس هناك نص يدل على المنع؛ ولكن الأولى والأسلم أن يحتاط الإنسان فلا يمشطه؛ لأنه نوع من الترفه، فلو تركه كان أولى؛ لكن الحكم بحرمة ذلك وتحريمه يحتاج إلى دليل، وقالوا: إنه ليس هناك دليل يدل على المنع من ذلك، والأصل الإباحة.
والله تعالى أعلم.(24/28)
كيفية ذكر الله عز وجل في الحج وتبيين مواضعه
السؤال
هل للشيخ أن يخبرنا أو ينبئنا عن مواضع التكبير والتلبية والدعاء في الحج؟
الجواب
أما بالنسبة للتلبية فإنه يسن الإكثار منها، ولذلك ورد عند ابن ماجة (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما من مسلم يضحى لله -الضحى: أول النهار- يلبي فتغيب عليه الشمس؛ إلا غابت بذنوبه؛ فرجع كيوم ولدته أمه) يعني: إذا استدام التلبية.
وورد عنه عليه الصلاة والسلام -أيضاً- عند ابن ماجة أنه قال: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه ويساره من حجر وشجر ومدر حتى تنقطع الأرض) فكل شيء يحب ذكر الله عز وجل من الجمادات وغيرها من مخلوقات الله عز وجل، ولكن ما أعصى الثقلين! فلذلك يسن للإنسان أن يكثر من التلبية على كل حال، أن يستديمها وأن يكثر منها، وهي ذكر مشروع، والسنة أن يرفع صوته بها، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (الحج: العج والثج) (العج): رفع الصوت وذلك بالتلبية والنسك.
وأما (الثج) فهو: نحر الأضاحي، ونحر الهدي لمن كان متمتعاً أو قارناً.
فالمقصود: أن الإنسان ينبغي أن يكثر من التلبية.
وأما التهليل والتكبير فهو جائز للحاج فله أن يهلل يوم عرفة، كما ثبت في الصحيح من حديث أنس رضي الله عنه وأرضاه أنه قال: (غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عرفة فمنا الملبي، ومنا المهلل، ومنا المكبر) فدل هذا على أنه يسن أن يذكر الله بالتلبية وأن يذكره بالتهليل وأن يذكره بالتكبير.
والله تعالى أعلم.
لكن بالنسبة للتكبير يكبر عند رمي الجمار، ويكبر مع كل حصاة؛ لأنها سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ويكبر أيام منى، وذلك إحياءً لذكر الله في ذلك الموضع المبارك، كما أمر الله تعالى بذلك في قوله: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203].
فينبغي للحاج أن يشتغل بالذكر والتكبير في هذه الأيام، وهذه السنة -كما قلنا- أضاعها والله كثير.
فإذا مضيت في شوارع منى وفي أسواقها فارفع صوتك، فما جعلت منى إلا لأجل هذا التكبير، تكبر الله تحمد الله تهلل الله تجل الله عز وجل حق إجلاله.
والله تعالى أعلم.(24/29)
حكم تكرار الموجب للدم مع اتحاد الجنس واختلافه
السؤال
هل يتكرر على الحاج الدم مع تكرر موجبه كأن ترك واجباً أو غيره؟
الجواب
هذه المسألة فيها تفصيل: إذا كان الواجب أو المحظور وترك الإنسان شيئاً متحداً من جنس واحد، مثلاً في محظورات الإحرام: لو تطيب فإنه لا يخلو إما أن يكرر هذا الموجب مع اتحاد الجنس، أو يتعدد الموجب، فقولك: وجوب الدم إذا ارتكب الإنسان محظوراً من جنس واحد وكرره؛ وجبت عليه فدية واحدة، مثلاً: تطيب أربع مرات، تطيب المرة الأولى الساعة الثانية، والمرة الأخرى الساعة الثالثة، ثم الرابعة فالخامسة، فإذا كان لم يفتد عن الطيب الأول فإنه يفتدي بفدية واحدة عن الأربع؛ لأنها من جنس واحد، كما لو جامع في نهار رمضان أكثر من مرة في يوم واحد؛ فإن عليه كفارة واحدة.
هذا بالنسبة إذا اتحد الموجب، وأما إذا اختلف النوع، ومن أمثلة ذلك: أن يكون أصاب طيباً وحلق شعراً وقلم أظفاراً؛ فللشعر فدية وللطيب فدية ولتقليم الأظفار فدية؛ لأن كل نوع منها مستقل.
أما لو اتحدت الأسباب، وكانت من جنس واحد؛ فإنها -ولو تعددت- تجب فدية واحدة، ويجب -أيضاً- دم واحد.
والله تعالى أعلم.(24/30)
حكم من دخل مكة أيام الحج للعمل ثم أحرم منها وحج
السؤال
أنا من سكان جدة، وذهبت للعمل في مكة يوم السابع من ذي الحجة، وفي صبيحة يوم عرفة أحرمت من منى بنية الحج مفرداً، فهل يصح ذلك؟
الجواب
هذا فيه تفصيل: إذا كان الشخص قد خرج من جدة للعمل بمكة في أيام الحج، فلا يخلو حال خروجه من حالتين: إما أن يخرج وفي نيته أن يحج ذلك العام، فحينئذ يجب عليه أن يحرم من جدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن كان دون ذلك فإحرامه من حيث أنشأ) فهذا أنشأ الحج من هذا الموضع؛ فوجب عليه الدم في هذا الموضع.
وإما أن يكون قد خرج من جدة وهو على إحدى حالتين: الحالة الأولى: أن يقول: لا أريد أن أحج، وليس في نيتي الحج.
الحالة الثانية: متشكك، كأن يكون لا يدري هل يسمح له أو لا يسمح.
ففي هاتين الحالتين يجوز له الدخول، فإذا عقد العزم أحرم من موضعه الذي عزم فيه، ولا دم عليه.
والله تعالى أعلم.(24/31)
حكم من وقف بعرفات ثم سافر ولم يتم بقية المناسك
السؤال
ما حكم من حضر عرفة وجمرة العقبة، ثم سافر إلى بلده بدون أن يأتي بباقي المناسك؟
الجواب
باسم الله الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: اعلموا رحمكم الله! أن المقصود من الحج أن يحقق الإنسان طاعة الله عز وجل، ويترسم هدي النبي صلى الله عليه وسلم بفعل المناسك على الوجه الذي يرضي الله، ومن ثم فإنه من الخطأ كل الخطأ التساهل في المناسك، والنظر إلى وجود جبرانها، ولذلك كان من الخطأ ترك المبيت ورمي الجمار.
فمن فعل هذا فقد ارتكب ذنباً بتركه المبيت، وهل ذلك لكل ليلة بحسبها، أم أن جميع الليالي تعتبر ليلة واحدة؟ للعلماء في هذا وجهان.
أما الأمر الثاني فعليه دم أيضاً على ترك رمي الجمرة؛ لأن رمي الجمار في باقي أيام التشريق التي تلي يوم العيد واجب ما عدا يوم النحر، الذي يخير الإنسان فيها بين التعجل والتأخر.
وبناءً على ذلك فإنه يلزمه دم.
وهنا مسألة أحب أن أنبه عليها: بعض الناس يفعل المحظورات، فيقال له: لا شيء عليك إلا أن تذبح دماً.
لا، من ترك واجباً من واجبات الحج عليه أمران: أحدهما: التوبة والندم والاستغفار، وهذا أمر مهم جداً يُغفل كثيراً في الفتاوى، نقول: عليه الندم والاستغفار، لأنه ترك أمراً أوجب الله عليه فعله.
أما الأمر الثاني: ضمان ذلك الحق، وذلك بالدم الذي يسمى: دم الجبران، فليس كون وجود الدم يعفي الإنسان من حصول الإثم عليه، ينبغي على الإنسان أن يتوب إلى الله وأن يستغفر الله، وإذا قصر في واجب من واجبات الحج دون أي عذر، فعليه أن ينيب إلى الله، وأن يستغفر الله؛ لأنه نوعُ استخفاف بشعيرة من شعائر الله.
والله تعالى أعلم.(24/32)
حلاوة الإيمان
الإيمان بالله تعالى له حلاوة ولذة، وهذه الحلاوة لا يذوقها كل أحد، بل يذوقها من توفرت فيه ثلاث خصال، وهذه الخصال الثلاث جاءت في الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي: محبة الله ورسوله أكثر مما سواهما، والمحبة في الله، وكراهة العودة إلى الكفر، فمن توفرت فيه هذه الخصال فإنه يشعر بحلاوة الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو الواحد المعبود، والذي من أجله كان الوجود.(25/1)
الإيمان سر سعادة القلوب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه وبالحق أرسله، فأحيا الله به القلوب، وأنار به السبل والدروب، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين ما آذنت شمس بغروب.
أما بعد: إخواني في الله! ليس هناك نعمة أعظم من نعمة الإيمان، وليس هناك منة من الله تبارك وتعالى أجل ولا أعظم من منة التوفيق لطاعة الرحمن، الإيمان الذي هو أعظم قضية وأعظم شيء من أجله كان الوجود، الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو الواحد المعبود، من أجله كان الليل والنهار، ومن أجله كان العشي والإبكار، ومن أجله خلقت السماوات والأرض، ومن أجله كان الحساب والسؤال والعرض، الإيمان الذي ما من لحظة من لحظات حياتك، وما من برهة من زمانك إلا وهي مذكرة بهذه القضية العظيمة، ما من حركة في هذا الوجود وما من سكون في هذا الكون إلا وهو يذكرك بالواحد العظيم المحمود، يذكرك بالله الذي لا إله إلا هو المعبود.
قبل ساعات يسيرة كنا في ضياء النهار، وفي هذه اللحظة العجيبة نعيش في هذا الظلام الدامس، وفي هذا الليل البهيم العابس، وهو يذكرك بالله، ويذكرك بأن لا إله إلا الله، هذه السماوات في هذا الليل البهيم قد أشرقت كواكبها واستنارت نجومها لكي تدلك على هذه القضية العظيمة، فبعد ساعات يسيرة إذا بالليل يذكرك بالله، ويؤذنك بأن لا إله إلا الله حتى إذا حان أفوله ودنا ذهابه وزواله فجاء ضياء الفجر وانفجر، وشع ضياء الشمس في الأفق وانتشر، وإذا بدليل جديد يذكر بالعظيم الحميد.
الإيمان الذي كل شيء في هذا الوجود يحققه ويصدقه ويدل عليه، يشهده الإنسان في جميع أحواله وفي جميع أطواره، آيات الزمان وآيات المكان تهديك إلى توحيد العظيم المنان؛ لذلك -أحبتي في الله- ما خلق الله الإنسان إلا من أجل الإيمان، ولا أوجده الله عز وجل إلا من أجله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ما خلق الإنسان إلا لكي يعمر قلبه بتوحيد الواحد الديان، وأسعد لحظة في الحياة والعمر تلك اللحظة التي يحس فيها العبد أنه مؤمن حقاً بالله عز وجل، إن أسعد لحظة في الحياة إذا مُلئ القلب يقيناً بالله عز وجل، وأصبح الفؤاد يعيش مع الإيمان في كل حركة من حركات الإنسان وسكونه، إنه اليقين بالله والإيمان به.
السعادة والشقاء الفلاح والطلاح الربح والخسارة النجاة والهلاك، فما بين العباد وبين الله قضية أعظم من هذه القضية، ولا بين الله وبين العباد شيء يُتقرب به إلا بعد هذا الأساس العظيم، فأعظم ما يَعتني به المؤمن في هذه الحياة هو تغذية قلبه بالإيمان بالله، فما دخل الإيمان قلباً إلا انشرح لله، ولا دخل الإيمان صدراً إلا اطمأن بذكر الله، وليس هناك ساعة أبهج من تلك الساعة التي عرف فيها العبد ربه، ودنا فيها من خالقه فعمَّر قلبه بتوحيده وذل العبودية له سبحانه وتعالى.
هذا الإيمان الذي هو الباب الوحيد بينك وبين الرحمن، له لذة وأثر في القلوب، هذه اللذة هي حلاوته وطلاوته، ما أصابها مؤمن إلا ذاق حلاوة الالتزام، ولا وجدها مؤمن إلا أصاب محبة الرحمن، إن هذه الحلاوة تحتاج من المؤمن -أولاً- إلى جهاد صادق وسير حثيث في طاعة الله ومرضاته، وكل حلاوة لها لذة عند الإنسان بقدر ذلك الشيء الذي يذوق حلاوته، فإذا كان الشيء الذي تُذَاقُ حلاوته هو أعظم الأشياء وأجلها عند رب الأرض والسماء، فهي الحلاوة التي لا ألذ منها؛ إنها حلاوة الإيمان ولذة الطاعة والعبودية للرحمن، التي تجد الإنسان فيها ومعها إذا أصابته الضراء صبر، وإذا أصابته السراء شكر حلاوة الإيمان التي إذا ذاقها الإنسان نسي كل لذة من معاصي الله إنها حلاوة كانت سبباً في هجران الشهوات وترك الفواحش والمنكرات، والتذلل لله رب الكائنات، فما أعظم سلطان الإيمان على القلوب، وما أجل حلاوة الإيمان في القلوب.(25/2)
علامات حلاوة الإيمان
إن لحلاوة الإيمان أمارات وعلامات دل عليها نبينا المصطفى، وحبيب ربنا المجتبى صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيح من حديث العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب الرجل لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في النار) ثلاث خصال تحتاج إلى رجال متذللين متعبدين للكريم المتعال، خصلة بينك وبين الله، وخصلة بينك وبين أحباب الله، وخصلة بينك وبين دين الله وشرعه، هذه الثلاث الخصال يعرضها المؤمن على قلبه في كل زمان ومكان، فإن وجدها في فؤاده وفي نفسه أحس بلذة الإيمان، وإن نقصت هذه الخصال نقصت لذة الإيمان في قلبه لا سمح الله.(25/3)
كراهة الانتكاس والخوف منه
إذا وفق الله الإنسان بتحقيق هذه الخصلة الثانية من خصال حلاوة الإيمان وهي: الحب في الله، والبغض في الله جاءت الثمرة الثالثة وهي: (أن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يُلقى في النار) أن يكره الانتكاسة، ولذلك إذا دخل الإيمان إلى قلب العبد وصدق في هذا الإيمان، فإن من أبرز الدلائل على صدقه خوفه من الانتكاسة، وكلما وجدت الشاب يخاف من الانتكاسة والرجوع والحور بعد الكور، فإن ذلك دليل على إيمانه، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يخافون النفاق، وقال بعض السلف: (والله ما عرضت قولي وعملي على القرآن إلا اتهمت نفسي بالنفاق) وقال آخر: (والله ما عرضت نفسي على القرآن إلا عددتها من الراسخين في النفاق).
الخوف من الانتكاسة يشمل حالتين: الحالة الأولى: الخوف من الكفر، وهو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم: (وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يلقى في النار) ولو قيل للإنسان: أتكفر بالله أو تلقى في النار؟ لاختار أن يلقى في النار على الكفر بالله، وهذا لأن الإيمان عمر قلبه وتغلغل في فؤاده.
نسأل الله العظيم أن يبلغنا وإياكم هذه الدرجة، وأن يجعلنا وإياكم في هذه المنزلة، فإن الإنسان لا يأمن من سوء الخاتمة: {أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ} [الأعراف:99] فهذا استفهام يدل على أن الإنسان مهما كان على صلاح لا يأمن من مكر الله، ولذلك قال بعض العلماء: (كلما ازداد الإنسان صلاحاً وتقوى لله عز وجل، كلما كان أخوف من أن يعود على عقبه فيكون خاسراً) فهذه الخلة وهذه الخصلة تدل على إيمان الإنسان؛ لأنه لما عمر قلبه وذاق حلاوة الإيمان خاف من الضد، ولا يخاف من الكفر إلا المؤمن الصادق في إيمانه، ولذلك نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت إلى لقائه، وأن يجعل الإيمان الذي لامس قلوبنا في زيادة إلى لقائه وألا يبتلينا بالانتكاسة.
والحالة الثانية هي: (الخوف من نقصان الخير)، ولذلك قال بعض العلماء: (من رزقه الله طاعة كقيام الليل وصيام النهار فأصبح يتردى فيها وينتقص فعليه أن يجاهد في الرجوع إليها؛ فإنه لا يؤمن عليه أن يخذله الله عز وجل فيرجع على عقبه خاسراً والعياذ بالله) ولذلك ينبغي للإنسان المؤمن أن يراقب نفسه دائماً في طاعة الله، فإذا كان على خصلة من خصال الخير لا يتركها مهما كان الأمر، والله تعالى يبتلي الإنسان؛ فإن كنت في قيام الليل سخر لك بعض المشاغل وابتلاك ببعض الشواغل، فإن كنت صادقاً في الإيمان وثبت عليها أذاقك بعد ذلك حلاوة الثبات، وقد قال إن بعض العلماء: (إن الإنسان إذا أطاع الله وتقرب إليه بخصلة من خصال الخير فجاءه الشيطان بفتنة، فليعلم أن الله يمتحنه في تلك الخصلة) فما من إنسان يمتحن في خصلة من الطاعات ويثبت عليها بعد امتحانه إلا ذاق حلاوتها إلى لقاء الله غالباً، وقد قال بعض السلف: (جاهدت نفسي في الصلاة عشرين عاماً فتلذذت بها أربعين عاماً) عشرون عاماً والوساوس والخطرات وشواغل الدنيا تأتيه من كل حدب وصوب، وهو صابر محتسب حتى أذاقه الله حلاوة الصلاة فزالت عنه جميع تلك الخطرات، ولذلك الشاب الملتزم في أول التزامه تأتيه من الوساوس والخطرات مالا يعلمه إلا الله عز وجل، فإذا صبر وصابر واحتسب زالت عنه كما يزول الليل بضياء النهار، وفي بعض الأحيان تزول عنه في لحظة لا يشعر بها، وإذا بقلبه أكمل ما يكون انشراحاً وطاعة لله عز وجل.(25/4)
المحبة في الله
الخصلة الثانية: (المحبة في الله) أوثق عُرى الإسلام بعد الإيمان: الحب في الله والبغض في الله عز وجل.
ما هي أسباب المحبة الصادقة؟ ومتى تعلم أنك تحب لله وتعادي لله؟ قال بعض العلماء رحمهم الله: (لن تكون المحبة لله وفي الله إلا إذا كان السبب الباعث إليها هو الله عز وجل) يقولون: يُحب العبد لله إذا نظرت عينه من العبد ما يُرضي الله أو سمعت أذنه من العبد ما يُرضي الله؛ ولذلك إذا كان الإنسان كاملاً في إيمانه ودخل في أي مكان فرأت عينه عبداً لله في طاعة أحبه، وهو لا يعرف اسمه ولا نسبه، ولربما تكون تلك اللحظة التي رآه فيها على طاعة الله هي أول لحظة رآه فيها.
من كمال الإيمان: أن يكون السبب الباعث والداعي إلى المحبة هو الله والدار الآخرة؛ ولذلك هذه العلامة من علامات الإيمان حتى قال بعض العلماء: (إذا أراد الإنسان أن يختبر كمال إيمانه فليختبره بالحب في الله والعداوة في الله) وهذا شيء مشاهد مجرب، جرب يوماً من الأيام لو دخلت المسجد وكان القلب في نشوة من الإيمان فتلتفت يميناً فترى المصلي فتحبه، وتلتفت شمالاً فترى قارئ القرآن فتحبه، وتنظر أمامك فترى إنساناً يذكر الله فتحبه، وهذا من كمال الإيمان، وإذا كان قلبك في ضعف من الإيمان ودخلت المسجد على تلك الحالة دخلت وأنت في سهو وغفلة، ولذلك تجد أحباب الله وأولياءه يجمعهم مجلس كهذا حتى إذا انصرفوا سلم بعضهم على بعض وعانق بعضهم بعضاً؛ لأنهم يعلمون أن الذي حضر هذا المكان يريد الله والدار الآخرة، فما حضره أحد إلا أحبه مؤمن ووالاه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] فالله ألف بين القلوب بالإيمان.
وليس هناك جامعة جمعت بين العباد أطهر وأصدق وأعظم تأثيراً من جامعة الإيمان، التي جمعت في أول الإسلام بين المهاجرين والأنصار، وجمعت في حاضر الإسلام بين عباد الله الأخيار، قلوب تجتمع على إيمانٍ بالله وطاعة لله ورسوله، فنعم القلوب ونعم ما اجتمعت عليه، الناس يجتمعون على الشهوات والملهيات، ولكن من ذاق حلاوة الإيمان يجتمع مع إخوانه على طاعة الله ومحبته، فالدليل الصادق على المحبة في الله أن يكون السبب الداعي إليها طاعة الله ومرضاته.
وقرر بعض العلماء أن الناس في الحب في الله والعداوة في الله على مراتب: فبعض الناس يكون في أعلى مرتبة من المحبة في الله والعداوة في الله، وبعض الناس دون ذلك، ومهما اجتمع الأخيار على قاعدة الحب في الله والموالاة في الله فبين بعضهم بعضاً في هذه القاعدة كما بين السماء والأرض، ولذلك كلما اجتمعت القلوب على طاعة وكانت صادقة في المحبة في الله كلما كانت الألفة بينها، وكثير من الأخيار أول ما اجتمعوا على الحب في الله وكان اجتماعهم صادقاً في الموالاة لله عز وجل، كانت قلوبهم أخشع ما تكون لله عز وجل، ولو نظر الإنسان إلى مجالسه الأولى عند بداية هدايته كيف كانت تلك المجالس، وكيف كان العبد يجلسها قبل أن يجلسها وهو ضعيف إيمان ثم إذا قام منها قام وهو أكمل ما يكون إيماناً.
لذلك فإن الإنسان إذا أحب أخاه في الله ينبغي أن يراقب أحاسيسه ومشاعره في هذه المحبة، ولذلك قال بعض العلماء: (إن الشيطان قد يدخل على الإنسان من باب المحبة في الله، تبدأ محبة في الله ثم تنقص يوماً فيوماً حتى تصبح محبة للدنيا والعياذ بالله) فينبغي لك -أيها الإنسان- إذا أحببت أحداً في الله أن تراقب قلبك كل يوم في تلك المحبة، ولتعلم أنك مأجور على تلك المحبة التي هي من أعمال القلوب، ولن يدعك الشيطان طرفة عين فلربما يكون حبيبك في البداية حبيباً لله عز وجل، فترى يوماً من الأيام غناه أو ترى حسبه أو نسبه أو جاهه فيدخل الشيطان بشعبة من شعب القلب فيفسد تلك المحبة من تلك الشعبة، فتكون البداية رحمة والنهاية عذاب والعياذ بالله.
ينبغي للإنسان -إذا أحب في الله وأراد أن يذوق حلاوة الإيمان بسببها- أن يكون صادقاً في هذه المحبة، وألا يجلس مع أخيه في الله إلا وهو يرجو الله والدار الآخرة.
ولهذه المحبة الصادقة لوازم ذكرها العلماء في خصلتين: الخصلة الأولى: أمر بالمعروف، والخصلة الثانية: نهي عن المنكر، وكل إنسان مهما كان على طاعة واستقامة ومحبة فهو يحتاج إلى إخوانه؛ يحتاج إلى من يُذكره بالله إذا نسي، ويثبته على طاعة الله إذا ذكر، فمن لوازم المحبة في الله أن يعين الأخ أخاه على طاعة الله ومحبته، بل إن بعض العلماء قال: (إن الإنسان لو قال لأخيه: إني أحبك في الله، ثم رأى من أخيه تقصيراً -ولو في ذكر الله- حاسبه الله عن ذلك التقصير والسكوت عنه).
فالمحبة في الله أمر يحتاج إلى تصديق وتحقيق، فلا يكفي قول بعضنا لبعض: إني أحبك في الله، المحبة في الله شهادة على عروة وثقى من عرى الإسلام ينبغي أن تُغذى بطاعة الله ومرضاته.
وقد ذكر الله عز وجل لهذه المحبة آثاراً طيبة؛ من أعظمها: أنها تعين على طاعة الله ومحبته، وأشار إلى ذلك بقوله عن نبيه موسى قال: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} [طه:25 - 35] فالأخ في الله يعينك على ذكر الله وطاعته الله.
ومن ثمرات الأخوة في الله: أنها أعظم معين على البعد عن محارم الله وحدوده، ولذلك الإنسان إذا حدثته نفسه بشهوته أو حدثته نفسه بأمر بينه وبين الله أن يفعله من معاصي الله فما عليه إلا أن يجلس مع أخ في الله يرهبه من عذاب الله، ويذكره ببطشه الله عز وجل وعقوبته.(25/5)
محبة الله ورسوله
الخصلة الأولى: بينك وبين الله عز وجل وهي: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما) والكلام في محبة الله والرسول صلوات الله وسلامه عليه ينحصر في أمرين وثالثهما هو الثمرة.
أما الأمر الأول: فإن العلماء رحمهم الله يقولون: كل محبة من العبد لها سبب، وهذا السبب إما أن يكون دنيوياً محضاً، أو أخروياً محضاً أو جامعاً بين الدنيا والآخرة؛ ولكن محبة الله عز وجل جمعت هذه الثلاثة الأسباب، فمحبة الله تكون لسبب ديني محض وهو: نجاتك في الدنيا والآخرة، وتكون لسبب دنيوي محض فلا سعادة في الحياة إلا بطاعة الله.
ولست أرى السعادة جمع مالٍ ولكن التقي هو السعيد وتكون جامعة بينهم بما ذكرنا.
أما محبة الله فقد قال العلماء رحمهم الله: إن الأسباب كلها تهيأت من أجلها، فلو أن إنساناً أحب والده لعظيم إحسانه وجليل يده عليه وكريم امتنانه، فكيف بالله جل وعلا الذي ما من طرفة عين إلا وأنت ترفل في نعمة منه لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى؟ إن كانت المحبة للإحسان فأين أنت من إحسان الله؟ وإن كانت المحبة للنعم فأين أنت من نعم الله؟ وإن كانت المحبة لدفع النقم فأين أنت من النقم التي دفعها الله؟ تفكر وتدبر لو أنك في يوم من الأيام قد ضاقت بك السبل وتعسرت عليك الأسباب في دين أو كربة أو هم من الدنيا أو حاجة، فاحتجت إلى من يعينك ويساعدك، وإذا برجل وفي يدنو منك في تلك الساعة العصيبة فمد لك يد المساعدة، وأعطاك ما تحتاجه، لو أن عبداً فعل ذلك لأسرك بمعروفه، ولأصبحت تتحدث بذلك المعروف وتثني عليه ليلاً ونهاراً، وعشياً وإبكاراً، وتثني عليه أمام أبنائك صغاراً وكباراً، فأين نعم الله؟ وأين منن الله؟ كم من كربة فرجها الله عنك، وكم من كربة في ظلمات الليل جاءك السقم والمرض وحولك الأبناء والبنات والإخوان والأخوات، فتألمت وتأوهت، ونظرت يميناً ويساراً فلم تجد معيناً سواه، ولا مجيراً عداه، ولا مغيثاً غيره جل في علاه، فقلت: رباه! رباه! فناديته بقلب لا يعرف سواه، وتعلقت به سبحانه وتعالى، وفي لحظة واحدة آتاك رحمته، وأسداك منته، ففرج عنك الكرب الذي تألمه، وأزال عنك البلاء الذي تجده، فهل ذكرت معروفه يوماً من الأيام؟ وهل أثنيت عليه أمام الأنام؟ وهل ذكرت فضله تبارك الله رب العالمين؟ أحبتي في الله! ليس هناك محبة أصدق من محبة الله عز وجل، وليس هناك أحد يحب على الحقيقة كمحبة العبد لربه، ومهما أحببت شيئاً فأنت مغالٍ فيه إلا الله تبارك الله رب العالمين، فإنك مهما أحببته وأجللته، ومهما أعظمته وأكبرته، فأنت المقصر في حقه سبحانه وتعالى.
محبة الله عز وجل لها أمارات ولها دلائل وعلامات بيّنها العلماء رحمهم الله، ومن أحسن من عبر عن تلك المحبة أحد العلماء رحمهم الله بقوله: (تحصل محبة الله بفعل واجباته وترك مخالفته، فإذا تهيأ للعبد ذلك كان محباً لله) إذا اجتمعت الخصلتان في العبد -فعل فرائض الله وترك محارم الله- فهو حبيب الله عز وجل.
قال بعض العلماء: (يستدل على محبة العبد لله بتوفيق الله عز وجل للعبد لطاعته) وبمقدار ما يقصر العبد في الواجبات وبمقدار ما يقع في فعل المحارم والمنكرات كلما كان ذلك نقصاناً في محبته لله عز وجل، ولذلك ما استقرت محبة الله في قلب عبد إلا وجدته أنشط ما يكون لفعل فرائض الله، وأبعد ما يكون عن حدود الله ومحارم الله عز وجل، فمن أحب الله انتظر في كل لحظة أمراً من أوامره حتى يلبي ذلك الأمر، وانتظر في كل لحظة من لحظاته نهياً من النواهي حتى يتقرب إلى الله عز وجل في ترك ذلك المنهي.
لذلك أحبتي في الله! دلائل محبة الله في هذين الأمرين، وفي تحقيق هاتين الخصلتين: فعل فرائض الله وترك محارم الله، وكلما وقف الإنسان أمام فرضٍ من فرائض الله أو أمام حدٍ من حدود الله فليعلم أنه ممتحن في محبة الله عز وجل.
أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي -بعد محبة الله- أشرف مأمول وأعظم محصول، من وفقه الله لمحبة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فقد وفقه لطريق من طرق الجنة، فما أحب عبد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعطش لسنته وتلهف لاتباع أثره، ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته واتباعه هي الطريق الوحيد إلى الجنان والفوز بالرضوان؛ ولذلك كما قال بعض العلماء: (إن الله أقفل كل السبل المفضية إليه إلا سبيلاً واحداً وهو الطريق الذي اختاره لنبيه صلى الله عليه وسلم) وقد أشار الله عز وجل إلى هذا المعنى في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153] إذا أردت أن تعرف مقدار محبة العبد لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى حرصه على السنة علماً وعملاً ودعوة وتطبيقاً؛ ولذلك قال العلماء: (أصدق الناس في محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أهل السنة، العاملون بها الداعون إليها) فإذا أردت أن تعرف صدق محبة الإنسان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانظر إلى خصاله وانظر إلى خلاله، وزِنها بخلال النبي صلى الله عليه وسلم وبآدابه، فإن وجدته يترسم نهجه ويقتفي أثره ويتعطش لمعرفة سنته، فوالله إنه الحبيب ونعم الحبيب، والقريب من الله ونعم القريب؛ لذلك فإن أول ما يعتني به المؤمن الصادق في محبة النبي صلى الله عليه وسلم معرفة السنن والبحث عنها والحرص على العمل بها وتطبيقها، والدعوة إليها ما استطاع لذلك سبيلاً.
حبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما توضأ إلا وتذكر كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ، ولا مد كفه بالماء ولا أدارها على عضو إلا وهو كأنه يلاحظ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامه يتوضأ كوضوئه ويغتسل كغسله، حتى إذا دنا من صلاته وعبادته تذكر هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم في قيامه في قراءته في ركوعه في سجوده في دعائه فأخذ يحدوه ويقتفي أثره حذو القذة بالقذة، والله إنه لتوفيق للعبد إذا أراد الله له خيري الدنيا والآخرة أن يلهمه محبة هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
حتى إذا أصاب الإنسان هذه الخصلة الكريمة وهي محبة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، جاءت الثمرة المباركة، فصار لا يمسي ويصبح إلا وقلبه معلق بالله، يقوم لله، ويقعد لله، ويتكلم لله، يراقب الله في حركاته في سكونه في أنفاسه في كلماته، ويترسم كل شيء فيه محبة الله حتى إذا بلغ إلى هذا المقام الشريف وهذا المنزل المنيف وأصاب محبة الله عز وجل، وأصاب رضوان الله سبحانه وتعالى، عندها تأتي الثمرة الثانية التي هي ثمرة محبة الله عز وجل، قال بعض العلماء: (ما أحب مؤمن ربه إلا تعلق بالله في كل شيء يفعله ويقوله) ولذلك أُثر عن القاضي الإمام الجليل الحافظ ابن دقيق العيد رحمة الله عليه: أنه قضى في قضية فراجعه رجل قضى عليه الإمام في تلك القضية، فقال له الرجل: والله ما أنصفتني، ولقد جُرت في حكمك، فقال الإمام الحافظ رحمة الله عليه: أتقول ذلك؟ فوالله الذي لا إله إلا هو ما تكلمت بكلمة منذ أربعين عاماً إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله عز وجل) وهذا إنما يكون من كمال المحبة لله عز وجل؛ ولذلك ذكر بعض العلماء في شرح هذا الحديث: (إن المؤمن إذا عمر قلبه بمحبة الله جاءت الثمرة الثانية وهي أن يحب حبيب الله ويعادي عدو الله، يصبح قلبه ويمسي لا يُقرب إلا من قربه الله، ولا يبعد إلا من أمره الله عز وجل بإبعاده، وهذا هو الذي أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (وأن يحب الرجل لا يُحبه إلا لله).(25/6)
كيفية الحصول على حلاوة الإيمان
أحبتي في الله! ما اجتمعت هذه الخصال الثلاث في عبد من عباد الله إلا ذاق حلاوة الإيمان، ولا وفق الله عز وجل عبداً لتحقيقها وتحصيلها إلا كان من أحبابه وكان من خاصة أوليائه.
ولذلك السؤال الأخير: كيف السبيل للوصول إلى هذه المحبة؟ وكيف الطريق للوصول إلى هذه الحلاوة التي نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يذيقنا وإياكم تلك الحلاوة وألا يسلبنا إياها إلى أن نلقاه؟ أعظم سبيل لتحصيلها وأقرب طريق للوصول إليها: طريق الدعاء، بأن تسأل الله حلاوة الإيمان، وأن يذيقك لذة العبودية للرحمن، فما دعا عبد ربه إلا استجاب، وما سأل سائل ربه إلا أعطاه الله عز وجل وبلغه مراده؛ ولذلك قال الله في كتابه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] وما حصَّل عبدٌ طاعة من طاعات الله إذا استعصت بشيء مثل الدعاء.
أما الأمر الثاني: فهو تحصيل الأسباب التي ذكرناها، والتي من أعظمها: الفقه في الدين ومعرفة سبيل الطاعة لرب العالمين، فمن جمع الله له بين الحسنيين ورزقه هذين الأمرين فإنه لا شك سيصيب حلاوة الإيمان ويكون من الموفقين لطاعة الرحمن.
اللهم إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت أن ترزقنا حلاوة لا مرارة بعدها، وإيماناً لا كفر بعده، وسعادة لا شقاء بعدها، ورحمة لا عذاب بعدها، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا.(25/7)
الأسئلة(25/8)
التحذير من سماع الأغاني
السؤال
أرجو من فضيلتكم أن تدلوني على وسيلة أترك بها سماع الأغاني؟
الجواب
أما الغناء فهو محرم، ودلت على حرمته دلائل الكتاب والسنة، أما الكتاب فإن الله عز وجل قال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [لقمان:6] قال عبد الله بن مسعود: (والله الذي لا إله إلا هو أنه الغناء! والله الذي لا إله إلا هو أنه الغناء! والله الذي لا إله إلا هو أنه الغناء)، وقال عليه الصلاة والسلام كما في حديث البخاري: (يأتي في آخر الزمان أقوام يستحلون الحر -وهو الزنا- والحرير والمعازف والقيان، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين، ما هم بمؤمنين) نسأل الله السلامة والعافية.
والغناء ينبت النفاق، وما من إنسان استمع إلى شيء منه إلا أمات الله قلبه على قدر ما استمع من تلك الأغاني الداعية إلى المحارم المقربة من الآثام والمظالم الغناء يطيش بعقل المؤمن ويورثه خفة في عقله وطيشاً في لبه، نسأل الله السلامة والعافية، لا يعين على ذكر الله وهو مما يصد عن ذكر الله وطاعة الله، فإذا أراد الإنسان أن يكون مؤمناً حقاً فما عليه إلا أن يصدق في تركه، وأما ما يعينك على ذلك الترك فتذكر أخي في الله ذلك السمع ومن شقه، تذكر لو أن الله عز وجل غار على هذا السمع فسلبك، إياه فأصبحت أصماً والعياذ بالله تذكر لو أن الله عز وجل أوقفك بين يديه فسألك عن نعمة السمع، فجئت بهذه العيوب والذنوب؛ فلذلك ينبغي للإنسان أن يبتعد عن الغناء، وأن يتعاطى الأسباب المعينة على الابتعاد عنه، والله تعالى أعلم.(25/9)
أسباب الخشوع في الصلاة وموانعه
السؤال
عندي حالة لا تعجبني، وهي: أن الخشوع لا يأتيني في الصلوات المفروضة، ولكني أحس به أحياناً في أداء النوافل؟
الجواب
أما الخشوع في الصلاة فهو لذتها وحلاوتها، وليس للإنسان إلا ما عقل من صلاته، وقد أخبر الله عز وجل في كتابه أن الفلاح لا يكون إلا بالخشوع في الصلاة، وأعظم الأسباب التي تعينك على الخشوع سبب أشار الله عز وجل إليه بقوله: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46] قال بعض العلماء: (في هذه الآية دليل على أن كثرة ذكر الآخرة أعظم معين على الخشوع في الصلاة).
وقد يكون هناك سبب يمنعك من الخشوع؛ إما مظلمة بينك بين الله سلبك الله بها الخشوع في الصلاة كإتيان حدٍ من حدود الله أو حرمة من محارم الله في سمع أو بصر أو لسان، وقد تكون غيبة لمسلم، وقد تكون عداوة للمسلم، فآذنك الله بها بحرب.
أما السبب الثاني الذي يسلب الخشوع فهو: الاشتغال بالدنيا، وشرود الذهن أثناء الوقوف بين يدي الله عز وجل، وانصرافك عن استشعار عظمة وهيبة المقام بين يديه، فإياك ثم إياك واشتغال النفس بالدنيا إذا دخلت إلى المسجد، ذكروا عن بعض السلف: (أنه صلى بالناس عشرين عاماً ما سها في صلاة قط، فسئل عن ذلك فقال: والله الذي لا إله إلا هو، ما دخلت المسجد وفي قلبي غير الله) من أراد الخشوع بمجرد أن تطأ قدمه المسجد؛ يدخل وليس في قلبه إلا الله، هذه المساجد بيوت الله اختارها الله لذكره، واصطفاها للإنابة إليه بتمجيده وشكره، فإذا دخلها الإنسان خلّف الدنيا وراء ظهره، فإذا أردت الخشوع فاجتهد في تحصيل هذه الأسباب، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم حلاوة الخشوع والإخلاص فيها، والله تعالى أعلم.(25/10)
وسائل ترك المعاصي الخفية
السؤال
أطلب من فضيلتكم موعظة لي ولإخواني عن معاصي السر، فإني أحس أني من الراسخين في النفاق، وإني أحب الله ورسوله فادع الله لي بالخير والثبات والإعانة على طلب العلم؟
الجواب
ما ذكرته -أخي في الله- من بلاء السر، فإن الله عز وجل قد يبتلي الإنسان ببعض المعاصي والذنوب الخفية التي بينه وبين الله عز وجل، ولذلك لا يكون الإنسان خائفاً من الله حقيقة الخوف ويخشى الله عز وجل حقيقة الخشية إلا في مثل هذه المواطن، وليس هناك أحد منا إلا وبينه وبين الله هنات وزلات، وعورات وخطيئات، ولكن تذكر قدرة الله وسلطانه عليك ونعمته التي أسداها إليك واجعل ذلك شعوراً يدعوك إلى الحياء من الله والخجل، والخوف من الله تبارك وتعالى والوجل.
إذا أُرخيت عليك، الأستار وغابت عنك الأنظار، فاعلم أنه لم يغب عنك نظر العظيم القهار، ولو أن إنساناً استشعر عظمة الله عز وجل وهو يقارف الذنوب ويتلبس بالعيوب لهانت عليه شهوته، ولذلت عليه معصيته، والمعين والمثبت من ثبته الله، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم الخشية الصادقة، فإن العلماء يقولون: الخشية الصادقة هي خشية الغيب، وأما خشية الشهادة فهي خشية يشترك فيها كثير من الناس، ولكن الخشية الصادقة هي الخشية التي تكون بالغيب، حينما تتيسر لك المعصية، وليس لك عليها حسيب ولا رقيب إلا حسيب الله العليم المجيب، نسأل الله العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ووجهه الكريم أن يجعلنا وإياكم من أهل الجنة، ومن أهل خشيته في الغيب والشهادة، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(25/11)
حكم الغش في الامتحانات الدراسية
السؤال
أحد الإخوة التزم قريباً، ثم يسأل فيقول: كنت أخذت الكفاءة عن طريق الغش في الامتحان قبل أن ألتزم، والآن أنا في السنة الأولى الثانوية ولا أستطيع أن أواصل دراستي إلا بالغش، فما نصيحتكم لي؟
الجواب
الغش في الامتحان وغيره أمرٌ محرم، وهو داخل في عموم قوله عليه الصلاة والسلام في حديث أنس في الصحيح: (من غشنا فليس منا)، وفي رواية: (من غش فليس منا) فهذا النص عام يشمل كل غش سواء كان في الامتحان أو في غيره، وعليه فإن الطالب إذا غش في امتحانه فهو آثم في غشه، وينبغي لك أن تتقي الله عز وجل، ولذلك ما من إنسان ينال الشهادة بهذا الطريق إلا كان محروم التوفيق؛ بل إنه لا يؤمن إذا كان الإنسان أخذ الشهادة بدون حق أن يكون غير مستحق للمرحلة التي وصل إليها.
وجزم بعض العلماء من مشايخنا على أنه: إذا كان الإنسان قد غش وكانت هذه الوظيفة تتوقف على المعلومات الموجودة في الاختبار أن يكون حافظاً لها عالماً بها ولم يكن كذلك ونال شهادته على هذا الوجه؛ فإنه لا يؤمن عليه أن يكون آكلاً للمال الحرام والعياذ بالله؛ لأنه واضع نفسه في غير موضعه، ومدعٍ لما ليس له، فلذلك ينبغي أن يحذر من هذه الخصلة التي تدل على ضعف الإيمان في القلب، وتدل كذلك على عدم صلاح الإنسان وكمال تقواه لله عز وجل، فالمؤمن الصالح أبعد ما يكون عن الغش والكذب والخداع، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحديث الذي سبقت الإشارة إليه، ولذلك قال بعض شراح الحديث في قوله: (من غشنا فليس منا) أي: ليس على هدينا ولا على سنتنا، والله تعالى أعلم.(25/12)
نصيحة لحفاظ كتاب الله
السؤال
نحن مجموعة من الطلبة نحفظ القرآن الكريم في أحد المساجد، فنرجو منك أن تبين لنا، الطريقة السليمة في حفظ القرآن الكريم، وكيف نتعامل مع شيخنا وزملائنا أثناء التلقي والطلب؟
الجواب
يا حافظ القرآن! ويا من شرفك الله عز وجل بالجلوس في تلك المجالس المملوءة بذكر الرحمن! أول ما ينبغي أن يعتني به من وفقه الله لتلك المجالس وكان من أهلها: أن يخلص لله عز وجل، فإذا خرجت إلى حلقة التحفيظ خرجت وليس في قلبك إلا الله الحفيظ، خرجت وأنت ترجو رحمة الله، وتتلقف رضوان الله في كل خطوة تخطوها، وفي كل قدم ترفعها وتضعها، فإنك إن فعلت ذلك أعظم الله أجرك وبارك الله لك في علمك.
أما الخلة الثانية التي ينبغي أن يتخلق بها من جلس في مجلس القرآن: أن يجل ذلك المجلس، فيبكر إلى مجالس التحفيظ وألا يقصر في ذلك، فإن التأخر عن مجالس الذكر ومجالس العلم يدل على نقص أدب الإنسان مع ذلك العلم؛ ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله أكمل ما يكونون أدباً في مجالس العلم حتى كان طالب العلم منهم يسبق شيخه قبل أن يخرج من منزله لطلب العلم، وكان ابن عباس رضي الله عنهما ينام على عتبة زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه.
إذا جلست في ذلك المجلس فاستشعر عظمة ذلك الكتاب الذي بين يديك، واستشعر نظر الله عز وجل إذ ينظر إليك، وتذكر أن هذا الكتاب الذي بين يديك يطالبك بالآداب، ويسألك أن تتخلق بأخلاق أولي الألباب، فتكون على أكمل ما يكون عليه الطلاب، فتكون على وقار وخشوع وخشية لله عز وجل، تحس كأن الله يخاطبك، واعلم أن كلام الله هو أعظم رسالة على وجه الأرض، فإذا وفقك الله عز وجل لهذا الشعور جاءت الآثار حينما تتأدب فتكون متأدباً في صوتك في مجلس الحفظ متأدباً في حديثك مع شيخك، مراعياً لحرمته ومكانته؛ فإن وفقك الله عز وجل لذلك فقد وفقك الله لخير كثير.
يا طالب العلم! لن تكون خير الطلاب إلا إذا كنت أكملهم أدباً، وينبغي لك أن تنافس غيرك في الأدب، فأحب الطلاب إلى الله أكملهم أدباً مع شيخه، وأكملهم رعاية للحرمة مع عالمه الذي يتلقى عنه، فاحفظ حرمة ذلك الشيخ، واحفظ حرمة من تحفظ القرآن على يديه.
هناك قصة لطيفة للإمام الشافعي حاصلها: (أنه جاءه رجل عامي وهو جالس في مجلس العلم وقد مد رجليه، فقبض الإمام الشافعي رجله، واستوى في مجلسه مع أصحابه حتى جاء ذلك العامي، فلما جلس هابه الشافعي، ثم لما مضى وانصرف مد رجليه وعاد إلى الحالة الأولى، فعجب طلاب الشافعي من ذلك الصنيع، فقرأ في أنفسهم ذلك التعجب، فقال لهم: إن هذا الرجل أخبرني -كان الشافعي يوماً من الأيام يشرح حديث ابن عمر: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح الشغار) أن الكلب لا يشغر رجله ليبول إلا إذا كان بالغاً، فلما قال هذه المقالة للإمام الشافعي اعتبرها الإمام الشافعي فائدة، وإن الحر من حفظ وداد لحظة وتعليم لفظة، فكيف بمن يعلمك كلام الله عز وجل، وكيف بمن يعلمك القرآن؟ فاحفظ ذلك الحق لمن تتعلم على يديه.
أما الأمر الأخير: فالصبر على أذية المعلم، إذا آذاك المعلم فاصبر على أذاه؛ فإن الله قد يبتليك بإنسان فظ غليظ لكي يبتلي صبرك، وهنا قصة لطيفة -هي خاتمة هذا الأدب- عن أحد العلماء الفضلاء: سمع بعالم قدم من الهند إلى دمشق، فخرج هذا العالم من بلدته حتى جاء إلى دمشق في الليل، فسأل عن بيت ذلك العالم فدل على بيته، فجاء وقرع الباب في السحر قبل الفجر، ففتح العالم بابه، فوجد ذلك العالم الضيف، فسأله: ما الذي تريد؟ قال: أتيت لكي أتلقى العلم عنك، فأخذ ذلك العالم الباب وأغلقه في وجه ذلك العالم الذي جاء لطلب العلم -وكان يوماً شديد البرد- فما كان من ذلك الطالب إلا أن جلس على عتبة الباب حتى أذن الفجر، فلما أذن الفجر خرج العالم من بيته، فوجد الطالب نائماً على عتبة الباب، فأخذه واحتضنه وقال: والله ما أردت إلا أن أختبر صبرك على العلم، فأخذه واحتضنه وكان من خيار طلابه.
فالعلم يحتاج إلى صبر، فلذلك إذا رأيت زلة أو أذية من عالم أو ممن تحفظ القرآن على يديه فاصبر ابتغاء مرضاة الله، والله تعالى أعلم.(25/13)
جلسة مع طلبة العلم
إن لأهل العلم وطلابه فضائل خصهم الله عز وجل بها في الدنيا والآخرة، وما ذلك إلا لعظيم ما فعلوه وقدموه من حفظ الكتاب والسنة، وتبليغها وتعليمها الناس، فمن حمل العلم فإن عليه أن يفقه ما يحمل، ويعرف واجبه نحو ما يحمله، ثم إن الله يؤتيه ثمرات ذلك في الدنيا والآخرة، فاظفر بطلب العلم تربت يداك!(26/1)
من فضل العلم في الدنيا والإخلاص فيه
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً طاهراً مباركاً فيه، يليق بجلال ربنا وعظمته وكماله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنفع من قالها يوم لقائه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله، ومن سار على نهجه ومنواله.
أما بعد: فأحييكم بتحية الإسلام السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إن القلوب لتطمئن، وإن الصدور لتنشرح حينما تسمع عن شباب أحبوا العلم وأحبوا أهله، وحرصوا على أن يتسلحوا بهذا السلاح العظيم، يبتغون من فضل الله الكريم، إنها لنعمة من الله إذا شرح صدر عبده لطلب العلم، فحببه إلى قلبه، وجعل أشجانه وأحزانه في رياض الجنة، لا يرتاح ولا يطمئن إلا بمجلس يسمع فيه كتاب الله أو حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لكي يخشع من ذلك قلبه، وتعمل به جوارحه، ويدعو الناس إلى ما علم وعمل، والدنيا فانية ملعونة ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه، وطالب علم انتفع بعلمه: (لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله علماً وحكمة فعمل بهما وعلَّم) فنال الدرجات وفاز بالمحبة والمرضات، فلقي الله يوم يلقاه راضياً عنه.
إذا هدى الله العبد إلى الصراط المستقيم، وحببه في هذا الدين، وأراد أن يتمم عليه النعمة ويزيده من فضله شرح صدره للعلم والعمل: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
هذا العلم لا يحبه أحد إلا ناله خيره، ونال من بركته التي وضعها الله فيه، فإن الله عز وجل وصف كتابه بالبركة: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29] فهذه البركة والخير في هذا العلم إذا شرح الله صدر العبد فأحبه وأحب أهله فلابد وأن يصيب من الخير على قدر حبه، ومن حيل بينه وبين بلوغ مراتب العلماء ولكن اطلع الله على قلبه أنه يحبهم وأنه يتمنى أن يكون له لسان صدق مثل ما أوتوا بلغه الله درجاتهم، قال: (يا رسول الله! المرء يحب القوم ولما يلحق بهم؟ قال: أنت مع من أحببت) فمن أحب العلماء وأحب طلاب العلم الصالحين الأتقياء حشره الله مع العلماء، ومن أحب العلماء وأحب أن يتمثل بهم وأحب أن يكون له من الخير ما لهم.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذه المحبة خالصة لوجهه الكريم، وأن يوفقنا بها إلى سلوك العلم والعمل.
أيها الأحبة في الله: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) والله يؤتي الحكمة: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة:269] العلم بصيرة، ومن آتاه الله العلم أبصر الحق وعرفه فلم تلتبس عليه السنة بالبدعة، وتتضح له بذلك المحجة، ويستمسك بفضل الله عز وجل بالدليل والحجة.(26/2)
حسن خاتمة أهل العلم
ومن ثمرات العلم يقول العلماء: قلّ أن يخلص أحد في العلم ويرى ثمرة العلم في عمله ودعوته للناس إلا حسنت خاتمته.
ولذلك وجدنا من عاجل ما أعطى الله العلماء حسن الخاتمة في هذه الدنيا، ومن منّا لا يتمنى حسن الخاتمة؟! فإن الأمور بخواتيهما: (وإن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يبقى بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها) اللهم إنا نسألك العافية، فيحرص الإنسان على هذا العلم حتى يحسن الله به خاتمته، ذكر عن بعض السلف أنه لما حضرته الوفاة بكت ابنته فقال: أي بنية! أتبكين عليَّ وقد أفتيت عن الله فأمرت بأمره ونهيت عن نهيه؟! يعني: هل يخذلني الله عز وجل بعد أن شرفني بحمل العلم فأمرت بأمره ونهيت عن نهيه؟ لا، والله! لا يخزيك، ولما قالت فاطمة رضي الله عنها: (واكرب أبتاه! قال صلى الله عليه وسلم: لا كرب على أبيك بعد اليوم) فالعلماء تحسن خواتمهم، وكم رأينا -والله- من أهل العلم -الصادقين الذين حرصوا على العمل بالعلم والدعوة إليه والإخلاص فيه- من حسن الخاتمة لهم! وكم رأينا من بشائر الخير! فهذا كله من عاجل ما يضعه الله عز وجل للعبد، وهو من خاتمة ما يكون له في الدنيا.(26/3)
الله يصرف قلب صاحب العلم إلى الآخرة
كذلك من ثمرات العلم النافع: أن الله يصرف قلب صاحبه إلى الآخرة ويزهده في هذه الدنيا، ولذلك تجد العلماء أغنى الناس بالله جل جلاله، جاء رجل إلى الحسن البصري رحمه الله برحمته الواسعة، فجلس في مجلس الحسن وكان غنياً ثرياً، فلما قام من مجلس الحسن أرسل إليه بخمسة آلاف درهم -خمسة آلاف درهم في أيام الحسن شيء عظيم وكبير- ثم أرسل له بثياب وقطن، ثم جاء إلى الحسن ودفعها إليه في بيته قال له الحسن: عافاك الله ضمّ إليك دراهمك وثيابك وقطنك، فإنه ما حدث أحد بما حدثت به فأخذ ما أعطيت إلا كان يوم القيامة لا خلاق له؛ لأنه يريد ما عند الناس ولا يريد ما عند الله جل جلاله.
ويجعل الله الآخرة أكبر همك ومبلغ علمك، دائماً تفكر بآخرتك، وهذا شأن العلماء! تجد العالم دائماً يتذكر مثل هذه الساعة وهو في القبر وهو في اللحد، يتذكر وهو قائم بين يدي الله يسأله عن علمه ماذا عمل به، فإذا كان خالياً دمعت عيناه من خشية الله وقال: اللهم إني أسألك أن تلطف بي، اللهم اجعل علمي حجة لي لا حجة عليَّ، يحس بالآخرة في قلبه فينصرف، وتنصرف همته كلها إلى الآخرة، ولذلك عندما تقرأ في سير السلف الصالح وأخبارهم وأقوالهم وأفعالهم تحس أن هذه الثمرة قد عجلها لهم الله عز وجل في الدنيا قبل الآخرة، ومن خاف من الآخرة أمّنه الله فيها، فإن الله لا يجمع للعبد بين خوفين وأمنين، فإما خوف في الدنيا وأمن في الآخرة، أو العكس، ولذلك لما قيل لبعض السلف وقد اجتهد في العبادة: أتعبت نفسك، قال: راحتها أريد.
فالذي يتعب اليوم ويخاف اليوم يأمن غداً.
الله أعلم كم ضمت اللحود أقواماً وجلت قلوبهم من خشية الله! فإذا فيها النعيم والرضوان المقيم، الله أعلم كم ضمت اللحود الآن من أئمة ودواوين للسلف وعلماء للأمة علم الله منهم أنهم خافوا الآخرة فأمّنهم اليوم وهم فيها! وذكرهم بصالح الدعوات وقد ولوا ومضوا، فهذه عاجل ثمرات الدنيا.(26/4)
الله يزكي طالب العلم
كذلك من ثمرات العلم في هذه الدنيا: أن الله سبحانه وتعالى يزكي أهله، وإذا زكىّ الله عبداً بارك له، الله تعالى لا يزكي العبد بحسبه، ولا يزكيه بنسبه، ولا يزكيه بنومه، ولا يزكيه بماله: (فرب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) وما كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلا في ضيق من الدنيا، وما كان رسول الأمة صلى الله عليه وسلم إلا معرضاً عن هذه الدنيا، فالله لا يزكيك بهذه الدنيا، ولكن يزكي بما وقر في القلب وصدقه العمل.(26/5)
الله يقذف في قلوب الناس حب طالب العلم
وثمرات هذا العلم: أن الله يقذف في قلوب الناس حبك، فإذا أخلصت الآن، وحرصت كل الحرص على الأدب مع العلماء ومع من تتلقى عنهم قيض الله لك من تصرف الناس ومعاملتهم معك ما تقر به عينك، ويطمئن به قلبك، وتبهج به نفسك، والله! ما رأينا طالب علم تأدب مع علمائه ومشايخه إلا رأينا آثار ذلك في طلابه، وما رأينا فظاً غليظاً سيئاً جافياً متجافياً عن الحق إلا رأينا مكر الله به كما مكر بمن كان على شاكلته ممن سبقه.
فإياك ثم إياك أن تغفل عن هذه الثمرة الكريمة! أن يزكي الله علمك، فيجعل لك بين الناس القبول والمحبة والرضا، وهذا -كما ذكرنا- بالإخلاص، ثم بذكر الله جل جلاله، ثم بالحرص على الأدب مع أهل العلم، فيفتح الله لك عز وجل من فضله، فترى ثمرة العلم في الدنيا، وترى بأم عينيك ما كنت تفعله مع مشايخك من الإجلال والتقدير في طلابك، ومن يأخذ العلم عنك؛ فما {جَزَاءُ الإِحْسَانِ إِلَّا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] والله جل جلاله يقول في كتابه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف:30].
فمن كان في رياض العلم متأدباً تعلوه السكينة والوقار، وإذا سأل عرف عن أي شيء يسأل، وإذا تكلم عرف أين يضع لسانه، وحفظ لأهل العلم حقهم وقدرهم، وأخذ يختار النماذج الكريمة من السلف الصالح وطلاب العلم الأحياء الذين يرى فيهم وقار العلم وسمته، والأدب مع العلم فتخلق بهذه الأخلاق؛ زكاه الله جل جلاله، والله إن القلوب لتسر حينما ترى نماذج من طلاب العلم في السكينة والوقار يذكرون بهدي السلف الصالح! وإن القلوب لتتقرح وتتألم حينما ترى عكس ذلك! كذلك أيضاً: إذا زكاك الناس وشهدوا لك بالخير كان من عاجل البشرى لك في الدنيا يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الله إذا أحب عبداً من عباده نادى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه) الله أكبر! لو نودي باسمك في السماوات العلى: يا جبريل! إني أحب فلاناً فأحبه، اللهم اجعلنا ذلك الرجل! الله ذو العزة والجلال الذي بيده ملكوت كل شيء ينادي باسمك! إذا صلح قولك وعملك، ورأى الله منك هذه المحافظة على الحقوق والواجبات! (نادى يا جبريل! إني أحب فلاناً) لا، والله! ما أحب الله للدنيا، وما أحب للأحساب والأنساب، ولكن أحب للدين والإخلاص.
وانظر إلى الأسلوب (إني) وهو للتوكيد والإثبات- (إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل إني أحب فلاناً فأحبه، فيحبه جبريل، ثم ينادي: يا أهل السماء! إن الله يحب فلاناً فأحبوه، قال صلى الله عليه وسلم: فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض) فإذا تكلم وضع الله البركة في قوله، فكم من تائب أناب ومهتدٍ اهتدى بإذن الله عز وجل بتذكيره ووعظه! فترجع إلى قومك وعشيرتك وقد وضع الله لك القبول، من عامل الله كان الله له.
فمن الآن وطِّن نفسك على أن يحبك الله، فترى هذه الثمرة العاجلة في الدنيا فتقول: يا رب! أحمدك وأشكرك والفضل كله لك، إذا أحبك الله عز وجل ووضع لك القبول فهذه ثمرة الدنيا؛ فيزكيك الناس ويشهدون لك بالخير والفضل ويترحمون عليك، ويذكرونك بصالح الدعوات، ما ذكرت إلا أثنوا عليك ودعوا لك بالخير، وهذا من عاجل البشرى، ولذلك من ذكره الناس بصالح الدعاء كان هذا من عاجل البشرى، والعكس بالعكس! فعلى المسلم أن يحرص على توطين نفسه بالأصول التي تفضي إلى هذه الثمرة الكريمة.(26/6)
التوفيق في طلب العلم
فتأتي بعد ذلك الثمرة الثالثة: وهي التوفيق في العلم، إذا أخلصت وأكثرت من ذكر الله جل جلاله فكنت ممن يقوم الليل، ويصوم النهار، ويستغفر ربه قائماً وقاعداً، يذكر الله على كل حاله، فإن الله يفتح لك أبواب التوفيق، وقلّ أن تجد طالب علم كثير الذكر لله إلا وجدته موفقاً في طلب العلم، وبارك الله له في جوارحه، وبارك الله له في ليله ونهاره فأحبه الله، وإذا أحب الله العبد عصمه من فتنة الشهوات، وحفظه مما يقذفه الشيطان من الشبهات، فأصبح على البصيرة والنور والهدى وعلى الصراط المستقيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] فيجعل الله للعبد بهذا السبب العظيم نور التقوى.
فإذا أخلصت وذكرت الله جل جلاله وفتح لك أسباب التوفيق كان من أعظمها وأجلها أن توفق للعالم الرباني الذي أخذ العلم عن أهله، فابحث عن من زكا في علمه وقوله وعمله، وأخذ هذا العلم عن العلماء الصالحين الذين ورثوا علم الكتاب والسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم زكَّى حملة العلم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله).
فإذا أراد الله أن يوفقك في طلب العلم حبب إلى قلبك العالم العامل، ورزقك العالم الرباني الذي يذكرك بالله منظره، ويدلك على الله عز وجل مخبره، يدلك على عالم تلتزم به حجة بينك وبين الله جل جلاله، قال الإمام الشافعي رحمه الله: (رضيت بـ مالك حجة بيني وبين الله)، لما رأى من مالك رحمه الله حبه للكتاب والسنة، وحرصه على النص، وعلى الاهتداء بهدي السلف الصالح من الصحابة والتابعين، رضيه حجة بينه وبين الله جل جلاله، فإذا وفقك للعالم فقد أخذت مفاتيح العلم، والعالم الرباني يدل على الله جل جلاله، يدل على الله بقوله وعمله وسمته … وإذا أردت أن تنال ثمرة العلم على أتم الوجوه وأكملها فالزم ذلك العالم محافظاً على حقه، مستديماً لما له عليك من واجب حبه وتقديره وإجلاله وإكرامه، فإن العقول السلمية أجمعت -والحكماء أجمعوا- على أن من أجلّ شيئاً وأحبه انتفع به.
ولذلك ينبغي على طالب العلم أن يجعل علمه مقروناً بالأدب والإجلال والتقدير، ولذلك قال موسى بن عمران للخضر: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف:66] وهذا شيء من التذلل والتواضع للعلماء، وهذا يدل على أنه ينبغي لطالب العلم أن يشعر العالم بالتقدير والإجلال؛ لأن تعظيم العلماء وإجلالهم تعظيم لشعائر الله.
فإذا رزقت هذا العالم العامل فاحرص على أن تكون أفضل طلابه، واحرص بارك الله فيك على أن لا تقع عينه منك على شيء يشينه! واحرص وفقك الله على أن لا يسمع منك ما يؤذيه! واحرص بارك الله فيك على سؤال الله أن يجملك وأن يجعلك خير الطلاب! فإن العالم يحرص على نفع خير الطلاب وأفضلهم.
وإياك أن تزدري العلماء! إياك ثم إياك أن تزدري من حمل كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم! بل اجعل في قلبك حبهم وودهم وتقديرهم ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
فإذا عاشرت العالم وكنت معه فكن معه بمشاعرك وأحاسيسك، فإياك أن تضيق عليه في قول! أو تحرجه في مسألة! أو تعييه في وقت هو وقت راحته واستجمامه، وتحرص على الأدب معه فيما يأمرك به وينهاك، فإنه إن كان متقياً لله أمرك بأمر الله، ونهاك عما نهى الله عز وجل عنه.
كان العلماء يوصون طلاب العلم دائماً بالعمل، فإذا سمعت العالم يدلك على سنة فاحرص على العمل بها، وإذا دلك على خير احرص على تطبيقه، وإياك أن تتعذر بالعجز أو الكسل، إذا سمعته يذكر سنة في الصلاة أو في الطهارة أو في حجك وعمرتك فاحرص على تطبيقها ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فإن كل كلمة تسمعها من هذا العالم من العلم إما حجة لك أو حجة عليك، لو أن طالب العلم كلما جلس في مجلس علمه شعر أن هذه الكلمات وهذه الجمل التي تقال له في هذا المجلس إما حجة له أو حجة عليه، فإنه -والله- يشفق على نفسه من الهلاك، كل كلمة وكل جملة إن عملت بها كانت حجة لك، وإن تركتها كانت وبالاً وحجة عليك.
جاء رجل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وأخذ يسألها المسائل ثم رجع لها بعد حين وسألها عن مسائل ثم رجع لها ثالثة وسألها عن مسائل فقالت له ذات يوم: (أي بني! أكل ما سألتني عنه عملت به؟ -أي: هذه السنن التي سألتني عنها من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم عملت بها- فقال الرجل: لا يا أماه!، وجلس يشتكي من التقصير والعجز والكسل، فقالت: يا بني! لِمَ تستكثر من حجج الله عليك؟ هذا العلم الذي تسمعونه في المحاضرات والدروس والمجالس، بل حتى لو مررت على حلقة عالم وسمعت سنة -والله- أنها حجة لك أو حجة عليك، وخاصة إذا تغرّبت عن بلدك وعن الأهل والأوطان والأحباب والخلان؛ فاعلم أن هذا العلم سيسألك الله عنه إن سألك أهلك وعشيرتك فضيعتهم، إن الله سائلك عن هذه الحجج التي تسمعها، فكما تغربت من أجل أن ترجع إليهم عالماً حاملاً احرص على ضبط كل سنة وكل مسألة، وهذا من دلائل التوفيق، هذه ثمرة الإخلاص.
والله! ما أخلص أحد في طلب العلم إلا فتح الله له من أبواب رحمته، ويسر له من العلماء ومن العلم الذي يتعلمه على قدر إخلاصه وزاده الله من فضله، فيحرص طالب العلم على هذا الأمر العظيم، وهو أن يعمل بكل ما علم وأن يطبق ذلك على أتم الوجوه وأكملها.(26/7)
محبة كل ما يقرب إلى الله وبغض كل ما يبعد عنه
أما الأمر الثاني: فمن أخلص لله جل جلاله وتوجه إلى الله سبحانه أحب كل شيء يذكره بالله، ونفر من كل شيء يبعده عن الله سبحانه وتعالى، وإذا أصبح العبد يأنس بكل شيء يقربه إلى الله كثر ذكره لله سبحانه، فتجده كثير التلاوة لكتاب الله، كثير الاستغفار من ذنبه والاسترحام لربه، فيصبح في ذكر دائم لله جل جلاله، ومن ذكر الله ذكره الله: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] ولذلك لهجت ألسنة العلماء بذكر الله وخشعت قلوبهم لما عند الله سبحانه وتعالى.
فإذا أخلصت أصبحت أقوالك كلها لله بذكره سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وما شقي الأشقياء إلا بالغفلة عن الله، وإذا أراد الله أن يهلك عبداً من عباده جعله من الغافلين، وإذا غفل قسا قلبه، وإذا قسا قلبه ساء وأظلم، وإذا ساء وأظلم تحركت الجوارح إلى الظلم والظلمات، نسأل الله السلامة والعافية! فأهم ما يكون للإنسان أن يكون كثير الذكر لله جل جلاله، ولذلك تجد العلماء العاملين الأئمة المتقين جميع أقوالهم وأفعالهم مقرونة بأمر الله ونهيه، لا يتقدمون إلا إذا أمرهم الله، ولا يتأخرون إلا عن شيء يعلمون أن التأخر عنه فيه مرضات الله، وتلك أمارات التقوى! وذلك سبيل الهدى! قال بعض السلف في تعريف التقوى: أن لا يفقدك الله حيث يحب أن يراك، وأن لا يراك حيث يحب أن لا يراك.
فإذا أكثر الإنسان من ذكر الله عز وجل طاب عيشه، ولذلك تجد العالم يقرأ العلم بلسانه، والله أعلم كم من مثاقيل الحسنات في ميزانه! الله أعلم هذه الكتب التي ألفها العلماء والأئمة الصلحاء الأتقياء من سلف هذه الأمة كم لهم فيها من أجور! وكم لهم فيها من حسنات لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى! ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لـ علي: (فوالله! لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) ومن أكثر ذكر الله جل جلاله فإن الله سبحانه يبارك له في عيشه وفي حياته.(26/8)
أن يرزق الله العبد التقوى
أيها الأحبة في الله! ثمرة العلم! وما ثمرة العلم؟! فهي أطيب الثمرات، وأعظمها وأجلها وأكرمها؛ لأنها من كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، وأكرم شيء على الله في هذا الوجود كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الله سبحانه وتعالى رفع قدرهما وأحبهما، فإذا أراد الله عز وجل أن يكرم العبد بأطيب الثمار وأحبها في الدنيا والآخرة ذاق حلاوة العلم.
ثمرة العلم ثمرتان: ثمرة عاجلة، وثمرة آجلة.
أما الثمرة العاجلة: فإن الله سبحانه وتعالى إذا أراد أن يرزق العبد علماً نافعاً رزقه الإخلاص، وقذف في قلبه نور التقوى، فأصبح علمه لله، وقوله لله، وأفعاله وحركاته وسكناته لله جل جلاله، وعندها يطيب عيشه، فما طاب العيش إلا بالله، قال الحسن البصري رحمه الله: (لا يزال الرجل بخير؛ إذا قال قال لله، وإذا عمل عمل لله).
أول ثمرات العلم في هذه الدنيا الإخلاص، ومن عرف الإخلاص عرف الأمر الذي من أجله خلق الله الخليقة وأوجد هذا الكون، بل الأمر الذي من أجله أظلم الليل وأضاء النهار، ومن أجله كان العشي والإبكار، من عرف الإخلاص عرف الله جل جلاله.
فأول ثمرات العلم التي جناها العلماء: أن الدنيا هانت عليهم فتوجهوا إلى الله وحده، إن أصابتهم سراء شكروا وإن أصابتهم ضراء صبروا فعاشوا الحياة الآمنة المطمئنة: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وعد الله جل جلاله الذي لا يخلف الميعاد أن من عمل الصالحات أن يحييه الحياة الطيبة، وما طابت الحياة على أتمّ صورها وأكمل حللها وأجملها وأجلّها إلا لأهل العلم، فترى الرجل منهم مرقع الثياب! حافي القدمين! لكنه غني بالله جل جلاله، ما اشتكى يوماً ربه إلى الناس، وتجده يتوسد الأرض ويلتحف السماء راضياً مرضياً، وتجد غيره يرفل في نعيم الدنيا، وهو في هم وغم وكرب ونكد لا يعلمه إلا الله عز وجل.
أول ثمرات العلم: أنه يوجهك إلى الله، فتعلم الله بأسمائه وصفاته، وعندها يطيب عيشك، تعلم أن الأمر كله لله، وأن الأمور كلها مردها إلى الله؛ فتهون عليك الدنيا بما فيها، وتحب الله بصدق المحبة، وتتوجه إلى الله بصدق التوجه، ومن أقبل على الله أقبل الله عليه، ومن تقرب إلى الله فإن الله يفتح له من أبواب رحمته، وإذا فتح الله أبواب رحمته لا يستطيع أحد أن يغلقها كائناً من كان، وإذا نشر للعبد من بركته وخيره لا يستطيع أحد أن يقبض ذلك الخير كائناً من كان.
دخل سليمان بن عبد الملك إلى بيت الله الحرام وفيه علم من أعلام المسلمين وإمام من أئمة الدين عطاء بن أبي رباح رحمه الله برحمته الواسعة، هذا الإمام الذي كان ينادي المنادي في الحج ويقول: لا يفتي الناس إلا عطاء لعلمه وفضله، كان عطاء في ذلك المسجد يومها فأخذه سليمان وطاف معه، ثم قال: يا عطاء! سلني حاجتك؟ ما هي حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين! إني لأستحي أن أسأل أحداً في بيت الله جل جلاله -إني لأستحي أي من الله-، فلما خرجا من المسجد قال: يا عطاء! سلني حاجتك؟ قال: يا أمير المؤمنين! أن يغفر الله ذنبي، قال: ليس ذلك بيدي، قال: ماذا تريد أن أسألك؟ قال: سلني حاجتك من الدنيا، قال: يا أمير المؤمنين! إني لم أسألها من يملكها أفأسألها من لا يملكها! كان العلماء رحمهم الله علماء بحق.
فأول ثمرة العلم: الإخلاص والتوجه إلى الله، ولذلك قال الله جل جلاله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] سكنت في قلوبهم خشيته، وسكنت في قلوبهم محبته سبحانه وتعالى، فأصبحت حياتهم كلها لله، لا يسأمون ولا يملون ولا يضجرون من شيء فيه محبة الله جل جلاله، فأول ثمراته في الدنيا هذا المقام العظيم الذي هو روح الإسلام ولبه يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (بل إخلاص الدين لله هو الدين الذي لا يقبل الله ديناً سواه).(26/9)
من ثمرات العلم في الآخرة
أما ثمرات العلم في الآخرة، فأمرها إلى الله علام الغيوب، الله أعلم ماذا ينتظر العلماء في موازين حسناتهم وأجورهم من السنن التي دلوا عليها، وحبّبوا فيها، وعلموها عباد الله، وحرصوا على أن يهتدوا بهديها، وأن يربوا الناس عليها! الله أعلم كم لهم من الأجور والثواب والحسنات والدرجات! الله وحده هو الأعلم، وهو سبحانه لا يضيع أجورهم ولا سهر الليالي وتعب النهار والكدح في طاعة الله ومرضاته: والعبد يسعى وله ما قد كدح طول الليالي وعليه ما اجترح {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] فالمعروف يدوم ويبقى، والخير والبر أبداً ما ينسى!(26/10)
إذا مات لا ينقطع ذكره في الدنيا
ثمرات الآخرة من أعظمها: أن العلماء إذا ماتوا وكانوا في قبورهم فمن عاجل ما يجدون الرحمات التي تغشاهم في قبورهم، لا ينقطع ذكرهم ولا خبرهم، خاصة إذا قيض الله لهم طلاباً صالحين يذكرونهم بالخير، قال الإمام أحمد رحمه الله الرحمة الواسعة لأحد أبناء مشايخه: أبوك -أي: وهو ممن علمني وانتفعت بعلمه- أحد الستة الذين أدعو لهم في صلاتي) ما ذكروا وهم في قبورهم إلا ترحم عليهم، ويذكرون بالجميل! ومن ذكرهم بغير ذلك فهو على غير السبيل!(26/11)
تغشى العالم الرحمات إلى قبره
كذلك أيضاً: تغشاهم الرحمات، ويرون في قبورهم ما يكون لهم من الأجور التي من بعد موتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: -وذكر منها-: أو علم ينتفع به) فهم يموتون وما ماتت مكارمهم، ماتوا وما ماتت مآثرهم، فهي منقوشة في الصدور! والتلميذ البار إذا ذكر شيخه ترحم عليه ودعا له، ومن ذلك: أني رأيت الوالد رحمه الله -وكان قد تتلمذ على الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله- أكثر من مرة ما ذكر الشيخ إلا فاضت عيناه بالدمع، وطأطأ رأسه ثم دعا له وترحم عليه، وكان يقول: ما رأيت بعيني عالماً ملؤها مثل الشيخ ابن إبراهيم رحمه الله برحمته الواسعة! وتجده يقول إذا ذكره: نعم! نعم العلم والعمل، مما رأى من شيخه من العلم والعمل، ووالله! إذا ذُكِرَت سيرته -لا أبالغ- إذا بالشيخ يسكت فتجد الدمعة تذرف مما يذكر من جميله وإحسانه، وهكذا كان رحمه الله برحمته الواسعة.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير ما جزى عالماً عن علمه وورعه وصلاحه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(26/12)
اليقين بالله
أعظم زاد للسائر إلى الله عز وجل اليقين بالله، فهو المثبت على صراط الله حتى يلقى العبد ربه، فإذا ادلهمت الخطوب، واحلولك الظلام، وعبست في وجهك الأيام، تصدى لذلك اليقين بالله، فصار الحزن فرحاً، والضيق سعة، والعسر يسراً.
فأعظم باليقين للمؤمن من دواء، وأنعم به من شفاء.(27/1)
فضل الذكر والذاكرين
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، ومن فطر القلوب على المحبة واليقين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى الأمين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم المبارك إلى يوم الدين.
أما بعد: فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إخواني في الله! أحمد الله تبارك وتعالى أن جمعني بكم في هذا البيت المبارك من بيوت الله، وبعد هذه الفريضة من فرائض الله، وأسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل هذا الاجتماع اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل التفرق من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا ولا معنا شقياً ولا محروماً.
أيها الأحبة في الله! ما أطيب المجالس إذا طُيبت بذكر الله، وما أطيب الساعات واللحظات إذا عُمرت بطاعة الله، وما الذي يأخذه العبد من هذه الدنيا غير مجلس جلسه لذكر الله أو خصلة طاعة بينه وبين الله، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر مجالسنا ومجالسكم بذكره، والإنابة إليه وحبه وشكره.
وفي المؤمن وفاء لربه وحب لخالقه، فما ذكِّر بالله إلا انشرح صدره، ولا ذُكر الله عنده إلا اطمأن قلبه، {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28]، ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله يقولون: إذا أراد الإنسان أن يعرف مقدار إيمانه بالله، فلينظر إلى حال قلبه إذا جلس في مجالس ذكر الله، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعل دلائل الإيمان في تلك المجالس تفوح من ذكره وشكره.
أيها الأحبة في الله! وأطيب ما تطيب به المجالس أن يعرف العبد ربه، فالحديث عن الله حديث يحرِّك القلوب إلى الله، ويشوِّق أرواح المؤمنين إلى حب الله، وما ذكِّر مؤمن بالله إلا تعلق قلبه بالله، ولذلك قلوب المؤمنين موصوفة بالهجرة إلى رب العالمين، فقوالبها في الأرض ولكنها في السماء، فلا تنظر إلى آية من آيات الله إلا ذكرت الله، وكم نثر الله عز وجل في هذا الوجود من الشواهد والدلائل التي تدل على أنه الواحد المعبود! وكم نثر الله عز وجل في هذه الأرض وهذه السماوات من عبرٍ وحجج وآيات شهدت بأنه فاطر الكائنات! الحديث عن الله هو أجلُّ الأحاديث وأطيبها عند الله، الحديث عن الله يطيب لكل مؤمن يؤمن بلقاء الله، وكلما عرف العبد ربه هابه وخافه، وكلما اقترب الإنسان من الله أحبه واشتاق إليه، وكم غرس الله في قلوب المؤمنين من حبه، والتعلق به، تبارك إله الأولين والآخرين.
حديثنا اليوم عن خصلة من خصال المؤمنين، وخلة لعباد الله المحسنين، خلة قامت لها السماوات والأرض، وشهدت بها سماوات الله وأرضه، ألا وهي (اليقين بالله)، فكل ما في هذا الكون ليله ونهاره، صباحه ومساؤه، يذكرك فيقول لك بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله.
ما أظلم الليل إلا وذكرك بمن أظلمه، ولا أضاء النهار إلا وذكرك بمن أضاءه، ولا جاءت ظلمة الليل تغطي ضياء الشمس، وتلألأت -في ظلامه- كواكبه إلا قالت بلسان الحال والمقال: لا إله إلا الله.
يقبل الليل على النهار فلا يختلط الليل بالنهار، ولا يختلط منه عشيٌ بإبكار، تبارك الله الواحد القهار، كل ما في هذا الكون يقودك إلى اليقين، حتى تتعلق بإله الأولين والآخرين، وصدق الله عز وجل إذ يقول في كتابه المبين: {وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات:20].(27/2)
الأنبياء واليقين
اليقين هو خُلق أنبياء الله وعباده الصالحين، رفع الله به درجاتهم، وكفَّر به خطيئاتهم، وأوجب لهم الحب منه والرضوان، والصفح من لدنه والغفران، إنه اليقين بالله الذي وقف معه نبي الله آدم أبو البشرية جمعاء، وقف عليه الصلاة والسلام في موقف أليم إذ أحس بالذنب في حق ربه الكريم، وقد بدت له سوءته، فطفق هو وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة، {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، فجاءه اليقين بالله فنادى ربه وناجاه، فغفر الله ذنبه، وستر عيبه وكفَّر خطيئته، هذا اليقين الذي دخل به يونس بن متى عليه السلام بطن الحوت في ظلمات ثلاث، لا يراه إلا الله، ولا يطلع على خبيئة قلبه من الآلام والحسرات سوى الله، فناداه وناجاه، وتقرب إليه جل في علاه، {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، فناداه بهذا النداء وكله يقين بأن الله سيرحمه، وناجاه بهذه النجوى وكله يقين بأن الله سيلطف به، فأخرجه الله من الظلمات إلى رحمة فاطر الأرض والسماوات، هذا اليقين الذي وقف به أيوب عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام، وقد أصابه الضر والبلوى، وعظُمت عليه الشكوى، فنادى ربه جل وعلا، فناداه وناجاه بقلب لا يعرف أحداً سواه، ففرج الله عز وجل كربه، ونفسَّ همه وغمه، ورد عليه ما افتقده.
هذا اليقين الذي وقف به الأنبياء والمرسلون في أشد الشدائد، وأعظم المكائد، فكان الله عز وجل بهم رحيماً، وبحالهم عليماً، ففرج عنهم الخطوب، وأزال عنهم الهموم والكروب.
وقف موسى عليه الصلاة والسلام البحر أمامه والعدو وراءه ومعه أمة خرجت ذليلة لله، مستجيبة لأمر الله، فوقف أمام البحر فلما قال له بنو إسرائيل: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61] قال واليقين معمور به قلبه ومليءٌ به فؤاده: {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62]، كلا؛ لا أُدرك ولا أُهان ومعي الواحد الديان، ففي طرفة عين تنزلت أوامر الله {أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ} [الشعراء:63] وإذا بتلك الأمواج المتلاطمة العظيمة تنقلب في طرفة عين إلى أرض يابسة، وإذا به على أرض لا يخاف دركاً فيها ولا يخشى، قال الله عز وجل: {قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء:61 - 63]، سبحان الله! بحر عظيم؛ وفي طرفة عين تنقلب أمواجه إلى صفحة لا يجد فيها رذاذ الماء، ويضرب لهذه الأمة المستضعفة الموقنة بالله جل وعلا طريقاً في ذلك البحر لا يخاف دركاً ولا يخشى، كل ذلك باليقين بالله.(27/3)
اليقين أعظم زاد
سار الصالحون على نهج الأنبياء، واتبع آثارهم عباد الله المهتدون، فما نزلت بهم خطوب، ولا أحاطت بهم كروب، إلا عاذوا بالله علام الغيوب، والمؤمن في كل زمان ومكان يحتاج إلى هذا اليقين بالله، تحتاجه إذا عظمت منك الذنوب، وعظمت منك الإساءة في حق الله، تحتاجه وأنت مع أهلك وولدك، وتحتاجه وأنت مع عدوك، وصديقك، ولذلك كان لزاماً على كل من يحب الله أن لا يمسي ويصبح وفي قلبه غير الله، وإذا أراد الله أن يحبك وأن يصطفيك ويجتبيك ألهمك أن يكون قلبك متعلقاً به جل جلاله، إذا أردت أن يحبك الله كمال المحبة، فلا تمسينّ ولا تصبحنّ وفي قلبك غير الله وحده، تدور أحزانك وتدور أفراحك مع الله، وجميع شُعب قلبك منيبة إليه، فكم في عباد الله من أناس ملئوا قلوبهم بحب الله واليقين به، فكان الله معهم، ومن ذكر الله ذكره الله، ومن ذكره الله فالأمن له كل الأمن.
لذلك كان من منازل العبودية ودلائل الإنابة إلى الله أن توقن بالله الذي لا إله إلا هو، قال الإمام ابن القيم رحمه الله: واليقين من منازل {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
فمن قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، فإن الله يمتحنه باليقين.
ذكروا عن رجل من أهل العلم أنه كتب كتاباً في تفسير القرآن العظيم، وكان فقيراً، فخرج إلى إخوانه وخلانه من العلماء يستشيرهم، فأشاروا عليه برجل عنده المال والثراء، فقالوا له: اذهب إلى فلان يعطك المال فتنسخه، فاستأجر رحمه الله سفينة، وخرج في البحر حتى إذا مشى وأراد ذلك الثري ليعينه بالمال، فسخَّر الله له رجلاً يمشي على شاطئ البحر، فأمر قائد السفينة أن يركبه معه، فلما ركب الرجل معه سأل العالم وقال له: من أنت؟ قال: أنا فلان بن فلان، قال: المفسِّر؟ قال: نعم، قال: إلى أين أنت ذاهب؟ قال: إني ذاهب إلى فلان، أريد منه أن يساعدني في نسخ كتابي.
فقال له الرجل: بلغني أنك فسَّرت القرآن؟ قال: نعم، قال: سبحان الله! ماذا قلت في تفسير قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟ ففسر العالم الآية، وفهم مراد الرجل، فقال لقائد السفينة: الآن ترجع بي إلى بيتي، فرجع رحمه الله إلى بيته وكله يقين بالله عز وجل أن الله سيسد فقره، وأن الله سييسر أمره، فما مضت إلا ثلاثة أيام وإذا برجل يقرع الباب، فلما فتح الباب، قال له: إني رسول فلان إليك، بلغه أن عندك تفسيراً للقرآن يحب أن يراه، فأعطاه ذلك الكتاب الذي خرج من أجل أن يعرضه عليه، فرجع الرسول بالكتاب، فنظر فيه ذلك الثري فأعجبه، فأمر أن يوضع في كفة وأن يصب الذهب في كفة وأن يُبعث بذلك إلى الإمام.
ما وثق أحدٌ بالله فخيبه الله، ولا أيقن عبد بالله جل جلاله إلا كان الله له، فكم من أمور نزلت بالإنسان وخطوب أحاطت به ولم يجد غير الله مجيباً ولا مفرجاً.
فاليقين بالله هو حلاوة الإيمان، وألذُّ ما تكون الساعة إذا عُمرت القلوب باليقين بالله عز وجل لذا كان الصحابة رضوان الله عليهم يعمرون القلوب باليقين.
وقد قرر العلماء رحمهم الله: أن الله يبتلي الإنسان باليقين في موضعين: أحدهما: وجود الحاجة، وثانيهما: وجود الغنى، ولذلك قال بعض العلماء: إذا أردت اليقين فكن أفقر الخلق إلى الله، مع أن الله أغنى ما يكون عنك.
فاجعل فقرك إلى الله، فإنه يسد فقرك ويسد حاجتك وعوزك، ولذلك ما عُمر قلب إنسان في أية مصيبة أو أية نازلة بالله إلا كفاه الله، ترى المؤمن يفقد سمعه ويفقد بصره، ويفقد قدمه، ويفقد ماله، وتقول له: كيف أنت؟ يقول: الحمد لله في نعمة من الله، من اليقين الذي عُمر في تلك القلوب فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم باليقين به، وأن يجعلنا وإياكم من أهل اليقين.(27/4)
التوبة واليقين
أحبتي في الله! أول موقف من مواقف اليقين: موقف التوبة الصادقة، ولذلك ما من إنسان كثرت ذنوبه وأراد أن ينيب إلى الله إلا امتحنه الله باليقين، وكلما عظمت ذنوب الإنسان ينبغي أن يقف بيقين أعظم منها بالله الرحمن.
ولذلك ذكروا عن رجل أنه كان كثير الذنوب، كثير الخطايا والعيوب، فجاءه رجل يذكره بالله، وكان هذا الرجل كثير النصح له، فلما أكثر عليه نصحه ذات يوم قال له: إن الله لا يغفر لك، فاستفاق من غفلته وانتبه من منامه، وقال له وهو على يقين بالله: سأريك كيف يغفر الله لي ذنبي، فخرج إلى التنعيم فأحرم بالعمرة تائباً إلى الله فطاف بالبيت فخرَّ ميتاً بين الركن والمقام.
فما أيقن الإنسان بالله عز وجل وخيبه الله سبحانه، ولو أنه جاء إلى الله بذنوبٍ بلغت عنان السماء وقلبه عامر باليقين بالله ما خيبه الله، قتل رجل مائة نفس، آخرها عابد من العبّاد، فلما قتله جاء إلى رجل من أعلم أهل الأرض في زمانه، وقال له: هل لي من توبة، فإني قتلت مائة نفس؟ فقال له ذلك العالم: وما الذي يمنعك من التوبة ثم أمره أن يخرج إلى قوم صالحين، وأن يهاجر إلى الله رب العالمين، فخرج من قرية السوء إلى تلك القرية الصالحة، فأدركه الموت في الطريق، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: إنه جاء تائباً إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه قد قتل مائة نفس فأرسل الله إليهم ملكاً فأمرهم أن قيسوا ما بين القريتين -عزت عند الله خطواته إليه في آخر حياته، تائباً إلى الله عز وجل، ونظر الله إلى قلبه وهو معمور باليقين- فأوحى الله إلى قرية الصالحين أن تقاربي، وإلى قرية السوء أن تباعدي.
وإن دلّ هذا فإنما يدل على أنه ما أيقن أحد بالله فخيبه الله.
فخير ما يوصى به الإنسان من منازل اليقين أن يقوي يقينه بالتوبة إلى الله، وما أكثر عبدٌ التوبة والإنابة إلى الله إلا تحاتت ذنوبه فازداد إيمانه وقوي يقينه.(27/5)
اليقين عند المصيبة
الحالة الثانية التي يظهر فيها يقين الإنسان: إذا نزلت به المصيبة، ولذلك يصاب المؤمن في نفسه، ويصاب في أهله، ويصاب في ولده، وتأتيك تلك الساعة، يأتيك ذاك الخبر المزعج المؤلم على قلبك وفؤادك، فتُخبر بابن فقدته، أو ابنة أو أب أو أم أو صديق عزيز عليك وفيٌّ لديك، فتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، وقلبك كله يقين أن الخلف والعوض من الله رب العالمين، فسرعان ما يكون من الله لطفه، وسرعان ما يكون من الله عطفه.
فما ألذ اليقين، إذا نزلت المصائب بعباد الله المؤمنين، والله! ما أُصيب إنسان في نفسه أو في أهله وولده أو في ماله أو في أي شيءٍ عزيز عليه واعتقد في قلبه أن الله يعوضه إلا عوضه الله عز وجل، فيجب ألا يكون في قلب الإنسان مثقال ذرة من سوء الظن بالله، ولذلك الشيطان أحرص ما يكون في مثل هذه المواقف، وتجد المؤمن إذا أصابته المصيبة يأتيه الشيطان من كل حدب وصوب لكي يخيب ظنه بالله، يقول له: لو كنت مؤمناً ما ابتلاك الله بفقد ولدك، ولو كنت مؤمناً ما ابتلاك الله بفقد ابنتك، ولو كنت مؤمناً! ما ابتلاك الله بفقد مالك، ولو كنت ولو كنت ولكن ما أحسن عبد ظنه بالله فخيبه الله أبداً، إياك أن يدخل إلى قلبك مثقال ذرة من سوء الظن بالله عز وجل، فلعلك عندما تفقد المال تخرج منك كلمة تثني بها على الله فيحبك الله حباً لا يسخط عليك بعده، وقد يرفعك الله بهذه الكلمة إلى درجة لا تبلغها بكثير صلاة ولا صيام.
ذكر رجل أنه في ذات يوم من الأيام دخل على أبيه وهو في هم وغم، فلما نظر إليه سأله، فإذا به قد أصابه دين، يقول هذا الرجل -وكان من عباد الله الصالحين، ومن الشباب الأخيار-: فكان دين والدي بمقدار عشرة آلاف أو خمسة عشر ألفاً، وكان مالي عشرون ألف تعبت عليها حياتي وأنا أجمع هذا المال؛ لكي أبني مستقبلي، فلما نظرت إلى ما أصاب أبي ذكرت وصية الله بالوالدين، وذكرت وصية الله بالإحسان إليهما، فقلت في نفسي: لو أنني أعطيته هذا المال الذي أملكه، فجاءني الشيطان وقال لي: تعبك ومالك ومستقبلك يضيع في هذه اللحظة، يقول: فأصبحت في صراع هل أعطيه أو لا أعطيه! فقررت أن أعطيه، قال: فذهبت فأخذت المال وكلي يقين بأن الله سيعوضني عني، فوضعت الخمسة عشر ألفاً بين يديه، وأنا على يقين بأن الله لا يخيبني، يقول: فلما وضعتها بين يديه فاضت عيناه بالدمع وقال: أسأل الله العظيم أن يفتح لك أبواب فضله، يقول: فقمت من عنده، وما مضت إلا أيام قليلة فدُعيت إلى مناسبة فيها رجل من الأثرياء، وكان يبحث عن رجل يقوم على أمواله، فقال الرجل الذي استضافه: لن تجد أصلح من هذا الرجل الذي أمامك، يقول: فأخذني وكيلاً على ماله، وكانت أول صفقة لي من ذلك المال في أول بيعة مائتا ألف ريال، فرحمة الله عز وجل ولم يخيبه سبحانه.
ولربما أن الإنسان قد يصاب بفقد البصر، فيسترجع ويحمد الله عز وجل، فيعوضه الله إيماناً في قلبه، ويقيناً بربه، وقد جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم واشتكت إليه ما تجده من فقد عقلها والمس الذي أصيبت به في نفسها، فقال لها النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله لك، قالت: أصبر ولي الجنة) فكانت امرأة مبشرة بالجنة وهي تمشي على وجه الأرض، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يقول لأصحابه: (هل أريكم امرأة من أهل الجنة؟ انظروا إلى هذه المرأة السوداء) رضي الله عنها وأرضاها.
ما أيقن أحد بالله عز وجل فخيبه الله سبحانه وتعالى، فاليقين بالله هو حلاوة الإيمان.(27/6)
دلائل اليقين(27/7)
جعل الإنسان الآخرة نصب عينيه
الدليل الثاني على دلائل اليقين: فهو أن يجعل الإنسان الآخرة نصب عينيه.
فكما أن اليقين يكون بالفرج، يكون كذلك بيقين الإنسان أنه إلى الله صائر، وأنه منقلب بين الجنادل في الحفائر، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يحركون القلوب باليقين بالآخرة، ولقد ذكر الله عز وجل في كتابه أن من أيقن بالآخرة صحت عبادته وكملت زهادته، فقال جل ذكره: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46].(27/8)
عدم صرف الحب والخوف لغير الله
إن اليقين بالله له دلائل، وهذه الدلائل تجدها في نفسك، وتجدها في قلبك، ومن أعظمها: أنك لا تمسي ولا وتصبح وفي قلبك أحد أحب إليك من الله، فإذا أمسيت وأصبحت وأخوف ما يكون في قلبك هو الله، وأحب ما يكون في قلبك هو الله فاعلم أن الله قد أعطاك اليقين، فلا تمسي ولا تصبح وفي قلبك حب لغير الله أكثر من حبك لله، وتمسي وتصبح وليس في قلبك خوف من أحد إلا الله جل وعلا.
لذلك ما انصرفت شعبة من شعب المحبة والخوف إلى أحد غير الله إلا نقص يقين الإنسان، ولذلك قد يصيبك الله عز وجل ببلية لا قدَّر الله، فتصاب في نفسك، فتضيق عليك الأرض بما رحبت، حتى إذا بلغ بك الأمر غايته فاعلم أن اليقين عند الضيق، ولذلك كان يقول بعض العلماء: (كلما اشتد البلاء كان اليقين أكمل في الإنسان، وكان الفرج قريباً).
قد ذكر الله في ذلك قصتين، القصة الأولى: الثلاثة الذين خلفوا، فقال سبحانه وتعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة:118] وهذا من بلاغة القرآن: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118]؛ لأن الإنسان قد تكون نفسه ضيقة ولكن الأرض واسعة عليه، وقد تكون الأرض ضيقة عليه ولكن نفسه واسعة، فقد تجد أعداءه كثيرين، أو تجد البلايا تحيط به في أمواله وأهله وأولاده، ولكن نفسه منشرحة وقلبه متسع ويقينه بالله عظيم، فهذا ضيق الخارج، ولكنه منشرح الداخل، وقد يكون ضيقاً في داخله موسّعاً في خارجه، فتجده من أغنى الناس ولكن في داخل قلبه من الأمراض النفسية والضيق والكبت والهم ما لا يعلمه إلا الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية، إذاً الضيق إما من الخارج وإما من الداخل، فالله أشار إلى هؤلاء الثلاثة جاءهم الضيق من الناحيتين: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ} [التوبة:118] لكن: {وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ} [التوبة:118] لا ملجأ ولا منجى من الله إلا إليه، فجاءهم الفرج.
فكلما اشتدت عليك المصائب وأحاطت بك الديون والغموم والهموم فاعلم أن الله قريب منك، ولذلك انظر إلى الكفار عبدة الأصنام يعبدون غير الله عز وجل ويستغيثون ويستجيرون بغيره، فإذا أصابهم الضر قالوا: لا إله إلا الله، فكشف عنهم وفرَّج الله كربهم.
فكلما قوي يقين الإنسان واشتدت عليه المصائب والمصاعب والمتاعب فليعلم أن الفرج قريب فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعمر قلوبنا وقلوبكم باليقين به، وأن يجعلنا وإياكم من أهل اليقين الذين أوجب لهم درجات النعيم.(27/9)
التعلق بغير الله ينافي اليقين
أيها الأحبة في الله! الكلمة الأخيرة عن اليقين كلمة تقطع قلوب المؤمنين، كلمة تدل على بعدنا عن الله وطول غربتنا عن داعي الله وجهلنا بعظمة الله عز وجل، فكم من أناس بيننا إذا نزلت بهم الشدائد وأحاطت بهم الهموم والغموم تعلقوا بغير الله والعياذ بالله! وكم من أناس بيننا يقولون: لا إله إلا الله؛ ولكن يعظمون الأسباب ويحبونها أشد من حبهم لله، فكم من مريض أصابه المرض ظن أن طبيبه يداويه وأنه يعافيه ويشفيه، فنقص الإيمان من قلبه على قدر ما فات من يقينه، وكم من مديونٍ ظن أن عبداً يفك دينه ويقضي حاجته فخيب الله ظنه وقطع رجاءه، فأصبح فقيراً صفر اليدين من اليقين به جل جلاله.
لذلك لا يليق بالإنسان أن يعلق رجاءه بغير الله، والله تبارك وتعالى إذا امتحن الإنسان باليقين فتعلق بغير الله، فإن الله تبارك وتعالى يمكر به، ومن مواطن المكر بالإنسان أن يصرف قلبه لغير الله عز وجل، ولذلك تجد بعض من يستعين بالسحرة وبالمشعوذين -والعياذ بالله- يمهلهم الله جل جلاله، ويستدرجهم بتفريج الخطوب والكروب حتى يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، والله ثم إنه -والله- إذا أراد الله بك الضر فلن ينجيك منه أحدٌ سواه، ولذلك استحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكل مؤمن إذا وضع خده ليسلم نفسه للموتة الصغرى أن يقول الدعاء المأثور: (اللهم إني أسلمت نفسي إليك، وألجأت ظهري إليك، وفوضت أمري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك).
فلا يظن الإنسان أن أحداً ينجيه من الله عز وجل، ولذلك أول ما يفكر فيه الإنسان إذا نزلت به المصيبة أو حلّت به بلية أن يتجه إلى الله وحده لا شريك له.
وقف إبراهيم عليه الصلاة والسلام مع تلك المرأة الضعيفة، مع صبي ضعيف في وادٍ، -أمره الله بالهجرة إليه- غير ذي زرع، لا أنيس به ولا جليس، فكان صلوات الله وسلامه عليه مستجيباً لأمر ربه مسلَّماً لخالقه كما وصفه الله في كتابه، فجاءته تلك المرأة الضعيفة وتعلّقت به بعد أن حطَّ رحالها وتركها وصبيها، فقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فأعرض عنها عليه الصلاة والسلام كأنه يقول لها: أنت تعلمين لمن أدعك فمضى إلى الوادي، فجرت وراءه وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فنظر إليها ثم أعرض عنها، ثم في المرة الثالثة، تعلقت به وقالت: إلى من تدعنا يا إبراهيم؟ فقال: لله، قالت: إذاً لا يخيبنا الله، فوقع ما وقع لها ولصبيها فاستغاثت بالله عز وجل واستجارت في شربة ماء لها ولطفلها، ففجّر الله عز وجل الماء من تحت قدم صبيها.
فمن أيقن بالله عز وجل في أي شدة أو أي خطب فإن الله لا يضيعه.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه وصفاته أن يرزقنا وإياكم حلاوة اليقين، وأن يرزقنا وإياكم كمال الإيمان بالله رب العالمين.
اللهم إنا نسألك يقيناً لا يخالطه شك، ونسألك إيماناً لا يخالطه شرك، ونسألك الصدق في حبك والشوق إلى لقائك، إنك ولي ذلك والقادر عليه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(27/10)
الأسئلة(27/11)
عصاة الموحدين
السؤال
عندما أقوم بدعوة بعض الشباب إلى الله والعودة إلى الله، يقول محتجاً بالقدر: أنا من عصاة الموحدين، فماذا نرد على هؤلاء، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أقول كلمة واحدة: هل تضمن أن تموت على التوحيد؟ إذا كان حرم الله العبد التوفيق باستجابة داعيه على معصية من المعاصي، فلا يُؤمن -والعياذ بالله- أن يأتي يوم من الأيام وقد سلب الإيمان من قلبه؛ لأن الشيطان يستدرجه، فمعصية تلو معصية حتى يسلب -والعياذ بالله الإيمان- فلا يأمن مكر الله، ولذلك ينبغي للإنسان ألا يقول هذه الكلمة، ولكن يقول: أنا المسيء وأنا المذنب، اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك، فلا ينبغي للإنسان أن يحتج بالقدر، ولا يحتج بعصاة الموحدين.
وأما عصاة الموحدين، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن منهم من يتغمده الله برحمته ويدخله الجنة دون سبق عذاب ولا حساب، كما في حديث ابن عمر في الصحيحين: (يوقفه فيقر بذنوبه، فيقول: يا عبدي! سترتها عليك في الدنيا وهأنا أسترها عليك اليوم).
نسأل الله أن يسترنا وإياكم بستره.
وأما القسم الثاني منهم: فيشاء الله بعدله أن يدخلهم النار، واللحظة الواحدة من النار تطيش معها العقول، فإن (أهون أهل النار عذاباً، من وضع في ضحضاح من النار يغلي منه دماغه، يظن أنه أشد الناس عذاباً في النار) فالشاهد: أنهم يتقلبون في عذاب النار على قدر ما عصوا الله عز وجل، وقد تكون زنية واحدة تردي الإنسان في عذاب الله عز وجل بما ينسى معه نعيم الدنيا وما كان فيها من سرور، ولكن نسأل الله أن يلطف بنا وبكم وأن يعصمنا وإياكم بعصمته.
وأما الأمر الذي ينبغي أن ننبه عليه: أنه لا ينبغي لأحد أن يحتج بالقدر ولا بالشفاعة، فيقول: أنا من عصاة الموحدين، فإن ذلك لا يأمن على صاحبه أن يستدرجه الله فيختم له بخاتمة السوء والعياذ بالله! والله تعالى أعلم.(27/12)
بين الجد والمزاح
السؤال
لي صديق كثير المزح كثير الضحك قليل النصيحة لي، وإذا ذكرته بالله جل وعلا فهو يكثر من المزح ولا يتقبل مني ذلك، فكيف السبيل إلى الخلاص من هذا الداء العضال؟
الجواب
أما المزاح فهو يكون بقدر، والله عز وجل جعل شريعتنا شريعة رحمة، لا شريعة عنت ولا حرج، فإذا أراد الإنسان أن يمزح فليمزح بقدر، ولذلك شبه العلماء المزح بالملح الذي تضعه في الطعام، فإذا كثر الملح فسد الطعام، وإذا كان طعاماً بدون ملح لم يكن للطعام طعم، الحياة هكذا، لابد من وجود المزح لكن بقدر، وقد صوّر الشاعر ذلك بقوله: أفد طبعك المكدود بالجد راحةً ويَجِمَّ وعلله بشيءٍ من المزح ولكن إذا أعطيته المزح فليكن بمقدار ما تعطي الطعام من الملح فينبغي علينا أن نعلم أن المزح ينبغي أن يكون بقدر، وكان بعض العلماء يقولون: إن من دلائل صلاح الإنسان وخيريته وجود الطرفة فيه؛ لأن أهل الصلاح فيهم تواضع، والمزح يدل على نوع من التواضع، إذا كان بقدر، ولذلك قال عمر رضي الله عنه: (والله! لئن وليتموها علياً ليحملنَّكم على السنة، وفيه دعابة).
وهذه الدعابة موجودة في الأخيار، ومن قرأ تراجم العلماء وسير الصلحاء وجد هذا موجوداً فيهم؛ ولكنهم كانوا إذا جاءت الطرفة فتحوا لها قلوبهم ولكن بقدر، وإذا جاءت الشدة وجاءت المحنة وجاء الجد شمَّروا عن ساعد الجد.
فاقبل من أخيك أن يمزح، ولكن إذا جاء وقد الجد ووقت ذكر الله عز وجل فلا تقبل أن يسخر ويمزح، ولذلك كان الإمام محمد بن سيرين يمازح أصحابه؛ وكان إماماً من أئمة التابعين، كان يقال عنه سيد من سادات التابعين، وأوصى أنس بن مالك رضي الله عنه الصحابي الجليل أن يغسله محمد بن سيرين، هذا الإمام الجليل، يقول أحد جيرانه: كان إذا جن عليه الليل سُمع بكاؤه من القرآن من بيته، وإذا أصبحنا سمعنا الضحك من الغرف.
فكان يمزح مع أصحابه حتى يسمع ضحكه، رحمة الله عليه.
لأن أهل الصلاح دائماً قلوبهم سليمة، لكن من كان عنده الكبر والغرور فلا يمزح، وتجد الذي عنده نوع من الترفع على الناس ما عنده طرفة، وقلَّ أن تراه يبتسم، ولذلك ينبغي للإنسان أن يكون وسطاً، فلا إفراط ولا تفريط.
وأما ما ذكرته من كونه يمزح أثناء الجد، فهذا يدل على موت قلبه والعياذ بالله! فإذا وجدت الرجل تذكره بالله فيتبسم ويضحك ولا يقيم لآيات الله وزناً، فمثل هذا حري به أن يبكي على قلبه -نسأل الله أن يعافينا وإياكم من موت القلوب- فقد كان السلف الصالح رحمهم الله من حياة قلوبهم إذا قيل للواحد منهم: اتق الله! يبكي، فكيف بهذا يضحك أو يمزح؟!! ولذلك إياك أن تجلس مجلس موعظة وتسمع الموعظة وتحدثك نفسك بأي طرفة؛ لأن ذلك فيه استخفاف بما عظَّم الله، ولذلك كانوا يقولون: (ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أجبن عند اللقاء، ولا أكثر عند الطمع، فأنزل الله فيهم قرآناً يتلى إلى يوم القيامة: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]) وفي قراءة واحدة وهي قراءة حفص: {إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً} [التوبة:66]، ولكن في بقية القراءات: (إِن يُعْفَ) حتى العفو يعني جعله بمثابة الاستبعاد لهم (إِن يُعْفَ عن طائفة منكم نعذب طائفة) ولذلك قال الناظم: لـ عاصم قراءة لغيرها مخالفة إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة فالمقصود: أنه لا ينبغي للإنسان إذا حضر وقت الجد والتذكير بالله أن يمزح، وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يجلس مع أصحابه بعد صلاة الفجر فيتحدثون بشئون الجاهلية فيتبسم صلوات الله وسلامه عليه، وجلس ذات يوم فذكر الجنة، وقصَّ عليهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في صحيح البخاري: (أن رجلاً يشتاق إلى الزرع في الجنة فيقول: أريد أن أزرع، وإذا به في لحظة واحدة قد جمع له الحب، وفي لحظة واحدة قد اخضر، وفي لحظة واحدة قد جنى ثمره، فإذا به قائم بين يديه -هذا غرس الجنة- فلما أبى؛ لأنه يحب الزرع فقال رجل من قريش: أما هذا فلن يكون إلا أنصارياً -لأن قريشاً ليس عندهم زراعة- فضحك صلوات الله وسلامه عليه) قال: هذا الذي يحب الزرع في الجنة لن يكون إلا واحداً من الأنصار، رضي الله عنهم وأرضاهم.
المقصود: أنه ينبغي للإنسان أن يعلل نفسه بالطرفة، والقلوب لها إقبال وإدبار، وإذا استدامت الموعظة فقد تمل، ولذلك قال بعض الصحابة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة؛ مخافة السآمة والملل).
والله تعالى أعلم.(27/13)
ثمرات الحب في الله
السؤال
ما هي الثمرات التي يجنيها العبد عندما يحب أخاه في الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
أما الثمرات فاعلم حفظك الله أنك إذا وجدت قلبك يتجه إلى الصالحين ويرتاح للصالحين فأول ثمرة: أن هذا دليل على الإيمان؛ لأنه لا يحب المؤمن إلا مؤمنٌ، ولا يحب الصالحين إلا صالح، ولا يطمع في مجالس الصالحين إلا موفق، فاحمد نعمة الله عز وجل على ذلك، هذا أول دليل على الإيمان، ولذلك كان من كمال الإيمان، الحب في الله والبغض في الله وذاق حلاوة الإيمان من أحب في الله ووالى في الله وعادى في الله.
أما الأمر الثاني: إذا أحببت في الله فمن ثمرات المحبة أن تجني من أخيك صلاحه، فإن كان أفضل منك اقتديت به، وإن كان مثلك نافسته، وإن كان دونك دعوته، هذه من ثمرات الحب في الله تكون قريباً من إخوانك، ولذلك تجد الشباب الصالحين يحرصون على هذه الثلاث الأحوال: إن وجدوا من هو فوقهم تمثلوا به، وإن وجدوا من هو مثلهم نافسوه، وإن وجدوا من هو دونهم دعوه إلى الزيادة فتجدهم أقرب ما يكونون إلى طاعة الله عز وجل، وما فقدنا لذة الأخوة في الله إلا حينما أصبحت مجالسنا معطلة من ذكر الله، وأصبحنا نحب في الله ولا يتشبه بعضنا ببعض في الصلاح وفي العفة وفي الخير وفي الاستقامة، إذا قلت لأحد: إني أحبك في الله وكان أفضل منك حاول أن تكون مثله، وأن تتأسى به، سواءً في كلامه أو في أفعاله، أو غير ذلك من الخصال التي وفقه الله إليها من الصلاح.
الأمر الثاني: ما تجنيه في آخرتك: فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أن هذه المحبة من أعمال القلوب، وأنها بينك وبين الله عز وجل فإذا قدمت عليه يوم القيامة، أظلك بها يوم لا ظل إلا ظله ولذلك فاعلم أن أمور الدنيا الخفية التي لا يعلمها إلا الله عز وجل يأبى الله يوم القيامة إلا أن يظهرها أمام العيان: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10]، فانكشف ما في قلبك أنك تحب أخاك في الله فأبى الله إلا أن يظهرك أمام الناس؛ لكي تظل في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
ولذلك أوصي إخواني بالحب في الله، وهذه المحبة ينبغي علينا أن نؤدي حقوقها، فلا تغتب أحداً، ومن الغيبة التي بلينا بها الآن قول البعض: شباب الصحوة فيهم شباب الصحوة يفعلون شباب الصحوة يقولون شباب الصحوة كذا وكذا، يا أخي هؤلاء إخوانك في الله! هؤلاء أقوام يحبون الله ورسوله! واحمد الله عز وجل أن الله متعك بزمان ترى فيه الصلاح في الشباب، فينبغي علينا أن نحفظ حقوق الأخوة في الله، وأننا مهما سمعنا من بعضنا من الأخطاء والنقائص ينبغي أن يكمِّل بعضنا نقص بعض، وأن يشد بعضنا من أزر بعض، وأن يكون فينا الحب الذي يرضي الله ورسوله، وأن نكون إخوة في الله كما أمر الله، ولذلك تجد الأخوة في الله على مراتب من أعلاها: من كان يسد من أخيه الخلة، ويستر له العورة، ويحرص على جمع القلوب وائتلافها، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
ولذلك أوصي بتحقيق الأخوة التي ترضي الله، فإنها خالدة باقية إلى لقاء الله، كما أخبر الله بقوله: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، ولذلك أبى الله إلا أن يبقي أخوة الإسلام حتى بعد الوفاة، (وإذا مات فاتبعه) فجعل من سنن المرسلين تشييع الموتى وتشييع الجنائز، يُوضع الإنسان جثة بين إخوانه كلهم يقول: اللهم اغفر له وارحمه وعافه واعف عنه، كل ذلك من أجل ماذا؟ من أجل الأخوة في الله، كلهم يشفعون ويدعون، حتى إذا قام الأربعون غفر الله عز وجل ذنبه، كما ثبت في الحديث الصحيح، ولا يقف الأمر عند هذا، ويذهبون معه حتى يوضع في القبر، ويأبون أن ينصرفوا من القبر حتى يقول قائلهم: اللهم ثبته عند السؤال؛ لأن أشد ما يكون في القبر عند أول لحظة وهي لحظة السؤال، فكان هذا من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وكان يقول صلى الله عليه وآله وسلم: (استغفروا لأخيكم)، لأخيكم!! انظروا كيف! (واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل)، كأنك أنت الذي تعيش هذه الحالة وتعاني هذا الكرب، وجعل الله لك فيها من الأجور قيراطين وغير ذلك من الفضل، فنسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم حب المؤمنين.
وأختم هذه الكلمة بمناسبة المحبة في الله بواجب الائتلاف على طاعة الله عز وجل، وأنه ينبغي على كل واحد منا إذا قام من هذا المجلس حق عليه أن يحب إخوانه في الله، وأن نذكر هذه العروة التي جمعت بيننا، وأن لا تفرق بيننا الأقاويل ولا التراهات ولا الشائعات، وينبغي أن تُقبل قلوبنا على محبة فاطر الأرض والسماوات.
والله إنه لمن نعم الله أن تحدث الفتن بين بعض الأخيار؛ ولكي يظهر الله المعادن البريئة، لكي يظهر الله بعض القلوب البريئة التي تحب لإخوانها ما تحب لنفسها، وتتألم وتتأوه لأي شيء يحدث لهم.
فنسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم صدق المحبة فيه، وأن يغرس في قلوبنا وقلوبكم حب المؤمنين والائتلاف على طاعة رب العالمين.
والله تعالى أعلم.(27/14)
علاج العجب والغرور
السؤال
ما هو السبيل إلى طرد خاطر العجب من القلب؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإن العجب داء قاتل ما بُلي به إنسان إلا هان عند الله عز وجل، ولذلك ذكر الله عز وجل في كتابه أنه أهلك من ظلم، وأخبر أن سبب هلاكهم هو الغرور، فلذلك ينبغي للإنسان ألا يغتر، فإذا أنعم الله عليك بالمال فاكسر نفسك للكبير المتعال، وإذا أنعم الله عليك بالصحة فتذكر منّة الله عز وجل عليك بها، وأثن على الله عز وجل بما هو أهله، ولذلك كان أنبياء الله ورسله أعرف الناس بالله، وكان الواحد منهم إذا أعطاه الله نعمة خاف ألا يقوم بشكرها، فإذا كان عندك ذكاء أو فهم أو مال أو غنى أو جاه أو غير ذلك فلا تغتر، فكم من إنسان اغتر بماله فأتلفه الله بذلك المال، وكم من إنسان اغتر بصحته فمكر الله عز وجل به وجعل عاقبته من صحته التي اغتر بها وبالاً عظيماً، ألا ترى الرجل الشجاع يغتر بشجاعته حتى يسلط الله عليه من هو أقوى منه فيعاديه ويظن أن شجاعته تنقذه فتهلكه تلك الشجاعة، إياك أن تغتر، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم أكمل الأمة إيماناً يظهر لله عز وجل الفاقة والحاجة، وكان يقول: (يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، فلا تغتر بذكاء ولا بفهم ولا بحول ولا بقوة.
ولذلك ذكروا عن الإمام الماوردي رحمه الله -وهو إمام من أئمة العلم- له كتاب ثلاثون مجلداً في خلاف العلماء في الفقه دخل يوماً من الأيام المسجد وحدثته نفسه فقال: هل هنا مسألة في الفقه لا أعرفها؟ فاغتر بنفسه، فدخل إلى الدرس، فلما جلس بين طلابه، أرسل الله إليه امرأة معها صبية قد قاربت البلوغ فجاءت ووقفت على ذلك العالم الجليل فقالت له: يا شيخ! هنا مسألة في الحيض، فسألته عن مسألة من حيض هذه الصبية يقول: وإذا بي لا أحسن من الفقه شيئاً، فخذله الله، وحرمه فضله؛ لأنه اعتقد أن الفضل له، وظن أن ذكاءه وفهمه هو الذي ينجيه أو يعوِّل عليه، فأرسل الله إليه هذه المسألة البسيطة من مسائل الطهارة، يقول: فلم أدر لها جواباً، فأصبح الطلاب لما رأوا الشيخ أصابه الدهش لم يستطع أن يجيب، مندهشين وما استطاع أحدهم أن يقول: يا أمة الله! جواب المسألة كذا وكذا، فلما يئست المرأة من الجواب انصرفت، فلقت طالباً من طلابه المبتدئين، كان في بداية دخوله للمسجد، قالت له: أصلحك الله صبية أصابها من الحيض كذا وكذا، فما الحكم؟ قال: الحكم كذا وكذا، قالت له: أنت خير من هذا الذي جلس.
فالإنسان إذا اتكل على حوله وقوته وذكائه خذله الله عز وجل وأذكر عن بعض الصالحين أنه قال: دخلت إلى اختبار إحدى المواد وكنت أظن أنه لا أفهم مني، وليس هناك مسألة في هذه المادة إلا وسأجيب عليها، يقول: فلما وضعت الورقة بين يدي وإذا بي لا أحسن من المادة حرفاً واحداً، يقول: فأصابني من الرعب ما الله به عليم، يقول: والله! إني في شدة البرد أتفصد عرقاً مما أصابني، يقول: فلما وجدت ما وجدت علمت أنني أُتيت من قبل نفسي، فاستغفرت الله وتبت إليه، وفي لحظة واحدة كأن لم يكن بي بأس، فشرح الله صدري وأجبت في خلال نصف ساعة عن الأجوبة كلها.
فالإنسان إذا اغتر بنفسه فليعلم أن الله سيمتحنه، ولذلك انظر! ما من غني يغتر بماله إلا سلّط الله عليه مصيبة في المال وما من عالم يغتر بذكائه إلا سلّط الله عليه حرمان التوفيق في علمه، وما من مهتدٍ يغتر بهدايته إلا سلب الخشوع وسلب الإنابة إلى الله، فالمهم أنه لابد أن يبتلى؛ لأنه يظن أن الفضل له.
ولذلك كان السلف رحمهم الله يخافون من الغرور، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يدخل ويحمل الحطب على ظهره أمام الناس في سوق الكوفة وهو أمير الكوفة رضي الله عنه وأرضاه؛ لكي يكسر نفسه، ولما أصاب الغرور عمر بن الخطاب -رضي الله عنه وأرضاه- حمل الحطب على ظهره؛ لكي يهين نفسه.
فلا ينبغي للإنسان أن يغتر بحوله وقوته، ولكن ينبغي عليه أن يتعلق بحول الله وقوته، ولذلك من الدعاء المأثور ومن ذكر الله الذي هو كنز من كنوز الجنة: (لا حول ولا قوة إلا بالله).
والوقفة الأخيرة مع الغرور، بأي شيء تغتر والأمور بعواقبها؟! هل أحد كشف لك عن الغيب فتعلم أن هذا الصلاح عاقبته حسن الخاتمة؟!! بل تأمل ذلك الذي كفر نعمة الله عز وجل واغتر بعلمه، فسلبه الله سبحانه وتعالى نعمه فانسلخ من آياته وكان من الغاوين والعياذ بالله! وكذلك أمية بن أبي الصلت لما كان آية في الفهم والعلم والذكاء، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكنه حسده واغتر بنفسه فكان من الهالكين والعياذ بالله! ما الذي يدعو الإنسان إلى الغرور وهو لا يضمن العاقبة؟! الأمر الثاني: إذا قمت في الصلاة وأعجبك القيام أو أعجبك من نفسك الصيام، فتذكر أن العبرة بالقبول، فهل تعلم أن الله قبل طاعتك؟!! وهل تعلم أن الله قبل عبادتك؟!! فهذا أمر من الأهمية بمكان: علاج الغرور أن تنظر إلى العاقبة.
أيضاً مما يكسر الغرور في النفس: إذا أعطاك الله نعمة المال أوصيك أن تزور الفقراء.
وإذا أعطاك الله نعمة الصحة أوصيك أن تزور المرضى، تزور المستشفيات ولو يوماً واحداً، حتى ترى المريض الذي يتأوه من قدمه فتقول: الحمد لله الذي عافاني في قدمي، والذي يتأوه من سمعه وبصره فتعلم أن الصحة لا تغني عنك من الله شيئاً، وتجد الرجل من أشد ما يكون عافية وقوة وفي طرفة عين يبتليه الله بالبلاء فيصير من أضعف عباد الله عز وجل، وتجده ذليلاً حتى في كلامه إذا تكلم.
فلذلك ينبغي للإنسان أن يسلم الأمر لله، وأن يعتقد صدق الاعتقاد أنه لا حول ولا قوة إلا بالله.
والله تعالى أعلم.(27/15)
معنى حديث: (أنا عند ظن عبدي بي)
السؤال
يذنب البعض ذنوباً كثيرة فإذا نُصح استشهد بقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث القدسي: (أنا عند ظن عبدي بي) فكيف يكون الرد على هؤلاء، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
لو أحسن الظن بالله ما عصى الله عز وجل، وقوله عليه الصلاة والسلام: يقول الله تعالى: (أنا عند حسن ظن عبدي بي)، هذا في سكرات الموت، فمن حضرته سكرات الموت وتخبطته الشياطين عند الموت فأحسن ظنه بالله كان له من الله فوق ما يرجو ويأمل.
ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية عن رجل من عباد الله الصالحين، ذكره وسمَّاه وقد نسيت اسمه الآن، يقول: كان رجلاً كثير الخوف من الله عز وجل، حتى يقولون: إنه لما مرض مرض الموت أُخذ -أكرمكم الله- بوله إلى الأطباء، وكان الأطباء يعرفون بعض الأمراض بألوان البول، فلما رآه الطبيب قال: هذا المريض قطّع الخوف كبده، أو مزق الخوف كبده، وهذا من كثرة خوفه من الله عز وجل، فتوفي هذا الرجل الصالح، يقول فرؤي بعد الممات، كما حكى شيخ الإسلام ذلك، رؤي بعد مماته، فقيل: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، فقال: ما هذا يا عبدي ألم يبلغك أني أنا الغفور الرحيم؟!! أي: لماذا تخافني هذا الخوف وقد بلغك أني أنا الغفور الرحيم؟ وذكر أيضاً بعض العلماء: عن رجل من أهل العلم أنه توفي، وكان هذا العالم يتساهل في بعض الأمور، وكانت عنده زلات بينه وبين الله عز وجل، يقول: فكان يحسن الظن بالله عز وجل، فلما حضره الموت، يقول: أحسن الظن بالله تبارك وتعالى وكان عند موته يكثر من الاستغفار والتوبة ويسترحم ويستعطف الله عز وجل عليه، فشاء الله سبحانه وتعالى أن يُتوفى، فرؤي بعد مماته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: أوقفني بين يديه، وقال: يا عبدي ألم تفعل كذا وكذا؟ قال: يا رب! ما هكذا بلغنا عنك، -هو عالم من أهل العلم- قال: وما بلغك عني؟ قال: بلغني عنك أن رحمتك تسبق عذابك، قال: قد غفرت لك ذنبك.
فحسن الظن بالله عز وجل من الأمور المطلوبة، لكن ينبغي أن يقرن حسن الظن بالخوف، والله جعل أهل النجاة على جناحين، إذا كُسر أحدهما فإن الإنسان على عطب وهلاك، الخوف والرجاء، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16]، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9]، وما ذكر الله الجنة إلا أتبعها بالنار، وما ذكر النار إلا أتبعها بالجنة، حتى نكون على جناحي السلامة، ولذلك الخوف والرجاء كحافتي الطريق، إن بالغ في الخوف رده إلى الرجاء، وإن بالغ في الرجاء رده إلى الخوف، فمن غلب رجاؤه فإنه على هلاك، كمن يفعل المعاصي ويقول: إن الله غفور رحيم، فهذا يُخشى عليه أن يمكر الله به، وأن يستدرجه من حيث لا يحتسب، ولكن يقول: إن الله غفور رحيم، اللهم إني ظلمت نفسي، ويبكي ويندم ويظهر لله عز وجل الخوف، فإن هذا من كمال الأدب مع الله، وأيضاً إذا قوي خوفه يقرن بذلك حسن الظن بالله تعالى.
والله تعالى أعلم.(27/16)
خطورة الذهاب إلى السحرة
السؤال
ما هي نصيحتك لمن يذهب إلى السحرة والمشعوذين والعياذ بالله؟
الجواب
أعوذ بالله، لا حول ولا قوة إلا بالله، إذا صرف الله قلب الإنسان في أي مصيبة، إلى أحد سواه فليعلم أن الله قد خذله، فإذا أصبت بمصيبة ووجدت شعبة من شعب قلبك تنصرف إلى أي شيء من دون الله فاعلم أن الإيمان ناقص، ولذلك إذا نزلت بك مصيبة -ولو كان عندك قدرة على دفعها- فليكن عندك يقين أنه لا حول لك ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإياك أن تعتمد على مالك أو على قوتك أو على قدرتك، ولكن اعتمد على الله وحده لا شريك له، فكيف بالسحرة والمشعوذين؟!! والله! لن يغنوا عنك من الله مثقال ذرة من خردل، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يشفيك، وهو الذي يعافيك، وهو الذي يهمُّك وهو الذي يزيل همّك، وهو الذي يغمُّك وهو الذي يزيل غمك، فاعتقد ذلك في الله وحده لا شريك له.
أما السحرة فإنهم لا يضرون أحداً إلا بإذن الله، وكم من ساحر خيب الله ظنه، وقطع سحره، وجعله وبالاً عليه، فكن قوي اليقين بالله عز وجل، سبحان الله! يذهبون إلى السحرة والمشعوذين ويخسرون الأموال والأوقات ويعلقون القلوب بمن لا يسمن ولا يغني من جوع، وكل الأمر يقف عند لحظة واحدة يدعو فيها ربه ويستغيث بالله جل جلاله فيفرج عنه، ثم يتركون الله الذي بيده النفع والضر ويستغيثون بمن عداه! نسأل الله السلامة والعافية، فنعوذ بالله العظيم رب العرش الكريم من هذا البلاء.
والله! ما حضر الموت إنساناً يعتقد أن الساحر ينجيه من عذاب الله أو ينجيه من همه وغمه من دون الله إلا كان مشركاً والعياذ بالله! خرج من الدنيا والجنة عليه حرام، فمن نواقض لا إله إلا الله أن تعتقد النفع والضر فيمن عدا الله، ولو كان الإنسان من أصلح عباد الله فإنه لا يسمن ولا يغني من جوع، فكن قوي اليقين بأنه لا ينجيك من الله إلا الله، فلا أحد يغني عن أحد من الله شيئاً.
أذكر ذات مرة رجلاً نحسبه من الصالحين، كان عنده في مزرعته رجل ساحر، ولم يكن يعلم بأنه ساحر، فكان هذا الساحر يسهر الليل ويفعل بعض الأفعال المريبة، فانتبه له بعض العمّال الذين معه، فأخبروا صاحب المزرعة، فجاء إلى هذا الساحر واكتشف أمره، فقال له: لن تبق عندي لحظة واحدة، فقال له الساحر: سأضرك، قال: لو علمت أنك تضر وتنفع من دون الله ما أخرجتك من مزرعتي، وبيني وبينك الله الذي لا رب سواه، خرج هذا الساحر، يقول الأخ: الحقيقة أصابني بعض الخوف من هذا الساحر، يقول: وشاء الله عز وجل أنني تلك الليلة جلست أتضرع إلى الله، يقول: وما جاءني النوم، وأنا أقوم وأصلي، والله إنها لعبرة، ففي فجر ذلك اليوم صلى الفجر وذهب إلى دراسته، يقول: فمررت بحي وإذا بالناس مجتمعة، في السكة والطريق، ما بكم؟ يقولون: حادث، يقول: ليس من عادتي أنزل وأرى الحوادث، وأنا ذاهب إلى الدراسة، يقول: فنزلت وإذا بصاحبي قد ضُرب على الأرض والدم يسيل من أذنه ومن أنفه ميتاً على الأرض، ما أحد يغني عن أحد من الله شيئاً، ولكن المشكلة أننا ما قدرنا الله حق قدره، ولا عظمنا الله حق تعظيمه، ولا التجأنا إلى الله حق اللجأ.
فليكن الإنسان على يقين بأنه لا ينفعه ولا يضره أحد من دون الله: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188].
فنسأل الله العظيم أن يصرف قلوبنا وقلوبكم إليه، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والله تعالى أعلم.(27/17)
كيف تنال محبة الله عز وجل
السؤال
ما هي السبل الموصلة إلى محبة الله جل وعلا؟
الجواب
أعظم السبل وأجلها: كتاب الله عز وجل.
فمن أكثر تلاوة القرآن والتدبر في آياته فإنه سرعان ما يحب الله عز وجل، والله ما وجدت محبة الله في قلب الإنسان بشيء مثل التلذذ بكلام الله عز وجل، ولما كان الصحابة رضوان الله عليهم مع القرآن في الليل والنهار وجدوا حلاوته ووجدوا لذة المحبة لله عز وجل.
الأمر الثاني الذي يعين على حب الله: أن تحب الله من نعمه، وأن تنظر في صباحك ومسائك ما ترفل فيه من النعم.
انظر إلى هذه النعم المغدقة عليك في الصباح والمساء، يقول الأطباء: إن قلب الإنسان فيه نسبة من مادة لو زادت (1%) أو نقصت (1%) لسقط ميتاً من ساعته، فما هذا اللطف وما هذه الرحمة وما هذا العطف من الله عز وجل، فانظر إلى نعمة الله عليك، تمر على العباد فترى فيهم المريض، ترى فيهم المبتلى، والفقير والضعيف، والله عز وجل أغناك وكفاك وآتاك الصحة والعافية ومنَّاك، فكيف لا تحبه وأنت ترفل في نعمه؟!! سبحان الله! ولله المثل الأعلى، لو أن واحداً منا في يوم من الأيام احتاج إلى أمر بسيط من أمور الدنيا، فجاء رجل فقضى لك هذه الحاجة بعد أن ضاقت عليك الأرض، وأصبحت في شدة ماذا يكون؟ يأسرك بهذا المعروف، حتى إن بعضنا إذا جاء يجلس مع أولاده أول ما يتكلم يقول: فلان فعل معي كذا وكذا جزاه الله خيراً، إذا جلس مع جماعته: فلان فعل معي كذا وكذا جزاه الله خيراً، لكن هل جلست مع أولادك يوماً من الأيام تقول: كنت فقيراً فأغناني الله، وكنت ضعيفاً فقوَّاني الله، وكنت مريضاً فشفاني الله، هل أحد منا فعل هذا؟! فعليك أن تحب الله من هذه النعم التي ترفل فيها صباحاً ومساءً، فالبصر مثلاً، لو تعلم ما فيه من اللطف والرحمة من الله، إذ نوَّر لك هذا البصر لأحببت الله صدق المحبة.
فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ممن أحب الله صدق المحبة، وأن يورثنا هذه المحبة التي تعلقنا به وحده لا شريك له.
ولله المثل الأعلى، فكم تحب وتكن لوالديك من عطف وبر فإنه لا يأتي مثقال ذرة من عطف الله وبره بك.
فلذلك خير ما يوصى به الإنسان أن ينظر إلى نعم الله التي يرفل فيها صباح مساء، فإذا دخلت إلى بيتك تقول: الحمد لله إذا أكلت، الحمد لله إذا شربت، الحمد لله إذا قمت وإذا وقفت تقول: الحمد لله، وتتذكر من لا يستطيع الوقوف، إذا جلست تقول: الحمد لله وتتذكر من لا يستطيع الجلوس، إذا نمت تقول: الحمد لله الذي كفاني يومي حينما تتذكر المهموم والمغموم والمحروم، والله عز وجل أعطاك ما أعطاك، فتقول: يا رب لك الحمد، فتحبه صدق المحبة وتتعلق به جل جلاله.
العقل، من الذي حفظ لك نور العقل؟ من الذي حفظ لك نعمة العقل؟ وأنت ترى من فقد العقل ومن يعيش الآلام النفسية حائراً في فهمه وعقله، والله صان لك هذه النعمة.
فلذلك النعم تقود وتدل على محبة الله.
أيضاً: إجلال الله.
فإنك إذا نظرت إلى ملكوت الله وآياته المنثورة في الكون تحبه، فالشمس سخرها لك، والقمر والنجوم والأرض وكل خيرات هذه الأرض أغدقها الله عز وجل عليك، الطعام يقاد إليك على أمواج البحار، ولو شاء الله أن تلتقمه البحار لالتقمته، ويقاد إليك بين السماء والأرض بالطائرات من فجاج بعيدة، كتب الله لك رزق هذا الطعام الذي تطعم، فكيف لا تحبه؟! تقاد إليك الثمرات من المزارع والبساتين، وكتب الله أن عبدي فلاناً يطعمها في الساعة الفلانية واللحظة الفلانية، كل ذلك لماذا؟ من أجل أن تحبه، فكيف لا تحبه؟! يقود إليك هذه النعم والمنن والآلاء كي تقود قلبك وقالبك إليه جل جلاله، فلا ترفل بنعمة إلا ولسانك يلهج من صميم قلبك: اللهم لك الحمد الذي أنت أهله.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: (لا نحصي ثناءً عليك) أي: لا نستطيع أن نشكرك حق شكرك، ولا نستطيع أن نذكرك حق ذكرك، بماذا؟ بهذه النعم.
فنسأل الله العظيم أن يحيي قلوبنا وقلوبكم بهذا كله، وأن يرزقنا وإياكم حبه الصادق.
والله تعالى أعلم.(27/18)
وسيلة دفع الوساوس الشيطانية
السؤال
تأتيني الكثير من الوساوس والشبهات في العقيدة، وفي اليقين بالله، وفي اليوم الآخر، وفي الإيمان، ويأتيني الشيطان ويصور لي ذات الله عز وجل والعياذ بالله، ويجعلني أتفكر في ذاته، فما نصيحتكم لي حفظكم الله؟
الجواب
خسئ عدو الله، وكلما تجده في نفسك من الوساوس المردية والخواطر المهلكة فاعلم أنها من الشيطان، وما العلاج؟ يلتفت عن يساره ويقول بيقين كامل: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، وأول ما أوصيك به أن تعوذ بالله جل جلاله وتفر إليه من هذه الوساوس.
وأذكر أن رجلاً كان قلبه مبتلىً بهذه الوساوس والعياذ بالله! وأكثر من الشكوى، فقلت له: يا أخي! أتشتكي إلي وأنا عبد ضعيف وعندك العلاج! قال: كيف؟ قلت: يا أخي اعرض أمرك على الله، وإن من أغرب ما وجدت من الهموم والمصائب التي يصاب بها الموسوس -والعياذ بالله- ما وجدت في هذا الرجل، فشاء الله عز وجل، أن قلت له: يا أخي! ما يمنعك أن تعتمر، وتطّرح بين يدي الله عز وجل وتبكي وتناجي الله عز وجل في عمرتك، وتقبل على الله، فالله إذا نظر إليك وأنت مقبل إليه فإنه سيفرج عنك ما أنت فيه، فأقبل على الله، وشاء الله عز وجل أن لقيته بعد شهر، وإذا بذلك الوجه قد تغير، قد أسفر وأنور، إي والله الذي لا إله إلا هو! فقلت: ما الخبر؟ فتبسم وقال لي: جزاك الله كل خير، قال لي: أُبشرك، ذهبت لاعتمر، وكان هذا في يوم الخميس فاعتمرت في سحر الجمعة، وتضرَّعت إلى الله عز وجل، يقول: والله! إني عند المقام وأنا في ركعتي الطواف أبتهل إلى الله عز وجل، وبمجرد أن سلمت كأنني غُسلت بماء، وما كأن بي شيئاً وإلى ساعتي هذه ولا أجد شيئاً مما كان.
وكان أحد الإخوة مبتلىً -والعياذ بالله- في نفسه، وبلغ به من الضر ما الله به عليم، وفي هذه السنة أذكر أنه حج، وكنت -والله- أرثي لحاله، وكان معه بعض الأخيار يشفق عليه، فشاء الله عز وجل أنني لقيته بعد الحج، وإذا بالوجه قد تغيّر والحال قد تغيّر، فقال لي: أبشرك يا شيخ! الذي كنت أجده الحمد لله لا أجد منه الآن شيئاً، قلت: كيف؟ قال: سبحان الله العظيم! في يوم عرفة ذكرت ما أنا فيه وذكرت قوله -عليه الصلاة والسلام-: (أن تعبد الله كأنك تراه) يقول: ذكرت همومي وغمومي، وحصل عندي يقين أنه لا ينجيني إلا الله وحده لا شريك له، يقول: فبكيت وتضرعت، يقول: سبحان الله! وإذا بجسمي له حرارة عجيبة، يقول: وإذا بها لحظة واحدة كأن لم يكن بي من بأس.
فمن أيقن بالله، كفاه الله والمشكلة أننا ما قدرنا الله حق قدره، وما عظّمنا الله حق تعظيمه، فهذا الكون بآثاره ودلائله وشواهده كان بكلمة (كن) فكان، {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [النحل:77]، ولربما يسلط الله عليك هذه الوساوس؛ لكي يمتحن إيمانك، يأتيك الخبيث ويقول لك: من هو الله الذي تعبده؟ ومن هو الله الذي تفعل لأجله؟ فقل له: اخسأ عدو الله، ويكون عندك يقين بأن وسوسته لا قيمة لها، والمشكلة أن البعض يأتيه الوسواس -والعياذ بالله- فيعظم أمر الوسواس، لكن أنت انظر إليه محتقراً له؛ لأن الله وصف الباطل بأنه لا جذور له: {وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} [إبراهيم:26] كماذا؟ {كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ} [إبراهيم:26] فكل الوساوس تدفعها كلمة واحدة، ما هي؟ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، كلمة تخرج من القلب وليس كلمة هكذا يقولها، بل وهو يحس أنه لا ينجي من هذا الكرب إلا الله وحده لا شريك له.
فنسأل الله العظيم أن يرزقنا هذا اليقين، وأن يعجل لك بالفرج من لدنه، إنه هو أرحم الراحمين.
والله تعالى أعلم.(27/19)
المعصية واليقين
السؤال
كيف يكون المسلم على يقين دائم بالله إذا كان يذهب بعض الأوقات لفعل المعاصي، والعياذ بالله؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فإنه ينبغي للمؤمن أن يحسن الظن بالله عز وجل، ومهما فعل من المعاصي فليعلم أن الله لا تضره المعصية ولا تنفعه الطاعة، ولذلك قال الله تعالى في الحديث القدسي: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي) فينبغي على الإنسان إذا اقترف الذنوب والمعاصي أن يحسن الظن بالله جل جلاله، وأن يصدق في التوبة، فإنه من صدق مع الله صدق الله معه.
فخير ما يوصى به الإنسان إذا كثرت ذنوبه أن يكثر التوبة، صحيح أنك إذا أذنبت نقص اليقين في القلب، والعياذ بالله، وكل ذنب بين الإنسان وبين الله ينقص اليقين، وبقدر الذنب والجريمة ينقص ذلك اليقين، ولذلك خير علاج لمن بلي بالذنوب أن يكثر من الاستغفار، ومن أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.
فأوصيك -أخي في الله- أن تكثر التوبة والاستغفار، والله تعالى أعلم.(27/20)
تذبذب اليقين
السؤال
أنا رجل يرتفع يقيني بالله عز وجل تارة، ويقل أخرى، وهكذا دائماً تكون حالتي، وأنا رجل شيخ ممن يقوم الليل، ولكني لا أحس بحلاوة ما أفعل، ولا أبكي من خشية الله جل وعلا، فأرشدنا إلى سبب ذلك، بارك الله فيك؟
الجواب
أما ما ذكرت من اختلاف قلبك بالإقبال والإدبار، فهذا من حكمة الله عز وجل بالعباد، فالقلوب لها إقبال وإدبار، فإذا أقبل قلبك على الله فاستكثر من خصال الخير، فجد واجتهد في الطاعات، وإذا أدبرت نفسك عن الله فاحفظ فرائض الله، وسأوصيك بأمور: أولها: أن تتفقد نفسك، فإن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم، فلعلّ ذنباً بينك وبين الله حال بينك وبين القبول من الله، ولعلّ ذنباًَ بينك وبين الله حرمك اليقين بالله، فأول ما يفكر فيه الموفق أن ينظر كيف حاله مع الذنوب، فإن وجد ذنباً استغفر الله وتاب منه، وعقد العزم على عدم الرجوع إليه.
وأما ما ذكرته من قيام الليل وعدم وجود الخشوع، فإنا لله وإنا إليه راجعون، فإن قيام الليل من أهم الأسباب التي تعين على خشوع القلوب، ومن قام الليل ولم يجد لقيامه خشوعاً فليبك على نفسه وليطرَّح بباب ربه وليستعذ بالله من قسوة قلبه، وليعلم أن بينه وبين الله حائلاً، إما ذنباً من عقوق أو معصية أو قطيعة رحم أو أكل مالٍ ظلماً أو هتك ستر الله أو نحو ذلك من المعاصي، فأول ما يفكر فيه أن يتفقد نفسه، وأن يحاول قدر استطاعته أن يتوب إلى الله، فإن الله تعالى يقول: {لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل:46]، وكان العلماء رحمهم الله إذا أعيتهم المسألة وأصبحت شديدة عليهم أكثروا من الاستغفار، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: (إن كانت المسألة ليستغلق عليَّ فهمها -فيما معنى كلامه- فلا أزال أستغفر الله حتى أبلغ ألف مرة ثم يفتح عليَّ فيها).
فعليك أن تكثر من الاستغفار، فإذا قمت في الليل فاجعل ليلك مطية للاستغفار، فإن الله يرحم من يستغفره، ويلطف به: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10]، فنسأل الله العظيم أن يعافينا وإياكم من هذا البلاء، وأن يرزقنا وإياكم اللذة في مناجاته وذكره.
والله تعالى أعلم.(27/21)
السعادة
إن السعادة أمر يبحث عنه وينشده كل إنسان، ولكن من الناس من بحث عن السعادة في المال، والبعض بحث عنها في اتباع الشهوات وفعل المحرمات، ولكن هؤلاء كلهم -في الحقيقة- لم يجدوا السعادة؛ لأن السعادة قد جعلها ربنا جل وعلا في طاعته وذكره، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، فليسع الإنسان إلى طاعة الله، لكي يتذوق السعادة في حياته الدنيا وفي الآخرة.(28/1)
من هو السعيد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فيا أيها الأحبة في الله! من هو السعيد الذي امتلأ قلبه بذكر الله؟ من هو السعيد الذي إذا أمسى وأصبح ليس في قلبه غير الله جل جلاله؟ من هو السعيد الذي أسعده الله في نفسه فاطمأن قلبه بذكره ولهج لسانه بالثناء عليه؟ من هو السعيد الذي أقر الله عينه بالطاعات، وأسرَّه بالباقيات الصالحات؟ من هو السعيد الذي أسعده الله في أهله وماله وولده فرأى قرة العين وحمد الله سبحانه وتعالى على القليل والكثير؟ من هو السعيد الذي أسعده الله بين الناس، فعاش طيب الذكر، حسن السمعة، لا يذكر إلا بخير، ولا يعرف عنه إلا الخير؟ من هو السعيد الذي إذا وقف على آخر أعتاب هذه الدنيا وقف بقلبٍ ثابت ولسانٍ ذاكر، وقد رضي عن الله وأرضاه الله؟ من هو السعيد الذي إذا ذهبت ساعته وحانت قيامته تنزلت عليه ملائكة ربه تبشره بالروح والريحان والرحمة والغفران وأن الله راضٍ عنه غير غضبان؟ من هو السعيد الذي ختم له بخاتمة السعداء فكان آخر ما نطق به من الدنيا: لا إله إلا الله؟ من هو السعيد الذي أسعده الله في قبره، وأقر عينه في لحده، حتى إذا أدخل في ذلك القبر وعوتب في ذلك اللحد وسئل -إن ثبت الله له الجنان واللسان- فقال: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد صلى الله عليه وسلم، فنادى منادٍ من السماء: أن صدق عبدي، ففرش له من الجنان، وفتح له منها يأتيه من الروح والريحان، فقال السعيد: يا رب! أقم الساعة، يا رب! أقم الساعة، شوقاً إلى رحمة الله وحنيناً إلى عظيم ما ينتظره من فضل الله؟ من هو السعيد الذي إذا بعث من قبره وخرج إلى حشره ونشره خرج مع السعداء، فتتلقاهم الملائكة {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:103]؟ من هو السعيد الذي إذا دنت الشمس من الخلائق، وأذل الله فيه كل عزيز، وأخرس ناطق، واشتد لهيبها وعظم حرها وذهب العرق في الأرض سبعين ذراعاً فاشتد الخطب، فإذا به في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله؟ من هو السعيد الذي إذا وقف بين يدي ربه وقف موقف الكريم، فأعلى الله شأنه وأنطق بالخير لسانه، ونادى الله عليه بالبشرى بالجنة؟ من هو السعيد -أيها الأحبة في الله- الذي ينتهي مآله ويكون قراره إلى الجنة دار السعداء ومنزل الأتقياء؟(28/2)
أسباب السعادة
أيها الأحبة في الله! إنها السعادة الحقيقية التي يتمناها كل عبدٍ صالح إنها السعادة الحقيقية التي إذا فتح الله لك أبوابها لم يستطع أحدٌ أن يغلقها عليك.(28/3)
حسن الخلق ونقاء القلب والسريرة
أيها الأحبة في الله! إذا أراد الله أن يسعد العبد بين الناس أسعده بحسن الخلق، قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم القائم)، وأخبر صلى الله عليه وسلم (خير المؤمنين وأكملهم إيماناً أحسنهم أخلاقاً)، فإذا أراد الله أن يسعدك طيَّب شمائلك وأخلاقك، فأحبك الناس من قربك وفعلك، من رزقه الله حسن الخلق عاش سعيداً، ومات حميداً، ورضي الناس عنه وشهدوا له بكل خير، ولربما بقي حياً بعد موته في الذكر الجميل، فالأخلاق والآداب الطيبة ومعاشرة الناس وتوطئة الكنف من أعظم أسباب السعادة.
إذاً: مما ينبغي على الإنسان إذا أراد أن يكون سعيداً مع المسلمين أن يكون نقي القلب والسريرة، فلا سعادة إلا إذا أخرج العبد من قلبه الشحناء والبغضاء، والحسد واحتقار الناس، وآفات القلوب جميعها، وأسلم لله قلبه، واستحيا من الله أن ينظر إلى قلبه وفيه غلاً على مسلم، واستحيا من الله أن ينظر إلى قلبه وفيه الحسد أو البغضاء أو الشحناء، لقد بشر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً بالجنة فانطلق مع هذا الرجل عبد الله بن عمرو بن العاص، وبات معه ثلاث ليالٍ ليرمق عبادته، وينظر أقواله وأفعاله، فلم يجد كثير صيام ولا قيام! ثم قال له في اليوم الثالث: (إني كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجلٌ من أهل الجنة فكنت هو، فأخبرني عن أرجى عملٍ تعمله، فقال ذلك الصحابي المبشر بالجنة وهو يمشي على وجه الأرض قال: أما إنه ليس عندي كثير صيامٍ ولا قيام، ولكني لا أمسي وأصبح وفي قلبي غلٌ على مسلم).
إن القلوب إذا تغيرت، والنفوس إذا تبدلت، أظهر الله ما في السرائر على الظواهر.
ومن أسر سريرة الخير أظهر الله للناس خيره، ومن أسر سريرة السوء والشر أظهر الله للناس عورته.
فأول ما ينبغي على الإنسان لكي يكون سعيداً مع الناس: أن ينزع من قلبه الحسد والبغضاء، وإياك أن تحتقر مسلماً لقلة ماله أو مركزه أو وظيفته، فالمسلمون جميعاً يجب أن تحب لهم ما تحب لنفسك، وترضى لهم ما ترضى لنفسك، وينبغي أن تحسن بهم الظن كما ينبغي عليهم أن يحسنوا بك الظن أيضاً، فإذا سلم صدرك سلمت جوارحك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب) ووالله لن يصلح القلب إلا بالسلامة لله عز وجل من أذية المؤمنين.
وإذا أردت سعادة مع الناس: فعليك أن تسلم الناس من لسانك، فلا يسمعون منك إلا الطيب؛ لأن المسلم طيب سلم لله لسانه وجنانه وجوارحه وأركانه.
ولقد وصف الله أهل الجنة بأنهم طابوا، والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويسلمون عليهم، ويقول الله عز وجل: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر:73] فلما طابت أقوالهم وأفعالهم كانوا من أهل الجنة، فمن أراد أن يكون من السعداء فليحفظ لسانه عن الناس، وإذا أراد أن يعيش بين الناس عيشةً هنية رضية فليحفظ لسانه عن عورات المسلمين وأذية إخوانه المؤمنين، وأن يعطي إخوانه المسلمين من الكلام ما يحب أن يأخذه منهم.
كذلك من أسباب السعادة مع الناس: الحرص على مجالستهم ومباسطتهم ومؤانستهم، فإن ذلك من أسباب السعادة، فإن من نعم هذه الدنيا التي ينعم الله بها على عباده الصالحين مجالس الذكر والخير، فإذا جلست مع الناس فتفقد أحوالهم، فإذا رأيت المهموم بدلت همومه بكلمةٍ طيبة، وإذا رأيت القلق الحيران أرشدته في حيرته ووجهته من غفلته وذكرته بالله، فإنها كلماتٌ طيبات يعظم أجرها في الدنيا وفي الآخرة بعد الممات.
من أراد أن يعيش سعيداً مع الناس حرص على أمرهم بالخير ودلالتهم عليه، فإذا فعل ذلك طيب الله ذكره ومجالسه، وقذف في قلوب الناس حبه وحب الجلوس معه، حتى ولو كانوا من جيرانك الأقربين إذا زرتهم وتفقدت أحوالهم، فإن رأيت تقصيراً كملته، وإن رأيت عيباً دللتهم ونبهتهم عليه، وأرشدتهم إليه، وأخذت بمجامع قلوبهم إلى الله، واحتسبت الأجر عند الله.(28/4)
الدعاء
أيها الأحبة في الله! لا تنال السعادة إلا بتوفيق الله جل جلاله، فأول ما ينبغي على من أراد أن يسعده الله في الدنيا والآخرة فعليه أن يكثر من الدعاء بأن يسأل الله عز وجل أن يحييه حياة السعداء، وأن يميته موتة الشهداء، وأن يرزقه مرافقة الأنبياء، فإن الله كريم، فلا تستكثر على الله أن يسعدك في أهلك ومالك وولدك، فإن الله مقلب القلوب والأحوال، وكم من شقي قلبه الله سعيداً في طرفة عين! فالله على كل شيءٍ قدير.
ولذلك جاء الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على الكفر فأسلم في آخر لحظة، ثم حمل سيفه فقاتل وجاهد في سبيل الله فاستشهد، فقال صلى الله عليه وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً).
فالسعادة من الله، وإن فتح لك الله بابها فلا يستطيع أحد أن يغلقه عليك {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2] فأكثر من الدعاء، وإذا نظر الله إليك وأنت تفتقر إليه بأن يرحمك فإن الله سيجزيك ويجيب دعوتك، قال تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا السعادة، وأن يتأذن لنا ولكم بالخير والزيادة.(28/5)
قراءة القرآن وسير الأنبياء والسلف الصالح
كذلك من أسباب السعادة: أن يكثر الإنسان من تلاوة القرآن، فإن الله جل وعلا أسعد أهل القرآن، فطوبى ثم طوبى لمن جعل الله القرآن ربيع قلبه، ونور صدره، وجلاء حزنه، وذهاب همه وغمه، وسائقه وقائده إلى رحمته ورضوانه.
من أسباب السعادة: قراءة سير الأنبياء، والتدبر والتأمل فيها، وكثرة النظر في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، كيف كان مفوضاً الأمور كلها إلى الله، يحتسب الأجر من الله سبحانه وتعالى.
من أسباب السعادة: قراءة سير السلف الصالح من العلماء العاملين والأئمة المهديين، ومن سار على نهجهم من الأخيار والصالحين، فإن ذكر الصالحين والنظر إلى أحوالهم وما كانوا عليه من الاستقامة والثبات على الحق والخير وحبه مما يقوي القلوب على طاعة الله وعلى مرضاته.(28/6)
حضور حلق الذكر
فمن أسباب السعادة التي ييسر الله عز وجل بها للعبد سبيلها: طلب العلم وغشيان حلق الذكر، فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن مجالس الذكر: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
فمن أمارات السعادة وأسبابها ودلائلها: أن يوفق الله العبد لحب مجالس العلماء وغشيان حلق الذكر.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرزقنا وإياكم سعادة الدين والدنيا والآخرة.
اللهم إن نسألك سعادةً لا نشقى بعدها أبداً، اللهم إن نسألك رحمةً من عندك تهدي بها قلوبنا، وتصلح بها أحوالنا، اللهم إنا نسألك رحمة تتأذن لنا بها منك بالمزيد، وتؤمننا بها يوم السطوة والوعيد يا ذا الأمر الشديد! وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(28/7)
صلاح الأبناء واستقامتهم على الخير
وإذا أراد الله أن يسعد العبد أسعده في أولاده، فرأى قرة العين في الولد عند صلاحه، وهذا إنما يكون بكثرة الدعاء للأولاد في أوقات الإجابة أن يرزقهم الصلاح والاستقامة على الخير والفلاح، قال الله عن عباده الصالحين: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم قرة العين، وأن يجعل أبناءنا وبناتنا سبب سعادة لنا في الدنيا والآخرة، فإن الولد من أعظم أسباب السعادة، فإذا أردت أن ترى السعادة في الولد فانظر إلى الولد الصالح، فإنك إن نسيت الله ذكرك! وإن ذكرت الله أعانك! وإذا كنت على طاعةٍ ثبتك.
والولد الصالح أمنية الأخيار والصالحين، لذلك قال الله عن نبيه لما سأله: {هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] ولا تطيب الذرية إلا بالصلاح والاستقامة على الخير والفلاح، ولكن من الآن ابدأ في تربيته بدعوته للخير؛ لأنك إن أقمته على طاعة الله من صغره أقر الله عينك في كبره، من تعب الآن بأمر أولاده بالصلاة وتحبيبهم إلى طاعة الله والتقوى والزكاة أقر الله عينه في الكبر، فمن أخلص لله في الصغر مع أبنائه أقر الله عينه عنه في كبره، ومن تساهل معهم وفرقهم فإنه قد ضيع حق الله فيضيعه في ولده، ووالله لن ترى والداً ووالدةً أهملا أولادهما بعد أمرهم بطاعة الله وحثهم على مرضاته سبحانه وتعالى إلا جاء اليوم الذي يبكي فيه كل واحدٍ منهما بكاءً شديداً، ولذلك قلّ أن تجد والدين فرطا أو ضيعا إلا وجدت الأولاد يعقون عند الكبر، نسأل الله السلامة والعافية.
فمن أسباب السعادة في الأولاد تربيتهم على الصلاة والطاعة والخير والبر، يقول بعض العلماء: إن الولد إذا تعوّد من الصغر على الأمر والحث على الصلاة، وفي كل يوم خمس مرات وأنت تقف على رأسه وتتابعه في صلاته وعبادته، أصبح عنده شعور لا يزول إلى الأبد بالذل لك، والسمع والطاعة، والامتثال بأمرك، ولذلك قلّ أن تجد ذريةً يحاسب والداها على الأمر بالخير إلا وجدتهم عند الكبر مطيعين محبين ممتثلين يهابون الوالدين؛ لأن الله لا يجزي بالإحسان إلا الإحسان، ومن وفّى لله في نعمة الولد وفّى الله له، وأقر عينه عاجلاً وآجلاً.(28/8)
بذل المال وإنفاقه في وجوه الخير
من أسباب السعادة: أن يسعدك الله في مالك، ومن أسباب السعادة في المال بذله في طاعة الله سبحانه وتعالى، فمن أنفق لله أنفق الله عليه، قال صلى الله عليه وسلم: (يا أسماء! أنفقي ينفق الله عليك، ولا توعي فيوعي الله عليك) من رزقه الله المال الصالح الذي أخذه من حله وكسبه كسباً طيباً حلالاً، ووفقه لتفريج الكربات، وتكفيف دموع الأرامل واليتامى والثكالى؛ فإن الله يسعده في ذلك المال، فإن الصدقة تطفئ غضب الرب، وتدفع عن العبد البلايا والرزايا، وقلّ أن تجد عبداً كثير الصدقات إلا وجدت الله سبحانه وتعالى يلطف به من حيث لا يحتسب.
فيا إخواني! الحرص ثم الحرص على الإنفاق! وعلى إدخال السرور على الضعفاء والفقراء والمحتاجين، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجر من أحسن عملاً.
ومن أنفق لله بارك الله له في ماله، وجعل هذا المال قرة عينٍ له في الدنيا والآخرة، فعليكم بالحرص على الصدقات؛ لأن الحرص على الإحسان إلى الضعفة والبائسين والمحتاجين من أجلّ نعم الله عز وجل على العبد، ولذلك عندما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة تطفئ غضب الرب) قال بعض العلماء: إنها تحجبُ البلاء؛ لأنه إذا كانت تطفئ غضب الرب فمعنى ذلك: أن العبد يحفظ من البلاء.
ثم إن الإحسان إلى الناس سببٌ في الدعوات الصالحة، فقد تأتي إلى أرملةٍ ضعيفة أو مسكينٍ أو يتيمٍ أو بائس فتحسن إليه، وتتفقد حاله فتقضي حاجته، فينظر وإذا به عاجزٌ عن شكرك ورد جميلك فلا يملك إلا أن يرفع كفه إلى الله سائلاً أن يشكرك، فلربما غفرت ذنوبك وسترت عيوبك وفرجت كروبك، قال صلى الله عليه وسلم: (من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، ومن يّسر على معسرٍ يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن نفّس عن مؤمنٍ كربةً من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة).
فمن أعظم أسباب السعادة في المال: كثرة إنفاقه، ولذلك قال بعض العلماء: إن المال الصالح عند العبد الصالح طريق إلى الجنة.
في الحديث الصحيح: (أن امرأة جاءت إلى عائشة وكان معها ابنتان، فاستطعمت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها فأطعمتها ثلاث تمرات -ولربما كانت التمرة الواحدة قوتاً للإنسان يومه كله- فأخذت هذه الأم تمرتين فأعطت كل بنت تمرة، ثم أخذت التمرة الثالثة تريد أن تأكلها، فاستطعمتها إحدى بناتها، فأطعمتها تلك التمرة ولم تأكلها، فعجبت عائشة رضي الله عنها وأرضاها! فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته خبر المرأة، فنزل الوحي من السماء على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها: أتعجبين مما صنعت؟! إن الله حرمها على النار بتمرتها تلك) هذه -والله- هي السعادة حينما تنفق لله، وأي مالٍ أخرجته مخلصاً لوجه الله عز وجل تحتسب به ما عند الله، فإن الله يخلفه عليك في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فإن الله يخلف عليك بالبركة في مالك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (ما من يوم يصبح فيه العباد إلا وملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكاً تلفاً).(28/9)
بر الوالدين والإحسان إليهما
وكما أن السعادة تكون في النفس بالاستقامة تكون في الأهل والمال والولد، فإذا أراد الله أن يسعدك في قرابتك رزقك رضا أقرب الناس إليك ورزقك الرضا من أقرب الناس إليك وأعظمهم حقاً عليك، فإذا أراد أن يسعدك رزقك رضا الوالدين، فمن أعظم أسباب السعادة: رضا الوالدين، ومن أرضى والديه رضي الله عنه، وكم من ابنٍ بار فتحت أبواب السماء لدعواتٍ مستجابةٍ من والديه، وكم من ابنٍ بار فتح الله أبواب الخير في وجهه عندما أرضى الله في والديه، قال صلى الله عليه وسلم: (رضي الله على من أرضى والديه، وسخط الله على من أسخط والديه) وفي الحديث: (يا رسول الله! أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها، قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله).
فمن أعظم أسباب السعادة بر الوالدين، والله تعالى إذا أراد أن يسعد الإنسان جعل قلبه معلقاً برضا والديه، فإذا كانا حبيبين نظر إليهما نظر الرحمة فيرحمهما عند المشيب والكبر، ورزقه الله انكسار القلب وهو يرى والده في آخر هذه الدنيا ضعيفاً سقيماً كبيراً، فألهمه بره والإحسان إليه، ونظر إلى أمه وهي ضعيفةٌ سقيمة في آخر أعتاب هذه الدنيا، فأحبها من كل قلبه، واشتغل ببرها بسائر جوارحه، ينتظر رضاها الصباح والمساء والعشي والإبكار، حتى يتأذن الله له بتمام الرضا، فكم من حوادث ووقائع رأى أهلها السعادة بفضل الله وحده ثم ببر الوالدين.
إذاً: بر الوالدين من أعظم أسباب السعادة، حتى ولو كانا ميتين، فإن كثرة الترحم عليهما والاستغفار لهما والصدقة عنهما من أسباب السعادة، ولذلك قال الرجل: (يا رسول الله! هل بقي من بري لوالدي شيءٌ أبرهما به بعد موتهما؟ -من رحمة الله أنه لم يقفل عليك هذا الباب الكريم وهو رضا الوالدين، حتى بعد موتهما- قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما) والله لن ترى عبداً يبرُ والديه من أهل الإيمان إلا وجدته سعيداً قرير العين عن الله جل جلاله.(28/10)
أثر الإيمان في سعادة العبد
إذا أراد الله أن يسعد العبد كان أول ما يوفقه إليه هو الإيمان بالله جل جلاله، فمن عرف الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ورزقه الله سلامة الإيمان واستقامة الجنان وصوَّب الأمور كلها للواحد الرحمن، واعتقد من قرارة قلبه ألا ملجأ ولا منجى ولا مفر من الله إلا إليه.
السعيد الذي ملأ الله قلبه بالإيمان فإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له، لا تتبدل أحواله ولا تتغير هدايته، قد جعل الجنة والنار نصب عينيه، فهو يعمل للجنة ويفر من النار.
إذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه انشراح الصدر بذكره وطمأنينة القلب بالإنابة إليه وشكره، فالذاكرون الله كثيراً والذاكرات هم السعداء، وإذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، فأصبح لسانه لا يفتر عن ذكر الله جل جلاله، وأصبحت ساعاته وحركاته وسكناته كلها لله سبحانه وتعالى، ينتقل من طاعةٍ إلى طاعة، ومن برٍ إلى بر، ومن خيرٍ إلى خير، لا يسأم ولا يمل، وقلبه متعلق بالله سبحانه وتعالى.
سعادة المؤمن في ذكر الله، ولقد سبق المفردون (قالوا: يا رسول الله! من هم المفردون؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات) فإن كلمة واحدة من ذكر الله قد تسعدك إلى لقاء الله، وذكر الله سبحانه وتعالى عظيمٌ عند الله، قال صلى الله عليه وسلم: (كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فمن أكثر من التسبيح والتحميد والتكبير والتهليل وصوَّب الأمور كلها لله فقد كملت سعادته وعظمت هدايته.(28/11)
الرضاء بقضاء الله
إذا أراد الله أن يسعد العبد رزقه الرضا بقضائه، فوالله لو لبس مرقع الثياب وعاش فقيراً مدقعاً فإن الله يملأ قلبه بالغنى، فإن ابتلي وهو يشكر ربه ويحمده يحس أنه لا أسعد منه حينما رضي عن الله، ولو رأى مصائب الدنيا وأهوالها ونكباتها فإنه سيعلم أن الأمور كلها لله سبحانه وتعالى، فلا يضيق عليه قلب، ولا يسأم ولا يمل، ولا يشتكي الرب إلى الخلق، ولا يشتكي من سقمه ولا من مرضه لعلمه أن الله ابتلاه، فيحب أن يري الله من نفسه ما يحب ويرضى، ويحب أن يسمع الله من لسانه ذكره وشكره والإنابة إليه سبحانه، فمن أمسى وأصبح راضياً عن الله أرضاه الله، وكم من غني ألبسه الله ثوب الغنى والعافية، ومع ذلك تنصب عليه الأموال صباح مساء، ولو سألته عن حاله لقال: إني في همٍ وكربٍ وغم! المال لا يأتي بالسعادة، ولو كان المال يأتي بالسعادة لكان أسعد الناس قارون، كانت مفاتيح خزائنه تنوء بالعصبة القوية عند حملها، فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة.
المال لا يأتي بالسعادة، وكم من غنيٍ كريم أبكاه ماله فطال بكاؤه! وكم من غنيٍ أشقاه ماله فما نال السعادة بعد شقائه! السعادة لا تكون إلا بالرضا عن الله، والعلم اليقيني أننا ملكٌ لله، فإذا علم العبد أنه لله توسع عليه ضيق الدنيا، وزال همها وغمها، فأبدله الله الفرح والسرور والكرامة، ومن ظن أن السعادة في الأموال فإنه قد أخطأ.
حدثني الوالد رحمه الله: أن رجلاً كان غنياً ثرياً، أنعم الله عليه بالنعمة، ووسع عليه بالرزق، قال رحمه الله: لما اشتد الحال بالناس اشترى صفقةً من الطعام، وكانت صفقةً كبيرة، قال رحمه الله: فدخلت عليه وقد أخبره رجل أن سعر الطعام الذي اشتراه قد ارتفع إلى أضعافٍ كثيرة، فلم يتحمل الفرحة فسقط ميتاً على دفتره، قال: ومضت الأيام، وتبدلت الأحوال، فدخلت على رجلٍ من أهل المدينة في كرائم نعمه وقد اشترى صفقةً من نفس الطعام، قال: والله فأتاه الخبر بأن سعر الطعام قد انخفض، فلم يتحمل الصدمة فسقط ميتاً.
فقال: سبحان الله! عجبت لرجلٍ يموت عند الغلاء فرحاً، ورجلٌ يموت عند الرخص حزناً!! فالسعادة ليست في المال، فوالله كم من غنيٍ ثري يتمنى أنه كالفقير! وكم من غنيٍ ثري أبكته زوجته بسبب المال وأبكاه أولاده وأقاربه بسبب المال! فلم أر السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد ولربما رأيت الرجل فقيراً مدقعاً قليل المال ولكن الله أغناه بالإيمان والرضا، فإذا دخلت عليه قلت له: كيف حالك؟ قال: الحمد لله، في نعمةٍ من الله وفضل.
وكم من قويٍ في البدن قد أنعم الله عليه بالعافية، ومع ذلك سلبه الرضا في قلبه، فإذا سئل عن حاله اشتكى وبكى! وكم من مريضٍ فقيرٍ طريح الفراش قد يكون مشغولاً في مقعده، تسأله: كيف حالك؟ يقول: الحمد لله، لأن الله ملأ قلبه بالرضا! إذا أراد الله أن يسعد العبد أسعده أولاً في نفسه، وظهرت دلائل السعادة بالتوبة والإنابة إلى الله، والبكاء على ما سلف وكان من الذنوب والعصيان، فيسأل الله -دائماً- العفو والغفران، وسيصلح الله من حاله ويبدل من أفعاله ومقاله إلى خيرٍ وبر.
ثم تأتيك السعادة في الهداية والإنابة إلى الله والرجوع إليه سبحانه وتعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلام} [الأنعام:125].(28/12)
الأسئلة(28/13)
أسباب قسوة القلوب
السؤال
إن الله تعالى يقول: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] وإن الناظر في أحوال الناس يرى أن القلوب بدأت تتحجر ولا تخشع، ولا العيون تدمع عند سماع آيات القرآن، فهلا ذكرت لنا موعظة لتلين قلوبنا وتدمع أعيننا، وما هي أسباب قسوة القلوب؟
الجواب
لا حول ولا قوة إلا بالله! والله المستعان! إن الوعظ والتذكير مسئولية عظيمة، وتذكير الناس ووعظهم ليس بكلمات تذكر فقط، بل تحتاج إلى حضور قلب، وأحتاج قبل أن أعظكم أن أعظ نفسي، وأحتاج قبل أن أذكركم أن أذكر نفسي، والله من أصعب الأسئلة عليَّ وأعظمها عليَّ أن يقال: عظنا! من أنا حتى أعظ؟! الكل يحث ويذكر بالله جل جلاله.
كم من أناس كانوا معنا في العام الماضي، أين هم الآن؟ كم من أناس كانوا في نعمة وأصبحوا في نقمة! فالليل يذكر بالله، والنهار يذكر بالله، وكل شيءٍ في هذا الوجود إلا وهو يعظكم، ما من شيء منذ طلوع الشمس إلى غروبها إلا وهو يذكرك بغروبك من الدنيا وخروجك منها، فقط موقف تقفه إذا دنت الشمس من الغروب، أتتأمل تلك الساعة، كانت الشمس في قوتها ووهجها، يسقط الناس من حرارتها، وإذا بها عند الغروب قد أسلمت لله وذلت له جل جلاله، فإذا بذلك الشعاع ينكسر، وإذا بتلك القوة تنحسر وتنفطر، وإذا بها تؤذن بالغروب، يذكرك الله جل جلاله أن هذه النعمة التي تعيشها -إن كنت في قوتك- ستزول وتنتهي وتسلم الروح له جل جلاله، كل شيءٍ يذكر بالله، ولكي تكون قلوبنا حية فلنتأمل في كل شيء، بيتك الذي تدخله ومسكنك الذي تسكن فيه الآمن الجديد الجميل وإذا به يصير إلى هدم وإلى حالة أسوأ مما كان عليها، يجدده الليل والنهار، ويغيره العشي والإبكار، فكل شيء يذكر بالله جل جلاله، يوم أن توجه نظرة في هذا الوجود إلا ويصيبك شيء من التأمل.
أما قسوة القلوب فمن آثار الذنوب، وكل الذي يصاب به الإنسان هو بسبب الذنوب، فعليك ألا تقول وتعمل إلا خيراً، وعلى المسلم أن يتذكر قول الله عز وجل: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:8].
ثقل الموازين بالطاعات والحسنات، وليتذكر الإنسان لماذا خلق؟ ولماذا أوجده الله؟ فكل لحظة ينبغي أن تسخرها لهذا الأمر فتسبح وتحمد وتهلل وتكبر وتذكر الله جل جلاله لعل الله أن يثقل موازينك، فكم من كلمة يسيرة من ذكر الله جل جلاله ثقل الله بها الميزان ورفع بها الدرجات.
فعلى المسلم أن يكون دائماً ذاكراً لله سبحانه وتعالى، فمن عبرة إلى عبرة: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] وإذا حاول المسلم تغيير ما في قلبه من شر إلى خير فإن الله يوفقه ويسدده إلى كل خير، وهذه من الأسباب التي تزيل قسوة القلب، كذلك من الأسباب كثرة تلاوة القرآن، ولو أن الإنسان لا يحفظ إلا الفاتحة فليكررها؛ لأن قراءة القرآن من أعظم أسباب لين القلوب، وكم من حافظٍ للقرآن إذا تلاه كتبت لها ملايين الحسنات، إن هذا مما يلين القلوب بالله جل جلاله.
كذلك أيضاً مما يلين القلوب لذكر الله سبحانه وتعالى: أن يبتعد الإنسان عن الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يصبر نفسه على الخير.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرحمنا برحمته.
اللهم إننا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
اللهم تب علينا في التائبين، وارحمنا برحمتك وأنت أرحم الراحمين.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم ألا يفرق جمعنا هذا إلا بذنب مغفور، وأجر مرفوع، وعمل صالح مقبول مبرور.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(28/14)
من علامات قبول الأعمال
السؤال
إذا عمل الإنسان عملاً صالحاً، فما هي علامات قبول هذا العمل؟ وكذلك إذا تاب، هل هناك علامات لقبول توبته؟
الجواب
أما بالنسبة لأمارات القبول فهو غيبٌ لا يعلمه إلا الله سبحانه، الله وحده هو الذي يعلم من المقبول وغير المقبول، كان علي رضي الله عنه إذا كانت آخر ليلة من رمضان صاح وبكى، وقال رضي الله عنه: (ألا ليت شعري من هو المقبول فنهنيه، ومن هو المحروم فنعزيه) فقد يكون الذنب سبباً لعدم قبول العمل، فنسأل الله أن يتقبل منا ومنك.
انظروا إلى نبي الله الخليل حبيبه وصفيه عليه الصلاة والسلام، لما بنى القواعد من البيت وهو في العمل الصالح يقول: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، فكان يسأل الله القبول.
ومن أمارات القبول: أن الإنسان يكون حاله بعد الطاعة أفضل من حاله قبل الطاعة.
ومن علامات القبول: أن الإنسان بعد الطاعة يحسُ بانشراحٍ لعمل طاعةٍ للرب، فأنت -مثلاً- إذا تبت إلى الله ثم وجدت بعد ذلك انشراحاً لزيارة أرحامك، فتخرج من صلة رحمك لينسأ لك في أثرك، ويبسط لك في رزقك، ويزاد لك في عمرك، فتخرج تحتسب الأجر من الله، وما أن تفرغ من بر الوالدين إلا وصدرك ينشرح، فبدلاً من أن تذهب إلى بيتك لتذهب إلى محاضرة أو مجلس ذكر أو موعظة، فتجد أن الطاعات تتبع بعضها بعضاً، فلا يزال العبد المقبول يدخل في رحمات الله جل جلاله من بر إلى بر، ومن طاعة إلى طاعة، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
ومن علامات قبول الأعمال الصالحة: ظهور آثارها على العبد، فإن الصلاة لها أثرٌ عظيم، ومن ذلك أنها تحفظ صاحبها -بإذن الله- من الفحشاء والمنكر، فإذا خرج المصلي من المسجد يغض بصره عن محارم الله، ويكف لسانه عن أذية المسلمين، ويحفظ فرجه عن حدود رب العالمين، فليعلم أن صلاته -إن شاء الله- مقبولة، تجده بعد فعل الطاعة، إذا جاء دافع الشهوة يقول: أعوذ بالله! أعوذ بالله! فيخشى ويخاف، فمثل هذا يرجى له القبول، ونسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، والله أعلم.(28/15)
تحذير من القنوط من رحمة الله
السؤال
أنا شاب ظاهري الصلاح، ولكن أحس بقسوةٍ في قلبي وأحب فعل الطاعات وأعزم على فعلها، ولكن سرعان ما أقع في المعصية، وأجد تأنيباً من نفسي، حتى أني أخشى على نفسي من القنوط واستحواذ الشيطان على قلبي، فهل من علاج لهذه المشكلة؟
الجواب
لا زال الخير موجوداً في قلبك ما دمت أنك تندم وتتألم، وأبشر بالخير، وكل من عصى الله وابتلي بالمعصية فإن الله إذا أراد به خيراً ألهمه حسن الظن بالله، فإذا ابتليت بالمعصية -ولو مئات المرات أو آلاف المرات- فتب إلى الله، فإن الله يفرح، والله يحب منك أن تقول: اللهم إني تائبٌ إليك، ويفرح بذلك -وهذا أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم- فرحاً حقيقياً يليق بجلاله وكماله سبحانه وتعالى: (لله أفرح بتوبة عبده) فإذا ابتليت بالمعصية إياك أن تقنط! واعلم أنه لو بلغت ذنوبك عنان السماء، واستغفرت الله لغفرها لك ولا يبالي، ولو أتيت بقراب الأرض خطايا وتبت إلى الله توبة نصوحاً أتاك الله بقرابها مغفرة ولا يبالي.
وانظر هذا النداء: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] الذين أسرفوا، فمهما بلغت ذنوبك، فأحب ما يكون من العاصي أنه بعد المعصية يتوب إلى الله عز وجل، وإذا تبت إلى الله فإنك تغيظ الشيطان، والذي أوصي به: من وقع في أي ذنب بعد التزامه وهدايته ألا يقنط، فإن الشيطان يقول له: إن الذنب منك ليس من غيرك، وأنت الآن ملتزم ومطيع فكيف تفعل هذه المعصية؟ أنت لا خير فيك ولو كان الله يحبك ما جعلك تعصيه، فالشيطان خبيث، فإذا قال ذلك فقل: اخسأ عدو الله، فإن رحمة الله واسعة، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصدق منك حينما قال: (لله أفرح بتوبة عبده) فتتوب إلى الله من ذلك، واعلم أن هذا الذي تفعله من توبة تغيظ به إبليس، فما أوصيك إلا بحسن الظن بالله، وأن تعلم أن الله يحب منك التوبة، ونسأل الله العظيم أن يتوب علينا وعليكم وهو أرحم الراحمين.
والله تعالى أعلم.(28/16)
كيفية بر الوالدين بعد موتهما
السؤال
كيف تكون الصلاة على الوالدين بعد موتهما؟
الجواب
الصلاة تطلق على معنيين: الصلاة التي هي الصلاة على الميت، ومن حق الوالد على ولده أن يشهد جنازته وأن يصلي عليه وأن يدعو له في هذه الصلاة؛ لأن هذا من أقرب الدعاء؛ لأن الشفقة والحنان الذي بينه وبين والديه تدعوه إلى الدعاء بإخلاص وصدق.
أما المعنى الثاني: وهو الذي فسّر به جمعٌ من شراح الحديث: أن الصلاة بمعنى، الدعاء، ومنه قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] أي: ادع لهم، ولذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (الصلاة عليهم والاستغفار لهم) قيل: من باب عطف الخاص على العام، فالاستغفار نوعٌ من الدعاء، فعطف الاستغفار لفضله وشرفه، فأفضل ما تقول أن تقول: ربِّ اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيرا.
سبحان الله! كلمة يسيرة، ولربما يكون الوالد أو تكون الوالدة الآن في قبرها وهي أحوج منك إلى دعوة.
البر أصدق ما يكون بعد الموت؛ لأنك لا تحابي ولا تجامل، وبرك من الأمور الكريمة الطيبة التي وجدنا من آثارها الحميدة وعواقبها الحميدة خيراً كثيراً.
إن كثرة الدعاء للوالدين بعد الممات من الأمور الجليلة الكريمة؛ لأنه قد يكون في كربة وفي ضيق من ضيق القبر ينفس الله عنه، بفضله سبحانه ثم بدعائك كما قال عليه الصلاة والسلام: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وذكر منها- ولد صالح يدعو له) فتذكر لو أنك أنت الميت ما فتر لسان الوالد ولا فتر لسان الوالدة من الدعاء لك، فلا تشغلك الدنيا عن والديك، وما الذي تخسره وأنت جالس تقول: رب اغفر لي ولوالدي وارحمهما كما ربياني صغيراً، وتسأل الله لهما أن يوسع لهما القبر، وأن يهون عليهما السؤال في القبر، وأن يهون عليهما الحساب، واعلم أنك -والله- ما ذكرتهما بدعوةٍ صالحة وهم في القبور وضيقها إلا سخر الله لك من يدعو لك كما دعوت لهما وخاصةً الأم؛ لأن حقها كثير، وفضلها كبير، سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك).
كثرة الدعاء للوالدة والترحم عليها بقولك، اللهم اغفر لها اللهم ارحمها اللهم سامحها اللهم اغفر لأبي اللهم ارحمه اللهم تُب عليه اللهم سامحه اللهم اجعل قبره روضة من رياض الجنة ونحو ذلك من الدعوات الطيبة، والله عز وجل لا يضيع أجر من أحسن عملاً، ولربما تقول: اللهم افسح لأبي في قبره ونور له فيه، فيفسح له في قبره إذا دعوت بهذه الدعوة، أو ربما تسأل الله لوالديك رحمةً في القبر فيستجيب الله لك، فالله الله في كثرة الدعاء للوالدين والاستغفار لهما.
وكذلك الصدقة عنهما مستحبة؛ لأن سعداً رضي الله عنه كما في الحديث الصحيح قال: (يا رسول الله! إن أمي افتلتت نفسها -يعني: ماتت ولا أراها لو بقيت إلا أوصت، أفأتصدق عنها؟ قال: نعم) فأوصاه أن يتصدق عنها فتصدق سعد رضي الله عنه ببستانٍ كامل عن أمه، رضي الله عنه وأرضاه، وكانت التمرة الواحدة يتغذى منها الرجل يوماً كاملاً، فما بالك ببستانٍ كامل؟!! قدّمه للآخرة ورآه قليلاً يسيراً أمام فضل أمه عليه، وقد كان من أبر الناس بأمه رضي الله عنه وأرضاه.
فعلى الإنسان أن يحرص على الدعاء وألا يغفل عن الوالدة، ونحن كلنا فينا غفلة إلا أن يرحمنا الله برحمته، فيحرص الإنسان على كثرة الدعاء للوالدين وخاصةً بعد الموت، بأن يترحم عليهما، وأن يجعل لهما شيئاً من صدقة، ينظر إلى مكهول أو إلى أيتام ويجعل لهم قسطاً في الشهر، فيأخذ من طعامه ويجعلها صدقة جارية على والديه، والله لا يضيع أجر من أحسن عملا، وهذا هو الذي ينفع، والمعروف لا يبلى، والخير لا ينسى، ومن زرع خيراً وجده، ومن التزم بالمعروف أحبه الله.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل.
والله تعالى أعلم.(28/17)
من مقومات السعادة الزوجية
السؤال
كيف يكون الرجل سعيداً مع زوجته، مع العلم أني سعيدٌ مع زوجتي، لكنها -بطبعها- قليلة الكلام، وأنا أجد في نفسي السآمة والملل عندما لا تتحدث معي، فما هي مقومات السعادة الزوجية؟
الجواب
الحقيقة أنه لا سعيد إلا من أسعده الله، وإذا أراد الله أن يسعد الزوج بزواجه والزوجة بزواجها رزقهما الدعاء قبل الزواج، وقبل أن يتحمل المسئولية ويبتلى بالأمانة يلهج بالدعاء، ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك له في زوجته وأهله وأن يصلح بعله، ولذلك قال الله عز وجل عن نبيه زكريا: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَه} [الأنبياء:90] فالذي أصلح لزكريا وأصلح لمن قبله يصلح لك زوجك، فأعظم أسباب السعادة: كثرة الدعاء.
الأمر الثاني: حسن النية في الزواج، ألا يتزوج الإنسان لشهوته، ولكن يتزوج لكي يعف نفسه عن الحرام ويبتعد عن الفواحش والآثام، ويأخذ بينه وبين الله أن يبارك له في هذه الزوجة فيغض بصره عما حرم الله، ويحصن فرجه عما نهاه الله عز وجل عنه، وإذا حسنت نيته بارك الله له فيه؛ لأنه يكون له عبادة طاعةً.
ومما يعين على السعادة الزوجية: الاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في تألفه ومودته ومحبته لزوجه وتواضعه وإخلاصه وجميع شمائله.
كان صلى الله عليه وسلم خير زوجٍ لزوجه، يقول صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) فشهد -وهو الصادق- صلى الله عليه وسلم أنه خير الناس لأهله وزوجه.
كان صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت لا يدخل وفي قلبه على أهله شيء، حتى كانت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها تقول: (كان إذا دخل لا يدخل من وجه الباب).
وكان إذا دخل عليه الصلاة والسلام ابتدأ بالسواك حتى لا تشم منه إلا رائحة طيبة؛ لأنه طيب قد طيبه ربه، فكان يتفقد المشاعر والأحاسيس.
كان إذا خرج عليه الصلاة والسلام إلى الأمة وقف على منبره فأخشع القلوب لربها، وقاد جحافل الإيمان لنصرة القرآن والدين صلوات الله وسلامه عليه، فكانت لا تأخذه في الله لومة لائم، وإذا دخل إلى بيت الزوجية دخل أكرم بعل وأكرم زوج على أهله صلوات الله وسلامه عليه، دخل بشيءٍ من الألفة والمحبة، لا يدخل وهو يشعرهم أنه عظيم وكبير، وإذا هو بذلك وتلك الألفة يرسم النموذج العالي للزوج، فالحياة الزوجية تحتاج إلى شيءٍ من الحذر وإلى شيء من التوقي وتلمس المشاعر، وقد كان صلى الله عليه وسلم ينادي عائشة رضي الله عنها ويقول: (يا عائش!) يرخم مع النداء حتى إذا نادى لها رضي الله عنها وأرضاها.
وما عاب طعاماً بين يديه قط صلوات الله وسلامه عليه، ولا سب ولا شتم امرأة، بل ولم يسئ إلى أحدٍ بلسانه صلوات الله وسلامه عليه، إن وجد خيراً حمد الله ورد الجميل بأجمل منه، وإن وجد غير ذلك شكر وصبر وذكر الله جل جلاله.
يأتي إلى أم المؤمنين ويقول لها: (هل عندكم طعام؟ قالت: لا والله، قال: إني إذاً صائم) ولو أن رجلاً منا نادى وقال: هل عندكم طعام؟ فقالت امرأته: لا ما عندنا طعام، لأقام الدنيا وأقعدها فضيق الله عليه، وأساء فرأى عاقبة السوء فما سميت السيئة سيئة إلا لأنها تسيء إلى صاحبها، وإذا جرحت مشاعر الأهل بالسيئة ساءتك السيئة التي خرجت من لسانك.
كان يحذر صلوات الله وسلامه عليه في كلامه وخطابه وندائه، وإذا وضعت عائشة رضي الله عنها الطعام والشراب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم -بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه- إذا به يقسم عليها أن تشرب قبله صلى الله عليه وسلم، فتشرب قبل نبي الأمة وأحب الخلق إلى الله صلى الله عليه وسلم.
إن كريم الأصل من طاب وطابت شمائله وآدابه، الرجال العظماء والفضلاء لا يرتفعون إلا بالتواضع فالزوج إذا دخل إلى بيت الزوجية وهو يرى نفسه أنه فوق المرأة والمهيمن والمسيطر فإن هذا ينعكس على مشاعره وأحاسيسه، يدخل كما دخل نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم، ويعاشر كما كان يعاشر صلوات الله وسلامه عليه، فإذا جاءت المناسبات والأفراح أدخل السرور على أهله وعلى زوجه.
ففي الصحيحين: لما قام الأحباش يلعبون يوم العيد في المسجد، سألت عائشة رضي الله عنها رسول الله أن تنظر إليهم فما كسر خاطرها صلى الله عليه وسلم وما قال لها: أقف لك وأنا نبي الأمة حتى تنظري؟ بل قام صلى الله عليه وسلم ونعم القيام قيامه، فوقف ووقفت أم المؤمنين تنظر إليهم وهم يلعبون من وراء ظهره صلوات الله وسلامه عليه، فيقول: (هل فرغت؟ تقول: لا بعد، فيقول: هل فرغت؟ تقول: لا بعد) فانظر إلى طيب وقوفه! وانظر إلى إصرارها وطول وقوفها موقفها رضي الله عنها وأرضاها! تعلم رحمته وشفقته، تقول له: لا بعد، لا بعد، تجملت من الكريم صلوات الله وسلامه عليه وعمره صلوات الله عليه في الستينات وهي صبية، وتقول: اقدروا قدر الصبية الجهلاء.
الواحد منا يريد من زوجته أن تكون موطأة الكنف كثيرة الإحسان والتبعل لزوجها، ولكن لا ننظر ما الذي قدمناه لزوجاتنا، وبمجرد أن يفكر الواحد منا في حسن العشرة جاءه الشيطان من شياطين الإنس أو الجن، فأقام له الدنيا وأقعدها، وقال له: إن أحسنت إلى زوجتك فإنها تؤذيك في مستقبلك، إنك إن تواضعت لها ركبتك، وإن تذللت لها أهانتك، فلا يزال القلب يمتلئ بسوء الظن في الأهل حتى لا يستطيع الإنسان أن يتواضع لأهله، نسأل الله السلامة.
ومن الناس من يدخل بيته يدخل بيته وهو دائم الأذية شديد الصراخ كثير الكلام، حتى إنك لتعجب والله من الرجل منا إذا جلس مع الناس تبسم وتهلهل وجهه وتحبب إلى الناس، ولربما جاءه رجل فأساء إليه فيسعه بحلمه ويبدي له الصبر، ولكن ما إن يدخل إلى بيته -نسأل الله السلامة والعافية- إلا كشر عن أنيابه وغير وجهه فأضر وآذى أهله، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أولئك من خيراكم) أي: الذين يضربون نساءهم، فخيار الأمة خيارهم للأهل.
ما الذي نريد؟ نريد هدي النبي صلى الله عليه وسلم، هذا الهدي الكريم الذي جمعه الله في آيةٍ واحدة: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فالكلمة الطيبة تلمس المشاعر والأحاسيس.
ومما يوصى به لاستقامة بيت الزوجية وسعادته: أنك تتذكر دائماً أنك لست الأولى بالفضل، وهذه من الحكم المعروفة المأثورة وهي: أن الرجل الكريم لا تطيب شمائله إلا إذا تواضع للناس ألا تستوجب على الناس شيئاً، ولذلك أي إنسان أعطاه الله نعمة وأحس أن له فضلاً على الناس؛ تعالى على الناس وأهانهم وأذلهم وظلمهم حقوقهم، نسأل الله السلامة والعافية، لقد كان بعض العلماء يقول: إذا حضرت المسجد فرأيت الناس قد اجتمعوا قلت: فضل عليَّ لهم أنهم جاءوا، فلا يرى أنه ذاك العالم الذي جاء الناس لعلمه.
وللرجل القوامة على المرأة كما قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] ولكن هناك آداب وشمائل زين الله بها أهل التقوى، فإذا لم نكن طيبين بأخلاقنا وشمائلنا لأهلنا فلمن نكون؟!! وإذا لم تكن بيوتنا مبنية على المحبة والألفة فأين تكون الألفة والمحبة؟!! ومهما بدرت من زوجتك إساءة فاصبر عليها، وانظر لنفسك بعين النقص، فلا تحس أن لك كمالاً على الناس، فإذا دخلت البيت ووجدتها قد طبخت طعاماً، قلت لها: جزاك الله كل خير، وقلت الكلمة الطيبة: بارك الله فيك، أحسن الله إليك، هذه الدعوات الصالحة تجد أثرها وخيرها عليك في بيتك (من صنع إليكم معروفاً فكافئوه)، فاحمد الله أنك وجدت امرأةً تطبخ لك، وكم من امرأةٍ تمردت على زوجها بسبب سوء أخلاقه، وإذا رأيتها غسلت ثوبك أو أحسنت إليك أو جاءتك بالشيء، قلت لها: جزاك الله كل خير فتثني عليها أمام أولادها، حتى يجلونها وتقابلك هي بالإجلال، فإذا بأولادك يحبونك ويحبونها، ويكرمونك ويكرمونها، وإذا بالبيت تنتشر فيه الرحمة، وينتشر بين أهله الحب والود الذي ينبغي أن تقوم عليه بيوت المسلمين، وأما إذا أصبح الرجل يرى أنه ذلك المستحق للاحترام، وأن أقلّ خطأ من المرأة لا يغفر، وأنه إذا زلت بلسانها قام فسبها وشتمها وربما أمام أولادها.
من أعظم العيب وأقبحه أن تكون المرأة بنت خمسين أو ستين سنة وإذا بزوجها يكفكفها أمام أولادها! من أقبح العيب والله أن يكسر خاطرها ويهين كرامتها أمام أولادها! وهذا والله ليس من العشرة بالمعروف.
راقب أفعالك وتصرفاتك، فالسعادة تحتاج منك إلى ثمنٍ كبير، وإلى تضحية، كان الصالحون يتأذون من زوجاتهم، ويضطهدون فلا يسمع منهم إلا الخير، وقيل: إن زكريا عليه السلام كانت امرأته تشتمه وتهينه، ومع ذلك كان صابراً، فالمرأة ابتلاء من الله، ولربما يبتليها الله بك حتى بالاحتقار.
كان هناك عالم من علماء المدينة، قال لزوجته ذات يوم -وقد كانت تهينه- تعالي إلى المسجد وانظري فجاءته إلى المسجد ونظرت وإذا بالأمة قد أصغت إليه، فالمرأة لأنها تنظر إلى زوجها بعينٍ ناقصة تهين زوجها، فالمقصود: أنه لا بد من الصبر، ومن التحمل واحتساب الأجر، يبتليك الله بزوجتك لدرجةٍ في الجنة لا تبلغها بكثرة صلاة ولا صيام.
عندما تدخل إلى البيت فإن سمعت خيراً قلت: الحمد الله الذي رزقني زوجة تخاف الله، وإذا رأيتها غير ذلك، قلت: اللهم لا حول ولا قوة إلا بك، اللهم اهدها، اللهم أصلحها.
يقولون عن رجلٍ من العلماء: أنه دخل عليه أحد طلابه، فوجد عنده ابناً باراً عجب من بره، فقال له: أتعجب من بره؟ والله لقد عشت مع أمه عشرين أو ثلاثين عاماً ما تبسمت في وجهي قط، فصبرت فعوضني الله ما ترى.
الذي يريد السعادة يدخل إلى بيته بقلبٍ واحد، ما رأى من خيرٍ شكره، ويشعر أهله بأنه زوج كريم، فعندما تضع زوجتك الطعام فتشكرها، فيسمعك أولادك فيعتادون شكر الناس على الإحسان، وإذا رأوك كريماً مع زوجتك تعلموا كيف يعيشون مع الناس كراماً؛ لأن البيت مدرسة، وعلينا أن نتقي الله في أفعالنا وأقوالنا وخاصةً أمام الأبناء والبنات.
فالسعادة الزوجية لا تكون ولن تكون إلا إذا عرف المسلم هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فطبقه وسار على نهجه واحتسب الأجر عند الله عز و(28/18)
أسباب تعين على قيام الليل
السؤال
إن من أسباب السعادة أن يوفق العبد لقيام الليل، وإني كلما حاولت القيام لا أستطيع رغم بذل الأسباب، فهل من كلمة توجهها إليَّ؟
الجواب
قيام الليل من أجلّ الطاعات وأشرف القربات التي يرحم الله بها المؤمنين والمؤمنات، وانظر إلى نصوص الكتاب والسنة وما فيها من الدلائل العجيبة التي تدل على فضل هذه العبادة؛ لأن الله أوحى لنبيه وأمره بقوله: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2]، فكان أول ما أمره أن تنتصب قدمه بين يدي الله في جوف الليل، وقد نامت العيون وهدأت الجفون، وقام العبد بين يدي الله يتلو كتاب الله ويرجو رحمته، فهي ساعات الصالحين، وأمنية المتقين، وشعار عباد الله المفلحين.
ما رزق أحد قيام الليل إلا أفلح ونجح وربحت تجارته في الدنيا والآخرة: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9].
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما العبد إذا كان في جوف الليل وقام ليتهجد وترك زوجته وحبه، فقال الله: يا ملائكتي! عبدي ما الذي أقامه من حبه وزوجه؟ فيقولون -والله أعلم- يرجو رحمتك ويخشى عذابك، فيقول الله: أشهدكم أني أمنته من عذابي وأصبته برحمتي).
قيام الليل خيرٌ كثير، فهو شأن الصالحين وعباد الله المفلحين، ما حبب قيام الليل إلى عبد إلا رزقه الله عز وجل الصلاح والفلاح، وكم من دعوةٍ استجيبت في ظلمات الليل! قال: (يا رسول الله! أيُ الدعاء أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر) جوف الليل الأظلم، إذا نامت العيون، وهدأت الجفون.
ثم إن هذه العبادة تربي في الإنسان الإخلاص لله جل جلاله، فلا أحد يراك ولا يعلم بك إلا الله، وإنما تتقلب بين يديه، وهذه العبادة تعين الإنسان على كثيرٍ من الخير إذا أصبح، فمما يعين على أمور الدنيا إحياء الليل في طاعة الله، فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءته فاطمة -كما في الحديث الصحيح- تسأله خادماً: قال لها: (أولا أدلك على خير من ذلك؟ إذا آويت إلى فراشك، تسبحين الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدينه ثلاثاً وثلاثين، وتكبرينه أربعاً وثلاثين، فذلك خيرٌ لكِ من خادم) فإن هذا الذكر من المجرب أنه إذا تركه الإنسان وجد أثره في رزقه وحاله.
فذكر الله في الليل فيه خير كثير، ثم إن الإنسان إذا أصبح يتلألأ وجهه من نور الصلاة، قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة نور، والصدقة برهان) فمن أكثر من قيام الليل تلألأ وجهه بنور العبادة {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح:29] أي: سيما نور العبادة، قال بعض السلف: (كان الرجل من الصحابة إذا أصبح كأن وجهه الشمس من نور العبادة).
يتقلب بين يدي الله في جوف الليل، فلا يزال العبد بخير إذا أقام الليل وذكر الله في ليله وفي جوف الليل الأظلم سأل الله في الساعة التي تستجاب فيها الدعوة.
وأما بالنسبة لأعظم الأسباب التي تعين على ذلك فأعظمها وأجلها وأولها: كثرة الدعاء، بأن يرزقك الله عز وجل قيام الليل.
والأمر الثاني: أن تكثر من تلاوة القرآن، فإن القرآن يحبب في الطاعة كلها وبالأخص في قيام الليل.
ثم إن مما يعين على قيام الليل: علم الإنسان بعظيم أجره وجزيل ثوابه، فإن الركعة في جوف الليل الأظلم لها أجر كبير، خاصةً إذا كانت على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فأطال قراءة القرآن، وتلذذ بمناجاة الحليم الرحمن، قال صلى الله عليه وسلم: وهذا أحد الصحابة قرأ سورة الكهف، فجاءت سحابةٌ أو غمامة، فقال رسول الله: (اقرأ فلان فيك السكينة تنزلت لقراءة القرآن) وإذا نزلت السكينة على العبد ثبت الله قلبه، ولذلك قلّ أن تجد إنساناً يحافظ على قيام الليل إلا وجدته في الصباح غالباً مأموناً من الفتنة بإذن الله عز وجل.
فاحرص بارك الله فيك على هذا الخير.
أما ما يمنع الإنسان من قيام الليل: قال سفيان الثوري رحمه الله: (أذنبت ذنباً فحرمت قيام الليل ستة أشهر).
فإن عقوق الوالدين وقطيعة الرحم -نسأل الله السلامة والعافية- والغيبة والنميمة وسب الناس واحتقارهم من أعظم الآفات التي تحول بين المهتدي والهداية، وكم من شابٍ مهتدٍ التزم بدين الله، فكان في بداية هدايته عفيف اللسان والجنان والجوارح والأركان، فكان من أكمل الناس إيماناً، ولما غيّر غيّر الله ما في قلبه، فأصبح يتكلم في زيدٍ وعمرو وينتقص زيداً وعمراً، ولربما تكلم في عالمٍ أو داعية أو نحو ذلك، فبلي بالفتنة على قدر ما أصاب من الذنوب.
فليتق الله الإنسان وليتفقد نفسه، فـ {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11].
نسأل الله العليم أن يرزقنا السداد والرشاد.
والله تعالى أعلم.(28/19)
صدق اللجوء إلى الله سبب في الهداية
السؤال
من ظن أن السعادة في إشباع الرغبات والشهوات والإعراض عن طاعة الله، ثم علم بعد ذلك أن السعادة في غير ما سبق، فكيف يترك هذه المعاصي، مع أنه شُقي بها دهراً طويلاً وهو يظن أنه يحسن العمل؟
الجواب
أخي في الله! إذا أراد الله لعبده خيراً رزقه قوة الرجاء والإيمان به سبحانه وتعالى، فالشيطان قد قعد لك على طريق التوبة، يقول لك: لم تتوب؟ ولم تترك هذه المعاصي ما دمت قد ألفتها؟ ولكن والله ثم والله -وأقسم موقناً بالله- أنك إن صدقت مع الله صدقك الله، وأنك إن تركت شيئاً لله أبدلك الله خيراً منه.
فمن ابتلي بالشهوات والفتن والملهيات ثم أعرض عنها لله وفي الله فإن الله لا يخيبه، وسيعوضه إيماناً يجد حلاوته في قلبه وحاله، وسيجد عاقبة ما فعل من الخير.
أخي في الله! لا تيأس ولا تظن أن هذه المعاصي والفتن تمنعك وتحول بينك وبين الله، ففي الحديث القدسي يقول الله تعالى: (يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني لغفرتها لك ولا أبالي، يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي) فالرجاء واليقين في الله سبحانه وتعالى، كم من أناس نعلمهم وقد أسرفوا في المعاصي ولكن الله منّ عليهم في آخر اللحظات بقلوب أقبلت بالصدق واليقين، فبدل الله أحوالهم، فلا إله إلا الله كيف بدلت سيئاتهم حسنات! وكيف تأذن الله بغفران الخطيئات وزيادة في الدرجات {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] لا تعجز، وكن قوي الإيمان بالله جل جلاله.
وإني أعرف رجلاً كنت معه وهو في السبعين من عمره، حدثني وهو صائم في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وقال: إنه كان مبتلىً بشرب الخمر -أعاذنا الله وإياكم- منذ كان عمره الخامسة عشرة حتى بلغ الأربعين، فدخل ذات يومٍ على طبيب فوجد أن الخمر قد استنفذ جسمه والعياذ بالله، فقال له الطبيب: يا فلان! لا دواء لك وذلك بسبب الذي كنت فيه، فوقف المريض عاجزاً حائراً، قال: فلما قال لي ذلك كأنني انتبهت من المنام، وقلت له: ليس عندك علاج؟ قال: نعم، ليس لك علاج عندي، قال: فنزلت من ساعتي تلك، وأعلنتها توبةً لله، وصليت في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وانطلقت إلى بيتي فلبست إحرامي تائباً إلى الله، ومضيت إلى مكة -وكان بينه وبين مكة مسيرة ثلاثة أيام- قال: فلما وصلت إليها في ظلمة الليل قبل السحر أديت العمرة، ولما فرغت منها التجأت إلى الله وبكيت وتضرعت، وقلت: يا رب! إما أن تشفيني وإما أن تقبض روحي وأنا تائب، فشعرت في نفسي أن شيئاً يحركني إلى أن أشرب من ماء زمزم، فنزلت إلى زمزم، فأخذت دلواً ومن شدة الظمأ شربته كاملاً، فلما شربت هذا الدلو إذا ببطني تتقلب، فشعرت بالقيء -أكرمكم الله- فانطلقت فلم أشعر إلا عند باب إبراهيم وقد قذفت ما في بطني وإذا بها -أكرمكم الله- قطعٌ من الدم مظلمة، فلما قذفتها شعرت براحة عظيمة، وشعرت بعظمة الله جل جلاله، وأيقنت أنه من التجأ إلى الله لا يخيب، وأن الله بيده من الخير ما لم يخطر على بال.
يقول: فرجعت مرةً ثانية في يقينٍ أكثر وإيمانٍ أعظم، فدعوت وابتهلت وسألت الله وبكيت بين يديه، وقلت: يا رب! إما أن تشفيني وإما أن تتوفاني على هذه التوبة، قال: فإذا بنفسي تحدثني بزمزم مرةً ثانية، فشربت الدلو مرةً ثانية، وحصل لي ما حصل في المرة الأولى، فانطلقت حتى بلغت الباب فقذفت -أكرمكم الله- فإذا بالذي قذفته أهون من الأول، ثم رجعت مرةً ثالثة، وإذا بي بإيمانٍ ويقينٍ أكثر -لأنه نظر إلى عظمة الله وجلاله وقدرته سبحانه وتعالى- دعوت وابتهلت، فإذا بي أشعر أنني أحب الشرب، فنزلت وشربت من زمزم مرة ثالثة فتحرك بي كما في الأولى، فقذفت فإذا به ماء أصفر.
قال: فشعرت براحةٍ عجيبة ما شعرت بها منذُ أن بلغت، ثم رجعت ودعوت الله سبحانه وتعالى وابتهلت إليه فألقى الله عليَّ السكينة فنمت وما استيقظت إلا على أذان الفجر، فقلت: والله لا أفارق هذا البيت ثلاثة أيام، فما زال يبكي، ويسأل الله العفو والمغفرة، ويشرب من ماء زمزم.
قال: ثم رجعت إلى المدينة بعدها، فلما استقر بي المقام أتيت إلى الطبيب المداوي، فوقفت عليه، فنظر في وجهي فإذا به قد استنار -والحمد لله- من الهداية، فلما جاء كشف عليّ اضطربت يده وهو لا يصدق ما يرى، ثم التفت إلي وقال لي: يا عبد الله! إن الله قد أنعم عليك بشيء عظيم، يعني: هذا الشيء الذي أنت فيه -بعرف الأطباء- لا يمكن أن يصل إليه طبيب، ولكن الله هو الذي تولاك، ثم استقام هذا الرجل من ذلك الوقت لمدة ثلاثين عاماً، يقول لي: وأنا أحدثك اليوم صائمٌ وأنتظر من الله حسن الخاتمة.
وقد توفي رحمه الله على خير.
منذُ الخامسة عشرة إلى الأربعين وهو يشرب الخمر، وأنتم تعرفون فتنة الخمر وبلاءها، ومع ذلك تاب إلى الله فتاب الله عليه، لا إله إلا الله! والله أعلم كم من أبواب رحمةٍ فتحها على المعذبين، الله أعلم كم من أبواب برٍ وإحسان أغدقها على عباده الموقنين، أيقن بالله وثق بأن الله سبحانه وتعالى سيعطيك فلن يخيب الله رجاءك.
من هذا الذي وقف بباب الله فطرده عن بابه؟ ثق ثقة تامة أنك عندما تعلنها توبة إلى الله، فإن الله يحب منك ذلك، ووالله ما دعوت ربك ورجوته، وملأت قلبك بحبه إلا أراك الله السعادة في الدنيا والآخرة، فقد قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن تقرب إليَّ شبراً تقربت إليه ذراعاً، ومن تقرب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً) ويفرح بتوبة التائبين سبحانه، رغم أن العبد مذنب ومخطئ ومسيء، ولكن الله يفرح بتوبته! ما أرحمه وما أكرمه سبحانه لا إله إلا هو! يفرح بتوبة التائبين، والتوبة لنا فلن نبلغ ضره فنضره أو نبلغ نفعه فننفعه (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحدٍ منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، ونسألك أن تتوب علينا وعلى عبدك هذا وعلى جميع عبادك المؤمنين.
اللهم تب علينا في التائبين، وانشر لنا من رحمتك يا أرحم الراحمين، واغفر لنا إنك أنت خير الغافرين.
والله تعالى أعلم.(28/20)
تحذير المسلمين من فتنة النظر إلى ما حرم الله
السؤال
يظن كثير من الناس أن السعادة تحصل بالنظر إلى الأفلام والمسلسلات، وسماع الأغاني وغيرها، عن طريق القنوات الفضائية والدشوش، ولهذا ربما يتفاخر الناس في المجالس بما يشاهدونه بالدش أو عن طريق التلفاز وهذا معلومٌ؛ لأنه لم يعد يخلو منه بيت، حتى ظن بعض الآباء أنه لا يمكن أن يعيش في بيته بدون هذه الدشوش، أو بدون مشاهدة الأفلام عن طريق الفيديو أو غير ذلك.
فنرجو من فضيلتكم تصحيح هذا الظن، وبيان انعكاسه وآثاره على المجتمعات الإسلامية؟
الجواب
باسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: أولاً: لا ينبغي أن يعمم الإنسان في الحكم، أو يقول: إن كثيراً من البيوت فيها كذا وكذا، لا زال -ولله الحمد- الخير موجوداً، ولا يزال في الناس بقية خير، والخير موجود إلى قيام الساعة، ولقد كان في زمن النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة يوجد المنافقون والمرجفون، وكان يرى ابتلاء المؤمنين؛ لكي يظهر صدق الصادقين، وثبات الموقنين، ويظهر -والعياذ بالله- فساد المفسدين: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَة} [الأنفال:42].
ثانياً: ليعلم كل من ابتلي بالنظر إلى ما حرم الله أن الله سائلك عما ترى، ومحاسبك على نعمة البصر التي أنعم بها عليك، الله أعلم كم من كفيفٍ للبصر يتمنى لحظةً يرى فيها أهله وولده! الله أنعم عليك بهذه النعمة وهو سائلك ومحاسبك ومجازيك بين يديه، فعليه أن يتقي الله في نفسه؛ وأرجو من الله ألا يكون فينا من ابتلي بهذا الشيء، ونسأله أن يحيينا على السلامة، ولا نزكي أنفسنا على الله فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن.
هذا البلاء وهو بلاء النظر، سواء كان في رؤية هذه الأشياء أو في غيرها، فلربما يفتن الإنسان في بصره وهو في طريقه إلى مسجده، فعليك أن تعلم أن البصر نعمة، وأنه لن تزول قدمك بين يدي الله حتى يسألك عن جميع ما أبصرت عيناك، وتراها أمام عينيك في يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.
ثم اعلم -أخي في الله- أن النظر يؤثر على القلب، وإذا تعرض العبد للفتنة فقد يزيغ قلبه فلا يهتدي أبداً والعياذ بالله، فاحذر من الفتن، فلربما فتنةٌ واحدة تهلك الإنسان دهره كله، نسأل الله السلامة والعافية، وإياك أن تقول: إنها لحظات يسيرة! وساعات قليلة! فإن الله سبحانه وتعالى إذا غضب على عبدٍ أهلكه: {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} [طه:81] الله يغضب على البصر والجوارح والأركان، يغضب على بصرك إذا نظرت إلى الحرام، ويغضب على لسانك إذا تكلمت بالآثام، ويغضب بسبب جوارحك وأركانك إذا اقترفت الحرام، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها أبعد ما بين المشرقين في نار جهنم) وفي روايةٌ له: (يهوي بها في النار سبعين خريفاً).
كم نظرة فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر والمرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوفاً على الخطر يسر مقلته ما ضر مهجته لا مرحباً بسرور جاء بالضرر على المسلم أن يحمد الله إذا نجاه من ذلك الجهاز، ثم إذا تساهل في ذلك وأدخله على أهله وأولاده فإن الله يحاسبه وسيقف بين يدي الله في كل فتنة أدخلها على أهله وولده، والله لن تزول قدمه بين يدي الله حتى يتعلق به أولاده، ويقولون: يا رب! سل أبانا كيف أدخل علينا هذا البلاء؟ ولربما نظر الولد -وهو حديث السن- إلى نظرةٍ واحدة فتنت قلبه إلى الأبد.
إن الشهوات أضرارها عظيمة، ومن زلق في الشهوات هلك، فعلى المسلم أن يعلم أن الأولاد أمانة في عنقه، والله عز وجل سائله عنهم ومحاسبه بين يديه عنهم، وإذا أشقى ولده بالسوء والفتنة فإنه يحمل وزره بين يدي الله عز وجل: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [العنكبوت:13]، فعلى المسلم أن يتقي الله ويحمده على العافية، فكم من أمور تسر بها العيون من ذكر الله وطاعته وتربية الأولاد على الخير.
إن هذه الأشياء التي يفتخر بها ويبتهج بها وهي -والله- شقاء وبلاءٌ وعناء، وهذا الذي يراه من المعصية والسوء والدعوة إلى الإثم بلاءٌ على العبد في دينه ودنياه وآخرته.
فينبغي على المسلم أن يتقي الله في نفسه وفي أهله وولده، وأن يحفظ هذه الرعية التي استرعاه الله إياها، قال صلى الله عليه وسلم: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالرجل راعٍ وهو ومسئول عن أهل بيته).
فليتق الله كل من ابتلي بهذا البلاء، وإذا كان مبتلىً ولا بد فليحفظه عن أولاده وعن زوجته، حتى لا يبتلى بغضب الله عز وجل عليه، وحتى لا يحمل أوزارهم.
نسأل الله العظيم بعزته وجلاله وعظمته وكماله في هذه الساعة المباركة أن يمن بالهداية على ضال المسلمين، اللهم اهد قلوبهم واشرح صدورهم، اللهم أصلح شباب المسلمين.(28/21)
الحياة الطيبة
إن للحصول على الحياة الطيبة أسباباً، ألا وهي التوبة من المعاصي، واستشعار النعمة، وفعل الفرائض، وترك النواهي، فبفعل هذه الأسباب يصبح العبد قريباً من الله عز وجل، حينها سينال الحياة الطيبة، وسيعيش السعادة الحقيقية بقربه سبحانه.
ومن أهم الثمرات للحياة الطيبة استجابة الدعاء، فلنحرص على الحصول على هذه الحياة الطيبة.(29/1)
التوبة واستشعار نعم الله من أسباب الحصول على الحياة الطيبة
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده فاطر الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى والمجتبى لخير الرسالات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم تتفطر فيه الأرض والسماوات.
أما بعد: أيها الأحبة في الله! الحديث عن الحياة الطيبة هو الحديث الذي ينبغي أن يعيشه كل واحد منا؛ لأن الحياة إما للإنسان وإما عليه، تمر ساعاتها ولحظاتها وأيامها وأعوامها على الإنسان، وتقوده إلى المحبة والرضوان؛ حتى يكون من أهل الفوز والجنان، أو تمر عليه فتقوده إلى النيران، وإلى غضب الواحد الديان.
الحياة إما أن تضحكك ساعة لتبكيك دهراً، وإما أن تبكيك ساعة لتضحكك دهراً، الحياة إما نعمة للإنسان أو نقمة عليه، هذه الحياة التي عاشها الأولون وعاشها الآباء والأجداد، وعاشها السابقون، وصاروا إلى الله عز وجل بما كانوا يفعلون، الحياة معناها كل لحظة تعيشها، وكل ساعة تقضيها، ونحن في هذه اللحظة نعيش حياة إما لنا وإما علينا، فالرجل الموفق السعيد من نظر في هذه الحياة وعرف حقها وقدرها، فهي والله حياة طالما أبكت أناساً فما جفت دموعهم، وطالما أضحكت أناساً فما ردت عليهم ضحكاتهم ولا سرورهم.
أحبتي في الله! الحياة الدنيا جعلها الله ابتلاءً واختباراً وامتحاناً تظهر فيه حقائق العباد، ففائز برحمة الله سعيد، ومحروم من رضوان الله شقي طريد، كل ساعة تعيشها إما أن يكون الله راضياً عنك في هذه الساعة التي عشتها، وإما العكس والعياذ بالله، فإما أن تقربك من الله، وإما أن تبعدك من الله، وقد تعيش لحظة واحدة من لحظات حب الله وطاعته تغفر بها سيئات الحياة، وتغفر بها ذنوب العمر، وقد تعيش لحظة واحدة تتنكب فيها عن صراط الله، وتبتعد فيها عن طاعة الله؛ تكون سبباً في شقاء الإنسان في حياته كلها، نسأل الله السلامة والعافية.
فهذه الحياة فيها داعيان: داعٍ إلى رحمة الله ورضوان الله ومحبته، وأما الداعي الثاني: فهو داعٍ إلى ضد ذلك، من شهوة أمارة بالسوء، أو نزوة داعية إلى خاتمة السوء، والإنسان قد يعيش لحظة من حياته يبكي فيها بكاء الندم على التفريط في جنب ربه، يبدل الله بذلك البكاء سيئاته حسنات، وكم من أناس أذنبوا، وكم من أناس أساءوا، وكم من أناس ابتعدوا وطالما اغتربوا عن ربهم، فكانوا بعيدين عن رحمة الله، غريبين عن رضوان الله، وجاءتهم تلك الساعة واللحظة وهي التي نعنيها بالحياة الطيبة؛ لكي تراق منهم دمعة الندم، ولكي يلتهب في القلب داعي الألم؛ فيحس الإنسان أنه قد طالت عن الله غربته، وقد طالت عن الله غيبته؛ لكي يقول: إني تائب إلى الله، ومنيب إلى رحمته ورضوانه! وهذه الساعة ساعة الندم هي مفتاح السعادة للإنسان، وكما يقول العلماء: إن الإنسان قد يذنب ذنوباً كثيرة، ولكن إذا صدق ندمه وصدقت توبته بدل الله سيئاته حسنات، فأصبحت حياته طيبة بطيب ذلك الندم، وبصدق ما يجده في نفسه من الشجا والألم، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يحيي في قلوبنا هذا الداعي إلى رحمته، وهذا الألم الذي نحسه من التفريط في جنبه.
أحبتي في الله! نريد من كل واحد منا أن يسأل نفسه سؤالاً عن الليل والنهار، كم يسهر من الليالي؟! وكم يقضي من الساعات؟! كم ضحك في هذه الحياة؟! وهل هذه الضحكة ترضي الله عز وجل عنه؟ وكم تمتع في هذه الحياة؟! وهل هذه المتعة ترضي الله عز وجل عنه؟ وكم سهر؟! وهل هذا السهر يرضي الله عنه؟ وكم وكم؟ يسأل نفسه أسئلة، وقد يبادر الإنسان ويقول: لماذا أسأل هذا السؤال؟ نعم! تسأل هذا السؤال؛ لأنه ما من طرفة عين ولا لحظة تعيشها إلا وأنت تتقلب في نعمة الله، ومن الحياء والخجل مع الله أن نستشعر عظيم نعمة الله علينا، وأن نحس أننا نطعم طعام الله، وأننا نستقي من شراب خلقه الله، وأننا نستظل بسقفه، وأننا نمشي على أرضه، وأننا نتقلب في رحمته، فما الذي نقدمه في جنبه؟ فليسأل الإنسان نفسه.
يقول الأطباء: إن في قلب الإنسان مادة لو زادت (1%) أو نقصت (1%) مات في لحظة، فأي لطف وأي رحمة وأي عطف وأي حنان من الله يتقلب فيها الإنسان.
يسأل الإنسان نفسه عن رحمة الله فقط: إذا أصبح الإنسان وسمعه معه، وبصره معه، وقوته معه، فمن الذي حفظ له سمعه؟ ومن الذي حفظ له بصره؟ ومن الذي حفظ له عقله؟ ومن الذي حفظ له روحه؟ فليسأل نفسه من الذي حفظ عليه هذه الأشياء؟ من الذي يمتعه بالصحة والعافية؟ هاهم المرضى على الأسرة البيضاء يتأوهون ويتألمون، والله يتحبب إلينا بهذه النعم، يتحبب إلينا بالصحة، بالعافية، بالأمن، بالسلامة، كل ذلك فقط لكي نعيش هذه الحياة الطيبة.(29/2)
من أسباب الحصول على الحياة الطيبة فعل الفرائض وترك النواهي
إن الله تعالى يريد من عبده أمرين: الأمر الأول: فعل فرائضه.
والأمر الثاني: ترك نواهيه وزواجره، ومن قال: إن القرب من الله عز وجل فيه الحياة الأليمة أو فيه الضيق، فقد أساء الظن بالله، والله! إذا ما طابت الحياة في القرب من الله فلن تطيب بشيء سواه، وإذا ما طابت بفعل فرائض الله وترك محارم الله فوالله لا تطيب بشيء سواه، ويجرب الإنسان متع الحياة كلها فإنه والله لن يجد أطيب من متعة العبودية لله؛ بفعل فرائض الله وترك محارم الله.
أنت مأمور بأمرين: إما أن يأتيك الأمر: افعل أو لا تفعل، إذا قمت بفعل أي شيء في هذه الحياة فاسأل نفسك: هل الله عز وجل أذن لك بفعل هذا الشيء أم لم يأذن لك؟ فالأجساد والقلوب والأرواح ملك لله، ينبغي للإنسان إذا أراد أن يتقدم أو يتأخر أن يسأل نفسه، هل الله راضٍ عنه إذا تقدم؟ فليتقدم، أو الله غير راضٍ عنه؟ فليتأخر، فوالله ما تأخر إنسان ولا تقدم وهو يرجو رحمة الله إلا أسعده الله.(29/3)
السعادة الحقيقية في القرب منه سبحانه
إن السعادة الحقيقية والحياة الطيبة تكون بالقرب من الله، القرب من ملك الملوك وجبار السماوات والأرض، فالأمر أمره، والخلق خلقه، والتدبير تدبيره، ولذلك تجد الإنسان دائماً في قلق وتعب، تجد الشخص يتمتع بكل الشهوات، ومع ذلك تجده من أكثر الناس آلاماً نفسية، وأكثرهم قلقاً نفسياً، وأكثرهم ضجراً بالحياة، واذهب وابحث عن أغنى الناس تجده أتعب الناس في الحياة، لماذا؟ لأن الله جعل راحة الأرواح في القرب منه، وجعل لذة الحياة في القرب منه، وجعل أنس الحياة في الإنس به سبحانه وتعالى.
والصلاة الواحدة يفعلها الإنسان من فرائض الله، بمجرد ما ينتهي من ركوعه وسجوده وعبوديته لربه فإنه ما يخرج من مسجده إلا ويحس براحة نفسية، والله لو بذل لها أموال الدنيا ما استطاع إليها سبيلاً، إذاً الحياة الطيبة في القرب من الله، والحياة الهنيئة في القرب من الله، إذا ما طابت الحياة بالقرب من الله فبمن تطيب؟(29/4)
عوائق القرب من الله
هناك ثلاثة عوائق تمنعك من القرب من الله: أولها: الشهوة التي تحول بينك وبين القرب من الله.
ثانيها: سوء الظن بالله.
ثالثها: الشيطان الذي أخذ على نفسه العهد أن يبعدك من الله عز وجل.
فأما الشهوة: فهي لذة ساعة وألم دهر شهوة اللهو واللعب الذي وصف الله عز وجل به هذه الحياة الدنيا أنها لهو ولعب، ولكن كم من أجساد لهت ولعبت وهي الآن تتقلب في عذاب القبور! وكم من أجساد لهت ولعبت ترى الآن الضنك في ضيق القبور! وكم من أناس الآن تضيق عليهم اللحود، هؤلاء يتمنون لحظة واحدة من ذكر الله وطاعته.
لن تعرف قيمة هذه الحياة ولا حقيقة هذه الشهوة التي دعت إلى معصية الله، إلا إذا جاء وقت فراق هذه الحياة، ولن تجد ندماً أصدق من ندم الإنسان إذا ودع هذه الحياة، وسيعرف الإنسان حقيقة الشهوة التي هي أول العوائق إذا فارق الحياة، وبمجرد أن تأتي لحظة الفراق تبكي بكاء الندم، ويقول الإنسان -ولو كان صالحاً-: {رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ} [المؤمنون:99 - 100]، يتمنى -ولو كان صالحاً- أن يرجع؛ لكي يزيد من صحيفة العمل، ولا يغتر الإنسان ويقول: إن هذه الساعة بعيدة؛ لأنه شباب، فكم من حوادث أخذت أناساً في عز الشباب وزهرته، وشدة النشوة واكتمال العمر، ولذلك ينبغي للإنسان أن يعرف حقيقة هذه الشهوة، والله عز وجل لم يحرمنا من الشهوة، ولا منعنا من اللذة، بل جعل للشهوة موضعاً ومكاناً معيناً، أميناً سليماً نقياً، ولا يأذن لك أن تضع الشهوة في غير هذا المكان.
أما الأمر الثاني من العوائق فهو: سوء الظن بالله، وبعض الناس إذا قلت له: أقبل على الله! يقول لك: يا أخي! لماذا تضيق عليّ؟! دعني أتمتع بالحياة! دعني أسهر وأتمتع بسهري، وأذهب وآتي وأتمتع بذهابي دون قيود أو حدود! يحس أن الحياة الضنكة والأليمة إذا اقترب من الله!! فوالله ثم والله! أنه لا أطيب من القرب من الله! ومن أراد أن يجدد لذة القرب من الله فليزدد من طاعة الله عز وجل، وليزدد من الصالحات، وليزدد من الأعمال التي تحبب إلى الله عز وجل، وتدعوه إلى مرضاته؛ حتى يحس ساعتها بلذة العبودية لله تبارك وتعالى.
أما الأمر الثالث الذي يعيق الإنسان عن طاعة الله ومحبته فهو: الشيطان الرجيم، وهذا الشيطان على نوعين: شيطان إنس، وشيطان جن، فمن أراد القرب من الله عز وجل فعليه أن يفر من شياطين الإنس وشياطين الجن، أما شياطين الإنس فهم الذين يزهدون في طاعة الله، وييئسون الإنسان ويقنطونه من رحمة الله، فينبغي للإنسان ألا يصغي إليهم، وليعلم أن الصديق الصادق في محبته ومودته وخلته، هو الذي يهدي إليه عيوبه، ويدعوه إلى محبة ربه وذل العبودية لخالقه.
وأما شيطان الجن فهي الوساوس التي يقذفها في قلب الإنسان، ويقول له: انتظر فلا زال في العمر بقية، ولا تعجل، وتمتع بهذه الحياة، تمتع بالشهوات فيها، واسهر ما شئت من الليالي، وافعل ما شئت من لذات هذه الحياة، فإن الحياة طويلة، ولا يزال يمنيه ويسليه حتى يسلمه إلى عاقبة الردى، نسأل الله جل وعلا أن يعصمنا وإياكم من ذلك.(29/5)
كيفية اجتناب عوائق القرب من الله
إخواني في الله! الحياة الطيبة متمثلة في ظل مخالفة هذه الثلاثة الأمور، أما داعي الشيطان فيستبدله الإنسان بداعي الرحمن، وأما شياطين الإنس فيستبدلهم بدعاة الخير من الصالحين وعباد الله المتقين، وأما سوء الظن بالله فيبدله بحسن الظن بالله عز وجل.
أما إبدال داعي الشطان بداعي الرحمن؛ فاعرض نفسك على كتاب الله عز وجل، واجعل لك كل يوم جلسة مع القرآن، لا يحس الشاب أن هذا القرآن نزل لغيره، والله إنك مخاطب بالقرآن شئت أم أبيت، اقتربت أو بعدت، وكل إنسان يوم القيامة سيأتي هذا القرآن حجة له أو حجة عليه، لا يقول الإنسان: إن هذا القرآن لغيره، القرآن لك وأنت المخاطب به ولو كنت من أبعد الناس عن طاعة الله، فأنت مخاطب بهذا القرآن، وسيكون هذا القرآن حجة لك أو حجة عليك، واستبدال هذا الداعي وهو كتاب الله عز وجل ففيه طمأنينة القلوب، وانشراح الصدور، والله تعالى يقول في كتابه: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] فاعرض نفسك على كتاب الله لتعيش في رحمة الله إذ يخاطبك عز وجل، واعرض نفسك على داعي الله عز وجل بتحقيق ما أمر الله به في القرآن، وترك ما نهى الله عز وجل عنه في كتابه.
وأما إبدال دعاة السوء بدعاة الخير فالجلوس مع الصالحين، وغشيان حلق الذكر التي لا يشقى بهم جليس، فزيارة الصالحين، والأنس بهم ومحبتهم خير للإنسان في الدنيا والآخرة، والله هم القوم ونعم القوم، ما جلس إنسان مع رجل صالح إلا وجد منه الخير: لا يدعوه إلا لصلاح دينه ودنياه وآخرته، وأما قرين السوء فعلى العكس من ذلك، فهو الذي يدعو إلى محارم الله، ولو سأل الإنسان نفسه عن أي معصية فعلها لوجد وراءها داعي سوء، ووجد وراءها شيطان الإنس الذي حبب وسهل في الوصول إليها.
فيستبدل الإنسان الأشرار بالأخيار، ويقول للأخيار: أريد الجلوس معكم، أريد الأنس بكم، فيزورهم ويجلس معهم، ولذلك قد يأتي الرجل إلى مجلس من مجالس الذكر فيجلس مع الصالحين جلسة واحدة، وقد تكون هذه الجلسة سبب في نجاته من النار، وقد ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله إذا أنزل أهل الجنة في الجنة، وتمتعوا بما هم فيه من النعيم، قالوا: يا ربنا! كيف نتنعم في الجنة وإخواننا يعذبون؟) إخوانهم من؟ أناس كانوا معهم ولكن كانت عندهم سيئات، مثلاً: رجل كان مع الصالحين ولكن عنده سيئات كأن يشرب الخمر، أو يزني، أو يفعل أي شيء من المحرمات -نسأل الله السلامة والعافية- فشاء الله أنه لم يتب من هذه الأشياء، لما جاء في يوم القيامة وأدخل النار، فإذا دخل ذلك الرجل الصالح -الذي جلس معه- الجنة يقول: يا رب! كيف أتنعم بنعيم الجنة وأخي يعذب؟ فيأذن الله عز وجل بالشفاعة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فلا يزال الرجل يشفع حتى يشفع للرجل الذي جلس معه لحظة واحدة في ذكر الله عز وجل)، لحظة واحدة في ذكر الله عز وجل توجب للإنسان الشفاعة، فهذه من ثمار الجلوس مع الصالحين.
ومن ثمار الجلوس مع الصالحين: أن القلوب والصدور تنشرح وتطمئن بذكر الله عز وجل، ولذلك تجد الإنسان إذا جلس مع الصالحين يقوم ونفسه معلقة بالسماء، معلقة بطاعة الله، يريد أن يفعل أي خير يقربه إلى الله، والله ما جلس الإنسان مع صالح موفق إلا دله على الله، وهذا والله هو الصديق، الذي تقوم من عنده وحالك أصلح من حالك قبل الجلوس معه، بعض الناس مبارك إذا جلست معه تقوم من عنده وقلبك معلق بالله، وفؤادك وروحك تريد رضوان الله، لا تريد إلا شيئاً يدلك على الله، ولا تريد إلا خصلة من خصال الخير تقربك إلى الله، ومجلس واحد من ذكر الله عز وجل قد يجعل الإنسان يغير حياته كلها، إذا صدق في عبوديته لله، وتأثر بما يقال له من أوامر الله ونواهيه.
المقصود أن الجلوس مع الصالحين يعتبر من أهم الأسباب التي تدل الإنسان على ربه، والجليس الصالح هو الذي إذا نسيت الله ذكرك، وإذا ذكرت الله أعانك، والكلمة الطيبة من الرجل الطيب تستطيب بها القلوب، والنصيحة الصالحة من الرجل الصالح يصلح الله بها الأحوال، فنسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يرزقنا وإياكم مجالس الصالحين، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن مجالس الصالحين تغشاها الملائكة، وهي حلق الذكر التي تحفها الملائكة إلى السماء، ويطيب بها وقت الإنسان وتطيب بها حياته.
وأما استبدال سوء الظن بحسن الظن فهذا أمر مهم جداً لكل إنسان، فالله تعالى فوق ما تظن من الرحمة، إن تقربت منه شبراً تقرب منك ذراعاً، وإن تقربت منه ذراعاً تقرب منك باعاً، وإن أتيته تمشي أتاك هرولة، كل واحد ينبغي عليه أن يكون عنده شعور وعلم أنه لا أرحم به من الله عز وجل.
والله لو أن الإنسان حمل ذنوب هذه الحياة كلها وجاء في لحظة واحدة تائباً إلى الله، منكسراً بين يدي الله، يرجو رحمة الله، والله! لا يخيبه الله من رحمته، ولا يقنطه من روحه سبحانه وتعالى، فهو أكرم من سئل، وأعظم من رجي وأُمل، وفي قصص التائبين عبر، فإن الإنسان قد يتوب من ذنوب الحياة ويجعل الله عز وجل توبته في لحظة واحدة موجبة لغفران حياته كلها، ولذلك أصدق شاهد أن بعض الحجاج يقدم على الله عز وجل في هذه البلاد الطيبة، وعمره سبعون سنة وهو لا يعرف الله عز وجل، يعيش في معاصٍ وذنوب وسيئات، فيأتي إلى الله عز وجل في آخر عمره تائباً منيباً، لا تتمالك عينه الدمعة.
وهذه قصة أحد هؤلاء: كنت مع رجل من كبار أهل المدينة، وقال لي: في حج هذه السنة حصلت عبرة، يقول: كان هناك أحد أصدقائنا نخشى الجلوس معه من كثرة معاصيه، وكثرة ما يفعل والعياذ بالله من المعاصي، يقول: فشاء الله عز وجل في آخر حياته قبل الحج أن ابتلاه الله بمرض، فدخل المستشفى وأجريت له عملية، فخرج من المستشفى منهوك القوى، في حالة لا يعلمها إلا الله عز وجل، يقول: فجلس فترة النقاهة بعد العملية -وهذا قبل الحج بشهر تقريباً- فارتاحت واطمأنت نفسه، فشاء الله عز وجل مع المرض وما له في الإفاقة من المرض إلا أيام قليلة، واقتربت أيام الحج، وإذا به يصيح على أبنائه وهو رجل ثري في نعمة وجاه، يصيح على أبنائه ويقول: أريد الحج! قالوا: يا أبانا أنت ضعيف ومريض، وما تستطيع أن تحج وفيك عملية، قال: أريد الحج! فما كان من أبنائه إلا أن أعانوه على الحج، وكانت معه امرأته، فشاء الله عز وجل أن قدم إلى جدة، ومضى في اليوم السابع يريد الحج، وفي طريقه إلى مكة إذا به يتأوه ويتألم من قلبه، تقول زوجته حاكية عنه: جلس يقول: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، لا إله إلا الله، ثم تقول له امرأته: ماذا بك يا فلان؟ قال لها: الموت، ثم قال: لا إله إلا الله وسقط ميتاً في ساعته.
هذا إن دل على شيء فإنما يدل على سعة رحمة الله، هذا الرجل حياته كلها بعيدة عن الله، وما انتقم الله عز وجل منه، والله قادر وهو جالس على المعصية أن يخسف به الأرض، فوالله لو أذن الله للأرض أن تنتقم من العاصي لخسفت به في لحظة واحدة، الله مالك الملك، له العزة والكمال والجلال، كل شيء في هذا الكون تحت أمره وقهره وملكه، سبحان الله! يعصيه الإنسان ومع ذلك يعطيه الصحة، ويمكنه من لذة المعصية، وهو قادر أن يسلب منه الروح في لحظة واحدة، ويستره وهو يفعل المعصية.
فسبحانه ما أحلمه! فهذا يفعل المعصية في عافية وصحة وستر! ثم مع ذلك يدعو الإنسان ويقول له: هلم إلى رحمتي، هلم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، عبدي! ما أريد منك إلا لساناً طيباً وعملاً طيباً، ما أريد منك غير هذا.
كذاب من يقول: إن القرب من الله فيه ضيق! لا والله، فالله لا يريد منك إلا كلاماً طيباً وفعلاً طيباً، وعقيدة ترضيه، ثلاثة أشياء فقط: قلب صالح نقي من الشوائب، ولسان طيب تقول به الكلام الطيب، وجوارح تسخرها في الشيء الطيب، لا شيء غير هذا أبداً، بدل ما كان الواحد يسب الناس، ويحتقر الناس، ويتكلم على الناس أصبح يتكلم بكلام طيب، ويحترم الناس، بدل ما كان يفعل الأمور التي لا تليق بأتفه الناس إذا به يحترم نفسه، ويفعل الأفعال التي تليق به كمسلم يؤمن بلقاء الله عز وجل، لا شيء غير هذا.
ما عندنا في الطاعة والشيء الطيب إلا هذه الثلاثة الأشياء: صلاح العقيدة، وصلاح القول، وصلاح العمل، ومن فعل هذه الثلاثة الأشياء عصمه الله عز وجل إلى أن يلقاه، وأوجب له حبه ورضوانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97].
إذا أتيت بهذه الثلاثة الأشياء أقسم الله عز وجل أن يحييك الحياة الطيبة، ولذلك لن تجد إنساناً يطيع الله ثم يخاف من غيره، وجرب فالخوف لا يأتي إلا من معصية الله.
فهذا الرجل حياته بعيدة عن الله، ويقسم لي رجل كبير السن وأعرفه في المدينة، وهو الآن في آخر حياته، ووالله لما قص لي القصة كانت دمعته على عينه، يقول لي: -سبحان الله! ما أحلم الله! وما ألطف الله! أن ختم له هذه الخاتمة الحسنة في آخر حياته!، على أي شيء يدل هذا؟ يدل على رحمة الله-: ليس هناك داعٍ لسوء الظن بالله، والشيطان يأتي الإنسان ويقول له: أنت فعلت وفعلت والله لا يغفر لك أبداً! وبمجرد ما يفعل الإنسان المعاصي -ولو عظمت- ويقول: اللهم إني تائب إليك! إذا بالله عز وجل يبدل تلك المعاصي حسنات، قال تعالى: {فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان:70].
هذا الكلام الذي نقوله لنا جميعاً، ليس لأناس وأناس، فالكلام لنا جميعاً؛ لأن المفروض أن يكون المؤمن في كل لحظة قريباً من الله، وليس أحد هناك إلا وهو يعصيه، وليس أحد هناك إلا وهو يذنب، فنحن مطالبون دائماً بهذه الثلاثة الأشياء التي توجب الحياة الطيبة.(29/6)
ثمرات الحياة الطيبة(29/7)
من ثمرات الحياة الطيبة: الاستقامة
أما الخصلة الثانية التي يجنيها صاحب هذه الحياة الطيبة فهي: خصلة الاستقامة، وهذه الخصلة ثمرتها أن أصحابها إذا شاء الله عز وجل أن يتوفاهم وهم عليها فما ما من إنسان إلا وهو سيخرج من هذه الدنيا قريباً أو بعيداً، وما أحد يضمن أن يقوم من مجلسه هذا، فلا بد من لحظة وهي: لحظة الفراق، فمن ثمرات الاستقامة الطيبة والعمل الصالح أن الإنسان إذا حانت ساعة قيامته، ودنت ساعة فراقه في هذه الحياة، كانت أطيب ساعة عنده ساعة لقاء الله عز وجل، فالناس عند الموت يخافون إلا صاحب الحياة الطيبة، إذا جاءه الموت يحس أنه في حنين وشوق إلى الله عز وجل، ولذلك تجد أصحاب الحياة الطيبة إذا دنت منهم سكرات الموت تجدهم في انشراح نفس وطمأنينة وراحة بال، وبعضهم يسلم الروح وهو يتبسم، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، ممن حسنت خاتمته وكان من الذين قيل لهم: ((لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)) [الأعراف:49] ((ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ)) [النحل:32] نسأل الله العظيم أن يجعل أسعد لحظة لنا في هذه الحياة، لحظة فراقها والخروج منها.
فهذه من الثمرات التي يجنيها الإنسان، وينبغي للإنسان أن يجتهد قدر استطاعته في هذه الأمور التي ذكرناها: صلاح الباطن، وصلاح الظاهر، وصلاح القول والعمل، لا تتكلم إلا وأنت تعرف أن الله يرضى عن كلامك، ولا تعمل إلا وأنت تعلم أن الله يرضى عن عملك، نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يوفقنا وإياكم لصالح القول والعمل إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وأترك المجال للأسئلة، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله.
جزى الله شيخنا الفاضل خير الجزاء على هذه الكلمة التي أحيا بها قلوبنا، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه.(29/8)
من ثمرات الحياة الطيبة: استجابة الدعاء
من ثمرات الحياة الطيبة: أنك إذا أقبلت على الله فهناك خصلة عجيبة وكريمة، ولو خسرت ما خسرت، لو خسرت الأصحاب والليالي الطيبة، فإن هناك شيئاً لم تخسره، وهو الله جل جلاله، إذا أقبلت على الله وفعلت هذه الثلاثة الأشياء: عقيدة صالحة، وقولاً طيباً، وعملاً طيباً، فلا ترفع كفك وتقول: يا رب! إلا أجاب الله دعوتك، ولا قلت: أسألك إلا أجاب الله سؤالك، ولذلك ورد في الحديث: (أن العبد إذا كان صالحاً أصبح معروفاً في السماء)؛ لأن العمل الصالح يصعد إلى الله عز وجل، فإذا صعدت منك الكلمات الطيبة فأنت دائماً تقول: لا إله إلا الله، أستغفر الله، وتذكر الله، وتتكلم بالكلام الطيب، وتحسن إلى الناس، وتفعل الأعمال الصالحة، إذا بالأعمال الصالحة تصعد، فإذا بكثرة الأعمال الصالحة تحبك بها الملائكة، ويجعل الله حب الملأ الأعلى لك في السماوات، فإذا جاء كرب من الكروب: جاءتك مشكلة، أو جاءك شيء تخافه، فقلت: يا رب! قالت الملائكة في السماء: صوت معروف من عبد معروف.
وهذا الصوت معروف من عبد معروف، من هو؟ إنه المطيع لله عز وجل، عبد بلغ به أنه إذا دعا الله استجاب الله دعاءه، ما الذي ينقصه في هذه الحياة؟! إذا أصبحت في لحظة بعبوديتك الخالصة وطاعتك الصادقة لله، وقلت: يا رب! أجاب الله دعاءك، فأي مقام، وأي منزلة وأي شرف أصبحت فيه؟ هذا هو العز، وهذا هو الجاه، وهذه هي الحياة الطيبة التي ينبغي لكل إنسان أن يفكر فيها، وأن يجتهد في تحصيلها.
فأكرر وأقول: أن الضيق كل الضيق في معصية الله، والسعة كل السعة في رحمة الله والقرب من الله عز وجل، ونسأل الله بعزته وجلاله وأسمائه الحسنى أن يرزقنا هذه الحياة الطيبة!(29/9)
الأسئلة(29/10)
صور التكاسل عن أداء الصلوات وعلاجه
السؤال
إني أتكاسل عن أداء بعض الصلوات أحياناً فما العلاج؟
الجواب
التكاسل عن أداء بعض الصلوات علاجه أن تدعو الله عز وجل أن يجعلك من المصلين الذين هم على صلاتهم يحافظون، وعلى صلواتهم دائمون، وأن تتذكر لقاء الله عز وجل وحساب الله لك عن هذه الصلاة؛ لأن الله سيسألك عن هذه الصلاة، وسيحاسبك عن هذه الصلاة، فإذا علمت أن الله سيسألك عنها فإن هذا يدعوك إلى المحافظة عليها، وأسعد الناس في الصلاة من بكر إليها، والناس في الصلاة على مراتب: منهم من يبكر إليها، ومنهم من يأتيها عن دبر، وكل يفوز برحمة الله على قدر ما هو سابق إليه من رضوانه، فعليك أن تبادر إلى فعل الصلاة، والتكاسل عن الصلاة بتأخيرها يكون على صور، منها: أولاً: عدم الصلاة مع الجماعة، وهذا فيه إثم وعقوبة، فإذا سمعت منادي الله يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فاجعل نصب عينيك فعل الصلاة، ولذلك كان الصحابة إذا أذّن المؤذن والسكين في اللحم ما يتم قطع اللحم حتى يصلي؛ وهذا من كمال الإجابة لله عز وجل.
الصورة الثانية من التقاعس عن الصلاة: تأخير الصلاة، يأتيك الشيطان ويقول لك: العشاء بقي له وقت، ليس هناك داع أن تذهب إلى المسجد، بل في بعض الأحيان يأتيك الشيطان يقول لك: لماذا تذهب إلى المسجد؟ أنت ترائي الناس؟ تريد الناس أن يقولوا عنك: إنك مصلٍ، يريد أن يخذِّلك عن طاعة الله، فاعقد العزم واذهب، وستحس في اليوم الأول أن الأمر ثقيل وقلبك ضيق، وفي اليوم الثاني يتسع، واليوم الثالث والرابع تصبح الصلاة مع الجماعة مثل الطعام والشراب اللذين لا صبر لك عنهما.
كان بعض السلف إذا فاتته الصلاة يبكي كالطفل، ذكروا عن بعض السلف قال الراوي: خرجت من صلاة العصر فوجدت الناس مجتمعين، فقلت: ما بهم؟ قالوا: فلان فاتته صلاة العصر يعزونه في صلاة العصر التي فاتته، يقولون له: مصيبة أصبت بها لما فاتتك صلاة العصر، فاتتك درجات وأجور، يعزونه لأنها مصيبة في الدين، فانظر رحمك الله! تفوته صلاة واحدة ومع ذلك يعزونه، بينما في وقتنا من تفوته صلوات كثيرة.
نسأل الله السلامة والعافية! وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.(29/11)
وسائل الحصول على الخشوع في القلب
السؤال
هل من طريقة لكي يدخل الخشوع إلى قلبي؟
الجواب
الطريقة المختصرة هي أن تدعو الله عز وجل، قل: اللهم إني أسألك قلباً خاشعاً، والله عز وجل بيده الخشوع، في لحظة واحدة يكون القلب أقسى ما يكون وإذا بالله عز وجل يقذف في قلبك نور الخشوع، وإذا بك ما تسمع آية إلا وتخشع، ولا تسمع أحداً يقول لك كلمة من كتاب الله إلا خشعت لها، ولذلك تجد بعض الناس إذا اهتدى بمجرد ما يسمع القرآن يتعلق بالله عز وجل، ما يتحمل، لو تلوت عليه آية من كتاب الله يبكي من كمال خشوعه، نسأل الله العظيم أن يجعلنا وإياكم ذلك الرجل، فمن حرم الخشوع فقد حرم خيراً كثيراً، ونسأل الله أن يجعل قلوبنا وقلوبكم خاشعة لله عز وجل؛ لأن الله تعالى يقول: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].
فالمقصود إذا أردت الخشوع فأول شيء تقوم به هو أن تدعو الله، ثاني شيء إذا أردت الخشوع أن تزور الصالحين، وثالث شيء أن تغشى المحاضرات والندوات الطيبة، ورابع شيء أن تقرأ القرآن وتتأثر بالقرآن، وبإذن الله ستجد الخشوع، نسأل الله العظيم أن يرزقنا وإياكم خشوع القلب وخشوع الجوارح، والله تعالى أعلم.(29/12)
دوام المراقبة لله عز وجل من أعظم الوسائل لترك المحرمات
السؤال
لقد ابتليت -أعاذني الله من هذا البلاء- بمشاهدة (أفلام الفيديو) الخليعة، وقراءة المجلات الماجنة والفاضحة، وأحاول التخلص من هذا، فما ترشدوني، وهل من وسيلة للتخلص من هذا البلاء، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الله المستعان، الله أكبر، سبحان الله! لو تصور هذا الإنسان أنه واقف بين يدي الله عز وجل في عرصات يوم القيامة، وقال الله له: أما تستحيي يا عبدي؟! أما ترى الأعمى الذي لا يبصر وأنا نورتك بهذا البصر تنظر به إلى محارمي؟ وهذه المعصية قد يراها الإنسان معصية واحدة فقط أو مشهداً واحداً مقطعاً معيناً من (فيلم) يدعو إلى محارم الله، قد يغضب الله عز وجل على العبد غضباً لا رضا بعده -نسأل الله السلامة والعافية-، وقد ينطفئ نور الإيمان في القلب فيصبح القلب مظلماً إلى أن يلقى الله عز وجل، المعاصي خطيرة يا إخوان! المعاصي تميت القلوب، وتطفئ منها نور الإيمان، الله الله! إذا جئت يوم القيامة ووقفت بين يدي الله عز وجل، وعرضت عليك هذه المشاهد ما تخرم منها مشهداً واحداً، وقلعت هذه العين بمسامير النار، وكحلت بكحل النار، وقد يجد الإنسان لمشاهدتها لذة لكنها حسرة وندامة يوم القيامة، ثم يسأل الإنسان نفسه سؤالاً صادقاً، يا أخي! اسأل نفسك: ما الذي جنيته من هذه المشاهد؟ ما هي الثمرة؟ وما هي الفائدة؟ رأيت وتمتعت، لكن ما هي العاقبة؟ نظرت في الصحيفة حتى إذا جئت في عرصات يوم القيامة، عرض عليك الكتاب، وإذا فيه هذه النظرة التي لا ترضي الله عز وجل عنك.
يقولون عن رجل: إنه كان من طلاب العلم، وكان مع أحد العلماء، فذات يوم كان هناك غلام نصراني -والعياذ بالله- كافر، وكان الغلام له صورة جميلة، ففتن به طالب العلم ونظر إليه، فلما نظر إليه نظرة جاء الشيخ ورآه ينظر، فقال له: لماذا تنظر؟ فكف الطالب، فقال الشيخ للطالب: والله لتجدن أثر هذه السيئة ولو بعد حين، يعني: سيعاقبك الله عليها ولو في آخر حياتك، يقول هذا الطالب: فما زلت أنتظر هذه العقوبة، فمكثت عشرين سنة -وهذه القصة ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين- يقول: مكثت عشرين سنة وأنا أنتظر العقوبة، وإذا بي في ليلة من الليالي نمت -وهو حافظ للقرآن- فأصبحت فأنسيت كتاب الله عز وجل، نسأل الله السلامة والعافية.
فالذنب قد يستهين به الإنسان في جنب الله لكنه عظيم، ولذلك قال بعض السلف: (لا تنظر إلى صغر المعصية ولكن انظر إلى عظمة من عصيت)، النظرة الواحدة قد تدمر حياة الإنسان كلها، نظرة واحدة إلى الحرام! فالله الله يا أخي في الله، أنا لا أقنطك من رحمة الله، ولا أيئسك من روح الله، ولكن أبشر بكل خير، أريد منك دمعة تدمعها على ما فات من هذه الأفلام، أريد منك أن تجلس يوماً لوحدك في الغرفة وتتذكر وتقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، أي خسارة بليت بها؟! الله أعطاني البصر وهذه النعمة فنظرت بها إلى الحرام! كم من (فيلم) نظرت؟ وكم من مشهد رأيت؟ كيف ألقى الله؟ فتحترق من داخل قلبك حتى تدمع، ولعل هذه الدمعة تغسل ذنوب العمر، أريد منك هذه الدمعة وأنت خالٍ، فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بشَّر من دمع هذه الدمعة أن الله يظله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، عندما قال في السبعة -نسأل الله أن يجعلنا الله وإياكم منهم- الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: (ورجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه) أي: من خشية الله عز وجل، فادمع هذه الدمعة.
الأمر الثاني: أوصيك أخي! أن تقلع عن هذه المعاصي، وأن تبتعد عنها، والله سيعينك، والله ما عقدت في نفسك أنك تتوب عن شيء إلا وفقك الله، والشيطان يأتيك ويقول: لا.
أنت فعلت كذا، وأنت رأيت كثيراً، فلا توبة لك، يقنطه، والله لو غرق الإنسان في المعاصي من أخمص قدمه إلى شعر رأسه وأحسن الظن بالله، فإن الله يهديه ويوفقه.
فهذان الأمران اللذان أدعوك إليهما: ترك المعصية، والندم على ما كان منك فيها وحسن الظن بالله، وأسأل الله العظيم أن يبدل سيئاتك حسنات، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(29/13)
كيفية التعامل مع رفقاء غير الصالحين
السؤال
أريد أن أتوب إلى الله، وقد سلكت طريق الصلاح والهداية، ولكني أكون ساعة مع الصالحين وأكثر الأوقات مع الشباب غير الصالحين، ولا أستطيع أن أتركهم؛ لأنهم معي في كل وقت، فماذا أفعل يا شيخ، دلوني على الطريق، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً أهنيك بنعمة الله عز وجل عليك بالتوبة، فإن الله لا يمن بالتوبة إلا لمن أحب، ولا يقذف الله التوبة والندم في قلب إنسان إلا وهو يحبه سبحانه وتعالى، وبداية الخير كما يقول العلماء: الندم، والتوبة باعث من بواعث الندم، أو ثمرة من ثمرات الندم، فمادام أنك قد تبت وأقبلت على الله عز وجل فازدد إقبالاً على الله عز وجل، وانظر إلى الراحة النفسية التي وجدتها في الإقبال على الله، أما أصحابك فأوصيك بأمرين: الأمر الأول: إذا جاءوك فما المانع أن تكون لهم مشعل هداية، ذكّرهم بالله، أوصيك أخي في الله! إذا جلست معهم أن تذكرهم بالجنة والنار، وذكرهم بنعم الله عز وجل عليهم بالليل والنهار الذي يتقلبون ويتنعمون فيهما، وادعهم إلى طاعة الله، وما يدريك لعل النصيحة تخرج من قلبك، فيشرح الله بها صدر إنسان لا يصلي ولا يطيع، فيكون في ميزان حسناتك، بعض الشباب موفق إذا دخلت الهداية في قلبه لا يرتاح حتى يدخل الناس في هداية الله عز وجل، بعض الناس مبارك عندما يذوق طعم الهداية لا يرتاح حتى يبلغها عن الله عز وجل إلى غيره، وهذا والله من خير الناس وأعلاهم منزلة، فإذا أحب الله عز وجل وذاق لذة الهداية أحب أن يعطيها لكل إنسان، فيذهب إلى إخوانه الذين كانوا معه قبل الهداية لكي يقول لهم: إني وجدت الراحة في القرب من الله، يذكرهم بالله عز وجل، يا أخي! عندك سلعة غالية، وكلمة ثمينة، وحياة طيبة، انظر إلى الأخ الذي لا خير فيه يأتي ويجلس معك فيقول: يا فلان ما رأيك أن تسهر معنا في هذه الليلة، فالسهر على البحر فيه وفيه وفيه! المهم أنه يحسِّن ويزين لك معصية، لماذا لا تقول له: يا أخي! ما رأيك لو ذهبنا إلى المسجد؟ ما دام أنه يعرض عليك سلعة الهلاك والفساد، فلماذا لا تعرض عليه سلعة النجاة والصلاح، قل له: يا أخي! ما رأيك أن تجرب مرة واحدة أن نذهب إلى المسجد، قد توفق وتأخذ شخصاً عاصياً إلى جلسة من مجالس الخير، فيشرح الله صدره ويكون في ميزان حسناتك، هذه تجارة رابحة، ولربما أن الله يغفر ذنوبك حينما تهدي الناس إليه.
جربوا يا إخوان! هذا دينكم ودين آبائكم وأجدادكم، إن تبليغ الدين شرف والله لك، ليس بعيب ولا ذلة ولا مهانة أن تبلغ الرسالة، بل شرف لك، هذا دينك ودين آبائك، ليس بعيب أن تطيع الله، وليس بعيب أن تذل لله، ولكن العيب كل العيب أن نأكل من طعامه وأن نشرب من شرابه وأن نكفر نعمته، هذا هو العيب والله، والعيب كل العيب أن يظل الإنسان يكفر بنعمة الله عليه، ويدعو إلى معصية الله، أما أن تدعو إلى طاعة الله فهو شرف، ذكِّر قرناء السوء بالله عز وجل، قل لهم: والله إن الحياة التي أنتم تعيشونها كنت أعيشها وأجد العذاب، ما وجدت الراحة إلا في القرب من الله، واعرض عليهم سلعة الله.
الأمر الثاني: إذا لم يطيعوك فادع الله لهم بالهداية واجتنبهم وسيعوضك الله خيراً منهم، اعلم أنك ما تركت شيئاً لله إلا عوضك الله خيراً منه، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يعينك على البعد عنهم، وأن يهديهم إن كان الله أراد لهم الهداية، وإلا صرف قلوبهم عنك، وصرف قلبك عنهم إلى الأخيار، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(29/14)
معنى حديث: (لن تزول قدما عبد حتى يسأل عن أربع)
السؤال
ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع منها: عن عمره فيما أفناه)؟
الجواب
هذا الحديث يعتبر جزءاً من حديث يدل على مشهد من مشاهد الآخرة، وهو مشهد السؤال، فالناس على قسمين: مؤمن وكافر، أما الكافر فبمجرد موقفه في عرصات يوم القيامة يختطف والعياذ بالله إلى النار، وأما المؤمن: فهو يمر في بلاء وضيق في عرصات يوم القيامة على قدر صلاحه وطلاحه، فإن كانت عنده ذنوب كبيرة، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، حاسبه الله عز وجل بتلك الذنوب، ومن الحساب موقف السؤال، فالمؤمنون الذين هم القسم الثاني أيضاً على ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: طائفة لا تسأل عن شيء ومباشرة يأمر الله بدخولها إلى الجنة، وهم السبعون الألف الذين هم من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، يأذن الله بدخولهم إلى الجنة دون سبق حساب ولا سؤال ولا عذاب، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم.
وأما الطائفة الثانية: فطائفة عظمت حسناتها والله أحبها مع وجود الأخطاء، فيسترها الله عز وجل في عرصات يوم القيامة، كما في حديث ابن عمر: (أن الله يدني العبد فيقول: يا عبدي فعلت كذا وكذا يوم كذا وكذا؟ يقول: بلى يا رب، ويقول: فعلت كذا وكذا؟ فيقول: بلى يا رب! فيقول: سترتها عليك في الدنيا وها أنا أسترها عليك اليوم).
وأما القسم الثالث فهو قسم يفضحه الله عز وجل، فهذا المشهد من مشاهد السؤال: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع) ومنها ما ورد في السؤال: (عن شبابه، وفي رواية: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه)، العمر الذي هو لحظات الحياة قلَّت أو كثرت، يسأل الإنسان فتعرض عليه أيام الدنيا يوماً يوماً، تعرض عليك في عرصات يوم القيامة يوماً يوماً، وكل يوم يعرض عليك ساعة ساعة، وكل ساعة تعرض عليك بالثواني، تسأل عنها ثانية ثانية، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من نوقش الحساب عذب)، يعني: إذا كان الحساب عن العمر دقيقاً فاعلم أنه الهلاك، ما يشك أحد أبداً أن الله لو دقق عليه الحساب هلك؛ لأن نعم الله عظيمة والإساءة موجودة ولو كان الإنسان فيه صلاحاً وخيراً.
فيعرض عليه هذا الشباب، وتعرض عليه الصحة، وتعرض عليه اللحظة، والثانية الفلانية من الساعة الفلانية، من يوم كذا وكذا من شهر كذا وكذا من عام كذا وكذا، فيقال: في اللحظة الفلانية فعلت كذا وكذا، وجلست مع أصحابك فقالوا: كذا، فقلت: كذا وكذا، وإذا بالكلام تذكره كاملاً ما تخرم منه حرفاً واحداً، فيعرض على الإنسان وما ينسى مثقال خردلة، فتوضع موازين القسط ليوم القيامة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47]، عرصات يوم القيامة مشهد عظيم شيبت رءوس الصالحين وأقضت مضاجعهم: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات:17]، ولذلك العبّاد الصالحون عندما يتذكرون مثل هذه المواقف ما يتحمل أحدهم، فيكثرون من الأعمال الصالحة لعل الله عز وجل أن ينجيهم من كربات ذلك اليوم، فيتعبون الآن ولكن لراحة الغد.
فالمقصود أن الله يعرض عليك هذه اللحظات، ويعرض عليك هذه الساعات، ومن الناس من يعرض الله عز وجل عليه حسناته، فيقول له: عبدي في يوم كذا وكذا فعلت كذا وكذا، فيقول: بفضلك يا رب! فيقول: عبدي في يوم كذا وكذا جلست مع الصالحين في ساعة كذا، فيقول: بفضلك يا رب! فيقول: في يوم كذا وكذا زرت أخاك في الله، في يوم كذا وكذا وصلت الرحم، في يوم كذا وكذا تصدقت على مسكين، أعنت أرملة، فعلت كذا فيقول: بفضلك يا رب! بفضلك يا رب! فيقول له: ادخل الجنة، يعرض الله عز وجل عن إساءتك، والله فعال لما يريد يحكم ولا معقب لحكمه، من يستطيع يوم القيامة على رءوس الأولين والآخرين أن يقول: يا رب لا تدخل فلاناً الجنة؟! ما أحد يستطيع أبداً، إن رحمك الله فلا معذب، وإن عذبك فلا راحم، من يستطيع أن يتكلم؟! تأمل ملائكة الله الملك الواحد منهم لو بسط جناحه لسد الأفق، مع ذلك يسكت ولا يستطيع أن يتكلم ذلاً لله عز وجل، مع ما أعطاهم الله عز وجل من البسطة في الجسم، فيخنس أمام عظمة الله عز وجل، ويذل أمام قهر الله عز وجل في ذلك اليوم العظيم، مع أن الملائكة لم تذنب لكن من عظمة الله عز وجل وهيبة السؤال سكتت، هذا من عرصات وأهوال يوم القيامة، تسأل عن كل الأفعال، وعن جميع الأقوال، تعرض على الإنسان كاملة لا ينسى منها مثقال خردلة، نسأل الله أن ينجينا وإياكم من ذلك الموقف، وأن يجعل حسابنا وحسابكم يسيراً وألا يجعله عسيراً، والله تعالى أعلم.(29/15)
صيام يوم عاشوراء يكفر صغائر الذنوب وكبائرها
السؤال
هل صيام يوم عاشوراء يكفر كل الذنوب كما في حديث ابن عباس؟
الجواب
هذا الحديث قيده بعض العلماء بصغائر الذنوب، وقالوا: إن كبائر الذنوب موقوفة على التوبة النصوح، والذي يظهر من ظاهر الحديث أنه يشمل صغائر الذنوب وكبائرها، والأصل في المطلق أن يبقى على إطلاقه، وليس هناك ما يقيده من النصوص، والذي يظهر إن شاء الله أنه يكفر صغائر الذنوب وكبائرها، وليس ذلك بعزيز على الله، والله تعالى أعلم.(29/16)
عدم الالتفات إلى المستهزئين والعاقبة للمتقين
السؤال
فضيلة الشيخ: أنا صاحب قلب قاسٍ، وأريد أن أتوب ويلين قلبي، وأريد أن أحيا حياة سعيدة طيبة، ولكن أخشى الاستهزاء من الآخرين، فماذا أفعل، وما هو الحل جزاكم الله خيراً؟.
الجواب
باسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد: فأبشر أخي في الله! بكل خير ترجوه من الله عز وجل، ما دمت أنك تحس أن قلبك قاسٍ، وتجد من نفسك الندم من هذه القسوة فهذه بداية خير، والله تعالى لا يورث الإنسان الندم إلا وهو يريد منه أن يتحرك إليه سبحانه وتعالى، وأوصيك أخي في الله! أن تجتهد في الإقبال على الله عز وجل، وألا يمنعك سخرية الساخرين ولا استهزاء المستهزئين عن طاعة رب العالمين، فإن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، والله ما تطيع الله عز وجل إلا أورث الله هيبتك في القلوب، فاليوم الأول يستهزئون، واليوم الثاني يضحكون، واليوم الثالث إذا بالقلوب قد تغيرت، وجرب وستجد ذلك، وقد وجدنا هذا، أول شيء يستهزئون بك لماذا؟ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لما قال: (قولوا: لا إله إلا الله) استهزءوا به، ولما قال الصحابة: (أحد أحد) اُستهزئ بهم، ولما قال الصالحون: (إنا إلى الله تائبون منيبون) اُستهزئ بهم، ولكن ما هي العاقبة؟ ما هي النتيجة؟ ما هي الثمرة؟ إنها رضوان الله عز وجل، ولذلك النبي صلى الله عليه وآله وسلم كانوا يستهزئون به، وسموه الساحر، والمجنون، والأفاك الأثيم، وتوفي وهو سيد الأولين والآخرين، صلوات الله وسلامه عليه، فالعبرة بالعواقب، وهذا الاستهزاء يكفر الله به ذنوبك، ويجعله الله عز وجل رفعة لدرجاتك، فما عليك من الاستهزاء والسخرية، ويوم القيامة تجتمع عند الله الخصوم، وكما استهزءوا بالمطيعين لله فيستهزئ بهم المطيعون: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ * {عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ * هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين:34 - 36].
فأبشر أخي بكل خير، وأقبل على الله عز وجل، إذا استهزأ بك الأشرار فسيبدلك الله محبة الأخيار، وإذا استخف بك البعيدون عن الله فسيعظمك ويحبك القريبون من الله، وشتان ما بين الفريقين، وشتان ما بين الطائفتين، والله تعالى جعل جنده هم الغالبون وهم الفائزون، وهذا وعد لن يخلفه الله عز وجل، فأبشر بكل خير، قال بعض السلف: (والله ما قام عبد لله مقام ذل إلا أقامه مقاماً أعز منه) يعني: إذا التزمت وأطعت الله وسخر منك الناس، فسيقيمك الله مقاماً يجلك فيه الناس، ولذلك تجد الشخص إذا رأى شاباً ملتزماً مستقيماً فإنه يحس في قرارة قلبه أن هذا الشاب الملتزم شيء كبير، ووالله حتى العصاة ينظرون إلى أهل الطاعة نظرة إجلال، وكم مرة سمعت بأذني من أناس عصاة يقولون: يا شيخ نتمنى أن نكون مثل الأخيار، نتمنى أن نكون مثل هؤلاء الصالحين الذين نجد فيهم الوقار والسكينة والقرب من الله، نتمنى أن نكون مثلهم، فالمرة الأولى استهزاء، والمرة الثانية سخرية، ولكن العاقبة للتقوى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم ألا يجعلنا ممن حجبه استهزاء الناس عن طاعة رب الناس، فانج بنفسك قبل أن يدهمك الأجل وتستنفد الأمل، وعندها لا ينفع الإنسان إلا ما قدم من صالح القول والعمل، والله تعالى أعلم.(29/17)
فضل صيام عاشوراء
السؤال
ما فضل صيام يوم عاشوراء الذي نحن على أبوابه الآن؟
الجواب
ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكر فضله: أنه احتسب على الله عز وجل أن يكفر عاماً كاملاً عن الإنسان، فصيام يوم عاشوراء له فضيلة عظيمة؛ فينبغي للإنسان أن يجتهد في صيامه، والأفضل والسنة أن يصوم التاسع والعاشر؛ لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر) فيصوم الإنسان غداً وما بعد غد، وهو يوم الخميس والجمعة، والله تعالى أعلم.(29/18)
الثبات على الهداية
إن الهداية نعمة من الله عظيمة، ومنة منه جليلة، فبالهداية ينال الإنسان مرضاة الله سبحانه، وبالهداية تكون الراحة والطمأنينة في الدارين، لذلك يضطرب الجنان من خشية الله؛ خوفاً من تبدل الأحوال، وتقلب القلوب، وسوء العاقبة والمآل، ولا يكون الحفاظ عليها إلا بمعرفة الأسباب التي تعين على الثبات على هذه النعمة العظيمة التي امتن الله بها على عباده.(30/1)
نعمة الهداية وأهميتها
الحمد لله الواحد القهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مقلب القلوب والأبصار، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صلوات الله وسلامه وبركاته عليه ما أظلم الليل وأضاء النهار.
أما بعد: إخواني في الله! كم هي نعمة من الله عز وجل عظيمة، ومنة من الله تبارك وتعالى جليلة؛ تلك النعمة التي أخرج بها العبد من الظلمات إلى النور، وأنقذه من مزالق الهوى والردى والشرور! أيُّ ساعة تلك الساعة التي أقبلت فيها القلوب والقوالب على الله، أيُّ ساعة تلك الساعة التي عرف العبد فيها سيده ومولاه، أيُّ ساعة تلك الساعة التي انفطر فيها الفؤاد من خشية الله! أيُّ ساعة تلك الساعة التي أقبل العبد فيها على الله تبارك وتعالى من بعد إدبار وأحسن من بعد إساءة! ما أعظمها من ساعة تلك الساعة التي نادت فيها النفس اللوامة، وانبعثت في النفس أشجان وأحزان؛ تُذكر العبد بعظيم نعمة الله جل وعلا عليه وجليل منته لديه، فانتبه من الغفلة، واستيقظ من المنام، وأقبل على الملك العلام أيُّ ساعة تلك الساعة التي لا يستطيع العبد شكرها ولا الوفاء بعظيم حقها، حُرِمتها أمم فهوت في مهاوي الردى والشرور، وأكرمك الله جل وعلا بالإقبال عليه، فاللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك، نعمةً منك وحدك لا شريك لك، فلك كما ينبغي أن تُحمد عليها.
إخواني! إن القلوب الصادقة تتقطع لهفاً وشوقاً للثبات على هذه النعمة، تريد البقاء في الطريق إلى الله تريد الثبات على سبيل الله تريد البقاء على هذه الهداية التي رُحمت بها من عذاب الله تبارك وتعالى تريد أن يثبت القدم؛ ولذلك يضطرب الجنان من خشية الله خوفاً أن تتبدل الأحوال أو تسوء العاقبة والمآل؛ لذلك تتساءل القلوب الصادقة، وتتلهف شوقاً وحنيناً لمعرفة الأسباب التي توجب ثبات القدم في السبيل إلى رب الأرباب تريد من يهديها ويدلها إلى العلاج الناجح لذلك البقاء تريد أن تثبت على هذه الهداية إلى لقاء الله جل وعلا، استجابةً لأمره وطاعة له سبحانه إذ يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] فحفظوا وصية الله وأرادوا تطبيقها، فاشتاقوا وتلهفوا لكي يكرمهم الله عز وجل بالبقاء والثبات على الهداية.(30/2)
أسباب الثبات على الهداية(30/3)
البعد عن المحارم
من أسباب ثبوت القدم على الهداية واستجلاب الولاية: بُعد العبد عن محارم الله وخوفه وخشيته لله عز وجل، إن تنكب العبد عن صراط الله جل وعلا له أسباب تدعو إلى ذلك، وأعظمها: الميل إلى الهوى، وإيثار الشهوات والشبهات؛ فإذا استدمن القلب حديث النفس الداعية إلى محارم الله تنكب ذلك القلب -والعياذ بالله- عن صراط الله، فينبغي للعبد إذا وجد في نفسه الوساوس والخطرات أن يستعيذ ويستجير ويستغيث بالله سبحانه وتعالى من شرها وضرها.
إذا أراد العبد أن تثبت قدمه على الهداية، فليبتعد عن تلك المحارم الموجبة لضعف الإيمان في القلب، وأن يحاول قدر استطاعته إذا وجد من النفس دواعيها أن يكبح جماحها بالخوف من الله تبارك وتعالى، فمن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه.(30/4)
مجالسة الصالحين والأخيار
ومن أسباب الثبات على الهداية: معاشرة الصالحين والأخيار، فإن الجلوس معهم والأنس بهم من أعظم الأسباب الموجبة للهداية، وكذلك الحرص على زيارتهم والتأدب بأخلاقهم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله عز وجل غفر لعبد جلس في مجلس ذكر مرة واحدة فقال: (وله قد غفرت، هم القوم لا يشقى بهم جليسهم) فالجلوس مع الأخيار وزيارتهم من أهم الأسباب الموجبة للثبات على الهداية، فينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص على الجلوس معهم، فلو سألت القلوب يوماً: من الذي دعاها لمحارم الله؟ من الذي زين لها الشبهات والشهوات، ومهد السبيل لمحارم الله؟ لوجدت وراء ذلك قرين السوء والعياذ بالله! فهو الذي زين كأس الخمر وجعلها ألذ إلى النفس حتى أعرضت عن الله حين شربتها؟ وهو الذي حبب إليك الزنا وقربك منه ومهد السبيل إليه، فهؤلاء هم شياطين الإنس والجن؛ فينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص على البعد عمن لا خير فيه، والله إذا أراد أن يثبت قدم عبده على الهداية؛ دعاه إلى كراهية الأشرار، وجعل قلبه لا يرتاح لهم ولا للجلوس معهم؛ ولذلك بلغت الهداية ببعضهم أنه يقلق إذا مر عليه من عصى الله خشية أن يذكره بمعصيته.
إخواني! إن كثيراً ممن أكرمهم الله بالهداية قد يتساهلون في هذا الأمر العظيم، فتارة تجدهم يجلسون مع من لا خير فيهم ويتساهلون في ذلك، ووالله إنه لخطرٌ عظيم! فمن تعرف على الله وامتلأ قلبه بالإيمان بالله، فإن قلبه لن يسكن فيه غير داعي الله ومحبته، ولذلك لن يجتمع في قلب عبد محبة الله ومحبة عدوٍ لله أبداً، ولن تدخل محبة الله إلى قلب عبد أدخل معها شريكاً يضادها؛ لأنه إما أن تكون محبة لله خالصة تنتفي معها محبة ما سواه إلا أن يكون حبيباً لله، وإما العكس والعياذ بالله! فينبغي للإنسان أن يحذر من الجلوس مع الأشرار؛ لأن الجلوس والضحك واللهو معهم من الأمور التي توجب للعبد الردى وتورده موارد الشهوات والهوى؛ ولذلك من تعود على مجاملة الأشرار فلا يلومنّ إلا نفسه.(30/5)
قراءة القرآن
ومن الأسباب الموجبة للهداية: كثرة تلاوة القرآن، فإن القرآن شفاء القلوب والأرواح، وكثرة تلاوة القرآن -خاصة أثناء قيام الليل- من أعظم الأسباب الموجبة للثبات على الهداية، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أكمل الأمة إيماناً، فقد تفطرت قدماه في القيام بين يدي الله في جوف الليل؛ فمن حبب الله إلى قلبه قيام الليل ثبتت له تلك القدم على الهداية، فتعود -أخي في الله- على قراءة القرآن في ليلك ولو جزءاً واحداً تتقرب إلى الله جل وعلا به، فإننا نجلس الساعات الطويلة في مجالس اللغو واللهو، ونسهر إلى ساعات متأخرة من الليل، ووالله لو بذلت ربع معشار تلك الساعات لأصابتك من الله نفحة ورحمة قد تكون سبباً في سعادتك في الدنيا والآخرة.
إنه يعز على الإنسان لو أنه قام ربع ساعة بعد صلاة العشاء، يقلب فيها ذلك القلب أمام تلك الآيات الطيبة، وإن تيسر للعبد أن يقوم آخر الليل، فإنه أكمل وأجمل له في عين ربه، فينبغي للإنسان أن يحرص كل الحرص على قيام الليل، فإن قيام الليل من الأمور الموجبة لثبات القدم على الهداية؛ لأن العبد إذا قطع ليله في تلاوة القرآن تأثر في صباحه بذلك القيام، قال بعض السلف: (والله ما حفظت قيام الليل إلا وجدت أثر ذلك في علمي وعملي في يومي ونهاري) إنها دعوة لأن نحيي الليل وخاصة في الأسحار، فحق على الله عز وجل أن يثبت تلك الأجساد الطيبة الطاهرة التي تقلبت في جوف الليل بين يديه، فحرام على تلك العيون التي سحت بالبكاء في جوف الليل أن تمسها النار، وحرام على تلك الأقدام التي انتصبت في جوف الليل بين يدي الله أن يمسها عذاب الله وعقوبته، وحرام على تلك السواعد الطيبة الطاهرة التي أكرمها الله بقيام الليل فانتصبت بالسجود بين يدي الله عز وجل أن ترى النار أو تمسها.
وجماع الخير كله: تقوى الله عز وجل، فمن اتقى الله ثبت الله قدمه على الهداية، وأوجب له الولاية، قال الله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63]، أسأل الله العظيم، رب العرش الكريم -بأسمائه الحسنى وصفاته العلى- أن يثبت أقدامنا، اللهم إنا نعوذ بك من الضلال بعد الهدى، ومن العمى بعد البصيرة، ونعوذ بك من الحور بعد الكور، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه.(30/6)
طلب العلم الشرعي
السبب الخامس من أسباب الثبات على الهداية: طلب العلم، فطلب العلم يجعل العبد أكمل العباد إيماناً بالله ومعرفة به سبحانه وتعالى؛ وذلك لأن الله جل وعلا وعد أهل العلم بالخير كله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين)، فإذا اتجهت في سبيل طلب العلم، واتجهت إلى حلق العلماء تريد أن يكرمك الله بالعلم، فاعلم أن الله أراد بك خيراً، وحاشا لعبد أراد اللهُ به خيراً أن يُقلّب قلبه على الشر أبداًَ، لذلك تجدوا أكمل الناس ثباتاً على الهداية طلاب العلم، وأعرفهم بالله وأصدقهم في معاملته وأرجاهم له بعد العلماء، فقد صقلت قلوبهم روحانية الكتاب والسنة أولئك الذين جلسوا مجالس الذكر فحفتهم الملائكة فنجوا من شرور الشياطين ووساوسهم وخطراتهم؛ فكانوا أكمل العباد ثباتاً على طاعة الله عز وجل ومرضاته، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة).
حقيق بأولئك الأخيار الذين قضوا الليل والنهار في قراءة تلك الكلمات العطرة من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يثبت الله أقدامهم أولئك الذين احتسبوا عند الله أن يُسقطوا الإثم عن الأمة بأن جندوا أنفسهم دعاة وهداة وعلماء، يعلمون الخير ويهدون إليه.
هنا إشكال يرد كثيراً وهو: أن بعض طلاب العلم -والعياذ بالله- خاصة في هذه الآونة الأخيرة قد ينتكس عن طلب العلم، فما هو السبب في كونه ينتكس -والعياذ بالله- عن الهداية؟
و
الجواب
أن المراد بطالب العلم الذي أراد الله له الثبات هو طالب العلم الصادق مع الله في طلبه، المتأدب مع العلماء؛ ولذلك لن تجد إنساناً يستجمع خصلتين: الصدق في طلب العلم، والأدب مع العلماء إلا وجدته عالماً في عاقبة أمره، والعكس بالعكس والعياذ بالله! فينبغي للإنسان أن يجند نفسه لسلوك سبيل العلم علَّ الله أن يثبت بذلك قدمه على الهداية.(30/7)
محبة العلماء والجلوس بين أيديهم
السبب الرابع من أسباب الثبات على الهداية: محبة العلماء وغشيان حلق الذكر، فإنهم هم القوم الذين لا يشقى بهم جليس، ومن أحب رياض العلماء وداوم الجلوس فيها تقرباً إلى الله وتحبباً إليه؛ ثبت الله قلبه على الهداية، وثبت قدمه في السبيل المفضي إلى رحمة الله ورضوانه، فلا تجد إنساناً يحافظ على مجالس العلماء، ويحافظ على حلق الذكر إلا كان قلبه في انشراح عظيم، ونفسه في طمأنينة عظيمة بذكر الله جل وعلا وشكره والثناء عليه.
لقد جعل الله العلماء هداة مهتدين، جعلهم ورثة للأنبياء، وجعل الخير في اتباعهم والاقتفاء لآثارهم، ومن أحب قوماً حشر معهم؛ فمن أحب العلماء حشره الله مع العلماء، ومن تطفل على حلق الذكر راجياً رحمة الله بيض الله وجهه في الدنيا والآخرة وثبت له القدم حين تزل الأقدام.(30/8)
الاستجابة لداعي الكتاب والسنة
السبب الثالث من أسباب الثبات على الهداية: الاستجابة لداعي الكتاب والسنة، فإذا أتتك الآية من آيات القرآن، وأتاك الحديث من قول المصطفى صلى الله عليه وسلم أو إقراره أو عمله، تلهفت نفسك شوقاً للعمل به، فإنه ما من عبد يدمن الطاعة لله عز وجل ورسوله ثم تزل قدمه، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29] إخواني! لأنه ما من إنسان يسعى جهده في تطبيق أوامر الشرع، والتزام أوامر الكتاب والسنة إلا ثبّت الله قدمه على الهداية.
فلتتأثروا بمواعظ القرآن كلام الرحمن، واغسلوا القلوب بذلك الدواء النافع والعلاج العظيم، قال الله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68].
من تأثر بمواعظ القرآن وانكسر قلبه خشية للرحمن، فإن الله يثبت له الجنان، ويجعله على استقامة وطاعة لله عز وجل؛ ولذلك ما عرف عن إنسان حريص على اتباع السنة وتطبيقها -في نفسه وولده وأهله- أن قلبه ينقلب عن طاعة الله يوماً من الأيام؛ لذلك -إخواني- انتهجوا هذه المناهج الكريمة، وتعرضوا لنفحات من الله ورضوان، وذلك إنما يكون بالتأثر بآيات القرآن.
لقد كان السلف الصالح من أقوى العباد وأكملهم استجابة لأوامر الكتاب والسنة، فصلحت لهم الأحوال، وأوجب الله لهم حسن الخاتمة والمآل؛ فمن تغذى قلبه بمحبة الكتاب والسنة، فإن الله تبارك وتعالى يثبت قلبه؛ لأن القرآن طريق الهداية الأول الذي لا هداية إلا عن طريقه.
قال الله في محكم كتابه: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ:50] فدل هذا على أن الوحي طريق الهداية، وأن العبد إذا اهتدى بالوحي دعاه ذلك للثبات على سبيل الله وطاعته ومرضاته، وكذلك السنة؛ فهي نور على نور، ورحمة على رحمة، فمن اقتفى آثار النبي الكريم هداه الله تبارك وتعالى وثبت الله قدمه على الهداية، قال الله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] اتبعوا هذا النبي الكريم لعلكم تهتدون، فكل من أحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان متأثراً بأقواله وأفعاله فإنه يحب السنن، ويحب تطبيقها والتزامها وكلما سمع سنة كان جل همه أن يطبقها، فذلك هو العبد الذي أوجب الله له الهداية والثبات.
إخواني! ينبغي للإنسان أن يُغذي قلبه بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم محبة تدعوه أن يؤثره على كل شيء حتى على نفسه التي بين جنبيه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ... ) فإذا كان العبد يحب الله من كل قلبه، ويحب رسوله صلى الله عليه وسلم محبة تدعوه إلى المتابعة الصادقة المجردة من الهوى، فإنه لا شك أنه من أسعد العباد وأفوزهم بالهداية، ولذلك لما تأثر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بآثاره واهتدوا بهديه كانوا أكمل الأمة ثباتاً على الحق؛ اكتمل لهم الإيمان عندما تأثروا بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يدمنون تطبيقها، ولا يطمئن الرجل منهم إلا بالتزامها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فقد تأثروا بتلك السنة حتى كان الواحد منهم يحب الطعام الذي يحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك -إخواني- ينبغي للإنسان أن يُغذي قلبه بمحبة السنن والآثار والسير على نهجها والاقتفاء بآثارها.(30/9)
سؤال الله الهداية والثبات عليها
أول تلك الأسباب وأعظمها: أن يتوجه العبد إلى الله جل وعلا بقلب صادق منكسر بين يديه يسأله الثبات على الهداية، فإن الدعاء حبل متين من الله عز وجل؛ من استمسك به نجا، ومن استعصم به أغاثه الله جل وعلا إذا استغاث، وأجاره إذا استجار، فالله بيده الهداية والضلال، والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، هو الذي يعطي ويمنع؛ فإن أعطى فلا مانع لما أعطى، وإن منع فلا معطي لما منع.
إن أول طريق للبقاء على الهداية والثبات عليها: أن يتوجه القلب إلى الله بصدق وإخلاص، فما من عبد يسأل الله بصدق أن يثبت قدمه وقلبه على الهداية إلا كان حقاً على الله أن يثبته، فسلوا الله الثبات على الهداية فذلك شأن الأخيار ودأب الصالحين الأبرار، وقد حكى الله جل وعلا دعاءهم في محكم كتابه: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8].
أولئك الأقوام الأخيار علموا أن الهداية منحة من الله، وعطية منه جل شأنه، لا سبيل للبقاء عليها ولا طريق للدوام عليها إلا إذا صدق العبد في سؤال الله ذلك، وقد دلت دلائل السنة على ذلك، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو أهدى العباد لربه وأتقاهم وأشدهم خشية لله عز وجل- كثيراً ما يسأل الله الهداية، فقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: (اللهم إني أسألك الهدى والتقى، والعفاف والغنى) فكان يسأل الله الهداية.
وفي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول بين السجدتين: (اللهم اهدني وارحمني، وعافني وارفعني، واجبرني ... ) إلى آخر الدعاء المأثور، فمن تعلق بباب الله ولجأ إلى جنابه، وصدق في دعائه بسؤاله أن يثبت قلبه على الهداية، فحقٌ على الله أن يُعطيه، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم ... ) وعد من الله أن يهدي من سأله الهداية.
إخواني! من الذي أنقذ القلوب من تلك الظلمات؟ فإن أقواماً ما عرفوا الله في حياتهم كلها! وما وقفوا يوماً من الأيام ببابه يسألونه الهداية، ومع ذلك تكرم وتفضل ووهب سبحانه، أليس خليقاً به جل وعلا إذا تعلقت ببابه، ولذت بجنابه، وأظهرت الفاقة إليه أن يثبت لك القدم على سبيله؟! فهو الحقيق بأن يهب ذلك، لذلك؛ وإني أدعوكم إلى الله جل وعلا في مظان الإجابة التي ثبتت بها النصوص الصحيحة عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، فسلوه الثبات على الهداية في الأسحار، وبين الأذان والإقامة، وفي السجود؛ فإن الدعوة تقرع بابه، وتنزل إلى رحابه طالبة من عظيم فضله ومنه وكرمه.
فأول أسباب الثبات على الهداية: أن تدمن سؤال الله أن يثبت قلبك على الإيمان، وأن يذيقك حلاوة طاعته وذكره وشكره.(30/10)
تقوية شجرة الإيمان بالله في القلب
أما السبب الثاني وهو أجلها وأعظمها: تغذية القلوب بالإيمان بالله؛ لأنه ما من قلب يقوى اعتقاده في الله جل وعلا إلا ثبت ولم تزل قدمه أبداً؛ ولذلك قال بعض السلف: "ما عرف سوء الخاتمة لإنسان مستقيم في عقيدته" فإذا تغذت القلوب بالإيمان بالله، وتعرفت على الله جل وعلا حق المعرفة -عن طريق ذلك الكتاب المبين وتلك السنة العطرة النضرة- أوجب ذلك لها الثبات على طاعة الله جل وعلا.
تعرفوا على الله، فإن القلوب التي تعرف الله لا تجحده، ولا تُعرض عن الله أبداً، ولذلك إذا نزل الإيمان إلى جذور القلوب اهتدت إلى علام الغيوب: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) [التغابن:11].
من ازداد في إيمانه، وزاده الصباح والمساء معرفة بمن يقلب الليل والنهار، وبمن له العشي والإبكار؛ دعاه ذلك للثبات على الهداية، وأن يكون الله أحب إليه من كل حبيب، وأرجى لقلبه من كل مرجو.
إخواني! لا يمكن أن يثبت القدم إلا إذا عظم الإيمان بالله تبارك وتعالى، وهذا الكون محراب التفكر والتأمل والنظر، فقد جعل الله عز وجل فيه الدلائل الناطقة بوحدانيته، والشاهدة بعظمته وألوهيته، فإنك إن نظرت أمامك وجدت دلائل عظمته، وإن نظرت وراءك وجدت دلائل قدرته، وإن نظرت عن يمينك ويسارك ومن فوقك وتحتك -بل لو نظرت في نفسك- لوجدت دلائل عظمته وشواهد رحمته، فإذا تغذى القلب بالإيمان بالله عز وجل فإنه سيرسخ في البقاء على طاعة سيده ومولاه.(30/11)
الأسئلة(30/12)
نصيحة للمرأة المسلمة
السؤال
نرجو توجيه نصيحة للمرأة المسلمة؟
الجواب
يا نساء المؤمنين! إن الله أدبكن فأحسن تأديبكن، ورباكن فأحسن تربيتكن، إن الله تعالى وعد المحسنات منكن أجراً عظيماً، ووعد العباد بأنه لا يضيع عمل عامل من ذكر أو أنثى على أيديكن تتربى الأجيال، فأوصيكن بتقوى الله عز وجل التي هي سبب التوفيق لكل خير في الدين والدنيا والآخرة، وأوصيكن أن تتقين الله في محارم الله، وأن تحاول الواحدة جل أمرها أن تحرص كل الحرص عن البعد عن الفتن والمحن، فرأس المال في هذه الدنيا هو الدين، فلا تعرضن أنفسكن لمحارم الله جل وعلا.
لتحاول كل واحدة أن تكون صادقة مع الله عز وجل في تربية الأبناء والبنات، فإن صلاح الأم صلاح للمجتمع، ولكُنَّ في السلف الصالح من نساء النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، لكُنَّ في نساء النبي صلى الله عليه وسلم تلك النماذج الطاهرة، فأوصيكن بقراءة سيرة السلف بقراءة سيرة الصالحات الطاهرات اللاتي عمرن الكون بطاعة الله جل وعلا، وبإخراج الرجال الصادقين في طاعتهم ومحبتهم لله جل وعلا.
إن صلاح الأم صلاح للأمة، فكم وجدنا من العلماء العاملين والرجال الصادقين الصالحين من كان السبب في صلاحه أمه، حتى قالت أم سفيان الثوري رحمها الله قولتها المشهورة: (يا بني! اطلب العلم أكفك بمغزلي)، فلذلك أختي المسلمة! فاحتسبي عند الله تربية الأجيال على طاعته ومحبته.
كما أوصيكن بالأزواج خيراً، ولتكن الواحدة منكن -على قدر استطاعتها- معينة لزوجها على محبة الله ومرضاته، فكم من نساء صالحات طاهرات كن سبباً في صلاح الأزواج، وكم من نساء صالحات طاهرات ثبت الله بهن القلوب على الهداية، ألم يأت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أم المؤمنين خديجة ذَعِرَاً مرعوباً مرهوباً فقال لها: (لقد خشيت على نفسي) فمن الذي ثبته بعد الله؟ من الذي قال له تلك الكلمات الطيبات؟ إنها تلك المرأة الصالحة التي عرفت ربها واتقت الله في بعلها، فقالت له المقالة الصادقة: (كلا، والله لا يخزيك الله).
وأحذركن من تلك النماذج السيئة التي بليت بها الأمة في هذا العصر.
الله! الله! أن ترغبن عن تلك الصالحات الطاهرات، وأن تستبدلن بسيرهن العطرة ومواقفهن النضرة بسير الماجنات الداعرات، الله! الله! أن تؤثر عليكن الكثرة الداعية إلى محارم الله، البسي جلبابك واحفظي حياءكِ، واتقي الله عز وجل في ليلكِ ونهارك، واعلمي أن جمالكِ في الحجاب الذي به استترتي، وبالقلب الذي تضمينه بين جنبيكِ، ليس الجمال جمال الصورة بمثل جمال القلوب التي هي محط نظر الرحمن، ومحط رحمته وصلواته، ففي الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم).
كم نحن بحاجة إلى تلك النماذج الطاهرة الطيبة الصالحة التي تُذكِرُ بالنساء الصالحات وتجدد لنا المآثر الكريمة من سلفنا الصالح، أسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يصلح الأحوال، وأن يحسن العاقبة والمآل، إنه ولي ذلك والقادر عليه، والله تعالى أعلم.(30/13)
وسائل التخلص من الرياء
السؤال
كيف يمكن أن يتخلص من الرياء؟
الجواب
لا أعرف سبباً يعين على التخلص من الرياء مثل الأمرين اللذين سبقت الإشارة إليهما، أولهما: الدعاء، فتسأل الله أن يجعلك مخلصاً، قال الله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46].
الأمر الثاني: تذكر الآخرة هذان الأمران.
من أهم الأسباب التي تعين الإنسان على الإخلاص وترك الرياء، ولذلك لا تجد إنساناً قلبه معمور بالآخرة ثم يكون مرائياً، والعكس بالعكس؛ فما من إنسان يغفل عن الآخرة إلا وجدته والعياذ بالله مرائياً في قوله وعمله، ومرائياً في ظاهره وباطنه.
ومن الأمور التي تعين على الإخلاص وترك الرياء: إعظامك للمثوبة عند الله عز وجل، فإذا علمت أن الله سبحانه وتعالى يتقبل منك القليل ويجزيك عليه بما لم يخطر لك على بال دعاك ذلك إلى الإخلاص؛ لأن العبد إذا عظم الله دعاه ذلك إلى إحسان المعاملة مع الله عز وجل، ونسأل الله أن يكرمنا وإياكم بالإخلاص لوجهه.(30/14)
وسائل التخلص من العجب
السؤال
أنه إذا قام جزء من الليل يعجب بنفسه وعمله، فهل هذا من الرياء؟
الجواب
العجب داء وبلاء عظيم، وقد قال بعض السلف: (لئن أبيت نائماً وأصبح نادماً، أحب إليَّ من أن أبيت قائماً وأصبح معجباً) بماذا تعجب؟ من الذي وفقك للقيام؟ من الذي صرف عنك الهوى والشهوات التي لو أطبقت عليك ما استطعت أن تتخلص منها إلا أن يرحمك الله؟ من الذي أعانك بالصحة والعافية؟ من الذي حبب لك أن تقوم بين يديه؟ من الذي سهل لك السبيل؟ وماذا تساوي هذه الركعات والسجدات التي تسجدها وتركعها بين يدي الله مقابل نعم الله عز وجل عليك؟ فاحتقر العبادة، وما تقدمه في جنب الله، فالله لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، والله جل وعلا لن نبلغ نفعه فننفعه، ولن نبلغ ضره فنضره: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً).
تذكر من هم أكثر منك إيماناً، تذكر العلماء الراسخين في العلم الذين أوجب الله لهم درجات لم تخطر لك على بال، تذكرهم واحتقر نفسك.
فمن وصايا العلماء: (أن الإنسان إذا بلي بداء عالجه بضده) فإذا بليت بالعجب، عالج ذلك العجب باحتقار العمل، وإذا كان الإنسان معجباً بالطاعة فعليه أن يعاشر الأخيار حتى يحتقر طاعته في جنب طاعتهم، وأن يكثر من حضور حلق الذكر حتى يتأثر بالعلماء فيحتقر صلاحه في جنب صلاحهم.
والله تعالى أعلم.(30/15)
نصيحة لطالب العلم
السؤال
رجل لم يستفد من طلبه للعلم خلال ثلاث سنوات؛ وذلك لأنه لا يسير على منهج واحد، فكيف يصحح مسيره في طلب العلم؟
الجواب
إذا أردت أن تصحح مسيرك في طلب العلم، فعليك: أولاً: بالإخلاص لله عز وجل؛ وثق ثقة تامة أنك ستعطى من العلم على قدر إخلاصك، فإذا تكلمت تكلمت لله، وإذا عملت عملت لله، والسلف الصالح -رحمهم الله- عندما صدقوا مع الله في طلب العلم هانت عليهم الأسفار، وهانت عليهم مشاق الليل والنهار، كل ذلك عندما أخلصوا لله عز وجل، وقد قال بعض العلماء موصياً ابنه: (يا بني! أخلص لله يأتك العلم).
أذكر أني ذات مرة كنت مع الوالد -رحمه الله- في المكتبة، فجاء لكي يضع تفسير القرطبي ففاضت عيناه من الدمع، ثم قال لي: يا بني! لقد كنت أحلم أن أرى القرطبي بعيني، وكنت شغوفاً بجمع كتب العلم وعلم جدك بذلك، فقال لي: يا بني! أخلص لله تأتِ كتب العلم إليك، قال: فهأنذا عندي ثلاث نسخ منها، أليست هذه نعمة؟ قلت: بلى، والله إنها لنعمة، فمن أخلص لله في طلب العلم أعطاه الله العلم.
ثانياً: عليك أن تحاول قدر استطاعتك أن تأخذ العلم عن العلماء؛ لأن كثيراً من طلاب العلم -خاصة في هذا الزمان لا يأخذون العلم إلا من الكتب، نعم الكتب فيها خير ولكن يفوتهم من الخير ما لم يخطر لهم على بال، العلم يؤخذ من صدور الرجال، يؤخذ حينما تزاحم العلماء بركبتيك وتتعرض لرحمة الله بالتواضع في الجلوس في حلق الذكر، فتكون خطواتك وأنفاسك وسمعك وبصرك في سبيل الله؛ لأنك تقرأ وتكتب وتسمع، وتفكر في مسائل العلم، فالعلم لا يؤخذ من السطور كما يؤخذ من الصدور؛ ولذلك قال بعض العلماء في شرح الحديث الصحيح: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العلماء؛ ولكن يقبضه بموت العلماء) قال بعض العلماء: (في هذا دليل على أن العلم يؤخذ عن الرجال)؛ لأنه لو كان العلم يؤخذ عن الكتب ما قال: ينتزعه انتزاعاً، ولكن قال: (بموت العلماء) فدل على أن العلم مربوط بالعلماء، ولذلك أوصي كثيراً طلاب العلم أن يكونوا حريصين على أخذ العلم من العلماء، قالوا: (من كان شيخه الكتاب، فخطؤه أكثر من الصواب) فإن الإنسان لا يأمن من تحريف المطبعة أو من الفهم السقيم، فلربما يفهم الشيء على غير ظاهره، وكذلك أيضاً قال بعض العلماء من مظنة الفهم في العلم: (أن الإنسان يوفق للجلوس أمام يد العالم) ومن المجرب أنك إذا جلست في مجالس العلماء وجدت من التيسير في طلب العلم ما لم تجده لو جلست تقرأ وحدك، فالمقصود: إن من أسباب عدم ثباتك أنك تطلب العلم من الكتب، وهذا ظني، والله أعلم.
الأمر الأخير الذي أوصيك به: بما أنه تبين لنا أن طلب العلم يؤخذ من العلماء؛ فينبغي أن تتخير العالم الذي هو أهل لأن يؤخذ العلم عنه، وقد قال عبد الله بن مسعود -كما ورد في صحيح البخاري-: (أيها الناس! إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم) إذا كنا في تجارة الدنيا نترقب ونحاول أن نجد التاجر الصادق في معاملته، فقل لي بربك، كيف بتجارة الآخرة؟ فينبغي للإنسان أن يتخير العالم العامل الذي يذكره بالله عز وجل في قوله وعمله، ويعينه في الثبات على طلب العلم، والله تعالى أعلم.(30/16)
حكم قراءة القرآن نظراً في التهجد
السؤال
هل يجوز قراءة القرآن نظراً في قيام الليل إذا لم يكن القائم يحفظ القرآن؟
الجواب
نعم، يجوز ذلك طلباً للمصلحة المترتبة على القراءة، واحتج العلماء لجواز ذلك بما ورد عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأمر مولاها أن يقوم بها الليل بالمصحف، والله تعالى أعلم.(30/17)
وسائل معينة لحفظ كتاب الله
السؤال
إن حفظي للقرآن رديء جداً، وإني أحاول بشتى الطرق أن أحفظه، فهلا أرشدتني إلى طريق يسهل عليَّ حفظه؟
الجواب
أول طريق هو: الدعاء، وما من مصلحة من مصالح الدنيا والآخرة تدرك بشيء مثل الدعاء، فأوصيك، فإن الله تبارك وتعالى هو القادر أن يهبك الحفظ وأن يسلبك إياه.
الأمر الثاني: أن تأخذ بالأسباب المعينة على الحفظ، وأعظمها وأساسها: الإخلاص لله عز وجل، تفقد نفسك، فلربما كانت نيتك فيها دخن، حاسب نفسك علَّ الله سبحانه وتعالى أن يكرمك بإعادة النظر الذي يوجب لك صلاح النية، وإذا صلحت النية أعان الله عز وجل العبد على مقصوده.
الأمر الثالث: أن تتوخى الأسباب، وذلك بأن تحاول كثرة التكرار والترداد.
الأمر الرابع: اختيار الآيات القليلة، فالإنسان إذا أراد أن يحفظ يتخير آيات قليلة ولا يستعجل الحفظ، فقلة الشيء الذي تقرؤه وكثرة تكراره يوجب لك الحفظ ويكون حفظك قوياً.
اكتب قليلاً إن أردت تحفظ وعظم الحروف إن أردت تلفظ فالإنسان إذا أراد أن يحفظ القرآن يكون القدر الذي يريد أن يحفظه قليلاً، وأن يدمن التكرار في حفظ ذلك.
الأمر الخامس: كثرة المراجعة وخاصة عند قيام الليل.
ومن أهم الأسباب التي أوصى السلف الصالح رحمهم الله بها والتي تعين على الحفظ: البعد عن محارم الله عز وجل؛ لأنهم يقولون: إن المعاصي شؤمها عظيم على العبد؛ ولذلك إذا نزلت في الديار والأعمار محقت بركتها والعياذ بالله! فينبغي على الإنسان أن يبتعد عن المعاصي ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وفي ذلك يقول الشافعي رحمه الله: شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي والله تعالى أعلم.(30/18)
قضاء صلاة الوتر
السؤال
أريد أن أقوم من الليل؛ ولكن النوم يغلبني، فماذا أفعل إذا فاتني الوتر؟ هل أقضيه من النهار؟ وكيف أستطيع المواظبة على قيام الليل؟
الجواب
بالنسبة لقضاء الوتر: فإن السنة أن يقضيه الإنسان إذا فاته بالليل بعد طلوع الشمس إلى الزوال؛ لما ثبت في الحديث الصحيح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (من فاته حزبه من الليل فقرأه بين طلوع الشمس إلى زوالها؛ كتب له كأنما قرأه من ساعته) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومن السنة أنه إذا قضى الوتر أن يشفعه بركعة واحدة، فإذا كان وتره ثلاثاً شفعه بواحدة حين يكون أربعاً؛ لما ثبت في الصحيح من حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فاته قيامه من الليل صلى بالنهار ثنتي عشرة ركعة) قال العلماء: لأن سنته في قيام الليل كانت إحدى عشرة ركعة، فكان يشفع ركعة الوتر فتمت بذلك الركعة الثانية عشرة، فهذا يدل على أن وتر النهار يشفع.
ومن الفوارق أيضاً: أنه لا يقنت في وتر النهار بخلاف وتر الليل، والله تعالى أعلم.
أما المحافظة على قيام الليل فهناك سبب من أهم الأسباب التي تدعو إلى قيام الليل؛ وهذا السبب هو تذكر الآخرة، فمن أحب أن يُحافظ على قيام الليل فعليه ألا يغيب عن ذهنه ذكر الآخرة، وذكر الآخرة هو السعادة بعينها من تذكر أنه ستمر عليه مثل هذه الساعة وهو ضجيع اللحد والبلاء، رهين بالقول والعمل؛ فإنه تهون عليه الدنيا وما فيها من تذكر أنه سُيغلق عليه في تلك الظلمة والحفرة، وأنه لا يجد إلا هاتين الركعتين أو هذه التسبيحة والاستغفار؛ دعاه ذلك إلى أن يهون عليه النوم، فيتقلب بين يدي الله عز وجل راكعاً ساجداً: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] من علم أنه ستمر عليه مثل هذه الساعة واللحظة، لا يجد مؤنساً ولا شفيعاً، ولا يجد موجباً لذهاب الهم والغم إلا العمل الصالح؛ دعاه ذلك إلى أن يكون جل همه أن يديم الطاعة ليلاً ونهاراً، قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [السجدة:16] كان السلف الصالح رحمهم الله من أكمل الأمة ذكراً للآخرة، فقد كان أحدهم إذا أراد أن يضطجع لكي ينام تذكر النار، فقام يتقلب وهان عليه ذلك المضجع، وآخر إذا جاء لكي ينام وشعر بالدفء والراحة تذكر ضجعة القبر فوجل فؤاده واضطرب جنانه، وسهل عليه أن يقوم في شدة البرد أو في شدة الحر لكي يتوضأ وينتصب بين يدي الله بركعة أو سجدة يرجو بها رحمة الله عز وجل ورضوانه، والله لو أن أهل القبور سُئلوا عن أعز شيء يتمنونه، لتمنوا تسبيحة أو استغفاراً يزاد في صحيفة العمل.
نسأل الله العظيم أن يكرمنا وإياكم بذلك.(30/19)
تحديد وقت السحر وما يفضل فيه من العمل
السؤال
ما هو وقت الأسحار؟ وما الأفضل فيه: القيام أو الاستغفار والتسبيح؛ لأن الله تعالى قال: {وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:18]؟
الجواب
وقت الأسحار هو ما قبل الفجر مباشرة، ويطول ويقصر بحسب طول الليل وقصره؛ ولذلك كان أفضل قيام الليل قيام الثلث الآخر من الليل وهو الذي ينزل فيه الله تعالى -نزولاً يليق بجلاله وعظمته- لكي يبسط موائد رحمته وفضله، فيقول: (هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟).
إن من الأفضل أن يجمع الإنسان بين الصلاة والاستغفار فيقوم الليل ويستغفر في قيام الليل، ولذلك ورد في الحديث الصحيح: (من أفضل العبادة: ركعتان يركعهما المؤمن في جوف الليل) فهذا يدل على فضل إحياء ذلك الوقت بالعبادة، فإذا جمع الإنسان بين الخيرين فهو الأفضل؛ لأنه تحصيل لأمرين دل الشرع على فضلهما، والله تعالى أعلم.(30/20)
المحبة في الله وثمارها
السؤال
كيف تكون المحبة في الله، وما فضلها؟
الجواب
المحبة في الله هي بمعنى أن يكون السبب الباعث على محبتك للإنسان هو أن الله يحبه، وذلك يكون حينما ترى عليه الآثار الموجبة لمحبة الله، فعلى سبيل المثال: ترى عبداً محافظاً على الصلاة؛ فتحبه لمحافظته على الصلاة، وترى إنساناً من طلاب العلم، فتحبه لطلبه للعلم، فالصلاة وطلب العلم يحبهما الله عز وجل، فإذا كان السبب الباعث على المحبة ما يحبه الله ويرضاه، فتلك هي محبة في الله.
أما آثارها: فالتواصي بالحق؛ والله عز وجل قد نفى الخسارة عن أهلها فقال: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] فالأخ في الله هو الذي إذا نسيت الله ذكرك، وإذا ذكرت الله أعانك.
إن من سعادة المؤمن أن يهيئ الله له أخاً صالحاً يعينه على طاعة الله.
ومن آثارها وفوائدها: أنها سبب للثبات على طاعة الله، فهذا نبي الله موسى عليه الصلاة والسلام يحمله الله النبوة التي هي أعز وأكرم شيء يكرم به العبد، ومع ذلك ماذا يقول؟ قال الله تعالى مخبراً عنه: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي * وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي * وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} [طه:25 - 34] نبي من أنبياء الله يتمنى أن يعطيه الله أخاً صادقاً يعينه على ذكر الله.
إنك تجد من أخيك الصادق خيراً كثيراً حتى في أمور الدنيا؛ كأن يحفظ لك الأسرار، ويحاول أن يكون لك نعم العون بعد الله.
إن أخاك الحق من كان معك ومن يضر نفسه لينفعك ومن إذا ريب الزمان صدعك شتت فيه شمله ليجمعك عندما حضرت عبد الملك بن مروان الوفاة بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: "والله لا أبكي على فراق الدنيا، ولكن أبكي لأني لم أجد في الحياة خِلاً خليلاً، صادقاً صديقاً في مودته ومحبته".
وهذه الأوصاف لا توجد إلا في الإخوان والأحباب في الله.
وأما ثمراتها في الآخرة فقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عنه تعالى أنه قال: (وجبت محبتي للمتزاورين فيَّ، والمتحابين فيَّ) وفي الحديث الآخر القدسي عنه تعالى أنه يقول: (أين المتحابون في جلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي) وقال الله في محكم التنزيل: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] ولله در الشاعر إذ يقول: انظر إذا آخيت من تؤاخي فما كل من آخيت بالمؤاخي نسأل الله العظيم أن يكرمنا وإياكم بذلك.
ومن ثمراتها: أن يُظل العبد في ظل الرحمن، كما في الحديث الصحيح من رواية أبي هريرة رضي الله عنه في حديث السبعة: (ورجلان تحابا في الله، اجتمعا عليه وتفرقا عليه).(30/21)
عقوق الوالدين من أسباب ضعف الإيمان
السؤال
أنا رجل وفقني الله عز وجل للاهتداء قبل سنتين، وفي هذه الأيام أشعر بالتقصير، فأرجو توجيه نصيحة لي؟
الجواب
كما سبق وهو السؤال نفسه؛ لكن أذكر بعض الإخوان أنه أصابه شيء من هذا، وكان طالب علم يقول: أجد في نفسي قسوة لا أدري ما سببها، وأجد في نفسي أنه تمر عليَّ الآيات التي تبكي من خشية الله عز وجل ومع ذلك لا أتأثر، فقلت له: يا أخي! أسألك -واصدق معي في جوابك- كيف حالك مع الله؟ حق الله أمران: فعل الفرائض وترك المحارم، فكيف أنت في فعل الفرائض وترك المحارم؟ قال: والله لا أنكر من نفسي شيئاً، ولا أقول ذلك تزكية لنفسي.
فقلت: الحمد لله، هذا حق الله، فلننتقل إلى حق العباد، كيف أنت مع والديك؟ إن بيني وبين أبي نوع من سوء التفاهم، لا أستطيع أن أُحسن الكلام معه، ولا أستطيع أن أُحسن بره، فقلت: يا أخي! من هنا جاءك البلاء، فإنك عندما عصيت الله في بر الوالدين أوجب لك تلك القسوة، فحاول إصلاح حاله، قال: فما مضت إلا ثلاثة أيام حتى تغير حالي، يقول لي: والله حتى حفظي تغير، عندما أحسن في بر الوالدين، بر الوالدين ليس شيئاً هيناً، الله تعالى يذكر عبادته ويقرن بر الوالدين بها: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36] حتى قص علينا شرائع من قبلنا فذكر بر الوالدين فيها: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [البقرة:83] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] بر الوالدين من أعظم الأسباب التي توجب للعبد سعادة الدنيا والآخرة، إذا بلغ ببر الوالدين أن يوصي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه -الذين هم أكمل الأمة إيماناً واتباعاً له- يوصيهم إذا رأوا أويس القرني أن يدعو لهم.
إن كثيراً من الشباب الذين أكرمهم الله بالهداية ربما يلاحظون على الوالدين بعض التقصير، فيسيئون إليهما، ولربما يبلغ الحال إلى ما فيه سخط الله عز وجل وغضبه؛ فإذا أردت أن يذهب الله عنك ما تجد فعليك أن تتفقد أوامر الله ونواهيه، ثم عليك أن تتفقد حقوق العباد، وأولها حق الوالدين وتفقد -أيضاً- من تحت يديك من العمال أو الموظفين، تفقد جميع من ولاك الله أمره، حتى أبناءك انظر إلى معاملتك لهم، فقد تجد أسباباً أوجبت لك ذلك التغير، واعلم أنه ما من هم يصيبك إلا ووراءه سيئة أو خطيئة أوجبته: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79]، والله تعالى أعلم.(30/22)
دعوة الوالدين
السؤال
ما هي الطريقة التي تجعل والدي مهتدياً؟
الجواب
أولاً: اعلم أنه ليس هناك أفضل من الدعاء، فعليك أن تدعو لأبيك في صباحك ومسائك أن يهديه الله إلى سواء السبيل.
ثانياً: أن تأخذ بالأسباب الموجبة لهدايته؛ وذلك بكثرة تذكيره بالله عز وجل.
ثالثاً: ينبغي عليك أن تتوخى الأسلوب المؤثر، فإن الأب يتأثر بنصيحة ابنه إذا جاءت بأسلوب طيب مؤدب، وقد علمنا الله تعالى الأدب مع الوالدين في دعوتهم، فهذا نبي الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام عندما دعا أباه قال الله تعالى حاكياً عنه ذلك عندما قال له أبوه: {وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:46 - 47] مع أنه آذاه وقال: {لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا} [مريم:46 - 47] منهج رباني يبين لنا أنه ينبغي للابن أن يحسن الأدب مع أبيه ولو كان كافراً.
يقول الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15] فينبغي عليك أن تحرص كل الحرص على أن تكون متأدباً في دعوة أبيك حتى يرى أن الهداية أثرت فيك، فإذا أقبلت عليه أظهرت له السرور والمودة، وكل ذلك طلباً لهدايته والعكس بالعكس، فكثير من الإخوان لا يحسن معاملة الوالدين ولا النصح لهما، وتكون النتائج على خلاف ذلك؛ ولذلك ما من إنسان يحسن الأدب مع والديه إلا تأثر الوالدان بنصحه، فينبغي لك بعد الدعاء أن تدعو الوالدين وأن تحسن الأدب في الدعوة.
رابعاً: أن تتوخى الأسباب المؤثرة، فإذا حدث أمر يحبه والدك فذكره بنعمة الله عز وجل عليه، وكذلك -لا قدر الله- إذا حصلت مصيبة ذكرته بشديد عذاب الله وعظيم نقمته.(30/23)
من أسباب الانتكاس
السؤال
بعض الشباب الذين اهتدوا بسبب مجالستهم للشباب الملتزمين، الآن نلاحظ عليهم بعض الانتكاس، فماذا نفعل؟
الجواب
هذا الانتكاس له أسباب؛ ذلك أننا نجد كثيراً من الشباب يقولون: كنا في بداية الهداية نحس براحة نفسية، وكنا نحس بإقبال على الخير، وتلهف وشوق إلى رحمة الله، ولكن سرعان ما نفقد ذلك، وسرعان ما تتغير القلوب بعد فترة معينة، فما هو السبب في ذلك؟ يقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] إن كثيراً من الشباب لو نظر في حاله عند بداية الهداية وحاله الآن لوجد البون شاسعاً؛ لقد كنا في بداية الهداية تتفطر قلوبنا شوقاً لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وكنا نحسن الأدب مع العلماء، ونحسن الأدب في الحديث، وكنا نراقب الله في أقوالنا وأفعالنا، ولكن غيرنا فغير الله علينا، نعم.
عندما تغيرت تلك المجالس التي كانت مليئة بذكر الله ومليئة بالتذكير والتواصي بالحق عندما تغيرت إلى القيل والقال، وفي أمور لا يحبها الله ولا يرضاها -من غيبة ونميمة- أدى ذلك إلى تغير الحال؛ فينبغي أن ننظر في حالنا.
إن بعض الشباب إذا أصاب لذة الهداية لربما يغتر إلى درجة أنه يخطئ العلماء، وقد يجترئ على القول على الله بدون علم.
هذه الأمور هي التي أظلمت بها القلوب وتنكبت بها الأقدام في الدروب وحادت عن طريق علام الغيوب؛ لأن الإنسان إذا كان صادقاً مع الله صدق الله معه، فينبغي لنا أن نتواصى بأمر مهم يضيعه كثير من الشباب؛ وهو عدم الغرور.
ينبغي للإنسان -دائماً- أن يكون محتقراً لنفسه ولو كان أكمل الناس هداية، وينبغي أن يحس أنه بحاجة إلى رحمة الله وعفوه.
كما أن بعض الشباب الذي له قدم سابقة في الهداية قد يتعالى على إخوانه المتأخرين في الهداية، وقد يفعل أموراً توجب انتكاس قلبه والعياذ بالله! فالمقصود: أن السبب في تغير الأحوال هو تغير القلوب، فبعد أن كانت خاشعة أصابها نوع من القسوة، وأصبحت في غفلة عن ذكر الله، فبُليت من السقم والمرض بقدر ما أصابها من ذلك، فينبغي للإنسان أن يراجع نفسه ويحاول قدر استطاعته أن يكون هادياً صادقاً في هدايته، وأن يحاول احتقار نفسه، ومهما صدر منك لا تنظر إلى من هو أسفل منك؛ بل انظر إلى من هو فوقك، وسابق غيرك في الطاعات وتنافس معه في الصالحات، فذلك يدعو العبد إلى الثبات على الهداية، والله تعالى أعلم.(30/24)
التقوى وحسن الخلق
تقوى الله تبارك وتعالى: أن تعبد الله على نور من الله، ترجو ثواب الله وتخشى عذابه، وهي نور يقذفه الله في قلب العبد، فيحمله هذا النور على أمرين: أولهما: أداء فرائض الله على الصفة المطلوبة، وثانيهما: اجتناب محارم الله على ما أراد الله تعالى.
وهذه التقوى تلازم صاحبها في كل مكان، وهي خير زاد للمسلم الذي ينتظر لقاء الله.(31/1)
التقوى خير وصية وخير زاد
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فاطر الأرض والسماوات، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الذي اصطفاه واجتباه، وآتاه الآيات البينات والحجج الواضحات، صلى الله عليه وعلى آله، ومن سار على نهجه ومنواله إلى يوم تتفطر فيه الأرض والسماوات.
أما بعد: فخير ما يوصى به المسلم تقوى الله عز وجل، وهي الوصية التي وصى الله بها الأولين والآخرين، وخص بها عباده الأخيار من الأنبياء والمرسلين، فقال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ وَصيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
وتقوى الله نورٌ يقذفه الله في القلوب، وسرٌ بين العبد وربه لا يعلمه إلا الله علَّام الغيوب، الله أعلم بمن اتقى، وأعلم بمن صلح وتزكى، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32].(31/2)
معنى التقوى ولوازمها
وتقوى الله أن تعبد الله على نور من الله ترجو رحمة الله، وتخشى عذاب الله، وهذا النور يحمل العبد على أمرين عظيمين ما كانا في عبد إلا أحبه الله: أولهما: أداؤه لفرائض الله على الوجه الذي يرضي الله.
وثانيهما: خوفه وخشيته من حدود الله ومحارمه، وكلما كمل تقوى العبد كلما وجدته أسبق إلى الخيرات، وأعف عن الحدود والفواحش والمنكرات، وكلما كمل هذا النور في القلوب كلما كان هذا العبد متعلقاً بربه، قريباً من طاعته، بعيداً عن حدوده ومعصيته.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه بهذه الوصية العظيمة تأسياً بكتاب الله، وسَيراً على نهج رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم إلى يوم الدين، ولذلك لما جاءه الرجل وهو يريد السفر، قال: (يا رسول الله! إني أريد السفر فزودني، قال: زودك الله التقوى) فما وجد النبي صلى الله عليه وسلم زاداً يقذفه في سمع ذلك المؤمن إلا أن يدعو له أن يزوده الله التقوى، وأي زاد ذلك الزاد الذي شهد الله عز وجل أنه خير زاد، كما قال سبحانه وتعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
قال بعض العلماء: قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197] فيه دليل على أنه ما خرج عبد بخصلة بعد الإيمان أحب إلى الله من تقوى الله عز وجل، وتقوى الله يربيها المسلم في قلبه بقراءة كتاب الله جل وعلا، وتدبر تلك الآيات، والنظر في تلك الكلمات العظيمات، والمواعظ البالغات، التي تقرب القلوب إلى ربها، وتحببها في طاعة خالقها، وتجعلها أعف ما تكون عن حدود الله جل وعلا ومحارمه.
وما كمل تدبر العبد للقرآن إلا كمّل الله تقواه، ولذلك صدّر الله كتابه بقول: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2] فأخبر أن هذا القرآن والكتاب يهتدي به المتقون، وينتفع به الصالحون جعلنا الله وإياكم منهم، فخير ما يتواصى به الأخيار تقوى الله جل وعلا.
وتقوى الله تكون مع الإنسان وهو بين الناس، وتكون مع الإنسان وهو وحيد وفريد، وبين أهله وولده، ومع الأزواج والزوجات، ومع الأبناء والبنات.
التقوى تكون مع الإنسان خالياً، فلربما ملكت قلبه ففاضت عيناه من الدمع، فحرم الله تلك العين على النار، كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (كل العيون باكية أو دامعة يوم القيامة إلا ثلاثة أعين -وذكر منها- عين بكت من خشية الله) فتكون التقوى مع العبد فريداً وحيداً، ولربما انفرد في ليلة لكي ينام، وأضجع شقه لكي يرتاح، حتى إذا أراد أن ينام تذكر حدود الله وحقوقه، فأشفق على نفسه من تقوى الله جل وعلا، ودمعت عيناه وهو لا يشعر، فأظله الله بتلك الدموع في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ففي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في السبعة: (ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
قال بعض العلماء: وقلَّ أن يكون لعبد إلا إذا كان فيه تقوى لله جل وعلا، وتكون تقوى الله مع الإنسان وهو بين أهله وأولاده، يأمرهم بطاعة الله، ويحببهم في مرضاة الله، ويأخذ بتلك القلوب البريئة إلى محبة الله ومرضاته، ويجعلها على خير ما يكون عليه الابن وعلى خير ما تكون عليه البنت، يتقي الله وهو بين أهله وأولاده، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (أنه جاءه النعمان وقال: يا رسول الله! إني نحلت بعض ولدي نحلة، وقالت أم فلان: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أكل ولدك نحلته ذلك؟ قال: لا، يا رسول الله! قال: اذهب فأشهد على هذا غيري فإني لا أشهد على جور) وفي رواية: (اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم).
فتقوى الله تكون مع المسلم حتى وهو مع أولاده، في حركاته معهم وسكناته، وتفضيله لبعضهم على بعض، فيتقي الله فيهم في مطعمهم ومشربهم وملبسهم، وفي إدخال السرور عليهم، وفي تأمينهم، وغير ذلك من الحقوق التي فرضها الله عز وجل عليه، والتي إذا أداها على أتم الوجوه جعله الله على منبر من نور يغبطه عليه الأنبياء والشهداء، قال صلى الله عليه وسلم: (إن المقسطين على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم عليها الأنبياء والشهداء، الذين يعدلون في أهليهم وما ولُّوا).
كذلك تكون تقوى الله عز وجل مع المسلم وهو في تجارته، في بيعه وشرائه، وأخذه وعطائه، لا يمكن أن تقبض يده على مال، إلا وقد اتقى الله جل وعلا حين يأخذه، ولا يمكن أن تبذل يده شيئاً من المال إلا وقد اتقى الله جل وعلا وهو يبذله، يتقي الله جل وعلا؛ لأنه يعلم أن الله يحاسبه على كل شيء جنته يداه، وعلى كل شيء أعطته يداه، فتقوى الله تدخل مع العبد في جميع شئونه وأحواله.
ولذلك قالوا: من أوصى بتقوى الله فقد أوصى بالدين، بل أوصى بجامعة الخير، كما قال الإمام الحافظ ابن عبد البر: جماع الخير كله تقوى الله، وما وصَّى نبي ولا عالم إلا استفتح وصيته بقوله: أوصيك بتقوى الله جل وعلا.
ولذلك هي الوصية العظيمة التي ينبغي للمسلم أن يستشعرها في جميع شأنه وأحواله.
نسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يجعلنا من عباده المتقين، اللهم إنا نسألك أن تقذف في قلوبنا نورها، وأن تجعلنا من أهلها إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبيه وآله وصحبه أجمعين.(31/3)
الأسئلة(31/4)
حكم خروج الدم من المتوضئ
السؤال
هل خروج الدم ينقض الوضوء، سواءً كان كثيراً أم قليلاً أثابكم الله؟
الجواب
هذه المسألة فيها خلاف، والصحيح وهو مذهب الجمهور أن خروج الدم لا ينقض الوضوء لا كثيره ولا قليله، لما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث) وخروج الدم ليس بحدث وليس له حكم الحدث، والذين قالوا بوجوبه قالوا بالقياس فقاسوا خروج دم الإنسان من سائر البدن على خروج الفضلة، أي: البول والغائط، وهذا قياس مع الفارق، ويجاب عنه بأنه قياس في مقابل النص، والفارق بين الأصل والفرع أن البول والغائط خرجا من المخرج المؤثر، وأما الدم فإنه لم يخرج من مخرج مؤثر؛ فلا ينقض الوضوء.
فمن خرج منه الدم يغسل عنه ذلك الدم ثم يصلي؛ فإن كان الدم كثيراً كالنزيف -والعياذ بالله- المستفحل؛ فهذا يصلي ولو نزفت جروحه؛ لأن عمر رضي الله عنه صلى وجرحه ينزف من الطعنة التي طعن، يوم طعنه المجوسي عليه لعنة الله، وكذلك عباد بن بشر لما كان قائماً على الشعب، فإنه صلى وجراحه تنزف، فلا حرج على الإنسان في هذه الحالة كالمستحاضة تصلي ودمها يجري معها، والله تعالى أعلم.(31/5)
حكم الإكثار من اللعن
السؤال
هناك بعض الناس يكثرون من لعن الحيوانات والجمادات، فما حكم ذلك أثابكم الله؟
الجواب
لا يجوز الإكثار من اللعن، حتى ولو كان لجماد أو حيوان، وقد تقدم أن اللعنة تغلق دونها أبواب السماء، وترد على صاحبها إذا كان الملعون غير مستحق لها، فلا يجوز للإنسان أن يكثر من اللعن، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة) ومعنى قوله (لا يكونون) شفعاء أي: لا يشفعون لأهليهم وقرابتهم وأصحابهم يوم القيامة، (ولا شهداء) أي: يوم القيامة بين يدي الله جل وعلا.
فالأمر خطير، فلا يجوز للإنسان أن يكثر من اللعن، وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة لعنت دابتها فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تصحبنا ملعونة) قال الراوي: فلقد رأيتها تسير -أي: الدابة- ولا يركبها أحد.
فلذلك لا ينبغي للإنسان أن يلعن، واللعن لا خير فيه، وينبغي للمسلم دائماً أن يعوَّد لسانه ذكر الله جل وعلا، والكلام الطيب، فإن اللسان إذا ألف ذكر الله جرى بذلك الذكر، ولو لم يكن في ذكر الله إلا انشراح الصدر، وطمأنينة القلب لكفى، والله تعالى أعلم.(31/6)
حكم الصلاة في أوقات النهي
السؤال
هل لأوقات النهي في الحرم المكي والمدني اعتبار أثابكم الله؟
الجواب
الحكم فيها على العموم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (لا صلاة بعد صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد صلاة العصر حتى تغرب الشمس) ولم يفرق بين أرض وأرض، وثبت في الحديث الصحيح عن الراوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر موتانا: حين تطلع الشمس، وحين تغرب، وحين يقوم قائم الظهيرة) فهذه كلها نصوص عامة، وليس هناك تفريق بين مكة وغيرها، واستثنى بعض العلماء ركعتي الطواف بمكة، لقوله عليه الصلاة والسلام: (يا بني عبد مناف! لا تمنعوا أحداً طاف بالبيت وصلى أي ساعة شاء من ليل أو نهار) والله تعالى أعلم.(31/7)
حكم سجدة الشكر
السؤال
ما حكم سجدة الشكر لله تعالى؟
الجواب
سجدة الشكر أصح الأقوال فيها هو قول الجمهور، وهو أنها مشروعة وجائزة، فلا حرج على الإنسان أن يشكر ربه، فإن الشكر كما يكون بالقول يكون بالفعل، فالشكر له ثلاث حالات: شكر القلب، وأشار الله إليه بقوله: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] وهو أنك لا تمسي وتصبح إلا وأنت تعتقد أنه لا خير إلا من الله جل وعلا، وأنه لا نعمة تعيشها في نفسك ولا أهلك ولا ولدك إلا بفضل الله وحده، لا بحولك ولا قوتك لكن بفضل الله جل جلاله، فهذا شكر القلب: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53] أي: اعتقدوا فضله فيها.
النوع الثاني من الشكر: شكر اللسان، وأشار الله إليه بقوله: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] وهو أن تحدث وتقول: أنعم الله علي فسترني ورزقني وعافاني وأكرمني ورفعني ويسِّر لي؛ فتذكر نعم الله عليك، وتجلس مع أبنائك وبناتك تحدثهم بما كنت فيه من فقر وما صرت إليه من غنى، وبما كنت فيه من مرض وصرت إليه من عافية هكذا، فهذا من شكر الله جل وعلا، وقد قال الله عن هذا الشكر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7] فمن شكر شكر الله له شكره، وبارك له في نعمته، ومن كفر فإن الله غني حميد، من شكر تأذن الله له بالمزيد، ومن كفر فإن الله غني عن العبيد.
الأمر الثالث: وهو شكر العمل؛ فمن شكر العمل أن تصلي، فمثلاً: تذكرت كربة من الكربات فرجها الله عنك في صحتك ومالك وأهلك، فما تمالكت إلا أن قمت وتوضأت وصليت لله ركعتين شكراً له على هذا الفضل؛ فهذا من أبلغ ما يكون من الشكر، ولذلك قالوا في قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] إن آل داود أعطاهم الله الخيرات وبسط لهم من النعم حتى إن الريح تجري بأمر سليمان رخاء حيث أصاب {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص:37 - 39] ففتح الله لهم من الخيرات والبركات ما الله به عليم، ثم قال لهم: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً}:سبأ:13] أي: هذه النعم للشكر، ولكي تقيد بحمد الله والثناء عليه، وورد في الأثر أنه لما أوحى الله إليهم: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] ما مرت عليهم لحظة إلا وفيهم عبد قائم يصلي أو ساجد بين يدي الله جل جلاله.
فهذا من شكر العمل، فتشكر الله بالصلاة، وتشكره -أيضاً- بالصدقة، فإنه يعطيك المال فتتصدق، وتشكره -أيضاً- حين يأتيك الفقير فتعطيه، تقول: نعم الله أغناني وكنت فقيراً، مثلما ورد في حديث الأعمى، فهذا من شكر النعم، كذلك سجدة الشكر؛ كأن تكون جالساً في يوم من الأيام فجاءتك النعمة أو جاءك الخبر السار، فعظمت نعمة الله في قلبك، فخررت ساجداً لوجه الله جل جلاله، فأثنيت على الله وحمدته، فنظر الله إليك في تلك الساعة التي أصابتك فيها نعمته، أنه أول ما بدا عليك أن شكرت الله جل جلاله، فهذا حال الصالحين، شكر الله بالقول والفعل والجنان.
ولذلك إذا كمل شكر العبد كمل بهذه الأمور، وإذا أراد الله بالعبد النقمة سلبه الشكر، قال بعض السلف في قوله تعالى: {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [الأعراف:183] قال: من كيد الله للعبد ومكره به، أنه يعطيه النعمة ويسلبه الشكر حتى يأخذه أخذ عزيز مقتدر والعياذ بالله؛ لأنه كلما كفر كلما اشتد غضب الله عليه؛ فيزيده الله نعماً فيزداد كفراً، فيزيده نعماً فيزداد كفراً، حتى إذا جاءته النقمة تأتيه على أكمل ما تكون، نسأل الله السلامة والعافية.
ونسأل الله العظيم رب العرش الكريم أن يملأ قلوبنا وقلوبكم وألسنتنا وألسنتكم شكراً له جل جلاله.
اللهم إنا نسألك شكر نعمك، ونعوذ بك من زوال نعمك وفجاءة نقمك، إنك ولي ذلك والقادر عليه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(31/8)
لا بد من الوفاء بالنذر على حسب النية
السؤال
زوجتي نذرت صيام أربعين يوماً متواصلة إن يسر الله لها أمراً وهذا قبل زواجنا، فصامت قريباً من واحد وثلاثين يوماً في بيت أهلها، ولكنها متقطعة وسبب ذلك أن والديها كانا يمنعانها إشفاقاً عليها، فهل يجب عليها أن تعيد صوم الأربعين يوماً أو تصوم ما بقي عليها فقط؟ أثابكم الله!
الجواب
هذا فيه تفصيل، إذا نوت في نذرها أن الأربعين يوماً متتابعة فيلزمها أن تستأنف المدة، وتتابع أربعين يوماً فإن قطعها الحيض فلا يؤثر قطعه، فإذا جاءتها العادة أفطرت، فإذا انتهت العادة استأنفت حتى تتم أربعين يوماً، هذا إذا نوت التتابع، أما إذا لم تنوِ التتابع؛ فإنها تبني على المدة الأولى التي هي بضع وثلاثون يوماً، تبني عليه وتكمل الآن بقية الأيام، ولا حرج عليها، والله تعالى أعلم.(31/9)
حكم تأجير عقار أو غيره مدة طويلة مع احتمال وجود الغبن
السؤال
فضيلة الشيخ! سائل يقول: ما حكم الاتفاق على إيجار بمبلغ معين من المال لعقار ما لمدة خمس سنوات على أن يدفع الإيجار سنوياً، لما في ذلك من غبن -ربما- للمستأجر إذا انخفضت أسعار الإيجارات من قابل، أو للمؤجر إذا زادت، فهل مثل هذا العقد جائز؛ خصوصاً أن كلاً منهما حريص على غبن الآخر أثابكم الله؟
الجواب
بسم الله، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: فتأجير الدور والعقار سنواتٍ عديدةٍ فيه تفصيل عند العلماء رحمة الله عليهم، فمن أهل العلم من أجاز الإجارة مطلقاً سواءً كانت لأمد قريب أو بعيد، ومنهم من فصل فقال: إذا كانت المدة فيها غرر، ويحتمل أن الدار تسقط فيها، أو أن العقار لا يبقى إلى نهايتها فحينئذ لا تجوز الإجارة، كأن يؤجره بيتاً قديماً قل أن يعيش إلى ثمان سنوات فيؤجرة عشرين سنة، قالوا: فهذا لا يجوز؛ لأنه غرر.
أما لو أجرها لخمس سنوات كما ذكر في السؤال؛ فليست بمدة فيها غرر، وارتفاع السوق ونزوله في مثل هذا يسميه العلماء الغرر المغتفر؛ أي: أن رب السلعة رضي بغبنها، والمستأجر رضي بزيادتها ونقصها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (الخراج بالضمان) فلا حرج عليهما في هذا العقد، والأصل صحة هذه الإجارة حتى يدل الدليل على المنع منها، وما ذكر من التعليل ليس بذاك المؤثر والموجب لبطلان العقد، وهم بالخيار إن شاءوا دفعوا الأجرة وطالب رب السلعة المستأجر بدفع الأجرة من أول العقد، فقال له: ادفع لي الخمسة آلاف التي هي أجرة لهذا المحل لخمس سنوات، أو خمسين ألفاً أو خمسمائة ألف، وإن شاء قسطها عليه أنجماً، فقال: أؤاجرك داري هذه خمس سنوات كل سنةٍ بمائة أو كل سنة بخمسين على أن يقوم بالدفع في كل سنة، فلا حرج عليه في ذلك، والله تعالى أعلم.(31/10)
حقيقة البركة
السؤال
فضيلة الشيخ! ما هي البركة؟ وكيف تكون؟
الجواب
البركة هي: الزيادة والنماء والخير، فإنه ربما يكون الشيء عندك وهو قليل، فيضع الله فيه البركة، فتجد منه ما تجد من الكثير، وقد جاء في الحديث القدسي وذكره غير واحد منهم الإمام ابن القيم رحمة الله عليه في الجواب الكافي وقد تكلم العلماء على سنده، لكن فيه كلمات عجيبة، يقول فيه الله تعالى: (إني أنا الله إذا رضيت باركت، وليس لبركتي منتهى، وإذا غضبت لعنت، وإن لعنتي لتدرك السابع من الولد) ولذلك ربما تجد نسلاً لا خير فيه، وربما تجد نسلاً مباركاً يخرج منه العلماء والصلحاء والأخيار، كما قال تعالى: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود:73].
فإذا بارك الله في الشيء نفع، وتكون البركة في علم الإنسان وعمله: تكون في علمه فيكون علماً مباركاً مبنياً على الكتاب والسنة والاهتداء بسلف الأمة، فهذا العلم المبارك.
والعمل المبارك هو عمل الصالحين، فتجده ما حل في مكان إلا فعل خيراً أو قال خيراً، كما قال تعالى: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] قالوا: أي داعيةً للخير.
ومن بركة الإنسان أين ما كان، أن لا يجلس في مجلس إلا ذكر الله، أو قال خيراً، أو دل على خير، أو فعل شيئاً من الخير، ولو بكلمة طيبة، هذه من بركات العبد؛ أي: مما وضع الله فيه من البركة، فالبركة في الطاعة والاستقامة والسير على نهج الله، وأساس البركة كتاب الله، كما قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] فالقرآن مبارك، وكلما كملت بركته بالاتباع والتأسي كان الإنسان كثير البركة.
والبركة تكون في الأوقات، وتكون في الأموال، وتكون في الأولاد، وتكون في الصحة، وتكون في أشياء كثيرة، تكون في الأموال فربما أن الإنسان يستلم راتباً ألف ريال كأنها عشرة ريال في الجيب تمحق بركتها والعياذ بالله، فما يمكث اليوم واليومين إلا وهو مديون، وربما تجد الرجل راتبه العشرة ألف والعشرين ألفاً لا بركة فيها نسأل الله السلامة والعافية، فما ينتصف الشهر إلا وهو يتدين، والسبب في ذلك المعصية، فالمعاصي والحدود والكبائر تمحق البركة من الأموال، ولذلك كلما أطاع العبد بورك له في ماله والخير {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الأعراف:96].
فأخبر أنه إذا حصلت التقوى فتحت أبواب البركات، فتسلب البركة بمعصية الله في الأموال، وأيضاً البركة تكون في الأعمار، ولذلك تقرأ عن بعض العلماء رحمة الله عليهم من الصالحين أن أعمارهم قليلة، ولكن العلوم والكتب التي كتبوها لا تستطيع أن تزنها بأعمارهم مما وضع لهم من البركة والخير، فالبركة تكون في الأعمار، انظر إلى يومك، فإن استفتحته بهدي النبي صلى الله عليه وسلم بورك لك فيه، قال صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها) فانظر إلى أي بيت من بيوت المسلمين، إذا كانت المرأة بمجرد ما يأتي السَّحَر تقوم وتصلي ما كتب لها، والرجل يقوم ويصلي ما كتب له، ثم صلى الفجر، ثم أقبل الإنسان على معاشه فأفطر أو أصاب طعامه، ثم خرج إلى وظيفته وإلى عمله من الصباح الباكر أصبح طيب النفس مستجم النفس مرتاح القلب، لما تنظر إليه يتبسم، ونور صلاة الفجر في وجهه، وتراه مطمئن النفس مرتاح البال والخاطر.
لما تنظر إليه ما بين صلاة الفجر إلى صلاة الظهر وإذا به يقضي ما يقضى في اليومين والثلاثة وهذا مجرب، حتى في الكتابة أو في العلم، جربنا ذلك ووجدناه كما قال صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها) وكان ابن عباس يضرب أبناءه الذين ينامون بعد صلاة الفجر، ويقول: [إنها ساعة تقسم فيها الأرزاق، وتكون فيها البرك] فهذا هو الوقت المبارك.
وكما تكون البركة في الزمان، كذلك تكون في المال والولد، فبعض الناس عنده عشرة من الولد، وإذا به يتألم ويتأوه، وكل يوم أحدهم يأتيه بمشكلة وبمعضلة وبفتنة، وبأشياء يشيب منها الرأس والعياذ بالله، حتى يتمنى والعياذ بالله أنهم هلكوا، وهذا موجود نسأل الله السلامة والعافية، وقد يؤذونه بألسنتهم، وقد ينتقصونه فتمحق بركة أبنائه.
وبعض الناس تجد عنده ولداً واحداً، وتجد فيه الصلاح والخير والبركة، وهذا الابن سعادة لأبيه، فلا يقوم أبوه ولا يقعد إلا وهو يذكر ابنه، إما بدعوة صالحة أو بخير، مما وضع الله من البركة في هذا الابن، فالبركات تكون في الأبناء وتكون في الأوقات وتكون في الأعمار، حتى في الزوجات، بعض الزوجات مبارك، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (إن يكن الشؤم ففي المرأة والدابة والبيت) فبعض النساء مبارك، فإذا تزوجها الإنسان فتحت عليه الدنيا، وبسط له في الرزق وبورك له في الوقت، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن يكن الشؤم ففي ثلاثة) وقالت أم المؤمنين عائشة: [تزوجوا النساء يأتينكم بالأموال] يعني: ففي النساء من هي مباركة وتكون خيراً على زوجها، وهذا لاشك أنه مقرون بالصلاح والخير، وكلما كانت المرأة صالحة كان الخير منها أكثر.
كذلك أيضاً تكون البركة في وقت الإنسان كما قلنا، ولذلك ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم يوم النحر رمى جمرة العقبة، ونحر ثلاثاً وستين بدنة بيده الشريفة، وأعطى الحلاق رأسه فحلقه، ثم قسم شعر رأسه، ثم وقف للناس يسألونه، ثم نزل وطاف طواف الإفاضة، ثم مر على العباس واستقى من زمزم وشرب صلوات الله وسلامه عليه، ثم صعد إلى منى وصلى الظهر بها، وهذا لا يكون إلا بالبركة.
والآن -الله المستعان- ترمي جمرة العقبة، وتعطي الحلاق رأسك ليحلق وإذا بالساعة عشرة، لم يكن في أيامهم سيارات ولا حافلات، ومع ذلك بورك له صلوات الله وسلامه عليه بأبي هو وأمي، والآن السيارات والحافلات، بمجرد ما تركب الحافلة وتمشي بك قليلاً وإذا به أذن الظهر، وتصل إلا وقد أذن العصر، ثم تذهب وتجدد الوضوء وإذا بالشمس أوشكت أن تغرب، الله المستعان! وهذا من محق البركة.
ولذلك الآن تجد البركة محقت من الأزمنة، فتجد الإنسان يعيش السنة كأنها شهر، والشهر كأنه أسبوع، والأسبوع كأنه يوم، واليوم كأنه ساعة، والساعة كأنها طيف من الخيال، وأصبح الإنسان يخشى من محق البركة، ولذلك إذا نزل عيسى ابن مريم في آخر الزمان، وضعت البركة في الأرض، حتى إن الشاة تكفي أربعين، وهذه مما يضع الله عز وجل من البركات، والبركات تمحق من الناس على قدر ما يكون بينهم من الظلم، وما يكون بينهم من الإساءة والتقصير في حق الله جل وعلا.
ولذلك لو تسأل كبار السن عن أمور وقعت قبل عشرين أو ثلاثين سنةً كأنها شيء من المعجزات ولا تكاد تصدق، ولكنها حقائق ثابتة فالله عز وجل وضع البركة بسبب ما كان عليه الناس من التراحم والتواصل، فكانت البركة في الأوقات والساعات واللحظات والخيرات، يوم كان الإسلام وكان أهله، ويوم كان الناس وكانت الحياة طيبة، تعيش في كنف أولئك الأخيار، ربما تأتي إلى الرجل الفقير في باديته تجده فقيراً مديوناً لكن يأتيه الضيف في ظلام الليل، حتى أنه لولا الضيف لنام بدون عشاء، فإذا جاءه الضيف ونزل، فتح قلبه وحيّاه وبيّاه، ثم ذهب واستدان الشاة، ولا يمكن أن ينام ضيفه إلا وشاته قد ذبحت، أو إبله قد نحرت، فالله المستعان! محقت البركة بسبب ما فقد الناس من الرحمة، ونسأل الله عز وجل أن يلطف بنا، ويرحمنا برحمته الواسعة، والله تعالى أعلم.(31/11)
حكم خروج المعتدة للضرورة
السؤال
هل يجوز للمعتدة الخروج للطبيب لإجراء عملية ونحو ذلك؟
الجواب
بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد: إذا توفى زوج المرأة عنها فإنه يجب عليها أن تبقى في بيتها أربعة أشهر وعشراً، إلا أن تكون امرأةً حاملاً، فإذا كانت امرأةً حاملاً فإنها إذا وضعت حملها يجوز لها الخروج، وتخرج من عدتها وحدادها، وثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم في قصة أبي السنابل بن بعكك، وإقراره عليه الصلاة والسلام للمرأة الحامل بخروجها من عدتها بذلك.
أما وجوب بقاء المرأة المحد في بيت زوجها فلما ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ فريعة بنت مالك بن سنان، لما أخبرته أن زوجها توفي عنها، قال لها عليه الصلاة والسلام: (امكثي في بيت زوجك الذي جاءك فيه نعيه حتى يبلغ الكتاب أجله) فدل هذا على أنه لا يجوز لها الخروج.
أما إذا وجدت ضرورة فإنه يحل لها حينئذ الخروج، فإن كانت العملية التي ذكرت يترتب على تركها إلى حين خروجها من عدتها ضرر أو تؤدي إلى هلاكها أو تلف عضو من أعضائها، فإنه يجوز لها الخروج بشرط ألا يتأتى فعل العملية في بيتها، وذلك لمكان الاضطرار، وقد قال الله جل وعلا: {إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام:119] فحينئذ يجوز لها الخروج، والله تعالى أعلم.(31/12)
حدود عورة المرأة أمام محارمها
السؤال
سائل يقول: ما الذي يجوز للمرأة إظهاره من جسدها أمام محارمها؟
الجواب
هذه المسألة -وهي عورة المرأة مع محارمها- كان بعض السلف رحمة الله عليهم يتورعون فيها، حتى أن الإمام أحمد رحمة الله عليه -وهو ذلك الإمام العظيم من أئمة السلف علماً وورعاً- لما سئل: أتكشف المرأة عن صدرها وساقيها لمحرمها كأخيها؟ فقال رحمه الله: لا، إني أخشى عليه الفتنة، فالاحتياط والورع أن المرأة لا تكشف عن صدرها أو عن ساقيها لأخيها، إلا ما كان لحاجة، أو كان عفواً دون قصد، فهذا لا حرج فيه، وأما الكشف عن الصدر وإبداء المحاسن والمفاتن، فإنه ينبغي التورع عن ذلك والبعد عنه؛ لأنه قد يفضي إلى الوقوع في المحظور، والله تعالى أعلم.(31/13)
فضل حسن الخلق
السؤال
معلومٌ لديكم فضل حسن الخلق، ولين الجانب والتواضع، ولكن نرى من حال بعضنا عكس هذا الأمر، فهل من نصيحة حفظكم الله؟
الجواب
إن الله جل وعلا إذا رزق المؤمن الإيمان كمّل خصاله، وجمّل خلاله، وجعله من عباده الموصوفين بالفضائل، المترفعين عن الرذائل، فمكارم الأخلاق، ومحاسن الأخلاق خصلةٌ من خصال المؤمنين، وخلة من خلال الصالحين، ولذلك أثنى الله بها على نبيه في كتابه المبين، فقال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فأثنى على نبيه عليه الصلاة والسلام بالخلق، وما أعظم الخلق وما أجله عند الله وعند عباده! حتى ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سئل عن أثقل شيء في الميزان قال: (تقوى الله وحسن الخلق) وقال عليه الصلاة والسلام: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) قال: خيركم، أي: أكثركم خيراً وأرفعكم عند الله قدراً؛ لأن الأخيار هم أرفع الناس قدراً عند الله جل وعلا.
وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سأله الصحابة وقد سمت أرواحهم إلى الجنة، واشتاقت إلى رحمة الله جل وعلا عن أعظم ما يدخل المؤمن الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: (تقوى الله وحسن الخلق) فأكثر ما يدخل الناس الجنة تقوى الله جل وعلا وحسن الخلق، أما تقوى الله فبينك وبين الله، وهو غيب لا يعلمه إلا الله، وأما حسن الخلق فبينك وبين الناس، ولذلك من أجل نعم الله عز وجل على العبد حسن الخلق.
وقال بعض السلف: إنما أدرك من أدرك لا بكثرة صيام ولا صلاة، ولكن ببذل الندى وكف الأذى.
والمراد بهذه العبارة أن هذا العالم من السلف يقول: إنما أدرك من أدرك، أي: أن الأخيار والصالحين والفضلاء والنبلاء وأهل الخير من سلفنا الصالح ما وصلوا إلى الدرجات العلا بعد الإيمان، إلا ببذل الندى وكف الأذى، ولذلك أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها أثقل ما يكون في الميزان، وبذل الندى: الجود والسخاء، وكف الأذى: أساسه الحياء والمروءة الفاضلة التي تمنع الإنسان من أذية إخوانه.
فإذا كمل إيمان العبد كمل خلقه، وإذا كمل نبله وفضله كملت آدابه، وأصبح ممن أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنهم أقرب الناس منه مجلساً يوم القيامة، يقول عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة) هل قال: العالم أو العابد أو المجاهد؟ لا، قال عليه الصلاة والسلام: (أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون) أحاسنكم أخلاقا، أي: أنك لن تنظر إليه إلا وجدته قد أخذ من حسن الخلق بحظ وافر، إن وجدته في السماحة وجدته بلغ منها أعلى مراتبها، وإن وجدته في الجود والسخاء وحسن العشرة وبذل المعروف، وجدته في أعلى مراتبها.
ولذلك لن تقرأ سيرة عالم من علماء السلف إلا وجدت حسن الخلق سمة من سماتهم رحمة الله عليهم، يقول عليه الصلاة والسلام: (أحاسنكم أخلاقاً) ما قال: أحسنكم، أي: الذين كثرت منهم الأخلاق الطيبة، وقال بعض العلماء: قلَّ أن تجد إنساناً كريم الخلق إلا وجدته نقي الصدر؛ لأن مكارم الأخلاق لا تكون إلا بسلامة الصدور، وقلَّ أن تجد إنساناً فظاً غليظاً كثير الجفاء للناس، وكثير الأذية لهم، إلا وجدت في قلبه من الضغينة والبغضاء ما يحمله على ذلك -نسأل الله السلامة والعافية- لأن الأخلاق ما هي إلا نتيجة عما في السرائر والقلوب.
والله جل وعلا إذا اطلع على سريرة الإنسان، ووجدها سريرة صالحة فيها الخير والفضل والنبل، أظهر هذه السريرة لعباده في الأخلاق الطيبة، ولذلك قال: (أحاسنكم أخلاقا) إن آذاه أحدٌ عفا عن أذيته، وإن أحسن إليه رد له الإحسان أضعاف إحسانه، فإن عاشر الناس، إن أحسنوا إليه أحسن إليهم أكثر من إحسانهم، وإن أساءوا إليه اجتنب إساءتهم، وإن نظر إلى عوراتهم سترها، وإن نظر إلى خلاتهم وما هم فيه من الحوائج قضاها وقام بها.
وقد أُثر عن علي زين العابدين -ذلك الإمام الجليل من أئمة السلف الصالح علماً وفضلا ًونبلاً رحمة الله عليه- أنه كان إذا جَنَّ عليه الليل وضع اللثام على وجهه، ثم حمل على ظهره أكياس الطعام، ومضى إلى بيوت يعرفها للأيتام والأرامل -رحمة الله عليه- ثم أطعم وسقى واقتحم العقبة، ففك الرقبة، وأطعم ذا المسغبة، يتيماً ذا مقربة، أو مسكيناً ذا متربة، رحمة الله على تلك الروح الطيبة، فلما توفي فقد أكثر من عشرين بيتاً -ممن يقرع عليهم في جوف الليل أبوابهم بذلك الطعام- فعلموا أنه ذلك العالم وذلك العابد، وكان في زمانه آيةً في العلم والصلاح مع ماله من النسب؛ لأنه ابن ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع الله له بين هذه الخيرات والفضائل، يقول في مدحه الفرزدق: ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم أي: ما جاءه أحد يسأله شيئاً فقال له: لا.
وهذا من كمال خلقه وزينها رضي الله عنه ورحمه برحمته الواسعة.
فلما أرادوا أن يغسلوه ويكفنوه؛ خلعوا ثيابه فنظروا فإذا ظهره متشحط من الدم؛ بسبب أكياس الدقيق التي كان يحملها رحمة الله عليه.
فسلامٌ على تلك القلوب الرحيمة، وسلام على تلك الأخلاق الكريمة، وتلك المعادن الأبية الصالحة التي كانت ترجو ما عند الله، وتريد رحمة الله جل وعلا، كان السلف الصالح رحمة الله عليهم لهم من الأخلاق والفضائل والنوائل ما تضرب به الأمثال.
واقرأ في سير الرجال، قد تجد العلم في العالم سمة من سماته، ولكن ما إن يبدأ باب الأخلاق، ويذكر أنه ذلك الرجل المتواضع الكريم السمح، إلا وينفتح قلبك لتلك الخصال، وينشرح صدرك لتلك الخلال وقلت: سبحان الله الكبير المتعال! سبحان من يقسم الأرزاق! ولذلك ورد في الأثر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم) وإن الله لا يعطي الأخلاق إلا لمن أحب، أما الدنيا فيعطيها لمن أحب ومن كره، أما الأخلاق والفضل والنبل والصلاح، وهذه الخصال التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً) ما معنى الموطئون أكنافا؟ توطئة الكنف في التواضع، بمعنى أنه سهل أن تبلغ حاجتك منه، ويسير عليك أن تأخذ بغيتك من يده الطيبة، ما تجده صعباً بمجرد أن تأتيه، حتى إن بعض الأخيار كان من خيره أنه إذا جاءه الفقير ورأى في وجهه الفقر، عاجله بالعطية قبل أن يسأله الفقير المال، وهذا الكرم والفضل والنبل، وكان بعضهم يستحي أن يذكر الفقير حاجته قبل أن يعاجله بذلك العطاء، فكان الناس على خير كثير.
وقال بعض العلماء: لا تكون محاسن الأخلاق إلا برحمة من الله جل وعلا، وأول ما تكون محاسن الأخلاق وكريم الخلال للإنسان برحمة يقذفها الله في القلوب، ومصداق ذلك في قوله تعالى يخاطب نبيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] {فَاعْفُ عَنْهُمْ} [آل عمران:159] يعني: أن الإسلام ليس فيه إلا السماحة والعفو ولين الجانب، ولذلك وصف الله المؤمنين مع بعضهم فقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54] فإذا كمل إيمان العبد أصبح لا يستطيع أن يؤذي أحداً من إخوانه المسلمين، لا ترى منه إلا خيراً، بمجرد أن تلقاه أول ما ترى كريم الخصال وطيب الخلال.
ولذلك يقول جرير رضي الله عنه وأرضاه: [ما لقيت النبي صلى الله عليه وسلم إلا تبسم في وجهي] وكان صلى الله عليه وسلم لا يعبس في وجوه الناس، ولا يقهرهم، ولا يعرض عنهم، صلوات الله وسلامه عليه إلى يوم الدين، وهذه الخصلة في قوله: (الموطئون أكنافا) توطئة الكنف: القرب من الناس.
فإذا كنت طالب علم فاقترب من الناس بتوجيهك وإرشادك ولا تتعال بعلمك، ولا تفتخر على الناس بما حباك الله جل وعلا من العلم، بل تكون كما مثَّل العلماء كريم الأصل بالغصن الطيب، فإن الأغصان الطيبة إذا ملئت من الخير والثمرات تدلت للناس.
وهكذا كريم الأصل والعبد الصالح، الذي يريد الله به خيري الدنيا والآخرة كلما امتلأ علماً وفضلاً ونبلاً؛ كلما وجدته تدلى للناس، وزاده علمه قرباً من الناس، وأذكر علماءنا ومشايخنا -رحمة الله عليهم- كانوا من ذلك على حظ وافر، وأذكر عن بعض مشايخنا رحمة الله عليه -أكاد أجزم- أن كل إنسان يجالسه يحس كأن هذا الشيخ له وحده، وأعرف أناساً من عامة الناس بعضهم يعتبر ممن يتعاطى الحرف الدنيئة ومن ضعفة المسلمين، ربما جاء إلى ذلك الشيخ وجلس يمازحه ويضاحكه ويجالسه، كأنه جليسٌ من كبراء القوم، وما ذلك والله إلا لصلاحٍ في القلوب، وكلما وجدت الإنسان يتقي الله جل وعلا ويرجو رحمة الله، كلما وجدته يشتري هذه الرحمات بالأخلاق الكريمة خاصة مع ضعفاء المسلمين.
ولذلك قال بعض السلف رحمة الله عليهم في سفيان الثوري ما كان أعز الفقراء في مجلس سفيان، سفيان هذا ديوان من دواوين العلم والعمل والصلاح والفقه والحديث، كان إذا دخل الفقراء في مجلسه عزوا وأُكرموا، ورفعوا على الأغنياء والأثرياء والوجهاء، وهذا من كرم سفيان رحمة الله عليه.
فهكذا أهل الفضل أكنافهم موطأة.
(ألا أنبئكم) أي: أخبركم (بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقا، الموطئون أكنافا، الذين يألفون ويؤلفون) إذا جئت بين الناس يألفك الغني والفقير، الجليل والحقير، يألفك الناس على اختلاف طبقاتهم، الجاهل يألفك والعالم يألفك، من كريم الخصال وكريم الخلال، إذا رأيت الرجل تبسمت في وجهه ثم سألته عن حاله، وتعطي هذه الابتسامة خاصةً لضعفاء المسلمين، فإن الابتسامة لضعفاء المسلمين ابتسامة صدق وحق ورحمة تدل على صلاح صاحبها.
ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (لا تحقر(31/14)