رحلة المرأة من الظلمات إلى النور
الحمد لله خلقنا من نفسٍ واحدة وخلق منها زوجها، وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء، أحمده تعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، أسبغ علينا من فضله نعماً وآلاء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إقراراً بحقه وثناء، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل الخليقة بهاءً وأعلاهم سناءً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خيار هذه الأمة صفاءً ووفاءً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم بعث الخلائق حساباً وجزاءً، وسلم تسليماً كثيرا.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون والمسلمات: اتقوا الله تبارك وتعالى رب البريات، فإنها خير ذخر يدخر في الحياة وبعد الممات، وبها تحصل البركات، وتنال الكرامات، وترفع الدرجات، وتقال العثرات، وتكفر السيئات: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5].
عباد الله! من محاسن ديننا الإسلامي الحنيف ومميزات شريعتنا الغراء أنها جاءت بالشمول والكمال، فلم تترك جانباً من جوانب الحياة إلا نظمته أحسن نظامٍ وأكمله، وأتقنه وأشمله، ولله الحكمة البالغة فيما يخلق ويختار: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
معاشر المسلمين! ومن الجوانب الرئيسة التي تولاها الإسلام بالعناية والرعاية، وأحاطها بسياجٍ منيع من الصيانة والحماية، ورسم لها خير منهجٍ لما لها من الأهمية والمكانة الجانب المتعلق بالمرأة وشئونها، ومكانتها في المجتمع، ومسئوليتها في الأمة، وما لها من حقوق وما عليها من واجبات، كل ذلك لأنها اللبنة الكبرى، والنواة الأولى، والبنية الأقوى التي يرتكز عليها عمود الأسرة، وبناء المجتمع، وبالتالي نهضة الأمة، وإعلاء صرح حضارتها، ولأنها الأم الرءوم، والزوج الحنون، والأخت الكريمة، والبنت اللطيفة، بل هي المدرسة الحقيقية لإعداد الأجيال وصناعة الرجال.
معاشر الإخوة والأخوات: لقد جاء الإسلام والمرأة مهضومة الحقوق، محل الشؤم والعقوق، مهيضة الجناح، محملة الجُناح، مسلوبة الكرامة، مهانة مزدراة، محل التشاؤم وسوء المعاملة، معدودة من سقط المتاع وأبخس السلع، تباع وتُشترى، توهب وتكترى، لا تملك ولا تورث، بل تقتل وتوأد بلا ذنبٍ ولا جريرة، فلما أشرق على المعمورة نور الإسلام بحكمته وعدله، رفع مكانتها، وأعلى شأنها، وأعاد لها كرامتها، ومنحها حقوقها، وألغى مسالك الجاهلية نحوها، واعتبرها شريكة للرجل، شقيقة له في الحياة، وقد ذكرها الله في كتابه الكريم مع الرجل في أكثر من موضع، يقول سبحانه: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] ويقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات:13] ويقول جل وعلا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35]
وأوصى بها النبي صلى الله عليه وسلم خيرا، ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {استوصوا بالنساء خيراً} ولـ أحمد وأبي داود والترمذي عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقا، وخياركم خياركم لنسائهم} وأعلن عليه الصلاة والسلام حقوقها، وواجباتها ومالها وما عليها في المجمع العظيم يوم عرفة في خطبة الوداع.(66/2)
المساواة الإسلامية بين الرجل والمرأة
إخوة الإيمان: كما ضمن الإسلام للمرأة الكرامة الإنسانية، والحرية الشرعية، والأعمال الإسلامية، التي تتفق مع طبيعتها وأنوثتها، فيما لا يخالف نصاً من الكتاب والسنة، ولا يعارض قاعدة ومقصداً من مقاصد الشريعة الغراء، في محيط النساء المصون، كما ساوى بينها وبين الرجل في عدد من المجالات.
إلا أن هذه المساواة قائمة على ميزان الشرع، ومقياس النقل الصحيح والعقل الصريح، فقد جعل الله لكل من الرجل والمرأة خصائص ومزايا ومقومات ليست للآخر، فأعطى الرجل قوة في جسده ليسعى ويكدح، ومنح المرأة العطف والحنان لتربية الأجيال وتنشئة الأبناء، وبناء الأسرة المسلمة.
أمة الإسلام! أي شيءٍ بعد هذا التكريم تريده النساء؟ وأي شيء بعد هذه الرعاية والعناية تنشده بنات حواء؟ أيستبدلن الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ أيؤثرن حياة التبرج والسفور والتهتك والاختلاط على حياة الطهر والعفاف والحشمة؟ أيضربن بنصوص الكتاب والسنة الآمرة بالحجاب والعفة عرض الحائط، ويخدعن بالأذواق الماكرة والأصوات الناعقة، والأقلام الحاقدة، والدعايات المضللة، والكلمات المعسولة الخادعة التي تطالعنا بين الفينة والأخرى، وتثار بين حينٍ وآخر؟
أيتركن التأسي بأمهات المؤمنين الطاهرات، وأعلام النساء الصالحات، ويقلدن الماجنات، ويتشبهن بالفاجرات عياذاً بالله؟!(66/3)
المكانة الحقيقية للمرأة في الإسلام
أخواتي المسلمات! إنكن لن تبلغن كمالكن المنشود، وتعدن مجدكن المفقود، وتحققن أملكن المعقود، وطموحكن المشهود، إلا باتباع تعاليم الإسلام والوقوف عند حدود الشريعة، فذلك كفيلٌ أن يطبع في قلوبكن محبة الفضائل والتخلي عن الرذائل.
أختي المسلمة الطاهرة العفيفة، الحرة الكريمة الشريفة! مكانك والله تُحمدي، وبيتك بالله تسعدي، وحجابك تالله تصلُحي، وعفافك ورب الكعبة تريحي وتستريحي: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59].
أيتها الأخوات في الله! أنتن في الإسلام دررٌ مصونة، وجواهر مكنونة، أنفس لآلئ في أحكم صدف، وأغلى وأجل من كل الأثمان والتحف، وبغير الدين دمن في يد كل فاجر، وسلعٌ يتاجر بها؛ بل يلعب بها ذئاب البشر الجائعة، وثعالبها الخادعة، فيهدرون عفتها وكرامتها، ثم يلفظونها لفظ النواة، ويرمونها رمي القذاه، فمتى خالفت المرأة آداب الإسلام، وتساهلت بالحجاب، وبرزت للرجال مزاحمة متعطرة، غاب ماؤها، وقل حياؤها، وذهب بهاؤها، فعظمت بها الفتنة، وحلت بها الشرور والنقمة.(66/4)
الحرب على المرأة في العصر الحديث
فيا أيتها المسلمات المعتزات بشرف الإسلام! ويا أيتها الحرائر العفيفات المصونات! أنتن خير خلف لخير سلف، تمسكن بكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكن على حذرٍ من الأيدي الماكرة، والعيون الفاجرة، التي تريد إنزالكن من علياء كرامتكن، وتهبط بكن من سماء أمجادكن، وتخرجكن من دائرة سعادتكن، وإياكن والخديعة والانهزام أمام الحرب السافرة بين الحجاب والسفور، والعفاف والإباحية، فلم يعد خافياً أن التبرج والسفور مطية الفساد وطريق الفجور.
إن أعداء الإسلام قد ساءهم وأقض مضاجعهم ما تتمتَّع به المرأة المسلمة من حصانة وكرامة، فسلطوا عليها السهام، ونصبوا لها الفخاخ، ورموها بنبلهم عن قوسٍ واحدة، ومن الغريب أن يسير في ركابهم، ويسعى في نشر أفكارهم أناسٌ من بني جلدتنا، ويتكلمون بألسنتنا، فيشنون الحرب الفكرية الشعواء على أخواتنا المسلمات، ماءِ وجوهنا، ومقلِ عيوننا؛ عبر العناوين الخادعة، والمقالات الساحرة هنالك وهناك، فينادون زوراً وخديعة، بتحرير المرأة، ويشيعون الشائعات المغرضة، والشبه الداحضة عن المرأة المسلمة، يقولون عن المجتمع المسلم المحافظ، إن نصفه معطل، ولا يتنفس إلا برئة واحدة، وكيف تترك المرأة حبيسة البيت ورهينة المنزل؟ وما إلى ذلك من الأقوال الأفاكة، والعبارات المضللة.
فماذا يريد هؤلاء؟ وما يروون؟ وإلى أي شيء يهدفون؟
نعم.
إنهم يهدفون إلى تحرير المرأة من أخلاقها وآدابها، وانسلاخها من مثلها وقيمها ومبادئها، وزجها في أتون الشر والفساد، يريدونها عارضة للأزياء، وسلعة للسذج والبسطاء، تزين بها أغلفة المجلات، وتروج من خلالها لسوق الدعايات والإعلانات، فمن لصلاح البيوت وسعادة الأهل وتربية الأجيال؟
خبرونا بربكم أي فتنة تقع وأي بلاءٍ يحدث إذا هتك الحجاب، ووضع الجلباب، وافترس المرأة الذئاب، نتيجة السفور والاختلاط في الدوائر والمكاتب والمدارس والأسواق؟
أما يكفي زاجراً يا عباد الله، ويشفي واعظا ما وقعت فيه المجتمعات المخالفة لتعاليم الإسلام من الهبوط في مستنقعات الرذيلة، ومهاوي الشرور وبؤر الفساد، حين أهملت أمر المرأة حتى انطلقت الصيحات المجردة، والنداءات المتكررة، مطالبة بعودة المرأة إلى حصنها وقرارها؟
هل يرضى من فيه أدنى غيرة ورجولة، ومسكة عقلٍ ومروءة، أن تصير امرأته وموليته مرتعاً لأنظار الفساق؟ وعرضة لأعين الخونة؟ وماردة مكشوفة، ولقمة سائغة أمام عديمي المروءة؟ وضعاف النفوس وقليلي الديانة؟ لقد أفادت الأوضاع السائدة إقليمياً وعالمياً أن خروج المرأة من بيتها هو أمارة الخراب والدمار، وعلامة الضياع والبوار، وعنوان انقطاع وشائج الألفة والمحبة والفضيلة، وانتشار غوائل الشرور والفساد والرذيلة بين أبناء المجتمع.(66/5)
شعار عولمة المرأة
أمة الإسلام! أمة الطهر والعفاف والحياء والاحتشام! لقد نحا الهجوم على المرأة في الآونة الأخيرة منحى خطيراً، واتخذ منعطفاً كبيراً، يوم أن تبنته مؤتمرات دولية، ومنظمات عالمية، تحت شعار ما يعرف بعولمة المرأة، بث فيها سدنة الجريمة، وسماسرة الرذيلة سمومهم ضد المرأة المسلمة، ومن حق المسلمين الغيورين أن يتساءلوا: أمن شكٍ في ثوابتنا ومبادئنا حتى تثار قضايانا الكبرى بين الفينة والأخرى للجدل العقيم؟! والطرح الهزيل، والنقاش الذميم؟! ومنها قضية المرأة.
بأي حقٍ يجعل من المرأة شماعة تعلق عليها زبالات الأفكار والأهواء، وعفن الثقافات والآراء؟
هل من الإنصاف أو من الإسفاف أن تجعل المرأة الحرة الكريمة سلّماً لذوي المآرب المشبوهة، وجسراً يصل من خلاله ذوو الاتجاهات المغرضة، إلى جر المجتمعات المحافظة إلى مستنقعات الرذيلة والتخريب، وشرور العلمنة والتغريب، ومن ثم إلى مهاوي العدم وبؤر الفناء؟
هل من العقل والرحمة ومراعاة حقوق الإنسان أن تجعل التجارب الغربية الخاطئة أنموذجاً يقتفى، وميزاناً توزن به النماذج الاجتماعية الإسلامية؟
هل من الحوار الحضاري المزعوم أن تفرض على الأمة الإسلامية أطرٌ اجتماعية وأسرية مخالفة لمبادئها وثوابتها؟(66/6)
مؤامرات تسمى مؤتمرات
لقد طالعتنا منظمات مشبوهة تدعي مراعاة حقوق الإنسان، في الأيام القليلة الماضية بعقد مؤتمر عن المرأة والأسرة عام (2000م) وقد سبقه عدة مؤتمرات هي في الحقيقة مؤامرات، وقد صدرت عنه وثيقة دولية عن المرأة والأسرة عام (2000م) من أوراق عمل لتحرير المرأة والأسرة، الحرية، الإنجاب خارج الشرعية الأسرية، تجريد الزواج، الإجهاض، إباحة الشذوذ، تبادل الأدوار بين الرجل والمرأة، الاتجار العلني بأجساد النساء، وغير ذلك من تحسي السموم، واللهف المحموم، في تحولٍ عجيب من هذه المحافل الدولية، والمنظمات العالمية، إلى فرض آليات تمثيلية على البلاد الإسلامية.
أين مراعاة حقوق الإنسان المتمثل في المرأة التي يراد لها الاستغلال والابتذال في أسوأ صوره، وأحط معانيه؟ وبالأمس القريب شنت هذه المنظمات المشبوهة هجومها على بلاد الحرمين الشريفين -حرسها الله- زاعمة زوراً وبهتانا انتهاكها لحقوق الإنسان لتنفيذها شرع الله المطهر، تكريماً للإنسان وحفاظاً على بني الإنسان.
واليوم تتجه سهامها ضد المرأة المسلمة، الإنسان المكرم، والعنصر المحترم، هل يريدون من المرأة عام (2000م) أن تكون سلعة إعلامية، وملهاة جنسية؟ أين هذه المنظمات إن أرادت إنصاف المرأة ومراعاة حقوقها عن آلاف المغتصبات، وعشرات الألوف من المستحوات؟
أين هي من المرأة المنكوبة في البوسنة والشيشان؟ وفي بقاعٍ كثيرة من العالم؟
بل أين دموع تماسيحها على المرأة الغربية حيث التفكك الأسري، والتحطم الاجتماعي؟ لكنه الكيد والمؤامرة {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
لقد طفح كيل القوم، وضاق عطنهم، وأخرجوا مكنونهم، ولم يعد خافياً على الغيورين حملاتهم المسمومة، وتحدياتهم المحمومة ضد المرأة المسلمة وحجابها، وعفافها وحيائها، فهل تعي المرأة المسلمة ما يخطط لها، ويكاد ضدها، ويدبر حيالها، من وسائل الفتنة بها ولها، فلا يزيدها ذلك إلا استمساكاً بشخصيتها الفذة، واعتزازاً بأصالتها الفريدة، وعدم الانسياق مع الانفتاح والمتغيرات، على حساب الثوابت والمبادئ واليقينيات؟
يجب ألا تزعزع هذه التحديات السافرة ثقة المرأة المسلمة بنفسها، وتمسكها بدينها، واعتزازها بثوابتها، في خضم هذه الزوابع المتكررة، والحملات المسعورة المتتالية.(66/7)
فتنة النساء وواجب المسلمين تجاه الحملة العالمية
فيا أيها العقلاء! اعتبروا واحذروا، وعوا ولا تخدعوا، فالسعيد من وعظ بغيره، واعلموا أن نكبة الأمة اليوم في مجتمعاتها، وإخفاقها في أخلاقها، وانتكاسها في سلوكياتها، لم تكن إلا بعد أن نكبت في نظام أسرها، وفساد تربيتها لنسائها.
وقد قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: {ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء} متفقٌ عليه من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وقال صلى الله عليه وسلم: {فاتقوا الدنيا واتقوا النساء؛ فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء} أخرجه مسلم في صحيحه.
فهل تعمل البلاد الإسلامية والمؤسسات والمنظمات الخيرية على تبني قضايا المرأة المسلمة، ومواجهة التحديات بمزيدٍ من الدراسة والتنسيق، والتأصيل والتحقيق الدقيق، والبرامج العملية الناجحة التي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن النظم الاجتماعية المحافظة، هي القلعة الحامية بإذن الله من السقوط والانهيار؛ لأن الارتباط بها ارتباط وجودٍ وهوية، وهو ما يتطلب وعياً عميقا، ويقظة دائمة، ونوايا مخلصة.
وحفظ الله نساء المسلمين من كيد الكائدين، وعدوان المعتدين، وكان سبحانه في عون العاملين لنصرة دينهم، وخدمة قضايا أمتهم، إنه خير مسئولٍ وأكرم مأمول.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفوراً.(66/8)
نداءات بشأن خطورة قضايا المرأة
الحمد لله مسدي النعم والآلاء، وكاشف النقم واللأواء، أحمده تعالى وأشكره وهو ذو العز والعظمة والكبرياء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا أنداد ولا شركاء، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله إمام الحنفاء، وسيد الأصفياء، وخاتم المرسلين والأنبياء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الشرفاء، وصحبه الأوفياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ من الرجال والنساء، صلاة وسلاماً متعاقبين تعاقب الصباح والمساء، دائمين ما دامت الأرض والسماء.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقين الله إماء الله، تمسكوا جميعاً بكتاب ربكم وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، فخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها.
أيها الإخوة والأخوات في الله: إن قضية المرأة من الخطورة بمكانٍ كبير، وتحتاج إلى عرضٍ متجددٍ مركز؛ لأنها اتخذت مطية وغرضاً من أعداء الإسلام وأذنابهم، يبثون من خلاله شبههم، وينشرون أباطيلهم وسمومهم في غفلة من المسلمين، وانشغالٍ من كثيرٍ من المصلحين.
ولكي لا ينخدع بعض الدهماء والدهماوات؛ فإن على المسلمين في مختلف ثغورهم ومجالاتهم العناية بهذه القضية، وبيان منهج الإسلام فيها لنثبت للعالم بأسره أننا ولله الحمد في يقظة من أمر ديننا، وأن فتياتنا المصونات عزيزات بإسلامهن، متمسكات بدينهن، لا تنطلي عليهن أقوال الناعقين أعداء المثل والقيم والمبادئ السامية.(66/9)
نداء إلى المسلمات والجمعيات النسائية
فإلى أخواتنا المسلمات في عالمنا الإسلامي، وإلى نصف أمتنا الثاني، يوجه هذا النداء الحاني، من هذه البقعة الطاهرة بالتمسك الحقيقي بكتاب الله، والعض بالنواجذ على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع تعاليم الإسلام وآدابه، وإلى الجمعيات النسائية في كل مكان يوجه التحذير من مغبة مخالفة المرأة لهدي الإسلام، ويدعى بإخلاصٍ وإشفاق إلى الحذر الشديد من الانسياق وراء الشعارات البراقة، والدعايات الخلابة، والمصطلحات الأخاذة المسمومة المظللة ضد أخلاق المرأة ومثلها وقيمها.(66/10)
نداء إلى المسئولين عن الفتاة المسلمة
وإلى المسئولين عن الفتاة المسلمة تعليماً قوامة ورعاية، أن يتقوا الله عز وجل، ويقوموا بواجبهم تجاهها، مع العناية التامة بالجوانب الإيمانية والتربوية والأخلاقية، لا بد من وضع حدٍ فاصل، وسدٍ منيع أمام السيول المتدفقة من المظاهر الفاضحة، والمناظر الماجنة، والأفلام الخليعة، والصور العارية وشبه العارية التي تقضي على الغيرة والأخلاق، وتورث الدياثة والرذيلة، وليس بخافٍ على الغيور ما تضج به الفضائيات، وتقذف به شبكات المعلومات من الرخيص المسف، والعفن والتفاهات فالله المستعان!(66/11)
نداء إلى أولياء الأمور
أما أولياء أمور النساء من آباء وأزواج فإننا نذكرهم بواجب القوامة على المرأة امتثالاً بقوله سبحانه: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] فعليهم أن يتقوا الله عز وجل، ويقوا أنفسهم ونساءهم وأبناءهم عذاب الله سبحانه، وذلك بالقيام بتربيتهم، ومتابعاتهم، ومراقبتهم، وأطرهم على تعاليم الإسلام، إننا نناشد فيهم غيرتهم على نسائهم، ونخاطب فيهم شهامتهم ورجولتهم ومروءتهم، ذباً عن أعراضهم، وصوناً لمحارمهم، فضلاً عن ديانتهم وأخلاقهم.(66/12)
التزام النساء في الجزيرة وبلاد الحرمين
ألا وإن من الإنصاف المتأصل، وشكر المنعم المتفضل، ما تتميز به بنات الجزيرة المحافظات، وفتيات بلاد الحرمين المصونات، من خصائص وميزات، أهَّلتها لأن تكون فريدة من نوعها، متميزة عن غيرها، شامة بين بنات جنسها تحلياً بالسير على المنهج الإسلامي الصحيح، في وقتٍ تقاذفت فيه المرأة في العالم أمواج الفتن وأعاصير المحن، وما ذاك إلا بتمسك ولاتها وفقهم الله بتعاليم الإسلام، وتأكيدهم التزام المرأة في هذه البلاد المباركة بالمنهج الشرعي، ومنع ما يخالفه من المظاهر والسلوكيات، فهل يعي ذلك كل دعيٍ يخالف منهج شريعتنا، ويصر على الخروج على سياسة ولايتنا وفقها الله، ونصر بها الحق وأهله؟
وأخيراً يا رعاكم الله: هل تجد هذه الكلمات المشفقات آذاناً صاغية، وقلوباً واعية؟ هذا الرجاء والأمل، وعلينا الإخلاص والعمل، ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والحبيب المرتضى، كما أمركم بذلك جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وأفضل الأنبياء والمرسلين، نبينا وحبيبنا وقدوتنا، وسيدنا محمد بن عبد الله رسول رب العالمين وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الرحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا هذه خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين والمستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في الشيشان، اللهم انصرهم في كشمير، اللهم انصرهم في فلسطين وفي كل مكان يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الرحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.(66/13)
نجاة الأمة في التمسك بالسنة
إنه لا سعادة ولا حياة ولا نجاة إلا إذا عرفنا الطريق الحق الذي لا عوج فيه، وهذا الطريق لا يُعرف إلا من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فلا يدخل أحد الجنة ولا ينجو إلا من اعتصم بهديه وقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى وعمل به.(67/1)
أهمية الحديث عن اتباع السنة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، اللهم لك الحمد كما هديتنا للإسلام، ومننت علينا ببعثة خير الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نصب على ربوبيته أعظم الدلائل، وأقام على ألوهيته الآيات الجلائل، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأواخر والأوائل، المبعوث بأكرم السجايا وأشرف الشمائل، صلى الله عليه وعلى آله أولي المكرمات والفضائل، وصحبه الذين أحبوه محبة تفوق محبة النفس والمال والولد والحلائل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وفي نصرة الحق يُجاهد ويناضل، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون! حينما يتعاظم ركام الفتن في الأمة، وتخيم على سمائها الصافية غيوم الغمة، فيلتبس الحق بالباطل، وتخفى معالم الحق على كثيرٍ من أبناء الملة، ويختلط الهوى بالهدى، فإن تقوى الله سبحانه هي التي تنير طريق الهداية، ويُبدد نورها ظلمات الجهل والغواية، من وهبه الله التقوى فقد وهبه نوراً يمشي به على درب النجاة، في سلامة من المؤثرات العقدية والمنهجية، وفي بُعدٍ عن اللوثات الفكرية والسلوكية.
ألا ما أحوج الأمة اليوم إلى أن تُعمر قلوب أبنائها بالتقوى واليقين، ليتحقق لها -بإذن الله- النصر والتمكين.
معاشر المسلمين! قضيتنا الكبرى، التي يجب ألا تُنسى في جديد التحديات، وفي زخم الحوادث والمؤامرات؛ حيث إنها الركيزة العُظمى التي تُبنى عليها الأمجاد والحضارات، بل وتتحقق بها التطلعات والانتصارات، وتخرج بها الأمة من دوامة الصراعات؛ هي أننا أمة عقيدة إيمانية صافية، ورسالة عالمية سامية، أمة توحيد خالص لله، واتباع مطلق للحبيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه القضية الكبرى، هي حديث المناسبة وكل مناسبة، والتذكير فيها موضوع الساعة وكل ساعة إلى قيام الساعة، وإن خيرَ ما عُني به المسلمون، وتحدَّث عنه المصلحون: العقيدة الإيمانية، والسنة المحمدية، والسيرة النبوية.(67/2)
السنة النبوية خير مؤدب
فهي للأجيال خير مربٍ ومؤدب، وللأمة أفضل معلم ومهذب، وليس هناك أمتع للمرء من التحدث عمن يحب، فكيف والمحبوب هو حبيب رب العالمين، وسيد الأولين والآخرين؟ فهو مِنَّةُ الله على البشرية، ورحمته على الإنسانية، ونعمته على الأمة الإسلامية، فبالله ثم بمحمد بن عبد الله قامت شرعة، وشيدت دولة، وصُنِعَت حضارة، وأسست ملة من ملل الهدى الغراء، بُنيت على التوحيد؛ وهي حقيقة نادى بها الحُكماء والعقلاء، وليس هناك أحد من البشر نال من الحب والتقدير ما ناله المصطفى صلى الله عليه وسلم، فباسمه تلهج ملايين الألسنة، وبذكره تهتز قلوب الملايين، ولكنَّ العبرةَ أن يتحول هذا الحب إلى محض اتباع دقيق، لكل ما جاء به عليه الصلاة والسلام، كما قال الحق -تبارك وتعالى- مبيناً معيار المحبة الصادقة: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].(67/3)
الحاجة إلى معرفة السنة في عصر التغريب
إخوة الإيمان! ولم تكن حاجة الأمة في عصر ما، إلى الاقتباس من مشكاة النبوة والسنة المباركة ومعرفة السيرة العطرة، معرفة اهتداء واقتداء؛ أشد إليها من هذا العصر الذي تقاذفت فيه الُأمةَ أمواجُ المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلبت فيه الأهواء، واستحكمت فيه الزعوم والآراء، وواجهت فيه الأمة ألواناً من التصدي السافر، والتحدي الماكر، والتآمر الجائر من قبل أعداء الإسلام الذين رموه عن قوس واحدة.
والذي تولى كبره منهم من لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت؛ من اليهود المعتدين، والصهاينة الغاشمين، ويوالي مسيرتهم دعاة التثليث، وعبدة الصليب، ويشد أزرهم المفتونون بهم، المتأثرون بعفن أفكارهم، وسموم ثقافاتهم، من أهل العلمنة ودعاة التغريب.
ويزداد الأسى حين يجهل كثير من أهل الإسلام حقائق دينهم، وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيص ولا تحقيق، أو يُجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق، وقد صح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أخرجه مسلم في صحيحه.(67/4)
الشمائل النبوية والآداب المصطفوية
أيها الإخوة في الله! يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم! هذه وقفات ومقتطفات مع جانب من أهم جوانب السنة العطرة، والسيرة المباركة، ذلكم هو جانب الشمائل النبوية، والسجايا المحمدية، والآداب المصطفوية، فهي نعيم وينبوع صافٍ متدفق، يرتوي من نميره كل من أراد السلامة من لوثات الوثنية، والنجاة من أكدار الجاهلية، بل هي المنظومة المتألقة، والكوكبة المتلألئة، والشمس الساطعة، والسنى المشرق، والمشعل الوضاء الذي يبدد ركام الظلم والظلام، ولئن فات كثير رؤيته صلى الله عليه وسلم بأبصارهم فإن في تأمل شمائله لعزاء وسلوان، فالمطبقون لشمائله إن لم يصحبوا نفسه أنفاسه صحبوا.
إن فاتكم أن تروه بالعيون فما يفوتكم وصفه وهذي شمائله
مكمل الذات في خَلق وفي خُلق وفي صفات فلا تُحصى فضائله(67/5)
وقفة لمراجعة دراسة الشمائل المحمدية
إخوة العقيدة! إننا بحاجة إلى تجديد المسار على ضوء السنة المطهرة، وتصحيح المواقف على ضوء السنة العطرة، والوقوف طويلاً للمحاسبة والمراجعة، نُريد من مطالعة السنة والسيرة، ما يزيد الإيمان ويُزكِّي السريرة، ويعلو بالأخلاق، ويقوم المسيرة.
يُخطئ كثيرون حينما ينظرون إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته، كما ينظر الآخرون إلى عظمائهم في نواحٍ قاصرة محدودة بعلم أو عبقرية أو حنكة، فرسولنا صلى الله عليه وسلم قد جمع نواحي العظمة الإنسانية كلها، في ذاته وشمائله وجميع أحواله؛ لكنه مع ذلك ليس رباً فيقصد، ولا إلهاً فيعبد، وإنما هو نبي يطاع، ورسولٌ يُتبِّع.
أخرج البخاري في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله} إن من المؤسف حقاً أن بعض أهل الإسلام لم يقدروا رسولهم صلى الله عليه وسلم حق قدره، حتى وهم يتوجهون إليه بالحب والتعظيم، ذلك أنه حب سلبي لا صدى له في واقع الحياة، ولا أثر له في السلوك والامتثال.(67/6)
من شمائله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى التوحيد
أمة الإسلام: تأملوا هديه وشمائله -بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام- في جوانب الدين والدنيا بأسرها، ففي مجال توحيده لربه صدع بالتوحيد، ودعا إليه ثلاث عشرة سنة بـ مكة وعشراً بـ المدينة، كيف لا؟ وهو المنزل عليه قوله سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] {لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:163].
وإن أول واجب على محبيه أن يُعنوا بأمر الدعوة إلى توحيد الله التي قامت عليها رسالته عليه الصلاة والسلام، ومحاذرة كل ما يخدش صحيح المعتقد، وصفو المتابعة، من ضروب الشركيات والبدع والمحدثات.
وفي مجال عبوديته لربه قام من الليل حتى تفطرت قدماه، فيقال له: تفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول: {أفلا أكون عبداً شكوراً} أخرجه الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.(67/7)
أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم ومعاملته لأهله وخدمه
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! وفي مجال الأخلاق تجدوه مثال الكمال في رقة القلب، وسماحة اليد، وكف الأذى، وبذل الندى، وعفة النفس، واستقامة السيرة، كان عليه الصلاة والسلام دائم البشر، سهل الطبع، لين الجانب، ليس بفظٍ ولا غليظ، ولا صخاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يعفو ويصفح.
زانته في الخُلق العظيم شمائل يضرى بهن ويولع الكرماء
وأعظم من ذلك وأبلغ ثناءُ ربه عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
يقول أنس رضي الله عنه: [[ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أحسن من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أُفٍّ قط، ولا قال لشيء فعلته: لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله: ألا فعلت كذا]].
تلك لعمر الحق عراقة الخلال، وسمو الخصال، وكريم الشمائل، وعظيم الفضائل، فسبحان من رفع قدره، وشرح صدره، وأعلى في العالمين ذكره:
وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد
فهل من يتغنون اليوم بسيرته يقتفون أثره في هديه وشمائله؟
وهناك صفحة أخرى -يا رعاكم الله- في معاملاته لأصحابه وأهل بيته وزوجاته، يقول صلى الله عليه وسلم: {أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخياركم خياركم لنسائهم} أخرجه أحمد وأهل السنن، وهكذا في سياسة الدولة الإسلامية، وفي عبادته لربه، وفي نفقته وبذله، وفي قوته وجهاده، وحرصه على أداء رسالة الله، وتبليغ دعوة ربه تبارك وتعالى.(67/8)
حكمته ورفقه بالناس في الدعوة
وهاكم -رعاكم مولاكم- أنموذجاً على حكمته في الدعوة ورفقه بالمدعوين، ورحمته بالناس مسلمين وغير مسلمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
ومراعاته لحقوق الإنسان، بل ورفقه حتى بالحيوان في وقت تتغنى فيه حضارة اليوم بدوس كرامة الإنسان، وراعيةً أحط حيوان!! والله المستعان.
ويتجلى هذا الأنموذج الرائع في قصة الأعرابي الذي بال في ناحية المسجد حين نهره الصحابة -رضي الله عنهم- فقال صلى الله عليه وسلم: {دعوه لا تزرموه - أي: لا تنهروه-}، وقال لهم صلى الله عليه وسلم: {إنما بُعثتم مبشرين ولم تبعثوا معسرين} وأرشده برفق وحكمة، وكانت النتيجة أن قال الأعرابي: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً، متفق عليه.
وفي قصة ثمامة بن أثال حينما أسر وربط في سارية المسجد وهو مشرك وكان سيد قومه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به ويقول: {ماذا عندك يا ثمامة؟ فيقول: عندي خير يا محمد! إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت، فيقول صلى الله عليه وسلم بعد أن أكرمه ورفق به، وأحسن معاملته: أطلقوا ثمامة، فانطلق ثمامة فاغتسل ثم دخل المسجد وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، والله يا محمد! ما كان على وجه الأرض وجه أبغض إلي من وجهك، فقد أصبح وجهك اليوم أحب الوجوه كلها إليّ، وما كان من دينٍ أبغض إليّ من دينك، وأصبح دينك اليوم أحب الدين كله إليّ، والله ما كان من بلدٍ أبغض إليّ من بلدك، فأصبح بلدك أحب البلاد كلها إليّ} خرجه الشيخان.
الله أكبر! تلك آثار الدعوة بالرفق والرحمة والحسنى، والبعد عن مسالك العنف والغلظة والفظاظة، وهو درس بليغ للدعاة إلى الله إلى قيام الساعة:
بنيت لهم من الأخلاق ركناً فخانوا الركن فانهدم اضطراباً
وكان جنابهم فيها مهاباً وللأخلاق أجدر أن تهاباً
ولما قيل له عليه الصلاة والسلام: ألا تدعو على المشركين؟
قال: {إني لم أبعث لعاناً، وإنما بعثت رحمة للعالمين} أخرجه مسلم.
وقال لهم: {ما تظنون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيراً أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، اذهبوا فأنتم الطلقاء}.(67/9)
دعوة إلى إحياء السنة
ألا فلتعلم الإنسانية قاطبة، والبشرية جمعاء، هذه الصفحات الناصعة، من رحمة الإسلام ورسول الإسلام والسلام عليه الصلاة والسلام، الذين يجدون ذكر شمائله في توراة موسى، وفي بشارة عيسى؛ وليعلم من يقف وراء الحملات المغرضة ضد الإٍسلام، ورسول الإسلام، وأهل الإسلام، ما يتمتع به الإسلام من مكارم وفضائل، ومحاسن وشمائل، ومدى البون الشاسع، بين عالميتهم الآسنة، وعولمتهم المأفونة، في إهدار للقيم الإنسانية، وإزراء بالمثل الأخلاقية.
وهل تدرك الأمة الإسلامية اليوم الطريقة المثلى للدعوة إلى دينها، وإحياء سنة رسولها صلى الله عليه وسلم، إحياءً عملياً حقيقياً لا صورياً وشكلياً.
إن حقاً على أهل الإسلام وهم المؤتمنون على ميراث النبوة، أن تصقلهم الوقائع، وتربيهم التجارب، إذ لا تزال الفتن والخطوب مدلهمة على هذه الأمة.
وإذا كانت الأمة في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها تتحدث عن شمائل المصطفى صلى الله عليه وسلم فكيف يطيب الحديث ويحلو الكلام ومقدسات المسلمين يعيث فيها أعداء الإسلام من اليهود المعتدين؟
وهاهم يُصعدون عدوانهم وإرهابهم، يجدّون في إذكاء نار الفتنة في صلف ورعونة على سمع العالم وبصره، تحدياً لمشاعر المسلمين في مسرى سيد الثقلين، وثالث المسجدين الشريفين أقر الله أعين المؤمنين بفك أسره من اليهود الغاصبين، وجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.
كيف يجمل الحديث وأعداء المسلمين -من الملحدين- يُصرون على صلفهم وعدوانهم ضد إخواننا وحرماتنا في الشيشان المجاهدة؟
كيف يحلو الكلام والهندوس الوثنيون يُمعنون في حقدهم السافر، ضد إخواننا ومشاعرنا في كشمير المسلمة، مما ينذر بخطرٍ داهم، وحربٍ ضروس في القارة الهندية برمتها، مما يتطلب ضبط النفس، والإصغاء إلى لغة الحوار، وصوت العقل والمنطق، ورد الحقوق إلى أصحابها؟
كيف وكيف؟؟ وكثير من قضايانا الإسلامية معلقة، وأوضاع أمتنا متردية إلا من رحم الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن الأمة اليوم بأمس الحاجة في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخها إلى التمسك الصحيح بدينها وسنة رسولها صلى الله عليه وسلم في محبةٍ وتآلف واعتصام، وفي سماحة ويُسرٍ ووئام، وبذلك تتحقق وحدة الصف، وجمع الشمل، وتوحيد الكلمة على منهج الكتاب والسنة لفهم سلف الأمة رحمهم الله، فلن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وبذلك تنكشف الغمة عن هذه الأمة، وما ذلك على الله بعزيز، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل خطيئة وإثم؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(67/10)
الاعتصام بالكتاب والسنة نجاة عند المتغيرات
الحمد لله الذي أبان الطريق وأوضح المحجة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل رسله مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة، وأشهد أن نبينا وحبينا محمداً عبد الله ورسوله، كساه من حلل النبوة ما زاده مهابة وبهجة، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين فدوه بكل ما لديهم من نفس ومهجة، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما أمَّ هذا البيت زائر واعتمره وحجه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! ورووا قلوبكم وأرواحكم من شمائل نبيكم صلى الله عليه وسلم، وتأملوا خصاله العظيمة، وشمائله الكريمة، واربطوا أنفسكم وناشئتكم وأسركم بها، رباطاً محكماً وثيقاً، يسمو عن التخصيص في أوقات، والتعيين في مناسبات؛ فليس هذا من منهج السلف الثقات.
واعلموا -رحمكم الله- أن هذه الشمائل المصطفوية، والسجايا النبوية، ينبغي أن يكون لها تأثير عملي في إصلاح المنهج، وأثر تطبيقي في إحكام المسيرة والبناء، في عصر كثرت فيه المتغيرات، وتسارعت فيه المستجدات، عبر كثيرٍ من القنوات والشبكات، فالسنة خير عاصم من شرور هذه القواصم.
وإن الأمة اليوم في حاجة أكثر من أي زمن مضى إلى الاتحاد على منهج الكتاب والسنة، حتى تتلقى الجهود في ميدان واحد، نحو الهدف السامي الذي يسعى إليه كل مسلم، لقيادة سفينة الأمة إلى بر الأمان، وشاطئ السلام، بعيداً عن كل ما يُعكِّر صفو ورودها، وإن كل مسلم على ثغر من ثغور الإسلام في خدمة دينه وعقيدته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بحسب مكانه ومسئوليته، فأروا الله -أيها المسلمون- من أنفسكم خيراً.
سيروا بخطى متوازنة، يتوجها العلم الشرعي الذي من خلاله يبنى الوعي الواقعي، لتأخذ هذه الأمة دورها القيادي، ومكانها الريادي من جديد في مقدمة الركب، ولتقود البشرية الحيرى مرة أخرى إلى مواطن العز والشرف، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الحبيب المصطفى والرسول المجتبى، صاحب الحوض المورود واللواء المعقود والمقام المحمود.
من بلغ العلا لجلاله سطع الدجى لجماله
حسنت جميع خصاله صلوا عليه وآله
صلوا عليه صلاة متبع له، محب له، مقتفٍ آثاره، متمسك بسنته، فلا إطراء ولا جفاء، كما أمركم بذلك ربكم جلَّ وعلا، فقال تعالى قولاً كريماً في محكم التنزيل، وصدق القيل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلَّ على نبينا محمد ما ذكره الذاكرون، وصلَّ عليه ما غفل عن ذكره الغافلون، اللهم أحينا على محبته، وأمتنا على ملته، وثبتنا على سنته، وأكرمنا بشفاعته، وأوردنا حوضه، واسقنا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً، وأنلنا شرف صحبته في عليين، مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا.
اللهم وفقه لما تُحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه ونائبه إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد، يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك والمستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان.
إلهنا عز جارك، وجلَّ ثناؤك، وتقدَّست أسماؤك، نسألك يا من لا يخلف وعدك، ولا يهزم جندك، أن تنصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في فلسطين على اليهود المعتدين، والصهاينة الغاصبين، اللهم إن اليهود قد طغوا وبغوا وأرهبوا وأسرفوا في الطغيان وأفسدوا، اللهم عليك بهم فإنهم لا يُعجزونك، اللهم شتت شملهم، وفرِّق جمعهم، واجعلهم غنيمة للمسلمين يا رب العالمين!
اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين، اللهم وفق أبناءنا وفتياتنا وطلابنا وطالباتنا، اللهم بلغهم فيما يرضيك آمالهم، وحقق في طاعتك رغائبهم، وأنجح مقاصدهم، واجعل النجاح والتوفيق حليفهم في الدنيا والآخرة.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم فرج هم المهمومين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(67/11)
ظاهرة العزوبة والعنوسة
إن من المسلَّم به أن الأسرة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع، فإذا ما فسدت هذه اللبنة أو انعدمت فسد المجتمع أو عدم، وما نراه من ظاهرة العزوبة إنما سببه الرئيسي هو ما دخل على المجتمع من أفكار غريبة، ولوثات فكرية موبوءة، وأيضاً ما يقوم به أولياء الأمور من المغالاة في المهور، والتقيد بعادات وتقاليد مخالفة للشرع.(68/1)
خطر تفكك النسيج الاجتماعي
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فالق الإصباح، شرع لعباده النكاح، وحرَّم عليهم السفاح، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، إمام الدعاة ورائد الإصلاح، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي التقى والصلاح، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما تعاقب المساء والصباح، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فإنها سبب التوفيق والنجاح، وطريق العز والصلاح، وينبوع الخير والفلاح.
أيها المسلمون: إن النسيج الاجتماعي المترابط في الأمة دعامةٌ من دعائم سعادتها واستقرارها، وركيزة من ركائز نموها وازدهارها، والمنظومة الاجتماعية الخيرة في المجتمعات قاعدة كبرى في إرساء حضارتها وبناء أمجادها، والخلل الاجتماعي في أي أمة نذير خطرٍ يُهدد كيانها لما يحدثه من صدوع عميقة في بنائها الحضاري، ونظامها الاجتماعي، مما يُهدد البنية التحتية الاجتماعية، ويستأصل شأفتها.
والمتأمل في الواقع الاجتماعي لكثيرٍ من المجتمعات يُدرك ما أحدثته المتغيرات الحضارية من نقلة نوعية في حياة الأفراد والأسر والبيوتات، انعكست آثارها السلبية على كافة المستويات، لا سيما في القضايا الاجتماعية، فبعد أن كانت قضايا الأمة الاجتماعية متسمة باليسر والسهولة انقلبت إلى صورٍ جديدة متسمة بالعنت والمشقة والتعقيد، لتظهر أنماطٌ جديدة وظواهر خطيرة يُخشى أن تسهم في خلخلة النظام الاجتماعي في الأمة، ويأتي الانفتاح العالمي، والتواصل الحضاري، بين الشعوب والمجتمعات ليسهم في إبرام هذه الظواهر وإذكاء سعير هذه المظاهر؛ مما يتطلب التأكيد على التمسك بثوابت الأمة وأصولها وأخلاقها وقيمها ونظمها.
ولعل من أبرز الظواهر والسلبيات التي أذكتها المتغيرات والمستجدات: تلك الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي تعصف بكيان الأسر، وتهدد تماسك المجتمع، حتى تقلصت وظائف البيت، وضعفت مسئوليات الأسرة، وكثرت ظواهر العقوق، وتخلَّى كثير من الأبناء والآباء عن أداء الحقوق، وعلت نسبة العنوسة، وكثرت المشكلات الاجتماعية، وارتفعت معدلات الطلاق، وتعددت أسباب الانحراف والجريمة والانتحار والمخدرات والمسكرات، وجنوح الأحداث، وتشرد الأطفال والعنف العائلي، وتفككت كثيرٌ من العلاقات الاجتماعية، وضعف تواصل الأرحام وذوي القربى، وسادت القطيعة والجفاء، وعَمَّ الحقد والحسد والبغضاء، وأسندت مهمة البيت وتربية النشء للخدم والسائقين، وضعفت أواصر المودة ووشائج الأخوة، وانتشرت ظواهر البطالة والاستهلاك التفاخري بين مطرقة الديون وسندان التقسيط، وشاعت قيم الآحادية والأنانية محل القيم الجماعية والإيثارية، وأهملت قضايا المرأة في حجابها وعفافها، واشتكت كثير من المجتمعات من تبرجها وسفورها، مما يشكل أزمة اجتماعية وتربوية محدقة، ويفرز أجيالاً جديدة وفق معطيات ثقافية مخالفة لعقيدتنا، وقيمٍ مخالفة لمجتمعاتنا المحافظة، مما يتطلب من الغيورين إيلاء القضايا الاجتماعية في الأمة حقها من العناية والتركيز والاهتمام والرعاية.(68/2)
أسباب تفشي ظاهرة العزوبة والعنوسة
معاشر المسلمين! ولنقف وقفةً مع إحدى أبرز قضايانا الاجتماعية المتعلقة بقضايا الزواج لنُشخِّص فيها ظاهرة من أخطر الظواهر الأسرية التي لها آثارها وأخطارها على الفرد والمجتمع والأمة، إنها ظاهرة ما يعرف بالعزوبة والعنوسة التي يئن من لأوائها فئام من الشباب والفتيات.
لقد أرصدت دراسات اجتماعية معاصرة نسبة الإحصائيات المذهلة في بعض المجتمعات لهذه الظاهرة، حيث بلغت في مجتمعٍ واحد (مليوناً ونصف مليون) من العوانس تنتظر كل واحدة منهن فارس أحلامها، ومن المحتمل أن يزيد العدد خلال خمس سنوات قادمة إلى أربعة ملايين أو أكثر لو استمرت معدلات الزيادة بنفس الوتيرة، ولا شك أنه مؤثر مزعج ينذر بشؤمٍ خطير، وضررٍ كبير، ما لم تتدارك هذه الظاهرة، وتشخص داءً ودواءً بحلولٍ عملية تطبيقية لا نظرية فحسب.
أمة الإسلام: إن ظاهرة العنوسة في المجتمع وعزوف كثير من الشباب والفتيات عن الزواج له مضاره الخطيرة، وعواقبه الوخيمة على الأمة بأسرها، سواء أكانت هذه الأخطار والآثار نفسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم أخلاقية وسلوكية، لا سيما في هذا الزمان التي كثرت فيه أسباب الفتن، وتوفرت فيه السبل المنحرفة لقضاء الشهوة، فلا عاصم من الانزلاق في مهاوي الرذيلة والردى والفساد الأخلاقي إلا التحصن بالزواج الشرعي، فالقضية إذاً -أيها الغيورون- قضية فضيلة أو رذيلة.
ومن المؤسف! أن يصل بعض الشباب إلى سن الثلاثين أو أكثر وهو لم يُفكِّر بعد في موضوع الزواج، وما انفتحت أبواب الفساد إلا لما وضعت العراقيل أمام الراغبين في الزواج، بل لم ينتشر الانحلال وتنتشر الدعارة والعلاقات المشبوهة، والسفر إلى جهاتٍ موضوعة ومستنقعاتٍ محمومة إلا بسبب تعقيد أمور الزواج؛ لا سيما مع غلبة ما يخدش الفضيلة ويقضي على العفة والحياء مما يُرى ويقرأ ويسمع من ألوان الفساد الذي قذفت به المدنية الحديثة، وحدِّث ولا كرامة! عما تبثه القنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية التي تفجر براكين الجنس، وتزلزل ثوابت الغريزة، وتوجه ضد قيم الأمة وأخلاقها، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(68/3)
تعلق الشباب بسراب تأمين المستقبل
معاشر المسلمين! وإذا التمست أسباب هذه الظاهرة نجد أن جملة منها لا تعدو أن تكون رواسب مرحلة تأريخية مرت بها كثيرٌ من المجتمعات الإسلامية، عقبها غزوٌ فكري كانت له آثارٌ خطيرة على الأوضاع الاجتماعية في الأمة؛ مما أبرز عوامل نفسية وثقافية واقتصادية، منها ما يرجع إلى الشباب والفتيات، ومنها ما يرجع إلى الأولياء، ومنها ما يعود إلى المجتمع بأسره.
فأما الشباب والفتيات فبعضهم يتعلق بآمالٍ وأحلام، وخيالات وأوهام، وطموحات ومثاليات، هي في الحقيقة من الشيطان، فبعضهم يتعلق بحجة إكمال الدراسة، زاعمين أن الزواج يحول بينهم وبين ما يرومون من مواصلة التحصيل، فمتى كان الزواج عائقاً عن التحصيل العلمي؟
بل لقد ثبت بالتجربة والواقع أن الزواج الموفق يُعين على تفرغ الذهن، وصفاء النفس، وراحة الفكر، وأنس الضمير والخاطر، ونقولها بصراحة: ماذا تنفع المرأة بالذات شهاداتها العليا إذا بقيت عانساً قد فاتها ركب الزواج؟! وأصبحت أيماً لم تسعد في حياتها بزوجٍ وأولاد يكونون لها زينة في الحياة، وذخراً لها بعد الوفاة؟!
وكم من امرأة فاتها قطار الزواج، وذهبت نضارتها، وذبلت زهرتها، وتمنت بعد ذلك تمزيق شهاداتها لتسمع كلمة الأمومة على لسان وليدها، ولكن بعد فوات الأوان؟!
وكم هي الصيحات والزفرات الحراء التي أطلقت من المجربات فأين المتعقلات؟!
إن هذه المشكلة ومثيلاتها مردها إلى غبش في التصور، وخللٍ في التفكير، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها إفراز ضعف المعتقد، وقلة الديانة، والخلل في الموازين، وسوء الفهم لأحكام ومقاصد الشريعة الغراء.
إنه النظر المشوش حول المستقبل، والتخوف الذي لا مبرر له، والاعتماد على المناصب والماديات، والتعلق بالوظائف والشهادات، وتأمين فرص العمل زعم! مما يزعزع الثقة بالله والرضا بقضائه وقدره، ويضعف النظر المتبصر، والفكر المتعقل.
إن حقاً على الشباب والفتيات أن يبادروا عملياً إلى الزواج متى ما تيسر لهم أمره، وألا يتعلقوا بأمور مثالية تكون حجر عثرة بينهم وبين ما ينشدون من سعادةٍ وفلاح، ويقصدون من خير ونجاح، وألا يتذرعوا بما يُعبِّر عنه بتأمين المستقبل، فالله عز وجل يقول: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32].
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام أعلم أني أموت في آخرها يوماً ولي طولٌ على النكاح؛ لتزوجت مخافة الفتنة]]، ويقول الإمام أحمد رحمه الله في رواية المروذي: " ليست العزوبة من أمر الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام ".(68/4)
عضل النساء عن زواج الأكفاء
إخوة الإيمان! ومن الأسباب الخطيرة في انتشار هذه الظاهرة واستفحالها عضل النساء من زواج الأكفاء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا أتاكم من ترضون خلقه ودينه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض} خرَّجه الترمذي، وابن ماجة، والحاكم بسند صحيح.
فهناك بعض الأولياء هداهم الله قد خان الأمانة التي حملوها في بناتهم وفتياتهم بمنعهن من الزواج من الأتقياء ديناً وخلقاً وأمانة، وقد يتقدم إليهن الخاطب الكفء فيماطلونه ويعتذرون له بأعذار واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية، ويسألون عن ماله ووظيفته ووجاهته ومكانته، ويغفلون أمر دينه وخلقه وأمانته، بل لقد وصل ببعض الأولياء الجشع والطمع أن يعرض ابنته سلعة للمساومة وتجارة للمزايدة والعياذ بالله، وما درى هؤلاء المساكين أن هذا عضلٌ وظلمٌ وخيانة، وقد تكون مدرسة وموظفة فيطمع في مرتبها.
ألم يعلم هؤلاء بالاعترافات والقصص الواقعية بضحايا هذه الظاهرة؟
ألم يسمعوا الرسائل المؤلمة المفجعة التي سطرتها دموع هؤلاء؟
إنها صرخة نذير في آذان الآباء والأولياء، ورسالة عاجلة إليهم أن يتداركوا شرفهم وعفتهم وعرضهم قبل فوات الأوان.
أين الرحمة في هؤلاء الأولياء؟ كيف لا يُفكِّرون بالعواقب؟ أيسرهم أن تلطخ سمعتهم مما يندى له جبين الفضيلة والحياء؟
سبحان الله!! كيف يجرؤ مسلمٌ غيور يعلم فطرة المرأة وغريزتها على الحكم عليها بالسجن المؤبد إلى ما شاء الله؟
ولو عقل هؤلاء لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكفاء، فهذا عمر رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان رضي الله عنهم أجمعين.
وهذا سعيد بن المسيب -رحمه الله- يزوج تلميذه أبا وادعة، وهذا ديدن السلف في عصورهم الزاهية.
إنَّ تضييق فرص الزواج علة خراب الديار، به تقض المضاجع، وتكون الديار بلاقع، وبه يُقتل العفاف، وتوأد الفضائل، وتسود الرذائل، وتهتك الحرمات، وتنتشر الخبائث والسوءات.
أيها الأولياء: اتقوا الله فيمن تحت أيدكم من البنات، بادروا بتزويجهن متى ما تقدم الأكفاء في دينهم وخلقهم، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير، وعضل النساء ورد الأكفاء فيه جناية على النفس، وعلى الفتاة، وعلى الخاطب، وعلى المجتمع بأمته، والمعيار كفاءة الدين، وكرم العنصر، وطيب الأرومة، وزكاء المعدن، وسلامة المحضن، وحسن المنبت، وصدق التوجه: {فاظفر بذات الدين تربت يداك}.(68/5)
غلاء المهور
أمة الخير والفضيلة! وسببٌ آخر لا يقل أهمية عن سابقه ألا وهو: مشكلة غلاء المهور، والمبالغة في الصداق في بعض الأوساط؛ حتى صار الزواج عند بعض الناس من الأمور المستحيلة، وبلغ المهر في بعض البقاع حداً خيالياً لا يُطاق إلا بجبال من الديون التي تثقل كاهل الأزواج.
ويؤسف كل غيور أن يصل الجشع ببعض الأولياء أن يطلب مهراً باهظاً من أُناسٍ -يعلم الله- حالهم لو جلسوا شطر حياتهم في جمعه لما استطاعوا.
فيا سبحان الله! أإلى هذا الحد بلغ الطمع وحب الدنيا ببعض الناس؟
وكيف تعرض المرأة الحرة الكريمة المحصنة العفيفة سلعة للبيع والمزايدة وهي أكرم من ذلك كله؛ حتى غدت كثيرات مخدرات في البيوت، حبيساتٍ في المنازل، بسبب ذلك التعنت والتصرف الأرعن.
إن المهر في الزواج -يا رعاكم الله- وسيلة لا غاية، وإن المغالاة فيه لها آثارٌ سيئة على الأفراد والمجتمعات لا تخفى على العقلاء من تعطيل الزواج أو الزواج من مجتمعاتٍ أخرى مخالفة للمجتمعات المحافظة، مما له عواقب وخيمة، فرب لذة ساعة تعقبها حسرات إلى قيام الساعة.
ولم يقف الجشع في بعض الناس عند هذا الحد، بل تعداه إلى ما هو أبعد من ذلك مما هو خروج عن منهج السلف الصالح رحمهم الله، يقول الفاروق رضي الله عنه: [[ألا لا تغالوا في صداق النساء! فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولاكم بها]] وقد زوج النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً بما معه من القرآن، وقال لرجل: {التمس ولو خاتماً من حديد}، وتزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب.
الله المستعان! كيف بحال المغالين اليوم؟ أما علم أولئك أنهم مسئولون أمام الله عن أمانتهم ورعاياهم؟
هل نُزِعَت الرحمة من قلوبهم؟ ولا تنزع الرحمة إلا من شقي.
أمة الإسلام: وعاملٌ مهمٌ في رواج هذه الظاهرة: ألا وهو ما أُحيطت به بعض الزيجات من تكاليف باهظة، ونفقات مذهلة، وعاداتٍ اجتماعية، وتقاليد وأعراف جاهلية، فرضها كثيرٌ من الناس على أنفسهم تقليداً وتبعية، مفاخرة ومباهاة، إسرافاً وتبذيراً، فلماذا كل هذا يا أمة الإسلام؟
فاتقوا الله عباد الله! وتناصحوا فيما بينكم، وتعقلوا كل التعقل في حل قضاياكم الاجتماعية، لا سيما قضايا الزواج، ولا تتركوا الأمر بأيدي غيركم من السفهاء، والدعوة موجهة للمصلحين، والوجهاء، والعلماء والأثرياء، وأهل الحل والعقد في الأمة، أن يكونوا قدوة لغيرهم في هذا المجال، فالناس تبعٌ لهم، وعلى وسائل الإعلام بكافة قنواتها نصيبٌ كبيرٌ في بث التوعية والتوجيه في صفوف أبناء المجتمع لعلاج هذه المشكلات الاجتماعية الكبيرة، واقتفاء هذه الظواهر الخطيرة.
وأنتم أيها الإخوة والأخوات! يا من ابتليتم بهذه الظاهرة صبراً صبراً، وثباتاً واستعفافاً، ورضاً بقضاء الله وقدره، وعملاً بالأسباب الشرعية، وفتحاً لآفاق الآمال الكبرى، فما عند الله خيرٌ وأبقى.
وأنتم أيها الآباء والأولياء! الأمل فيكم كبير، إننا لمتفائلون كل التفاؤل أن تفتحوا قلوبكم، وتستجيبوا لما فيه صلاح أنفسكم وأبنائكم ومجتمعاتكم، وكان الله في عون العاملين المخلصين لما فيه صلاح دينهم وأمتهم.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.(68/6)
علاج ظاهرة العزوبة والعنوسة
الحمد لله خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً وكان ربك قديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لم يزل بعباده خبيراً بصيراً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله! وبعد تشخيص الداء يأتي وصف الدواء، وإن الحلَّ والعلاج لظاهرة العزوبة والعنوسة في المجتمع يكمن في تقوية البناء العقدي في الأمة، والتربية الإيمانية للأجيال من الفتيان والفتيات، ونشر القيم الأخلاقية في المجتمع -لا سيما في البيت والأسرة- ومعالجة الأزمات والعواصف والزوابع التي تُهدد كيان المجتمع، وتيسير أمور الزواج، وتخفيف المهور، وتزويج الأكفاء، وترسيخ المعايير الشرعية لاختيار الزوجين، ومجانبة الأعراف والعادات والتقاليد الموروثة والدخيلة.
وتحقيق التعاون بين أبناء المجتمع، وكذا قيام وسائل الإعلام بواجبها التربوي والتوجيهي، فينبغي العناية بجمعيات إعانة الشباب على الزواج، والدلالة عليه، ومنحها فرصاً كبرى في أداء مهمتها العظمى، وكذا دعم ذوي اليسار لها، وأن يكون الوجهاء قدوة لغيرهم في هذا المجال، وكذا الاهتمام بالقضايا الاجتماعية عبر مؤسسات خيرية كبرى، وهيئات خيرية عليا.
وثمة موضوعٌ لعلاج هذه الظاهرة: ألا وهو ضرورة أن تعيد المجتمعات النظر في قضية تعدد الزوجات، على حسب الضوابط الشرعية، ومراعاة الحكمة التشريعية، فمن للعوانس والأرامل والمطلقات وذوات الأعذار والاحتياجات الخاصة؟ إنه تعدد المودة والرحمة والإحسان والعدل لا الظلم والتسلط والحيف والجور، لا سيما للزوجة الأولى، وكم يسمع من الشكاوى في ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من كان له زوجتان فمال إلى إحداهما دون الأخرى جاء يوم القيامة وشقه مائلٌ} أي: ساقط.
رواه أحمد وأصحاب السنن.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- واتقين الله إماء الله، ثم صلوا وسلموا جميعاً على الحبيب رسول الله، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم جلَّ في علاه، فقال تعالى قولاً كريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن الأئمة الأربعة الخلفاء: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر أصحاب نبيك أجمعين، وعن الطاهرات أمهات المؤمنين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه ونائبه إلى ما فيه صلاح البلاد والعباد يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بعبادك فتنةً فاقبضنا إليك غير مفتونين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء، والربا، والزنا، والزلازل، والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان.
اللهم عليك باليهود المعتدين، وسائر الكفرة المعاندين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الرحمين!
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(68/7)
الزواج العوائق والحلول
الزواج أمر تقتضيه الفطرة قبل أن تحث عليه الشريعة وتتطلبه الطباع السليمة والفطرة المستقيمة؛ لأنه حصانة وابتهاج، وسكن وأنس واندماج، به تتعارف القبائل، وتقوى الأواصر، وهو آية من آيات الله وسنة من سنن رسله، ولكن الزواج في هذا العصر أضحى مشكلة اجتماعية خطيرة، تستوجب الحلول السريعة؛ وذلك بسبب ما يحدث من العقبات والعراقيل من العادات والظواهر السيئة التي تحول دون الزواج.(69/1)
مكانة الزواج وبعض حكمه وأسراره
الحمد لله جعل لكل شيء قدراً، وأحاط بكل شيءٍ خبراً، وأسبل على الخلائق رعايته ستراً، أحمده تعالى على نعمائه شكراً، وأسلم لقضائه وقدره صبراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله إلى البشرية عذراً ونذراً، فدعا إلى الله سراً وجهراً، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أكرِم بهم في نصرة الدين نصراً، ونشره نشراً، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وأدم لهم أجراً.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فإنها أعظم الوصايا طراً، وأنعم بها عدة وذخراً.
أيها المسلمون: لقد اقتضت حكمة الحكيم الخبير سبحانه حفظ النوع البشري، وبقاء النسل الإنساني؛ إعماراً لهذا الكون الدنيوي، وإصلاحاً لهذا الكوكب الأرضي، فشرع بحكمته -وهو أحكم الحاكمين- ما ينظم العلاقات بين الجنسين الذكر والأنثى، فشرع الزواج بحكمه وأحكامه، ومقاصده وآدابه، إذ الزواج ضرورة اجتماعية لبناء الحياة، وتكوين الأسر والبيوتات، وتنظيم أقوى الوشائج وأوفق العلاقات، واستقامة الحال، وهدوء البال، وراحة الضمير، وأنس المصير.
كما أنه أمرٌ تقتضيه الفطرة قبل أن تحث عليه الشرعة، وتتطلبه الطباع السليمة، والفطر المستقيمة إنه حصانة وابتهاج، وسكنٌ وأنسٌ واندماج كم خفف هماً، وكم أذهب غماً به تتعارف القبائل، وتقوى الأواصر فيه الراحة النفسية، والطمأنينة القلبية، والتعاون على أعباء الحياة الاجتماعية، ويكفيه أنه آيةٌ من آيات الله الدالة على حكمته، والداعية إلى التفكر في عظيم خلقه وبديع صنعه: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21].
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء} خرَّجاه في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ويقول صلى الله عليه وسلم: {تزوجوا الودود الولود فإني مكاثرٌ بكم الأمم يوم القيامة} خرَّجه أبو داود والنسائي وغيرهما.
الزواج من سنن المرسلين قال الله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] يقول عمر لـ قبيصة رضي الله عنهما: [[ما يمنعك عن الزواج إلا عجزٌ أو فجور]] ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[لو لم يبقَ من أجلي إلا عشرة أيام، ولي طولٌ على النكاح لتزوجت كراهية أن ألقى الله عزباً]] ويقول الإمام أحمد رحمه الله: ليست العزوبة من الإسلام في شيء، ومن دعاك إلى غير الزواج دعاك إلى غير الإسلام.(69/2)
مشكلات الزواج
معاشر المسلمين والمسلمات: إذا كانت هذه شذرة من مكانة الزواج وآثاره، وتلك بعض حكمه وأسراره، فما بال كثيرٍ من الناس يشكو ويتبرم، وما بال المشكلات الاجتماعية تزداد وتتفاقم، والأدواء الأسرية تكثر وتتعاظم؟! حتى لقد أضحى أمر الزواج من كونه قضية شرعية وضرورة بشرية، إلى مشكلة اجتماعية خطيرة، من حيث ما أحدث فيه مما لا يمت إليه بصلة، ولا يرتبط به شرعاً ولا عقلاً لقد كثر الحديث عن مشكلات الزواج، وطفحت فيه الكتابات والمقالات، وبحت حناجر الغيورين على مجتمعهم من التحذير مما يصاحب كثيراً من الزيجات من المشكلات والتعقيدات، بل المحرمات والمخالفات، ناهيكم عن الطقوس والشكليات، والتفاخر والمباهاة، والإغراق في الكماليات.
إخوة الإسلام: ولما كانت هذه المشكلة من صميم الحياة الاجتماعية، وتتعلق بحياة كل فرد وأسرة في المجتمع على مختلف الظروف والمستويات، وحيث أنها كذلك لا تزال موجودة متجددة، تتقدم الأعوام وتزداد العراقيل، وتمضي السنوات وتكثر العقبات، وكأن الطرق قد سدت أمام الراغبين في الزواج، والحواجز قد وضعت في طريقهم، والعوائق تنوعت وتعددت في دروبهم، حتى ظهر الحال بمنظرٍ ينذر بخطر العواقب وسوء المنقلب، وحتى غدت قضايا الزواج ملحة تحتاج لعلاجٍ فوري، وتصدٍ جدِّي من المسلمين جميعاً، لا سيما من ذوي المسئولية ودعاة الإصلاح؛ لذا كان لا بد من طرحها بإلحاح؛ قياماً بالواجب الإسلامي، وشعوراً بمأساة كثيرٍ من الشباب العاجزين عن الزواج، والفتيات العوانس في البيوت، الذين أصبحت تكاليف الزواج تمثل شبحاً مخيفاً لهم، وعقبة كئوداً في حياتهم، وهم لا يزالون يصطلون بنار الشهوة، ويكتوون بلظاها، ويئنون من لأوائها.
إخوة العقيدة: لقد أبانت شريعتنا الغراء المنهج الواضح في هذه القضية المهمة، فقد جاءت بتيسير أمور الزواج والحث على الاقتصاد فيه، روى الإمام أحمد رحمه الله من حديث عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن أعظم النساء بركة أيسرهن مؤنة} فالذين يخالفون هذا المنهج بالتأخير والتسويف، والإثقال والتعقيد، إنما يخالفون شرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم القولية والفعلية.
وأستميحكم -يا رعاكم الله- أن أشير إشارات عاجلة إلى بعض الظواهر في هذه القضية المهمة، مع عدد من المشكلات والعقبات في طريق الزواج، مع إلماحةٍ يسيرة إلى آثارها السيئة على الفرد والمجتمع، وبيان المنهج السليم والعلاج القويم؛ علها تجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، وعل فيها تشخيصاً للداء، ووصفاً للدواء، ومن الله أستلزم العون والتوفيق.(69/3)
مشكلة العنوسة والعزوف عن الزواج
الظاهرة الأولى وهي أول هذه المشكلات: ألا وهي ظاهرة العنوسة، وعزوف كثير من الشباب من الجنسين عن الزواج، بتعلقهم بآمالٍ وأحلام، وخيالاتٍ وأوهام، وطموحاتٍ ومثاليات، هي في الحقيقة من الشيطان فبعضهم يتعلق بحجة إكمال السُّلَّم التعليمي مثلاً، زاعمين أن الزواج يحول بينهم وبين ما يرومون من مواصلة التحصيل، وتلك شبهة واهية، فمتى كان الزواج عائقاً عن التحصيل العلمي؟ بل لقد ثبت بالتجربة والواقع أن الزواج الموفق يعين على تفرغ الذهن وصفاء النفس، وراحة الفكر وأنس الخاطر، ثم نقولها بصراحة: ماذا تنفع المرأة -بالذات- شهاداتها إذا بقيت عانساً قد فاتها ركب الزواج، وأصبحت أيماً لم تسعد في حياتها بزوجٍ وأولاد، يكونون لها زينة في الحياة وذخراً لها بعد الوفاة؟!
وكم من امرأة فاتها قطار الزواج، وذهبت نظارتها، وذبلت زهرتها، وتمنت بعد ذلك تمزيق شهاداتها لتسمع كلمة الأمومة على لسان وليدها، ولكن ليت وهل ينفع ليت شيئاً؟ وكم هي الصيحات والزفرات الحراء التي أطلقت من المجربات! فأين المتعقلات؟
إن هذه المشكلة ومثيلاتها مردها إلى غبشٍ في التصور، وخللٍ في التفكير، بل لا نبالغ إذا قلنا: إنها إفراز ضعف المعتقد، وقلة الديانة، والخلل في الموازين، وسوء الفهم لأحكام الشريعة إنه النظر المشوش حول المستقبل، والتخوف الذي لا مبرر له، والاعتماد على المناصب والماديات، والتعلق بالوظائف والشهادات، وتأمين فرص العمل -زعموا- مما يزعزع الثقة بالله والرضا بقضائه، ويبعث النظر المتبصر، والفكر المتعقل.
إن حقاً على الشباب والفتيات أن يبادروا عملياً إلى الزواج متى ما تيسر لهم أمره، وألاَّ يتعلقوا بأمور مثالية، تكون حجر عثرة بينهم وبين ما ينشدون من سعادة وفلاح، ويقصدون من خير ونجاح، وألاَّ يتذرعوا بما يسمونه تأمين المستقبل، فالله عز وجل يقول: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور:32].
وصديق هذه الأمة رضي الله عنه يقول: [[أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح؛ ينجز لكم ما وعدكم من الغنى]] ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: [[التمسوا الغنى في النكاح]].
أمة الإسلام: إن ظاهرة العنوسة في المجتمع، وعزوف كثيرٍ من الشباب من الذكور والإناث عن الزواج، له مضاره الخطيرة، وعواقبه الوخيمة على الأمة بأسرها، لا سيما في هذا الزمن الذي كثرت فيه أسباب الفتن، وتوفرت فيه السبل المنحرفة لقضاء الشهوة، فلا عاصم من الانزلاق في مهاوي الرذيلة والفساد الأخلاقي إلا التحصن بالزواج الشرعي.
فالقضية -أيها الغيورون- قضية فضيلة أو رذيلة، ومن المؤسف أن يصل بعض الشباب إلى سن الثلاثين والأربعين وهو لم يفكر بعد في موضوع الزواج، وما انفتحت أبواب الفساد إلا لما وضعت العراقيل أمام الراغبين في الزواج، بل لم ينتشر الانحلال والدعارة وما وراء ذلك وقبله من المعاكسات والمغازلات والعلاقات المشبوهة، والسفر إلى بيئاتٍ موبوءة، ومستنقعاتٍ محمومة، إلا بسبب تعقيد أمور الزواج، لا سيما مع غلبة ما يخدش الفضيلة، ويقضي على العفة والحياء، مما يرى ويُقرأ ويسمع، مع ألوان الفساد الذي قذفت به المدنية الحديثة، وحدث -ولا كرامة- عما تبثه القنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية، التي تفجر براكين الجنس، وتزلزل ثوابت الغريزة، وتوجه ضد قيم الأمة وأخلاقها، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(69/4)
مشكلة عضل النساء عن زواج الأكفاء
إخوة الإيمان! وهذه إشارة ثانية إلى مشكلة أخرى، وعقبة كئود، ألا وهي عضل النساء عن زواج الأكفاء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا أتاكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفسادٌ عريض} خرَّجه الترمذي وابن ماجة والحاكم بسندٍ صحيح.
إن بعض الأولياء -هداهم الله- قد خانوا الأمانة التي حملوها في بناتهم وفتياتهم بمنعهن من الزواج من الأكفاء ديناً وخلقاً وأمانة، فقد يتقدم إليهم الخاطب الكفء فيماطلونه ويعتذرون له بأعذارٍ واهية، وينظرون فيه إلى أمور شكلية وجوانب كمالية يسألون عن ماله، وعن وظيفته، وعن وجاهته ومكانته، ويغفلون أمر دينه وخلقه وأمانته، بل لقد وصل ببعض الأولياء الجشع والطمع أن يعرض ابنته الحرة المسلمة الكريمة سلعة للمزايدة، وتجارة للمساومة والعياذ بالله! وما درى هؤلاء المساكين أن هذا عضلٌ وظلمٌ وخيانة، وقد تكون مدرسة أو موظفة فيطمع في مرتبها، فأين الرحمة في هؤلاء الأولياء؟ وكيف لا يفكرون بالعواقب؟
أيسرهم أن يسمعوا الأخبار المفجعة عن بناتهم مما يندى له جبين الفضيلة والحياء؟
يا سبحان الله! كيف يجرؤ مسلم غيور يعلم فطرة المرأة وغريزتها على الحكم عليها بالسجن المؤبد في بيته إلى ما شاء الله؟!
ولو عقل هؤلاء لبحثوا هم لبناتهم عن الأزواج الأكفاء، فهذا عمر رضي الله عنه يعرض ابنته حفصة على أبي بكر ليتزوجها، ثم على عثمان رضي الله عنهم أجمعين، وهذا سعيد بن المسيب رحمه الله يزوج تلميذه أبا وادعة، وهذا ديدن السلف في عصورهم الزاهية.
إن تضييق فرص الزواج علة خراب الديار، به تقض المضاجع، وبه تكون الديار بلاقع، وبه يقتل العفاف، وتوأد الفضائل، وتسود الرذائل، وتهتك الحرمات، وتنتشر الخبائث والسوءات.
فيا أيها الأولياء: اتقوا الله في من تحت أيديكم من البنات، بادروا بتزويجهن متى ما تقدم الخطاب الأكفاء في دينهم وأخلاقهم، إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفسادٌ كبير، واعلموا أن عضل النساء ورد الأكفاء فيه جناية على النفس وعلى الفتاة، وعلى الخاطب وعلى المجتمع برمته، والمعيار كفاءة الدين، وكرم العنصر، وطيب الأرومة، وزكاء المعدن، وسلامة المحضن، وحسن المنبت، وصدق التوجه.
أوصى بعض الحكماء بنيه عند الزواج فقال: يا بني! لا يحملنكم جمال النساء عن صراحة النسب، وكرم العنصر، فإن المناكح الكريمة مدارج الشرف، وأبلغ من ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {فاظفر بذات الدين تربت يداك}.
فيا أيها الأولياء: اتقوا الله عز وجل في مسئولياتكم.(69/5)
مشكلة المغالاة في المهور
أمة الخير والفضيلة: إشارة ثالثة إلى مشكلة من المشكلات المستعصية: ألا وهي مشكلة غلاء المهور، والمبالغة في الصداق في بعض الأوساط، حتى صار الزواج عند بعض الناس من الأمور الشاقة أو المستحيلة، وبلغ المهر في بعض البقاع حداً خيالياً لا يطاق، إلا بجبال من الديون التي تثقل كاهل الزوج، ويؤسف كل غيور أن يصل الجشع ببعض الأولياء أن يطلب مهراً باهضاً من أناسٍ يعلم الله حالهم، ولو جلسوا شطر حياتهم في جمعه لما استطاعوا، فيا سبحان الله! أإلى هذا المستوى بلغ الطمع وحب الدنيا ببعض الناس؟ وكيف تعرض المرأة المسلمة سلعة للبيع والمزايدة وهي أكرم من ذلك كله؟ حتى غدت كثيرات مخدراتٍ في البيوت، حبيساتٍ في المنازل؛ بسبب ذلك التعنت والتصرف الأرعن.
إن المهر في الزواج وسيلة لا غاية، وإن المغالاة فيه لها آثار سيئة على الأفراد والمجتمعات لا تخفى على العقلاء؛ من تعطيل الزواج، أو الزواج من مجتمعات أخرى مخالفة للمجتمعات المحافظة مما له عواقب وخيمة، فرب لذة ساعة، تعقبها حسرات إلى قيام الساعة.
ولم يقف الجشع ببعض الناس عند هذا الحد؛ بل تعداه إلى ما هو أبعد من ذلك مما هو خروجٌ عن منهج السلف الصالح رحمهم الله، يقول الفاروق رضي الله عنه: [[ألا لا تغالوا في صُدق النساء، فإنها لو كانت مكرُمة في الدنيا أو تقوى في الآخرة لكان النبي صلى الله عليه وسلم أولاكم بها، لم يصدق امرأة من نسائه، ولم تصدق امرأة من بناته بأكثر من ثنتي عشرة أوقية]] ولعله لا يزيد في عملتنا المعاصرة على مائة وعشرين ريالاً فقط.
وقد زوج المصطفى صلى الله عليه وسلم رجلاً بما معه من القرآن، وقال لآخر: {التمس ولو خاتماً من حديد} وتزوج عبد الرحمن بن عوف على وزن نواة من ذهب، وقد أنكر صلى الله عليه وسلم على المغالين في المهور، فقد جاءه رجلٌ يسأله فقال: {يا رسول الله! إني تزوجت امرأة على أربع أواقٍ من الفضة -يعني مائة وستين درهماً- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أوه! على أربع أواقٍ من الفضة؟! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل؟ ما عندنا ما نعطيك} الله المستعان! كيف بحال المغالين اليوم؟!
أما علم أولئك أنهم مسئولون أمام الله عن أمانتهم ورعاياهم؟ هل نزعت الرحمة من قلوبهم والعياذ بالله؟!(69/6)
مشكلة الإسراف والتبذير في تكاليف الزواج
أمة الإسلام! وإشارة رابعة إلى مشكلة من المشكلات في موضوع الزواج: ألا وهي ما أحيطت به بعض الزيجات من تكاليف باهظة، ونفقات مذهلة، وعادات اجتماعية فرضها كثيرٌ من الناس على أنفسهم تقليداً وتبعية، مفاخرة ومباهاة، وإسرافاً وتبذيراً.
لماذا كل هذا يا أمة الإسلام؟ والله يقول: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً) [الإسراء:27] إنه لمما يندى له الجبين أن تصرف أموالٌ طائلة على مناسبة واحدة، في أي سبيل ذلك؟ أأغرى هؤلاء وجود المال بين أيديهم؟!
إن أناساً يتخوضون في مال الله بغير حقه لهم النار يوم القيامة! ألا تعتبرون يا عباد الله بأحوال إخوانٍ لكم في العقيدة في بقاعٍ شتى من العالم ممن لا يجدون ما يسد رمقهم، ولا ما يواري عوراتهم؟! نعوذ بالله من الكفر بنعمه، ونسأله تعالى ألاَّ يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا إننا والله نخشى عقوبة الله العاجلة قبل الآجلة.
وهنا لفتة إلى ضرورة التعاون مع الجمعيات الخيرية لتلقي فائض الأطعمة والولائم لتوزيعها على فقراء المسلمين بدل رميها في أماكن النفايات والعياذ بالله.
فاتقوا الله رحمكم الله! وتناصحوا فيما بينكم، وتعقلوا كل التعقل في أمور الزواج، ولا تتركوا الأمر بأيدي غيركم من السفهاء والقاصرات، والدعوة موجهة للمصلحين والوجهاء، والعلماء والأثرياء، وأهل الحل والعقد في الأمة أن يكونوا قدوة لغيرهم في هذا المجال، فالناس تبعٌ لهم، وعلى وسائل الإعلام بصفة خاصة بكافة قنواتها نصيبٌ كبيرٌ في بث التوعية والتوجيه في صفوف أبناء المجتمع؛ لعلاج هذه المشكلات الاجتماعية الخطيرة، وكان الله في عون العاملين المخلصين لما فيه صلاح دينهم ومجتمعهم وأمتهم.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعني وإياكم بالآيات والحكمة، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان حليماً غفوراً.(69/7)
بعض المنكرات التي تقع في حفلات الزواج
الحمد لله شرع لنا النكاح، وحرم علينا السفاح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فالق الإصباح، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله إمام الدعاة ورائد الإصلاح، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسانٍ واقتفى أثرهم بإيمانٍ ما تعاقب المساء والصباح، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله معشر المسلمين! واشكروه على نعمه الباطنة والظاهرة، وآلائه ومننه المتكاثرة اتقوه جل وعلا في السر والعلن، واحذروا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
أيها الأحبة في الله: وإشارة خامسة إلى ما أحدثه بعض الناس في حفلات الزواج من الأمور المنكرة في الشرع، فعلاوة على الإسراف والتبذير والتفاخر والمباهاة عند بعضهم توجد أمورٌ أخرى توسع بعض الناس فيها؛ بسبب ضعف الإيمان وقلة العلم والإغراق في المادة، فمن ذلك: أن يجعل بعضهم من حفلات الزواج موسماً للاختلاط بين الرجال والنساء، وإظهار الزوج مع زوجته أمام الحاضرين وهم بكامل الزينة، وتلتقط الصور المحرمة لهم، وفي هذا من الفتن والفساد ما لا يعلمه إلا الله.
ومنهم من يجعله موسم سمرٍ وسهرٍ على اللهو واللعب، إلى هزيع من الليل، فيفوت فريضة الله عليه، وصنفٌ يضيع الحياء من الله ومن عباد الله، فيجعل فرصة الزواج فرصة للعلاقات المشبوهة، واللقاءات المحرمة.
وبعضهم يؤذي جيرانه وإخوانه المسلمين، وفئة تجعله فرصة للسماع المحرم للأغاني الخليعة، ورفع أصوات المعازف والمزامير المنكرة التي تذكي الشهوة، وتصد عن ذكر الله، وتكون ذريعة إلى الفساد والعياذ بالله.(69/8)
الدعاء للزوجين وخطر التدخلات الخارجية
أيها الإخوة في الله! وهاكم سادس هذه الإشارات وتمامها، فبعد أن أزيلت العقبات وحلت المشكلات في هذه القضية المهمة، وبنى الزوج بزوجته، يُدعا لهما: بارك الله لكما، وبارك عليكما، وجمع بينكما في خير، وتلك دعوة الإسلام التي خالف بها دعوة الجاهلية، وقولهم: بالرفاء والبنين، ويهمس في آذانهما: الله الله في الحياة الزوجية الجديدة، لتؤسسوا بنيانها على تقوى من الله ورضوان، ولتحذروا من الذنوب والخطايا والعصيان، وليحذر الوالدان والأقارب من التدخل في حياتهم الأسرية الخاصة، فكم قوضت بيوتٌ وهدمت أسر بسبب التدخلات الخارجية، وكم تعتصر القلوب أسى نتيجة الشكاوى الكبيرة التي تعصف بالأسرة، وتهدد المجتمع بالتخبيب بين الزوجين، والتفريق بين المتحابين، والله حسيب الْمُخَبِبِيْن.
ألا ما أجدر الأمة الإسلامية أن تسير على منهج الإسلام؛ لتحقق الحياة الاجتماعية السعيدة الموفقة، التي ترفرف عليها رايات المحبة والوئام، وحينها قل على مشكلات الفراق والطلاق السلام، بعدما وصلت إحصاءاتها أرقاماً مذهلة تنذر بخطرٍ كبير، وشرٍ مستطير، فهل نحن فاعلون؟ وهل أخواتنا الفضليات فاعلات؟ هذا الأمل والرجاء، وعلينا الصدق في التأسي والاقتداء، والله المسئول أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يعصمنا مما يسخطه ويأباه، إنه أعظم مسئول، وأكرم مأمول.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والحبيب المرتضى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئاً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى اللهم هيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لاتباع كتابك، والسير على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة اللهم اجعل لنا وللمسلمين من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان اللهم عليك باليهود المعتدين، والصهاينة المعاندين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الرحمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(69/9)
رحيل العلماء
إن موت العلماء خطب جلل تتشنف له المسامع، بل تذرف له المدامع؛ لأن بموتهم تطوى صفحات لامعة، وسجلات ناصعة، من خصال الخير المتكاثرة، فرحيل العلماء ثلمة لا تسد، ومصيبة لا تحد، وفجيعة لا تنسى، فموت العالم معناه انهيار الأمة وتهدم لبنيان أقوام وحضارات أمم.(70/1)
مكانة أهل العلم في الأمة
الحمد لله الدائم بره، النافذ أمره، الغالب قهره، الواجب حمده وشكره، وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والتدبير، جلَّ ذكره، وإليه يُرجع الأمر كله، علانيته وسره، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه وهو على كل شيء قدير، سبحانه وبحمده جعل لكل أجلِّ كتاباً، وللمنايا آجالاً وأسباباً، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، الهادي البشير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله الأبرار، وصحابته الأخيار، ما جن ليل وبزغ نهار، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:-
فاتقوا الله -عباد الله- فبالتقوى يُنال رضا الواحد الأحد، وبها تتحقق سعادة الأبد، وتحصل البركة في الأهل والمال والولد، فطوبى لمن جد واجتهد في توحيد ربه وتقواه وعبد، ويا بشرى له بحسن العقبى إلى أبد الأبد.
أيها المسلمون! حفظ الدين أعظم مقاصد هذه الشريعة الغراء، وإن من أعظم أسباب حفظ الدين حفظه بالرجال المخلصين، والعلماء العاملين، فوجودهم في الأمة حفظ لدينها، وصون لعزتها وكرامتها، وذود عن حياضها، فإنهم الحصن الحصين، والسياج المتين، الذي يحول بين هذا الدين وأعدائه المتربصين.
إخوة الإسلام! إن لله -سبحانه وتعالى- الحكمة البالغة، والقدرة النافذة في كونه وخلقه، وإن مما كتبه الله -جلَّ وعلا- على خلقه الموت والفناء، يقول سبحانه: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
ويقول عز وجل: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ} [الأنبياء:34]، ويقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [العنكبوت:57].
ويقول جلَّ وعلا: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30 - 31].
وإن أعظم أنواع الفقد على النفوس وقعاً، وأشده على الأمة لوعة وأثراً، فقد العلماء الربانين، والأئمة المصلحين.
ذلكم يا عباد الله! لأن للعلماء مكانة عظمى، ومنزلة كبرى، فهم ورثة الأنبياء، وخلفاء الرسل، والأمناء على ميراث النبوة، هم للناس شموسٌ ساطعة، وكواكب لامعة، وللأمة مصابيح دجاها، وأنوار هداها، بهم حفظ الدين وبه حفظوا، وبهم رفعت منارات الملة وبها رُفِعُوا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويهدون به من ضل إلى الهدى، فكم من قتيلٍ لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، وما عزت الأمم، وبلغت سامق القمم، وأشيدت صروح الحضارات، وقامت الأمجاد، وتحققت الانتصارات بعد الله إلا بهم، فهم أهل خشية الله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وهم مادة حياة القلوب، وغذاء الأرواح، وقوت الضمائر، وزاد القرائح، ومهما صيغت النعوت والمدائح في فضائلهم فلن توفيهم حقهم.(70/2)
مكانة أهل العلم كما في السنة النبوية
العالم للأمة بدرها الساري، وسلسالها الجاري، لا سيما أئمة الدين، وعلماء الشريعة؛ ولذلك كان فقدهم من أعظم الرزايا، والبلية بموتهم من أعظم البلايا، وأنَّى للمدلجين في دياجير الظلمات أن يهتدوا إذا انطمست النجوم المضيئة.
صح عند أحمد وغيره من حديث أنس رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إنما مثل العلماء كمثل النجوم يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة}.
يقول الإمام أبو بكر الآجري رحمه الله: "فما ظنكم بطريقٍ فيه آفات كثيرة، ويحتاج الناس إلى سلوكه في ليلة ظلماء، فقيض الله لهم فيه مصابيح تضيء لهم، فسلكوه على السلامة والعافية، ثم جاءت فئامٌ من الناس لا بُدَّ لهم من السلوك فيه فسلكوا، فبينما هم كذلك إذ أطفئت المصابيح فبقوا في الظلمة، فما ظنكم بهم؟ فهكذا العلماء في الناس".
وحسبكم يا عباد الله! في بيان فداحة هذا الخطب، وعظيم مقدار هذه النازلة، قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه الشيخان عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً؛ اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا}.
ويُوضح ذلك ما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تظهر الفتن، ويكثر الهرج، ويقبض العلم} فسمعه عمر فأثره عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: [[إن قبض العلم ليس شيئاً يُنتزع من صدور الرجال، ولكنه فناء العلماء]].(70/3)
أقوال السلف في فضل العلماء
ولقد أخبر حبر الأمة وترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد:41] قال: [[بموت علمائها وفقهائها]].
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[عليكم بالعلم قبل أن يُقبض، وقبضه ذهاب أهله]].
وقال الحسن رحمه الله: "موت العالم ثلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار".
وقيل لـ سعيد بن جبير رحمه الله: "ما علامة الساعة وهلاك الناس؟ قال: إذا ذهب علماؤهم".
ولما مات زيد بن ثابت رضي الله عنه قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[من سرَّه أن ينظر كيف ذهاب العلم فهكذا ذهابه]]، وقال رضي الله عنه: [[لا يزال عالم يموت وأثر للحق يدرس حتى يكثر أهل الجهل، ويذهب أهل العلم، فيعمل الناس بالجهل، ويدينون بغير الحق، ويضلون عن سواء السبيل]].
وفي الأثر عن علي رضي الله عنه قال: [[إذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خلف منه]].
وقال رجل لـ ابن سيرين رحمه الله: إني رأيت الليلة أن طائراً نزل من السماء على ياسمينة، فنتف منها، ثم طار حتى دخل السماء، فقال ابن سيرين رحمه الله: "هذا قبض العلماء".
فلم تمض تلك السنة حتى مات الحسن، وابن سيرين، ومكحول، وستة من العلماء بالآفاق، وقد كان السلف -رحمهم الله- يأسون أشد الأسى لفقد واحدٍ منهم، يقول أيوب رحمه الله: "إني أخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي".
وأخرج اللآلكائي: أن حماد بن زيد قال: "كان أيوب يبلغه موت الفتى من أصحاب الحديث فيرى ذلك فيه، ويبلغه موت الرجل العابد فما يرى ذلك فيه".
وقال يحيى بن جعفر: "لو قدرت أن أزيد في عمر محمد بن إسماعيل -أي: البخاري - من عمري لفعلت، فإن موتي يكون موت رجل واحد، وموته ذهاب العلم".
وأورد الخطيب البغدادي عن عبد الله بن عبد الكريم قال: كان محمد بن داود خصماً لـ أبي العباس بن سريج القاضي وكانا يتناظران، ويترادان في الكتب، فلما بلغ ابن سريج موت محمد بن داود، نحى مخاده ومشاوره وجلس للتعزية، وقال: ما آسى إلا على تراب أكل لسان محمد بن داود.(70/4)
موت العلماء ثلمة لا تسد
وقال أيوب: "إن الذين يتمنون موت أهل السنة يُريدون أن يُطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون"" أخرجه اللآلكائي.
تشنف المسامع، بل تذرف المدامع، لذلك -أيها المسلمون- في الوقت الذي رُزئت فيه أمتنا الإسلامية في هذه الآونة الأخيرة بفقد كوكبة من علمائها وفضلائها، ووفاة نخبة من فقهائها ونبلائها، فما إن كفكفت الأمة دموعها، ولملمت ضلوعها على فقد طودٍ منهم، حتى رُزئت بفقد آخر في انفراطٍ لعقد متلألئ وضاء، وتناثر لحباته المناسقة، وبموت هؤلاء الجهابذة تُطوى صفحات لامعة، وسجلات ناصعة، من خصال الخير المتكاثرة.
إنهم نماذج شامخة، وأطواد راسخة في العلم والتقوى، وأعلام بارزة في السنة والفقه والفتوى، فضائلهم لا تُجارى، ومناقبهم لا تُبارى، ثلمتهم لا تسد، والمصيبة بفقدهم لا تُحدِّ، والفجيعة بموتهم نازلة لا تنسى، وفاجعة لا تمحى، والخطب بفقدهم جلل، والخسارة فادحة، ومهما كانت الألفاظ مكلومة، والجمل مهمومة، والأحرف ولهى، والعبارات ثكلى، فلن تستطيع التعبير، ولا دقة التصوير، فليست الرزية على الأمة بفقد مال، أو بموت شاة أو بعير، كلَّا ثم كلَّا، ولكن الرزية أن يفقد عالم يموت بموته جمعٌ غفير، وبشر كثير، فموت العالم ليس موت شخص واحد، ولكنه بنيان قوم يتهدم، وحضارة أمة تتهاوى.
عباد الله! وتعظم الفجيعة إذا كان من يفقد متميز المنهج، فذ العبقرية، متوازن النظرة، متماسك الشخصية، معتدل الرؤى.
أمة في إمام، أئمة في رجل، نسيج بمفرده، وطراز مستقل وحده، من دعاة العقيدة الصحيحة، والمعتنين بالدليل والأثر، والمتحلين بالاعتدال والوسطية، والحريصين على الجماعة، والنصح لله ولرسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم، على الرغم من حصول زوابع، وهبوب عواصف، وهيجان أمواج، تعرضت فيها الأمة للكثير من جوانب الخلل العقدي والفكري والأخلاقي، فما كان من هذا الطراز المتميز إلا الاجتهاد في حسن التوجيه، لتماسك بنية المجتمع، والحفاظ على أمن الأمة بصوره المتعددة، وجوانبه المختلفة، حتى لكأنهم مدارس جامعة، يصدر عنهم الرأي في النوازل، والمنهج في المستجدات، والمسلك الأسلم في المتغيرات، تمسكاً بالتأصيل الصحيح، والمنهجية المنضبطة بضوابط الشرع، فلا غرو إذاً أن يكون موتهم هزة عنيفة الوطء، شديدة الأثر، محلياً وإقليمياً وعالمياً، في الوقت الذي تُعاني فيه أمتنا الإسلامية ظروفاً عصيبة في عالم اليوم الذي يموج بالتحديات، وتكتنفه سرعة المتغيرات، وتعصف بعوامل استقراره المستجدات، وتضج فيه أنواع من الفوضى الفكرية الوافدة، والاتجاهات العقدية المتنوعة.
إنَّ ما تموج به الساحة من فوضى الاجتهاد عند بعض المتعالمين، في أطروحات عرجاء، ومداولات ممجوجة، وكارثة الفوضى في الفتيا، والقول على الله بغير علم، والتلاعب بالحلال والحرام حسب الأهواء، أمام طوفان هائج من العولمة والتغريب، ومن هنا فإن غياب العلماء الراسخين، يخلي الساحة لتصدر الرويبضة، ونطق أنصاف المتعلمين، مما تحتاج معه الأمة إلى وقفات حازمة لوضع الضوابط الشرعية في المجالات كافة، حتى تعبر سفينة الأمة بأمانٍ في بحر الفتن المتلاطم، وسير المحن المتفاقم، إلى شاطئ السلامة وبر النجاة، حتى يسد الطريق أمام المصطادين في الماء العكر.
أمة الإسلام! إنَّ من حسن العزاء عند فقد العلماء: أن دين الله محفوظ، وشريعته باقية، وخيره يفيض ولا يغيض، فأعلام الديانة مرفوعة بحمد الله: {ولا تزال طائفة من أمتي -أمة محمد صلى الله عليه وسلم- على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك} كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر عليه الصلاة والسلام، خرَّجه مسلم وغيره.
وأخرج أبو داود بسند جيد، والحاكم وصححه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها} {وَعَلَمُ هذا الدين يحمله من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين}.
ولم تصب الأمة بمصيبة هي أعظم من مصابها بفقد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فالمصيبة بفقد من بعده تهون، مهما كان شجاءً.
كما أن من حسن العزاء أن هؤلاء العلماء -رحمهم الله- باقون بذكرهم أحياء بعلمهم، يلهج الناس بالثناء عليهم والدعاء لهم، ويجتهدون في اقتفاء آثارهم، وترسم خطاهم، علماً وعملاً، ودعوة ومنهاجاً، تشبهاً بالكرام إن لم يكونوا مثلهم، فذلك أمارة الفلاح.
كما أنَّ مِنْ حسن العزاء -أيضاً- أن علماء الشريعة -ولله الحمد والمنة- مُتوافرون عبر الأعصار والأمصار، يحي الخلف منهج السلف، وأمة الإسلام أمة معطاءة، زاخرة بالكفاءات، ثرية بالعطاءات، مليئة بالقدرات، ولن يخور العزم ويضعف العطاء -بحول الله- بفقد علم بارز، ففي الأمة -بحمد لله- من سيحمل مشعل الهداية، وراية العلم والدعوة، ويسد الثغرة، وينهض بالمسئولية العلمية والدعوية، وما علينا إلا أن نسمو بهممنا، وننهض بمهماتنا في نصرة دين الله، ونفع عباد الله.(70/5)
الحث على الدعوة وطلب العلم
فيا علماء الشريعة! نناشدكم الله أن تكونوا خير خلف لخير سلف، الله الله في استنهاض الهمم، انزلوا بثقلكم إلى ميدان التعليم والتوجيه، وابذلوا وسعكم في ملء ساحة الدعوة والنصح للأمة، فقد أخذ عليكم العهد والميثاق: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وصونوا علمكم عن الدنايا، وترفعوا عن مواطن الريب، وتحلوا بسمت العلماء الربانيين.
واعلموا أن التقاعس في أداء هذه المهمة يجرئ العوام وأنصاف المتعلمين على الخوض في أمور الدين وهم ليسوا منها في ورد ولا صدر.
ويا طلاب العلم! ويا شباب الإسلام! الله الله في جمع ما تناثر من عقد المحبة والصفاء، والمودة والولاء، وانتظامه فيما بينكم في نسيج وحدوي متميز، تتماسك فيه أيدينا مع أيدي ولاتنا وكبار علمائنا، قطعاً لدابر الخلاف، وحسماً لأسباب النزاع والشقاق {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13] وحذارِ من بوادر اليأس، وإطلالة التشاؤم التي قد تطفو على السطح في ميادين العلم والدعوة والحسبة والإصلاح، فإن هول الفواجع يقتضي كمال الرضا بقضاء الله وقدره، وعدم الاستسلام للجزع والتسخط، مع حسن التصرف في الأمور، وألا تغلب العواطف والانفعالات على العقل والتأصيل وحسن العمل والتدبير، فدين الإسلام دين علم وعمل، وليس خواطر وانفعالات.
فبالعلم تُضبط المسيرة، وتُهدى الأمة، ولا يأس من روح الله ولا قنوط من رحمة الله، والخير في هذه الأمة باقٍ إلى قيام الساعة، والله وحده هو المسئول أن يلهمنا رشدنا، وأن يغفر لمن مات من علمائنا، ويرفع درجاتهم في المهديين، وأن يوفق الأحياء لبيان الحق والدعوة إليه، وأن يرزقهم التسديد والتأييد، ويكتب لهم القبول ودوام النفع، وأن يخلف على الأمة الإسلامية خيراً، ويحفظها من شرور الغير، وهول الفواجع، فلله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى، والحمد لله على قضائه وقدره، وهو وحده المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، اللهم أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.(70/6)
تقدير العلماء واحترامهم من تعظيم الدين
الحمد لله نواصينا بيده، ماضٍ فينا حكمه، عدلٌ فينا قضاؤه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الدائم عطاؤه، العظيمة آلاؤه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، المتألق نوره وبهاؤه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، ما ليلٌ سجى، وما صبح بدا، وسلم تسليماً أبدياً سرمداً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله! إن تقدير مكانة العلماء أحياءً وأمواتاً إنما ينبع من تعظيم الشريعة التي احتفت بهم، والدين الذي كرمهم وحفل بهم: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] ومن أعلى قدر الشريعة أعلى قدر حملتها، وهذا ما تميزت به بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله، ففيها تعانق سلطان العلم مع سلطان الحكم، في نسيجٍ مترابط، وانسجامٍ متكامل، لم يشهد التاريخ المعاصر له مثيلاً، ففتحت الأمة قلوبها ولاءً لولاتها وعلمائها، وقام ولاة الأمر فيها بتشجيع علمائها وطلاب العلم فيها، مما يمثل شاهداً من شواهد الثوابت الراسخة التي قامت عليها منهجية هذه البلاد نصرها الله ما نصر الدين.
فارتقت -بحمد لله- إلى سلم التميز الفريد في عالم يموج بالفوضى والاضطرابات، وتلك نعمة نسأل الله أن يحفظها ويرزقنا شكرها، تعاوناً وتلاحماً بين الرعاة والرعية، والعلماء والعامة، والشباب والشيوخ، وأن تتواصل حلقات العطاء، وسلاسل الوفاء، أداءً لحق من سبقنا من العلماء، وربطاً للأجيال والناشئة بعلمائهم الذين تميزوا بفضل الله بالمرجعية العالمية في العلم والفتوى، لما تحلوا به من اعتقاد صحيح ومنهج سليم.
والحق أنهم أتعبوا من بعدهم، وتركوا فراغاً يصعب ملئه، ولكن الأمل في الله -عز وجل- ثم في البقية المباركة من علمائنا الأجلاء الذين نرجو أن يكونوا خير خلف لخير سلف، فلا تزال -بحمد لله- شجرة أئمة الدعوة الإصلاحية المباركة تُؤتي أُكلها كل حين بإذن ربها، يحملها اللاحق عن السابق، في سلاسل ذهبية في نفع البلاد والعباد، {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
ألا واعلموا -رحمكم الله- أن من أفضل أعمالكم، وأرفعها في درجاتكم، كثرة صلاتكم وسلامكم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله، كما قال ربكم جل في علاه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مُطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، وأيد بالحق والتأييد إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحبه وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن له على الحق مؤيداً ونصيراً، ومعيناً وظهيراً، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفق جميع ولاة أمور المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان، يا ذا الجلال والإكرام!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(70/7)
المعاصي وأثرها السيئ
إن سبب إهلاك الله للأمم السابقة هو الذنوب، والله جل وعلا قد وضح في كتابه العزيز أن من يعرض عن شرعه ومنهجه فإنه يسلكه عذاباً صعداً.
ولقد تحدث الشيخ في هذه الخطبة عن ذلك بنوع من الاختصار، وفي نهاية الخطبة دعا إلى العودة إلى الله والتوبة النصوح.(71/1)
المعاصي وعقوبتها
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قضى بالخير والعزِّ لأهل الطاعة والإيمان، وبالذل والهوان لأهل الشر والعصيان، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله وحبيبه وصفيه وأمينه على وحيه، بشر وأنذر، وبلغ وأسدى ونصح، وجاهد ودعا، فلم يترك خيراً إلا دل أمته عليه، ولا شراً إلا حذرها منه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين ساروا على هديه والتزموا شريعته، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله ربكم وأطيعوه، وراقبوه دوماً ولا تعصوه.
عباد الله: لقد مَنَّ الله على هذه الأمة وجعلها أمة هداية وقيادة وسيادة، اختارها الله لأشرف رسالاته، واجتباها فبعث فيها أفضل رسله، وأنزل عليها أعظم كتبه، ووعدها النصر إن هي نصرت دينه، وبالكرامة والعزة إن هي تمسكت بطاعة ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم.
وقد كان لشرف هذه الأمة شرف قيادة العالم قروناً طويلة، ثم انتزعت قيادتها، ودالت دولتها، وتداعى عليها أعداؤها، وتتابعت عليها المصائب، وتلاحقت عليها المحن والنوائب، وشغل هذا الواقع المزري والوضع المتردي بال الغيورين من أبناء هذه الأمة المتطلعين لمستقبلها المشرق، وغدها المبهج بإذن الله، والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: ما الذي دهانا معشر المسلمين؟!
وما الذي أصاب أمتنا فذلت وهانت؟!
ما الدواعي والعوامل التي أوصلتها إلى حضيض الغبراء بعد أن كانت في ذرا العلياء؟!
ما الذي جرها إلى هذا المنحدر السحيق، وطوح بها في أعماق هذا الواقع الغريق؟
والجواب الذي لا يختلف فيه اثنان، هو: أن سبب ذلك كله الوقوع في الذنوب والمعاصي، ومما لا يقبل الجدل أن لله تعالى في هذه الحياة سنناً لن تتغير ولن تتبدل وتتحول في الكون أو الخلق، أو في حياة الأفراد والأمم والشعوب، فالأمة التي تسير على شرع الله ونهج رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ تصل إلى مبتغاها، وتنال مناها، والله يسددها وينصرها ويرعاها، وليس بين الله وبين أحدٍ من خلقه حسب ولا نسب، وإذا تركت الأمة أمر ربها وخالفت أحكام دينها، وتنكبت صراط رسولها؛ سلك الله بها طريق العناء والشقاء حتى تراجع دينها، وما أهون الخلق على الله إن هم أضاعوا أمره، وجاهروا بمعصيته، وقصروا في أحكام دينه، وهل عذبت أمة من الأمم في القديم والحديث إلا بسبب ذنوبها: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] وفي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى يغار وغيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما حرم الله عليه}.(71/2)
آثار المعاصي على الأمم والشعوب
أمة الإسلام: إن للمعاصي والذنوب أثراً بالغاً على الأبدان والقلوب، وشؤماً واضحاً في حياة الأمم والشعوب، قال الإمام العلامة ابن قيم الجوزية رحمه الله تعالى في ذلك ما خلاصته: ومما ينبغي أن يعلم: أن الذنوب والمعاصي تضر، ولا شك أن ضررها في القلوب كضرر السموم في الأبدان، وهل في الدنيا شر وداء إلا وسببه الذنوب والمعاصي، فما الذي أخرج الوالدين من الجنة؟
وما الذي أخرج إبليس من ملكوت السماء، وطرده ولعنه، ومسخ ظاهره وباطنه، وبدله بالقرب بعداً، وبالرحمة لعنة، وبالجمال قبحاً، وبالجنة ناراً تلظى؟
وما الذي أغرق أهل الأرض كلهم حتى علا الماء فوق رءوس الجبال؟
وما الذي سلط الريح العقيم على قوم عاد حتى ألقتهم موتى على وجه الأرض: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة:7] ودمرت ما مرت عليه من ديارهم وزروعهم ودوابهم، حتى صاروا عبرة للأمم إلى يوم القيامة؟
وما الذي أرسل على قوم ثمود الصيحة حتى قطَّعت قلوبهم في أجوافهم، وماتوا عن آخرهم؟
وما الذي رفع قرى اللوطية ثم قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها، فأهلكهم جميعا، ثم أتبعهم حجارة من سجيل أمطرها عليهم: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
وما الذي أرسل على قوم شعيب سحابة العذاب كالظلل، فلما صار فوق رءوسهم أمطر عليهم ناراً تلظى؟
وما الذي أغرق فرعون وقومه في البحر ثم نقلت أرواحهم إلى جهنم، فالأجساد للغرق والأرواح للحرق؟
وما الذي خسف بقارون وداره وماله وأهله؟
وما الذي أهلك القرون من بعد نوح بأنواع العقوبات، ودمرها تدميراً؟
وما الذي بعث على بني إسرائيل قوماً أولي بأسٍ شديد فجاسوا خلال الديار، وقتلوا الرجال وسبوا الذراري والنساء، وأحرقوا الديار ونهبوا الأموال، ثم بعثهم عليهم مرة ثانية فأهلكوا ما قدروا عليه وتبروا ما علوا تتبيراً؟
وما الذي سلط عليهم أنواع العذاب والعقوبات مرة بالقتل والسبي وخراب البلاد، ومرة بجور الملوك، ومرة بمسخهم قردة وخنازير؟
وآخر ذلك أقسم الرب تبارك وتعالى ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب، ومضى رحمه الله يعدد عقوبات الذنوب والمعاصي وآثارها على القلب والبدن في الدنيا والآخرة، مستقرئاً نصوص الكتاب والسنة ومتتبعاً أحداث الأمم والقرون وتاريخ المكذبين والمعاندين.(71/3)
عقوبات أخرى للمعاصي
ومن عقوبات المعاصي حرمان العلم والرزق، والوحشة والعسرة والظلمة ووهن القلب والبدن، وحرمان الطاعة ومحق البركة، وهوان العبد على الله، ومن يهن الله فما له من مكرم، وفساد العقل، ووهن العزيمة، والختم على القلوب، وإطفاء نار الغيرة، وذهاب الحياء، وإزالة النعم وإحلال النقم، والخوف والرعب والقلق، وعمى البصيرة، ومنع القطر، وحصول أنواع العذاب والبلاء والنكال والشقاء في الدنيا وفي القبر وفي يوم القيامة.
وبالجملة: فكل شرٍ وفساد في الماء والهواء، والزروع والثمار، والمساكن والعباد والبلاد، والبر والجو والبحر، والعاجل والآجل؛ فسببه الذنوب والمعاصي، وقد امتلأ كتاب الله الكريم بما يؤكد هذه السنن لا سيما عند ذكر قصص المكذبين من الأمم السابقة ليكون فيها عبرة وعظة، ومزدجراً وذكراً: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
ويقول الله جل جلاله: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[إن للحسنة ضياءً في الوجه، ونوراً في القلب، وسعة في الرزق، وقوة في البدن، ومحبة في قلوب الخلق، وإن للسيئة سواداً في الوجه، وظلمة في القبر والقلب، ووهناً في البدن، ونقصاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق]].
وقال الحسن البصري رحمه الله عن أهل المعاصي: [[إنهم وإن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم؛ أبى الله إلا أن يذل من عصاه]].(71/4)
عاقبة الإعراض عن ذكر الله
وبعد إخوة الإسلام! أما آن لأمة الإسلام أن تدرك أن ما أصابها في هذا الزمن من ضعفٍ وفرقة واختلاف وتسلطٍ من الأعداء، إنما هو بسبب وقوع أبنائها في معاصي الله؟
أما كان الأجدر بها وهي تعايش ألواناً من العقوبات الدينية والدنيوية، الحسية والمعنوية -التي جلبتها المحرمات- أن تراجع دينها الحق وتدرك أن ما يطفح به العالم من الفوضى في كل مجالات الحياة، وما تعانيه كثيرٌ من البقاع من الحروب الطاحنة التي تقضي على الأخضر واليابس، والأمراض الفتاكة، والمجاعات الرهيبة، والفيضانات المهلكة، والزلازل والبراكين المدمرة، والحوادث المفزعة، كل ذلك بسبب ذنوب العباد، وإعراضهم عن ربهم: {وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً} [الجن:17] {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45 - 47].
أما ترون -أيها المسلمون- ما نزل بالأمم والشعوب من حولكم من آلام وعقوبات، وهل كانت إلا بسبب الذنوب والمعاصي؟ فقد غرقت كثيرٌ من المجتمعات في حياة جاهلية، في عقائدها وأفكارها، وأخلاق أبنائها وبناتها، فشاع الإشراك بالله، ومخالفة سنة رسول الله، وانتهكت حرمات الله، واقترفت كبائر الذنوب الجالبة لسخط الله، وعم الفسق وانتشر الفساد في البيوت والشوارع والأسواق، كل ذلك من غير نكير ولا تغيير.
بل حتى عادت بعض الذنوب اليوم مما يفاخر به بعض الناس ولا حول ولا قوة إلا بالله! فحقاً إن المسلمين اليوم يعيشون عصر غربة الإسلام وفي أوساط دعاة جهنم عياذاً بالله، فما أوسع حلم الله على عباده!
ألم تغن النذر يا عباد الله؟ ألم تفد العبر السالفة والمعاصرة؟ {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
إن هذا الأمر الخطير جديرٌ أن يتدارسه المسلمون اليوم على مستوى القادة والعلماء، والمفكرين والدعاة والمصلحين؛ لإيقاف هذا الزحف الهائل الذي يعرض الأمة كلها لسخط الله العاجل قبل الآجل.
هذا وإن الغيورين ليعلقون آمالاً جساماً على البعث الإسلامي الجديد، والصحوة الإيمانية الرشيدة، واليقظة الإصلاحية الحميدة التي تعم أقطار العالم الإسلامي بحمد الله وتوفيقه؛ لتعود بأبناء المسلمين وشبابهم إلى مصدر عزتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة، وما ذلك على الله بعزيز.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه يغفر لكم، فهو خير الغافرين.(71/5)
دعوة للتوبة النصوح
الحمد لله غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن المعاصي ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في قلوبٍ إلا أعمتها، ولا في أجسادٍ إلا عذبتها، ولا في أمة إلا أذلتها، ولا في نفوسٍ إلا أفسدتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها.
أيها الإخوة في الله: إن المسئولية لصد وباء الذنوب وعواقبها الوخيمة على ديننا ومجتمعاتنا تقع على عاتق كل مسلم {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} كل يقوم نفسه، ويحفظ أسرته، ويربي أولاده على حب الخيرات وترك المنكرات، ويسعى حسب قدرته واستطاعته لتطهير مجتمعه ومحيطه من أدران المعاصي، والله سائلٌ كل راعٍ عما استرعاه، حفظ أم ضيع.
واعلموا رحمكم الله أنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة، فعلى الألسنة أن تلهج بالاستغفار المستمر، والتوبة الدائمة النصوح التي تحققت فيها الشروط وانتفت عنها الموانع، لعل الله يعفو ويتوب ويتجاوز إنه قد وعد عباده بذلك في قوله سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وإمامنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض اللهم عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وهيئ لهم البطانة الصالحة، يا رب العالمين!
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، يا رب العالمين!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(71/6)
نواقض الإسلام
أبان الشيخ -سدده الله- عن عظيم نعمة الإسلام وجليل قدرها، وأن هذه النعمة تستوجب منا الحرص عليها، والحذر مما يزيلها عنا، وبالتالي لابد أن نتعرف على نواقض الإسلام لنحذرها.
وقد ذكر من ذلك ما اشتهر وذاع، وملأ بشهرته الأصقاع لينتبه منها ولتحذر.(72/1)
الإسلام وأهمية معرفة نواقضه
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، أحمده تعالى وأشكره أن هدانا للإسلام: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل الإسلام ديناً وأمناً، وسعادةً ونجاةً يوم القيامة، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إمام المرسلين، وخاتم النبيين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
إخوة الإسلام: لقد أكرمنا الله جلت قدرته، وتباركت أسماؤه وصفاته، بنعمة كبرى، لا مثيل لها في النعم أبداً، إنها نعمة الإسلام التي لا يعدلها أي نعمة، مَن عَقَلَها حقاً عاش في دنياه مطمئن النفس قرير العين: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر:22] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125].
إنه دينٌ كله خير وفضل وإحسانٌ وبر وإخاءٌ وترابط وتراحم، وتواصٍ بالحق، وتواصٍ بالصبر، دينٌ أساسه عقيدة التوحيد، وشعاره المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، دينٌ في غاية الكمال والجمال والجلال، دينٌ شاملٌ لجميع مصالح البشر في معاشهم ومعادهم، فلا خير إلا أمر به، ولا شر إلا نهى عنه، دينٌ وُضِع من لدن حكيم خبير، ثابتاً خالداً، صالحاً لكل زمان ومكان، صامداً صمود الجبال الراسيات، لا يتغير أبداً مهما كاد له الكائدون، وزاد عليه المبتدعون، وتأوَّلوه في غير ما وُضِع له، أو نالوا من أهله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
فيا له من نعمة عظيمة يجب عقلها، ورعايتها، وشكرها، وتذكُّرها، والتحدث بها!
يا لها من نعمة يَسْعد ويَعِز بشكرها أقوام، ويَذِل بكفرها آخرون.
فاتقوا الله أيها المسلمون! واشكروا الله أن جعلكم مسلمين، وحققوا إسلامكم بمحبته، والاغتباط به، والعمل بتعاليمه، والدعوة إليه، ورفض كل ما يناقضه ويخالفه.
أمة الإسلام في كل مكان: إن أهم ما يجب على المسلم الموحِّد الحريص على دينه، أن يعرف عقيدته حق المعرفة، كما يعرف ما يناقضها، ولا سيما في هذا العصر الذي جهل فيه كثيرٌ من المنتسبين إلى الإسلام تعاليم دينهم، واشتغلوا بغيره من أمور الدنيا، وفي هذا الزمن الذي تداعت فيه الأمم من كل حَدَبٍ وصوبٍ على المسلمين كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وضعف فيه ولاء المسلمين لدينهم، وانتشرت بينهم الضلالات والفتن.
فمعرفة نواقض الإسلام من صميم معرفة العقيدة، ولما جَهِلَها أكثر الناس اليوم ولم يعرفوها، وقعوا في الشرك الأكبر والعياذ بالله، وهم يحسبون أنهم مهتدون، وهذه القضية، أعني: قضية العقيدة ونواقض الإسلام يجب أن يهتم بها المسلمون اليوم؛ قادتهم، وعلماؤهم، ومفكروهم، ودعاة الإصلاح فيهم، كما اهتم بها أسلافهم، لا سيما وقد فَشَت واستَشْرَت في كثير من أدعياء الإسلام اليوم، ولا يُهَوِّن من شأنها ويقلِّل منها، ويرى أن غيرها في هذا الزمان أولى منها، إلا مَن هانت عنده العقيدة.
إن الوقوع في نواقض الإسلام أو في بعضها خسارة عظيمة؛ إذ ليس بعد خسارة الإسلام الصحيح خسارةٌ تُذْكَر، وإذا كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مَن مَرَقَ مِن الإسلام لارتكابه ناقضاً من نواقضه، فكيف بهذا الزمان؟! وما أكثر الذين ضل سعيهم في هذه الحياة {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104]! إما باعتقاد فاسد يعتقدونه، أو بكلمة يقولونها، أو عملٍ يعملونه.
في الحديث الصحيح المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن العبد ليتكلم بالكلمة ما يتبين فيها يزل بها إلى النار أبعد مما بين المشرق والمغرب} وفي صحيح البخاري عنه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {وإن العبد ليتكلم بالكلمة مِن سَخَط الله تعالى لا يُلقِي لها بالاً يهوي بها في جهنم}.(72/2)
بعض نواقض الإسلام المنتشرة
عباد الله: إن نواقض الإسلام كثيرة وأسباب الردة اليوم متعددة، ذكرها العلماء قديماً وحديثاً، أَذْكُر منها ما يكثر وقوعه اليوم في مجتمعاتٍ كثيرة تنتمي إلى الإسلام؛ لنكون على بينة منه لنحذره.
فأعظمها وأخطرها: الشرك في عبادة الله تعالى:
كصرف شيءٍ من أنواع العبادة لغير الله، مثلما يُفعَل اليوم عند الأضرحة من التقرب إلى الموتى بطلب الحاجات منهم، وصرف النذور والذبائح لهم، وهذا واقعٌ اليومَ بل وكثير فيمن يدَّعون الإسلام والعياذ بالله.
ومن نواقض الإسلام: أن يجعل المرء بينه وبين الله وسائط؛ يدعوهم، ويسألهم الشفاعة، ويتوكل عليهم، كما يفعله كثيرٌ من الجهلة وأرباب الخرافة، فيمن يسمونهم بالأولياء، وما أشبه الليلة بالبارحة، فما أشبه هؤلاء بمشركي القرون الأولى القائلين: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
ومن نواقض الإسلام: عدم تكفير المشركين، أو الشك في كفرهم، أو تصحيح مذهبهم، وتفضيل مبادئهم على مبادئ الإسلام:
كحال كثير من المفتونين بكفار اليوم، والمعجبين بهم نتيجة عملٍ من أعمال الدنيا الفانية، وما أكثر الذين ينادُون اليوم باللحوق بالكفار، والتخلي عن الإسلام، ويصِمُونه بأنه وراء كل تَخلف وتأخُّر: {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28].
ومن نواقض الإسلام: اعتقاد أن غير هَدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل مِن هديه، أو أن حكم غيره أحسن مِن حكمه، كما عليه كثيرٌ من أرباب الطرق المنحرفة، والمذاهب الطاغوتية.
ومن أسباب الرِّدَّة عن الإسلام المنتشرة في صفوف كثيرٍ من أدعياء الإسلام اليوم: الاستهزاء بالدين، أو سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكثيراً ما هاجم أعداء المسلمين قديماً وحديثاً شريعةَ الله، بالاستهزاء بها، أو بشيء منها، وتنقيص أهلها، والسخرية بهم، عن طريق أعمالهم وأقوالهم وأقلامهم والعياذ بالله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
فاتقوا الله عباد الله!
ألا وإن من نواقض الإسلام اليوم: اعتناق كثير من المبادئ الهدامة، والطرق المنحرفة المناهضة للإسلام، فمن صوَّب شيئاً منها أو دافع عنه، أو ظاهر أهله على المسلمين، فقد ارتد عن دين الإسلام.
ومن نواقض الإسلام المنتشرة بين صفوف كثيرٍ من المسلمين اليوم: ترك الصلاة؛ فتارك الصلاة إما أن يكون تركها جحداً لوجوبها فذلكم كافرٌ بإجماع العلماء، وإما أن يكون تركها تهاوناً وتكاسلا، فهذا يُدعى لها ويُؤمر بها؛ فإن أقامها كان من المسلمين، وإن أصر على تركها فهو من الكفار والعياذ بالله.
أخرج الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة}.
وأخرج الإمام أحمد وأهل السنن عن بريدة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر}.
ولقد عم هذا البلاء اليوم، وكثر الناس الذين لا يؤدون عمود الإسلام، وهم يقيمون مع المسلمين ويتَسَمَّون بالإسلام، فهؤلاء والعياذ بالله مرتدون عن دين الله، وعلى المسلم أن يرعى واجب الله فيهم، وأن يناصحهم، وأن يأمرهم بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، أو يقاطعهم.
فاعرفوا نواقض دينكم يا عباد الله! وما أكثرها! وإلى الإسلام من جديد!
أيها المسلمون: إلى الإسلام يا مَن تخليتم عنه، أو عن بعضه!
إلى الإسلام يا من وقعتم في شيء من نواقضه!
اللهم بصرنا بالإسلام، وثبتنا عليه.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(72/3)
حقيقة الإسلام وخطر الجهل بنواقضه
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] واعلموا أنكم في زمان غدا الإسلام فيه غريباً بين أهله، غريباً حتى بين المنتسبين إليه، وزَعَمَ الإسلامَ مَن هو منه براء، وأصبح الإسلام ويا للأسف مطية لكل ناعق، ولكل ضال والعياذ بالله، وتسمى به الموحد والمخرف، والمتبع والمبتدع، والمحق والمبطل.
إن الإسلام ليس مجرد دعوى بلا حقيقة، وإن ارتكاب ناقضٍ من نواقض الإسلام كفيلٌ بأن يزيح هذا الشرف العظيم عن فاعله، ولو أدى كثيراً من شعائره، أو حُسِب على المسلمين وهو في الحقيقة ليس منهم.
إنه لأمرٌ خطير، وموقفٌ دقيق، يحتاج إلى بصيرة نافذة، وأُفُقٍ واسع، يحصل به الفرقان بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والاتباع والابتداع؛ إذ كثيراً ما يلتبس هذا الموقف على كثيرٍ من الناس اليوم بسبب جهله بنواقض الإسلام، وأسباب الردة، فيظن أن مَن أدى شيئاً من شعائر الإسلام صار مسلماً، ولو ارتكب شيئاً من المكفِّرات، وهذا الظن الفاسد إنما نشأ من الجهل بحقيقة الإسلام وما يناقضه، وهذا واقعٌ مؤلم يعيشه كثيرٌ من الناس في عصرنا هذا، ممن لا يميزون بين الحق والباطل، فصاروا يطلقون اسم الإسلام على مَن يؤدي بعض شعائره، ولو ارتكب ألف ناقضٍ والعياذ بالله.
نسأل الله تعالى أن يهدي المسلمين جميعاً إلى صراط الله المستقيم.
وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبينا محمد كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقال صلى الله عليه وسلم: {مَن صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم استعمل على جميع المسلمين خيارهم.
اللهم استعمل عليهم من يطبِّق شريعتك يا رب العالمين.
اللهم وفق المسلمين والمسلمات لما تحب وترضى.
اللهم اهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك فوق كل أرضٍ وتحت كل سماء.
اللهم كن لهم ولا تكن عليهم يا رب العالمين.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين وأتباعهم يا رب العالمين.
اللهم عليك بهم عاجلاً غير آجل.
اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرَد عن القوم المجرمين.
ربنا اغفر لنا، ولوالِدِينا، ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(72/4)
أهمية الوقت
أخي المسلم: إن الوقت الذي تعيشه هو أنفس ما للإنسان، وهو لا يقدر بالأثمان، هو رأس مالك ورصيدك الذي ينفعك في الدنيا والآخرة، وقد جعل الإسلام للوقت مكانته وبين أهميته، وحث على شغله بالطاعات والقربات، وحذر من إعماله في المخالفات والمحرمات، ولذلك كان سلف الأمة يحذرون من ضياع الأوقات، وكان لهم الشأن العظيم في المحافظة على الأوقات وإعمارها بالقربات.(73/1)
أهمية الوقت ومكانته في حياة المسلم
الحمد لله رب العالمين، خلق كل شيء فقدره تقديراً؛ وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً؛ أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وسِع كل شيء رحمة وعلماً وتدبيراً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً؛ وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عز وجل واعلموا أن الوقت الذي تعيشونه في هذه الحياة الدنيا أنفس ما للإنسان، ولا يقدر بالأثمان، وكل مفقودٍ يمكن أن يسترجع إلا الوقت، فهو إن ضاع لم يتعلق بعودته أمل، ولذلك كان على المسلم أن يحفظه فيما ينفعه في آخرته ودنياه، ويصونه عن الضياع باللهو والغفلة، ويستقبل أيامه استقبال شديد الظمأ لقطرة الماء، واستقبال الضنين للثروة النفيسة، لا يفرط في قليلها فضلاً عن كثيرها، ويجتهد أن يضع كل شيء مهما ضؤل موضعه اللائق به.
أخي المسلم: إن العمر الذي تعيشه هو مزرعتك التي تجني ثمارها في الدار الآخرة، فإن زرعته بخيرٍ وعمل صالح جنيت السعادة والفلاح، وكنت مع الذين ينادى عليهم في الآخرة: (كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] وإن ضيعته في الغفلات، وزرعته بالمعاصي والمحرمات؛ ندمت على ما قدمت يداك حيث لا ينفعك الندم، وتمنيت الرجوع إلى الدنيا لتعمل ولو حسنة واحدة ولكن هيهات هيهات: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
أمة الإسلام: إن المسلم الحق يحافظ على وقته محافظة شديدة، لأن الوقت عمره، فإذا أضاع منه ولو شيئاً يسيراً في غير ما شرعه الله كان عليه حسرةً وندامةً يوم القيامة، وكل ساعة تمرُّ على ابن آدم تقربه إلى الآخرة وتبعده من الدنيا، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[ابن آدم! إنما أنت أيام كلما مضى منك يوم مضى بعضك]] وقال الحسن رحمه الله: [[ما من يومٍ ينشق فجره إلا نادى: يا بن آدم! أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود فيَّ بعملٍ صالح، فإني لا أعود إلى يوم القيامة]] فغريب شأن هؤلاء الناس كيف يلهون ويلعبون، ويركضون وراء شهواتهم والموت يأتي بغتة، وينسون ويعرضون، وكل ذرة من أعمالهم محسوبة {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
إن الإسلام -يا عباد الله- دينٌ جعل للوقت مكانته، وحث على شغله بالطاعات والقربات، وحذر أشد التحذير من إعماله بالمخالفات، وجعل من علامات الإيمان وأمارات التقى أن يعي المسلم هذه الحقيقة، ويسير على هداها، واعتبر الذاهبين عن غدهم، الغارقين في حاضرهم، المسحورين بضيق الدار العاجلة، قوماً خاسرين سفهاء: (إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يونس:7 - 8] وفي الحديث الصحيح عن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: {لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ماذا عمل به} وإنه لمن المؤسف حقاً أن كثيراً من الناس اليوم ابتلوا بتضييع الأوقات بالمحرمات، واتباع الشهوات، والعكوف على المغريات والملهيات، في الوقت الذي نرى فيه أعداء الإسلام يبذلون قصارى جهدهم، ويُعملون كل الوسائل لصد المسلمين عن دينهم، فهل استعد كل مسلم منا للوقوف بين يدي الله، وأعد أجوبة للأسئلة العظيمة: عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟
بأي جوابٍ سيجيب من أفنوا أعمارهم، وقتلوا أوقاتهم، وأبلوا شبابهم فيما يسخط الله من العقائد الفاسدة، والبدع المنكرة، والأفكار الملوثة، والأخلاق السيئة، والأعمال الرذيلة؟
بأي جوابٍ سيجيب من لا يبالي بماله؛ فيكتسبه بالوسائل المحرمة، والحيل الممنوعة، وينفقه في غير الطرق المشروعة؟ ما جواب هؤلاء أمام الجبار جل جلاله حين يسألهم؟
أيها المسلمون: اتقوا الله وأعدوا لهذا الأمر عدته، واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة، ولا تغتروا بحلم الله عز وجل، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:18 - 19].
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم لقائك، اللهم وفقنا لشغل أوقاتنا وأعمارنا بطاعتك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه يغفر لكم، وتوبوا إليه يتب عليكم؛ إنه كان تواباً.(73/2)
اغتنم خمساً قبل خمس
الحمد لله؛ هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
أيها المسلمون: إن أعماركم رءوس أموالكم، ورصيدكم الذي ينفعكم في الدنيا والآخرة، فاغتنموها بالأعمال الصالحة قبل فواتها، فقد ورد في الحديث الصحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {اغتنم خمساً قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وفراغك قبل شغلك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك} وقد فرط كثير من الناس في هذا الزمان في هذه الأمور فلم يرعوها حق رعايتها، فالصحة والفراغ، والشباب والغنى من أكبر النعم التي يغبن فيها الناس، ولا يقوم كثيرٌ منهم بشكرها على الوجه المطلوب، فتنقلب هذه النعم نقماً على أصحابها والعياذ بالله.
عباد الله: اعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، واحذروا الشذوذ والفرقة والاختلاط، وصلوا وسلموا على نبي الرحمة والهدى كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين!
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، اللهم وفق المسلمين قاطبةً إلى ما تحب وترضى يا رب العالمين!
اللهم وفق إمام المسلمين بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به دينك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين، اللهم ارزقه البطانة الصالحة يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم وفق المسلمين قادةً وشعوباً، علماء وعامة، شباباً وشيباً، رجالاً ونساءً إلى العودة الصادقة إلى دينك القويم يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(73/3)
بدعة المولد
إن انتشار البدع بين الناس وسريانها في قلوبهم وعقولهم كما تسري الدماء في أبدانهم ليشكل خطراً على أمة التوحيد والعقيدة، ومن تلك البدع بدعة المولد، التي يزعم أصحابها أنهم يفعلونها تقرباً إلى الله تعالى!! ولقد زين الشيطان لأصحابها، ولعب بقلوبهم فطمسها عن قبول الحق، وجعلهم ينشطون ويجتهدون في حضور هذه الاحتفالات ويتعصبون لها، ويدافعون عنها، ويتهجمون على من أنكرها، وربما تركوا كثيراً من الواجبات الشرعية، ولهم فيها شبهات داحضة، وأدلة واهية.(74/1)
أهمية الاتباع وخطر الابتداع
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وليس لأحد أن يزيد فيه ما ليس منه، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع فيَسَّر، وحكم ودبَّر، ونهى وأمر، وأنعم علينا بنعمٍ لا تحصر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، هو بشر كالبشر، بعثه الله رحمة للعالمين، أرسله ليُطاع ويُتَّبع، لا لتُخالَف سنتُه ويُزاد فيها ويُبتَدع، فلا يصح إيمان عبدٍ به حتى يطيعه فيما أمر، ويصدِّقه فيما أخبر، ويجتنب ما عنه نهى وزجر من المعاصي والبدع الجالبة للخطر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين التزموا سنته، ووقفوا عند هديه، وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما مَنَّ عليكم إذ بعث: {فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:151] وحققوا هذه النعمة باتباع سنة رسولكم صلى الله عليه وسلم، والوقوف عند هديه وشريعته، والبعد عما أحدثه أهل الأهواء من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان.(74/2)
الأمر بلزوم الاتباع من الكتاب العزيز
إخوة الإسلام في كل مكان: لقد جاء الأمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم ولزوم سنته في آياتٍ كثيرة من كتاب الله، وأحاديث شريفة من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكلها نصوصٌ صحيحة في وجوب طاعته، واتباع سنته، والتسليم له دون اعتراض، وعدم الخروج على توجيهاته بأي حال، قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7].
وقال: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
وقال سبحانه محذِّراً مَن يخالف سنة رسوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].(74/3)
الأمر بلزوم الاتباع من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم
كما زخرت سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم بِما يدل على وجوب طاعة الرسول، واتباع السنة، والتحذير من البدع في الدين.
فقد أخرج الإمام الترمذي وأبو داود عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {وإنه من يَعِشْ منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عَضُّوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة}.
تتجلى لكل مسلم من هذه النصوص والآيات الكريمات التي يقْصُر المقامُ عن ذكرها كلها أن المسلم مأمور بالاتباع، ومنهيٌ عن الابتداع وإحداث الأمور المخالفة للدين.
فعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} متفقٌ عليه، وفي رواية لـ مسلم: {مَن عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أي: مردودٌ عليه غير مقبول.(74/4)
الأمر بلزوم الاتباع من أقوال السلف الصالح
وللسلف الصالح رحمهم الله في هذا المجال من الأقوال والأفعال ما يوضح الاتباع العام للقرون الخيرة، ويقدم للمسلمين في كل زمان ومكان المثل الأعلى الذي ينبغي عليهم أن يستلهموا منه المسار والاتجاه.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفِيتم]].
ويقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[ما أتى على الناس عام إلا أحدثوا فيه بدعة، وأماتوا فيه سنة، حتى تحيا البدع، وتموت السنن]].
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: [[كل بدعة ضلالة، وإن رآها الناس حسنة]].
وعن عمر بن عبد العزيز رحمه الله قال: [[سن رسول الله صلى الله عليه وسلم وولاة الأمر بعده سنناً، مَن عمل بها فهو مهتدٍ، ومَن استنصر بها فهو منصور، ومَن خالفها اتبع غير سبيل المؤمنين وولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً]].
وقال الإمام مالك رحمه الله: [[لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها]].
وقال بعض السلف: [[الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على مَن اقتفى أثر الرسول عليه الصلاة والسلام]].
إخوة العقيدة والإيمان: واليوم لما استحكمت غُربة الدين، وقَلَّ أعوانُه وأنصارُه، وكَثُر أعداؤه وألِدَّاؤه، وضعف إيمان أهله، واشتغلوا عنه بغيره، وكَثُر دعاة السوء، وأرباب البدع والخرافة، لما حصل ذلك تغيرت الأحوال، فعاد المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، وانتشرت البدع بين الناس، وسرت في قلوبهم وعقولهم، كما تسري الدماء في أبدانهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(74/5)
الأدلة الواضحة على بدعية الاحتفال بالمولد
أمة الإسلام: ومن البدع المحدَثة في دين الله التي كَثُر انتشارُها ورواجُها اليوم، بل وضربت أطنابَها في أقطارٍ كثيرة جداً من العالَم الإسلامي، واستحكمت في قلوب كثيرٍ من الناس، وعادت عندهم من المعروف الذي لا مِرية فيه: ما يُفعل في شهر ربيع الأول من الاحتفالات والاجتماعات التي ما أنزل الله بها من سلطان، ويسميها أصحابها: احتفالات بذكر مولد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم!! بل وصل الأمر ببعضهم أنهم يخصصون هذا الشهر لشد الرحال إلى مكة والمدينة، قرباً من مواطن المصطفى صلى الله عليه وسلم بزعمهم! وهذا عمل لا مبرر له، وتخصيصٌ لا دليل عليه {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
فتخصيص ليالي هذا الشهر أو بعضها في الاحتفالات لا يجوز شرعاً لأمور كثيرة:-
الأول: أن ذلك من البدع المحدثة في الدين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله، ولا خلفاؤه الراشدون، ولا غيرهم من الصحابة رضي الله عنهم، ولا التابعون لهم بإحسانٍ في القرون المفضلة، وهم أعلم الناس بالسنة، وأكمل حباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومتابعة لشرعه ممن جاء بعدهم، فيَسَعُنا ما وَسِعَهم، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
الثاني: ما ثبت من الآيات والأحاديث في كتاب الله وسنة رسوله التي توجب طاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، والوقوف عند سنته، وتحذر من الابتداع في الدين.
الثالث: أن الله سبحانه أكمل الدين، ورسوله صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وإحداث مثل هذه الموالد يفهم منه أن الله لم يكمل الدين، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما أنزل إليه من ربه، حتى جاء هؤلاء المتأخرون في القرن السادس وما بعده فأحدثوا في شرع الله ما لم يأذن به، زاعمين أن ذلك مما يقربهم إلى الله! وكفى بهذا اعتراضاً على الله سبحانه، وتنقصاً لشرعه، وقدحاً في تبليغ رسوله عليه الصلاة والسلام.
الرابع: أن إقامة مثل هذه الاحتفالات خروجٌ عن جادة الصواب، وتشَبُّهٌ بالكفار من أهل الكتاب في أعيادهم، وقد نُهِِينا عن التشبه بهم.
الخامس: أن العبادات توقيفية، فليس لأحد أن يشرع فيها ولا يشرع منها إلا ما شرع الله ورسوله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].
وقواعد الشريعة ومقاصد الدين تردُّ مثل هذه الاحتفالات:-
فمن القواعد المقررة في الشريعة: (رد ما تنازع الناس فيه إلى الكتاب والسنة) وقد رَدَدْنا مثل ذلك إليهما، فوجدنا فيهما التحذير عن مثل ذلك.
وكذلك: قاعدة (سد الذرائع)، و (إزالة الضرر)، وأكبر الضرر هو الضرر في الدين.
أضف إلى ذلك ما يجري فيه من المنكرات التي أعظمها: الشرك الأكبر بالله من دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم، وطلب الحاجات، وتفريج الكربات منه، وإنشاد القصائد الشركية بمدحه، والغلو فيه، كما يحصل فيها الاختلاط والإسراف، وتبذير الأموال، ورفع الأصوات بلغو القول، وساقط المقال.
هذا مع أن الشهر الذي ولد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو بعينه الذي توفي فيه، فليس الفرح فيه بأولى من الحزن فيه.
وتخصيص ليلة من ليالي هذا الشهر بالاحتفالات خلطٌ وهراء لتضارب أقوال المؤرخين في تحديد يوم ميلاده عليه الصلاة والسلام، ومَن حدد ليلة بعينها للاحتفال فعليه الدليل، وليس ثمة دليل!!
ولعلماء الإسلام المعروفين باتباع السنة قديماً وحديثاً مؤلفات وأقوال كثيرة في إنكار هذه الاحتفالات:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "أما اتخاذ موسمٍ غير المواسم الشرعية كبعض ليالي شهر ربيعٍ الأول التي يقال: إنها ليلة المولد، فهي من البدع التي لم يستحبها السلف الصالح ولم يفعلوها".
وقال رحمه الله: "إن هذا -أي: اتخاذ المولد عيداً- لم يفعله السلف مع قيام المقتضي له، وعدم المانع منه، ولو كان هذا خيراً محضاً أو راجحاً لكان السلف أحق به منا، فإنهم كانوا أشد محبة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وتعظيماً له منا، وهم على الخير أحرص إلى أن قال: وأما الاجتماع في عمل المولد على غناءٍ ورقصٍ ونحو ذلك واتخاذُه عبادة فلا يرتاب أحدٌ من أهل العلم والإيمان في أن هذا من المنكرات التي يُنهى عنها، ولا يَستحبُّ ذلك إلا جاهلٌ أو زنديق".
وخشية الإطالة أحجمت عن ذكر أقوالٍ كثيرة للسلف تنهى عن مثل ذلك وتحذر منه.(74/6)
أصناف الناس الذين يحتفلون بالمولد
إخوة الإسلام: بقي أن تعلموا أن الذين يحتفلون بهذه الأمور البدعية هم ثلاثة أصناف:
الصنف الأول: جَهَلَةٌ مُقَلِّدون:
لسان حالهم يقول: رأينا الناس يفعلون شيئاً ففعلناه، وكفى بهذا ضلالاًَ، قال الله فيهم وفي أمثالهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23].
الصنف الثاني: مُرْتَزِقَةٌُ أَكَلَةٌ فُسَّاق:
يريدون إشباع شهواتهم مِن وراء هذه الاحتفالات؛ بالأكل والشرب واللهو واللعب والاجتماع الباطل.
الصنف الثالث: دُعاةُ سوءٍ وضلالٍ مُغْرِضُون:-
يريدون الدَّسَّ على الإسلام، وصرف الناس عن السنن، وإشغالهم بالبدع والخرافات.
فاتقوا الله يا أمة الإسلام! إلى متى التخبط في مثل هذه الترهات وفي مثل هذه الضلالات؟! إلى متى مثل هذا؟! أين الغيرة على عقيدة التوحيد؟! أين الرغبة في التمسك بسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم؟! إنا لله وإنا إليه راجعون! {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء}.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، وارزقنا السير على سنة سيد المرسلين، وجنبنا المعاصي والبدع في الدين يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(74/7)
شبهات جواز الاحتفال بالمولد
الحمد لله الذي أمرنا بالاتباع، ونهانا عن الابتداع.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن تمسك بسنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعلموا أن الحق يُعْرَف بالأدلة الشرعية، لا بفعل الناس، فلا تغتروا بكثرة مَن يفعل البدع والاحتفالات، فالله تعالى قد قال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
وقد زين الشيطان لأرباب هذه البدع شبهات يتبجحون بها ليلبسوا على العامة وقليلي العلم، وهي في الحقيقة أوهى من نسج العنكبوت لمخالفتها النصوص الصريحة من الكتاب والسنة.
- فمِن شبهاتهم: زعمهم أن فعلهم هذا تعبيرٌ عن الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والفرحة بذكرى مولده، وأن مَن لم يفعل ذلك فلا يحب رسول الله!
وتلك حجة واهية، إن يتبع قائلوها إلا الظن وما تهوى الأنفس، فحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو باتباع شرعه، ولزوم سنته، لا بالاحتفالات البِدْعية المنكَرة {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
- ومِن شبهاتهم: أن هذه الاحتفالات بدعة حسنة:-
وذلك قولٌ باطل، فإن كل بدعة ضلالة، ومِن أين لهم من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أن في الإسلام بدعة حسنة؟
-ومِن شبهاتهم: دعواهم أن الناس تعارفوا عليها وأصبحوا يفعلونها من غير نكير:
ويُرد على ذلك بأنَّا لم نُتَعَبَّد بأفعال الناس وعاداتهم المخالِفَة للدين، وإنما تُعُبِّدْنا بما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله.
ومن العجائب والغرائب أن الشيطان -لعنه الله- قد زين هذه المنكرات لأصحابها ولَعِب بقلوبهم، فطمسها عن قبول الحق، وجعلهم ينشطون ويجتهدون في حضور هذه الاحتفالات، ويتعصبون لها، ويدافعون عنها، ويتهجمون على مَن أنكرها، وربما تركوا كثيراً من الواجبات الشرعية ولا يرفعون بذلك رأسا، ولا شك أن ذلك مِن قلة البصيرة في الدين، ومِن الجهل المبين.
- ومِن ذلك: أن بعضهم يظن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يَحْضُر بِدَعهم، ولهذا يقومون له محيين ومرحبين:
وهذا من أبطل الباطل وأقبح الجهل والعياذ بالله.(74/8)
دعوة إلى اتباع الدليل ونبذ البدع
أيها المسلمون في كل مكان: بهذه الأدلة الناصعة، وهذه الردود الواضحة؛ يتجلى لنا تهافت هذه البدعة، ودحضها، وتفنيدها، ويتبين لمن له أدنى بصيرة وإنصاف واتباع للحق أنها من الخطأ في دين الله، وأنها من الأمور المبتَدَعة، ولم يبقَ إلا أن ننادي المسلمين من هذه البقعة المباركة براءةً للذمة وإبلاغاً للأمة، أن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يتركوا مثل هذه الأفعال، إننا نناديهم نداء العطف والإشفاق والخوف عليهم من عذاب الله، يوم يقفون بين يديه، ويبوءون بأحمالهم وأثقالهم، وأثقالاً مع أثقالهم.
إننا ننادي من هذا المكان الذي انتشرت منه كلمة الحق ودوت في أرجاء العالم الإسلامي، ننادي نداء العقل، وترك التعصب، والبحث عن الحقيقة، واتباع ما دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ننادي أن يُقْلَع عن هذه البدع، فهي لا تزيد أصحابها من الله إلا بُعداً، ولا من رسوله وسنته إلا صدوداً، وأن يأخذوا بسنة نبيهم فلَطَالَمَا شُوِّهَ الإسلامُ الناصعُ بهذه الاحتفالات والشكليات التافهة، التي شَوَّهَت جمال الإسلام، وشَوَّهَت كماله وجوهره.
إنه نداءٌ ملؤه التجرد عن التعصب والهوى، والبحث عن الحق {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [القصص:50].
ألا وصلوا على النبي الأمي كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، صلوا عليه صلاةً بألسنتكم وقلوبكم، صلوا عليه صلاة المتبع له المستن بسنته {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم ارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الرحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين!
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق ولاة أمورنا لما يرضيك.
اللهم احفظ إمام المسلمين بحفظك، واكلأه بعنايتك ورعايتك.
اللهم أيده بتأييدك، وأعلِ به دينك، وأعلِ به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين في كل مكان إلى العودة الصادقة إلى الدين القويم يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(74/9)
تحديات ومآس وبشائر
في يوم عيد الأضحى يتوب المسلمون إلى ربهم بالأضاحي وغيرها من القرب التي ينبغي على المسلمين أن يتعلموا أحكامها وفقاً لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وإن مآسي أمتنا الإسلامية التي تعاني منها سواءً في كوسوفا أو كشمير أو فلسطين أو غيرها لتجعل المسلم يراجع نفسه ويسائلها عن أسباب هذه المآسي التي تقع هنا أو هناك، وما هو واجبنا كولاة وعلماء ودعاة وآمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ورجال إعلام نحو ما يجري لأمتنا.(75/1)
ثناء وتعظيم لله رب العالمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول وعليه المعول، وهو المرتجى ومنه المبتدى وإليه المنتهى، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأولين والآخرين، وأفضل الأنبياء وأشرف المرسلين، الحبيب المصطفى، والرسول المجتبى، هادي البرية، ومعلم البشرية، ومجدد الحنيفية، ومزعزع كيان الوثنية، ومحطم شعارات الجاهلية صلى الله عليه وعلى آل بيته الأطهار، وصحابته الأبرار، وتابعيه الأخيار، صلوات تامات شاملات متعاقبات ما تعاقب الليل والنهار، وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!
الله أكبر كبيراً! والحمد لله كثيراً! وسبحان الله وبحمده بكرة وأصيلاً!
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله!
والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد!
لا إله إلا الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا إله إلا الله الولي الحميد، سبحان من خلق الخلق وأحصاهم عدداً! سبحان من لم يتخذ صاحبة ولا ولداً!
الله أكبر عدد ما تحركت قوافل الحجاج شوقاً إلى البيت الحرام!
الله أكبر عدد ما اهتزت مشاعر الحجيج لرؤية البيت العتيق!
الله أكبر ما كبروا وأحرموا ولبوا! الله أكبر ما طافوا وسعوا وشربوا من ماء زمزم!
الله أكبر عدد ما خرجوا إلى منى ووقفوا بـ عرفة! وباتوا بـ مزدلفة الله أكبر عدد ما غمروا وحلقوا ونحروا وكبروا وشكروا.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر، ولله الحمد؛ الله أكبر عدد ما ذكر الله، ذاكرٌ وكبر، الله أكبر عدد ما حمد الله حامدٌ وشكر، الله أكبر عدد ما تاب تائبٌ واستغفر.
اللهم لك الحمد كالذي نقول وخيراً مما نقول، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على كل حال.
اللهم لك الحمد بكل نعمة أنعمت بها علينا في قديم أو حديث، أو خاصة أو عامة، أو سرٍ أو علانية لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالأمن والأمان، ولك الحمد بالأهل والمال والمعافاة، بسطت رزقنا، وكبتَّ عدونا، وأظهرت أمننا، وجمعت فرقتنا، ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا.
فلك الحمد كثيراً كما تنعم كثيراً، ولك الشكر كثيراً كما تعطي كثيرا، فأهلٌ أنت أن تُحمد، وأهلٌ أنت أن تُعبد، وأنت على كل شيء قدير.
سبحانك ربنا وبحمدك على حلمك وعلمك! سبحانك وبحمدك على عفوك ومقدرتك! سبحانك ربنا ما أكرمك! سبحانك ربنا ما أعظمك! سبحانك ربنا ما أحلمك! سبحانك ربنا ما أعلمك! سبحانك ما عبدناك حق عبادتك! سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك!
اللهم لك الحمد على ما مننت به علينا من بلوغ هذا اليوم العظيم، وعلى ما يسرت لحجاج بيتك الحرام من الوصول إلى هذا المكان المبارك، والوقوف بـ عرفة، والمبيت بـ مزدلفة، والإفاضة إلى منى بكل يسر وأمان، وراحة واطمئنان.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
أما بعد:(75/2)
فضائل وأحكام عيد الأضحى المبارك
فيا إخوة الإسلام في بلد الله الحرام: ويا حجاج بيت الله الكرام! إخوة الإيمان في مشارق الأرض ومغاربها! أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فهي وصيته سبحانه للأولين والآخرين من عباده، يقول عز من قائل: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131]
عباد الله: حجاج بيت الله! أتدرون ما يومكم هذا؟
إنه يوم عيد الأضحى المبارك الذي عظم الله أمره، ورفع قدره، وسماه يوم الحج الأكبر؛ لأن الحجاج يؤدون فيه معظم مناسكهم، يرمون جمرة العقبة ويذبحون هداياهم، ويحلقون رءوسهم، ويطوفون بالبيت، ويسعون بين الصفا والمروة، في هذا اليوم المبارك ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى بعدما وقفوا الموقف العظيم يوم عرفة، ورفعوا أكف الضراعة، وذرفوا دموع التوبة والإنابة، وتضرعوا إلى من بيده التوفيق والإجابة، ثم أفاضوا إلى المزدلفة، وباتوا بها اتباعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم القائل: {خذوا عني مناسككم}
هذا اليوم المبارك -يا عباد الله- جعله الله عيداً يعود بخيره، وفضله، وبركته على المسلمين جميعاً، حجاجاً ومقيمين، في هذا اليوم يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح هداياهم وضحاياهم، اتباعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد نحر صلى الله عليه وسلم الهدي بيده الشريفة، في حجة الوداع ثلاثاً وستين بدنة، وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ضحى بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمى وكبر}.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
أيها المسلمون: لقد ورد الفضل العظيم والثواب الجزيل لمن أحيا شعيرة الأضاحي في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم حيث قال: {ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إراقة دم، وإنها لتأتي يوم القيامة بأظلافها وقرونها وأشعارها، وإن الدم ليقع من الله بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة، وبكل صوفة حسنة، فطيبوا بها نفسا} رواه أحمد، والترمذي، وابن ماجة.(75/3)
شروط الأضحية
ومما ينبغي أن يعلم -يا رعاكم الله- أن للأضحية ثلاثة شروط:
أولها: بلوغ السن المعتبر شرعاً، وهو خمس سنين في الإبل، وسنتان في البقر، وسنة في المعز، ونصف سنة في الضأن.
ثانيها: أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء، وقد بينها صلى الله عليه وسلم بقوله: {أربع لا تجزئ في الأضاحي: العرجاء البين ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها، والعجفاء} وهي الهزيلة التي لا تُنقي.
خرجه الإمام أحمد وأهل السنن من حديث البراء بن عازب رضي الله عنه.
ثالثها: أن تكون الأضحية في الوقت المحدد شرعاً، وهو: من طلوع الشمس من يوم العيد إلى غروب الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق، والأفضل في يوم العيد نهاراً، ولا بأس بالذبح ليلاً، وتجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(75/4)
سنن الأضحية
أيها الإخوة المضحون: ينبغي لكم الإحسان بالذبح بحد الشفرة، وإراحة الذبيحة والرفق بها، وإضجاعها على جنبها الأيسر، والسنة أن يأكل المسلم من أضحيته ويهدي ويتصدق منها، وأن يتولى ذبحها بنفسه، أو يحضرها عند الذبح، ولا يعطي جازرها أجرته منها، يقول عز وجل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] ويقول جل وعلا: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج:34] إلى قوله سبحانه: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} [الحج:36 - 37].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(75/5)
من مظاهر الاجتماع في عيد الأضحى
إخوة الإيمان: يعد هذا الاجتماع المهيب في هذا اليوم العظيم بآثاره الحميدة، وحِكَمه السامية، مظهراً من مظاهر الوحدة الإسلامية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92] ومعلماً من معالم الأخوة الإيمانية التي جاء بها هذا الدين الإسلامي الحنيف، الذي أكمله الله وأتمه للبشرية، ورضيه لها ديناً، فلا يقبل الله من أحدٍ ديناً سواه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
لقد جاءت هذه الشريعة السمحة، فأشرقت على أصقاع المعمورة أنوار الإيمان، ورفرفت على أرجائها رايات العز والأمن والاطمئنان، بعد أن كانت البشرية غارقة في أوحال الشرك والوثنية، ومستنقعات الرذيلة والإباحية، وأودية البغي والظلم والجاهلية، فحمل المصطفى صلى الله عليه وسلم راية الدعوة إلى الحنيفية السمحة، فأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وكانت دعوته عليه الصلاة والسلام مرتكزة على أهم قضية على الإطلاق، وأصل القضايا باتفاق، تلكم هي قضية العقيدة وتوحيد الله جل وعلا في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه وصفاته، فلا إله غيره، ولا رب للناس سواه، بذلك أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:30]
فمن الذي خلق العباد ورزقهم، وأمدهم بالأسماع والأبصار والعقول والأفكار إلا الله وحده؟ وما سواه من ملكٍ أو نبيٍ أو ولي أو بشرٍ أو حجرٍ أو شجر أو قبر أو ضريح أو سواه كائناً ما كان لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرا، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشورا، فالعجب أن يستمرئ أناس التقرب للمخلوق الفقير الضعيف، وينسون الخالق القوي الغني: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:59] {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39] سبحانه وتعالى عما يشرك به المشركون علواً كبيراً.(75/6)
ضرورة التوحيد في جميع الأحوال والأفعال
إذا تقرر ذلك -يا عباد الله- فواجب العباد أن يوحدوا ربهم في جميع أفعالهم، وفي كل أحوالهم، فلا صلاة إلا لله، ولا دعاء إلا له، ولا ذبح ولا نذر ولا تقرب إلا إليه، ولا حلف ولا استعانة ولا استعاذة إلا به: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].(75/7)
التحذير من صرف العبادة لغير الله وقت الخطوب والملمات
فالتوجه إلى غير الله في الخطوب والملمات، وكشف الكروب والمعضلات، وسؤاله شفاء المرضى وقضاء الحاجات، وجلب المنافع ودفع المضار والكربات كل ذلك شركٌ فظيع، وجرمٌ شنيع إنه الذنب الذي لا يغفر، والكسر الذي لا يجبر: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116].
فوحدوا ربكم -يا عباد الله- وأثبتوا له الأسماء الحسنى والصفات العلى التي أثبتها لنفسه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف ولا تمثيل، ومن غير تحريفٍ ولا تعطيل، ومن غير تشبيه ولا تأويل: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
احذروا إتيان السحرة والمنجمين، والكهنة والمشعوذين، وأدعياء علم الغيب والرمالين {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38].(75/8)
عزة الأمة وعلاقتها بالعقيدة
معاشر المسلمين: في هذه العقيدة الصافية، وهذا التوحيد الخالص عزت هذه الأمة وسادت، وسعدت وانتصرت وقادت، اجتمعت كلمتها، وتوحدت صفوفها، وإنه لا عز للبشرية اليوم ولا صلاح ولا سعادة للإنسانية قاطبة إلا بها، فباتباع كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يتحقق للأفراد والمجتمعات ما ينشدونه، ويؤملونه من الخير والهدى {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:123 - 124]، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه عند مسلم وغيره: {وإني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله} وفي رواية: {كتاب الله وسنتي}.
ألا ما أحوج الأمة الإسلامية وهي تمر في هذه المرحلة الدقيقة واللحظات الحاسمة من تاريخها، أن تعود إلى مصدر عزتها وقوتها وانتصارها، لا سيما وهي تواجه التحديات الخطيرة، والهجمات الشرسة من أعدائها الذين يريدون نزع هويتها الإسلامية، وسلب مقوماتها، ونهب خيراتها ومقدراتها، لتكون لقمة سائغة لهم.
فيا أمة الإسلام: هذا دينكم، وشرع ربكم، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم بين أيديكم، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، فوالله وبالله وتالله لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وإياكم والمحدثات من المناهج والأفكار والأهواء، والطرق والآراء، فإن خير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار -والعياذ بالله-(75/9)
مسئولية الناس في الحفاظ على عقيدتهم وأمتهم
إخوة الإسلام: لقد مرت على هذه الأمة فتراتٌ متباينة عاشت فيها بين مدٍ وجزر تقوى تارة وتضعف أخرى تتحد حيناً وتفترق أحياناً ترتبط بالوحيين فتعلو وتتمسك بهما فتنجو، وتبتعد عن النورين فتخبو، وتتساهل في شرع ربها فتكبوا.
وحينما يتأمل المسلم أوضاع أمتنا الإسلامية عبر التاريخ كله، ويديم النظر في أحوالها على امتداد القرون والدهور، واختلاف الأنظار والعصور، يدرك تماماً أنه ما تمسكت الأمة بالثوابت والأصول العقدية والمنهجية والأخلاقية لها إلا حققت آمالها، ولا انحرفت عنها إلا تصدع بنيانها، واهتز كيانها، وأصبحت فريسة في أيدي أعدائها يحتلون ديارها، ويعبثون بخيراتها ومقدراتها، ويمزقونها كل ممزق، حتى تصير أثراً بعد عين، وتمر القرون وتمضي الأعوام والسنون على هذه الأمة وترسو سفينتها على شاطئ عالمنا المعاصر بما فيه من أخطار وتحديات ودسائس ومؤامرات وتصيب الأمة ألوانٌ من المحن، وصنوفٌ من الفتن ضعف ومهانة فرقة وخلاف تفرقٌ في الكلمة تبعثرٌ في الجهود اختلال في الصفوف تسلطٌ من الأعداء غزوٌ فكري وعقائدي وثقافي وأخلاقي، وصدق الله سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
وهذا يدعو كل مسلم يمثل لبنة من لبنات المجتمع الإسلامي أن يعيد النظر في حاله، ويحاسب نفسه، ويعلم أن الطريق إلى إصلاح حال الأمة هو البداية بإصلاح النفوس، وتقويمها على ضوء الكتاب والسنة، ومنهج سلف هذه الأمة.
ومن هنا يأتي دور القادة والولاة، والعلماء، والدعاة، والمفكرين، ورجال التربية والتعليم والإعلام، وحملة الأقلام، ليؤدوا رسالتهم العظيمة، في نشر الإسلام الحق، وتربية الأجيال عليه، ويقفوا سداً منيعاً في وجه كل من أراد النيل منه والإساءة إليه.(75/10)
مسئولية الولاة والحكام تجاه الأمة
فيا قادة المسلمين: ويا أيها الولاة والحكام! إن مسئوليتكم أمام الله عظيمة: [[فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن]] سوسوا شعوبكم بكتاب الله، واحكموهم بسنة رسول الله أقيموا الدين في عباد الله أدوا الأمانة التي تحملتموها، واحكموا الناس بالعدل، وأداء الحقوق عدلاً في الرعية، وقسماً بالسوية، ومراقبة لله في كل قضية كونوا سنداً وعضداً لأهل الخير والدعوة والحسبة والإصلاح حكموا شريعة الله في أرض الله على عباد الله اتخذوا من العلماء الربانيين بطانة، ومن أهل الصلاح والنصح مستشارين تصلح أحوالكم، وأحوال شعوبكم، وتبقى مكانتكم، ويعم الأمن والأمان بلادكم، هذا واجبكم.
أما حقكم فالسمع والطاعة لكم بالمعروف {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، والنصح لكم والدعاء لكم وعدم الخروج على جماعتكم، ووضع الأيدي في أيديكم، لما فيه صلاح العباد والبلاد.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(75/11)
مسئولية العلماء تجاه الأمة
علماء الإسلام: مكانتكم في هذا الدين عظيمة أنتم ورثة الأنبياء وخلفاء الرسل ورواد الإصلاح، والمؤتمنون على البلاغ والدعوة والبيان، قوموا بواجبكم حق قيام، واحذروا تدنيس العلم بالأطماع الدنيوية، والمقاصد المادية كونوا قدوة صالحة للناس، فإذا صلح العلماء صلحت العامة.
هذا وإن الواجب على الناس أن يحفظوا للعلماء مكانتهم، ويعرفوا قدرهم ومنزلتهم، ويذبوا عن أعراضهم، ويحذروا من الوقيعة بهم.(75/12)
مسئولية الدعاة إلى الله تجاه الأمة
أيها الدعاة إلى الله: أنتم سلالة أنبياء الله، وأحفاد رسل الله، قوموا بواجبكم في الدعوة إلى الله، لكن ثم لكن ثم لكن بالطريق السليم، والمنهج الصحيح، والأسلوب الحسن؛ لترتكز دعوتكم على العقيدة والإيمان، ولتزوَّد بالإخلاص والتجرد للواحد الديان، لا إلى طائفة ولا إلى مشربٍ ولا إلى مطامع شخصية، ولا منهجٍ غير منهج النبوة، لتتحد صفوفكم، ولتتوحد كلمتكم، وليكن أسلوبكم في الدعوة متوسماً الحكمة والبصيرة، والموعظة الحسنة، والرفق والمجادلة بالحسنى، وإنزال الناس منازلهم.
حذارِ من العنف والغلظة، وغلبة الحماس والعاطفة المنافية للتحصيل العلمي، والتعقل في الأمور، وبعد النظر، وسعة الأفق في الدعوة، لا تستعجلوا النتائج وقطف الثمرات، فلستم مطالبين بذلك، تدرعوا بالصبر على ما تلاقون من الأذى الحسي والمعنوي ترفعوا عن الخلافات الجانبية، والإغراق في القضايا الفرعية ركزوا على أصول الدين وقواعده الكلية ابدءوا بالمهمات والكليات، ولا تختلفوا بسبب وسائل وجزئيات.
حذار أن يشتغل بعضكم ببعض، وأن تجعلوا من الخلاف فيما فيه سعة ومندوحة طريقاً للشقاق والخلاف، وإيغار الصدور بالحسد والبغضاء، والغل والشحناء: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
واعلموا يا دعاة الإسلام! أنكم ستجدون في طريق الدعوة ألواناً من الابتلاءات، فالصبر الصبر، والاحتساب الاحتساب، وإياكم واليأس والقنوط: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
وثقوا جميعاً -يا رعاكم الله- بنصرة دين الله، وأن العزة والكرامة لأهل الإيمان طال الزمان أو قصر فتلك سنة الله {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62].
في الحديث الصحيح عند الإمام أحمد والحاكم بسندٍ صحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار حتى لا يدع بيت شجرٍ ولا حجرٍ إلا دخله، بعز عزيز وذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل به الكفر وأهله}.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(75/13)
مسئولية الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر تجاه الأمة
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: يا خير أمة أخرجت للناس! قضية تعد صمام الأمان في المجتمعات، يجب على الأمة الإضطلاع بها، وإعزاز شأنها، وتشجيع القائمين عليها مادياً ومعنوياً وأدبياً؛ تلكم هي قضية الحسبة -الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- فإنه قوام هذا الدين، وبه نالت هذه الأمة الخيرية على العالمين {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فالواجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، كلٌ على حسب استطاعته، على درجات الإنكار المعروفة، ولا بد من تحلي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر بالرفق والعلم والحلم والحكمة، ليكون لعملهم الأثر الإيجابي في بعدٍ عن مسالك التعنيف والغلظة {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(75/14)
مسئولية رجال الإعلام تجاه الأمة
أمة الإسلام: الإعلام في هذا العصر قناة مهمة، وشريان حيوي، يؤثر سلباً أو إيجاباً على الناس في مختلف شئونهم، فالواجب على الأمة تسخير وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، وسائر القنوات الفضائية للدعوة إلى الله، ونشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة.
فيا رجال الإعلام: اتقوا الله في مسئولياتكم أدوا أمانة الكلمة، ولا تضيعوا مصداقية الحرف، تحروا الحقائق واحذروا التهويل والاثارة اجعلوا من وسائلكم قنواتٍ للدعوة والتوجيه لما فيه صلاح البلاد والعباد في المعاش والمعاد.
هذا وإن مما ينبغي أن يعمل له المسلمون بجد وإخلاص -لا سيما أهل الثراء والمال وأصحاب المسئولية ورجال
الأعمال- الإسهام بإيجاد القنوات الإعلامية الإسلامية حتى لا تقع هذه الأمة في الانهزامية والتبعية لأعدائها.
معاشر المسلمين: الغزو الفكري والأخلاقي المركَّز ضد المسلمين عبر الوسائل المختلفة مما ينبغي أن يحذره المسلمون ويتصدوا له بالتربية الصحيحة، والعناية بتقوية الإيمان في نفوس النشء وتنشئة الأجيال على ذلك، وعدم إتاحة الفرصة لوسائل الغزو الفكري والأخلاقي أن تتسلل إلى البيوت والأسر، كما ينبغي الحذر مما تبثه بعض وسائل الإعلام المغرضة عن الإسلام وأهله، ووصفهم بأبشع الأوصاف، وإلصاق التهم بهم، وإشاعة مصطلحات موهنة يريدون بذلك تشويه صورة المسلمين، فكونوا على حذر من ذلك -إخوة الإسلام- درءاً للفساد والجريمة أن تتسلل إلى المجتمعات، فتطوح بها بعيداً عن بر الأمان وشاطئ السلام.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(75/15)
مآسي المسلمين تقطر دماً في شتى البقاع
أمة الإسلام: إن تقليب صفحات تاريخنا المعاصر وأوضاعنا الحاضرة، يعطي صورة مأساوية لما آل إليه أمر المسلمين في كثير من الأقطار.(75/16)
مأساة المسلمين في كوسوفا
وأول صفحة مأساوية نطرحها بكل حرارة هي القضية الساخنة في هذه الآونة قضية إخواننا المسلمين في إقليم كوسوفا المسلمة التي وصلت أوج خطورتها، وبلغت حداً لا يسع السكوت عليه، بل لا نكتفي بالشجب والإدانة والتنديد؛ لأن الأمر خطيرٌ جد خطير ضد عقيدتهم وحرماتهم وأموالهم وبلادهم ومقدراتهم، لا لشيء إلا لأنهم قالوا: ربنا الله.
إننا لنتساءل! أين العالم عن هذه المأساة؟ بل أين المسلمون عن الانتصار لإخوانهم ومعايشتهم لمآسيهم، ومشاطرتهم آمالهم وآلامهم؟ أين أدعياء حقوق الإنسان؟ أين المتبجحون بالإنسانية؟ لو قتل أو علج سجن أو أهين واحدٌ من أعداء الإسلام لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاشتغلت وسائل الإعلام بالحديث حوله، والمطالبة بالإفراج عنه والانتصار له، ولكن المسلمين لا بواكي لهم، ودماؤهم أرخص الدماء مع الأسف الشديد!
هل قتل عِلْج واحدٍ جريمة لا تغتفر
وقتل شعب مسلم مسألة فيها نظر
حسبنا الله ونعم الوكيل إلى الله المشتكى! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم! أين الحمية والغيرة؟ أين الإباء والشجاعة؟ أين الشهامة والرجولة؟ أين الإسلام والإيمان؟
إن واجب المسلمين تجاه إخوانهم المستضعفين في شتى بقاع العالم الدعاء والضراعة إلى الله، أن ينصرهم، وأن يفرج عنهم، وأن يبذل المسلمون أموالهم لا سيما الأثرياء منهم لدعمهم.(75/17)
مأساة المسلمين في بورما وكشمير
وإذا قلبت صفحة أخرى من مآسي أمتنا الإسلامية وجدت ما يماثل ذلك أو يقاربه، ما هي أحوال إخوانكم المسلمين في بورما وكشمير؟
لقد قضى عليهم الوثنيون بطمس هويتهم، وتشريدهم من ديارهم، وحرمانهم من ممتلكاتهم، وعملوا فيهم قتلاً وتشريدا، وتخويفاً وتنكيلا، ونحن لا نملك إلا شجباً وتنديداً.(75/18)
مأساة المسلمين في فلسطين
ما هي أحوال إخوانكم في فلسطين؟
في الأرض المباركة ما هي أحوال الأقصى الجريح والقدس الشريف؟
هذه إسرائيل الحاقدة، تعيث في الأرض المباركة فساداً تريد الاستيطان، والتوسع لنشر مذهبها الباطل ودينها المحرف، وبناء هيكلها المزعوم، كل ذلك بتحدٍ واستفزاز لمشاعر المسلمين، وعلى حساب المسلمين وبلادهم.
إن ذلك امتدادٌ لأحلامهم في الانتشار في العالم الإسلامي، ألا شاهت وجوه الصهاينة!
أيعجز المسلمون وهم أكثر من مليار مسلم أن يقفوا أمام هذه الحفنة المجرمة، والشذرمة الآثمة، غير أننا أصبحنا كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم بقوله: {ولكنهم غثاء كغثاء السيل} فالله المستعان!
لا بد من رفع راية الجهاد في سبيل الله؛ لتحرير المقدسات الإسلامية، وإقامة علم الجهاد لدرء الشر وأهل الشقاق والفساد والكفر والعناد لا بد من رفع راية الجهاد في سبيل الله، لتحرير المقدسات الإسلامية من براثن الصهيونية الحاقدة الماكرة، ونرجو أن يكون ذلك اليوم قريباً -بإذن الله- متى ما حققنا كلمة التوحيد، ووحدنا كلمتنا عليها: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].(75/19)
مآسي المسلمين والمبشرات
أمة الإسلام: إنه كلما كثرت مآسي المسلمين فإن البشائر كثيرة، والفأل مطلوب، وأمة الإسلام أمة معطاءة، أنجبت القادة والعلماء والأبطال والعظماء والخير فيها إلى قيام الساعة، فاليأس مردود، والتشاؤم مذموم، وبشائر نصرة الإسلام كاثرة متكاثرة بحمد الله، تعم أرجاء العالم الإسلامي بل العالم بأسره، الكل يريد الإسلام ويبحث عنه لما يمتاز به من تحقيق الأمن والأمان، ومن توفر الكمال والشمول مما لا يتحقق في ظل الأنظمة الأرضية، والشعارات البشرية الجاهلية، التي بان عوارها، وثبت إفلاسها، وصدق الله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وإن المستقبل بحمد الله لهذا الدين القويم، وإن النصر والعز والتمكين للمؤمنين: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يهيئ لهم من أمرهم رشداً، وأن يتقبل من حجاج بيته الحرام حجهم، وأن يجعل حجهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، إنه جواد كريم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(75/20)
صفة الحج إجمالاً
الحمد لله حمداً كثيراً مباركاً كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات والعلى.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وحبيبه وخليله، وأمينه على وحيه، وخيرته من خلقه وصفوته من رسله، أرسله الله هادياً ومبشراً ونذيرا، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وإخوانه وأتباعه، وسلم تسليماً كثيراً.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
حجاج بيت الله الحرام: ضيوف الرحمن! اشكروا الله على ما مَنَّ به عليكم من الإفاضة من مزدلفة إلى منى، بكل يسرٍ وسهولة، واستفتحوا أعمالكم بـ منى برمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات، ثم بعد الرمي ينحر المتمتع والقارن هديه، ثم يحلق أو يقصر والحلق أفضل، وإذا فعل الحاج اثنين من ثلاثة هي: الرمي والحلق والطواف حلَّ له كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء فإنها لا تحل له إلا بعد التحلل الثالث، بفعل هذه الأمور الثلاثة كلها، ومن قدم بعض هذه الأمور على بعض فلا حرج؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: {ما سئل يوم النحر عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلا قال: افعل ولا حرج} وطواف الإفاضة ركنٌ من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، يقول سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] وبعد الطواف يسعى المتمتع سعياً ثانياً لحجه، وكذا المفرد والقارن إن لم يسعيا مع طواف القدوم، ثم يبيت الحجاج بـ منى ليالي أيام التشريق، ويرمون الجمرات الثلاث بعد الزوال، والرمي والمبيت بـ منى هذه الليالي واجبٌ من واجبات الحج، وإذا فعل الحاج هذه الأمور فإن أحب أن يتعجل فله ذلك، وإن تأخر فهو أفضل، يقول سبحانه: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203].
وإذا أراد الحاج الرجوع إلى أهله ومغادرة المشاعر المقدسة، وجب عليه أن يطوف للوداع لحديث ابن عباس رضي الله عنهما: {أُمِر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت} إلا أنه خفف عن المرأة الحائض.(75/21)
تنبيهات مهمات لحجاج بيت الله الحرام
ألا وإن مما ينبغي التنبيه عليه: أن بعض الحجاج -هداهم الله- يتساهلون في بعض الواجبات والرمي والمبيت بـ منى، وقد يوكلون وهم قادرون مستطيعون، وقد يغادرون قبل تمام المناسك، فهذه جرأة عظيمة على مخالفة المنهج الصحيح في هذه الفريضة العظيمة، وليتق الله المسئولون عن الحجيج من المطوفين وأصحاب الحملات، فإنهم مؤتمنون على من معهم من الحجاج.
الله أكبرالله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
حجاج بيت الله الحرام: التزموا السكينة والهدوء والنظام، واحذروا كل ما يكون سبباً في زعزعة الأمن، وجلب الخوف والفوضى، والانصراف عن المناسك.(75/22)
نصائح وتوجيهات لعموم الناس
أيها المسلمون: تذكروا باجتماعكم هذا يوم يجمع الله الأولين والآخرين لفصل القضاء بينهم، فآخذ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله.
تذكروا -يا عباد الله- يوم تحشرون إلى ربكم حفاةً عراةً غرلاً كما ولدتكم أمهاتكم، قد حفيت منكم الأقدام، وعريت منكم الأجساد، وشخصت الأبصار.
تذكروا -عباد الله- الموت وسكراته، والقبر وظلماته، والحشر وكرباته، واستعدوا لذلك بالتوبة النصوح، والعمل الصالح الذي يقربكم إلى الله.
كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
أمة الإسلام: الذنوب والمعاصي خطرها عظيم، وشغلها جسيم، ما حلت في ديارٍ إلا أهلكتها، ولا مجتمعات إلا دمرتها.
عباد الله: جاء دينكم بتحقيق المصالح ودرء المفاسد، والمحافظة على الضرورات الخمس (الدين، والنفس، والمال والنسب، والعقل) وتحريم الاعتداء عليها، وأحاطها بسياج منيع، من الحصانة والعناية والرعاية.(75/23)
الحذر الحذر من المسكرات والمخدرات
إخوة الإسلام: المسكرات والمخدرات بأنواعها أوبئة فتاكة، وسمومٌ مهلكة، يجب التعاون البنَّاء في القضاء عليها، والحفاظ على الأجيال من الانخراط والتورط في حبائلها، وشباك مروجيها ومهربيها، ومستخدميها.
الزنا واللواط عملان شنيعان، وجرمان فظيعان، فيهما انتكاس للفطرة، ومخالفة للشرع والعقل والحكمة، وإضرارٌ بالبدن والصحة، وجلبٌ للخطر على المجتمع بأسره، ويكفي واعظاً ما أخرجته الحظيرة الشهوانية من أمراضٍ جنسيةٍ خطيرة، وما الزهري والسيلان والإيدز إلا نماذج من عقوبات الله على المرتكسين للفطرة، المنتكسين في حمأة الفساد والإباحية.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(75/24)
الحفاظ على الأسرة المسلمة
إخوة العقيدة: الأسرة المسلمة نواة المجتمع الإسلامي بصلاحها تصلح المجتمعات، وبفسادها يفسد عمرانها، وتتقوض أركانها، لذلك فإنه يجب على أركان الأسرة -من زوج وزوجة وأولاد- أن يحققوا إصلاح أسرهم، وأن يُعْنَوا بالتربية السليمة، وأن يسدوا غارات التأثير السلبي عليها.
وإن على الزوجين المسلمين أن يقوم كل واحدٍ منهما بحقوقه وواجباته تجاه الآخر، فما حصلت المشكلات الأسرية، والمعضلات الاجتماعية، وارتفعت نسب الطلاق في كثيرٍ من المجتمعات إلى حدٍ ينذر بخطرٍ على الأسر والبيوتات، إلا بسبب عدم قيام كل واحد من الزوجين بما يجب عليه تجاه الآخر، وكم كان ذلك سبباً وراء انحراف الأحداث، وتشرد الأبناء، ووقوعهم فريسة في أيدي قرناء السوء.
فالواجب علينا أن نتكاتف -جميعاً- على حل مشكلاتنا الاجتماعية، وأن يكون أهل الحل والعقد وحملة الأقلام بإيلاء هذه الموضوعات نصيباً كبيراً من اهتماماتهم، ومن ذلك -يا عباد الله- قضايا الزواج، وغلاء المهور، ورد الاكتفاء، وعنوسة البنات، والتفاخر والمباهاة، والتكاليف والإسراف، والتبذير والبذخ وما إلى ذلك.(75/25)
القيام بحقوق المسلم على أخيه المسلم
أيها المسلمون: ليقم كل واحد منكم بحقوق إخوانه المسلمين عليه، ومن ذلك: رد السلام، وعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس وإجابة الدعوة، وأداء الأمانة، ونشر المحبة والوئام، وتحقيق التعاون على البر والتقوى، وأن يحب المرء المسلم لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه بعيداً عن الأثرة والأنانية، وحب الذات، والحسد، والحقد، والبغضاء، والغيبة، والنميمة، والشحناء، والغش، والتزوير، وأكل أموال الناس بالباطل، والوقوع في المعاملات المحرمة من الربا والسرقة والغش والرشوة، ونقص المكاييل والموازين، وتنفيق السلع بالأيمان الكاذبة وغيرها.(75/26)
القيام بحقوق الوالدين
ليقم كل واحد منكم -يا عباد الله- بحقوق الوالدين، فإن حق الوالدين عظيم، قرنه الله سبحانه بحقه، فقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] كما يجب أن يؤدي المسلم واجبه تجاه أقاربه وجيرانه، من حيث الصلة والبر والإحسان، وليحذر من قطيعة الرحم فإن شؤمها عظيم، وضررها كبير، يحل بصاحبه في العاجل قبل الآجل {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
وإن مما يؤسف له! أن هناك خللاً في العلاقات الاجتماعية بين كثيرٍ من الأقارب نتيجة شبرٍ من الأرض، أو قليل من حطام الدنيا والعياذ بالله.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(75/27)
شباب الإسلام والقيام برسالتهم
شباب الإسلام: أنتم أمل الأمة المشرق، وعدة المستقبل الوضاء، ورجال الغد المتلألئ عليكم بالقيام برسالتكم.
أنتم أحفاد الأبطال الفاتحين، والقادة المجاهدين قوموا بواجبكم واعرفوا مكانتكم وتمسكوا بدينكم، وتلاحموا مع علمائكم، واسلكوا المنهج الوسط، فلا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، حذارِ من الاسترسال في الغفلة والشهوات، والانخداع بالشبهات.(75/28)
المرأة المسلمة والحفاظ على العفاف والحشمة
أخواتي المسلمات: اتقين الله عز وجل في أنفسكن، حافظن على العفاف والحياء والحجاب والحشمة، كُنَّ مسلماتٍ مؤمناتٍ قانتاتٍ حافظاتٍ للغيب بما حفظ الله أنتن في الإسلام دررٌ مصونة، وجواهر مكنونة.
وكُنَّ على حذرٍ مما يبثه أعداء الإسلام الذين يريدون جَرَّكُنَّ إلى السفور والتبرج والاختلاط، والتحرر والإباحية، ووأد المثل والفضائل والقيم، قمن برسالتكن في التربية والتنشئة لأجيالنا الصاعدة خير قيام.(75/29)
الحفاظ على الصلاة وخطر التهاون بها
إخوة الإسلام: حافظوا على عمود دينكم وهو الصلاة، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، وتخلقوا بالأخلاق الإسلامية الكريمة، والمثل والسجايا الحميدة، وحذارِ من الاكتفاء بالتسمي والمظاهر دون عملٍ ولا تطبيق، فليس الإسلام والإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال.
واشكروا الله عز وجل على عموم نعمه وآلائه، فدينكم الإسلامي يحقق لمعتنقيه الراحة والطمأنينة بعيداً عن القلق والاضطراب، والتوتر والاكتئاب، وصدق الله: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! والله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(75/30)
الأمن في الإيمان
إن الإيمان بالله عز وجل طريق للسعادة الدنيوية والأخروية، وسبيل الأمن والحياة الطيبة، فكلما اعتصمت الأمة بربها، وهبها من الأمن والعيش الهنيء الشيء الكثير.
وإن من أعظم ما يسبب اختلال الأمن والاستقرار، وحدوث المحن والاضطرابات هو انتهاك وارتكاب المعاصي والسيئات.(76/1)
دور الإيمان في نشر الأمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وخيرته من رسله وصفوته من خلقه وأمينه على وحيه، معلم البشرية، وهادي البرية، ومجدد لواء الحنيفية، ومزعزع كيان الإلحاد والوثنية، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأخيار، وصحبه الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق التقوى، إن تقوى الله جل وعلا سلاح المؤمنين في الأزمات، والأمة المتقية أمة منصورة، أمة عزيزة مرهوبة الجانب يهابها أعداؤها.
أيها الإخوة في الله: إن الإيمان بالله سبحانه وتعالى طريق للسعادة في الدنيا والآخرة، وسبيل إلى الأمن والأمان: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].
أيها المسلمون: لقد كان الناس قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم في جاهلية وضلال، في خوف وذعر واضطراب، فجاء الله بهذا الدين، وكتب لهذه الأمة الأمن والأمان، والنصرة والعزة والسعادة؛ إن هي نصرت دين الله: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
فواجب المسلمين -أيها الإخوة في الله- أن يحققوا أساليب النصر، وأن يسعوا إلى كل ما من شأنه رفعة مكانتهم في الدنيا والآخرة، ولن يكون ذلك إلا بالتمسك بالإسلام، بحفظ حدود الله، وبشكر نعم الله عز وجل، وبالوقوف عند حدوده سبحانه وتعالى، وبالحذر من الذنوب والمعاصي.
أمة الإسلام: ما أنعم الله على عباده نعمة بعد نعمة الإيمان أعز من نعمة الأمن في الأوطان، وهل تكون حياة وسلامة واستقرار مع الخوف والذعر والاضطراب؟!
إن عمران الحياة لا يكون إلا بالأمن، وإن الأمن لا يكون إلا بالإيمان بالله سبحانه، ونصرة دين الله جل وعلا، والاستقامة على شرعه، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن الحياة الهانئة الطيبة الآمنة المطمئنة لا تكون إلا تحت ظلال الإيمان والعمل الصالح: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
فليكن كل مسلم عيناً ساهرةً أمينةً على تحقيق الأمن لنفسه، وتحقيق الأمن لمجتمعه، وتحقيق الأمن لأمته الإسلامية جميعاً.(76/2)
اختلال الأمن والاستقرار بالذنوب والأوزار
أيها الإخوة في الله: إن كل ما يعكر صفو الأمن في المجتمعات يكون بمخالفة شريعة الله سبحانه، والوقوع في الذنوب والمعاصي التي هي الضرر العظيم، والشر الكبير، والخطر المستطير: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنفال:53] {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
فالمعاصي والمحرمات والذنوب والمنكرات ما كانت في ديار إلا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها.
فعليكم -يا عباد الله- باللجوء إلى ربكم وطاعته سبحانه، والبعد عن الذنوب والمعاصي، والبعد عن الإشراك بالله، والبعد عن كل ما يخالف عقيدة التوحيد، والبعد عن ترك الصلاة، والبعد عن كل ما حرم الله سبحانه من الربا والزنا والسرقة والخمر، وما إلى ذلك من ضروب المحرمات والمنكرات؛ التي حرمها ديننا الإسلامي الحنيف.
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وداوم عليها بشكر الإله فإن الإله سريع النقم
فإن نعم الله -يا عباد الله- على خلقه كثيرة لا تحصى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، ولكن بقاء هذه النعم وقرارها، إنما يكون بشكرها، وشكرها لا يكون باللسان وحده، وإنما بالعمل بشريعة الله، والتمسك بدين الله جل وعلا، والالتزام بحدوده، والبعد عن المحرمات كلها: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].(76/3)
الواجب عند المحن
أيها الإخوة في الله: لا ريب أنكم تسمعون وتدركون ما تموج به الساحة في هذه الأيام، ولكن -أيها الإخوة في الله- ما واجب المسلمين حيال هذه الأحداث؟
إن الواجب يتلخص في الكلمة السامية التي أعلنها ولي أمر هذه البلاد حفظه الله في دينه، ونصره بشرعه، حيث بين خادم الحرمين الشريفين حفظه الله ونصره والمسلمون على أعدائهم، بيَّن حفظه الله ما ينبغي للمسلمين حيال هذه القضايا التي جدَّت على ساحة الأمة الإسلامية.
ولن يكون ذلك -أيها الإخوة- إلا بعودة المسلمين جميعاً إلى كتاب الله سبحانه، والالتزام بحدوده جل وعلا، والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، والسعي للإصلاح بين المسلمين {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9].
لقد جاءت هذه الكلمة السامية نبراساً لهذه الأمة في هذه المرحلة بالذات، وكانت بلسماً شافياً، ودواءً ناجعاً، وطريقاً واضحاً للسالكين.
إنه -أيها الإخوة- بإعداد القوة حماية للدين والأموال والأعراض، والأنفس والأوطان: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال:60].
إنني من هذا المكان المبارك أؤيد باسم المسلمين جميعاً هذه الكلمات الناصحة من ولي أمر هذه البلاد -حفظه الله بشرعه وأعزه بدينه، ونصره والمسلمين على أعدائهم- فما عليكم -أيها الإخوة في الله- إلا أن تراجعوا دينكم، وتطيعوا ولاة أمركم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] وتعدوا القوة المعنوية، قوة الإيمان بالله، وقوة العقيدة الإسلامية الصحيحة، والالتزام بالإسلام، والتمسك بدين الله عز وجل، وتعملوا جاهدين لإعداد أنفسكم مادياً وحسياً وتدريبياً، لتكونوا أعضاء نافعين عند حدوث الملمات، وعند حدوث المصائب والمشكلات على أوطانكم ومجتمعاتكم.
فهذا واجب كل مسلم -أيها الإخوة- أن يسعى لهذه القضايا المعروفة، وأن يجدَّ في تحقيقها، وأن يراجع حساباته، وأن يستفيد من الدروس والعبر، التي تمليها ما جد على ساحة الأمة الإسلامية، وإنني بعون الله واثق أن ما حصل للمسلمين ما هو إلا ابتلاء وامتحان، وقضاء وقدر، ينبغي علينا أن نتدرع بالصبر والإيمان، وقوة التوكل على الله، والجد للإصلاح بين المسلمين، والتعاون على البر والتقوى، وتحقيق مبدأ الأخوة في الله، بمساعدة من يستحق المساعدة، ونصرة المظلوم على الظالم، وكل ذلك أمر ينبغي أن يقوم به المسلمون {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}.
وإن المسلمين لواثقون بوعد لله، وواثقون بنصر الله وأنه ناصر دينه، ومعلٍ كلمته، ومعز أولياءه، ولكنه يبتلي عباده بالنعم، ويبتليهم بالنقم لعلهم يراجعون ربهم، ويتوبون إليه، فتوبوا إلى ربكم -أيها الإخوة- جِدوا في إصلاح أنفسكم، التزموا بدينكم، ارضوا بما قضاه الله وقدَّره، واسعوا بالعناية بأنفسكم حماية لها، ولأسركم، ولمجتمعاتكم، ولدينكم، ولأمتكم الإسلامية جمعاء؛ لتكونوا أعضاء صالحين، ولبنات قوية في بناء المجتمع المسلم.
نسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يهيئ لأمة الإسلام من أمرها رشداً، ونسأله أن يعزها بالإسلام، وأن يحفظها بالإسلام، وأن يقيها من شرور الفتن ما ظهر منها وما بطن، وأن يكبس من أراد أن يعكر صفو أمن المجتمعات الإسلامية، أن يكبس جهوده ومخططاته، وأن يجعل كيده في نحره، وأن يكفي بلاد المسلمين عدوان الغاشمين وتربص المتربصين إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(76/4)
رسالة عمر إلى سعد بن أبي وقاص
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله أعز جنده، ونصر كلمته، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، داعية السلام، ورافع لواء المحبة والوئام، والداعي إلى دار السلام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أيها الإخوة في الله: اتقوا الله جل وعلا حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، من حفظ حدود الله؛ حفظه الله جل وعلا، ومن نصر دين الله؛ نصره الله سبحانه وتعالى.
كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أمير جيشه سعد بن أبي وقاص، فقال: [[أما بعد: فإني آمرك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال، فإن تقوى الله أفضل العُدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم، فإن ذنوب الناس أخوف عليهم من عدوهم، وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذاك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة، وإلا ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، فاعلموا أن عليكم في سيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله، ولا تقولوا: إن عدونا شر منا فلن يُسلط علينا، فرب قوم سُلط عليهم شر منهم، واسألوا الله العون على أنفسكم كما تسألونه النصر على عدوكم]].
أيها الإخوة في الله! هذه رسالة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وهي رسالة تمر عبر القرون، وتصل إلى أحداث المسلمين المتأخرة، فما عليهم إلا أن ينصروا دين الله، وما على قادتهم إلا أن يجتمعوا على الحق ويسعوا إليه، ويجدوا في الإصلاح بين المسلمين، أسوة بما تقوم به هذه البلاد المباركة، وولاة أمرها حفظهم الله، وعلى المسلمين جميعاً أن ينصروا دين الله، ويعلوا كلمته، فلهم من رحاب البيت العتيق، ومن جوار الكعبة المشرفة دعواتنا بملء أفواهنا وحناجرنا، ومن أعماق قلوبنا، أن يجمع الله قلوبهم على الحق، وأن يكلل مساعيهم بالنجاح والتوفيق، وأن ينصرهم على أعدائهم، وأن يأخذ بأيديهم إلى ما يحبه ويرضاه، ليعيدوا الحق إلى نصابه: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20] بارك الله مساعيهم، وبارك في جهودهم في جمع كلمة المسلمين، وفي تحقيق الخير للأمة الإسلامية، سدد الله خطاهم وأعانهم على شئون دينهم ودنياهم.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير الورى، والسراج المنير، والهادي البشير، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء المسلمين يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا وأراد دولتنا وأراد المسلمين بسوء في كل مكان فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين!
اللهم أرنا بهم عجائب قدرتك، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه يا رب العالمين.
اللهم وفق قادة المسلمين إلى تطبيق شرعك، والاجتماع على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، والسعي في إصلاح أحوال المسلمين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم فرج هم المهمومين من إخواننا المسلمين، ونفس كرب المكروبين، ورد الغائبين إلى بلادهم يا رب العالمين.
اللهم أعذنا من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارزقنا عند حدوث الفتن التمسك بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
هذا وإن عليكم -أيها المسلمون- أن ترفعوا أكُفَّ الضراعة إلى الله، وتلهجوا بالدعاء أبداً ودائماً، فإن سلاح الدعاء سلاح عظيم ينصر الله به المسلمين، فارفعوا أيديكم لنصرة المسلمين، وأن يحقق الله أمن الآمنين، إنه جواد كريم.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(76/5)
رمضان مدرسة لتجديد الإيمان
رمضان بالنسبة للمسلم محطة يتزود منها بالإيمان الذي يعينه في رحلته إلى الله.
وفي السنة النبوية آداب عظيمة في استقبال هذا الشهر، وكيفية التعامل معه، والاستفادة من أوقاته الثمينة.
وفي هذه المادة بيان لواقع الناس مع هذا الشهر، واختلافهم في الاستعداد له.
فمنهم من يفرح بحلوله ويستعد له بالأعمال الصالحات، ومنهم من يستعد له بأصناف المأكولات، والسهر أمام الفضائيات!
كما احتوت هذه المادة على واجبات الأمة في الاقتداء بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الاستعداد لرمضان، وقضاء أوقاته في العبادات المختلفة.(77/1)
واقع الأمة مع شهر رمضان
الحمد لله يمن على عباده بمواسم الخير أفراحاً، ويدفع عنهم بلطفه أسباب الردى شروراً وأتراحاً، أحمده تعالى وأشكره شكراً يتجدد ويتألق غدواً ورواحاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مبدع الكائنات أرواحاً وأشباحاً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله رافع لواء الدين دعوة وإصلاحاً، والهادي إلى طريق الرشاد سعادة وفلاحاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خيار هذه الأمة تقىً وصلاحاً، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبت الليالي والأيام مساءً وصباحاً، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فهي العدة العتيدة لمن رام خيراً وصلاحاً، ونشد عزاً وفلاحاً، وقصد براً وتوفيقاً ونجاحاً.
أيها المسلمون: أرأيتم بماذا تقاس أفراح أهل الإيمان؟
إنها أفراح علوية، ومسرات روحية، تطلق النفوس من قيد المطامع الشخصية، وتحررها من أسر الأغراض المادية، وتحلق بها في آفاق أسمى وأولى، وتترقى بها في طموحاتٍ أرحب وأعلى، لذلك كانت أفراح أهل الإيمان عن الملذات تتسامى، وعن المشتهيات تترفع وتتعالى، أفراح المؤمنين تتجدد بتجدد مواسم الخير والعطاء، ومناسبات الطهر والصفاء، والمحبة والمودة والإخاء، والبر والسعادة والهناء.(77/2)
فرحة الأمة بحلول هذا الشهر الكريم
إخوة الإسلام: ويا لها من فرحة غامرة تعيشها الأمة الإسلامية هذه الأيام، فهي إزاء دورة جديدة من دورات الفلك السيار، والزمن الدوار، وإن في مرور الليالي والأيام لعبراً، وفي تصرم الشهور والأعوام لمزدجراً ومدكراً.
تمر الأيام وما أسرعها! وتمضي الشهور وما أعجلها! ويطل علينا موسمٌ كريم، وشهر عظيم، ويفد علينا وافدٌ حبيب وضيف عزيز، فبعد ساعاتٍ معدودات يهل علينا شهر رمضان المبارك بأجوائه العبقة، وأيامه المباركة الوضاءة، ولياليه الغر المتلألئة، ونظامه الفريد المتميز، وأحكامه وحِكَمه السامية.
هو من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة لما له من الخصائص والمزايا، ولما أعطيت فيه أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم من الهبات وخصت فيه من الكرامات، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وأغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين}.
فيا لها من فرصة عظيمة، ومناسبة كريمة، تصفو فيها النفوس، وتهفو إليها الأرواح، وتكثر فيها دواعي الخير، تفتح الجنات، وتتنزل الرحمات، وترفع الدرجات، وتغفر الزلات، وتحط الأوزار والخطيئات، يجزل الله فيها العطايا والمواهب، ويفتح أبواب الخير لكل راغب، ويعظم أسباب التوفيق لكل طالب، فلله الحمد والشكر على جزيل نعمائه، وترادف مننه وآلائه.(77/3)
حاجة الأمة لهذه الفترة الروحية
معاشر المسلمين: إن الأفراد والأمم لمحتاجون لفترات من الراحة والصفاء لتجديد معالم الإيمان، وإصلاح ما فسد من أحوال، وعلاج ما جد من أدواء، وشهر رمضان المبارك هو الفترة الروحية التي تجد فيها هذه الأمة فرصة لاستجلاء تأريخها، وإعادة أمجادها، وإصلاح أوضاعها.
إنه محطة لتعبئة القوى الروحية والخلقية التي تحتاج إليها الأمة، بل يتطلع إليها كل فردٍ في المجتمع، إنه مدرسة لتجديد الإيمان، وتهذيب الأخلاق، وتقوية الأرواح، وإصلاح النفوس، وضبط الغرائز، وكبح جماح الشهوات، إنه مضمار يتنافس فيه المتنافسون للوصول إلى قمم الفضائل، ومعالي الشمائل، وبه تتجلى وحدة الأمة الإسلامية.
الصيام مدرسة للبذل والجود والبر والصلة، هو حقاً معين الأخلاق ورافد الرحمة، ومنهل عذب لأعمال الخير في الأمة.
فما أجدر الأمة الإسلامية وهي تستقبل شهرها أن تقوم بدورها! وتحاسب نفسها! وتراجع حساباتها! وتعيد النظر في مواقفها.
ما أحوجها إلى استلهام حكم الصيام، والاستفادة من معطياته، والنهل من معين ثمراته ونمير خيراته.(77/4)
أصناف الناس في استقبال هذا الشهر الكريم
أمة الإسلام: بماذا عسانا أن نستقبل شهرنا الكريم، وموسمنا الأغر العظيم؟ إن الناظر في واقع الناس اليوم إزاء استقبال هذا الشهر الكريم يجدهم أصنافاً.
فمنهم: من لا يرى فيه أكثر من حرمانٍ لا داعي له، وتقليدٍ لا مبرر له، بل قد يرفع عقيرته مدعياً أنه قيودٌ ثقيلة وطقوسٌ كليلة تجاوزها عصر الحضارة وتطور الثقافة وركب المدنية الحديثة.
ومنهم من لا يرى فيه إلا جوعاً لا تتحمله البطون، وعطشاً لا تقوى عليه العروق.
ومنهم من يرى فيه موسماً سنوياً للموائد الزاخرة باللذيذ المستطاب من الطعام والشراب، وفرصة سانحة للسمر والسهر واللهو إلى هجيعٍ من الليل، بل إلى بزوغ الفجر، ممتطين صهوة الفضائيات، وما تقذف به شتى القنوات، وما تعج به شبكات المعلومات، يتبع ذلك استغراق في نومٍ عميق نهاراً، فإذا كان من ذوي الأعمال تبرم بعمله، وإذا كان من أصحاب المعاملات ساءت معاملاته وضاق عطنه، وإذا كان موظفاً ثقل عليه الالتزام بأداء مسئولياته، وقلَّ إنتاجه وعطاؤه، وغالب هذا الصنف هم من يملأ الأسواق هذه الأيام تبضعاً وتخزيناً للمواد الغذائية المتنوعة زاعمين أن ذلك يترجم الاستقبال الأمثل لرمضان.
وفي الأمة بحمد الله وهم الأكثرون إن شاء الله من يرى في رمضان غير هذا كله، وأجلَّ منه جميعه، يرون فيه دورة إيمانية تدريبية لتجديد معانٍ عظيمة في النفوس، من الإيمان العميق، والخلق القويم، والصبر الكريم، والعمل النبيل، والإيثار الجليل، والتهذيب البليغ، والإصلاح العام للأفراد والمجتمعات.(77/5)
واجب الأمة تجاه هذا الشهر الكريم
إن استقبالنا لرمضان يا عباد الله يجب أن يكون بالحمد والشكر لله جل وعلا، والفرح والاغتباط بهذا الموسم العظيم، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
والتوبة والإنابة من جميع الذنوب والمعاصي، وأي عبدٍ لم يلم بشيءٍ منها؟ كما يجب الخروج من المظالم، وأداء الحقوق إلى أصحابها، وفتح باب المحاسبة الجادة للنفوس، والمراجعة الدقيقة للمواقف، والعمل على الاستفادة من أيامه ولياليه صلاحاً وإصلاحاً، بهذا الشعور والإحساس يتحقق الأمل المنشود، وتسعد الأفراد والمجتمعات بإذن الله.
أما أن يدخل رمضان ويراه بعض الناس تقليداً موروثاً وأعمالاً صورية محدودة الأثر ضعيفة العطاء، بل لعل بعضهم أن يزداد سوءاً وانحرافاً والعياذ بالله، فذلك انهزام نفسي، وعبثٌ شيطاني، له عواقبه الوخيمة على الفرد والمجتمع، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: {من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه} ألا فلتهنأ الأمة الإسلامية جميعاً بحلول هذا الشهر العظيم، وليهنأ المسلمون قاطبة بهذا الوافد الكريم.
إنه فرصة للطائعين للاستزادة من العمل الصالح، وفرصة للمذنبين للتوبة والإنابة، كيف لا يفرح المؤمن بفتح أبواب الجنان؟! وكيف لا يفرح المذنب بإغلاق أبواب النيران؟! يا لها من فرصٍ لا يرحم فيها إلا مرحوم، ولا يحرمها إلا محروم! ويا بشرى للمسلمين بحلول شهر الصيام والقيام!
فالله الله عباد الله في الجد والتشمير دون استثقالٍ لصيامه! واستطالة لقيامه، واستبطاءٍ لأيامه! وحذار حذار من الوقوع في نواقضه ونواقصه! أو تعاطي مفطراته الحسية والمعنوية! وقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه}.
إخوة الإيمان! إن شهر رمضان آتٍ بعد لحظات:
جاء شهر الخيرات بالبركات فأكرم به من زائرٍ هو آت
فالذين يستقبلونه على أنه شهر جوعٍ ونومٍ، وحرمانٍ نهاري، وشبع وسهر ليلي، وأعمالٍ وأقوالٍ لا تجاوز اللسان، ولا يعمر به جنان، لن يستفيدوا من معطياته، ولن ينهلوا من خيراته.
وأما الذين يستقبلونه على أنه مدرسة لتجديد الإيمان، ومحطة لتهذيب الأخلاق والسلوك، وتقوية الضمائر والأرواح، وانطلاقة جادة لحياة أفضل، ومستقبلٍ أكمل، فهؤلاء هم المستثمرون على الحقيقة، قد أغذوا السير وأعدوا الحياة لتروح نسماته، والنهل من خيراته وبركاته، هؤلاء هم الخليقون بالرحمات، الحقيقون بالخيرات، الجديرون بالعطايا والهبات، المبشرون بروح الجنات، هؤلاء بإذن الله هم المعول عليهم بعد الله في صلاح الأوضاع، واستنزال النصر والعزة، وكسب الجولات، في إسعاد المجتمعات، ومواجهة التحديات.
وما أحوجنا إلى هذا الجيل الإيماني اليوم ونحن نواجه المؤامرات من قوى الشر والطغيان، وإن الغيور ليتساءل بحرقة وأسى: بأي حالٍ يستقبل إخواننا المسلمون في الأرض المباركة فلسطين شهر رمضان المبارك، وهم يواجهون العدوان اليهودي الغاشم ضد مقدسات الأمة ومقدراتها هناك؟! بأي حال يستقبل إخواننا في العقيدة على ثرى كشمير والشيشان وفي بقاعٍ كثيرة من العالم هذا الشهر الكريم؟!(77/6)
مساعدة المحتاجين من الواجبات في هذا الشهر
إن الواجب علينا -يا عباد الله- شكر نعمة الله على ما نعيشه من أمنٍ وأمان، وأن نقدم لإخواننا المسلمين المضطهدين في دينهم في كل مكان، ما نستطيعه من دعاءٍ وبذل وعطاء لا سيما من ذوي المال واليسار، والغنى والاقتدار، في تلمس احتياجات إخوانهم الذين تربطهم بهم عقيدة الإسلام، كيف لا وقد حلَّ فينا شهر الخير والبركة، وهو شهر الجود والبذل والعطاء، فلنتحسس إخواننا المحتاجين من قريبٍ وبعيد، فنمد لهم يد العون والمساعدة، وهذا من واجب الأخوة الإسلامية.(77/7)
رمضان فرصة عظيمة للتوبة والإقلاع عن الذنوب
وهمسة محبٍ ناصح في أذن كل من يواقع معصية، أو يقترف خطيئة، فإن شهر رمضان فرصة للإقلاع والندم والتوبة والإنابة، وهو مدرسة الصبر والتحمل والقوة والإرادة، فلنبادر جميعاً إلى الكف عن الوقوع في أي لونٍ من ألوان المحرمات في حقوق الله أو في حقوق عباد الله، لاسيما والأجواء الإيمانية والأوقات الروحانية تعين على ذلك، كيف لا والعمر قصير، والأجل يأتي بغتة.
والله المستعان.(77/8)
واجب رجال الإعلام في هذا الشهر
كما أن الدعوة موجهة وبإلحاح إلى القائمين على وسائل الإعلام، والمسئولين عن القنوات الفضائية، أن يتقوا الله في الأمة في هذا الشهر الكريم، فيبثوا الخير والفضيلة، ويكفوا عن الشر والرذيلة، تأدباً مع قدسية الزمان، ورعاية لحرمة شهر رمضان، هذا إن رمنا الاستفادة من هذا الشهر الكريم، وإننا لفاعلون إن شاء الله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
اللهم بلغنا بمنك وكرمك شهر رمضان، اللهم أهلَّ علينا شهر رمضان بالأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والتوفيق لما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام، واغفر اللهم لنا ما سلف وكان، من الذنوب والخطايا والعصيان، اللهم اجعله شهر عزٍ ونصرٍ للإسلام والمسلمين في كل مكان، اللهم وأعنا فيه على الصيام والقيام، واجعلنا ممن يصومه ويقومه إيماناً واحتساباً، إنك خير مسئول وأكرم مرتجى مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(77/9)
سنة التبشير بهذا الشهر وتشويق الناس إليه
الحمد لله يمنُّ على عباده بمواسم الخيرات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له رب البريات، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بكريم السجايا وشريف الصفات، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماوات.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واشكروه على ما منّ به عليكم من قرب حلول شهر الصيام والقيام، واعلموا -يا رعاكم الله- أن إدراك شهر رمضان نعمة عظمى ومنة كبرى، فكم من أناسٍ حال بينهم وبينه هاذم اللذات ومفرق الجماعات، ولقد كان رسولكم صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه بقدوم شهر رمضان، يستحث بذلك عزائم المؤمنين، ويشرح صدور المسلمين للإقبال على طاعة رب العالمين، ويشوقهم ويرغبهم فيما عند الله من الفضل العظيم والخير العميم، فقد روى ابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما والبيهقي من حديث سلمان رضي الله عنه قال: {خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يومٍ من شعبان فقال: أيها الناس! قد أظلكم شهرٌ كريم مبارك، شهرٌ فيه ليلة خيرٌ من ألف شهر} الحديث.
وفي الحديث الآخر: {أتاكم رمضان شهر بركة يغشاكم الله فيه فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب فيه الدعاء، ينظر الله تعالى إلى تنافسكم فيه ويباهي بكم ملائكته، فأروا الله من أنفسكم خيراً، فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله عز وجل} رواه الطبراني وغيره، ورواته ثقات من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وينادي منادٍ: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كل ليلة}.
فيا أيها المسلمون: أروا الله من أنفسكم خيراً، افتحوا صفحة جديدة من حياتكم، مسطرة بأحرف الخير والبر والتقوى والعمل الصالح.
أتى رمضان مزرعة العباد لتطهير القلوب من الفساد(77/10)
الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في الاستعداد لرمضان
تأسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، فقد كان عليه الصلاة والسلام إذا جاء رمضان استعد له، لا بالمآكل والمشارب، بل بالطاعة والعبادة والجود والسخاء، فإذا هو مع ربه العبد الطائع والمنيب الخاشع، ومع عباده الرسول الجائع السخي الجواد الكريم: {وكان عليه الصلاة والسلام أجود بالخير من الريح المرسلة}.
فيا أيها المؤمنون: استعدوا لشهر رمضان واستقبلوه بالخير والعمل الصالح.
إذا رمضان أتى مقبلاً فأقبل فبالخير يستقبل
وأعدوا أنفسكم للتخلق بأخلاقه، والاستفادة من حكمه وأسراره، فيا من يريد تجارة لن تبور، ورزقاً لا ينفد، وربحاً لا يحد ولا يعد! في هذا الشهر تدرك، وبالصيام فيه تلحق بركب الفائزين، هاهي سوق الخير نصبت فأين المتاجرون؟ وساحة العفو اتسعت فأين المتنافسون؟
هيا أيها المؤمنون: قد فتحت أبواب الجنة، فأين الراغبون؟
ويا أيها المذنبون: قد أغلقت أبواب النار، فأين التائبون توبة صادقة نصوحاً شاملة لكل جوانب الحياة؟
نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير الورى وأفضل من وطئ الثرى كما أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله أبي القاسم، ما تعاقب الجديدان وتتابعت المواسم، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا يا رب العالمين، اللهم انصر به دينك وأعل به كلمتك، وأعز به أولياءك، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لاتباع كتابك وتحكيم سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين يا ذا الجلال والإكرام.
يا قوي يا عزيز! نسألك أن ترينا في اليهود عجائب قدرتك، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك فإنهم لا يعجزونك، اللهم انصر إخواننا في فلسطين عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم فرق جمع اليهود ومن شايعهم، وشتت شملهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم هيئ لهذه الأمة من أمرها رشداً.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كشمير والشيشان وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.
اللهم أقر أعيننا بإعادة المسجد الأقصى إلى بلاد المسلمين، اللهم أخرج اليهود منه أذلة صاغرين، اللهم اجعله شامخاً عزيزاً إلى يوم الدين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(77/11)
يوم النحر
هذه خطبة ألقيت في يوم النحر، وقد أدى الحجاج ما تيسر من أعمال الحج، وبقيت بعضها، وقد ذكر الشيخ فيها الأعمال التي يقوم بها الحجاج في يوم النحر، وفضل التكبير في أيام التشريق، وضرورة التمسك بالسنة النبوية.
والخطبة بعمومها تضيف أحكاماً هامة، ومعرفة بالحج يحتاجها كل المسلمين، ودعوة إلى استحضار التاريخ العريق لهذه المشاعر، واستلهام الدروس والعبر من ذلك.(78/1)
فضل الحج وأعماله
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، نحمدك ربي وأنت الرحيم البر، حمداً كثيراً يتجدد في الآصال والبكر، ونشكرك على ما مننت به علينا من حلول يوم النحر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العليم بما بطن وما ظهر، سبحانه وبحمده، تعاظم ملكوته فاقتدر، وتعالى جبروته فقهر.
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ومصطفاه من البشر، ذو المجد الأغر، والوجه الأنور، والجبين الأزهر، والفضل الأظهر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما اتصلت عينٌ بنظر، وأذنٌ بخبر، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام: ويا حجاج بيت الله الحرام! أوصيكم ونفسي بتقوى الله الملك العلام، فإنها خير زادٍ يبلغكم إلى دار السلام، وهي السبب لتكفير الذنوب والآثام: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].
عباد الله: حجاج بيت الله! اشكروا الله جل وعلا على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، حيث تعيشون هذه الأجواء الروحانية العبقة، والنفحات الإيمانية المباركة، بعد أن من الله عليكم بالوقوف على صعيد عرفة، والمبيت بـ مزدلفة، والإفاضة إلى منى، والقيام بما تيسر من أعمال يوم النحر؛ من الرمي والذبح والحلق والطواف، فيا لها من مواقف عظيمة، وأعمالٍ جليلة! حيث تسكب العبرات، وتتنزل الرحمات، وتقال العثرات، وتحل الخيرات والبركات، وتمحى الذنوب والسيئات، اشكروا الله جل وعلا أن بلغكم هذا اليوم العظيم، وهذا الموسم الكريم.
لك الحمد يا رب الحجيج جمعتهم ليوم طهور الساح والعرفات
واعلموا -رحمكم الله- أن يومكم هذا يومٌ مبارك، رفع الله قدره، وأعلى ذكره، وسماه يوم الحج الأكبر، وجعله عيداً للمسلمين حجاجاً ومقيمين، فيه ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى، في هذا اليوم المبارك يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم، اتباعاً لسنة الخليلين إبراهيم ومحمدٍ عليهما الصلاة والسلام، فهنيئاً لكم يا حجاج بيت الله الحرام، ولتهنئي يا أمة الإسلام في هذا اليوم الأغر بحلول عيد الأضحى المبارك، أعاده الله على أمة الإسلام بالخير والنصر والعز والتمكين، ويا بشرى لكم رعاكم الله حيث تعيشون أجواءً روحانية، ولحظاتٍ إيمانية يتوجها وسام شرف الزمان والمكان، فيومكم هذا -يا عباد الله- غرة في جبين الزمان، وابتسامة في ثغر الأوان، كيف وقد جمع الله لكم فيه عيدين في عيد، إنه يومٌ تثمر فيه أغصان القلوب، وتتحات فيه أوراق الذنوب، وتجتمع الخلائق تدعو علام الغيوب، وتسأله رفع الدرجات، وتنزل الخيرات، ونجاح الطلبات والرغبات.
فيه يتذكر الحاج تاريخنا الإسلامي المجيد على ثرى هذه الربى والبطاح، ألا ما أشد حاجة الأمة الإسلامية اليوم إلى أخذ الدروس والعبر من هذه المناسبة الإسلامية العظيمة! لتستعيد مجدها بين العالمين، وتحقق بإذن الله العز والنصر والتمكين.
في هذا اليوم المبارك يتذكر المسلم عبق الذكريات الخالدة، وشذا الانتصارات الماجدة، ويسعى في تحقيق الآمال الواعدة، والأماني الصاعدة، وهو يعيش هذه الأجواء العبقة.(78/2)
أعمال الحجاج في يوم النحر وأيام التشريق
ضيوف الرحمن: حجاج بيت الله الحرام! أنتم اليوم في يوم النحر اليوم العاشر من شهر ذي الحجة، في هذا اليوم الأغر يتوجه الحجاج إلى منى لرمي جمرة العقبة بسبع حصياتٍ متعاقبات، فإذا فرغ الحاج من رمي جمرة العقبة ذبح هديه إن كان متمتعاً أو قارناً، فإن عجز عن الهدي صام عشرة أيام، ثم يحلق الحاج رأسه وبذلك يتحلل التحلل الأول فيباح له كل شيء إلا النساء، ثم يتوجه الحاج إلى مكة ليطوف طواف الإفاضة وهو ركن من أركان الحج لا يتم الحج إلا به لقوله سبحانه: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
وبعد الطواف يسعى بين الصفا والمروة إن كان متمتعاً أو كان قارناً أو مفرداً ولم يكن سعى مع طواف القدوم، ويحسن التحلل الثاني بثلاثة أمور هي:
رمي جمرة العقبة، والحلق أو التقصير، وطواف الإفاضة، فإذا فعل الحاج هذه الأمور الثلاثة حل له كل شيء حرم عليه بالإحرام حتى النساء، وإن قدم أو أخر شيئاً منها فلا حرج إن شاء الله، لأنه صلى الله عليه وسلم ما سأل يوم النحر عن شيء قدم ولا أخر إلا قال: {افعل ولا حرج}.
ضيوف الرحمن: حجاج بيت الله الحرام! الواجب عليكم أن تبيتوا الليلة بـ منى، اتباعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويوم غدٍ إن شاء الله هو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة أول أيام التشريق المباركة التي قال الله عز وجل فيها: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[هي أيام التشريق]].
وقال فيها صلى الله عليه وسلم: {أيام التشريق أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله عز وجل} خرجه مسلم وغيره.
فأكثروا -رحمكم الله- من ذكر الله وتكبيره في هذه الأيام المباركة امتثالاً لأمر ربكم تبارك وتعالى، واستناناً بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، واقتفاءً لأثر سلفكم الصالح، فقد كان الصحابة رضي الله عنهم يكبرون في هذه الأيام الفاضلة، وكان عمر رضي الله عنه يكبر في قبته بـ منى فيكبر الناس بتكبيره، فترتج منى كلها تكبيراً: الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وسبحان الله بكرةً وأصيلا.
وقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم وهو القائل: {خذوا عني مناسككم} في هذه الأيام المباركة رمي الجمار الثلاث بعد الزوال مرتبة؛ الصغرى ثم الوسطى ثم الكبرى وهي العقبة، كل واحدةٍ بسبع حصياتٍ متعاقبات يكبر مع كل حصاة، والمبيت بـ منى واجبٌ من واجبات الحج، وينبغي للحجاج أن يلازموا ذكر الله وطاعته مدة إقامتهم بـ مكة المكرمة.(78/3)
وجوب أداء المناسك وفق السنة النبوية
فاتقوا الله يا حجاج بيت الله! وأدوا مناسككم على وفق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وعاملوا إخوانكم الحجاج المعاملة الحسنة، وتحلوا بحسن السجايا وكريم الشمائل ونبل التعامل واحذروا الإيذاء والتزاحم، وتحلوا بالرفق والتراحم وارعوا لهذا المكان قدسيته، وحافظوا على أمنه ونظامه، واجتنبوا كل ما يعكر صفو هذه الشعيرة العظيمة.
ألا وإن مما يؤسف له تساهل بعض الحجاج هداهم الله بشيء من أعمال المناسك كالرمي والمبيت وغيرها، فيوكلون من غير ضرورة، بل قد يسافر بعضهم إلى بلده ولا يبيت ولا يرمي، وذلك خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتساهلٌ في تعظيم شعائر الله: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، وإذا رمى الحاج وبات بـ منى في اليومين الأولين من أيام التشريق جاز له أن يتعجل ويخرج من منى قبل غروب الشمس من اليوم الثاني عشر ومن تأخر وبات الليلة الثالثة ورمى الجمرات في اليوم الثالث فهو أفضل وأعظم أجراً، يقول سبحانه: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203]، فإذا أراد الحجاج العودة إلى بلادهم وجب عليهم الطواف بالبيت طواف الوداع، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: {أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض} متفق عليه، وإن أخر طواف الإفاضة وطافه مع الوداع أجزأه ذلك ولا حرج إن شاء الله.
فاتقوا الله عباد الله واتقوا الله يا حجاج بيت الله، أتموا مناسككم كما أمركم بذلك ربكم سبحانه، بقوله جل وعلا: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة:196] واحتسبوا الأجر عند ربكم، واختموا أعمالكم بالاستغفار والذكر والتوبة: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ * وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} * أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:199 - 202].(78/4)
من أخطاء الحجاج استعجال النفرة من منى
إخوتي الحجاج: ألا وإن من الظواهر الجديرة بالمعالجة، ظاهرة استعجال بعض الحجاج بالنفرة من منى في اليوم الثاني عشر، فينتظرون وقت الرمي بعد الزوال ثم يتدافعون حتى يكاد يقتل بعضهم بعضا، وهذا من الخطأ وقلة البصيرة، فوقت الرمي واسعٌ بحمد الله فاتقوا الله عباد الله، ولا تشقوا على أنفسكم يا حجاج بيت الله، فالحج مظهرٌ من مظاهر العبودية لله، ومعلم من معالم الأخوة والتراحم بين عباد الله، واحذروا أن تكونوا ممن يحج فلا يغفر الله ذنبه، ويرجع وقد حطت عليه ذنوب.
أخي الحاج المبارك: تفقه في أحكام المناسك واسأل أهل العلم عما يشكل عليك قبل وقوعك فيه.(78/5)
حكم زيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وآدابها
معاشر المسلمين: ومما ينبغي أن يعلم أن ما يعتقده بعض الحجاج من أن زيارة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بـ المدينة من لوازم الحج خطأ بين، فليست الزيارة من لوازم الحج، ولا علاقة لها به، وليست واجبة، وما يذكر من أحاديث في ذلك فهي مكذوبة موضوعة لم تثبت عند المحدثين الثقات كما يروى: {من حج فلم يزرني فقد جفاني} ونحوه.
أخي الزائر الكريم: يا من عزمت على زيارة مدينة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم! هنيئاً لك زيارة طيبة الطيبة، مأرز الإيمان، ومهاجر المصطفى من ولد عدنان عليه الصلاة والسلام، الحبيب المجتبى بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، لكن عليك أن تعلم أن من أراد الزيارة فعليه أن يقصد المسجد النبوي الشريف في أي وقت للصلاة فيه، ومن ثم السلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه رضي الله عنهما بأدب واحترام، وخفض صوت، ولا يلزم أن يصلي فيه أوقاتاً متعددة كما يتوهمه بعض العامة، ولا يجوز التمسح بالحجرة النبوية أو غيرها من الأماكن كما يفعله بعض الناس هداهم الله، فينبغي للحجاج أن يلتزموا في كل أفعالهم سنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، ويحذروا كل الحذر من الأمور المبتدعة والمحرمة في الشرع، لقوله صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} خرجه مسلم في صحيحه وبذلك يكون حجهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً ويتحقق لهم وعد الله بإعادتهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم، وما ذلك على الله بعزيز.
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفوراً.(78/6)
واجبات الحاج بعد أيام التشريق
الحمد لله يمن على من يشاء من عباده بالقبول والتوفيق، أحمده تبارك وتعالى وأشكره على أن من علينا بحلول عيد الأضحى، وقرب أيام التشريق، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له هدانا لأكمل شريعة وأقوم طريق، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ذو المحفد الشريف والنسب العريق، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والتصديق، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما توافد الحجيج من كل فجٍ عميق، آمين البيت العتيق، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واتقوا الله يا حجاج بيت الله، واشكروه جل وعلا على سوابغ آلائه، والهجوا بالثناء له على ترادف نعمائه، وكبروه سبحانه، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.(78/7)
أهمية إتقان بقية أعمال الحج
أحبتي الكرام: حجاج بيت الله الحرام! لقد أتيتم إلى هذه البقاع الطاهرة، ملبين نداء ربكم، داعين لبيك اللهم لبيك، معلنين التوحيد الخالص لله والاستجابة المطلقة لشرعه، وها قد عملتم كثيراً من مناسك حجكم، فالله الله فيما بقي منها، فأحسنوا الختام فإن الأعمال بالخواتيم.
واتقوا الله فيما أنتم مقبلون عليه من الأيام، وأعلنوها صريحة دائماً وأبداً في كل وقتٍ وفي كل آن: لبيك اللهم لبيك، إجابة بعد إجابة، لترتسم آثار الحج على محيا كل واحدٍ منكم، ليعد كل فردٍ أحسن مما كان عليه قبل الحج، ليعاهد كل حاج ربه أن يسير على الدرب المستقيم، ويلتزم الحق المبين، ويتبع سنة المصطفى الأمين، عليه أتم الصلاة وأزكى التسليم.(78/8)
مواقف وذكريات تثيرها هذه المشاعر
هل تذكرتم يا حجاج بيت الله العتيق وأنتم تعيشون في هذه الأيام الخالدة أباكم إبراهيم وهو يرفع القواعد من البيت وإسماعيل عليهما السلام؟ هل تذكرتم نبيكم محمداً صلى الله عليه وسلم الذي وقف في هذه العرصات ودعا وجاهد لإعلاء كلمة الله، ولم يثنه ثانٍ عن الدعوة الإسلامية؟ هل تذكرتم وأنتم في رحاب هذا البيت الآمن المبارك أن له أخاً يئن تحت وطأة أعداء الأمة الإسلامية، ويستصرخكم في إنقاذه من براثن اليهودية الغاشمة، والصهيونية الظالمة؟ ذلكم هو المسجد الأقصى المبارك، أقر الله الأعين بفك أسره وقرب تحريره.
ومآسي إخوانكم في العقيدة في كل مكان الذين يمر عليهم هذا العيد، وهم يعيشون حياة القتل والتشريد، فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(78/9)
أهمية الوقوف على هذه الدروس والعبر
إن هذه العبر وهذه الدروس والذكريات المضمخة بأريج الإيمان وشذا العقيدة، وعبق التاريخ والأمجاد؛ مشاعل على الطريق تبعث الرجاء وتشحن الهمم، وتدفع العزائم إلى بذل كل ما يستطاع لنصرة دين الله، وخدمة عباد الله، وإعزاز دين الله، والعمل على الارتقاء بأوضاع أمتنا الإسلامية، وتحقيق وحدتها، والسعي في تضامنها، وجمع صفوفها بعدما تكشف للغيورين الظروف الحوالك التي تمر بها أمتنا الإسلامية لا سيما بعد الأحداث العالمية، والمتغيرات الدولية.
ولاشك أن مناسبة الحج لبيت الله الحرام فريضة تؤكد على جوانب عظمة الإسلام، وسماحة الشريعة، وعراقة هذه الحضارة ورعايتها لحقوق الإنسان أكمل رعاية وبراءتها من كل ما توسم به عبر الحملات الإعلامية المغرضة بالعنف والإرهاب، يا لها من فريضة تدعو إلى الوحدة والتضامن، والحوار والتعاون، وسبق هذا الدين وحضارة المسلمين للعالمية الحقة بعدما ظهر عوار العولمة المفضوحة التي تساوم على ثوابتنا ومبادئنا وقيمنا.
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله يا حجاج بيت الله! افتحوا صفحة المحاسبة والمراجعة والتقويم لأعمالكم واعلموا أن هذه المناسبات ليست تغييراً مؤقتاً في حياة الناس، بل هي تغيير شامل في جميع مناحي الحياة، فيعود الحاج أحسن مما كان عليه، وتلك أمارة بر الحج وقبوله التي يسعى إليها الحجاج ويرومونها، فاستقيموا على الأعمال الصالحة وجددوا التوبة إلى الله من ذنوبكم: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
نسأل الله أن يمن علينا وعليكم بالقبول والتوفيق بمنه وكرمه إنه خير مسئول وأكرم مأمول.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على سيد البشر، المصطفى الأغر، الشافع المشفع في المحشر، فقد ندبكم إلى ذلك المولى تبارك وتعالى وأمر، في أفضل القيل وأصدق الخبر، ومحكم الآيات والسور، فقال سبحانه قولاً كريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وسلم الحجاج والمعتمرين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاء وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وهيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم اجزهم خير الجزاء وأوفره جزاء ما قدموا ويقدمون لحجاج بيتك الحرام، اللهم اجعل ذلك في موازين أعمالهم يا حي يا قيوم، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لاتباع كتابك، وتطبيق سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان، اللهم أقر أعيننا بإعادة المسجد الأقصى إلى بلاد المسلمين، اللهم لا تمكن فيه لليهود الظالمين والصهاينة الغاشمين يا رب العالمين!
اللهم تقبل من حجاج بيتك الحرام حجهم، اللهم اجعل حجهم مبرورا، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً، وأعدهم إلى بلادهم سالمين غانمين، مأجورين غير موزورين يا ذا الجلال والإكرام!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(78/10)
الوقت والجائزة
أيها الإخوة: لقد اعتنى الإسلام بالوقت عناية بالغة، بل لم يعرف التاريخ أمة اهتمت برعاية الوقت وصيانة الزمن كهذه الأمة، وقد أكد على ذلك كتاب الله سبحانه وتعالى في كثير من سوره وآياته، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في كوكبة من مشكاة النبوة.
ولقد كان سلف هذه الأمة أحرص الناس على كسب الأوقات وشغلها بجلائل الأعمال، والتاريخ والحضارة الإسلامية خير شاهد لهم على ذلك، فالوقت أمره عظيم فعليه تقام الحضارات وتبنى الأمم.(79/1)
أهمية الوقت وقيمته
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله وسراجاً منيراً، فصلوات الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى؛ فتقوى الله سبحانه رأس كل أمر وجماع كل خير.
عباد الله: إذا كان كل مسلم لا يشك في أن سر وجوده وحكمة خلق الله له في هذه الحياة إنما هي لغاية عظمى ورسالة كبرى تتمثل في تحقيق العبودية لله جل وعلا، كما لا يرتاب في أن الحياة الدنيا ما هي إلا لحظات محدودة، وأنفاسٌ معدودة، إذا كان الأمر كذلك -يا عباد الله- فإنه لا بد من استشعار أن الأزمان أوعية وخزائن للأعمال، وأن الأوقات مطايا ومراحل للآجال، يقطعها الإنسان في سفره إلى الدار الآخرة، كما أنه لا بد من معرفة قيمة الأوقات، ومنزلة هذه النعمة ومكانتها عند المسلمين، وواجبهم نحوها، وما ينبغي أن يكون عليه المسلم من حفظ الوقت والعناية بالزمن؛ لأنه عمر الحياة، وميدان وجود الناس، وساحة ظلهم وبقائهم.(79/2)
أهمية الوقت في القرآن
إخوة الإيمان: لقد اعتنى الإسلام بالوقت عناية بالغة، بل لم يعرف التاريخ أمة اهتمت برعاية الزمن وصيانة الوقت كهذه الأمة، فهذا كتاب الله يؤكد ذلك ويؤصل عظم مكانته وعلو قدره بأساليب مختلفة، يأتي في مقدمتها بيان أهميته وعظم المنة به، يقول جل شأنه: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم:33] فامتن جل جلاله بنعمة الليل والنهار، وهما الزمن الذي يمر به هذا العالم كله.
وحسب الوقت من الأهمية أن الله سبحانه أقسم به وبأجزاءٍ منه في آيات كثيرة من كتابه الكريم: كالفجر، والليل، والنهار، والعصر، والضحى، وغيرها وما ذاك إلا لمكانة الزمن ولفت الأنظار إليه، والتنبيه على جليل نفعه وعظيم آثاره، بل لقد جاءت شعائر الإسلام وفرائضه من الصلاة والصيام والزكاة والحج ونحوها؛ لتثبت هذا المعنى العظيم، وتوقظ في الإنسان الوعي والانتباه إلى أهمية الوقت مع دورة الأفلاك وحركة الكون، وسير الشمس والنجوم واختلاف الليل والنهار.(79/3)
أهمية الوقت في السنة
إخوة العقيدة: أما السنة المطهرة فقد جاءت مؤكدة لقيمة الوقت ببيان ووضوح في كوكبة من مشكاة النبوة، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نعمتان مغبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ} وذلك لأن الزمن نعمة جلى ومنحة كبرى، لا يستفيد منها إلا الموفقون، أما المغبونون الخاسرون فهم المفرطون في أوقاتهم المهدرون لطاقاتهم.
كما جاءت السنة لتقرير مسئولية الإنسان عن الوقت يوم العرض على الله جل جلاله، في الحديث الذي أخرجه الترمذي وغيره عن أبي برزة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع، وذكر منها: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه}.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اغتنم خمساً قبل خمس، وذكر منها فراغك قبل شغلك} أخرجه الإمام أحمد والنسائي والبيهقي، والحاكم وصححه.(79/4)
محافظة السلف على أوقاتهم
معاشر المسلمين: لقد كان سلف هذه الأمة رحمهم الله أحرص الناس على كسب الوقت وشغله بجلائل الأعمال، فقد كانوا يبادرون اللحظات، ويسابقون الساعات ضناً منهم بالوقت، وحرصاً على ألا تذهب برهة منه -وإن قصرت- دون أن يتزود منها بعلمٍ نافعٍ أو عمل صالح، حتى لا تتسرب الأعمار سدىً، وتذهب هدراً، وتضيع هباءً، وتمضي جفاءً، وما ذاك إلا لمعرفتهم بقيمتها؛ مما أورثهم حضارة عريقة الجذور، آتت أكلها علماً وفتحاً، وعزاً ومجداً، لم يعرف التاريخ له مثيلاً.
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على دراهمكم ودنانيركم]].
ونقل عن عامر بن قيس من التابعين [[أن رجلاً قال له: تعال أكلمك، قال: أمسك الشمس]] يعني أوقفها لي واحبسها عن المسير لأكلمك، فإن الزمن سريع المضي لا يعود بعد مروره، فخسارته لا يمكن تعويضها واستدراكها.
ويقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: [[إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما]] وكانوا يجتهدون في الترقي من حال إلى حال خيراً منها، بحيث لا يمر يومٌ لا يستفيدون منه زيادة في الإيمان، ونمواً في العمل الصالح، وفي هذا يقول بعضهم: "من كان يومه كأمسه فهو مغبون" ويقول آخر: "من علامة المقت ضياع الوقت: وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [[ما ندمت على شيء ندمي على يومٍ غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي]].
وقال بعضهم: "من أمضى يوماً من عمره في غير حقٍ قضاه، أو فرض أداه، أو مجدٍ أصله، أو حمد حصله، أو خيرٍ أسسه، أو علمٍ اقتبسه، فقد عق يومه وظلم نفسه".
ومن أقوال الفاروق رضي الله عنه: [[إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً لا في عمل دنياً ولا في عمل آخره]].
تلك شذرات عبقة مما كان عليه سلفنا الصالح رحمهم الله، حيث كان الوقت عندهم أغلى من كل جوهرٍ نفيس، بل هو الحياة كلها وكفى؛ لأن الماديات يمكن استرجاعها بينما الثانية من الزمن لا يمكن أن تعود، وكل مفقود عسى أن تسترجعه إلا الوقت، وقديماً قيل: الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك، ولله در القائل:
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع(79/5)
واجب المسلم نحو الوقت
أمة الإسلام: إذا كان من مزايا الوقت المدركة أنه سريع الزوال، وأن ما مضى منه لا يمكن أن يعود أو يعوض، وأنه أنفس ما لدى الإنسان حتى إنه ليعتبر رأس ماله الحقيقي، بل هو الحياة حقاً؛ فإن على المسلم واجبات نحو وقته يجب أن يعيها وأن ينقلها من دائرة المعرفة والإدراك إلى حيز العمل والتنفيذ، يجمعها الحرص على الاستفادة من الوقت فيما ينفع في أمر دينه ودنياه، وما يعود على أمته بالخير والصلاح.
وإنه لمما يؤلم القلب ويزيده أساً وحسرات وزفرات ما يلحظ اليوم عند كثيرٍ من الناس من إضاعة للأوقات تجاوزت حد التبذير إلى التبديد، ووصلت إلى مراحل من السفه البالغ؛ حتى إنك لتسمع كثيراً عبارة تدور على ألسنة بعض المغبونين الذين يحيون حياة الأنعام، ويعيشون عيش الطغام، هي عبارة: (قتل الوقت هنا وهناك) وما علم هؤلاء أن من قتل وقته إنما يقتل نفسه، ويئد كرامته في الحقيقة.
والحق: أن جريمة قتل الوقت وتبذيره من أخطر الجرائم وأشدها فتكاً بالأفراد والمجتمعات، فهو وراء كل مشكلة، وسبب كل معضلة، وخلف تورط كثير من الناس في المشكلات والأخلاقيات وغيرها، مما يتطلب من المسلمين جميعاً الإعداد والتخطيط والعمل لهذه القضية المهمة تشخيصاً وعلاجاً؛ لأن ضرر أصحابها ليس على أنفسهم فحسب وإنما على مجتمعهم بأسره، ألا فليعلم ذلك من يعمرون مجالس اللهو الخاوية، ومجتمعات القيل والقال، والفضول الفارغة، ومن يجددون الساعات الطوال في الليل والنهار فيما يضر ولا ينفع، دون شعورٍ ولا مبالاة، لاهين عن ذكر الله وعن الصلاة، غافلين عن حقوق الله وحقوق عباد الله، لسان حالهم:
إنما الدنيا طعام وشراب ومنام
فإذا فاتك هذا فعلى الدنيا السلام
معرضين عن واجبات الدين والدنيا، يبددون الأوقات في الأسواق والطرقات، والمقاهي والملاهي وعلى الشرفات، ويهدرون ساعات ليلهم بالسهر على إدارة مؤشرات الشاشات، والقنوات والفضائيات وما تبثه من سمٍ زعاف، في فراغٍ صارخ، وبطالة ممقوتة، أين قلوبهم حينما يسمعون بالحوادث والكوارث، أيظن هؤلاء أنهم مخلدون في هذه الحياة، ما جوابهم حين العرض على سؤال الجبار جل جلاله عن ضياع الشباب وتبديد الأعمار، نعوذ بالله من الخذلان.
ألا فليتق الله هؤلاء قبل أن تحل بهم ساعة الاحتضار، وتوسيد الثرى، والعرض على الجبار جل جلاله حين يتمنون العودة ليعملوا ولو حسنة واحدة، ولكن هيهات: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].(79/6)
الفراغ وضياع الأوقات مشكلة خطيرة تداهم المجتمعات
أمة الإسلام: حينما يثار الحديث حول حفظ الأوقات وأهمية استغلالها في طاعة الله ومراضيه، وإبعادها عن معاصيه، تبرز على الساحة -ولا سيما في هذه الأيام- قضية كبيرة، ومشكلة خطيرة ألا وهي مشكلة الفراغ، وما يعانيه كثيرٌ من الناس -ولا سيما من الشباب والفتيات- من تضييع للأوقات بسيئ الأعمال وتافه الانشغالات، إنها والله مشكلة كبيرة يجب أن تخطى بالعناية والرعاية، وخليقة أن تعد لها العدد والبرامج، وتخط لها الخطط وترسم المناهج؛ لضمان حلها والقضاء عليها، فكم جرت من فتنٍ وويلات، وأشعلت نار الشرور والبليات، وتسببت في حدوث الفساد والجرائم والمشكلات، وأسباب البلاء من الفراغ لا سيما إذا اجتمع معه الشباب والمال.
فما الذي أوقع كثيراً من الناس في حبائل الشيطان وفخاخ أعداء الرحمن، وزين لهم المتعة الحرام من الزنا والفجور والمخدرات والخمور إلا الفراغ؟
وإذا وجد الفراغ في أي أمة فمن واجب الأمة الإسلامية وهي الأمينة على شرع الله، والمستخلفة في أرض الله، والوريثة لمهمة رسل الله، الأمة الجادة في حمل قضاياها، وتوحيد صفوفها فلا يعرف الهزل طريقاً إلى أبنائها، ولا اللهو والغفلة مسلكاً إلى أتباعها، أن لا تجد هذه المشكلة قراراً بين أبنائها، ولكنه داء الأمم من حولها التي تعايش الفراغ في أبشع صوره، وأوسع مراميه، لا سيما الفراغ العقدي والروحي، والفكري والنفسي.(79/7)
عوامل ظهور مشكلة الفراغ وضياع الأوقات
إخوة الإسلام: إننا حينما نلتمس الأسباب والعوامل لهذه المشكلة نجد أن أهمها ضعف الوازع الديني، والرادع الإيماني في نفوس هؤلاء الفارغين، وعدم استشعارهم لقيمة الوقت، وطول أملهم في الحياة، وعدم تذكر الموت والقبر والدار الآخرة، وقلة الخوف من الله، والتورط مع قرناء السوء ورفاق الشر والفساد، بل إن لإهمال الأبوين وعدم متابعة الأسرة المتابعة التربوية النصيب الأكبر في حصول هذه العوامل مما سبب الفراغ بشتى صوره.
ومنها: الفراغ القلبي والخواء الروحي، حيث لم تعمر كثيرٌ من القلوب بالطاعة، وتحيا الأرواح بالأعمال الصالحة.
وهناك الفراغ العقلي بخمول الفكر حيث لم تملأ بالوعي والعلم والمعرفة، والنظر والتأمل والابتكار فيما يوافق شرع الله جل وعلا.
وهناك الفراغ النفسي؛ فإن النفس إذا لم تشغلها بالخير شغلتك بالباطل، وإن لم تزكها بالطاعة دسيتها بالمعصية، وقد قال عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] كما قال سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8](79/8)
علاج ظاهرة الفراغ وضياع الأوقات
أيها الأحبة في الله: أما علاج هذه الظاهرة فإنه مسئولية الأسرة والمجتمع، وأهل التوجيه والتربية، وحملة الأقلام وأرباب الفكر، والمسئولين عن قنوات التثقيف والتوجيه والإعلام في إعداد كل ما من شأنه شغل فراغ أبناء المسلمين بما يعود عليهم بالنفع العظيم والخير العميم في أمور دنياهم وآخرتهم.
فيا شباب الإسلام: ماذا بعد انتهاء العام الدراسي وماذا بعد فترة الاختبارات؟ ماذا أعددتم لشغل أوقات فراغكم مدة إجازتكم؟
إن واجب النصيحة في هذه الأيام ينبغي أن يركز على حفظ الأوقات واغتنامها، واستثمارها بالأعمال الصالحة التي تعود على الفرد وعلى أسرته بالخير والصلاح، وعلى مجتمعه بالسعادة والفلاح.
ومن الخطر الفادح والضرر القادح أن تهمل الأوقات، وتضيع الأيام والساعات في لهوٍ وغفلة، فيا شباب الإسلام! ويا أيها الطلبة والطالبات! ماذا أعددتم في هذه الإجازة من برامج ونشاطات؟ ويا أيها الآباء والأمهات! ماذا برمجتم لشغل أوقات فلذات الأكباد وثمرات الفؤاد؟
هل ركزتم على تنظيم أوقاتهم وحسن الاستفادة منها، أو شجعتموهم على حفظ كتاب الله وما تيسر من صحيح سنة رسول الله، والاطلاع على الموثوق من كتب العلم والآداب ونحوها؟
حذار أن تتركوا لهم الحبل على الغارب، تابعوهم وراقبوهم، وانظروا من يصاحبون.
أيها الإعلاميون: ماذا أوجدتم لشغل أوقات الأجيال من برامج إعلامية تربوية، كم يؤسفك أيها الغيور أن يتربى بعض الناس -لا سيما من فئة الشباب من الجنسين- على مجلات منحرفة، وأفلام داعرة، ومناظر ماجنة.
أيها الآباء والأمهات: اتقوا الله في أماناتكم، ربوا أولادكم على الفضيلة واحذروا من إيقاعهم في الرذيلة بجلب وسائل الفساد، ودمار الأخلاق والقيم في البيوت والأسر، حققوا حسن الرعاية لهم والعناية بهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته} أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.
اللهم وفقنا إلى ما فيه حفظ أوقاتنا وشغل فراغنا بما فيه خيرنا في ديننا ودنيانا وآخرتنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول قولي آنفاً وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئة وإثم فاستغفروه وتوبوا إليه، اللهم أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.(79/9)
الآفات القاتلة للأوقات
الحمد لله الذي أبان لنا السبل، وأرشدنا بالأنبياء والرسل، ورفعنا بدينه إلى أعلى المثل، أحمده تعالى وأشكره على نعمه التي لا تعد، وعلى إحسانه الذي لا يحد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضل والتقى، ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281]
أيها الإخوة في الله: إن فرص استغلال الوقت كثيرة بحمد الله، فينبغي أن يحرص على الفرص الشرعية والمباحة، وليتجنب العبد استغلال وقته في المحرمات والمشتبهات، فاحذروا رحمكم الله من الآفات القاتلة للأوقات، وأخطرها الغفلة والإعراض، والتسويف والتأجيل.
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[إياك والتسويف فإنك في يومك ولست بغدك]] وعنه رحمه الله أنه قال: [[ما من يومٍ ينشق فجره إلا نادى يا بن آدم أنا يومٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود في بعملٍ صالح فإني لا أعود إلى يوم القيامة]] وقال بعضهم: احذروا سوف فإنها من جنود إبليس.
كما ينبغي الحذر من لصوص الأوقات الذين لم يكتفوا بتضييع أوقاتهم بل سطوا على أوقات الآخرين، ولعمر الحق إن سرقة الأوقات أشد من سرقة الأموال، وإن أنفس ما حفظت فيه الأوقات -يارعاكم الله- تلاوة كتاب الله عز وجل وحفظ ما تيسر منه، وهذه بحمد الله جمعيات تحفيظ القرآن الكريم، ودورات تجويده وتعليمية منتشرة في أرجاء هذه البلاد المباركة، هذه الثورات العلمية، والمراكز الصيفية التي يقوم عليها نخبة من أهل الفضل والصلاح فيفيدون الناشئة، ويصقلون مهاراتهم ومواهبهم، ويزيدون في علومهم ومعارفهم، وتلك المعاهد الفنية والمهنية لمن يريد أن يكتسب مهارة ويجيد صنعة، وتلك أرجاء هذه البلاد الفسيحة ومناظرها الخلابة ومصائفها اللطيفة لمن أراد السياحة والنزهة البريئة، فهذه جوانب من فرص استغلال الوقت، فما أجمل الرحلة إلى بيت الله الحرام في عمرة، وإلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة، لكن يجب على من أَمَّ هذين الحرمين الشريفين أن يتأدب بالآداب الشرعية، لا سيما النساء حشمة وحجاباً وحياءً.
وما أحسن القيام بزيارة ذوي القربى وصلة الأرحام، والترويح عن النفوس في حدود المباح شرعاً، ولا بأس بالسفر في محيط بلاد الإسلام مع المحافظة في ذلك كله على الخير والفضيلة، والبعد عن الشر والفساد والرذيلة، أما السفر إلى البلاد الموبوءة، والأماكن المشبوهة، حيث توأد الفضائل وتهدر المبادئ والقيم فلا يرتاب أحدٌ من أهل العلم والإيمان في خطر ذلك على الأفراد والمجتمعات، وعظم تأثيره على العقيدة والأخلاق والسلوكيات، فينبغي اجتنابه والتحذير منه والله المستعان، وهو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الهادي البشير، والسراج المنير كما أمركم بذلك المولى اللطيف الخبير، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الرحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم انصر به دينك وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، والمضطهدين في دينهم في كل بقعة من بقاع الأرض يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم اجعل لنا وللمسلمين من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاء عافية يا ذا الجلال والإكرام!
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعضكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(79/10)
نحو طريق الخلاص
يوم النحر يوم مشهود، يجتمع فيه المسلمون من كل فج عميق، وفيه تظهر نعم الله العظيمة وآلاؤه الجسيمة.
وفي هذا الاجتماع المبارك تطرح قضايا الأمة، وتوضع الحلول لمشاكلها، وتبين العقبات التي في طريقها.(80/1)
منزلة التقوى
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! لا إله إلا الله.
الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
الله أكبر كبيراً؛ والحمد لله كثيراً؛ وسبحان الله بكرة وأصيلاً!
الله أكبر عدد ما مشى فوق السماوات والأرضين ودرج! والله أكبر بيده مفاتيح الفرج! الله أكبر ذو الملك والملكوت، الله أكبر ذو العز والجبروت!
الله أكبر رب الأرباب، الله أكبر مسبب الأسباب، الله أكبر خالق خلقه من تراب!
الله أكبر خلق الخلق وأحصاهم عدداً، الله أكبر هو ربنا ولن نشرك بربنا أحداً!
لا إله إلا الله وحده نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده.
لا إله إلا الله الولي الحميد، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
الله أكبر عدد ما ذكر الله ذاكرٌ وكبر، الله أكبر عدد ما حمد الله حامدٌ وشكر، الله أكبر عدد ما تاب تائبٌ واستغفر، الله أكبر أعاد علينا من عوائد فضله ما يعود في كل عيد ويظهر، الله أكبر زكَّى أبداننا من درن السيئات وطهر، الله أكبر عدد ما أشاد البيت مشيد وعمر، الله أكبر عدد ما ضحى لله مضح ونحر!
الله أكبر ما ذكره الذاكرون، الله أكبر ما حمده الحامدون، الله أكبر ما شكره الشاكرون، الله أكبر ما هلله المهللون، الله أكبر ما سبحه المسبحون، الله أكبر ما توافد الحجاج والمعتمرون.
الله أكبر عدد ما تحركت وفود بيت الله الحرام شوقاً إلى البيت العتيق، الله أكبر عدد ما اهتزت مشاعر الحجيج لرؤية البيت الحرام، الله أكبر عدد ما حداهم الأمل في مغفرة الزلل وقبول صالح العمل، الله أكبر عدد ما تحركت قوافل الحجيج لرؤية البيت العتيق، الله أكبر عدد ما تحركت مواكب الحجيج آمة هذه البقاع الطاهرة.
الله أكبر عدد ما أحرموا ولبوا، الله أكبر عدد ما طافوا وسعوا، الله أكبر ما استلموا الحَجر وصلوا بالحِجر، الله أكبر عدد ما وقفوا بالملتزم وشربوا من ماء زمزم، الله أكبر عدد ما خرجوا إلى منى ووقفوا بـ عرفة وباتوا بـ المزدلفة، الله أكبر عدد ما رموا وحلقوا ونحروا وكبروا وشكروا وصلوا على الحبيب المصطفى والرسول المجتبى صلى الله عليه وسلم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله إمام المرسلين وخاتم النبيين، وسيد ولد آدم أجمعين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام في بلد الله الحرام: ويا أيها الإخوة الحجاج الكرام! ويا إخوة العقيدة في مشارق الأرض ومغاربها! يا من تربطنا بكم أقوى العلائق، وتصلنا بكم أسمى الوشائج! أيها الأحبة في الله في كل مكان من أرض الله! إلى من يصله هذا الصوت فوق كل أرضٍ وتحت كل سماء! أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، فما قيمة الإنسان بغير التقوى، وهل لنا وزنٌ يذكر، أو سعيٌ يشكر بدون تحقيق التقوى، تقوى الله وصيته سبحانه للأولين والآخرين من عباده، يقول سبحانه: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] إنه لا خير ولا فلاح، ولا عز ولا نجاح، ولا سعادة ولا صلاح إلا بتقوى الله.
تقوى الله سياجٌ منيع من الفتن، وحصنٌ حصين من المحن، وفرقانٌ بين الحق والباطل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29].
في التقوى حبلٌ يقوى، ورزق يبقى، ويسر يغلب، وعسر يطرد {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3] {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق:4] {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:5].
إنه مهما بلغت الأمم من الحضارة المادية، والاكتشافات العلمية، فهي خداجٌ ما لم تكن تقوى الله هي الزاد: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة:197].
فلا سبيل إلى الخروج من المآزق، والسلامة من العوائق، والنجاة من المضائق إلا بتقوى الله جل وعلا، فحققوا التقوى رحمكم الله، بفعل الأوامر واجتناب الزواجر، واقعاً عملياً في أنفسكم وأسركم ومجتمعاتكم، تسعدوا وتنصروا وتفلحوا.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(80/2)
تأملات في يوم النحر
حجاج بيت الله الحرام: اشكروا الله عز وجل على نعمه العظيمة وآلائه الجسيمة، حيث تنعمون في هذا اليوم المبارك بحلول عيد الأضحى، وحيث تعيشون أجواء الروحانية، ولحظات إيمانية يتوجها شرف الزمان وشرف المكان، فيومكم هذا -يا عباد الله- غرة في جبين الزمن، وابتسامة في ثغر هذا الأوان، يومٌ تثمر فيه أغصان القلوب، وتتحات فيه أوراق الخطايا والذنوب، وتجتمع الخلائق تدعوا علام الغيوب، وتسأله رفع الدرجات ومحو السيئات، وتنزل الخيرات وحلول البركات، ونجاح الطلبات والرغبات.
في هذا اليوم المبارك يتذكر المسلم عبق الذكريات الخالدة، وشذا الانتصارات الماجدة، ويسعى في تحقيق الآمال الواعدة، والأماني الصاعدة، وهو يعيش هذه الأجواء العابقة، فيتذكر التأريخ الإسلامي المجيد على ثرى هذه الربى والبطاح، وما سجله التأريخ من بطولات النصر والجهاد والكفاح من رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.
في هذه الأجواء التي تزدحم فيها المشاهد والشواهد، وتختلط فيها المشاعر بالمشاعر والشعائر، وتلقي في القلب الحي النابض آمالاً كبرى بنصرة دين الله في الأرض، وانتشاره في الآفاق، وتذكره بقيمة هذه المناسبات العظيمة، وضرورة الاستفادة منها، لا سيما والأمة تعاني من الفتن ما تعاني؛ ألا ما أشد حاجة الأمة الإسلامية اليوم إلى أخذ الدروس والعبر من هذه المواقف العظيمة، لتستعيد مجدها بين العالمين، وتحقق لكيانها العز والكرامة، في منأىً عن التخلف والذلة والمهانة.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(80/3)
قضية التوحيد ومنزلتها
أمة الإسلام: إن قضية القضايا اتفاقاً، وأهم القضايا إطلاقاً، هي: قضية التوحيد أصل الأصول، وقاعدة الدين والملة، وأساس العبادات وسائر الأعمال، لا إله حق إلا الله، ولا معبود بحقٍ إلا الله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:30] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40].
من أجل التوحيد أنزلت الكتب، وأرسلت الرسل، وجردت السيوف، ووقع الجهاد، وقامت سوق الجنة والنار، فالشرك في عبادة الله خطره كبيرٌ وشره مستطير، محبطٌ للأعمال، موجبٌ للحرمان من الجنة ودخول النار وبئس القرار عياذاً بالله: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72].
فحققوا -إخوة الإسلام- التوحيد لله رب العالمين في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، واحذروا الشرك أكبره وأصغره، جليه وخفيه، فمالك النفع والضر هو الله وحده، احذروا مسالك السحرة والعرافين، وإتيان الكهنة والمنجمين، وأدعياء علم الغيب والمشعوذين، وإياكم والبدع والخرافات، والشركيات والخزعبلات
لعمرك ما تدري الطوارق بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانعُ
ولا تغتروا -رحمكم الله- بما عليه عباد القبور والأضرحة، فالله تعالى يقول: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103].
إن قضية التوحيد هي القضية الكبرى التي يجب على المسلمين جميعاً أن يعنوا بها غاية العناية، وإننا لنأسف أشد الأسف لتساهل كثيرٍ من المنتسبين إلى الإسلام في تحقيق التوحيد الخالص لله، أين نصيب العقيدة من مناهج الدعوة الموجودة في الساحة؟
وكم هو نصيب العقيدة في جهود الدعاة؟
إننا لا نتعدى الحقيقة إذا قلنا: إن المتأمل في ساحة الدعوة والدعاة يجد أن هناك اهتماماتٍ شتى تزاحم هذا الأصل الأصيل، فهذا في قضايا السياسة وفقه الواقع، وآخر في الفكر والثقافة، وثالثٌ في الزهد والرقائق والفضائل، وآخرون يقصرون اهتماماتهم العقدية على جانب الحاكمية، ولربما جهلوا أو تجاهلوا أبواباً أخرى، أو تأثروا بمناهج وافدة جربت سنين عدداً من تأريخ الدعوة فما سببت إلا الفتن والمحن، وسببت من المحن ما لا يعلمه إلا الله.
إن علينا أن نأخذ العقيدة الصحيحة كلية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح رحمهم الله، ونأخذها من العلماء الربانيين أهل الفقه والأثر، والدليل والنظر، في بعدٍ عن الهوى والدخن، والله المستعان.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(80/4)
أهمية دين الإسلام
أيها المسلمون! نحن أمة شرفها الله بهذا الدين، فكيف نرضى بغيره بديلاً؟
كيف يحلو لبعض الأدعياء أن ينعق بشعاراتٍ جاهلية، ويرفع ألوية لا دينية؟
إنه لا دين غير الإسلام الحق جامعاً للقلوب، وموحداً للدروب، ومنقذاً من الفتن والخطوب، إن هذا الدين من السمو والشمول والكمال بحيث تتضاءل أمامه النعرات الطائفية، والدعوات العنصرية، والشعارات القبلية، والانتماءات الحزبية، التي عانت منها الأمة ما عانت حتى طوحت بها في سراديب الغواية، ومستنقعات الضلالة.
لقد جربت الأمة طويلاً مناهج ومذاهب ومسالك ومشارب؛ فلم تجد فيها جمع الكلمة، ولا توحيد الصفوف، ولا استعادة الأمجاد، ولا النصر على الأعداء، بل كانت طريقاً إلى التمزق والدمار، والشقاء والبوار.
لا بد أن تستيقن الأمة جميعاً أنه لا طريق إلا دين الله، ولا شرع إلا شرع الله، ولا نهج إلا نهج محمدٍ رسول الله عليه الصلاة والسلام: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(80/5)
ضرورة الإصلاح
أمة الإسلام: إن نقطة الإصلاح ونواة التطلع لواقعٍ أفضل، ومستقبلٍ مشرقٍ -بإذن الله- يجب أن تبدأ من داخل النفوس، فتعمر النفوس بالإيمان والإسلام.
إن كثيراً من أجيال الأمة معزولة عن الإيمان، وتعاني من التمزق والازدواجية روحياً وفكرياً وتربوياً.
إن كثيراً من الأجيال تعاني من انهزامٍ نفسي وخواءٍ روحي، وتناقضٍ بين السلب والإيجاب في قنوات التوجيه والتربية ومناهج التعليم ووسائل الإعلام، وآخرين يعانون من تذبذبٍ واضطراب، وشكوكٍ وحيرة وقلق في تحديد المسار، ومعرفة الخطأ من الصواب في مناهج الدعوة، ومسالك الدعاة، حتى تمزقت عند كثيرٍ منهم أواصر المحبة في الله، ودعائم الأخوة الإيمانية، وإن طريق الخلاص يكمن في اجتماع الأمة بجماعاتها وقياداتها أفرادها وفئاتها على العقيدة السلفية الصحيحة، فلها وحدها يكون الولاء، ومن أجلها يكون البراء والولاء والمنع والعطاء، وإذا كانت الهجمات الشرسة والتحديات السافرة التي منيت بها هذه الأمة عبر التأريخ نابعة من الدين فلا تتحقق مواجهتها إلا بالتمسك المتين بعرى هذا الدين القويم.(80/6)
واجب العلماء في الإصلاح
إن واجب علماء الأمة ودعاة الإسلام كبيرٌ جداً في رسم المنهج الحق الذي يجب أن تسلكه الأجيال المسلمة حتى تتحقق وحدة الأمة بعيداً عن النظرات العصبية، والانتماءات الحزبية.
يجب أن نعنى بقضايا الاعتقاد الكلية، وبالأمور الكبرى، والأصول العظمى دون تمييعٍ للقضايا، ولا انهزامية في الطرح، ليس من الحكمة أن تضيع الأوقات وتسخر الأقلام لردود ومجادلات، وطعونٍ واتهامات، يجب أن تطرح القضايا على بساط البحث المتجرد، والنقاش النزيه، وبالمنهج العلمي الرصين مع احترام الآراء الاجتهادية، وعدم التحامل على المخالفين في المسائل الفرعية، ويعظم الأمر حينما تتهم النيات ويتعرض للمقاصد والإرادات، فالحق ليس حكراً على زيدٍ من الناس، والخلاف في المسائل الاجتهادية لا يتحول إلى خصومات وحروب سرية وعلنية.
وإنه لا ينبغي الدخول في هذا المورد إلا لأهل الاختصاص، أما المتطفلون على ساحة العلم فأولى لهم ثم أولى لهم أن يشتغلوا بأنفسهم، وتقويمها علمياً وإيمانياً وخلقياً، ولا يتطاولوا على مقامات العلماء وأقدار الفضلاء.
وإذا كان من حق كل أحدٍ أن ينتقد ويلاحظ فإن منهج النقد وأسلوب الملاحظة أمرٌ يجب التركيز عليه حتى لا نفسد من حيث نريد الإصلاح، ومن المعصوم عن الخطأ؟ ومن الذي ما ساء قط؟ ثم لماذا يربى الناشئة على النقد والملاحظة قبل أن ينضجوا؟
إن ذلك مسلكٌ يوغر الصدور، ويبعث الشرور، ولا يجوز أبداً أن يتحول الخلاف في المسائل العلمية وخلاف التنوع في وجهات النظر إلى أمور شخصية وانتصارات ذاتية.(80/7)
المنهج في الإصلاح
لا بد من النظر في الأوليات، والبداية في المهمات فالمهمات، حتى لا تختلط الموازين، وتختل المعايير، ثم إنه ينبغي الرجوع إلى العلماء والبعد عن الهوى، ومعرفة مسئولية القلم، وأمانة الكلمة، ومصداقية الحرف في تسخيره لخدمة العقيدة، ووحدة الصفوف، وجمع كلمة المسلمين على العقيدة الصحيحة.
نعم.
لا بد من تعرية كل منهجٍ دخيل، وكل فكرٍ هزيل، لكن بحسن التصوير، ودقة التعبير، وضوابط النقد ومنهجية الحوار، والحكمة ضالة المؤمن، والحق منهجه، وإخلاص النية مطيته، وليحذر طلاب العلم من القول على الله بلا علم فذلك جرمٌ فظيع، ومسلكٌ شنيع.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(80/8)
خطر الحكم على النيات
أمة الإسلام: من القضايا الخطيرة التي ينبغي التنبيه عليها: ما يقع فيه كثيرٌ من قليلي العلم والبصيرة، وضعيفي الإيمان من الحكم على معتقدات الناس ونياتهم ومقاصدهم، فيمتطون صهوة الحكم على العلماء والفضلاء، والقادة والزعماء، والدعاة والخطباء بتبديع أو تفسيق أو تضليل، بل لربما وصل الأمر إلى التكفير وإخراجهم من الملة، نعوذ بالله، أين الإيمان؟!
أين الخوف من الله؟!
أين استشعار رقابته سبحانه؟!
ألا بئس القوم وبئس صنيعهم!
نعم.
لربما يلتمس ملتمس شيئاً من العذر لهذه النظرات الخاطئة؛ لغلوها في الدين بسبب الجهل وعدم الأخذ من العلماء؛ وبسبب النظرة التشاؤمية لما آلت إليه كثيرٌ من أمور المسلمين؛ بسبب إقصاء حكم الشريعة في كثيرٍ من البلاد، ووجود المظاهر المحرمة والدعوات الآثمة للإلحاد والعلمانية والإباحية، لكن منهج الدعوة في الحكمة والموعظة الحسنة يأبى أن تتحول الأفعال إلى ردود أفعال، وأن يكون التطرف اللاديني باعثاً إلى ما عرف اليوم بالتطرف الديني -وهو ما يعرف شرعاً بالغلو في الدين- حتى جنحت الدعوة إلى قتلٍ وعنفٍ وجرت من الفتن ما لا يعلمه إلا الله.
وهنا أوجه الدعوة والنداء إلى القادة والزعماء، والدعاة والعلماء، وأهل الحل والعقد في الأمة: أن يقوم كل بواجبه في نصرة دين الله، وإحقاق الحق وردع الباطل، وألا يعمم الحكم على الجميع، فالتدين والمتدينون هم أهل الخير في الأمة، وليست كل بيضاء شحمة ولا كل سوداء فحمة.(80/9)
واجب الولاة والزعماء في الإصلاح
فيا قادة المسلمين! ويا أيها الولاة والزعماء! إن مسئوليتكم عظيمة: [[إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن]] سوسوا شعوبكم بكتاب الله، واحكموهم بسنة رسول الله، أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، أدوا الأمانة التي تحملتموها، واحكموا الناس بالعدل والإنصاف، وأداء الحقوق، كونوا سنداً وعضداً لأهل الخير والدعوة والحسبة والإصلاح، حكموا الشريعة في أرض الله على عباد الله، واتخذوا من العلماء الربانيين بطانة، ومن أهل الصلاح والنصح جلساء ومستشارين، تصلح أحوالكم وأحوال شعوبكم، وتبقى مكانتكم، ويعم الأمن والأمان بلادكم.
علماء الإسلام: إن مسئوليتكم في تبليغ هذا الدين كبيرة، وأمانتكم جسيمة، انزلوا إلى ميدان التوجيه والإرشاد، واحملوا سلاح الدعوة والبلاغ، واحذروا من التقصير في أداء ما حملتم، وكتمان ما أوتيتم فإن خطره كبير، واعلموا أن ضعف كثير من العامة في أمور عقيدتهم وأمور دينهم وانتشار الجهل في كثير من الناس سببه تواريكم عن الساحة، وإحجامكم عن النزول إلى الميدان، وصونوا علمكم عن مطامع الدنيا وشهواتها.(80/10)
واجب الدعاة في الإصلاح
دعاة الإسلام: دوركم كبير جد كبير، لقد حملتم شرف الدعوة، وشرفتم بتولي ميراث النبوة، فاسلكوا أثر أفضل الدعاة عليه الصلاة والسلام، ركزوا على الدعوة إلى العقيدة، واهتموا بالنوع والكيف، لا بالكثرة والكم، اجمعوا قلوبكم ووحدوا صفوفكم، فالدعوة إلى الله ليست تجمعات حزبية، ولا تنظيمات عصبية، وإنما هي رسالة صلاحٍ وإصلاح لعموم البشرية، حذار أن يوقع الشيطان بينكم، وأن يشتغل بعضكم ببعض والعدو يتفرج من حولكم، ركزوا على العلم، ولقد ثبت في الساحة أن أي دعوة لا تجعل للعلم الشرعي القدح المعلى فإنها تتعثر.
ولا تستعجلوا النتائج أيها الدعاة، واسلكوا سبيل الحكمة والرفق والعقل، وبعد النظر وتحكيم المصالح الشرعية، والرجوع إلى العلماء، ومتى جنحت الدعوة إلى العنف وسلكت مسالك الاندفاع والتهور، فشلت وسببت لأصحابها الضرر العاجل، عليكم بالرفق أيها الدعاة، فما كان في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، اتصلوا بولاة الأمور، وسدوا الفجوة التي يريد خصومكم أن ينفذوا إليكم من خلالها.(80/11)
حقيقة الانتماء إلى الإسلام
أمة الإسلام: إنه لا عز للبشرية ولا صلاح للإنسانية إلا بتطبيق الإسلام، والإسلام الحق المبني على العقيدة الصحيحة، والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، والسير على ما سار عليه السلف الصالح.
إن كثيراً من الناس يدَّعون الإسلام ولكنه ادعاءٌ وانتماءٌ لا حقيقة، إنه لا بد من تحقيق كلمة التوحيد، ولا بد من توحيد الكلمة عليها.
إن تضامن المسلمين اليوم ووحدتهم مطلبٌ جدُ مهم في عزهم وقوتهم وانتصارهم على أعدائهم، وإن الفرقة والخلاف لهما الداء العضال الذي يفتت جسد الأمة ويقطعها.
فاحرصوا -رحمكم الله- على الجماعة، واحذروا الشقاق والنزاع والفرقة، فإن يد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية، وإن مما يدعم ذلك تلاحم الشعوب مع قادتهم، ومعرفة حقوق ولاة أمور المسلمين وعلمائهم، أما الولاة فحقوقهم على رعاياهم السمع والطاعة لهم بالمعروف، وعدم الخروج عليهم والتنصل من بيعتهم؛ لأن ذلك من أعظم أسباب الفتن ودواعي الفساد في البلاد والعباد؛ فبهم تأمن السبل، ويستتب الأمن، وتصان الحقوق، وتقام الحدود، وتحصن الثغور، طاعتهم في المعروف من طاعة الله ورسوله، والخروج على ولاة الأمور ومنازعتهم، وإظهار أخطائهم أمام الناس، والوقيعة في أعراضهم مخالفٌ لمنهج السلف الصالح، ولما عليه أهل السنة والجماعة، وطريق النصح المشروع ليس بالتشهير والتجريح، فهذا لا يسلكه إلا من جهل ما يترتب عليه من مفاسد في الدين والدنيا.
أما العلماء فيجب معرفة قدرهم، والقيام بحقهم، والدعاء لهم، وعدم الوقيعة في أعراضهم، وإننا لنأسف أشد الأسف من أناسٍ أغرار حدثاء جهلوا مكانة العلماء فوقعوا في أعراضهم تجريحاً وتنقيصاً، رموهم سفهاً بالمداهنة والتزلف؛ لا لشيء إلا لأنهم سلكوا طريق الحكمة في معالجة الأمور.
وإن التفكه بأعراض العلماء والولاة في المجالس سمٌ قاتل، وبلاءٌ ظاهر، وداءٌ عضال، وإثمٌ واضح، ففيه إيذاءٌ للمؤمنين، وغيبة للمسلمين، ووقوعٌ في أعراضهم، وكفى بذلك إثماً وخطراً، مع أن هذا المسلك لا يخدم مصلحة، ولا يحقق منفعة ولا يزول به منكر، فمن علم أنه موقوف بين يدي الله ومسئول عن قوله وفعله وقف عند حده والتزم شرع ربه، وأما من غلب عليه الجهل والهوى وأعجب برأيه، فلا حيلة فيه، ويُخشى أن يوقع نفسه وغيره في أمور لا يعلم عواقبها إلا الله، فيحصل الندم حيث لات ساعة مندم.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!(80/12)
أحوال المسلمين في العصر الحديث
أمة الإسلام: إن تقليب صفحات تأريخنا المعاصر، وأوضاعنا المعاصرة يعطي صورة مأساوية لما آل إليه أمر المسلمين في كثيرٍ من الأقطار، ما هي أحوال إخوانكم في البوسنة والهرسك الذين وصلت قضيتهم أوج خطورتها، وبلغت حداً لا يسع السكوت عليه، بل ولا نكتفي بالشجب والإدانة؛ لأن الأمر خطير جد خطير ضد عقيدتهم وحرماتهم وأموالهم وبلادهم ومقدراتهم، لقد عمل فيهم عباد الصليب أعمالاً فظيعة؛ هدموا مساجدهم، وعبثوا بمقدراتهم، وأخرجوهم من ديارهم لا لشيء إلا لأنهم يقولون: ربنا الله، آلاف القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى، وملايين المشردين لا لشيء إلا لإيمانهم بالله عز وجل وتمسكهم بإسلامهم، ناهيك عن انتهاك الأعراض وسلب الأموال ومصادرة الحريات، وبث الرعب والقلق والاضطراب، لماذا يحصل هذا أمام سمع العالم وبصره؟! فلا مراعاة للحقوق، ولا التزام بالمعاهدات، ولا وفاء للأعراف الدولية، ولا التزام بدينٍ ولا خلق ولا رادع.
إن إخوانكم هناك -يا عباد الله! ويا حجاج بيت الله! - ينادون: وا إسلاماه! يستدرون عطفكم وشفقتكم، فحذار أن تخذلوهم، إننا لنتساءل: أين العالم عن هذه المأساة؟
أين المسلمون عن الانتصار لإخوانهم؟
أين أدعياء حقوق الإنسان والمتبجحون بالإنسانية؟
لو قتل علجٌ واحدٌ من أعداء الإسلام لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاشتغلت وسائل الإعلام بالحديث حوله، والمطالبة بالإفراج عنه أو الانتصار له، ولكن الدم المسلم أرخص الدماء ولا حول ولا قوة إلا بالله، إلى الله المشتكى، والمسلمون في كثير من البقاع لا بواكي لهم.
هل قتل علجٍ واحد جريمة لا تغتفر
وقتل شعبٍ مسلم مسألة فيها نظر
إننا نطالب باسم المسلمين جميعاً، وباسم حجاج بيت الله الحرام قادة المسلمين وحكام العالم: أن يبذلوا جهودهم للإفراج عن إخواننا في البوسنة والهرسك، وأن يتدخلوا عملياً لإنقاذ البقية الباقية من إخواننا المسلمين هناك، نصرة للمظلوم وانتقاماً من الظالم.
كما أن واجب المسلمين الدعاء لإخوانهم والضراعة إلى الله أن ينصرهم ويفرج عنهم، وأن يبذلوا أموالهم -لا سيما الأثرياء- لدعم إخوانهم هناك، فهم في أمس الحاجة إلى الدعاء والغذاء والكساء والماء والدواء.
وإذا قلبت صفحة أخرى من مآسي المسلمين وجدت ما يماثل ذلك أو يقاربه، ما هي أحوال المسلمين في كشمير؟
لقد قضى عليهم الوثنيون لطمس هويتهم، وتشريدهم من ديارهم، وحرمانهم من ممتلكاتهم، عملوا فيهم قتلاً وتشريداً.
ما هي أحوال المسلمين في بورما وفي الفليبين وفي الصومال؟
ولا ننسى قضيتنا الأولى قضية فلسطين الجريحة، والمسجد الأقصى المبارك، ما هي أحوال المسجد الأقصى يا حجاج بيت الله الحرام؟!
هذه إسرائيل الحثالة البشرية والشرذمة الصهيونية من شذاذ الآفاق، وحثالة العالم، وقتلة الأنبياء، وإخوان القردة والخنازير تريد التوسع لنشر مذهبها الباطل، ودينها المحرف، وبناء هيكلها المزعوم، وإن ننسى فلا ننسى المجزرة البشعة التي وقعت لإخواننا في فلسطين في شهر رمضان المبارك وهم صائمون مصلون لله الواحد القهار.
كل ذلك على حساب المسلمين وبلادهم، ما هي أفعال اليهود في فلسطين؟
إنه امتداد حلمها في الانتشار في العالم الإسلامي، ألا شاهت وجوه الصهاينة.
أيعجز المسلمون وهم أكثر من مليار مسلم أن يقفوا أمام هذه الحفنة القليلة؟! ولكن إلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.(80/13)
التحذير من اليأس من واقع المسلمين
أمة الإسلام: إنه كلما كثرت مآسي المسلمين فإن البشائر كثيرة، والفأل مطلوب، والخير موجود بحمد الله، فأمة الإسلام أمة معطاءة أنجبت القادة والعلماء، والأئمة والعظماء، والخير في هذه الأمة إلى قيام الساعة، فحذار من اليأس والتشاؤم فإن بشائر نصرة دين الله آتية ومتكاثرة، فالصحوة الإسلامية تعم أرجاء العالم بحمد الله، الكل يريد الإسلام، ويبحث عن الإسلام لما يمتاز به من تحقيق الأمن والأمان، ومن توفر الكمال والشمول، غير أن العلم والإيمان والعقيدة والصبر والرجوع إلى العلماء مما يجب أن تتحلى به الصحوة الإسلامية، كذلك ينبغي البعد عن التعجل والحماس والعواطف المتأججة.
لا بد من المنهجية والتأصيل العلمي في الأمة حتى لا تتأثر الخطا، وتكبو الجهود، يجب أن يؤخذ العلم من العلماء، وأن تبنى الأمة بناءً علمياً سليماً، يقوم على القواعد والأسس من حفظ كتاب الله وحفظ متون أهل العلم، وليس العلم بمجاراة العلماء، ولا مماراة السفهاء، ولا يؤخذ من نشراتٍ أو وسائل سهلة المدخل، سريعة المخرج، هشة البناء، فتعلموا جيداً يا طلبة العلم ولا تستعجلوا التصدر، واعلموا أنه لا بد في العلم من حني الظهور وثني الركب في حلق العلماء؛ لتتحقق الاستفادة منهم على منهجٍ صحيح بإذن الله.(80/14)
فتنة اليمن
أيها المسلمون: إن من الفتن الجديدة ما وقع لإخوتنا في اليمن، وكذلك ما وقع في بلاد الأفغان، فيا قادة اليمن! إن عليكم أن تتقوا الله في أنفسكم، وأن تصلحوا ذات بينكم، ولتعلموا أن الشيطان ينزغ بينكم، إن مصلحة الشعب اليمني تقتضي إلقاء السلاح، وحقن الدماء، والتفرغ للإعمار والبناء، والقتال لا ينفع إلا العدو وحده: {ولزوال الدنيا بأسرها أهون على الله من قتل مسلم} بأي حقٍ تضيع مقدرات الشعوب، وتجر الأمة إلى هرجٍ وقتل ودمار، فإلى بلاد الحكمة -كما ورد في الأثر- نطالب بالحكمة، والعقل والإصغاء إلى صوت الضمير، وتفويت الفرصة على العدو المتربص.
كذلك ينبغي على إخواننا في أفغانستان أن يستجيبوا لنداء الحق والعدل، وأن يمتثلوا داعي الإصلاح، حتى يعود لجهادهم ما سطروه في تأريخنا المعاصر من أمجاد وانتصارات، وحذار من الدنيا والزعامة والكراسي فإن هذه زائلة ومن عليها: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(80/15)
منزلة يوم النحر وأعماله
الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر! الله أكبر!
الله أكبر عدد ما ذبح المسلمون الضحايا، الله أكبر عدد ما بذلوا من الصدقات والهدايا، الله أكبر عدد ما تقربوا إلى الله بصالح الأعمال وخالص النوايا.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى وأطيعوه وراقبوه ولا تعصوه، واشكروه جل وعلا أن بلغكم هذا اليوم العظيم، وهذا الموسم الكريم، واعلموا رحمكم الله أن يومكم هذا يوم مبارك، رفع الله قدره، وأعلى مكانه، وأظهر فضله، وسماه يوم الحج الأكبر، وجعله عيداً للمسلمين حجاجاً ومقيمين، فيه ينتظم عقد الحجيج على صعيد منى، بعد أن وقفوا بـ عرفة، وباتوا بـ مزدلفة.
في هذا اليوم العظيم يتقرب المسلمون إلى ربهم بذبح ضحاياهم اتباعاً لسنة الخليلين إبراهيم ومحمد صلى الله عليهما وسلم، فقد أمر الله خليله إبراهيم بذبح ابنه وفلذة كبده فامتثل وسلم، ولكن الله سبحانه فداه بذبحٍ عظيم، فكانت سنة جارية، وشرعة سارية عملها نبيكم صلى الله عليه وسلم ورغب فيها، ففي الصحيحين: {أنه صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر}.
ومن فضل الله على عباده أن يسر لهم في الأضاحي فتجزأ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، فاتقوا الله عباد الله، واحذروا من البخل والشح في مال الله، فقد أعطاكم الكثير وطلب منكم القليل، ضحوا في هذه الأيام المباركة عن أنفسكم وأهليكم وأبنائكم، ففضل الله واسع، وله الحمد والمنة.
وليحذر من أراد أن يضحي من العيوب التي تمنع الإجزاء، فلا تجزئ العوراء البين عورها، ولا المريضة البين مرضها، ولا العرجاء التي لا تطيق المشي مع الصحاح، ولا يجزئ من الإبل إلا ما له خمس سنين، ومن البقر إلا ما له سنتان، ولا من المعز إلا ما تم له سنة، ولا من الضأن إلا ما تم له ستة أشهر.
والسنة نحر الإبل قائمة معقولة يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم على جانبها الأيسر موجهة إلى القبلة ويقول عند ذبحها: بسم الله والله أكبر اللهم هذا منك ولك.
والسنة أن يوزعها أثلاثاً، فيأكل ثلثاً ويهدي ثلثاً ويتصدق بثلث.
ووقت الذبح يمتد من الفراغ من صلاة العيد إلى آخر أيام التشريق على الصحيح من أقوال أهل العلم، فلا تحرموا أنفسكم ثواب الله في هذه الأيام المباركة، وتقربوا إلى الله بالعج والثج فما عمل في هذه الأيام المباركة أحب الله من إراقة دم، وإنها لتقع من الله قبل أن تقع على الأرض فطيبوا بها نفساً، وإن للمضحي بكل شعرة حسنة، وبكل صوفة حسنة، كما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
حجاج بيت الله الحرام: تفيضون هذا اليوم إلى منى لرمي الجمرة الكبرى -جمرة العقبة- بسبع حصيات متعاقبات، استناناً بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم القائل: {خذوا عني مناسككم}.
ثم بعد الرمي ينحر المتمتع والقارن هديه، ثم يحلق رأسه أو يقصره والحلق أفضل، وبعد ذلك يباح للمحرم كل شيء حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ويسمى هذا التحلل الأول، ويسن له بعد ذلك التطيب والتوجه إلى مكة لطواف الإفاضة؛ وهو ركنٌ من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29].
ثم يسعى المتمتع سعي الحج، وكذا المفرد والقارن إن لم يسعيا مع طواف القدوم، وبعد ذلك يرجع الحجاج إلى منى للإقامة بها ليالي أيام التشريق، ورمي الجمرات الثلاث مرتبة في كل يوم من أيام التشريق بعد الزوال، والرمي والمبيت ليالي أيام التشريق واجبٌ من واجبات الحج، ثم بعد الرمي في اليومين الأولين من أيام التشريق، يجوز لمن أراد التعجل أن يخرج من منى قبل غروب الشمس، ومن تأخر وبات الليلة الثالثة ورمى الجمرات في اليوم الثالث فهو أفضل وأعظم أجراً، يقول تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203].
فعليكم عباد الله! وعليكم حجاج بيت الله! بتطبيق سنة رسولكم صلى الله عليه وسلم، وشغل هذه الأيام المباركة بالتكبير والذكر، يقول صلى الله عليه وسلم: {أيام التشريق أيام أكلٍ وشرب وذكرٍ لله عز وجل}.
ثم إذا أردتم الرجوع إلى دياركم يجب أن تطوفوا للوداع وهو واجبٌ من واجبات الحج لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض}.
تقبل الله منكم، وجعل حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وعملكم صالحاً مقبولاً.
حجاج بيت الله الحرام! يا من لبيتم نداء ربكم، وجئتم إلى هذا المكان المبارك تاركين أوطانكم وأموالكم وأعمالكم وأولادكم! لبوا نداء ربكم في كل أمرٍ فاتبعوه، وفي كل نهي فاجتنبوه، لبيك اللهم لبيك، إجابة بعد إجابة، قولوها وأعلنوها صريحة في كل مكان.
ولتبقى عليكم آثار الحج المباركة بعد عودتكم إلى دياركم بالاستمرار على طاعة الله والبعد عن معاصيه.(80/16)
صور من النعم في بلاد الحرمين
عباد الله: إن من التحدث بنعمة الله عز وجل ما حبا الله بلاد الحرمين الشريفين من نعم عظيمة، فنعمة العقيدة والإيمان، ونعمة الأمن والاطمئنان، ونعمة الولاية المسلمة التي تعلن الإسلام وتعتز به، وتحكمه وتدعو إليه، وتنصر أهله، وتقوم بخدمة الحرمين الشريفين ورعايتها إعماراً وتوسعة وتطهيراً، صيانة ونظافة وتطويراً، وما اللبنة الأخيرة التي وضعت قبل أيام إلا امتداد للجهود الجبارة التي تقوم بها حكومة هذه البلاد المباركة في إعمار الحرمين الشريفين جعله الله في موازينها.
أيها المسلمون: لقد أرق وجود هذه النعم في بلاد الحرمين من الأمن والأمان والخيرات والمقدسات مضاجع كثيرٍ من الحاسدين، ممن اكتوت قلوبهم بداء الحسد والبغضاء والحقد والشحناء فعملوا على بث الدعايات الكاذبة، والشائعات المغرضة، حسداً من عند أنفسهم.
نعم يا عباد الله! إننا محسودون فعلينا أن نحذر من الحاسدين الذين قد يسخرون وسائل إعلامهم للنيل من هذه البلاد، وقيادتها، وعلمائها، وسيصطلون بنار حسدهم ولن يحرقوا إلا أنفسهم وما يشعرون، فعلينا ألا ننخدع بهذه الارتجافات، والحملات الإعلامية المغرضة التي تنطلق من وسائل إعلامٍ مأجورة، ضيعت أمانة الكلمة، ومصداقية الحرف، وجانبت الموضوعية والإنصاف.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
أمة الإسلام: الغزو الفكري والثقافي والأخلاقي الذي يشنه دعاة الرذيلة ضد المسلمين عبر الوسائل المختلفة مما ينبغي أن يحذره المسلمون، ويتصدوا له بالجرعات الإيمانية والتربوية، وعدم ترك الحبل على الغارب لهذه الوسائل أن تتسلل إلى البيوت والأسر؛ فتقضي على إيمانها وعفافها وأخلاقها، وهنا تبدو مسئولية المدرسة والبيت والأسرة كبيرة جداً.
أيها المسلمون: لا زالت كثيرٌ من المجتمعات تعاني من مشكلات اجتماعية وأسرية متعددة منها غلاء المهور، والتكاليف بالزواج، وفشوا ظاهرة الطلاق وارتفاع إحصاءاتها، والخلافات الزوجية بشكل مذهل مما يتطلب من الغيورين العناية بهذه القضايا ووضع الحلول المناسبة لها
تذكروا -يا عباد الله- باجتماعكم هذا يوم يجمع الله الأولين والآخرين، تذكروا الموت وكربته، والصراط وزلته، والقبر وظلمته، واستعدوا لذلك بصالح العمل.(80/17)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أيها الإخوة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قوام هذا الدين، به نالت هذه الأمة الخيرية على غيرها، وقد تضافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أهميته ووجوبه، وإصلاحه للبلاد والعباد، فالواجب على المسلمين أن يأمروا بالمعروف وأن ينهوا عن المنكر، كل على حسب استطاعته، على درجات الإنكار المعروفة.
ولا بد من تحلي الآمرين بالمعروف، والناهيين عن المنكر بالرفق والحلم والعلم والحكمة، ليكون لعملهم الأثر الإيجابي في بعدٍ عن التعنيف والغلظة، والحق أن أهل الحسبة يبذلون جهوداً جبارة، ينبغي أن تذكر فتشكر، وينبغي أن يشجعوا مادياً ومعنوياً، وأن يكف عن تضخيم أخطائهم، وإن فضل الله على هذه البلاد أن كانت البلاد الوحيدة التي بها جهاد مستقل بكافة أعضائه وتجهيزاته ومرافقه خدمة للحسبة وأهلها، جعله الله في موازينها.(80/18)
دور الإعلام في هذا العصر
أمة الإسلام: الإعلام في هذا العصر قناة مهمة، تؤثر سلباً وإيجاباً على الناس في مختلف شئونهم، فالواجب استغلال وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة للدعوة إلى الله، ونشر الفضيلة، ومحاربة الرذيلة.
فيا رجال الإعلام: اتقوا الله في مسئولياتكم، أدوا أمانة الكلمة، ولا تضيعوا مصداقية الحرف، تحروا الحقائق واحذروا التهويل والإثارة والشائعات، واجعلوا من وسائلكم قنوات للدعوة والتوجيه.
هذا وإننا لنحمد الله أن وفق ولي أمرنا لاتخاذ الخطوات الحاسمة لمنع واستيراد كل ما يسبب ضرراً أخلاقياً ودينياً، ومما يؤثر على أمورنا، فجزاه الله خيراً، وجعل ذلك في موازينه.(80/19)
دور الشباب في الدعوة
شباب الإسلام: مهمتكم هي المهمة العظمى، فيا أيها الشباب! اتقوا الله عز وجل، أنتم أحفاد الأبطال الفاتحين، والمجاهدين الصامدين، أنتم خلفاء سعد وطارق وأسامة وصلاح الدين، فكونوا خير خلف لخير سلف.
أيها الأخوات المسلمات: يا حفيدات عائشة وخديجة وفاطمة وسمية ونسيبة! اتقين الله في أنفسكن، إن واجبكن في تقويم أنفسكن على شريعة الله في الحجاب والعفاف والحشمة والحياء عظيمٌ جداً، فعليكم أن تقوموا به على خير وجه.(80/20)
أهمية فرائض الدين
أيها المسلمون: أدوا الصلاة المفروضة التي هي عمود الإسلام، والفارق بين الكفر والإيمان، واحذروا الوقوع في المعاصي، وأدوا الزكاة، وصوموا شهركم: {وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} [الأعراف:85] أفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وبروا الآباء والأمهات، احذروا الربا، والزنا، والمسكرات، والمخدرات، والرشوة والتزوير والغش والخديعة، والغيبة والنميمة والبهتان، وأوفوا إذا عاهدتم: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46].
هذه إشارات عابرة ولمحات عاطرة، من باب الغيرة على دين الله: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله! الله أكبر الله أكبر ولله الحمد!
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير الورى نبيكم محمد بن عبد الله كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين، وعلي أبي السبطين، وعن السبطين العلمين، وعن العمين الكريمين، وعن أصحاب البيعة والعقبة والشجرة، وعن أمهات المؤمنين، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الملة والدين.
اللهم دمر الطغاة والملحدين، والصهاينة المعتدين، وكل من أراد الإسلام والمسلمين بسوءٍ يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين، والمضطهدين في دينهم في كل مكان.
اللهم أنقذ المسجد الأقصى من براثن الصهاينة المعتدين، واليهود الغاشمين، اللهم رده إلى حظيرة الإسلام والمسلمين، اللهم ارزقنا فيه صلاة قبل الممات يا حي يا قيوم!
اللهم كن لإخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم إنهم مظلومون فانصرهم، وحفاة فاحملهم، وجياعٌ فأطعمهم، وعراة فاكسهم، اللهم كن لإخواننا في كشمير، وفي بورما، وفي الصومال، وفي إرتيريا والفليبين، وفي سائر البقاع التي يضطهد فيها المسلمون.
اللهم أصلح أحوال إخواننا في اليمن، اللهم اجمع قلوبهم على كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجمع قلوب القادة الأفغان على توحيدك وكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم يسر لحجاج بيتك الحرام أداء بقية مناسكهم يا رب العالمين! اللهم ووفقهم لما تحب وترضى، اللهم اجعل حجهم مقبولاً، وسعيهم مغفوراً، وعملهم مشكوراً، يا حي يا قيوم! اللهم وأعدهم إلى بلادهم سالمين غانمين.
اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وولاة أمور المسلمين في كل مكان، وارزقهم تحكيم شرعك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين وولي عهده ونائبهما إلى ما تحب وترضى، اللهم وفق سائر العلماء والأمراء والوزراء والمسئولين إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين، اللهم اجزهم خير الجزاء وأوفره، جزاء ما قدموا ويقدمون لحجاج بيتك الحرام، اللهم اجعل ذلك في موازين أعمالهم، وفي صفحات حسناتهم يا حي يا قيوم، اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم.(80/21)
احذروا الاختلاط
لم يزل الصراع بين الحق والباطل مستمراً، وإن معيار رقي الأمم والحضارات هو عقيدة تزكي النفوس، وإيمان يقوِّم الأخلاق ودين يهدي إلى الفضائل ويعصم من الوقوع في الرذائل، وإن من أهم ما جاء الإسلام بتحريمه تكريماً للمرأة وحفاظاً على مكانتها التبرج والاختلاط، وإن الدعوة إلى التبرج والاختلاط دعوة آثمة يريد دعاتها تدمير أخلاق الأمة وقيمها.(81/1)
معيار رقي الأمم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلائق فأتقن ما صنع، وشرع الشرائع فأحكم ما شرع، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، أقام صرح الفضيلة ورفع، ودفع أسباب الرذيلة ووضع، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أهل التقى والحياء والزهد والورع، ومن سار على نهجهم واتبع، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى.
عباد الله: مقياس صلاح الأفراد والمجتمعات، ومعيار رقي الأمم والحضارات، عقيدةٌ تزكي النفوس، وإيمانٌ يقوِّم الأخلاق، ودينٌ يهدي إلى الفضائل، ويعصم من الوقوع في الرذائل، وعنوان نقاء المعدن، وزكاء العنصر، وحياة الضمير، وازع يمنعه من اقتراف الآثام وارتكاب الدنايا.
وأرق الناس طبعاً، وأقواهم ديناً، وأنبلهم سيرةً، وأصلحهم سريرة من عاطفته حيةٌ متوقدةٌُ، وضميره يقظ مُرهف، يترفع به أبداً عن مقارفة الخطايا، ويستشعر الغضاضة من سفاسف الأمور، والاشمئزاز من كل المنكرات والشرور.
وقليل المروءة وبليد الشعور من لا يبالي بفضيلة، ولا يتورع عن فعل رذيلة، ينفلت من الأخلاق بلا مبالاة، ويتحرر من القيم بلا اكتراث، ويتحول وحشاً كاسراً ينطلق وراء شهواته، وينساق خلف ملذاته، ويدوس في سبيلها أزكى العواطف، وأنبل المشاعر والقيم، فلا وازع يردعه، ولا حياء يمنعه، بل ولا فطرة نقية وعقلية سوية.
هب البعث لم تأتنا رسله وجاحمة النار لم تضرم
أليس من الواجب المستحتم حياء العباد من المنعم(81/2)
الصراع الدائم بين الحق والباطل
أيها الإخوة والأخوات: ولم يزل الصراع بين الحق والباطل، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة مستمراً، وقد بلغ أوج خطوته في عصر الانفتاح والانفلات، والانسياق وراء الشهوات، والاسترسال خلف الملذات، والتلاعب بالألفاظ والمصطلحات، ولقد كان التساهل بقضايا المرأة من الأسباب الرئيسة في حصول واقع منحرف، ومجتمع منجرف، وجيل عن تحصيل الخير منصرف، وإن الثالوث الخطير -الذي يمثل أخطر معاول الهدم والتدمير في المجتمع الإسلامي- كله يركز على المرأة، تبرجاً وسفوراً واختلاطاً، وذلك كله لم يأت مصادفةً، ولا اعتباطاً، وإنما نتيجة تخطيط دقيق، ومؤامرة شرسة ضد دين الأمة ومثلها وقيمها، حتى خدع كثير من المسلمين والمسلمات بشعارات براقة، ودعايات مضللة، تعد الالتزام بنهج الله وشرعه جموداً ورجعيةً، والانفلات والإباحية حريةً وتقدميةً، والانسياق وراء الشهوات رقياً وتحضراً ومدنيةً، والتبرج والسفور والاختلاط موضة، والخلاعة والفجور والانحلال فناً، والعلاقات المحرمة حباً، مما يتطلب يقظة الأجيال والمسئولين عنهم من النساء والرجال، أداءً لحق القوامة والرعاية، وامتثالاً لقول الحق تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].(81/3)
تحريم التبرج تكريم للمرأة
أيها الأحبة في الله: وما حرم الإسلام التبرج والسفور والاختلاط، وشرع الحجاب إلا تكريماً للمرأة، وحفاظاً على مكانتها، وحرصاً على إقامة المجتمع النظيف، والجيل العفيف الذي لا تهيجه الشهوات، وتستثيره المغريات، وسداً لذريعة الفساد، وحثاً على اتخاذ التدابير الواقية من الوقوع في الشر والانحراف، وذلك هو هدي الإسلام في صيانة المجتمع من المزالق، وهو أهدى سبيل لسعادة البشرية جمعاء بكل عزة وإباء في عيش خير، وحياة هنيئة يظللها الإيمان، ويرفرف على جنباتها الحياء؛ إذ بدونه يفسد العيش وتظلم الحياة.
فلا والله ما في العيش خيرٌ ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
أمة الإسلام: إن تبرج المرأة وزينتها وتعطرها واختلاطها بالرجال في الأماكن العامة تزاحمهم وتستهوي نفوسهم وتفتن قلوبهم، لهو دليل على ضعف الوازع الديني في نفسها، أو عدمه، وأمارة على موت الغيرة وبلادة العفة وقلة الحياء.
وإذا الحياء تهتكت أستاره فعلى الحياة من الحياء عفاء
إن المرأة المتبرجة المختلطة الخرّاجة الولاجة إن سلمت في نفسها، فإن الناس لا يسلمون من فتنتها، والافتتان بها، فكم فيهم من عزب لا يجد نكاحاً، وكم فيهم من شاب محترق بشهوته ولا زوجة له يسكن إليها، بل وكم فيهم من ذئب محترف، ولص متفنن بسرقة الأعراض، بارع في أساليبها واقتناصها، وقد يكون فيهم عبدٌ صالح عفيف، ورجل تقي شريف أغواه الشيطان، فذل بعد العز، وتندس بعد العفة بفعل هذه الفاتنة المفتونة، وقد قال الأول:
قل للمليحة في الخمار الأسود ماذا فعلت بناسكٍ متعبد
قد كان شمر للصلاة ثيابه حتى عرضت له بباب المسجد
ردي عليه صلاته وصيامه لا تفتنيه بحق دين محمد(81/4)
ما يجلبه الاختلاط من فساد
معاشر المسلمين والمسلمات: اختلاط الرجال بالنساء أصل كل فساد وبلاء، ما سرى في مجتمع، ولا فشا في أمة إلا وأوردها موارد الهلاك، لما يسببه الاختلاط بين الجنسين من فتن وفظائع، ودمار يحور الديار براقع، إنه يحرك في النفوس كوامن الغريزة، ويشعل نار الشهوة الجامحة، ويؤجج عواطف الغرام، ويغري كلاً من الجنسين بالآخر، فيرخي العنان للشهوات التي لا حدود لها، يقترن بذلك مجون فاحش، في صور عارية وشبه عارية، وقصص غرامية، ومسلسلات هابطة، وما يزعم بأنه أدب مكشوف مليء بقلة الأدب، ومناظر مثيرة، ولوسائل الإعلام في ذلك نصيب وافر، فينشأ الناشئة، ويتخرج الأجيال في هذا الجو المحموم، وهذا الوضع المسموم، الذي تغلي مراجله بصور الإغراء والإثارة، التي تغتال تربيتهم، وتطفئ فيهم القوى الإيمانية والفكرية، وتقضي على صفاتهم الرجولية والأخلاقية والسلوكية، ولا يكادون يشبون عن الطوق ويبلغون الحلم حتى تغتالهم الشهوات البهيمية، لأن البضاعة معروضة، والمظاهر مغرية، والنفس أمارة غرارة، والشيطان عدو يتربص، والشهوة هائجة مائجة، والرقيب يغفل ويتشاغل، بل ويتكاسل ويتساهل، فيتحول المجتمع إلى لهو وعبث ومجون يعج بالفوضى الجنسية والعشوائية الغريزية والفسق والإباحية، فتنذره بالويل والثبور، وتجره إلى الهلاك والعطب وعظائم الأمور.(81/5)
أدلة تحريم الاختلاط والسفور
حرم الإسلام إطلاق العنان للنظر، وأمر بغض البصر، فقال سبحانه وتعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} الآية [النور:30 - 31].
إن الرجال الناظرين إلى النسا مثل الكلاب تطوف باللحمان
إن لم تصن تلك اللحوم أسودها أخذت بلا عوضٍ ولا أثمان
كما نهى الإسلام عن الدخول على النساء، فقد روى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إياكم والدخول على النساء فقال رجل من الأنصار: أفرأيت الحمو يا رسول الله؟ قال: الحمو الموت} والحمو: قريب الرجل كأخيه، وابن أخيه، وعمه وابن عمه وخاله وابن خاله.
والمعنى: أن خلوة الحمو أشد خطراً من خلوة الغريب، لأن دخوله لا يثير ريبة، ولا يلفت الأنظار، والناس كثيراً ما يتسامحون فيه، فشبهه بالموت في المفسدة، فالله المستعان، كيف استباح بعض الناس ذلك حتى لكأنه عاديٌ مألوفٌ! بل بعض الناس لا يتورع أن يسمح لزوجته، أو مُوليَتِه، أو يلزمها بمجالسة أصدقائه واستقبالهم، بل وتبادل الضحكات والنظرات معهم، فهل هذه أخلاق الإسلام؟!
كما حرم الإسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية، فقد روى البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {لا يخلونَّ رجلٌ بامرأة إلا ومعها ذو محرم، ولا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر تسافر إلا مع ذي محرم} وعند أحمد والترمذي والنسائي والحاكم بسند صحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما خلا رجلٌ بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما} ولا يخفى على كل أحد ما عمت به البلوى من تساهل كثير من الناس في ذلك، لا سيما من ابتلوا باتخاذ الخدم والسائقين، الذين نراهم يروحون ويغدون وينفردون بالأسر بدون محارم، ويدخلون قعر البيوت وكأن الأمر طبيعي صائغ لا شيء فيه، ومثله الخادمات اللاتي يخالطن رب الأسرة وأبناءه من الشباب، وفي ذلك من الخطر العظيم ما لا يخفى على كل ذي غيرة، ومن التساهل الملاحظ: مصافحة المرأة الأجنبية، وهو يحصل عند كثير من الناس بسبب الاختلاط، وهذا لا يجوز حتى لو كان المصافح ابن عم، أو ابن خال، تقول عائشة رضي الله عنها: [[لا والله ما مست يد رسول الله صلى الله عليه وسلم يد امرأة قط]] رواه البخاري في صحيحه.
وقالت أميمة بنت رقيقة وصاحباتها رضي الله عنهنَّ عند البيعة: ابسط يدك -يا رسول الله- نبايعك، قال لهنَّ: {إني لا أصافح النساء} وعند البيهقي والطبراني ورجاله ثقات {لَأَن يطعن في رأس أحدكم بمخيطٍ من حديد خيرٌ له من أن يمس امرأة لا تحل له}.(81/6)
المرأة ودعاة التحرير
أختي المسلمة: يا فتاة الإسلام! يا سلالة الأكرمين! ويا حفيدة أمهات المؤمنين! إن بيتكِ لكِ حصن حصين، وملجأ أمين، وظل وارف، هو قوقعة الجوهرة، وصدفة اللؤلؤة، ومكنون الدرة، تزداد فيه نضارةً وبهاءً، وحسناً وضياءً، وحين تخرج منه، يخبو نورها، ويتضاءل ضياؤها، ويذهب جلاؤها، اسمعي إلى قول الحق تبارك وتعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33]، وإن الدعوة إلى اختلاط الجنسين، دعوة آثمة، يريد أصحابها تدمير أخلاق الأمة وقيمها، تصوروا وضع مجتمع مختلط، هائج مائج، نساؤه ورجاله في الشوارع والأزقة، والمدارس والدوائر والمؤسسات، والشواطئ والمنتزهات، تصوروا المرأة الضعيفة وهي تعمل آلة في مصنع، أو في ميدان حرب، أو تحمل الأمتعة، وتعقب في الدوائر، تصوروهن وقد أنهكهن العمل، وبرزت مفاتنهن، أوليس هذا الوضع محزناً ومؤلماً لامرأة صانها الإسلام، وكرمها وضمن لها الحقوق؟!
هاهي المرأة الغربية، أما يكفي ذلك زاجراً، ورادعاً وضع المرأة الغربية؟! هاهي تصيح وتنادي، ألا ما أحسن للمرأة من بيتها وزوجها وأولادها، تربي وتبني وتنشئ الأجيال، بعدما عمت الإحصاءات وبلغت من الجرائم أرقاها وأعظمها، أرقاماً مذهلة من جراء الاختلاط والتبرج، ولكننا نعجب كل العجب حينما تطالعنا دعوات آثمة بأقلام مأجورة؛ لأناس يعيشون بين ظهور المسلمين، ومن بني جلدتهم، ويتكلمون بلغتهم، يطالبون بالاختلاط بين الجنسين في مراحل التعليم، وتوظيف المرأة جنباً إلى جنب مع الرجل، فماذا يريد هؤلاء؟ وأي هدف يقصدون؟ ولربما اغتر بعضهم بثقافات وافدة، وأعجب بمؤهل يحمله، وشهادة زور يتصدر بها.
ولكن ولله الحمد والمنة أن هذه الدعوات الآثمة لم تعد تلقى القبول إلا من قلة قليلة لا اعتبار لها.
فيا أيها المرأة المسلمة: عودي إلى الله، والتزمي شرع الله، ولا تغتري ببريق الشعارات، وزائف الدعايات.
ويا أيها الرجال: أين القوامة والرعاية , والله عز وجل يقول: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34]؟ أين القيام بالأمانة والمسئولية؟ ولا نبالغ حينما نقول: إن الاختلاط والتبرج الذي حل بالمجتمعات سببه موت غيرة بعض الرجال، وبلادة إحساسهم، وسُبات ضمائرهم! وإلا فهل يرضى صاحب العفة والغيرة، والشرف والمروءة أن تكون موليته لقمة سائغة، ومائدة مكشوفة تلاحقها نظرات الناس، تلتفت لكل هامس، ولا ترد يد لامس؟! وقد قال صلى الله عليه وسلم: {صنفان من أهل النار لم أرهما: قومٌ معهم سياطٌ كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساءٌ كاسيات عاريات، مائلات مميلات، رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يدخلن الجنة، ولا يجدن ريحها، وإنَّ ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا} رواه مسلم في صحيحه.
ألا فاتقوا الله عباد الله! وخذوا على أيدي سفهائكم، ولا تتساهلوا بما أوجب الله عليكم، فكلكم راعٍ، وكلكم مسئولٌ عن رعيته.
أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يهدي ضال المسلمين إلى الحق، وأن يحفظ مجتمعات المسلمين من أسباب الشر والفساد، بمنه وكرمه إنه جوادٌ كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(81/7)
شبهات دعاة السفور والاختلاط
الحمد لله العظيم شانه، العزيز سلطانه، الدائم بره وإحسانه، نحمده تعالى ونشكره، وشكره دليل الصدق وعنوانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة.
عباد الله: يتمسك بعض المفتونين بالاختلاط، بشبهٍ هي أوهى من بيت العنكبوت، لكن قد يغتر بها بعض الجهال، ومن ذلك قولهم: إن الاختلاط موجود في عصر النبوة، فكان الرجال والنساء يختلطون في المساجد ونحوها، والحق أن ليس في ذلك مستمسك لهم، فقد كان النساء يصلين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهن بكامل حجابهنَّ وحشمتهنَّ وحيائهنَّ، ثم قد كان صلى الله عليه وسلم يحث النساء في الصلاة في آخر الصفوف، يقول صلى الله عليه وسلم: {خير صفوف الرجال أولها، وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها، وشرها أولها} رواه مسلم وأهل السنن، كما {حث صلى الله عليه وسلم الرجال على المكث في المصلى حتى تخرج النساء، حتى لا يختلطن بالرجال} رواه البخاري وغيره، وعند أبي داود {أنه صلى الله عليه وسلم أمر النساء بلزوم حافات الطريق حتى لا يختلطن بالرجال}.
هذا هو الذي ينبغي للنساء، حتى لا يفتنَّ، أو يُفتن.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن المرأة إذا صلت في الحرم، أو غيره من المساجد، فعليها أن تلتزم الأدب الإسلامي، وأن ترعى حرمة هذه البقاع الطاهرة، حتى ترجع بالأجر والمثوبة، أما إذا تساهلت بحجابها، ونبذت الحياء والحشمة، ووقعت في التبرج والزينة، فيخشى أن تأكون مأزورة غير مأجورة.
ومما ينبغي ملاحظته، ضرورة تربية البنات منذ الصغر، على البعد عن الاختلاط بالرجال، حتى يتربين على العفة والفضيلة.(81/8)
استغلال الإجازات بالطاعات والابتعاد عن الاختلاط
أيها الإخوة: ولما كان الناس يعيشون هذه الأيام فرصة إجازة نصف العام الدراسي، فإنه مما ينبغي التنبيه عليه حفظ الأوقات، وشغلها بطاعة الله، والبعد عن المعاصي، وأن يلتزم الرجال والنساء، والبنات والأبناء، شرع الله في سفرهم وإقامتهم، وأن يحذروا من الأماكن الموبوءة، والبقاع المختلطة، ولقد سرنا وسر كل مسلم أن كثيراً من الناس يتوجهون إلى الحرمين الشريفين في هذه الإجازة في عمرةٍ وزيارةٍ، وذلك من نعم الله عز وجل، وهو أمرٌ طيبٌ يشجعون عليه، لكن كم نود لو التزم الناس أكثر -لا سيما النساء- بآداب هذه البقعة المباركة، فإذا أتت المرأة إلى الحرم، تأتي تفلة متبذلة، لا متعطرة ولا متبرجة، وإذا طافت لزمت الاتجاه الأيمن بعيداً عن الاختلاط بالرجال، وإذا صَلَّت، ففي آخر الصفوف، ولا تزاحم عند الأبواب، ولا غيرها، ويتأكد على أوليائهنَّ أمْرهنَّ بذلك، وإلا فبيوتهنَّ خيرٌ لهنَّ.
ومن نعم الله على هذه البقاع المباركة، أن تميزت بمنهجها الإسلامي، فلا يسمح الاختلاط في مدارسها، وجامعاتها ومؤسساتها، وهذه نعمةٌ، نسأل الله أن يوزعنا شكرها، وأن يثبتنا عليها، وأن يزيد هذه البلاد وبلاد المسلمين من الهدى والتوفيق بمنِّه وكرمه.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الحبيب المصطفى، والنبي المجتبي، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر الملاحدة وسائر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في دورنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لما تحب وترضى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم هيئ له في كل أموره رأياً سديداً، وعملاً رشيداً يا حي يا قيوم، اللهم اجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، ووفق علماءهم للدعوة إلى الله، وبيان الحق يا أرحم الراحمين! ووفق ولاة أمورهم للتعاون مع علمائهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق المسلمين إلى ما تحبه وترضاه، اللهم اهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، والتبرج والسفور، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وفق نساء المسلمين للالتزام بالحجاب والعفاف والحشمة، وقهنَّ شر التبرج والسفور يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنا بذنوبنا فضلك، اللهم إنَّا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، على الله توكلنا، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين على اليهود الغاصبين، وانصرهم في البوسنة والهرسك على الصرب الظالمين، وفي بلاد الشيشان على الملاحدة الشيوعيين، وفي كشمير على الظلمة الوثنيين، وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(81/9)
أحوال الناس بعد رمضان
في هذه الخطبة يتحدث الشيخ عن التمسك بالطاعة بعد رمضان، مبيناً أن من علامة قبول الطاعة أن تتبعها طاعات بعدها، فالحسنة تتبعها الحسنة، والسيئة تتبعها سيئة.
ثم تكلم الشيخ عن واقع كثير من الشباب بعد رمضان، وحذر من السفر إلى بلاد الكفر.(82/1)
الحث على التمسك بالطاعة بعد رمضان
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، وأمينه على وحيه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه، واقتفى أثره ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، فتقوى الله هي وصيته سبحانه للأولين والآخرين، قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} [النساء:131].
عباد الله: بالأمس القريب كنتم في شهر رمضان المبارك شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار، تصومون نهاره، وتقومون ليله، وتتقربون إلى ربكم بأنواع القربات، طمعاً في ثوابه، وخوفاً من عقابه، ثم انتهت تلك الأيام الفاضلة، والليالي المباركة، وقطعتم بها مرحلةً من حياتكم لن تعود إليكم أبداً، وإنما يبقى لكم ما أودعتموه فيها من خيرٍ أو شر: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8].
وهكذا كل أيام العمر مراحل تقطعونها يوماً بعد يوم، في طريقكم إلى الدار الآخرة، فهي تنقص من أعماركم وتقربكم من آجالكم، ويحفظ عليكم ما عملتموه فيها، لتجازوا عليه في الدار الآخرة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:28 - 30].(82/2)
بئس القوم تركوا العبادة بعد رمضان
أيها المسلمون: إنه وإن انقضى شهر رمضان المبارك، فإن عمل المسلم بطاعة ربه واستقامته على شريعة الإسلام ليس له نهايةٌ إلا عند الموت، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
قال الحسن البصري رحمه الله: [[لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت، ثم قرأ قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]]]، وقال عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
فاحذروا -عباد الله- من الرجوع إلى المعاصي بعد رمضان، فإن رب الشهور واحد، وبئس القوم من لا يعرفون الله إلا في رمضان، بئس القوم من لا يعرفون الله إلا في شهر واحد، مع التقصير والتفريط، ويعرضون عنه في أحد عشر شهراً.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- ولا تهدموا ما بنيتم في شهر رمضان من الأعمال الصالحة، فإن من علامة قبول الحسنة إتباعها بالحسنة، وإن الرجوع إلى المعاصي بعد التوبة منها أعظم جرماً وأشد إثماً مما كان قبل ذلك، وإن أمامكم ميزاناً توزن فيه حسناتكم وسيئاتكم: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} [المؤمنون:102 - 104].(82/3)
أحوال الناس بعد رمضان
أيها الإخوة في الله: إن الناظر المتأمل في حال كثيرٍ من المسلمين اليوم، بعد مضي شهر رمضان، يجد فرقاً شاسعاً، وبونا كبيراً بين حالهم في رمضان وحالهم بعده، وذلك أن المسلمين اليوم منقسمون بعد رمضان إلى أصنافٍ متعددة، فمنهم من استمر على طاعة الله، وتلاوة كتابه الكريم، والمحافظة على الصلوات وسائر العبادات، والبعد عن المحرمات، فهنيئاً له بقبول عمله، وهنيئاً له التأسي بـ السلف الصالح الذين كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهرٍ أخرى أن يتقبله منهم، فكل أوقاتهم عبادة.
ومن الناس -ويا للأسف الشديد- من كان صيام رمضان أثقل عليه من الجبال الرواسي ويتمنى بزوغ هلال شوال؛ لينطلق من وثاقه، تسيره شياطين الجن والإنس؛ ليعيث في الأرض فساداً، وينتقل من معصيةٍ إلى أخرى بدون وازع من دينٍ أو خلق، وما أكثر هؤلاء اليوم الذين أشربوا في قلوبهم حب المعاصي والمنكرات، وبغض الطاعات والقربات، والعياذ بالله.
فلم يكن لشهر رمضان أثرٌ في نفوسهم وقلوبهم، هجروا المساجد والمصاحف، وأقبلوا على شهواتهم وغفلاتهم، وفسادهم ومجونهم ولهوهم، هذا هو واقع كثيرٍ من أبناء الأمة الإسلامية، والمحسوبين عليها، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إن هذا الواقع المؤلم لا يرضي إلا أعداء الإسلام، الذين يتربصون بنا الدوائر، ويتمنون انسلاخ أبناء المسلمين من دينهم وعقيدتهم، بل ويبذلون في سبيل ذلك كل غالٍ ورخيص، ووالله إنه ليحزن من كان في قلبه أدنى مثقال حبة خردلٍ من إيمان، فاتقوا الله -أيها المسلمون- واستقيموا على شريعة ربكم، واستمروا على طاعته، وأمروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ووجهوا أبناءكم ومن تحت أيديكم إلى طريق الرشاد.
واتقوا الله يا شباب الإسلام، فحافظوا على أوقاتكم، واعمروها بطاعة ربكم ولا تلهيكم الملهيات، فهي كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً.
واتقين الله أيتها النساء المسلمات، فاستقمن على طاعة الله، وقَرْن، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33].
وليكن شهر الصيام ذا أثرٍ بالغ على نفوسكن، ولازمن الحياء والحشمة وغضّ البصر، واحذرنَ من مزاحمة الرجال في الأسواق والأماكن العامة، وإبداء الزينة لهم، وابتعدن عن التبرج والسفور وإظهار المفاتن، واقتدين بالصالحات السالفات من المؤمنات.(82/4)
التحذير من السفر إلى بلاد الكفر
أيها المسلمون: لقد وصل الأمر بكثيرٍ من أبناء المسلمين -الذين خلت قلوبهم من الإيمان أو كادت، والذين انطفأت جذوة الغيرة الإسلامية في نفوسهم- أنهم يستغلون هذه الأيام، أيام العيد وما بعدها، بالسفر إلى بلاد المشركين، إلى بلاد الكفر والفساد والإباحية والضلال بدعوى السياحة أو غيرها من الدعاوى المشبوهة، فيعيشون هناك بين ظهراني المشركين، بين دور الزنا والخلاعة، وبين بارات الخمور والمسكرات، مستبدلين بديار العقيدة، وديار الأخلاق والعفاف بلاد الكفر والفساد، وحيث إن هذا الأمر قد فشا في كثيرٍ من أبناء المسلمين وأسرهم؛ وجب التحذير من هذه الظاهرة لخطرها على الدين والأخلاق.
سائلين الله عزَّ وجلَّ أن يهدي ضال المسلمين وأن يوفقهم لما يحب ويرضى، اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، اللهم تقبَّل منا أجمعين، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(82/5)
لا تبدلوا نعمة الله كفراً
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين وقدوةً للخلائق أجمعين، نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، وتوبوا إليه واشكروه على سوابغ نعمه وآلائه، ومن شكره: المداومة على طاعته وعبادته.
عباد الله: إن مقابلة نعمة التوفيق لإكمال شهر الصيام بارتكاب المعاصي بعد خروجه، يعتبر من تبديل نعمة الله كفراً، فمن عزم على معاودة المعاصي بعد رمضان، فيخشى أن يرد عليه صيامه، إن هذه الشهور والأعوام والليالي والأيام كلها مقادير الآجال ومواقيت الأعمال، ثم تنقضي سريعاً وتمضي جميعاً، والذي أوجدها باقٍ لا يزول، ودائمٌ لا يحول، هو في جميع الأوقات إله واحد، ولأعمال عباده رقيبٌ ومشاهد، فاتقوه وداوموا على طاعته واجتناب معصيته، فإن كل وقتٍ يخليه العبد من طاعة الله فقد خسره، وكل ساعةٍ يغفل فيها عن ذكر ربه تكون عليه يوم القيامة حسرةً وندامة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
أيها المسلمون: إن فضل الله عليكم متواصل، ومواسم المغفرة لا تزال متتالية لمن وفقه الله لاغتنامها، فإنه لما انقضى شهر رمضان المبارك دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، فكما أن من صام رمضان وقامه، غفر له ما تقدم من ذنبه، فكذلك من حج البيت ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه.
فما يمضي من عمر المؤمن ساعةٌ من الساعات، إلا ولله فيها عليه وظيفةٌ من وظائف الطاعات، فالمؤمن يتقلب بين هذه الوظائف، ويتقرب بها إلى مولاه، فاشكروا الله على هذه النعم، واغتنموها بطاعة الله، ولا تضيعوها بالغفلة والإعراض.
واعلموا -رحمكم الله- أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارضَ اللهم عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، على اختلاف مللهم يا رب العالمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم وفق المسلمين لما تحب وترضاه، اللهم جنبهم الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق إمامنا لهداك، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضاه، اللهم ارزقه السداد والرشاد، والبطانة الصالحة التي تذكره إذا نسي، وتعينه على نوائب الحق يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأصلح قادتهم وأمراءهم، وعلماءهم وشبابهم ونساءهم يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، والمستضعفين في أرضك، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم يا رب العالمين، قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(82/6)
أسباب السعادة وطريق الفلاح [1]
كثير من الناس يظن أن السعادة هي جمع الأموال، وامتلاك المباني الشاهقة، والمراكب الفارهة، وبكثرة الحشم والخدم، وما علم هؤلاء أن السعادة الحقيقية هي بالإيمان بالله عز وجل وكثرة الأعمال الصالحة، وغيرها من أسباب السعادة الكثير.(83/1)
السعادة الزائفة
الحمد لله، كتب الفلاح لعباده المؤمنين، وحكم بالفوز لحزبه المتقين، وضمن السعادة لأوليائه المخلصين، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه وأمينه على وحيه، اللهم صلِّ وسلم على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره، واتبع سنته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وإن تقوى الله خير لباسٍ وزاد، وأفضل وسيلة إلى رضا رب العباد.
أمة الإسلام: إن راحة الضمير وطمأنينته، وهدوء البال وصفاء النفس، وسرور القلب وزوال همومه وغمومه، هو المطلب الأعلى والهدف الأسمى الذي يسعى إليه كل واحد في هذه الحياة، فالناس كلهم ينشدون السعادة، ويرومون الخير والفلاح، ويرجون التوفيق في جميع أمورهم والنجاح.
لذلك بذلوا في الحصول على هذه الغاية أسباباً متعددة، ووسائل مختلفة؛ ولكن زلت في هذا المطلب أقدام، وذلت من أجله أفهام، وكثرت بسببه الخواطر والأوهام، حتى ظن كثيرٌ من الناس لغفلة قلوبهم، وضعف عقولهم، وسطحية تفكيرهم، أن قمة السعادة والفلاح في الحصول على حظوظ الدنيا العاجلة، وشهواتها الفانية، ومنتهى آمالهم، وقصارى أمانيهم، الحصول على الأموال الوافرة والمساكن الفارهة، والمراكب الوفيرة، والترفع والجاه والشهرة، والتمتع بالملذات، والتفنن بالمشتهيات.
ومن الناس من توهم أن السعادة والفوز والفلاح، تكمن في السبق في مجالات التقدم المادي، والأخذ بأسباب التحضر العصري؛ فأفنوا كل أوقاتهم وأنهكوا جميع قواهم في السعي وراء هذه الأمور، ظناً منهم أنهم بإدراكهم لها يدركون مقومات السعادة، وأسباب التقدم والصلاح، وزعموا أن هذه الأشياء الضالة المنشودة في تحقيق الفلاح، وجلب الخير، وحصول القوة والعزة، وتوفر الطمأنينة والأمان، ولقد توهموا في ذلك، وضلوا عن سواء السبيل؛ فهذه الملذات والشهوات، متاع الحياة الدنيا ويعقبها الحساب والعقاب، وقد كانت سبباً في هلاك أممٍ سالفة، وقرونٍ ماضية، وشقاء وبؤس أممٍ حاضرة، وفئام معاصرة أنهكها القلق النفسي والتوتر العصبي، والخواء الروحي؛ فلم يجدوا طريقاً للخلاص من هذه الحياة التعيسة إلا الدمار والانتحار، وصدق الله عز وجل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124].(83/2)
أسباب سعادة البشرية
وهكذا -يا أمة الإسلام- إذا لم يكن الإيمان هو الأساس، والعقيدة الإسلامية الصحيحة هي القاعدة، عند ذاك تفتقد البشرية مقومات الحياة الطيبة، وأسباب الأمن والطمأنينة، ووسائل الكرامة والفلاح، وبتحقيق الإيمان والعمل الصالح؛ تسعد البشرية وتنعم في حياتها، فلا قلق ولا اضطراب، ولا خوف ولا حروب ولا إرهاب، يقول تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وما أحرى الأمة اليوم التي تنشد الخير والفلاح، والرخاء والأمن والصلاح، وقد طرقت في سبيل ذلك أبواباً، وولجت سبلاً، ولكنها باءت بالخسار ورجعت بالبوار، قد تقطعت أمامها السبل، وسدت في وجهها الطرق، فأصبحت كالغريق الذي يتخبط، لعله يمسك بحبل نجاة، أو وسيلة إنقاذ، ما أحراها أن تأخذ من شريعة الله نبراساً، ومن كتابه وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طريقاً، فتأمن بذلك أن تصلح حالها، وتجتمع كلمتها، وتحقق الخير والفلاح والسعادة لمجتمعاتها، وتأمن على أنفسها وأموالها وأعراضها، ولا طريق لها إلا ذلك.
ولا سعادة للبشرية إلا تحت راية الإيمان، ولا عزة ولا أمن إلا في ظلال القرآن، قال تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} [الأنعام:125] وقد حكم الله بالفلاح للمؤمنين، وللمؤمنين وحدهم، فقال سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وحكم بالخسران على جنس الإنسان إلا المؤمنين كما في سورة العصر، وحث على الأخذ بأسباب الفلاح، والعمل بوسائل الفوز والصلاح، وفي مقدمتها: الإيمان والعمل الصالح، والتوبة إلى الله من جميع الذنوب والمعاصي، قال تعالى: {فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ} [القصص:67] وقال جل وعلا: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
ومنها تقوى الله عز وجل: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [البقرة:189] والعمل بطاعة الله ورسوله، والبعد عن معصية الله ورسوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:35 - 36].
ومن أسباب الفلاح والابتهاج وانشراح الصدر وطمأنينته، وزوال همه وغمه، ملازمة ذكر الله، والإكثار منه: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] * {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
ومن وسائل الفلاح وأسباب الصلاح: تزكية النفس بالأعمال الصالحة، والأخلاق الحميدة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:9 - 10] ولا يحصل ذلك إلا بالعمل بالإسلام.
أخرج الإمام مسلم وغيره عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: {قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً، وقنعه الله بما آتاه}.
ومن أسباب الخير والفلاح: الإنفاق في سبيل الله، والبعد عن البخل والشح، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من عباده المؤمنين، وحزبه المفلحين، وأن يوفقنا للأخذ بأسباب الفلاح والسعادة، وأن يرزقنا بمنه الحسنى وزيادة، إنه جوادٌ كريم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(83/3)
الحث على الاستعداد ليوم الميعاد
الحمد لله الرءوف الرحيم، البر الجواد الكريم، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صَلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن سعادة الدنيا والآخرة منوطة بالإيمان بالله، والتمسك بدينه والعمل الصالح، الذي يحقق لصاحبه الفوز الأبدي والفلاح السرمدي، يوم ينقسم الناس إلى شقيٍ وسعيد قال تعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المؤمنون:102] {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون:103].
فجديرٌ بالمؤمن أن يستعد لهذا اليوم العصيب بالعمل الصالح، وسيسعد سعادة لا يشقى بعدها أبداً، وعليه أن يأخذ بأسباب السعادة الحقيقية، من الإيمان والعمل الصالح، ويُسخر كل الوسائل الحديثة، لخدمة هذا الأصل، فيجمع وسائل السعادة الدنيوية والأخروية، وبذلك تتحقق الآمال، وتصلح الأحوال بإذن الله.
ألا وصلوا على من أمركم الله بالصلاة عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا ونبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لما يرضيك، وجنبهم جميع معاصيك.
اللهم وفق المسلمين قاطبة إلى العودة إلى دينك القويم، اللهم ألهمهم الأخذ بأسباب السعادة في العاجل والآجل يا رب العالمين، اللهم وفقنا لما تحب وترضى يا جواد يا كريم، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح قادتهم وعلماءهم، وشبابهم، ونساءهم يا رب العالمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، اللهم وفقهم وانصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق القويم يا رب العالمين، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(83/4)
أسباب السعادة وطريق الفلاح [2]
لقد منَّ الله على عباده المؤمنين بنعمة إرسال الأنبياء والرسل ليقودوهم إلى جنة عرضها السماوات والأرض، وهذا هو طريق الفلاح، والطريق إلى الجنة ليس بالطريق السهل، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عانى معاناة شديدة من قومه حتى أتم الله على يديه هذا الأمر، فيجب علينا الاقتداء به صلى الله عليه وسلم لنيل السعادة الحقيقية في الدنيا والآخرة.(84/1)
نِعْمة إرسال الرسل
الحمد لله الملك القدوس العزيز الحكيم، الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته، ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بعث رسله مبشرين ومنذرين، لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ولم يترك شيئاً يقرب إلى الله ويسعد البشرية إلا بينه وأمر به، ولا شيئاً يبعد عن الله وشرعه، إلا حذر عنه، حتى ترك أمته على محجة بيضاء، وطريقة مثلى، لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام: اتقوا الله تبارك وتعالى، واعلموا أن أعظم منة وأكبر نعمة منّ الله بها على عباده، أن بعث فيهم الرسل مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتاب بالحق؛ ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، وباتباعهم ولزوم هديهم؛ تنجو سفينة الأمة من عواصف المنكرات، وتسلم من أعاصير المحدثات، وبتنكب طريقهم واتباع غير سبيلهم تتقاذفها أمواج الفتن والضلال، حتى يعم الغرق الخبيث والطيب، قال تعال: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25].
يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: وإنه لا سبيل إلى السعادة والفلاح، لا في الدنيا ولا في الآخرة؛ إلا على أيدي الرسل، ولا سبيل إلى معرفة الطيب والخبيث على التفصيل؛ إلا من جهتهم، ولا ينال رضا الله البتة إلا على أيديهم، فالطيب من الأعمال والأقوال والأخلاق ليس إلا هديهم وما جاءوا به، فهم الميزان الراجح، الذي على أقوالهم وأعمالهم وأخلاقهم توزن الأقوال والأعمال والأخلاق، وبمتابعتهم يتميز أهل الهدى من أهل الضلال، فالضرورة إليهم أعظم من ضرورة البدن إلى روحه، والعين إلى نورها، والروح إلى حياتها، فأي ضرورة وحاجة فرضت، فضرورة العبد وحاجته إلى الرسل فوقها بكثير.
وما ظنك بمن إذا غاب عنك هديه وما جاء به طرفة عينٍ فسد قلبك، وصار كالحوت إذا فارق الماء، فحالُ العبد عند مفارقة قلبه ما جاء به الرسول، كهذه الحال بل أعظم، ولكن لا يحس بهذا إلا بقلبٍٍ حي.
وما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
فيجب على كل من نصح نفسه وأحب نجاتها وسعادتها، أن يعرف من هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسيرته وشأنه ما يخرج به عن الجاهلين به، ويدخل في عِداد أتباعه وشيعته، وحزبه.(84/2)
صفحات مشرقة من حياته صلى الله عليه وسلم
أمة الإسلام: لقد كان نبينا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آخر الرسل عدداً، وأعظمهم قدراً وأبلغهم أثراً، وأعمهم رسالة، بعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل، والناس في أشد ضرورة إلى نور الرسالة حيث كانوا قبلها في ضلالٍ وجاهلية وشقاء، ووثنية وفرقة وعداء، فأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهدى به من الضلالة، وأصلح به بعد الغواية، وألف به بعد التمزق والفرقة، فتح الله به قلوباً غلفاً، وآذاناً صماً، وأعيناً عمياً، وأنار به السبيل، وأقام به الحجة، حتى أصبح الناس إخواناً بنعمة الله، أعواناً في دين الله، أنصاراً لسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
أيها المسلمون! يا أتباع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لقد جعل الله لكم في هذا الرسول قدوة، وفي أخلاقه وأفعاله وسيرته أسوة، فالحق ما جاء به، والدين ما شرعه، والباطل كل الباطل ما حذر عنه وتركه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21] وقال جل وعلا: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7]، وقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فهو عليه الصلاة والسلام القدوة في كل الأمور، وسنته الميزان لكل فعلٍ وترك.(84/3)
تضحية النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على تبليغ الرسالة
والمتأمل في سيرته عليه الصلاة والسلام يجد أنه قد نذر نفسه لتبليغ رسالة الله، والدعوة إليه والجهاد في سبيل الله، وقد أولى عمارة القلوب بتوحيد الله وتطهيرها من التعلق بغيره كل اهتمامه، ولقي في سبيل ذلك صنوف الأذى، فصبر وصابر، وأيقن بنصر الله له، وكلما اشتد عليه الأذى القولي والفعلي كلما ازداد حلماً وصبراً وثقة بنصر الله، وكلما اشتد عليه الأذى، وكلما رماه قومه بالسحر والشعر والكهانة، ويوقعون به ألواناً من العذاب، لا يزيد على قوله: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
ويزداد الأذى الحسي والمعنوي، حتى وصل إلى إلقاء سلى الجزور عليه، وهو ساجدٌ في ظل الكعبة، بل حاولوا قتله والقضاء عليه، فلم يجد الضعف لنفسه سبيلاً، بل ضل صابراً محتسباً، راجياً أن يخرج الله من أصلاب من آذوه من يعبده لا يشرك به شيئاً، وخرج في سبيل نشر الدعوة الإسلامية، فوجد ما لم يكن في حسبانه من الأذى والنكال، فرفع يديه إلى ربه، معلناً ثقته به، ومظهراً افتقاره إليه بقوله: {اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيدٍ يتجهمني، أم إلى عدوٍ ملكته أمري، إن لم يكن بك غضبٌ عليّ فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن يحل عليّ غضبك أو ينزل بيّ سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك} هذه صفحة -يا أحباب رسول الله- مشرقة من كفاحه وفضله وتضحيته، فلنا فيه الأسوة الحسنة صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(84/4)
حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وعبادته
وإذا قلبت صفحة أخرى من حياته المباركة، وجدت السجايا الحميدة والأخلاق الكريمة {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قد تحلى بدماثة الخلق، ورجاحة العقل، وحصافة الرأي، وعلو الهمة، ورحابة الصدر، وكرم النفس، وصفته خديجة رضي الله عنها، مطمئنة له أول ما بعث، بقولها [[كلا! والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق]]
وكما أنه صاحب الأخلاق العالية، فهو صاحب العبادة الخاشعة، فقد قام من الليل حتى تفطرت قدماه، وصاحب الشجاعة النادرة، فقد قاد المعارك والغزوات لإعلاء كلمة الله.(84/5)
الرسول هو القدوة الحسنة
فالواجب على كل محبٍ له، أن يجعل منه القدوة الحسنة، في العقيدة والإيمان، وفي العبادة، والأخلاق، والمعاملة، وفي التربية، والسلوك، والدعوة، والجهاد، ويأخذ منه الأسوة في البيت، والمسجد، والسوق وغيرها، فما عز الناس وصلحوا إلا يوم كانوا يتحرون القدوة الحسنة برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما وهن أمرهم وظل سعيهم، إلا يوم عميت عليهم السبل وأفلتت من أيديهم سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو كادت، حين كادت ظلمات الجاهلية تخيم على القلوب من جديد، ورجعت وثنياتها تدك المعاقل والحصون، وتفرق الأمة شيعاً وأحزاباً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن العاقبة للمتقين، الذين يلتزمون سنة المصطفى الأمين، ويلزمون سنن السلف الصالحين، ويحذرون كل ما أحدث في الدين، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بهدي سيد المرسلين، وارزقنا السير على سنة المصطفى الأمين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(84/6)
الحث على اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، نبيٌ شرح الله صدره ورفع ذكره، ووضع وزره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عليه وعلى آله وصبحه، ومن تبع سنته واهتدى بهديه.
أما بعد:-
فاتقوا الله -عباد الله- واتبعوا سنة رسولكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخير الهدي هدي محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، واعلموا رحمكم الله أنه لا يصح إيمان عبدٍ حتى يكون هواه تبعاً لما جاء به المصطفى عليه الصلاة والسلام، فوالله ما فارق الدنيا إلا وقد ترك الناس على شريعة الكمال والنقاء والطهر والصفاء، فجزاه الله عن أمته خير الجزاء، فمن أراد الله سعادته وهدايته، وفقه للزوم سنته، ومن أراد به غير ذلك، فليحذر أن تصيبه فتنة، أو يصيبه عذابٌ أليم، وأكثروا من الصلاة والسلام عليه، كما أمركم الله بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]
اللهم صل وسلم على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم ارزقنا صدق المحبة له، وتجريد المتابعة لسنته، وأوردنا حوضه، واجعلنا في سلك شفاعته يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاية المسلمين فيمن يخافك ويتقيك ويتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق إمام المسلمين بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به دينك يا رب العالمين، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم وفق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى العودة إلى كتابك وسنة نبيك يا أرحم الراحمين، اللهم وفق المسلمين، قادة وشعوباً، علماء وعامة، شباباً وشيباً إلى ما تحب وترضى.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين، واجعلها عوناً لنا على طاعتك يا أرحم الراحمين، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(84/7)
استغلال المواسم المباركة
ما أكثر مواسم الخيرات، ومناسبات الجود والرحمة التي يجعلها الله لعباده فرصاً للتقرب منه، والتوبة إليه، فيغفر الله بها الزلات ويكفر السيئات، ويقيل العثرات.
فعلى المسلم أن يستغل تلك الفرص، وأن يتعرض لنفحات الله؛ رجاء أن يكون من المقبولين في رحمة الله ورضوانه.(85/1)
كيفية استغلال مواسم الخير
الحمد لله الذي علم الإنسان ما لم يعلم، الملك العلي الأعلى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى، وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى، فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى.
أحمده تعالى وأشكره، وأستعينه وأستهديه وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أرجو بها النجاة من أهوال يوم القيامة، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الهادي البشير، والسراج المنير، أرسله الله إلى الناس كافة؛ بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، فبلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وترك الناس على النهج القويم، والصراط المستقيم على أبيض محجة، وأنصع رسالة، وأقوم سبيل، فصلَّى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واحذروا كل ما يجلب سخط الله جلَّ جلاله؛ من الوقوع في معاصيه والتقصير في طاعته.
أمة الإسلام: لقد عشتم قبل أيام قليلة، مناسبة عظيمة في الإسلام، مع آثارها الإيجابية على الفرد، وعلى المجتمع، بل وعلى الأمة بأسرها، إذا أديت على الوجه الشرعي والسنن النبوي، ألا وهي مناسبة الحج إلى بيت الله الحرام، تلك المناسبة التي مرت بنا والتي يجود الله فيها على عباده، ويباهي بهم ملائكته، ويغفر زلاتهم، ويتجاوز عن سيئاتهم، ويرفع درجاتهم، ويبيض صفحاتهم، ويعيدهم من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمهاتهم.
لقد مرت هذه المناسبة على المسلمين، ولكن ويا للأسف! لم تؤثر في حياة كثيرين منهم، ولم يستفهموا منها معانيها السامية، ومنافعها العظيمة، وآثارها الإيجابية.
وليست هي المناسبة الوحيدة التي مرت، فقد مرت وتمر بنا دائماً مواسم الخير، ومناسبات الجود والرحمة، فلا تحرك فينا ساكناً، ولا تلين قاسياً؛ نتيجة ضعف الإيمان، وقسوة القلوب، وغفلة الضمائر، وموت الأحاسيس، وسوء الفهم في التطبيق لهذه الشعائر العظيمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إن الصلوات الخمس، والزكاة المفروضة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام من أعظم ما يصقل القلوب، ويجلوها مما ران عليها؛ من ظلمات الذنوب والمعاصي، ولكن: ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ.(85/2)
حقيقة التوبة
إخوة العقيدة: إن السعيد كل السعادة، من وفق في هذه المواسم المباركة، للتوبة النصوح، المستوفية لشروطها، المتضمنة الإقلاع عن الذنب، والندم على فعله، والعزم على عدم العود إليه مرة أخرى.
وإن الغانم كل الغنيمة من بدأ حياة جديدة، وفتح صفحة ناصعة بالأعمال الصالحة، بعد هذا الموسم العظيم، وعاهد ربه -عهداً أكيداً- أن يستمر على طاعته إلى الممات امتثالاً لقوله عز وجل: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
فإلى متى الغفلة يا عباد الله؟! وإلى متى الإعراض عن شريعة الله واتباع الأهواء والشهوات؟!
إلى متى هذا كله؟! أتسركم حالتكم هذه؟! أيرضيكم ما وصل إليه العالم الإسلامي اليوم؛ نتيجة الغفلة والبعد عن الله، والفرقة والاختلاف؟!
ألا يؤرقكم، ويقض مضاجعكم ما وصل إليه أعداؤكم من حال تحزن الصديق؟ وما يكيدونه لكم ولدينكم؟!
والسبب أنتم أيها المسلمون! السبب ما كسبت أيديكم، وما جنته أنفسكم؛ من تفريط في جنب الله، وعدم مبالاة بأوامره، ولا حول ولا قوة إلا بالله! {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:165].(85/3)
المبادرة بالتوبة النصوح
يا أخوة الإسلام! اتقوا الله واستمروا على الأعمال الصالحة، وابدءوها حياة جديدة، وتوبوا إلى ربكم عز وجل توبة نصوحاً، فإنه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التحريم:8] فهذا هو موسم التوبة يا عباد الله.
أيها الإخوة في الله: إن التوبة إلى الله عز وجل واجبةٌ على الفور، لا يجوز تأخيرها، أو التثاقل عنها، أو التسويف فيها، فإن تأخير التوبة ذنبٌ يحتاج إلى توبة، وقد رتب الله على التوبة الصادقة الفلاح والسعادة: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3].
وإن التوبة لن تكون نصوحاً مقبولةً حتى تكون خالصةً لله عز وجل، بأن يكون الباعث لها حب الله وتعظيمه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه، ولن تكون التوبة مقبولة حتى يقلع صاحبها عن المعصية، فليست التوبة أن يقول الإنسان بلسانه: أتوب إلى الله، وهو مصرٌّ على معصية الله: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
يا عباد الله! ليست التوبة أن يقول ذلك، وهو متهاون غير مبال بما جرى منه، من معصية الله، وليست التوبة أن يقول ذلك وهو عازمٌ على أن يعود إلى معصية الله، ومخالفة أمره، فلن تكون التوبة مقبولة حتى تتم فيها هذه الشروط، فلا تقبل توبة تارك الصلاة حتى يؤديها، ولا تقبل توبة فاعل الجرائم حتى يقلع عنها، ولا بد أن تكون التوبة قبل غلق بابها، فإن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر، فإذا بلغت الروح الحلقوم، يقول تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء:17 - 18].
واقتدوا بنبيكم صلوات الله وسلامه عليه، فقد كان دائم التوبة، أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة} وعن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه، فإني أتوب في اليوم مائة مرة} رواه مسلم.
فإذا كان هذا عمل رسولكم، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه، وما تأخر، فكيف بحالكم أنتم، وقد رانت عليكم الذنوب العظيمة، وطغت في مجتمعكم، وانتشرت في باديكم وحاضركم! فما أحرانا -أيها المسلمون- أن نصدق التوبة مع ربنا، فكفانا بعداً عن الله، وكفانا ما نحن فيه، وما أحرى الأمة الإسلامية اليوم أن تبدأ حياة جديدة، بعد هذا الموسم المبارك، في صدق التوبة مع الله عز وجل؛ ليعود لها مجدها وعزتها وحضارتها.
أيها المسلمون! بادروا بالتوبة قبل أن يفجأكم الموت، فيحول بينكم وبينها، وتموتون على معصية الله، ولا تغرنكم الأماني، ولا يغرنكم بالله الغرور، ولا يغركم بسط النعم عليكم، فالموت يأتي بغتة، وثقوا بأن التوبة النصوح تجب ما قبلها من الذنوب مهما عظمت: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر:53 - 59].
اللهم وفقنا للتوبة النصوح، اللهم وفقنا للعمل الصالح الذي يرضيك عنا يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه، فهو خير الغافرين.(85/4)
محاسبة النفس على ما مضى وفات
الحمد لله حمداً كثيراً كما أمر، وأشكره وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عز وجل، واشكروه على نعمه، وتوبوا إليه واستغفروه {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
عباد الله: اغتنموا فرصة الحياة القصيرة بالتزود لدار القرار، فهاهي الأيام تمضي سريعاً، والأوقات محدودة، والأنفاس محدودة، وأنتم في هذه الأيام توشكون أن تودعوا عاماً من أعماركم، هو شاهدٌ لكم، أو شاهدٌ عليكم بما أودعتموه من أعمال، وتستقبلون عاماً جديداً، فالسعيد من تذكر ما أمامه، فاستعد له، والشقي من غفل عنه وأمن من مكر الله عز وجل.
ولا تغتروا بحلم الله سبحانه، واعمروا أوقاتكم بطاعة الله، واستغلوا فرصة حياتكم وشبابكم وصحتكم بالعمل الصالح.
أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ} يعني: أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين، ومن كان مقصراً في شكر ما أنعم الله به عليه، فهو مغبون، وليتذكر شباب الإسلام أنهم يودعون الإجازة الصيفية، ويستقبلون عاماً دراسياً جديداً، فليحاسبوا أنفسهم ماذا قدموا في هذه الإجازة، هل حفظوا أوقاتهم؟ هل قدَّموا لأنفسهم ما يسرهم من صالح العمل؟ هل قدموا لأمتهم الخير الذي ترجوه منهم؟ أم أنهم قد طغوا، واشتغلوا بما لا يفيدهم، وبما يضرهم، وليبدءوا حياةً جديدةً ملؤها العلم النافع، والعمل الصالح؛ ليكونوا دعاة خير وصلاح لأمتهم التي هي بأمس الحاجة إليهم.
فاتقوا الله -عباد الله- وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر على الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] واعلموا أنكم قادمون -بلا شك- على ما تعملون {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7 - 8] {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47].
واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على رسوله، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين! واجعل اللهم هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم وفق المسلمين لما تحب وترضى، اللهم منَّ عليهم بصلاح أحوالهم، وقادتهم وعلمائهم، وشبابهم ونسائهم يا رب العالمين! اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، اللهم ارزقه الهدى والرشاد، ووفقه للبطانة الصالحة الناصحة التي تحضه على الخير وتعينه عليه يا رب العالمين.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(85/5)
أسس المنهج الحق
إن المسلم في هذه الحياة بحاجة ماسة؛ ليعرف أسس المنهج الذي يسير عليه في عبادته ومعاملاته وأخلاقه وسلوكه؛ ليسير بخطىً ثابتة متوازنة على نهج واضح من الكتاب، ودليل ساطع من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، خاصة في هذا العصر الذي طغت فيه الرزايا والبلايا والفتن والمحن، ولبس لباس الإسلام كل مكار خبيث.(86/1)
أهمية معرفة المنهج الحق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، المبعوث بخير شريعة وأقوم سبيل، اللهم صلِّ على نبينا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله -تبارك وتعالى- ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله! يحتاج المسلم في هذه الحياة -حاجة ملحة- أن يعرف أسس المنهج القويم، وقواعد الصراط المستقيم الذي أمرنا الله سبحانه باتباعه وسلوكه، بقوله جلَّ وعلا: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:153] ليسير بخطىً ثابتة متوازنة على نهج واضح من كتاب الله، ودليل ساطعٍ من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعمل سلف هذه الأمة رحمهم الله، أهل القرون الثلاثة التي شهد لها المصطفى صلى الله عليه وسلم بالخيرية، قبل تفشي العقائد الفاسدة، وانتشار الفرق الضالة المخالفة للكتاب والسنة.
وتأتي أهمية معرفة المنهج الحق، وضرورة العلم بالصراط القويم في هذا الزمن، الذي طغت فيه موجات الفتن والمحن، واستحكمت فيه الفرقة والخلاف، وتكَّتل فيه أعداء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتداعوا على الأمة الإسلامية؛ فتمزق كيانها الكبير، وتفتت العالم الإسلامي أجزاءً ودولاً، وتفرَّق شيعاً ومللاً، واختلف مذاهباً ونحلاً، وتباين غايات وسُبلاً، وفسدت العقائد وانهارت الأخلاق، وتدهورت القيم، وسادت الأهواء، وفقدت الشعوب وحدتها، وبلاد الإسلام أمنها وطمأنينتها، لبس لبوس الإسلام من هم أعداؤه وأنواؤه، تسمى بالإسلام من هو حربٌ عليه وعلى أهله.
أفلا يجدر بعد أن سقطت الأقنعة، وفتحت الأستار، وتكشفت الحقائق، أن يعي المسلمون حقيقة إسلامهم، ويعرفوا أعماقه، ويسبروا أغواره، ويتفهموا أبعاده، عقيدة وعبادة وسلوكاً ومنهاج حياة؟!
يا أمة الإسلام! آن الأوان، وحان الوقت والزمان، أن يسير المسلمون على بصيرة وعلم في أمر دينهم بعد أن ساد الجهل، واستحكم العلم، وانطلت على السذج من الناس والدهماء من الأمة الشعارات البراقة التي يرفعها من اتخذ الإسلام مطية لأغراضه المشبوهة، وسلماً للوصول إلى أهدافه المغرضة، وصدق الله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9].(86/2)
عظم نعمة الإسلام على العباد
أمة الإسلام! ما أنعم الله على عباده من نعمة هي أجلَّ وأعظم من نعمة الإسلام، ولا يتصور قدر هذه النعمة إلا من عرف ما جرَّته الجاهليات على الأمم والشعوب.
ما هي الأحوال قبل أن تشرق على الدنيا أنوار دعوة الإسلام؟
وما هي الأوضاع بعد أن انحسرت عن كثيرٍ من البقاع معالم الإسلام؟!
وماذا حدث بعد أن أُبعِدَ الإسلام عن الساحة، وطمست كثيرٌ من أنواره، ومحيت كثيرٌ من معالمه، وخلا الميدان من كثيرٍ من جوانبه؟
ماذا جرت الانحرافات العقدية والمنهجية والأخلاقية على الأمة الإسلامية، وأثرت في مسيرتها نحو التقدم والخير والسلام؟
ماذا قدَّم المسلمون يوم أن اكتفوا من الإسلام باسمه، ورضوا -جهلاً وسطحية- كل من ادَّعى الانتساب إليه، والتستر تحت لوائه، وغلبت الكثرة والكمية على الحقيقة والكيفية، وأصبح المسلمون غثاءً كغثاء السيل، يكتنفهم الضعف والذل، ويسودهم الخلاف والشقاق، وتلعب بهم شرذمة قليلة من أعدائهم، فتقتطع من قلب العالم الإسلامي أرضاً من أقدس الأماكن؛ لتنشأ فيها دولة إخوان القردة والخنازير عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة، فضلاً عن الحروب الضارية التي يشنها الأعداء بين الفينة والأخرى على بلاد المسلمين، ناهيك عن الغزو الفكري والأخلاقي الذي يضرب أصلابه في بقاع العالم بأسره؟!
ما الذي جرَّ هذه المصائب؟
وما الذي سبب هذه الأزمات والمشكلات؟
ما المخرج وما الاتجاه وما المصير؟
إنه الإسلام الحق ولا طريق غيره، ولكنه الإسلام الصحيح، إنه إسلام العقيدة والتوحيد الخالص لله رب العالمين، إسلام العبادة لتكون صواباً على نهج المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم، والانقياد الكامل لله وحده، إسلام العقيدة والعبادة، والأخلاق والأحكام، والعلم والعمل، والدعوة والجهاد.
الإسلام أن يستسلم العباد كلياً لله في ذوات أنفسهم، في الصغير والكبير، في الجليل والقليل؛ بحيث لا تبقى بعد ذلك بقية ناشزة من تصورٍ أو نية، أو شعورٍ أو عمل، أو خوفٍ أو رجاء، أو رغبة أو رهبة، لا تخضع لله ولا ترضى لحكمه وقضائه.
إنه الإسلام الذي جاء به الكتاب والسنة، والتزمه السلف الصالح وكفى، ليس إسلام الشعارات البراقة، والأبواق المزيفة، والدعاوى الباطلة.
عباد الله! إن الإسلام الحق، ليس همهمة بالأدعية، وطقطقة بالمسابح، وتمتمةً بالتعاويذ، ليس إسلام المناسبات والتظاهرات، والزوايا والموشحات والمظاهر والشكليات، ليس إسلام الهيام والمآتم وتعليق الحروز والتمائم، والاهتمام بالأشكال وتكوير العمائم، ليس اتكالاً على أن تمطر السماء على الأرض صلاحاً وخيراً وسلاماً وعدلاً فحسب.
إن الإسلام عقيدة صحيحة، وعبادة سليمة، دعوة وجهاد، ومنهاج عدلٍ وقوة وأمن وسلام، لا قتل ولا إرهاب، ولا ظلم ولا استبداد.(86/3)
لا نصر إلا بالإسلام الحق
أمة الإسلام! ما أُتي المسلمون -اليوم- من قلة العدد ولا من ندرة العُدد، إنما أتوا من قِبَلَ سوء فهمهم لدينهم، وإيثارهم التحلي به، والتسمي باسمه، دون بصيرة فيه، وعملٍ بشعائره وجوهره، وتطبيق لكل شيء فيه، فأين الإسلام ممن كذَّب بكتاب الله، واستهزأ بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وأين الإسلام ممن حاد الله سبحانه، فجعل له أنداداً وشركاء ووسائط وشفعاء؟
وأين الإسلام ممن استخف بعقيدته وشعائره، فلا بتوحيدٍ صحيح يعمل، ولا بصلاة وزكاة يقوم، ولا بعملٍ صالح يتقرب إلى الله؟
أين الإسلام من أدعيائه والمنتسبين إليه، وهم وبال عليه، وفجاً في طريقه؟!
أصبح الإسلام -ويا للأسف- مطية لكل ناعق، ووسيلة لكل مارق، ووالله ما هكذا تورد الإبل.
أيها المسلمون! إنه ما من مسلم يستشعر قلبه روح الإسلام يمكن أن يعمل عملاً -ولو قليلاً- يخالف شريعة ربه، فكيف جاز لمن يدَّعي الإسلام زوراً وبهتاناً أن يرتكب كل جريمة ويقترف كل عظيمة بالجسم الإسلامي؟!
الإسلام أعلى وأجل، وأشرف وأكرم أن يوصم بمثل هذه المشينة.
أمة الإسلام! لابد أن تستيقنوا أنه لا سعادة للبشر ولا عزة لهم ولا نصر إلا بالإسلام الحق، إسلام العقيدة والعبادة والعمل، لا خير إلا بترسم خطى المصطفى صلى الله عليه وسلم، والسير على ما سارت عليه القرون المفضلة.
وإني أدعو من هذا المكان المبارك إلى ضرورة الفحص الدقيق في أعمال وسلوك كل من ادَّعى الإسلام؛ لكي لا يُؤخذ المسلمون على غِرة، فالمؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، فأعداء عقيدتكم -يا عباد الله- وإن تسموا باسم الإسلام، لن يهدأ لهم بال، ولن يقر لهم قرار، حتى يحققوا مآربهم، لا بلَّغهم الله ذلك.(86/4)
دعوة إلى تطبيق شريعة الإسلام
فيا قادة المسلمين! ويا زعماء الإسلام! لا بد من الجد في تطبيق شريعة الإسلام؛ لتتحقق السعادة والأمن والصلاح للبلاد والعباد.
ويا علماء الأمة! اتقوا الله -سبحانه- وجدوا في تعليم المسلمين حقيقة إسلامهم؛ حتى لا تنطلي الأفكار الهدامة ومناهج الفرق الضالة عليهم، وحتى يعرفوا عن كثب المجاهرين والمتسللين.
ويا دعاة الإسلام! لا بد من الدعوة للإسلام الحق، والتمييز الدقيق والسير الرشيد على نهج الكتاب والسنة واتباع سلف هذه الأمة.
ويا شباب الإسلام! ويا حملة الأقلام! ويا أيها المسئولون عن وسائل التربية والتعليم ووسائل الإعلام! إن المسئولية عظيمة، لا يسع المسلم التنصل منها أو الخروج عنها، فلا بد من رسم المناهج وإعداد الخطط؛ ليتخرج الأجيال مسلمين حقاً، ومؤمنين صدقاً، مسلحين بالعقيدة والإيمان، فلا بد من إبعاد كل ما يُنافى روح الإسلام وحقيقته وأخلاقه.
إسلامكم -يا عباد الله- يستصرخكم إسلامكم -يا أمة الإسلام- يناديكم! فكونوا خير من يذود عنه، وإلا فقد قال الله سبحانه: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38]
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:168].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(86/5)
مسئولية حمل راية الإسلام
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لقد جاءت رسل ربنا بالحق، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله! إن مسئولية حمل راية الإسلام -الحق- تقع على عاتق كل من تشَّرف بالانتساب إلى هذا الدين، وإنها -والله- لأمانة عظمى تنوء بحملها الهمم، ولكن الله سبحانه بتأييده وتوفيقه لعباده ييسر لهم القيام بها، فلا بد من الصدق مع الله في حمل رسالة الإسلام، وإنه وإن كثر الحديث عن الإسلام، وبدأ طلائع الصحوة الإسلامية، فإنه لا بد من التوجه السليم، والسير الصحيح على الإسلام الحق، دون تضليل ولا تزييف، ودون إفراطٍ ولا تفريط، ودون غلوٍ ولا تساهل.
وإنه لمن ما يؤسف له، أن كثيراً من المنتسبين إلى الإسلام قد ترك العمل به، والانتصار له، والدعوة إليه، فعاش أكثرهم على هامش الحياة، ورضي بالمال والدنيا، رضي بالطعام والشراب، وأصبح من مسلمة الدار، لا يقدم ولا يضحي، ولا يتحرك في سبيل دينه؛ مما جعل الأعداء يجدون في نشر باطلهم في غفلة من المسلمين.
فاتقوا الله يا عباد الله! واعلموا أن الله سائلكم عن هذا الدين، حفظتم أم ضيعتم، وليكن لكم في رسولكم أسوة وقدوة، فلقد كانت حياته كلها في سبيل نشر الإسلام، ألا فاقتدوا به، وعضوا على سنته صلى الله عليه وسلم بالنواجذ.
وأكثروا من الصلاة والسلام عليه، فقد أمركم الله بذلك بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
للهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وفقهم للهدى، واجعل عملهم في رضاك، وهيئ لهم البطانة الصالحة.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم أظهر الهدى ودين الحق الذي بعثت به نبيك محمد صلى الله عليه وسلم على الدين كله ولو كره المشركون.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(86/6)
الإخلاص والمتابعة
العبادة هي الحكمة من خلقنا وخلق الجن، والعبادة لها شرطان:
الأول: الإخلاص لله تبارك وتعالى الذي هو أساس قبول الأعمال؛ فإن المخلص هو الذي تقبل أعماله، أما المشرك الذي يعمل لغير الله فهذا عمله مردود عليه؛ لأن الله أغنى الشركاء عن الشرك.
والشرط الثاني: متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع أعماله عدا الخاصة به، فإذا لم يوجد هذان الشرطان لم يقبل الله العمل.(87/1)
الحكمة من خلق الجن والإنس
إن الحمد لله أحمده وأستعينه وأستهديه، وأستغفره وأتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بعبادته، وألزمنا بإخلاص العمل له، والوقوف عند سنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، ورسول رب العالمين أرسله الله بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً؛ فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: إنه لمن نعم الله عز وجل علينا أن تتاح في هذه الليلة المباركة، وفي هذا المكان المبارك، في بيتٍ من بيوت الله جل وعلا أن نلتقي في هذه الأمسية على ذكر الله جل وعلا، وعلى التذكير بموضوعين مهمين خطيرين لهما مكانتهما المرموقة، ولهما شأنهما في هذا الدين، إنه اجتماعٌ طيبٌ مبارك في هذا البيت المبارك لتحقيق التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والصبر عليه، نسأل الله جل وعلا أن يجعل اجتماعنا هذا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا من بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل فينا ولا منا شقياً ولا محروماً، كما نسأله تعالى أن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعلنا من عباده المخلصين، وحزبه المفلحين إنه جوادٌ كريم.
أيها الإخوة في الله: لا ريب أن الله سبحانه وتعالى إنما خلقنا في هذه الحياة للقيام بعبادته جل وعلا، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ويقول جل من قائل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} [الإسراء:23] ويقول جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] ويقول سبحانه: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] ويقول جل وعلا: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:1 - 2].
فالآيات في هذا المعنى كثيرة جداً، التي تبين حكمة خلق الله جل وعلا لخلقه: جنهم وإنسهم، فعلى العباد أن يقوموا بهذه المهمة في هذه الحياة؛ لأن الله جل وعلا خلقنا في هذه الحياة للقيام بهذه الرسالة العظيمة، هو {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2]، {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7].
فالعبرة في هذه الحياة بحسن العمل، لا بكثرته ووفرته، العبرة بحسن العمل وكونه خالصاً لله جل وعلا، لا تشوبه شائبة من شوائب الشرك بالله جل وعلا، وكذلك العبرة بحسن العمل من جهة متابعة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالإنسان في هذه الحياة عليه أن يعبد الله جل وعلا على نهج الكتاب والسنة، فلا بد في هذا العمل الذي يعمله كل عبد من شرطين أساسيين، وركنين مهمين هما موضوع هذه الكلمة في هذه الليلة.
أسأل الله عز وجل أن ينفعني وإياكم بما نسمع، وأن يكون كلامنا حجة لنا لا علينا، وأن يكون منطلقاً للعلم النافع والعمل الصالح.(87/2)
الإخلاص لله عز وجل
أيها الإخوة الكرام: إن الإخلاص لله جل وعلا أمره مهمٌ في هذا الدين؛ فلا يُقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لله جل وعلا.
فما هو الإخلاص؟ وما صوره؟ وما سبله؟ وما الآيات الدالة عليه؟ وما الأحاديث الشريفة عن رسول الهدى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي تبين عظم مكانته وسمو مكانة أهله؟ وما هي ثمرات الإخلاص في الدنيا والآخرة؟ وما أقوال سلف هذه الأمة عن هذا الموضوع المهم؟ وما هي العواقب الوخيمة والسلبيات الكثيرة التي يجرها التساهل في هذا الأمر على الأفراد والأمم والمجتمعات؟(87/3)
تعريف الإخلاص
الإخلاص لله عز وجل يراد به: أن يبتغي الإنسان بعمله وقوله وجه الله عز وجل، فلا ينظر إلى المخلوقين؛ وإنما يبتغي بعمله وجه الله جل وعلا، وهذا يقتضي ترك الرياء والبعد عنه، والإقبال بالكلية على الله عز وجل، فيُقصد بالإخلاص إفراد الحق جل وعلا بالقصد والطاعة.
ويراد به: نسيان رؤية المخلوقين بدوام رؤية الخالق جل وعلا وما يقرب إليه.
ويراد به: العمل لله عز وجل دون شائبة، ودون رياء وسمعة، ودون طلب لثناء الناس ومحمدتهم، وإطرائهم.
فالإخلاص لله عز وجل إذا كان بهذه المثابة فإنه شاقٌ على النفوس، وعظيمٌ على القلوب، ولا يقوم به إلا نفرٌ قليلٌ من الأمة؛ لأن الشيطان أعاذنا الله منه يجري من ابن آدم مجرى الدم، ويزين له الأمور التي تناقض شرع الله، ويبين للإنسان حسن عمله عند الناس، وأنه يعمل العمل ليبحث عن الشهرة أو ليبحث عن الثناء، أو لتتردد أصداء أعماله وأقواله في مجالس الناس، فهذا يقتضي أن يكون العبد على حذرٍ من عدو الله وعدوه، بأن يروض نفسه على الإخلاص لوجه الله جل وعلا، ابتغاءً لثواب الله، وطلباً لمرضاة الله، وبحثاً عن رضى الله جل وعلا وما يقرب إلى جنته، وبعداً عن زواجره سبحانه، وما يقرب من ناره أعاذنا الله وإياكم منها.(87/4)
الآيات الدالة على الإخلاص
لقد زخر كتاب الله جل وعلا بالنصوص الشريفة التي تبين مكانة الإخلاص وتحث عليه، وأنه لا يقبل من الأعمال إلا ما توفر فيه هذا الشرط العظيم، يقول سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3] ويقول سبحانه لنبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر:11 - 12]، وقال: قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:14 - 15].
ويقول سبحانه: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} [الملك:2] ويقول جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] ويقول سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
يقول الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} [الملك:2] أي: أخلصه وأصوبه.
قيل: يا أبا علي! ما أخلصه وما أصوبه؟ قال: الخالص: أن يكون لله، والصواب أن يكون على سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل، فلا يقبل حتى يكون خالصاً صواباً، وتلا قوله جل وعلا: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].
فقوله سبحانه: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِح اً} [الكهف:110] هو المتابعة لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقوله: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] هذا هو الإخلاص لله جل وعلا.
ولهذا قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] قال رحمه الله: هذان ركنا العمل المتقبل، أن يكون خالصاً لله، وأن يكون صواباً على سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125] وأسلم وجهه لله: بالإخلاص لله جل وعلا، وهو محسن: باتباع سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فهذان الأمران العظيمان، وهذان الركنان المهمان، من الأمور التي ينبغي الانتباه لها، وما أحسن كلمة الفضيل بن عياض رحمه الله؛ فإنها كلمة عظيمة، وكلمة جامعة مستقاة من نصوص كتاب الله جل وعلا، فينبغي على العباد أن يخلصوا أعمالهم لله جل وعلا وأن يتبعوا ما جاء في سنة المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فلهذين الأمرين العظيمين مكانتهما في هذا الدين، ولهذين الأمرين المهمين مجالٌ للشيطان أعاذنا الله منه، أن يتسلل إلى قلوب العباد من جهتها، فما أكثر الذين يعانون من عدم تحقيق هذين الأمرين جميعاً أو أحدهما.
فالإخلاص لله: يقتضي توحيده وعبادته والبعد عن الإشراك به، وأكبر مناقضٍ للإخلاص الشرك في عبادة الله جل وعلا، فمن أشرك مع الله غيره أو من عبد غير الله، أو من التجأ إلى غير الله سبحانه في طلب نفع أو دفع ضر؛ فقد ناقض هذا الأصل العظيم، ولهذا جاءت النصوص الكثيرة في التنبيه على خطورة الشرك وبيان عظم التوحيد لله عز وجل: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [الأنعام:151].
فالشرك بالله: هو الذنب الأكبر والجرم الذي لا يُغفر عافانا الله وإياكم قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] ويقول تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] ويقول أيضاً: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] فعلى العباد أن يحذروا من الشرك بالله، ويعلموا أنه أكبر ناقضٍ لهذا التوحيد وأكبر جرمٍ عصي الله عز وجل به، فعليهم أن يفوضوا أمورهم لله، ولا يشركوا به، لا ملك(87/5)
الأحاديث الدالة على عظم الإخلاص ومكانة أهله
أيها الإخوة الكرام: جاءت سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام ببيان شأن الإخلاص، وأنه القاعدة لهذا الدين، وأن الأمور إنما تؤخذ وتناط بمقاصدها، ففي الحديث الصحيح حديث عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه}.
ولما سئل النبي عليه الصلاة والسلام عن: {الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} وفي ذلك إشارة إلى شأن الإخلاص، وأن على الإنسان في عمله، وفي عقيدته، وصلاته، وزكاته، وفي صومه وحجة، وفي جهاده ودعوته إلى الله، وفي أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وفي صلته لرحمه، وفي بره لوالديه، في كل أمرٍ من أموره، ينبغي أن يخلص فيها لله جل وعلا، وأن من انقدح فيه غير ذلك من العمل للناس، أو لمرآتهم أو للتسميع، أو لثناء الناس ومحمدتهم، فهو للذي أشرك والله بريء منه.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة المشهور عن الثلاثة النفر الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، مَنْ هؤلاء؟ إنهم الذين آثروا حب الدنيا على العمل للآخرة، إنهم الذين لم يخلصوا لله عز وجل في أعمالهم، مع أن أعمالهم أعمال خير: جهاد وقراءة قرآن وتعلم للعلم، ففي هذا الحديث العظيم: {يؤتى بالعالم فيقال له: ماذا عملت؟ فيقول: تعلمت فيك العلم، وعلمته فيقال له: كذبت؛ ولكنك تعلمت ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار}.(87/6)
العواقب الوخيمة للتساهل في الإخلاص
الأمر خطير -يا إخوتي في الله- كم منا من يعمل الأعمال الصالحة ولكن شوائب المراءاة، وطلب حب الظهور والشهرة، وكلام الناس وأقوالهم؛ تؤثر عليه بل قد يقرأ القرآن؛ ليري الناس حسن صوته، ويفتي ويعلم؛ ليقال فيه: عالم، وليقال فيه: ما شاء الله اطلاعه واسع، ومعرفته بالعلم عميقة، ومعرفته بحديث رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جيدة، وما إلى ذلك من الأمور، أو يتعلم العلم لأجل الدنيا، يتعلمه ليكون طريقاً إلى المال والمنصب والجاه والشهرة، يتعلمه لينال به شهادة عالية، ليقال: هذا فلان بن فلان يحمل شهادة كذا، ويعمل كذا وفي منصب كذا ويتقاضى مرتب كذا! وما إلى ذلك من الأمور، فهذا على خطر إن لم يخلص أعماله لله.
فعلينا أن نتقي الله عز وجل، وعلينا أن نخلص أعمالنا لوجه الله عز وجل، ما أكثر الذين يصلون؛ فإذا رآهم الناس حسنوا صلاتهم، يطمئنوا في ركوعهم وسجودهم، وكأنهم خاشعون لله بينما هم لأجل نظر فلان وبصر فلان.
ما أكثر الذين يتعلمون العلم ويطلبونه للدنيا والشهادة، والوصول إلى المنصب والجاه والشهرة، وليس معنى ذلك -يا إخوتي في الله- أن الإنسان لا يتعلم العلم ولا يحسن صلاته ولا يقوم بالعبادة الشرعية على وجهها المطلوب، ولكن عليه أن يكون كذلك دائماً وأبداً، وأن يخلص لله، فلا يغير من سلوكه إذا رآه الناس، ولا يحسن من صلاته إذا جالت أنظار الناس حوله، فلا مانع أن يأخذ الإنسان الشهادات العليا، ولا مانع أن يتعلم الإنسان ليصل إلى الوظيفة؛ ليستغلها في نفع نفسه ورعاية أسرته والتأثير في مجتمعه، ولكن حذاري أن يتسلل الشيطان إلى عملك الصالح فيفسده بمراءاة الناس وطلب سماعهم وثنائهم.
ما أكثر الذين يقومون بالمشروعات الخيرية، من بناء المساجد وتأمين السبل، والجهاد والنفقة في سبيل الله عز وجل، ولكن يطلب ثناء الناس، لتكتب أسماؤهم ولترى أفعالهم، ولتخرج أسماؤهم في الصحف والمجلات، ولتتردد أفعالهم في مجالس الناس، فإذا قصد المسلم بعمله ذلك، فهي خسارة له، وعمله لا خير فيه، بينما إذا عمل الإنسان هذه الأعمال الطيبة، وأنفق في سبيل الله، وقدم لنفسه خيراً من المشروعات الخيرية، ولكنه قصد ما عند الله، والناس يقولون ما يشاءون، ويفعلون ما يشاءون، فإذا أثنى الناس عليه مع إخلاصه لله، فتلك عاجل بشرى المؤمن، كما أخبر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن حذاري أن تعمل العمل لأجل الناس، أو تطلب ثناء الناس، بحيث إن لم يثنوا عليك ولم يمدحوك أعرضت عن طرق الخير؛ فهذا قدحٌ في الإخلاص عافانا الله وإياكم!
فالإخلاص يكون في العقيدة: بإخلاص العبادة لله عز وجل دون شائبة من شوائب الشرك، وصرف العمل لغير لله عز وجل.
وكذلك يكون في العبادات: في تحسين الصلاة، باتباع السنة فيها وتحسينها لكن ذلك لأجل أنظار الناس، ويكون كذلك في مظهر الإنسان وشكله، فيتزين ويتجمل ويتنظف لا لأن الدين أمره بذلك؛ ولكن ليلبس لباس الشهرة وليخرج للناس ليتحدث الناس في هندامه ومظهره، كذلك الإخلاص في العبادات المالية، فإن الشيطان كثيراً ما يدخل على الناس فيها، فالذين ينفقون في سبيل الله لكنهم ينفقون ليقول الناس: أنفق فلانٌ مليوناً، أو أنفق فلان أكثر من فلان، ثم يأتي المنفق الأول فيزيد ليقول الناس: زاد، كل ذلك وأصحابه على خطرٍ عظيم.
فعلينا أن نحذر -يا إخوتي في الله- مغبة الرياء والعمل لقصد ثناء الناس ومحمدتهم، وليلح المسلم على ربه دائماً وأبداً، أن يرزقه الإخلاص، فحريٌ بمن رزق الإخلاص أن يُوفق لخيري الدنيا والآخرة، وحريٌ بمن فقد الإخلاص أن يصاب بخسارة الدارين، عافانا الله وإياكم والمسلمين من ذلك!(87/7)
متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم
أما الجانب الآخر المتعلق بهذا الموضوع المهم، فهو جانب المتابعة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقد سمعتم في الآيات الكريمة التي تليت آنفاً اشتراط هذا الشرط العظيم، الذي هو المتابعة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فالعبرة بحسن العمل وإخلاصه وصوابه، لا بكثرته على الجهل والضلال، ماذا يقول الله عز وجل فيمن هذه حاله؟ يقول سبحانه وتعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:1 - 3] لكن ما هي النتيجة؟ {تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية:4] نعوذ بالله! {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية:3] تجتهد في العمل، وتتعب وتنصب؛ لكن على غير هدى، على ضلالٍ مبين، على بدعٍ ومخالفاتٍ لهذا الدين، على بعدٍ عن سنة سيد الأولين والآخرين، نبينا وقدوتنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.(87/8)
العبادات في دين الله توقيفية
العبادات في هذا الدين توقيفية، يجب أن يأخذها المسلم من مصدريها كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؛ فلا يزيد في دين الله ما لم يأذن به الله، ولا يأتي بشيء جديدٍ في هذا الدين، فالله سبحانه يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فالدين كامل، والإسلام تام، فما علينا إلا أن نعمل بما في ديننا ونحذر من الزيادة عليه وما أكثر الزيادة التي وقع فيها كثيرٌ من المسلمين، هدانا الله وإياهم، فبضعف العقيدة، وقلة الولاء والمتابعة لرسول الله عليه الصلاة والسلام، وتقليد أعداء الإسلام، والتشبه بهم، حصل في المسلمين مجاوزة، عن الحد المرسوم لهم، الذي يجب عليهم الوقوف عنده، امتثالاً لحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها، وهو حديثٌ عظيمٌ من قواعد هذا الدين، يقول فيه النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وفي رواية مسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} فكل عمل ليس عليه سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وسنة خلفائه الراشدين فهو مردود على صاحبه كائناً من كان.
فليسع الناس المصدر الأساسي كتاب الله سبحانه، وسنة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كل أمرٍ من أمورهم، في عقيدتهم يُخلصوا لله ويتابعوا سنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ القولية والعملية، في عباداتهم يتبعون رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو القائل عليه الصلاة والسلام فيما أخرجه البخاري وغيره: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وهو القائل: {خذوا عني مناسككم}.
فالعبادات كيفيتها ومنهجها وعمل المسلم فيها يجب أن تكون على وفق السنة، فلا زيادة، ولا تشدد، ولا غلو، ولا تساهل، يجب على العباد أن يكونوا وقافين عند كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وعليهم أن يسألوا ويتعلموا ويبحثوا عن هذا الأمر ليصلوا إليه.
يسألوا ما هي سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام في الصلاة وما هي سنته في الحج، وما طريقته ومنهجه في الدعوة إلى الله، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفي الجهاد في سبيل الله وفي غير ذلك من الأمور.(87/9)
عاقبة ترك متابعة الرسول
فالمتابعة في العقيدة، والمتابعة في العبادة وفي الأخلاق والآداب والمنهج والسلوك، يجب أن تتحقق واقعاً عملياً في سلوك ومنهاج كل مسلم منا.
وإذا حصل للأمة التقصير في هذين الأمرين، فهذا والله أمارة الخسارة والدمار، وفساد العاجل، والتعرض لسخط الله عز وجل عاجلاً وآجلاً، فماذا يكون حال الأمة، وحال الأفراد والمجتمعات إذا غاب الإخلاص لله عز وجل؟! يعيش الناس على النفاق والمجاملات، وعلى المداهنات والمراءاة، وعلى تتبع رضى الناس ومحمدتهم، وفي الحديث: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عليه وأرضى عنه الناس}.
فالإنسان بإخلاصه لله عز وجل ومتابعته لرسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكون صلاح أمره.
وماذا تكون حال الأمة إذا عطلت سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فنخرت فيها البدع والضلالات والمحدثات والانحرافات العقدية، والمخالفة لمنهج رسول الله عليه الصلاة والسلام، فيزيد في هذا الدين ما ليس منه؟ وهذه خيانة للأمانة، ونسبة التقصير إلى المبلغ عن الله شرعه، نبينا محمدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما يقول الإمام مالك رحمه الله: [[من أحدث في هذا الدين حدثاً يرى أنه حسناً فقد زعم أن محمداً خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67]]].
فالرسول عليه الصلاة والسلام؛ ما ترك خيراً إلا دلنا عليه، ولا شراً إلا حذرنا منه، يقول أبو ذر رضي الله عنه: [[ما مات رسول الله عليه الصلاة والسلام وطائرٌ يطير بجناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علماً]] وفي الحديث الآخر: {علمنا رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كل شيء حتى الخراءة} حتى ما يحتاجه الإنسان في شأن طهارته وآداب الخلاء، كل ذلك جاء به النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكيف يزعم المحدثون في دين الله أن محمداً عليه الصلاة والسلام لم يبلغ عن الله شرعه؟! أو أن هناك بدعة حسنة وما إلى ذلك من الأقاويل الأفاكة، التي لا مستند لها من كتاب الله ولا سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولا عمل القرون الثلاثة الخيرة، التي شهد لها النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الحديث الصحيح حديث عبادة: {خيركم قرني ثم الذي يلونهم ثم الذين يلونهم}.
فهذه القرون الخيرة التي سارت على نهج الكتاب والسنة، ولم تغير ولم تبدل، حتى زين الشيطان للأمة من بعدهم، واجتهد أعداء الإسلام في بث سمومهم على المسلمين، وأصبح كلٌ ينتحل منهجاً، وكل يدعو إلى فرقة، وكل يدعو إلى بدعة، وكل يدعو إلى منهج، والمنهج واحدٌ، هو منهج كتاب الله، وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما سار عليه سلف هذه الأمة رضي الله عنهم وأرضاهم ورحمهم.
فلا يقول قائلٌ: إن هذه الأمور قد لا تكون موجودة في البيئة التي أعيش فيها، فإن المسلم مطالبٌ أن يعي واقعه الذي يعيشه، ويعلم كل ما يناقض من هذين الأمرين العظيمين: الإخلاص والمتابعة لرسوله عليه الصلاة والسلام، فينبغي أن يكون على حذرٍ وفطنة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المخلصين المتابعين للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وإن رغب عن ذلك أكثر الناس.
نسأل الله تعالى الثبات على هذا الدين، وأن يجعلنا وإياكم من المخلصين، المتبعين للسنة، إنه جواد كريم، وصلى الله على محمدٍ وآله وصحبه.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(87/10)
الأسئلة
.(87/11)
الدعوة إلى الله عز وجل بالأشياء المباحة
السؤال
هل من المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم دعوة الناس بالمسرحيات الإسلامية والأناشيد الإسلامية والرياضة؟
الجواب
لا ريب أنه ينبغي على المسلمين أن يهتموا كثيراً في شأن الإخلاص لله عز وجل، والمتابعة لرسوله عليه الصلاة والسلام في كل أمرٍ من أمورهم، والحقيقة أن هذا الموضوع موضوع خطير، وموضوعٌ مهم، وموضوعٌ لا يستغني عنه مسلمٌ أبداً، لأنه يعايش الإنسان في كل دقيقة من دقائقه، وفي كل كلمة يقولها، وفي كل عملٍ يعمله، بل في كل خطوة يخطوها، ولهذا يقول بعض السلف: "طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لله عز وجل"، أي: ما أكثر الخطوات في سبيل الشيطان، وما أكثر الخطوات التي يُظَن أنها لله وهي لغيره.
عافانا الله وإياكم!
ويقول بعضهم: لا يزال الرجل بخيرٍ إذا قال؛ قال لله، وإذا عمل؛ عمل لله؛ ولهذا كان السلف رضي الله عنهم ورحمهم شديدي المحاسبة لنفوسهم في هذين الأمرين الخطيرين؛ ولهذا يعاتب كل واحدٍ منهم نفسه: "يا نفس أخلصي وتخلصي".
فينبغي علينا جميعاً ونحن نعمل الأعمال الطيبة ونعمل الأعمال الخيرة أن نخلص فيها لله عز وجل.
ما أكثر الناس اليوم الذين يعملون الخير، ويطلبون العلم، ويدعون إلى الله، ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويأمون بيوت الله، ويقدمون للمسلمين خيراً؛ لكن العبرة -والله- بالإخلاص وحسن العمل، فينبغي إذا استطاع المسلم ألا تخرج أموره عن سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان حسناً، ولا سيما في شأن العلم والعمل والدعوة إلى الله عز وجل، وعلى الدعاة إلى الله أن يأخذوا من منهج محمد بن عبد الله عليهم الصلاة والسلام الطريق الأمثل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى.
لكن هناك أمور هي من الوسائل المباحة التي إن أخلص العباد فيها أعمالهم لله عز وجل أثيبوا عليها، فلم يأت في هذا الدين منعٌ منها، ولا تحذير، فهي أمورٌ مباحة إن استخدمت في الخير كانت وسيلة للدعوة إلى الله، وإن استخدمت في الشر كانت وسيلة لإبعاد الناس عن هذا الدين، وإبعاد الشباب وغيرهم عن منهج الإسلام.
فالرياضة إذا كان يقصد منها تقوية البدن، والترويح عن النفس في إطارٍ إسلامي ومحافظة فلا مانع منها، أما إذا كانت وسيلة لغير ذلك من الأمور أو تكون مدعاة لترك الصلوات، أو كشف العورات، أو ضياع الأوقات، أو ما إلى ذلك فلا خير فيها.
كذلك العمل في الدعوة إلى الله عز وجل، عن طريق نشر الكتب الإسلامية والأشرطة الإسلامية، التي فيها تعليم للعلم وفيها خطبٌ ومحاضرات وندوات ودروس، بأقوال وجهود علماء موثوقين مشهورين، فهي من وسائل الدعوة إلى الله عز وجل ولا ريب، فعلى المسلمين أن يقفوا ما استطاعوا حيثما وقف عنده محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
أما الأمور التي لم يأت في الدين تحريمها، فلا ينبغي التضييق فيها ولا كثرة الخلاف حولها، إلا إذا شغلت عن أمرٍ واجب أو كانت طريقاً إلى محرم، فينبغي البعد عنها واجتنابها.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للزوم الكتاب والسنة في كل أمرٍ من أمورنا، في علمنا، وتعليمنا ودعوتنا وجهادنا وفي كل تحركاتنا وفي تصرفاتنا، فينبغي حتى في كل التحركات، حتى الأمور العادية ينبغي أن نخلص فيها لله، يقول بعض السلف: إني لأحسن قصدي في كل شيء، أو إني لأرجو أن يكون لي نية حسنة حتى في أكلي وشربي ونومي.
فهكذا ينبغي ألا يضيع الإنسان أي فرصة وأي خطوة ينبغي أن تكون لله، قبل أن تضع رجلاً على الأرض وترفع الأخرى يجب أن تنظر في خطواتك وحركاتك، ينبغي أن تضع هذا المؤشر وهو مؤشر الإخلاص أمام عينيك، لتعمل به، وكذلك سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولو أن المسلمين وقفوا عند الكتاب والسنة في كل أمورهم، لكان في ذلك الخير لهم، وما جاءنا التساهل شيئاً فشيئاً عن هذا الدين إلا لما ابتعدنا عن هذا المنهج وأخذنا الوسائل التي جرتنا إلى المحرم، وكانت سبباً في إبعاد كثيرٍ من الشباب والناس عن المنهج السليم في الدعوة إلى الله عز وجل؛ ولكن على الداعية إلى الله، وعلى طالب العلم أن يبذل جهده ووسعه في تحقيق الدعوة ونشرها عن أي طريق، ففي كل أمرٍ من أموره المباحة، وأموره الشرعية، ينبغي أن يستغلها في الدعوة إلى الله وعليه ألا يستقل جهده، وأن يبذل الغالي والنفيس والرخيص وكل شيء في أمر الدعوة إلى الله تعالى ما لم يكن ثمَّ محرم ومخالفة لسنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والأمور التي ذكرها الأخ لا أرى أن فيها خلافاً للسنة، فالمتابعة إنما تكون في الأمور العبادية والأمور التوقيفية.
أما الأمور التي فيها سعة فأرجو ألا حرج فيها ما لم تكن طريقاً ووسيلة إلى أمرٍ غير محمودٍ شرعاً والله أعلم.(87/12)
حكم ترك العمل خوفاً من الرياء وعلاج الرياء
السؤال
أنا شابٌ أعمل أعمالاً صالحة ولله الحمد، وأخلص فيها لله، ولكني أخاف، ويدخل الشك في نفسي هل يقبل مني هذا العمل أم لا؟ لدرجة أني أحياناً أفكر ألا أعمل هذه الأعمال خشية أن يدخل في نيتي شيء غير الله، فماذا أعمل؟ وما هو العلاج للرياء؟
الجواب
هذا سؤال مهم والحديث فيه إشارات إلى هذا الأمر، لكني ألفت النظر -يا إخوتي في الله- إلى إن أمر الإخلاص أمرٌ دقيقٌ وخطير، وهو مدخلٌ من مداخل الشيطان على العبد، فالإنسان يريد أن يخلص لله جل وعلا، لكن يأتيه الشيطان، فمثلاً: يريد أن يصلي على وفق سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لكن يأتيه الشيطان فيقول له: إنك تعمل هذا العمل للناس، وإن هذا العمل قد يكون رياء وما إلى ذلك.
على الإنسان أن يعمل العمل الصالح، ولا يجعل للشيطان طريقاً إلى نفسه، عليه أن يعمل بما جاء به كتاب الله وسنة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد جاء فيهما عِظم شأن الصلاة، وجاء في سنة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كيفية الصلاة، فأنت إذا أديت الصلاة على وفق السنة، فلا مجال للرياء هنا، واحذر من أن يدخل الشيطان إليك، فتترك السنة خشية أن يراك الناس، ولهذا قال الإمام الفضيل بن عياض رحمه الله كلمة قيمة يقول: " ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك ".
ترك العمل لأجل الناس: أنت لا تريد أن تصلي صلاة على وفق السنة؛ لأجل أن يراك الناس فتترك السنة هذا هو الرياء بعينه.
والعمل لأجل الناس: أنك تصلي لأجل أن يراك الناس، أو يحمدوك على حسن صلاتك، هذا هو الشرك الأصغر الذي هو الرياء، عافانا الله وإياكم، وقد يكون أكبر بحسب مراد الإنسان ومقتضيات الحال، فمثلاً حين يعمل الإنسان لغير الله عز وجل، ويعمل لأجل الناس، يعمل لأجل صاحب القبر، أو للميت أو للولي أو للنبي أو للملك أو للجان أو للسحرة أو لغيرهم، فإنه والعياذ بالله يقع في الشرك الأكبر، لأن الشرك هو صرف شيئاً من أنواع العبادة لغير الله، إذاً العمل لأجل الناس هو الشرك بالله، وترك العمل الصالح لأجل الناس رياء.
فالإنسان عليه أن يكون دقيقاً في نظراته وليجمع بين متابعة السنة والإخلاص لله عز وجل والحذر من دخول الشيطان، فإن هذا طريقٌ من طرق الشيطان ومدخلٌ من مداخله، فهكذا الإنسان عليه أن يروض نفسه على الإخلاص، وأن يجاهد نفسه في البعد عن الرياء.
والطرق التي تضمن بتوفيق الله عز وجل البعد من الرياء أولاً: الإقبال على الله، فإن العمل لأجل الله ترويض النفوس على العمل لله، فما أكثر الذين يعملون لغير الله، وما أكثر الذين يعملون للدنيا، وما أكثر الذين يعملون لمصالحهم ولشخصياتهم، ويدعون لأنفسهم ولأحزابهم وجماعتهم وما إلى ذلك، يجب أن نعمل لله، ويجب أن تكون كل أعمالنا لله عز وجل، ومحبتنا يجب أن تكون لله: {ثلاثٌ من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليهما مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله} لا تحب فلاناً لأجل منصبه، أو لأجل ثرائه، أو لأجل وجاهته، أو لأجل دنياه، أو لأجل نسبه ومكانته وشرفه، لا.
بل تحبه لله، لأنه عبدٌ صالح؛ ولأنه مستقيم يعمل الطاعات ويبتعد عن المعاصي.
ثانياً: البعد عن ثناء الناس ومحمدتهم، ولتجعل ثناء الناس وسيلة، تبعاً لا أصلاً، فإذا جمعت بين الإخلاص لله وجاءك من الناس مدحٌ وثناء، فهذا من عاجل بشرى المؤمن التي يبشر بها، فأنتم شهداء الله في أرضه، ولكن لا يؤثر هذا على إخلاصك إن لم يمدحك الناس فلن تخطب ولن تقول أو تتكلم أو تنفق أو تعمل أو تتعلم أو تدعو إلى الله، لا.
فالميزان دقيق.
كذلك الحذر الحذر من مصائد الشيطان، والإلحاح على الله بالدعاء أن يرزق الجميع الإخلاص، والبعد عن الشيطان ومداخله، لا بد أن ننتبه لهذه الأمور، الأخذ بعوامل الثبات على هذا الدين وتقوية الإيمان بالله عز وجل، والعمل للآخرة، ماذا يقول الله عز وجل عن المؤمنين الأوائل، الذين يطعمون الطعام: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] الله أكبر! هذا هو منهج المؤمنين المخلصين، يعملون لله، ويعملون للآخرة.
المرائي الذي وقع في الرياء، لو استشعر عظم شأن الرياء وخطورته، وأنه قد يحبط العمل والعياذ بالله، ما موقفه؟ لو قرأ حديث أبي هريرة في الثلاثة النفر الذين تسعر بهم النار يوم القيامة، ما تأثير ذلك على قلوبنا يا إخوتي في الله؟!
إذاً: يجب أن تكون العلاجات للرياء منبثقة من الكتاب والسنة، بالإخلاص لله وترويض النفس على ذلك، بالبعد عن الشيطان، بالإقبال على الله والإلحاح عليه بالدعاء، والنظر في عواقب الأمور، والتبصر في الآخرة وما أمام الإنسان، والنظر في عواقب الرياء الوخيمة التي جاء بها الكتاب والسنة، والنظر في ثمرات الإخلاص اليانعة في الدنيا وفي الآخرة، نسأل الله عز وجل أن يمنحنا وإياكم الإخلاص والمتابعة، وأن يعيذنا من الرياء والسمعة والمخالفة لسنة نبينا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنه على كل شيء قدير.(87/13)
أنواع الجهاد وأحكامه
السؤال
هذان سؤالان في موضوع واحد، الأول منهما: هل الجهاد في أفغانستان بالنفس واجب علينا؟
الثاني: هل يصح أن يقوم المسلم بالصدقات على الفقراء ومساعدة إخوانه المجاهدين في أفغانستان بمالٍ قد استلفه من شخصٍ آخر، لأن ماله قد نفد ولأنه يقوم بصرفه على أهله وعلى الفقراء والمجاهدين، لذلك يقوم بالاستلاف، وحيث أنه يطمع بالخير، بأن يساعد إخوانه المجاهدين لحاجتهم الماسة للمال، وهو يستطيع أن يسدد هذا المال من راتبه أو من رزق الله، هل تقبل صدقاته ومساعداته؟
الجواب
أما الجهاد فلا ريب أنه ذروة سنام الإسلام وعلى المسلمين جميعاً أن يبذلوا في باب الجهاد في سبيل الله؛ ولكن ولله الحمد والمنة الجهاد بابه واسع، ونطاقه شاسع، الجهاد يشمل الجهاد بالنفس وبالمال وبالقول وباللسان وباليد وبالبيان وبالكلمة الطيبة، وبالخطبة المؤثرة، وبتعليم العلم، وبالدعوة إلى الله، وبتربية الأبناء، كل ذلك لون من ألوان الجهاد، ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله: إن الجهاد من حيث هو فرض عينٍ على كل مسلم.
أي: ينبغي أن يقدم كل مسلم لنفسه نوعاً من أنواع الجهاد، أن يجاهد نفسه أو يجاهد بالمال، أو باليد أو باللسان أو بالنفس، على حسب استطاعته، ونحن ولله الحمد والمنة تتاح لنا كل فرص الجهاد، لكن أين الذين يجاهدون اليوم بأموالهم؟! أين الذين يتبرعون لإخوانهم المجاهدين في أفغانستان وفي غيرها من بلاد المسلمين؟! هم ولله الحمد موجودون ولكنهم قلة.
وهذا لا ينافي الإقبال ولله الحمد والمنة، أين الذي يجاهدون الآن بالدعوة إلى الله عز وجل؟! لا يخافون في الله لومة لائم، يبينون العقيدة، ويبينون العبادة والأخلاق، ويدعون الناس إلى هذا الدين ويحذرونهم من المنكرات والمعاصي، لا يكلّون ولا يملون ولا يسأمون، بل مخلصون محتسبون صابرون، أين هم؟ أين الذين يتعلمون العلم لله؟ وهو جهاد في سبيل الله، ويبذلونه للمسلمين، أين الذين يقومون بتربية أبنائهم، وهذا لونٌ من ألوان الجهاد في سبيل الله، فإذاً علينا أن يقدم كل واحدٍ منا ما يستطيعه من ألوان الجهاد، أما الجهاد بالنفس في أفغانستان فالعلماء رحمهم الله إنما يذكرون أن الجهاد في سبيل الله إنما يكون فرض عينٍ في حالات منها: إذا استنفر إمام المسلمين المسلمين للجهاد في سبيل الله، فهنا يجب على المسلمين جميعاً أن يذهبوا إلى ساحة الجهاد والقتال.
الحال الثاني: إذا داهم العدو أرضاً من أراضي المسلمين فيجب على أصحاب هذه الأرض والبقعة أن يجاهدوا بأنفسهم، فالجهاد في سبيل الله في أفغانستان اليوم بالنفس سبقني إليه علماؤنا الأفاضل حفظهم الله ووفقنا وإياهم إلى أنه ليس فرض عين، وإنما هو فرض كفاية، ولكن الجهاد بالمال والجهاد بالدعوات الصادقة تكاد تكون فرض عين، بل هي فرض عين، وكل واحدٍ منا يقدم للجهاد في أفغانستان وفي غيره ما استطاع، لا سيما في هذا الزمن في هذه الأيام، بل في هذه الساعات، وهذه اللحظات، وصلتني تقارير وأخبار عن الوضع هناك، الوضع مأساوي جداً أعداء الإسلام من الملاحدة الشيوعيين الذين يريدون أن يستأصلوا عقيدة إخواننا، قد حشدوا جنودهم وبذلوا كافة إمكاناتهم للوقيعة بإخواننا، لا سيما وهذه الأيام تمر عليهم مناسبة مرور ثمانية أعوام، ودخول العام التاسع مما يجعل الأعداء يعدون لهذا اليوم عدته، ولكن ولله الحمد والمنة إخوانكم هناك صامدون صابرون محتسبون، لكن أين أنتم؟!
وهم كما أخذت منهم، ليسوا بحاجة إلى الجهاد بالنفس، هم بحاجة إلى دعواتكم الصادقة، ووالله إن لها أكبر الأثر في نصرتهم وتقدمهم، أن يشعر الإنسان بشعور إخوانه المسلمين في هذه الأيام، لا سيما وفصل الشتاء عندهم هذه اللحظات، خمسة عشرة درجة تحت الصفر، ويحتاجون إلى البطانيات ليلتحفوا، وكم أناسٍ أصبحوا قوالب ثلجية، وأخبرت بأخبارٍ من ثقات، أن بيوتاً بأكملها تموت أسرها متجمدة ليس عندها ما يسد عورتها أو ما يساهم في رد شدة البرد عنها.
أين الجهاد بالأموال؟! هم يريدون الآن ولو بطانيات، لكن ماذا قدم المسلمون؟
وبهذه المناسبة أدعو الجميع إلى مساعدة إخوانهم فإنهم بحاجة والله اليوم إلى أقل القليل، فلا يحقر كل واحد منكم ما يقدم ومن كان عنده رغبة في شراء بطانيات لإخوانه المسلمين فليجمعها في هذا المسجد، وليتصل الإخوة المسئولون في هذا المسجد بمكتب رابطة العالم الإسلامي في هذه المدينة والرقم موجود ليأخذوها وليحملوها ليسارعوا لإعطائها إخواننا هناك، خمسة عشر درجة تحت الصفر، نحن اليوم درجة الحرارة عشرين ومع هذا تجد كل واحد منا يلبس ما شاء الله من الثياب، فكيف بحال إخوانكم الذين هناك؟! لا يجدون ما يستر عوراتهم في فصل الشتاء البارد، ونحن نتقلب على البطانيات الوفيرة والفرش، حقيقة الحال يبكي، وهذا الاستطراد بسبب ما أثاره الأخ جزاه الله خيراً عن موضوع الجهاد، ولكن ينبغي الإخلاص، من يُنفق ينفق لله، لا ليقال منفق، وليس معنى هذا أن الإنسان يأتيه الشيطان فيقول: لا تنفق لأجل أن يراك الناس، فكما قلنا: ترك العمل لأجل الناس رياء، فاعمل الصالحات ولكن أخلص لله عز وجل، وأنفق يابن آدم يُنفق عليك؛ ولكن أنفق لله عز وجل.
حقيقة أنا أدعو إلى الوقوف يداً واحدة لا سيما هذه الأيام، الوضع خطير لا يسكت عليه، ولا يمكن أن يكون هناك إنسان يتحرك فيه شعور الإيمان، تتحرك فيه الغيرة ورابطة الأخوة في الله، ينام، يتذكر كل واحد منكم إذا وضع البطانية على وجهه وجسده.
نسأل الله عز وجل أن يقوم بنصرة إخواننا هناك إنه على كل شيء قدير.(87/14)
الإخلاص لله
الإخلاص شرط من شروط قبول الأعمال عند الله، وبه ينال الإنسان النجاة في الدنيا والآخرة.
فهذا نداء لإعمار القلوب بالإخلاص وتجريد العمل لله سبحانه وتعالى.(88/1)
أهمية الإخلاص في حياة المسلم
الحمد لله أمر ألا نعبد إلا إياه، فله العبادة الخالصة، والقدرة النافذة، والحكمة البالغة، أحمده تعالى وأشكره على نعمه السابغة، وأشهد أن لا إله إلا الله مخلصاً له الدين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أخشى الأمة لله وأتقاها وأخلصها له، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، ورضي الله عن صحابته الكرام، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عز وجل، وأخلصوا له في الأقوال والأفعال، فإن الإخلاص لله أهم شرط في قبول العمل، فالعمل لا يقبل إلا إذا كان خالصاً لوجه الله سبحانه، صواباً على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الفضيل بن عياض رحمه الله في قوله تعالى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] قال: أخلصه وأصوبه، فإن العمل إذا كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً لم يقبل حتى يكون خالصاً صواباً.
وقد دل على ذلك نصوص الكتاب والسنة، قال الله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] وقال جل وعلا: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3].(88/2)
مدار الأعمال كلها على نية صاحبها
أخرج البخاري ومسلم عن عمر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى الحديث} فهذا الحديث العظيم قاعدة من قواعد الدين، وأصل من أصوله التي يدور الدين كله عليه، ومدار الأعمال كلها على نية صاحبها، والأمور بمقاصدها، وقد جاء هذا الحديث لتصحيح اتجاهات القلب، وضمان تجرده من الأهواء ولو كانت يسيرة، والنية هي: قصد العمل تقرباً إلى الله وطلباً لرضائه وثوابه، فيدخل في هذا نية العمل، ونية المعمول له، أما نية العمل من العبادات والمعاملات والعقود وغيرها، فإن النية داخلة فيها تميزها عن غيرها، وتميز بعضها عن بعض، وتحدد قصد صاحبها ومراده، فيجازى على حسب نيته، والله يعلم المفسد من المصلح قال تعالى: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} [آل عمران:29].
وأما نية المعمول له، فهو الإخلاص لله في كل ما يأتي العبد ويذر، وفي كل ما يقول ويفعل، فيكون قصده في جميع أعماله رضا الله وطلب ثوابه من غير التفاف للخلق وتلمس رضاهم ورجاء نفعهم ومحمدتهم، بل يكون حريصاً على تحقيق الإخلاص وتكميله، ودفع كل ما يضاده من الرياء والسمعة وقصد المحمدة عند الناس ورجاء ثنائهم ومدحهم.(88/3)
أقوال السلف في الإخلاص
إخوة الإسلام: إن الإخلاص لله دأب الصالحين، وسنة الأنبياء والمرسلين، فهذا أشرف الأمة وأفضلها وقدوتها عليه الصلاة والسلام يأمره ربه بقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:11] إلى قوله سبحانه: {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر:14]
وقال بعض السلف: ملاك هذه الأعمال النيات، فإن الرجل يبلغ بنيته ما لا يبلغ بعمله.
وقال آخر: لا يزال العبد بخير إذا قال، قال لله، وإذا عمل، عمل لله.
وعاتب بعضهم نفسه بقوله: يا نفس! أخلصي تتخلصي.
وقال بضعهم: طوبى لمن صحت له خطوة واحدة لا يريد بها إلا وجه الله تعالى.
الله أكبر! ما أعظم شأن الإخلاص، وما أعز أهله! لا سيما في أزمنة طغت فيها الماديات، وغلب على أهلها المطامع والشهوات، ونظر فيها إلى السائرين في برد الإخلاص نظرة استهانة وازدراء.(88/4)
النصر والرفعة من ثمرات الإخلاص
أمة الإسلام: إن الأمم لا تبني أمجادها إلا على أكتاف المخلصين الذين لا يعرفون إلا الجد والنصح والمثابرة، ولا تشيد حضاراتها إلا بسواعد أهل النزاهة الصادقين الذين لا يعرفون دروب المرائين، ولا يسلكون مسالك المنافقين الذين يتفننون بذلاقة اللسان، والله أعلم بقلوبهم ومقاصدهم، ولا يصدع بنيان الأمة، ويقِّوم أركانها إلا الذين فقدوا الإخلاص لله، والتفاني في نهضة الأمة وتقدمها، وهيهات أن يخلص للأمة، أو يقدم لها نفعاً من لم يخلص لربها ودينها.
إخوة الإسلام: إن الإسلام يرقب بعناية تامة ما يقارن أعمال الناس من نيات، وما يلابسها من مقاصد وإرادات.
وقيمة العمل في الإسلام ترجع إلى نية صاحبه وقصده الذي تمخضت عنه، وإن صلاح النية، وسلامة السريرة، وإخلاص الفؤاد لله رب العالمين يرتفع بمنزلة العمل الدنيوي، فيجعله عبادة متقبلة، وإن فساد النية، وخبث الطوية يهبط بالأعمال الصالحة، فيجعلها معاصٍ خطيرة لا ينال المرء منها بعد التعب والنصب إلا الرد والخسارة.
ألا فليعلم ذلك من أقفرت قلوبهم من الإخلاص، وفسدت ضمائرهم، وباعوا آخرتهم بدنياهم، وفتك الرياء بأعمالهم، وفتكت العلل القاتلة بأجسادهم الناحلة، وتتبعوا محامد الخلق ومنافعهم، وتلمسوا رضاهم وثناءهم؛ ليأكلوا من ورائهم، فصلاتهم وصدقاتهم، وتعلمهم ونفقاتهم، وسائر أعمالهم شابتها شوائب الرياء والسمعة، وسفت عليها سوافل المقاصد الدنيئة، وغلب عليها حزب الظهور والشرف والشهرة؛ وقد سبب ذلك الشقاء والرجوع بالأمة إلى الوراء، ولو كان الإخلاص رائد جميع العاملين، من علماء ومتعلمين، والنصح في الأعمال ديدن كل من ولي أمراً من أمور المسلمين، لما حصل تقصيرٌ في الأعمال، وتضييعٌ في الحقوق، ومماطلةٌ في أداء الواجبات، واتكاليةٌ في القيام بالمعاملات.
فاتقوا الله عباد الله! والزموا الإخلاص لوجه الله تنالوا ثمراته المباركة من النصر والنجاة، والرفعة والهدى، والخير في الآخرة والأولى، وتنجو من الهزيمة والعذاب، والضلال والشقاء، والفضيحة في الدنيا والآخرة.
اللهم ارزقنا الإخلاص لوجهك الكريم، اللهم ارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأفعالنا، وجميع تصرفاتنا، وأعذنا من النفاق والرياء المحبط للأعمال يا حي يا قيوم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(88/5)
القلوب والأعمال موضع نظر الله
الحمد لله يعلم السر وأخفى، وأشهد أن لا إله إلا الله له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله وأطيعوه، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه، ووطنوا أنفسكم على الإخلاص في كل شيء، وعودوها إرادة وجه الله، والاحتساب فيما تأتون وتذرون، وفيما تسرون وتعلنون، واعمروا قلوبكم بالإخلاص لله، وتجريد العمل له.
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا ينظر إلى أجسامكم ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}.
فاتقوا الله عباد الله! وأخلصوا جميع أعمالكم لوجه الله، وصلوا وسلموا على المبعوث رحمةً للعالمين نبينا محمد كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم أصلح حال الأمة، اللهم أبرم لها أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم وفق المسلمين قاطبةً إلى تحكيم كتابك واتباع سنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم أصلح ولاة أمر المسلمين، اللهم وفق إمام المسلمين بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به دينك، وارزقهم البطانة الصالحة يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(88/6)
الاستجابة لله ولرسوله
إن الحياة الحقيقية الطيبة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، وهي متباينة في الدرجات والمراتب، كل ذلك بحسب تمسك العبد وقربه من الله تعالى، فكلما ازداد تمسك العبد وخضوعه للكتاب والسنة تحكيماً وإذعاناً، وقبولاً وتسليماً؛ ارتقى في درجات الحياة الطيبة وذاق طعمها، فليحذر الإنسان من مخالفة شرع الله والإعراض عنه؛ فإنها الخسارة في الدنيا والآخرة.(89/1)
الحياة الحقيقية في الاستجابة لله والرسول
إن الحمد لله، نحمد الله ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونؤمن به، ونتوكل عليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، ومن نزغات الشيطان واتباع الهوى، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، من يطع الله ورسوله؛ فقد رشد، ومن يعصي الله ورسوله؛ فقد غوى وضل ضلالاً مبيناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، ومجتباه من خلقه، ومصطفاه من رسله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه والتزم سنته ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى، فإن من اتقى الله عز وجل بفعل أوامره وترك زواجره؛ وفق لمعرفة الحق من الباطل، والهدى من الضلال، فكان ذلك سبب نصرته ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا، وسعادته يوم القيامة، يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الأنفال:29].
وإن من لوازم تقوى الله أن يستجيب المسلم لأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ كما أمر الله بذلك في محكم كتابه بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: فتضمنت هذه الآية أموراً منها: أن الحياة النافعة إنما تحصل بالاستجابة لله ورسوله، ومن لم تحصل له هذه الاستجابة، فلا حياة له، وإن كانت له حياةٌ بهيميةٌ مشتركةٌ بينه وبين أرذل الحيوانات، فالحياة الحقيقية الطيبة هي حياة من استجاب لله والرسول ظاهراً وباطناً، فهؤلاء هم الأحياء وإن ماتوا، وغيرهم أموات وإن كانوا أحياء الأبدان، ولهذا كان أكمل الناس حياة أكملهم استجابةً لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كل ما دع إليه ففيه الحياة، فمن فاته جزءٌ منه، فاته جزءٌ من الحياة، وفيه من الحياة بحسب ما استجاب للرسول.
الله أكبر! إنه لا حياة حقيقية؛ إلا لمن استجاب لله ورسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تحصل الاستجابة إلا بطاعة الله ورسوله، والوقوف عند حدود الله، ولزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاحتكام إليها، والرضا بها، والتسليم المطلق بها {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].(89/2)
عاقبة الإعراض عن الله ورسوله
عن أبي سعد بن المعلى رضي الله عنه، قال: {كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]} فإذا كانت إجابة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم واجبةً في حياته، فإن الاستجابة لسنته بعد وفاته واجبة، وتحرم مخالفتها، وتقديم شيء عليها، وقد رتب الله الوعيد الشديد، والانتقام الأكيد على المخالفين لها بقوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسيره لهذه الآية: أي: فليحذر وليخش من مخالفة شريعة الرسول باطناً وظاهراً، (أن تصيبهم فتنة) أي: في قلوبهم من كفر، أو نفاق، أو بدعة، (أو يصيبهم عذاب أليم) في الدنيا بقتل، أو حد، أو حبس، أو نحو ذلك.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك، لعله إن رد بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك.
والفرق ما بين المؤمنين والمنافقين سرعة الاستجابة لله ورسوله، والمبادرة إلى امتثال أوامر الله ورسوله، والسمع والطاعة، والانقياد للحق إذا ظهر، يقول تعالى مبيناً صفات الفريقين في ذلك: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:47 - 52].
أمة الإسلام: إذا كان تأخر الصحابي الجليل أبي سعد بن المعلى لحظات عن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم حين دعاه، وهو يصلي يعبد الله؛ سبَّب إنكار الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، لعدم مبادرته واستجابته لأمره، فكيف بحال كثير من الناس اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله! وقد آل الأمر بكثير من الناس إلى نبذ أوامر الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وراء ظهره والعياذ بالله! ومن تأمل ما يعيشه فئام من البشر، وجد أن أقوالهم وأعمالهم وتصرفاتهم واعتقاداتهم تترجم ذلك وتفصح عنه جيداً.
فاتقوا الله يا إخوة الإسلام! {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ * فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} [الشورى:47 - 48].(89/3)
فضل الاستجابة لله والرسول
أمة الاستجابة لله ولرسوله: اعلموا أن من استجاب لله؛ استجاب الله له، يقول تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] وقال عز وجل مبيناً نتيجة الفريقين: {لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [الرعد:18].
وما أشد ضرورة المسلمين في هذا الزمن إلى استجابة الله لهم! ولكن لما حصل الخلل في استجابتهم لله ورسوله، منعوا من إجابة الله لهم، ووكلوا إلى أنفسهم، ومن وكله الله إلى نفسه؛ وكله إلى ضعف وعجز وعورة، ولن تنكشف الغمة، وتصلح حال الأمة إلا بقيامها لله مثنى وفرادى، جماعات ودول، واستجابتها لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحمايتها والغيرة عليها، والثأر لها، ونصرة المستمسكين بها: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وارزقنا السير على سنة المصطفى الأمين، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجرنا من العذاب الأليم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه يغفر لكم، وتوبوا إليه يتب عليكم إنه هو التواب الرحيم.(89/4)
علامة التوفيق اتباع الشرع
الحمد لله كما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي مجمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة.
أيها المسلمون! إن من علامة توفيق الله لعبده في هذه الحياة، أن يسير على وفق كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ في أقواله وأفعاله وتصرفاته، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} [الأنفال:20 - 22].
فاحذروا -رحمكم الله- التولي عن طاعة الله ورسوله، (وأنتم تسمعون)، أي: بعدما علمتم مادعاكم إليه، فإن هذا الصنف من الناس شر الخليقة عند الله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ} [الأنفال:22] أي: عن سماع الحق، (البكم): عن فهمه، (الذين لا يعقلون): عن الله ورسوله أمره ونهيه.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين!
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاية المسلمين فيمن يخافك ويتقيك، ويتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها لاتباع كتابك، وللاستجابة لك ولرسولك صلى الله عليه وسلم.
اللهم وفقهم في كل مكان إلى ما تحب وترضى، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى، اللهم أنزل عليهم نصرك المؤزر يا أرحم الراحمين!
اللهم وفق المسلمين قاطبةً حكاماً ومحكومين، علماءً وعامةً، شباباً وشيباًَ، رجالاً ونساءً إلى التمسك بدينك يا رب العالمين!
اللهم وفق إمام المسلمين بتوفيقك وأيده بتأييدك، وأعل به دينك، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم ارزقه البطانة الصالحة يا رب العالمين!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(89/5)
الاستقامة
إن أعظم النعم على الإطلاق هي نعمة الهداية لهذا الدين الإسلامي، فعلى المسلم وقد حباه الله بهذه النعمة أن يؤدي شكرها، وذلك بالاستقامة الجادة على هذا الدين، وأن يتبع القول العمل، والتفكير التطبيق، في جميع شئونه؛ عقيدة وعبادة، معاملة وسلوكاً، وأهم شيء في ذلك التزام عقيدة السلف رحمهم الله تعالى.(90/1)
تميز المسلم عن سائر الخلق
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونسترحمه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بالاستجابة له ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وألزمنا بالاستقامة على شريعته إلى أن نلقاه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، وخيرته من رسله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واستقام على ملته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وبارك وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام! اتقوا الله تبارك وتعالى {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
عباد الله: إن المسلم في هذه الدنيا صاحب رسالة عظيمة، وفي عنقه أمانة جسيمة تتمثل في تحقيق العبودية الخالصة لله عز وجل، والاستقامة على شريعته، وعدم الغفلة عنها طرفة عين، والمسلم -يا عباد الله- ليس كغيره من الخلق، كيف وقد أنعم الله عليه بهذه النعمة العظيمة، ألا وهي نعمة الإسلام، وهداه إليها وقد ضل عنها أكثر الناس، وقد أنعم عليه بنعمة الإيجاد والتكوين، ونعمة الخلق في أحسن تقويم، ونعمة العقل والتفكير، ونعمٍ شتى لا يحصيها إلا الله، على حد قوله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18].
فعلى المسلم أن يستعين بهذه النعم على طاعة الله، ويصرفها في مرضاة الله، في عمره القليل ومقامه القصير في هذه الحياة العاجلة، ليعمر آخرته، التي هي دار القرار، وأما هذه الحياة فهي بلغة ومتاع، ودار ابتلاء وامتحانٍ للعباد {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:36] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ولم يخلقوا ليتمتعوا ويتلذذوا ويتفننوا في المآكل والمشارب، والمساكن والمراكب، ويركضوا ويلهثوا وراء هذه الدنيا الزائلة، وشهواتها الفانية، وبريقها الخادع، فتلك ليست حياة المؤمنين {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12].(90/2)
فضل الاستقامة من الكتاب والسنة
أمة الإسلام في كل مكان: لقد جاء ذكر الاستقامة في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، بأساليب متعددة، فتارة جاء الأمر بها صراحة بصيغة الأمر الطلبية كما في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت:6] وكقوله تعالى آمراً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأتباعه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [هود:112].
وأخرج الإمام مسلم رحمه الله في صحيحه عن سفيان بن عبد الله رضي الله عنه، قال: {قلت: يا رسول الله! قلْ لي في الإسلام قولاً لا أسأله أحداً غيرك قال: قل: آمنت بالله ثم استقم}.
وتارة وردت الاستقامة بذكر حال المستقيمين على شريعة الله، ومآلهم في الدنيا وعند الموت وبعده كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت:20 - 32]، {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف:13 - 14].(90/3)
حقيقة الاستقامة
وفسرت الاستقامة -يا عباد الله- بأنها لزوم طاعة الله تعالى، فلا يسمَّى الإنسان مستقيماً ولا يستحق هذا الشرف العظيم، وهذا التكريم، إلا إذا كان ملازماً لطاعة الله عز وجل في جميع شئونه، وفي كل حالاته، في عقيدته وعبادته ومعاملاته وأخلاقه، وفي سلوكه في بيته وسوقه، وفي بيعه وشرائه، وفي أقواله وأفعاله، وفي جميع حركاته وتصرفاته، مقتدياً بسلف هذه الأمة المستقيمين على هذه الشريعة، متأسياً بسيد الأولين والآخرين عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
إخوة العقيدة، أينما كنتم وحيث ما حللتم: إن الاستقامة تعني أول ما تعني، الاستقامة على العقيدة الصحيحة، عقيدة السلف الصالح، عقيدة أهل السنة والجماعة، فلا يستحق صفة الاستقامة من دنس هذه العقيدة أو شابها بشوائب الشرك، وشوائب البدع والخرافات، فأين الذين آثروا الشرك على الإيمان، والبدعة على السنة، واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، في أمور العقائد والعبادات، والمعاملات والأخلاق؟ أين هم من الاستقامة؟! هل هؤلاء مستقيمون؟! شتان بين مشرقٍ ومغرب {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى:21].
أين الذي استخفوا بشريعة الإسلام في مجالس التطبيق والتحكيم؟ أين هم من الاستقامة؟!
أين الذين رضوا بالرذيلة بدل الفضيلة، واستمرؤا سفاسف الأخلاق، ومساوئ العادات، وقتلوا أوقاتهم بها، وأفنوا أعمارهم فيها؟!
أين هم من الاستقامة على شريعة الإسلام التي جاءت بمكارم الأخلاق والشيم، ومحاسن الأمور وفضائل الأعمال؟!
أين كثيرٌ من المنتسبين اليوم، الذين آثروا الحياة الدنيا، ونسوا الدار الأخرى، واشتغلوا بجمع الدرهم والدينار، وغرهم زخرف الحياة الدنيا، فلا يبالون بما يجمعون ولا بما ينفقون، يكذبون ويظلمون، يغتابون ويرابون، لا يعرفون لبيوت الله طريقاً، ولا لأحدٍ حقاً، بالله الجبار جل جلاله يغترون، وعلى محارمه يجترئون، ولأهوائهم يتبعون، لا بموعظة يتعظون، ولا بمزدجرٍ يفيقون؟ نعوذ بالله من قسوة القلوب، وضعف الإيمان إنه نعم المعين.
أين الأفواج الهائلة من شباب المسلمين اليوم، الهائمين على وجوههم، الحائرين في أمورهم، الذين اغتروا بصحتهم وفراغهم وغناهم، واشتغلوا بما لا يرضي الله عز وجل، من لهو القول والعمل، ومن الضلال والفساد، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! هل هؤلاء مستقيمون؟!
أين كثيرٌ من نساء المسلمين اليوم، اللاتي خُدعن بدعاة الفتنة والضلال، فآثرن الخروج من البيوت، والاختلاط بالأجانب، والتبرج والسفور على القرار والحياة، والعفاف والحكمة؟!
أين هن من الاستقامة، واقتفاء آثار أمهات المؤمنين المسلمات، المؤمنات، القانتات، التائبات، العابدات، السائحات، ولسن المتبرجات، الكاسيات العاريات، المائلات المميلات، الضالات المضلات كما هو الواقع اليوم؟
!
فاتقوا الله أيها المسلمون! استقيموا على شريعة الله عز وجل، وانتبهوا لأنفسكم {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
اللهم وفقنا لما يرضيك، وجنبنا أسباب سخطك ومعاصيك، اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وارزقنا الاستقامة فيها على شريعتك، والسير على صراطك المستقيم، اللهم أصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه يغفر لكم، وتوبوا إليه يتب عليكم، إنه يحب التوابين وهو الغفور الرحيم.(90/4)
الاستقامة قول وعمل
الحمد لله معز من استقام على نهجه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واستقيموا على شرعه، واسمعوا له وأطيعوا تفلحوا وتفوزوا {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور:51] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].
عباد الله: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِير} [الشورى:47].
واعلموا -عباد الله- أن الاستقامة لا تحصل بمجرد القول والادعاء، وإنما لا بد فيها من العمل والتطبيق، ولهذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت:30] فجمعوا بين القول والعمل، كما قال صلى الله عليه وسلم -في الحديث الآنف الذكر-: {قل: آمنت بالله ثم استقم} فلم يكتفِ منه بمجرد القول، وإنما أمره بالاستقامة العملية، فوالله لم يستقم على شريعة الله إلا من جمع بين القول والعمل الصالح، والعقيدة الصحيحة، والالتزام الكامل بدين الله، وكلما قصَّر العبد بشيء من طاعة الله وأخل بجزءٍ من عبادته، وفرط بنوعٍ من الواجبات، كان ذلك قدحاً في استقامته، والناس في ذلك بين مقلٍ ومكثر، فانظر -يا عبد الله- من أيهما أنت.
فاتقوا الله -عباد الله- واعمروا حياتكم القصيرة بطاعة الله فالعمر قصير، والموت يأتي بغتة وبعده الحساب، فإما إلى الجنة وإما إلى النار، حاسبوا أنفسكم، وانظروا في أموركم وواقعكم هل أنتم مستقيمون على شريعة الله، في كل صغيرٍ وكبير، وجليل عندكم وحقير حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا في {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع الجماعة، وصلوا وسلموا على أفضل نبيٍ وأعظم هادٍ يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] 0
اللهم صل وسلم وبارك على إمامنا ونبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه.
اللهم ارض عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، وعن أمهات المؤمنين، اللهم اغفر لمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واقمع المفسدين والمبتدعين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم إمامتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم استعمل علينا وعلى جميع المسلمين خيارهم يا أرحم الرحمين!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وانصرهم على عدوك وعدوهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم أعذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين! اللهم دمِّر أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين، وجميع أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا لهداك، اللهم أعزه بالإسلام، اللهم انصره بالإسلام، اللهم اجعله خير نصيرٍ لك، واجعله هادياً مهدياً يا رب العالمين.
الله وفق ولاة المسلمين جميعاً للعمل بما يرضيك، اللهم حبِّب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم أبعد عنهم بطانة السوء.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وأغث بلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(90/5)
الاعتبار بتعاقب الزمان
لقد جعل الله تعالى للإنسان وقتاً محدداً وعمراً معدوداً، وأمره أن يستغل أوقات عمره بعبادته سبحانه وتعالى.
وإن في انقضاء الأيام، ومرور الأعوام، عبرة للإنسان بأن هذه الدار فانية، وأنها سريعة الانقضاء، وقريبة الزوال.
فعلى المسلم أن يبادر بالأعمال الصالحة قبل فوات الأوان، وأن يحذر التسويف!(91/1)
الحكمة من خلق الإنسان
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي جعل في تعاقب الليل والنهار عبرة لأولي الأبصار، أحمده تعالى على نعمه الغزار، وأشكره على فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى المختار، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه الأخيار، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فإنها الذخيرة التي تنفع صاحبها، والتجارة التي تربح طالبها، وهي حلة العز والكرامة، ولباس السعادة والنصر والسيادة.
إخوة الإسلام: إن الله جل وعلا بقدرته الباهرة وحكمته البالغة خلق الخلق في هذه الحياة، واستعمرهم في هذه الأرض، وقد أخبر عن سر هذا الخلق وحكمته، بقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] فالإنسان في هذه الحياة الفانية، لم يخلق عبثاً، ولم يترك سداً، ولا يدري متى يأتيه الأجل؛ فلا ينفعه حين ذاك إلا صالح العمل، فجدير بالكيس الفطن الذي عرف حكمة خلق الله له في هذا الكون، أن يتزود من الأعمال الصالحة، ويستعد لما بعد الموت، ويأخذ العبرة من مرور الليالي والأيام، وتصرم الشهور والأعوام، على فناء هذا العالم، وسرعة زوال هذه الدار، وقصر مدتها، فيحفِّزه ذلك إلى العمل الذي يقربه لمولاه، ويحذِّره من الاغترار بدنياه، فيخسر دنياه وآخرته {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5].(91/2)
أخذ العبرة من انصرام الأعوام
أمة الإسلام! تودع الأمة الإسلامية بل يودع العالم بأسره هذه الأيام، عاماً هجرياً كاملاً، مضى بأحداثه ووقائعه، وخيره وشره، مضى من أعمار بني آدم ولن يعود إلى يوم القيامة، ذهب كما ذهب غيره، وتلك سُنَّة الله عز وجل في كونه، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين، فالليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، مع حركات الأفلاك الدائرة، والآيات السائرة، والعبد يعيش في هذا الميدان الذي أعد للسباق الطويل، الذي لا يتقدم فيه إلا من عرف ربه، وذكر حقه، وشكر نعمه، ومن يجعل من فواصل السنين تواصل دأبٍ وعملٍ ونصب؛ لإحراز الراحة الكبرى {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6].
ومن يذهل عن هذه المعاني السامية، ويهيم وراء منافعه العاجلة، ولذاته الفانية فلا يعتبر ولا يتعظ بمرور الأيام والأعوام، فتلك أمارة الخسران، وعلامة الحرمان، عياذاً بالله.
وقد كان السلف الصالح رحمهم الله، يجعلون من مرور الأيام والسنين، مدكراً ومزدجراً، فكانوا يستحيون من الله أن يكونوا اليوم على مثل حالهم بالأمس، وقال بعضهم: كيف يفرح من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟!
كيف يفرح من عمره يقوده إلى أجله، وحياته تقوده إلى موته؟
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[إنما أنت أيام كلَّما مضى منك يومٌ مضى بعضك]]، ومن أقوال الحسن رحمه الله: [[ما من يومٍ ينشق فجره، إلا نادى منادٍ من قبل الحق: يابن آدم! أنا خلقٌ جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود فيّ بعملٍ صالح؛ فإني لا أعود إلى يوم القيامة]].(91/3)
استغلال الأوقات والأعمار في الطاعات وعدم التسويف
اتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن الليل والنهار مطيتان، فأحكموا السير عليهما إلى الآخرة، واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة، ولا يغترنَّ أحدكم بحلم الله عز وجل، والأيام خزائن الأعمال، والعبد بين مخافتين: بين آجلٍ قد مضى لا يدري ما الله صانعٌ فيه، وبين عاجلٍ قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه، وإنه لمن فضل الله ودلائل توفيقه للعبد أن يلهمه استغلال كل ساعة من عمره في العمل الصالح، ويوفقه لأخذ الدروس والعبر والبصائر من تصرم الشهور والأعوام، وفقد الأهل والإخوان.
فكم ودعنا في هذا العام من أخٍ أو خليل أو قريب! وكم نقل إلى المقابر من عزيزٍ أو محبٍ أو نسيبٍ! وأحدنا لا يدري هل يتم هذا العام الجديد، أو لا يدركه، فالموت الذي تخطانا إليهم سيتخطى غيرنا إلينا، فاعتبروا يا أولي الأبصار.
أيها المسلمون: لا بد من وقفة صادقة مع مرور هذا العام، واستقبال العام الجديد، لا بد من وقفة حازمة مع النفوس؛ لمحاسبتها ماذا قدمت لغدها، ماذا قدمت لدينها وعقيدتها ومجتمعها المسلم، هل حملت راية العقيدة، ورسالة الإسلام، وعملت بها ودعت إليها وجاهدت في سبيلها؟
وهل ستظل أحوال المسلمين كما هي عليه في السنوات الماضية؛ ضعفٌ في الإيمان، وقسوة في القلوب، وتفرق في الكلمة، واختلال في الصف، ونزاعٌ بين الإخوة، وأحقاد وأطماع، لا يستقيد منها إلا أعداء الإسلام، الذين لا يزيدهم مرور الأعوام إلا قوة وفتوة؟!
إننا مع كل هذا، لنتفاءل كثيراً بدخول هذا العام، ومستقبل الأعوام فالنصر للإسلام وأهله، وذلك وعد الله الذي لا يخلف الميعاد، وأملنا في الله كبير، أن يكون هذا العام عام خيرٍ وعزة وتضامن للمسلمين، بعد أن أصبح تضامنهم ضد أعدائهم مطلباً ضرورياً، وأمراً حتمياً، وعام استقامة وصلاح، لشئون المسلمين وأحوالهم، ويقضة رشيدة، لقادتهم وعلمائهم، وشبابهم ونسائهم، الله حسبنا ونعم الوكيل، وهو مولانا، فنعم المولى ونعم النصير.
اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم لقائك، واجعل مستقبل أيامنا خيراً من ماضيها، وقابل أعوامنا خيراً من سالفها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(91/4)
محاسبة النفس على ما مضى
الحمد لله الذي حكم بزوال هذه الدار، وأمر بأخذ العدة لدار القرار، وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المختار، صَلَّى اللهُ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الأبرار.
أما بعد:
فاتقوا الله -يا عباد الله- واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، وحاسبوا أنفسكم عند وداع عامكم، وتوبوا إلى ربكم توبة نصوحاً، ومن كان منكم أحسن فيما مضى من أيامه، فليحمد الله على ذلك، ويستمر عليه إلى الممات، ومن كان مفرطاً في شيءٍ من الواجبات، أو مرتكباً لشيء من المحرمات فليتب إلى ربه، ويندم على فعله، ويقلع عن معصيته، ويعزم على ألا يعود إليها في مستقبل أيامه وأعوامه.
ألا فصلوا وسلموا على من ربه حتى أتاه اليقين نبينا محمد سيد الأولين والآخرين، وأشرف الأنبياء والمرسلين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم ارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين.
اللهم آمنا في ديننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم هداة مهتدين يا رب العالمين!
اللهم وفق المسلمين لما تحب وترضى، اللهم وفقهم للتمسك بدينك القويم، واتباع سنة نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
اللهم اجعل عامنا الجديد عام نصرٍ وعزة للمسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، وعام ذلٍ وهوانٍ وخذلانٍ لأعدائك أعداء الدين، يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أعلى وأعز وأجل وأكبر، والله يعلم ما تصنعون.(91/5)
الامتثال لأمر الله
أوجب الله جل وعلا طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتوعد المعرضين عن الشرع بالفتنة أو العذاب الأليم، وبيّن ما جرى للأمم السابقة من تدمير وإهلاك جزاء إعراضهم وتكذيبهم الرسل.
ولقد ضرب لنا الصحابة رضي الله عنهم، أروع الأمثلة في سرعة الاستجابة لأمر الله وأمر رسوله، فحري بالمسلم المتبع أن يحذو حذوهم ويقتفي أثرهم.(92/1)
لزوم طاعة الله ورسوله
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب الرحمة والسعادة لمن أطاعه واتقاه، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، واستقام على شريعته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله -تعالى- ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، واعلموا -رحمكم الله- أن الله تبارك وتعالى أوجب طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم على كل إنسان، وفي كل زمانٍ ومكان، ونهى عن معصيته ومعصية رسوله عليه الصلاة والسلام، قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأنفال:20 - 21].(92/2)
خطر الإعراض عن أمر الله
ولقد رتب الله على الطاعة السعادة والفلاح والفوز في الدارين {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] كما رتب على المعصية، من العقوبات الدنيوية والأخروية، ما لا يُعد ولا يحصى، ولا يحد ولا يستقصى، يقول سبحانه: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] ويقول عز من قائل: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
أي: فليحذر وليخشى من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم باطناً وظاهراً أن تصيبهم فتنةٌ في قلوبهم، من كفرٍ أو فسقٍ أو نفاق أو بدعة، أو يصيبهم عذابٌ أليم في الدنيا وفي الآخرة، قال الإمام أحمد رحمه الله، في تفسير هذه الآية: "أتدري ما الفتنة؟ الفتنة الشرك"، لعله إذا رد بعض قوله، أن يقع في قلبه شيءٌ من الزيغ فيهلك.
وأعظم عقوبةً تصيب من خالف أمر الله وأمر رسوله، وأصر على المعاصي والمنكرات، أن يحال بينه وبين الإيمان الصحيح، وبينه وبين العقيدة السليمة، والطريق المستقيم، ويبتلى بزيغ القلب، وتلبيس الشيطان وأعوانه، فيرى سوء عمله حسناً وقبيحه صحيحاً، ولا يزال على ذلك مستمرئاً إياه، متعصباً له، مجادلاً فيه، مدافعاً عنه، حتى يموت عليه، ويبتلى بسوء الخاتمة -عياذاًَ بالله من شديد غضبه، وأليم عقابه- قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5]، وقال: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
أما العقوبات المالية والبدنية لمن خالف شرعية الله، وسنة رسوله، وقد أخبر الله عنها في كتابه، مما جرى للأمم المكذبة لرسله، قال تعالى: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].(92/3)
مبادرة الصحابة لامثتال أمر الله
عباد الله! اتقوا الله وبادروا بامتثال أوامر الله ورسوله، أسوةً بصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا يسارعون إلى امتثال الأوامر حينما يسمعونها ولا يؤخرون ذلك.
يقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[إذا سمعت الله يقول: يا أيها الذين آمنوا، فأصغِ لها سمعك، فإنه خير تأمر به، أو شرٌ تنهى عنه]]
ولما نزل قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144] امتثل الصحابة للأمر، فتوجهوا قبل الكعبة وهم في الصلاة، ولما نزلت آية الحجاب: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} [الأحزاب:59] بادر نساء الأنصار فشققن مروطهن، فاعتجرن بها امتثالاً لأمر الله ورسوله.
ولما نزلت آية تحريم الخمر، التي ختمها الله عز وجل بقوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} [المائدة:91] قال الصحابة رضي الله عنهم: انتهينا انتهينا حتى رمى الإناء من رفعه إلى فيه، وأهرقها الصحابة حتى قيل: إنها جرت في سكك المدينة والحوادث والوقائع في الامتثال والمبادرة من هذا الجيل المثالي كثيرةٌ جداً.(92/4)
حال المسلمين مع أوامر الله
فأين نحن أيها المسلمون؟! أين نحن من أوامر الله ورسوله؟!
لقد وصل الأمر بكثيرٍ من الناس، أن اتخذ أوامر الله ورسوله وراءه ظهرياً، فكثيراً ما تبلغنا أوامر الله ورسوله بطرقٍ متعددة، ووسائل متنوعة، ولكن أين الامتثال وأين أثرها فينا؟! هل غيّرنا من واقعنا؟!
هل عدّلنا من سلوكنا؟!
وهل اتجهنا إلى العمل الصالح وتزودنا من الطاعات؟!
إن الكثير منا بعكس ذلك، باقٍ على غيه، منساقٌ مع شهواته، مطاوعٌ لنفسه وهواه، تمر عليه الأوامر الإلهية، والسنن النبوية، فلا يرفع بها رأساً، ولا يحرك حولها ساكناً، وكأنها لا تعنيه، هذا هو واقع الكثير منا، رجالاً ونساءً، شباباً وشيباً -إلا من رحم الله- حتى جرَّ هذا الواقع المؤلم، تفشي الجهل بدين الله بين المسلمين أنفسهم، وفقدان الغيرة على دين الله، وانتشار العقائد والأعمال المخالفة لشرع الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحتى عمَّ التهاون بالصلاة، وألفه كثيرٌ من مرضى القلوب، وانتشر الكسب الحرام، كأنما هو من الطيبات، وأصبح الفساد والمنكر على اختلاف وسائله، وتعدد طرقه، أمراً مباحاً، مستساغاً عند كثيرٍ من الناس، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الأنفال:24 - 25].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وتاب عليّ وعليكم إنه هو التواب الرحيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه يغفر لكم، وتوبوا إليه يتب عليكم؛ إنه هو التواب الرحيم.(92/5)
نبذ الأهواء المخالفة للشرع
الحمد الله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واتبعوا شرعه ولا تعصوه.
عباد الله! إن الواجب على المسلم عندما يسمع أمر الله وأمر رسوله، عليه أن يبادر بالامتثال، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].
أي: لا يحل لمن يؤمن بالله أن يختار من أمر نفسه ما شاء، بل يجب عليه أن ينقاد لقضاء الله وأمره، وإن كان مخالفاً لهواه، كما لا يجوز له إذا استبانت له سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعها أو يخالفها ولو كان هواه على خلافها، لأن في قضاء الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الخير العاجل والآجل، ومخالفة أمر الله ورسوله توجب الفتنة والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].
واعلموا -عباد الله- أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على من بعثه الله رحمةً للعالمين، وشرَّفه على الأولين والآخرين محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه.
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين، يا رب العالمين.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، اللهم انصرهم ووفقهم وأعنهم وسددهم يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم وأظهر الهدى ودين الحق الذي بعثت به نبيك صلى الله عليه وسلم على الدين كله ولو كره المشركون.
اللهم وفق إمامنا إمام المسلمين، اللهم انصره وأعزه بالإسلام، يا رب العالمين! اللهم اجعله خير ناصرٍ لهذا الدين، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(92/6)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
رتب المولى جلّ وعلا الخيرية لهذه الأمة على الإيمان به، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وإن مما يميز المؤمنين عن المنافقين هو قيامهم بهذه الفريضة، فالواجب على الناس جميعاً القيام بهذه الشعيرة الجليلة، وكلاً بحسب استطاعته وإلا فإن عذاب الله سيعم الصالحين والطالحين.(93/1)
خيرية الأمة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الحمد لله الذي شرف هذه الأمة؛ فجعلها خير أمة أخرجت للناس، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله، أحمده تعالى وأشكره على ما أولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، كتب الخيرية والفلاح لدعاة الخير والإصلاح، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله حامل لواء الدعوة والجهاد والكفاح، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه الذين ساروا على نهجه، وترسموا خطاه، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم نلقاه.
أما بعد:
أيها المسلمون: إن الإيمان بالله عز وجل، والدعوة إليه، والنصح والتعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر، وإشاعة الخير والفضيلة بين الناس، ومحاربة الشر والرذيلة والفساد واستئصاله من المجتمع من أبرز سمات هذه الأمة، أمة محمد صلى الله عليه وسلم، التي فاقت بها سائر الأمم، يقول الله جلَّ وعلا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
لذا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر القطب الأعظم في هذا الدين، والمهمة الكبرى للأنبياء والمرسلين والصالحين، بل قد عدَّه بضع أهل العلم ركناً سادساً من أركان الإسلام، كل ذلك لما يشتمل عليه من الفضل العظيم، والخير العميم، والفوائد والمصالح العاجلة والآجلة، ولما يترتب على تركه من استشراء الباطل وانتشار الفساد، وغلبة المعاصي وهيمنتها، وهي الجالبة لسخط الله، المنذرة بمقت الله وعاجل عقوبته على الأفراد والأمم.(93/2)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر علامة الإيمان
أمة الإسلام: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمارة الإيمان، وإن تركه علامة النفاق: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} [التوبة:71] وهما من أعظم أسباب النصر على الأعداء والتمكين في الأرض، قال عز من قائل: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} [الحج:40 - 41] وهما طوق النجاة وسربال الحياة: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:165].
وبالجملة فهما من أفضل الأعمال، وآكد الفرائض، وأوجب الواجبات، وألزم الحقوق، وقد جاء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بما يؤيد ذلك، يقول أصدق القائلين: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
وروى مسلمٌ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} وفي رواية: {وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل}.
وروى الترمذي وغيره عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف، ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكنَّ الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم}.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتقِ الله ودع ما تصنع، فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله، فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض -ثم قال-: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] ثم قال: كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهونَّ عن المنكر ولتأخذن على يد الظالم، ولتأطرنه على الحق أطراً، ولتقصرنه على الحق قصراً، أو ليضربنَّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم ليلعنكم كما لعنهم} رواه أبو داود والترمذي وهو حديثٌ حسن.
إخوة العقيدة: أرأيتم لو أن فرداً أصيب بمرضٍ عضال في جزءٍ من جسمه فأهمله، أوليس يستشري المرض في جسده كله، فيتعسر علاجه ويتعذر شفاؤه، كذلكم المنكر -يا عباد الله- إذا ظهر وتُرك فلم يغير، فإنه لا يلبث أن يألفه الناس ويستمرئوه، وعندئذٍ يصبح من العسير تغييره وإزالته، فتعم المنكرات، وتنتشر الفواحش، وتغرق سفينة الأمة.
وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم مثالاً مثالياً على ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: {مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذِ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا؛ هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً} رواه البخاري.(93/3)
المقصود بالمعروف والمنكر
أيها الإخوة في الله: المعروف الذي جاء الشرع بالأمر به: اسمٌ يجمع كل ما أمر الله به ورسوله، من العقائد والأقوال والأفعال، كالإيمان وشرائع الإسلام الظاهرة والباطنة، والأعمال الصالحة، والأخلاق الفاضلة ونحوها.
والمنكر: ما أنكره الله ورسوله، وأقبح ذلك وأعظمه منكرات العقائد، والأمور المبتدعة في الدين، وكبائر الذنوب، وسائر المعاصي.(93/4)
مسئولية الأمر بالمعروف عامة على كل مسلم
أمة الإسلام: يا خير أمة أخرجت للناس! إن واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس مقصوراً على أحدٍ بعينه من الأشخاص أو الهيئات، ولكنه واجب كل مسلم وكل على قدر استطاعته، وبحسب منزلته ومكانته، بيد أن على أهل الحل والعقد من الدعاة والعلماء، والوجهاء والمختصين ما ليس على غيرهم، فالأب مسئولٌ عن أسرته وأهله وأولاده، والمعلم في مجاله، والموظف في دائرته، والتاجر في سوقه، وهكذا كل على ثغرة من ثغور الإسلام: {وكلٌ راعٍ ومسئولٌ عن رعيته}.
بل المسلم الحق حيثما حل وقع أفاد ونفع؛ لأنه عضوٌ في جسد هذه الأمة، له مكانته وعليه واجباته، وهو مطالب بالتفاعل مع مجتمعه، والألم لألمه، والنشاط في محيطه، نشراً للخير والصلاح ودرءاً للشر والفساد.
فلنتق الله يا عباد الله! وليكن كل واحدٍ هنا هيئة بذاته للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولنتعاون في تحقيق هذا المبدأ العظيم، ولنكن يداً واحدة على من يريد خرق سفينة أمتنا بالشر والفساد، رائدنا في ذلك الإخلاص، والحكمة والشفقة، والرفق والأناة والرحمة؛ فتلك أبرز الصفات التي ينبغي أن يتحلى بها من يتصدَّى لهذا الأمر العظيم، فهم دعاة خيرٍ ورحمة، وحرصٍ وشفقة، وغيرة على دين الله القويم، وخوفٍ على إخوانهم المسلمين، ومن كان بهذا المثابة، فأولى أن يساند ويعاضد، ويشجع، ويآزر ويكرم مادياً ومعنوياً.
يا خير أمةٍ أخرجت للناس: إنه إذا أفلت زمام هذا الأمر وطوي بساطه، وقّلَّ أنصاره وأخفقت رايته، وأهمل علمه وعمله، فشت الضلالة، وشاعت الجهالة، وفسدت البلاد، وهلك العباد، وإن الناظر فيما أصاب المجتمعات المعاصرة من تفاقم المحرمات، وانتشار المنكرات، مما تعجز عن وصفه الكلمات، ويترجم عنه الحال في كثيرٍ من الجوانب العقدية والشرعية؛ والأخلاقية والفكرية، مما ذهبت معه الغيرة، وهتكت من أجله الأعراض، وانتشرت الأفكار الهدَّامة، والمبادئ المنحرفة، وتطاول فيه الفساق من الرجال والشباب والنساء، ليتساءل: أين الغيرة الإسلامية؟! وأين الحمية الدينية؟! بل أين النزعة الإنسانية، والشهامة العربية، والرجولة الأصلية؟! هل نزعت من القلوب، واضمحلت من النفوس؟!(93/5)
سوء العاقبة بانتشار الفساد
إنه إذا كثر الخبث وانتشر الفساد ولم يُغيَّر، عمَّ العذاب الصالح والطالح، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أوحى الله إلى جبريل أن اقلب مدينة كذا وكذا بأهلها قال: يا رب! إن فيهم عبدك فلاناً لم يعصك طرفة عين! قال: به فابدأ فإن وجهه لم يتمعر فيّ ساعة قط}.
وعن أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها قالت: {قلت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث} متفقٌ عليه، ومع ذلك كله فلا يزال ولله الحمد والمنة في أرض الله من هو قائمٌ لله بحجته، وصادعٌ بدعوته، ولا نيأس من روح الله، بل نتفاءل خيراً إن شاء الله، ولكن الأمر بحاجة إلى المزيد من الجهود الإسلامية المتظافرة؛ لتحقيق هذا المبدأ العظيم ونشره في بلاد المسلمين، ليعم الخير وينتشر، ويتوارى الباطل ويندحر، وما ذلك على الله بعزيز.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين، وهدانا صراطه المستقيم، وتاب علينا أجمعين، إنه هو التواب الرحيم.(93/6)
شدة غيرة الرسول صلى الله عليه وسلم على دين الله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وقوموا بما أوجب الله عليكم من الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فقد عرفتم منزلته ومكانته في هذا الدين، والأدلة عليه والوعيد الشديد على من تركه وأهمله، وأدركتم ما وصل إليه الحال، وبان لكم أسباب ذلك ونتائجه الوخيمة، ووقفتم على وصفة من علاج ذلك الأمر، وصفات من يقوم به، فلم يبقَ إلا العمل الجاد المخلص، المبني على أسسٍ سليمة وقواعد محكمة حكيمة، وترك التواني والتواكل والتلائم وإلقاء التبعة على الآخرين، فلو قام كلٌ منا بواجبه، وعرف دوره ورسالته، وتعاون مع إخوانه، لم يجد الباطل سبيلاً، ولم يلق الفساد رواجاً، ولكنها سنة الله في خلقه، لينظر من يجد ويعمل ممن يترك الحبل على الغارب ويهمل.
ولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم القدوة الحسنة، فقد كان أشد الناس غيرة على دين الله، وحرصاً على تبليغ رسالة الله، وغضباً إذا انتهكت حرمات الله.
ألا فصلوا وسلموا عليه صلاة متبعٍ له مقتدٍ به، مهتدٍ بهديه، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلَّ وسلم على نبينا عبدك ورسولك محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا لهداك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(93/7)
الإيمان أركان وشعب
الإيمان سلاح قوي لا يعرفه إلا من ذاق حلاوته، وهو قول باللسان واعتقاد بالجنان، وعمل بالجوارح والأركان، يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، وكما أن للإيمان أركان وأصول فله أيضاً شعب وأجزاء.
كل ذلك تجد مضمونه خلال هذه الأسطر والكلمات.(94/1)
حقيقة الإيمان
الحمد لله، يمن على من يشاء من عباده بهدايته للإيمان، أحمده تعالى وأشكره وأستعينه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الفضل والإحسان، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله المؤيد بالنصر والبرهان، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الموصوفين بقوة الإيمان، والتابعين ومن تبعهم بخيرٍ وإحسان إلى يوم القيام للملك الديان.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله ربكم حق التقوى، وآمنوا به حق الإيمان، تسلموا من الشقاء والخسران.
عباد الله: في غمرة مشاغل الحياة ودوامة الأعمال الدنيوية، وزوابع الأفكار المناهضة للإسلام، المصادمة لأساس الملة، ولبعد كثيرٍ من الناس عن دوحة الإيمان الوارفة، وشجرته الباسقة، وذبول كثيرٍ من المشاعر والأحاسيس تجاه الأصل الذي ينتمي إليه كل مسلم، كان التنبيه على أهم واجب على المكلفين أمراً متعيناً، يجدد العهد به، ويذكي الشعور بأهميته، ويذكر الغافلين عنه، فما أجملها من لحظات مباركة، نعيش من خلالها مع الإيمان، نتفيأ وارف ظلاله، ونقتطف يانع ثماره، ونشم عاطر شذاه، ونرتوي من نميره العذب، وننهل من معينه الزلال، نورده تعريفاً وأهمية، أركاناً وشعباً، واجباً وواقعاً، لنربط الحاضر بالماضي، ونتذكر أقوى سلاحٍ وأمضى قوة، ليعرف أهل الإسلام وهم في مسيرتهم الإسلامية مواطن الضعف من نفوسهم، ويعقد العزم على التمسك بالثوابت والأصول والأسس، التي جاء بها دينهم، مع الأخذ بعوامل التطور والحضارة والإرتقاء.
أمة الإيمان: إن المفهوم الحقيقي للإيمان يتلخص في التصديق واليقين بالله، واستحقاقه للعبادة دون سواه، وأن له الكمال المطلق، فلا يعتريه نقصٌ بوجهٍ من الوجوه، وأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى، فالإيمان: قولٌ باللسان واعتقادٌ بالجنان وعملٌ بالجوارح والأركان، هو الإيمان بالأصول الستة المعروفة، وما يتفرع عنها من كل ما يجب على المسلم اعتقاده في حق الله سبحانه، ومن الأمور الغيبية، ومن جميع ما ورد في الكتاب والسنة، فليس الإيمان مجرد التصديق القلبي، ولا الكلام اللفظي، دون عملٍ وتطبيق، فالأعمال هي دليل الإيمان، إذ ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولا بالدعوى والتسمي، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل.
فالذين يزعمون أن مجرد التصديق كاف في الإيمان، أو مجرد التسمي والتلفظ دون عمل، كاذبون في إيمانهم، مخادعون لأنفسهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة:8 - 9].
كما أن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، قال تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4].(94/2)
بيان الإيمان وأصوله من الكتاب والسنة
إخوة الإسلام: لقد تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة في بيان الإيمان وأصوله، يقول تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة:177] ويقول سبحانه: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة:285] وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} [النساء:136].
وأما السنة فقد جاء فيها الحديث المشهور، الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه، من حديث عمر رضي الله عنه: {أن جبريل عليه السلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان، فقال: الإيمان: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره}.(94/3)
أركان الإيمان
وهذه الأركان كلٌ لا يتجزأ، وسلسلة مترابطة الحلقات، فمن كذب بشيءٍ منها، أو أنكره فقد عرض نفسه لوعيد الله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [المائدة:5].(94/4)
الإيمان بالله والملائكة
أيها الإخوة في الله: إن الإيمان الصحيح بالله عز وجل يقتضي العلم بمدلول هذا الأصل العظيم، والعمل بمقتضاه إثباتاً ونفياً، أما الإيمان بملائكة الله فيتضمن الإيمان بهم جملةً وتفصيلاً، فيعتقد المسلم بأن لله ملائكةً خلقهم لطاعته، وهم كما وصفهم سبحانه: {عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26 - 27].
وهم أصنافٌ كثيرة لكل منهم عملٌ موكل به، ونؤمن على سبيل التفصيل بمن سمى الله ورسوله منهم، كجبريل وميكائيل وغيرهما عليهم السلام.(94/5)
الإيمان بالكتب والرسل
وكذلك الإيمان بالكتب والرسل إجمالاً وتفصيلاً، فنؤمن بأن لله كتباً ورسلاً، ونؤمن بمن سمى الله على سبيل التفصيل، فمن الكتب: التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، ومن الرسل: نوحٌ وهودٌ وصالحٌ وإبراهيم وموسى وعيسى، وغيرهم عليهم وعلى نبينا محمدٍ أفضل الصلاة والسلام.
وأهم مقتضيات الإيمان بكتب الله ورسله، وخاصةًً القرآن المنزل على نبينا المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم، الوقوف عند ما جاء به الكتاب والسنة، ولزوم المنهج الذي رسماه، والصراط الذي بيناه، فعلاً للأوامر واجتناباً للنواهي.
أما الذين يدعون التصديق بالقرآن والإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم وهم يخالفون سنته، ويجهلون سيرته، ويرتكبون ما نهى القرآن والسنة عنه، وقد يحدثون في شرع الله ما لم يأذن به الله، ويزيدون فيه ما لم يشرعه رسول الله، فهؤلاء بحاجةٍ إلى تجديد إيمانهم، وتصحيح منهجهم، إن أرادوا سلوك طريق الإيمان الموصل إلى جنة الله ورضوانه.(94/6)
الإيمان باليوم الآخر
إخوة الإيمان: وخامس أركان الإيمان: الإيمان باليوم الآخر: ويدخل في ذلك الإيمان بكل ما أخبر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم، مما يكون بعد الموت، كفتنة القبر وعذابه ونعيمه، وما يكون يوم القيامة من الأهوال والشدائد، وما في الآخرة من الصراط والميزان والحوض والجنة والنار، ونحو ذلك، فيجب الإيمان بذلك إيماناً حقيقياً يورث العمل لهذا اليوم العصيب، وينمي الزهد في الدنيا، ويحذر من الاغترار بها، كما يدفع إلى الاستعداد بالعمل الصالح لظلمة القبر وأهوال يوم القيامة، والأخذ بأسباب دخول الجنة، والبعد عن الطرق الموصلة إلى عذاب الله وناره.(94/7)
الإيمان بالقدر خيره وشره
أما الإيمان بالقدر: فيتضمن الإيمان بأمورٍ أربعة:
أولها وثانيها: علم الله سبحانه بكل شيء، وكتابته لما قدره وقضاه، قال تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} [الحج:70].
الثالث: الإيمان بمشيئة الله النافذة، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
الرابع: خلقه سبحانه لجميع الموجودات، فلا خالق غيره ولا رب سواه، والإيمان بالقدر يقتضي التسليم بأمر الله، والرضى بقدره، والصبر على ذلك ابتغاء ثواب الله.
هذا مجمل الإيمان بالله وأصوله.(94/8)
شعب الإيمان
وكما أن للإيمان أركاناً وأصولاً، فله شعبٌ وأجزاء، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الإيمان بضعُ وستون شعبة، أعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق والحياء شعبةٌ من الإيمان} متفق عليه.
وكل امتثال لأوامر الله واجتناب لنواهيه في العقيدة والعبادة والخلق والمعاملة والسلوك والآداب، ونحو ذلك، يعد من شعب الإيمان المقربة إلى الله سبحانه، ونصيب العبد من الإيمان، بقدر نصيبه منها قلة وكثرة، قوةً وضعفاً، تكميلاً ونقصاً.(94/9)
نماذج إيمانية
أمة الإيمان: بهذا المفهوم الحيوي الشامل للإيمان التزم الرعيل الأول، وبتطبيقه حصلت لهم العزة والسيادة والقوة والنصر والمجد والسعادة، وكم في تاريخهم الحافل بالأمجاد من أمثلةٍ وشواهد على قوة الإيمان، ويأتي في مقدمة الشواهد إيمانُ قدوتنا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وخلفائه الراشدين، وصحابته الأكرمين.
وما إيمان خبيب وبلال ومصعب وآل ياسر إلا سببٌ وراء ثباتهم على ما لاقوه من الشدائد، وما عدل عمر بن عبد العزيز، وثبات الإمام أحمد يوم المحنة، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وغيرهم من الأعلام إلا دليلٌ على ما يصنعه الإيمان من العجائب، إذا خالطت بشاشته القلوب، الله المستعان! أين نحن من هؤلاء؟!(94/10)
تحقيق الإيمان
ما أجدرنا -معشر المؤمنين- أن نحقق الإيمان الصحيح، ونحن في زمن ضَعُف فيه الإيمان، وكثرت الصوارف عنه، وبذل دعاة الكفر والإلحاد جهودهم لإبعاد المسلمين عن مصدر عزهم، وسبب سعادتهم وحضارتهم ألا وهو الإيمان، حتى ذابت عند كثيرٍ من المسلمين، وفي كثيرٍ من مجتمعاتهم شخصيتهم الإيمانية، وما مظاهر الانحراف والمعاصي إلا شواهد على ذلك، فحذار -يا أمة الإيمان- من التفريط في هذا الأمر العظيم، لنفكر في حالنا، ولنحاسب أنفسنا، من منا حقق الإيمان الصحيح؟! ومن منا التزم بصفات أهله؟!
والله لن يعود للمسلمين ما كانوا عليه، ويحققوا ما يصبون إليه إلا بالتربية السليمة للأنفس والأسر والأبناء والمجتمع على ضوء الإيمان الصحيح، وتلك مهمة كل مسلم، على حسب القدرة والمكانة، فلا تمكين في الأرض، ولا حياة آمنة إلا بالإيمان، ولا نصر ولا قوة ولا تضامن إلا به، وتلك حقيقةٌ يجب أن يعيها المسلمون اليوم، ويعملوا على ضوئها ويسيروا على هداها، ليحسن لهم عز الدنيا وسعادة الآخرة.
اللهم إنا نسألك الإيمان، والعفو عما سلف وكان، من الذنوب والعصيان، اللهم حبب إلينا الإيمان، وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(94/11)
الإيمان بالله والعمل الصالح
الأعمال الصالحة في ديننا عظيمة وكثيرة، والأجر عليها عظيم وجليل وكثير، والعمل الصالح سبب للفوز والنجاح والنعيم في الدنيا والآخرة.
وقد حثنا الله سبحانه وتعالى على الأعمال الصالحة بأمور ذكرها في كتابه الكريم، وهناك أيضاً بعض الذنوب التي أصيبت بها الأمة بسبب ترك العمل الصالح.(95/1)
العمل الصالح سبب النعيم في الدنيا والآخرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه، وصفوته من رسله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ورضي الله عن الخلفاء الراشدين، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام: ويا أتباع محمد -صلى الله عليه وسلم- خير الأنام! اتقوا لله تعالى بعمل الصالحات واجتناب المحرمات، واعلموا -رحمكم الله- أن الحياة الطيبة الآمنة والعيشة الراضية السعيدة لا تحصل إلا بالإيمان والعمل الصالح، قال عزَّ وجلَّ: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وقال سبحانه: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
وما يحصل من بلاء وخوف ورعب وإخلال بأمن الأمة وأفرادها إنما مرده إلى ضعف الإيمان أو فقدانه، وتلك سنة الله {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62] {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} [فاطر:43].
أيها المسلمون: إن الأعمال الصالحة هي حصيلة العبد التي يخرج بها من هذه الدنيا، وعليها يترتب مصيره في الآخرة.
أخرج البخاري ومسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يتبع الميت ثلاثة: أهله، وعمله، وماله، فيرجع اثنان ويبقى واحد، يرجع أهله وماله ويبقى عمله} يرجع الأهل والأقربون، والأصحاب والبنون، وترجع الأموال الطائلة، والقصور الواسعة، والمراكب الفارهة، والمناظر الفاخرة، وقد تكون وبالاً على أصحابها، ويبقى مع العبد في الحفرة الضيقة واحد ولا شيء غيره، ذلك هو العمل الصالح.
فالعمل -يا عباد الله- هو صاحب الإنسان في قبره، يُنَعَّم به إن كان صالحاً، ويُعَذَّب به إن كان غير ذلك.
وقد ورد في الحديث عن البراء بن عازب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن العمل الصالح يأتي صاحبَه في القبر بصورة رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك، فيقول الميت: من أنتَ فوجهك الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح.
وأما العمل السيئ: فيأتي صاحبه في القبر بصورة رجل قبيح الوجه، قبيح الثياب، منتن الريح، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هذا يومك الذي كنت توعَد، فيقول: من أنت فوجهك الذي يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث.
فأين الناس اليوم عن هذه العبر؟!
إن المتأمل في واقع كثيرٍ من المسلمين يعود جريح الفؤاد، حزين النفس؛ لما يرى من تفاقم الأعمال السيئة، وانتشارها في مجتمعات المسلمين، فهذه ضروب الإشراك بالله، والبدع في الدين، وهذه كبائر الذنوب والمعاصي تُرتَكب ممن ينتسبون إلى الإسلام: كالقتل، والزنا، والربا، والسرقات، والظلم، والمسكرات، والمخدرات، وإضاعة الجُمَع والجماعات، والعكوف على المُلهيات والمغريات، وكذلك التبرج والسفور، وقلة الحياء، وإبداء الزينة، والاختلاط، كل هذا موجود بين المسلمين والمسلمات.(95/2)
أمور حثنا الله بها على العمل الصالح
اتقوا الله -يا أمة الإسلام- واعملوا صالحاً، فقد نَدَبَكم ربكم تبارك وتعالى إلى العمل الصالح بأساليب متعددة:
فتارة: بالأمر الصريح به.
وأخرى: بذكر مصير أهله في الآخرة وحالهم في الدنيا.
وتارة: بتعليق الجزاء به، قال تعالى: {وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس:54].
وتارة: يخبرنا باطِّلاعه على أعمالنا، كما قال تعالى: {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون:51].
وأخرى: يخبرنا أنه وكَّل بنا حَفَظَة يكتبون أعمالنا.
وتارة: يخبرنا أننا قادمون عليه، فنجد ما عملناه يوم القيامة ونراه ونقرؤه.
وتارة: يخبرنا بأن الإنسان يعمل لنفسه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت:46] إلى غير ذلك من الأساليب المتناثرة في القرآن المجيد، وهي جلية لمن تدبر كتاب الله.
فعليكم -عباد الله- بالتزود من الأعمال الصالحة ما دمتم في زمن الإمهال، واحذروا ما يعوقكم عن الأعمال الصالحة، كالنفس الأمارة بالسوء، والشيطان الرجيم، وأعوانه من الجن والإنس، وأهوائهم وشبهاتهم وأمانيهم، والدنيا الدنية وشهواتها.
عباد الله: توبوا إلى ربكم توبة نصوحاً، وداوموا على الأعمال الصالحة التي عملتموها في شهر رمضان، وإياكم والإعراض بعد الإقبال، والغفلة بعد الطاعة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وأجرنا من العذاب الأليم, وثبِّتنا على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه يغفر لكم، وتوبوا إليه يتب عليكم، إنه هو التواب الرحيم.(95/3)
الحج من أعظم الأعمال الصالحة
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ.
إخوة الإسلام: إن من نعم الله عليكم أن والى أوقات الفضائل ومواسم الخير والرحمة؛ لتكون فرصة للطائعين؛ ليتزودوا من الأعمال الصالحة، وللمذنبين؛ ليتوبوا إلى ربهم، ويعودوا إلى رشدهم.
إنه لما انقضى شهر رمضان المبارك دخلت أشهر الحج إلى بيت الله الحرام، ذلك الركن العظيم من أركان الدين، من أتى به على الوجه الشرعي رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فالحمد لله الذي هيأ لعباده هذا الفضل العظيم {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
فالسعيد -يا عباد الله- مَن وُفِّق لاغتنامها بطاعة الله، والشقي من ضيعها بالغفلة والإعراض عن الله.
ألا وصلوا على خير البرية، وهادي البشرية محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه.
وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر من نصر الدين، واخذل من خذل المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم احفظ علينا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، اللهم احفظ علينا إيماننا وأمننا، يا رب العالمين.
اللهم وفق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما تحب وترضى.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، اللهم اجعل ولاية المسلمين فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك، يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، اللهم ألف بين قلوبهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به دينك يا رب العالمين، اللهم هيئ له البطانة الصالحة، اللهم هيئ له البطانة الصالحة، يا أرحم الراحمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم أرنا بأعدائك عجائب قدرتك، يا رب العالمين، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يُرد عن القوم المجرمين.
اللهم أصلح شباب المسلمين ونساءهم، اللهم أصلح قادتهم وعلماءهم، يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(95/4)
الإيمان بالله
رتب الله تعالى على الإيمان والعمل الصالح حصول سعادة الدارين، والإيمان الراسخ في القلب هو الذي يثمر عملاً صالحاً وقولاً سديداً، فليس الإيمان بالادعاء ولكن ما حمل الإنسان على فعل المأمور وترك المحظور، وهذا هو الذي تحلى به السلف الصالح فكان لهم من العزة والنصر والفتح والتمكين ما سطره التاريخ وشهد به العدو قبل الصديق.(96/1)
صلاح الدارين بالإيمان والعمل الصالح
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونستغفره، ونؤمن به ولا نكفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ومن نزغات الشياطين، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق على فترة من الرسل، وقلة من العلم، وضلالة من الناس، وانقطاع من الزمان، ودنو من الساعة، وقرب من الأجل، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، من يطع ورسوله؛ فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله؛ فقد غوى وضل ضلالاً بعيداً.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه، والتزم شريعته، وترسم خطاه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أوصيكم -أيها المسلمون- بتقوى الله، فإن خير ما أوصى به المسلم أخاه المسلم أن يحضه على الآخرة، ويأمره بتقوى الله، فإن تقوى الله -يا عباد الله- عون صدقٍ على ما تبغون من أمور الآخرة.
أيها المسلمون في هذه البقعة الطاهرة: أمة الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها! لقد أمركم الله تبارك وتعالى بالإيمان به وتوحيده، والكفر بما سواه، ورتَّب على الإيمان والعمل الصالح سعادة الدارين، وحصول الحسنيين، قال الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
كما رتَّب على العصيان وتعدي حدود الله الشقاء، والعذاب والضلال في العاجل والآجل، قال سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14] وقال: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36].(96/2)
حقيقة الإيمان النافع
إخوة العقيدة والإيمان! إن الإيمان عقيدةٌ راسخةٌ في القلب، تنتج قولاً سديداً، وعملاً صالحاً، فهو قولٌ باللسان، واعتقادٌ بالجنان، وعملٌ بالجوارح والأركان، فليس الإيمان بالتحلي، ولا بالتمني، ولا بالادعاء والتسمي، ولكن ما وقر في القلب ورسخ فيه، وصدقته الأعمال بفعل الطاعات واجتناب المعاصي، إنه التصديق بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، قال تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285] وقال عز من قائل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:136].
وأخرج الإمام مسلم عن عمر رضي الله عنه حديث جبريل عليه السلام، حينما جاء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في صورة رجل يسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان، والساعة وأماراتها، قال له: {أخبرني عن الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره}.
أيها المسلمون! إن الإيمان الصادق المنبعث من القلب يدعو إلى كل خير، ويُحذِّر من كل شر، يدعو إلى عمل الطاعات واجتناب المنكرات، يدعو إلى حب الله ورسوله، والإخلاص في توحيد الله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، يدعو إلى لزوم صراط الله المستقيم، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ البدع والمحدثات التي استحسنها من لا خلاق لهم.
والإيمان الصادق يدعو إلى إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله، والجهاد في سبيل الله، يدعو إلى الجد والمثابرة والمصابرة، وحبس النفس على ما تكره من طاعة الله، ومنعها عما تحب من معصية الله، ولو كان الإيمان ألفاظاً تردد بالألسنة، بدون وعيٍ لها وصدقٍ فيها، إذاً لادعى كل أحدٍ الإيمان، ولكان المنافقون -الذين هم في الدرك الأسفل من النار- مؤمنين، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8] وقال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].(96/3)
إيمان السلف سطَّر التاريخ نتائجه
ولهذا أمر الله المؤمنين -وهم مؤمنون بالله- بالإيمان، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ} [النساء:136] ويوم كان المسلمون متمسكين بدينهم وعقيدتهم، وقد صدقوا في إيمانهم قولاً وعملاً، حصل لهم ما حصل مما سطره التاريخ الإسلامي وشهد به العدو قبل الصديق من عزة وفتح، ونصر وقوة، ويوم تخلى كثير من المسلمين عن الصدق في الإيمان واكتفوا منه بالاسم، وضعف الإيمان في نفوسهم؛ تفرقت كلمتهم، وتحكمت فيهم أهواؤهم، وسلط عليهم أعداؤهم، وانتشرت بينهم الفتن والمنكرات، وكثر دعاة الضلال، والتبس الحق بالباطل، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فكل بلاء وفتنة، وكل مشكلة ومعضلة إنما سببها فقد الإيمان، أو ضعفه من المنتسبين إليه، وما أصيب المسلمون اليوم بأشد مما أصيبوا به من قسوة القلوب، وضعف الإيمان، وانخداعهم بأنفسهم إلا حين اكتفوا من الإيمان باسمه.
إنَّ من فكر في حياة المسلمين اليوم، وتأمل واقعهم اليوم، وجد كثيرين منهم مسلمين بلا إسلام، ومؤمنين بلا إيمان، إلا أن يشاء الله.
فاتقوا الله -عباد الله- وعودوا إلى دينكم، واصدقوا في إيمانكم، فإنه والله لا سعادة ترتجى، ولا خير يبتغى، ولا عز يرتضى إلا بالإيمان الصادق بالله عز وجل، الذي تنعكس آثاره على أهله، وبغير ذلك فالخسارة كل الخسارة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
اللهم حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداةً مهتدين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(96/4)
علامات أهل الإيمان وصفاتهم
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمه، واعلموا أن للإيمان علامات، ولأهله صفات، فاتصفوا بصفات المؤمنين لتحصلوا على ثواب أهل الإيمان، وكتاب الله عز وجل مليء بذكر أوصاف المؤمنين لمن تأمله وتدبره، أذكر منها على سبيل المثال لتقارنوا بينها وبين حالكم اليوم، فتحكمون على أنفسكم هل أنتم منهم، أم مقصرون في واجبكم؟
قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:3 - 4].
وقال سبحانه وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون:1 - 6] إلى قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [المؤمنون:8 - 11].
وقال تعالى فيهم: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112].
هذه جملة من صفات المؤمنين، فبالله عليكم -أيها المسلمون- من منا بهذه المثابة؟! ومن منا حقق هذه الصفات أو بعضها؟!
من منا إذا ذُكر الله وجل قلبه خوفاً من الله وتعظيماً له؟!
من منا إذا تليت عليه آيات الله، زادته إيماناً واستبشر بها؟!
من منا قام بتحقيق التوكل على الله والاعتماد عليه، وعدم التعلق بالمخلوقين؟!
من منا أقام الصلاة على الوجه المطلوب؟!
من منا قام بالإنفاق في سبيل الله مما رزقه الله؟!
من منا قام بهذه الصفات؟! الكل مقصر، والكل غير قائم بما يجب عليه من حقوق الله، أو حقوق عباد الله، فلا حول ولا قوة إلا بالله! أسأل الله تعالى أن يوقظ المسلمين من سنتهم.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم ارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين! اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم احفظ علينا عقيدتنا، اللهم احفظ علينا أمننا وإيماننا، اللهم من أراد بنا وأراد بعقيدتنا سوءاً، فأشغله في نفسه، ورد كيده في نحره، اللهم عليك به عاجلاً غير آجل يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا وولي عهده، وسائر ولاة أمورنا وعلمائنا لما يرضيك، وجنبهم أسباب سخطك ومعاصيك، اللهم وفقهم لنصرة الحق وأهله، ودحر الباطل وأهله يا رب العالمين! اللهم منَّ على المسلمين جميعاًً بصلاح أحوالهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(96/5)
البيت العتيق ووفود الرحمن
الحج فريضة من أعظم فرائض الدين، شرع الله فيها عبادات جليلة، ومناسك عظيمة، وجعل فيها مرامي سامية، وحكم كثيرة، ومن أجَلِّ تلك المقاصد ترسيخ العقيدة والتوحيد في النفوس؛ بإفراد التوجه لله تعالى.
وكذا يأخذ المسلم في ظل هذه الفريضة ترك الاعتداد بالفوارق، كاللغات والألوان، والأجناس والبلدان فبه تجتمع المشاعر وتتوحد الصفوف؛ فهو طريق إلى التضامن والتكاتف.(97/1)
مرامي الحج السامية
الحمد لله الملك القدوس السلام، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له فرض على عباده حج بيته الحرام، ورتب على ذلك جزيل الأجر والإنعام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأنام، وخير من صلى وزكى وحج وصام، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام: ويا حجاج بيت الله الحرام! اتقوا الله جل وعلا، واشكروه على ما هداكم للإسلام، وشرع لكم من مواسم الرحمة والغفران.
عباد الله: في هذه الأيام المباركة، تشرئب الأعناق وترنوا الأبصار، وتنجذب القلوب، وتتجه الأنظار، وتهوي الأفئدة وتطلع النفوس المسلمة إلى هذه البقاع الشريفة، التي هيأها الله لعباده، واختارها لتكون عرصاتها محلاً للمناسك، فهذه قوافل الحجيج، وطلائع وفود الله، أتت من كل فج عميق، أتوا عبر القارات والبحار، وقطعوا الفيافي والأجواء والقفار، ليشهدوا منافع لهم، يدفعهم الإيمان وتقودهم الرغبة، ويحدوهم الشوق، ويحفزهم الأمل فيما عند الله جل وعلا، استجابة لأمر الله سبحانه على لسان خليله عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:26] {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] ومصداقاً لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه} أخرجه في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة}.
فهنيئاً لكم -يا حجاج بيت الله الحرام- سلامتكم ووصولكم، وتيسر قدومكم، وحصول مأمولكم.(97/2)
الحج وترسيخ التوحيد
إخوة الإسلام حجاج بيت الله الحرام: الحج عبادة من أعظم العبادات، له من الشروط والأركان والواجبات ما يجب على كل من أم هذا البيت أن يعلمه ويعمل به؛ ليقبل حجه عند الله سبحانه، كما أن له من المقاصد والمنافع والحكم والآداب ما ينبغي لكل حاج أن يستشعره؛ ليحصل له بر الحج، ويعود بشيء من منافعه وآثاره.
فأهم المقاصد والغايات، وأعظم الحكم والواجبات في ذلك، أن يكون الحج منطلقاً لإعلان التوحيد الخالص لله، فلا أنداد ولا شركاء، ولا شفعاء ولا نظراء، (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك) وأن يكون مرتكزاً لتجديد دعوة إبراهيم عليه السلام، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعوة إلى الحنيفية السمحة، التي لا تعلق لها إلا بالله وحده، استسلاماً لله، وانقياداً لعقيدة التوحيد، وإذعاناً لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وبراءة من كل مبدأ يخالف نهج الكتاب والسنة، ومن كل عقيدة لم يكن عليها سلف هذه الأمة.
أمة الإسلام: ضيوف الرحمن! وفود الملك العلام: إن القاعدة التي تبنى عليها العبادات، والأصل الذي ترتكز عليه الأعمال، وبدونه تكون هباءً منثوراً هو أساس هذا الدين، تحقيق التوحيد لله رب العالمين، وإن محادة الله بإشراك غيره معه، أظلم الظلم وأضل الضلال، فيجب على كل مسلم يرجو ثواب الله، ويخاف عقابه، ويحب نجاته يوم العرض على الله، أن يعلق آماله بالله وحده، وينبذ كل من سواه كائناً من كان، فلا بد من وقفة حازمة مع النفوس.
أيها الحجاج! ألم تقرءوا آيات الحج الواردة في كتاب الله عز وجل، وتتأملوا أعمال الحج من الطواف والسعي والتلبية والرمي وما إلى ذلك؟
إنها تؤصل في النفوس المسلمة هذا الأساس العظيم، كلها تدور حول إفراد الله بالعبادة، والتحذير من الإشراك به، اقرءوا إن شئتم قوله سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] وقوله عز وجل: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:30 - 31] وقوله جل وعلا: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا الآيات} [الحج:34].
فهي دعوة من الله سبحانه، ودعوة رسله عليهم الصلاة والسلام، ثم دعوة كل مؤمن وموحد أن تستلهم صحة العقيدة، وسلامة التوحيد، وإخلاص الدين لله من هذه الآيات الكريمة، وهذه العبادة العظيمة، وإن توجه العبد الضعيف إلى غير الله في سؤال أو دعاء أو ذبح أو توسل أو استغاثة، أو ادعاء أن أحداً من دون الله يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، أو يشفع من دون الله، لهو من مصادمة الفطرة، ومخالفة الملة، ومجانبة العقيدة والسنة: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:44] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
إخوة الإيمان! إن في الحج ولاءً خالصاً لله، وانقياداً تاماً لدين الله، لا مجال فيه لدعوة غير الله، وإعلان ولاءات لغير الله، ورفع هُتافات وشعارات مخالفةٍ لشرع الله، وعمل تجمعات وتظاهراتٍ تخرج بالحج عما شرع الله، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(97/3)
الحج ودروس الوحدة والتضامن
يا أمة محمد عليه الصلاة والسلام! إن على الأمة الإسلامية -وهي على أبواب هذا الموسم العظيم- أن تعمل بجد وصدق للخروج من المحن والمصائب التي ابتليت بها، فطالما بكى الباكون، وتحدث الغيورون عن الأحوال المزرية التي يمر بها عالمنا الإسلامي.
أما آن لنا معشر المسلمين، أن نأخذ من هذا التجمع الإسلامي العظيم الدروس والعبر في الوحدة والتضامن، والبعد عن الفرقة والتشاحن، وهو يجمع المسلمين وإن بعدت الديار، ونأت الأقطار، وتباينت الألسن واللغات، واختلفت الألوان والجهات، يجمعهم على دين واحد، ومنهج واحد، في مكان واحد وزمان واحد، وهدف واحد، لتكون الانطلاقة لحل مشكلات الأمة المتأزمة، مهانةً وضعفاً، فرقةً واختلافاً، من هذا المكان المبارك، مهبط الوحي ومنبع الرسالة، الذي انطلقت منه عقيدة التوحيد ودعوة الإسلام، ورسالة الخير والسلام، لتعم جميع الأصقاع والأنام، وبذلك تتحقق أكبر منافع الحج بأذن الله، وإنها والله رسالة عظيمة، وأمانة جسيمة، في عنق كل حاج، يمثل لبنة في هذا المجتمع الإسلامي الكبير، فيشاطره آماله وآلامه، ويشاركه أفراحه وأتراحه.
ألا ما أمس حاجة الأمة الإسلامية اليوم، وهي تواجه أعتى التحديات وأبشع المؤامرات، ما أحوجها وهي تتوجه هذه الأيام نحو محورها الذي يجمعها، وتلتف حول راية واحدة، وقبلة واحدة، تتلاشى في ظلها فوارق اللغة والألوان، والأجناس والبلدان، في وحدة تجمع الشعائر والمشاعر، وتربي القلوب والقوالب، ما أحوجها أن تستلهم الحكم والآثار، من هذه الفريضة العظيمة، وتستيقن يقيناً لا يعتريه شك ولا مراء، بأنه لا يلم الشمل ويجمع القلوب، ويوحد الصف والدروب، إلا الاجتماع على راية واحدة لا ثاني لها، هي راية الإسلام على ضوء الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة رحمهم الله.
فلواحد كن واحد في واحد أعني سبيل الحق والإيمان
أمة الإسلام: إنه لا بد من إعداد العدد، وتنسيق الخطط، وتوحيد المناهج، والعمل لكل ما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، تحقيقاً لكلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وإن واجب القادة والعلماء، والدعاة والزعماء، والمعنيين بقضايا التربية والتعليم، من حملة الأقلام ورجال الإعلام، والمهتمين بالفكر والرأي والإصلاح في ذلك عظيم وكبير.(97/4)
نداءات لحجاج بيت الله الحرام
يا حجاج بيت الحرام! يا من تجشمتم الصعاب، وركبتم المشاق تريدون ما عند الله! اعقدوا العزم على الأخذ بمنافع هذه الفريضة العظيمة، التي تعجز مؤتمرات الدنيا واجتماعاتها ولقاءاتها، أن تحقق ولو شيئاً يسيراً من منافعها أو تقاربها في أهميتها ومكانتها، زماناً ومكاناً، فوائد وآثاراً؛ لأنها لله وفي الله وفي سبيل الله.
فالحذر الحذر من استغلالها لترويج شعارات، أو توزيع منشورات تخالف شرع الله، أو إقحامها في مهاترات سياسية، أو شعارات جاهلية، والله بين حرمه وبين من أراده بسوء: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
والويل كل الويل لمن استغله لأعمال التلصص والسرقة والإجرام، وترويج المسكرات والمخدرات، أو غير ذلك مما يعمد إليه بعض ذوي النفوس الضعيفة، والقلوب المريضة، والهمم الدنيئة.
يا حجاج بيت الله: حققوا العقيدة الصحيحة، وأخلصوا التوحيد لله، واحذروا الشركيات والبدع والخرافات، والشعارات المخالفة للإسلام، فماذا يغني التمسح بالجدران والستور؟! وماذا يجدي التعلق بالتراب وبالصخور؟! جددوا التوبة إلى الله من ذنوبكم.(97/5)
الحج وتذكر مآسي المسلمين
تذكروا -عباد الله- وأنتم تعيشون في الحرمين الشريفين حرسهما الله أن لهما أخاً ثالثاً يستصرخكم، بعدما طال أسره في أيدي شرذمة صهيونية، وحفنة يهودية، من شذاذ الآفاق وحثالة العالم، ذلكم هو المسجد الأقصى المبارك، أقر الله الأعين بفك أسره، وأثلج الصدور بتعجيل تحريره.
تذكروا -يا حجاج بيت الله- وأنتم تعيشون الأمن والآمان والراحة والاطمئنان، مآسي إخوانكم المسلمين في العقيدة، في بقاع شتى من العالم، حيث يعيشون حياة القتل والتشريد والخوف والتنكيد.
ما هي حال إخوانكم في الأرض المباركة فلسطين؟ ما هي أخبارهم في بورما وكشمير؟
ما هي أوضاعهم في الصومال وغيرها من بقاع متفرقة من العالم؟ بل ما هي أحوال إخوانكم في العقيدة في إقليم كوسوفا المسلمة هذه الأيام؟ حيثُ يعيشون مأساة بشعة على يد الصرب الظالمين، فلا تنسوهم من دعواتكم، وما تجود به أنفسكم، أصلح الله أحوال المسلمين في كل مكان بمنه ورحمته وهو أرحم الراحمين.(97/6)
حقوق وواجبات الحجيج
أيها الإخوة الحجاج! ألا إن لكم علينا حقاً، وعليكم واجباً، فحقكم علينا إكرامكم وتقديركم، والسعي في كل ما من شأنه أداء مناسككم بكل يسر وسهولة، كما هو حاصل بحمد الله، ويخطأ من يستغل الحجيج بغلاء فاحش في الأسعار والمآكل والمشارب والمساكن، أو يسيء الأدب معهم، أو يعرضهم للأذى بصورة أو بأخرى، أو ينظر إليهم نظرات مادية صِرْفَة، وتلك تصرفات النشاز لا تحمل على أهل هذا البلد المسلم الكريم المضياف.
ألا إن واجبكم التقيد بالفرائض الشرعية، والأنظمة المرعية، والاشتغال بحجكم، وعدم إقحام أنفسكم في أمور لا تعنيكم، والله يتولى الجميع بعنايته ورعايته ومنه وكلاءته.
تقبل الله منكم يا حجاج بيت الله الحرام، وأعانكم على إتمام مناسككم، وأعادكم إلى بلادكم سالمين غانمين، والله نسأل أن يجعل حجكم مقبولاً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراًً، أعوذ الله من الشيطان الرجيم: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:96 - 97] بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(97/7)
صون الحج عن النواقض والنواقص
الحمد لله الحكيم الخبير، أحمده تعالى وأشكره وهو العليم القدير، سبحانه من إله كريم ورب رحيم، خلق فأتقن، وشرع فأحكم، وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله -يا حجاج بيت الله- واشكروه على ما تعيشونه هذه الأيام، من الأشهر العظيمة والمواسم الكريمة، أخلصوا حجكم لله، ارعوا لهذا البلد الحرام مكانته وقدسيته، وأمنه ونظامه، وإياكم وإساءة الأدب في جواره، بارتكاب شيء من المعاصي، عظموا شعائر ربكم وحرماته: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30]، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
واعلموا -رحمكم الله- أن الواجب عليكم أن تتعلموا وتتفقهوا في أحكام المناسك، لتكونوا على وعي وبصيرة، وبعد عن الخطأ والزلل، وأن تسألوا أهل العلم عما يشكل عليكم: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
معاشر الحجاج الكرام: عاملوا إخوانكم المسلمين معاملة حسنة، احذروا إيذاءهم ومزاحمتهم في الحرم والمشاعر والطرقات، واحذروا سوء الخلق معهم قولاً وفعلا، اجتنبوا اللغو واللهو والرفث والفسوق والجدال بالباطل، تحقيقاً لقوله سبحانه: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197] وتأسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، فهو القائل: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أخرجه مسلم في صحيحه، والقائل: {خذوا عني مناسككم}.
واعملوا -يا رعاكم الله- على بر حجكم ببذل السلام، وإطعام الطعام، وكثرة الطاعات والبعد عن المعاصي، وصون حجكم عن النواقض والنواقص، والمحافظة على عمود الإسلام الصلاة، التزموا الهدوء والأمن والنظام، وتفرغوا لأداء مناسككم، فقد وفرت لكم كافة الإمكانات، وهيأت لكم سائر الخدمات ولله الحمد والمنة، أجواء آمنة، وظلال وارفة، وخيرات متنوعة، وخدمات متعددة، كل ذلك بفضل الله، ثم بفضل ما تبذله قيادة بلاد الحرمين الشريفين وفقها الله، وجعل ذلك في موازين حسناتها، وزادها من الخير والتوفيق بمنه وكرمه، وجعل أعمالها خالصة لوجه الله الكريم.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والحبيب المرتضى، القائل: {خذوا عني مناسككم} كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وحبيبنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وسلم الحجاج والمعتمرين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم اجعله هادياً مهدياً ياذا الجلال والإكرام! اللهم ارزقه البطانة الصالحة، التي تدله على الخير وتعينه عليه، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم لشرعك محكمين، ولسنة نبيك صلى الله عليه وسلم متبعين، ولأوليائك مناصرين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلال والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا هذه خاصة وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك والمستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم عجِّل بنصرهم يا قوي يا عزيز! اللهم انقذ مقدسات المسلمين من اليهود الغاصبين، اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود المعتدين، وفي كشمير على الوثنيين الحاقدين، اللهم انصرهم في إقليم كوسوفا المسلمة على الصرب الظالمين يا ذا الجلال والإكرام يا قوي يا عزيز!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(97/8)
الترغيب في طلب العلم
إن العلم هو النور الذي لا تلحقه ظلمة، والفضيلة التي لا تتبعها رذيلة، فالعلم عليه المعول في بناء الأمم، به تبني الأمة مجدها، وتبلغ غاياتها، وترهب أعداءها.
ولقد حث الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم على طلب العلم، بل عظم مكانته وشرف منزلته، وفضَّل العلماء، وقرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته، وما ذاك إلا لفضل العلم، والعمل به.
ولنا في سلفنا الصالح أسوة حسنة في كيفية طلب العلم والمداومة عليه.(98/1)
بيان أهمية العلم وفضله
الحمد لله الذي جعل العلم النافع طريقاً موصلاً لرضاه، وصراطاً يتبعه من أراد هداه، ويحيد عنه من ضل واتبع هواه، ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدىً من الله، وأشهد أن لا إله إلا الله رفع شأن العلم وأهله حتى وصلوا من المجد منتهاه، ومن العز أعلى ذراه، فمن سلك طريقاً يبتغي فيه علماً؛ سهل الله له به طريقاً إلى جنته وعلاه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الهداة التقاة، ومن سار على نهجه إلى يوم لقاه.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقواه، واعلموا أن دين الإسلام فرض على الأمة التي تعتنقه أن تكون أمة علم وعمل، فبالعلم النافع والعمل الصالح تبني الأمم أمجادها، وتبلغ غاياتها، وتشيد حضاراتها، وترهب أعداءها، وقد أخبر رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: أن الله إذا أراد بالعبد خيراً وفقه للفقه في الدين، وقد أخرج البخاري ومسلم عن معاوية رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خير يفقه في الدين} ودل الحديث بمفهومه على أن من أعرض عن العلوم النافعة فإن الله لم يرد به خيراًً؛ لحرمانه الأسباب التي تنال به الخيرات وتكتسب بها السعادة.
إخوة الإسلام: إن أول ما نزل من كتاب الله، قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:1 - 5] حيث تعتبر هذه الآيات أول صيحة تسموا بقدر العلم، وتنوه بقيمته، وتعلن الحرب على الأمية الغافلة، لما تجره على الإنسانية من شر وفتنة وبلاء، وتجعل اللبنة الأولى في بناء كل فرد، وكيان كل أمة، أن تتعلم أمور دينها ودنياها، وتأخذ بالوسائل الشرعية المفيدة في هذا المجال.
وسما الله عز وجل بدرجات العلماء حتى قرنهم بنفسه وملائكته في الشهادة بوحدانيته، والإقرار بعدالته، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] وقال سبحانه: {يَرْفَعْ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة:11] وقال عز وجل: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وجعل سبحانه العلماء أهل خشيته وتقواه، فقال عز من قائل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ولا غرو فأنىّ للعقول الكليلة والمعارف الضيقة والذوات الجاهلة أن تدرك جلال الكبير المتعال، وتعرف الحق من الباطل، والحلال من الحرام، والهدى من الضلال، والصواب من ضده، والسنة من البدعة، وأنَّى لمن يحيا حياة الأنعام ويعيش عيش الطغام، أن يعبد ربه كما شرع رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يسير على الصراط المستقيم في أمور العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق، وكل ما جاء به الإسلام.
لذلك أعز الله العلماء وآثارهم بكرامته وفضله، وجاءت السنة المشرفة والآثار الصحيحة بترغيب الناس فيه وحثهم عليه، يقول صلى الله عليه وسلم: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} أخرجه مسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه -أيضاً- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له} رواه مسلم.(98/2)
من أقوال السلف في طلب العلم
وقال معاذ بن جبل رضي الله عنه: [[تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية، وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه لمن لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة، وهو الأنيس في الوحدة، والصاحب في الخلوة]].
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: [[كن عالماً، أو متعلماً، أو محباً، أو مستمعاً، ولا تكن الخامسة فتهلك]].
أمة الإسلام: ما أصيب المسلمون اليوم بمصيبة أعظم من الجهل بدين الله، وما ابتلوا ببلية أكبر من الإعراض عن العلم الشرعي رواية ودراية ورعاية، فما الذي سبب انتشار العقائد الفاسدة، والطرق المنحرفة، والبدع المنكرة؛ إلا قلة البصيرة في دين الله، وما الذي جعل المنكرات والمحرمات تظهر في مجتمعات المسلمين؛ إلا الإعراض عن دين الله عز وجل.(98/3)
أول واجب يتعلمه المسلم
إن أول أمر يجب على المسلم أن يعلمه ويتعلمه هو توحيد الله، ومعرفة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومعرفة دين الإسلام بالأدلة، كما أن المسلمين اليوم مطالبون بمعرفة كل ما يفيدهم في أمور دينهم ودنياهم؛ ليستطيعوا قهر أعداء الله وإيقاع الهزيمة بهم.
ولن ينكشف وينجلي ما حل بالمسلمين اليوم في عقائدهم، ومعاملاتهم، وأخلاقهم، وبلادهم، إلا بإحياء علوم الدين الإسلامي الحنيف، وجعلها ركيزة وأصلاً يبنى عليها غيرها من العلوم الأخرى، ولعل أبناء المسلمين الذين يحصدون هذه الأيام زرع عام دراسي كامل، ويجنون ثماره، يتنبهون لهذه الأمور والحقائق، فيخرجون متسلحين بالعلوم النافعة؛ لينصروا دينهم وينفعوا أمتهم، ولن يتم ذلك إلا بمعرفة قيمة الوقت، والاجتهاد في الطلب على الدوام، والإخلاص لله فيه، وابتغاء ثوابه، وصيانة العلم عن الأطماع الدنيوية، والمقاصد الدنية التي فشت في أهل الطلب اليوم، والله المستعان!
اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح، اللهم امنحنا الفقه في الدين يا رب العالمين!
اللهم إنا نعوذ بك من علم لا ينفع، وقلب لا يخشع، وعين لا تدمع، ودعاء لا يسمع، اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(98/4)
الحث على العمل بالعلم
الحمد لله الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وحبيبه وخليله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وتعلموا أحكام شريعته لطلب العلم النافع؛ فإن العلم نور وهدىً وحياة، والجهل ظلمة وضلال وموت، واعلموا أنكم في زمان تكاثفت فيه غيوم الجهل والفتن، وكادت سحب العلم الصحيح تنقشع، وفي عصر قل فيه أهل العلم المحققون العاملون، وكثر فيه أضدادهم ومخالفوهم ولا حول ولا قوة إلا بالله!
وتذكروا أن أعداء الإسلام لا يفتئون يطعنون المسلمين بحراب التجهيل لهم، وإلقاء الشبهات، وبذر الشكوك بينهم، وإيقاد نار الحيرة والقلق في صفوفهم، ليتمكنوا من إبعادهم عن العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واعلموا أن ثمرة العلم العمل به، فلا خير في علم ينقصه عمل، بل هو حجة ووبال على صاحبه والعياذ بالله.
ألا وصلوا على معلم الناس الخير محمد بن عبد الله كما أمركم الله بالصلاة عليه، فقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم وارض عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعدا الدين يا رب العالمين.
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم وفق المسلمين لما تحب وترضى، اللهم وفقهم قادة وشعوباً، علماء وعامة، رجالاً ونساءً شباباً وشيباً، اللهم ارزق الجميع التمسك الصحيح بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا وولي أمرنا لما يرضيك، وجنبه جميع سخطك يا رب العالمين! اللهم انصر به دينك يا أرحم الراحمين! اللهم أيده بالحق المبين، وثبته على الصراط المستقيم يا أرحم الراحمين! اللهم ارزقه البطانة الصالحة يا رب العالمين.
اللهم اغفر لجميع المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، اللهم أهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك ويخذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف يا سميع الدعاء، اللهم بارك لنا في جميع الشهور والأيام، وبلغنا برحمتك شهر رمضان يا رب العالمين.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(98/5)
الجانب العقائدي
لقد بعث الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالعلم والهدى، فدعا إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة وإخلاص التوجه له وتعليق الآمال عليه سبحانه وتعالى؛ فالتوحيد هو أصل الدين وأساسه.
وكان من أهم ما جاء به صلى الله عليه وسلم ليغرس في نفوس الناس مكارم الأخلاق ورفيع الآداب، فقد أمر بالفضيلة والعفاف، ونهى عن الرذيلة والفساد، فالأخلاق هي عنوان مجد الأمم وسرُّ قوَّتها.(99/1)
عظيم النعمة بإكمال الشريعة
الحمد لله الذي منّ علينا بهذا الدين، أكمله لنا، وأتمه علينا قال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] ورضيه لنا شرعةً ومنهاجاً: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3].
أحمده تعالى وهو للحمد أهل، وأشكره وقد وعد الشاكرين بالزيادة والفضل، أشهد أن لا إله إلا الله، بفضله اهتدى المهتدون، وبعدله ضل الضالون، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لهذه الأمة، وبيَّن لها طريق الحق وأمرها بسلوكه، وحذَّرها من طرق الضلالة والغواية، وجاهد في الله حق جهاده فصلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، الذين استقاموا على سنته، ودعوا إلى ملته، ومن سار على نهجهم ولزم هديهم، ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى، واشكروا نعمة الله عليكم بهذا الدين الحق، الذي بعث به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم ليظهره على الدين كله ويهيمن عليه، فأخرج الله به الناس من ظلمات الجاهلية إلى نور الإيمان والإسلام، وأنقذهم من حياة الشرك والظلم والجهل والبغي، بعد أن كانت العقول مكبلةً بالجهالات والأوهام، والنفوس جامحةً إلى الظلم والبغي والوثنية، حتى منّ الله على المؤمنين ببعثة هذا النبي الهادي الأمين، بعثه بالعلم والهدى، فدعا إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وإخلاص العمل له، دعا إلى أن يُعلِّق الإنسان آماله بالله، وبالله وحده، فيتوجه إليه عند الدعاء، ويقصده عند طلب النفع ودفع الضر، وتفريج الكروب، وكشف الخطوب، وشفاء المرضى، وقضاء الحوائج، ولا يملك ذلك إلا الله وحده، وإذا وحد المعبود، توحدت القلوب واجتمعت الكلمة وزالت الضغائن والأحقاد.
كما دعا عليه الصلاة والسلام إلى لزوم الكتاب والسنة، والوقوف عند ما شرعه الله ورسوله، وحذَّر أمته كل الحذر أن تزيغ عن ذلك فتهلك، أو تتبع الأهواء فتضل.
أمة الإسلام: لقد جاء هذا الدين، بخيري الدنيا والآخرة، قاصداً مصلحة العباد في المعاش والمعاد، شاملاً لكل متطلبات الحياة إلى قيام الساعة، فمن تجرأ على التعرض له، أو النيل منه، ورميه بالقصور، والعجز عن حل المشكلات المعاصرة، فقد حاد الله عز وجل، ومن حاده سبحانه؛ فهو الذليل المهين.(99/2)
جوانب عظيمة رعاها الإسلام
أيها المسلمون: الجوانب التي احتواها هذا الدين كثيرة جداً، وكلها خير وحق وهدى، ولكن هناك جانبان عظيمان رعاهما هذا الدين حق الرعاية، وأكثر من ذكرهما في الكتاب والسنة، ولأهميتهما الكبرى، وعظم تساهل الناس فيهما في هذا الزمن، لطول الأمد، وقسوة القلوب، والبعد عن آثار السلف الصالح؛ لزم الحديث عنهما، والترغيب فيهما، ألا وهما: الجانب العقدي، والجانب الأخلاقي.(99/3)
التوحيد أصل الدين وأساسه
أما الأول: فلا يرتاب مسلم أنه أصل الدين وأساسه، وأنه أول دعوة رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وكفى بذلك عنايةً به ورعايةً له، فيجب على المسلم الناصح لنفسه المبتغي نجاتها وسلامتها من عذاب الله، أن يلتزم في هذا الجانب منهج سلف هذه الأمة، أهل السنة والجماعة، إمامهم في ذلك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولاسيما فيما يتعلق بتوحيد العبادة، وتوحيد الأسماء والصفات، فيفرد الله بالعبادة بجميع أنواعها، ويحذر أن يشرك معه غيره، كائناً من كان، فإذا كان الملائكة والأنبياء والصالحون لا يستطيعون دفع ضرٍ أو جلب نفع، فأين عقول الناس، الذين علقوا آمالهم بالجمادات، والتمسوا منها جلب الخير ودفع الشر؟
إنه لمن الغريب حقاً، أن تعبث الأوهام والخيالات بعقول الناس إلى هذا الحد، في عصور الحضارة والتقدم العلمي.
وإنه لمن المؤسف جداً، أن أعداء الإسلام قد تمكَّنوا من صرف كثيرٍ من الناس، عن جوهر الإسلام وصفائه ونقائه، وإشغالهم بالأمور الوهمية، والأشياء الخيالية، والشكليات الجاهلية.
أما ما يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات، فالواجب إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، مما دل عليه الكتاب والسنة، من غير تحريفٍ ولا تعطيل، ولا تكييفٍ ولا تمثيل، عملاً بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
كما يجب على المسلمين، أن يحققوا الإخلاص لله، والمتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يقفوا عند حدود الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويحذروا كل الحذر من الغلو والزيادة والجفاء والتقصير، فكل خيرٍ وهدى في اتباع النبي المصطفى، وكل شرٍ وبلاء في تنكب طريقه، والعدول عن نهجه، ولا يزال الناس بخيرٍ ما تمسكوا بالسنة، وابتعدوا عن الأمور المحدثة، لا سيما في أمور العقائد والعبادات؛ لأنها توقيفية، لا تخضع لمستحسنات عقول البشر وأهوائهم، ولا يحتج فيها بأفعال الناس وعاداتهم المخالفة للكتاب والسنة.
ولذا فلا يجوز لأحد أن يخصص شهراً من الشهور، أو ليلة من الليالي، أو يوماً من الأيام بعملٍ شرعي، أو عبادةٍ من العبادات، إلا ما خصَّه الشرع المطهر، وميَّزه الدين الحنيف.(99/4)
التمسك بالأخلاق الحميدة
أمة الإسلام! أما الجانب الأخلاقي! فلا يخفى على كل مسلم أن الإسلام رعى الأخلاق الحميدة والسجايا الكريمة، والصفات الحسنة، كما رعى الفضيلة والعفاف والطهر، وحذَّر من الرذيلة والفساد، وتدهور الأخلاق.
والأخلاق في كل أمة عنوان مجدها، وسر قوتها ونهضتها، وإذا أصيبت الأمة في أخلاقها فقل: عليها السلام، وعلى الحياة العفاء.
وإن المتأمل في حياة الناس اليوم يجد أن الأخلاق الفاضلة قد أفل نجمها أو أوشك، نتيجة السيل الجارف من عوامل نشر الرذيلة في مجتمعات المسلمين، فالزخم الهائل من المجلات المنحرفة، والأفلام الفاسدة التي تضرب على وتر الجنس، وإثارة الشهوة، ولا سيما في نفوس الشباب من الجنسين، حتى وقع كثيرٌ منهم فيما حرم الله عز وجل، وحدّث ولا حرج عن المعاكسات الهاتفية، وحدّث ولا حرج عما يدور ويعرض في المحاكم الشرعية وغيرها من الجرائم الخلقية التي يقع فيها من لا خلاق لهم.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا للخير، ويجنبنا أسباب الشر والمعاصي، إنه جوادٌ كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(99/5)
التمسك بالدين مصدر العزة والقوة
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله تبارك وتعالى، وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وتمسكوا بدينكم مصدر العزة والقوة والغلبة، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي: هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور: محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلاله، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى؛ كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين!
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين، من اليهود وأشياعهم، ومن الملحدين والوثنيين يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا لما يرضيك، اللهم وفقه لما يرضيك، اللهم اجعله هادياً مهدياً، اللهم أدم عليه التوفيق والنعمة يا رب العالمين! اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم مُنّ على المسلمين في كل مكان بصلاح أحوالهم، وصلاح قادتهم وعلمائهم، وشبابهم ونسائهم يا رب العالمين! اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(99/6)
الجهاد في سبيل الله
إن منزلة الجهاد في الإسلام عظيمة، فهو ذروة سنام الإسلام، وأعلى مراتب الإيمان، به تعلو الكلمة وتعز الأمة، وتحمى بيضة ديار الإسلام، وله أربعة أنواع، ولقد ضرب لنا الرسول صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في الجهاد والصبر والمرابطة في سبيل الله؛ واليوم تعود سنة الله في أرضه، فنرى الشعب الأفغاني في جهاده ومرابطته ضد الشيوعية العالمية.(100/1)
مكانة الجهاد في الإسلام
الحمد لله الذي جعل الجهاد في سبيله ذروة سنام الإسلام، أحمده تعالى حمداً كثيراً على الدوام، وأشكره شكراً متوالياً على مر الليالي والأيام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله إمام المتقين وقائد الدعاة والمجاهدين، أرسله بالهدى ودين الحق؛ فبلغ ودعا وبشر وأنذر، ونصح وجاهد، وصبر وصابر، فكانت حياته كلها في الدعوة والجهاد، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين بذلوا أموالهم وأنفسهم في الجهاد في سبيل الله، فرضي الله عنهم وأرضاهم، ومن حمل راية الجهاد في سبيله من بعدهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى.
عباد الله: من حكمة الله عز وجل أن يبتلي عباده في هذه الحياة بوجود الحق والباطل، والخير والشر، والكفر والإيمان، ومن سنته كذلك أن جعل هذه المتناقضات في صراع دائمٍ وتباين مستمر، ولذلك فَمَنْعُ الفساد وكبح طغيان الشر والهواء، والإبقاء على الإيمان والعدل والخير، ضرورة من ضرورات الحياة الإنسانية، ولا يتحقق ذلك ويكون واقعاً ملموساً؛ إلا بحمل راية الجهاد في سبيل الله، ورفع اللواء لإعلاء كلمة الله.
إخوة الإيمان: إن الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ورتبته في أعلى شعب الإيمان، به تعلو الكلمة وتعز الأمة، وتحمى البيضة، وتصان الحرمات، وتحمى الديار، ويطرد الأعداء، ويوهن الألداء، بالجهاد يتم إقرار الحق في نصابه، ويرد البغي والظلم والطغيان، ويكافح الشر والكيد والعدوان.
الجهاد في سبيل الله: هو التجارة المنجية، والصفقة الرابحة، والبضاعة المبشرة، يحوز أهله المخلصون من المنازل أرفعها، ومن المكانة أعظمها، ومن الدرجات أعلاها، فهم الأعلون في الدنيا والآخرة.
أمة الإسلام: لقد حظيت فريضة الجهاد في هذا الدين بالعناية والاهتمام، فتجد عشرات الآيات الكريمة والأحاديث الصحيحة الشريفة تحث على الجهاد وترغب فيه، وتبين ما لأهله من الأجر والمثوبة في الآخرة، والعزة والنصرة في الدنيا، مما لا يخفى على كل ذي بصيرة.
كما جاء الوعيد الشديد على من ركنوا إلى الدنيا، وتثاقلوا إلى الأرض، وعطلوا هذه الفريضة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق} وروى أبو داود بإسناد صحيح عن أبي أمامة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من لم يغز أو لم يجهز غازياً أو يخلف غازياً في أهله بخير؛ أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة} وما ذلك يا عباد الله! إلا لما يسببه ترك هذه الفريضة من تسلط الأعداء وتحكمهم في الأمة، يقتلون أبناءها، ويرملون نساءها، وييتمون أطفالها، ويحتلون ديارها، ويستبيحون حرماتها، فلا يرقبون فيها إلاً ولا ذمة، ولا يرعون فيها عهداً ولا حرمة، فيعم الذل وتسود المهانة، والله عز وجل يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].(100/2)
الجهاد الأفغاني ضد الشيوعية
أمة الجهاد والفداء: حينما أُذكر بهذا الواجب في هذه الفترة العصيبة من تاريخ أمتنا، فإنما أريد حث الخطى والهمم، وإلهاب المشاعر وتحريك الأحاسيس، وبعث الأمل في النفوس لا سيما وبوارق الأمل وفلول التفاؤل تبدو في سماء الواقع وأفق الحياة، يقود زمامها ويرفع لواءها شعبٌ مسلمٌ أبيٌ مجاهد في بقعة عريقة من بقاع عالمنا الإسلامي.
شعب آل على نفسه وعاهد ربه أن يسير في طريق الجهاد؛ حتى يفوز بإحدى الحسنيين، لقد وقف هذا الشعب سداً منيعاً أمام عدو لدود، وزحف حقود، يريد أن يستأصل شأفته، ويقضي على عقيدته، ويحل محلها الكفر والإلحاد، أتدرون يا من تتابعون أخبار إخوانكم في العقيدة من هؤلاء؟! إنهم إخوانكم المجاهدون على أرض أفغانستان المسلمة.
أمة الإسلام: إن المسلمين، وإن تباعدت أقطارهم إخوة في العقيدة، تربطهم رابطة الإيمان، وتجمعهم عقيدة الإسلام، كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وإن واجب الأخوة الإسلامية يقتضي أن يهتم المسلم بأمر إخوانه المسلمين، يتابع أخبارهم، ويشاطرهم آلامهم وآمالهم، ويؤدي ما استطاع من جهد ووقت ومال لتحسين أوضاعهم، وإصلاح أحوالهم.
ولقد تعرض إخوانكم في العقيدة في بلد الأفغان الأشم لأبشع عدوان وحشي، وأشرس هجوم إلحادي، وأخطر زحف أحمر تشنه الشيوعية الحاقدة على دينهم وبلادهم، متحدية بذلك مشاعر المسلمين، ومخالفة للأعراف الدولية ومناقضة للحقوق الشرعية، ولقد تحمل إخوانكم الدمار والخراب، والقصف والتعذيب والتهديد بكل ما تعنيه هذه الكلمات من المعاني القاسية، فها هي بلاد الأفغان جبالها وسهولها، مدنها وقراها، قد تخضبت بالدماء وامتلأت بالأشلاء، وها هي سحب الدخان تتصاعد إلى السماء، وهي تحمل في طياتها شكوى الشيوخ والأطفال والأرامل، الذين لا يعلم حالهم إلا الله، يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، وجباتهم شظايا القنابل، وطلقات المدافع، وقذائف الدبابات، وأزيز الطائرات، وقذائف الأسلحة، حتى قدموا قرابة مليون ونصف مليون قتيل من الأبرياء! وهاجر ما يقارب خمسة ملايين نسمة من الشيوخ، والأطفال، والنساء، والأرامل، والأيتام، والمرضى، والجرحى؛ فراراًُ بدينهم؛ فعاشوا في الملاجئ والمخيمات المتدنية، وهم يقاسون شدة المرض والجوع، وكآبة البعد والغربة، وطوفان الفقر والحاجة، وهاهو فصل الشتاء ببرده القارس، وزمهريره الشديد يظلهم وهم يتقاسمون قطع الخرق لستر عوراتهم، ورغيف الخبز لسد رمقهم، وقطرات الماء لري غليلهم، ومما يزيد أسى المسلم الغيور على دينه أن أيدي الأعداء من مهودين ومنصرين قد امتدت إليهم بطريقة أو بأخرى في غياب المسلمين عن ساحتهم، كما أصبح قرابة مليوني مسلم مشرد بلا مأوى، مساكنهم قمم الجبال وأغوار الكهوف الموحشة.
أما المجاهدون في خنادق القتال وجبهات اللقاء، فإن أوضاعهم تدمى لها القلوب وتقشعر منها الأبدان، بين الخوف والجوع وشدة المؤونة، وتعاقب المتاعب، يقطعون مئات الأميال مشاة حفاة، ومع ذلك كله؛ فلم تلن لهم قناة، ولم تضعف لهم شوكة، ولم تهن لهم عزيمة، صامدون صابرون محتسبون، يبنون بجماجم الرجال سدوداً منيعة لحماية أعراض أمتهم وحرماتها، ويسدون الطريق بجثث الأبرياء أمام الإلحاد والشيوعية التي تريد أن تصل إلى المياه الدافئة في العالم الإسلامي، متخذة أفغانستان معبراً لها، وها هم المجاهدون يسكبون دماءهم كي ترتفع راية الإسلام، وتبقى دوحة العزة والأمان.
قد سطروا بدمائهم الزاكية وأشلائهم المتمزقة عبارات المجد والعزة والقوة، مرت عليهم ثمانية أعوام عجاف وهم على هذه الحالة المبكية، وهاهم يستقبلون بعد أيام قلائل دخول العام التاسع على هذا الاحتلال الغاشم، فماذا قدم المسلمون في كل مكان لنصرة إخوانهم في العقيدة، الذين أحيوا بجهادهم واستبسالهم أمجاد المسلمين الأوائل، في بدر واليرموك والقادسية وحطين وعين جالوت؟ فأين القلوب الرحيمة؟! وأين النفوس الأبية؟! وأين الرحمة الإنسانية والشفقة الأخوية؟!
أين الشعور برابطة الإيمان والإحساس بأخوة الإسلام؟!(100/3)
الواجب على الأمة الإسلامية في الجهاد الأفغاني
إني أستحث في المسلمين غيرتهم ونخوتهم؛ ليتحركوا لمساعدة إخوانهم ويقوموا بنصرة أشقائهم من المجاهدين والمهاجرين؛ حيث النساء الثكالى، والأطفال اليتامى، والأرامل والمعوقين والمشوهين، فلا يحقرنَّ أحدكم شيئاً يقدمه لهم ولو قل، من مال أو عين، أو دعاء صادق، فهم بحاجة إلى دعواتكم المخلصة، ولو أن كل مسلم صرف من كل مرتب يتقاضاه ريال واحداً لاجتمعت الملايين، وهذه لجان جمع التبرعات تفتح أبوبها في كل مكان -الحمد لله- بقبول المساعدة والصدقات والزكوات، ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه، وكيف ينام المسلم قرير العين يتقلب في نعم الله صباح مساء وإخوانه يعيشون حياة القصف والقتل والتشريد؟!
أمة الإسلام: إن المعركة التي يخوضها إخواننا في العقيدة، هي معركة بين الإسلام والإلحاد، فلا بد من التكاتف والتعاون معهم، وكلٌ على ثغر مهم، فولاة الأمر من الحكام والقادة يبذلون جهودهم لانتشال مخالب الإلحاد من أرض أفغانستان المسلمة، ويطالبون بحقوقهم العادلة في المجامع الدولية، والمحافل العالمية، والمؤتمرات الإسلامية.
والعلماء والدعاة يبينون للأمة مكانة هذا الجهاد، ويحثون المسلمين على نصرة إخوانهم، ويشاركون في تصحيح المسار، وتفادي الأخطاء الهامة، ووكالات الأنباء ووسائل الإعلام تعتني بتغطية أخبار المجاهدين بصدق وإخلاص، وتنشرها للمسلمين دون تقصير أو تعتيم، وكل من استطاع تقديم خدمة من الأطباء والخبراء ونحوهم؛ فليقدم ولا يحجم.
أما أثرياء المسلمين فإننا نذكرهم، بأن خير ما أنفقت فيه الأموال هو الجهاد في سبيل الله، وتجهيز الغزاة بما يحتاجونه من عدة وعتاد، وهذا والله هو الذي يبقى لهم ذخراً عند الله حين يتمنون ولو حسنة واحدة، وهذا خير من أن تنفق في البذخ والإسراف والمباهاة، وتبدد هنا وهناك من الوجوه غير الشرعية؛ في الوقت الذي يموت فيه عشرات المسلمين يومياً من الجوع والفقر والحاجة.
فإلى المتاجرة مع الله أيها المسلمون! إلى الصفقة الرابحة أيها الأثرياء! فأنتم مدعوون إلى المساهمة والمرابحة.
يا أمة الإسلام: حيّ على الجهاد بأموالكم وأنفسكم، فصيحات إخوانكم، ونداءات أشقائكم تملأ أفواههم، وقبل ذلك وبعده نداء ربكم جل وعلى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف:10 - 11].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وجعلني وإياكم من عباده المجاهدين، وحزبه المصلحين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(100/4)
أنواع الجهاد
الحمد لله وحده، نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:-
عباد الله: اتقوا الله واعلموا أن للجهاد في الإسلام أفقاً واسعاً، ونطاقاً شاسعاً، وهو أنواع متعددة: بالنفس والقلب والجنان، والدعوة والقول والبيان، والسيف واليد والسنان، والمال والقلم واللسان، والقدوة الحسنة والتربية السليمة، وهو كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله على أربعة مراتب:
جهاد النفس بالعلم النافع والعمل الصالح، وهو نقطة البداية لجهاد الأعداء.
جهاد الشيطان بدفع ما يلقي من الشهوات والشبهات.
جهاد الكفار.
جهاد المنافقين.
وواجب على كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع على قدر المستطاع، وأن يروض نفسه ويعدها إعداداً معنوياً وحربياً للجهاد في سبيل الله، فلن تعاد الحقوق المسلوبة، والديار المغصوبة إلا بذلك، وإنه وإن طال ليل الظلام، وتعاقبت المحن والفتن والآلام؛ فإن ذلك يحمل في طياته بوارق الفجر لغد مشرق إن شاء الله، فكونوا يداً واحدة مع إخوانكم المجاهدين في سبيل الله على أرض أفغانستان وغيرها من بقاع المسلمين.
وإننا حين نذكر جهاد إخواننا في بلاد الأفغان فإننا لا ننسى قضية المسلمين الكبرى، قضية المسجد الأقصى، القبلة الأولى ومسرى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، بل ولا ننسى جهاد إخواننا المضطهدين في دينهم، والأقليات الإسلامية في كل مكان، وضحايا الجفاف والمجاعة في البلاد الأفريقية، ونحث على مساعدتهم ومعاونتهم، وإنه لمن فضل الله على هذه البلاد المباركة حكومة وشعباً وقوفها مع المجاهدين في أفغانستان، ودعمها للحقوق العادلة في كل مكان، فلها من المواقف الطيبة والمشاعر النبيلة والدعم المادي والمعنوي ما شهد به العدو قبل الصديق، وتلك نعمة ينبغي التحدث بها وشكرها وبذل المزيد فيها قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على إمام المجاهدين، ورسول رب العالمين، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين والشيوعيين والملحدين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به دينك، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك وأعلِ به دينك، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
اللهم أقر أعيننا بصلاح أحوال المسلمين في كل مكان يا رب العالمين! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في أفغانستان، اللهم عجل بنصرهم، اللهم اربط على قلوبهم واجمع كلمتهم، وزلزل الأرض من تحت أقدام أعدائهم يا قوي يا عزيز! اللهم أقم علم الجهاد، واقمع أهل الزيغ والكفر والإلحاد، إنك قريب مجيب الدعاء يا رب العالمين!(100/5)
الحث على التمسك بالقرآن
إن القرآن العظيم هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم الذي تكفل الله لمن قرأه وعمل به ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.
ولقد كان السلف الصالح رحمهم الله يقرءون كتاب الله بتدبر وتمعن، وفهم وحضور قلب، وكانوا أشد الناس مسارعة إلى تنفيذ أوامره واجتناب نواهيه.(101/1)
هداية القرآن للبشرية
الحمد لله الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، أحمده تعالى وأشكره، جعل القرآن تبياناً لكل شيء، وهدىً ورحمة وبشرى للمسلمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنزل كتابه هداية للعالمين، ورحمة للمؤمنين، وشفاءً لما في صدور الناس أجمعين.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي كان خُلُقه القرآن يحل حلاله ويحرم حرامه، ويعمل بمحكمه ويؤمن بمتشابهه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين ساروا على نهجه واقتفوا أثره، وتمسكوا بهديه، فعزوا وسادوا وملكوا وقادوا، وقهروا وذادوا، وعلى من عمل عملهم، ولزم سننهم إلى قيام الساعة.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام! ويا أمة القرآن: اتقوا الله تعالى حق تقواه.
عباد الله: لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم، وأنزل عليه خير كتاب لخير أمة أخرجت للناس، يهديهم لأقوم سبيل وأهدى طريق، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن الله، هو الملاذ عند الفتن، وهو المنقذ عند المصائب والمحن، فيه -يا عباد الله- نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبارٍ قسمه الله، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله، ومن التمس العز بغيره أذله الله، ومن طلب النصر بدون التحاكم إليه أرداه الله، هو حبل الله المتين، وهو الصراط المستقيم، لا يزيغ فيستعتب، ولا يعوج فيقوم، لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسن، ولا يَخلق عن كثرة الرد، ولا يشبع منه العلماء، ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أُجر، ومن دعا إليه هدي إلى صراطٍ مستقيم، تكفل الله لمن قرأه وعمل بما فيه، ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، ومن تركه وهجره ونسيه؛ خسر الدنيا والآخرة، ذلك هو الخسران المبين قال عز وجل: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه:123 - 127].
وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته عام حجة الوداع: {وإني تاركٌ فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله وسنتي} أخرجه الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه وأرضاه.
وقد امتن على عباده بإنزال هذا الكتاب العظيم، قال جلَّ جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
وقال سبحانه وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل:89].
وقال سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15 - 16].
وقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:174 - 175].
وقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء:9].
وقال: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].
وقال: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت:44].(101/2)
حال السلف مع القرآن
والآيات في هذا المعنى كثيرة جداً معلومة لكل من قرأ كتاب الله بتدبرٍ وفهم وحضور قلب، كما هي سنة أولئك الأبرار من السلف الصالح الأخيار، رحمهم الله ورضي عنهم، الذين إذا تعلموا منه عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يعلموا معناها ويعملوا بمقتضاها، فتعلموا العلم والعمل معاً؛ أولئك الذين يتقبلون أوامره ونواهيه، فيسارعون إلى تنفيذها أولاً بأول، بدون ترددٍ أو تساهل.
أولئك الذين يأخذونه ويقرءونه معتقدين أنه خطاباً من الله لهم؛ يكلمهم به على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا حملوا راية القرآن قولاً وعملاً فأرهبوا أعداء الله، ونشروا العدل والسلام في أرض الله، وأخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، وحققوا الخير والسعادة للبشرية كلها.(101/3)
كتاب الله هو المخرج من الفتن
إخوة الإسلام: وإننا اليوم لفي زمنٍ كثرت فيه الفتن، وتلاطمت فيه الأفكار والمبادئ، وتحكمت فيه الشهوات، وكثرت الشبهات، وتعددت التساؤلات والتحديات، وكثر دعاة البدع والمنكرات، وإنه لا خلاص من هذا كله ولا تقوية لأزر، ولا رسوخ لقدم، ولا أنسَ لنفس، ولا تسلية لروح، ولا تحقيق لوعد، ولا أمن لانعقادٍ، ولا ثبوت لمعتقد، ولا بقاء لذكرٍ وأثرٍ طيب؛ إلا بأن يتجه المسلمون جميعاً، شعوباً ودولاً، شباباً ودولاً، رجالاً ونساءً، علماء وعامة، اتجاهاً صحيحاً بكامل أحاسيسهم ومشاعرهم، بقلوبهم وقوالبهم، إلى كتاب الله تلاوة وتدبراً، وتعلماً وعملاً وتطبيقاً.
فهو المعين العذب الصافي الذي لا ينضب ولا يأسن أبداً، والكنز الوافر الذي لا يزيده الإنفاق إلا جدة وكثرة، ولا تكرار التلاوة إلا حلاوة ورغبة، بيد أنه لا يمنح كنوزه إلا لمن أقبل عليه بقلبه، وألقى سمعه وهو شهيد، وإننا اليوم في عصر وفي زمانٍ أعرض فيه كثيرٌ من الناس عن القرآن، فمن تأمل حياة كثيرٍ من الناس اليوم وجد أنها لا تمُت إلى القرآن بصلة، ولا تتصل به والعياذ بالله! فما أكثر المخالفات الموجودة، وما أعظم الواجبات المفقودة!
سبحان الله! أين المسلمون اليوم عن هذا القرآن العظيم؟ أين شباب المسلمين عن هذا الكتاب الكريم؟ إنهم استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
أين النساء المسلمات من تعاليم القرآن التي تحث على الحجاب ولزوم الحياء ولزوم الحشمة، وتحذر من التبرج والسفور والاختلاط؟!(101/4)
أنواع هجر القرآن
ٍالواقع والحقيقة -يا عباد الله- أنه سبق فينا قوله تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} [الفرقان:30].
وهجر القرآن كما قال العلامة ابن القيم رحمه الله: يشمل هجر سماعه والإيمان به، وهجر الوقوف عند حلاله وحرامه وإن قرأه وآمن به، وهجر تحكيمه والتحاكم إليه في أصول الدين وفروعه، وهجر تفهمه ومعرفة ما أراد الله منه، وهجر الاستشفاء به من جميع أمراض القلوب، وكل أنواع الهجر هذه متحققة ويا للأسف في واقع الناس اليوم!
إن الذين يقرءون كتاب الله ويصرون على مخالفته، بل قد يزيدون في دين الله ما ليس منه من البدع والمحدثات، ليسوا بمؤمنين به على الحقيقة، وإن زعموا ذلك ألف مرة، وإن قرءوه في أعمالهم كلها.
أين الذين يتعاملون بالمحرمات كالزنا، والربا، وقتل النفس بغير حق، والسرقة، والغش، والظلم، والكذب، والغيبة والنميمة، وساقط القول والعمل، وغيرها من المحرمات، أين هم من الإيمان بالقرآن؟ أين الذين يتركون الواجبات، ويتساهلون في المأمورات، كالصلوات، والزكاة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والإحسان إلى المساكين؟
أين هم من الإيمان بالقرآن؟ رب قارئٍ للقرآن والقرآن يلعنه! إن هؤلاء الذين يسمعون القرآن ويقرءونه، ويعرضون عن تطبيقه، لهم نصيبٌ من قوله تعال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] وبؤساً لهم حيث تشبهوا بمن قال الله فيهم: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء:46].
عباد الله: إلى القرآن إلى القرآن: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16]، {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:22 - 23].
اللهم اجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(101/5)
فضل أهل القرآن وحملته
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً، قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
عباد الله: فاتقوا الله واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: إن الرفعة والكرامة والعزة والسيادة، في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة إنما هي لحملة كتاب الله، العاملين به، وهذا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
أخرج الإمام مسلم رحمه الله عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين} وأخرج البخاري عن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن، فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل آتاه الله مالاً، فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار} متفقٌ عليه.
وقد جاء في السنة المطهرة ما لحملة كتاب الله من الأجر والمكانة في الآخرة والأولى، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} رواه مسلم.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الذي يقرأ القرآن وهو ماهرٌ به مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاقٌ له أجران} متفقٌ عليه.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: (ألم) حرف، ولكن ألف حرف، ولامٌ حرف، وميمٌ حرف} رواه الترمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها} رواه أبو داود والترمذي وقال: حسنٌ صحيح.
فيا له -أيها المسلمون- من فضلٍ عظيمٍ وثوابٍ كبيرٍ لا يغفل عنه إلا غافل، تلك والله هي الغبطة، فليست الغبطة والسعادة بحطام الدنيا الزائل، ولا بالمفاخرة بالمركوب والملبوس، والمطعوم والمسكون.
عباد الله: اتقوا الله، وخذوا بكتاب ربكم وإلى القرآن يا أمة الإسلام! خذوا منه منهاجاً لحياتكم في جميع شئونكم، وبهذا تستردون ماضيكم التليد، وقدسكم الفقيد، وما ذلك على الله بعزيز: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
وصلوا وسلموا على نبي الرحمة كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد بن عبد الله أزكى البرية وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم دمر أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين والمفسدين يا رب العالمين! اللهم قنا شرورهم، اللهم اجعل بأسهم بينهم، اللهم أنزل عليهم بأسك -عاجلاً غير آجل- الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم آمنّا في أوطاننا، واستعمل علينا خيارنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع هداك يا رب العالمين، اللهم وفق المسلمين والمسلمات، اللهم وفقهم واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق إمامنا واحفظه بحفظك، وأيده بتأييدك، وارزقه البطانة الصالحة يا رب العالمين! اللهم دله على الخير، وأبعده عن الشر يا أرحم الرحمين.
الله آمنا في أوطاننا، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم ردنا إلى كتابك رداً جميلاً، اللهم رد الأمة الإسلامية إلى كتابك رداً حسناً يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، واذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(101/6)
الحض على النظر والتفكر
حث الله تعالى عباده على التفكر في بديع صنعه، وعظيم آياته؛ ليزدادوا تعظيماً له وإيماناً به، وبالتالي يكونون أبعد عن معصيته ومخالفته.
وإن ما وصل إليه في هذا العصر من التقدم العلمي والاكتشافات الحديثة، كل ذلك بفضل الله وتوفيقه.
فعلى المسلم أن يستخدم ذلك فيما يقربه إلى الله؛ بأداء شكر النعم، والتفكر في مخلوقات المنعم سبحانه وتعالى.(102/1)
عبادة التفكر في آيات الله
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، أحمده تعالى وأشكره على سوابغ نعمه، وترادف مِنَنه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وَسِع كل شيء علماً، وأتقن كل شيء صنعاً، وسخَّر لعباده ما في الكون كله رحمة منه ولطفاً، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وأشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله تبارك وتعالى، واشكروه على ما خوَّلكم به من الفضل في العالمين، وما كرَّمكم به على الأولين والآخرين، يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيْلاً} [الإسراء:70] فلقد خلقكم الله في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلق في ظلمات ثلاث، وهيأ لكم الأمن النفسي والغذائي، ثم أخرجكم من عالم الأجنة إلى عالم الحياة الدنيا: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] وزوَّدكم -تبارك وتعالى- بالسمع والبصر والعقل وسائر الجوارح: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل:78] وأنعم عليكم بالفهم والإدراك، وحثَّكم على التفكر في مخلوقاته، وما سخر لكم في الكون من آياته الباهرة ونعمه الظاهرة في الأرض والسماء، في البر والبحر والفضاء، قال تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} [يونس:101] {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الجاثية:3].
فالله -عز وجل- خلق لعباده ما في الأرض جميعاً، وسخَّر لهم هذا الخلق ليتفكروا فيه، ويتبصروا في عظيم صنعه؛ ليكون دليلاً إلى طاعة الله رادعاً عن معصيته: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13] وذمَّ سبحانه المعرضين عن التدبر والتفكر في آياته ومخلوقاته، فقال سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف:105].(102/2)
التفكر عند السلف
كان السلف رحمهم الله يتفكرون في مخلوقات الله، ويتدبرون آياته الشرعية وآياته الكونية، ويحثون على ذلك، قال بعض السلف: "ما طالت فكرة امرئ قط إلا فَهِمْ، ولا فَهِمَ إلا عَلِمَ، ولا عَلِمَ إلا عَمِل" وقال بشر: لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه، وذلك لأن التفكر في عجائب الخلق وأسراره يثمر تعظيم الخالق ومخافته، قال تعالى واصفاً عباده المؤمنين: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].(102/3)
موقف الإسلام من التطورات العصرية
إخوة الإسلام! إن دين الإسلام دين الشمول والكمال، فقد حثَّ على التدبر والتفكر في كون الله، وشجَّع على استخدام العقل والفهم، ولم يترك شيئاً فيه نفعٌ للبشرية وخيرٌ لها إلا حثَّ عليه ورغَّب فيه، ولم يقف جامداً أمام الاكتشافات العلمية والمخترعات الحديثة، بل أمر باستخدامها في نصرة الإسلام وحياضه، والدفاع عن المسلمين وبلادهم، قال تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60].
وما أحوج المسلمون اليوم إلى الاستفادة من العلوم المعاصرة، والصناعات الحديثة في ضوء العقيدة الإسلامية الصحيحة، فهي مصدر العزة والقوة والخير للبشرية جميعاً، وأنَّى لأمةٍ من الأمم مهما بلغت من التقدم العلمي والمادي والتحضر العصري، وإن ابتغت نفَقاً في الأرض أو سُلَّماً في السماء، أو جابت الأرض وغزت الفضاء أن تصل إلى ما تصبوا إليه من السعادة والقوة والنصرة والكرامة، وهي في معزل عن العقيدة الإسلامية، ومنأىً عن تحكيم الكتاب والسنة!
أمة الإسلام! لقد منَّ الله على البشرية في هذا العصر؛ إذ سخر لها ما نراه من الترقي في علوم الصناعة؛ الذي بلغ في زماننا -هذا- مبلغاً يفوق الوصف، فهذه المراكب البحرية والبرية والجوية، وهذه الآلات الحربية الحديثة التي تبهر العقول؛ بدقة صنعتها ووفرة منجزاتها، وأدائها لوظيفتها أداءً محكماً دقيقاً، وإن هذه الأمور من ابتلاء الله لخلقه؛ لينظر من يستعين بها على طاعته، ويشكره عليها، ممن يكفر بها ويستعملها فيما يُسخط الله.
ويجب على المسلمين أن يعلموا أن ما وصلوا إليه من تقدم في مجالات الحياة لا يمكن أن يحصل لولا تعليم الله عز وجل، فلو شاء لسلبهم العلم، وكانوا جاهلين بمصالحهم، ولكنه تعالى منَّ عليهم بالعلم والقدرة، ومهما أُوتي العباد من علم وقدرة فإنه يسيرٌ جداً بالنسبة إلى علم الله وقدرته.
فعلينا أن نعتبر بهذه الوسائل الحديثة، على كمال الله علماً وقدرةً ورحمة، وأنه وحده الخالق لهذه الأمور كلها: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات:96] فهو الذي أبدع هذه الصناعات، وهو الذي خلق صانعيها، وهو الذي دلَّهم وفهَّمهم، ومنَّ عليهم بالإدراك والعلم والعقل، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ} [الأنعام:137].
كما ينبغي أن تزيد هذه المبتَكرات الجديدة في إيمان المؤمنين، وتمسكهم بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم، فلا يمكن أن يحدث شيء من المحسوس، أو يُعلَم شيء من المعقول يخالف ما جاء به الكتاب والسنة أبداً، بدون تأوُّل أو تمحُّل.
وقد أعمى الله بصائر الكفار والمنافقين، فلم يعتبروا بهذه الآيات على عظَمة الخالق عز وجل، وكماله وقدرته وعلمه، فيفردوه بالعبادة، بل نظروا إليها نظرة التمتع العاجل بها، وكفروا بخالقها، وجحدوا نعمته، ونسبوا ذلك إلى علمهم وحولهم وقوتهم وعقولهم؛ فاغتروا بها وطغوا ولم يعتبروا بمن قبلهم.
نسأل الله عز وجل أن يرزقنا التفكر في مخلوقاته، والتدبر في آياته، وأن يجعل ما أفاء على البشرية من العلوم، والصناعات، والمخترعات، خيراً للإسلام ونصرةً له، ودفاعاً عن المسلمين وبلادهم، وأن يصرف عنهم شر ذلك، ونقمته وفتنته، كما نسأله تعالى أن يُوفِّق شباب المسلمين، وأن يبلغهم فيما يرضيه آمالَهم وطموحاتِهم إنه أعظم مسئول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(102/4)
شكر نعم الله سبيل التمكين
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علَّم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله الغني الأكرم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى العرب والعجم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى، واشكروه على ما سخَّر لكم من النعم العظيمة، وتفكروا في مخلوقاته، واعملوا بطاعته واحذروا معصيته، وثقوا بوعد الله لكم بالنصر والتمكين والقوة؛ إنْ تمسَّكتم بدينكم وأعليتم كلمته، وسخَّرتم ما أنعم عليكم مما علَّمه الله تعالى لخلقه؛ من العلوم المتعددة، والوسائل المختلفة للدفاع عن الإسلام وإعزاز أهله وبلاده.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبينا محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم وفق المسلمين لما تحب وترضى، اللهم وفقهم إلى العودة الصادقة إلى دينك القويم يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رُشد؛ يُعَز فيه أهل طاعتك، ويُذَل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.
اللهم وأظهر الهدى ودين الحق الذي بعثت به نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم على الدين كله، ولو كره المشركون.
اللهم أصلح قادة المسلمين وعلماءهم، وشبابهم وشيبهم ونساءهم يا رب العالمين.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى.
اللهم أيد بالحق إمامنا، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم اجعله سنداً للمسلمين، ونصيراً ومعيناً لهم يا أرحم الراحمين.
اللهم وفق ولاة أمور المسلمين في كل مكان، وارزقهم تحكيم كتابك، وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(102/5)
السبيل إلى الحج المبرور
فرض الله تعالى على عباده قصد بيته العتيق لأداء مناسك مخصوصة، ورتب على فعله الأجور العظيمة، من رفع الدرجات وتكفير السيئات وإقالة العثرات، وإن من أعظم مقاصد الحج وحكمه: إخلاص التوجه واللجوء له سبحانه وتعالى، واجتماع الكلمة وصفاء قلوب المسلمين بعضهم لبعض.(103/1)
موسم الحج المبارك
الحمد لله الذي فرض على عباده الحج، وندبهم إلى الإتيان إليه من كل فج، وحثهم على التقرب إليه بالعج والثج، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع الشرائع وأحكم الأحكام، وجعل الحج ركناً من أركان الإسلام، وسبباً لدخول الجنة دار السلام، ووسيلةً لتكفير الذنوب والآثام، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أفضل من صلَّى وزكَّى وحج وصام، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، شموس الدجى ومصابيح الظلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام! ويا حجاج بيت الله الحرام! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل.
عباد الله! حجاج بيت الله! في هذه الأيام المباركة تعيش الأمة الإسلامية فرضاً عظيماً، وموسماً كريماً، تخفق له قلوب أهل الإيمان، وترنو إليه أبصارهم، وتتطلع له همم أهل الإسلام، إنه موسم الحج إلى بيت الله الحرام.
ها هي قوافل حجاج بيت الله الحرام، وجموع ضيوف الرحمن، ووفود الملك العلَّام، أتت من كل فجٍ عميقٍ؛ ليشهدوا منافع لهم، فدافعهم الإيمان، وقائدهم الرغبة، وحاذيهم الشوق، وحافزهم الأمل فيما عند الله سبحانه؛ من الرحمة والرضوان، والجود والغفران.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من حجَّ فلم يرفثْ ولم يفسقْ رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه} ولهما - البخاري ومسلم - عنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {العمرة إلى العمرة كفارةٌ لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة}.(103/2)
حِكَم ومقاصد الحج
أمة الإسلام! حجاج بيت الله الحرام! فريضة الحج من أعظم فرائض الإسلام، فهي ليست رحلة سياحية، ولا نزهة خلوية، وإنما هي عبادةٌ عظيمة، وفرصةٌ إيمانية كبيرة، يحفها منهج شرعي، وتضبطها آدابٌ سامية، وأخلاقٌ عالية، فللحج شروط، وأركان، وواجبات، ومستحبات، وآداب، ينبغي أن يعرفها كُلُّ من أمَّ هذا البيت؛ ليؤدي هذه الفريضة العظيمة، كما أراد الله سبحانه، وكما سنَّ رسوله صلى الله عليه وسلم القائل: {خذوا عني مناسككم} وليعود بالمنافع والآثار التي قصد إليها الشارع الحكيم من فرض هذه العبادة العظيمة.
ضيوف الرحمن وفود الملك العلام! يا من تجشمتم الصِّعاب، وركبتم المشاق والأخطار، وقطعتم الفيافي والقفار، والأجواء والبحار، وتركتم الأوطان والأموال والأولاد، لا لشيءٍ إلا لأداء فريضة الحج على الوجه الأكمل، والطريق الأمثل، فهنيئاً لكم سلامةٌ الوصول، وحصول المأمول.(103/3)
التوحيد أهم مقاصد الحج
حجاج بيت الله الحرام! عليكم بالعقيدة الصحيحة؛ فإن أعظم مقاصد الحج توحيد الله سبحانه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26].
فلا تتوجه في الحج ولا في غيره، إلا لمن بيده وحده أزمة الأمور، وملك النفع والضر، والحياة والموت، لا إله غيره، ولا رب سواه، فلا يغني التمسح بالكعبة، ولا في حلق الأبواب، ولا في جبل عرفات، ولا غار حراء، ولا في غيرها، لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك:
أما والذي حج المحبون بيته ولبّوا له عند المهل وأحرموا
وقد كشفوا تلك الرءوس تواضعاً لعزة من تعمى الوجوه وتسلمُ
فحققوا -رحمكم الله- الأصل العظيم الذي تنبني عليه أقوالكم وأفعالكم، واحذورا من التوجه لغير الله كائناً ما كان، واقصدوا الله وحده في كل أموركم، ولا تنصرفوا عنه إلى غيره، لا إلى أشخاصٍ وكيانات، ولا إلى مناهج وشعارات، ولا إلى مبادئ وزعامات، تخالف عقيدة الإسلام؛ فإن ذلك مؤذنٌ بحبوط الأعمال والعياذ بالله:
يحج كي ما يغفر الله ذنبه ويرجع قد حطت عليه ذنوبُ(103/4)
صفاء القلوب واجتماع الكلمة
حجاج بيت الله الحرام! عليكم بالتحلي بالأخلاق الإسلامية، والتزام الآداب الشرعية، والأنظمة المرعية في هذه البقاع المباركة؛ فليحذر -الحاج الكريم- من اللغو والرفث، والفسوق والجدال والمراء، وإيذاء إخوانه الحجاج؛ بيده أو بلسانه، بقوله أو بفعله، فلا يزاحم إخوانه المسلمين، ولا يؤذيهم حساً ولا معنى، لا في المطاف، ولا عند الأبواب، ولا عند الجمرات، ولا في الطرقات، بل يتحلَّى معهم بالخلق الحسن، واللطف واللين، والمحبة والتعاون والإيثار، وتلك من أهم منافع الحج، فصفاء القلوب، ووحدة الكلمة، واجتماع الصفوف، والتعاون على البر والتقوى، دروسٌ عظيمة، تستفاد من مدرسة الحج في الإسلام.
واعملوا -رحمكم الله- بكل ما من شأنه الخروج بالآثار البليغة، والدروس والعبر النافعة، والمنافع الجمة من هذه الفريضة العظيمة، فما أحوج أمة الإسلام اليوم، وقد عمَّها طوفان المحن، وجرفتها سيول الفتن، أن تستفيد من هذه المناسبات الشرعية، صلاحاً في أحوالها، وتحسناً في أوضاعها؛ ليكون هذا الموسم وأمثاله فرصةً للإصلاح، ومناسبةً للمحاسبة والتقويم.
إنه لن تحرر المقدسات، ولن تحل المشكلات، وتتلاشى الفرقة والخلافات، إلا إذا عمل أفراد هذه الأمة -كلٌ في موقعه- على حمل رسالة الإسلام الحق في نفسه، وفي محيطه، هناك يُدرِك أعداء هذه الأمة، أن لجنود الإسلام قوةً بعد ضعف، ويقظةً بعد غفلة، وصحوةً بعد كبوة، واجتماعاً بعد فرقةٍ وشتات: {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ} [الروم:4 - 5].(103/5)
تعظيم شعائر الله
حجاج بيت الله! عظموا -رحمكم الله- شعائر ربكم وشرائعه {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] واعقدوا العزم الأكيد على العمل بدينكم، مصدر عزكم ونصركم وسعادتكم في الدنيا والآخرة، واجعلوا من مناسبات الإسلام العظيمة نقطة تحولٍ إيجابية في حياتكم، وانطلاقة جادةً لتصحيح أحوالكم، وتقويم أوضاعكم، وصفحةً جديدة للعمل البنَّاء المثمر؛ فيما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، ومحطة تزود من وقود القلوب؛ للإيمان والتقوى، والتخفف من الذنوب والمعاصي، وصفحةً جديدة للإقبال على الله، والتوبة الصادقة، ومحاسبة النفوس، والإقلاع عن كل ما حرمه الشرع ونهى عنه.
فالواجب على أهل الحلِّ والعقد في بلاد الإسلام، أن يستغلوا فرصة هذا الاجتماع العظيم، لتقويم مسيرتهم، وحل مشكلاتهم بأنفسهم، وعلى علماء الإسلام، وقادة المسلمين، ودعاة الخير والإصلاح، أن يجعلوا من حِكَم ومقاصد هذه الشريعة من هذا الاجتماع الكبير، انطلاقة جادةً للدعوة إلى الله، ونشر العلم الشرعي، بمنهجٍ سليمٍ وعرضٍ صحيح، وحكمةٍ نافذةٍ، وبصيرةٍ نيِّرة، إن لم يكن اجتماع المسلمين في هذا المؤتمر الإسلامي الكبير نقطةً لاجتماع كلمتهم على الحق، وتوحيد صفوفهم وتضامنهم؛ فمتى يكون ذلك؟
فلا بد من إعداد العدد، وتنسيق الخطط، وتوحيد الجهود لحل مشكلات المسلمين.(103/6)
أوضاع الأمة الإسلامية
إن أمة الإسلام اليوم بحاجةٍ ماسة إلى الاستفادة من مواسم الإسلام المباركة، وآثارها العظيمة، ومنافعها الجمة؛ لتنطلق للإصلاح من نقطة الانطلاقة الأولى، من هذه البقاع المباركة، فمتى تظل الأمة تراوح مكانها؟ وتأسى على أوضاعها؟ وتندب حظها؟ دون تحركٍ جاد في العمل للإسلام وبالإسلام.
فهل تذكرتم -يا حجاج بيت الله الحرام وأنتم تحلون في رحاب هذا البيت العتيق- أباكم إبراهيم عليه السلام، وابنه إسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت؟!
وهل تذكرتم نبيكم المصطفى محمداً صلى الله عليه وسلم، وهو يقوم بالدعوة إلى الله من هذه البقاع المقدسة؟!
هل تذكرتم كيف نمت دوحة الإيمان، وترعرعت دعوة الإسلام؛ التي حملها رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه؟!(103/7)
أسباب تردي أوضاع الأمة
ثم هل تفكرتم بما آل إليه أمركم في هذا الزمان، وعرفتم ما هو السبب في ذلك الخذلان؟
إنه -والله- التساهل في أمر هذا الدين، ووجود الخلاف والفرقة بين أبناء المسلمين، هو الذي سبب تسلط أعداء الإسلام على أمة الإسلام، واحتلال مقدسات المسلمين وإحلال الفساد والدمار فيها.
هل تذكرتم -يا إخوة الإسلام، ويا أيها الحجاج الكرام- وأنتم تنعمون في ظل هذا البيت الآمن أخاه المسجد الأقصى المبارك الذي يئن تحت وطأة الاحتلال الغاشم، من أعداء الله ورسوله والمؤمنين.
وليس ما فعلته وتفعله الصهيونية العالمية وإسرائيل في هذه الأيام في فلسطين ولبنان خافٍ على كل ذي لبٍ من الناس!
هل تذكرتم مآسي إخوانكم في العقيدة في كثيرٍ من بقاع المعمورة، في البوسنة والهرسك وفي كشمير وفي الشيشان وغيرها؟!
هل وهل أسئلةٌ عظيمة ومهمة؛ يجب أن تدور في خلد كل حاج، لينطلق لإصلاح نفسه، وليعرف مكانته ودوره في هذه الأمة، وأنه واحدٌ من المسلمين، ولبنةٌ من لبنات المجتمع الإسلامي، عليه مسئوليةٌ كبرى -على حسب موقعه- في سلامة سفينة الأمة من الغرق، كي تصل إلى برّ الأمان، وشاطئ السلام، رائدها كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(103/8)
قُدسية الحرمين الشريفين
حجاج بيت الله الحرام! إن واجب المسلمين أن يرعوا قدسية الحرمين الشريفين، فلا يجوز أبداً أن تحول البقاع الآمنة إلى أماكن تجمعات ومظاهرات، وتنظيم تحركات ومسيرات، ورفع لافتات وشعارات وصورٍ ومجسمات، لزعامات وكيانات، ويأبى الله ثم يأبى المؤمنون أن تجرح قدسية البيت الحرام، والشهر الحرام، بالتهريج السياسي والشغب الغوغاء، ولا يرضى الله ولا عباد الله أن يدخل على الدين الحق ما ليس منه؛ من المهاترات الكلامية، والمزايدات السياسية، والشعارات الجاهلية، فأي دينٍ عند هؤلاء، بل أي إسلامٍ عند من يساعد على تعكير أمن بلاد الحرمين الشريفين، بجلب أسلحةٍ ومتفجرات، أو ترويج مسكراتٍ ومخدرات، أو ما إلى ذلك من الجرائم المنكرة، وشتان شتان بين عمل أهل الإيمان والإسلام، وعمل أهل التخريب والإجرام، وإن بدعة المسيرات بدعةٌ منكرة لا سند لها من المعقول والمنقول، وليست أقل سوآت القوم، مما كشفه التاريخ في قديم الزمان وحديثه، والله دون حرمه ودون كل من أراد الإلحاد فيه أو الظلم، فهو سبحانه سيكشف سترهم، ويفضح سرهم: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43].
وإن جموع الحجيج الذين يجدون في هذه الأيام فرصةً عظيمة، ومناسبةً كبيرة، لغسل القلوب مما علق بها من أدران الذنوب والمعاصي ليتطلعون إلى كل ما من شأنه شيوع الأمن وعموم السلامة لهم، في أديانهم وأبدانهم مما تشرف بلاد الحرمين حكومةً وشعباً بتحقيقه ولله الفضل والمنة.
وإن واجبات الحكومات الإسلامية أن تتعاون في ذلك، وأن تقوم بتوعية حجاجها، بما يجب عليهم معرفته من حرمة الزمان والمكان، وكيفية العمل بالشعائر والمشاعر على الوجه الشرعي والسنن النبوي.
كما أن واجب المطوفين والمسئولين عن حملات الحج والعمرة عظيم، ومسئوليتهم كبيرة، تجاه من اؤتمنوا عليه، من رعاية الحجيج، وليعلموا أنها أمانةٌ وديانه قبل أن تكون تجارة، وتحية تقدير وإجلال، لكل من يعملون في خدمة الحجيج؛ فإن خدمة الحجيج شرفٌ أيما شرف، جعله الله في موازينهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(103/9)
روحانية الحج ومناسكه
الحمد لله، جعل المناسك، وأوضح لعباده المسالك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، الحبيب المصطفى، والرسول المجتبى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله!
اتقوا الله يا حجاج بيت الله! واشكروه -جلَّ وعلا- على ما هيأ لكم من الوصول إلى بيته العتيق، والاجتماع حول هذه الكعبة المشرفة، حيث تسكب العبرات، وتتنزل الرحمات، وتُرفع الدرجات، وتقال العثرات، وتُكفر السيئات، وتغفر الذنوب والخطيئات، فيا لها من مواقف تهذب فيها النفوس، وتصقل فيها القلوب، وتحيا فيها الضمائر، وتصفو فيها المشاعر، ويفرح بها أهل الإيمان! فاستغلوا -رحمكم الله- وجودكم في هذه البقاع العظيمة، والعرصات الكريمة، حيث تنعمون بشرف الزمان والمكان، لا سيما ونحن نعيش العشر الأولى من ذي الحجة، وهي ما هي شرفاً وقدراً، روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ما من أيامٍ العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام -أي: أيام عشر ذي الحجة- قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله، قال: ولا الجهاد في سبيل الله! إلا رجلٌ خرج بنفسه وماله، ثم لم يرجع من ذلك بشيء}.
الله أكبر! يا لها من فرصٍ عظيمة! لا يُفرِّط فيها إلا مغبون، ولا يتساهل فيها إلا محروم.(103/10)
بيان مناسك الحج
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله يا وفود الله! واعرفوا لهذا الزمان والمكان حرمته، ولهذه الفريضة مكانتها، وتوِّجوا ذلك عملاً صالحاً، وسلوكاً مقبولاً؛ تكونوا من الموفقين في الدنيا والآخرة.
حجاج بيت الله الحرام! استغلوا هذه الأيام المباركة بالأعمال الصالحة، بالذكر والدعاء، والتلاوة والتكبير، والطواف والصلاة، وسائر الأعمال، فإذا جاء يوم الثامن من ذي الحجة، فتوجهوا إلى منى، وبيتوا بها ليلة عرفة، استحباباً، فإذا طلعت الشمس من يوم التاسع فتوجهوا إلى عرفة وابقوا بها إلى غروب الشمس وجوباً، واجتهدوا هذا اليوم العظيم بالدعاء، والضراعة إلى الله سبحانه، فما من يومٍ أكثر من أن يعتق الله فيه عبيداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي فيه ملائكته، فيقول: {أتوني شعثاً غبراً؛ يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم} ثم تبيتون بـ المزدلفة وجوباً، ثم تفيضون منها إلى منى لرمي جمرة العقبة، ولبقية أعمال المناسك، ثم إذا أردتم الخروج من مكة فاختموا بطواف الوداع، وبذلك تتم المناسك.
فاتقوا الله عباد الله! واتقوا الله -يا حجاج بيت الله الحرام- وأدوا المناسك على خير وجه، متأسين بنبيكم صلى الله عليه وسلم، واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم، وصونوا حجكم عن النواقض والنواقص، ولا تتساهلوا بشعائر الله، واجتنبوا اللغو والرفث، والفسوق والجدال، واعمروا أوقاتكم بالطاعة، واعملوا -رحمكم الله- بالتقوى والعمل الصالح، وتجنبوا المحرمات والمنكرات، والأذى قولاً وفعلاً.
تقبل الله منا ومنكم، وأعانكم على أداء مناسككم، وجعل حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وأعادكم إلى بلادكم سالمين غانمين، ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى كما أمركم بذلك.(103/11)
الطهارة في الإسلام
لقد اعتنى الإسلام بالنظافة بمفهومها الواسع؛ فهي جزء من حياة المسلم وطابع لا غنى له عنه، وقد سبق الإسلام في ذلك النظم البشرية كلها.
والنظافة التي جاء بالاهتمام بها الإسلام على ضربين: نظافة حسية ونظافة معنوية.
فعلى المسلم الاعتناء بالنظافة على قسميها؛ ففيها السعادة الدنيوية والأخروية.(104/1)
عناية الإسلام بالطهارة الحسية والمعنوية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه ونستغفره، ونثني عليه الخير كله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يُحِبُّ التوابين ويحب المتطهرين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، سيد الأولين والآخرين، وأشرف الأنبياء والمرسلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى.
عباد الله! يا من شرفكم الله بالإسلام! اشكروا الله على هذه النعمة الكبرى، فإن دينكم دين الكمال والشمول، لم يترك خيراً للعباد وصلاحاً لهم في المعاش أو المعاد إلا أمر به وحثَّ عليه، ولا شراً أو ضرراً يعود عليهم في دنياهم وفي عقولهم وأجسادهم إلا حذَّر منه ونهى عنه، ولقد كان رفع الحرج وإحلال الطهر والنقاء من القواعد والمعالم التي جاءت بها شريعة الإسلام: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6] وقد جاءت هذه الحكم والقواعد والأسرار في ختام آية الأمر بالوضوء في سورة المائدة، تنبيهاً لما لهذا الحكم العظيم من آثارٍ في حياة المسلم.
إخوة الإيمان! لقد عني الإسلام بالطهارة المعنوية والطهارة الحسية، واهتم بنظافة الباطن والظاهر، وقد قسَّم أهل العلم الطهارة إلى أربع مراتب:(104/2)
الطهارة الحسية
وهي: طهارة الظاهر من الأحداث والأنجاس والفضلات، وقد جعل الإسلام هذه المرتبة، جزءاً من حياة المسلم، وطابعاً لا غنى له عنه، وعملاً لا ينفك منه في اليوم والليلة، ويتولى الوضوء الشرعي كبر هذه المرتبة، وفيه من الأجر العظيم والثواب الجزيل أضعاف ما له من الآثار الحسنة على نظافة المسلم، فقد جعله النبي صلى الله عليه وسلم سبباً لمحو الخطايا ورفعة الدرجات، كما في صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من توضأ فأحسن الوضوء، خرجت خطاياه من جسده، حتى تخرج من تحت أظفاره}.
بل قد جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم الطهور شطر الإيمان، كما في صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه.
الله أكبر! يا لِسعة فضل الله، وإكثاره طرق الخير لعباده! ولكن أين المحتسبون المتبعون الذين يقومون بهذا العمل إخلاصاً لله، ورغبةً فيما عنده، واتباعاً لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم في ذلك؟! حيث قد زيَّن الشيطان -أعاذنا الله منه- لبعض الناس الزيادة في الوضوء، فيدخلهم في الوهم والوسوسة، وقد يجرهم إلى التقصير في ذلك، فعدم التنزه من البول والخارج، وعدم غسل الأعضاء كاملة، أو ما يفعله بعض الجُهَّال من التيمم مع وجود الماء، أو إمكان الحصول عليه.
ومن عناية الإسلام بالوضوء: أنه جعله مرتبطاً بأهم أركان الإسلام بعد الشهادتين، وهي الصلاة، فهو شرطٌ لصحتها، ومفتاحها، ومقدمتها.
ومن مظاهر عناية الإسلام بطهارة الظاهر: إيجابه الاغتسال عند حدوث موجباته، كالجنابة، والحيض والنفاس بالنسبة للمرأة، كما شرع الإسلام الاغتسال في حالاتٍ: كالجُمع والأعياد، والإحرام، وحضور الاجتماعات العامة، ومن ذلك حثه على التطيب، والسواك والختان، وأخذ الزينة عند حضور المساجد والصلاة.
ومن ذلك -أيضاً- خصال الفطرة التي أفصح عنها حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، كما في حديث عائشة رضي الله عنها عند مسلم وغيره: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء -يعني: الاستنجاء-} قال مصعب: ونسيت العاشرة إلا أن تكون المضمضة.
إخوة الإسلام! كما حرص دينكم في هذا الجانب على ما يتصل بحياة الناس اتصالاً مباشراً، ومن ذلك: نهي الإسلام عن التبول في المياه الراكدة، والبراز في الطرق والظل وموارد الناس، كما أمر الإسلام بنظافة البيوت والطرق والطعام والشراب، واللباس والمرافق العامة، وجعل إماطة الأذى عن الطريق شعبةً من شعب الإيمان، وأخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم: {أن الله جميلٌ يحب الجمال} وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بالتطهر، فقال: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].
كما مدح سبحانه أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال سبحانه وتعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].(104/3)
الطهارة المعنوية
ولها ثلاثة مراتب:
المرتبة الأولى: طهارة الجوارح من الذنوب والآثام.
المرتبة الثانية: طهارة القلب من الأخلاق المذمومة والرذائل الممقوتة.
المرتبة الثالثة: تطهير السريرة عما سوى الله سبحانه وتعالى.
وهذه المراتب الثلاث، هي في الطهارة المعنوية، طهارة الباطن، التي هي القاعدة والأساس، فلا خير في حسنٍ ظاهر، مع فسادٍ باطن، وكم من جميل منظره خبيثٌ مخبره.
أُمَّة الطُهر والنظافة! إن النظافة الحقيقية، نظافة العقيدة من كل ما يشوبها من ضروب الشرك بالله، والتعلق بغيره، وذلك يتطلب الإخلاص لله، وتجريد المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ كل ما يخالف هذا المنهج من أوهام أو ضلالات، كما أنها نظافة الفكر وصيانته من الأفكار الملوثة، والتصورات الفاسدة، المناهضة للإسلام، وهي تعني: طهارة القلب ونظافته، من الغل والحقد والحسد والبغضاء والرياء والنفاق والكبر والغرور، وطهارة اللسان من الكذب والزور والغيبة والنميمة والبهتان.
كما أنها تعني: نظافة الخلق والسلوك من كل ما يُعكِّر صفو الأخوة، ويكون سبباً في التقاطع والجفاء، وهي -أيضاً- نظافة المعاملات، من الحيل الممنوعة، والمكاتب المحرمة، التي تأتي عن طريق الظلم والغش والربا، والرشوة والتزوير وسواها، وهي -أيضاً- نظافة الجوارح، كالسمع والبصر من النظر والسماع المحرم.(104/4)
شمول مفهوم النظافة في الإسلام
إخوة الإسلام! قد عرفنا النظافة التي جاء بها الشرع بمفهومها الواسع، فهي ليست في جانبٍ ضيق يُعنى بالشكل على حساب الجوهر، كما أنها ليست كلماتٍ تُقال، ولا أيام تقام، بل هي ملازمة للمسلم لا تنفك عنه بحال، فما أحرى ذلك أن يزيدنا تمسكاً بديننا، ووعياً أعمق في حكمه وأحكامه.
وإن ديناً هذه تعاليمه، ينبغي لأتباعه أن يكونوا حريصين على النظافة بُكل أبعادها، ليكونوا أقوى الأمم؛ عقيدةً وإيماناً، وأسلمهم فكراً وعلماً، وأصلحهم قلوباً وأعمالاً، وأصحهم أجساداً وأبداناً، وأحسنهم هيأةً وأشكالاً، ليجمعوا بين صلاح الباطن والظاهر، وحسن المنظر والمخبر، وعند ذاك تحصل لهم القوة المادية والمعنوية، حيث يقوى الإيمان والعلم، ويحسن الخلق والمعاملة، وتصح الأبدان والعقول، فيكون لهم من الشوكة والهيبة والقوة ما يرهب أعداءهم بإذن الله.
وقد سبق الإسلام في ذلك النظم البشرية كلها، وأثبت الطب الحديث صدق ما جاء به الإسلام -ولله الفضل والمنة- مما يجعل حضارة الإسلام وتقدمه لا توازيها حضارة مدعاة، وتقدمٌ مزعوم كان من انقلاب الموازين عند أفراده، من التنافس في القذارة وعمل الأوساخ، والتسابق إلى أعمالٍ تنفر منها الطباع السليمة، والأذواق الحسنة، مما يخالف فطرة الله السوية، وتعاليمه السمحة.
عباد الله! اتقوا الله وتمسكوا بدينكم، واحذروا الاغترار بأعدائكم، واعملوا على تحقيق النظافة المعنوية والحسية في أنفسكم وأسركم ومجتمعكم، والله المسئول أن يصلح قلوبنا وأعمالنا، إنه جوادٌ كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(104/5)
مسئولية الجميع في نشر النظافة الشرعية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له سبحانه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وغفرانه، صلَّى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله وتحلُّو بنظافة البواطن والظواهر، وتعاونوا على تحقيق ذلك في مجتمعكم، فالمجتمع النظيف عنوان نظافة أفراده، وقد قرَّر الشرع الحنيف إزالة الضرر أياً كان، وينبغي أن تتساند الجهود، وتتكاتف الأعمال، في إحياء وإذكاء روح الطهارة والنظافة لدى المسلمين، وهذه مسئولية الجميع، وكلٌ على حسب قدرته، وليست المسئولية مقصورةٌ على أناس أو جهاتٍ فحسب، بل الواجب بذل المسلمين -جميعاً- ما يستطيعون لانتشار وسائل الحفاظ على مجتمعهم سليماً بعيداً عن الأضرار.
ولا ننسى دور الآباء والأمهات في تربية أبنائهم على ذلك، وواجب المدرس في غرس هذه الخصال الكريمة في نفوس تلاميذه، وكذلك دور حملة الأقلام وأصحاب التوجيه ورجال الإعلام، فالجميع له دورٌ كبير في نشر النظافة الشرعية، نظافة القلب والفكر والخُلق والسلوك والهيئة، وليكن كل مسلم عيناً ساهرةً في تحقيق النظافة لمجتمعه، ومنع العابثين والسفهاء من التعرض بسوء للمرافق العامة، ومصالح المسلمين، ليعود لهذه الفضيلة أثرها الإيجابي على الأفراد والمجتمعات.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الهادي البشير، والسراج المنير، كما أمركم بذلك العليم الخبير، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاية المسلمين في من خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين! اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشدٍ، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء! اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(104/6)
العولمة الزائفة
الإسلام دين عالمي يدعو إلى وحدة العالم تحت سقف من العدل والرحمة والسلام، ولا يمكن لأي نظام آخر أن يكفل ذلك إلا الإسلام.
ودعاة العولمة يجعلون الإسلام عدواً لدوداً، وهذا دليل على عدم استيعابهم للآخر، أي: أنهم غير مؤهلين لحمل أية مبادئ فاضلة.
والإسلام الذي كفل ذلك كله، لا يقبل أن يشاركه فيه نظام بشري منحط.
وهنا بيان لكل ذلك ولواجب المسلمين تجاه ما يسمى بالعولمة، مع بعض النصائح للعاملين في الحقل الإسلامي.(105/1)
العولمة الخطر القادم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، اللهم لك الحمد كله ولك الشكر كله وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على كل حال، ونعوذ بك من حال أهل الضلال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، كريم السجايا وشريف الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحبٍ وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم المآل، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصيته سبحانه وتعالى للأوائل والأواخر، وبها تسمو الضمائر، وترق المشاعر، وتقبل الشعائر، وهي الزاد الحقيقي في هذه الدنيا وغياهب المقابر، وبها النجاة يوم تبلى السرائر.
أيها المسلمون! حينما تخيم على الأمة الليالي الحوالك؛ فإنها بحاجةٍ إلى من يضيء لها المسالك، وعندما تتقاذف سفينة المجتمع أمواجٌ من التيارات وطوفان من التحديات، تمس الحاجة إلى ربابين مهرة، ورجال مصلحين بررة، يقودون دفتها إلى بر الأمان، وشاطئ السلام.
إخوة الإسلام: الصراع بين قوى الخير والشر سنة جارية، وشرعة ماضية، تؤكدها شواهد التاريخ وشهادات الواقع، غير أن النهاية الحتمية تأكيداً لوعد الله الذي لا يتخلف، وسنته التي لا تتغير ولا تتبدل هي إحقاق الحق وإبطال الباطل ولو كره المجرمون {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17]، ومن فضل الله ولطفه ورحمته بعباده أن يهيئ لهذه الأمة في كل زمان ومكان من يضيء لها معالم الدروب، ومن يقارع بإذن الله عواتي الخطوب، ويقاوم شدة الأمواج العاتية، ويصارع قوة التيارات الغاشمة، ومن يجدد لهذه الأمة أمر دينها {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
معاشر المسلمين! إنه لم تكد القرون المفضلة تنقضي، والعصور الزاهية لهذه الأمة تنتهي حتى بدأت الأمة في الانحدار، وأخذ تطبيق الإسلام بالانحسار، فكثرت الانحرافات، وتمكنت الفرقة والخلافات، بدلت قوة الأمة ضعفاً ووهناً، وعزتها ذلةً واستخذاءً، وأغار أعداء الأمة على كثير من بلادها، فنهبوا خيراتها، وعبثوا بمقدراتها، واستغلوا ثرواتها، وتداعوا عليها كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، تتابعت الحملات الصليبية، والهجمات التترية، وتهاوت الحضارة الإسلامية في الأندلس بعدما نعمت بها ثمانية قرون، واقتسم الأعداء تركة الرجل المريض، وعبثوا بمقدسات الأمة، وسقطت دويلات المسلمين في أيدي العابثين المستعمرين.
وبدأت حملات التغريب، وسياسات تجفيف المنابع الخيرية في الأمة، ومسخت الهوية الإسلامية في كثير من بلاد المسلمين، وعلت الشعارات القومية، والنعرات الطائفية، تلتها الحدود الجغرافية، والتقسيمات الإقليمية، وخطب كثير من المنتسبين إلى الإسلام ود أعدائهم، وحورب الإسلام بمصطلحات غربية أشهرها في هذه الآونة ما يعرف بمصطلح العولمة الذي يعد باختصارٍ غابةً مظلمةً تملؤها وحوش كاسرة.
إنه يرمي إلى تحويل العالم إلى قرية واحدة، لكنه يثير اليوم زوابع منتنة، وينفث سموماً قاتلة من الممارسات والفواجع المدمرة، ويفضي إلى هيمنة غربية على الأمة الإسلامية، ومن البديهي أن الأمة المسيطرة تسعى لفرض معتقداتها وثقافاتها ومصالحها على الأمم المستجدية.(105/2)
المسلمون هم أهل العالمية الحقة
إن العولمة لا تعني انتقال معلومات مجردة، وتقنيات ميسرة فحسب، وإنما تريد أن تبذر بذوراً من حنظل لتجني الأمة ثماراً من علقم تتجرع مرارتها شجىً في الحلوق طويلاً، وإن تعجبوا يا رعاكم الله! فعجبٌ كيل أرباب العولمة بمكيالين حينما تبدو سياساتهم أكثر انغلاقاً وعنصريةً، ورفضاً للعالمية الصحيحة حينما تمس أنماط معيشتهم، وإلا فالمسلمون هم أهل العالمية الحقة التي تملأ الأرض رحمةً وعدلاً وسلاماً {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ثم من حق المسلمين أن يتساءلوا: لماذا يتخذ دعاة العولمة الإسلام عدواً لدوداً، ويحاولون تشويه صورته، وطمس حقائقه ظلماً وعلواً، وجر بلاده إلى أنواعٍ من العولمة المفضوحة؟ لعل من أشدها أثراً، وأكبرها خطراً، وأعظمها ضرراً تلك العولمة الثقافية والإعلامية، التي تبث الحرب ضد عقيدة المسلمين وقيمهم وفكرهم النير، وتروج لثقافات مسمومة تنذر طلائعها بمزيد من الشقاء للبشرية، فهل يا ترى يتنبه المسلمون لما يراد بهم ويخطط لهم؟!(105/3)
موقفنا تجاه العولمة
إن هذه المصطلحات تحدٍ كبير يحتاج إلى الغيورين في الأمة لرصدها والتصدي لها من وجهة شرعية، كما أنها قضية تحتاج إلى النظر فيها بدقة وتفهم لإمكان الاستفادة من إيجابياتها التي لا تتعارض مع مصالح أمتنا الإسلامية وثوابتها العقدية والشرعية، وتبقى الحقيقة المُسَلّمَةُ في منطلق هذه الصيحات والمصطلحات، وهي المشعل الوضاء في نهاية نفق الحياة المليء بالكيد والمؤامرات، فلن تهزم هذه المصطلحات بإذن الله عقيدة الإيمان المتغلغلة في نفوس المسلمين بحمد الله، وإنه لا يمكن للمسلين أن يواجهوا هذه التحديات إلا بتوحيد الجهود وتنسيق المواقف في منظومة متآلفة متألقة في عالم يموج بالتحولات وتعصف بعوامل استقراره المتغيرات.
ألا فليعلم سماسرة العولمة في عالمنا الإسلامي أن أمتنا الإسلامية بتاريخها وأصالتها لن تفرط في شيء من ثوابتها، ولن تتنازل عن شيء من خصائصها مهما عملوا على خلخلة البنى التحتية الثقافية والأخلاقية في كثير من المجتمعات، فلن نعمل مستوردين لأنماط العادات والموضات والتقليعات في بعدٍ عن قيمنا ومبادئنا، لقد خيل لبعض المنهزمين أمام حضارة الغرب ممن استعبد الغزو الفكري قلوبهم أن السبب فيما أصاب أمتنا من ضعف وتأخر كان نتيجةً حتميةً لتمسكهم بدينهم.
الله المستعان عباد الله! كيف انخدعت فئام من الأمة؟!
وكيف انحدرت إلى هذا المستوى من الواقع المرير؟!
احتلت فلسطين الصامدة المجاهدة، واستبيحت مقدساتها المسلمة، وعبث يهود بأرضنا المباركة، ونحيت شريعة الله في كثير من البلاد، بل أقيمت المتاريس ضدها في أجيال انتزعت هويتهم، وتربوا على فكر أعدائهم، وصممت جملةٌ من مناهج التعليم ووسائل الإعلام في كثير من بلاد المسلمين، فأخرجت أجيالاً نافرةً من دينها منسلخةً عن قيمها، فخرجت تنعق بدعوات الغربية، وتعتنق أفكار الجاهلية، وترى في الدين تأخراً ورجعيةً، فإلى الله المشتكى، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألم يئن الأوان يا أمة الإسلام! أن تعي الأمة رسالتها؟ وأن تتعرف على الخلل الكبير في حضارة أعدائها؟
يا أهل الإسلام! يا من أعزكم الله بهذا الدين! وشرفكم بحمل أمانته يوم أن عجزت السماوات والأرض والجبال، إن عليكم مسئوليةً كبيرةً تجاه دين الله تعلماً وتعليماً وإصلاحاً ودعوةً، فالدين قادمٌ بحمد الله، لا بد أن تستيقن الأمة بمراتب اليقين كلها أنه لا مخلص لعالم اليوم من أزماته الخانقة، وأوضاعه المتردية إلا الإسلام على عقيدة التوحيد الصافية، والمتابعة الصحيحة للمنهج السليم كتاباً وسنةً في فهم سلف الأمة.
وإن الناظر الغيور، ليأسى أشد الأسى من تضييع الأمة لكثير من الفرص في الدعوة إلى دين الله، واستثمار وسائل العصر الحديثة كالفضائية من القنوات، والعالمية من الشبكات ووسائل المعلومات، فأين من يحمل هموم العمل للإسلام؟ هاهو العالم يفتح صدره للإسلام، فأين العاملون المخلصون بمنهج قويم وأسلوب سليم؟
كفى حزناً للدين أن حماته إذا خذلوه قلنا كيف ينصر؟!(105/4)
بشائر المستقبل الإسلامي
أمة الإسلام! إن من البشائر أن الحضارة المعاصرة تعلن إفلاسها، وتلفظ أنفاسها، وذلك لأنها فرطت في أعظم مقومات البقاء، أهدرت القيم الإنسانية، وجعلت من الإنسان آلة موارة، ورحىً دوارة، خاليةً من معاني الروح ومعاني القيم.
إنه لا عز لهذه الأمة، ولا حضارة إلا بالإسلام، هزمت معسكرات الوثنية، ودكت معاقل الجاهلية، وحطم القياصرة، وكسر الأكاسرة، وهزم التتار والصليبيون برفع شعار " الله أكبر" وانتصر المصطفى صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده بإعلاء راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأصبحت الأمة قوية مرهوبة بجانب الإسلام ليس إلا، وستنصر هذه الأمة المعاصرة بالإسلام بإذن الله، لأنه دين الفطرة {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30]، ومع ذلك كله لا بد أن يقدم المسلمون لدينهم، ويصلحوا أنفسهم، ويعالجوا عيوبهم من الداخل، ويسدوا كل ثغرة يريدون أن ينفذ العدو منها، وأن يتحدوا على المصدرين العظيمين، وينبذوا كل الاتجاهات والمذاهب، وجميع الأحزاب والمشارب التي تخالف تعاليمه، وأن يؤصلوا في أنفسهم وأجيالهم العلم الشرعي النافع، والتربية الإسلامية.
إخوة العقيدة! إن المسلم يتفاءل كثيراً بأن المستقبل لدين الله كما قال سبحانه وتعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وكما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وبشر: {ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار}، وتلك ليست أحلاماً وأوهاماً، وإنما هي وعود حق، وأخبار صدق، غير أن الواجب على الأمة الإسلامية أن يكون لها مزيد اهتمام، وبذل جهود أكبر في خدمة الدعوة الإسلامية.
إننا لنتوجه إلى قادة المسلمين بتذكيرهم بالواجب الأكبر في إعزاز دين الله، وتحكيم شريعة الله، ونصرة أولياء الله، وعلى المسلمين جميعاً أن يبذلوا لدينهم؛ لأن الناس متعطشون لغذاء الروح بعد أن ملوا التفنن بالماديات لا سيما في عالم الغرب، وإن على العلماء والدعاة إلى الله وأهل الخير والإصلاح من أهل الكفاءة العلمية والآداب المرعية أن يسهموا في زيارات الدعوة والتوجيه لما لها من الأثر البالغ تصحيحاً في المناهج، وتقوية للأواصر، وتشجيعاً للمسلمين في كل مكان، وتحسيساً لهم بمكانتهم، ودور بلاد الإسلام التي يشعرون أنها تهتم بهم وترعى شئونهم وتشاطرهم آلامهم وآمالهم.
وبالتالي سد الباب أمام كل من يريد الاصطياد في الماء العكر من أصحاب الاتجاهات المنحرفة والمسالك المشبوهة، كما أن الدعوة متجددة وبإلحاح شديد في عصرنا الحاضر بالعمل على إيجاد قنوات إعلامية إسلامية تبث الدعوة إلى الله، ومحاسن الدين القويم بلغات شتى؛ لأن الإعلام اليوم في العالم كله يلعب دوراً كبيراً في التأثير على جميع الفئات مما يتطلب من المعنيين بشئون المسلمين لا سيما أهل الثراء واليسار ورجال الأعمال من أهل الاقتدار أن يسهموا بسد هذه الثغرة أداءً للواجب عليهم تجاه دينهم، وأمتنا بحمد الله أمةٌ معطاء ثريةٌ بطاقاتها، زاخرةٌ بكفاءاتها وقدراتها في شتى التخصصات ممن هم مؤهلون للعمل إقراراً للعيون، وتسليةً للمحزون بقنواتٍ إعلاميةٍ إسلاميةٍ تواكب تطورات العصر، وتحمل رسالة الإسلام الحق.
بعد أن عملت القنوات الفضائية المسفة أبشع أعمالها بوأد الفضيلة، ورفع راية الرذيلة غثاءً وهراءً، عفناً وانحلالاً، مما تبكي له الفضيلة، وتئن من لأوائه الأخلاق والقيم، ومما يزيد القلب أسىً وحرقةً أنها قد تعود في معظمها إلى ملاك من بني جلدتنا، ويتكلمون بلغتنا، فأين حمية القوم الدينية، وشهامتهم العربية، وغيرتهم الإسلامية؟ نعوذ بالله من الردى بعد الهدى.
وللحوادث سلوان يهوِّنها وما لما حلَّ بالإسلام سلوان
ألا نفوسٌ أبِيَّاتٌ لها هممٌ أما على الخير أنصارٌ وأعوان
لمثل هذا يذوب القلب من كمدٍ إن كان في القلب إسلامٌ وإيمان
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
سدد الله خُطا العاملين لنصرة دينهم، وبارك في جهود الغيورين على أمتهم وبلادهم، وجعل الأعمال خالصةً لوجهه الكريم، إنه خير مسئولٍ وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، فيا لفوز التائبين! ويا لبشرى المستغفرين!(105/5)
دعوة للعاملين للإسلام
الحمد لله الذي جعلنا من خير أمة أخرجت للناس، ومنَّ علينا بلباس الإيمان خير لباس، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة سيد الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الفضل والإنعام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله بدر التمام ومسك الختام، وخير من عمل بالدين وقام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحابته الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعةٍ ضلالة.
أيها الأحبة في الله! إن دين الإسلام الذي هدانا الله إليه، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، هو المنة الكبرى، والنعمة العظمى التي نسأل الله أن يوزعنا شكرها قولاً وعملاً، باطناً وظاهراً، هو دين الخير والعدل والسلام والرحمة والمحبة والوئام، والبشرية اليوم تتطلع إلى أن تتفيأ ظلال هذا الدين القويم، مما يتطلب الجد في مجال العمل للإسلام، والنهوض بمستوى الدعوة الإسلامية، وتنسيق الجهود بين العاملين، ونبذ الفرقة والخلاف التي لا يستفيد منها إلا العدو المتربص، وإن هناك فرصاً عظيمةً يأسف كل غيور على أوضاع أمته أن يفرط المسلمون في استغلالها، فالأرض خصبة، والفرص مواتية، وإن القضية ترجع إلى حاجة الأمة اليوم إلى العمل بخطط سليمة، ومنهجية مدروسة قويمة تخرج دعاة على مستوى العصر الذي يعيشونه لنثبت للعالم صدق توجهاتنا، وسلامة مقاصدنا، وسمو أهدافنا بعد أن شوه الإسلام من أطراف علمانية منحرفة في ثقافتها وأخلاقها، وأخرى جاهلة مغالية لا تؤمن إلا بسفك الدماء وتناثر الأشلاء، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143]، وإن من التحدث بنعم الله ذلك الجهد الذي ينبغي أن يذكر، فيشكر، وعند النصفة لا يغفل، ولا ينكر التي يبذلها جنودٌ مجهولون من أهل الخير والدعوة والإصلاح ممن آثروا ما عند الله، ولا ينسى الدور الفاعل الذي ينبغي أن يروى فلا يطوى، ويظهر فلا يغمر، ويبان فلا يطمر لبلاد الحرمين الشريفين -حرسها الله- في المجالات الخيرية، والإغاثية، والصروح العلمية، والدعوية، والحضارية، والمناشط الإسلامية في كثير من بلاد العالم، ولا غرو، فهذا من صميم ثوابتها، وأهم أهدافها ومنطلقاتها، جعل الله عملها خالصاً لوجهه الكريم، وضاعف مثوبتها، وزادها من الخير والتوفيق بمنه وكرمه، والحق أنه لا يدرك مكانتها وفضلها ومميزاتها وخصائصها إلا من اغترب عنها.
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
ألا واعلموا رحمكم الله أن من أفضل أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم كثرة صلاتكم وسلامكم على الهادي البشير والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أيد للحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، اللهم أصلح ذات بينهم وألف بين قلوبهم واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربى والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلادنا هذه خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(105/6)
الفراغ بين الاستغلال والضياع
الوقت هو الحياة، بل إن الوقت هو أنت أيها الإنسان! فإذا ذهب وقتك فقد ذهبت.
وحديث الشيخ هنا يتضمن وقفات هامة حول هذا الموضوع، ويتضمن موضوعاً آخر وهو: ضوابط السياحة في الإسلام.
وهذه الوقفات المختصرة تمثل خطوطاً عريضة، يحتاج المسلم إلى ملاحظتها، وبناء حياته على أساسها لأنها مقتبسة من روح الإسلام.(106/1)
بعض صفات المسلم الصادق
الحمد لله فاطر الفِطَرَ، وخالق البشر، ومُبدع الأشباح والصور، أحمده تعالى حمداً كثيراً كما أمر، حمداً يتجدد في الآصال والبكر، وأشكره سبحانه وقد تأذن بالزيادة لمن شكر، سبحانه هو العالم بكل ما خفي وما ظهر.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له لا ملجأ من دونه ولا وزر، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والمتوج بالمقام الأسمى الأكبر، والمجد الأعلى الأطهر، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما كبَّر الله مكبرٌ وذكر، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فلنتق الله -عباد الله- في كل ما نأتي وما نذر، ولنستجب له -سبحانه- في كل ما نهى وأمر.
أمة الإسلام! يظل المسلم الحق ثابتاً على مبادئه، وفياً لدينه وعقيدته، معتزاً بأصالته وشخصيته، مستمسكاً بإسلامه، مقيماً لشعائره فخوراً بشرائعه، داعياً إلى سبيله، لا يحده عن القيام برسالته زمان دون زمان، ولا يحول بينه وبين تحقيق عبوديته لربه مكان دون آخر، فمُحيَّاه كله لله، وأعماله كلها لمولاه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] فحيث ما كان وحل، وأين ما وجد وارتحل، فإنه يضع التقوى شعاره، وطاعة الله دثاره، في سره وعلانيته، وعسره ويسره، ومنشطه ومكرهه، وحضره وسفره، وفراغه وشغله، في الشدة والرخاء، وفي حال البأساء والضراء، والأفراح والأتراح، هذا هو منهج المسلم الصادق في إسلامه، والجاد في انتمائه.
إخوة الإسلام! من أسوأ ما أصيبت به هذه الأمة في هذا العصر انتشار الانتماء السلبي، وغلبة الفكر الهامشي، الذي طغى في كثيرٍ من الجوانب مما أفرز أجيالاً تسيء فهم الإسلام على حقيقته، وتجعل لِلَوْثات الفكر المنحرف رواجاً في تقويم شخصيتها بانهزامية ظاهرة، وتبعيةٍ لبهرج التغريب والتفرنج المنتشرة في بعض صفوف المسلمين مع شديد الأسف، فأين الاعتزاز بالإسلام يا أبناء الإسلام؟ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
إخوة الإيمان! حينما تستمسك الأمة بالعروة الوثقى تصلح أمورها في الدنيا وتسعد في الأخرى، وتتلاشى عن مجتمعاتها الظواهر المخالفة لدينها، وإن هي فرَّطت في إسلامها، وأرَّخت الزِمام لأبنائها، يخبطون خبط عشواء في كل فكرٍ دخيل، ومنهج هزيل، وانفتاح على العالم دون ضوابط، تفشت بينها الظواهر المخالفة لدينها التي تترك آثاراً سلبيةً على أفرادها ومجتمعها، وتحتاج إلى التصدي والعلاج من قبل الغيورين عليها، والمهتمين بشئونها وأوضاعها.(106/2)
وقفات مع الوقت وكيفية استغلاله
أيها الأحبة في الله! من الظواهر الاجتماعية الخطيرة التي تستحق العرض والمسائلة، والبحث والمناقشة، بكل هدوء وموضوعية، وعلى مستوى التأصيل والمنهجية ما يحصل في هذه الأيام من كل عام حين تشتد حرارة الصيف ويلقي بسَمُومه اللافح على بعض أقطار المعمورة، مما يحمل بعض الناس على الهروب إلى المصائف والمنتزهات، والفرار إلى الشواطئ والمنتجعات، والعزم على السفر والسياحة وإيثار الرحلات، يرافق ذلك فراغ من الشواغل، وتمتع بإجازة صيفية يقضيها الأبناء بعد عناء عام دراسي كامل.
وحيث قد أعد كثيرٌ من الناس البرامج لشغل إجازاتهم، وقضاء وقت فراغهم، وكثيرٌ منهم قد حزم حقائب السفر وتوجه إلى المطارات عبر الأجواء وعن طريق البر وغيره، وأعد هؤلاء أمتعة الترحال إلى هنا وهناك، تعالوا لنضع هذه القضايا على الميزان الشرعي، ونعرضها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع التركيز على واقع بعض الناس في ذلك، وبيان الآثار السلبية عند غياب الضوابط الشرعية في هذه القضايا الواقعية، وذلك عن طريق هذه الوقفات السريعة:(106/3)
غاية خلق الإنسان هي العبودية
الوقفة الأولى: مهمة الإنسان في هذه الحياة، فهي عبوديته لله، واستغلاله كلما أفاء الله عليه للقيام بها وعدم الغفلة عنها طرفة عين {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].(106/4)
الوقت هو الحياة
الوقفة الثانية: الوقت هو الحياة
والوقت أنفس ما عنيت بحفظه وأراه أسهل ما عليك يضيع
فالواجب استغلاله في مرضاة الله، وشغله بطاعته سبحانه، فإن الإنسان مسئول عن وقته فيما أمضاه، وعن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، فهل يستوي من يشغله بالطاعة بمن يدنسه بالمعصية؟ لا وكلا.
{أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]، {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].(106/5)
الفراغ نعمة
الوقفة الثالثة: الفراغ نعمة من نعم الله، يجب شغله بكل وسيلة شرعية؛ من تعلم العلم، والقيام بالعبادة بمفهومها الواسع، أو على الأقل بالأمور المباحة شرعاً دون ما هو محرم، ففي الحلال غنية عن الحرام، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {نعمتان مغبون فيها كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ}، ويقول صلى الله عليه وسلم: {اغتنم خمساً قبل خمس -وذكر منها-: وفراغك قبل شغلك} وكم كان الفراغ سبباً في الانحراف والفساد عند عدم استغلاله؟! فهو نعمة لكن إذا استغل في معصية الله كان بلاءً ونقمة.
لقد أهاج الفراغ عليه شغلاً وأسباب البلاء من الفراغ
إن الشباب والفراغ والجدة مفسدة للمرء أي مفسدة(106/6)
جواز الترويح بالوسائل المباحة
الوقفة الرابعة: أن الإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروحوا عن أنفسهم أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم، وأن يقوموا بالوسائل المباحة في ذلك شرعاً، فالترفيه البريء، والترويح المباح لا غضاضة على الإنسان فيه، بل قد يكون مطلوباً -أحياناً- لأغراض شرعية، لكن يجب أن يكون كل ترفيه وترويح في حدود ما هو مباحٌ شرعاً، أما أن يستغل ذلك فيما يُضعف الإيمان، ويهز العقيدة، ويخدش الفضيلة، ويُوقع في الرذيلة، ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل، فلا وألف لا!(106/7)
السفر وضوابطه
الوقفة الخامسة: أن السفر في الإسلام لا بأس به.
سافر تجد عوضاً عمن تفارقه وانصب فإن نذير العيش في النصب
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
والشمس لو بقيت في الأفق واقفة لملها الناس من عجمٍ ومن عرب
لكن السفر في الإسلام له حدود مرعية، وضوابط شرعية:
منها: أن يكون السفر إلى بلاد الإسلام المحافظة على شعائر دينها، أما أن يكون إلى بقاع موبوءة، ومستنقعات محمومة، وبقاع مشبوهة، فلا.
ما لم يكن ثَمَّ ضرورة إلى ذلك، ولم يستثنِ أهل العلم من ذلك: إلا من خرج لعلم لا يوجد في بلاد الإسلام، أو لضرورة كعلاج أو نحوه، أو إلى الدعوة إلى الله تبارك وتعالى مع القدرة على المحافظة على شعائر الإسلام، وهل يلقى الحمل الوديع في غابات الوحوش الكاسرة والسباع الضارية؟(106/8)
استهداف السائحين المسلمين
الوقفة السادسة: أنه ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن أعداء الإسلام والمسلمين يستهدفون أبناء المسلمين من السائحين للوقيعة بهم، فهم يصهرونهم عن طريق الغزو الفكري والأخلاقي ببلادهم، ويستغلون كثيراً من السائحين اقتصادياً وخلقياً، ويجرونهم رويداً إلى حيث الخنا والفجور، والمخدرات والخمور، فيرجع بعضهم متنكراً لدينه ومجتمعه وبلاده وأمته.
أين العقول والتفكير عن إحصاءات مرض الهربس والإيدز؟ وعن عصابات مروج المسكرات والمخدرات؟
ونحن نقول للمسافرين: قبل أن ترفعوا أقدامكم فكروا أين تضعوها؟
نعم.
سافروا للخير والفضيلة والدعوة والإصلاح فلا حجر عليكم، كونوا ممثلين لبلادكم الإسلامية، مظهرين لدينكم، داعين إلى مبادئكم السمحة، حيث يتخبط العالم بحثاً عن دين يدخل له الحرية والسلام، ولن يجده إلا في ظل الإسلام.
فكونوا أيها المسافرون! سفراء لدينكم وبلادكم، مثلوا الإسلام أحسن تمثيل، حذاري أن يفهم العالم عن المسلمين وشبابهم أنهم أرباب شهوات فانية، ومغريات عاجلة، بل أفهموه بسلوككم أنكم أصحاب شخصية فذة، وشريعة خالدة، ودين يرعى العقيدة والقيم، وشئون الحياة، ويدير الحياة عن طريق الحق والعدل، ويبحث عما يدخل للعالم الرقي والحضارة، وإن ما تعمد إليه بعض الشركات السياحية من الدعوة إلى السفر إلى بلاد موبوءة، وإظهارها بدعايات مزركشة وإعلانات مزخرفة، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب مما ينبغي أن يتفطن له المسلمون.(106/9)
الاهتمام بأوقات الأبناء
الوقفة السابعة: الشباب من الأبناء والبنات هم ثمرات الفؤاد، وفلذات الأكباد، فلا بد من تربيتهم تربية حقه، لابد من شغل أوقاتهم بطريقة متوازنة، فهذه الأشهر التي يمرون بها في خلوٍ من المشاغل الدراسية النظامية لابد أن يستغلها أولياء أمورهم ببرامج حافلة تكسبهم المهارات، وتنمي فيهم القدرات، وتقوي إيمانهم، وتثقل فكرهم، وتسري ثقافاتهم، والبرامج الشرعية المباحة كثيرة بحمد الله؛ حفظ كتاب الله عز وجل، واستظهار شيء من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتعلم العلم، وكثرة القراءة في كتب أعلام الإسلام الموثوقين قديماً وحديثاً، والإطلاع على السير والتواريخ والآداب ونحوها، وإدخال السرور عليهم بالذهاب بهم إلى بيت الله الحرام في عمرة، أو إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة، أو إلى أحد مصائف هذه البلاد في سياحة بريئة في محافظة على دينهم وأخلاقهم، ومن ذلك تعلم الحرف والمهن المفيدة لهم، والتحاقهم بالدورات العلمية، والتدريبية والمهنية ونحوها التي يقوم عليها الأكفاء.
ومما يسر المسلم أن تشغل الإجازة بالزواجات للبنين والبنات وتلك قضية مهمة، لكننا نوصي المسلمين في التزام منهج الإسلام في ذلك وعدم الخروج على تعاليمه؛ بالإسراف والبذخ والمغالاة والتكاليف الباهضة، والحذر من منكرات الزواج التي تحصل عند بعض قليلي الديانة هداهم الله.(106/10)
استشعار مراقبة الله
عباد الله! ومن الوقفات المهمة في هذه القضايا أن يعلم العبد أنه مراقبٌ من قبل الله -عز وجل- في كل ما يأتي وما يذر {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحِ من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني(106/11)
تذكر النار
ومنها عباد الله! أن الحر في هذه الدنيا يجب أن يُذكَّر بالآخرة، فشدة الحر من فيح جهنم والعياذ بالله، فهل تذكرنا ونحن مشغولون في هذه الدنيا عن هذه النار فعملنا على الأخذ بأسباب الوقاية منها.(106/12)
تذكر أحوال المسلمين
أمة الإسلام! إن المسلم المرتبط بإسلامه وبإيمانه وأخوة الإسلام أن يكون شعوره مع شعور إخوانه في العقيدة، يتذكر أحوالهم ومآسيهم، لا سيما الذين يعيشون حياة القتل والتشريد والاضطهاد، فهل من الإحساس بشعورهم إهمال قضاياهم؟
أين الأحاسيس المرهفة، والمشاعر الفياضة؟
فأناس يفكرون في أحوال إخوانهم المسلمين، يُفكرون في مقدسات المسلمين وما يمر به المسجد الأقصى المبارك، وما تضج به فلسطين المسلمة المجاهدة لا سيما في هذه الأيام، وآخرون يفكرون في قضاء إجازاتهم في منتجعات ما، فالله المستعان.
ولقد هز مسامع الغيورين، وأجف مآقي المسلمين، ما أقدم عليه اليهود الخبثاء من استفزاز صارح وتحدٍ سافر لمشاعر المسلمين، وذلك عن طريق ما قاموا به أخيراً وليس آخراً، من عمل منشوراتٍ مغرضة، ورسومٍ ساخرة، تنال من الإسلام؛ بل من نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، بل وعلى دستور المسلمين، فأين المسلمون؟
أين القادة والزعماء عن اتخاذ المواقف الجريئة ضد هذه الجريمة، ضد من لعنهم الله وغضب عليهم وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، لقد تمادى القوم ولا بد من وقفة عمرية، وغضبة مضرية، ووقفة صلاحية، ونخوة معتصمية هذا هو الأمل وعلينا الصدق والعمل، والله المستعان! {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21]، {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، كما أمركم بذلك جل في علاه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وصفوتنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، من اليهود الغاصبين، وسائر المفسدين المعتدين يا رب العالمين.
اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين، اللهم من أرادنا وأراد بلادنا ومقدساتنا، وأراد جيلنا بسوءٍ فأشغله في نفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء.
اللهم انصر دينك، وكتابك، وسنة نبيك، وعبادك المؤمنين، اللهم كن للمستضعفين في كل مكان، اللهم أنقذ المسجد الأقصى من براثن اليهود المعتدين، اللهم أنقذه يا حي يا قيوم من اعتداء المعتدين، ومكر الماكرين، وكيد الكائدين.
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا إلى ما تحب وترضى، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم انصر به دينك، وأعلِ به كلمتك، وارفع به كلمة المسلمين، واجمع به كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله! إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(106/13)
القول على الله بغير علم
إن مصدر تلقي المسلم؛ عقيدة وعباده، سلوكاً ومعاملة، تحليلاً وتحريماً مرجعه للكتاب والسنة، فكما أن الله تعالى منفرد بالخلق والتدبير فكذلك له الأمر والنهي والتحليل والتحريم.
وعليه؛ فيحرم على المسلم أن ينصب نفسه في مقام الفتيا والتوقيع عن رب العالمين مالم يكن عنده علم بما يفتي فيه، ولقد كان السلف رحمهم الله يتدافعون الفتيا تورعاً مع علمهم الجم.(107/1)
الكتاب والسنة مصدر التلقي
الحمد لله فالق الإصباح، وفارق أهل الغي من أهل الصلاح، المنزه في عظيم عليائه عن مشابهة الأرواح، ومشاكلة الأشباح، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة زاكية الأرباح، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله والحرمات تستباح، وحزب الكفر قد عم الفجاج والبطاح، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يرشد إلى الحق بالحجاج الوضاح، وسمهرية الرماح، حتى ظهر دين الله وسرى في الآفاق سريان الرياح، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه ومحبيه، ما أزال الظلم الحادث ضوءُ الصباح، صلاة نحوز بها أعلى مراتب الفلاح، وأسمى درجات النجاح، ونتبوأ بها قمم الخير والصلاح، ونتخلص بها من دركات الإثم والجناح، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله ربكم وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه، اتقوه جلَّ وعلا حقَّ التقوى، فليس لكم بغير التقوى أمل يبقى، ولا حبل يقوى، والعاقبة للتقوى.
أيها المسلمون: من أعظم مقاصد شريعتنا الغراء حفظها لدين المكلفين، وذلك من جهتين؛ كما يقول أبو إسحاق الشاطبي رحمه الله: جهة وجودية تكفل إيجاده وتكوينه، وجهة عدمية تكفل حفظه وبقاءه وصيانته.
ومن المسلم لدى أهل الإيمان الحق أن مصدر تلقي المسلم لدينه، عقيدةً وعبادةً، ومعاملةً وسلوكاً، تحليلاً وتحريماً، تحاكماً وتحكيماً، إنما هو الكتاب والسنة، فكما أن لله وحده الخلق والتدبير، فله جل وعلا الأمر كله: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54].
وقد حذَّر سبحانه من التلقي عن غير هذا المصدر الثر فقال تعالى وتقدس: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21].(107/2)
حرمة القول على الله بغير علم
إخوة الإسلام: كم ترتعد الفرائص، وتوجل القلوب وترى قسمات الاستنكار إذا حُذِّر المسلمون من الشرك والقتل والربا والزنا ونحوها من كبائر الذنوب! لكنها معان تتهلل لها سبحات الوجوه إذ هي ذنوب توعد الله عليها وعيداً شديداً في الدنيا والآخرة، لما لها من الآثار الخطيرة في تقويض حياة الأمة، وإيرادها موارد العطب والهلاك، ولا غرو فالمعاصي وسائل هدم وتدمير لكنها أنواع ودركات.
إذا كان الأمر كذلك -يا عباد الله- فهل تعلمون ما هو أخطر من ذلك كله؟ بل ما هو أصل للشرك والكفران، وأساس للبدع والعصيان، وما هو أغلظ وأنكى منها، ومن جميع الفواحش والآثام، والجرائم والبغي والعدوان؟ إنه أصل الجرائم على الإطلاق، وأساسها باتفاق، ذلكم هو: القول على الله بغير علم.
يقول سبحانه: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] انظروا -يا رعاكم الله- كيف قرن الله سبحانه القول عليه بلا علم بالشرك به، والبغي والإثم والفواحش.
بل لقد جاءت هذه المحرمات الأربع في كل الشرائع مرتبة على حسب مراتب الشدة فيها، على سبيل الترقي، فأهونها أولها، وأخطرها آخرها، ولا عجب فما الشرك بالله إلا ضرب من القول على الله بغير علم.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله عند هذه الآية: {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] أي من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولداً ونحو ذلك مما لا علم لكم به.(107/3)
التحليل والتحريم حق لله
إخوة الإيمان: إن التحليل والتحريم حق لله وحده، فالحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله، ولقد أنكر سبحانه على أقوام جعلوا مصدر التحليل والتحريم من قبل أهوائهم، فقال عز من قائل: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:117] وقال تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [يونس:58 - 60].
وإن من أكبر الجنايات -يا عباد الله- أن يتصدر المرء للخوض في دين الله تحريماً وتحليلاً، من غير علم ولا بصيرة، وهذا مع كونه جناية عظمى ففيه سوء أدب مع الله تبارك وتعالى، حيث يتقدم بين يديه فيقول في دينه وشريعته ما لا يعلم، وتلك والله أمارة ضعف الإيمان وقلة الديانة، بل ونقص العقل والمروءة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:1].(107/4)
تورع السلف في الفتوى
إخوة العقيدة! لقد رسم السلف الصالح رحمهم الله المسلك الوضَّاء في هذه القضية، ديانةً وتثبتاً وورعاً، فهذا أعلم الأمة وسيدها وإمامها صلى الله عليه وسلم، يسأل عما لم ينزل عليه فيه وحي، فينتظر حتى ينزل عليه الوحي، وآيات يسألونك في الكتاب العزيز غير قليلة، وهكذا كان الأجلاء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا أبو بكر رضي الله عنه وقد سأل عن معنى آيه من كتاب الله يقول: [[أي سماء تظلني وأي أرض تقلني إن أنا قلت في كتاب الله ما لا أعلم؟]] وهذا عمر رضي الله عنه تنزل به الحادثة فيجمع لها أكابر الصحابة ويستشيرهم فيها.
قال ابن سيرين رحمه الله: لم يكن أحد أهيب لما لا يعلم من أبي بكر، ولم يكن أحد بعد أبي بكر أهيب لما لا يعلم من عمر.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: [[إن استطعت أن تكون أنت المُحَدَّثَ فافعل]] وقال رضي الله عنه: [[إن الذي يفتي الناس في كل ما يسألونه لمجنون]].
وقال أيضاً: [[من سئل عن علم يعلمه فليقل به، ومن لم يكن عنده علم فليقل: الله أعلم، فإن من العلم أن يقول لما لا يعلم: الله أعلم]].
ورحم الله الإمام الشعبي حينما سئل عن مسألة فقال: لا أدري، فقال له أصحابه: إنا نستحي لك من كثرة ما تسأل فتقول: لا أدري، فقال رحمه الله: لكن ملائكة الرحمن لم يستحيوا إذ سئلوا عما لا علم لهم به فقالوا: {سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة:32].
وكان عطاء بن أبي رباح يقول: لا أدري نصف العلم.
وقال بعضهم: إذا نسي العالم كلمة لا أدري فقد أصيبت مقاتله.
وكان أبو عبيدة إذا سئل يتمثل قول الشاعر:
يا رب لا أدري وأنت الداري كل امرئ منك على مقدار
وفي تدافع الفتوى وذم المسارعة إليها أورد ابن عبد البر رحمه الله قول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: أدركت عشرين ومائة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما كان منهم محدث إلا ود أن أخاه كفاه الحديث، ولا مفتٍ إلا ود أن أخاه كفاه الفتوى.
وهذا إمام دار الهجرة رحمه الله يقدم عليه رجل من مسافة بعيدة، فيعرض عليه أربعين مسألة، فيجيب عن أربع منها ويقول في ست وثلاثين مسألة منها: الله أعلم.
فيقول له الرجل: أنت مالك بن أنس، إليك تضرب أكباد الإبل، وإليك الرحلة من كل بلد، وقد جئتك من مسافة بعيدة وتقول: الله أعلم! ماذا أقول لأهل بلدي إذا رجعت إليهم؟! قال: تقول لهم: إن مالكاً يقول: الله أعلم.
وكان الإمام أحمد رحمه الله كثيراً ما يسأل فيتوقف، أو يقول: لا أدري، أو نحو ذلك.
وقال سحلول بن سعيد: أجرأ الناس على الفتيا أقلهم علماً، يكون عند الرجل الباب الواحد من العلم يظن أن الحق كله فيه.
وكان إذا سئل رحمه الله يقول: إنما يفتي الناس مفت أو أحمق، وأنا لست بمفت ولا أريد أن أكون الآخر.
وقال بشر الحافي: من أحب أن يسأل فليس بأهلٍ أن يسأل.
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله: كل من حرص على الفتيا وسابق إليها وثابر عليها، إلا قل توفيقه واضطرب في أمره، وإن كان كارهاً لذلك غير مختار له وما وجد ممدوحة عنه، وقدر أن يحيل بالأمر فيه إلى غيره، كانت المعونة له من الله أكثر، والصلاح في فتاويه وجوابه أغلب.(107/5)
فضل علم السلف على الخلف
معاشر المسلمين: إذا كان هؤلاء الأئمة مع جلالة قدرهم وعظيم مكانتهم، يسلكون مسالك التورع والتثبت فكيف هي الحال الآن؟ وكيف بنا معاشر المسلمين؟ الله المستعان!
أما الخيام فإنها كخيامهم وأرى نساء الحي غير نسائها
لقد وصف الحكيم الترمذي عموم الخلق في زمانه فقال: ضعف ظاهر، ودعوى عريضة.
وعن مالك قال: أخبرني رجل أنه دخل على ربيعة فوجده يبكي فقال: ما يبكيك؟ أمصيبة دخلت عليك؟ وارتاع لبكائه، فقال: لا.
ولكن استفتي من لا علم عنده.
وظهر في الإسلام أمر عظيم قال ربيعة: ولبعض من يفتي هاهنا أحق بالحبس من السراق.
قال بعض العلماء: فكيف لو رأى ربيعة زماننا؟ قلت: فكيف لو رأى هذا العالم زماننا هذا؟(107/6)
قبض العلم بقبض العلماء
في الصحيح من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا} وكم رأى الغيور نُزَّالاً في حلائب العلم ومتطفلين في ساحات المعرفة، وهم ليسوا منها في قليل ولا كثير، ديدنهم الجرأة على الفتوى، ودأبهم التجاسر على التحليل والتحريم، متشبعين بما لم يعطوا، يتكلمون بما يعلمون وما لا يعلمون، ويجملون ويفصلون، ويهرفون ويسفسطون، وهم من أجهل الناس في أحكام الشريعة.
وقل لمن يدعي في العلم فلسفةً علمت شيئاً وغابت عنك أشياء
إذا سمعت أحدهم يتكلم، فكأنما يتنزل عليه وحي؛ من جَزْمه وجرأته في قوله، وعدم تورعه في كلامه، ولربما نسب ما يراه إلى الإسلام، ترى أحدهم يجيب في عظيم المسائل مما لو عرض على عمر لجمع له أهل بدر، وكم يتملكك العجب، وأنت تسمع عبارات التعظيم لذواتهم، والتعالي في نفوسهم! شعارهم: العلماء رجال ونحن رجال.
وقاموسهم: رأينا كذا، ترجيحنا، اختيارنا، والذي نراه، ونحن نرى، والراجح عندنا.
يقولون هذا عندنا غير راجح ومن أنتم حتى يكون لكم عند(107/7)
ثوابت الدين لا تقبل التبديل
فليس كل من لبس عباءة، أو كور عمامةً، أو نال شهادةً، أو أمّ مسجداً أو ألف مؤلفاً، أو عمل مدرساً، أو أبلغ في موعظة؛ يُعد شيخ الإسلام ومفتي الأنام، يحكم في العقائد والرقاب والأموال والأعراض، وكأن الأمر شربة ماء! أما علم هؤلاء أن الجرأة على الفتوى جرأة على النار، وأن التجاسر عليها اقتحام لجراثيم جهنم، عياذاً بالله عياذاً، بل لقد وصل الحال ببعض العامة إلى أن يفتي بعضهم بعضاً، والله عز وجل يقول: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43].
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: {هلا سألوا إذا لم يعلموا فإنما شفاء العي السؤال} لقد أصبح الحديث في علوم الشريعة بضاعة كل متعالم مأهول، حتى ساموا باعة البقول عدداً، وتكلم كثير من الرويبضة، واستطالوا على منازل العلماء ومقامات العظماء والفقهاء، وعمد بعضهم إلى أمور من الثوابت والمبادئ، وجعلوها عرضة للتغيير والتبديل، بحجة التنوير والتطوير، ولربما تحذلقوا بتغير الفتوى بتغير الزمان.
ووجد من يتنصل عن الفتوى بأمور جاء تحريمها، مما علم من الدين بالضرورة، وكثر التحايل على أمور الشريعة، فاستحلت كثير من المحرمات بأدنى الحيل، وطالب بعض مثقفي العصر من أفراخ التغريب وتلامذة الإفرنج، بالترخص بل بالتفلت من الأحكام الشرعية، فطالب بعضهم بإعادة النظر في حرمة الربا أو بعض صوره، وآخرون بالتعجل المذموم والتجاسر المحموم على حجاب المرأة المسلمة وقضاياها، وهكذا في سيل من التلاعب المرذول بأمور الشريعة، وتجرأ بعض حملة الأقلام، بل وبعض وسائل الإعلام وقنواته؛ المسموعة والمقروءة والمرئية، إلى إثارة قضايا كلية من الدين، مع بعض المتعالمين ممن:
يمدون للإفتاء باعاً قصيرةً وأكثرهم عند الفتاوى يفذلك
باحثين عن الإثارة، زاعمين استقطاب القراء والمشاهدين، فالويل كل الويل لكل من ارتقى هذا المرتقى الصعب على حساب الدين وتعاليمه، فأضل فئاماً من الأمة ممن سيحملون أوزارهم وأوزاراً مع أوزارهم {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [النحل:25].(107/8)
وجوب الدفاع عن الشريعة
أمة الإسلام: إن الواجب حماية لبيضة الدين، ودفاعاً عن أحكامه وتشريعاته، أن يحجر على كل متكلم في الشريعة، تحليلاً أو تحريماً وهو لا يحسن، فالحجر لاستصلاح الأديان، أولى من الحجر لاستصلاح الأموال والأبدان، والغيرة على الشريعة من المكارم، وهي أولى من الغيرة على المحارم، والله إنه ليحرم على من لا يهتدي لدلالة القرآن، ولا يعرف السنة والآثار والبرهان أن يتسلم جانب العلم، ويتصدر في مجال الإفتاء ونحوه، فيضل ويُضل؛ فتغرق سفينة الأمة، وقد قيل لـ سفيان الثوري رحمه الله في ذلك فقال: إذا كثر الملاحون غرقت السفينة.
ألا فليعلم هؤلاء أنهم بكلامهم في الشريعة إنما يوقعون عن رب العالمين سبحانه، وأن الفتاوى نار تضطرم، وكم سمعنا ونسمع من فتاوى فجة لا زمام لها ولا خطام، تبنى على التجري لا على التحري، لا تقوم على قدم الحق فتعنت الخلق، وتُشجي الحَلْق، وحق على هؤلاء أن تسلم الأمة من لأوائهم وتحذر من غلوائهم.
وإن رغمت أنوف من أناس فقل يا رب لا ترغم سواها
روى ابن سيرين أن عمر قال لـ ابن مسعود رضي الله عنهما: [[نبئت أنك تفتي الناس ولست بأمير، فول حارها من تولى قارها]].
قال الإمام الذهبي في السير: وهذا يدل على أن للإمام أن يمنع من يفتي بلا إذنه.
وذكر الخطيب البغدادي بسنده عن حماد بن زيد رحمه الله أنه سمع منادياً ينادي في أسواق المدينة أن لا يفتي في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى مالك.
ولذا فإن الواجب أن يقوم بهذا العمل الأصلاء دون الدُخلاء، والمتأهلون لا المتطفلون والمتعالمون؛ حفظاً لدين الأمة، وتوحيداً لكلمتها، وضبطاً لمسالكها ومناهجها؛ لتكون مبنية على الكتاب والسنة، بفهم سلف الأمة، وبذلك تسلم الأمة من غوائل المحن وبواعث الفتن، وتوجد العواصم بإذن الله من قواصم الجريمة الشنعاء، ألا وهي القول على الله بغير علم، والله المسئول أن يعصمنا من الزلل، ويحفظنا من الشرور والخطل، وأن يرزقنا نافع العلم وصالح العمل، فهذا هو عظيم الرجاء وكبير الأمل.
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، وثبتنا وإياكم على الحق والإيمان، ورزقنا اتباع سنة المصطفى من ولد عدنان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان للأوابين غفوراً.(107/9)
أسباب القول على الله بغير علم وعلاجه
الحمد لله العلي الكبير، العليم القدير، المتفرد بالخلق والأمر والتدبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، نعم المولى ونعم النصير، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله البشير النذير والسراج المنير، هو للأنبياء لبنة زمانهم، وللرسل مسك ختامهم، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الشرفاء وصحبه النجباء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: إذا التمست أسباب هذه القضية، فإن أهمها ضعف الوازع، وقلة الرادع، والتقصير في التقوى والإيمان ومخافة الواحد الديان، وعدم المنهج الصحيح في التلقي والتحصيل، إضافة إلى قاصم الظهور داء الشهرة وحب الظهور، واستشراء التعالم المذموم، وغلبة الهوى، وقعود الأكفاء والمؤهلين عن البلاغ والبيان، ولا يدفعنَّ بعض المؤهلين ورع كاذب، وتثبت بارد في تبليغ ما يعلموا من دين الله عز وجل، فلا تنافي بين التثبت مما لا يعلم، وتبليغ ما يعلم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {بلغوا عني ولو آية} وعلاج هذا الداء بتقوية الإيمان والخوف من الله في النفوس، والسير على المنهج الصحيح في التعلم والأخذ من أهل العلم والرد إليهم للعلم والإيضاح {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] لا سيما في المعضلات التي تحتاج إلى مرجعية علمية موثوقة، وما عم فيه التنازع والاختلاف: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59].
ومن العلاج: القراءة في سير الأسلاف، والتحلي بأدب الخلاف، والتواضع الجم، والورع الصادق، وقبل ذلك وبعده إخلاص النية لله عز وجل، وسؤاله التوفيق والتسديد.
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن القول على الله بلا علم ضرب من الكذب عليه سبحانه: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:144] ومن ذلك الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وترويج الأحاديث الموضوعة عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الشيخان: {من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار} ويدخل في ذلك الكذب على علماء الإسلام المعتبرين، وتلفيق الأكاذيب عليهم، أو الأخذ بالشواذ والإغراب في المسائل، أو ما يعمد إليه بعض السفهاء من تتبع رخص الفقهاء، وقد قيل: من طلب غريب المسائل ضل، ومن تتبع الرخص تزندق.
أو التعصب لأحد من الأئمة، وادعاء العصمة له، وحكر الحق فيما يراه، أو نحو ذلك مما يصد عن المنهج الصحيح بالتلقي.
فاتقوا الله أيها المتصدون لهذا كله! واتقوا الله -أيها المستفتون- ولا تسألوا إلا من يوثق بدينه وعلمه؛ لتكونوا على بصيرة في أمور دينكم، ونجاة في أمور دنياكم وآخرتكم.
هذا واعلموا -رحمكم الله- أن من أفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وأحقها بشفاعة نبيكم صلى الله عليه وسلم، كثرة صلاتكم وسلامكم عليه كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على النبي المصطفى والرسول المجتبى، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود، وارض اللهم عن الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء، يا خير من تجاوز وعفا، وارض اللهم عنا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الملة والدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا إلى ما تحبه وترضاه، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم انصر به دينك وأعلِ به كلمتك، وأعز به أوليائك واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، اللهم أصلح له البطانة والسريرة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم ارزقنا العلم النافع والعمل الصالح، والتوفيق لما تحب وترضى يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ>
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(107/10)
المخدرات والمسكرات آفة العصر
العقل هو ما يميز الإنسان عن سائر المخلوقات، والجناية عليه بالحجب المؤقت (السكر) يوقع في مخاطر لا تخفى على ذي لب.
والعقل من الضروريات التي جاء الإسلام للحفاظ عليها.
ولقد مهّد الشيخ لحديثه عن جرائم الإدمان بكلام عن الصراع بين الإسلام وأعدائه، واستغلال هؤلاء الأعداء للمخدرات كسلاح ضد أبناء الإسلام.
كما أورد بعضاً من أضرار المخدرات على الفرد والمجتمع، وأسباب تفشيها، وطرقاً مقترحة للوقاية منها.
وختم بذكر أضرار البدعة على الدين، وبعض المزالق والأخطاء في العقيدة.(108/1)
رحلة الصراع بين الحق والباطل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونستلهمه الرشد والتوفيق لخيري الدنيا والآخرة، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله؛ سيد الأنام، وبدر التمام، حطَّم الله به الأصنام، وأظهر به الشريعة وأبان الأحكام، وحرَّم الخبائث والآثام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله السادة الأعلام، وأصحابه البررة الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون! اتقوا الله -تبارك وتعالى- فإن تقواه سبحانه العروة التي ليس لها انفصام، والجذوة التي تستضيء بها القلوب والأفهام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].
أمة الإسلام! إنه منذ أن بزغ فجر الإسلام المشرق، وانبثق نور الإيمان المتلألئ الوضَّاء، وهو يلقى من أعداء الإسلام صنوفاً من التحديات، وألواناً من الهجمات، تمثل الصراع بين الحق والباطل في معركة دائمة، متنوعة الصور والأساليب، ترمي إلى الظهور حيناً، وإلى الخفاءِ أحياناً أخرى وتتنوع، ساخنة تارة، وباردة أخرى، عسكرية مرة، وفكرية وخلقية مرات شتى، بمكر وتآمر، وحقد وعداء سافر، يريدون القضاء على الإسلام وأهله، وتمزيق وحدتهم، واستئصال شأفتهم، وتدمير قوتهم، وإزالة دولتهم، وإلغاء هويتهم، والإستيلاء على مُقَدراتهم.
ولن يهدأ لهم بالٌ، ولن يقر لهم قرار، ولن تلين لهم قناة، مادام للإسلام كيان، وما دامت للمسلمين صولة وجولة، حتى يُطفئون هذا النور ويقضوا على أهله، وكل ما يمت له بصلة قضاء مبرماً، اسمعوا إلى قول الحق تبارك وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].
إخوة العقيدة! لقد ملئ الإسلام عبر تأريخه المجيد، بما لا يُعد ولا يحصى من الدسائس والمؤامرات، على اختلاف الطرق والشعارات، وتباين الأقطار والنزعات، وفي هذا العصر نرى ونسمع دروباً من الغزو العسكري والفكري والأخلاقي، وصنوفاً من الحروب النفسية، والعدوان المادي، فالأعداء لم يكفوا ولن يكفوا ولا يزالون ماضين إلى أهدافهم الخبيثة بوسائل جديدة، وأنواعٍ من التحديات، وضروبٍ من نشر الشهوات والشبهات، وألوانٍ من المفتريات، ولم يكتفوا بالكلام، بل انتقلوا إلى التحدي السافر، والهجوم الشرس، والتدخل القذر، والعمل السافل، وكان أن تسربوا عبر الحصون، وتسللوا إلى عددٍ من الثغور، ولم يكتفوا بالعمل خلف الستور في حذفٍ للمؤامرات، وإحكامٍ للتحديات، وتخطيطٍ رهيبٍ، وتنسيقٍ عجيب، ولكن: {يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة:32]، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] وليس ما قامت وتقوم به الصهيونية العالمية الماكرة، والصليبية الحاقدة، بخافٍ على كل ذي لبٍ من المسلمين: {وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة:64].(108/2)
نبتة الشر المسكرات والمخدرات
إخوة الإيمان! ولما فشل الأعداء في السيطرة العسكرية على بلاد الإسلام، عملوا جاهدين بالحروب الأخلاقية، وشنها على بلاد المسلمين، وكان من أخطر وسائلهم، وأشرس تحدياتهم، قيامهم بشن حرب المسكرات والمخدرات وتصديرها لبلاد المسلمين، لتدمير شبابهم، وقتل رجولتهم، واغتيال طموحاتهم، حتى تتم السيطرة عليهم، فكان لابد من التصدي لهذا الخطر العظيم، والشر الفادح الجسيم، بالتذكير والتوجيه، حتى تسلم الأمة من شرور هذه الآفات الخبيثة والأدواء الخطيرة.
إخوة الإسلام! لما كانت المسكرات والمخدرات تقضي على العقل، بل تقضي على الفرد في أعز ما يملك وهو عقله، وبالتالي تقضي على دينه وصحته وسلوكه، وتقضي على المجتمعات بالإخلال بأمنها، وجلب الفساد والفوضى إليها، وتدهور اقتصادها، وإعاقة تنميتها، وتفكك أسرها، وتفاقم الجرائم فيها، وانتشار العنف والإرهاب بين أبنائها، فهم بين سِكِّير عربيد، وثملٍ مجرمٍ عنيف عنيد، لا يعرف لله حقاً، ولا لمجتمعه وزناً، ولا للفضائل والقيم طريقاً.
لذلك كله ولما للمسكرات والمخدرات من سيئات كثيرة، وأضرار خطيرة، وشرور مستطيرة على الأفراد والمجتمعات، على الدين والصحة والعقل والمال والسلوك، جاء تحريمها في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم: {أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90].
وروى الإمام أحمد وأبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر}.
فهي -يا عباد الله- أم الخبائث، ورأس الشرور، وكبيرة من كبائر الذنوب، متعاطيها معرض نفسه لوعيد الله ولعنته وغضبه، المدمن مفسدٌ لدينه وبدنه، جانٍ على نفسه وأسرته ومجتمعه، عابثٌ بكرامته وجوهر إنسانيته، ساعٍ إلى الإثم والعدوان، صائلٌ متمردٌ على الأخلاق والقيم، وهو عضو مسمومٌ في المجتمع، إذا استفحل أمره وتطاير شرره، أصابه بالخراب والدمار، ومتى غاب عقل المدمن؟ نسي ربه، فترك الصلاة! وقد يقتل! وقد يزني! ويقع على محارمه -والعياذ بالله- بل قد يسب الدين! وكم أحدثت من بغضاء! وكم زرعت من عداوة! وكم فرَّقت من اجتماع! وكم ضيعت من أمة! وكم أهاجت من حروب! وكم شتتت من أسر! وكم فرقت بين رجلٍ وزوجته! وأبٍ وبنيه! ومحبٍ ومحبيه!
وجماع القول: المسكرات والمخدرات داء المجتمعات، وسرطان الأمم، فأمرٌ هذه آثاره الخطيرة، وهذا جزاء متعاطيه عند الله، وتلك حاله في الدنيا والآخرة، كيف تطيب نفس عاقلٍ فضلاً عن مسلم بتناوله؟! بل بوجوده في مجتمعات المسلمين؟!
إنه لعجيب! حال من يسمع هذه الآثار، ويعلم أحوال من يتعاطى المسكرات والمخدرات، وما يقعون فيه من القبائح التي هي مسخ للدين والعقل والصحة، وما صار إلى أهله من أخس حالة، وأقذر صفة، وأفظع مصاب لا يتأهلون لخطاب، ولا يميلون إلى صواب، ولا يهتدون إلا إلى خوارم المروءات، وهوادم الكمالات، وفواحش الخطيئات والضلالات.
ثم مع هذه العظائم وتلك القواصم! يُصر بعض الجهلة على أن يندرج في زمرتهم الخاسرة، وفرقتهم الحائرة، متعامياً عما على وجوههم من الغبرة، وما يعتريها من القترة، ولكن يا سبحان الله! كيف يسعى في جنونٍ من عقل؟! نعوذ بالله من زيغ القلوب.(108/3)
المخدرات سلاح قوي لأعداء الإسلام
أمة الإسلام! ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فنحن في هذا العصر أمام مؤامراتٍ خطيرة، وشبكات وعصابات إجرامية، وهجمات شرسة, ومخططات عدوانية حاقدة، يشنها أعداء الإسلام على أبناء المسلمين وبلادهم، فلجأوا بشتى الوسائل إلى محاربة المسلمين، وقد استخدموا طرقاً ماكرةً، وأسلحة فتَّاكةً خفيةً هي في الحقيقة أخطر من المدافع والصواريخ؛ لأنها تقضي على الأمة في أعز ما تملك تقضي على العقول، وتلوث الأفكار، وتغزو المبادئ، وتهدم المعنويات، إنها معولٌ لهدم أخلاق عدة الأمة، وقلبها النابغ، وشريانها المتدفق من شبابها، سواعد بنائها، وعدة مستقبلها، ورجال غَدِهَا، وبناة حضارتها، فالوعي الوعي -يا شباب المسلمين- أمام ما يُحاك ضدكم من مؤامرات، وما يُجلب إليكم من تحديات.
لقد أجلب أعداء الإسلام وأشياعهم من ضعاف النفوس، وعديمي المروءة، ومشيعي الفساد في الأرض، المحاربين لله ورسوله، المؤذين لعباده وأوليائه، بالترويج لآفة المخدرات المدمرة، تلك الجريمة الخطيرة التي تمثل مشكلة العصر الحاضر وكفى؛ لأن من ورائها دعاة الجريمة، والمفسدين في الأرض، الذين أشاعوا هذا السم الزعاف، والوباء الفتاك، وسقوه أبناء المسلمين بملئ أفواههم.
لقد فشت هذه الجريمة في المجتمعات فشواً عظيماً، وبلغت مبلغاً عظيماً، وحطَّمت الأرقام القياسية، والإحصاءات المذهلة من المدمنين، وتطالعنا الإحصاءات أن نصف شباب المجتمع في بعض البلاد يتعاطون الخمور والمخدرات، وقد دعت هذه الإحصاءات المذهلة دول العالم بأسرها لمنع التعامل بالمخدرات تعاطياً وبيعاً، تناولاً وترويجاً، زراعةً وإنتاجاً، ووضعت لذلك العقوبات الرادعة؛ لحماية مجتمعاتها من هذا الوباء الفتَّاك، وهذا البلاء المدمر.
وقد تفنن أعداء الإسلام بتصدير هذا الوباء إلى مجتمعات المسلمين، فألبسوه شتَّى الألبسة، وسموه الأسماء البراقة، ونوعوه أنواعاً مختلفة جذابة، ومهما كان الأمر! فالطريق والهدف واحد، الكل له آثاره وعواقبه السيئة على الفرد والمجتمعات.(108/4)
أضرار المخدرات على الصحة والأخلاق
وكم كانت المسكرات والمخدرات سبباً لأمراض القلب، وتصلب الشرايين، واعتلال الجهاز الهضمي، والتنفسي والتناسلي، وإتلاف خلايا المخ، وتدمير المراكز العصيبة لدى الإنسان، فيصبح شخصاً معتلاً شبحاً مخيفاً، مرتبك التفكير، قلقاً غير متوازن، وتقل قواه العقلية، فيهذي بما لا يدري، ويهرف بما لا يعرف، ويصاب بالهلوسة والهستيريا، فتسوء علاقته مع أسرته ومجتمعه.
ولقد أثبتت الدراسات أنه كلما زادت ظاهرة استعمال المخدرات في مجتمع من المجتمعات ارتفعت معدلات أخطر الجرائم الأمنية والأخلاقية وسواها، كما ثبت أن نسبة أكثر من (50%) من حوادث السيارات التي يذهب بسببها الأبرياء، وتخلف ورائها العديد من المآسي، يرجع السبب في وقوعها إلى استعمال السائقين للمخدرات والمسكرات، حيث تسبب لهم الرعونة والتهور، وعلى الذين يظنون أن ذلك ضربٌ من المبالغة، عليهم أن يتعرفوا على من يملئون السجون، ومن يعرض في المحاكم، ومن يعالج في المستشفيات النفسية، وعليهم أن يراجعوا الجهات المعنية، ويقرءوا الإحصاءات التي تهدد البشرية، فكم من ملايين الحبوب والمخدرات تجلب يومياً للفتك بأجيال المسلمين!؟
الأمر خطير يا عباد الله! ولا يسع مسلماً التغاضي عنه والسكوت عليه، وكيف يسكت المسلمون وهم يُقادون عن طريق هذا الوباء إلى هوة سحيقة لا يعلم مداها إلا الله؟!(108/5)
أسباب تفشي هذه الجريمة
أمة الإسلام! وحينما نبحث عن أسباب تفشَّي هذه الجريمة -ولا سيما في صفوف الشباب- نجد أن أولها:
ضعف الوازع الديني، وتدني مستوى التربية الإسلامية لدى كثيرٍ من الأجيال.
ومنها: الخواء الروحي، والفراغ الكبير، والتقليد الأعمى، وجلساء السوء وغير ذلك كثير، مما يجسد المسئولية -أولاً- وقبل كل شيء على الأسرة، وعلى ولي الأمر فيها، لذلك فإني أذكر الآباء والأمهات بضرورة رعاية الأبناء، وحسن تربيتهم، ومتابعتهم ومراقبة تحركاتهم، وإبعادهم عن قرناء السوء، وشغل أوقات فراغهم بما ينفعهم في أمر دينهم ودنياهم، وأحذرهم من مغبة إهمال ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6].
وإنني أناشد كل مسلم! أن يتحمل مسئوليته تجاه دينه ومجتمعه وبلاده، وأن يكون عيناً ساهرة على جلب المصالح لمجتمعه، ودرء المفاسد عن بلاده، وأن يسود بين المسلمين أفراداً وهيئات، شعوباً وحكومات، التعاون للقضاء على هذا الوباء العضال، والتبيلغ عن أهله، وأخص بالذكر: الأعيان، والوجهاء، والدعاة، والعلماء، وحملة القلم، والمعنيين بشئون توجيه الشباب وتربيتهم وتعليمهم، ليُسخروا كل طاقاتهم، ويبذلوا كافة إمكاناتهم؛ لمحاصرة هذا الشبح المخيف، والأخطبوط المرعب.
كما أن على وسائل الإعلان مرئيها ومسموعها ومقروئها النصيب الأكبر من تبصير الأجيال بمخططات الأعداء، للفتك بهم، واغتيال أخلاقهم عن طريق هذا الوباء وغيره.
أما الذين تورطوا وساروا في طريق الانتحار البطيء، فإننا نناديهم نداء المودة والإشفاق، أن يكفوا عن هذا البلاء، فكفاهم شروراً على أنفسهم، ومجتمعاهم وأسرهم وأولادهم وبلادهم، ومن تاب تاب الله عليه.(108/6)
طرق الوقاية والعلاج
ألا وإن من أهم طرق الوقاية والعلاج من داء المخدرات:
تثبيت العقيدة وتقوية الإيمان في القلوب، حتى تشعر بالطمأنينة والأمان، وتحصين الشباب بالتربية الإسلامية القوية في الأسرة والمدرسة والمجتمع، والعناية بالتوعية المكثفة، والتعاون البنَّاء بين أفراد المجتمع وهيئاته.
كذلك لا بد من وضع العقوبات الرادعة لمن يُجلبون الضرر لمجتمعات المسلمين، من المهربين والمروجين بالتشهير بهم، وإظهار سوء صنيعهم، وإقامة حكم الله فيهم.
وإننا لنحمد الله عز وجل، أن وفق هذه البلاد المباركة باتخاذ الجزاء الرادع، وعمل الدواء الناجع، المستمد من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، للقضاء على هذا الشر، ومعاقبة أهله، وإننا لندعو كل البلاد الإسلامية بل كل البلاد أن تحذو حذوها في محاربة هذا الوباء، فلقد أخذت بالبلسم الشافي، والحل الحازم، وجنت ثماره، وتذوقت آثاره الطيبة، أمنا وأماناً بحمد الله وتوفيقه.
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(108/7)
البدعة صورة أخرى لحرب الإسلام
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، وشرَّفنا باتباع سيد المرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة؛ فإن يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار.
عباد الله! وصفحة أخرى من صفحات الكيد للإسلام، تتمثل في تشكيك المسلمين في ثوابتهم، ودخول النقص عليهم في عقيدتهم، وبُعد كثيرٍ منهم عن مشكاة النبوة، ومنهج السلف الصالح رحمهم الله.
ومن ذلك: ما يعتقده بعض الناس من أن لبعض الشهور والأيام خصوصيةً على غيرها، من غير دليلٍ من كتابٍ ولا سنة رسول الله، ومن هذا ما يعتقده بعض الناس في شهر رجب من أن له خاصيةً على غيره من الشهور، فيفعلون فيه أموراً محدثة، ويعتقدون فيه اعتقاداتٍ خاطئة، ويخصصونه بأنواعٍ من العبادة، لم يكن عليها دليلٌ من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا سار على ذلك السلف الصالح رحمهم الله.
وتخصيص شهر رجب، أو بعض أيامه ولياليه بصيام أو قيام أو نحوهما أمر محدث ليس له أصل في شريعة الإسلام، قال الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله: "لم يرد في فضل شهر رجب ولا صيامه ولا في صيام شيء معين منه، ولا في قيام ليلة مخصوصة حديثٌ صحيحٌ يصلح للحجة" وله -رحمه الله- رسالة قيمة في ذلك، ونحو قوله هذا قال علماء الإسلام المحققون، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، والحافظ ابن رجب، والإمام النووي، والشوكاني وغيرهم رحمهم الله جميعاً، فبأي دليل بعد ذلك يحتج من يفعل هذه المحدثات، ألا فاتقوا الله -أيها المسلمون- وتمسكوا بدينكم، واتبعوا هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، واحذروا الوقوع في كل ما يخالف السنة.
فخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
أيها المسلمون! ألا وإن مما ينبغي التحدث به من نعم الله عز وجل، ما مَنَّ الله به علينا في هذه الأيام من نزول الغيث، وتلك نعمة الله عظيمة، نسأل الله أن يوزعنا شكرها قولاً وعملاً واعتقاداً، بأن الله وحده هو المتكفل -جل وعلا- بإنزال الغيث، وما يعتقده بعض العامة من أن للأنواء والكواكب تأثيراً في ذلك، فهذا مما يخدش العقيدة.
وقد ورد في الحديث الصحيح أن الله سبحانه وتعالى يقول: {أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافر، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته! فذلك مؤمنٌ بي، كافرٌ بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا وكذا! فذلك كافرٌ بي مؤمنٌ بالكوكب}.
ألا فاتقوا الله عباد الله! واشكروه على عموم نعمه وآلائه، واستعينوا بها على ما يُحبه ويرضاه، لا بما يسخطه ويأباه، ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله؛ كما أمركم ربكم جلَّ في علاه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق أمامنا لما تحب وترضى، اللهم خذ بناصيته للخير والبر والتقوى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم أصلح له بطانته وسريرته يا ذا الجلال والإكرام، ووفقه لما تحب وترضى يا حي يا قيوم، اللهم وفق جميع المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم يا سميع الدعاء.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا حي يا قيوم.
اللهم وأظهر الهدى ودين الحق الذي بعثت به نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم، على الدين كله ولو كره الكافرون، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغث بلادنا بالخيرات والأمطار، وقلوبنا بالإيمان واليقين يا حي يا قيوم، اللهم اجعل ما أنزلته قوتاً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذابٍ ولا بلاءٍ ولا هدمٍ ولا غرق، اللهم إنا نشكرك على نعمة الغيث، اللهم فعم بالغيث أرجاء بلادنا، وأرجاء بلاد المسلمين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم بارك لنا في رجبٍ وشعبان وبلغنا رمضان، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(108/8)
المداومة على الطاعات
لقد جاءت نصوص الشرع المطهر بالأمر بعبادة الله، والاستقامة على شرعه، التي ليس لها غاية ولا نهاية إلا عند الموت.
ولقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على المداومة على الطاعات، وكان هذا دأبه صلى الله عليه وسلم ودأب صحابته من بعده وسلف هذه الأمة.(109/1)
الحث على المداومة على الأعمال الصالحة
الحمد لله الذي برحمته يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، أحمده تعالى وأشكره على جزيل العطايا والهبات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مبدع الخلق وبارئ النسمات، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إلى كل البريات، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم العرض على رب الأرض والسماوات، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، واجعلوا بينكم وبين عذاب الله وقاية بفعل أوامره والبعد عن زواجره مدة مقامكم، وطيلة وجودكم في هذه الحياة، واشكروه -جلَّ وعلا- أن هداكم للإسلام، ووفقكم لإتمام عدة الصيام، وعلى ما تنعمون به هذه الأيام من أيام عيد الفطر المبارك.
عباد الله: لقد جاءت نصوص الشرع المطهر بالأمر بعبادة الله، والاستقامة على شرعه، وليس لها غاية إلا الموت.
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[لا يكون لعمل المؤمن أجل دون الموت وقرأ قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]]].
ولما سأل بعض السلف عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون فإذا انسلخ رمضان تركوا، قال: [[بئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان]].
أمة الإسلام: إنه حين ودَّع المسلمون شهر رمضان المبارك بعد إقبالهم على الله، وإكثارهم من العمل الصالح، ينبغي ألا يودعوا الأعمال الصالحة بعد رمضان، بل يجب أن تبقى آثار الصيام شعاراً متمثلاً في حياة الفرد والمجتمع والأمة، وما أعطاه الصيام من دروس في الصبر والتضحية، والإذعان لأمر الله، والوحدة والتضامن، والألفة والمودة بين المسلمين، يجب أن يستمر عليها المسلمون، وتراها متجسدة في حياتهم العملية بعد شهر رمضان.(109/2)
أسباب ذل الأمة الإسلامية وتدنيها
ما تدنَّى واقع الأمة، وأصيب المسلمون بالوهن في أنفسهم، والضعف أمام أعدائهم؛ إلا لما تخلوا عن أعز مقومات النصر وهو الدين الإسلامي الحق، وأساء أبناء المسلمين فهم الإسلام؛ فجعلوا لطاعة الله وقتاً، ولمعصيته أوقاتاً، وللخير والإقبال على الله زمناً، وللشر والإدبار أزمنة متعددة، عند ذاك لم تعمل مناسبات الخير والرحمة، ومواسم البر والمغفرة عملها في قلوب الناس، ولم تؤثر في سلوكهم، ولم تجدِ في حل مشكلاتهم.(109/3)
أحوال الناس بعد رمضان
أيها المسلمون: إن من شكر العبد لنعمة الله -عز وجل- بعد أن وفقه للصيام والقيام: أن يستمر على طاعة الله عز وجل في حياته كلها، فالإله الذي يُعبد ويصام له في رمضان هو الإله في جميع الأزمان، ومن علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها، وإن من كفر النعمة وعلامات رد العمل العودة إلى المعاصي بعد رمضان.
إن الناظر في حياة كثير من المسلمين اليوم بعد شهر رمضان؛ يأسف أشد الأسف لما عليه كثير من الناس بعد شهر الصيام!! مِنْ هجرٍ للمساجد، وتركٍ للجمع والجماعات، وتساهل في الصلوات، واعتزال للطاعات؛ من قراءة للقرآن، والذكر والدعاء، والإحسان والصدقات، والإقبال على ألوان المعاصي والمنكرات، والمداومة على الفواحش والمحرمات، وما ذلك -أيها الإخوة المسلمون- إلا من قلة البصيرة، وسوء الفهم لشعائر الإسلام، وإغواء عدو الله الشيطان، وأعوانه من الإنس والجن، الذين أخذوا بثأرهم بعد رمضان؛ فأضلوا كثيراً من الناس، وما إضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، والبحث عنها عن طريق التجمعات والسهرات، والمزيد من السفريات إلى بقاع لا تدين بدين، ولا تعترف بخُلق، ولا ترعى فضيلة، إلا من إضلال الشيطان وحزبه عياذاً بالله.
فاتقوا الله عباد الله! ولا تهدموا ما بنيتم من الأعمال الصالحة في شهر رمضان.
اتقوا الله يا من عزمتم على معصية الله بعد رمضان! فرب الشهور واحد، وهو على أعمالكم رقيب مشاهد، واعلموا أن الموت يأتي بغتة، وما مرور الأعوام بعد الأعوام، وتكرار الليالي والأيام، إلا مذكر بتصرم الأعمار، وانتهاء الآجال، والقدوم على الكبير المتعال.(109/4)
ماذا بعد رمضان
يا أمة الإسلام: ماذا بعد شهر رمضان؟ ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟
لننظر في حالنا، ولنتأمل في واقع أنفسنا وأمتنا، ونقارن بين وضعنا أفراداً ومجتمعات في شهر رمضان، وحالتنا بعد شهر رمضان، هل ملأت التقوى قلوبنا؟! هل صلحت أعمالنا وتحسنت أخلاقنا؟! هل استقام سلوكنا؟! هل اجتمعت كلمتنا؟!
هل توحدت صفوفنا ضد أعدائنا وزالت الضغائن والأحقاد من نفوسنا؟! هل تلاشت المنكرات والمحرمات عن مجتمعاتنا؟!
يا أيها المسلمون: يا من استجبتم لربكم في شهر رمضان استجيبوا له في سائر الأعمال والأيام.
أما آن أن تخشع القلوب، وتتوحد الدروب، وتنتهي الحروب، فتجتمع القلوب، وينتهي عصر الفتن والخطوب.
يا عباد الله: اتقوا الله في أمتكم واتقوا الله في أنفسكم، سلام الله على شهر الصيام والقيام، لقد مر كلمحة برق أو غمضة عين، كان مضماراً للتنافس والتسابق إلى الخيرات.(109/5)
الإلحاح على الله أن يتقبل الأعمال
عباد الله: ألحوا على ربكم أن يقبل صيامكم كما كان يفعل سلفكم، فقد كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يبلغهم رمضان، ثم يدعونه ستة أشهر أخرى أن يتقبله منهم.
وقد قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنْ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]]].(109/6)
تذكر أحوال المسلمين في العالم
وتذكروا -رحمكم الله- وأنتم تعيشون فرحة العيد وسروره، أن لكم إخواناً في العقيدة يمر عليهم العيد وهم يعانون الحروب الطاحنة، والأمراض الفتَّاكة، والمجاعات القاتلة، وما يمر بإخوانكم المجاهدين الأفغان، الذين يمر عليهم العيد وهم يحملون السلاح، ويقاتلون أعدى أعداء المسلمين، فيستعذبون فرحة العيد مع أصوات المدافع، وأزيز المقاتلات، وطلقات القنابل، ويستمرون أياماً مع حياة التشرد، والجوع والمرض، والتيتم والترمل، والملاجئ، وكذلك من يعانون المجاعات في بعض دول أفريقيا وغيرها.
فاشكروا الله -عباد الله- وليتحرك فيكم شعور الأخوة الإسلامية لمساعدة إخوانكم، ولزوم طاعة ربكم في هذه الأيام، والحذر من جعلها أيام غفلة واسترسال في اللهو، ولتكن فرصة لمحاسبة النفس، وعمل البر والصلة والمودة، وصفاء القلوب، وتهذيبها من الضغائن والأحقاد.(109/7)
همسات في أذهان الشباب
وأهمس همسة في أذهان الشباب المسلم أن يتقي الله ربه ويقبل عليه، ويحفظ أوقاته بعد رمضان، ويُشغلها بطاعة الله، ولا يغتر بعمل المفتونين بمعصية الله.
أما الأخت المسلمة: فعليها أن تتقي الله عز وجل، وتستمر على طاعة ربها بعد رمضان، وتلتزم ما ألزمها به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعمل نساء المسلمات من العفاف والحشمة والحجاب، وعليها الحذر من دعاة الضلال والفتنة.
اللهم تقبل صيامنا وقيامنا، اللهم اجعل عيدنا سعيداً، اللهم أعده على الأمة الإسلامية، وهي تركل بثوب العزة والقوة والنصر على الأعداء يا رب العالمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، وأجرنا بمنه ولطفه من العذاب الأليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ فهو خير الغافرين.(109/8)
المحافظة على صيام ست من شوال
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واشكروه أن والى عليكم العبادات، وتابع عليكم الطاعات؛ من الفرائض والمستحبات، فإنه إن انتهى شهر الفريضة في شهر رمضان فصوم التطوع بابه مفتوح؛ كصيام ستة أيام من شوال، فقد روى الإمام مسلم عن أبي أيوب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر}.
وذلك: لأن صيام شهر رمضان عن صيام عشرة أشهر في الأجر، وستة أيام من شوال عن صيام شهرين فبذلك يحصل لمن صامها أجر صيام الدهر كله، ويجوز لمن أراد صيامها أن يتابعها ويفرقها في الشهر، كما يجوز أن يصوم سنة ويترك أخرى، فلا تُفوِّتوا -رحمكم الله- على أنفسكم هذه الفضائل، واذكروا الله سبحانه على إنعامه، وأتموا أعمالكم الصالحة، واستمروا عليها بعد رمضان إلى أن يتوفاكم الله عز وجل، ولا تبطلوا -رحمكم الله- أعمالكم الصالحة التي بنيتموها في شهر رمضان، فإن أحدنا لا يدري هل يدرك رمضان مرة أخرى أو لا يدركه؟ وكلنا بحاجة إلى التوبة إلى الله سبحانه، والاستغفار إليه، وتتابع الأعمال الصالحة.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبيكم محمد بن عبد الله كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: {من صلَّى عليَّ صلاةً صلَّى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد.
وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمِّر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناًَ وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وهيأ لهم البطانة الصالحة.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى يا ذا الجلال والإكرام! ووفق قادتهم بالعمل بشريعتك يا حي يا قيوم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، اللهم انصرهم في كل مكان، اللهم قوِ شوكتهم، اللهم اجمع كلمتهم، اللهم انصرهم على القوم الكافرين يا قوي يا عزيز.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(109/9)
المستقبل للإسلام
إن صلاح الدين والعباد إنما يكون بدين يحقق مصالح المعاش والمعاد.
والصراع القائم اليوم في عالمنا المعاصر هو صراع فكري بين الحق والباطل، بين الحضارة الإسلامية والحضارة المادية.
ولله الحمد والمنة لقد أعلنت الحضارة المادية إفلاسها، وشعرت بأنها بحاجة إلى دين حق، فما هو واجب المسلمين نحو هذا، وما هو المطلوب من دعاة الإسلام؟(110/1)
الصراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة المادية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، اللهم لك الحمد كله، ولك الشكر كله، وإليك يرجع الأمر كله علانيته وسره، فأهل أنت أن تحمد، وأهل أنت أن تعبد، وأنت على كل شيء قدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا فوز إلا في طاعته، ولا عز إلا في التذلل لعظمته، ولا حياة إلا في رضاه، ولا صلاح إلا في هداه، شهدت له بالربوبية جميع مخلوقاته، وأقرت له بالإلهية كل مصنوعاته، تسبح له السماوات وأملاكها، والنجوم وأفلاكها، والأرض وسكانها، والبحار وحيتانها {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44].
وأشهد أن نبينا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، عليه من ربه أزكى سلام وأفضل صلاة، ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فإنها وصيته سبحانه للأولين والآخرين من عباده، فنعم الموصي ونعم الموصى ونعمت الوصية.
بتقوى الله يتحقق تاج السعادة، وفي ظلالها ينال وسام السيادة، وعلى ضوء سناها تحصل الريادة، ومن ذرى عليائها تنطلق دفة القيادة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].
إخوة الإسلام: صلاح البلاد والعباد بدين يحقق مصالح المعاش والمعاد، وإنه عندما تشتد حلقة الظلمات تمس الحاجة إلى من يضيء الدروب، وعندما يطغى جارف التيارات تحتاج الأمة إلى من ينبري لكشف الخطوب، وحينما يعلو الطوفان وتتصارع الأمواج يندر أن تجد من يسبح ضدها، لكن عناية الله وفضله ولطفه ورحمته بعباده تقتضي أن يهيئ لهذه الأمة في كل زمان ومكان من يضيء لها معالم الدروب، ومن يقارع بإذن الله عواتي الخطوب، ويقاوم شدة الأمواج العاتية، ويصارع قوة التيارات الغاشمة، ويجدد لهذه الأمة أمر دينها، فلما علا طوفان الجاهلية الأولى وطغى الشرك والوثنية؛ منَّ الله على هذه الأمة ببعثة النبي المصطفى والحبيب المجتبى، والرسول المرتضى، محمد صلى الله عليه وسلم، وقد حمل لواء الدعوة بعده صحابته الغر الميامين، وتمر القرون وتتتابع السنون وتعيش أمة الإسلام في أوضاعها بين مد وجزر، ولا يزال ولله الحمد والمنة في كل الأعصار والأمصار من هو قائم لله بحجته، منافح عن دينه وملته، واليوم ترسو سفينة الأمة على شاطئ عالمنا المعاصر، حيث علا طوفان الافتتان بالحضارة الغربية، وطغى تيار الحياة المادية، فانبهر كثير من بني جلدتنا، ومن يتكلمون بألسنتنا بما عليه ظاهر القوم، وأصيب كثير من أرباب الفكر والثقافة وحملة الأقلام بالانهزامية الفكرية والخلقية والثقافية، وكثر دعاة جهنم فأكثروا على الرعاع وخدعوا الدهماء بزخرف القول وقشور التقدمية المزعومة والمدنية الزائفة.(110/2)
مبشرات النصر للحضارة الإسلامية
وبعد سنوات من الصراع بين الحضارة الإسلامية والحضارة المادية، أيقن الناس بعدها بإفلاس حضارة المادة، وتعرت الشعارات الزائفة، وأفلست النظريات الجوفاء، وشعر العالم -لا سيما المنصفون- بالحاجة إلى دين حق، والضرورة إلى عقيدة صدق؛ تهذب النفوس وتزكي الضمائر وتقبض الأخلاق والسلوك، ونمت ولله الحمد والمنة توجهات إسلامية عالمية ستعيد بإذن الله للأمة مجدها المفقود، وعزها المنشود، وأملها المعقود، فانتشرت المراكز الإسلامية، وكثرت الصروح العلمية والحضارية التي تعد معاقل خير وهداية، وصروح إشعاع وإصلاح، وجسوراً للتواصل بين حضارة الإسلام، وبين البلاد الأوروبية وغيرها، وانتشرت بيوت الله في أرض الله بعمارة الموفقين من أرض الله في عقر أهل الحضارة المادية.
ومع هذه البشائر فإن هناك من يريد إسدال الستار على عقول أبناء هذه الأمة؛ لتتمكن خفافيش أدعياء الحضارة من التسلل في ليل حالك؛ لترتفع ألسنة لهيب المفتونين لحماية هذا العفن والدفاع عنه والدعوة إليه، بدعاوى مزركشة، وأقوال مزخرفة، وألبسة فاتنة ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، يركبون مطايا من الموضات، ويتزينون بأشكال من التقليعات، في شماتة خلقية وسذاجة فكرية، فكان لابد من كشف الستور، وإخراج المغمور، وإماطة اللثام، والعمل على إشعاع النور في الظلام، تنويراً للخلائق، وإيضاحاً للحقائق {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].(110/3)
جوهر الصراع بين الأمة وأعدائها
أمة الإسلام: إن الصراع الفكري والحضاري هو الذي يمثل جوهر الصراع بين الأمة وأعدائها، حتى خيل لبعض المستضعفين منا والمنهزمين أمام الحضارة الغربية ممن استعبد الغزو الفكري قلوبهم وأسر أرواحهم أن السبب فيما أصاب أمتنا من ضعف وتأخر كان نتيجة حتمية لتمسكهم بدينهم فالله المستعان!
كيف انخدعت فئام من الأمة؟ وكيف انحدرت إلى هذا المستوى من التخلف المزري، والواقع المرير، حتى فتت العالم الإسلامي إلى دويلات صغيرة بما يحقق لأعدائهم السيطرة على مقدراتهم والاستيلاء على خيراتهم؟ انتزعت فلسطيننا، واستولى الأعداء على مقدساتنا، ونحيت شريعة الله في كثير من البلاد، بل أقيمت المتاريس ضدها بأجيال انتزعت هويتهم وربوا على فكر أعدائهم، وسممت كثير من مناهج التعليم، ووسائل الإعلام في كثير من بلاد المسلمين؛ حتى أفرزت أجيالاً نافرة من دينها، منسلخة عن قيمها؛ فخرجت تنعق بدعوات غربية، وتعتنق أفكاراً جاهلية، وترى في الدين تأخراً ورجعية، فإلى الله المشتكى.
ألم يأن يا أمة الإسلام! أن تعيى الأمة رسالتها، وأن تتعرف على الخلل الكبير في حضارة أعدائها، لا سيما عجزهم عن التوفيق بين مطالب الروح والمادة، وعجزهم عن إيجاد التوازن بين الثوابت والمتغيرات؛ مما أنتج خللاً فكرياً وفساداً خلقياً لا مخلص منه إلا الإسلام.
فيا أهل الإسلام: يا من أعزكم الله بهذا الدين! وشرفكم بحمل أمانته يوم أن عجزت السماوات والأرض والجبال إن عليكم تبعة هائلة، ومسئولية كبيرة تجاه دين الله تعلماً وتعليماً، ودعوة وإصلاحاً، فالدين قادم بحمد الله، لابد أن تستيقن الأمة بدرجات اليقين كلها علمه وحقه وعينه، أنه لا مخلص لعالم اليوم من أزماته الخانقة وأوضاعه المتردية إلا الإسلام، والإسلام الحق على عقيدة التوحيد الصافية، والمتابعة الصحيحة للمنهج السليم كتاباً وسنة، على منهج سلف الأمة.
وإن الناظر الغيور؛ ليأسى أشد الأسى من تضييع الأمة لكثير من الفرص في الدعوة إلى دينها، واستغلال وسائل العصر الحديثة كالإنترنت ونحوه.
أين من يحمل هموم العمل للإسلام؟
هاهو العالم يفتح صدره للإسلام، فأين المسلمون وأين العاملون المخلصون بمنهج سليم وأسلوب حسن، وكم يبذل المسلمون من أوقاتهم وجهودهم لدينهم؟
كفى حزناً للدين أن حماته إذا خذلوه قلنا كيف ينصروا
أما لله والإسلام حق يدافع عنه شبان وشيب
فقل لذوي البصائر أين كانوا أجيبوا الله ويحكم أجيبوا
قال تعالى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف:31 - 32].(110/4)
سبب إفلاس الحضارة المعاصرة
أمة الإسلام! إن من المؤكد أن الحضارة المعاصرة تعلن إفلاسها، وذلك لأنها فرطت في أعظم مقومات البقاء، حيث أهدرت القيم الإنسانية، ورفضت أن يكون للدين سلطان على الحياة، ومن هذه الثغرة دخلت عليها آفات النقض وعوامل الإفلاس، ومع أنها حققت التقدم المادي وغزت الفضاء، ووصلت إلى الأمواج والبحار والهواء، لكنها تجاهلت الجانب الإنساني والمصير الأخروي قال الله: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7].
لقد أهملت الإنسان وتجاهلت روحه ووجدانه، وعقله وقلبه، ولم تنسجم مع فطرته التي فطره الله عليها، بل فتحت له الشهوات البهيمية بدعوى الحرية الشخصية، وجعلت منه آلة تمور ورحى تدور، خالية من معاني الروح ومعالي القيم.
ولذلك تتعالى الصيحات من هنالك وهناك، منذرة بسوء مصير البشرية في ظل هذه الحضارة المادية؛ الخاوية من مقومات الروح والإيمان، وتوشك أن تنحدر إلى الهاوية، والفضل ما شهدت به الأعداء، هاهم النصبة يعلنون صيحات الخطر بأنه لا حضارة إلا بالإسلام، وهذه نصوص الشرع، وهذا شواهد التاريخ، وهذه شهادات الواقع، وليس من رأى كمن سمع.
لقد أعز الله هذه الأمة بالإسلام، هدمت معسكرات الوثنية، ودكت معاقل الجاهلية، وحطم القياصرة، وكسر الأكاسرة، وهزم التتار والصليبيون بالإسلام ليس بغيره، وانتصر المصطفى صلى الله عليه وسلم، وعز عمر وسعد وخالد وطارق وصلاح الدين بالإسلام، وأصبحت الأمة قوية مرهوبة الجانب بالإسلام ليس إلا، وستنتصر هذه الأمة المعاصرة بالإسلام بإذن الله؛ لأنه دين الفطرة قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم:30].
ومع ذلك كله فلابد أن يقدم المسلمون لدينهم، ويصلحوا أنفسهم، ويعالجوا عيوبهم من الداخل، ويسدوا كل ثغرة يريد أن ينفذ العدو منها، وأن يتحدوا على المفترين، وينبذوا كل الاتجاهات والمذاهب وجميع الأحزاب والمشارب التي تخالف تعاليمه، وأن يؤصلوا في أنفسهم وأجيالهم العلم الشرعي النافع، والتربية السليمة.(110/5)
الواجب على المسلمين نحو دينهم
إخوة العقيدة والإسلام: إن المسلم يتفاءل كثيراً بأن المستقبل لدين الله، كما قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47] وكما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وبشر فقال: {ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار، حتى لا يدع بيت حجر ولا مدر إلا دخله، بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله} غير أن الواجب على الأمة الإسلامية أن يكون لها مزيد الاهتمام، وبذل مجهود أكثر في خدمة الدعوة الإسلامية، فعلى قادة المسلمين الواجب الأكبر في إعزاز دين الله، وتحكيم شريعة الله، ونصرة أولياء الله.
وعلى المسلمين جميعاً أن يبذلوا لدينهم؛ لأن الناس متعطشون لغذاء الروح بعد أن ملوا التفنن بغذاء الأبدان لا سيما في العالم الغربي، وإن على العلماء والدعاة إلى الله وأهل الخير والصلاح من أهل الكفاءة العلمية، أن يسهموا في زيارات الدعوة والتوجيه لما لها من الأثر الفاعل على جميع الصعد، تصحيحاً في المناهج، وتقوية للأواصر، وتشجيعاً للمسلمين في كل مكان، وتحسيساً لهم بمكانتهم ودورهم ومكانة بلد الإسلام التي يشعرون أنها تهتم بهم وترعى شئونهم وتشاطرهم آلامهم وآمالهم، وبالتالي سد الباب أمام كل من يريد الاصطياد في الماء العكر، من أصحاب الاتجاهات المنحرفة، والمسالك الضالة، والمشارب المشبوهة.
كما أن من أهم الأعمال الملحة في عصرنا الحاضر، العمل على إيجاد قنوات إعلامية إسلامية، تبث الدعوة إلى الله ومحاسن الدين بلغات شتى؛ لأن الإعلام اليوم في العالم كله يلعب دوراً كبيراً في التأثير على جميع الفئات، وإن من المؤسف حقاً ألا تجد للإسلام إلا صوتاً خافتاً في بعضها، مما يتطلب من المعنيين بشئون المسلمين، لا سيما أهل الثراء والمال، وذوي اليسار ورجال الأعمال، أن يسهموا بسد هذه الثغرة أداء للواجب عليهم تجاه دينهم وأمتهم.
أتعجز الأمة بكفاءاتها ورجالها ومواردها أن ينبري منها رجل رشيد، ذو حزم ورأي سديد، فيعمل على إقرار العيون، وشرح الصدور بقنوات إسلامية تواكب تطورات العصر، وتحمل رسالة الإسلام، ولو ببث كتاب الله بعد أن عملت القنوات الفضائية أبشع أعمالها، بوأد الفضيلة ورفع راية الرذيلة غثاءً وهراءً، وعفناً أخلاقياً تبكي له الفضيلة، وتئن من نأوائه الأخلاق والقيم.
ومما ينزف القلب دماً أنها قد تعود في معظمها إلى أناس من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا! أين حمية القوم الدينية وشهامتهم العربية وغيرتهم الإسلامية، نعوذ بالله من العمى بعد البصيرة.
لكل شيء إذا ما حل سلوان وما لما حل بالإسلام صنوان
ألا نفوس أبيّات لها همم أما على الخير أنصار وأعوان
لمثل هذا يذوب القلب من كمد إن كان في القلب إسلام وإيمان
سدد الله خطى العاملين، ونفع بالأسباب، وبارك في جهود الغيورين، وجعل الأعمال خالصة لوجه الكريم، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(110/6)
حاجة الأمة الإسلامية إلى دعاة على مستوى العصر
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعلنا من أمة سيد الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الفضل والإنعام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله خير من عمل بالدين وقام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحابته الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
معاشر المسلمين: إن دين الإسلام الذي هدانا الله إليه وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، لهو المنة الكبرى والنعمة العظمى، هو دين الخير والعدل والرحمة والمحبة والوئام والسلام.
إن البشرية اليوم تتطلع إلى أن تتفيء ظلال هذا الدين القويم مما يتطلب الجد في مجال العمل للإسلام، والنهوض بمستوى الدعوة إلى الله، وتنسيق الجهود بين العالمين، والحذر من الفرقة والخلاف التي لا يستفيد منها إلا العدو المتربص.
إن هناك فرصاً عظيمة، يؤسف كل غيور على أوضاع أمته أن يفرط في استغلالها المسلمون، فالأرض خصبة جداً، والفرص مواتية، والقضية ترجع إلى حاجة الأمة اليوم إلى وضع خطط سليمة، ومنهجية مدروسة، تخرّج دعاة على مستوى العصر الذي يعيشونه؛ لنثبت للعالم صدق توجهاتنا وسلامة مقاصدنا، بعد أن شوه الإسلام من طرف علماني شهواني منحرف في ثقافته وأخلاقه، ومن طرف جاهل غال عنيف لا يؤمن إلا بسفك الدماء، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
وإن من التحدث بنعم الله تلك الجهود المشكورة والأعمال المذكورة، وعند أهل الإنفاق غير منكورة، التي يبذلها جنود مجهولون من أهل الخير والدعوة والإصلاح ممن آثروا ما عند الله، ولا ينسى الدور الفاعل لبلاد الحرمين الشريفين حرسها الله في هذا المجال، فلا تكاد بلاد من بلاد الدنيا إلا ولها فيه مركزاً أو مسجداً أو صرحاً علمياً أو حضارياً جعله الله خالصاً لوجه الكريم، وضاعف مثوبتها وزادها من الخير والتوفيق، والحق أنه لا يدرك مكانتها وفضلها إلا من اغترب عنها
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقاً
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، كما أمركم بالصلاة والسلام عليه ربكم جل في علاه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك وجودك يا أكرم الأكرمين وأجود الأجودين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة التي تدلهم على الخير وتعينهم عليه يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك والمضطهدين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم عجل بنصرهم يا قوي يا عزيز! اللهم فارج الهم وكاشف الغم رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، مجيب دعوة المضطرين، نسألك اللهم رحمة من عندك تغنينا بها عن رحمة من سواك.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(110/7)
المسلم أخو المسلم
إن الأخوة الإسلامية لها أهمية في واقع المسلمين، ولذلك تكلم الشيخ في هذا الدرس عن أهمية الأخوة، وما هي حقيقتها، وكيف تحقق الأخوة في هذا العصر المرير.(111/1)
أهمية الأخوة في الدين
الحمد لله الذي جعل المسلمين أخوة يوالي بعضهم بعضاً ويشد بعضهم أزر بعض، أحمده تعالى وأشكره على نعمه العظيمة.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع للمؤمنين بعضهم على بعضٍ حقوقاً عظيمة، ونهى عن كل ما يُضعف الأخوة أو يقطعها، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله آخى بين المؤمنين، وبين ما يجب للمسلم على أخيه، وأوصى بالتزام ذلك لما يترتب عليه من مصالح الدنيا والآخرة، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذين ضربوا أروع الأمثلة للأخوة الصادقة، فكانوا كالجسد الواحد وكالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى.
عباد الله: يقول الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10]، ويقول عز وجل: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71]، ويقول سبحانه: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103]، ويقول جلَّ وعلا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2].
وفي الحديث المتفق عليه عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً}.
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى} متفق عليه.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرَّج عن مسلم كربة فرَّج الله عنه بها كربة من كرب يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة} متفق عليه.
أخوة العقيدة والإيمان في كل قطر ومكان! من هذه النصوص الصحيحة الصريحة في جلالتها نُدرك ما ينبغي أن يكون عليه المسلم نحو أخيه المسلم، إنها أخوة أعظم من أخوة النسب، ورباط أقوى وأشد من رباط الجاه والمال والحسب، أخوة تجمع بين المسلمين وإن تباعدت أقطارهم ونأت ديارهم، أخوة قائمة على المشاركة في المبدأ والعقيدة، لا في شعارات دنيوية واهية لا تغني أهلها أمام الله شيئاً.(111/2)
ثمرات الأخوة الإيمانية
أمة الإسلام! إن الأخوة الإسلامية توجب التناصح والتناصر، والتواصي بالحق والصبر عليه، وتمنع الغش والظلم والخديعة والأذى بالقول والعمل، وتمنع الغيبة والنميمة والبهتان، كما تمنع المسلم أن يخذل أخاه أو يتهاون في مد يد العون عند حاجته إليه.
أمة الإسلام! لقد مثَّل الرعيل الأول من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الأخوة الإسلامية أروع تمثيل؛ في التناصر والتلاحم والإيثار، وكونهم يداً واحدة في الحق ودفع الباطل، فما كان منهم إلا أن زلزلوا أركان الطغيان والفساد، وهزوا عروش الباطل وصروح الكفر والضلال، حتى ملكوا المشارق والمغارب، ورفعوا راية التوحيد خفاقَّة على جميع أرجاء المعمورة.(111/3)
عواقب فساد الأخوة الإيمانية
ويوم أن تخلى المسلمون عن منهج الله، وضلوا صراطه المستقيم، وتخبطوا في ضلالات المبادئ المنحرفة، ومتاهات النظم الفاسدة، انقطعت أواصر المحبة بينهم، وسلَّط الله عليهم أعداءهم؛ فساموهم سوء العذاب، وأصبح بأسهم بينهم، وابتلوا بأنواع العقوبات الدنيوية، والمصائب المختلفة، ففشت بينهم الحروب الطاحنة التي تقضي على الأخضر واليابس، والمذابح الرهيبة المهلكة للحرث والنسل، وانتشرت بينهم المجاعات والأمراض الفتَّاكة، والقحط والجفاف والجدب، وعم الخوف، وَعدِمَ الأمن، وساد نقص الأموال والأنفس والثمرات في بقاع كثيرة من العالم.
ومن هنا! يتجسد واجب المسلمين الذين يتقلبون في نعم الله صباح مساء بالمراكب الفارهة، والمساكن الفخمة، والموائد الواسعة، والأموال الطائلة!! يتجسد واجبهم أن يساعدوا إخوانهم في العقيدة، الذين حرموا من هذه النعم، وأصبح العشرات -بل المئات- يموتون يومياً من الجوع والفقر، وأصبح الآلاف هائمين على وجوههم، هاربين عن أوطانهم بحثاً عن لقمة العيش، حافية أقدامهم، عارية أجسادهم، حتى لا يجدوا ما يستر عوراتهم، كما هو واقع في بلاد إفريقيا كثيراً، كما لا يخفى على كل مسلم الواقع المؤلم في أفغانستان المسلمة، وفي لبنان، وفي فلسطين، وفي غيرها من بلاد المسلمين.
فأي خذلان المسلمين بعضهم لبعضٍ أكثر من هذا؟(111/4)
مساعدة المسلمين من الأخوة في الدين
إن الواجب على المسلمين الذين أنعم الله عليهم بالنعم الوفيرة أن يساهموا في مساعدة إخوانهم المتضررين في كل مكان؛ طاعة لله ولرسوله ثم طاعة لولي الأمر المسلم؛ حيث أصدر ملك هذه البلاد وقائدها دعوةً للمسلمين في هذا البلد وفي كل مكان أن يمدوا يد العون لإخوانهم المنكوبين من المجاعات والجفاف والقحط في أفريقيا، فيا لها من دعوة مباركة يجب أن تجد آذاناً صاغية، وأن يكون لها صدىً عملي في نفوس المسلمين هنا وفي كل مكان، وجزى الله قائلها والمستجيب لها خير الجزاء.
إخوة الإسلام! إن نعم الله علينا وفيرة، وخيراته كثيرة، ولكن -ويا للأسف! - أساء كثير من الناس استعمالها، ولم يقوموا بشكرها في صرفها في وجوه البر والإحسان، فما أكثر الأموال الضائعة والمنفقة في غير الوجوه الشرعية، فهل يعي المبذرون لنعم الله، المسرفون في استعمالها الواقع المرير لهؤلاء المساكين الذين لا يجدون ما يسد رمقهم؟
وهل يتعظ من كفر بنعمة الله فأهانها ورماها في أماكن النفايات، وأساء استخدامها لأولئك المنكوبين، وهل يتذكر الذين ينفقون الأموال الطائلة في الحفلات والمناسبات المختلفة؛ بل في اللغو واللهو الباطل -والعياذ بالله- الوضع المبكي لأولئك القوم المتضررين؟
والله إننا لنخشى أن يُغيِّر الله حالنا، فيصيبنا ما أصابهم بين عشية وضحاها {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
أيها المسلمون! إن العالم -كله اليوم- يعيش في مجاعات رهيبة، وليت الأمر يقف عند المجاعات المادية!! بل المصيبة الكبرى هي المجاعات العظيمة التي أصابت الأرواح والقلوب، فقطعت صلتها بالله حتى ران عليها الذنوب والمنكرات، فمجاعات القلوب، وجدب الأرواح وقحطها، وضعف النفوس هو رأس كل بلاء، فما أحوج المسلمين في كل مكان أن يُغذَّوا أرواحهم وقلوبهم بالإيمان والعمل الصالح.
وإننا نناشد المسلمين في كل مكان -ومن هذا المكان المبارك- أن يقوموا بواجب الأخوة؛ فيساعدوا إخوانهم المسلمين المتضررين من المجاعات البدنية، لتكون عوناً لهم بتوفيق الله على صد المجاعات المعنوية، حتى يكون المسلمون يداً واحدة على أعدائهم كما كانوا، وما ذلك على الله بعزيز.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.(111/5)
وجوب التناصر بين المسلمين
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله، جعل التآخي بين المؤمنين من مقتضيات الإيمان، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة ضلالة.
إخوة الإسلام! يقول الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92].
وعن أنس رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} متفق عليه.
أمة الإسلام! وإنه لمن المؤسف -حقاً- أن أعداء الإسلام لما رأوا تخاذل المسلمين في نصرة إخوانهم؛ حاولوا بشتَّى الوسائل بث دعواتهم الباطلة من شيوعية ملحدة، ويهودية ونصرانية وغيرها بين صفوف المسلمين؛ حتى صدوا كثيراً من المسلمين عن دينهم، فيجب على المسلمين أفراداً وشعوباً، حكاماً وجماعات، أن يجدُّوا في نصرة إخوانهم المسلمين، وسد عوزهم، وقضاء حاجاتهم، كما ينبغي على المسلم أن يحرص أن تقع المساعدة التي يمن الله بها في أيدي مسلمة؛ حتى لا تقع المساعدة في أيدي أعدائنا فيستعينوا بها لنشر باطلهم، ومحاربة الإسلام، وتشويه معالمه.
نسأل الله تعالى أن يُفرَّج عن المسلمين في كل قطر من أقطارهم ما هم فيه من ذل وكرب وشدة، إنه على كل شيء قدير.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على أفضل خلق الله محمد بن عبد الله، كما أمركم الله سبحانه بالصلاة والسلام عليه، فقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين!
اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم اجعلهم يداً واحدة على أعدائك أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، اللهم ألف بين قلوبهم، واجعلهم يداً واحدة على الخير يا أرحم الراحمين!
اللهم أصلح أحوال المسلمين، وأصلح سادتهم يا أرحم الراحمين!
اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم وفق إمامنا لهداك، اللهم وفقه لما تحب وترضى، اللهم اجعله هادياً مهدياً يا رب العالمين! اللهم ارزقه البطانة الصالحة يا أرحم الراحمين!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(111/6)
المفهوم الشامل للعبادة
العبادة هي غاية خلق الإنسان والجان، والهدف الأسمى على وجه البسيطة.
ولتقويم الفكر وتصحيحه، وبيان الموضوع وتوضيحه؛ تأتي هذه الأحاديث العذبة: بياناً لمجال العبادة الواسع وتعريفها بالحد الجامع المانع.
مع بيان شروطها وآدابها ومجالاتها.
بالإضافة إلى الإجابات الزائدة على بعض الأسئلة الواردة، تكميلاً للفائدة، والله ولي التوفيق.(112/1)
فضل لقاءات الذكر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا بطاعته، وألزمنا بعبادته، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي قال الله فيه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
فكان عليه الصلاة والسلام قائماً بعبادة ربه مدة حياته كلها، قام من الليل حتى تفطَّرت قدماه، ودعا إلى الله عزَّ وجلَّ، وجاهد في سبيله، وعبد ربه حتى أتاه اليقين، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه، الذين ساروا على نهجه، والتزموا سنته، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله! أحييكم بتحية الإسلام: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وإنه لمن فضل الله علينا -في هذه الليلة- أن نجتمع في هذا المكان المبارك، في بيت من بيوت الله عزَّ وجلَّ، التي أَذِنَ الله أن تُرفع، ويُذكر فيها اسمه، نجتمع هذه الليلة لا لشيء؛ إلا للتذاكر والتعاون، والتواصي بالحق والصبر عليه، نجتمع هذه الليلة لنتحدث حول موضوع مهم وخطير، لا ينفك عنه المسلم لحظة واحدة، وهو وإن كان معروفاً عند كثير من الناس، إلا أن تطبيقه لا يقوم به إلا أصحاب الهمم العالية.
فاجتماع المسلمين في بيوت الله عزَّ وجلَّ لإحيائها، وذكر الله فيها، وتدارس العلم النافع، والتذكير بما يجب علينا؛ من أهم الأمور التي يجب على المسلمين أن يعتنوا بها، وكلما ابتعد المسلمون عن بيوت الله -سبحانه- أو عطلوا رسالتها، أو تساهلوا في القيام بواجبهم تجاهها، كلما أبعدوا النجعة عن صراط الله عزَّ وجلَّ.
فبيوت الله -سبحانه وتعالى- ينبغي أن تُفتح أبوابها، وتعود رسالتها، ومن رسالتها: إقامة هذه الندوات، والمحاضرات، وهذه الكلمات التي يحضرها من أراد الله به خيراً، يؤثرها على شهوات دنياه، يُؤثر الجلوس في هذه الأماكن الطيبة، على مجالس الدنيا، وإعمارها بالقيل والقال، وإشغالها بما لا يرضي الله عزَّ وجلَّ.
وهنيئاً للحاضرين بشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل فيما أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه: {وما اجتمع قوم في بيتٍ من بُيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه فيما بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده}.
فأي بشارة أعظم من هذه!
إن تحقيق واحدة من هذه الخصال خير من الدنيا وما فيها، أن تتنزل على الحاضرين الرحمة، وتغشاهم السكينة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله -عزَّ وجلَّ- في الملأ الأعلى خير من الدنيا وما فيها.
فواجب على المسلمين، وعلى علمائهم، وعامتهم، وشبابهم، ونسائهم، أن يحيوا مثل هذه اللقاءات الطيبة؛ لتصقل قلوبهم بذكر الله عزَّ وجلَّ؛ فإن الدنيا بشهواتها وزخرفها قد رانت على قلوب كثير من الناس، وأغفلتهم عن واجبهم، وأبعدتهم عن رسالتهم، فأصبحوا يعملون لها، ويركضون وراءها، ويجتهدون في البحث والتنقيب عنها بأي طريق، وما مقامهم في هذه الحياة إلا مقام قصير، فيجب عليهم ألا ينسوا رسالتهم التي خلقوا من أجلها، وواجبهم الذي أوجدوا من أجله؛ فإن المسلم -كما تعلمون- إنما خلق لرسالة عظيمة، ولواجب كبير، وللقيام بأمانة عظيمة، ألا وهي موضوع حديثنا الليلة.
إن موضوعنا الذي نريد الحديث حوله يدور حول موضوع العبادة لله عزَّ وجلَّ.
عبودية المسلم لربه، ما معناها؟
وما مفهومها؟
وما مقتضياتها؟
وما واجب المسلمين نحوها؟
وما الآيات والأحاديث التي جاءت بذكرها، والتنويه بشأنها؟
وما آثار هذه العبادة وآثار القيام بها على الأفراد والمجتمعات؟
وما الآثار السلبية التي يورثها تساهل المسلمين وتقاعسهم عن القيام بهذه الغاية المهمة؟
وما الأسباب الوخيمة والآثار العظيمة التي تترتب على انحسار مفهوم العبادة في مجتمعات المسلمين؟
حول هذه العناصر وغيرها، نريد أن نتحدث هذه الليلة، سائلين الله -عزَّ وجلَّ- أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ونسأله تعالى أن يفتح على الجميع مغفرته ورحمته، ونسأله تعالى أن يوفقنا للعلم النافع، والعمل الصالح، والبصيرة في دينه، إنه جواد كريم.(112/2)
تعريف العبادة وأنواعها
العبادة في لغة العرب إذا أُطلقت، إنما تعني: التذلل، يُقال: طريق معبَّد، أي: مذلل قد وطئته الأقدام.
أما في اصطلاح العلماء: فإن العلماء لهم تعريفات كثيرة، وأقوال متعددة حول تعريف العبادة، لكن أشهرها وأجمعها وأولاها: تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله؛ حيث عرَّفها في كتاب له مستقل حول هذه القضية المهمة.(112/3)
تعريف العبادة عند ابن تيمية وابن القيم
فقال رحمه الله:
العبادة: اسم جامع لكل ما يُحبه الله ويرضاه، من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
فهذا تعريف عظيم، سنتناول حيثياته، واحدة تلو الأخرى؛ لننظر ماذا قدمنا تجاه هذا الأمر المهم؟ ولنعرض أعمالنا اليومية التي نقوم بها على ضوء هذا التأصيل العظيم.
ومن تعريفات العلماء -رحمهم الله- لهذه القضية المهمة -ألا وهي قضية العبادة- تعريف العلامة ابن القيم رحمه الله، حيث عرفها بأنها: غاية الحب لله عزَّ وجلَّ مع غاية الذل له، التي تحث على العمل لطاعته، والانزجار عن نواهيه.
يقول في نونيته المشهورة:
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبانِ
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبانِ
ومداره بالأمر أمر رسوله لا بالهوى والنفس والشيطانِ
هذه أبيات عظيمة تبين معنى العبادة لله عزَّ وجلَّ.
العبادة -يا إخوتي في الله- في الإسلام مفهومها واسع، ونطاقها شاسع، فهي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه، ما يحبه الله عزَّ وجلَّ مما جاء به في كتابه، وأتى به رسوله صلى الله عليه وسلم من العقيدة والعبادة والأخلاق والآداب، وغير ذلك من الأمور.(112/4)
بعض صور العبادة
فكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال، الظاهرة والباطنة، داخل في مفهوم العبادة.
فالصلاة عبادة بل هي من أعظم العبادات.
توحيد الله عزَّ وجلَّ، وعدم الإشراك به.
إيتاء الزكاة.
صوم رمضان.
حج بيت الله الحرام.
بر الوالدين.
صلة الأرحام.
الإنفاق على المحتاجين، والمساكين، والفقراء.
الإنفاق على الأقرباء.
زيارة المريض.
القيام بحقوق الأخوة في الله عزَّ وجلَّ.
الخوف من الله، ورجاؤه، والتوكل عليه، والرغبة إليه.
كل ذلك من العبادات العظيمة، وكل هذه وغيرها عبادة من العبادات.(112/5)
تقسيم العبادة إلى باطنة وظاهرة
العبادات كثيرةٌ ومتنوعة، فمنها: ما هو من أعمال القلوب، وهو ما يسمى بالأعمال الباطنة: كالتوكل على الله، ورجاء ما عنده، والخوف منه جلَّ وعلا وما إلى ذلك.
ومنها: ما هي أمور ظاهرة متعلقة بالأبدان: كالصلاة، والحج وما إلى ذلك.
ومنها: ما هو مالي: كالزكاة.
ومنها: ما هو مالي وبدني: كالحج.
ونحو ذلك من الأقسام التي لا تكاد تخفى على أي مسلم.
فتبين من هذا -يا إخوتي في الله- سعة مفهوم العبادة في الإسلام، بل أكثر من ذلك الأعمال العادية تنقلب إلى عبادات عظيمة، إذا تحقق فيها الإخلاص لله عزَّ وجلَّ.(112/6)
كيف تصبح الأمور المباحة عبادة
فالعبادة تشمل أعظم من العبادات والشعائر، بل هي تشمل كل أمر من الأمور إذا أخلصت فيه النية لله عزَّ وجلَّ.
فأكلك، وطعامك، وشرابك، ونومك، إذا قصدت به التقوي على عبادة الله عزَّ وجلَّ؛ فإنه عبادة من العبادات.
فالأمور -كما هو مقرر في مقاصد الشريعة وقواعد الاسلام- بمقاصدها، والعادات تتحول إلى عبادات إذا أخلصت فيها النية، بل إن كلام المسلم وعمله وجلوسه مع أهله، ومخاطبته لهم، ومعاشرته إياهم، كل ذلك عبادة من العبادات.
ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح كما في صحيح مسلم وغيره، عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للصحابة رضي الله عنهم: {وفي بضع أحدكم صدقة}.
وقع ذلك في نفوسهم، وتعجبوا!! {فقالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر؟! فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر}.
فما أعظم نعم الله على عباده!
هذه الأمور التي لا يستغني عنها مسلم، بل هي أمور جِبِلِّيَّة لا تقوم الحياة إلا بها، يُؤجر بها إذا أخلص نيته لله عزَّ وجلَّ، بل إن سعي المسلم للحصول على الرزق، وإعفاف نفسه، وكفاف أهله، وإغنائهم عن تعرض الناس كل ذلك عبادة من العبادات، حتى ما تضعه في فِي امرأتك.
فسعي المسلم على أبنائه في طلب الرزق كل ذلك عبادة من العبادات إذا أُخلصت فيها النية لله عزَّ وجلَّ.
كذلك أعمال المسلمين: من وظائفهم، والقيام بواجباتهم وحقوقهم كل ذلك عبادة من العبادات إذا أُخلصت فيها النية لله عزَّ وجلَّ.
فالموظف في وظيفته، والكاتب في مكتبه، والعامل في معمله، والصانع في مصنعه، والتاجر في بيعه وشرائه، كل واحد منهم إذا قصد وابتغى وجه الله -سبحانه وتعالى- وقام بنُصحٍ وأمانةٍ بحق الله عليه، ثم حق ولاة الأمر عليه، ثم حق إخوانه المسلمين عليه؛ فإنه مأجور على ذلك والحمد لله.
الطالب في مدرسته، الذي يتردد عليها صباحاً كل يوم، إذا ذهب إلى المدرسة ابتغاء ما عند الله سبحانه، والرغبة في طلب العلم والاستفادة، وابتغاء وجه الله -عزَّ وجلَّ- في التحصيل العلمي، فإنه يُؤجر على ذلك.
كل من يقوم بأي عمل من الأعمال عليه أن يستشعر أن ثواب الله عظيم، وأن عليه ألا يدنس نيته بالأطماع الدنيوية، بل عليه أن يخلص نيته لله عزَّ وجلَّ، ويبتغي ما عند الله -جل وعلا- ويرجو ثواب الله -سبحانه- مع ما يأتي من ثواب الدنيا؛ لكن أجر الدنيا وثوابه تابع لثواب الآخرة، ولا ينبغي أن يكون المقصد دنيوياً فحسب؛ بل يجب علينا أن نُروضِّ أنفسنا على الإخلاص لله سبحانه، وأن نستشعر أن كل أعمالنا التي نقوم بها قد تدخل -جميعاً- في مُسمَّى العبادة، إذا أُخلصت فيها النية لله سبحانه وتعالى.(112/7)
واجب المسلمين نحو العبادة
أيها الإخوة في الله! بعدما عرفنا جميعاً تعريف العبادة، ومفهومها الواسع، وأنها تقتضي أن يقوم المسلمون بهذه الرسالة، وأن يعملوا بطاعة الله عزَّ وجلَّ، ويقوموا بعبادته في حياتهم كلها؛ لأن الله عزَّ وجلَّ قصر الحكمة من خلقه الجن والإنس للقيام بهذا الواجب العظيم، يقول سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
بيد أن كثيراً من الناس يفهم أننا حينما نقول: إنه يجب على المسلمين أن يقوموا بعبادة الله -سبحانه وتعالى- في أوقاتهم كلها وأيامهم وأعوامهم، بل في حياتهم وأعمارهم، أن يقوموا بهذه العبادة، قد يفهم أننا نقصد أن يدخل المسلمون المساجد فلا يخرجون منها، يفهمون ذلك نتيجةً لجهلهم بمفهوم العبادة في الإسلام، وأن مفهومها أعم من أن تكون في المساجد فقط.
ليست العباد يا إخوتي في الله! محض شعائر معينة يُؤديها المسلمون في أوقات معينة، فإذا خرجوا من هذه الأماكن، وبارحوا هذه الأوقات نكصوا على أعقابهم، ووقعوا في معصية الله عزَّ وجلَّ، لا.
هذا مفهوم خطير، سبَّب انحسار مفهوم العبادة عند كثير من المسلمين هدانا الله وإياهم.
فالعبادة ليست في المساجد فقط، فأنت في بيتك في عبادة، وعند أهلك في عبادة، وفي مكتبك ووظيفتك وبيعك وشرائك في عبادة وفي سوقك، وفي مجالستك الناس كل ذلك في عبادة.
فعليك أن تُخلِص العمل لله عزَّ وجلَّ، وألا تغيب عنك العبادة طرفة عين.
وحذارِ يا إخوتي في الله! أن نقصر العبادة على أداء الصلوات في المساجد فقط، ثم لا حرج على المسلم أن يعمل في بيته مع أولاده ومع أهله ما يشاء، أن يأكل من الأموال، ويتاجر بما يشاء!! لا.
ليس هكذا عمل المسلمين.
المسلمون في مساجدهم في عبادة من أعظم العبادات، يترددون إليها؛ امتثالاً لأمر الله سبحانه وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام، وكذلك خارج المساجد وهم في بيوتهم عليهم أن يقوموا بالتربية، وعليهم أن يقوموا بالتوجيه، ويحموا بيوتهم وأسرهم من الفساد ووسائله، وعليهم أن يربوا أبناءهم، ويرعوا نساءهم وبناتهم عمَّا حرَّم الله عزَّ وجلَّ.
كذلك في معاملاتهم: في بيعهم وشرائهم، يجب عليهم أن يتحروا الحلال النزيه الطيب، فإن الله عزَّ وجلَّ طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن اللقمة من الحرام يقذفها الرجل في جوفه، لا تُقبل له صلاة أربعين يوماً؛ فالأمر خطير يا إخوتي في الله!
فعلينا أن نستشعر أننا في عبادة دائمة، ولسنا في عبادة ما دمنا في بيوت الله، فإذا خرجنا منها تركنا عبادة الله.
ليست العبادة في المساجد أو في أوقات معينة، بل العبادة مع المسلم في كل أحواله، وفي كل أوقاته وتصرفاته في أقواله وأفعاله في سلوكه في عقيدته في تحركاته كلها، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
كذلك ينبغي علينا أن نفهم أنه حينما تطلق العبادة فإنه يدخل فيها جميع الأقوال والأفعال والتصرفات، فلا نريد أن يدخل المسلمون بيوت الله، فيصلون ويقومون ويركعون ويسجدون ويبكون، فإذا خرجوا من بيوت الله -سبحانه وتعالى- رجعوا على أعقابهم وإلى أعمالهم، ونسوا الله سبحانه وتعالى.
فهذا المفهوم الذي نريد أن نعالجه، وننبه على خطورته علينا أن نستشعر أننا مخلوقون لله سبحانه، وأن علينا أن نقوم بعبادته جلَّ وعلا في حياتنا كلها، وأن نستشعر طاعة الله سبحانه، وعبادته ومرضاته في كل فعل وترك.
فما كان من فعل سليم صحيح مأمور به في الشرع؛ أتينا به وما كان من نهي في الشرع؛ فإننا نبتعد عنه، ونُحذره ونجتنبه هكذا يكون المسلمون.(112/8)
بعض الآيات والأحاديث التي جاءت بذكر العبادة والتنويه بشأنها
أيها الإخوة في الله! لِعِظَم شأن العبودية، والعبادة لله سبحانه وتعالى زخر كتاب الله سبحانه وتعالى بذكرها والأمر بها، وحث الناس على القيام بها، وبيان آثارها، والتحذير من تركها والتهاون بها، والتحذير مما يناقضها أو ينقصها.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وهذه آية عظيمة في كتاب الله -سبحانه وتعالى- يجب علينا أن نضعها -دائماً- أمام ونصب أعيننا؛ لأنها تضبط تحركات الإنسان، فإذا تحرك المسلم في أمر لا يُرضي الله سبحانه وتعالى فإنه يُحجم عنه، يتذكر أنه خلق للعبادة، وهذا يتنافى مع العبادة، فمن كان قلبه حياً؛ فإنه يعود إلى الله سبحانه وتعالى، ويتذكر أنه لم يُخلق إلا للقيام بهذه العبادة.
فلم تُخلق -أخي المسلم- للدنيا وجمع الحطام، ولم تخلق للتكاثر، والسعي في الدنيا، وإغفال الآخرة، لم تخلق لتتمتع بالمراكز والمساكن والمراتب والمناصب والأبناء؟! وإنما خلقت لعبادة الله سبحانه وتعالى، وفرق ما بين المؤمنين والكافرين: أن المؤمنين يتذكرون ما خلقوا لأجله، وأنهم مخلوقون لعبادة الله، أما الكفار فإنهم يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام؛ لكن ما هي النتيجة الوخيمة؟ والعاقبة الخطيرة؟ {وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] نسأل الله العافية.(112/9)
الدنيا وسيلة إلى الآخرة
فالمسلم يجب أن يتذكر دائماً أنه لم يُخلق إلا لعبادة الله سبحانه وتعالى، ولا يعني هذا أنه لا يعمل في سبيل دنياه ما يكسب رزقه، ويحصل معيشته، وينفق على أهله وأبنائه؟! لا.
ليس معنى ذلك أن الإنسان يجلس في المسجد فلا يخرج منه، فالسماء لا تمطر ذهباً ولا فضة؛ وإنما على الإنسان أن يتذكر أنه وإن عمل للدنيا فإنما هي وسيلة إلى الآخرة وليست قصداً بذاتها، وإنما هي وسيلة للآخرة، يعمل بها ليرضي الله سبحانه وتعالى، وليقيم عوجه، وليقيم صلبه في هذه الحياة، ولينفق على نفسه وأهله وعائلته؛ ليقوم بتربيتهم، ويجعلهم مجندين لله -سبحانه وتعالى- يقومون بطاعته وعبادته.(112/10)
غفلة الناس عن عبادة الله
وإنك إذا نظرت إلى كثير من المسلمين في أفعالهم؛ تجد أنهم -والعياذ بالله- كأنهم لم يُخلقوا لعبادة الله، وكأنهم لا يعلمون بل لا يؤمنون، ويتصورون ويُصدقون ويجزمون أن هناك داراً أخرى، وأنهم مُنقلبون إلى الله سبحانه وتعالى، وأنههم سيعودون إليه سبحانه وتعالى.
الناس في غفلة خطيرة عن الله، وفي غفلة عن عبادة الله سبحانه وتعالى.
تتعجب كثيراً حينما يبزغ الفجر!! وتطلع الشمس، ويستعد الناس -جميعاً- كبارهم وصغارهم، شبابهم وشيبهم، نساؤهم ورجالهم، كلٌ يذهب مع الصباح الباكر، لماذا؟ إنهم يتحركون في سبيل الدنيا، فأين العمل لله؟!
مَن مِن هؤلاء أخلص عمله لله عزَّ وجلَّ، وأيقن أنه حينما يخرج لوظيفته، أو لعمله، أو لمدرسته، أو لمتجره، إنما يعمل ابتغاء ما عند الله سبحانه وتعالى، وأنه يقوم بهذا العمل وسيلة في هذه الدنيا يتبلغ بها، ولا يغفل عن الآخرة، ولا يغفل عمَّا أعد الله للمؤمنين من النعيم، وللمخالفين من الجحيم؟!
مَن مِن المسلمين يتصور هذه الأمور؟!
مع الأسف! إنهم ما إن يخرجون إلى أن يرجعوا قرب العصر، وهم في دنيا! من دنيا إلى دنيا، كلامهم في الدنيا، ثم بعد ذلك يرجعون إلى بيوتهم، ويتناولون ما شاء الله لهم، وقد ينام بعضهم عن العبادات العظيمة التي إنما خُلقوا لتحقيقها والقيام بها، ثم بعد ذلك في المساء، كل يجد ويفتح ويبحث، هذا يبحث عن قطعة أرض، وهذا يبحث عن فِيْلاَّ، وهذا يبحث عن سيارة، وهذا يبحث عن مزرعة، وهذا وهذا أين الذين يبحثون عن الدار الآخرة، ويعملون لها؟
أنا لا أُحجِّر على أولئك، ولكن يجب علينا أن نعمل لآخرتنا، وأن نقوم بعبادة ربنا، فالمقام قصير، والحياة أنفاس معدودة، وأيام محدودة.
وكم من الناس نعرفهم من الشباب أو الشيب، جاءتنا أخبار وفاتهم وهم أصحاء في منتهى عافيتهم ونشاطهم؟!
فمن الخطر أن يُصاب المسلم بهذه النهاية وهو غافل عن عبادة الله سبحانه وتعالى.
نسمع عَمَّن يخرج في سيارته فلا يعود، ومن يسافر فلا يرجع، بل ومن يموت وهو على فراشه، فماذا قدَّمنا لعبادة الله عزَّ وجلَّ؟!
أين القلوب من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى؟!
ألم يقل الله عزَّ وجلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]؟
ألم يقل سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36]، ويقول سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، ويقول جلَّ شأنه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، ويقول سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ * أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود:1 - 2]،ويقول جلَّ وعلا: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، ويقول جل وعلا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
أليست هذه أوامر؟
وكثير كثير في كتاب الله -عزَّ وجلَّ- الأوامر للقيام بهذه العبادة! فأين قيامنا بعبادة الله سبحانه وتعالى؟!
هل نحن أفضل من خير البرية، وسيد البشرية، الذي كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، يُصلِّي ويتهجد ويبكي ويقرأ القرآن حتى يخرج الدم من رجليه؛ لكثرة القيام والوقوف والعبادة والصلاة، وهو من هو عليه الصلاة والسلام؟! بأبي هو وأمي، قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
تقول له عائشة رضي الله عنها: لم تفعل هذا يا رسول الله! -خطاب إشفاق ورحمة- وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ ما هو الجواب العظيم الذي يجب ألا نغفل عنه؟
يقول: {يا عائشة! أفلا أكون عبداً شكوراً!}.
انظروا إلى حقيقة الشكر هنا! وهو القيام بالعبادة، الشكر لله عزَّ وجلَّ إنما هو القيام بعبادته {أفلا أكون عبداً شكوراً} كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه؛ شكراً لله عزَّ وجلَّ.
فهكذا الشكر الحقيقي! ليس شكراً بالقول واللسان مع الإعراض والنسيان، ومع الوقوع في المعاصي والمخالفات الخطيرة، كما هو حال أحسن الناس حالاً اليوم، من يكررون الشكر والثناء لله سبحانه بألسنتهم؛ لكن جانب العمل تجد الجميع مُقصرين فيه.
ومن تمام شكر المنعم جلَّ وعلا: أن تقوم بعبادته، وتقوم بطاعته، ولا تغفل عنه طرفة عين.(112/11)
آثار العبادة على الفرد والمجتمع
أيها الإخوة في الله! لقد كان سلفنا الصالح -رحمهم الله- يعرفون مفهوم العبادة حقيقة، وخالط معنى العبادة بشاشة قلوبهم، وتربعت في سويدائها، فعرفوا مفهومها في الحقيقة، ولذلك حصلت لهم الآثار العظيمة، وحصل لهم من الخير العظيم في الدنيا، والفتح المبين، والرفعة براية الإسلام، وتحقيق العدل بين الناس -جميعاً- ما هو مُسطَّر في تاريخ المسلمين.(112/12)
آثار القيام بالعبادة
إن آثار العبادة على الأفراد والمجتمعات عظيمة جداً، يجمعها قول الله -عزَّ وجلَّ- في الآية الخامسة والخمسين من سورة النور: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً} [النور:55] متى تحصل هذه الآثار: الاستخلاف في الأرض، والتمكين فيها، وتبديل الخوف أمناً؟
تحصل بالقيام بالعبادة {يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55].(112/13)
آثار التساهل في العبادة
إن المتأمل في تاريخ المسلمين -بل المتأمل في واقع العالم الإسلامي اليوم- يجد أن البلاد التي أعرضت عن طاعة الله سبحانه، ووقعت في معصيته، وبارزته، ولم تستحِ من الله سبحانه وتعالى، وأهملت جانب عبادته، انظروا إليها! واسمعوا أخبارها! أما تسمعون الحروب الطاحنة؟!
أما تسمعون القلاقل والفتن والاضطراب والخوف وعدم الأمن على الأنفس والأموال والأعراض؟! كل ذلك موجود نسمعه؛ لا تسمع إلا حروباً طاحنة، ولا تسمع إلا استيلاءً وقتلاً وتشريداً، ولا تسمع إلا انتقاماً من الله سبحانه وتعالى، إما بالأعاصير المهلكة، أو الفيضانات المدمرة، أو القلاقل والمجاعات، الذين يموتون يومياً من الجوع، والذين يموتون يومياً من الأمراض، لماذا كل ذلك؟ للتقصير في جنب الله، والتفريط في حق الله سبحانه وتعالى، وإلا فقد قال الله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:96 - 99].
فالأمر خطير جد خطير يا عباد الله!(112/14)
واجبات عبودية المسلم لربه
يجب على المسلمين أن يحققوا جانب العبودية لله، فإن في ذلك عزهم وسعادتهم، وصلاح أحوالهم، في العاجل والآجل، أما إذا فرطوا في عبادة الله سبحانه، واستمرءوا معصية الله، فإن الله -عزَّ وجلَّ- ليس بينه وبينهم حسب ولا نسب، الله عزَّ وجلَّ بيَّن في كتابه العظيم أن السعادة كلُّ السعادة لمن استقام على شريعة الله، وأن الضلال والشقاء لمن أعرض عن الله سبحانه وتعالى، فقد قال سبحانه: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124].(112/15)
شروط العبادة
العبادة -يا إخوتي في الله- لها شروط معروفة، أهمها: الإخلاص لله.
يجب على من قام بعبادة الله، أن يقصد ما عند الله سبحانه وتعالى قال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23].
يجب أن تُخلص العبادة لله سبحانه! فلا شركَ يدنسها، ولا وثنيةََ تناقضها، ولا صَرْفَ للعمل لغير الله سبحانه وتعالى لأحد كائناً من كان.
العبادة محض حق الله جل وعلا، يجب على المسلمين أن يُفردوا الله بالعبادة، فلا يعبدوا غير الله، ولا يعبدوا مع الله غيره، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36]، وقال تعالى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18].
يجب أن يُفرد الله بالعبادة، فلا ذبح إلا لله، ولا نذر إلا له، ولا حلف ولا استعانة إلا به، ولا تقرب إلا إليه جل وعلا، أما الذين يُناقضون هذا الأصل ويخالفونه -وما أكثرهم في العالم الإسلامي اليوم- يصرفون أنواع العبادة لغير الله: من القبور والأضرحة والأحجار والأوثان والأشخاص وما إلى ذلك؛ فكلُّ ذلك مناقضٌ للعبادة، ومناقضٌ للتوحيد الذي خُلِقنا من أجله.
فالإخلاص لله أمره عظيم، يقول سبحانه وتعالى: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3] {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5].
فيجب علينا -جميعاً- أن نرعى هذا الأصل، وأن نفرد الله بالعبادة، وأن نحقق العبادة على ما يقتضيه شرع الله جل وعلا.
الشرط الثاني: أن يتابع المسلم قدوته ورسوله عليه الصلاة والسلام، فالرسول عليه الصلاة والسلام هو المبلغ عن الله شرعه، فيجب على العباد أن يأخذوا منه، وأن يتبعوه، وأن يقفوا عند سنته، ويحذروا -كل الحذر- أن يبتعدوا عن سنته أو ينقصوا منها، أو يزيدوا فيها، ففي الحديث الصحيح حديث عائشة المشهور أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد}، وفي رواية مسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
فيجب عليك -أخي في الله- أن تكون أعمالك وأقوالك وتصرفاتك، متابعاً فيها كتاب الله، مُتبعاً فيها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(112/16)
الأسباب الوخيمة التي تترتب على انحسار مفهوم العبادة
والعبادة يا إخوتي في الله أقسام -كما تعرفون وتعلمون- أهمها: ما يتعلق بجانب العقيدة.
ما يناقض التوحيد لله سبحانه وتعالى يجب على المسلمين جميعاً أن يعرفوه ويتعلموه؛ لكي لا ينقضوا توحيدهم، ويخالفوا دينهم، وهم يعلمون أو لا يعلمون.
فواجب العباد -جميعاً- وواجب طُلَّاب العلم أن يُعنوا بالعقيدة، وأمر توحيد الله سبحانه وتعالى وأن يركزوا عليه، وأن يدعوا الناس إليه؛ لأنه دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام.
فمنهج الأنبياء -جميعاً- إنما يُركز على هذا الأمر، وكل رسول يُبعث إلى قومه، وكل نبي يُرسل في قومٍ إنما يأمرهم أول ما يدعوهم إليه هو القيام بعبادة الله سبحانه وعدم الإشراك به، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36]، وكل رسول يأمر قومه بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59].
فأمر التوحيد يجب على المسلمين -جميعاً- في كل بقعة أن يعنوا به، ولا سيما في هذا الزمن، الذي كثرت فيه المناقضات للعقيدة، وكثر فيه المخالفون لعقيدة سلف هذه الأمة، مما يدعو إلى أخذ الحذر والحيطة، والاعتماد بعد الله سبحانه على العلم النافع الذي يبين العقيدة الصحيحة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وعلماء الإسلام قديماً وحديثاً -والحمد لله- قد عُنوا بهذا الأمر، واهتموا به، وركزوا عليه، في تأليفاتهم، ومصنفاتهم، وفي كلماتهم، وفي تعليمهم، وفي خطبهم وما إلى ذلك.
فواجبٌ على العباد -جميعاً- أن يعتنوا بما عُني به كتاب الله، وما جاءت به سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان أول دعوة رسل الله عزَّ وجلَّ من الدعوة إلى عبادة الله سبحانه، والحذر مما يناقضها، أو يخالفها.(112/17)
منزلة الصلاة من العبادة
ثم من أعظم العبادات -بل أعظمها بعد تحقيق العقيدة والشهادتين- هو: هذه الصلاة المفروضة، التي هي الفاصل بين الكفر والإيمان، كما في صحيح مسلم من حديث جابر رضي الله عنه: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة}.
وفي حديث بريدة المعروف عند أهل السنن والإمام أحمد وغيرهم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر}.
فواجب العباد -جميعاً- أن يُعنوا بهذه الفريضة، وأن يقيموها في بيوت الله مع جماعة المسلمين، وأن يراعوا فيها خشوعها، وواجباتها، وأركانها، وسننها وما إلى ذلك.
كذلك ينبغي عليهم أن يُعنوا بأمر أبنائهم، وأمر أسرهم بالقيام بها، وتشجيعهم عليها، ومعاقبتهم عليها، على حسب ما يقتضيه المقام، إن ما يجب على المسلمين أن يعتنوا بهذه الفريضة العظيمة، بل في عبادة الله عزَّ وجلَّ كلها.
كذلك في كل أمر من الأمور ينبغي على المسلمين أن يقوموا بواجب العبودية لله سبحانه وتعالى، وقد عرفتم سعة مفهومها ومعناها، وأنه يدخل فيها كل قول وفعل يحبه الله ويرضاه، ظاهراً كان العمل أو باطناً، وعرفنا -جميعاً- ما كان عليه قدوتنا وإمامنا رسولنا عليه الصلاة والسلام، فقد كان القدوة في القيام بعبادة الله عزَّ وجلَّ، وقد أمره الله عزَّ وجلَّ بالقيام بهذه العبادة، ولم يجعل بينه وبينها أجلاً إلا الموت، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]، وقال سبحانه: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132].
فالمسلم في عبادةٍ لله عزَّ وجلَّ في كل عمره، وفي كل أوقاته وأحواله وتصرفاته، وعلى المسلم ألا تعزب عنه عبادةُ الله طرفة عين، أو تغيب عنه ساعة، بل ثانية من ليل أو نهار، وعليه أن يخلص لله عزَّ وجلَّ، حتى في عاداته؛ فإنه يثاب عليها.(112/18)
الحذر من الانصراف عن عبادة الله
وليحذر المسلمون من الانصراف عن عبادة الله عزَّ وجلَّ، أو محبة غير الله سبحانه، أو الانصراف إلى غير الله عزَّ وجلَّ؛ فإن ذلك إذا تحقق فيه الحب، وتحقق فيه العمل له، والسعي في سبيله، ينصرف إليه أنه عُبد من دون الله -والعياذ بالله- وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح -في صحيح البخاري وغيره-: {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة والخميلة} الحديث.
وقد نهانا الله عزَّ وجلَّ عن عبادة الشيطان، فإنه يصرف عن طاعة الله سبحانه وتعالى، فقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيم} [يس:60 - 61].
فيجب على المسلم أن يقوم بعبادة الله عزَّ وجلَّ، وليحذر صوارف هذه العبادة، من: النفس الأمَّارة بالسوء، أو الشيطان الرجيم -أعاذنا الله منه- وهو يغمز ويهمز ويوقع الإنسان في الوساوس واللبس.
فيجب على المسلم أن يكون في حذر منه، من همزه، ونفخه، ونفثه، وأن يستعيذ بالله عزَّ وجلَّ دائماً وأبداً من وساوسه؛ فإنه يدخل على الإنسان، بل يجري منه مجرى الدم أعاذنا الله وإياكم منه؛ فعلينا أن نحذر مصائده، وأن نحذر حبائله.
كذلك يجب علينا أن نحذر من هذه الغفلة التي أُصيب بها المسلمون في هذا الزمن، الغفلة عن عبادة الله عزَّ وجلَّ.
العبادة رسالة يجب على كل مسلم أن يقوم بها ولا يغفل عنها، والناس فيها على حسب مقامهم في هذه الحياة؛ فالعلماء عليهم من الواجب ما ليس على غيرهم، وطلبة العلم كذلك، وكل من وَلِي مسئولية من أمور المسلمين، فليس مسئوليته كمسئولية غيره، فكلٌّ عليه أن يخدم الإسلام، وأن يقوم بواجبه تجاه الإسلام من عمله الذي يقوم به، وليجعل الدنيا كلها وسيلة إلى الغاية الكبرى، والدار الباقية.(112/19)
أهمية الانتفاع بالذكرى والعمل بالعلم
أيها الإخوة في الله! الحديث طويل وطويل، ولكنه -ولله الحمد والمنة- واضح ومفهوم في أذهان كثير من الحاضرين، ولا أدعي في هذا المقام أني أتيت بجديد، وإنما كل كلامي تذكيرٌ لنفسي أولاً، ثم تذكير لكم؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- أمرنا بالتذكير، وبيَّن أن الذين ينتفعون بالذكرى هم المؤمنون، أما غير المؤمنين أو الذين ضعُف إيمانهم، فإنهم -والعياذ بالله- يسمعون ولكن لا يُؤثر ما يسمعونه.
إنني أيها الإخوة في الله! أدعو إلى العمل بما سمعتم، وأدعو إلى العمل بما تعلمون، فما نعلمه كثير؛ ولكننا نخالف في أعمالنا وتصرفاتنا، وحياتنا اليومية.
من الذي يقف حائلاً بين المسلم وبين قيامه بعبادة الله؟!
من الذي يلزمك ألا تحقق العبودية لله، لا سيما في نواحي العقيدة؟!
من الذي يدعوك إلى التساهل في أداء ما افترض الله عليك؟!
من الذي يدعوك إلى التساهل في عدم فهم هذه العبودية الصحيحة؟!
فالمسلمون مُطالَبون أن يعلموا ويعملوا، وكلنا نعلم أن هذه العبادة خُلقنا من أجلها، وكثير من الناس حينما تسأله أو تباحثه في هذا الأمر يجيبك، وقد يستدل لذلك بالآية المشهورة المَتْلُوَّة آنفاً: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] لكن! أين قيام المسلمين بعبادة الله؟! أين قيامهم بطاعة الله عزَّ وجلَّ؟!
لا ريب أن التقصير في ذلك واضح، ولا يدعي أحدٌ الكمال.
فيجب علينا -يا إخوتي في الله- أن نقوم بواجب الله علينا، وأن نقوم بواجب ديننا تجاهنا؛ فإن مسئوليتنا تجاه هذا الدين عظيمة وخطيرة، وكل على ثغر من ثغور الإسلام، كلٌّ يعتني بنفسه، يقومها على طاعة الله، يجاهدها بالعلم النافع والعمل الصالح، يُأثِرها على الحق الذي جاء به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، يبتعد عن المحرمات في نفسه وفي أهله وفي بيته وأسرته، يربي أبناءه وأسرته على الإسلام، وعلى حُبِّ الإسلام، وعلى العمل بالإسلام، وعلى فهم الإسلام الصحيح، وعلى الغيرة على الإسلام.
كل مسلم عليه واجب في هذا.
فيجب على المسلمين أن يُقدِّموا لدينهم، لا سيما في الوقت الذي يتكاتف فيه أعداء ديننا على المسلمين، فأنتم تعرفون وتسمعون وتدركون أن المسلمين مستهدفون في عقيدتهم، وفي عباداتهم، وفي أخلاقهم، وفي تمسكهم بسنة نبيهم عليه الصلاة والسلام، فهذه العقائد الفاسدة، والمبادئ المنحرفة، والدعوات المضللة، وهذه الاتهامات الموجهة إلى الأمة الإسلامية إن هذه الأمور كلها تتطلب من المسلمين أن يعوا رسالتهم في الحياة، وأن يعوا واجبهم، وأن يضحوا في سبيل دينهم، ويجتهدوا غاية الاجتهاد بالعلم النافع، والعمل الصالح، وتربية الأُسر والأبناء على الإسلام؛ ليكون الجميع مجندين ومسلحين في خدمة الإسلام.
هذه أركانٌ من المنكرات والمحرمات ضد ديننا، وضد أخلاقنا، نسمعها كثيراً، ونراها، وتخالطنا في الأسواق والشوارع، والبيوت، فلماذا لا نغار على ديننا؟! ولماذا لا نتحرك في سبيل ديننا؟! ولماذا لا نعمل لآخرتنا؟!
يجب علينا أن نعمل للآخرة يا إخوتي في الله! فالحياة قصيرة، والأنفاس محدودة، وأنت مسئول يا بن آدم عن عمرك فيما أفنيته! وعن شبابك فيما أبليته! وعن علمك ماذا عملت فيه! وعن مالك من أين اكتسبته، وفيما أنفقته!
فماذا أعددت لهذه الأسئلة؟!
إنني ألفتُ النظر إلى محاسبة النفس، أن يحاسب كلُّ منا نفسه؛ فإننا نسمع كثيراً؛ لكننا نعمل قليلاً.
إلى متى يا إخوتي في الله التسويف؟! وإلى متى التثاقل؟! وإلى متى إلقاء التبعية على الآخرين؟! وإلى متى! وإلى متى! كل مسلم جندي للإسلام عليه أن يعمل له، وأن يقوم بعبادة الله عزَّ وجلَّ.
لكن الذي يؤسِفُ كلَّ مسلم، ويَقُضُّ مضاجع المسلمين؛ أن يكون أبناء المسلمين لا يعرفون رسالتهم، وأن يكون المسلمون لا يعرفون هدفاً لهم في الحياة، يسيرون كما تسير البهائم، ويعيشون كما تعيش الأنعام، لا يعرفون إلا مأكلهم، ومشربهم، ومنامهم، يلهثون في دنياهم، كلٌ يبحث عن الرفاهية، وتمتع نفسه وأسرته في غفلة عن الله والدار الآخرة.
المسئولية مسئولية المسلمين جميعاً، وأنا أحدث الحاضرين وأطالب كل مسلم أن يقوم برسالته، الرجال عليهم من الواجب العظيم ما عليهم، والمرأة في بيتها عليها من الواجب العظيم ما لا يخفى، والشباب عليهم من المسئولية والواجب تجاه أمتهم ما لا يخفى عليكم جميعاً، وكذلك العلماء وغيرهم؛ فكل مسلم على ثغر، وكل مسلم يجب عليه أن يُقدِّم لهذا الدين، ولا نترك إسلامنا يُنتهك، وحُرُماتنا تدنس، والمسلمون ساهون غافلون.
يجب علينا -جميعاً- أن نتحرك في الدعوة إلى الله, والقيام بعبادة الله، والتواصي بالحق والصبر عليه، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإقصاء الشر عن أحيائنا، وعن بيوتنا ومجتمعاتنا، ليحصل للأمة الإسلامة الخير الذي وعدها الله به.
ولا يخفى عليكم واقع أمتكم؛ ولكن الفأل عظيم، والأمل كبير، والصحوة -ولله الحمد والمنة- تعم أقطار الدنيا؛ لكن علينا أن نكون على علم؛ لأن العلم أساس العمل، وأن نكون على بصيرة، وأن نكون على قدر من المعرفة والحكمة وبُعد النظر في كل أمر من أمورنا.
هذا؛ وأسأل الله عزَّ وجلَّ بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم من عباده المفلحين، ومن حزبه الناجين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كما نسأله تعالى أن يُصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن يمنَّ على ولاة الأمر باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يرزق الجميع الفقه في دينه والبصيرة فيه، والعلم النافع، والعمل الصالح، وأن يصلح مجتمعات المسلمين، ويقيها من كل شر وبلاء وفساد، إنه على كل شيء قدير.
كما نسأله تعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل كلامنا وسماعنا حجة لنا لا علينا، وكلامكم وسماعكم الذي سمعتموه مسئولون عنه؛ فيجب عليكم أن تتذكروه، وأن تعملوا به.
نسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن جمع بين العلم النافع والعمل الصالح؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.
ونسأله تعالى أن يجمعنا في دار كرامته ومستقر رحمته، كما جمعنا في هذا المكان الطيب المبارك.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(112/20)
الأسئلة(112/21)
استحضار عظمة الله
السؤال
فضيلة الشيخ! كيف يستحضر المسلم عظَمة الله في كل أحيانه لكي يراقب الله في السر والعلن؟
الجواب
سؤال مهم؛ لأنه يتعلق بأمر لو صلح لحصل لهذا السائل ولغيره ما أراد.
المسلم القوي في إيمانه، القوي في يقينه بربه جلَّ وعلا، الصحيح قلبه، السليم الذي لم يُدنس بظلمات المعاصي والانحرافات، هو القلب الذي يستشعر عظمة الله عزَّ وجلَّ، ويجعل الإنسان في عبادةٍ دائمة، ويقظة تامة، وعدم غفلة عن الله عزَّ وجلَّ والدار الآخرة.
أما القلوب الغافلة البعيدة عن الله، التي تربعت الدنيا وشهواتها وزخرفها، ودنستها وران عليها الذنوب والمعاصي؛ فإنها مهما ذُكِّرت فإنها لا تستمر على ذلك إلا أن يهدي الله عزَّ وجلَّ قلب صاحبها.
فعلى كل حال! علينا جميعاً أن نُعنى بصلاح الباطن، وأن نعتني بصلاح القلوب، وأن نبتعد عن أمراض القلوب سواءً الشهوات والشبهات.
على المسلم أن يكون دائم الصلة بربه جل وعلا، يذكره في كل أحيانه، يتلو كتابه آناء الليل وأطراف النهار، يتذكر الدار الآخرة، يروِّض نفسه على العمل للآخرة وقصر الدنيا وفنائها.
على أخينا السائل -وعلينا جميعاً- أن نسعى في صلاح قلوبنا، ونسأل الله عزَّ وجلَّ دائماً وأبداً ذلك؛ فمتى صلحت القلوب صلحت سائر الأعمال، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {ألا إن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب}.
فالمسلمون -الآن- يُعانون من هذا المرض، وهو -والله- أشد من أمراض الأبدان، جدير أن يُعنى المسلمون اليوم بأمراض القلوب؛ لأنها هي الأمراض التي تُقْعِدهم عن سبب سعادتهم، ونجاحهم، وفلاحهم، وصحتهم في الدنيا والآخرة.
القلوب اليوم في غفلة عن الله عزَّ وجلَّ! ما أكثر الانحرافات! وما أكثر المعاصي القولية منها والفعلية التي يعايشها المسلمون، بل لا ينفكون عنها في حياتهم، والله المستعان.
فعلينا أن نُروض القلوب على طاعة الله سبحانه، وأن نلينها بتلاوة كتابه وكثرة ذكره وشكره، والصلة به جل وعلا؛ فإن من فعل ذلك حري أن يكون على صلة دائمة، وعلى تذكر تام، وعلى قيام حقيقي بالواجب الذي خلقه الله من أجله، ألا وهو جانب العبودية لله سبحانه وتعالى، وأترك لكل واحد أن يختبر قلبه، وأن يزن نفسه بميزان الشرع؛ ليرى مدى صحة قلبه من مرضه.
بعد سماعكم لهذه الكلمة التي لا أدعي أن فيها جديداً؛ لكنها ذكرى، مَن فتح الله عليه وعرف ما فيها، وعمل بما فيها، وسار في عبادة الله عزَّ وجلَّ، فإن قلبه سليم صحيح؛ فعليه أن يعبد الله عزَّ وجلَّ ويستمر على ذلك، ومَن خرج من هذا المكان كما دخل فيه، فإن عليه أن يُعاود نفسه، وأن يصحح قلبه؛ فإنه مريض.
علينا -جميعاً يا إخوتي في الله- أن نكثر دائماً من محاسبة أنفسنا، لا تمر بنا ساعة بل يوم، فما بالك بشهر أو سنة أو أعوام متتابعة، والشخص على حاله لم يتغير، بل والأمة على حالها لم تتغير والسبب: أننا استمرأنا ذلك الأمر، وتساهل كل واحد منا في صلاح نفسه، وإلا لو صلحتُ أنا وصلحتَ أنت، وصلح البيت هذا، والبيت ذاك، صلح المجتمع وهكذا.
لو وقف المسلمون يداً واحدة في الخير، ويداً واحدة على الشر، لصلحت الأحوال، وهذا -والحمد لله- أمرٌ ينبغي على المسلمين أن يُكثروا من العناية به، والحرص عليه، نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرزقنا صلاح القلوب، وصلاح الأعمال، إنه على كل شيء قدير.
واقرءوا في هذا كتاباً قيماً للإمام ابن القيم رحمه الله، اسمه: إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان، واقرءوا كتابه: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي؛ لتنظروا مدى تقصيركم في صلاح قلوبكم، ومدى استحكام المعاصي وأضرارها على النفوس، وعلى الأفراد، وعلى المجتمعات، واقرءوا في الموضوع الأصلي الذي هو موضوع العبادة، كتاباً قيِّماً جيداً جديراً بالعناية، هو كتاب العبودية لشيخ الإسلام ابن تيمية، فقد أماط اللثام عن معنى العبودية، وبيَّن مفهومها الواسع, وأكثر من الأمثلة والأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل السلف الصالح رحمهم الله تجاهها.
إن هذه الكتب وأمثالها جديرة بالقراءة والاستفادة والعناية بها، وجديرة أن تكون في بيت كل مسلم ومكتبته، وأن يكون طلاب العلم يقرءونها على أهليهم، وفي بيوتهم، وفي مساجدهم، ويستفيدوا منها؛ فإن فيها خيراً كثيراً.
نسأل الله -عزَّ وجلَّ- أن يرزقنا جميعاً العلم النافع، والعمل الصالح.(112/22)
الإخلاص في الأعمال الدنيوية
السؤال
فضيلة الشيخ! إذا أراد المسلم أن يفعل أمراً من أمور الدنيا، فكيف يخلص لله في عمله؟ وإذا كان هذا العمل يحصل من ورائه أموال، كالأذان، وحفظ القرآن أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور الصحيح، حديث عمر رضي الله عنه، الذي يُعتبر قاعدة من قواعد هذا الدين: {إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى} فالأعمال العادية التي يعملها المسلم تكون عبادة من العبادات، إذا قرنتها النية الصالحة.
فالمسلم يستحضر وهو يؤدي العمل الدنيوي، أنه حينما يعمل كل عمل من الأعمال فإنه إنما يعمله ابتغاء ثواب الله عزَّ وجلَّ، هكذا يجب على المسلم أن يَعرف وأن يوقن، كل عمل ينبغي لك أن تنظر مدى موافقته للشرع أو مخالفته، وإذا كان ليس فيه نهي في الشرع ولا أمر، فإن على المسلم أن ينوي فيه النية الصالحة سيؤجر عليه بحمد الله -وقد أسلفتُ لكم الحديث في ذلك- الذي يبين أن عمل المسلم، بل معاشرته لأهله, وهذا عمل مع أنه عمل جِبِلِّي، لا تنفك النفس البشرية عنه، وتحتاج له احتياجها للطعام والشراب ومع ذلك يُؤجر الإنسان عليه، فهذا من فضل الله عزَّ وجلَّ.
فكل عمل من الأعمال عليك -يا أخي في الله- قبل أن تواقعها وتعايشها وأنت في طريقك إليها، عليك أن تستصحب النية الصادقة، والطوية الحسنة، تذهب لعملك ابتغاء ثواب الله عزَّ وجلَّ، تجعل من عملك وسيلة للخير، وللدعوة إلى الله، ووسيلة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وسيلة للتذكير والتعاون والتواصي بالحق والصبر، تجعل من عملك الدنيوي عملاً للآخرة، توقن فيه وتؤمن، وتحسن نيتك أنك تريد أن تنفق على أبنائك وعيالك، حتى لا تدعهم عالة يتكففون الناس ففي ذلك عبادة من العبادات.
على المسلم أن يستشعر هذه الأمور: الموظف في وظيفته، والتاجر في متجره، والأستاذ والطالب في مدرستهما، كل يعمل للإسلام عن طريق هذا الثغر.
فعند اصطحاب هذه النية يؤجر الإنسان، وبتركها والتساهل فيها يُعرِّض نفسه لخطر، بل يحرمها خيراً كثيراً.
فالمسألة هذه قد تعود للمسألة الأولى، وهي: أنه إذا صلحت القلوب والنوايا صلحت الأعمال بإذن الله جل وعلا، فالأمور بمقاصدها، كما هو مقرر في قواعد هذه الشريعة الغراء.
والمسألة بالترويض والتدريب والمتابعة والعناية بكثرة العمل الصالح، وحُسنه، وكيفيته السليمة، وتعويد النفس على الخير، وسيرها في طريقه، فإنها تعتاد -بإذن الله- الخير ولا تنفك عنه، أما إذا اعتادت النفوس الشر، وخالطت القلوب المعاصي؛ فإن الإنسان لا يتأثر ولا يهتم، وتشغله دنياه عن أُخراه.
جعلنا الله وإياكم من عبادة المفلحين، إنه جواد كريم.(112/23)
المعنى الصحيح لقوله تعالى: ((ولا تنس نصيبك من الدنيا))
السؤال
فضيلة الشيخ! قلتم: إن أمر العبادة ليس مقصوراً على الصلاة وفي المساجد فقط، بل هو أشمل من ذلك وأعم.
ف
السؤال
ما قولكم لمن إذا قلتُ له: اتقِ الله في نفسك وأهلك، قال لي: يقول الله عزَّ وجلَّ: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] فماذا يقال لأمثال هذا -جزاكم الله خيراً-؟
الجواب
يجب على المسلم -كما عرفنا آنفاً- أن يفهم سعة العبادة في هذا الدين، وعليه أن يعرف أن ما وقع فيه كثير من الناس -هدانا الله وإياهم- من التقصير في هذا المجال، وجعل العبادة في زوايا أو في أماكن معينة، وفي أوقات محددة، ثم إذا خرجوا منها أو فارقوا هذه الأماكن والأوقات رجعوا إلى معصية الله عزَّ وجلَّ، أو رجعوا إلى الدنيا، هذا أمر خطير، وأعني بقولي: رجعوا إلى الدنيا، أي: انصرفوا إليها بالكلية، ونسوا الله والدار الآخرة.
أما الاحتجاج بهذه الآية، فإنه احتجاج في غير محله، فهذه الآية تعني أن على المسلم أن يكون دائم العمل للآخرة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:77] وألا تشغله الدنيا عن الآخرة، ومع ذلك: فإن عليه أن يقوم بالأمور التي لا يستغني عنها في هذه الحياة، أو التي يحتاجها في هذه الحياة، من تأمين مسكن مناسب له ولأسرته، ومن الكدح، وطلب الرزق، من غير ما تجاوُز، ومن غيرما مشغلة عن الآخرة، وأن يقوم بما لا يستغني عنه المسلم في هذه الحياة، بل إن الإمام التابعي الجليل مجاهد بن جبير، قد فسر هذه الآية تفسيراً لطيفاً، يقول رحمه الله: [[إن قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] ليس معناه العمل للدنيا، وإنما لا تنسَ نصيبك من الدنيا أن تعمل للآخرة في هذه الدنيا]] فإن النصيب الصحيح والنصيب الحقيقي هو ألا تضيع هذه الدنيا هنا وهناك، بل نصيبك في هذه الحياة هو العمل الصالح الذي ستلقاه غداً.
وعلى كل حال! فنحن لا نريد من المسلمين أن يدخلوا المساجد ويُغلقوها ولا يعملوا للدنيا! لا.
يجب على المسلمين أن يكون عندهم من سعة الأفق ومن المعرفة التامة لمقتضيات هذا الدين ما يجعلهم يبتعدون عن الشطحات التي هي -في الحقيقة- نقص في التفكير.
ليس معنى الأمر بالعبادة والتأكيد عليها أن المسلم يظل مدى حياته راكعاً ساجداً! لا؛ بل هذه وإن كانت من أعظم العبادات، فإن العبادة أعم من ذلك، فالدنيا كلها ينبغي أن تُعمر بالعبادة، في أعمالك، وفي أقوالك وتصرفاتك، في أموالك، كل ذلك عليك أن ترعى العبودية لله عزَّ وجلَّ، وأن تحذر من البُعد عن الله عزَّ وجلَّ فيها، فليس في هذا الدين: (دع ما لله لله، وما لقيصر لقيصر)! الأمور كلها لله عزَّ وجلَّ، حتى أمورك الدنيوية ينبغي أن تقصد بها ما عند الله، وأن تخلص لوجه الله سبحانه وتعالى.
فالحمد لله، فإن من نعم الله عزَّ وجلَّ، ومن محاسن هذا الدين، أن تكون هذه العبادة بهذا المفهوم، فنوم الإنسان في أول الليل ليقوم آخره؛ ليتهجد ويصلي ما كُتب له، فنومه عبادة من العبادات، وتناوله طعام السحور أو أي طعام؛ ليقيم صلبه، وليؤدي ما أوجب الله عليه، إذا احتسب وأخلص نيته لله، فهو في عبادة، ومعاشرته لأهله قصده إعفاف نفسه، وإحصان فرجه، وغض بصره، وابتغاء الذرية الصالحة يُؤجر على ذلك في كل لحظة من لحظاته.
يجب ألا تغيب عن الله، يجب ولا تنسى الله جل وعلا، فإن ذلك عواقبه وخيمة.
فعلى كل حال! لم يُصَب المسلمون اليوم بمثل مصيبة الجهل بالدين، وانحسار مفهوم العبادة الصحيح في مجتمعاتهم، قد تحدث أحداً أو تنكر عليه، أو تنصحه في شأن أهله وأبنائه، فيقول لك مثلاً: إن الدين في المسجد، أو إن الصلاح في القلب، أو ما إلى ذلك من العبارات التي نسمعها من كثير من أبناء المسلمين الذين يُفترض فيهم أن يتصدوا لشُبه الأعداء، لا أن يكونوا هم عالة على هذا الدين؛ لكن -مع الأسف- لما أُهِمل أمر هذا الدين، ونشأ شباب المسلمين على غير العبادة الصحيحة، وتلقفتهم المناهج والوسائل المخالفة لمنهج الإسلام الحق، أصبح أبناؤنا يعيشون حياة أوصافها يعجز اللسان عن ذكرها، فوضع المسلمين ووضع شبابهم وأبنائهم وضع خطير، بل إن كثيراً من الناس من ترك دين الله وراءه ظهرياً، ومن ضرب بدين الله عرض الحائط، ولم يُبالِ بأوامر الله عزَّ وجلَّ، فلا يرعى صلاةً، ولا يؤدي لله حقاً، ولا يقوم بواجب، إنما هو -والعياذ بالله- في غَيٍّ وجهالة ومنكرات وضلالات وانحرافات مخالفة للإسلام.
أهكذا يعيش أبناء المسلمين الذين يجب أن يكون كل واحد منهم كما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغيرة على هذا الدين والانتصار له؟!
ومع ذلك فقد وجد أعداؤنا في المسلمين الأرض الخصبة؛ لنشر أفكارهم وترويجها بين أبناء المسلمين، وفعلاً: تجد كثيراً من أبناء المسلمين ضحايا هذا الغزو العقدي والأخلاقي والفكري، يترجمونه عملياً، بهذه الكلمات أو هذه الأقوال، فلا يعرفون حقوق الله سبحانه، ولا يعرفون حقوق عباده.
إذاً: المسئولية عليكم جميعاً أيها الإخوة في الله! كلٌ فيما يستطيع، كلٌ عليه أن يتحرك لهذا الدين، وكل في مجاله، أن يقوم بهذه العبادة.
هذا ميراث النبوة، وهذا عمل رسل الله جميعاً عليهم الصلاة والسلام، فيجب علينا جميعاً أن نعتني بهذا الأمر، وأن نتذكره وألا نغفل عنه طرفة عين.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا جميعاً إلى ما يحبه ويرضاه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(112/24)
أمراض القلوب
يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب) وهذا الحديث يدل على أهمية القلب وأهمية الاعتناء به، والحذر من أن يصيبه أي مرض، والقلوب كما يقول ابن القيم تنقسم إلى ثلاثة أقسام: قلب صحيح، وسقيم، وميت، وإن من أعظم أسباب حياة القلوب هو تلاوة كتاب الله عز وجل وتدبره ففيه الشفاء والنور.(113/1)
أقسام القلوب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى، نسأل الله ربنا أن يجعلنا ممن يطيعه ويطيع رسوله، ويتبع رضوانه، ويجتنب سخطه، فإنما نحن به وله.
أما بعد:
إخوة الإسلام: في خضم مشغلات الحياة، وتزاحم مغريات الدنيا، وطغيان الماديات، وغلبة الأهواء، يغفل كثير من الناس عن الأخذ بأسباب السعادة والفلاح في الدنيا، والفوز والنجاة في الآخرة، وإن هذه الأسباب منوطة بأمر واحد، هو قطب الرحى في هذه القضية، يفصح عنه حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم عند البخاري ومسلم: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} ففي هذا الحديث العظيم إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه بحسب صلاح حركة قلبه.
فإن كان قلبُه سليماً، ليس فيه إلا توحيدُ الله وخشيته، ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ومحبتُه؛ سلِمَت حركات الجوارح، ونشأ على اجتناب المحرمات والمحدثات.
وإن كان القلب مريضاً فاسداً، قد استولى عليه اتباع الهوى، وغلبه حب الشهوات؛ فسدت حركات الجوارح، وانبعثت إلى كل معصية، ونشطت في كل ضلالة، ولهذا يُقال: القلب ملك الأعضاء، وبقية الأعضاء جنوده، فإذا كان القلب صالحاً؛ كانت الجنود صالحة، وإن كان فاسداً؛ كانت جنوده فاسدة.
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله في انقسام القلوب إلى صحيح، وسقيم، وميت، ما خلاصتُه: لما كان القلب يوصف بالحياة وضدها، انقسم بحسب ذلك إلى هذه الأحوال الثلاثة: فالقلب الصحيح هو القلب السليم، الذي لا ينجو يوم القيامة إلا من أتى الله به، كما قال تعالى: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
فهو الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فسلم من عبودية ما سواه، وسلم من تحكيم غيره صلى الله عليه وسلم، وسلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه، بل قد خلصت عبوديته وعمله لله تعالى، فإن أحب؛ أحب في الله، وإن أبغض؛ أبغض في الله، وإن أعطى ومنع فلله وحده، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله صلى الله عليه وسلم، فيعقد قلبه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء به وحده -دون كل أحد- في الأقوال والأفعال، ويكون الحاكم عليه في ذلك كله، دقه وجله: هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل، امتثالاً لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات:1].
والقلب الثاني: ضد هذا، وهو القلب الميت، الذي لا يعرف ربه، ولا يعبده بأمره، فالهوى إمامه، والشهوة قائده، والجهل سائقه، والغفلة مركبه، فمخالطة صاحب هذا القلب سُقم، ومعاشرته صُم، ومجالسته هلاك.
والقلب الثالث: قلب له حياة وبه علة، ففيه من محبة الله والإيمان به ما هو مادة حياته، وفيه من محبة الشهوات وإيثارها ما هو مادة هلاكه وعطبه، وهو ممتحن بينهما.
فالقلب الأول: حيٌّ مخبتٌ واعٍ ليِّن.
والثاني يابس ميت.
والثالث: مريض، فإما إلى السلامة أدنى, وإما إلى العطب أدنى.
روى الإمام مسلم: عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عوداً عوداً؛ فأي قلب أُشرِبَها نُكِِتَت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها، نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أسود مرباداً كالكوز مُجَخِّيَا، لا يعرف معروفاً ولا ينكر منكراً، إلا ما أُشْرِب من هواه، وقلب أبيض مثل الصفا لا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض}
وصح عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قوله: [[القلوب أربعة:
قلب أجرد: أي: متجرد مما سوى الله ورسوله، فيه سراج يزهر، فذلك قلب المؤمن.
وقلب أغلق: فذلك قلب الكافر.
وقلب منكوس: فذلك قلب المنافق، عرف ثم أنكر، وأبصر ثم عمي.
وقلب تمده مادتان: مادة إيمان، ومادة نفاق؛ فهو لما غلب عليه منهما]].(113/2)
أسباب مرض القلوب
والفتن التي تُعرض على القلوب هي أسباب مرضها، وهي فتن الشهوات، وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، وفتن المعاصي والبدع، وفتن الظلم والجهل.
ومدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم، وفساد القصد، ويترتب عليهما داءان قاتلان: الغضب والضلال، وهذان المرضان ملاك أمراض القلوب جميعها، وشفاء ذلك بالهداية العلمية، والهداية العملية وتكون بتحقيق التوحيد لله، وتجريد المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم.
أمة العقيدة والإيمان! أتباع محمد عليه الصلاة والسلام! بالفهم الصائب لما سبق، والنظر الثاقب لما وقع ويقع في حياتنا المعاصرة ندرك أنه ما أصاب الأمة من شر وضلال وفتنة؛ إلا بسبب أمراض القلوب وعللها، وإذا حصل فساد القلب، فحدِّث ولا جناح عن العواقب السيئة التي تعود على الأفراد والأمم، وما حلت الضلالة وانتشرت الجهالة في أمر العقيدة والاتباع، وحصلت الفُرقة والاختلاط إلا بسبب أسقام القلوب التي أصبحت أوكاراً للشياطين، وبؤراً للأهواء، وما عمت المنكرات في الأشغال والأخلاق والأقوال، وكثر القتل، والوقوع في الزنا، والجرائم، والتعامل بالربا، وسائر المحرمات؛ إلا بسبب إقفار القلوب من طاعة الله، وفتنتها بحب العاجلة.
وبالجملة: فكل فساد حل بالأمة مرده إلى أمراض القلوب، وما ران عليها من ظلمات المعاصي.
وما شيوع الأمراض النفسية، والتوترات العصبية، والأسقام الاجتماعية، وانتشار القلق والمس والهموم والوساوس؛ إلا بسبب الوقوع في المعاصي والذنوب، على اختلاف أصنافها، وتعدد مصادرها، واختلاف وسائلها، التي تقضي على القلب، وتميت الشعور الإسلامي، والحس الإيماني فيه، وتزرع فيه الفسق والضلال والفساد.
ولله در عبد الله بن المبارك حيث قال:
رأيتُ الذنوب تميت القلوب وقد يورث الذل إدمانها
وترك الذنوب حياة القلوب وخير لنفسك عصيانها
ومن الغريب حقاً: إعراض الناس عن الاهتمام بعلاج أمراض القلوب، وانصرافهم الكلي إلى الاهتمام بصورهم وأجسامهم، فلو أصيب أحدهم بأدنى مرض في جسده؛ لأقام الدنيا بحثاً عن أمهر طبيب، وأفخم مستشفى، بينما الأمراض الحقيقية المعنوية، أمراض القلوب والأرواح قد أهملت، فعاد الأمر كما ترى، يسر العدو ويحزن الصديق.
ولعل ما سبق من وضع لمسات على هذا الموضوع الخطير من حيث الأهمية، والأسباب والعلاج، ونظرة السلف له، وواقع الناس فيه، كافٍ في أن يهتم كل واحد منا بفحص قلبه, ومحاسبة نفسه في هذا الأمر؛ ليعلم بقدر مواقعته المعاصي فإنما يجلب الفساد لقلبه، والناس في ذلك بين مُسْتَقِلٍّ ومستكثر، وليعم الصلاح والخير والفلاح نسأل الله أن يصلح فساد قلوبنا.
اللهم يا مصلح الصالحين، أصلح فساد قلوبنا، واغفر لنا ذنوبنا، إنك جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(113/3)
أسباب حياة القلوب
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وشرفنا باتباع محمد خير الأنام، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وخذوا بأسباب صلاح القلوب، وراقبوا مولاكم علام الغيوب، واعلموا أن حياة القلب وصحته وشفاءه من كل ضرر لا يحصل إلا بالآتي:
بإقبال أصحابه على كتاب الله تلاوة وتدبراً، ففيه الشفاء والنور، كما قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57].
والإكثار من ذكر الله قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وكثرة استغفاره والتوبة إليه، والاستعاذة به من الشيطان الرجيم، والبُعد عن مصائده وحبائله من: الملاهي التي تصد عن ذكر الله، وسائر المعاصي.
فاتقوا الله -عباد الله- وزكوا قلوبكم، وطهروها من كل ما يُغضب الله من الغل والحقد والحسد والكِِبر والعجب وعداوة المسلمين، واجتنبوا كل أسباب فساد القلوب وقسوتها، تكونوا من المفلحين.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لهُداك، واجعل عملهم في رضاك، وهيئ لهم البطانة الصالحة.
اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين إلى ما تحب وترضى، اللهم أيده بالحق، اللهم اجعله هادياً مهدياً يا رب العالمين، اللهم وفق قادة المسلمين إلى تحكيم شرعك، اللهم وفق المسلمين قاطبة إلى العودة الصادقة إلى دينك القويم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعَز فيه أهل طاعتك، ويُذَل فيه أهل معصيتك، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر.
اللهم أغثنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين!
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(113/4)
بدع شهر رجب
إننا مطالبون باتباع شرع الله وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك جماع الصلاح والهداية، وضده الشقاوة والضلالة، وذلك لأن الأعمال لا تقبل إلا بشرطين: الإخلاص، ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم كثير الأمر بلزوم سنته، شديد التحذير من البدع والمحدثات.
وأقوال السلف في ذلك كثيرة مشهورة.
وإن من هذه البدع: بدعة تخصيص ليلة السابع والعشرين من شهر رجب بالعبادة والطاعات والأفراح؛ وغيرها من البدع.(114/1)
الاتباع لا الابتداع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، أمرنا باتباع رسوله وسلوك سبيله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، حثنا على اتباع هديه وسنته، وحذرنا من كل ما يخالف هديه وطريقته، فلا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه، تركها على المحجة البيضاء، لا يزيغ عنها إلا هالك، ولا يحيد عنها إلا ضال، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن تمسك بسنته ولزم هديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعلموا أنكم مطالبون باتباع شرع ربكم، وسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم؛ فإن في ذلك الصلاح والهداية، وفي ضده الشقاوة والضلالة.(114/2)
شروط قبول العمل
إخوة الإسلام في كل مكان: لقد جاءت شريعة الإسلام كاملةً شاملة لا تحتمل الزيادة والنقصان، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] وشرط الشارع الحكيم لقبول الأعمال شرطين عظيمين، إذا اختل أحدهما فسد العمل، وأصبح هباءً منثوراً.
أولهما: أن يكون العمل خالصاً لوجه الله، خالياً من كل رياء وسمعة.
ثانيهما: أن يكون صواباً موافقاً لشرع الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا زيادة ولا بدعة، لأن نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، ولم يبقِ من أصول الدين وفروعه شيئاً إلا بينه، صلوات الله وسلامه عليه، فالحق ما جاء به، والثواب ما كان على وفق سنته، والباطل والضلال ما كان مخالفاً لهديه، مما أحدثه الناس واتبعوه، واتبعوا فيه أهواءهم قال الله: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50].(114/3)
أقوال السلف في إنكار البدع
قال الإمام مالك رحمه الله: [[من ابتدع في الإسلام بدعة ًورأها حسنة، فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3]، فما لم يكن يومئذٍ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً]] وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم -وهو بأمته الرءوفٌ الرحيم، ولها الناصح الأمين- كثير الأمر بلزوم السنة واتباعها، وشديد التحذير من المخالفة والبدعة، بل كان يؤكد ذلك دائماً في خطبه، كما أخرج ذلك الإمام مسلم في صحيحه عن جابر رضي الله عنه.
إن من الناس من كذبوا وابتعدوا عن آثار النبوة، وفتحت عليهم الدنيا، وآثروها على الأخرى؛ فانتشرت بينهم المحرمات، وكثرت البدع والضلالات، حتى اشتبه الأمر على كثيرٍ من المسلمين، فوجب التنبيه على تلك البدع في حينها؛ حتى يكون المسلم الحريص على اتباع السنة على بصيرةٍ في أمر دينه، وحتى تقوم الحجة وتتبين لكل من أراد السير على ما كان عليه محمد بن عبد الله، صلى الله وسلم عليه وعلى صحابته من بعده، والتابعين لهم في القرون الخيّرة.
أمة الإسلام وأتباع سيد الأنام صلى الله عليه وسلم! إن من البدع المحدثة في الإسلام، ما يعتقده بعض الناس في شهر رجب من أن له خاصية على غيره من الشهور، فيفعلون فيه أموراً محدثة، ويعتقدون فيه اعتقاداتٍ جاهلية، ويخصونه بأنواعٍ من العبادات، كالعمرة والصوم والأذكار والصلوات، ويسمونها باسم هذه الشهر، كالصلاة الرجبية، والعمرة الرجبية، والأذكار الرجبية ونحوها، وتخصيص شهر رجب، أو بعض أيامه ولياليه بصيامٍ أو قيامٍ أو نحوهما، أمرٌ محدث ليس له أصلٌ في شريعة الإسلام فيما نعلم.(114/4)
أقوال أهل العلم في بدع رجب
قال الإمام الحافظ ابن حجر رحمه الله: "لم يرد في فضل شهر رجب ولا صيامه ولا في صيام شيءٌ منه معين، ولا في قيام ليلةٍ مخصوصة، حديثٌ صحيحٌ يصلح للحجة".
وله رحمه الله رسالةٌ قيمةٌ في ذلك، ونحو قوله هذا قال علماء الإسلام، كشيخ الإسلام ابن تيمية، والعلامة ابن القيم، والحافظ ابن رجب، والإمام النووي، وغيرهم رحمهم الله جميعاً.
وبأي دليلٍ بعد ذلك يحتج من يفعل هذه المحدثات، لم يبق إلا الاعتماد على الأحاديث الموضوعة المكذوبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والآثار الواهية التي لا تقوم بها حجة، وفوق ذلك كله، داءان خطيران، منتشران بين صفوف المسلمين، هما داء الجهل بدين الله، وداء التعصب للهوى، وكم جر ذلك على المسلمين من شرورٍ وفتن، لا خلاص منها إلا باتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وتمسكوا بدينكم واتبعوا هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم، واحذروا الوقوع في كل ما يخالف سنته وسنة خلفائه الراشدين مما أحدثه المتأخرون في دين الله بغير سلطان أتاهم:
فخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
نسأل الله تعالى أن يهدي المسلمين إلى الصراط المستقيم، وأن يمنحهم الفقه في الدين، ويجنبهم طرق المبتدعين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(114/5)
حكم إفراد ليلة الإسراء والمعراج بالعبادة
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين، ومنّ علينا باتباع سيد المرسلين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله.
عباد الله: ومما أحدثه الناس في شهر رجب تخصيصهم بعض الليالي لإقامة الأفراح والحفلات، وليلة سبع وعشرين التي يزعمون أنها ليلة الإسراء والمعراج، ويخصصونها بأذكارٍ معينة وصلاة وأذكار محددة، ونحن مع إيماننا بالإسراء والمعراج واعتقادنا بوقوعه وأنه من آيات الله العظيمة، إلا أننا نقول: الاحتفال بذكراه خطأٌ فادحٌ لوجوه، أهمها:
أن الإسراء لم يثبت دليلٌ صحيحٌ على تعيين ليلته التي وقع فيها، وعلى الشهر الذي وقع فيه، فالعلماء مختلفون في زمانه، فتخصيص ليلةٍ من الليالي للإسراء تخصيص لا دليل عليه.
ولو ثبت تعيين الليلة، فلا يجوز لنا أن نخصصها بشيءٍ لم يشرعه الله ولا رسوله، ولم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه وصحابته من بعده والتابعين لهم بإحسان أنهم خصصوها بشيء من العبادات، أو احتفلوا بذكراها، فلا يجوز لأحدٍ بعدهم أن يحدث في الإسلام شيئاً لم يفعلوه.
إضافةً إلى ذلك أن كثيراً من الناس قد تفننوا فيما يأتوا من البدع في هذه الليالي، وزاد كثيرٌ منهم عليها بروفاً من المنكرات والمحرمات، فالله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ونحن نناشد المسلمين في كل مكان، أن يتقوا الله تعالى، ويتمسكوا بهدي نبيهم صلى الله عليه وسلم، ويحذروا كل الحذر من الوقوع في هذه الأمور المبتدعة، ففي ذلك والله عزهم وصلاحهم وسعادتهم.
ألا وصلوا على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين!
اللهم أعزنا بالإسلام وانصرنا بالإسلام، اللهم وفقنا للتمسك به، اللهم وفقنا للعض على سنة نبيك صلى الله عليه وسلم بالنواجذ، اللهم وفق المسلمين عامةً إلى ما تحبه وترضاه يا رب العالمين! اللهم وفق المسلمين إلى العودة إلى دينك القويم، وإلى اتباع سنة نبيك الأمين، يا رب العالمين!
اللهم وفق المسلمين قاطبة قادةً وشعوباً، علماء وعامة، رجالاً ونساءً، لما تحبه وترضاه، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم وفق إمام المسلمين بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به دينك، يا رب العالمين! اللهم ارزقه البطانة الصالحة، يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، اللهم وفقهم وانصرهم في كل مكان، يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(114/6)
حاجة البشرية للإسلام
لقد كان الإسلام نقطة تحول في تاريخ هذه البشرية، من حضيض الجهالة وسوء الحال إلى ذروة المجد وقمة الكمال؛ فقد جاء لينظم العلاقة بين الخالق والمخلوق، ويغرس في النفوس حب الحق والفضيلة، وكراهية الباطل والرذيلة، وليوجد في الضمير الشعور بالواجب، والإحساس بالمسئولية، فلا سعادة للبشر إلا في ظل الإسلام.(115/1)
الإسلام أعظم نعمة على العباد
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وهدانا للإيمان، وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من أطاعه واتبع دينه أكرمه بكل منةٍ دنيوية وأخروية، ومن عصاه وخالف أمره سلب عنه النعمة وأحل به النقمة، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، خير من تمسك بالإسلام ودعا إليه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار وصحبه الأخيار، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى، حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله: ما أنعم الله على عباده بنعمة وما منّ به عليهم من منة هي أعظم وأجل من نعمة الإسلام، فقد شرع لنا سبحانه من الدين ما فيه سعادة البلاد والعباد، وهدانا إلى ما فيه صلاح المعاش والمعاد، وبيَّن لنا في كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، سبيل الهدى والرشاد، وأوضح لنا معالم الصلاح والفساد؛ {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ} [الأنفال42].
لقد كان الناس قبل الإسلام على جانبٍ عظيم من الغي والضلال، يعيشون حياة الشرك والوثنية، يعبدون الأشجار والأحجار، ويحيون حياة السلب والنهب والفتك والقتال، والظلم والجور والعداء وسيء الأفعال، إلى أن بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، فأخرجهم -بإذن ربهم- من الظلمات إلى النور، من ظلمات الشرك والكفر والوثنية إلى نور الحق والإيمان، ورفعهم من حضيض الجهالة وسوء الحال إلى ذروة المجد وقمة الكمال.(115/2)
الإسلام نقطة تحول في تاريخ الأمة
أيها المسلمون: لقد كان الإسلام نقطة تحول في تاريخ هذه الأمة؛ تحولٍ إلى الطريقة المثلى، وهداية للتي هي أقوم، في كل مجالٍ من مجالات الحياة، وما أروع ما وصف به جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، حال الناس قبل الإسلام وبعده، حيث يقول بعزة المسلم، أمام النجاشي ملك الحبشة وهو يتقدم وفد المهاجرين: [[لقد كنا أهل جاهلية وشر، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك، حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه، وصدقه، وأمانته، وعفافه، فدعانا إلى الله، لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنَّا نعبد -نحن- وآباؤنا من الحجارة والأوثان.
أمرنا أن نعبد الله وحده فلا نشرك به شيئاً، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، فحرَّمنا ما حرَّم علينا، وأحللنا ما أحل لنا]] الله أكبر!
معشر المسلمين: إننا لو استعرضنا مآثر سلفنا الصالح، وما سطَّره التاريخ عنهم بأسطر العز والمجد والشرف، وما حباهم الله به من قوة الإيمان، والعزة بالإسلام، وتأملنا سيرتهم العطرة، وتحولهم من حضيض الجهل والضعف والذلة، إلى ذُرى المجد والعز والقوة، لعلمنا أن ذلك كله ما كان ليتحقق إلا بتطبيق الإسلام، والتمسك بنظمه العادلة، وتعاليمه السامية.(115/3)
سعادة البشرية في ظل الشريعة الإسلامية
أمة الإسلام: لقد جاء هذا الدين ليُعيد للحياة صفاءها، ويخلصها مما علق بها من رواسب سيئة، وما لحق بها من نظمٍ فاسدة، فهو إصلاحٌ شامل، وهدي كامل، يكفل للإنسانية الوصول إلى أعلى مستوىً ترنوا إليه، وإنه لا غنى للبشرية عن هذا الدين، لما يمثله من كرم الصلة بين الخالق والمخلوق، وما ينظمه من علاقة بين العبد والمعبود، وما ينتج عنه من آثارٍ عظيمة في تطهير النفوس من الأدران، وتهذيب الغرائز، وكبح جماح الشهوات، وما يوجهه من إرادة الخير وكراهة الشر، ويغرسه في النفوس من حب للحق ومقتٍ للباطل، وما يُفجِّره في النفس من مشاعر الرحمة والتعاون، وما يوجده في الضمير من الشعور بالواجب، والإحساس بالمسئولية.
وإنه بالرغم من الرقي المادي، والتقدم العلمي، في الأعصار المتأخرة، إلا أن كثيراً من المجتمعات لم تحقق سكينة النفس، ولا طمأنينة القلب، ولا راحة الضمير، بل إن التقدم المادي جلب كثيراً من حياة القلق والخوف، والاضطراب والإرهاب، وأصبحت شريعة الغاب متحكمة في الشعوب، وجاثمةً على القلوب، فكان لا بد من الالتزام بالإسلام ليسُدَّ هذه الثغرة، ويزيل هذه الفجوة، وإن كان هناك أصواتٌ آثمة، وأبواق ناعقة، تنسب للإسلام كل تخلف، وتنادي زوراً وبهتاناً بأصواتٍ خافتةٍ حيناً، وظاهرةٍ حيناً آخر متهمة الإسلام بأنه رجعي وتأخر لا يصلح لهذا الزمن! {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28].
فما أجدرنا -معشر المسلمين- بالتمسك بتعاليم هذا الدين، لا سيما في هذا الزمن الذي ابتلي فيه كثيرٌ من الناس بجهل حقائق دينهم، ونسيان كثيرٍ من شرائعه، والتساهل في تطبيق كثيرٍ من شعائره! أضف إلى ذلك: الحرب السافرة، التي يشنها خصوم الإسلام والمتربصون به، مما يجعل من كل من تشرَّف بالإسلام أن يبذل ما في وسعه، ويَهُبُّ بجدٍ وإخلاصٍ للعمل بالإسلام والدعوة إليه، ولابد من إحياء الشعور بالإسلام، وإذكاء الاعتزاز به في نفوس أبنائه، وربط الأجيال به علماً وعملاً.
إخوة الإسلام: إنه ليجب علينا ألا يزيدنا مرور الأعوام إلا قوة في التمسك بديننا، وشعوراً بأنه لا منقذ للبشرية، ولا مصلح لأحوال الإنسانية، إلا العمل بالإسلام وتطبيق الشريعة، وإن أولى من يضطلع بهذه المهمة العظيمة، هم قادة المسلمين، وولاة الأمر فيهم، ومن جعلهم الله ورثة للأنبياء، من أهل العلم وقادة الفكر، والمسئولين عن تربية النشء وتوجيه الأجيال.(115/4)
التزام الدين ضمانة كبرى للأمن والسلام
إن وصيتي من هذا المكان المبارك، ودعوتي من هذه البقعة الطاهرة، أن يعي أبناء الإسلام واجبهم في حمل رسالة الإسلام، علماً وعملاً ودعوة، ومنهاجاً للحياة، حين ذلك لا يبقى مجالٌ لمفسد، ولا منفذ لحاقدٍ ومغرض، ولا طريق لمحارب ومخرب، وإن الحزم في تطبيق شرع الله على هؤلاء وأمثالهم؛ ضمانةٌ كبرى -بإذن الله- لتحقيق الأمن والسلام، والبعد عن الخوف والاضطراب والقلق والإرهاب، كما هو حاصلٌ -ولله الحمد والمنة- في هذه البلاد المباركة، حرسها الله، وثبت قادتها على الإسلام وهذا كله وغيره من عوامل صلاح المجتمع، مستمد من تعاليم ديننا الذي أكمله الله لنا، وأتمه علينا، ورضيه لنا ديناً، فما علينا إلا الصدق مع الله في تطبيق الإسلام في خاصة أنفسنا ومن هم تحت أيدينا؛ من أهلٍ وأولادٍ ونحوهم، لنضمن في مسيرتنا الإسلامية الوصول إلى بر الأمان وشاطئ السلام، وما ذلك على الله بعزيز.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(115/5)
الإعراض عن الدين إيذان بحلول الكوارث
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله؛ فإن من اتقاه حفظه ووقاه، واعلموا أن الله بحكمته البالغة؛ وسنته الماضية، قضى أنه ما من مجتمعٍ ولا أمة تستنكف عن هدي الإسلام، وتستكبر على تعاليمه، ولا تبالي بتطبيقه، إلا ويحل بها من ألوان الفساد، وصور الخراب والدمار، ونذر العذاب، ما لا يرفع عنهم حتى يراجعوا دينهم.
وإن في أخبار الأمم المكذبة، وأحوال المجتمعات المخالفة لعبراً، فأنتم تسمعون ما يحل بين الفينة والأخرى في بعض المجتمعات، من الكوارث والحوادث، فأعاصيرٌ مدمرة، وفيضانات مهلكة، وأمراضٌ فتَّاكة، وحروبٌ طاحنة، كل ذلك ليعتبر العباد، ولعلهم يرجعون.
نسأل الله أن يمن على الجميع بالهداية والتوافيق، والثبات على الحق، إنه جوادٌ كريم.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير الورى، كما أمركم بذلك ربكم جلَّ وعلا، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين، اللهم هيئ لهم البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعز فيه أهل طاعتك، ويُذل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، اللهم ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، عاجلاً غير آجلٍ يا قوي يا عزيز!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنةٌ وقنا عذاب النار.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(115/6)
حفظ الله للعبد
إن العبد إذا حفظ الله عز وجل في أوامره ونواهيه، حفظه الله عز وجل في كل أموره وشئونه وحياته، وقد تعرض الشيخ في هذه الرسالة إلى شرح حديث ابن عباس في حفظ العبد لله، وحفظ الله عز وجل.(116/1)
معنى "احفظ الله"
الحمد لله نحمده ونستعينه ونؤمن به ونتوكل عليه ونثني عليه الخير كله، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتدِ، ومن يضلل فلن تجد له أولياء من دونه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وحبيبه وخليله وأمينه على وحيه، نبي شرح الله صدره، ووضع وزره، وأعلى قدره، ورفع ذكره، وجعل الذلة والعار على من خالف سنته وعصى أمره، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، وتقوى الله جماع خيرَي الدنيا والآخرة، وحياض من شر العاجلة والآجلة، واعلموا عباد الله! أن الله تعالى أمركم بحفظ أوامره واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده، ومَن حفظ الله في الدنيا حفظه الله في الدنيا والآخرة.
أخرج الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك} الحديث.
وحِفظ الله يا إخوة الإسلام! يعني: حفظ حدوده وحقوقه وأوامره ونواهيه، ويكون ذلك بالوقوف عند أوامره بالامتثال، وعند نواهيه بالاجتناب، وعند حدوده، فلا يتجاوز ولا يتعدى ما أمر به إلى ما نهى عنه، ودخل في ذلك فعل الواجبات جميعاً، وترك المحرمات كلها، فمن فعل ذلك فهو من الحافظين لحدود الله، الذين مدحهم الله في كتابه الكريم بقوله ضمن صفات المؤمنين: {وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112] وقال سبحانه: {وَأُزْلِفَتْ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ * هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق:31 - 33] وفُسِّر الحفيظ: بالحافظ لأوامر الله وحدوده.(116/2)
المحافظة على الصلوات
ومن أعظم ما يجب على العباد حفظه من المأمورات بعد سلامة التوحيد وصحة العقيدة: الصلوات الخمس، قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] وقال جل وعلا: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون:9] يحافظون على أدائها في أوقاتها وأماكنها بطهارتها وخشوعها وأركانها وواجباتها وسننها.(116/3)
حفظ الضروريات الخمس
ومما يؤمر بحفظه ما تميزت به هذه الشريعة من أنها جاءت بالمحافظة على الضروريات الخمس: الدين، والنفس، والنسب، والعقل، والمال.
فالمحافظة على الدين: بفعل أوامره واجتناب نواهيه مطلقاً.
وحفظ النفس: بعدم الاعتداء عليها بقتل أو أذى.
وحفظ النسب والعرض: بالنكاح الشرعي والبُعد عما حرم الله من الزنا واللواط والقذف، ومجانبة أسبابها.
وحفظ العقل: بصيانته عما يخله من المسكِرات والمخدِّرات والمفتِّرات بأنواعها وصنوفها.
وحفظ المال: باتباع الطرق الشرعية في جلبه والبُعد عن الطرق المحرمة والمشتبهة، وإحاطته وغيره بالعقوبات التي تمنع الاعتداء عليه، وذلك بإقامة الحدود الشرعية.(116/4)
حفظ الجوارح
ومِّما يتعيَّن حفظه على المسلمين: الجوارح؛ فيُحفظ الفرج عما حرم الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج:29].
والبطن؛ فلا يدخله إلا الحلال الطيب.
واللسان؛ فلا يتكلم إلا بخير وصدق ويجتنب الكذب والغيبة والنميمة واللمز وقول الزور، قال صلى الله عليه وسلم: {وهل يَكُبُّ الناسَ في النار على وجوههم، أو قال: على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم} أخرجه الترمذي وغيره عن معاذ رضي الله عنه.
ومن ذلك: حفظ البصر والسمع عما حرم الله، قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور:30] إلى قوله سبحانه: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ} [النور:31] وقال عز وجل: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء:36].(116/5)
حفظ الأمة الإسلامية لله
يوم أن كانت الأمة الإسلامية محافظة على أوامر الله، قائمة بحدود الله، محكِّمة لكتاب الله نالت السيادة والريادة والنصر والعزة والكرامة، ويوم أن تخلت عوقبت بالذل والهوان والضعف والاختلاف وتقوية الأعداء.
فيتعين على أرباب الولاية في أرض الله أن يحفظوا شريعة الله بالحكم بها في كل صغير وكبير، وأن يكون سورُها واقٍ على نهج من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونبذ كل ما يخالفهما من أحكام الجاهلية.
وعلى علماء الأمة وأهل الرأي فيها أن يحفظوا العهد والميثاق فينشروا العلم النافع في صفوف المسلمين ويجاهدوا في سبيل الله، ونفع عباد الله، ويؤدوا رسالتهم العظيمة لئلا يقعوا تحت طائلة الكتمان المحرم.
وعلى شباب المسلمين أن يحفظوا شبابَهم ووقتهم ويبتعدوا عن الشر والرذائل لينفعوا دينهم وأمتهم وبلادهم.
وعلى نساء المسلمين أن يحفظن حدود الله ويَسِرْن على هدي من كتاب الله وسنة رسوله، فيلزمن الحجاب والعفاف والحياء ويبتعدن عن كل ما يكون سبباً في الشر والفتنة.
نسأل الله عز وجل أن يجعلنا من الحافظين لحدوده، القائمين بأوامره، المبتعدين عن نواهيه.
اللهم احفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه يغفر لكم، إنه هو الغفور الرحيم.(116/6)
حفظ الله لعباده
الحمد لله الملك العلام، القدوس السلام، أحمده تعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
اتقوا الله عباد الله! واحفظوا حدوده تنالوا الحفظ منه، قال العلامة ابن رجب في شرحه لحديث: {احفظ الله يحفظك} وحفظ الله لعباده يدخل فيه نوعان:
أحدهما: حفظه له في مصالح دنياه، كحفظه في بدنه وولده وأهله وماله، ومن حفظ الله في صباه وقوته؛ حفظه الله في كبره وضعف قوته ومتَّعه بسمعه وبصره وحوله وقوته وعقله، وقد يحفظ الله العبد بصلاحه بعد موته في ذريته ومتى كان العبد مشتغلاً بطاعة الله؛ فإن الله يحفظه في تلك الحال، قال بعض السلف: من اتقى الله فقد حفظ نفسه ومن ضيع تقواه فقد ضيع نفسه، والله غني عنه.
النوع الثاني من الحفظ، وهو أشرف النوعين: حفظ الله لعبده في دينه وإيمانه، فيحفظه في حياته من الشبهات المضلة والبدع المذلة، والشهوات المحرمة، ويحفظ عليه دينه عند موته فيتوفاه على الإيمان.
فاتقوا الله يا عباد الله! واحفظوا حدود الله يحفظكم في الدنيا والآخرة.
ألا وصلوا على من بعثه الله رحمة للعالمين، نبينا محمد بن عبد الله كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وأخرج الإمام مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين، يا رب العالمين!
اللهم اجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا أرحم الراحمين!
اللهم وفق المسلمين للعودة السابقة إلى دينك القويم، اللهم أصلح قادتهم وعلماءهم وشبابهم ونساءهم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم أيد بالحق إمامنا، اللهم أيده بالحق المبين يا أرحم الراحمين! واجعل عمله في رضاك، اللهم وفقه لما تحب وترضى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم اجعله قرة عين للإسلام والمسلمين، اللهم اجعله هادياً مهدياً يا أرحم الراحمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ.
وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(116/7)
حق الله على العباد
إن الله سبحانه وتعالى خلق العباد لغاية مقصودة، وحكمة منشودة، ألا وهي عبادته عز وجل، وقد تكلم الشيخ في هذا الدرس عن حق الله على العباد ومفهومه وحدوده الشرعية.(117/1)
نعم الله وحكمة إسدائها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونتوب إليه، ونستغفره ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، المعبود بحق سبحانه، لا ند له ولا شريك ولا ولد، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير من قام بحق ربه عليه، فعبد ربه حتى أتاه اليقين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، الذين عرفوا ما لربهم من الحق، فقاموا به خير قيام، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى.
عباد الله: إن من فضل الله علينا أن أوجدنا وخلقنا في هذه الحياة، وأمدنا بأصناف النعم، خلقنا في أحسن تقويم، وكرمنا أعظم تكريم، ومتعنا بالأسماع والأبصار والعقول، وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض، وما في الجو والبر والبحر، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، وفضلنا على كثير من خلقه بالفطر الصحيحة، والعقول النقية، والجوارح السليمة، والنعم العظيمة، والمنن الجسيمة، كل ذلك ليحمل الإنسان الأمانة الغالية، والمسئولية الكبيرة، ليعرف في الوجود مكانته التي بوأه الله إياها، ووظيفته التي كلفه بها، والغاية المُثلى التي خلقه لأجلها، والحق العظيم الذي عليه لله ربه، خالقه ورازقه، ومدبر أموره، ومالك ضره ونفعه، وحياته وموته، لا إله غيره، ولا رب سواه، فلا يَتَقاصَر عن أداء هذا الحق طرفة عين، ولا يتساهل في القيام به ساعة من ليل أو نهار، إلى أن يتوفاه الله وهو على ذلك عملاً بقوله سبحانه: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] وقوله جل وعلا: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
فلا يغفل عن عبادة ربه, ولا يفتر عن طاعته، ولا يدنس العبادة بشيء من الشوائب الشركية والبدعية، ولا يهبط إلى المستوى البهيمي، ولا يَسِفُّ إلى الحضيض الشهواني، ولا يتقاصر عن السمو والمعالي، بل ينطلق في رحاب الإيمان والعمل الصالح؛ ليملأ رصيده الحقيقي الذي سيقدم عليه، في يوم يكثر فيه المفلسون، دون أن يقدح في انطلاقته الإيمانية قادح، أو يخلخلها خلل.(117/2)
حق الله على العبد
أمة الإسلام: يقول ربكم تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] ويقول جلَّ وعزَّ: {أَيَحْسَبُ الْأِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة:36].
إنه لا يمكن أن تخلو حياة الإنسان عن العبث والفراغ؛ إلا إذا أدرك حق الله عليه، وقام به على أكمل وجه، وأحسن صورة، عند ذلك لا يَزِل ولا يَضِل ولا تتفرق به السبل، ولا تتشعب به الطرق، ولا تلتوي به المسالك والأهواء، بل يُخْضِع كل شيء لله وحده، وينقاد لأمره، ويصبغ حياته كلها وَفق منهج الله سبحانه، ولا يجعل ساعة لنفسه وساعة لربه، ويوماً للرحمن وآخر للشيطان، وعملاً لمولاه وآخر لهواه، بل كل ساعاته وأيامه لله كما قال سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163].
فالعقيدة والعبادة، والعلم والعمل، والفكر والنية، والشعور والإرادة، والسكون والحركة، حلقات متسلسلة تدور ليحقِّق المسلم من خلالها معنى الطاعة الكاملة لله، ويؤدي الحق الذي لله عليه، فإذا انقاد لأمره، وأذعن لحُكمه، ولم يقدم بين يديه ورسوله، واتبع بصدق وإخلاص نحو الغاية من خلقه، كان مؤمناً حقاً ومسلماً صدقاً، يعرف حق الله عليه، وحق رسوله صلى الله عليه وسلم، وحق إخوانه المسلمين، لا تنأى به عن تلك الواجبات أهواءُ النفس، ونزغاتُ الشيطان، ولا تصرفه عنها مطالب الحياة، وشواغل الدنيا، ولا تصده عنها أفعال الناس المخالفة لمنهج الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولو كثرت واستحكمت، فالدين ما شرع الله وجاء به محمد بن عبد الله صلوات الله وتسليماته عليه.
إخوة الإيمان: أعَرَفْتُم بعد ذلك حق ربكم عليكم، ومقدار ذلك الحق، وأطره الواسعة، وأوقاته المطلقة، وأزمانه العامة.
إن حق الله على عباده يتلخص في: القيام بعبادته والبُعد عن الإشراك به قال سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] وقال جل في علاه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:21 - 22].
قال الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله حول هذه الآية ما خلاصتُه: شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته؛ لأنه تعالى هو المنعم على عبيده، بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة.
ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار وساكنيها، ورازقهم؛ فبهذا يستحق أن يُعبد وحده، ولا يُشرك به غيره، وبهذا قال: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].
وفي الصحيحين: عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: {يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد؟ وما حق العباد على الله؟ قلتُ: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله: أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً}.(117/3)
عتاب لعباد الله
فيا من حق مولاه الإقبال عليه! والتوجه بقلبه إليه، لقد صانك وشرفك عن إذلال قلبك ووجهك لغيره، فما هذه الإساءة في معاملته مع هذا التشريف والتكريم، فهو يعظمك ويدعوك إلى الإقبال، وأنت تأبى إلا مبارزته بقبائح الأفعال.
جاء في بعض الآثار القدسية: أن رب الجلال والعزة يقول: {إني والجن والإنس في نبأ عظيم، أخلق ويُعبد غيري، وأرزق ويُشكر سواي، خيري إلى العباد نازل، وشرهم إليَّ صاعد، أتحبب إليهم بالنعم، ويتبغضون إليَّ بالمعاصي}
وكيف يعبده حق عبادته من ترك سؤاله، ودعاءه، وتذلُّلَه وخوفه ورجاءه، وذبحه ونذره، لمن لا يملك لنفسه فضلاً عن غيره ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، من ميت رميم في التراب، أو بناءٍ مشيد من القباب، فضلاً عما هو شر من ذلك؟!
إخوة الإسلام: كيف يؤدي حق ربه عليه مَن لا يعرف الله إلا في أوقات قليلة، وأزمنة ضئيلة، وأيام معينة، وليال مخصصة، وبقية العمر لَهْوٌ وغفلة وسُبات وشهوة؟ والله ما هكذا عمل المؤمنين، وأتباع سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم!(117/4)
عاقبة التقصير في حق الله
إن أعداء الملة والسنة لما وجدوا في بعض المسلمين استنكافاً عن الشهوات، واستعظاماً للوقوع في ظاهر المحرمات؛ جاءوهم من طريق الزيادات والشبهات والمستحسنات والمحدثات، فساروا في هذه السبل، كأن لم يكن بين أيديهم كتاب ولا سنة، وكأن قلوبهم لم تُعمر بجوهر العقيدة، وصفاء الاتباع.
يا أمة الإسلام: إن رسالة المسلمين في الحياة أعم من أن تُحَدَّ بأيام ومناسبات، وتُخَصَّ بليال وذكريات، بل هي رسالة من لا يستكثر على الله عمله، ولا يمن عليه إسلامه.
إن ما حققه المسلمون الأوائل من نصر وفتوحات وأمجاد، إنما مرده بعد توفيق الله إلى قيامهم بحق الله تعالى عليهم، ومن قام بحق الله تعالى؛ أنجز الله له ما تفضل به من حق في الدنيا والآخرة.
واليوم لما قصر كثير من المسلمين في حق ربهم عليهم، وفرطوا في ذلك تفريطاً جلياً، ولعبت بهم الأهواء، وكثر بينهم دعاة جهنم عياذاً بالله، أصبحوا في حالة لا يُحسدون عليها.
فما راء كَمَنْ سَمِعَا
وقد وصل الحال ببعض المنتسبين إلى الإسلام أن يغرقوا في الملذات والشهوات، حتى لكأن حق الله عليهم في هذه الحياة يكمن في التنافس في الشهوات، والتسابق في الملذات، يعيشون حياة الأنعام، يقصدون إلى تحقيق رغباتهم، مأكلاً ومنكحاً ومشرباً، ملبساً ومسكناً ومركباً.
فأمة هذا شأنُها قد هيأت السبيل لأعدائها لإحكام قبضتهم عليها، فتندم ولات ساعة مندم.
وإذا كان العالم شرقيه وغربيه يجعل لحظوظ الدنيا ومتطلباتها حقوقاً يدافع عنها، ويبث حولها الدعايات والإعلانات، ويمد ذلك بالهالات الإعلامية، فالمسلمون أولى أن يقوموا بحق الله عليهم، وحق الله أولى بالوفاء والأداء والقضاء، فيهبوا حياتهم كلها لأداء حق الله تعالى عليهم، ففي ذلك عزهم وسعادتهم، وصلاح أحوالهم في المعاش والمعاد.
نسأل الله سبحانه أن يوفقنا لأداء حقه علينا، وأن يُجزل لنا ما تفضل به علينا، ووعدنا من حق، وأن يصلح أحوال المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه يغفر لكم، وتوبوا إليه يتب عليكم، إنه كان حليماً غفوراً تواباً رحيماً.(117/5)
العبادات توقيفية
الحمد لله وكفى، وأشهد أن لا إله إلا الله المعبود المرتجى، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجهم واقتفى.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واشكروه على نعمه التي لا تُعد، وعلى إحسانه الذي لا يُحد.
ثم اعلموا عباد الله! أن لربكم عليكم حقاً عظيماًَ، ما خلقكم ورزقكم في هذه الحياة إلا لأدائه والقيام به، فاجتهدوا رحمكم الله في أداء هذا الأمر مدة حياتكم، فإن الموت يأتي بغتة.
أيها الإخوة في الله: إن المسلم الحق لا يعتمد في دينه وعبادته لربه إلا على ما صح النقل فيه عن المصطفى صلى الله عليه وسلم، وخاصة فيما تضاربت فيه الأقوال وكثر فيه الاختلاف، فدين المسلم أعز شيء عنده، فجدير به أن يحفظه عن النقص أو الزيادة.
يا عباد الله: وإنكم في شهر من أشهر الله، قد انتشر بين سواد الناس أن لبعض أيامه ولياليه خصوصية على غيرها من أيام العام، ولها من المكانة والفضيلة ما يجعلهم يَقُوْمُونَها ويُحْيُونَها.
ولما كانت العبادات توقيفية لا دخل للرأي والهوى فيها، فإن كل تخصيص لا بد له من مخصص صحيح، يُؤخذ من كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فالحق ما جاء فيهما، والدين ما أُخذ منهما.
ولم يصح في فضل ليلة من ليالي هذا الشهر حديث عند المحققين، ولو صحَّ فلا يقتضي ذلك تخصيصها بعبادة لم يفعلها القدوة صلى الله عليه وسلم.
فاتقوا الله عباد الله! واحذروا الغفلة عن الله والدار الآخرة، وتحرروا من التقليد الأعمى في أمر الدين والدنيا، وتخلصوا من الآثار والأغلال التي ما أنزل الله بها من سلطان تكونوا من المفلحين.
وصلوا وسلموا على من بلغ رسالة الله أجل بلاغ، وبينها أكمل بيان، فلم يترك نبينا محمداً خيراً إلا دل عليه وأمر به، ولا شراً إلا حذر منه ونهى عنه كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك، يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين!
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رُشد، يُعَز فيه أهل طاعتك، ويُذَل فيه أهل معصيتك، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، اللهم أصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أقر أعيننا بصلاح أحوال المسلمين في كل مكان، يا رب العالمين!
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، والمستضعفين في أرضك، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم، اللهم انصرهم وسددهم وثبتهم، يا رب العالمين!
اللهم بارك لنا في جميع الشهور والأعوام، وبلغنا بمنك وكرمك شهر رمضان، يا رب العالمين!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(117/6)
حقيقة التوكل وأهميته
إن المؤمن الذي حقق التوكل بتفويض الأمور إلى الله وصدق الاعتماد عليه مع بذل الأسباب يعيش قرير العين مطمئن النفس، عالي الهمة، لا يستسلم للشبهات والأوهام، ولا يرضخ لمقولات أهل الزيغ والإجرام، وإن من مظاهر الانحراف عند كثير من الناس في التوكل هو التشاؤم والتطير بالأيام والشهور، والذهاب عند السحرة والعرافين والكهنة والمشعوذين، وكل هذا يخدش في العقيدة والتوحيد.(118/1)
أثر التوكل في حياة المسلم
الحمد لله، خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأجرى الأمور على ما يشاء سبحانه حكمة منه وتدبيراً، أحمده تعالى وأشكره، لم يزل بعباده لطيفاً خبيراً، وأستعينه وأستغفره وأتوكل عليه، وكفى به عليماً بصيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ به المعتصم وإليه الملتجأ، وعليه التوكل، وكان الله على كل شيء قديراً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله؛ بعثه بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، ومن بهداه اهتدى، وسار على نهجه واقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون! اتقوا الله تبارك وتعالى، وحققوا إيمانكم لربكم بصدق الاعتماد والتوكل عليه، وتفويض الأمور كلها إليه، يحقق لكم ما وعدكم من خيري الدنيا والآخرة.
إخوة الإسلام: يعيش المؤمن في هذه الحياة رغم ابتلاءاتها ومغرياتها؛ قرير العين هادئ البال، مطمئن النفس سليم القلب، مرتاح الضمير عالي الهمة، نقي السيرة صافي السريرة، لا يعرف الوهن إلى نفسه سبيلاً، ولا يجد الهلع عليه مدخلاً وطريقاً، يواجه أعباء الحياة بقوة إيمان، وثبات جنان ومضاء عزيمة، ورباطة جأش، ومعنوية عالية، لا يخاف من المجهول ولا يهتم مما يخبئه المستقبل؛ لأنه متوكل على ربه ومولاه، مؤمن بقضاء الله وقدره، يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، شعاره قول الحق تبارك وتعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51].
حياته حياة الواثق بنصر الله، المطمئن لوعد الله، المستقيم على منهج الله، الراضي بقضاء الله، لا يستسلم للشبهات والأوهام، ولا يرضخ لمقولات أهل الزيغ والإجرام، يعتقد يقيناً أن المتصرف في الكون إله واحد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، هو سبحانه الذي بيده أزمّة الأمور يخفض ويرفع، ويصل ويقطع، ويفرق ويجمع، يغني ويقني، يضحك ويبكي، يميت ويحيي، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، ولا راد لما قضى، لا معقب لحكمه، ولا غالب لأمره، لا إله غيره ولا رب سواه، بهذه العقيدة يجب أن يواجه المسلم جميع المخالفات والمنكرات، ويثبت أمام سيل التجاوزات والضلالات.
روى الترمذي وغيره في وصية المصطفى صلى الله عليه وسلم لأمته ممثلة في ابن عمه عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قوله عليه الصلاة والسلام: {واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} فيا لها من وصايا عظيمة، وقواعد كلية من أهم أمور الدين وأجلها!
قال الإمام ابن الجوزي عليه رحمة الله: تدبرت هذا الحديث فأجهشني وكدت أطيش، إلى أن قال: فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلة الفهم لمعناه.
ونحن نقول في زماننا هذا: فوا أسفا من الجهل بهذا الحديث وقلت الفهم لمعناه والله المستعان!(118/2)
التوكل حصن حصين من الفتن
معاشر المسلمين: إنه عند حلول الفتن، ووقوع المحن يظهر توجه المتوكلين، وتضييع المتواكلين، وما ذاك -أيها المؤمنون- إلا لأنها معايير دقيقة، ومقاييس منضبطة لسبر أغوار الناس، وإظهارهم على حقائقهم، وامتحان عقائدهم، وصدق توكلهم، والموفق الملهم من كان مع الله في كل أحواله، وعرف ربه في سرائه وضرائه، وسار في كل أموره متوكلاً على الله، معتصماً به {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران:101].
إخوة الإيمان: التوكل على الله مقام عظيم جليل القدر، كبير الأثر، أمر الله به عباده وحثهم عليه، وندبهم إليه في مواضع كثيرة من كتابه، فقال سبحانه: {وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122] وأمر به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} [الفرقان:58] {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [الشعراء:217] {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} [النساء:81] وقال عن رسله عليهم الصلاة والسلام: {وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} [إبراهيم:12] وجعله سبحانه من مقتضيات الإيمان، فقال تعالى وتقدس: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
كما جعله سبحانه سبباً لنيل محبته ورضاه، فقال جلَّ وعلا: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] فيا له من مقام عظيم! يحضى صاحبه بمحبة الرحمن، ويتحقق به كمال الإيمان.
معاشر الأحبة في الله: قد جعل الله التوكل عليه شعاراً لأهل الإيمان، يتميزون به عمن سواهم، فقال في صفاتهم: {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال:2] وضمن سبحانه وتعالى لمن توكل عليه كفايته ما أهمه، والقيام بأمره وإصلاح شأنه، فقال سبحانه: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3] أي: كافيه ما أهمه من أمور الدنيا والآخرة، قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية على أبي ذر رضي الله عنه وقال له: {لو أن الناس كلهم أخذوا بها لكفتهم} رواه الإمام أحمد وغيره.
وقال ابن القيم رحمه الله: التوكل نصف الإيمان والنصف الثاني الإنابة، وقد وعد الله المتوكلين عليه الأجر العظيم والثواب الجزيل، ففي الصحيحين في حديث السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب {وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتكلون} وفي الترمذي بسند صحيح عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لو أنكم توكلون على الله حق توكله؛ لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً}.(118/3)
حقيقة التوكل وارتباطه بالأسباب
يقول ابن رجب رحمه الله: وحقيقة التوكل هو صدق اعتماد القلب على الله عز وجل في استجلاب المصالح، ودفع المضار من أمور الدنيا والآخرة كلها، أي: أن تكل الأمور كلها إليه سبحانه وتعالى وتحقق الإيمان بأنه لا يعطي ولا يمنع ولا ينفع سواه، قال سعيد بن جبير: التوكل جماع الإيمان، وقال وهب: الغاية القصوى التوكل، وقال الحسن رحمه الله: التوكل لا ينافي السعي في الأسباب، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ} [النساء:71] وقال سبحانه: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
والواجب على العبد أن يبذل الأسباب دون الاتكال عليها في تحقيق مراده، بل يتوكل على الله وحده مالك الأمر كله، وقد كان المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو إمام المتوكلين، يحث على بذل السبب والسعي في الرزق، وهكذا كان أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.(118/4)
مظاهر انعدام التوكل وضعفه
أمة العقيدة: لقد ربى الإسلام أتباعه على سلامة التوحيد، وصحة العقيدة، وقوة اليقين، والتوكل على الله وحده، وابتعد بهم عن الأوهام والظنون والخيالات التي تعبث بعقولهم، وتجعلهم يتصورون الأمور على خلاف حقائقها، ونهى عن كل ما يخدش سلامة التوحيد وصحة العقيدة؛ من التشاؤم والتطير بالأيام والشهور، والحيوانات والطيور، وأصحاب العاهات ونحوهم، وحارب الذهاب إلى الدجالين والمشعوذين، والسحرة والمنجمين، وتصديق الكهنة والعرافين، وأدعياء علم الغيب والرمالين، ونحوهم من الدجاجلة الكذابين؛ لخطرهم على الدين والعقيدة، والأخلاق والسلوك، وأمن المجتمع، ولتلاعبهم بعقول الناس، وابتزازهم أموالهم، وأبطل كل مسالك الجاهلية واعتقاداتها الباطلة، وترك الناس على دين الطهر والصفاء، والخير والنقاء.
أمة الإسلام: إن التوكل على الله وحده، وتفويض الأمور إليه دون غيره، واعتقاد أنه وحده مالك النفع والضر دون سواه، والبعد عن التطير والتشاؤم؛ أمور يجب على المسلم أن يعتقدها ديناً لله الواحد القهار؛ لا يشركه فيها أحد من الخلق {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعراف:188] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107] {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65].
إخوة العقيدة: لقد أعز الله هذه الأمة بهذا الدين؛ عقيدة وشريعة، وجعلها متميزة بثوابتها ومبادئها، وألغى جميع مسالك الجاهلية، وما تتعلق به من أوهام وضلالات، وإنه لما فرط بعض المسلمين هداهم الله في عقيدتهم، وضعف عندهم جانب التوكل؛ أصبحت تلمس كثيراً من المظاهر المخالفة للعقيدة الصحيحة، حتى نسي بعضهم خالقه وبارئه، وتعلقوا بأضراب من الأوهام الباطلة، فهذا يتعلق بالمطالع ويرتب عليها نصيبه وحظه، ويسمي هذا طالع سعد وهذا طالع نحس، وذاك مترقب للأبراج يعلق عليها نجاحه وفوزه، وآخر بالشهور والأيام، ورابع بالأعداد والألوان وهلم جرا.
حتى إنه قد لا يسافر ولا يتزوج وقد يعطل بعض أعماله تطيراً وتشاؤماً، فسبحان الله!
عباد الله! جلَّ الله وتعالى الله عما يشرك به المشركون علواً كبيراً.
أبعد هذا -أيها الإخوة في الله- يبقى مستمسك لأولئك الجهلة ومتعلق للمتخبطين في فهم العقيدة! أي دين بل أي عقل عند من يحادَّ الله في علمه وقدرته وتصرفه، بل أي إيمان وفهم ومسكة عقل عند من يذهب إلى الأفاكين ويصدق المضللين؟! أين الدين والعقيدة؟! أين العقول والأفكار؟!
لقد كان أهل الجاهلية يكفون عن القتال في الأشهر الحرم، فإذا حل شهر صفر كثر القتال وانتهكت الحرمات، فيتشاءمون من هذا الشهر، ويعدونه شهر المآتم والأحزان، وهذا وإن كان ليس غريباً على عُبَّاد الأوثان، فإن الغرابة كل الغرابة أن يوجد هذا الأمر عند أدعياء الإيمان بعد أن أبطله الإسلام.
عجيبٌ -يا أمة العقيدة! وغريب يا أهل الشريعة! ويا أرباب الحجى والعقول والأفهام- أن تعبث الخيالات والأوهام ببعض أبناء الإسلام، فماذا تغني الشهور والأيام من يوم الثلاثاء وشهر صفر وعدد ثلاثة عشر، وما ذنب الحيوانات والطيور من الغراب والبوم وماذا تملك الزهرة وزحل؟!
ولكنها أوهام الجاهلين وألاعيب الشياطين، فأفيقوا -أيها المسلمون- من الغفلة عن هذه القضايا المهمة وقووا يقينكم بالله عز وجل، وحققوا التوكل عليه سبحانه، واحذوا التطير والتشاؤم؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى اله عليه وسلم: {لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر}.
أمة الإسلام: إنه حينما يذكر بهذا لأمور -يا رعاكم الله- فإن ذلك يأتي من منطلق الحرص على صفاء العقيدة، والنصح لله ولعبادة، وما لهذه الأشياء من انتشار ورواج في بعض المجتمعات، ويخشى أن ينخدع بها بعض ضعاف الإيمان، ومع أننا في عصر تفتق العقل البشري، ونمو الفهم المادي، والتفجر المعلوماتي، إلا أنه لا تزال مثل هذه الأوهام موجودة في بعض الأوساط والمجتمعات، مما يعقد المسئولية على حملة الشريعة وعلماء الأمة في انتشال الغارقين في لجج هذه الأوهام الباطلة إلى ساحة الإيمان، وبر الأمان وشاطئ الخير والعقيدة والسلام.
{قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38] بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وثبتنا وإياكم على الصراط المستقيم، وأجارنا بمنه وكرمه ورحمته من العذاب الأليم، هذا وبعد قولي سلفاً أستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان حليماً غفوراً.(118/5)
العقيدة أعز ما لدى الأمة
الحمد لله، من توكل عليه كفاه، ومن لاذ بحماه حفظه ووقاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، ومن سار على نهجه واهتدى بهداه.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: إن أشد ما ابتليت به هذه الأمة -لا سيما في أعقاب الزمن- دخول النقص عليها في أعز ما لديها؛ في عقيدتها وثوابتها، ومن ذلك ما يعتقده بعض العامة في شهر صفر وغيره من التشاؤم والتطير مما هو مخالف للإسلام، وقد أخرج الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: الكلمة الطيبة} ولـ أبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر مرفوعاً، قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {أحسنها الفأل ولا تردُّ مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنة إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك} وعن ابن مسعود مرفوعاً: {الطيرة شرك، وما منَّا إلا قد وقع في قلبه شيء من ذلك، ولكن الله يذهبه بالتوكل} رواه أبو داود والترمذي وصححه، وروى الإمام أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال: {من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك، قالوا: وما كفارة ذلك يا رسول الله؟ قال: أن يقول: اللهم لا خير إلا خيرك، ولا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك}.
عباد الله فاتقوا الله واعرفوا منة الله عليكم بهذا الدين، وحققوه قولاً وعملاً واعتقاداً.
ثم صلوا وسلموا -رحمكم الله- على من حمى جناب التوحيد، وسد ذرائع الشرك وطرقه، النبي المصطفى والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال جل من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأدم الأمن والاستقرار في ربوعنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم انصر به دينك وأعل به كلمتك، وارفع به كلمة الحق والعدل يا حي يا قيوم! اللهم ارزقه البطانة الصالحة، التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم اجعلهم ناصرين لأوليائك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة لرعاياهم يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك والمضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان وهيئ لهم من أمرهم رشداً، وألف بين قلوبهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ادفع عنا الغلا والوبا، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن يا ذا الجلال والإكرام! رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا ارحم الراحمين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(118/6)
ربيع القلوب
إن المؤمن الذي لا يبتغي إلا رضا الله سبحانه وتعالى، ينتهز الفرص ليعبد الله جل وعلا فيها، ويترك الدنيا وراءه ظهرياً، ولذلك تكلم الشيخ حفظه الله في هذا الدرس عن بعض الإجازات التربوية، وهي إجازة الربيع، وكيف نقضي هذه الإجازة في حياة القلوب، والنظر إلى علاجها، وأسباب قسوتها وبعدها عن الله عز وجل، ومحاولة إصلاحها بالإكثار من الطاعات والقربات.(119/1)
كيف تقضي إجازة الربيع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمداً عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، ورضي الله عن صحابته الكرام، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأحمد الله تبارك وتعالى، الذي هيأ لي هذا اللقاء الطيب المبارك بكم في بيتٍ من بيوت الله، التي يجب أن تعمر بذكر الله سبحانه وتعالى، في هذه الليلة نلتقي مع إخوتنا في مدينة جدة، سواء أكانوا من الإخوة المقيمين فيها، أم من الزائرين لها في هذه الإجازة التي تسمى: بإجازة الربيع، ولا شك أن هذه الإجازة وغيرها، ينبغي أن تكون موسماً للخير والفضيلة، وعمارة القلوب بما يقرب إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن الله سبحانه إنما خلقنا لتحقيق العبودية له جل وعلا، وينبغي أن نشغل بهذه الرسالة أوقاتنا كلها؛ أوقات فراغنا وأوقات شغلنا، أوقات صحتنا ومرضنا، أوقات كبرنا وصغرنا يقول تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
ونحن اليوم أيها الإخوة الأحبة! في عصرٍ طغت فيه الماديات، وكثرت فيه المغريات، وشغل فيه كثيرٌ من المسلمين عن تحقيق ما يجب عليهم في هذه الحياة، والوقائع والصور والأحوال والحوادث تترجم ذلك، فكثيرٌ من الناس هدانا الله وإياهم في غفلةٍ عما خلق له: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3].
فيجب على العبد إذا أراد نجاته في هذه الحياة، ويوم عرضه على مولاه، أن يعمر أوقاته بما يقرب إلى الله تبارك وتعالى، وليس معنى ذلك: ألا يجعل الإنسان لنفسه فرصةً للترويح والتسلية وعمل ما يباح من الأمور، لكن أن تكون حياته كلها يطغى فيها الهزل واللهو والعبث، فليس هذا بصحيح، وليست هذه حياة المسلمين الصادقين في إيمانهم ويقينهم.
ولما كان الناس في مثل هذه العطلة والإجازة، تغلب عليهم الغفلة، انظروا إلى أحوال كثيرٍ من الناس الذين أتوا لزيارة هذه المدينة، تجد أن الكثير منهم يفهمون أن مجيئهم لهذه المدينة وغيرها، إنما هو للترويح عن أنفسهم، ولو عملوا ما يغضب الله عز وجل، وهذه مصيبةٌ كبرى، ولهذا تجد فئاماً من الشباب، الذين أهملوا واجبهم، وغفلوا عن تحقيق رسالتهم، وضيعوا شبابهم، وأعمارهم، في أمورٍ محرمة، تجدهم يعيشون في مثل هذه الأوقات حياة اللهو، والعبث والمجون، وتضييع الأوقات، وتضييع فرائض الله عز وجل، والوقوع في ما حرم سبحانه وتعالى، وهذه مصيبةٌ كبرى، أن يغفل الناس عن واجبهم، وعن تحقيق رسالتهم في هذه الدنيا.
أما المؤمنون الصادقون، المؤمنون الحريصون على ما يقربهم إلى الله، فحياتهم وقلوبهم كلها ربيع؛ ربيعٌ بذكر الله، ربيعٌ بإيمانهم بالله، ربيعٌ بذكر الله عز وجل وتلاوة كتابه، ومجالسة الصالحين من عباده، يستوي في ذلك عندهم أوقات فراغهم وشغلهم، فكلها في خير، وإن لم يعملوا طاعة فلا يقعوا في معصية، وهذا أمرٌ ينبغي أن يتفطن له الناس، لا سيما في مثل هذه الأيام.(119/2)
الأمور المعينة على إعمار القلوب
أيها الإخوة في الله: إن الموضوع الذي أراده إخوتنا في الحديث وللحديث حوله موضوعٌ في غاية الأهمية؛ لأنه يتعلق بعضوٍ هو أهم الأعضاء على الإطلاق، فمعلومٌ أن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان في هذه الحياة وصوره فأحسن صورته، ووهبه الجوارح والأعضاء من الأيدي والأرجل، ووهبهه السمع والبصر، لكنه وهبه جل وعلا عضواً هو أهم هذه الأعضاء على الإطلاق؛ ذلكم هو القلب!
فالقلب هو ملك الأعضاء، إذا صلح صلحَ الجسد كله، وإذا فسد فسدَ الجسد كله، كما صح في ذلكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} بل إني أكاد أقول: إن الأزمة التي تمر بها الأمة بل يمر بها العالم اليوم، هي أزمة القلوب!!
فقلوب الناس إلا من رحم الله قاسيةٌ بعيدةٌ عن الله عز وجل، قلوب كثيرٍ من الناس في غفلة عن تحقيق ما خلقت لأجله، أمراض القلوب المستعصية والمنتشرة في هذا الزمان ما أكثرها، ويهون طب الأبدان إذا بلي الإنسان بمرض الأديان، فطب الأبدان أمرٌ سهل يعالج عند أقرب طبيب وأقرب مستشفى، والناس يهتمون به في الغالب، فما أن يصاب الإنسان بمرضٍ في جسده، حتى يهرع لأفخم طبيب، ويسأل عن أحسن مستشفى، بل لربما يسافر الأميال والمسافات الطويلة؛ لأجل علاج مرضٍ جسدي، لكن كثيراً منهم يغفلون عن أمراض قلوبهم، وهي في الحقيقة الأمراض الخطيرة، كثيرٌ من الناس تجده في صحة في بدنه، وفي سعةٍ في ماله، ولكن قلبه مريضٌ بالمعصية، والعياذ بالله، فيجب على المسلمين ويجب على الشباب، ويجب حتى على طلبة العلم، أن يُعنوا بشأن قلوبهم، وليست الأزمة التي يمر بها العالم اليوم، أزمة فكر؟! ولا أزمة مادة؟! ولا أزمة ثقافة؟! بقدر ما هي أزمة صلاح القلوب والأرواح: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الْأِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى:52].
ويقول الله عز وجل عن الكفار: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5] {ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:127] ويقول عن المنافقين: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً} [البقرة:10] ولكنه أخبر عن أهل الإيمان: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن:11].
فيا أيها الإخوة: إن علينا أن نعنى بشأن القلوب، وبصلاحها، فكثيرٌ من الناس يعتني بجسده، والاعتناء بالجسد إذا لم يكن على حساب الروح والقلب لا بأس به، ولكن أن يُشغل الناس بأجسادهم ويغفلوا عن قلوبهم وأرواحهم، فهذا شأن الغافلين:
يا خادم الجسم كم تشقى بخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسرانُ
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسانُ(119/3)
تربية القلوب بالإيمان
أيها الإخوة: إن كثيراً من المسلمين هدانا الله وإياهم في غفلةٍ عن قلوبهم، ولهذا حرص الإسلام على تربية قلوب المسلمين، وبُعث محمدٌ صلى الله عليه وسلم لعمارة القلوب بالإيمان وما يقرب إلى الله عز وجل، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما أنقذ هذه الأمة، لم ينقذها بالسلاح المادي، ولا بالتعبئة الجسدية، وإنما هي في الحقيقة بتربية القلوب على الإيمان، فكان سلف هذه الأمة وصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلية في أعدادهم وعتادهم، ولكنهم أرهبوا الأمم، ودمروا جميع الحضارات والعروش الكافرة؛ لأنهم تربوا على الإيمان بالله، وعمرت قلوبهم بما يقربهم إلى الله، وهكذا حال المسلمين في كل زمان ومكان، إذا اعتنوا بقلوبهم وأرواحهم، وحرصوا على عمارتها بما يقرب إلى الله عز وجل، وعالجوا أمراضها وأدواءها وما أكثرها، حين ذاك تصلح أحوالهم.
إذا كان المسلمون اليوم أكثر من مليار مسلم، وأحوال الأمة الإسلامية في بقاع شتى، أحوالٌ مبكية، وأوضاع مزرية، فما السر فيما أصاب المسلمين؟!
وما السر في أحوال المسلمين المتردية؟!
إن القضية قضية قلوب، لم تعمر قلوب الناس بالإيمان، وإنما دمرت بالمعاصي والذنوب التي غشت القلوب حتى أعمتها والعياذ بالله، فالقلوب تعمى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
الذين لا يعرفون المساجد، ولا يعرفون بيوت الله، ولا يعرفون القرآن، ولا يعرفون الإيمان، ما هي أحوال قلوبهم؟!
قلوبٌ منتكسة! قلوبٌ ميتة! قلوبٌ خاوية!! والعياذ بالله، ولكن هذا هو العطب، فإنه لا ينجو من عذاب الله، إلا صاحب القلب السليم: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
والقلب السليم: هو القلب المؤمن الموحد الذي لم تخالطه الأمور الشركية، ولا الأمور المبتدعة.
ولهذا فإن ربيع القلوب أيها الإخوة! ليس في أن يذهب الناس على الشواطئ، والمنتزهات، والبراري، ويضيعوا الأوقات ويعمروها باللهو والأكل والشرب، ويتركوا الفرائض، ولكنها تعمر بالإيمان بالله.
الأمة اليوم لا ينقصها أعداد، ولا ينقصها عتاد، ولكن ينقصها رجالٌ مؤمنون موحدون، والخير في هذه الأمة باقٍ، وأهل الإيمان ولله الحمد والمنة في ازديادٍ وكثرة، لكن لا تزال الكثرة الكاثرة غثاءً كغثاء السيل، ينبغي أن نعود إلى قلوبنا، فننظر مدى عمارتها بتوحيد الله، نحن أمة توحيدٍ وعقيدة، أمة إيمانٍ بالله عز وجل، وهذا هو الذي يعمر القلوب في الحقيقة، فينبغي على المسلم أن يحرص على الإيمان والتوحيد علماً وعملاً واعتقاداً، وأن يجالس أهله، وأن يبتعد عما يخالف العقيدة الصحيحة؛ فإنها تخدش إيمانه، وتسود قلبه، وتجعله معرضاً عن الله عز وجل.(119/4)
إعمار القلوب بالإقبال على كتاب الله
كذلك من الأمور التي ينبغي أن تعمر فيها القلوب وتحيا: الإقبال على كتاب الله، الإقبال على القرآن يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس:57] نعم.
شفاء لما في الصدور، شفاءٌ من أمراض الشهوات، وأمراض الشبهات التي تصد القلوب عما يقرب الله عز وجل.
ونحن اليوم أيها الإخوة! في عصرٍ أصيبت به كثيرٌ من القلوب بالوهن، والمرض، والفيروسات التي تضر القلوب كثيرةٌ جداً، فيحتاج الإنسان إلى مراجعةٍ جادة، ومحاسبة دقيقة لقلبه وإيمانه.
إذا نظرت فيك ضعفاً في الاعتقاد، وضعفاً في الإيمان، فارجع إلى قلبك.
إذا رأيت في نفسك تساهلاً في الصلوات فارجع إلى قلبك.
إذا نظرت إلى قلبك ونفسك تبغض أهل الخير، وتضيق في مجالستهم، ومجالسة الذكر وحلق العلم، فداو قلبك فإنك مريض.
إذا رأيت نفسك ميالةً إلى الغناء والمزامير، فداو قلبك فإنه مريض.
إذا رأيت قلبك منساقاً إلى الشهوات، والتوسع في المباحات، تحب أصناف المأكولات، وتجعلها شغلك الشاغل، وتحب المغريات والماديات، ولا تتحدث إلا عن الدنيا، فارجع إلى قلبك فإنه مريض
يعاني المسلمون وتعاني المجتمعات، بل يعاني العالم اليوم من أمراضٍ نفسية؛ قلق، اكتئاب، انفصام الشخصية، أمراض نفسية، كثرة الوساوس والهموم، كثرة المس والسحر والشعوذة، وما إلى ذلك.
والسبب: أن القلوب غُفِل عنها.
فينبغي أن يعلم الناس: أن ما أصيب به العالم اليوم، إنما هو بسبب خواء القلوب من الإيمان، أو ضعف الإيمان فيها، ولا يمكن أن يعالج أصحاب الأمراض النفسية عند الأطباء النفسيين الماديين، مهما علت مراتبهم ومؤهلاتهم وشهاداتهم، لا علاج إلا القرآن وشفاءٌ لما في الصدور: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].
فهذا هو العلاج؛ الإقبال على القرآن!! لكن مع الأسف أن كثيراً من المسلمين هدانا الله وإياهم انصرفوا وغفلوا عن القرآن وتلاوته وحفظه، ومراجعة معانيه وتدبر آياته
بل إننا لا نبالغ إذا قلنا: إن بعض المنتسبين إلى الخير، وأهل الالتزام والإقبال على الله، هم في تقصير مع القرآن، ونحن لا نريد شباباً التزامه هشَّ، والتزامه ظاهري، وإنما نريد قلوباً يعمرها الإيمان والقرآن.
فيا أيها الشباب: ويا طلبة العلم! إن أهم ما عنيتم به، وينبغي أن تعتنوا به: الإقبال على القرآن، حينما يأتي إليك شابٌ ملتزم ظاهره الصلاح، ولكنه لا يحفظ القرآن، أو لا يقرأ القرآن قراءةً صحيحة، فإن في التزامه دخناً، وينبغي أن يعالج نفسه، وأن يعرف أن التزام القلوب وصلاحها أهم من التزامه ظاهراً، وإن كان الأمران جميعاً مطلوبين لكنَّ العناية بأمور الباطن، وأمور القلوب، هي الأمور التي ينبغي أن تستحوذ على همم أهل الخير والصلاح.
نعم، ينبغي أن يتربى الشباب على القرآن، وينبغي أن يعنى الدعاة إلى الله بالقرآن، نرى كثيراً من الناس، ينصرفون إلى قضايا فكرية على سبيل المثال، وهذا لا محظور فيه، ينبغي على الإنسان أن يكون فكره فكراً نيراً صحيحاً سليماً، وليس مخلطاً، ولا ملوثاً باللوثات المنحرفة، لكن لا نربي نحن فكراً مع خواء الروح والقلوب، ينبغي أولاً: أن نعنى بشأن الإيمان والعقيدة والعلم الشرعي الذي نواته الإقبال على كتاب الله عز وجل وتلاوته وحفظه، وخذ من أمور الفكر بطرف، وكن على معرفة، وخذ من أمور الواقع ومعرفة أحوال المسلمين بطرف، لكن لا يكون هذا هو الاهتمام الكلي، ينبغي أن تعمر القلوب بالذكر: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
في عصر القلق والاكتئاب، والمصائب والأمور النفسية، لا طمأنينة للقلوب إلا بالإقبال على الله، فحياة القلوب بذكر الله عز وجل والإيمان به: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
فينبغي على المسلم: أن يعنى بكتاب الله، لا سيما الشباب وطلبة العلم والأخيار والملتزمون، ينبغي أن يعنوا وأن يربوا أنفسهم على القرآن، لأننا نرى أن قلوب بعضهم قاسية، وتحتاج إلى من يلينها، ولا ملين إلا كتاب الله عز وجل.
وفي المقابل أناسٌ يعتنون بالأمور القلبية، ويهتمون بها، وقد يحدثون في دين الله من الأذكار ما ليس منه، وهذا أمرٌ ليس بصحيح.
ينبغي على المسلم أن يعلم: أنه لا حياة للقلوب إلا بالسير على منهج السلف الصالح، والتزام سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والبعد عن المحدثات، ولهذا شطح كثيرٌ من أرباب التصوف لما اعتنوا بالأمور القلبية، ولكنهم لم يهتموا بالبناء على العلم الشرعي، والعقيدة الصحيحة، واتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فنظروا إلى الإسلام، إلى الجوانب القلبية، وهز الرءوس والتقشف والزهد، دون أن يبنى ذلك على عقيدة صحيحة سلفية، وإيمانٍ وقرآن، واتباع لسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.(119/5)
سلامة القلوب من أمراض النفوس
كذلك أيها الإخوة: مما ينبغي أن يعتني به المسلم لصلاح قلبه ولدواء قلبه: أن يكون القلب سليماً؛ سليماً من الدخل والدخن، وسليماً أيضاً من اللوثات التي تلوث القلب، ومما يكون في النفوس والقلوب والصدور: من الغل، أو الحقد، أو الحسد، أو البغضاء، أو الشحناء على أحدٍ من المسلمين، طهارة القلوب من هذه الأدواء والأمراض طريقٌ لربيعها وصلاحها.
أما أن تكون القلوب مليئة بالأحقاد، والحسد، وتتبع العثرات، وتلمس النقائص والسوءات، فهذا مرض ينبغي أن يعالج أصحابه قبل أن يستفحل أمرهم.
وإذا نظرت إلى أحوال الناس اليوم، تجد أن هذه الأدواء تضرب بأطنابها في قلوبهم، فأصيب الناس بالفرقة والخلاف، ووجد في الصدور والقلوب ضد المسلمين، بل ضد طلبة العلم، والدعاة إلى الله، والعلماء، وهذه مصيبة أن يوجد هذا في قلوب الإسلام، وأهل الإيمان، فالحسد، والكيد والبغضاء، والشحناء خطرها عظيم، وضررها جسيم، ينبغي للمسلم أن ينور قلبه، ويعالج أن تقع فيه هذه الأدواء، فتحب لإخوانك المسلمين ما تحب لنفسك، وتدعو لهم، وتعرف فضلهم، وخيرهم، وسبقهم، وتعرف حسناتهم، أما أن تلغي الإنسان لمجرد خطأ وقع فيه، أو سوء ظنٍ منك، أو حرصٍ من الشيطان على أن يوقع بينك وبين إخوانك، فلا تجد هماً لك، إلا أن تبث الفرقة والخلاف في الأمة، فهذا داءٌ خطير، وينبغي أن يُفهم من هذا أنه ليس معنى ذلك، أننا لا نبين الأخطاء، لا.
ينبغي أن يبين الخطأ، كائناً من كان من أتى به، لكن لا داعي إلى التشهير، والتعيير والتجريح والثلم، بشكلٍ ظاهر، ويجعل الهوى متمكناً ودليلاً على أصحاب هؤلاء على هذا الفعل، وهؤلاء الذين يقومون به.
أرجو أن يفهم ما أردت تماماً، فنحن لا نجامل في عقيدتنا، ولا في إيماننا، وينبغي أن يقال للمخطئ: أخطأت حتى لا يغتر الناس بالخطأ، لكن نلتمس المعاذير، المؤمن يلتمس المعاذير والمنافق يتتبع الزلات، من الذي لا يخطئ؟! ومن الذي ما ساء قط؟!
الناس كلها تخطئ فلو أن واحداً من الحاضرين أتى اليوم لتتبع خطأ المتحدث، لكان هذا أمراً خطيراً أن يأتي الإنسان لأجل أن يتتبع الأخطاء، اسمع الكلام واعرف المراد منه، وكن حسن الظن بإخوانك المسلمين، سليم النية، طيب الطوية، لا تحمل في قلبك غلاً ولا حقداً ولا حسداً على أحدٍ من إخوانك المسلمين، ولو كان عامياً، فضلاً عن أن يكون طالب علم، أو أن يكون معروفاً بالخير والحرص على ما يفيد الأمة، ولا ينافي هذا كما قلت أننا نبين الخطأ ونذكره حتى لا يغتر به الناس، ولا نغلو في أحدٍ من الناس كائناً من كان، الحق أحب إلينا من الرجال، لكننا نعرف للمحسن إحسانه، وندعو للمخطئ ونسأل الله أن يغفر زلَلَه، هذا هو منهج المسلم الحق.
أما الذين يعمرون قلوبهم بالغل والحقد والشحناء، ويربون الناس على هذا، ويربون الشباب على هذه الأمور، وعسى ألا يكون أحداً منهم موجوداً، وهم قلة ولله الحمد والمنة، فهذا أمرٌ ينبغي أن نتنبه له.(119/6)
أسباب حياة القلوب وسلامتها
إذا أردنا أن نركز في الحديث لنضع أسباب حياة القلوب وسلامتها، فنقول:(119/7)
أولاً: الإيمان والعقيدة
الإيمان القوي، والاعتقاد السليم قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الأنفال:2 - 4].(119/8)
ثانياً: القرآن حياة القلوب
القرآن مادة حياة القلوب، وكم نسمع من كتاب الله في مقابل ما نسمع من غيره؟ وكم نقضي من الأوقات مع كتاب الله في مقابل ما نقضي من الأوقات مع غيره؟ حتى لو كان الإنسان في طلب علم، فينبغي أن يركز على القرآن، ويجعل لكل فنٍ قدراً.(119/9)
ثالثاً: ذكر الله
قال تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
أين الذاكرون الله كثيراً، والذاكرات؟! هم ولله الحمد موجودون، لكنك إذا نظرت إلى الحياة الصاخبة من حولك تجد أن هؤلاء قليل في عموم كثير من الناس.
ينبغي أن نعمر القلوب بذكر الله، حتى بعض أهل الخير، وبعض المحسوبين على الصلاح، وهم من أهل الصلاح، تجد قلوباً قاسية، ذكرهم لله قليل؛ وهذه صفة من صفات المنافقين، عافانا الله وإياكم قال تعالى: {وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:142].
فينبغي على المسلم أن يعود لسانه دائماً ذكر الله، يذكر الله عز وجل في جميع أحيانه وأحواله، كما كان عليه الصلاة والسلام.
وإذا نظرت إلى التربية من حولك تجد العجب في موضوع التربية، فبعض الناس يتربى على أمورٍ بدنية وجسدية، وبعضهم يتربى على أمورٍ عقلية وفكرية، وآخرون على جوانب وعظية في قلة من العلم، وأناسٌ قبعوا في مكتباتهم، يدَّعون أنهم على علم، والمسلم يأخذ من جميع هذه الجوانب التي يستطيع أن يكمل بها شخصيته.
فأولاً: الاعتقاد السليم، ثم العلم الشرعي، الذي ينبغي أن نحرص عليه، وأن يحرص شبابنا عليه.
أيضاً: ذكر الله عز وجل، وفيه الأجر العظيم، والخير الكثير يقول تعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
{مثل الذي يذكر الله والذي لا يذكره مثل الحي والميت}.
فذكر الله عز وجل أمره عظيم، لكن تقصيرنا فيه عجيب، التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير، وقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، والصلاة والسلام على الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، كل ذلك مما يعمر القلوب، لكن الناس في غفلة، أما المنحرفون، فصدتهم الأغاني الخليعة، والمزامير، والكلمات الخادعة والمبتذلة، وهؤلاء ينبغي أن يُدْعَوا، وأن يفيئوا إلى رشدهم، وأن يتوبوا إلى ربهم، قبل أن تحلَّ بهم ساعة الاحتضار، فيندم حيث لا ينفع الندم، وكثيرٌ من الناس حتى من أهل الخير والصلاح مقصر في هذه الجوانب، فعلى المسلم أن يكمل نفسه في هذا الأمر.(119/10)
صفاء القلوب
أيضاً من أسباب علاجها وحياتها: صفاء القلوب من الغل والحقد والحسد والبغضاء، وليس المسلم مطالباً بالنقد، كما يحاول بعض الناس أن يحرص على هذه الأمور بقدر ما هو بحاجة أن يكمل نفسه، قبل أن تنتقد الآخرين كمِّل نفسك أنت، وابدأ بنفسك فانهها عن غيِّها، وقوِّمها على طاعة الله عز وجل، أما أن يتربى الشباب وهم صغار في مراحل المتوسطة والثانوية على النقد، فلا يتركون أحداً إلا نقدوه؛ نقدوا العلماء، ونقدوا الولاة، ونقدوا العالم جميعاً، ومعنى أن الذي يصدر نفسه للنقد أنه يرى أنه هو السالم من الأخطاء وأن الناس كلهم على خطأ، نعم.
نحن مطالبون بالنصيحة الشرعية، ونعرف أسلوبها، فللولاة أسلوبهم في النصيحة، وللعلماء إن قصروا أسلوب، وللدعاة والعلماء وطلبة العلم بعضهم مع بعض أسلوب، لكن أن تظل الأمة في فرقة وخلافات، وكلٌ يدعو لنفسه وينتصر لنفسه، ويرى أنه هو الذي على الحق، ويظل الناس في حيرة واضطراب، فهذا هو البلاء الذي وقع فيه كثيرٌ من الناس، حتى انفصمت عرى المحبة والأخوة، وأصبح الإنسان لا يهتم إلا بنقد الآخرين، وهذه مصيبة.(119/11)
الأخوة والمحبة في الله
أيضاً من الأمور المهمة: أن نعلم أننا إخوة في الله، ومتحابون في الله، وأن محبتنا وأخوتنا تسمو على الخلافات، ووجهات النظر، ولهذا ينبغي أن يعرف المسلمون ولا سيما طلبة العلم، آداب الخلاف، تعرف ما هي الوسائل والأسباب والمسائل والفروع التي لا غضاضة فيها أن يوجد بين طلبة العلم خلافٌ فيها، وبين الأمور التي لا عذر للإنسان في الخلاف فيها.
إي نعم، فهذه مسائل مهمة جداً، ولا يمكن أن يعملها الناس إلا باصطحاب العلماء، وملازمتهم، وثني الركب في حلق العلم والعلماء، والاستفادة منهم، مع سلامة الصدور لأهل الإيمان.
لا تصاب بالأسى والأسف، إلا حينما يأتيك أحد، ويقول: ما رأيك بالعالم الفلاني؟ من أنا ومن أنت حتى نتكلم في هؤلاء؟ لكن إن أخطأ أحد فنصحه واجب وخطؤه مردود عليه، وينبغي أن يبين، لكن ينبغي ألا يكون الهوى وهو المرض الخطير الذي تصاب به القلوب: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23] فالهوى مرضٌ خطير إذا أصاب القلوب أعماها، وأقفلها، ولا علاج للهوى إلا بتقديم النصوص والبعد عن الهوى.
فيا أيها الإخوة: هذه جملة من أسباب حياة القلوب: الصفاء، والأخوة، والمحبة في الله عز وجل، هي التي ينبغي أن تعمر قلوب الناس، مع ما سبق بيانه.(119/12)
المعاصي والذنوب من أسباب مرض القلوب
ومن الأخطار الخطيرة التي ينبغي أن يتنبه لها الناس؛ أسباب مرض القلوب، وأسباب قسوتها من الوقوع في الأمور المحرمة، لا سيما الأمور الشركية والبدع والمحدثات.
المعاصي والذنوب: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14] ولهذا ورد في الحديث: {إن العبد إذا أذنب نكتت في قلبه نكتةٌ سوداء فإن تاب وأقلع صقل منها، وإن عاد عادت حتى تعلو قلبه، فذلك الران الذي ذكر الله يقول الله: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14]}.
فالناس اليوم عمتهم الذنوب والمعاصي إلا من رحم الله، في جميع الجوانب؛ في البيوت وفي الأسواق، وفي المنتزهات، وعلى الشواطئ، وفي الشوارع، ذنوب تتعلق بالاعتقاد والعبادات -يعني في جانبها- وفي الأخلاق والقيم في تقصير الناس في هذه الأمور، لا سيما في مثل هذا العصر، الذي هو عصرٌ غزي فيه المسلمون بوسائل جديدة تبث الفساد والانحراف، وتقضي على صحة القلوب، فينبغي على المسلمين أن يحذروا هذه الأمور.
من أسباب أمراض القلوب: الإعراض عن ذكر الله عز وجل، وعدم تدبر القرآن يقول الله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24] الإعراض عن القرآن سببٌ لموت القلوب.(119/13)
أسباب علاج القلوب
.(119/14)
مراجعة العلماء وعدم استخدام أسلوب التشهير
إن الوقوع في الحسد والغل والحقد والبغضاء، والوقوع في أعراض المسلمين، وأمراض الغيبة والنميمة، وكلام الناس بعضهم ببعض، كل ذلك من أمراض القلوب، فلو كان القلب سليماً للزم اللسان الصمت، ولم يذكر إلا الخير، وإذا كان هناك من خطأ فينصح صاحبه سراً، لا سيما إذا كان من العلماء، أو إذا كان من المسئولين والولاة، فليس من العلاج أن يتكلم الناس في المجالس وفي المنابر على أخطاء الناس ولاةً أو غير ولاة، أو علماء، فللولاة نصحهم المشروع، ينصحون فيما بينك وبينهم، ويبين لهم وهذا دليل صدقك معهم، وسمعتك وطاعتك لهم بالمعروف.
أما الذين يشهرون فهؤلاء لا يحلون مشكلاً، ولا يغيرون منكراً، ويوغرون صدور الناس على من ولاهم الله أمرهم، وعلى علمائهم، وعلى أهل الخير فيهم.
فينبغي أن يتواصى المسلمون، وأرباب الإصلاح في معرفة الطريق الصحيح، ولقد ثبت بالتجربة أن أسلوب التشهير ليس طريقاً للعلاج، وإنما قد يضر الدعوة وأهلها، إنه لا طريق للعلاج إلا الالتحام بعلمائنا الكبار ذوي العلم والخبرة والتجربة وممن لا يشك أحد أنهم ممن أنصح الناس لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، لكنهم لعلمهم وفقههم وتجربتهم الطويلة عرفوا طريق العلاج.
أما أن يأتي الإنسان بغيرته وحماسه وهذه تحمد فيه، لكن ينبغي أن يكون ذلك مهذباً ومنضبطاً بالضوابط الشرعية، ومأخوذاً من أهل العلم ومرجوعاً فيه إلى القيادات العلمية التي تعرف وتوصل إلى الطريق الأسلم في هذه الأمور حتى لا تقع الأمة في فتن لا يعلم مداها إلا الله.
أيها الإخوة: الربيع وربيع القلوب موضوعٌ جد مهم، وينبغي أن نُعنى به غاية العناية وأن نهتم به، والحقيقة هي كلمات ذكرتها وخواطر في النفس والقلب أبثها لكم راجياً أن تكون موقظةً للقلوب، لأننا بحاجة أن نسمع الخير والذكر فتنفتح له قلوبنا.
أما أن نسمع ولا نتأثر وتظل القلوب على ما هي عليه فهذا مرض، ولهذا فكل مسلم، وكل من سمع هذا الحديث فإنني أطالبه أن يعرض اليوم قلبه على العيادة الصحية التي هي -الحقيقة- ما ذكرناه من الأمور؛ الإيمان، القرآن، الذكر، العلم، صفاء القلوب، الأخوة في الله عز وجل، ذكر الله سبحانه وتعالى، وما إلى ذلك، وعليه أن يعالج القلب أكثر من أن يحرص على علاج بدنه، وهذه قضية تربوية ينبغي أن نربي الأبناء والبنات والأسر، على العناية بقلوبهم:
وإذا حلت الهداية قلباً نشطت بالعبادة الأعضاءُ
ولو أن الدعاة إلى الله والمصلحين ركزوا على موضوع القلوب عقيدةً وإيماناً وذكراً؛ لأصبح الحال أحسن مما هو عليه، ولتوارت كثير من الأخطاء الموجودة في الساحة ولسلمت القلوب، أما أن يُعتنى بقضايا أخرى على حساب هذه الأمور فذلك تقصير في حق هذا الموضوع المهم، وإن شاء الله عز وجل أن يكون عرض هذا الموضوع في هذه الإجازة التي يظن كثيرٌ من الناس أنها ربيعٌ للأبدان، ربيعٌ للأجساد، يتمتعون بها، لكنهم قد يقضون على قلوبهم والعياذ بالله.(119/15)
أكل الحلال والبعد عن الحرام
أيضاً من أسباب علاج القلوب أيها الأخوة: أكل الحلال، والبعد عن الحرام، أكل الحرام يضر في القلب، وحدِّث ولا حرج اليوم عن المعاملات التي يتعامل بها كثيرٌ من الناس وهي محرمة، وما ذلك إلا لأن الدنيا طغت على القلوب والعياذ بالله.(119/16)
غض البصر والبعد عن الوسائل المغرية
أيضاً: غض البصر، والبعد عن الوسائل المغرية، ولهذا الذين يقعون في الفساد والانحراف تجد أن الشهوة هي التي كانت سبباً وراء وقوعهم في هذه الأمور، ولهذا على الإنسان أن يعالج الشهوة التي في نفسه بالعلاج الشرعي وهو الزواج أو الصيام والبعد عن الوسائل المغريات.(119/17)
حرص الشباب على عمارة القلوب
فيا شباب الإسلام: احرصوا على عمارة قلوبكم بما يقربكم إلى الله، ربوا القلوب على القرآن، وعلى الإيمان، وعلى ذكر الله عز وجل، والبعد عما حرم الله سبحانه وتعالى.
هذا الأمر الذي ينبغي أن أنبه عليه، ولعل في هذه الكلمات ما يكفي ويشفي في هذا الموضوع، والحقيقة أنه موضوعٌ هام، جاء ذكر القلوب في كتاب الله عز وجل قرابة مائة واثنين وأربعين مرة، وما يتصرف عن كلمة قلب، وقلوب ونحوها.
وأما في السنة، ففي أحاديث كثيرة قرابة أربعمائة أو تزيد، فهذا دليل على العناية بهذا الجانب المهم، والرسول عليه الصلاة والسلام إنما ربى قلوب الأمة، ولهذا الآن يتساءل كثيرٌ من الناس في منهج الدعوة الصحيح وطريق الدعوة الصحيح، ونحن لا نخطِّئ، أو لا نقع في عرض أحد من الناس أفراداً أو جماعات، ولكن يهمنا أن يسلك شبابنا المنهج الصحيح في الدعوة إلى الله، وهي أن يعلموا أنه لا طريق للدعوة إلا عن طريق دعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام.
فهذه الفُرقة التي مُني بها الناس، لا سيما في شأن الدعوة ينبغي أن تُحل بأن يسلك الجميع طريق النبي عليه الصلاة والسلام في الدعوة من التركيز على العقيدة والإيمان والقرآن والعناية بالقلوب، وأن يكُمِّل الإنسان نفسه من الأمور التي يحتاجها عصره وواقعه، ولا غضاضة في ذلك، المهم أن نبني الناس على منهجٍ شرعي سليم، على العلم بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، مع أنه ينبغي أن نحرص -كما قلت- وأكررها لأننا في مصيبةٍ عظمى، منها: في قضية الفرقة والخلاف، فلنحذر ولنعرف أدب الخلاف، ولنعرف مساغات الخلاف، وما يسوغ فيه الخلاف، وما لا يسوغ فيه، ولتسلم صدورنا لإخواننا الدعاة، ولإخواننا العلماء، ويعلم الله أننا نحب الحاضرين جميعاً، وإخواننا طلبة العلم والدعاة إلى الله نحبهم في الله، ولا نعرفهم، أو قد لا نعرفهم ما دام أنهم على الخير وعلى المنهج وعلى الطريق الصحيح، هذا الذي ينبغي أن نسلكه، أما أن نقع في مشكلات ومصائب وفرقة وخلافات لا أول لها ولا آخر، فهذا يستفيد منه العدو المتربص.
وفق الله الجميع لما يحبه ويرضاه، وأرانا الحق حقاً ورزقنا اتباعه، والباطل باطلاً ورزقنا اجتنابه، وأصلح قلوبنا وأعمالنا بمنه وكرمه، كما نسأله تعالى أن يجمع قلوب المسلمين على الحق والهدى، وأن يوفق ولاة أمورهم لما فيه خير الإسلام وصلاح المسلمين، وأن يوفق علماءهم ودعاتهم لبذل المزيد من التوجيه للأمة الإسلامية جميعاً، وأن يرزق الشباب وطلبة العلم الوحدة والاتفاق، وأن يبعدهم ويجنبهم نزغات الشيطان والهوى بمنه وكرمه، كما نسأله تعالى أن يصلح ضال المسلمين، وأن يهيئ لأمة الإسلام من أمرها رشداً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين.(119/18)
الأسئلة(119/19)
علاج قسوة القلوب
السؤال
فضيلة الشيخ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، إنني أشعر بعدم استقرارٍ من أمري، فساعةً يرق قلبي وأشعر براحةٍ وسعادة، وساعةً يقسو قلبي، فماذا أفعل ليستمر قلبي في رقةٍ وسعادة وشعورٍ بحلاوة إيمان.
جزاك الله خيراً؟
الجواب
هذا هو موضوع الكلمة التي تكلمت فيها، نعم، أقبل على الإيمان والذكر وتلاوة القرآن، وهذا الكلام ليس كلاماً عاماً بل إننا نطالب أن يكون مبرمجاً، وأن يكون الإنسان مرتباً لوقته، ويضع للقرآن نصيباً، ويضع للذكر شيئاً من وقته، بل الأوقات الشرعية في هذا، ويحرص على أن يكون لسانه رطباً بذكر الله عز وجل، وأن يصاحب الأخيار، وأن يبتعد عن الأشرار، وأن يحصن نفسه عن المغريات والشهوات، كل ذلك من الأمور التي يُعالج فيها مرض القلب.
فعليك أيها الأخ السائل أن تقبل على هذه الأمور التي ذكرناها وأن تحذر أمراض القلوب، التي يقع فيها الناس لشهوةٍ عارضة أو شبهة، أو هوى أو شينٍ في القلوب، أو ما إلى ذلك من الأمور التي تحصل.
قسوة القلوب مرض، أصيب به كثيرٌ من الناس: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] والمؤمنون قال الله فيهم: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال:2] فعلى هذا السائل وغيره أن يسير على ما قلناه وأن يتحرى الحلال الطيب ومجالسة الصالحين، وإذا حصل هناك قصور في المنهج، فإنه يبين لإخوانه، أن يعتنوا بالإيمان، ويعتنوا بالعقيدة والعلم الشرعي، وعمارة القلوب بذكر الله عز وجل وأن لا تضيع أوقاتهم سدىً.
كثيرٌ من الناس يضيعون أوقاتهم سدىً، إن سألته عن الاهتمامات التي يهتم بها بجسمه تجده يجيبك فيها من أول وهلة، وقد يكون متخصصاً وعارفاً لها تماماً، لكن لو يسأل عن آية من كتاب الله، أو حديثٍ من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، أو مسألة علمية تجده قد لا يجيد جوابه.
فالحقيقة أننا بحاجة إلى أن نتواصى في أن نعمر أوقاتنا وأن نرتبها ونضبطها حتى لا تضيع، كثيرٌ من الناس ضاعت أوقاتهم بتتبع أخطاء الآخرين، وكثيرٌ من الناس ضاعت أوقاتهم بمجالسة بعض الإخوة الذي يرفهون عنه ويسلونه ويضحكونه ويمازحونه ويجد عندهم سلوى في تضييع الوقت، ولكن ينبغي أن تروض القلوب على الأمور الجادة؛ العلم، حضور دروس العلماء، أن يكون له وردٌ يومي من القرآن، له وقت يقرأ فيه كتب السلف، في زيارات المشايخ والعلماء، وما إلى ذلك، حتى يسير الإنسان في هذا الدرب، ويبتعد عن الأمور التي يعانيها قلبه.
وهناك قضية مهمة جداً قضية ثبات القلوب، ولهذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام، كثير الدعاء بهذه الدعوة: {اللهم يا مقلب القلوب! ثبت قلوبنا على دينك} دعوةٌ عظيمة أيها الإخوة! إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر يدعو بهذه الدعوة، وتقول له عائشة: {إني أراك تكثر من هذا الدعاء، فيقول: وما يأمنني يا عائشة وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء}.
نعم، من يأمن على قلبه من العطب، والانحراف، والعياذ بالله لا سيما في هذا الوقت الذي كثرت فيه المغريات والشهوات، ولهذا لا تستبعد حينما ترى أناساً، تراهم اليوم بهيئة الصلاح وتراهم بعد فترة وقد تغيروا.
أيها الإخوة: إن علينا أن نبني أنفسنا وقلوبنا بناءً محكماً، إذا كان الإنسان يريد أن يبني له عمارة سكنية يهتم بالقواعد والأساسات، فكذلك القلوب؛ القلوب التي تربت على اللهو والغفلة والتضييع، هل يظن أنها ستقدم خيراً للأمة والمجتمع؟! حتى القلوب التي تربت على جوانب من الأمور الهشة في التربية، هل يراد، أو هل تستطيع أن تقف أمام عاتيات الانحراف، والشبهات، والأمور التي ترد كثيراً؟!
ولهذا تجد حتى بعض الناس من أهل الخير، قد تجدهم والعياذ بالله، ينكصون على أعقابهم، وهذه مصيبة.
فينبغي أن نكثر من هذا الدعاء العظيم، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك.
نعم أمراض الشهوات، فتن، مغريات، وسائل إعلام، صحف، مجلات منحرفة، بث مباشر، أو ما يسمونه، أقمار قد تجلب الفساد للأمة، فعلى المسلم أن يكون على حذر، وأن يحصن نفسه في وقت المغريات، قرناء السوء لا كثرهم الله، الذين يريدون أن يؤثروا على الشباب.
فعلى المسلم أن يحذر من هذه الأمور، وعلى الإخوة الطيبين أن يعلموا إن أرادوا الثبات على هذا الدين فلا مثبت لهم بعد الله عز وجل إلا سلوك الطريق الصحيح والبناء المحكم في التربية، على ماذا ربي؟ على عواطف، واندفاعات، وأمور فكرية وواقعية فحسب! هذه لا تكفي، ينبغي أن نربي على الإيمان والعقيدة، ولهذا كان الصحابة رضي الله عنهم مع قلة عددهم، ماذا يسر الله لهم، بأنهم صدقوا في إيمانهم، وهكذا لن يصلح أمر آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أوله، أن يربى الشباب على القرآن، لا يربوا فقط على كتبٍ وافدة، ونحن في هذه البلاد وأقولها من باب التحدث بنعم الله، فليست تزلفاً ولا مجاملة، ولا نفاقاً، ولا تظنوا بأخيكم إن شاء الله هذا الظن: أننا في نعم، حقيقة، ومن أهم النعم وحدة المنهج، نحن في هذه البلاد جماعة واحدة، حمى الله هذه البلاد من الفرقة والخلافات والمشكلات التي عصفت بالمجتمعات الأخرى؛ لأن هذه البلاد على دعوة منذ دعوة محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وإلى دعوة الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ومناصرة ولاة الأمر لها، وإلى اليوم وعلماؤنا وولاتنا وشبابنا جماعةٌ واحدة، فلسنا بحاجة أن نتلفت يمنةً أو يسره، أو نستورد مناهج جديدة في الساحة، مع أن الإنسان قد لا يتكلم الآن هل هي حق أو باطل، ولا ينبغي أن يشغل الشباب فيها أنفسهم، بل يحمدوا الله على هذه النعمة، ويثبتوا عليها.
والقصور موجود، الخطأ يرد، وهذه البلاد قد تكون محسودة لهذه النعمة، لكن علينا أن نحذر، وأن نعالج بطرق العلاج الصحيحة، لا أن نسعى لطريق العلاج، بما قد يشق شقاً كبيراً في الأمة يصعب علاجه فيما بعد.(119/20)
معنى قوله تعالى: (ولا تنس نصيبك من الدنيا)
السؤال
فضيلة الشيخ حفظك الله: ما معنى قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
هل هو كما يفهمه بعض الناس: اللعب واللهو بعد أداء الفرض المكلف به.
أفدنا رعاك الله؟
الجواب
{ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
نعم، هذه الآية وردت في سياق قصة قارون في سورة القصص، يقول الله عز وجل: {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:77].
نعم، الإنسان خلق في هذه الحياة ليسخر كل شيءٍ في هذه الحياة للحياة الأبدية التي سيقدم عليها وهي الحياة الآخرة {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} [القصص:77] لكن مع الحرص على الآخرة، ليس معنى هذا أن الإنسان يضيع نفسه في هذه الحياة من ناحية أن يكون عالةً على غيره، بل يأخذ من هذه الدنيا ما يعينه على السير إلى الدار الآخرة، وقد يفهم بعض الناس من هذه الآية، ويحتج بها على غير مراد الآية، فيرى وكأنه يمنُّ في عمله، وكأنه يتكثر شيئاً قدمه يقول: أنا ما دمت أصلي وأصوم وقد حججت وأزكي وأشهد أن لا إله إلا الله لا حرج أن أعمل الأمور الأخرى، فهذه أمور فيها سعة، ويتوسع في المباحات، وقد يقع في المحظورات بحجة {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77].
بعض السلف رحمهم الله، كـ مجاهد بن جبر رحمه الله تلميذ ابن عباس رضي الله عنهما، فسر هذه الآية تفسيراً عظيماً، يدل على حرص السلف رحمهم الله على ما يقربهم إلى الله، وعلى الأمور الأخروية، يقول: ولا تنس نصيبك من الدنيا فتغفل فيها عن ذكر الله، وتغفل فيها عما يقرب إلى الله، فوجودك في هذه الحياة ينبغي أن تستغله بمرضاة الله عز وجل، ومعنى ذلك: أنك إذا قمت بهذا الواجب أنك لم تنسَ نفسك ولم تنسَ نصيبك، ونصيبك الكبير في هذه الدنيا تحقيق سعادتك في الآخرة، وتحقيق سعادتك في الآخرة هي بالإقبال على الله عز وجل ولزوم فرائضه، لكن الذي عليه المفسرون أو جمهورهم، أنه يستفاد من هذه الآية: أن الإنسان عليه أن يأخذ من أمور الدنيا ما يعينه إلى السير في طريق الآخرة لكن لا يفتتن في هذه الحياة، نعم.
نحن لا نريد أن يكون الإنسان عالة على غيره، يكون في المسجد مثلاً، ويبحث عمن يتصدق عليه، أو ينفق عليه، لا.
الإسلام لا يحظر أن تكون في بيتٍ واسع، وفي مركبٍ هنيء وهادئ، وأن تأخذ من أمور الدنيا ما يعينك: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32] {إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده}.
لكن لا تكون الدنيا في قلبك فتكون هي شغلك الشاغل، ولكن تكون وسيلة إلى ما يقربك إلى الله عز وجل.
نعم، أما ما يحتج به أرباب الشهوات، من أنهم يفعلون ما يفعلون ويدعي أنه وصل الغاية فهذا والعياذ بالله من المنِّ بالأعمال، وهو من تسويل الشيطان وتلبيسه، فالذي لا يواصل الطريق ويحذر من العقبات فإنه على خطر، لا يكفي أنك تكون فقط مؤدياً للفرائض بل عليك أن تكثر من النوافل، وأن تحرص على كل ما يقرب إلى الله عز وجل، حتى لا يأتيك الشيطان على غرة، والشيطان علينا أن نحذره وهو عدو القلوب، وعدو الإنسانية جميعاً، ولا سيما أهل الخير، فعليهم أن يحذروه وأن يكثروا بالاستعاذة بالله من نزغاته وتلبساته.(119/21)
حكم من أراد إقفال المكبرات حال الصلاة
السؤال
ما رأي الإسلام بالذين ينادون وينعقون هذه الأيام بإقفال مكبرات الصوت في المساجد بعد أداء الأذان للصلاة، ويدعون إلى عدم إذاعة إقامة الصلاة، والخطب والمحاضرات بعد الصلاة، هل يعد هذا من مرض القلوب؟
الجواب
أولاً: قول الأخ: ما رأي الإسلام!! لو أُصلحت إلى ما حكم الشرع؟ أو حكم الإسلام؟ ثم فيه تعديل آخر: فحكم الإسلام ليس عندي، أو عند أحدٍ من الناس، وإنما العالم وطالب العلم يجتهد في المسائل فيصل باجتهاده إلى حكمٍ، ولا نستطيع أن نقول: هذا الحكم هو الذي وافق حكم الله عز وجل، فالتنبيهان ينبغي أن يعلما.
أولاً: ما رأي.
الدين ليس بآراء.
ثم: حكم الإسلام؟
ما يقال للأشخاص: ما حكم الإسلام؟ إلا إذا قيل من خلال ما ترون، من خلال وجهة نظركم، أو من خلال ما يدلكم اجتهادكم أو نحو هذا.
قضية مكبرات الصوت، والكلام حولها، قضية أظنها فرعية تماماً إلا إذا كان وراءها أبعاد، ولهذا لا نستطيع أن نحكم على قلب صاحبها إلا بأن نعرف مراده، وأن نعرف قصده، وإلا فيوجد من أهل الخير من يرى هذا الرأي، يوجد حتى من طلبة العلم ومن العلماء من يرى عدم إقامة الصلاة بمكبرات الصوت؛ لأنهم يرون أن لهذا شيئاً من المحاذير:
منها: أن الصلاة في مكبرات الصوت، قد تبعث الكسل أحياناً أو كثيراً، فيضطر الناس إلى أن يتأخروا حتى تقام الصلاة، فلو لم يعلم الناس متى يقيم المؤذن لهرعوا إلى الصلاة عند سماع الأذان، لكن الآن يقولون: دعه، نسمعه إذا قام، نسمعه إذا صلى، وقد تفوت الركعة الأولى، نلحق الركعة الثانية، فهم يرون: أن هذا قد يكون سبباً في التقاعس، أقصد العلماء الذين يرون هذا الرأي، أما الذين في قلوبهم مرض أو أعداء لكلمة الحق أن تخرج من المسجد فهؤلاء لا حديث لنا معهم، لأن عداوة هؤلاء وغيرهم ظاهرة وقديمة وليست وليدة اليوم.
أيضاً: يقولون: قد يوجد في البيوت مرضى، والمريض أحياناً قد يشق عليه، لا سيما إذا كان قريباً تماماً ومرضه شديد فإنه قد يتأثر.
على كل حال هذه وجهة نظر: لكني أرى أنه إن لم نعلن الأذان والإقامة والتلاوة فماذا نعلن؟ إن لم يسمع الناس هذا الخير في أوقات سماعهم الكلمات الصاخبة تنطلق من البيوت والشوارع والمقاهي، وعلى الأزقة والأرصفة والطرقات.
أيضاً: نريد أن نُحاصر في مساجدنا وبيوتنا؟! هذا ليس بصحيح.
فالذي أراه أنه ينبغي أن يُعلن الأذان والإقامة والدروس ولكن بشيءٍ من الضوابط حتى لا يكون تشويش على الناس، ولا يكون -أيضاً- تشويش بين المساجد، وقد يكون مسجد قريب الآن يصلي ونحن نشوش عليه بكلامنا هذا، فالضوابط الشرعية يمكن أن تتولاها وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية مع المختصين والعلماء فيه، وهذا المجال يوضع بعض الضوابط حتى يقضى على بعض الظواهر.
فالذين تحمسوا لفكرة إلغائها لمسوا فيها شيئاً من الأمور، وقد يكون بعضهم حصل له فعلاً شيء منها، لأنه بعض أئمة المساجد يشتكي، هو يصلي، والمسجد الذي بجانبه مسافة خمسين متر أو مائة متر يصلي في مكبر صوت، يمكن أن يصل إلى آخر مدينة جدة، ونحن في مسجد نصلي في مكبرات الصوت فتتضارب الأصوات، وقد يركع جماعة مسجدي مع إمام المسجد الثاني، لأنه يقول: الله أكبر.
فهذه بعض الأخطاء والملحوظات يمكن أن تعالج، ويكون في ضوابط شرعية تتولاها الجهات المسئولة وأهل العلم، لكن ككلامٍ عام: ينبغي أن ينشر الخير، وأن يعمم، وأن يدعم وأن تكثر وسائله، أما حتى الصلاة، فالناس تريد تسمع القرآن ولا يحرم الناس بحكم واحد أو برأي واحد.
والله أعلم.
على كل حال: نحن ننتظر قول العلماء في هذه المسألة وإلا تظل من وجهات النظر.
لكن سؤال الأخ عن قضية مرض القلب، مرض القلب هذا لا نستطيع أن نحكم عليه إلا إذا عُرف أن صاحب هذه الفكرة مغرض، ويريد تقليل الخير وكتمان أنفاسه، وهذا لا شك أن قلبه مريض.(119/22)
مرض الشهوة والقلوب عند النساء
السؤال
هل من كلمة للنساء حيث كثر خروجهن إلى الأسواق، ومما لا يخفى عليكم أن من أمراض القلوب: تبرج النساء وافتتان الرجال بهنّ وخاصةً في هذا الزمان؛ حيث يندر أن ترى المرأة التي قد تحجبت كما أمرها الله عز وجل؟
الجواب
على كل حال هذه لفتة طيبة من الأخ السائل، في تخصيص كلمة حول أمراض القلوب النسوية إذا جاز التعبير.
على كل حال: القلب يحتاج إلى علاج إذا كان مريضاً من الرجل أو الأنثى، لكن مظنة أمراض القلوب لدى النساء كثيرة جداً، ولا سيما أن المرأة فتنة، حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أسامة رضي الله عنه: {ما تركت بعدي فتنةً هي أضر على الرجال من النساء} وحينما نزلت آية الحجاب قال عز وجل: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
فطهارة القلوب سعى إليها الإسلام، وطهارة القلوب في دروب الفضيلة، ومرضها في مسالك الرذيلة.
فالمرأة المسلمة: عليها أن تتقي الله، وأن تلزم حجابها، وعفافها وحشمتها، وأن تبتعد عن التزين والتعطر والتجمل وإبداء الزينة إذا خرجت إلى المساجد أو إلى الأسواق، وصلاح المرأة في صلاح قلبها، وصلاح الرجل -أيضاً- في صلاح قلبه، فإذا رأيت أي مرض وأي ذنبٍ يرتكبه الإنسان فليعد إلى قلبه، فالمرأة المتبرجة السافرة المتهتكة والعياذ بالله بحاجةٍ أن تعود إلى صيدلية القلوب لتأخذ دواءً ناجعاً من التزام هذه المرأة بالشرع المطهر في هذه المسألة، وضرر مرض القلب ليس على المرأة وحدها بل حتى على المجتمع.
الحقيقة تبرج النساء وسفورهن مرضٌ خطير، بل إن مرض الشهوة قد يكون الدافع له مثل هذه الوسائل التي تقع فيها النساء والرجال، لأن تبرج النساء وراءه ذئاب من البشر، وكل ساقطةٍ لها لاقطة، وهناك شباب وذئاب يريدون أن ينهشوا عرض هذه المرأة، فعليها أن تتقي الله في نفسها، بأن تلتزم حتى لا تفتن نفسها ولا تفتن غيرها، وعليها أن تتقي الله في غيرها حتى لا تكون سبباً في جرِّه إلى الفساد، وعليها أن تتقي الله في مجتمعها فلا تكن سبباً في حصول الجرائم فيه والفواحش، عافانا الله وإياكم.
فكلمتي للنساء أن يتقين الله، وفي الحقيقية على المرأة أن تحرص على المبادرة إلى الزواج من أول ما يأتي الخُطَّاب ولتعلم أن الزواج فيه صلاحٌ للقلب، وفيه إعفافٌ للفرج، وغض للبصر، نعم عليها أن تغض بصرها: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:30 - 31].
فعلى المسلم: أن يحذر وإلا ما انتشرت المشكلات، والمغازلات، والمعاكسات الهاتفية، والمغازلات عبر السيارات، تجد السيارات فيها نساء وفيها شباب، وأنتم أهل جدة أدرى، فعلينا أن نحذر وإن كان هذا والحمد لله أرجو ألا يكون غالباً، فلا تزال بناتنا بحمد الله محافظات، ولكن يوجد إما من نساء وافدات، أو من نساء خدعن من بناتنا وأخواتنا، نحن لا ننزه أنفسنا، الخطأ موجود، لكن على المسلم أن يحذر، وعلى الرجل أن يتقي الله في زوجته، المرأة أمي أو أمك، أو أختي أو أختك، أو زوجتي أو زوجتك، أو ابنتي أو ابنتك، أين الرعاية والمسئولية؟!
فعلينا أن نتقي الله ولنحرص جميعاً على سلامة القلوب، والله المسئول أن يصلح القلوب والأعمال بمنه وكرمه.(119/23)