الصلاة ومكانتها وحكم تاركها [1]
إن تقدم الأمم ونهوضها، وسلامتها مما يعوق مسيرتها في طريق الرقي والحضارة يكمن في تمسك أهلها بمادئها ومثلها.
وإن من أعظم شعائر الإسلام الصلاة، ومع ذلك فإن الناظر في واقع كثير من المسلمين، يرى أن الصلاة قد خف قدرها، وطاش ميزانها لدى كثير من الناس مع ما جاء من وعيد شديد يحذر من تركها، ويأمر بإقامتها جماعة.(1/1)
الترغيب والترهيب في إقامة الصلاة
الحمد لله الذي شرع لعباده أكمل الشرائع، وفرض عليهم أجل الفرائض، وأوجب عليهم من العبادات، ما يصلون به إلى أسمى الغايات، وأنبل المقاصد وأرفع الدرجات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، ومجتباه من خلقه ومصطفاه من أنبيائه ورسله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واستقام على سنته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى، واعلموا أن أعظم فرائض الإسلام، بعد صحة العقيدة وسلامة التوحيد، وتجريد العبادة لله وحده، فريضة الصلاة، فالصلاة -يا أمة الإسلام- قِوام هذا الدين، وعموده المتين، وركنه الركين، يقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه، عن ابن عمر رضي الله عنهما: {بني الإسلام على خمس} وثنى بالصلاة بعد الشهادتين.
لذا فقد ورد الأمر بالمحافظة عليها وإقامتها في آيات كثيرة، وأحاديث متعددة، قال الله تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة:238] وقال سبحانه وتعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] وقال: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103].
ومما يجدر التنويه بشأنه، أنه لا يكاد يمر ذكر الصلاة في موضوع من التنزيل إلا مقروناً بإقامتها، وذلك لأن المقصود منها إقامتها على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، القائل فيما أخرجه البخاري رحمه الله: {صلوا كما رأيتموني أصلي}.
قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما: [[إقامة الصلاة: إتمام الركوع والسجود والتلاوة والخشوع، والإقبال على الله فيها]].
وقال قتادة: [[إقامة الصلاة: المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها]] وليس المقصود منها أداءها فحسب.(1/2)
حكم تارك الصلاة
وكما جاء الأمر الصريح بإقامتها، فقد جاء الوعيد الشديد، والترهيب الرهيب لمن تركها، أو تساهل فيها، قال الله تعالى مخبراً عن حال أهل النار: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر:42] * {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر:43]، وأخبر أن سبب دخولهم النار تركهم الصلاة، وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} [مريم:59] وقال: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون:4 - 5].
فإذا كانت عقوبة من يؤخر الصلاة عن وقتها، ويتساهل فيها بهذه الكيفية من العذاب الشديد، فكيف بحال من يتركها بالكلية.
وويل: شدة العذاب، وقيل: هو وادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدنيا لذابت من حره، ولا يستحق شرف الإسلام ومكانته من ضيع واجباته وأهمل فرائضه، وعلى رأسها الصلاة.
فتارك الصلاة يا إخوة الإسلام! متعرض لوعيد الله، متسبب في هلاك نفسه وورودها موارد الكافرين والمرتدين -عياذاً بالله- لأن الصلاة هي الفارق بين الكفر والإسلام، والشرك والإيمان.
أخرج الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} وعن بريدة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها، فقد كفر} أخرجه الإمام أحمد وأهل السنن.
وروى الترمذي عن عبد الله بن شقيق رحمه الله، قال: [[كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفرٌ غير الصلاة]].
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه ذكر الصلاة يوماً، فقال: [[من حافظ عليها؛ كانت له نوراً وبرهاناً ونجاةً، ومن لم يحافظ عليها؛ لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاةً، وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف]] وقال عمر رضي الله عنه: [[لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]] وقال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[من لم يصلِ؛ فهو كافر]].(1/3)
وجوب إقامة الصلاة جماعة
وقد جاء عن جملة من الصحابة والتابعين أن من ترك صلاة فرض حتى يخرج وقتها متعمداً، فهو كافرٌ مرتدٌ عن الإسلام، ومما ينبغي التأكيد عليه أن هذه الصلاة، لا بد أن تكون في بيوت الله مع جماعة المسلمين، لقوله تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ولقوله سبحانه: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102].
فأوجب سبحانه وتعالى الصلاة مع الجماعة في حال الحرب والقتال، فكيف بحال السلم والأمن، ولو كان أحدٌ يعذر في ترك الصلاة جماعةً؛ لكان المصافّون للعدو المهددون بهجومه عليهم، المشاركون في معامع القتال أولى بأن يسمح لهم، فكيف بحال من هو آمن صحيح سليم معافى!
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {لقد هممت أن آمر بالصلاة، فتقام، ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس، ثم أنطلق برجالٍ معهم حزمٌ من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار}.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه {أن رجلاً أعمى قال: يا رسول الله! ليس لي قائد يقودني إلى المسجد، فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل تسمع النداء للصلاة؟ قال: نعم، قال: فأجب} مع أن هذا رجلٌ أعمى ليس له قائدٌ يقوده إلى المسجد.
وفي رواية: أن بيته بعيدٌ عن المسجد، وأن الطريق إليه مليء بالسباع والهوام، ومع كل هذا؛ لم يرخص له في ترك الجماعة؛ فكيف بحال المبصرين الآمنين القريبين الأصحاء!
وفي صحيح مسلم -أيضاً- عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: [[من سره أن يلقى الله غداً مؤمناً، فليحافظ على هذه الصلوات الخمس، حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى، وإنهن من سنن الهدى، ولو أنكم صليتم في بيوتكم كما يصلي هذا المتخلف في بيته؛ لتركتم سنة نبيكم، ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم]] إلى أن قال رضي الله عنه: [[ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها- يعني: الصلاة مع الجماعة- إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]] وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل يصوم النهار ويقوم الليل، ولكنه لا يشهد الجمعة والجماعات، فقال: [[هو في النار]].(1/4)
تهاون بعض الناس في شأن الصلاة
أخوة العقيدة والإيمان: هكذا سمعنا منزلة الصلاة في الإسلام، ومن العجب أن يجهل قوم من المنتسبين إلى الإسلام قدر هذه الصلوات! أو يتجاهلوها ويتغافلوا عنها، حتى كانت الصلاة عند كثيرٍ منهم إلا من عصم الله من أزهد الأعمال وأقلها قدراً، لا يقيمون لها وزناً في حساب أعمالهم، ولا يبذلون لها وقتاً من ساعات أعمالهم، فأي دين لهؤلاء، الذين يدعون الصلاة مع يسر أعمالها، وكثرة ثوابها، وعظم مصالحها ومنافعها، على القلب والبدن والفرد والجماعة؟!
أي دين لمن يتخلف عن أداء الصلاة مع الجماعة بدون عذر شرعي؟!
ولقد عظمت المصيبة، وعمت البلوى في هذا الزمان، من تساهل كثير من الناس في شأن الصلاة مع الجماعة، وصدق فيهم قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} [مريم:59] حتى فتن أكثرهم- والعياذ بالله- بدنياه وأمواله وبيعه وشرائه، وبعضهم بشبابه وصحته، وبعضهم بمكانته وجاهه، حتى أتى بهم ذلك إلى التكبر على فرائض الله، وإلى التحدي لشعائر الله جل وعلا.(1/5)
المناصحة لتاركي الصلاة
فليتق الله أولئك الناس! فإن الحياة قصيرة المدى، والموت يأتي بغتة، ثم يحاسبون على أعمالهم، وأول ما يحاسب عليه العبد من عمله الصلاة، فإن صلحت؛ فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت؛ فقد خاب وخسر عياذاً بالله!
ولو أن المسلمين المصلين قاموا بواجبهم بالدعوة إلى الله، ومعاملة أولئك المفتونين عن الصلاة معاملة تشعرهم بفساد أعمالهم وخطورة أمرهم، فلم يصاحبوهم، ولم يجالسوهم، ولم يحادثوهم، ولم يتعاملوا معهم في بيع وشراء، ما داموا مصرين على ترك الصلاة؛ لتغير الحال وتحسن الواقع، ولكن الله المستعان! أصبحت عامة موالات الناس لأجل الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً، وإنه واجب المسلمين أن يقيموا هذه الفريضة على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يخضعوها لأهواء الناس، ولا لآرائهم.
فإن المؤمن يؤديها وهو فرح مستبشر مسرور، والمنافق يتثاقلها، ولا يتحملها، ويود الخلاص منها، ويجب رعاية طهارتها وأركانها وواجباتها، وخشوعها والطمأنينة فيها، كما يتأكد إقامتها في أوقاتها، وترك كل ما يمنع ذلك، وإذا تخلل وقت الصلاة وظيفةٌ، أو دراسةٌ، أو أي عمل من الأعمال؛ فيجب إقامتها في وقتها مع الجماعة، ولا يجوز تأخيرها عن وقتها.
كما ينبغي أن يدرس بحزم موضوع تاركي الصلاة، المجاهرين بتركها المصرين على ذلك، وذلك بدعوتهم، ومناصحتهم، والإكثار من إرشادهم، فإن لم يجدِ، فتجب مقاطعتهم، وتنفيذ حكم الله فيهم، فترك الصلاة أشد من الوقوع في الزنا، أو السرقة، أو نحوها.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفوراً.(1/6)
عظم قدر الصلاة دليل على عظم قدر الدين عند المسلم
الحمد لله الذي جعل الصلاة عماد الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى، واعلموا أن حظكم من الإسلام على قدر حظكم من الصلاة، فاحذروا أن تلقوا الله عز وجل، ولا قدر للإسلام عندكم، فإن قدر الإسلام في قلب العبد كقدر الصلاة في قلبه، والحديث عن الصلاة يا إخوة الإسلام! يحتاج إلى أوقات كثيرة، ومناسبات متعددة، لعظم مكانتها في الإسلام، ولحاجة الناس اليوم من جراء تساهلهم وجهلهم بأدائها على الوجه الشرعي والنهج النبوي.
نسأل الله أن يعين ويوفق للتنبيه عليها مستقبلاً، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على أفضل البرية وأفضل البشرية نبينا محمد، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاية المسلمين فيمن يخافك ويتقيك ويتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(1/7)
الصلاة ومكانتها وحكم تاركها [2]
إن الله جل وعلا أنزل هذا الدين، وجعل له أعمدة وأركانا، وإن من أعمدة الإسلام الصلاة التي هي الفيصل بين الإسلام والكفر، ولذا فإن الشيخ في هذه المادة قد بين حكم تارك الصلاة، وحكم إقامتها مع الجماعة، ومكانتها في الإسلام.(2/1)
مكانة الصلاة في الإسلام
أحمد الله جل وعلا، وأستعينه وأستهديه وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلا، وأشهد أن نبينا محمداً عبده المصطفى، ورسوله المجتبى، بعثه بالدين الحق والهدى، ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أهل الفضل والتقى، ومن سار على نهجه.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله كما أمركم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
إخوة الإيمان في كل مكان: إن تقدم الأمم ونهوضها وسلامتها مما يعوق مسيرتها في طريق الرقي والحضارة، يكمن في تمسك أهلها بمبادئها ومثلها، والتزامهم بمناهجها ونظمها وآدابها، فإذا تخلت عن مقومات حضارتها وعوامل نهضتها، وتركت مبادئ أصالتها وقيم عراقتها، فإنها تتخلى بالتالي عن مقومات الأمن والسعادة، وعوامل النصر والقوة والكرامة، لتغرق في طوفان الفتن والمحن، وتعصف بها أمواج الحوادث والكوارث، وتعمها البلايا والمصائب، والأمة الإسلامية التي من الله عليها بالإسلام، عقيدةً وشريعةً وأخلاقاً ومنهاجاً، للحياة بأسرها حين تفرط في أمر هذا الدين، وتقصر في أداء شعائره، فإنها تتخلى بذلك عن ضمانات عزها وقوتها ومقومات نصرها وكرامتها؛ لتصبح أمةً ذليلةً مستضعفةً، لا يهدأ لها بال، ولا يقر لها قرار، عقوبة من الله جل جلاله لمن أعرض عن ذكره، وتخلى عن أمره، وتكبر على دينه وشرعه، وحينما يستقرئ المرء نصوص الشريعة، ويجيل نظره فيها، يدرك بجلاء حقيقة هذا الأمر وواقعيته.
وعوداً على بدء ثابت نضرب لذلك مثلاً في شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، وفريضة من أجل فرائضه ألا وهي الصلاة التي بلغ من رعاية الإسلام لها واهتمامه بها أن الله فرضها على رسوله صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء من فوق سبع سماوات، وكانت خاتمة وصيته صلى الله عليه وسلم عند آخر عهده من الدنيا.
روى الإمام أحمد وأبو داود عن أنس رضي الله عنه، قال: {كانت عامة وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حضرته الوفاة، وهو يغرغر بنفسه: الصلاة وما ملكت أيمانكم} كما بلغ من مكانتها وعظم شأنها أن من تركها مستخفاً بها، جاحداً لفرضيتها، فإنه كافرٌ بإجماع المسلمين.
ومن تركها بالكلية تهاوناً وكسلاً، فإنه كافرٌ على الصحيح من أقوال العلماء التي تعضده الأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق إيرادها والإشارة إليها، ومع هذه المكانة العالية، والقمة السامقة لشأن الصلاة في الإسلام، التي تمثل مكانة الرأس من الجسد، فكما أنه لا حياة لمن لا رأس له، فكذلك لا دين لمن لا صلاة له، مع هذا كله وغيره مما تهتز له القلوب، وترجف له الأفئدة، وترتعد منه الفرائض نجد تقصيراً كبيراً، وتساهلاً عريضاً في شأن الصلاة من كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام.
وإن الناظر في واقع كثير من المسلمين، يرى الصلاة قد خف قدرها، وطاش ميزانها لدى كثير من الناس، بل إن المتأمل ليرجع مجروح الفؤاد حزين النفس حينما يرى ألا اهتمام بها في بعض بقاع المسلمين، وفي أماكنهم العامة إلا من قلة قليلة، وكأن الأمر طبيعي لا غضاضة فيه.
بل وصل الحال ببعضهم أن تأخذ منه الدهشة كل مأخذ حينما يسمع هذه المكانة العالية، وهذا الترهيب المرعب لتارك الصلاة، وما ذلك إلا نتيجة عدم العناية بشعائر الإسلام، والجهل بالدين، وانشغال المسلمين عن دينهم لما غزيت به مجتمعات المسلمين مما يصد عن تعاليم الدين الحنيف.
يا أمة الإسلام! أليس من العجيب أن تضيع أعظم فرائض الإسلام من أبناء الإسلام في بلاد الإسلام؟!
وكيف يرجى لأمة أن تحقق آمالها وتعالج آلامها، وتصلح حالها، وتهزم أعداءها، وقد فرط أهلها في أعظم مقومات النصر، وهو دينها وعقيدتها؟(2/2)
وجوب إقامة الصلاة جماعة
أمة الإسلام: وحينما يؤكد شأن الصلاة، فإنما يؤكد على إقامتها مع الجماعة في بيوت الله التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وقد مرت الأدلة على وجوب الصلاة جماعة، حتى إن بعض أهل العلم جعل الجماعة شرطاً لقبول الصلاة وصحتها حيث لا تصح صلاة من صلى منفرداً من غير عذر شرعي.
يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: [[ما بال أقوام يتخلفون عن الصلاة، فيتخلف لتخلفهم آخرون، وأن يحضروا الصلاة مع الجماعة، أو لأبعثن عليهم من يجافي رقابهم]].
وإن مما يندى له الجبين إعراض فئامٍ من المسلمين عن الصلاة في المساجد مع الجماعة، فتركوا بذلك الأجر العظيم، والمنافع الجمة، وعرّضوا أنفسهم للوعيد الشديد، فيما آثروا الحياة الدنيا واطمأنوا بها، ونبذوا أوامر الله ورسوله وراء ظهورهم، حين هجروا المساجد وفتنوا بالملاهي والملاعب، والمراكب والمكاتب والمراتب، حتى إن بيوت الله عز وجل لتشكوا إلى ربها هجر العباد لها، حتى أصبحت لا تعرف عند بعض الجهلة إلا في الجمع والأعياد، وفي ذلك خطر عظيم، ومن مؤشرات عظم الخطر، ومظاهر اللامبالاة بأوامر الله ورسله تخلف كثير من الناس عن الصلاة، لا سيما في الأوقات التي يتخللها نوم، أو تتخللها أعمال، وتلك وصمة عار للمسلمين، واتصاف بصفات المنافقين الذين قال الله عنهم: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142].
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر، ولو يعلمون ما فيهما، لأتوهما ولو حبواً} ويقول ابن عمر رضي الله عنهما: [[كنا إذا فقدنا الرجل في الفجر والعشاء، أسأنا به الظن أن يكون قد نافق]].
ألا فليعلم ذلك صرعى الشهوات وصرعى السهرات إلى ساعات متأخرة من الليل، على أسوأ بضاعة، وأَنْزل عُدَّة نظراً واستماعاً، حديثاً واطلاعاً، وليعلم ذلك من تتثاقل رءوسهم عن أداء الصلوات المكتوبات من غير عذر شرعي، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وتاب عليَّ وعليكم إنه هو التواب الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(2/3)
مراتب الناس تجاه الصلاة
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، فلا تسقط على العبد ما دام عقله معه، وما دامت روحه في جسده، والناس فيها على مراتب: فمنهم الظالم لنفسه، ومنهم المقتصد، ومنهم السابق بالخيرات بإذن الله، فانظر نفسك يا عبد الله! من أي المراتب أنت.
وأنتم يا إخوة الإسلام في هذا البلد الحرام! اشكروا الله عز وجل أن جعلكم في جوار بيته الحرام أفضل البقاع وأقدس الأماكن، خُصت بمضاعفة الصلاة، وسائر الأعمال الصالحة، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، أي: إن الصلاة الواحدة في هذه البقعة المباركة، تعدل عمر خمس وخمسين سنة وأكثر، فيا له من فضل عظيم لمن وفق لإقامة الصلاة على وجهها الشرعي، واحذروا التقصير والتساهل فيها، فإن ذلك أشد من غيره في البقاع الأخرى، ولا يزال للحديث شجون.
أسأل الله عز وجل أن يوفق لإكمالها، وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا وإمامنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين يا رب العالمين!
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، ووفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك يا رب العالمين، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة يا أكرم الأكرمين!
اللهم وفق المسلمين قاطبة في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما تحبه وترضاه، اللهم منَّ عليهم بصلاح أحوالهم، اللهم منَّ عليهم بصلاح قادتهم، وعلمائهم، وشبابهم، ونسائهم يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا هي السفلى.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(2/4)
شهر رمضان
إن الله سبحانه وتعالى ميز شهر رمضان بأن شرع فيه الصيام، وحث على اغتنام أوقاته بالذكر والطاعات؛ فإن الأجور فيه تضاعف، وذلك لما في هذه العبادة من الإخلاص.
وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على اغتنام هذه الفرصة العظيمة وخاصة في العشر الأواخر منه.(3/1)
الحث على اغتنام رمضان في الطاعات
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، امتنَّ على عباده المؤمنين فهداهم للإسلام، وأتاح لهم أوقات الفضائل ومواسم العبادة ليتزودوا من الأعمال الصالحة، ويتوبوا إلى ربهم من الأعمال السيئة.
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، الذي ضرب أروع الأمثلة في اغتنام مواسم الفضائل، والحث على اغتنامها، والتحذير من إضاعتها، نصحاً للأمة وحرصاً على جلب الخير لها، ودفع الشر عنها، فقد كان عليه الصلاة والسلام أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الذي تمسكوا بهديه، ومن سار على نهجهم، واهتدى بهديهم، واقتفى آثارهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون في بيت الله الحرام! أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، واغتنام أوقات هذا الشهر المبارك بالأعمال الصالحة، من تلاوة كتاب الله الكريم، الذي أنزل في هذا الشهر العظيم، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
ومن ذكر الله عز وجل وتسبيحه، ودعائه واستغفاره، والتوبة إليه، والإنفاق في سبيله، والصدقة على المحتاجين وغير ذلك، فإن شهركم هذا شهرٌ عظيم، تضاعف فيه الحسنات، وترفع فيه الدرجات، وتفتح فيه أبواب الجنات، وتقال فيه العثرات، وتغفر الخطيئات، وتستر الزلات، ولتحذروا -يا عباد الله- من المعاصي، فإنها تقلل أو تقضي على ثواب الصائمين.(3/2)
الحكمة من مشروعية الصيام
أيها المسلمون: إن الله عز وجل، لم يشرع صيام رمضان لحاجته إليه، كلا.
فهو تعالى الغني عما سواه، ولكن شرعه لصالحكم أيها المسلمون! شرعه تربيةً للأجسام وترويضاً لها على الصبر وتحمل الآلام، شرعه تقويماً للأخلاق وتهذيباً للنفوس، وتعويداً لها على ترك الشهوات، والبعد عن المنهيات، شرعه ليعلمنا تنظيم معايشنا، وتوحيد أمورنا، ولتشيع روح التعاون والمساواة والعطف بين المسلمين، فالصوم وسيلةٌ عظمى لتقواه تعالى، وتقواه جماع لخير الدنيا والآخرة، وقد أودع الله فيه من الأسرار والحكم والمصالح الدنيوية والأخروية ما هو فوق تصورات البشر، ورتب عليه تعالى من جزيل الثواب، وعظيم الجزاء، ما لو تصوره الناس، لتمنوا أن تكون السنة كلها رمضان، يقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه: {كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، والحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف}.
أيها المسلمون: اتقوا الله، وأدوا فريضة الصيام بإخلاصٍ ورغبة، وصبرٍ وطواعية، فالصوم الحقيقي -يا عباد الله- ليس مجرد الإمساك عن الأكل والشرب والجماع فحسب، ولكنه مع ذلك إمساكٌ وكفٌ عن اللغو والرفث، والغيبة والنميمة، والقيل والقال، والكذب والسباب، إمساكٌ وكفٌ عما لا يحل سماعه، من لهوٍ ولغوٍ وغيرهما، إمساكٌ عن إرسال النظر إلى ما لا يحل، فالصائم حقيقة من خاف الله في عينيه، فلم ينظر بهما نظرةً محرمة، واتقاه تعالى في لسانه، فكفه عن الكذب والشتم والغيبة وكل قولٍ محرم، وخشيه في أذنه، فلم يسمع بها منكراً، وخشيه في يديه، فمنعهما من السرقة والغش والإيذاء، وخشيه في رجليه، فلم يمشِ بهما ليرتكب منكراً، وخشيه في قلبه فطهره من الحقد والحسد والغل والبغضاء.
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: [[إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، وليكن عليك سكينةٌ ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء]].
وقال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري رحمه الله، عن أبي هريرة رضي الله عنه: {من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} ولتحذر المرأة المسلمة الصائمة من التبرج والسفور، وإظهار الزينة والتجول في الأسواق؛ فإن ذلك مما يسبب نقصان أجرها، بل مما يزيد في إثمها، والعياذ بالله!(3/3)
أقسام الناس في الصيام
أيها المسلمون: إن الناس اليوم منقسمون في الصيام إلى أصنافٍ متعددة، فمنهم من رعى لهذا الشهر حرمته، فصامه وحفظ صيامه، وداوم على القيام والعمل الصالح، فهنيئاً له رحمة الله، ومغفرته وعتقه من النار، ومنهم من لم يرع لهذا الشهر حرمته ولم يقدره قدره، فجعل من نهاره نوماً وكسلاً وخمولاً وبطالة، وجعل من ليله تفنناً في المآكل والمشارب، وسهراً على ما حرم الله من اللهو وغيره، فهذا يخشى عليه أن يحرم رحمة الله ومغفرته، ومن حرمهما في هذا الشهر، فقد حرم الخير كله.
فاتقوا الله عباد الله! واجعلوا من هذا الشهر شهر جد ٍوعمل وانتصارٍ على النفس والشيطان وسائر الأعداء، فلقد سطر التاريخ الإسلامي انتصارات المسلمين على أعدائهم بأنصع الصفحات في هذا الشهر المبارك، في غزوة بدر الكبرى، وفتح مكة، وحطين وغيرها من معارك الإسلام الفاصلة.
وإننا لنرجو أن يأتي اليوم الذي ينتصر فيه المؤمنون على أعدائهم من اليهود وغيرهم، وأن يعيدوا للوطن الإسلامي أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين المسجد الأقصى المبارك: {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20].
اللهم تب علينا أجمعين، وبارك لنا في القرآن العظيم وبهدي سيدي المرسلين، واجعلنا من المقبولين في هذا الشهر الكريم يا رب العالمين!
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(3/4)
فضل العشر الأواخر من رمضان
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده له لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عز وجل {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشرع الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلاله، وكل ضلالة في النار.
عباد الله: تقربوا إلى الله عز وجل بالعمل الصالح فيما بقي من أيام وليالي هذا الشهر الكريم، فها هو شهركم قد مضى نصفه وكثيرٌ من الناس مُكِبٌّ على شهواته وغفلاته، فليحاسب كلٌ منا نفسه، ماذا قدم من عملٍ صالح؛ فيستمر عليه، وماذا فرط فيما مضى، فيتدارك ما بقي من أيام وليالي في هذا الشهر المبارك.
ومن يدري أيتم هذا الشهر أم يكون من عداد الموتى؟ وتعرضوا -رحمكم الله- لمواطن مغفرة الله عز وجل، فإنكم في عشر المغفرة كما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم، واعلموا أنكم تستقبلون عما قريب العشر الأواخر من هذا الشهر العظيم، عشر العتق من النيران، فاستعدوا لها بالعمل الصالح، أسوةً بنبيكم صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها: {أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العشر الأواخر مالا يجتهد في غيرها} وفي الصحيحين عنها رضي الله عنها قالت: {كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظَ أهله}.
فاستعدوا يا عباد الله! فإن من اغتنم هذه الأوقات قبل فواتها لعله يحظى بمغفرة الرحمن، والعتق من النيران، والشقي من استمر في غيه وجهله، وضلاله؛ فضيع الأوقات واتبع الشهوات، فيندم حيث لا ينفع الندم.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبينا محمد، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلى الله عليه وسلم: في الحديث الصحيح في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك وكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك، واتبع رضاك يا رب العالمين!
اللهم وفق قادة المسلمين لما تحب وترضى، اللهم وفقهم لتطبيق الشريعة يا أرحم الراحمين!
اللهم احفظ إمامنا بحفظك، واكلأه بعنايتك ورعايتك، وارزقه التسديد والتوفيق لما تحب وترضى، يا رب العالمين!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اهدِ المسلمين سبل السلام، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأصلح قادتهم وعلماءهم وشبابهم ونساءهم يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
اللهم اجعلنا من المقبولين، اللهم اجعلنا من المقبولين ولا تردنا خائبين، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(3/5)
عاقبة المكذبين
أول واجب على الإنسان أن يعرف ربه، وأن يتعظ بما يسمع من أخبار الأولين، وبما يرى من مصائب الآخرين، وقد جرت سنة الله عبر الأزمنة والعصور بفتح بركات السماء والأرض على المؤمنين، وإنزال المحن والبأس على المعرضين.
فأي الفريقين أذكى؟ وأيهما معيشته ضنكى؟ وأيهما عاقبته أنكى؟
هذا بيان ذلك وتفصيله، وتوضيح الموضوع وتأصيله.(4/1)
عاقبة الإعراض عن الحق
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه ونستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجهم، وسلك سبيلهم إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وراقبوه، وتمسكوا بدينه ولا تعصوه، وقد تكفل الله عز وجل لمن تمسك بدينه أن يسعد في الدارين، كما وعد من أعرض عن صراطه المستقيم، وحاد عن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم بالعذاب والشقاء في العاجل والآجل، وتلك سنة الله في المؤمنين، وسنته في المعرضين، قديماً وحديثاً ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
ولن يضيع -يا عباد الله- من أخذ العبرة بما يقرأ ويسمع ويرى، مما يجري من الحوادث والعقوبات في القرون الماضية، والأمم الحاضرة، فإن السعيد من وعظ بغيره، والشقي من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يعتبر بما حل ويحل بالأمم المكذبة، فأصر على ما هو فيه من فسادٍ وضلال، حتى يصيبه ما أصابهم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد:11].(4/2)
إعراض الأمم المكذبة
وفي كتاب الله تعالى من أخبار الأمم المكذبة، وما حل بهم من عذاب الله، ما فيه مزدجر وذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، وكل ما حصل لهم، إنما هو بسبب إعراضهم، وتكذيبهم لرُسل الله، واستمرارهم في ذنوبهم وطغيانهم، يقول تعالى مذكراً ومنذراً: {فَكُلّاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [العنكبوت:40].(4/3)
إعراض أهل هذا الزمان
أمة الإسلام: إن المتأمل في أحوال المسلمين، في هذا الزمن، يدرك أنهم في حالة خطرٍ شديد، إن لم يستدركوا أمورهم، ويصلحوا ما فسد من أحوالهم، فإننا لا نزال نسمع ما يجري حولنا في البلاد المجاورة، من العقوبات المتنوعة، كالزلال المدمرة، والأعاصير الشديدة، والفيضانات الغامرة، والحروب الطاحنة، والمجاعات الرهيبة، والأمراض الفتاكة، والخوف والشقاء، وانعدام الأمن على الأنفس والأموال والأعراض، وكل هذا يا عباد الله! بسبب ذنوب العباد، وابتعادهم عن دين الله، والتنكر له، والإعراض عن هديه، يقول عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ * أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف:69 - 99].(4/4)
أضرار الإعراض عموماً
قال الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: لما أعرض الناس عن تحكيم الكتاب والسنة، والمحاكمة إليهما، واعتقدوا عدم الاكتفاء بهما، عرض لهم من ذلك فسادٌ في فطرهم، وظلمةٌ في قلوبهم، وكدرٌ في أفهامهم، ومحق في عقولهم، وعمتهم هذه الأمور، وغلبت عليهم، حتى نشأ عليها الصغير، وهرم عليها الكبير، فلم يروها منكراً، فجاءت دولةٌ أخرى، قامت فيها البدع مقام السنن، والهوى مقام الرشد، والضلال مقام الهدى، والمنكر مقام المعروف، والجهل مقام العلم، والرياء مقام الإخلاص، والباطل مقام الحق، والكذب مقام الصدق، والمداهنة مقام النصيحة، والظلم مقام العدل، فصارت الغلبة لهذه الأمور، فإذا رأيت هذه الأمور قد أقبلت، وراياتها قد نصبت، فبطن الأرض والله خير من ظهرها، إلى أن قال رحمه الله: اقشعرت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر من ظلم الفجرة، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وهزلت الوحوش وتكدرت الحياة من فسق الظلمة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون والمعقبات إلى ربهم من كثرة الفواحش، وغلبة المنكرات والقبائح.
وهذا والله مؤذن بسيل عذابٍ قد انعقد غمامه، ومؤذنٌ بليل بلاءٍ قد ادلهم ظلامه، فاعتزلوا عن سلوك هذا السبيل بتوبةٍ نصوح، ما دامت التوبة ممكنة وبابها مفتوح: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
إخوة الإسلام: هذا ما وصفه ذلك الإمام العظيم، في القرن السابع، فما بالكم بأهل هذا القرن؟! الله المستعان! لا ريب أن الأمر أشدُ وأخطر، إذ أصبح الإسلام غريباً بين أهله، وقد اكتفى أكثر الناس من الإسلام باسمه، والانتساب إليه دون عملٍ بأحكامه، فعقائدهم وعباداتهم قد داخلها الشرك والخرافة والبدعة والضلالة، ومعاملاتهم استولى عليها الغش والظلم والخديعة، وأخلاقهم قد جردت عن الفضيلة، وغزتها الرذيلة، إلا من عصم الله، وأموالهم شابها التعامل المحرم؛ من الربا والرشوة والظلم والسرقة وغيرها، وأنظمتهم دنستها القوانين الوضعية، وشبابهم قد أغرق في اللهو بأنواعه، وضيع واجبه ورسالته في الحياة، ونساؤهم قد تخلين عن الحياء والعفة، والفضيلة والحشمة، وكُنَّ سبباً في إشعال نار الفتنة، بأعمالهن الفاضحة المخالفة للسنة، حتى عمّ الفساد في البلاد والعباد، وجاهر الناس بالمنكرات والمحرمات، وأضيعت الصلوات، واتبعت الشهوات، وضعف أهل الإيمان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فإلى متى الغفلة أيها المسلمون؟! إن هذا والله منذرٌ بخطرٍ عظيم، وبلاءٍ عاجل، إن لم نصحُ من غفلتنا، كما يتطلب هذا الوضع، يقظةً عامة، وصحوةً رشيدة، للقادة المسلمين، وعلمائهم، والدعاة إلى الله، ليصلحوا ما فسد من أحوالهم، قبل أن يحل بهم ما حل بغيرهم، فاعتبروا يا أولي الأبصار: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
أخرج البخاري ومسلم في صحيحيهما، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله تعالى يغار، وغيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما حرم الله عليه}.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم أصلح فساد قلوبنا، وتب علينا، ولا تؤاخذنا بذنوبنا، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(4/5)
إهلاك أهل الفساد سنة من سنن الله الكونية
الحمد لله غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب، ذي الطول لا إله إلا هو إليه المصير، أحمده وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعةٍ ضلالة.
إخوة الإسلام: إنه إذا انتشر الفساد، وظهر الإلحاد، وجاهر الناس بالذنوب، ولم يجدوا من يأخذ بأيديهم، حيث تخاذل الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فغيرُ عزيزٍ على الله سبحانه، وهو ذي العقاب الأليم، والبطش الشديد، أن يصيبهم بما أصاب من قبلهم، ومن حولهم من المكذبين: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} [الأنعام:65].
وقال تعالى في المكذبين محذراً من يفعل أفعالهم: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] وقال: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] وقال سبحانه: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83].
فاتقوا الله أيها المسلمون! وقوموا بما أوجب الله عليكم، وخذوا على أيدي سفهائكم، واشكروا نعمة الله عليكم بالعمل بشريعته، وأدوا الأمانة التي تحملتموها: {فكلكم راعٍ وكلكم مسئولٌ عن رعيته} كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أخرجه البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما، وكلٌ على حسب حاله ومسئوليته، وليس أحدٌ معذوراً أمام الله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [النحل:45 - 47].
واعلموا عباد الله! أن الله أمركم بالصلاة والسلام على رسوله، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر المسلمين في كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم آمنا في أوطاننا، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا لهداك، اللهم أيده بتأييدك، اللهم انصره بالإسلام يا رب العالمين، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم ارزقه البطانة الصالحة يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(4/6)
عظم شأن الصلاة وأهميتها
الصلاة عماد الدين، تكفر الذنوب، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، وذكر الله فيها أكبر، والمسافة بين المؤمن والكافر تزيد عن المسافة من الأرض إلى السماء، والحد الفاصل بينهما: الصلاة.
من فضل الصلاة، وأدائها جماعة، وصور التقصير فيها؛ يأتي حديث الشيخ في هذه المادة مع ذكر بعض الأمور التي تجبر نقص الصلاة، وتسد خللها، وبعض المحدثات والبدع.(5/1)
فضل الصلاة وآدابها
الحمد لله الكبير المتعال، نحمده تعالى على كل حال، وأعوذ به من أحوال أهل الزيغ والضلال، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادةً تنفع صاحبها في الحال المآل، أشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى سائر الصحابة والآل.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى، واشكروه على ما يسر لكم من الأحكام، وقد شرع الله لهذه الأمة من الشرائع أيسرها عملاً، وأسهلها فعلاً، وأعظمها ثواباً، وأعمها خيراً، ومن أجلِّ هذه الفرائض فريضة الصلاة؛ التي فرضت من فوق سبع سماوات، خمسين صلاة، ثم خففت فضلاً من الله ونعمة، وتيسيراً ورحمة، إلى خمس صلوات في اليوم والليلة، هي خمسٌ في العدد، وخمسون في الأجر، وقد بلغ من فضلها ما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، عن عثمان رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {ما من امرئ مسلم تحضره صلاةٌ مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب، ما لم تؤتَ كبيرة، وذلك الدهر كله}.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أرأيتم لو أن نهراً بباب أحدكم، يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا} هذا قليلٌ من كثير ما وعد الله عباده المؤمنين، المقيمي هذه الفريضة على وجهها الشرعي.(5/2)
حكم ترك الصلاة
أما الذين ركبوا رءوسهم وأعرضوا عن أمر الله ورسوله، وتركوا هذه الشعيرة، وفتنوا بزيف حضارة الكفار، فلا أفظع وأعظم من خروجهم من دائرة الإسلام، لما روى الإمام مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بين الرجل وبين الشرك والكفر ترك الصلاة} ولما روى الإمام أحمد وأهل السنن عن بريدة رضي الله عنه قال: {سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} فهل يرضى عاقلٌ أن يورد نفسه موارد الكافرين، هل يريد أحدٌ أن يكون مصيره، غياً وويلاً وسقراً، ثم هل تعلمون يا إخوة الإسلام! ماذا يترتب على كفر تارك الصلاة، في الحياة وبعد الممات؟ أما في الحياة فلا يصاحب ولا يساكن، ولا يزوج المسلمة، وإذا مات تاركاً لها، فلا يغسل ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرثه أقاربه المسلمون، بل يعامل معاملة المرتدين عياذاً بالله!(5/3)
أهمية الجماعة
أما الذين يصلونها، ولكن لا يحضرون الجماعة، إما تهاوناً وكسلاً، وإما ترخصاً وبحثاً عن المعاذير، فهؤلاء على خطرٍ عظيم، وقد عرضوا أنفسهم لوعيد الله ورسوله، وحرموها من المنافع الجمة، والمصالح العظيمة التي قصد الشارع إليها، وتركوا الثواب والأجر الكبير، الذي رُتب عليها.(5/4)
صور من التقصير في الصلاة
إخوة الإسلام: إن الصلاة مبنيةٌ على الطهارة الشرعية، فلا صلاة إلا بها، وقد ذكرها الله سبحانه، في آيتي النساء والمائدة، وبينها قولاً وفعلاً رسولنا صلى الله عليه وسلم، وعليه فيعلم أن ما يفعله بعض الناس، من العوام الجهلة، من التساهل في الوضوء والغسل، أو التيمم مع وجود الماء، وإمكان البحث عنه، منافٍ للشرع، وصاحبه معرض نفسه للإثم والرد.
ولما استحكم ضعف الإيمان في نفوس كثيرٍ من الناس، وملأ حب الدنيا والتنافس فيها قلوبهم، وتباعدوا عن آثار النبوة، وقلت رغبتهم في الدار الآخرة، أصبحوا يؤدون هذه الصلاة على غير وجهها الشرعي، حتى ابتلي كثيرٌ منهم، بهدم بعض أركانها كالطمأنينة مثلاً، وأصبح يحاكي الريح في سرعته والغراب في نقره.
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسيء في صلاته بعدم الطمأنينة بإعادة الصلاة وقال له: {ارجع فصلَّ فإنك لم تصل ثلاثاً} فهل يحب مسلم أن يتعب نفسه ويجهد بدنه، ويرجع بالخسارة والإثم.
وهناك أمرٌ من الصلاة، وروحها ولبها، وقد عزّ على كثيرٍ من المصلين، لطول الأمد وقسوة القلوب، واستحكام الدنيا في النفوس، وأصبح كثيرٌ من المصلين، لا ترى آثار الصلاة عليه، وربما يتساءل، ألم يقل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، ونحن نصلي ولكن لا يتورع كثيرٌ من المصلين على ارتكاب المحرمات، ومواقعة الفواحش، والتساهل في الواجبات، ولا ريب أن ذلك من عدم أداء الصلاة، كما شرع الله، وسمى رسوله صلى الله عليه وسلم، ومن أداء الصلاة جسداً بلا روح، أو على أنها عادةٌ يفعلها الناس، ولو صلى المصلون الصلاة الشرعية، وأقاموها على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستحضروا الخشوع والرهبة، لنفعت وأثرت وعملت عملها في قلوب الناس، ومجتمعاتهم، وصارت أكبر عونٍ على أمور الدنيا والدين، والله عز وجل يقول: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
ولتسببت في انحسار كثيرٍ من المنكرات والمحرمات، والله عز وجل قد رتب الفلاح للمؤمنين، وجعل أول صفاتهم الخشوع في الصلاة، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].
وحدِّث اليوم ولا حرج عن خشوع المصلين الذين جعلوا الصلاة محلاً للهواجس والخواطر، ومرتعاً للأفكار والوساوس، ولا مخلص من ذلك، إلا شدة الإقبال على الله، وصدق اللجوء إليه، وإحضار القلب، والتخلص من مشاغل الدنيا، والاستعانة بالله، والاستعاذة به من الشيطان الرجيم، من همزه ونخفه ونفثه.(5/5)
أهم ضوابط صلاة الجماعة
إخوة الإسلام: يا منْ منَّ الله عليكم بأداء الصلاة مع الجماعة! اعلموا أن لصلاة الجماعة ضوابط وقواعد، أهمها الاقتداء التام بالإمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم، في الحديث المتفق عليه، عن أنس رضي الله عنه: {إنما جعل الإمام ليؤتم به} فلا تجوز مسابقته في خفضٍ ولا رفع، ولا تكبير، ولا ركوع ولا سجودٍ ولا تسليم، وفاعل ذلك متعرضٌ لبطلان صلاته، وأي شيءٍ يجنيه من عَمَله هذا سوى إرضاء الشيطان واتباع وساوسه.
ومنها: العناية بتسوية الصفوف وإقامتها، فإن تسويتها من تمام الصلاة وإقامتها، كما صح بذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاتقوا الله يا أمة الإسلام في عمود دينكم، أقيموه على الوجه الشرعي، من غير غلوٍ ولا زيادة، ومن غير تقصير ولا تفريط، وإياكم والتساهل في أدائه، والتقصير في أداء السنة فيه، والتشديد فيما فيه سعة ومندوحة، وقوموا بما أوجب الله عليكم، تجاه من تحت أيديكم، من الأهل والأبناء والبنات، وإنهم أمانةٌ في أعناقكم، وألزموهم بأدائها، وتابعوهم وتفقدوهم عندها، امتثالاً لأمر الله بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6] واقتداءً بأمر الله، والصالحين من عباد الله، يقول تعالى عن إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40].
وعن إسماعيل: {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} [مريم:55] وأمر محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132].
أمة الإسلام: نداءٌ من هذا المكان المبارك، إلى المسلمين في كل مكان، بأن يتقوا الله في إسلامهم، ويقيموا عموده وهو الصلاة، فلا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة، ونداءٌ للقابعين في بيوتهم، المتشبهين بنسائهم، الذين لا يحضرون الصلاة مع الجماعة، أن يتقوا الله عز وجل، وأن يحذروا فتنة الدنيا ويتذكروا مصيرهم وحساب ربهم لهم.
ولن تقف الأمة أمام أعدائها صفاً واحداً إلا إذا وقفت أمام ربها في صفوف صلاتها، ودعوة إلى المسلمين المصلين، أن يقيموا الصلاة على وجهها الشرعي، بتمام الطهارة والخشوع والطمأنينة، وسائر الأركان والواجبات والمستحبات، عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وهمسة ساخنة في أذن كل مغترٍ بنفسه، مضيعٍ لفرضه، لا سيما من الشباب والشابات، أن يتقوا الله عز وجل، ويؤدوا هذه الفريضة، فالآجال محدودة، والأنفاس معدودة، اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حسابٌ ولا عمل.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.(5/6)
أمور مكملة للصلاة وجابرة لنقصها
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، رسول رب العالمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن للصلاة مكملات ومتممات، تسد خللها، وتجبر نقصها، ومن ذلك المحافظة على السنن الرواتب {فمن حافظ عليها، بنى الله له بيتاً في الجنة} كما أخرجه الإمام مسلم عن أم حبيبة رضي الله عنها.
ومنها المحافظة على النوافل وقيام الليل والوتر، ومنها الأذكار الشرعية بعد الصلاة، فقد ثبت في السنة عظم أجر قائلها، ومنها الاستغفار والتهليل، والتسبيح والتكبير والتحميد، على الطريقة الشرعية، كماً وكيفاً، وقد ورد عند مسلم وغيره أن: {من قالها دبر كل صلاة غفرت خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر}.
واحذروا ما أحدثه الناس في الصلاة، من البدع التي ما أنزل الله بها من سلطان، كالجهر بالنية مثلاً، وإن ذلك بدعةٌ لا أصل له، ومنها الأذكار الجماعية بعد الصلاة، فهذا خلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومما لا يفوت أن المرأة المسلمة إذا صلت في مساجد الله، فيجب عليها أن تلتزم الحجاب الشرعي في وجهها وكفيها، وتحذر كل الحذر من التبرج بالزينة وإبدائها، ومزاحمة الرجال، والتطيب ولباس الملابس المريبة، فترجع مأزورة غير مأجورة والعياذ بالله!
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبينا محمد، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم أمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم هداة مهتدين، صالحين مصلحين يا رب العالمين!
اللهم إنا نلجأ إليك في هذا المكان المبارك، وفي هذه الساعة المباركة، أن تجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم اجعلهم يداً واحدة على أعدائك يا رب العالمين!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(5/7)
فضل العلم والتعلم
إن العلم الشرعي من أهم العلوم التي يجب تعلمها في هذا الزمان، وذلك لانتشار الجهل بين أوساط المسلمين، والعلم إذا صلحت النية فيه أصبح طريقاً إلى الجنة، وأما إذا فسدت النية فسيكون صاحبه من أول من تسعر بهم النار يوم القيامة.(6/1)
العلم نور والجهل ظلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له.
ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، رفع شأن العلم وأعلى قدر أهله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أشرف الأنبياء والمرسلين، وأفضل العلماء العاملين، صلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، الذين كانوا بعلمهم، وعملهم مناراً للسالكين، وقدوة للعاملين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى؛ فتقوى الله سبحانه وتعالى سببٌ موصلٌ للعلم الذي هو سلم النجاة بإذن الله {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ} البقرة:282].
عباد الله! إنه مما لا شك فيه؛ أن العلم شرفٌ ونورٌ وفضيلة، وأن الجهل شرٌ وبلاءٌ ورذيلة، وأن العلم النافع مصدر الفضائل وينبوعها، وأن الجهل مكمن الرذائل وموردها، وأنه بالعلم النافع يتحقق للأفراد والمجتمعات بناء الأمجاد وتشييد الحضارات، كما أنه بالجهل تتزعزع الأركان، ويتصدع عامر البنيان، ويحل الدمار ببني الإنسان.(6/2)
حث الإسلام على العلم
لذلك كله! ولما للعلم من شرف المكانة وعظيم المنزلة، جاء ديننا الإسلامي الحنيف بالحث على العلم والترغيب فيه، والتشجيع على سلوك سبيله، وأن سلوك سبيل العلم النافع طريقٌ إلى دخول الجنة بإذن الله.
فقد روى الإمام مسلم في صحيحه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} كما كانت القراءة أول صيحة مجلجلة، أطلقها الإسلام تنويهاً بقيمة العلم وسمواً بقدره، وتكويناً لقاعدة البناء المعنوي في الأمة، وتشييداً لصرح حضارتها، وسر ازدهارها، ونمو كيانها، ألا وهو العلم؛ العلم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والعلم بكل ما تحتاجه الأمة الإسلامية في مسيرتها، لتواكب بحضارتها عصرها الذي تعيشه، مع تمسكها بأصول عقيدتها، وتعاليم دينها.
أمة الإسلام: كم في كتاب الله من الآيات الكريمة في هذا الموضوع المهم؟! ألم تقرءوا قوله سبحانه: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19]، وقوله جل وعلا: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114]، وقوله سبحانه: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28]، وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُون} [الزمر:9] وقوله جل وعلا: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11]
كذلكم كان رسولكم صلى الله عليه وسلم وهو المعلم الأول، قدوةً حسنة في هذا المجال، فجاء في سنته القوية والعملية ما يبين المقام الأسمى في هذا الأمر العظيم.(6/3)
حرص السلف على العلم
أما سلفنا الصالح رحمهم الله، فقد سطَّروا أنصع الصفحات، وضربوا أروع الأمثلة في الحرص على العلم، وقطعوا الفيافي والقفار للرحلة في طلبه، حتى خلف ذلك الجهد حضارةً علمية متنوعة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، وحتى تبوأت المكتبة الإسلامية في شتَّى العلوم والفنون أوجَ مكانتها، وما ذاك إلا لتوفيق الله سبحانه، ثم للإخلاص في طلب العلم، حيث لم تدنسه الأطماع الدنيوية، والمطامح المادية، ثم للمنهج السليم والجد والمثابرة، مما يتطلب من طلاب العلم اليوم التأسي والاقتداء.(6/4)
عظم الجهل بدين الله
أمة العلم والإيمان! إن أعظم بلية بُلي بها كثيرٌ من المسلمين اليوم: الجهل بدين الله، فهو سبب كل مشكلة، وطريق كل معضلة، صاحبه إذا عاش فهو غير معدود، وإذا مات فهو غير مفقود، وما عبد غير الله، وما تعبد كثيرٌ من الناس بغير شرع الله، من الطرائق والأهواء، إلا نتيجة الجهل بجوهر الإسلام وأصوله السامية.
وبالجملة؛ فكلُّ شرٍ وبلاءٍ وفسادٍ وداء، في عقيدة الأمة وعباداتها، وتصوراتها وأفكارها وسلوكها وأخلاقها، فالجهل مصدره، والعي مورده، ومن أحب نجاته فطريق العلم سلم الوصول لذلك بإذن الله.(6/5)
حاجة المسلمين إلى علم الدين والدنيا
وأول علمٍ نريده، العلم بكتاب الله حفظاً وتلاوةً وتفسيراً، وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم رواية ودرايةً وتطبيقاً، والعناية بالفقه في دين الله، في العقيدة والعبادات والمعاملات وسواها، ليكون المسلم على بصيرةٍ من أمره، كذلكم العلم بلغة القرآن الكريم، اللغة العربية الفصحى، التي زهد فيها كثيرٌ من الناس، وزاحموها بغيرها من اللغات، ولا تزال تلقى حرباً لا هوادةَ فيها، في أساليبها وتراكيبها، وشعرها ونثرها من بعض الحاقدين عليها، لكن الله حافظها ما حفظ دينه وكتابه.
هذا وإن المسلمين اليوم لفي أمس الحاجة إلى أن يتكون منهم أجيال ملمة بالعلوم المهمة التي يحتاجها المسلمون، كعلم الطب والهندسة والاقتصاد ونحوها، ليتسنَّى لهم خدمة دينهم والاستغناء عن غيرهم.
ومما يجدر التنويه بشأنه: ضرورة أن يتعلم طائفةٌ من المسلمين العلوم العسكرية والآلات الحربية، ليتمكنوا من مواكبة العصر الذي يعيشونه، وليتسنى لهم الدفاع عن مقدساتهم وحرماتهم وعقيدتهم، كما أنه ينبغي أن يكون من بين المسلمين من يُعنى بالعلوم المهنية، والأعمال الفنية؛ ليكمل المسلمون أنفسهم من كل علمٍ فيه نفعهم، وصلاح أحوالهم.
إن المهم في كل علمٍ إخلاص العمل فيه لله، وتسخيره لخدمة الدين والعقيدة، والدعوة إلى الإسلام من خلاله، فلعل أبناء المسلمين، الذين يستعدون هذه الأيام لبداية عامٍ دراسيٍ جديد، لعلهم أن يعوا هذه القضايا الهامة في هذه المهمة الجليلة.(6/6)
نداءات إلى كل من له صلة بالعلم
فيا أبناء الإسلام! ويا طلبة العلم! يا من شرفكم الله بالنهل من ميراث النبوة: اتقوا الله عز وجل في طلبكم، واعتنوا بالعلم الشرعي، واسلكوا منهجه الصحيح، واطلبوه من أهله الموثوقين.
وأنتم أيها المدرسون، يا من حملتم أمانة التعليم والتربية لفلاذة أكباد المسلمين! اتقوا الله فيهم، واعلموا أنكم مسئولون عنهم أمام الله، فكونوا خير قدوةٍ لهم، ومثلاً أعلى في الخلق والاستقامة، واعتنوا بتربيتهم تربيةً إسلامية صحيحة، فأنتم مربون قبل أن تكونوا ملقنين.
أما من منَّ الله عليهم بالعلم والمعرفة، من العلماء ورثة الأنبياء، فإن واجبهم عظيم في البلاغ والبيان، وتعليم المسلمين أمور دينهم وإعادة مكانة العلم، وإحياء حلق الذكر في المساجد ودور العلم، كي لا يقعوا تحت طائلة الكتمان المحرم.
ونداءٌ إلى من ائتمنوا على إعداد الخطط، ورسم مناهج التعليم لأبناء المسلمين وبناتهم أن يتقوا الله فيهم، ويشبعون نهمهم من العلوم الشرعية، ويجعلوا مناهجهم مبنية على الكتاب والسنة، ويبعد كل ما يتنافى مع ديننا ومبادئنا، لتتحول المدارس والمعاهد والجامعات إلى صروح خيرٍ وهدى، وميادين توجيهٍ وتربية.
ودعوة إلى أولياء أمور الطلبة والطالبات، أن يعوا دورهم الكبير في متابعة أبنائهم، وتفقد أحوالهم، وإيجاد العلاقة الوطيدة بين الأسرة والمدرسة، ليتم التعاون البنَّاء المثمر علماً وعملاً وتوجيهاً وتربية.
أيها المسلمون! هذه إشارات يسيرة في مهمة عظيمة، أرجو أن يكون طرحها بمناسبة بدأ العام الدراسي الجديد، حافزاً للهمم، في أن يعي كل واحدٍ منا دوره، ليتم لمجتمعاتنا المسلمة ما تصبو إليه من عزة ومنعة، ونصرةٍ ومجدٍ وقوة، والله نسأل أن يرزق الجميع العلم النافع والعمل الصالح، إنه جوادٌ كريم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(6/7)
الحث على طلب العلم والحذر من التعالم
الحمد لله الذي علَّم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم، وأشهد أن لا إله إلا الله الأعز الأكرم، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى السبيل الأقوم، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعرفوا للعلم قدره، واجتهدوا ما استطعتم في التفقه في دينكم، فمن يرد الله به خيراً يفقه في الدين، واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم، واعمروا أوقاتكم بالعلم النافع، فليس العلم محدوداً بسن، ولا معيناً بمرحلة، ولا منتهياً بنيل شهادة عالية، واعلموا أنكم في زمانٍ لا مخرج لكم من فتنه، إلا بالتسلح بالعلم النافع، وإذا كان العالم -بحمد الله وفضله- يشهد إقبالاً وصحوة، فينبغي أن يتوج هذا التوجه بالعلم النافع، ليرسي قواعده، ويربط مسالكه، ويعصمه من الانحراف بإذن الله.
كذلك يجب على من يقومون بالدعوة إلى الله، وأعمال الحسبة، أن يكونوا على علمٍ بما يدعون إليه، وطريقة الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حتى لا يحصل مجاوزةً للحكمة وحصولٌ للضرر الناتج من قلة البضاعة في العلم، هذا وإن من الظواهر الخطيرة في هذا المجال، ظاهرة التعالم، وادعاء كثير من الناس العلم وهم ليسوا كذلك، بل ليسوا من أنصاف المتعلمين، فيحصل عندهم من الجرأة على الله، وعلى رسوله، وإصدار الفتاوى والنيل من أهل العلم المعتبرين، ما يسبب خطراً كبيراً على المجتمعات، فاتقوا الله -عباد الله- وتعلموا ما ينفعكم، واتبعُوا العلم بالعمل، والدعوة إلى الله، كل ذلك بخطىً متوازنة، لا إفراط فيها ولا تفريط، وبذلك يحصل النفع العظيم، والخير العظيم بإذن الله.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على معلم الناس الخير، النبي المجتبى، والرسول المصطفى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، ودمَّر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، اللهم انصر به دينك، وأعلِ به كلمتك، وارزقه البطانة الصالحة، ووفقه وأعوانه وإخوانه إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح للمسلمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين المؤمنات، اللهم أصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش، ما ظهر منها وما بطن، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(6/8)
قضايا مهمة في حياة الأمة
الفرد المسلم لبنة في بناء هذا المجتمع، وتجب عليه واجبات عظيمة، وعليه القيام بمسئوليات جسيمة تجاه نفسه وتجاه مجتمعه، وتجاه إخوانه المسلمين، وتجاه أمته الإسلامية جميعاً.
في هذا الموضوع قضايا مهمة في حياة الفرد المسلم عليه أن يقوم بواجبه نحوها وأن يستشعر عظمتها.(7/1)
اللقاءات مشاعل على طريق التوجيه والإرشاد
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، وخيرته من خلقه وصفوته من رسله، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، أرسله الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فصلوات الله وسلامه عليه؛ ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلوات الله وسلامه عليه؛ ما تعاقب الليل والنهار، وصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأطهار وصحبه الأبرار، المهاجرون منهم والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة الأحبة في الله! إنها لفرصة مباركة ومناسبة سعيدة أن يمن الله علينا بهذا اللقاء الطيب المبارك بكم في رحاب هذا البيت المبارك من بيوت {أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ} [النور:36 - 37].
ألا ما أمتع هذه اللقاءات! وما أجمل هذه المناسبات؛ لأنها مناسبات تقوم على أساس التعاون على البر والتقوى، والتواصي بالحق والصبر عليه، تقوم على أساس غذاء القلوب، وتحقيق الخير لأنفسنا ولمجتمعنا ولأمتنا؛ لأننا جمعياً ندرك عظم المسئولية الملقاة على عواتقنا، وما هذه اللقاءات المباركة؛ إلا مشاعل على طريق التوجيه والإرشاد، بها تشحذ الهمم وتقوى العزائم، وبها يحس المسلم أن عليه واجباً عظيماً مع إخوانه المسلمين وتجاه إخوانه في الله في كل مكان؛ لأن الدين هو الذي يجمعنا، وآصرة الإسلام هي التي تربطنا قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقال سبحانه: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] وقال صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم؛ كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى}
وقال الشاعر:
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذبٌ تحدر من غمام واحد
أو يختلف نسب يؤلف بيننا دينٌ أقمناه مقام الوالد
فليست العبرة بالأنساب والأحساب، وليست العبرة بالروابط المادية والعلاقات القبلية وإنما القضية قضية إخوة إسلامية تجمع الناس؛ وإن تباعدت أقطارهم، ونأت ديارهم واختلفت أجناسهم قال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح:29] وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
ألا ما أحوج القلوب! وما أشد حاجة النفوس؛ إلى أن ترتوي بنمير هذه اللقاءات المباركة، وترتشف من معين هذه المناسبات والجلسات الإيمانية، بعد أن حاولت الحياة المادية أن تحول بين القلوب وبين ربها بذكر الله، وبطاعة الله، وبما يقرب إلى الله تبارك وتعالى.
وحقاً أيها الإخوة! إن القرائح لتتبارى، وإن المشاعر لتتجارى في هذا اللقاء الطيب المبارك، وما غمرني به أهل هذه المدينة المباركين، الذين حرصوا -وفقهم الله- على تكرار الدعوة المرة تلو المرة، فجزاهم الله خيراً على حسن ظنهم بأخيهم، وبارك الله جهودهم، وما ذلك إلا لأن في هذه المدينة رجالاً يحملون الخير لأنفسهم ولبلادهم ولمجتمعهم، يريدون أن يتحقق في هذه اللقاءات الخير والنفع والتعاون على البر والتقوى، وأن تتلاشى الفوارق، وأن تزول ما في النفوس من غل أو أحقاد أو حسد أو بغضاء، وأن تغسل الذنوب بماء التوبة المباركة، وماء المحاسبة للنفوس حتى يكون المسلم قائماً بدينه كما شرع الله عز وجل.
فشكر الله لمحافظ هذه المحافظة، ولأعيانها ولرجالها ولعلمائها ولدعاتها ولشبابها ولنسائها ولكل الحاضرين فيها ما غمروني به من حسن الاستقبال من الحفاوة والإكرام مما أراني لست بقمين له، ولا أرى إلا أني أقول لهم في الله: كبيرهم لي أبٌ، وصغيرهم لي ابنٌ، ومساويهم لي أخ؛ أحبه وأحرص على أن أصله وأزوره لأن العلاقة في الله ولله وبالله.
لست شاعراً وإنما المشاعر تفرض علي في هذا اللقاء الطيب المبارك، في هذا الجمع الذي أراه مد بصري، في هذا البيت من بيوت الله الذين اجتمعوا، وأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يتحقق فينا وفيهم قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم -وفي رواية- يذكرون الله عز وجل إلا نزلت عليهم السكينة وغشيتهم الرحمة وحفتهم الملائكة وذكرهم الله فيمن عنده} فنسأل الله ألا يحرمنا وإياكم هذا الثواب، ووالله إن خصلة من هذه الخصال العظيمة؛ لتعدل الدنيا وما فيها، ماذا نريد بعد أن تنزل السكينة؟ وماذا نريد بعد أن تغشانا الرحمة، وأن تحفنا الملائكة، وأن يذكرنا الله فيمن عنده، بعدما ساد القلق والاضطراب والاكتئاب كثيراً من أحوال المسلمين مع الأسف الشديد؟
سلام من المولى البر الرحيم على الفضلاء في روابي تميم
والتحايا معطرات بالشذا العميم لـ حوطة محاطة بالجود والتكريم
والدعوات ترى من الحرم العظيم لبلاد أنجبت رأس باز كريم
والشهم بن فواز فاز بالسبق الهميم وهكذا الكل في العزم والتصميم
وصلِّ إله العرش في التختيم على المصطفى الداعي إلى الدين القويم(7/2)
قضايا مهمة في حياة الفرد المسلم
أيها الإخوة! قضايانا المهمة على ضوء القرآن والسنة، قضايانا المهمة التي تحتاجها الأمة كثيرة جداً، الفرد المسلم لبنة في بناء هذا المجتمع، تجب عليه واجبات عظيمة، وعليه القيام بمسئوليات جسيمة تجاه نفسه وتجاه مجتمعه وتجاه إخوانه المسلمين وتجاه أمته الإسلامية جميعاً.
الفرد لا يعيش لنفسه، وإنما يعيش ليحمل دعوة، ويحمل هماً ويحمل رسالة وواجباً عظيماً، خلقه الله عز وجل من أجل تحقيقه، وأوجده في هذه الدنيا لكي يقوم به قال الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وقال جل وعلا: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] وقال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
أما والله لو علم الأنام لما خلقوا لما غفلوا وناموا
لقد خُلِقوا لأمر لو وعته عيون قلوبهم تاهوا وهاموا
أيها المسلمون! أيها الإخوة في الله! إن هناك عدداً من القضايا المهمة التي يجب على كل مسلم أن يقوم بها، وأن يحملها، وأن يستشعر عظمتها، وقيامه بالواجب تجاهها.(7/3)
قضية العقيدة والتوحيد
أهم هذه القضايا على الإطلاق وأعظمها باتفاق: قضية العقيدة، قضية التوحيد، إفراد الله للعبادة، من أجل ذلك خلقنا، ومن أجل التوحيد أوجدنا قال سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم:40] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ *
الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
إن حق ربنا تبارك وتعالى علينا لعظيم، وإن واجبنا تجاهه سبحانه وتعالى لكبير وكبير، يقتضي تحقيق العبودية له سبحانه، ألا ننصرف إلى غيره كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {احفظ الله يحفظك}.
يا من ألوذ به فيما أؤمله وأستجير به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ولا يهيضون عظماً أنت جابره
فالله عز وجل هو المتفرد بالخلق والرزق والتدبير، وهو المستحق للعبادة وحده دون سواه، قال الله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} [لقمان:30]
فهل ترى أن المسلمين اليوم أو أن كثيراً منهم حققوا ما من أجله خلقوا؟
إن كثيراً من الناس ضعف إيمانهم وضعفت عقيدتهم وتساهلوا بأمر توحيدهم، كثير منهم يتوجهون إلى غير الله، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
إننا -أمة الإسلام- أمة عقيدة وأمة رسالة، يجب علينا القيام والاضطلاع بهذه القضية المهمة التي هي قضية الوحدانية لله، في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وما يستحقه سبحانه وتعالى، وما يجب على المسلم تجاه الإيمان بالله سبحانه بأركانه الستة المعروفة، والقيام بمراقبة الله وحده قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] والقيام بإخلاص الدين له قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] وقال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5].
يجب على المسلم أن يستشعر معية الله ورقابته له سبحانه:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة النفس داعية إلى العصياني
فاستحي من نظر الله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
لما حققت الأمة هذه الحقيقة العظيمة دانت لها أمم العالم شرقيه وغربيه، ولما أن قامت بتحقيق الوحدانية لله دكت جيوشها معاقل الكفر والطغيان في كل مكان، هزت عروش القياصرة، وكسرت الأكاسرة وحطمت رايات الوثنية، والإلحاد والبعد عن الله عز وجل وضروب الجاهلية:
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
كنا جبالاً فوق الجبال وربما صرنا على متن البحار بحارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والحرب تقذف نارا
ولما مرت السنون، وخفت القلوب، وضيع كثير من المسلمين أمر دينهم؛ هانوا عند الله، هانت عندهم شريعة الله؛ فهانوا عند الله إلا من رحم الله قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] زاغوا فأزاغ الله قلوبهم، إلا من عصم الله.
فعلينا أيها الإخوة أن نعلم أن هذه القضية قضية العبودية لله، قضية الوحدانية لله، هي القضية الكبرى، وهي المهمة العظمى التي يجب علينا أن تكون حياتنا ومماتنا كلها في سبيل تلك القضية المهمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].(7/4)
تحقيق العقيدة الصحيحة بالشروط الشرعية
ومن القضايا التي ينبغي أن تقوم بها الأمة وأن تعتني بها الأمة: أن تحقق هذه العقيدة الصحيحة وهذه العبادة بشروطها الشرعية، التي جاء بها المصطفى صلى الله عليه وسلم، ودلت عليها نصوص القرآن والسنة، من شرط الإخلاص لله والتوجه له سبحانه، والحذر من الرياء والسمعة، وضروب الشرك بالله عز وجل، وأن تكون الأعمال على هدي النبي صلى الله عليه وسلم، مقتفىً فيها آثاره وهديه عليه الصلاة والسلام وهو القائل: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} والقائل عنه سبحانه وتعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر:7](7/5)
الإقبال على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم
القضية الثالثة: أن هذه العقيدة، وهذه العبادة؛ لا يمكن أن تتحقق إلا عن طريق العلم النافع، لا بد أن تعنى الأمة بالعلوم النافعة.
وأهم العلوم: الإقبال على كتاب الله، هذا الكتاب العظيم الذي أنزله الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم فأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، قال فيه سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1] وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15 - 16].
هذا القرآن العظيم الذي كتبت الخيرية لمن أقبل عليه وعلمه وتعلمه، ففي الصحيحين من حديث عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} وفي كتاب الله عز وجل النور المبين والهداية في جميع جوانب الحياة، والسعادة والسلامة والقيادة والريادة والشهادة على العالم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143]
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في بيان فضل القرآن كما في صحيح مسلم: {أيكم يريد أن يغدو إلى بطحان أو إلى العقيق -من أودية المدينة - فيرجع بناقتين كوماوين سمينتين عظيمتين في غير إثم ولا قطيعة رحم؟ قالوا: يا رسول الله! كلنا يريد ذلك، قال: لَأَنْ يغدو أحدكم إلى بيت من بيوت الله فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين كوماوين سمينتين عظيمتين، وثلاث خير له من ثلاث، وأربع خير له من أربع، وعدادهن من الإبل} فينبغي أن نقبل على كتاب الله، أن نتدبره {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29]
فتدبر القرآن إن رمت الهدى فالخير تحت تدبر القرآن
وما حصل الضلال في الأمة وتفرقت شيعاً وأحزاباً؛ إلا لما أعرض كثير من الناس عن القرآن، يقول الله عز وجل: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] يقول ابن عباس رضي الله عنهما: [[تكفل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة]].
فالقرآن القرآن يا أمة القرآن! علينا أن ننشأ عليه وأن نتعلمه، وأن نتدبره، وأن نسير على هديه، وأن نحل حلاله، وأن نحرم حرامه، وأن نؤمن بمتشابهه، وأن نعمل بمحكمه، وأن تكون حياتنا كلها مبنية على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لتتحقق لنا السعادة.
وليست السعادة بالأموال ولا بالمناصب ولا بالمراتب ولا بالقصور؛ وإنما السعادة بتقوى الله، بالإقبال على الله:
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد
وتقوى الله خير الزاد ذخراً وعند الله للأتقى مزيد
إلا إنما التقوى هي العز والكرم وحبك للدنيا هو الذل والسقم
وليس على عبد تقي نقيصة إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم
وأيضاً يجب العناية بالعلوم النافعة: علم الكتاب، وعلم السنة، وعلم التوحيد، وعلم الفقه، وعلم الأحكام، وعلم التفسير، وكل العلوم النافعة التي تصل الإنسان بربه وتعلمه الطريق الصحيح، وتبين له المحجة حتى لا يقع في الضلال والتخبط والضياع والتدهور، الناس موتى وأهل العلم أحياء:
أبا بكر دعوتك لو أجبتا إلى ما فيه خيرك لو عقلتا
إلى علم تكون به إماماً تطاع إذا أمرت وإن نهيتا
يجب علينا أيها الإخوة أن نعنى بالعلم، وليس المراد العناية بالعلم أن نخرج جميعاً علماء أمثال الأئمة الأربعة وغيرهم من علماء الإسلام، ولكن ينبغي على المسلم أن يسير في حياته على هدى، وأن يسأل عما يشكل عليه، وأن يتعلم أمور دينه.
لو أن إنساناً يريد أن يشتري قطعة أرض، أو يشتري سيارة، أو يتزوج امرأة؛ لسأل عنها وجلس فترة طويلة يبحث ويحقق وينقب ويدقق؛ لأجل أمر من أمور الدنيا، فما بالكم بأمر الدين أيها الإخوة؟ ينبغي علينا أن نعنى به بحيث لا يقع الإنسان فيما حرم الله.
ويجب على المسلم أن يحل ما أحل الله، ويسير على هدي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
الذنوب والمعاصي والمخالفات في أمر الله عز وجل هي السبب فيما أصاب الأمة من وهن واضطراب وتخلف وتدهور وشقاق، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96] تساهل كثير من الناس بأمور الدين، تساهلوا بأمر توحيد الله عز وجل، يذهب بعضهم حين ضعف إيمانهم إلى السحرة والمشعوذين والكهنة والمنجمين، ويظنون أن أحدا(7/6)
قضية العمل الصالح
قال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]
وتلك هي القضية الرابعة: قضية العمل الصالح بعد قضية العلم والإيمان والتوحيد والاعتقاد، أن يعمل المسلم الصالحات، وأن يستغل وجوده في هذه الحياة التي هي دار ابتلاء ودار امتحان قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2] وليس أيكم أكثر عملاً، وإنما لابد أن يكون العمل حسناً موافقاً لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والإيمان والعمل الصالح هما سببا السعادة والأمان والاطمئنان قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] وقال سبحانه وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]
ومن العمل الصالح: أداء الصلوات المفروضة التي هي أعظم أركان الإسلام بعد الشهادتين قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بين الرجل وبين الشرك أو الكفر ترك الصلاة} وقال صلى الله عليه وسلم: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر}.
كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً من الأعمال تركه كفر غير الصلاة، ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[من سره أن يلقى الله غداً مؤمناً؛ فليحافظ على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن، فإن الله شرع لنبيكم سنن الهدى وإنهن من سنن الهدى، ولقد رأيتنا وما يتخلف عنها -يعني الصلاة مع الجماعة- إلا منافق معلوم النفاق، ولقد كان يؤتى بالرجل يهادى بين الرجلين حتى يقام في الصف]].
الله أكبر! هذه هي همة الصحابة وهمة السلف في المحافظة في هذه الصلوات الخمس، فما بال هذه الصلوات اليوم طاش ميزانها، وخف معيارها ومثقالها عند كثير من المنتسبين إلى الإسلام اليوم مع الأسف الشديد:
نحن الذين إذا دُعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
هذه الصلوات التي من حافظ عليها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، هي أول ما يسأل عنه العبد، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر والعياذ بالله.
فعلينا عباد الله! وعلينا إخوة الإسلام! يا من شرفنا الله بهذا الدين! أن نعنى بعموده، أن نعنى بركنه الركين بعد الشهادتين، أن نقيم هذه الصلوات بخشوعها، بأركانها، بواجباتها، بمستحباتها، بالجماعة في بيوت الله عز وجل التي ما بنيت إلا لهذا.
فعلينا أيها الإخوة أن نقوم بهذا الأمر وأن نتواصى به، الأب يتفقد أبناءه، والمدرس يتفقد تلاميذه، وهكذا الأم في بيتها تتفقد أبناءها وبناتها، وكذلك المسلم أياً كان موقعه قال صلى الله عليه وسلم: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.(7/7)
قضية الأخلاق والسلوك
القضية الخامسة: قضية الأخلاق والسلوك، وما ينبغي على المسلمين أن يتحلوا به من الشمائل الحسنة، والأخلاق الطيبة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: {ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق} ويقول صلى الله عليه وسلم: {إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم} ولما {سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن امرأة تصوم النهار وتقوم الليل لكنها قد عدمت الأخلاق بإيذائها جيرانها، وعدم كفها أذاها عن أقاربها قال صلى الله عليه وسلم: هي في النار} والعياذ بالله.
علينا أيها الإخوة أن نعنى بشأن حقوق إخواننا المسلمين، وأن نعلم أننا في مجتمع المسلمين يجب علينا أن نعنى بحقوق بعضنا على بعض قال صلى الله عليه وسلم: {حق المسلم على المسلم ست: ومنها رد السلام وإجابة الدعوة وقبول النصيحة وتشميت العاطس واتباع الجنائز} ومنها أن يكف المسلم أذاه عن إخوانه المسلمين، وأن يقوم بالإحسان إلى والديه، وأهله، وزوجه، وأبنائه، وأقاربه، وإلى إخوانه المسلمين، وألا يكون في صدره غل ولا حقد ولا حسد على أحد من إخوانه المسلمين.
في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه: {يدخل الآن عليكم رجل من أهل الجنة} فدخل رجل من الأنصار تقطر لحيته من ماء وضوئه ويحمل نعليه رضي الله عنه وأرضاه، فتبعه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم جميعاً وعن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتبعه ورأى عمله وسكن عنده وأقام عنده ثلاثة أيام فلم يره كثير صوم ولا صلاة، فقال له: {يا هذا! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يدخل عليكم الآن رجل من أهل الجنة.
وقد أقمت عندك ولم أرك كثير صوم ولا صلاة فما بلغت هذا المنزلة؟ قال: هو ما رأيت غير أني أبيت وليس في قلبي غل ولا حقد ولا حسد على أحد من المسلمين}.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10].
واليوم ساد الشقاق والحسد والبغضاء، ساد كثيراً من الناس والمجتمعات والأسر لا لشيء إلا لأمر زهيد من أمور هذه الدنيا، فقد يقطع الناس أقاربه، وقد يجفوا أرحامه، وقد يسيء إلى جيرانه؛ لأجل أمر من أمور الدنيا التي لا تعدل شيئاً عند الله تبارك وتعالى، فينبغي علينا أيها الإخوة في الله أن يكون أمر الدين، وأمر الخُلُق، وأمر التعاون، وأمر أداء حقوق إخواننا المسلمين؛ يسمو عن الأمور الشخصية، وعن الأحقاد والحساسيات والأنانيات والأثرة وحب الذات؛ لأننا نحن أمة شرفها الله بهذا الدين وبهذا الإسلام الذي جمع الصحابة رضي الله عنهم على اختلاف ديارهم وعلى اختلاف قبائلهم، وكان الإنسان يحب أخاه، وقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وبلغ من حب أحدهم لأخيه المسلم أنه يتنازل عن ماله وعن شيء من زوجاته لأخيه المسلم الله أكبر! قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9].
ينبغي علينا أيها الإخوة أن نتحلى بالإيثار، وحب الخير لإخواننا المسلمين، وهذا شأن المجتمع المسلم يتعاون على البر والتقوى، يسعى كل واحد منهم لإصلاح حاله، وإصلاح حال إخوانه، لا يزيد في الفجوة، ولا يوسع الفتوق؛ وإنما يجمح الزلة ويغفر الخطيئة، ويغض الطرف عن أخطاء إخوانه المسلمين:
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحداً أو صل أخاك فإنه مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
وأمة الإسلام اليوم في عالم يموج بالمحن، ويطفح بالفتن والمغريات والصوارف عن دين الله عز وجل، أعداء الإسلام يجلبون بخيلهم ورجلهم على المسلمين، يسعون في تفكيك وحدتهم، وفي النيل من تماسكهم، ويثيرون بينهم كل أمر يضعف أخوتهم، وأخوة الإسلام أمرها عظيم؛ ولهذا كانت أعظم قضية حرص عليها الإسلام بعد كلمة التوحيد أن وحد الكلمة قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] ليس من مصلحة الأمة التفرق والاختلاف والتنازع والشقاق، لا بين عامة الناس، ولا بين الخاصة منهم كأهل العلم والفضل والدعاة إلى الله والساعين في الخير والإصلاح، بل يجب أن تكون القلوب واحدة وأن يكون الصف واحداً، وأن يسعى المسلم لتكميل إخوانه المسلمين، وألا ينظر بعين السوءات، ولا ينظر بعين تتبع العثرات، وإنما يحرص على كظم الغيظ وعلى الستر على إخوانه المسلمين، كما قال عمر رضي الله عنه: [[لا تحمل أخاك على المحمل السيئ وأنت تجد له في الخير سبعين محملاً]].
واليوم ما وجدت الشائعات، وزهد كثير من الناس بسلامة صدره لإخوانه في الله؛ إلا لما ضعف الولاء لهذا الدين، وضعفت عند كثير من الناس رابطة المحبة في الله والأخوة الإسلامية.(7/8)
قضية الدعوة إلى الله
أيها الإخوة في الله! ومن القضايا المهمة التي ينبغي أن نعنى بها في هذا الدين قضية الدعوة إلى الله؛ لأن قضية الدعوة إلى الله هي مهمة الأنبياء والمرسلين والدعاة والمصلحين إلى قيام الساعة قال الله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] وقال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108] وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
فينبغي علينا -أيها الإخوة- أن نحرص على أن تكون سفينة المجتمع سائرة في الطريق الصحيح حتى تصل إلى شاطئ الأمان وبر السلام، دون أن تعصف بها أمواج المحن والذنوب، ودون أن تطوح بها قاذفات الفتن وزوابع الشر وأعاصيف الباطل في وقت نشهد فيه أشرس هجمة ضد أخلاق المسلمين، وضد قيمهم ومبادئهم ودينهم في قنوات كثيرة وعبر وسائل متعددة.
فعلينا أن نتصدى لهذه الحرب الضروس بالعقيدة، بالإيمان، بالوعي، بالعقيدة الصحيحة، بقوة الإيمان بالله تبارك وتعالى، باللجوء إلى الله عز وجل، بجمع الكلمة، بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطرقه الشرعية، بالدعوة إلى الله بأسلوبها الحسن الذي يسعى إلى درء الباطل، وإلى نصرة الحق، وإلى السير في ذلك بأسلوب صحيح، بالرفق، بالصبر، بالحكمة؛ فـ {الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه}، والعنف ما كان في شيء إلا شانه، وما نزع من شيء إلا زانه، {من يحرم الرفق يحرم الخير كله}.
فعلينا أن نسير في أمورنا في الإصلاح، والدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما سار المصطفى عليه الصلاة والسلام، وكما سار رسل الله، هذا نوح عليه السلام يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، لم يستعجل الثمرة، ولم يحرص على أن يقطف الثمرة مبكراً؛ وإنما حرص على أن يقوم بالدعوة وبالإصلاح، أبى الناس، أم أنابوا، حرصوا وأطاعوا، أم أبعدوا، وضلوا عن الطريق، والنتيجة ما آمن معه إلا قليل، وهكذا الداعي إلى الله عز وجل، عليه أن يحرص على الدعوة إلى الله بالحكمة وبالحسنى وبالأسلوب الحسن، بأن يكون قدوة صالحة أمام إخوانه المسلمين.
وينبغي على الدعاة إلى الله، وعلى العلماء، وعلى المدرسين، وعلى الوجهاء، وعلى القضاة، وعلى أهل الحل والعقد في كل مجتمع؛ أن يكونوا قدوة صالحة لمن هم دونهم، وأن يقوموا بواجبهم فكلهم مسئول وكلهم مسئول عن رعيته.
ومن القضايا -أيها الإخوة- قضايا التربية، تربية النفوس، تزكيتها، تصفيتها من أدران الذنوب والمعاصي، تربية الأبناء والأسر والزوجات والبنات على ما شرع الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] قال أهل العلم: أي أدبوهم وعلموهم.
فيا أيها الأب المسلم! ويا أيتها الأم المسلمة! ويا أيها الزوج المبارك! ويا أيتها الزوجة الصالحة! إن عليكم مسئولية عظيمة تتعلق بالتربية.
ويا أيها المدرسون! ويا رجال التعليم! ويا أيها الحريصون على الفكر والوعي وثقافة الأمة! أنتم مسئولون مسئولية كبيرة في الدعوة إلى الله وتربية الناس على الخير وعلى الفضيلة، وتحذيرهم من الشر والرذيلة.
كثيرٌ من الناس اليوم بلي بأمور تخالف الإسلام، وتخدش الأخلاق، وقل الحياء عند كثير من الناس وعند كثير من النساء على سبيل الخصوص، وعند بعض الشباب، فعليهم أن يتقوا الله عز وجل، وعليهم أن يعلموا أن هذه الحياة ما هي إلا ساعات معدودة، وما هي إلا أوقات محدودة؛ فعليهم أن يزكوا أنفسهم ويحاسبوها ويربوها على شرع الله تبارك وتعالى.(7/9)
قضايا الشباب
ومن القضايا التي ينبغي أن نخصها قضايا الشباب، وما ينبغي أن عليهم وما هو حقهم، وما واجبهم تجاه أنفسهم ومجتمعاتهم، عليكم أيها الشباب المسلم المبارك أن تحمدوا الله عز وجل أن ولدتم ونشأتم في بيئة الإسلام، وفي بلاد الإسلام، وعليكم أن تقوموا بالاعتزاز بدينكم وعدم التقليد لأعدائكم والمحاكاة والتبعية، والتقليد لأعداء الإسلام كما هو واقع بعض الشباب هدانا الله وإياهم.
وعليكم بأداء الصلوات، وببر الوالدين، وعليكم بالجلساء الصالحين، والحذر من قرناء السوء الذين يريدون أن يجروكم إلى المشكلات والمسكرات والمخدرات والجرائم التي تقضي على دينكم وإيمانكم وأخلاقكم بل وعلى حياتكم.(7/10)
قضايا خاصة بالمرأة
ومن القضايا المهمة التي ينبغي أن تطرح: القضايا الخاصة بالمرأة من أداء رسالتها، والقيام بواجبها، فالمرأة لها رسالة في المجتمع وعليها واجب عظيم، هي الأم، والزوجة، والبنت، والأخت، هي درة مصونة وجوهرة مكنونة رفعها الإسلام وكرمها وشرفها بالحجاب، والعفاف، والحشمة، والبعد عن الرجال، والحذر من الخداع بدعاة المدنية الزائفة، ودعاة التحرر من الأخلاق والقيم.
مدنية لكنها جوفاء وحضارة لكنها أفياء
تدعو التهتك والسفور فضيلة ونتاج ذاك الشر والفحشاء
لا وازع يزع الفتاة كمثل ما تزع الفتاة صيانة وحياء
وإذا الحياء تهتكت أستاره فعلى الحياء من الحياة عفاء
والأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم أستاذ الأساتذة الأُلى شغلت مآثرهم مدى الآفاق
الأم روض إن تعهده الحيا بالري أورق أيما إيراق(7/11)
المبادرة إلى معالجة الأخطاء وإصلاح الأوضاع
أيها الإخوة! القضية الأخيرة أن نعلم أن الواجب علينا أن نبادر إلى تصحيح أحوالنا، وإلى معالجة أخطائنا، وإلى إصلاح أوضاعنا بما يقربنا إلى الله، إلى متى الغفلة عما شرع الله؟ إلى متى يستمر الإنسان حبيس شهواته وملذاته يركب كل رغباته وما يريده؟ ولو لم يسأل عن حل هذا الأمر وحرمته، فعليك أيها المسلم أن تعلم أن هذه الدار؛ دار ابتلاء وامتحان، وأن هناك موتاً سيجهز عليك، فعليك أن تستعد لهذا القادم الذي يريد أن يفاجئك في ليل أو نهار قال الله تعالى: {إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس:49].
حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يرى الإنسان فيها مخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار
هو الموت ما منه ملاذ ومهرب متى حط ذا عن نعشه ذاك يركب
نأمل آمالاً ونرجو نتاجها وعل الردى عما نرجيه أقرب
ونبني القصور المشمخرات في العلا وفي علمنا أنا نموت وتخرب
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا في كل يوم واعظ الموت يندب
فالله كم غادٍ حبيب ورائح نشيعه للقبر والدمع يسكب
نهيل عليه الترب حتى كأنه عدو وفي الأحشاء نار تلهب
وبعد الموت حشر ونشر وسؤال وعرض على الواحد القهار جل جلاله، فعلينا أن نعد للأمر عدته يوم تزلزل الأرض زلزالها، يوم تحدث أخبارها بأن تشهد على كل عبد أو أمة ماذا عمل على ظهرها تقول: عملت كذا وكذا يوم كذا وكذا.
فأعد أخي المسلم للسؤال جواباً فوالله {لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه}.
مصير المؤمنين الموحدين الطائعين المشمرين:
يا سلعة الرحمن لست رخيصة بل أنت غالية على الكسلانِ
يا سلعة الرحمن هل من خاطب فالمهر قبل الموت ذو إمكانِ
يا سلعة الرحمن أين المشتري؟ فلقد عرضت بأيسر الأثمانِ
يا سلعة الرحمن ليس ينالها في الألف إلا واحد لا اثنانِ
فعلينا -أيها الإخوة- أن نسعى إلى العمل الصالح الذي يقربنا إلى الله، وأن نبتعد عن أسباب الهلاك، وعن موارد العطب، وعن الأمور التي تقربنا إلى النار والعياذ بالله.
أسأل الله عز وجل بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى أن يوفقنا وإياكم للتوبة النصوح.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
هاهو ربنا تبارك وتعالى ينادينا: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهُِ} [الزمر:53] ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل} وقال صلى الله عليه وسلم: {لَلهَ أفرح بتوبة عبده من رجل كان في أرض فلاة وأضل راحلته ثم وجدها وعليها طعامه وشرابه بعد أن أيس منها ثم قال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك؛ أخطأ من شدة الفرح} فالله أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
هاهو سبحانه وتعالى يناديكم، عطاؤه جل وعلا ممنوح، وبابه مفتوح، وفضله يغدو ويروح، فأين المشمرون؟ إلى متى نستمر في الغفلة والبعد عن الله والإعراض؟
يا من اغتر بشبابه! يا من اغتر بماله! يا من اغتر بصحته! أعد للأمر عدته:
فالموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل
إن علينا وقد سمعنا أن نقول: سمعنا وأطعنا، وأن نستجيب لأمر الله: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النور:51] من تنفع فيه الموعظة؟ من يبدأ بعد أن يخرج منها في محاسبة نفسه، والتوبة إلى الله، وعرض نفسه ووقته أمام الهدي والميزان الشرعي، فما قصر فيه تاب إلى الله وأناب، وما تقرب فيه إلى الله زاد واستجاب قال تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى:47] وهذا هو شأن المسلم يحاسب نفسه ويقومها على شرع الله.
حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتهيئوا للعرض الأكبر على الله {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
جعلني الله وإياكم من الهداة المهتدين، وجعلنا وإياكم بمنه وكرمه من أهل الخير والفضل والعلم والصلاح والإصلاح الذين ينفع الله بهم أنفسهم وينفع بهم مجتمعاتهم وأمتهم، شكر الله لكم حضوركم وإنصاتكم، ولا أكتمكم علم الله فرحتي واغتباطي وابتهاجي وسروري بهذا اللقاء الطيب المبارك، بما لا أستطيع أن أعبر عنه بما غمرت به من الفرح والابتهاج وكرم الضيافة وحسن الاستقبال مما حقيقة كنت لم أتوقعه، وأنا في الحقيقة أعتذر عن تقصيري ومماطلتي في زيارتي لكم، وأرى أن زيارتي لكم الآن وقد تحققت بحمد الله أنها من منطلق الواجب علينا، فهي والله ليست تفضلاً فالواجب عظيم والمسئولية كبيرة على أهل ال(7/12)
الأسئلة(7/13)
استمرار اللقاءات وتواصلها بين الشيخ ومحبيه
السؤال
أسئلة كثيرة وأوراقٌ عديدة تصدرت بحب أصحابها للشيخ في الله عز وجل، ودعوته في البقاء في هذه المنطقة أياماً، أسئلة وأوراقٌ كثيرة أجبرتني على أن أذكر هذا الكلام فما تعليق فضيلة الشيخ؟
الجواب
أولاً: أحبكم الله الذي أحببتمونا فيه، وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم متحابين، والله ما قيمة الدنيا كلها إن لم تكن المحبة في الله عز وجل هي التي تدفع إلى مثل هذه اللقاءات.
وحينما يرى الإنسان العلاقات الشخصية والمادية بين الناس يجد أنها تثير كثيراً من المشكلات، وتزيد في تعقيد أمورهم وسوء العلاقات فيما بينهم، بينما المحبة في الله عز وجل: أن تحب المرء لا تحبه إلا لله، هذا من أعظم الأعمال، من أعطى لله، ومنع لله، وأحب في الله، وأبغض في الله فقد استكمل الإيمان {المتحابون بجلالي اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي} {ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه} {حقت محبتي للمتزاورين فيَّ وللمتحابين فيَّ الحديث} أحبكم الله الذي أحببتمونا له وفيه.
أما الرغبة في البقاء فيعلم الله الذي لا إله غيره أني لما رأيت هذه الجموع الطيبة التي غص بها المكان، وكثرت هذه السيارات التي أتت من قريب أو بعيد، حتى لم يجد الناس فيها مكاناً ومآلا؛ إلا لأن الخير متأصل في النفوس ولله الحمد والمنة، وحب أهل هذه البلاد التي أفاض الله عليها بهذا الإسلام وهذا التلاحم وهذه المحبة، وهذه المودة، ما هذه المشاعر الطيبة التي يعجز التعبير عنها، قد تسبق الأدمع الكلمات حينما ترى هذا الإقبال الطيب المبارك، فلا حرم الله الإخوة المباركين في داخل المسجد وفي خارجه ثواب ذلك، ونسأل الله أن يثيبهم وأن يجعل ذلك في موازينهم وأن يكتب خطواتهم، يعلم الله أنني حريص غاية الحرص على أن أستمر معكم، ولو كنت أعلم لأطلت المدة لأني أرى أن هذا الجمع يحتاج إلى لقاءات أكثر، ويحتاج إلى جلسة أكبر؛ ولكن أعدكم إن شاء الله أن تكون اللقاءات مستمرة، وأن يكون التعاون والتواصل قائماً بيننا وبينكم، وأشكر لكم شكراً خاصاً من أهل حوطة بني تميم حرصهم، فقد وجدت فيهم حرصاً أستطيع أني أقول لم أجد مثله من الخير والحب والتواصل، فلقد غمرت بشيء قد لا أستحقه؛ لكن هذا من طيبهم وكرمهم، ومن حسن أخلاقهم وفقهم الله وبارك فيهم وأعدهم أن تتكرر الزيارة بإذن الله، مرات قادمة بإذن الله وتوفيقه، وأسأل الله أن يهيئ ذلك في القريب العاجل بإذن الله.(7/14)
وسائل معينة على حفظ القرآن الكريم
السؤال
أنا طالب أريد حفظ القرآن الكريم، فما الطرق الموصلة إلى ذلك؟ وما هو الوقت المناسب للحفظ؟ وما المنهج الذي كنت تسير عليه فضيلة الشيخ وأنت صاحب تجربة في ذلك؟
الجواب
الله المستعان! يُشكر الأخ السائل على طرح هذا السؤال المهم، الذي أرجو أن يترجم واقعاً عملياً تطبيقياً وليس مجرد رغبات وأماني.
حفظ كتاب الله عز وجل والإقبال عليه نعمة عظيمة ينبغي علينا أن نحرص عليه {من قرأ حرفاً من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف ولكن (ألف) حرف و (لام) حرف و (ميم) حرف} وما تعثرت مسيرة الأمة شباباً وشيباً، رجالاً ونساءً، صغاراً وكباراً، وضلت في كثير من مناهجها؛ إلا لما أعرضت عن القرآن، وبني بعض أبنائها وشبابها على غير القرآن.
فعليكم -أيها الإخوة- أن تقبلوا على القرآن، وعليكم أيها الشباب أن تحرصوا على الإقبال على القرآن، وأرجو أن نأخذه عهداً على أنفسنا أن نبدأ من هذه الليلة في أن نبادر إلى مشروع حفظ كتاب الله عز وجل، ولو أن يبدأ الإنسان بآية واحدة أو آيتين أو أكثر أو أقل، المهم أن تكون عنده هذه الهمة.
أما أن يرغب بالأمر مجرد رغبة وأمانٍ؛ فالأماني رءوس أموال المفاليس، لابد أن يبادر الإنسان العزم.
أول ما ينبغي على حافظ القرآن أن يخلص النية لله، يقرأ القرآن ابتغاء وجه الله، لا يقرأ ليقال قارئ وإنما يقرأ تعظيماً لمنزل هذا الكتاب سبحانه وتعالى وتقديراً له حق قدره تبارك وتعالى، ففضل كلام الله على سائر الكلام كفضل الله على خلقه.
ثم عليك -أيها الأخ المبارك الذي تريد حفظ كتاب الله عز وجل- أن تخصص لك وقتاً لحفظ كتاب الله: ساعة بعد الفجر، أو بعد العصر، أو قبل النوم، أو أي وقت من الأوقات التي ترى أن ذهنك وعقلك فيها ونفسك فيه خالية من المشاغل، فعليك أن تخصص وقتاً تقرأ فيه كل يوم ورداً أو حزباً أو جزءاً من القرآن أو وجهاً أو صفحة أو نصف صفحة أو ما إلى ذلك على حسب جهدك، المهم أن تبدأ ولو بخطوة واحدة وقديماً قيل: مسافة المائة ميل تبدأ بخطوة واحدة.
فلنبدأ ولنعلم أن الله سيعيننا فالله عز وجل قال: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] ومتى علم الله من عبده الخير أعانه ووفقه عليه.
كذلك يجب أن يقرأ القرآن على قارئ، على مجود، على متقن، أن يكون هناك شيخ تقرأ عليه، والحمد لله جمعيات تحفيظ القرآن الكريم تكاد تكون ميزة من ميزات بلادنا شرفها الله وحرسها التي أنزل فيها هذا القرآن، فينبغي على أبنائنا وعلى شبابنا الرجال والنساء أن يلتحقوا بحلق وجمعيات تحفيظ كتاب الله تبارك وتعالى، وينبغي على الآباء أن يهتموا بهذا، بعض الناس يحرص على أن يكون ابنه بلبلاً في اللغة الإنجليزية -كما يقولون- أو حريصاً على العلوم العصرية، أو يأخذ دورات في الكمبيوتر والحاسب الآلي وما إلى ذلك لكن ابنه قد لا يحسن الفاتحة! ما هذا الانهزام أمام الاهتمام بكتاب الله تبارك وتعالى؟ وما هذا الانبهار وهذه الانهزامية أمام العلوم المعاصرة التي تريد أن تزاحم أفضل العلوم وأجل العلوم وأشرفها؟
يا أيها الأب المسلم! أتزهد في هذا الثواب العظيم حينما ينادى عليك في درجات الجنة وتدعى وتلبس وتتوج تاج الكرامة وتاج الوقار لتنشئتك وتربيتك وتعليمك ابنك حفظ كتاب الله تبارك وتعالى؟
أيسرك أن يكون ابنك من حفظة كتاب الله ورواد المساجد ومن الحريصين على الجلساء الصالحين؟ أم تريد أن يكون ابنك في الشوارع والأحياء والحارات يؤذي عباد الله، وأن يذهب مع عصابات الشر والجريمة والمسكرات والمخدرات؟
فعلينا بالتنشئة القوية الحسنة الصحيحة على كتاب الله، ثم الحمد لله اليوم القرآن أمره ميسر، القرآن في كل بيت، الشريط القرآني في كل بيت، علينا أن نستمع وأن نقرأ وأن نحرص ولنثق بعون الله عز وجل وتوفيقه.(7/15)
التنبيه على قضية الولاء والبراء
السؤال
فضيلة الشيخ من القضايا المهمة في حياة الأمة قضية الولاء والبراء، لكن كثيراً من الناس تهاونوا في ذلك كثيراً، ومن أوضح مظاهر تلك القضية تفضيل العامل الكافر على العامل المسلم، فهل من توجيه؟
الجواب
نعم.
لا شك أن هذه القضية قضية الولاء والبراء من القضايا التي تعد من قضايا الاعتقاد ومن أصول الإيمان الذي ينبغي أن نعنى بها {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:55] {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة:71] فالولاية للمؤمنين، والمحبة والمودة إنما هي لإخوانك المسلمين الذين تجمعك بهم رابطة الإسلام، وينبغي أن يكون الولاء بين المؤمنين كما يكون العداء بين المحسنين والكافرين {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:22] القضية قضية مهمة جداً كما أشار لها الأخ السائل وضرب لها مثلاً في قضية العمالة أو الخدم أو السائقين أو ما إلى ذلك، فالمسلم عليه أن يتقي الله في ذلك، وليعلم أنه مسئول أمام الله، عليك أن تحرص على أن تستقدم المسلمين؛ لتعينهم ولتواليهم ولتكون أخاً ومحباً لهم في الله ولا تقدموا غيرهم عليهم.
ولما ضعف ولاء الناس بهذه القضية ولهذه القضية واهتمامهم بها؛ زهدوا في هذه القضية، بل لربما فضل بعضهم الكافر على المسلم بحجة أن الكافر قد ينتج أكثر، وأن بعض المسلمين يتساهلون أو قد يعطل العمل في أوقات الصلوات وما إلى ذلك أإلى هذا الحد وإلى هذه الدرجة يهون علينا أمر ديننا؟
فينبغي عليك أيها الأخ المسلم أن تتقي الله عز وجل وأن تقيم الولاء لأهل الإيمان كما شرع الله، والبراء ضد أهل البغي والضلال والكفران فتلك قضية من أهم القضايا الاعتقادية.
ويشكر الأخ السائل على طرحها؛ ولكن أيضاً أنا أقول: إن القضايا كثيرة جداً ولهذا قضايا الأمة القضايا الكثيرة المتشعبة في جوانب الحياة كلها، أنا أعترف أنني لم أتطرق إلى كثير منها، لكن هذا أهمها فيما أراه وإلا فهي كثيرة جداً وما ذكره أخونا من جملتها، والله المستعان.(7/16)
زيارة الشيخ إلى أفريقيا
السؤال
كانت لكم منذ فترة قريبة زيارة موفقة إلى أفريقيا، نرغب في أن تحدثونا عن حال المسلمين هناك.
الجواب
أنا أرى ألا ننتقل من الحوطة إلى أفريقيا، نريد أن لا تزاحم دولة أخرى أو بلدة أخرى وجودنا واهتمامنا في إخواننا في الحوطة جزاهم الله خيراًَ، وأنا أحيلك إلى شريط ألقي في الحرم الجمعة الماضية عن نفس الموضوع، ولعله يكفي ويشفي بإذن الله.
جاءني أن كثيراً من الإخوة موفقين لهم جهود مباركة في هذا اللقاء الطيب المبارك، فالحقيقة إن كان الشكر يعجز أن يعم الجميع؛ فتدركون جميعاً أني إن لم أشكر كل واحدٍ منكم بنفسه فيعلم الله ما أكنه لكم من المشاعر والمحبة والتقدير، الشكر مبرورٌ لله عز وجل أولاً وآخراً، وباطناً ظاهراً؛ على نعمة هذا اللقاء الطيب المبارك، ونسأل الله أن يكون اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وأن يكون تفرقنا بعده تفرقاً معصوماً، وألا يجعل الله فينا ولا معنا شقياً ولا محروما، كما نسأله تعالى ألا يفرق هذا الجمع المبارك إلا بذنب مغفور، وسعي مشكور، وعمل مبرور، وتجارة لن تبور، إنه غفورٌ شكور، ثم الشكر لجميع الإخوة الذين حرصوا ومنهم الإخوة في مركز الدعوة، وفي مكتب الدعوة وفقهم الله، وفي المعهد العلمي أيضاً، وفي المدارس مدرسة المتوسطة الثانوية، ورجالاً أيضاً من الجنود المجهولين، ولا نحب نسميهم، فنعرف ونجزم أنهم لا يحبون أن نسميهم، فجزاهم الله خيراً؛ لكننا ندعو الله لهم، وكلكم يعرفهم، ونرجو أن يجتهدوا في الدعاء لهم، الذين حرصوا ووصلوا وسعوا وبذلوا جهدهم في هذا اللقاء الطيب المبارك فجزاهم الله خيراً ولا حرمهم ثوابه إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحقيقة أنا لا أحب أسهركم، أنا لا أكون ثقيلاً في حسي وفي معناي، وإني لأجزم أنه من حرصهم وحرارة هذا اللقاء أنهم يريدون أن يستمروا إلى الفجر، ولو قيل لهم: استمروا إلى الفجر، لقالوا: نحن موافقون؛ لكن أيضاً لا أحب أن أثقل عليهم نتيح الفرصة لسؤال أو سؤالين في حدود ما يسمح به الوقت.
أنا لا أريد أن أثقل عليكم؛ لأن الكلام إذا كثر أخشى أن ينسي بعضه بعضاً، والحقيقة أن الأسئلة الكثيرة لا يمكن أن تطرح كلها في مثل هذا اللقاء الطيب، ولا أحب الحقيقة أن أثقل، فوراءكم من وراءكم، وقد يكون وراءكم من يحاسبكم، أما أنا فليس لدي اليوم والليلة من يحاسبني.(7/17)
كل نفس ذائقة الموت
إن الموت حقيقة لا مفر منها، وإن الموت لنازل على كل ساكن لهذه الأرض.
فالواجب على كل مسلم أن يحاسب نفسه على ما مضى من عمره ماذا عمل فيه من أعمال، فعند نزول الموت لا ينفع التأسف ولا الحزن ولا البكاء، وإنما سينفع كل امرئ ما قدم، فإن خيراً فخيراً، وإن كان شراً فشراً.(8/1)
الموت حقيقة لابد منها
الحمد لله الذي قضى بالفناء على هذه الدار، وأمر بأخذ العدة لدار القرار، أحمده تعالى وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أزهد الناس في الدنيا، وأكثرهم للموت ذكراً وللآخرة استعداداً، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه أهل الفضل والتقى، والتابعين ومن تبعهم بخيرٍ وإحسانٍ واقتفى.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى.
عباد الله: حقيقةٌ قاسيةٌ لا محيد عنها، وقضيةٌ رهيبةٌ مسلمةٌ لا مفر منها تواجه أهل الدنيا، فلا يستطيعون لها رداً، ولا يملكون لها دفعاً، حقيقةٌ تتكرر كل لحظة، ونعايشها مرة بعد مرة، والناس سواءٌ أمام هذه الحقيقة المُسَلَمة، والمصير المحتوم، يواجهها الآباء والأبناء، والأغنياء والفقراء، والضعفاء والأقوياء، والرجال والنساء، والمرءوسون والرؤساء، والعامة والعلماء، والمغمورون والوجهاء، وأهل الشجاعة والجبناء، يقفون منها موقفاً موحداً، لا يستطيعون لها حيلة، ولا يملكون لردها وسيلة، ولا يقدرون تجاهها دفعاً ولا تأجيلاً، إنها حقيقة النهاية والفناء والموت، الموت الذي لا مفر ولا محيد من الاستسلام له، ولا يملك البشر حياله شيئاً.(8/2)
قلة العمل لما بعد الموت
إخوة الإسلام: إن كل حيٍ يسلم بهذه الحقيقة عقيدة ونظراً، لكن الذين يتذكرونها ويعملون لما وراءها قليل، فالقلوب عن هذه الحقيقة غافلة، والنفوس شاردة، والعقول منصرفة، والهمم مشغولة، ومشاغل الحياة وزخرفها من الأموال والقصور، والأولاد والدور، والمراكب والمراتب، والأعمال والمناصب، كل ذلك وغيره أطال أمل الناس فيها، وإلا فالله عز وجل يقول: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57] ويقول جل وعلا: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
ونبيكم صلى الله عليه وسلم، يقول لـ عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: {كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابر سبيل} وكان ابن عمر يقول: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]] رواه البخاري.
وروى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أكثروا من ذكر هادم اللذات} أي: الموت، وكان عليه الصلاة والسلام، إذا ذهب ثلث الليل قام فقال: {يا أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة تتبعه الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه} خرّجه الترمذي من حديث أبي بن كعب رضي الله عنه، فالكل مرجعهم إلى الله، والجميع محشورون إليه، الموت في الموعد المحتوم، والأجل المقسوم: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145]، {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف:34] {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون:11] {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} [لقمان:34].(8/3)
استشعار حقيقة الموت وقصر الأمل
أمة الإسلام: إنه لابد أن تستقر هذه الحقيقة في نفوس الناس استقراراً واستشعاراً؛ حتى يكون له أثرٌ عمليٌ في حياة المسلم، بالإقبال على الطاعات وترك المعاصي والمحرمات، والمبادرة إلى التوبة وترك التسويف، فاستشعار قصر الأمل، يتطلب الجد في العمل، يجب أن نتذكر هذه الحقيقة دائماً وأبداً، حقيقة أن الدنيا مدبرةٌ فانية: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] وأن المرد إلى الله، وأن الحياة موقوتة، والآجال محدودة، والأنفاس معدودة، ثم تأتي النهاية الحتمية، ويحل هادم اللذات، ومفرق الجماعات، ثم بعد ذلك يكون الناس فريقين فإما إلى جنة عالية، قطوفها دانية، وإما إلى نار حامية، نعوذ بالله من غضبه وأليم عقابه، فكأس الموت تتذوقه كل النفوس، وجرعته يتحساها كل حيٍ في هذه الحياة، لا فرق بين إنسانٍ وآخر، إنما الشأن كل الشأن ما بعد هذه اللحظة الحاسمة، من المصير الذي يستحق أن يعمل من أجله العاملون.
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعدها عن كل شيء
فيا أيها المسلمون: تذكروا هذه الحقيقة: {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
أين الاتعاض والاعتبار؟ عشرات الجنائز نصلي عليها في اليوم والليلة، وعشرات الموتى نشيعهم إلى القبور، حيث ضيق اللحود ومراتع الدود، أما نعتبر بكثرة الموتى من حوادث السيارات، ومن موتى الفجأة والسكتات؟!
كم من إنسان أمسى ولم يصبح، وأصبح فلم يمسِ، وخرج من بيته فلم يعد، وكم من صحيحٍ سليم يأتيك خبره، ويبلغك موته:
تزود من التقوى فإنك لا تدري إذا جن ليلٌ هل تعيش إلى الفجر
فكم من سليمٍ مات من غير علةٍ وكم من سقيمٍ عاش حيناً من الدهر
وكم من فتىً يمسي ويصبح آمناً وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
فتذكروا -يا عباد الله- هجوم هادم اللذات، وتصوروا نزول ملك الموت بكم، في هذه اللحظات يندم المفرطون ويتحسر المقصرون: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].
تذكروا الموت وسكراته، يا من تلهون وتعبثون في دنياكم، وأنتم عن الآخرة غافلون! تذكروا هذا الموقف العصيب يا من تتثاقلون عن أداء الصلاة، وتبخلون بإخراج الزكاة! تذكروا ساعة الاحتضار يا من تظلمون عباد الله، وتقعون في أعراضهم، وتبخسونهم أشياءهم، وتغشونهم وتماطلونهم حقوقهم! فلله يومٌ يجمع فيه الأولين والآخرين لفصل القضاء بينهم، وكتابٌ لا يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، هل تظنون أنكم مخلدون في هذه الحياة؟!
روى الترمذي في سننه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وأقلهم من يجوز ذلك} فماذا قدم كل واحدٍ منا لهذه اللحظات الحاسمة، والمواقف العصيبة: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37].
كان عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، إذا ذكر عنده الموت انتفض انتفاض الطير، وقال الحسن البصري رحمه الله: [[فضح الموت الدنيا، فلن يترك لذي لبٍ بها فرحاً]] هكذا كان سلف هذه الأمة، من قوة الإيمان وشدة الخوف من عذاب الله، مع اجتهادهم في طاعة الله، فغريب حالنا اليوم، كلنا قد أيقن بالموت وما نرى له من مستعد! وكلنا قد أيقن بالجنة وما نرى لها عاملاً! وكلنا قد أيقن بالنار وما نرى لها خائفاً! فعلام الفرح مع التفريط في جنب الله! إنه لا ينبغي لمن آمن بالله واليوم الآخر، ولا يليق بمن عرف مصير الأوائل والأواخر، ويرى أن الموت يأخذ الأصاغر والأكابر، أن يركن إلى هذه الدنيا وقد امتلأت المقابر.
فيا من يفاخرون بأموالهم وأولادهم وأعمالهم: كيف بكم إذا واراكم الثرى وسرى بكم البلى! حقاً كفى بالموت واعظاً.(8/4)
وقفة محاسبة بعد عام مضى
أمة الإسلام! إنني أذكر بهذه الحقيقة القاسية، والنهاية الحتمية في الوقت الذي نودع فيه عاماً تصرمت أيامه، وقوضت خيامه، مضى وانقضى وهو شاهدٌ لنا أو علينا بما أودعناه فيه من أعمال، ونستقبل عاماً جديداً لا ندري هل نستكمله، أم يحول بيننا وبين ذلك هاذم اللذات!
وإنه ليجدر بنا أن نحاسب أنفسنا: ماذا عملنا في العام المنصرم؟ وماذا عسانا أن نعمل في هذا العام الجديد؟ وأن نأخذ الدروس والعبر من مرور الليالي والأيام، وتصرم الشهور والأعوام، فيدفعنا ذلك إلى التوبة الصادقة، والإقلاع عن المعاصي والذنوب والاستعداد للآخرة.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيدي المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ ومعصية، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(8/5)
الاستعداد للموت وما بعده
الحمد لله الباقي فلا يفنى ولا يبيد، وأشهد أن لا إله إلا الله المبدء المعيد، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله أفضل الأنبياء وأكرم العبيد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:-
فاتقوا الله -عباد الله- واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، واتقوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده، ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً.
عباد الله: إذا أيقنا أن مرور الأعوام وانقراض الأزمان إنما هو من أعمارنا، وأن الأيام مراحل تقربنا إلى الآخرة، فإن علينا ونحن بين عامين، بين عامٍ مضى، لا ندري ما الله صانعٌ فيه، وبين عامٍ قد أتى لا ندري ما الله قاضٍ فيه، إن علينا أن نستعد للموت وما بعده؛ وذلك بالتوبة الصادقة والإقلاع من الذنوب والتخفف من الدنيا، وكثرة ذكر الموت وزيارة القبور، والاعتبار والاتعاظ بما نرى ونسمع من أحوال الراحلين، فالموت الذي تخطانا إليهم سيتخطى غيرنا إلينا، وإن علينا أن نقف وقفة تأملٍ ومحاسبةٍ للنفوس، فإلى متى الغفلة يا عباد الله؟!
إن مرور عامٍ في حياة الفرد المسلم والأمة المسلمة حدثٌ يستحق التأمل والمحاسبة، فهل نقوم بهذا الأمر، وهل نعي حقيقة الحياة ونهايتها، وهل نستقبل هذا العام الجديد بالتوبة والإنابة، والعودة الصادقة إلى ديننا، هذا ما نأمله ونرجوه، إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد، وإني لأرجو أن تكون هذه الذكرى عهداً يأخذه كلٌ منا على نفسه وميثاقاً يعمل بمقتضاه فيما بقي من حياته، ليتحقق له الخير والفلاح في العاجل والآجل.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى والرسول المجتبى كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاية المسلمين فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، اللهم اكتب على يده جمع كلمة المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز.
اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها، وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، واجعل الحياة زيادةً لنا في كل خير، والموت راحةً لنا من كل شر.
اللهم اجعل عامنا الجديد عام عزٍ ونصرٍ للمسلمين، اللهم اجعله عام نصرٍ للمسلمين يا رب العالمين.
اللهم حرر فيه مقدساتهم، وانصرهم فيه على أعدائهم، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(8/6)
كيف تكون المحبة إذاً؟!
إن للسيرة النبوية لدوراً كبيراً في تقويم السلوكيات، وإزالة الانحرافات التعبدية والعقدية، وإن الأمة اليوم بحاجة ماسة في ظل هذه الأوضاع المتردية إلى الارتشاف والارتواء من معين السيرة الصافي؛ تحسيناً للأحوال، وتطويراً للأوضاع، ورفعاً لمستوى الأمة إلى المكانة السامقة والمنزلة السامية التي كان عليها سلفها الصالح.
ولقد وجد في الأمة أناس نظروا إلى السيرة على أنها قصص تتلى دون عمل وهذا فهم خاطئ.(9/1)
دور السيرة في تقويم السلوكيات والانحرافات
الحمد لله الذي منَّ على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلوا عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأثني عليه الخير كله، اللهم لك الحمد كله، ولك الخلق كله، ولك الأمر كله، وإليك يرجع الأمر كله، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد ببعثة خير الأنام، ولك الحمد بالمال والأهل والمعافاة، ولك الحمد على كل حال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل رسوله للعالمين فضلاً منه ورحمة، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، هدى به من الضلالة، وبصَّر به بعد الغواية، فتح الله به قلوباً غلفاً، وأعيناً عمياً، وآذاناً صماً، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى؛ اتقوه تفوزوا وتفلحوا، واتبعوا سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم تهتدوا، واقتفوا أثره وبنهجه تمسَّكوا توفقوا.
أيها الإخوة في الله: يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم! السيرة العطرة؛ سيرة خير البرية عليه من الله أفضل صلاة وأزكى تحية بما فيها من شمائل نبوية، ومعجزات محمدية، ووقائع مصطفوية، كلها معين ثر، وينبوع صاف متدفق يرتوي من معينة كل من أراد السلامة من لوثات الوثنية، والنجاة من أكدار الجاهلية، بل هي الشمس الساطعة، والسنا المشرق، والمشعل الوضاء، والنور المتلألئ الذي يبدد ظلمات الانحرافات العقدية والسلوكية والاجتماعية وغيرها، وإن حاجة الأمة إلى معرفة سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، والاقتباس من مشكاة النبوة فوق كل حاجة، بل إن ضرورتها إلى ذلك فوق كل ضرورة، فكل من يرجو الله واليوم الآخر يجعل الرسول قدوته، والمصطفى صلى الله عليه وسلم أسوته؛ كما قال عز وجل: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
لقد ولد عليه الصلاة والسلام في تلك الربى والبطاح، وكانت ولادته إيذاناً ببزوغ فجر الحق وغروب شمس الباطل، وبُعث من تلك البقاع، وكانت بعثته انطلاقةً لأعظم حضارة عرفها التاريخ قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] حضارة أسعدت البشرية، وحررت الإنسانية من قيود الشرك والذل والوثنية؛ إلى ساحة الإيمان والعلم والحرية، زلزلت كيان الظلم والجاهلية، وحطمت عروش القياصرة، ودكت حصون الأكاسرة.
لقد نشأ عليه الصلاة والسلام في هذا الحمى، وحفظه الله من أرجاس الوثنية ولوثات الجاهلية، ولقد قام صلى الله عليه وسلم بتبليغ دعوة ربه كما أمره الله، وكم أوذي في الله فصبر حتى تحقق له ولأمته العز والنصر والتمكين.
جبله الله على أحسن الأخلاق والشمائل، وخصه بأزكى السجايا والفضائل، وحسبنا في ذلك ثناء ربنا عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] تقول خديجة رضي الله عنها: [[كلا.
والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق]].
هاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ورفع راية الجهاد لإعلاء كلمة الله، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وبعد أن بلغ البلاغ المبين لحق عليه الصلاة والسلام بالرفيق الأعلى قرير العين بجنة الله ورضوانه، عليه من الله أفضل الصلاة والسلام دائماً وأبداً إلى يوم الدين.
فيا عباد الله: هذه ملامح من السيرة العطرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم؛ يجب أن يتذكرها المسلمون في كل حين، وأن يجددوا العهد بها في كل أوان إلى الدوام.
إن أهل الإيمان الحق يستمدون من الهدي كل أمورهم، فلا تستوي الأمور وتستقيم السبيل إلا بذلك، فبهديه عليه الصلاة والسلام يهتدون، وعلى ضوء سنته يسيرون، ومن معين نبوته يرتوون، ولأعلام هدايته يحملون، وتحت لوائها يجاهدون، أسقطوا الرايات المشبوهة، ودحضوا الشعارات الزائفة، ولم يبقوا إلا شعار التوحيد لله، والمتابعة لرسوله عليه الصلاة والسلام، عليه يحيون وعليه يموتون، وفي سبيله يكافحون، ومن أجله يوالون ويعادون، ويعطون ويمنعون، وعليه يلقون الله رب العالمين.(9/2)
حاجة الأمة الماسة لفقه السيرة النبوية
إخوة الإيمان: لم تكن حاجة الأمة في عصر ما إلى معرفة السيرة العطرة، معرفة اهتداء واقتداء؛ أشد إليها من هذا العصر الذي تقاذفت فيه الأمةَ أمواج الفتن، وتشابكت فيه حلقات المحن، وغلبت فيه الأهواء، واستحكمت فيه الزعوم والآراء، وواجهت فيه الأمة ألواناً من التصدي السافر، والتحدي الماكر، والتآمر الرهيب من قبل أعداء الإسلام على اختلاف مللهم ونحلهم، يتولى كبر ذلك من لعنهم الله وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير، وعبدة الطاغوت؛ من اليهود الصهاينة، ويوالي مسيرتهم عبدة الصليب، ودعاة التثليث، ويشد أزرهم المفتونون بهم المتأثرون بصديد أفكارهم، وقيح ثقافاتهم، من أهل العلمنة ودعاة التغريب، ويزداد الأسى حين يجهل كثير من أهل الإسلام حقائق دينهم وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيص وتحقيق، أو يجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق، وحينما يُضرب المثل في ذلك على نظرة كثير من أهل الإسلام للسيرة المباركة فإنك تجد العجب العجاب! ففئات تغلو في الجناب المحمدي وترفعه إلى المقام الإلهي، وفئات تجفو وتعرض.(9/3)
المواقف السلبية تجاه سيرة الرسول
فمن الناس من نظر إلى السيرة النبوية على أنها قصص تتلى، وفصول تسرد، دون متابعة واقتداء، فلا تحرك مشاعراً وقلوباً، ولا تثير مشاعراً وهمماً، وأبو القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي فوق كونه عظيماً من عظماء التاريخ؛ فإن شرف النبوة وتاج الرسالة هو الذي يحسن له المحبة والاتباع، وإن ارتباطنا برسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، وسيرته العطرة؛ ليست ارتباط أوقات ومناسبات، ولا حديث معجزات وذكريات، بل إنه ارتباط وثيق في كل الظروف وعلى جميع الشئون وأحوال الحياة إلى الممات.
وشخصية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليست شخصية مغمورة، ولا في ثنايا التاريخ مطمورة، تبرز حيناً وتطوى حيناً، حاشاه عليه الصلاة والسلام بأبي هو وأمي، بل إن ذكره يملأ الأفاق، والشهادة برسالته تدوي عبر المآذن والمنابر، وتنطلق عبر الحناجر والمنائر، والمسلم الذي لا يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في عمله وتفكيره في كل لحظة من لحظاته؛ لا يغني عنه أبداً التغني بسيرته، ولا صياغة النعوت في مدائحه، وليس هناك أعلى من مدح ربه جل وعلا له وثنائه عليه، فقد رفع ذكره، وأعلى في العالمين قدره، وشرح صدره، ووضع وزره، وما جنح بعض المسلمين إلى مثل هذا اللون في الإفصاح عن تعلقهم بنبيهم إلا يوم أن أعياهم القيام بالعمل، وتركت نفوسهم العزمات، واستسلموا للتواني والكسل، فالجهد الذي يتطلب العزائم هو الاستمساك والاقتداء، فبدلاً من التغني والترنم ينهض المسلم الجاد إلى تقويم نفسه، وإصلاح شأنه حتى يحقق الاقتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى يترجم تلك الدعاوى إلى واقع عملي في كل شأن من شئونه، في معاشه ومعاده، وفي حربه وسلمه، وفي علمه وعمله، وفي عباداته ومعاملاته.
وإن تحويل الإسلام والحب لرسول الإسلام صلى الله عليه وسلم إلى هز للرءوس وتضخيم للعمائم، وإطالة للشبه يصاحب ذلك هوهوات وتمتمات، وشنشنات وهمهمات، وتعلق بأذكار وتسابيح، وتمسك بمدائح وتواشيح؛ لشيء عجيب يحار العقل في قبوله، والأدهى من ذلك أن تكون هذه الأمور معايير لصدق المحبة وعدمها، ومقاييس يرمى كل من تركها واستبان عورها بتنقصه للحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، وتلك شنشنة معروفة من أخزم، فحبُّ رسولنا صلى الله عليه وسلم في شغاف قلوبنا، ولا يغيب حبه إلا من قلب منافق جحود.
ومن الأسف أن أعداء الملة تمكنوا في غفلة من المصلحين أن يصدِّعوا بناءه وينقضوا أركانه، فكيف يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم يترك ميراث النبوة نهباً للعوادي؟ وكيف يقع التبديل والتغيير في دين الله في غفلة وسكون؟ وكيف يمهد للجاهلية الأولى أن تعود من جديد؟ ألا فليفقه المسلمون سيرة رسولهم صلى الله عليه وسلم فقهاً مؤصلاً بالدليل والبرهان قبل أن تأخذ بهم السبل الملتوية؛ فتطوح بهم بعيداً عن الجادة، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.(9/4)
الحديث عن السيرة في ظل الأوضاع المتردية
أمة الإسلام: لقد جربت الأمة هذه المظاهر بعد انحسار القرون الثلاثة المفضلة فلم تجد شيئاً، لم تعُد عزة، ولم تورث منعة، ولم تؤصل مجداً، ولم تخلف تاريخاً، ولم ترجع مقدسات، ولم تعِد مقدرات، وإذا كانت الأمة في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها تتحدث عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم فكيف يطيب الحديث؟ وكيف يحلو الكلام ومقدسات المسلمين يعيث فيها أعداء الإسلام والمسلمين من اليهود الأخباث؟ وهاهم يصعدون عدوانهم ويزيدون إذكاء ذلك إذكاءً للفتنة، ويتحدون مشاعر المسلمين بكل وقاحة! كيف يجمل الحديث عن السيرة والذكريات وأعداء المسلمين من الصرب النصارى المعتدين الحاقدين؛ يصرون على صلفهم وعدوانهم ضد إخواننا وأعراضنا ومساجدنا في جمهورية البوسنة والهرسك، كيف يحلو الكلام والهندوس الوثنيون يمعنون في حقدهم السافر ضد مشاعر المسلمين على ثرى كشمير؟ وما أدراك ما أنباء الشيشان والصومال وغيرها من البقاع! كيف وكيف؟! وقضايا المسلمين معلقة، وأوضاع الأمة متردية، والنظام العالمي وهيئات الأمم متخاذلة، ولا حولا ولا قوة إلا بالله، إن لله وإنا إليه راجعون!(9/5)
الموقف الإيجابي تجاه السيرة النبوية
إخوة العقيدة: أمة الإسلام! أمة محمد صلى الله عليه وسلم! إننا بحاجة إلى تجديد المسار، وتصحيح المواقف، والوقوف طويلاً للمحاسبة والمراجعة، نريد من مطالعة السيرة ما يزيد الإيمان، ويزكي الأخلاق، ويقوم المسيرة.
يخطئ كثيرون حينما ينظرون إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم وسيرته كما ينظر الآخرون إلى عظمائهم في نواحي ضيقة محدودة بعلم أو حنكة أو عبقرية، فرسولنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم قد جمع نواحي العظمة الإنسانية كلها في ذاته وشمائله وجميع أموره، لكنه مع ذلك ليس رباً فيقصد، ولا إلهاً فيعبد، وإنما هو نبي يطاع ويتبع، هو مِنَّة الله على هذه الأمة.
إن من المؤسف حقاً أن بعض أهل الإسلام هداهم الله لم يقدروا رسولهم صلى الله عليه وسلم قدره، وهم يتوجهون إليه بالحب والتعظيم؛ ذلك أنه حب سلبي لا صدى له في واقع الحياة، ولا أثر له في السلوك والتطبيق.
انظر إليه عليه الصلاة والسلام في مجاري الأخلاق؛ تجده مثال الكمال في رقة القلب، وسماحة اليد وكف الأذى وبذل الندى، وعفة الضمير واستقامة السيرة وسلامة السريرة، وانظر إليه في كل جوانب حياته، في جهاده ومعاملاته، تلك لعمر الحق عراقة الخلال وكريم الشمائل، فهل من يتغنون اليوم بسيرته يقتفون أثره ويلتزمون هديه؟
إن حقاً على أهل الإسلام وهم المؤتمنون على ميراث النبوة أن تصقلهم الوقائع، وتربيهم التجارب، فلا تزال الفتن والخطوب مدلهمة على هذه الأمة، ومع مآسي أبنائها المتكاثرة وجراحاتها المتواترة فإن هذه الأمة أمة ثرية بعطاءاتها، والخير فيها مستمر إلى قيام الساعة، ففي خضم المعاناة مع أعداء الإسلام تبرز فلول من التفاؤل، وتظهر بوارق الآمال تجسدها صحوات عالمية، وانتفاضات إسلامية، وتوجهات خيرية؛ تنشد الإسلام بأصوله الصحيحة، وحقائقه الناصعة، ولقد ثبت لذوي البصائر أن رفع راية الجهاد في سبيل الله وإعلان التضحية والاستشهاد في سبيل نصرة الحق؛ هو الطريق الأوحد لإعلاء كلمة الله، وإعزاز أهل هذا الدين، وإن النزاع مع الأعداء المتسافرين نزاع عقيدة وهوية ومصير، وإن المقدسات لن تحرر برايات إقليمية، ولا شعارات طائفية، ولا مظاهر وشكليات، وذكريات واحتفالات، وإنما بشعار الإسلام، والإسلام وحده على ضوء الكتاب والسنة {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [التوبة:128 - 129].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبسنة سيد المرسلين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(9/6)
حُب الرسول اتباع لا ابتداع
الحمد لله الذي أرسله رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، وتعظيماً لشأنه وتمجيداً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مجيداً.
أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
عباد الله: رووا قلوبكم وأرواحكم من سيرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، واربطوا أنفسكم وناشئتكم وأسركم بها رباطاً محكماً وثيقاً؛ يسمو عن التخصيص في أوقات، والتذكير في مناسبات.
إخوة الإسلام: يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن محبة المصطفى عليه الصلاة والسلام دين يدين لله به كل مسلم، بل لا يتم إسلامه إلا بمحبة الحبيب محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} غير أن المحبة لا تكون باللسان والادعاء؛ وإنما بالتطبيق والمتابعة وصدق الانتماء {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32] وحسبك بالزيادة أنها افتيات على الشارع الحكيم، ومخالفة للنبي الكريم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} ويقول الإمام مالك رحمه الله: من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله عز وجل يقول: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً، ولم يأت آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها.
فاحرصوا -رحمكم الله- على اتباع السنة واقتفاء آثار سلف هذه الأمة، فإن الخير كل الخير في الوقوف حيث وقف السلف الصالح رحمهم الله، وإننا لنتساءل أين الساسة والعلماء؟
وأين أهل الفكر والتربية وأصحاب المسئوليات في بلاد المسلمين من الاستفادة من منهج النبوة؛ بالإصلاح العام، وتسخير مناصبهم ومسئولياتهم في القيام بحمل رسالة الإسلام، وأداء الأمانة والنزاهة، وخدمة البلاد والعباد؟
فالمسئوليات محنة ومنحة وتكليف وتشريف، والموفق من وفقه الله عز وجل فنصح لله ولعباده ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، لا سيما والأمة تواجه سيلاً جارفاً وتيارات وافدة ما جلبت للأمة إلا الشقاء والعناء، إن الموفق من تمسك بالسنن النبوي، والنهج المحمدي، وصبر على ما أصابه، والمحروم من انقطع بالنبي صلى الله عليه وسلم سببه، وخاب سعيه وطلبه، ولو عمل ما عمل مما ليس عليه أثارة من علم أو أمارة من برهان.
فيا من يريد نجاتة! السنة السنة! والاتباع الاتباع! والحذر من الابتداع! وإياك أخي المسلم من الاغترار بما عليه كثيرون فالحق ليس بالكثرة، وإنما بالحجة والبرهان، وإن على حملة السنة أن يوحدوا كلمتهم، ويجمعوا قلوبهم، ويحذروا من فتح جبهات داخلية، وتغليب خلافات جانبية؛ فإن التعصب للشعارات والجماعات، والنعرات الحزبية الضيقة ليس من دين الله في شيء، والحق ليس حكراً على فرد من الأمة دون آخر، ولا جماعة دون أخرى؛ ما دام أن الكل على المنهج النبوي؛ لا سيما في مجال العقيدة والاتباع، والخطأ وارد والنصح مشروع، والأذى بين الإخوة ممنوع، والمجاهرة بالردود والانشغال بها بين أصحاب المنهج الواحد يتيح الفرصة للأعداء لإحكام الوقيعة بين الأحبة.
ألا ما أحوج حملة السنة اليوم إلى تنسيق جهودهم، والتلاحم مع ولاتهم وعلمائهم؛ لدرء الأخطار المحدقة بهم.
فيا أمة الإسلام: ويا حملة السنة! ويا أحباب المصطفى صلى الله عليه وسلم! أما آن لنا أن نتنبه لأعدائنا الذين يهددوننا في ديننا ودنيانا وأخرانا؟ أما آن لنا أن نتخلى عن المعارك الوهمية، والخلافات الجانبية، والردود الكلامية، ونفرغ طاقاتنا، ونركز جهودنا، ونتلاحم مع ولاتنا وعلمائنا في السير جميعاً في طريق الخير والرشاد، والحكمة والسداد؟
ألا واعلموا عباد الله أن من أعظم ما تقربتم لنبيكم وأعربتم به عن محبة نبيكم صلى الله عليه وسلم هو كثرة الصلاة والسلام عليه.
فصلوا وسلموا -رحمكم الله- على المصطفى المختار الخيار من خيار من خيار كما أمركم بذلك العزيز الغفار؛ فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلَّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً، اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تنصر إخواننا المسلمين المضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين، اللهم انصرهم في البوسنة والهرسك والشيشان، اللهم انصرهم في كشمير وفي كل مكان يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة يا حي يا قيوم.
اللهم ولّ علينا خيارنا، واكفنا شر شرارنا يا ذا الجلال والإكرام، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.(9/7)
لا لمؤتمر السكان والتنمية
إن عصرنا هذا تموج فيه الفتن موج البحر الخضم، فتن عظيمة فعلينا الحذر منها.
فتن تدعو إليها الصهيونية والصليبية؛ لتمسخ الأمة وشبابها.
من هذه الفتن: الدعوة إلى تحديد النسل، وتقليل الأولاد في الأسر، والغرض من ذلك: تقليل عدد المسلمين، وكذلك النخر في عقيدة المسلم حتى يضعف توكله واعتماده على الله في الرزق والله المستعان.(10/1)
تحذير من الدعوات الزائفة المزركشة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه.
أما بعد:-
فاتقوا الله عباد الله، فالله عز وجل قد أمركم بتقواه، واعملوا على سلوك طريق هداه.
أيها الإخوة في الله: لقد أنعم الله على الإنسان حيث خلقه في أحسن تقويم، وكرَّمه أعظم تكريم، بدأ خلقه من طين ونفخ فيه من روحه، وفضله على سائر المخلوقات، وميَّزه على سائر الكائنات، حباه العقل والإدارك، وميزه بالسمع والبصر والفؤاد، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جمعياً منه، وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، خلقه واصطفاه، وفضله واجتباه، وأعده أكمل إعداد وأوفاه، أكرمه بالفطرة السوية والعقيدة النقية، وحملَّه الأمانة الغالية، وكلَّفه الرسالة السامية، أنشأه من الأرض ليعمرها، واستخلفه فيها ليصلحها، ينفذ أحكامه، ويطبق شريعته، وهيأ له فيها كل ما يحتاجه مما تقوم به حياته، ويصلح له أمر دينه ودنياه: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70].
أيها الإخوة المسلمون: لقد حظي الإنسان في ظل الإسلام بتكريم لا مثيل له، وتشريف لا نظير له، ينال ذلك منذ تكوينه جنيناً في بطن أمه، ويمتد هذا التكريم في المنهج الإسلامي ليشمل كل فرد في المجتمع الإنساني ذكراً كان أو أنثى، ضعيفاً أو قوياً فقيراً أو غنياً، في بعد عن النزعات الإقليمية والعصبيات الجاهلية، وفي منأى عن المبادئ الفكرية والقوانين الوضعية، التي سامت الإنسان سوء العذاب، لقد رسمت له هدفه، استغراقاً في الإباحية والشهوات، وانغماساً في الماديات والملذات، جعلت منه آلة متحركة يتحول بعدها إلى معدة جائعة، بلا روح ولا ضمير، وبلا شعور ولا وازع، فدمرت الإنسان حيث تريد بناءه، وذلك لأن الإنسان مخلوق تجتمع فيه قوى الروح والجسد، ولكل منهما طاقات ومتطلبات تؤخذ مجتمعة متوازنة، ولم ولن ولا يتم ذلك إلا في ظل الإسلام الحق، وقد أخفقت كل المحاولات البشرية والنظم الأرضية في إسعاد الإنسان؛ لما أقصت عن حياته مطالب الروح وغذاء الإيمان، وحجبت أشعة نور العقيدة أن تغمر الفرد ببهائه، والمجتمع بضيائه، وذلك -لعمر الحق- عدوان صارخ على الإنسان، وتجاهل لحقيقته، وإهدار لإنسانيته، وزراية خطيرة بكرامته، ووأد لمعاني الخير والفضيلة والقيم في نفسه.
وإن أي دعوة للإنسان بتخطي حدود الله، وتجاوز شريعته، إنما تسف بالإنسان وتهبط به من آفاق العزة والكرامة إلى حضيض الضعف والمهانة، وتجعله سادراً في الظلام، غارقاً في التيه والضلال، تعصف به تيارات الضياع، وتوقعه في عالم القلق والحيرة والاضطراب والتوتر والجريمة من حيث تزعم أنها تسعده، وتدعي أنها تحرره وتفتح مداركه، وتجعله يواكب الركب في التطور والمدنية كما زعموا.
أبعد هذا ينخدع إنسان بالدعاوى المزركشة، والوعود الكاذبة، والمؤتمرات المشبوهة التي يريد أصحابها تشكيك أهل الإسلام بصلاحيته وبقيمه وأخلاقه ومثله؟! والسؤال الذي يفرض نفسه: ماذا يريد هؤلاء؟!
أيريدونها علمانية تقصي الدين عن واقع الحياة، وعن تنظيم شئون الناس السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية وغيرها، وتجعل من الدين طقوساً لا أثر لها في دنيا الواقع؟!
أيريدونها إباحية تداس فيها القيم وتهدر الأخلاق وتشاع الأمراض والجرائم؟!
أيريدونها فوضوية يتسلط فيها القوي على الضعيف، ويصبح الناس فيها أشبه بوحوش كاسرة، وسباع ضارية، لا مكان فيها إلا للأقوى؟!
لقد أفلست كل هذه النظريات، ولم تعد صالحة لإسعاد البشرية، والواقع من أكبر الشواهد على ذلك، فالعجب من الأصوات الناعقة، والأقلام الحاقدة، والمؤتمرات المشبوهة، كيف تجرءوا على محادة الله ورسوله، ومصادمة شرعه ودينه؟!
والعجب العجاب من ذلك الإنسان الضعيف كيف يعدو قدره ويتجاوز حده، ويشمخ بأنفه ويعتد بقوته ويتباهى بسطوته ويمتلئ غروراً وكبرياءً وغطرسة؟!
لكنه الإنسان في غَلْوَائه ضلت بصيرته فَجُنَ جنوناً
ما أضيع الإنسان مهما غدا في سبل العلوم إذا أضاع عريناً
إنه لخليق بالإنسان أن يعرف ربه، ويؤدي دوره، ويدرك مسئوليته ويقوم بواجبه في عبادة ربه سبحانه، وينقاد لأوامره، ويذعن لحكمه ويتجه بصدق وإخلاص، وبكل شعور وإحساس، نحو هذه الغاية المشرفة، صلاحاً وإصلاحاً؛ وبذلك يكون مؤمناً حقاً ومسلماً صدقاً، ولن يقوم أحد بذلك إلا إنسان العقيدة والقيم والأخلاق، فمتى سعد الإنسان إلا في ظل العقيدة الصحيحة.
من الذي صان دم الإنسان أن يسفك، وعرضه أن ينتهك إلا الإسلام، ومن الذي أحرز ماله أن يغتصب وحماه أن يقتحم وعقله أن يعطل إلا الإسلام، يوم أن فشلت الشعارات، ولكن يأبى بعض الناس إلا تجاوز حدود الله ومخالفة شرع الله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل:33] {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة:32].(10/2)
الإسلام يحث على التناسل والتكاثر
أمة الإسلام: وكما رعى الإسلام حق الأفراد رعى حق الأسرة والمجتمع، وسعى لإشاعة الفضيلة ومحاربة الرذيلة، أقام صروح الأسر والمجتمعات على أساس من الدين والقيم والمثل والأخلاق، واعتبر القوى البشرية من أهم عوامل التقدم والازدهار والحضارة.
ولذلك كان من مقاصده وأهدافه في بناء حضارة إسلامية عالمية، أن قصد إلى كثرة النسل وتنميته، واعتباره إحدى الضرورات المقررة في الشريعة الغراء، كما حث رسول الهدى صلى الله عليه وسلم أمته على كثرة النسل.
أخرج الحاكم وغيره أنه صلى الله عليه وسلم قال: {تناكحوا، تناسلوا تكاثروا فإني مباهٍ بكم الأمم يوم القيامة} وعند أحمد من رواية أنس رضي الله عنه {تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة} وفرض الإسلام حق المحافظة على النفس البشرية، وحرم الاعتداء عليها وإن كانت حملاً في بطن، وهو ما يسمى بالإجهاض قال تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ} [الأنعام:151] {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء:31].
وذلك لما في هذه الجريمة الشنعاء من سوء ظن بالله عز وجل، وإنكارٍ لقدرته وإظهاره سبحانه بمظهر العاجز عن كفاية خلقه ورزقهم، تعالى الله سبحانه عما يقول الظالمون علواً كبيراً {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6] {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت:60].(10/3)
الدعوة إلى تحديد النسل مؤامرة ودسيسة
وبذلك يعلم كل ذي بصيرة أن القول بتحديد النسل أو منع الحمل مصادم للنصوص الشرعية والفطرة الإنسانية التي فطر الله الخلق عليها، والقائلون بذلك هم فئات حاقدة على الإسلام والمسلمين، وإن كانوا من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا، فالأمر لا يعدو كونه دسيسة كفرية ومؤامرة عدوانية تستهدف تقليل نسل الأمة الإسلامية، والزج بها في أعمال الجاهلية والأخلاق البهيمية الشهوانية، ليتحقق للقوى الاستعمارية ما تصبو إليه من إضعاف الكيان الإسلامي، وتلك سلسلة من مؤامرات في ثوب مؤتمرات، تهدف إلى تشكيك المسلمين بدينهم وقيمهم، ونشر الإباحية والعلاقات الجنسية المحرمة بينهم، بدعوى الحرية الشخصية تارة، وبدعوى المساواة والتقدمية والمدنية تارة، وبدعوى الحد من الانفجار السكاني تارة ثالثة، وتلك وغيرها من الدعاوى المزركشة، شنشنة معروفة من أخزم يغلف بها أصحابها مؤامراتهم العدائية ضد أبناء الأمة الإسلامية.
لكن يا ليت قومنا يعلمون ويدركون أبعاد المؤامرة الشرسة ضد دينهم وقيمهم وأخلاقهم، حتى لا ينخدع أبناء المسلمين بركب الباطل مهما طقطقت براذينه، نقول ذلك وقد تابعت الأمة الإسلامية عبر أسبوعين مضيا على وجل وحذر شديدين أعمال ومداولات ونتائج وتوصيات وقرارات ما سمي ظاهراً بـ (المؤتمر الدولي للسكان والتنمية) الذي طالعنا بأفكار غريبة تتناقض مع ما جاءت به الشرائع السماوية، وما تعارف عليه الناس من القيم الأخلاقية، مما يؤكد أنه مخطط إجرامي من الدول الصليبية والصهيونية العالمية؛ للإطاحة بالعفة والطهارة والأخلاق والقيم في بلاد المسلمين.
إن المتابع لمثل هذه الأعمال العدائية والمؤتمرات الاستفزازية يعجب وهو يرى كيف يجرؤ أولئك القوم على استفزاز مشاعر الأمة الإسلامية، على سمع العالم وبصره!
وإننا لنتساءل ماذا يريد هؤلاء؟!
ومن المستفيد من عقد مثل هذا المؤتمر المشبوه؟!
ومن يقف وراءه؟!
وهل وعت أجيالنا التي لا زال كثير منها سادراً في التيه والانحراف عظم المؤامرة؟!
وبأي حق يفرض على الشعوب الإسلامية ما يخالف شرع الله؟! فالأمر أمره والشرع شرعه ولا يحق لأحد كائن من كان فرداً أو هيئة أو منظمة أو دولة أن يتطاول على شرع الله ويلزم الناس بغيره، والذي يقال بصراحة: لا وألف لا لكل ما يعارض شرع الله، ويجر البلاد والعباد إلى فتن لا يعلم عواقبها إلا الله.
لقد أساء أولئك القوم التدبير وأخطئوا التقدير وقالوا بالباطل والتزوير، وجانبوا الحق والتنوير، أما يكفي زاجراً ويشفي واعظاً ما تعيشه المجتمعات المخالفة لشرع الله من انتشار الفواحش والأمراض المستعصية؟! فكيف بالدعوة إليها والسعي إلى نشرها بين المسلمين؟! {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
إن المعاناة الاقتصادية والأخلاقية، التي يعيشها كثير من المسلمين اليوم، لا مخلص منها إلا بالإيمان بالله، والتوكل عليه سبحانه، ثم تنمية الموارد وترشيد الإنفاق، وعدالة توزيع الثروات وعدم تبديد الطاقات فيما لا ينفع الأمة، والعيب عيب الأنظمة الجائرة، وإلا فأرض الله واسعة وخزائنه ملأى، ولا تزال الخيرات في باطن الأرض وظاهرها مكنونة، فأين المستثمرون؟ ولو أن المليارات التي تنفق في سباق التسلح وشن الحروب على المستضعفين، حولت إلى مشاريع إغاثية واستثمرت لصالح البشرية لما حصل ما شنشنوا حوله، والذي يؤكد في هذا المقام ضرورة أخذ الحذر من مخططات ومؤامرات أعداء الإسلام ضد دين الأمة وقيمها وأخلاقها، والعناية بالأسرة، وتربية النشء على العفة والفضيلة، والحرص على كثرة نسل الأمة الإسلامية.
وإنه في الوقت الذي نستنكر ذلك ندعو قادة المسلمين وعلماءهم وشعوبهم وكافة المنظمات والهيئات الإسلامية، أن تتقي الله في مسئولياتها، وتتعاون فيما بينها لوضع مشروعات بديلة لمعالجة قضايا التنمية على ضوء شريعتنا الإسلامية وأخلاقنا الفاضلة، والله المسئول أن يأخذ بأيدينا إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يكفينا شر أعدائنا، ويفشل مؤامراتهم ومؤتمراتهم بمنه وكرمه، إنه جواد كريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة:208].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(10/4)
الرجوع إلى الله هو المخلص من الفتن
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جل في علاه، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الداعي إلى هداه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى وأصحابه ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، واشكروه جل وعلا على ما هداكم للإسلام، واعلموا رحمكم الله أن الإسلام أوجب على أتباعه التواصي بالحق والدعوة إليه والتعاون عليه، وتشجيع مجالات الخير في المجتمع، وإغلاق منافذ الشر فيه.
وإننا لنحمد الله ونشكره على ما هدانا للإيمان، وأبان لنا الحلال والحرام، ورزقنا التمسك بشريعة الإسلام في وقت ضل فيه كثير من الناس، نسأل الله أن يثبتنا على الإسلام.
وإن من التحدث بنعم الله ما وفق الله إليه قيادة بلاد الحرمين الشريفين -حرسها الله- وعلماءها -وفقهم الله- من اتخاذ المواقف الصامدة من هذا المؤتمر المشبوه وما على شاكلته، وهو موقف ينبغي أن يذكر فيشكر، وإلى مزيد من المواقف الصامدة في نصرة الحق وأهله، ودرء الباطل وأهله، والشكر موصول لمسديه سبحانه، أن أفشل خطط ونتائج ومؤامرات الأعداء، وجعل كيدهم بينهم فيما سعوا إليه، من إباحة الإجهاض والشذوذ عياذاً بالله، لكنهم سيسعون جاهدين إلى الدعوة إلى الباطل، ولن يكون هذا المؤتمر آخر سهامهم، فلنكن على حذر وفطنة يا عباد الله، ولقد أثبت هذا المؤتمر أن في الأمة يقظة وصحوة بحمد الله، فهي لن تقبل شيئاً يخالف دينها وقيمها وأخلاقها.
أيها المسلمون: وإذا كانت الأمة تعيش عصر الفتن التي أقبلت كبحر خضم قد تلاطمت أمواجه، وليل داج قد ادلهم ظلامه، وسيل جارف قد انعقد غمامه، فلا مخلص من الفتن إلا بالاعتصام بالله، والالتجاء إليه سبحانه، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، والرجوع إلى علماء الشريعة، والتلاحم معهم، والتحلي بالصبر والرفق والتثبت والتعقل والحكمة، والبعد عن مسالك العنف والمواجهة، وكف اللسان عن الخوض فيما لا يعني، وعدم الانخداع بالأبواق الناعقة التي يريد أصحابها الاصطياد في الماء العكر، وجر البلاد والعباد إلى فتن لا يعلم عواقبها إلا الله، ثم الدعاء الدعاء والاستعاذة بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن هذه البلاد المباركة خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة بمنِّ الله وكرمه.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير الورى، كما أمركم بذلك ربكم جلَّ وعلا، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً سخاءً رخاءً وسائر بلاد المسلمين.(10/5)
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
إن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لهي من أوثق عرى الإيمان، وحبه صلى الله عليه وسلم ليس بالتغني بشمائله والتمدح بفضائله، وإقامة الأفراح والحفلات عند ذكرى مولده، وإنما باتباعه صلى الله عليه وسلم في جميع أفعاله وأقواله والحذر من مخالفته.(11/1)
الحذر من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وإن اجتمع الناس كلهم لهدايته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كتب الرحمة للمتقين الذين يتبعون الرسول النبي الأمي، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أنقذ الله به البشرية من الجهالات والضلالات، وأخرجهم به إلى النور بعد الظلمات والخرافات، فصلوات الله وسلامه ورحمته وبركاته عليه وعلى آله وصحبه المتبعين لنهجه، المقتدين بسنته، وعلى من سار على نهجهم واقتفى واقتصر على طريقتهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
إخوة الإسلام في بلد الله الحرام، أيها المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل واتباع سنة نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، ومعرفة سيرته في كل أمر من أموركم، وفي كل وقت وفي كل زمان من أزمانكم، فالله سبحانه وتعالى قد أمرنا بذلك، ولم يعين له وقتاً، ولم يحدد له زمناً، ولم يخصص له مناسبة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
وقد أمر سبحانه باتباع رسوله صلى الله عليه وسلم وجعل هذا الاتباع سبيلاً للهداية، ووسيلة لنيل حبه، وتحقيق رضاه، وحصول غفرانه، وحذر سبحانه من الإساءة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في حياته، أو الإساءة إلى سنته بعد وفاته بتقديم غيرها عليها، أو بمخالفتها والخروج على توجيهاتها بالنقص منها أو الزيادة عليها، فيقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] إلى قوله تعالى في الآية بعدها: {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2].
وجعل الخروج ولو مرة واحدة عن حد اتباع الرسول والتسليم له ضلالاً مبيناً وانحرافاً لا شك فيه، بل يؤدي إلى عدم الإيمان والعياذ بالله، فيقول سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً} [الأحزاب:36] ويقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65].
أخرج البخاري رحمه الله في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى.
قيل: ومن يأبى يا رسول الله؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى} وما أكثر الذين يتمنون الجنة بأقوالهم ويأبونها بأفعالهم.(11/2)
الحذر من الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم
إخوة الإسلام: إن واجب المسلمين أن يعرفوا قدر رسولهم صلى الله عليه وسلم بدون غلوٍ فيه وإطراء له، وبدون تقصير في حقه وتفريط في محبته، فهو عليه الصلاة والسلام عبد من عباد الله، ورسول من رسل الله، وله من المزايا والخصال ما يفوق بها كل البشر، ولكنه مع ذلك لم يخرج عن حدود البشرية والعبودية لله رب العالمين، كما أخبر الله عنه في غير ما آية من كتابه الكريم، فهو عليه الصلاة والسلام ليس إلهاً فيعبد، ولا رباً فيقصد، كما ضل في ذلك كثير من الجهلة؛ الذين صرفوا بعض أنواع العبادة وبعض خصائص الألوهية والربوبية له، وجعلوها للرسول عليه الصلاة والسلام، فسألوه من دون الله، واستغاثوا به، ودعوه عند الكروب والمصائب، وجعلوه علاماً للغيوب، مفرجاً للكروب، معيناً في الخطوب، وكفى بذلك غلواً وشركاً والعياذ بالله.
يقول صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري رحمه الله عن عمر رضي الله عنه: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله}.(11/3)
حقيقة محبته صلى الله عليه وسلم
أما محبته عليه الصلاة والسلام فتفوق كل محبة، وتربو على حب النفس والمال والولد، أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} ومحبته الحقيقية تقتضي اتباع سنته والوقوف عند نهجه، وقد ضل في هذا كثير من الناس حيث ظنوا جهلاً وضلالاً أن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم تقتصر على التغني بشمائله والتمدح بفضائله، وإقامة الأفراح والحفلات عند ذكرى مولده، ونحو ذلك في أوقات معينة، ومناسبات محددة، ورموا من لم يفعل ذلك ببغضه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكفي عملهم هذا انتقاصاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام، حيث ذكروه في وقت ضئيل ونسوه في أوقات كثيرة، وذلك إفكهم وما كانوا يفترون.
وليت المسلمين اليوم يستفيدون من مرور هذه المناسبات المجيدة، فيصححوا مسارهم على نهج من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقلعوا عما هم فيه من معاصٍ وبدع، ويستلهموا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته، ويجتمعوا عليها فتأتلف قلوبهم فيعملوا بها طيلة حياتهم، كما جرى على ذلك عمل السلف الصالح بخلاف ما عليه أهل البدع اليوم.(11/4)
غربة السنة بين أهل الإسلام
أمة الإسلام: وفي هذا الزمن الذي اشتدت فيه غربة الإسلام في بلاد الإسلام، وحتى عند أهل الإسلام، وأخذت السنة تطمس معالمها، وتُطارد في بقاع كثيرة، وينتقص أهلها في كل مكان، ويحلُّ محلها الضلالة والبدع والمعاصي والفسوق، ومع ذلك فعلى المسلم المبتغي لثواب الله الخائف من عذاب الله أن يتمسك بالسنة ولو تركها الناس، ويُغليها ولو أرخصوها، ويعزها ولو أهانوها، فإن ذلك سبيل المؤمنين الصالحين.
ومخالفة السنة تؤدي إلى الفتنة والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وإذا كانت هذه نتيجة مخالفة سنته فكيف نرجو لأمتنا الإسلامية اليوم خروجاً من فتنة، أو نجاة من عذاب، وهي في الجملة قد خالفت أوامر الله ورسوله، فلا تكاد تلتقي مع السنة إلا في القليل، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ومن تأمل حياة المسلمين اليوم وجد هذا حقيقة ناصعة لا مبالغة فيها، فقد تساهل كثير من الناس في تعاليم الدين الحنيف، وعطلوا أحكام الإسلام وتعاليمه، وساروا مع أعداء الإسلام شبراً بشبر وذراعاً بذراع.
أليست الأمة الإسلامية اليوم قد تخاذلت وتخالفت وتساهلت في تحقيق العقيدة الصحيحة؟
أليست البدع والضلالات قد انتشرت بينهم من غير نكير؟
أليس الفساد والانحراف قد بدا وظهر في شباب الأمة ونسائها؟
أليست كبائر الذنوب والمعاصي الجالبة لسخط الله ومقته منتشرة بين ظهرانيها اليوم؟
أليس شباب المسلمين اليوم قد ضل أكثرهم عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم وشُغلوا واشتغلوا بتافه القول ورديء الأعمال، وأصبح ولاؤهم لغير الله، وأصبحت اهتماماتهم مخالفة لكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؟
أليس قد انتشر بين نساء المسلمين اليوم ما يخالف سنة المصطفى الأمين من التبرج والسفور والاختلاط، وما يورث الفتنة، ويهدم الفضيلة، ويقضي على العفة والحياء؟
أليس هذا كله وأكثر منه موجوداً بين المسلمين اليوم؟
فاتقوا الله عباد الله: من للسنة المطهرة اليوم؟! يدافع عنها، ويتمسك بها، ويتبع أوامرها، ويجتنب نواهيها، إن لم تكونوا أنتم يا أمة الإسلام، ويا أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم خير من يقوم بذلك.
من للبدع والمعاصي التي اشرأبت بأعناقها؟! من لها يقضي عليها ويخالفها، ويحذر منها، ويهجر أهلها ويبغضهم؟! إن لم تكونوا أنتم -يا أمة الإسلام- خير من يقوم بذلك.
نسأل الله تعالى أن يوفقنا لاتباع السنة، والبعد عن البدعة والمعصية، وأن يجنب المسلمين في كل مكان الشرور والأخطار، وأن يعيدهم إليه عوداً حميداً إنه على كل شيء قدير.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.(11/5)
أعظم حقوق النبي صلى الله عليه وسلم علينا
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، واعلموا رحمكم الله أن حق نبيكم صلى الله عليه وسلم أعظم الحقوق بعد حق الله تعالى، فيجب عليكم الإيمان به صلى الله عليه وسلم، والرضا به نبياً، ومحبته والاقتداء به في أقواله وأفعاله، وفي عباداته ومعاملاته، وفي أخلاقه وآدابه، وفي مظهره ومخبره.
كذا يجب عليكم النصيحة له صلى الله عليه وسلم، والعناية بسنته، والبحث عن هديه وسيرته، وجعل ذلك سارياً في قلوبكم وأجسادكم، وعدم الغفلة عنه طرفة عين، والحذر من تخصيص ذلك بوقت معين وزمن معين، فما هكذا عمل سلف الأمة رضي الله عنهم.
كما أنَّ من أعظم حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم: كثرة الصلاة والسلام عليه بقلب حي يقظ يعي معنى هذه الجملة العظيمة، ويتبعها بالعمل الدءوب بسنته واتباع شرعه، وإلا فما قيمة الصلاة والسلام عليه إذا كانت تردد بعبارات جوفاء لا يعي صاحبها فحواها.
وتجنبوا رحمكم الله الصلوات المبتدعة التي تصف رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من خصائص الله كعلم الغيب، وجلب النفع، ودفع الضر، وتفريج الكروب، ونحو ذلك.
يقول تعالى في محكم كتابه الكريم: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من صلى عليَّ صلاة صلَّى الله عليها بها عشراً} رواه مسلم.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة} رواه الترمذي وقال: حديث حسن.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه، اللهم ارزقنا محبته، اللهم ارزقنا السير على سنته وإن رغب عنها أكثر الناس.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين! واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم احفظ على هذه البلاد عقيدتها من كل من أراد أن يدنسها، اللهم احفظ عليها إيمانها، واحفظ عليه أمنها، ومتع قادتها بالصحة والعافية، ووفقهم لتحقيق كتابك وسنة نبيك يا رب العالمين، اللهم وفق إمامنا لما تحبه وترضاه يا رب العالمين، اللهم ألهمه الرشاد والسداد يا رب العالمين، اللهم وفقه وإخوانه وسائر المسلمين لما تحب وترضى يا أكرم الأكرمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، وجنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم جنبهم الضلالات والبدع والخرافات يا رب العالمين!
اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً، اللهم أصلح نساءهم يا رب العالمين، اللهم مُنَّ علينا بما تحب وترضى، وبالعودة الصادقة إلى دينك القويم يا رب العالمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك ووفقهم في كل مكان يا رب العالمين، اللهم وفقهم لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى يا رب العالمين!
ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(11/6)
مراقبة الله
إن مراقبة الله تعالى هي: تمام علم العبد وثقته باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه ظاهراً وباطناً.
والمراقبة أمر لازم في حياة كل مسلم؛ حتى يحقق الإحسان في عبوديته لله، ولقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده وسلف هذه الأمة خير مثال وأسوة في مراقبة الله.
وإن الناظر في أحوال الناس يجد أن الأحوال قد تغيرت وانعكست، ونسي كثير من الناس ربهم إلا من عصم الله.(12/1)
أهمية المراقبة في حياة المسلم
الحمد لله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله، وسع كل شيءٍ علماً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق تقواه، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، وتذكروا -رحمكم الله- أنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سدىً فراقبوا الله تعالى حق مراقبته، فإنه سبحانه رقيبٌ عليكم، ومطلعٌ على أعمالكم، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] وقال سبحانه: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] وقال عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [آل عمران:5].
وفي صحيح مسلم من حديث عمر رضي الله عنه: {أن جبريل عليه السلام، سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك} وهذه النصوص تقتضي أن يكون المسلم دائم المراقبة لله، مستحضراً قربه سبحانه منه، وأنه بين يديه سبحانه، يراه في جميع أحواله، وأقواله وأفعاله، في حركاته وسكناته: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].
وذلك يوجب الخشية والخوف من الله وحده، كما يقتضي فعل الطاعات وترك المنكرات، والإخلاص لله عز وجل، والبعد عن الرياء والسمعة المحبطة للأعمال.(12/2)
أحوال السلف مع المراقبة
وتقوى الله ومراقبته، كانت شعار الصالحين، وعمل المؤمنين من سلف هذه الأمة، أسوتهم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد وصّى بها أصحابه وأمته من بعدهم، ففي الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {كنت خلف النبي صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: يا غلام! إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعت على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
فيا لها من وصيةٍ عظيمة! يجب على كل مسلم أن يستلهم منها مساره واتجاهه في هذه الحياة، فيكون دائماً مراقباً لله وحده، متجهاً إليه دون سواه، وأن أي أحد كائناً من كان لا يستطيع أن يجلب له نفعاً، أو يدفع عنه ضرراً، إلا ما كتب الله له، فيسير عزيزاً بإسلامه، قوياً بتمسكه بسنة رسوله، لا يخشى غنياً لغناه، ولا قوياً لقوته، ولا يهن ولا يستكين لإرجاف المرجفين، وتخذيل المخذّلين، ونفاق المنافقين، ولا يتنازل عن شيءٍ من دينه وعقيدته، لأذىً يصيبه، أو ابتلاءٍ يلاقيه، فلا يخشى إلا الله، امتثالاً لقوله سبحانه: {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175].
وعلى هذا الطريق الأمثل كان المؤمنون الأولون الذين قال الله فيهم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً} [الأحزاب:39].(12/3)
أحوال الناس اليوم مع المراقبة
أما اليوم فقد تغيرت الأحوال، وانعكست المفاهيم، وقل الخوف من الله، وضعفت مراقبته في نفوس الناس، وانتشر بينهم الرياء والنفاق، والعمل للدنيا وحطامها، واتباع الأهواء والرغبات، وضعف الإخلاص لله، وفسدت النيات، ونسي كثيرٌ من الناس ربهم -إلا من عصم الله- في كل شئونهم وأحوالهم في العقائد والعبادات، والمعاملات والأخلاق، في الأقوال والأعمال، فأين الذين استهانوا بعقيدة التوحيد، وأفسدوا في الأرض بالبدع والخرافات، بعد إصلاحها بالإيمان وصحة العقيدة.
أين هم من مراقبة الله؟! لو صدقوا في مراقبته سبحانه لاستقاموا على عقيدة سلف هذه الأمة، أين الذين يراءون في أعمالهم، ويداهنون بأقوالهم وأفعالهم، ويتتبعون رضى الناس ورغباتهم؟!
أين هم من مراقبة الله القائل: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:13].
أين الذين آثروا حب الدرهم والدينار؟! فجدّوا للحصول عليهما بأي طريق؟! ولم يبالوا بمصدرها؟! فيظلمون ويخدعون! ويغشون ويرابون، ويبخسون المكاييل والموازين، ولا يتقون الله في بيعهم وشرائهم! ويتساهلون في أداء زكاة أموالهم؛ حتى كانوا سبباً في منع القطر من السماء بسوء أفعالهم!
أين هؤلاء من مراقبة الواحد الديان؟! أين الذين أطلقوا جوارحهم في الحرام؟! فألسنتهم تقع في المحرمات! في الغيبة والنميمة! والكذب والسب والشتم! ونسوا قول المصطفى عليه الصلاة والسلام: {وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجوههم -أو قال- على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم} كما أطلقوا فروجهم وأيديهم وأرجلهم، وآذانهم، وجعلوها تواقع الحرام، ممارسةً وسماعاً، ونظراً وبطشاً ومشياً! أين هؤلاء من قوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور:24]! وقوله: {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت:20]؟!
أنسوا أن الله سبحانه مستنطقٌ هذه الجوارح في يومٍ يجعل الولدان شيباً؟!
أين الشباب المنغمس في أوحال الرذائل والمنكرات، فلا يعرفون الجماعات، ولا يؤدون الصلوات؟!
أين هم من مراقبة الله؟ أغرهم ما هم فيه من صحةٍ وفتوة؟! أنسوا أن الموت يأتي بغتة، ولا يفرق بين صغير وكبير؟!
أين النساء اللاتي سرنَ في ركاب الجاهلية الأولى والأخرى، فلا يبالين بتعاليم الدين الحنيف، بل اتبعنَ أهواءهن، فوقعن فيما حرم الله عليهن؟!
أين هؤلاء كلهم من مراقبة الله؟! {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:4 - 6].
فأفيقوا من غفلتكم أيها المسلمون، وأديموا مراقبة مولاكم، واستشعروا قرب آجالكم، وموقفكم أمام ربكم: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
اللهم مُنّ علينا بالهداية والسعادة أجمعين، وأحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وثبتنا على الدين، وألحقنا بالصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(12/4)
مفهوم المراقبة
الحمد لله مالك الملك، عالم الغيب والشهادة، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وبارك عليه وعلى آله وصحبه وأتباعه على دينه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعةٍ ضلالة.
عباد الله: اتقوا الله وراقبوه، واعلموا أن مراقبة الله تعالى هي دوام علم العبد وتيقنه باطلاع الله تعالى على ظاهره وباطنه، وأنه ناظرٌ إليه، سامعٌ لقوله، عالمٌ بحركاته وسكناته ومع ذلك، فقد وكل بعباده ملائكة يكتبون أقوالهم وأعمالهم فقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12] وأن أعماله مدونةٌ عليه، ستنشر يوم القيامة، وسيندم إن هو فرط حيث لا ينفع الندم، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} [الإسراء:13 - 14].
فاتقوا الله يا أمة الإسلام! وراقبوه في السر والعلن، في الظاهر والباطن، وسيروا على نهجه، واتبعوا سنة نبيه؛ تفلحوا وتسعدوا، واعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على رسوله، فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين من اليهود والنصارى والملحدين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة يا رب العالمين، اللهم وفق إمامنا لهداك، وألهمه الرشاد والسداد يا رب العالمين، اللهم انصره بالإسلام يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم وفقهم جميعاً لما تحب وترضى، اللهم وفق المسلمين لما تحب وترضى يا رب العالمين، اللهم منَّ على المسلمين جميعاً أينما وجدوا، وحيثما حلوا، اللهم منَّ عليهم بصلاح أحوالهم، اللهم وفق قادتهم لتحكيم كتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، والمستضعفين في أرضك، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا يا رب العالمين، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وأغث بلاد المسلمين بالخيرات والأمطار يا أرحم الراحمين.
اللهم ارفع عنهم ما هم فيه من بلاءٍ وجدب ومشقةٍ يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه؛ يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(12/5)
مرحباً بضيوف الرحمن
جميل أن يجتمع أهل الإسلام، كجمال الرحلة إلى البيت الحرام، وهي وسيلة للاقتراب من رب الأنام.
فمن أُنْعِمَ عليه بالحجِّ المبرور؛ عاد بذنب مغفور، وعيبٍ مستور، قوياً على الشيطان، ليناً لأهل الإيمان، قريباً من ربه، مغرماً بحبه.
وهنا دعوةٌ لمزيد من المعرفة بالحجِّ وآدابه وأحكامه، وترحيبٌ بأهله ووفوده.(13/1)
فضل الحج وفوائده
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وفرض علينا حج بيته الحرام، وجعله سبباً لدخول الجنان وتكفير الذنوب والآثام، أحمده تعالى وأشكره وأستعينه وأستغفره، وأثني عليه الخير كله، وأسأله المزيد من الفضل والإنعام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله أفضل من صلى وزكى وحج وصام، صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام، وأصحابه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:-
فيا إخوة الإسلام! ويا حجاج بيت الله الحرام! اتقوا الله تبارك وتعالى على الدوام، واشكروه جل وعلا على نعمه العظام، وآلائه الجسام، لا سيما وأنتم تعيشون هذه الأيام، شرف الزمان والمكان والمناسبة، فهل علمتم -رحمكم الله- أي زمانٍ هذا؟ وهل فهمتم أي مكانٍ هذا؟ وأي مناسبة تلك؟(13/2)
نعمة التمكن من الحج
أيها الإخوة في الله! حجاج بيت الله، اشكروا الله جل وعلا على ما من به عليكم من الوصول إلى البيت الحرام، والاجتماع في هذه البقاع الطاهرة، والالتقاء في هذه المشاعر المقدسة، حيث تتنزل الرحمات، وتسكب العبرات، وتغفر الزلات، وترفع المنازل والدرجات، فهنيئاً لكم يا حجاج بيت الله الحرام، سلامة الوصول، وحصول المأمول، هنيئاً لكم وأنتم ترفعون أصواتكم بالتوحيد والتهليل، والتلبية والتكبير، هنيئاً لكم وقد تلبستم بالإحرام، وتركتم سبل الغواية والإجرام، وأقبلتم على عبادة الملك العلام، ويا بشرى لكم طائفين وساعين مُحَلِّقِينَ رُءوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ، راكعين وساجدين، ملبين ومهللين ومكبرين، الإسلام دينكم والإيمان شعاركم، والتقوى دثاركم، والشوق حاديكم، والأمل حافزكم، والرغبة فيما عند الله جل وعلا قائدكم.(13/3)
جزاء الحج المبرور
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} ولهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه}(13/4)
ترحيب بحجاج بيت الله الحرام
مرحباً بكم يا حجاج بيت الله الحرام، يوم أن استجبتم لنداء ربكم على لسان خليله عليه السلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28] تاركين في سبيل ذلك أوطانكم وأموالكم وأولادكم.
قدمتم يا حجاج بيت الله الحرام خير مقدم، أهلاً حللتم، وسهلاً وطأتم، بلاد الحرمين الشريفين تشرف بكم، قيادتها وشعبها، ومهابط الوحي ومنابع الرسالة تزدان بكم، وبطاح مكة ورباها وسهولها وأوديتها وأهلها تحييكم، وكيف لا يحق لها ذلك، وسماء مكة تدوي بجلجلة تلبيتكم، وأوديتها تضج بدعائكم عبر حناجركم المؤمنة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، يا مرحباً بكم! يوم أن قطعتم الفيافي والقفار، وأتيتم عبر القارات والأقطار، على متن الأجواء والبحار، تبتغون رحمة العزيز الغفار، ربكم واحد، ودينكم واحد، وهدفكم واحد، وزيكم واحد، وقبلتكم واحدة، لا حرمكم الله ثواب ما تؤملون.(13/5)
من فوائد الحج
أيها الإخوة المسلمون حجاج بيت الله الحرام: لقد دعاكم المولى جل وعلا لحج بيته الحرام لمقاصد كبرى، ومنافع عظمى، ومصالح شتى في الآخرة والأولى، يجمعها عموم قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] ففي الحج منافع جمة دنيوية وأخروية، أساسها: إعلان التوحيد الخالص لله وحده، فلا أنداد ولا شركاء، في الحج تتجلى وحدة العقيدة ووحدة القصد والهدف والغاية، ووحدة الشعائر والمشاعر، ووحدة القلوب والقوالب، وإنه باستشعار هذه الوحدة الإيمانية يتبين للمسلم الغيور على أوضاع أمته أن الخلاف والفرقة والشتات والتنازع الذي أصاب أمة الإسلام اليوم؛ إنما هو من عند أنفسها، فجدير بأمة الإسلام التي تمثل في هذا الاجتماع الكبير أعلى صور الوحدة والتضامن والإخاء أن تستمر على ذلك، آخذةً من هذه الحكم السامية شعاراً لها في مستقبل حياتها.
أيها الإخوة: ومن الغايات النبيلة في هذا التجمع الإسلامي الكبير، إشعار المسلم بدوره في الأمة ومكانته في المجتمع، وإدراكه لمسئوليته في الصلاح والإصلاح، فهو لبنة من لبنات المجتمع المسلم يشاطره آلامه وآماله، ويعايشه أفراحه وأتراحه.
ضيوف الرحمن! وفود الملك العلام: الحج موسم عظيم، وفرصة كبرى، ومناسبة عظمى، تتجلى فيها صور المتاجرة مع الله، أرواح صافية، ونفوس نقية، وقلوب مصقولة، وصدور سليمة، واقتفاء لآثار الأنبياء والمرسلين، وما أمس حاجة الأمة الإسلامية اليوم وهي تواجه أعتى التحديات وأقطع المؤامرات، ما أحوجها وهي تتوجه هذه الأيام نحو محورها الذي يجمعها، وتلتف حول راية العقيدة الواحدة التي تتلاشى في ظلها فوارق اللغة والألوان والأجناس والبلدان، ما أحوجها أن تأخذ الدروس والعبر من هذه الفريضة العظيمة وتستيقن يقيناً لا يعتريه شكٌ ولا مراء، أنه لا يلم الشمل، ويجمع القلوب، ويوحد الكلمة إلا الاجتماع على راية واحدة لا ثاني لها، هي راية الإسلام، راية التوحيد والعقيدة على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح، فلا بد من تنسيق الخطط، والإعداد وتوحيد القوى والعمل الجاد لحل مشكلات المسلمين على ضوء الكتاب والسنة، ولابد أن يعي كل مسلم دوره، ويعمل جاداً بالإسلام وللإسلام، لا سيما قادة المسلمين والزعماء، والدعاة والعلماء، والمعنيون بقضايا التربية والتعليم، والمهتمون بالفكر والرأي والإصلاح من حملة الأقلام، ورجال الإعلام.(13/6)
نداءات لحجاج بيت الله الحرام
أيها المسلمون! يا حجاج بيت الله الحرام! يا من تجشمتم الصعاب وركبتم المشاق: اعقدوا العزم على الأخذ بمنافع هذه الفريضة العظيمة التي تعجز مؤتمرات الدنيا، واجتماعاتها ولقاءاتها أن تحقق ولو شيئاً يسيراً من منافعها أو تقاربه أهمية ومكانة، زماناً ومكاناً، فوائد وآثاراً، لأن هذا التجمع العظيم لله وفي الله وفي سبيل الله.(13/7)
التأدب مع حرم الله
فالحذر الحذر من استغلال هذا التجمع العظيم، لترويج شعارات، أو توزيع منشورات، تخالف شرع الله، أو إقحام هذه المناسبة في مهاترات سياسية، أو شعارات جاهلية، والله يحول بين حرمه وبين كل من أراد به سوءاً وإلحاداً {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].
والويل كل الويل لمن استغله للأعمال الدنيئة؛ كأعمال التلصص والسرقة والإجرام، وترويج المسكرات والمخدرات، أو غير ذلك مما يعمد إليه بعض ذوي النفوس الضعيفة والهمم الدنيئة.(13/8)
تذكر أحوال المسلمين في العالم
حجاج بيت الله الحرام! تذكروا وأنتم تعيشون في بلد الحرمين الشريفين، حيث الأمن والاطمئنان، أن لهما أخاً ثالثاً يستسصرخكم بعدما طال أسره في أيدي شرذمة صهيونية، وحفنة يهودية، من شذاذ الآفاق وحثالة العالم، ذلكم هو المسجد الأقصى المبارك.
تذكروا وأنتم تعيشون الأمن والأمان، والراحة الاطمئنان، أن لكم إخواناً في العقيدة يعيشون حياة القتل والتشريد في بقاع شتى من العالم، ما هي أحوال إخوانكم في فلسطين والأفغان؟ وما هي أحوالهم في البوسنة والشيشان؟ وفي بورما وكشمير؟ وفي الصومال والفلبين؟ وفي غيرها من بقاع العالم؟ فلا تنسوهم من دعواتكم وما تجود به أنفسكم.(13/9)
تحقيق التوحيد
أيها الحجاج: العقيدة العقيدة! حققوا التوحيد، أخلصوا الأعمال لله {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] احذروا الشركيات والبدع والخرافات، والشعارات المخالفة للإسلام! ماذا يغني التمسح بالجدران والستور؟!
وماذا يجدي التعلق بالتراب والصخور؟!
يكفي أهل العقيدة شرفاً أنهم السائرون على منهج النبوة، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
فالعقيدة أولاً يا حجاج بيت الله الحرام، فجددوا التوبة إلى الله من ذنوبكم.(13/10)
فضل مكة عبر التاريخ
أيها الإخوة حجاج بيت الله الحرام: مكة المكرمة: أم القرى، مهبط الوحي، ظلت عبر التاريخ على مر القرون بناءً شامخاً، وصرحاً منيعاً، تتهاوى الدول، وتتساقط كأوراق الخريف وتحفظ مكة بحفظ الله، وتكلأ برعاية الله، رمزاً للإيمان والأخوة، وموئلاً للعقيدة الصحيحة، ومصدراً للدعوة إلى الله، ومركزاً لأعظم حضارة إسلامية، انبثقت من تلك الربى والبطاح حتى غيرت مجرى التاريخ، وهزت كيان العالم، وزلزلت كيان الوثنية، وحطمت عروش الجاهلية.
الله أكبر! مكة عبق الذكريات الخالدة، وشذا البطولات الماجدة، مكة مركز العالم، وقطب الرحى في كيان هذه الأمة، اسألوا عن ذلك التاريخ من آدم عليه السلام إلى إبراهيم حيث بناء البيت، وحيث المقام والحطيم وزمزم وهاجر وإسماعيل، إلى نبينا محمد بن عبد الله، يصدع بدعوة التوحيد الخالص لله في تلك البقاع إلى أن يعود إليها فاتحاً مظفراً، إلى الصحابة الكرام والفاتحين العظام، حتى هيأ الله للحرمين الشريفين هذه الدولة المباركة ترعى شئونهما وتوليهما العناية والاهتمام؛ إعماراً وتطهيراً، إشادةً وتطويراً، أخلص الله أعمالها، وسدد أفعالها، وجعل ما تقوم به في موازينها، وليمت الحاسدون بحسدهم، والحاقدون بحقدهم، والغائظون بغيظهم: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119].(13/11)
نداء لأهل مكة
أيها الإخوة: هاهي طلائع وفود الرحمن، وهاهي قوافل الحجيج وفدت إلينا، وفدت إليكم يا أهل أم القرى! فماذا أعددتم لهم من قِرَى، إن القرى المطلوب، قرى الروح والخلق وحسن التعامل، فليتق الله المسئولون عن الحجيج، وليتق الله المطوفون والمسئولون عن حملات الحج والعمرة، ليخلصوا أعمالهم لله، وليرعوا شئون عباد الله، وليعلموا أنهم مسئولون عنهم أمام الله، وليكونوا عند حسن الظن بهم، فلقد كان العرب في جاهليتهم يكرمون الحجيج وما السقاية والرعاية والوفادة والرفادة؛ إلا دليلٌ على ذلك، فأهل الإسلام أولى أن يقوموا بهذا العمل العظيم.(13/12)
آداب الحاج وواجباته
حجاج بيت الله الحرام: أخلصوا أعمالكم لله، حققوا المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: {خذوا عني مناسككم} تأدبوا بآداب الإسلام أثناء قيامكم بأداء المناسك، تخلقوا مع إخوانكم الحجاج بالخلق الحسن، بالأخلاق العالية والآداب السامية، احذروا إيذاء إخوانكم في الأقوال والأفعال والروائح الكريهة، من التدخين وغيره، احذروا المزاحمة في الحرم وفي المطاف وعند الأبواب وفي المشاعر والطرقات، تفقهوا في أحكام المناسك، فإن المناسك عبادة، والعبادة لا تصح إلا على ضوء العلم، واسألوا أهل العلم عما أشكل عليكم، احذروا الانخداع بكل من يريد الإخلال بالأمن والنظام، واحتاطوا لأنفسكم وصحتكم وصونوا حجكم عن النواقض والنواقص، وإياكم والرفث والفسوق والمعاصي والجدال بالباطل، التزموا الهدوء والنظام، وتفرغوا لأداء مناسككم، فلقد وفرت لكم كافة الإمكانات، وهيأت لكم سائر الخدمات، ولله الحمد والمنة، أجواء آمنة، وظلال وارفة، وخيراتٌ متنوعة، مياه عذبة، وأغذية طيبة, وخدمات أمنية وعلمية وصحية يقل نظيرها، فما عليكم إلا التفرغ التام لحجكم، وعدم التدخل فيما لا يعنيكم.
والله نسأل أن يجعل حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وعملكم صالحاً مقبولاً، وأن يعيدكم إلى بلادكم سالمين غانمين.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة:197].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(13/13)
حقوق الحجاج وواجباتهم
الحمد لله، جعل المناسك، وأوضح المسالك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أنقذنا من المهالك، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، تركنا على المحجة البيضاء لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله عليه وعلى آله الذين كانوا نجوماً في الليالي الحوالك والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله يا حجاج بيت الله! واجتهدوا في الطاعات والقربات، فأنتم في أفضل مكانٍ تضاعف فيه الحسنات، فاعرفوا لهذا المكان حرمته، ولهذا الحرم قداسته، لا تدنسوه بالمعاصي والمنكرات، وعظموا شعائر ربكم وحرماته: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] واعلموا -رحمكم الله- أن الحج ليس نزهة خلوية، ولا رحلة سياحية، وإنما هو عبادة عظيمة، ومحطة إيمانية، فتزودوا فيها بصالح العمل.
الحج رحلة شرعية، يتوجه فيها الحجاج إلى الله، وينسلخون من الماديات وسائر الشهوات والمغريات، فحققوا التوحيد والمتابعة؛ ليكون حجكم مقبولاً، واعلموا أن الانصراف عن ذلك إلى أمور غير مشروعة، أو اعتقاد أن غير الله يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً، كل ذلك سببٌ لحبوط العمل من حج أو غيره، فتفطنوا لذلك رحمكم الله، فلا أستار الكعبة، ولا حلق الأبواب، ولا شيء مما يعرف بالآثار، وما يسمى بالمزارات له خصوصية إلا ما عمله المصطفى صلى الله عليه وسلم القائل: {خذوا عني مناسككم} والقائل: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
أيها الإخوة الحجاج: ألا إن لكم علينا حقاً، وعليكم لنا واجباً؛ فحقكم علينا إكرامكم وتقديركم والسعي في كل ما من شأنه أداء مناسككم بكل يسر وسهولة، كما هو حاصل بحمد الله، وهمسة ساخنة في أذن كل من يستغل الحجيج بغلاء فاحش؛ في الأسعار، وفي المآكل، وفي المشارب والمساكن، أو يسيء الأدب معهم ويعرضهم للأذى بصورة أو بأخرى، وتلك تصرفات النشاز لا تحسب على أهل هذا البلد المسلم المضياف.
ألا وإن من واجبكم: التقيد بالفرائض الشرعية، والأنظمة المرعية، والاشتغال بحجكم وعدم إقحام أنفسكم في أمور لا تعنيكم، وكلمة إلى العاملين في خدمة الحجيج من مدنيين وعسكريين، أن يشكروا الله على ما حباهم، فخدمة الحجيج شرفٌ أيما شرف، فاحتسبوا الأجر عند الله، واصبروا على ما يصيبكم من متاعب، وكونوا مثالاً يحتذى في حسن التعامل، وكريم السجايا والأخلاق، فإنه ينظر إليكم مالا ينظر إلى غيركم، وتحية تقدير وإعزاز للجنود المجهولين، الذين يبذلون جهوداً جبارةً لخدمة الحجيج، فكم يسهرون والناس نائمون، وكم يتعبون والناس مستريحون، أخلص الله أعمالهم، ولا حرمهم ثواب ذلك، ونسأل الله أن يرزق الجميع القبول والتوفيق بمنه وكرمه إنه سميع مجيب.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله، على القائل بأبي هو وأمي: {خذوا عني مناسككم} اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وسلم الحجاج والمعتمرين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم إلى ما تحب وترضى، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة، اللهم خص بالتوفيق من وفقته لخدمة الحرمين الشريفين، اللهم اجعل أعمالهم خالصة لوجهك الكريم، وزدهم من الهدى والتوفيق يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم ونصرة أوليائك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم انصر إخواننا المجاهدين والمضطهدين في دينهم في سائر الأوطان.
اللهم عجل بنصرهم يا قوي يا عزيز، اللهم وأعد المسجد الأقصى إلى بلاد المسلمين، اللهم أنقذه من اليهود الغاصبين يا حي يا قيوم، اللهم انصر إخواننا في البوسنة والشيشان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء، اللهم من أرادنا وأراد بلاد الحرمين الشريفين وأراد الحجيج بسوء اللهم فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا قوي يا عزيز.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(13/14)
معنى لا إله إلا الله
إن النطق بكلمة التوحيد لا يكفي لتجديد الإيمان، بل لابد من العمل بمقتضاها والإتيان بأركانها، والابتعاد عما يخالفها ويناقضها.(14/1)
معنى لا إله إلا الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله لا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه ودعا بدعوته وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها الناس: اتقوا الله تعالى.
أمة الإسلام: إن الناس اليوم في حاجة ماسة بل في ضرورة ملحة إلى تجديد الإيمان في نفوسهم، والعودة الصادقة إلى عقيدتهم الإسلامية، صار ذلك ملحاً لمّا انتشر في الناس صرف بعض أنواع العبادة لغير الله، وتفشى بينهم الإعراض في كثير من الأمور الشرعية، عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وظهرت عندهم أنواع خطيرة من المعاصي والكبائر عياذاً بالله.
إخوة الإسلام: إن تجديد الإيمان لا يعني النطق بكلمة التوحيد: (لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله) باللسان فقط، وإنما يقتضي العمل بمعنى هذه الكلمة العظيمة، والعمل بمقتضاها امتثالاً لقوله تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] وإلا فإنه لا ينفع مجرد التلفظ بها مع الوقوع فيما يخالفها ويناقضها.
أيها الإخوة في الله: إن كلمة لا إله إلا الله هي الكلمة التي فطر الله الناس عليها، وهي التوحيد الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، وهي شعار الإسلام، وهي الفارق بين الكفر والإيمان.
ولا يخفى على كل مسلم أن الشهادتين أساس الدين وركنه الأول، والأصل الذي تقوم عليه بقية الأركان، وتنبني عليه سائر الأحكام، فإن كان سليماً قوياً، استقامت سائر الأعمال، وكانت مقبولة عند الله، وانتفع بها صاحبها، وإن اختل هذا الأساس، فسدت سائر الأعمال وصارت وبالاً على صاحبها وحسرةً وخسارة وهباءً منثوراً قال تعالى: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعا} [الكهف:103 - 104].
فمعنى شهادة: أن لا إله إلا الله: الإقرار بأنه لا يستحق العبادة إلا الله وحده، بكل ما تحمله كلمة العبادة من معنى، وأن كل معبود سواه باطل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} [لقمان:30].(14/2)
مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله
ومقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: إفراد الله بالعبادة فلا يعبد معه غيره، فقائلها يعلن البراءة من كل معبود سوى الله، ويلتزم بعبادة الله وحده، وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، وهو سبحانه الإله الذي يطاع فلا يعصى؛ هيبة له وإجلالاً ومحبة وخوفاً ورجاء، ولا يصلح ذلك كله إلا لله عز وجل، وقائل هذه الكلمة العظيمة كأنما يقول: أنا عبد خاضع لله، ذليل له منكسر بين يديه، راضخ لحكمه، لا أعبد غيره، ولا أخالف أمره، ولا أرتكب نهيه، ولا أستكين وأذل لأحد سواه، ولا أخضع وأضعف أمام أحدٍ من الناس، ولا أتحاكم إلا إليه، وأنبذ جميع الشهوات والشبهات، وأرضخ لربي وحده، ولا يردني أحد عن التسليم له، واتباع أمره واجتناب نهيه، فمن أشرك مخلوقاً في شيء من هذه الأمور التي هي من خصائص الإلهية كان ذلك قدحاً في إخلاصه، وقدحاً في صدقه في قول لا إله إلا الله، ونقصاً في توحيده، وكان فيه من عبودية المخلوق بحسب ما فيه من ذلك.
إخوة الإسلام: إن هذه الكلمة قصيرة المبنى عظيمة المعنى، يجب على المسلم أن يفهم معناها، ويعمل بمقتضاها ظاهراً وباطناً، ويستقيم عليها ويدعو إليها، ولما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمشركين: {قولوا لا إله إلا الله} فهموا منها إفراد الله بالعبادة، وترك عبادة الأوثان، فامتنعوا من قولها وقالوا: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5].
فالعجب كل العجب أن يكون كفار قريش أعلم بمقتضى هذه الكلمة من بعض من ينتسبون إلى الإسلام اليوم، ممن يكررون هذه الكلمة ويلقونها بألسنتهم بدون وعي، فتجدهم يقعون في صرف بعض أنواع العبادة لغير الله، فما معنى لا إله إلا الله عند هؤلاء وما فائدتها؟!
إن هؤلاء وأمثالهم لا تنفعهم هذه الكلمة ولو قالوها ألف مرة ما داموا مصرين على ما يناقضها وينافيها من الإشراك بالله عز وجل.
أيها المسلمون: ومن مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله: تحكيم شريعة الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والصوم، والحج، والجهاد في سبيل الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وفعل سائر الواجبات الشرعية والبعد عن جميع المحرمات القولية والعملية، فارتكاب المحرمات والمعاصي ينقص مقتضى هذه الكلمة، ويقلل من ثوابها وكل ذنب بحسبه.
فاتقوا الله عباد الله! واعرفوا معنى هذه الكلمة العظيمة، واعملوا بمقتضاها وحققوا شروطها، واحذروا موانعها ونواقضها ونواقصها.
اللهم اجعلنا ممن حققها وعلم معناها وعمل بمقتضاها، اللهم أحينا عليها وأمتنا عليها وأدخلنا بها الجنة وأعذنا بها من عذاب النار، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه فهو أهل التقوى وأهل المغفرة.(14/3)
معنى شهادة أن محمداً رسول الله ومقتضاها
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن سلك سبيله إلى يوم الدين.
أما بعد:-
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واعقلوا عنه أمره ونهيه، وحققوا العمل بالشهادتين، فهما رأس الإسلام وركنه الأول، وإذا حققتم الشق الأول من الشهادة، فاعلموا أنه لا بد من تحقيق الجزء الثاني، وهو شهادة أن محمداً رسول الله، ومعناها: الإقرار بأن محمد بن عبد الله رسول من عند الله واعتقاد ذلك اعتقاداً جازماً.
ومقتضى هذه الكلمة يتلخص في أمور أربعة:
أولها: طاعته عليه الصلاة والسلام فيما أمر.
ثانيها: تصديقه عليه الصلاة والسلام فيما أخبر.
ثالثها: اجتناب ما نهى عنه وزجر.
رابعها: أن يعبد الله بما شرع.
فالمتلفظ بهذه الشهادة يجب عليه طاعة الرسول في كل أوامره، واجتناب جميع نواهيه، وتصديقه في كل أخباره، وأن يعبد الله ويتقرب إليه، بما وافق شريعته، فيترك كل ما أحدثه الناس واستحسنوه مما يخالف هديه صلى الله عليه وسلم.
ومخالفة شيء من هذه الأمور يعتبر قدحاً في صدق قائل هذه الشهادة، ويؤكد عدم تحقيقه لها، وقيامه بلوازمها والله المستعان!
عباد الله: اعلموا أن الله أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين يا رب العالمين! اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان يا رب العالمين، اللهم أنزل عليهم نصرك المؤزر يا رب العالمين، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم من أرادنا وأراد عقيدتنا وأراد بلادنا بخير فوفقه وأعنه، ومن أراد ديننا وبلادنا بسوء فأشغله بنفسه ورد كيده في نحره، اللهم اجعل كيده في نحره يا رب العالمين، اللهم وفق المسلمين في كل مكان إلى تحكيم شريعتك يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وألِّف بين قلوبهم واهدهم سبل السلام يا رب العالمين، اللهم وفق قادة المسلمين لتطبيق شرعك القويم، اللهم وفق علماءهم وشبابهم ونساءهم إلى الرجعة الصادقة إلى دينك يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(14/4)
مقومات الشخصية الإسلامية
إن الله عز وجل قد ميز أهل دينه بمميزات ليست في غيره من الأديان السابقة، وليس هذا في الدنيا فقط وإنما كذلك في الآخرة، عندما تأتي أمة محمد عليه الصلاة والسلام وعليها علامة الوضوء، فيعرف النبي صلى الله عليه وسلم أمته من بين الأمم بهذه العلامة، والميزات التي تميز بها المسلم خمس ميزات: التميز في العقيدة، وفي العبادة، وفي الفكر، وفي الأخلاق، والخامسة هي التميز في المظهر.(15/1)
اعتناء الإسلام بالشخصية الإسلامية
الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام، وشرفنا باتباع خير الأنام، أحمده تعالى أن هدانا للإيمان: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا مانع لعطائه، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ومصطفاه وخليله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده.
صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه واتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى حق التقوى.
عباد الله: يقصد الإسلام بتشريعاته وأحكامه إلى رفعة الإنسان وكرامته، ويهدف بعقيدته وأخلاقه وتعاليمه إلى النهوض بالبشرية وإسعادها وإعزازها.
لذا فقد حرص الإسلام على إبراز شخصية المسلم الحق، وأكد على الأخذ بمقوماتها الإسلامية الأصيلة، وأكثر من ذكر معالم هذه الشخصية، وملامحها وركائزها وآثارها في كيان الأفراد والأمم، لتُعرف الصورة الصادقة عن الإسلام الحق، وأحداثه في حياة الناس.
وبقدر تمسك الأمم بمبادئها ومُثُلها، والتزامها بمناهجها ونظمها، واعتزازها بمميزاتها، وشخصيتها، بقدر ما تضمن مقومات حضارتها وأسباب عزها وكرامتها.
وبقدر تخليها عن مبادئ أصالتها، وقيم عراقتها، تتخلى عن عوامل نهضتها، وأسرار أمنها وقوتها ونصرتها، فتضمحل شخصيتها، وتنحسر مميزاتها، وتضعف هيبتها، وتذوب في بوتقة غيرها، حتى تكون الغلبة والهيمنة لأعدائها عليها.
ولكي لا يحصل ذلك فإنه لا بد من التذكير بين الفينة والأخرى ببعض خصائص هذه الأمة ومميزاتها، ولفت نظر أفرادها إلى الاعتزاز بشخصيتهم الإسلامية، وهويتهم الدينية؛ ليتميزوا عن غيرهم، ويحددوا مكانهم بين أفراد الأمم الأخرى، ويستقلوا بشخصيتهم، لا سيما مع التداخل العقدي، والتقارب الزمني، والاتصال المباشر، والتلاقح الفكري، والتأثر الجوهري والشكلي في هذه الأزمنة.
أمة الإسلام: لقد جاء منهج هذا الدين في تربية الشخصية الإسلامية منهاجاً قويماً، وطريقاً واضحاً، وسبيلاً مُحكماً، فقد حدد معالم شخصية المسلم على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورسم ملامحها، وأثبت دعائمها، وأرسى قواعدها منذ انبثقت شمس هذا الدين، فكانت نقطة تحول في تاريخ البشرية، غيَّرت المعتقدات وبدلت المناهج، ونورت البصائر والأبصار، وسلكت بالناس الطريق المستقيم، فعزوا بعد ذُل، واغتنوا بعد فقر، وانتصروا بعد هزيمة، وقوُوا بعد ضعف، أعادت لهم شخصيتهم المفقودة، وأثبتت كرامتهم المنشودة.
وهكذا يريد الإسلام من أبنائه أن يعتزوا بدينهم، ويتمسكوا بمبادئهم، ويثبتوا شخصيتهم أمام المتغيرات، فلا انفتاح، ولا تنازلات، ولا انبهار ولا مجاملات، ولا تبعية، ولا تقليد لأعداء الإسلام والمسلمين، ولا تشبه، ولا محاكاة للمخالفين في الملة والدين، فلا يستسمنوا الوَرَم، ولا ينخدعوا بالمناظر والبهارج، بل يميزوا بين الحقيقة والسراب، والجوهر والخراب، والصحيح والمزيف، والخالص والمشوب، حتى لا تتصدع الأصالة، وتهتز الشخصية، وتضطرب المقومات، وتتغير المعالم والمبادئ والاتجاهات.(15/2)
المميزات التي تتميز بها الشخصية الإسلامية عن غيرها
إخوة العقيدة والإيمان: هناك جانبان رئيسان تنحصر فيهما شخصية المسلم، كما يصورها القرآن الكريم، وسنة المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم:
جانب خفي باطن.
وجانب شكلي ظاهر.
وتتفرع عنهما خمس دعائم مهمة، تقوم عليها الشخصية الإسلامية، وتتميز بها عن غيرها، وهي:
التميز في العقيدة.
التميز في العبادة، وأداء الشعائر.
التميز في الفكر، والتصوُّر.
التميز في الأخلاق، والسلوك.
التميز في المظهر، والشكل العام.(15/3)
الدعامة الأولى: التميز في العقيدة
أما الأول -وهو أهمها- فهو: الأساس الذي يقوم عليه بناء شخصية المسلم، فيستقي عقيدته الصافية من الكتاب والسنة وعمل سلف هذه الأمة، لا يتخذ إماماً غير القرآن، ولا هدياً غير هدي محمد عليه الصلاة والسلام، يجرد العبادة لله، خالقه ورازقه هو سبحانه الذي بيده ملكوت كل شيء، فلا يملك جلب النفع، ودفع الضر، وشفاء المرضى، وقضاء الحوائج إلا هو جل وعلا وحده، فكل عبادة من صلاة وتواصٍِ، ودعاء ونذر ونحر، وحلف وخوف، ورجاء، وغير ذلك فهو محض حقه سبحانه، لا يشركه فيه أحدٌ غيره، كائناً ما كان.
فالمسلم الحق هو الذي يسير في عقيدته وتوحيده لربه في ربوبيته، وألوهيته، وأسمائه الحُسنى، وصفاته العلا، على ما سار عليه أعلام الهدى، وأئمة التقى من سلف هذه الأمة رحمهم الله، فيجرد العمل مخلصاً فيه لله، ومتابعاً فيه رسوله صلى الله عليه وسلم، ويُعرض عما أحدثه الناس بعد القرون المفضلة على هذين الأصلين، فما جاء فيهما أخذه، وإن كان غير ذلك تركه، ونبذه, ولا يجعل لمكان على غيره, وزمانٍ دون سواه خصوصية وفضلاً؛ إلا ما استبان فيه الدليل، وظهرت فيه الحجة، شعاره في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
أخرجاه في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها، واللفظ لـ مسلم رحمه الله.(15/4)
الدعامة الثانية: التميز في العبادة وأداء الشعائر
أما الدعامة الثانية: فهي ما يخص التميز في العبادة من حيث شكلها، أو تطبيقها، فإن الشعائر الإسلامية متميزة عن طقوس الملل الأخرى، عبادات تزكي النفس، وتريح الضمير، وتنهى عن الفحشاء والمنكر، يطبقها المسلم على ضوء سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير زيادة ولا نقصان، لا يشغله عنها شاغل، ولا يصرفه عنها صارف من مشغلات الحياة وصوارفها.(15/5)
الدعامة الثالثة: التميز في الفكر والتصوُّر
أما الاستقلال الفكري: فإن المسلم يسير في أفكاره وتصوراته على ما يوافق الشرع المطهر، ففكره سليم، وتصوره نزيه، متميزاً فيه عن الأفكار الدخيلة، والتصورات الملوثة، حذراً من كل فكر فاسد، ونظر مشوب، مما طفحت به المجتمعات من الأفكار الإلحادية المخالفة للكتاب والسنة.(15/6)
الدعامة الرابعة: التميز في الأخلاق والسلوك
أما التميز الأخلاقي: فهو الميدان الخصب الذي جاء به الإسلام؛ لتكوين الأفراد، وتربية المجتمع، وهو متمثل بالقدوة الصالحة، في الأخلاق الفاضلة، والمعاملات الحسنة، والسجايا الكريمة.
تلك -يا إخوة الإسلام- أبرز معالم الشخصية المسلمة، عقيدة وفكراً، عبادة وأخلاقاً، فيها تبرز شخصية المسلم فيما قدمه تجاهها من عمل صالح، وفعل جليل، ومآثر حميدة، وليست شخصية المسلم في وفرة المال وربح التجارة، وعالي الشهادة، وفخر النسب، بل بقدر ما يسير المسلم على كتاب ربه، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ويبني نفسه وأسرته على ذلك، ويقدم لأمته الخير الذي تريده، والصلاح الذي تنشده، بقدر ما تتمثل فيه الشخصية المطلوبة.
أما الذي ينحرف عن تلك المعالم، وتنبثق في حياته تلك الملامح، فيترك مقوماته، ويتخلى عن مبادئه، فلا ريب أنه خطر على نفسه وعلى أمته، فمن لا تحركه العقيدة الصافية، والمثل العليا، والضوابط الشرعية؛ فإنه عضو أشل وعنصر فاسد، ومعول هدام، يجلب الانحراف لنفسه وأسرته، بل أمته بأسرها، ويوم أن كانت الأمة الإسلامية متميزة في شخصيتها، مستقلة في مقوماتها؛ ضمنت العزة والسعادة والنصر والكرامة.
واليوم هل تمثل المسلمون معالم هذه الشخصية؟! هل حققوا دعائمها، وساروا على مناهجها؟!
والجواب يبعث على الأسى والأسف، فقد تساهل كثير من المسلمين هداهم الله في تحقيق تميزهم، والسير على استقلال مبادئهم وأفكارهم، وانجرفوا -جهلاً وانخداعاً- في ركاب غيرهم من أعدائهم.
ولقد حاول أعداء الأمة الإسلامية طمس معالم شخصيتها، ومحو ملامح تميزها، وهدم دعائم استقلالها، بالنقصان منها، أو الزيادة عليها، فعملوا جاهدين على إماتة حقائق الإسلام في نفوس المسلمين، بالجهل تارة، وبث الفساد والانحراف تارات كثيرة، فشوهوا تكوين الأمة، وبثوا بذور الفساد حتى آتت أكلها في كثير من البقاع والجوانب، فنشأت أجيال مات فيها الشعور الإسلامي، والحس الإيماني، لا ترتبط بدين, ولا تتحلى بخلق، ولا تعترف بفضيلة، انتشرت بينها ولاءات لغير الله، وانتماءات لغير دين الله، وشعارات مخالفة لسنة رسول الله.
ومما يزيد الأسى، جهل المسلمين وانخداعهم بهذا الغزو ضد دينهم ومبادئهم.
إن على المسلمين وهم يرقبون النهضة الإسلامية، أن يتحرروا من التقليد والتبعية لأعداء هذه الأمة، وذلك بالأخذ بمعالم الشخصية الإسلامية، وتربية الأجيال والأسر عليها.
وإني لأرجو أن يكون هذا التذكير بمقومات شخصية المسلم وعناصرها الحقيقية ما يثبت الإيمان في نفوس المسلمين، ويقوي عزيمتهم في التمسك بشخصيتهم الإسلامية، التي جاء بها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال الله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(15/7)
الدعامة الخامسة: التميز في المظهر والشكل العام
نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك.
ونشهد أن لا إله إلا أنت، ونشهد أن محمداً عبدك ورسولك، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: هناك جانب من جوانب إعداد الشخصية عَظُم التقصير والتساهل فيه، وهو من أميز الدلائل التي تدل على المسلم وتنبئ عن شخصيته، ألا وهو الجانب الهام المتعلق بمظهر المسلم.
ومن غاية الإسلام أن عُني بهذا الجانب، فحث على النظافة في الجسم والملبس، ونهى عن التشبه بغير المسلمين، وأكد على مخالفتهم في أقوالهم وأفعالهم، ونهى عن التخنث، وأمر بإعفاء اللحية وتوفيرها، وقص الشارب، وتحريم الإسبال في الثياب ونحوها، وما إلى ذلك من مظاهر شخصية المسلم المعتَبرة بالنصوص الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة.
ومما ينبغي أن يُعلم أن معالم هذه الشخصية يستوي فيها المسلمون جميعاً، لكن يتأكد تحقيقها والتزامها على بعض الناس بحسب مكانتهم في المجتمع، وعلى الشاب المسلم أن يعتز بشخصيته؛ لأنه مستهدف من قِبل أعداء الإسلام.
أما المرأة المسلمة فإن شخصيتها ومكانتها في هذا الدين عظيمة، فعليها الاعتزاز بها، والحذر من مكائد أعداء الإسلام، ودعواتهم الباطلة، وعليها لزوم العفاف والحجاب والاحتشام، وبذلك يحصل التكامل المبتغى في تحقيق الشخصية الإسلامية.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك، يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم وفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وهيئ لهم البطانة الصالحة، يا رب العالمين!
اللهم وفقنا جميعاً إلى ما تحب وترضى.
اللهم وفق المسلمين قاطبة إلى العودة الصادقة إلى دينك القويم، يا رب العالمين، اللهم اجمع قلوبهم على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَز فيه أهل طاعتك، ويُذَل فيه أهل معصيتك، ويُؤمَر فيه بالمعروف، ويُنهَى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(15/8)
مكانة الأخلاق في الإسلام
إن للأخلاق مكانة عظيمة في ديننا، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق) والأخلاق سبب عظيم في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم لصاحبها وقربه منه يوم القيامة.
وإن أعظم الناس خلقاً هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.(16/1)
أهمية الأخلاق في الأمم
الحمد لله الهادي لأحسن الأقوال والأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا هو، ولا يصرف سيئها إلا هو، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالخلق القويم، والداعي إلى الصراط المستقيم.
اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، الذين تخلقوا بأخلاق القرآن، فأحلوا حلاله، وحرموا حرامه، ونفذوا أوامره، واجتنبوا زواجره، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى واشكروا نعمة الله عليكم بهذا الدين.
عباد الله: لقد جاء دين الإسلام منهج هداية للبشرية؛ لتصحيح عقائدها، وتهذيب نفوسها، وتقويم أخلاقها، وإصلاح مجتمعاتها، وتنظيم علاقاتها، ونشر الخير والفضيلة بين أفرادها، ومحاربة الشر والرذيلة، وإقصائها عن بيئاتها، وسد منافذ الفساد أن يتسلل إلى صفوفها؛ لذا فقد كانت مكارم الأخلاق، ومحاسن الآداب، ومعالي القيم، وفضائل الشيم، وكريم الصفات والسجايا؛ من أسمى ما دعا إليه الإسلام، وقد تميز بنظام أخلاقي فريد، لم ولن يصل إليه نظام بشري أبداً.
وقد سبق الإسلام بذلك نظم البشر كلها؛ ذلك لأن الروح الأخلاقية في هذا الدين منبثقة من جوهر العقيدة الصافية؛ لرفع الإنسان الذي كرمه الله، وكلفه بحمل الرسالة، وتحقيق العبادة من درك الشر والانحراف، وبؤر الرذائل والفساد إلى قمم الخير والصلاح، وأوج الاستقامة والفلاح؛ ليسود المجتمعَ السلامُ والمحبةُ والوئام، رائده نشر الخير والمعروف، ودرء الشر والمنكر والفساد.
أمة الإسلام: الأخلاق في كل أمة عنوان مجدها، ورمز سعادتها، وتاج كرامتها، وشعار عزها وسيادتها، وسر نصرها وقوتها.
فصلاح الأفراد والأمم؛ مرده إلى الإيمان والأخلاق، وضعف الخلق؛ أمارةٌ على ضعف الإيمان، وإذا أصيبت الأمة في أخلاقها فقل: عليها السلام، فقد آذنت بتصدع أركانها، وزعزعة أمورها، وخراب شئونها، وفساد أبنائها، وإذا حصل ذلك فبطن الأرض خير من ظهرها.(16/2)
عِظم مكانة الأخلاق في الإسلام
أمة الإيمان والأخلاق: لقد بلغ من عِظَم مكانة الأخلاق في الإسلام أن حصر رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مهمة بعثته، وغاية دعوته، بكلمة عظيمة جامعة، فقال فيما رواه البخاري في التاريخ وغيره: {إنما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق}.
وفي هذا أكبر دليل وأنصع حُجة على أن رسالة الإسلام حققت ذروة الكمال، وقمة الخير والفضيلة والأخلاق، كما أن قدوة هذه الأمة عليه الصلاة والسلام كان المثل الأعلى والنموذج الأسمى للخلق الكريم.
وحسبنا في ذلك ثناء ربه عليه في قوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] فكان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقاً، وقد وصفت أمُّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها خُلُقَه بوصف جامع، فقالت فيما رواه مسلم وغيره: [[كان خُلُقه القرآن]].
أفلا يجدر بأمته وقد عصفت بها موجات الفساد من كل جانب، وأعاصير الشر والإلحاد من كل وسيلة وطريق أن تسلك سبيله, وتترسم خطاه، وتتمسك بسنته إن أرادت الخير والأمن والنصر والسلام؟
وكما كانت سيرته العملية، وسنته الفعلية نبراساً في الأخلاق، فقد زخرت سنته القولية بالإشادة بمكارم الأخلاق، ومكانة أهلها، وعظيم ثوابها، وهي مبثوثة في الصحاح والسنن وغيرها، منها:
قوله صلى الله عليه وسلم: {البر حُسن الخلق}، {إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً}، {ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق}، {إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم}، {أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه}، {إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً}، {وخالق الناس بخلق حسن}.
ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة، قال: {تقوى الله، وحسن الخلق}.
وقد كانت الأخلاق السمة البارزة في سيرة الرعيل الأول من سلف هذه الأمة، فأولوها اهتمامهم قولاً وعملاً وسلوكاً.
يقول الحسن رحمه الله: [[حسن الخلق بش الوجه، وبذل الندى، وكف الأذى]].
ويقول عبد الله بن المبارك رحمه الله: [[حسن الخلق في ثلاث خصال: اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال]].
حتى قال بعضهم: لأن يصحبني عاصٍِ حسن الخلق، أحب إلي من عابد سيء الخلق.
وقالوا في علامة ذي الخلق الحسن: أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، براً، وَصولاً، وقوراً، صبوراً، شكوراً، رضياً، حليماً، وفياً، عفيفاً، مؤْثِراً، لا لعاناً، ولا طعاناً، لا مناناً، ولا مغتاباً، لا كذاباً، ولا غاشاً، ولا خائناً، ولا عجولاً، ولا حقوداً، ولا حسوداً، ولا بخيلاًً، ولا متكبراً، هاشاً، باشاً، يحب في الله، ويبغض في الله، حكيماً في الأمور، قوياً في الحق.
وهذا غيظ من فيض ما زخر به كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من ذكر صفات وأخلاق أهل الإيمان.(16/3)
فساد الأخلاق في واقع الأمة
أيها الإخوة في الله: بعد هذا كله، لنتأمل في واقع أخلاقنا، وسلوكنا مع أنفسنا، وأهلينا، وإخواننا المسلمين.
إن الواقع في هذا الشأن مرير، يبعث على الأسى، فقد زهد كثير من الناس رجالاً ونساء، شباباً وشيباً، بأخلاق القرآن في الوقت الذي نشط فيه أعداء الإسلام بنشر الغزو الأخلاقي المركز والمختلف الوسائل، والمتعدد القوالب، في مجتمعات المسلمين وأسرهم، فعمَّ الفساد والفِسق، وانتشرت المخالفات والمنكرات، وساد سوء الأخلاق، وقلة الحياء في سلوك كثيرٍ من الناس ومعاملاتهم.
فهل من عودة يا أمة الأخلاق لأخلاق القرآن والسنة؟
هل من يقظة يا شباب الإسلام! ترشد إلى المثُل العليا، وتُبعد عن سفاسف الأخلاق ومساوئ الأعمال؟
هل من رجعة يا أخوات الإسلام! إلى التزام أخلاق الدين القويم، بالمحافظة على الحجاب والعفاف والستر والحِشمة، والبُعد عن الاختلاط والتبرج والسفور وقلة الحياء؟
هل من عودة صادقة يا أمة الإسلام! إلى خلق الإسلام في حياتنا بكل جوانبها؟
هذا الرجاء والأمل، وعلينا الصدق والعمل.
والله المستعان.
اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها، لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم أعذنا من منكرات الأخلاق، والأقوال والأعمال والأهواء، إنك سميع عليم مجيب الدعاء.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(16/4)
الحث على التخلق بالأخلاق الفاضلة
حمداً لله على نعمائه، والشكر له على فضله وآلائه.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الذي عبد ربه في سرائه وضرائه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وتخلقوا بأخلاق الإسلام الفاضلة، واحذروا التأثر بأخلاق غير المسلمين، وروِّضوا أنفسكم على الأخذ بمكارم الأخلاق، فالنفس مصدرها، فعنها تصدر الفضائل بتوفيق الله، ومنها تقع الرذائل، وبالتزامها نهج العقيدة والإيمان, واتباعها سبيل التقوى والرشاد، تتحلى بالأخلاق المثلى، والصفات العليا، وبانحرافها عن طريق الحق ونأيها عن سبيله تتردى في المهالك، وتغرق في المفاسد والآثام، ومن هنا يأتي دور الآباء والمدرسين والموجهين في تربية أجيال المسلمين على الأخلاق الفاضلة، وإبعادهم عن الأخلاق السافلة لينفعوا أنفسهم وبلادهم وأمتهم.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وهيئ لهم البطانة الصالحة.
اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين إلى ما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعَز فيه أهل طاعتك، ويذَل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، اللهم وفقهم في كل مكان، وانصرهم يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(16/5)
من عبر الحج وحكمه
لقد جعل الله تعالى لعباده مناسبات إسلامية تحرك الشعور الإسلامي في المسلمين وتصقل قلوبهم، وتنمي إقبالهم على ربهم، وتزيد في إيمانهم، ومن تلك المناسبات مناسبة حج بيت الله الحرام؛ فقد شرع الله سبحانه وتعالى فيها من الحكم الجليلة والمرامي السامية، فعلى المسلم -الحاج- الذي وفق لذلك أن يستشعر تلك الحكم وتلك المرامي السامية ليعود بمنافع الحج كما أراد الله.(17/1)
كيفية الاستفادة من مواسم الخيرات
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفوته من خلقه، خاتم أنبيائه ورسله، الذي بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده، فصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن سار على نهجه ودعا بدعوته إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وراقبوه في جميع أحوالكم، وفي كل أوقاتكم، قال تعالى: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102]
حجاج بيت الله الحرام: اشكروا الله على نعمه؛ حيث منَّ عليكم بالوصول إلى بيته العتيق، وقضاء معظم مناسككم بيسر وسهولة، وأمن وراحة واطمئنان.
إخوة الإسلام: إن من نعم الله علينا أن شرع لنا عبادات ومناسبات إسلامية؛ تحرك الشعور الإسلامي في المسلمين، وتزيد في طاعتهم، وتقوي إيمانهم، وتصقل قلوبهم وجوارحهم، وتنمي إقبالهم على ربهم، وتنبههم من غفلتهم، وتكون سبباً بإذن الله، لإصلاح حالهم وسعادتهم في مآلهم؛ متى ما أُدِّيَتْ على وجهها الشرعي.
وهذه المناسبات تتكرر كثيراً؛ فيعظِّمها من عمرت التقوى قلبه، ولا يبالي بها من قسا قلبه وضعف إيمانه {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] وتلكم المناسبات كثيرة وعزيزة في الإسلام كالصلاة -مثلا- والزكاة والصوم، والحج وغيرها من شعائر الإسلام؛ مما يمر في السنة مرة أو مرتين، أو في الأسبوع مرة، أو في اليوم والليلة خمس مرات.
وإنه ليجدر بالمسلم الذي أنعم الله عليه بالإسلام وإدراك شيء من مناسباته الفاضلة أن يستشعر أنها شُرعت لمصالح، وشُرعت لحكم عظيمة، وأن عليه أن يستفيد منها في حياته كلها، في عقيدته وإيمانه، في عباداته ومعاملاته، في أخلاقه وسلوكه.
جموع حجاج بيت الله الحرام: تعيشون في هذه الأيام المباركة مناسبة الحج إلى بيت الله العتيق، وقد منَّ الله عليكم بقضاء أغلب مناسككم ولم يبق إلا القليل، وقد مررتم بحالات ومواقف، وكلها عبر، وكلها مدكر، لمن كان له قلب حي، فياض بالإيمان.(17/2)
العبر والعظات من فريضة الحج
يا عباد الله: الحج من بدايته بالتجرد من المخيط للإحرام، إلى نهاية مناسكه بطواف الوداع، مليء بالمواقف والعظات التي ينبغي ألا تفوت على الحاج، والتي ينبغي أن تؤثر في حياته المستقبلية.
أيها الإخوة في الله: إن الخير كل الخير، والغنيمة كل الغنيمة، أن يستفيد المسلم من العبادات والمناسبات الإسلامية، وأن تؤثر على مجرى حياته؛ ليكون زاهداً في الدنيا راغباً في الآخرة، فإذا صلى رئيت آثار الصلاة عليه، كما قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] وإذا زكى رئيت آثار الزكاة عليه: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] وإذا صام رئيت آثار الصيام عليه كما قال تعالى في آخر آية وجوب الصيام: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]
وكذلك الحج -يا عباد الله- ينبغي أن يؤثر على حواس الحاج؛ بأن يسلك المنهج السليم، والطريق القويم، ويلزم العهد الكريم، والصراط المستقيم، الذي كان عليه في الحج.
حجاج بيت الله الحرام: لقد أديتم والحمد لله معظم المناسك، فهل وجدت هذه المناسك لقلوبكم مدخلاً؟ ولأرواحكم مسلكاً؟ أم أنكم أديتموها جسداً بلا روح؟
هل رأيتم وأدركتم ما ترددون من أذكار وأدعية، وصدقتم مع الله فيها، أم أنكم ترددون ألفاظاً جوفاء، لا روح فيها، لا تعقلون لها معنى، ولا تحضرون عندها قلباً؟ هل تذكرتم مواقف الأنبياء والمرسلين من قبلكم؛ موقف إبراهيم، وإسماعيل، ومحمد صلى الله عليهم وسلم؟
هل تذكرتم جهادهم ودعوتهم إلى الله، وما لاقوه من أذىً ومتاعب.
؟
هل أديتم مناسك حجكم على هدي رسولكم صلى الله عليه وسلم، أم قصَّرتم في ذلك وتساهلتم فيه؟
هل وهل وهل؟ أسئلة كثيرة ينبغي أن تراود ذهن كل حاج، ويبين موقفه منها ويحاسب نفسه فيها.
أيها الحجاج الكرام: بعد أيام أو أقل ستعودون إلى بلادكم، بعد أن أنهيتم مناسك حجكم، وبعد أن سكب بعضكم العبرات، وعاهد ربه على التوبة النصوح! فتعودون بعد أن أعلنتم التوحيد (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)، فتعودون بعد كل هذا فماذا أنتم فاعلون بعد ذلك؟(17/3)
أحوال الناس بعد الحج
إن الحجاج بعد أدائهم مناسك حجهم قسمان:
قسمٌ: موفقٌ بتوفيق الله له، أدَّى مناسكه على الصفة الشرعية، جدَّ واجتهد في ذكر الله ودعائه، وصدق في التوبة إليه من جميع الذنوب، وعاهد ربه على الاستمرار على الطاعة، وجانب اللغو والرفث والفسوق والجدال، فهذا يرجى أن يكون من المبرورين، الذين رجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم.
وقسمٌ: لم يزده حجه من الله قرباً والعياذ بالله! لا ينفك من الفسوق واللغو والجدال، ولا يفتأ يزاحم عباد الله ويؤذيهم، وبعد الحج يرجع بحالةٍ كحالته قبل الحج؛ فهذا في الحقيقة لم يحج حجاً يتمثل فيه قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:2].(17/4)
الحج يغير حياة الفرد والأمة
حجاج بيت الله الحرام! إخوة الإسلام في كل مكان: أعلنوها دائماً وأبداً (لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك) في الحج وفي غيره من أعمال الطاعات، استجيبوا لربكم في كل أوامره، من قبل أن يأتي يومٌ لا مرد له من الله، واصدقوا مع ربكم، واصقلوا قلوبكم بطاعته، واغتنموا ما يمر بكم من مناسبات فاضلة، وسارعوا فيها إلى مغفرة من ربكم، وإذا خرجتم منها فاخرجوا خروج الغانم الكاسب، المغتبط بما أوتيه من توفيق لطاعة الله، ولزوم العهد الذي كان عليه فيها، من فعل الفضائل برغبةٍ فيما عند الله، واجتناب الرذائل برهبةٍ وخوفٍ من الله.
واعلموا أن المناسبات الإسلامية كالحج وغيره؛ ليست تغيراً مؤقتاً في حياة الناس، وإنما هي تغيرٌ مستمر، تغيرٌ شامل لكل الجوانب، تغيرٌ بعد الحج من حياتكم اللاهية العابثة، حياة اللهو والهزل؛ إلى حياة الجد والمثابرة، ومن حياة التسويف إلى حياة العزم الصادق والتوبة النصوح، ولو أن المسلمين اليوم، استفادوا من مناسبة الحج الذي يعطيهم دروساً في الوحدة، ودروساً في التضامن، والاعتصام والمساواة والتعاون؛ لتغيرت حواسهم، ولهابهم أعداؤهم، ولبدل الله ذلهم عزاً، وخوفهم أمناً، وجهلهم علماً.
إخوة العقيدة: فما أحوجنا إلى الاستفادة الدائمة في حياتنا كلها من موسم الحج المبارك، بل وما أحوج العالم الإسلامي بأسره الذي يعيش التفكك والاختلاف، وحياة الذل والهوان، أن يستفيد منها، ويكون يداً واحدة على أعداء الدين، أسأل الله عز وجل أن يوفقنا للعمل الصالح، وأن يرزقنا القبول والمغفرة، والعتق من النار بمنه وكرمه، وأن يقبل من حجاج بيته الحرام حجهم وسعيهم، وأن يعيدهم إلى بلادهم سالمين غانمين؛ كيوم ولدتهم أمهاتهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(17/5)
الأعمال في ثاني أيام التشريق وما بعدها
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وإنعامه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عز وجل، واشكروه على نعمه.
أيها الحجاج: أنتم اليوم في ثاني أيام التشريق؛ فيجب عليكم أن ترموا الجمرات الثلاث بعد الزوال من هذا اليوم، وتخرجوا من منى قبل غروب الشمس إن تعجلتم، وإن تأخرتم -وهو أفضل لكم وأتقى- فتبيتون بها هذه الليلة وترمون الجمرات الثلاث من الغد بعد الزوال، ويطوف بالبيت من لم يطف طواف الإفاضة، ويسعى بعده إن كان متمتعاً، أو قارناً أو مفرداً ولم يكن سعى بعد طواف القدوم، ثم إذا أردتم الخروج من مكة؛ فعليكم أن تطوفوا طواف الوداع.
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله يا حجاج بيت الله! أتموا مناسككم، واستغفروا ربكم من تقصيركم، فالاستغفار ختام الأعمال: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:199 - 200] إلى قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة:203]
وأتبعوا حجكم -يا عباد الله- بالعمل الصالح في جميع أحوالكم وأزمانكم، وما بقي من أعماركم، فعلامة الحج المبرور أن يرجع الحاج أحسن حالاً مما كان عليه قبل الحج، فيرجع مطيعاً لله بعد أن كان عاصياً، وذاكراً لله بعد أن كان غافلاً، وتائباً إلى الله توبةً صادقة بعد أن كانت مشوشة، ومقلعاً عن الذنوب بعد أن كان مصراً، وبذلك يصبح الحج مبروراً، والسعي مشكوراً، والذنب مغفوراً بإذن الله.
سُئل الحسن البصري رحمه الله: ما الحج المبرور؟ فقال: [[أن يعود زاهداً في الدنيا، راغباً في الآخرة]].
فهل أحوال الحجيج اليوم تمثل الحج المبرور، الله المستعان ولا حول ولا قوة إلا بالله!
عباد الله: واعمروا أيامكم هذه -أيام التشريق- بذكر الله عز وجل، وتكبيره وتحميده وتهليله، والأكل من نعمه وشكره عليها {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [البقرة:172] ويقول تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] ويقول صلى الله عليه وسلم: {أيام التشريق أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله عز وجل}.
واحذروا اللهو واللغو والغفلة، والترف والسرف في هذه الأيام المباركة، وتوبوا إلى الله توبةً نصوحاً؛ بالإقلاع عن الذنوب، والعزم على عدم العودة إليها، والندم على فعلها، وجدوا في محو ما سلف من ذنوبكم، لعل الله أن يتوب عليكم ويعيدكم من ذنوبكم كما ولدتكم أمهاتكم، وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الرحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم اهد المسلمين سبل السلام، اللهم جنبهم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، اللهم وفق إمامنا لما تحب وترضى، اللهم وفقه لما تحب وترضى يا رب العالمين! اللهم اجزه خير الجزاء وأوفره؛ نتيجة ما قدم لحجاج بيتك الحرام، اللهم اجعل ذلك في صحائف أعماله، وفي موازينه يا رب العالمين! اللهم وفقنا لما تحب وترضى، اللهم منَّ على المسلمين بصلاح أحوالهم، وقادتهم وعلمائهم، وشبابهم ونسائهم يا رب العالمين!
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العلي العظيم الجليل الكريم التواب الرحيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(17/6)
مواعظ الزمان
يغفل الإنسان، ويتمكن الشيطان، وتزداد الحاجة إلى موعظة الزمان، تبصرة للعميان، وهدايةً للحيران.
وفي هذه المواعظ تزكية للنفوس، وأخذ للدروس، وجلاء لصدأ القلوب، وإزالةٌ للآثام والذنوب.
وكفى بالموت واعظاً، وإنما الأعمال بالخواتيم، فمن حسن ختامه فقد طاب مقامه، ومن ساء ختامه فقد حل ظلامه.(18/1)
الاتعاظ بالموت وبحسن الخاتمة وسوئها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونتوب إليه ونستغفره، ونشهد أن لا إله إلا الله الواحد القهار، الملك العزيز الجبار، الذي قضى بزوال هذه الدار، وهدم بالموت مشيد الأعمار، وجعل في تعاقب الليل والنهار عبرة لأولي الأبصار، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، المصطفى المختار، القدوة المثلى في العمل لحسن الخاتمة وعدم الركون إلى هذه الدار، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله الأطهار، وصحبه الأبرار، وتابعيه الأخيار، إلى يوم البعث لدر القرار.
أما بعد:
أيها الناس! {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
عباد الله، إن مقام عبودية الإنسان لله جل وعلا وسام عز لا ينتهي، وزاد شرف لا ينقضي، فلا تحده الليالي والأيام، بل ولا الشهور والأعوام، إنه يبقي ما بقي الإنسان في كل زمان ومكان.
وإن شر ما بليت به النفوس يا عباد الله! الغفلة عن هذا المقام العظيم، والتفريط في جنب الإله الكريم، والرب الرحيم، وما يسببه ذلك من انشغال وانغماس في الدنيا، ونسيان للموت والدار الآخرة، فيقع المفرط في مغبة تفريطه، وقد يصاب بسوء الخاتمة والعياذ بالله.
وإن في مرور الليالي والأيام لعبراً، وفي تصرم الشهور والأعوام لمزدجراً، وإن مواعظ الزمان أبلغ من مواعظ فصيح اللسان، ومن أُعطي البلاغة والإبداع والبيان؛ ولكن ما يحس بذلك إلا الكيس الحازم العاقل العازم الذي ينشد حسن الخاتمة، ويعمل لساعة الاحتضار الحاسمة.(18/2)
أهمية التذكير بحسن الخاتمة وسوئها
إخوة الإيمان! ما دمنا جميعاً نوقن بأن الموت نهاية كل حي في هذه الدنيا، وأن بابه سيلجه كل أحد، وكأسه تتحساها كل نفس، وأنه خاتمة المطاف ونهاية التطواف في عالم الدنيا، فإنه يجدر بنا ونحن نودع في هذه الأيام عاماً هجرياً كاملاً، ونختتم سنة من أعمارنا، أن نقف وقفة حازمة مع النفوس، نذكرها بهذه الخاتمة، وأهميتها في حياة الإنسان، والإشارة إلى الوسائل والعلامات والصفات لحسن الخاتمة، والتحذير من أسباب سوئها عياذاً بالله.
وتأتي أهمية هذا الموضوع، من أن كل إنسان يطلب حسن الخاتمة، وينشد الميتة الحسنة؛ ليفوز بما بعدها، ويخشى من سوء الخاتمة، وميتة السوء؛ لشدة ما بعدها وهوله، إضافة إلى داء الغفلة، وقسوة القلوب الذي بُلي به كثير من الناس.
وأيضاً: فإن مناسبة الزمان، واختتام العام يتطلب ذلك، والله المسئول أن ينفعنا جميعاً بِما نسمع، إنه جواد كريم.
أيها الإخوة في الله! لقد جاء في كتاب الله سبحانه التأكيد على أهمية حسن الخاتمة.
يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
ويقول سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
فالأمر بتقوى الله وعبادته مستمر حتى الموت؛ لتحصل الخاتمة الحسنة، وقد ورد أن الأعمال بالخواتيم، وإذا كان الإنسان لا يدري متى يفجؤه الأجل، ولا متى يباغته الموت، فإن عليه أن يستعد لهذه اللحظة المفاجئة بالعمل الصالح، لا فرق في ذلك بين الكبير والصغير، والغني والفقير، والشريف والحقير، والمأمور والأمير، والشاب والشيخ، والذكر والأنثى، الكل متجرع مرارة الموت لا محالة.
فالخوف كل الخوف أن تفاجئ الإنسان هذه اللحظات القاسية، وهو على حال سيئة، ولذلك كان السلف الصالح رحمهم الله يخافون من سوء الخاتمة خوفاً شديداً مع كثرة أعمالهم الصالحة رضي الله عنهم، قال بعضهم: خوف الصديقين من سوء الخاتمة عند كل خطْرة، وعند كل حركة، وهم الذين وصفهم الله بقوله: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون:60].
وينبغي أن يكون الخوف من سوء الخاتمة ماثلاً في كل لحظة أمام عين الإنسان؛ لأن الخوف باعث على العمل.
وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره: {من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة}.
لكن إذا أحس العبد بدنو أجله، فينبغي أن يغلب جانب الرجاء لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم في صحيحه: {لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عزَّ وجلَّ}
وبهذا يُعْلَم يا عباد الله أنه من الخطأ والإفلاس أن يعتمد بعض الناس على سعة رحمة الله، وعفوه ومغفرته، فيدفعهم ذلك إلى الاسترسال في المعاصي، والاستمرار على المحرمات، فيندمون عند مفاجأة الأجل ولات ساعة مندم.(18/3)
أسباب حسن الخاتمة وعلاماتها
معاشر المسلمين! إن من أعظم الوسائل لحسن الخاتمة:
صفاء العقيدة، وقوة الإيمان، والحرص على السنة، والمحافظة على الصلوات، والإقبال على القرآن، والمداومة على ذكر الله سبحانه ويجمعها: المحافظة على الطاعات والبُعد عن المحرمات، وكثرة الاستغفار، وملازمة التوبة، والإلحاح على الله بالدعاء بحسن الخاتمة.
كان عامر بن ثابت بن عبد الله بن الزبير إذا صلى رفع يديه قائلاً: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة قال أبناؤه: وما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني وأنا ساجد فقام وصلى، فقبض الله روحه وهو ساجد.
ألا ما أحسن هذه الخاتمة!
هذا وإن لحسن الخاتمة يا عباد الله! بشائر وعلامات، أفصحت عنها السنة المطهره، منها: النطق بكلمة التوحيد عند الموت، فقد روى أبو داود والحاكم عن معاذ رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة}.
ويا لها من بشارة طيبة وفعل حسن، أن يموت الإنسان على التوحيد والشهادة، ولكن هذا لا يتأتى إلا لأهل هذه الكلمة العظيمة، العاملين بمقتضاها، والعالمين بمعناها.
وأما غيرهم فإنهم قد يُحال بينهم وبين نطقها عياذاً بالله، فيصاب بسوء الخاتمة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
قال بعض السلف: أحذركم (سوف)؛ فإنها أكبر جنود إبليس.(18/4)
نماذج من سوء الخاتمة
أيها الإخوة في الله، إن من أسباب الخاتمة السيئة: استمراء طول الأمل، وهو سبب شقاء كثير من الناس، فيزين الشيطان لهم أن أمامهم أعماراً طويلة، يبنون فيها آمالاً شامخة، وحظوظاً كثيرة، فينسون الآخرة، ولا يتذكرون الموت.
وقد أورد العلامة ابن القيم رحمه الله أن من عقوبات الذنوب والمعاصي: أن قلب الإنسان ولسانه يخونانه عند الاحتضار والانتقال إلى الله جل وعلا، فربما تعذر عليه النطق بالشهادة.
وأورد رحمه الله نماذج من ذلك، منها:
أنه قيل لبعضهم عند الموت: قل: (لا إله إلا الله)، فجعل يهذي بالغناء والعياذ بالله، إلى أن مات.
وقيل لآخر: قل: (لا إله إلا الله)، فقال:
يا رُبَّ قائلة يوماً وقد تَعِبَتْ أين الطريق إلى حمام منجابِ؟
وأخذ يرددها حتى مات عليها والعياذ بالله.
وأورد عن بعض التجار أنه احتُضِر، فجعلوا يلقنونه (لا إله إلا الله)، فلا يزيد على قوله: هذه القطعة رخيصة، هذا مُشْتَرَىً جيدٌ، هذا، وهذا، إلى آخره.
ثم قال رحمه الله: سبحان الله! كم شاهد الناس من هذا عِبَراً؟! وكيف يوفق لحسن الخاتمة من أغفل الله سبحانه قلبه عن ذكره وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.
فبعيدٌ مَنْ قلبه بعيدٌ عن الله تعالى، غافل عنه، متعبد لهواه، مدلل لشهواته، ولسانه يابس عن ذكره، وجوارحه معطلة من طاعته، مشتغلة بمعصيته، بعيد عن هذا أن يوفق لحسن الخاتمة.(18/5)
بشائر حسن الخاتمة
ومن بشائر حسن الخاتمة: الشهادة في سبيل الله، والموت دفاعاً عن ضرورة من الضرورات الخمس التي حفظتها الشريعة، وهي: الدين والنفس والعقل والعرض والمال، وأن يموت الإنسان على عمل طاعة، أو يموت صابراً محتسباً بسبب مرض قدر عليه، كالطاعون ونحوه، أو بسبب ابتلاء من هدم، أو غرق، أو حرق، أو نحوها.(18/6)
أسباب سوء الخاتمة
أيها الإخوة في الله، أما الأسباب التي تنشأ عنها سوء الخاتمة والعياذ بالله، فهي كثيرة جداً، فمن أهمها:
مواقعة الذنوب والمعاصي.
التسويف في التوبة، فتمر الأيام تلو الأيام، بل الشهور والأعوام، والإنسان على حاله، يُمَنِّي نفسه بالتوبة كل عام، أو كلما تقدم به العمر، فيا سبحان الله! من يضمن له أن يعيش ولو لحظة واحدة؟!
ألا نعتبر بالحوادث والمفاجئات؟! ألا نصور أنفسنا محل من يباغتهم هادم اللذات، ومفرق الجماعات؛ ولكن نجح الشيطان أعاذنا الله منه في تزيين التسويف عند كثير من الناس، فالشاب سيتوب في الشيخوخة، والصغير في الكبر، وهكذا والعياذ بالله.
فاتقوا الله عباد الله، واعملوا على حسن الخاتمة، وخذوا بأسبابها {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
روى البخاري والترمذي من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، فقال: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل}.
وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: [[إذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]].
لقد كان مكحول رحمه الله إذا رأى جنازة قال: اغدوا، فإنا رائحون.
موعظة بليغة، وغفلة سريعة، يذهب الأول، والآخر لا عقل له.
فلنتق الله يا عباد الله، ولنحرص على حسن الخاتمة، ولنسأل الله ذلك دائماً وأبداً.
اللهم إنا نسألك أن تجعل خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمارنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، وارزقنا اللهم حسن الخاتمة، وأعذنا من سوئها، يا حي! يا قيوم! وثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، واختم لنا عامنا هذا بالتوبة، والتوفيق لما تحبه وترضاه، يا رب العالمين!
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(18/7)
محاسبة النفس فيما مضى وما بقي
الحمد لله، هو الأول؛ فليس قبله شيء، والآخر؛ فليس بعده شيء، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
اعملوا لهذا اليوم العصيب، وتذكروا ما فيه من الأهوال والشدائد.
خطب علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: [[ألا إن الدنيا قد ولت مدبرة، والآخرة قد أسرعت مقبلة، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عملٌ ولا حساب، وغداً حساب ولا عمل]].
فتذكروا رحمكم الله حلول ساعة الاحتضار بكم، وحاسبوا أنفسكم: ماذا عملتم فيما مضى؟! وماذا عساكم أن تعملوا فيما بقي؟!
وتذكروا: كم ودعتم في هذا العام المنصرم من إخوة وأحبة وأقربين؟! وكم واريتم في الثرى من أصدقاء وأعزة ومجاورين؟! واعلموا أن الموت الذي تخطاكم إليهم سيتخطى غيركم إليكم، فإلى متى الغفلة يا عباد الله؟!
والله إن مرور عام كامل مضى وانقضى بما أودعناه من خير وشر جدير بأن ينبه الغافل، ويعلم الجاهل.
فلا تنخدعوا بهذه الحياة الدنيا، فما هي والله إلا سراب خادع، وبريق لامع، صفوها كدرٌ، ومَعينها مشوبٌ، كم أذاقت بؤساً؟! وجَرَّعت غُصَصا، وأذاقت نغصا.
فالعاقل من فتح صفحة جديدة من الأعمال الصالحة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {والكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني}.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة نبينا محمد بن عبد الله، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وسيدنا وقدوتنا محمد بن عبد الله.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا إلى ما تحب وترضى، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، وارزقه البطانة الصالحة، يا حي يا قيوم، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للعمل بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم إنا نسألك أن تختم لنا عامنا بخير، وأن تجعل كل أعمارنا وأعمالنا إلى خير، يا رب العالمين.
اللهم اجعل في هذا العام الجديد عام عز ونصر وقوة للمسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، يا قوي، يا عزيز.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان.
اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(18/8)
نتائج الإعراض عن الإسلام وآثاره السيئة [1]
المسلمون اليوم قد قصروا في دين الله، وتركوا تحكيمه والتحاكم إليه، وتركوا تعاليمه، وابتعدوا عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، رغم أن دين الإسلام له مميزات لا يمكن أن تحصر، ولا يمكن أن يقارن به دين أبداً؛ لأنه منزل من عند الله.
ولذلك عندما تركه المسلمون سلط الله عليهم الأعداء، وأزال النعم وجعلها نقماً، فالأمة الآن تعيش ذلاً لا يعلمه إلا الله، كل ذلك بسبب ترك تعاليم شرع الله.(19/1)
سبب الفوز والفلاح هو دين الإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونؤمن به ونتوكل عليه، ونثني عليه الخير كله، نشكره ولا نكفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، أرسله بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ، فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن سار على هديه واتبع سنته، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، فإن تقوى الله سبحانه جماع كل خير، وسياج من كل شر، واذكروا نعمة الله عليكم بهذا الدين، الذي اختاره الله ورضيه لكم، وفضَّله على جميع الأديان، ولأجله خلق خلقه، وأنزل كتبه، وأرسل رسله {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165].
ومن تمام نعمته تعالى: أن جعله دين اليُسر والسماحة، لا حرج فيه ولا مشقة ولا عنت، لم يأمر أهله بما لا يستطيعون، ولم يكلفهم ما لا يطيقون، رفع عنهم الآثار والأغلال {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة:6]، أحلَّ الله فيه كل طيب نافع، وحرَّم كل خبيث ضار، رعى مصالح العباد في عاجل أمرهم وآجله، وقصد إلى حماية دينهم وأموالهم ونسائهم وأعراضهم وعقولهم، ودرأ المفاسد والشرور عنهم، جاء بما يحتاج إليه البشر في دينهم ودنياهم في شتى مجالاتهم، ومختلف نواحي حياتهم.
فهو منهج للحياة البشرية بكل مقوماتها، وقد اشتمل على العقيدة الصافية، والعبادة الخالصة، والمبادئ السامية، والأخلاق العالية، والنظم العادلة، والأسس الكاملة؛ ولذلك فالعالم البشري بأجمعه مفتقر إلى أن يأوي إلى حماه، ويتفيء وارف ظلاله، ويفيء إلى نهجه وعدله بعد أن سامتهم القوانين الوضعية والنظم البشرية سوء العذاب، وأذاقتهم من الويلات والنكبات ما يشهد به التاريخ في قديم الزمان وحديثه.
فالضلال والشقاء، والخوف والقلق والاضطراب وعدم الأمن على الأنفس والأموال والأعراض، كل ذلك وغيره من إفرازات البُعد عن شريعة الله والإعراض عنها.
إخوة العقيدة: لقد جاء الإسلام مواتياً بمتطلبات الأفراد والمجتمعات والدول، راعياً وحافظاً لحقوق الإنسان ومصالحه، ولم تعرف البشرية مطلقاً نظاماً ولا مبدأً أولى هذا الأمر عناية واهتماماً كما أولاه الإسلام، بل وما بلغت معشار ما جاء به، ولا يتأتى حفظ مصالح الإنسان ورعاية حقوقه، وجلب الخير له، ودرء الخطر عنه إلا في ظل الإسلام الحق، الذي جاء به رب العزة، وهو خالق الخلق وأدرى بمصالحهم، وأعلم بمنافعهم {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
أمة الإسلام: لقد جاء هذا الدين صالحاً لكل زمان ومكان، مسايراً لفِطَر البشر، مراعياً لتغيرات الحياة، مواكباً للتقدم والحضارة، متكفلاً بعلاج مشكلات الأمم الحربية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها؛ ولكن -ويا للأسف- زهد كثير من أهل الإسلام وأبنائه بتعاليمه وأحكامه وأخلاقه، وتلمسوا مناهجهم من غيره، وابتغوا الخير فيما سواه، وايم الله لقد قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، وقد ضمن الله عزَّ وجلَّ لمن تبع هديه ولزم شرعه سعادة الدارين، وكتب الشقاء والذل والصغار على من أعرض وتكبر عنه.(19/2)
عقوبات ترك دين الله
وإن المتأمل لأوضاع البشرية اليوم عامة، وواقع الأمة الإسلامية خاصة، يدرك أن ما أصابها من ذل وانقسام وفتن وفُرقة وخصام إنما مرده إلى إهمال أمر الله، والتقصير في تحكيم شريعة الله، وإن أعظم ما ابتُلي به المسلمون اليوم من تسلُّطِ أعدائهم عليهم من كل حدب وصوب، وتداعي الأمم على دينهم وأخلاقهم وأوطانهم، كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.(19/3)
تسليط الكافرين على المسلمين بسبب الذنوب
فهذه اليهودية الماكرة تعيث فساداً في مقدسات المسلمين، وتقتل أبناءهم وتنتهك حرماتهم، وتتوسع في الاستيلاء على بلادهم.
وهذه الصليبية الحاقدة تشن حملاتها على أوطان المسلمين، وتسعى جاهدة في الكيد للإسلام ورسوله وكتابه وأهله، وتستغل أوضاع المسلمين السيئة للترويج لمنهجها المنحرف، ولا سيما في البلاد الفقيرة، والمجتمعات النائية المتضررة من القحط والجفاف والمجاعة أمام تقصير المسلمين وغفلتهم.
وهذه الشيوعية الملحدة تنشب مخالبها في أرض الإسلام، وتمعن في الكيد للإسلام وأهله، وإن ما تشهده أرض أفغانستان المسلمة من حرب ضروس، قُتِل فيها الأبرياء، ورُمِّلت النساء، ويُتِّم الأطفال، وهُدِّمت المساجد والبيوت، وشُرِّد الملايين من بلادهم بغير حق، لأكبر دليل على تمادي هذا المذهب الهدام في حرب الإسلام، والكيد لأهله، والطمع في استغلال أرضه، ومن هذا اليوم الجمعة يدخل الجهاد الإسلامي الأفغاني عامه السابع، بعد أن دارت رحى الحرب ست سنوات متوالية، بُلي فيها المسلمون بفوادح لا يعلمها إلا الله، في غفلة المسلمين وتقصيرهم، وإن واجب الأخوة الإسلامية والوحدة والتضامن بين المسلمين، أن يهب الجميع في كل مكان لنصرة إخوانهم، وشد عزمهم، وتقديم المساعدات المعنوية والمادية والمنهجية لهم.
وهذه الوثنية تزحف إلى بلاد الإسلام بطرق مغلفة، ووسائل منطوية، وهذا التحلل والانحراف والفساد الأخلاقي المركز يضرب أطنابه في أرض الإسلام، وينشر زخمه وقيحه بين المسلمين، ولا سيما في صفوف شبابهم ونسائهم.(19/4)
قد تصبح النعم نقماً
فاتقوا الله -يا إخوة الإسلام- واعلموا أن الله غيور على دينه ومحارمه، شديد الانتقام ممن تكبر على شرعه، واستمرأ معصيته، وقد يحول النعم التي يُنعمها على عباده نقماً عليهم، كالأمطار -مثلاً- ليعتبر الغافل، ويتعظ المعرض {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر:2] وأفيقوا من رقدتكم، ولا ريب أن على علماء الإسلام وأهل الحل والعقد فيهم والدعاة إلى الله مسئولية تصحيح مسار الأمة، وتحقيق الوجهة السليمة لسفينتها.
نسأل الله أن يوفقهم لذلك ويعينهم عليه، حقق الله للأمة الإسلامية ما تصبو إليه من عزة ورفعة ونصر وكرامة، ووفقها للأخذ بطريق الخير والعدل والسلام، وهيأ لها من أمرها رشداً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(19/5)
الأمر بتقوى الله
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281].
واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
وصلوا وسلموا على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله.
اللهم ارضَ عن صحابته الكرام، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين, ودمر أعداءك أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يُعَز فيه أهل طاعتك، ويُذَل فيه أهل معصيتك، ويُؤْمر فيه بالمعروف، ويُنْهى فيه عن المنكر.
اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم مُنَّ عليهم بصلاح قادتهم وعلمائهم وشبابهم ونسائهم يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، الذين يجاهدون لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذي كفروا السفلى.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك يا حي يا قيوم.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، واعلِ به دينك، اللهم ارزقه البطانة الصالحة المخلصة، اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين.
{رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(19/6)
نتائج الإعراض عن الإسلام وآثاره السيئة [2]
تشريعات الإسلام تحقق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، ومن استقرأ نصوص الشريعة في الكتاب والسنة وجدها تهدف إلى هذا الهدف الأسمى، ومن هنا رعى الإسلام الضرورات الخمس وهي: حفظ الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال، وجعل عقوبات وحدوداً لمن يحاول أن يتعدى عليها.(20/1)
الإسلام يرعى الضرورات الخمس
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِ الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق فأتقن، وشرع فيسر، وحكم فأحسن {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله رحمة للعالمين، وقدوة للناس أجمعين، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى، فمن اتقى الله سلَّمه ورزقه ووقاه، وكفَّر عنه سيئاته وتاب عليه وهداه.
فحققوا -رحمكم الله- تقوى الله سبحانه بامتثال أوامره، واجتناب زواجره, وتعظيم حرماته وشعائره، والوقوف عند حدوده، والتزام سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واشكروا نعمة الله عليكم أن هداكم للإسلام الذي قصد إلى حماية الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل؛ لأن الغرض من تشريعات الإسلام تحقيق مصالح العباد في الدنيا والآخرة، بجلب المنافع لهم، ودرء المفاسد عنهم، وإخلاء المجتمع من المضار والأسقام، ومن استقرأ نصوص الشريعة في الكتاب والسنة وجدها تهدف إلى هذا الهدف الأسمى، ومن هنا رعى الإسلام الضرورات الخمس وهي: حفظ الدين، والنفس، والعرض، والمال، والعقل.(20/2)
حفظ الدين
وهذه الأمور لا بد منها لقيام حياة الناس، بحيث لو اختلت كلها أو بعضها لاختل نظام الحياة، وعمت الفوضى والجرائم، وساد القلق والخوف والاضطراب، ولهذا جاءت الشرائع كلها برعايتها وصيانتها؛ لأنه يتوقف عليها نظام العالم، ولا يبقى النوع البشري مستقيم الحال مطمئن البال إلا بها، فعليها يقوم أمر الدين والدنيا، وبالمحافظة عليها تستقيم الحياة، وينتظم المجتمع، وتصلح الأمة.
لذا فقد حفظها الإسلام بالآتي:
أولاً: بتشريع ما يوجدها.
ثانياً: بتشريع ما يكفل بقاءها وصيانتها؛ حتى لا تنعدم بعد وجودها، أو يضيع خيرها المرتجى منها.
فحفظ الدين يكون بما يأتي:
بالاعتقاد السليم.
وبالإيمان المستقيم.
وبالقيام بأركانه وواجباته.
وبالبعد عن دروب الشرك بالله وطرق الضلالة والغواية.
كما يكون أيضاً بالجهاد في سبيل الله، وإقامة الحكم لله على الخارجين عليه، والمرتدين عنه، والمستهزئين به.(20/3)
حفظ النفس في الإسلام
أما النفوس -يا عباد الله- فلقد حماها الإسلام أيما حماية، وصانها بسياج متين، وحصن حصين، وأكد حرمتها في الكتاب والسنة، وحرم الاعتداء عليها، والتعرض لها بسوء، وجعله من أكبر المحرمات، وأعظم الموبقات، وقرن قتل النفس بالشرك بالله، فقال تعالى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام:151].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} [الفرقان:68].
وفي الحديث المتفق عليه، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اجتنبوا السبع الموبقات -وذَكَر منها-: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق}.
ومن أجل ذلك: جعل الله في القتل العمد عقوبات مغلظة، وتوعد عليه وعيداً شديداً {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93].
ولما كانت النفوس الخبيثة، والذمم الفاسدة، والنزعات الباطلة بحاجة ملحة إلى ما يكبح جماحها، ويخفف حدتها، ويحول بينها وبين ما يُسَوَّلُ لها، فرض رب العالمين -وهو أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين- حدوداً وعقوبات متنوعة، بحسب الجرائم؛ لتردع المعتدي، وتصلح الفاسد، وتقيم المعوَج، وتستأصل العضو الأشل من المجتمع، حتى لا تسري سمومه في جسد الأمة، فقد شرع الله القصاص من القاتل المتعمد جزاء ما اقترفت يداه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} [البقرة:178] وما ذاك إلا توطيداً للأمن، وحماية للمجتمع، وقطعاً لدابر الجريمة، واستئصالاً لكل ما يؤدي إلى انتشار الفوضى.
وقد ذكر الله سبحانه حكمة مشروعية القصاص بأسلوب موجز شامل، لا يرقى إلى مستواه أي تعبير بشري، مهما بلغت فصاحة قائله وبلاغته، قال جل وعلا: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:179]، فقد بين تبارك وتعالى أن حكمة مشروعية القصاص المحافظة على حياة الناس، فإذا علم مُريد القتل أنه سيُقتل إذا قَتَل دفعه ذلك إلى الكف عن القتل خوفاً من العقوبة، فيكون ذلك صوناً لحياته وحياة من يريد قتله وحياة الناس جميعاً.(20/4)
حفظ الأعراض
أما حفظ الأعراض -يا أمة الإسلام- فقد رعاها الإسلام من عدة نواحٍ:
من الناحية الاجتماعية: حيث حرم السخرية والهمز، واللمز، والتنابز بالألقاب السيئة، والغيبة، والنميمة، وقول الزور.
ومن الناحية الخلقية: حيث حرم الزنا، واللواط، والقذف، ورتب على ذلك العقوبات الرادعة {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2].
وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4].(20/5)
حفظ الأموال
وحفظ الأموال -يا إخوة الإسلام- يكمن في اتباع الطرق المشروعة في اكتسابه، والبُعد عن الطرق المحرمة، والحيَل الممنوعة في تحصيله.
لذا فقد حرم الإسلام الربا، والرشوة، والغصب، والسرقة، وجحد العارية، والتزوير، وأوجب قطع يد السارق حمايةً للأموال {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38].
فلما كانت اليد أمينة، كانت غالية ثمينة، ولما خانت رخصت وهانت.(20/6)
حفظ العقول
أما حفظ العقول: فبتحريرها من الأوهام والخيالات، وصيانتها من المسكرات والمخدرات، وإيقاع الجزاء الرادع على المتعاطين والمروجين لها والمتاجرين بها {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:229] {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء:14].(20/7)
عاقبة ترك حكم الله
ومما يؤسف له أشد الأسف أن كثيراً من المجتمعات اليوم قد عطلت حدود الله، وقصرت في تنفيذ حكم الله على المجرمين المعتدين، رغم الضرورة الملحة لتنفيذها، ورغم ثبوت الجرائم واستشرائها.
وتطالعنا الإحصاءات عن الجرائم في المجتمعات التي لا تنفذ حكم الله في المجرمين بما معدله: وقوع جريمة قتل، أو زنا، أو خطف، أو سرقة أو غيرها في كل دقيقة، حتى غلب على أهلها الخوف والذعر، وسادهم القلق والفوضى والاضطراب والحَيرة، وبحثوا عن طريق يخلصهم مما يقعون فيه، ولم يجدوا أبداً إلا تحكيم شريعة الله، وتنفيذ حدود الله، والبعد عن حكم الطاغوت والجاهلية قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
وحينما تثار هذه القضية، ويُبحث هذا الموضوع، أعني: تنفيذ حدود الله، فإنه يُسجل لهذه البلاد المباركة، بلاد الحرمين، بكل فخر واعتزاز، وكل تقدير وإجلال وإكبار، ما تقوم به من حزم في إقامة حكم الله، وتنفيذ حدود الله على المجرمين المعتدين، حتى أصبحت -ولله الحمد والمنة- مثالاً يُحتذى به في استتباب الأمن وندرة الجرائم، في زمان بلغت فيه الجرائم ذروتها، والاعتداءات أوجَّ عظمتها وكثرتها.
نسأل الله أن يثبت قادتها على الإسلام.
وقد حاول أعداء الإسلام والمفتونون بهم من المنتسبين إلى الإسلام بتعييب الإسلام بهذه الحدود، وعدوها -حمقاً وجهلاً منهم- وحشية وهمجية، ولا ريب أنهم هم المعيبون؛ لدفاعهم عن المجرمين وإهمالهم أمراً مبنياً عليه, ستتحول المجتمعات الآمنة -بقصدهم- إلى مجتمعات ذئاب مسعورة، يعدو بعضها على بعض بلا حدود ولا رادع، والواقع أكبر شاهد على ذلك إن سلباً أو إيجاباً.
وإننا لنرجو الله عز وجل أن يهيئ للأمة رجالاً مخلصين، لا يخافون في الله لومة لائم، مع ارتفاع الأصوات الغيورة المنادية بتنفيذ حكم الله أمام زحف الجرائم، وسيل الفساد من: القتل، والزنا، والخطف، والسرقة، والرشوة، والتزوير، والخمور، والمخدرات، وغيرها، ولا يخلص من ذلك كله، إلا تطبيق شرع الله، صوناً للدماء والأعراض والأموال، وصلاحاً للمجتمع، ورحمة بالخلق، وقطعاً لدابر المفسدين في الأرض.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:33].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، ورزقنا السير على سنة سيد المرسلين، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارنا بمنه وكرمه من العذاب الأليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(20/8)
شكر الله على نعمة الإسلام
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤاً أحد، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ} [البقرة:281] واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها المسلمون: إن الحدود في الإسلام صفحة ناصعة من صفحات الرحمة والحكمة في هذا الدين القويم، فاشكروا الله على نعمة الإسلام، وحققوه في واقعكم قولاً وفعلاً، والتزموا حدوده تفلحوا وتسعدوا.
وصلوا وسلموا على خير البرية، وهادي البشرية، محمد بن عبد الله، كما أمركم الله تبارك وتعالى بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله.
اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاية المسلمين فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به دينك، يا رب العالمين، اللهم هيء له البطانة الصالحة، اللهم واجعله للمسلمين قدوة على ما تحب وترضى يا عظيم.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(20/9)
نداء إلى المرأة المسلمة
المرأة اليوم هي هدف أعداء الله؛ لكي يضلوا الأمة الإسلامية بهذه المرأة، ولذلك تكثر في هذه الأيام الدعوات إلى تحرير المرأة.
وقد تكلم الشيخ حفظه الله عن المرأة ومكانة المرأة المسلمة في ميزان الإسلام، فلقد كرمها الإسلام خير تكريم، كما حذر من دعاة السفور والفجور، ونادى المرأة بالتمسك بحجابها ودينها، فذلك سر فلاحها ونجاحها في دنياها وأخراها.(21/1)
المرأة في الإسلام
اللهم إنا نحمدك ونستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك ونثني عليك الخير كله، نحمدك اللهم كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، لك الحمد كالذي نقول، وخيراً مما نقول، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ونشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله ربكم، فبتقواه تزكو النفوس وتصلح الأعمال.
أيها الإخوة والأخوات: هل هناك قضية بعد قضية اعتقادنا وتوحيدنا لربنا أهم من قضية الاهتمام بقيمنا ومثلنا، والتمسك بحيائنا وعفتنا وإبائنا، والثبات على أصالتنا وأخلاقنا وسلوكنا والغيرة على حرماتنا وأعراضنا، وإحاطتها بسياج منيع من الفضيلة، وصونها عن مستنقعات الرذيلة؟! لا والله، يستوي في ذلك الرجال ذو القوامة والرعاية {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] والنساء ذوات التوجيه والتربية والعناية {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] كل في مجال اختصاصه وحدود مسئولياته.
أيها المسلمون والمسلمات: أرأيتم إلى الجوهر المكنون، والدر المصون إذا حفظ من العبث والضياع، ولم تنله يد الهمج الرعاع، وحرص عليه فلم يعد من سقط المتاع، كيف تبقى لها نظارته وبهاؤه وسلامته وصفاؤه وتلألؤه ونقاؤه؟
أرأيتم إلى الزهرة المتفتحة، والوردة المتضخمة والريحانة الفواحة في الروضة الغناء، كيف يبقى لها شذاها وأريجها وطيبها ونسيمها في سلامة من الفساد والذبول والخراب والأفول؛ إذا صينت من عبث العابثين وكيد الكائدين؟
فذلكم مثل تقريبي لوضع المرأة في هذه الحياة، مع أن المرأة أرفع من ذلك قدراً وأعلى شأناً، فهي مخلوق أكرمه الله بالعقل والإنسانية، وشرَّفه بحمل الرسالة الإسلامية بعد أن كانت المرأة في ظل الجاهلية والديانات الوثنية مهيضة الجناح، مهضومة الحقوق، مسلوبة الكرامة، معدودة من سقط المتاع، تباع وتشترى، وتوهب وتكترى، ولا حق لها في الإرث والتملك، بل إنها تقتل وتوأد دون ذنب أو جريرة، فجاء الإسلام بحكمته وعدله فأعزَّ شأنها، وأعلى مكانها، ورفع قدرها، وحفظ حقوقها، وصانها من الابتذال والضياع، وجعلها شريكة للرجل في الحياة، شقيقة له في تحمل الأعباء والمسئوليات.(21/2)
ذكر المرأة في القرآن والسنة
ولقد ذكر الله المرأة في كتابه مع الرجل في مواضع كثيرة فقال تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] وقال جلَّ شأنه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] وقال جلَّ وعلا: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35](21/3)
مصيبة المرأة في ترك حجابها
أخي المسلم، أختي المسلمة: وإذا كان الاهتمام بالمرأة المسلمة واجباً في كل زمان ومكان، فإنه في زمن المغريات وعصر الانفتاح والشهوات والشبهات أعظم وألزم، كيف وقد حذر المصطفى صلى الله عليه وسلم من فتنة النساء! ففي الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال من النساء} وفي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه {فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن فتنة بني إسرائيل كانت في النساء}.
الله المستعان -يا عباد الله ويا إماء الله-! فتنة عظمى ومصيبة كبرى أن تترك المرأة شرع ربها وأحكام دينها، وتتساهل بعفافها وحجابها، وتهمل التأسي بسلفها الخيرات، وتعجب بالتقليد والتشبه بالفاجرات، وتصغي إلى الجديد من الأفكار والشعارات، وتنساق وراء العفن والدعايات، وتلهث خلف سراب الأزياء والموضات، بدعوى التقدمية الزائفة، والتحضر والحرية والمدنية المعاصرة.
مدنية لكنها جوفاء وحضارة لكنها أفياء
مرجت عقول الناس حيث استحسنت من صنعها ما استهجن العقلاء
تدعو التهتك والسفور فضيلة ونتاج ذاك الشر والفحشاء
لا وازع يزع الفتاة كمثلما تزع الفتاة صيانة وحياء
وإذا الحياء تهتكت أستاره فعلى العفاف من الفتاة عفاء
ولا ينكر عاقل أن من الحياء المطلوب شرعاً وعرفاً احتشام المرأة وبعدها عن مواقع الفتن ومواطن الريب، وأن حجابها بتغطية وجهها محل الحسن والجمال ومواضع الزينة منها لهو من أكبر احتشام تفعله وتتحلى به، وقد اتفق أهل العلم على أنه إذا لم تؤمن الفتنة فيجب على المرأة بإجماع أن تغطي وجهها ومحاسنها، وهل يقول من يؤمن بالله واليوم الآخر ويغار على عرضه ومحارمه أن هذا العصر -بفتنه ومغرياته وشهواته وشبهاته- لا تؤمن فيه الفتنة؟ نعوذ بالله من الهوى وانتكاس الفطرة.(21/4)
الإسلام يأمر بالحجاب
أيها المسلمات: ليس بعد نصوص الكتاب والسنة وأدلة الشرع المطهر مستمسك لأحد في التساهل بالحجاب، يقول الله عز وجل: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْأِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31] قال ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: {إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] أي: ما ظهر منها من الملابس الظاهرة، وأما ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه فسره بالوجه والكفين فإنه محمول على حالة النساء قبل نزول آية الحجاب؛ لما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس نفسه رضي الله عنهما أنه قال: [[أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب]]، وقد نبه على ذلك جمع من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب:59].
وقد أمر الله نساء نبيه عليه الصلاة والسلام ورضي عنهن فقال سبحانه: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:32 - 33] وإذا كان هذا في حق أمهات المؤمنين الطاهرات، فغيرهن من باب أولى، وقال سبحانه: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53] الله أكبر! هذا هو السر والحكمة في مشروعية الحجاب {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].(21/5)
أدلة وجوب الحجاب
وأما ما يستدل به دعاة السفور من حديث أسماء رضي الله عنها أنها دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق فأعرض عنها وقال: {يا أسماء! إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلا هذا وهذا وأشار إلى وجه وكفيه} فإنه حديث ضعيف الإسناد لا يحتج به، وقد رواه أبو داود وأعلَّه في الإرسال، كما أعلَّه أبو حاتم الرازي، والحديث سنده منقطع؛ لأنه من رواية خالد بن دريك عن عائشة وهو لم يسمع منها، كما أن في سنده سعيد بن بشير وهو ضعيف لا يحتج بروايته، وقد ضعفه الإمام أحمد رحمه الله ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم.
وروى الإمام أحمد وأبو داود وابن ماجة بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: {كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها فإذا جاوزونا كشفناه}.
كل هذه الأدلة والنصوص كافية لطالب الحق وطالبة الحق في هذه المسألة، مع ما في الحجاب من سد ذرائع الفواحش، وحسم وسائل الزنا والفساد، وإقرار المصالح في المجتمع ودرء المفاسد عنه.
فيا أيتها الحرة الشريفة والأخت العفيفة: يا حفيدة عائشة وخديجة وفاطمة وسمية ونسيبة وعاتكة! التزمي بالحجاب، تمسكي بالجلباب، ولا تصغي إلى ما تقوله الذئاب، احذري الذئاب البشرية، والوحوش الإنسية، الذين يهدرون عفتك وكرامتك ثم يلفظونك لفظ النواة، ويرمونك رمي القذاة.
إخواتي في الله: إنكن لن تبلغن كمالكن المنشود، وتعدن مجدكن المفقود إلا في ظل الإسلام وتعاليمه، فتمسكي بدينك تحمدي وتستريحي، وبحجابك تسعَدي وتسعِدي، وبالعفاف تصلُحي وتُصلِحي، وإذا غاض في المرأة الماء، وهش منها البناء، وقلَّ الحياء؛ ذهب البهاء؛ وحل البلاء.
فيا أيتها الأخت المسلمة: يا من أعزك الله بالإسلام وشرفك بالإيمان! نخاطب فيك دينك وإيمانك، نخاطب فيك غيرتك وعفافك، احذري الأبواق الناعقة، والأصوات الماكرة، والأعين الحاسدة، والكلمات المعسولة، والأيدي الخبيثة، التي تريد إنزالك من علياء كرامتك وتهبط بك من سماء مجدك وتخرجك من دائرة سعادتك، وإياك ثم إياك من الخديعة والانهزامية أمام موجات التبرج والسفور والإباحية، التي بليت بها كثير من المجتمعات، احذري دعايات التبرج والتغريب التي تدعو إلى التهتك والسفور.(21/6)
ماذا يريد أعداء الله من المرأة
لقد سلط الأعداء على المرأة المسلمة السهام، ونصبوا لها الشباك، وأعدوا لها الشراك، فماذا يريدون؟ ماذا يريدون لها؟ وماذا يريدون بها؟ إنهم يريدون تحررها من دينها وأخلاقها وعفافها، يريدونها ألعوبة في أيديهم، ودمية وسلعة بين ظهرانيهم، لطالما وصفوا المجتمعات المحافظة بالتخلف والرجعية، يقولون: إن نصف المجتمع معطل، المجتمع المحافظ لا يتنفس إلا برئة واحدة {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف:28].
يريدون لأخواتنا أن يكن عارضات للأزياء، وصوراً تزين بها الأغلفة، قولوا لي بربكم: ماذا جنت المجتمعات لما أهملت أمر المرأة وتركت لها الحبل على الغارب خرَّاجة ولاَّجة، تعمر الأسواق ذاهبة آيبة، تتفنن في مشيتها، وتتكسر في هيئتها، وتتغنج في كلامها؟ أما يكفي زاجراً ويشفي واعظاً ما حل بالمجتمعات التي خالفت تعاليم الإسلام حتى انطلقت الصيحات من بلاد الإباحية من نساء منصفات يطالبن بعودة المرأة إلى بيتها وعنايتها بزوجها وأولادها؟
إننا لا نخاطب في المرأة نفسها فقط، بل أين الرجال؟! أين الأزواج؟! أين الآباء؟! أين الإخوة؟! أين أهل الغيرة والمروءة والشرف والشهامة والمجد والكرامة؟! كيف يرضون لبناتهم وزوجاتهم وأخوانهم أن يكن مرتعاً للنظرات المريبة، والأعين الخائنة؟! كيف يسمحون لبناتهم أن يكنَّ موائد مكشوفة، ولقماً سائغة، أمام ضعاف النفوس وعديمي المروءة؟!
إنه ما نكبت المجتمعات نكبة أشد من نكبتها في أخلاقها، وإذا أصيبت الأمة في أخلاقها فقل عليها السلام، لمَّا أهملت شأن المرأة، فاتقوا الله أيها المسلمون! واتقين الله أيتها المسلمات! {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31] قوموا جميعاً بما يجب عليكم تجاه زوجاتكم وبناتكم وأخواتكم وأسركم تصلح أحوالكم، وتسعد مجتمعاتكم وتفلحوا في دنياكم وأخراكم {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.(21/7)
حث المرأة على التمسك بدينها
الحمد لله العلي الأعلى، الذي خلق فسوى، والذي قدر فهدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة فما ضل وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إنه إلا وحي يوحى، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجهم واقتفى من الرجال والنساء، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقين الله إماء الله!
أيها الإخوة! أيتها الأخوات: لعلكم سمعتم جميعاً ما يكفي في هذا الموضوع الهام، فحق على كل من سمع أن يبادر إلى الاستجابة والامتثال، تقول عائشة رضي الله عنها: [[يرحم الله نساء الأنصار لما نزلت آية الحجاب عمدن إلى مروطهن فاعتجرن بها]]، فهل تفعل نساؤنا اللاتي يسمعن هذا الكلام فعل نساء الأنصار فهن خير خلف لخير سلف.
هذا هو الأمل فعليهن أن يبادرن إلى تطبيق ما سمعن قبل خروجهن من هذا المكان الطاهر، وإن ثقتنا بنسائنا ذوات الدين والعفاف والمنبت الحسن والمعدن الطيب، أن يتمسكن بدينهن ولا تغرهن الدعايات المضللة.
وهنيئاً لامرأة أرضت الرحمن وأغضبت الشيطان، وتمسكت بالحجاب ودعت إليه في صفوف بنات جنسها.
وإلى الشاردات الغافلات أقبلن أقبلن قبل فوات الأوان وحلول الهوان، فرب لذة ساعة تعقبها حسرة إلى قيام الساعة، وإن من التحدث بنعم الله ما تتمتع به بنت الجزيرة وفتاة الحرمين في هذه البلاد المباركة بتمسكها بشريعة الله، فهذه البلاد بحمد الله تتمتع بها المرأة بوضع لا نظير له في العالم، غير أننا محسودون يا عباد الله، فلنكن على حذر وفطنة.
ومما ينبغي التنبيه إليه -يا عباد الله- أن المرأة إذا شهدت مواطن اجتماع الرجال كالمساجد ولاسيما المسجد الحرام فإن عليها أن تكون على هيئة شرعية فتتمسك بالحجاب والعفاف، وتأتي إلى المسجد متحشمة متحجبة غير متعطرة ولا متطيبة ولا متبرجة ولا متزينه، وتصلي في موضع صلاة النساء في آخر الصفوف، وتحذر من الاختلاط بالرجال في المطاف وعند الأبواب.
ولتحذر المرأة المسلمة من الظواهر الغريبة التي وجدت عند بعض من ضعف دينهم كإبداء الأعين بشكل مريب، ولا ينبغي للمرأة إذا أتت إلى المسجد أن تصطحب معها أبناءها لما يسببونه من الإزعاج، وألا تصطحب أطفالها لما يحدثونه من التشويش على المصلين فتقع في إيذاء عباد الله، وإلا فبيتها خير لها.
تقول عائشة رضي الله عنها: [[لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدثه النساء بعده لمنعهن من المصلَّى]].
هذا في القرون المفضلة فكيف بزماننا هذا يا عباد الله؟! فالله المستعان!
ومن الخسارة الفادحة أن تأتي المرأة تريد الأجر فترجع بالإثم والوزر، فاتقوا الله عباد الله، وخذوا على أيدي سفهائكم، واسعوا جميعاً لإصلاح أنفسكم وبناتكم ونسائكم وأسركم؛ تصلح مجتمعاتكم وأمتكم.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم ربكم جلَّ في علاه فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(21/8)
نداءات للحجاج [1]
الحج عبادة من أعظم العبادات، وإن له من الشروط والأركان والواجبات ما يجب على كل من أمَّ بيت الله الحرام أن يعلمها؛ ليعمل بها؛ فيقبل حجه عند الله، كما له من المقاصد والمنافع والحكم والآداب ما ينبغي لكل حاج أن يستشعره، ليحصل له برُّ الحج، ويعود بشيء من منافعه وآثاره.(22/1)
مقاصد الحج العظيمة
الحمد لله، وأشهد أن لا إله إلا الله، فرض على عباده حج بيته الحرام، ورتب عليه جزيل الأجر والإنعام، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأنام، وخير من صَلَّى وزكى وحج وصام، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه البررة الكرام ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أمة الإسلام! ويا حجاج بيت الله الحرام! اتقوا الله جل وعلا، واشكروه على ما هداكم للإسلام، وشرع لكم من مواسم الرحمة والغفران.
عباد الله! في هذه الأيام المباركة تشرئب الأعناق، وترنو الأبصار، وتنجذب القلوب، وتتجه الأنظار، وتهوى الأفئدة، وتتطلع النفوس المسلمة إلى هذه البقعة الشريفة التي هيأها الله لعباده، واختارها لتكون عرصاتها محلاً للمناسك، فهذه قوافل الحجيج وطلائع وفود الله أتت من كل فجٍ عميق ليشهدوا منافع لهم يدفعهم الإيمان، وتقودهم الرغبة، ويحدوهم الشوق، ويحفزهم الأمل فيما عند الله مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: {من حج فلم يرفث، ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه} أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفيهما عنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {والحج المبرور ليس له جزاءٌ إلا الجنة}.
إخوة الإسلام! حجاج بيت الله الحرام الحج عبادةٌ من أعظم العبادات، له من الشروط والأركان والواجبات ما يجب على كل من أمَّ هذا البيت أن يعلمها؛ ليعمل بها؛ فيقبل حجه عند الله، كما له من المقاصد والمنافع والحكم والآداب ما ينبغي لكل حاجٍ أن يستشعره؛ ليحصل له برُّ الحج، ويعود بشيءٍ من منافعه وآثاره.(22/2)
الحج منطلق لإعلان التوحيد الخالص لله
فأهم المقاصد والغايات، وأعظم الحكم والواجبات، أن يكون الحج منطلقاً لإعلان التوحيد الخالص لله، فلا أنداد ولا شركاء، ولا شفعاء ولا نظراء، وأن يكون مرتكزاً لتجديد دعوة إبراهيم عليه السلام، وسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ودعوةً إلى الحنيفية السمحة التي لا تعلق لها إلا بالله وحده، استسلاماً لله، وانقياداً لعقيدة التوحيد، وإذعاناً لطاعة الله ورسوله، وبراءةً من كل مبدأ يخالف نهج الكتاب والسنة، ومن كل عقيدةٍ لم يكن عليها سلف هذه الأمة.
أمة الإسلام! ضيوف الرحمن، وفود الملك العلام إن القاعدة التي تبنى عليها العبادات والأصل الذي ترتكز عليه الأعمال، وبدونه تكون هباءً منثوراً هو أساس هذا الدين، تحقيق التوحيد لله رب العالمين، وإنه محادة الله بإشراك غيره معه، لهو أظلم الظلم، وأصل الضلال.
فيجب على كل مسلم يرجو ثواب الله، ويخاف عقابه، ويحب نجاته يوم العرض على الله أن يعلق آماله بالله وحده، وينبذ كل ما سواه كائناً ما كان، وإنه لمما يبعث على الأسى، ويدعو للأسف أن يغبن كثيرٌ من الناس، فيجهلوا هذا الأساس، يتعبون أبدانهم، ويتركون أوطانهم، ويتجشمون المصاعب، ويتكبدون المشاق، ولكن على غير النهج السليم المستقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، هل استشعر كل من أراد شد الرحال إلى هذه البقاع الطاهرة هذا الأصل العظيم؟ وهل حقق هذا الأساس المتين؟
لا بد من وقفةٍ حازمةٍ مع النفوس أيها الحجاج، ألم تقرءوا آيات الحج الواردة في كتاب الله عز وجل، وتتأملوا أعمال الحج من الطواف والسعي والتلبية، والرمي، وما إلى ذلك؟ إنها تؤصل في النفوس المسلمة هذا الأساس العظيم، كلها تدور حول إفراد الله بهذه العبادة، والتحذير من الشرك، اقرءوا إن شئتم قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26] وقوله سبحانه وتعالى: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:30 - 31] وقوله جل وعلا: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا} [الحج:34].
فهي دعوةٌ من الله سبحانه، ودعوة رسله عليهم الصلاة والسلام، ثم دعوة كل مؤمنٍ موحدٍ أن تُسْتَلْهم صحة العقيدة وسلامة التوحيد وإخلاص الدين لله من هذه الآيات الكريمة، وهذه العبادة العظيمة، وإنَّ تَوَجُّه العبد الضعيف إلى غير الله في سؤالٍ، أو دعاءٍ، أو ذبحٍ، أو توسلٍ واستغاثة، أو ادعاء أن أحداً من دون الله يشفع عند الله، لهو من مصادمة الفطرة، ومخالفةٍ للملة، ومجانبة العقيدة والسنة: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعاً} [الزمر:44].
إن في الحج يا عباد الله ولاءً خالصاً لله، وانقياداً تاماً لدين الله، لا مجال فيه لدعوة غير الله، وإعلان ولاءات لغير الله، ورفع هُتافاتٍ وشعاراتٍ مخالفةٍ لشرع الله، وعمل تجمعاتٍ وتظاهرات تخرج بالحج عما شرع الله وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم.(22/3)
الحج منطلق للوحدة والتضامن
إن على الأمة الإسلامية وهي على أبواب هذا الموسم العظيم، أن تعمل بجدٍ وصدق للخروج من المحن والمصائب التي ابتليت بها، فطالما بكى الباكون، وتحدث الغيورون عن الأحوال المزرية التي يمر بها العالم الإسلامي.
أما آن لنا معشر المسلمين أن نأخذ من هذا التجمع الإسلامي العظيم الدروس والعبر في الوحدة والتضامن، والبعد عن الفرقة والتشاحن، وهو يجمع المسلمين، وإن بعدت الديار، ونأت الأقطار، وتباينت الألسن والألوان على عقيدة واحدة، وسنة واحدة في مكان واحد، وهدف واحد؛ لتكون الانطلاقة لحل مشكلات الأمة المتأزمة ضعفاً ومهانةً، واختلافاً وفرقةً، من هذا المكان المبارك، مهبط الوحي ومنبع الرسالة، الذي انطلقت منه عقيدة التوحيد ودعوة الإسلام، ورسالة الخير والسلام؛ لتعم الأصقاع والأنام.
وبذلك يتحقق أكبر منافع الحج، وإنها والله لرسالة عظيمة، وأمانة جسيمة في عنق كل حاج يمثل لبنة في هذا المجتمع الإسلامي الكبير، فيشاطره آماله وآلامه، ويشاركه أفراحه وأتراحه، ويسعى جهده، ليكون جندياً يحمل رسالة الإسلام، ويدافع عن عقيدة التوحيد، ويدعو إليها، وبذلك يتحقق الأمل المنشود، والعز المفقود وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(22/4)
ما ينبغي على حجاج بيت الله الحرام
الحمد لله الحكيم الخبير، العليم القدير، العلي الكبير، خلق فأتقن، وشرع فأحكم، وهو أحكم الحاكمين، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله يا حجاج بيت الله! واشكروه على ما تعيشونه هذه الأيام من الأشهر العظيمة والمواسم الكريمة، أخلصوا حجكم لله، ارعوا لهذا البلد الحرام مكانته وقدسيته ونظامه، وإياكم وإساءة الأدب في جواره، بارتكاب شيءٍ من المعاصي، واعلموا رحمكم الله أن عليكم أن تتعلموا وتتفقهوا في أحكام المناسك لتكونوا على وعيٍ وبصيرة، وبعدٍ عن الخطأ والزلل، واسألوا أهل الذكر عما أشكل عليكم، عاملوا إخوانكم الحجاج المعاملة الحسنة، احذروا إيذاءهم ومزاحمتهم في الحرم والطرقات والمشاعر، وسوء الخلق معهم قولاً وفعلاً.
اجتنبوا اللغو واللهو والرفث والفسوق والجدال بالباطل، ليكون حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وعملكم مقبولاً، تأسوا بنبيكم صلى الله عليه وسلم، فلا زيادة، ولا نقصان، قال صلى الله عليه وسلم: {خذوا عني مناسككم} ثم صلوا وسلموا عليه، فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين والأئمة المهديين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق حجاج بيتك الحرام، اللهم وفقهم على أداء نسكهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم تقبل منهم، واجعلهم متبعين لشرعك، مقتدين بنبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى يا حي يا قيوم، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، اللهم انصرهم في كل مكان يا قوي يا عزيز.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(22/5)
نداءات للحجاج [2]
إن حج بيت الله الحرام مع تلك الجموع الزاخرة ليذكر المرء موقفاً آخر، وهو الوقوف بين يدي الله عز وجل، على صعيد واحد، وفي مكان واحد، ولذلك فإن حج بيت الله يستغل في العبرة والذكرى، والإكثار من الدعاء والتوبة إلى الله، وأداء مناسك الحج على وفق سنة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.(23/1)
وصية للحجاج
الحمد لله الذي فرض على عباده حج بيته الحرام، وجعله مكفراً للذنوب والآثام، ورتب عليه جزيل الأجر والإنعام، أحمده تعالى وأشكره على نعمه العظام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو الجلال والإكرام، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله خير البرية وسيد الأنام، وأفضل من صلى وزكى وحج وصام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
فيا إخوة الإسلام! ويا جموع حجاج بيت الله الحرام! أوصيكم ونفسي في هذا الجمع المبارك، وفي هذا المكان والزمان المبارك بتقوى الله عز وجل، حجاج بيت الله الحرام اشكروا الله سبحانه على ما يسر لكم من الوصول إلى بيته الحرام؛ لأداء فريضة عظيمة من فرائض الإسلام، واستغلوا -رحمكم الله- وجودكم في هذه البقاع الشريفة بالاجتهاد في الأعمال الصالحة، والإخلاص لله وحده في الأقوال والأفعال، والإلحاح على الله بالدعاء في الطواف والصلاة والوقوف بـ عرفة، والتنقل في المشاعر المقدسة، واستشعار عظمة هذه المواقف، وأهمية هذه الفرائض وأدائها كما شرع الله وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال عليه الصلاة والسلام: {خذوا عني مناسككم}.(23/2)
منافع الحج وآدابه
أيها الإخوة في الله: حجاج بيت الله! يا من اتجهتم بقلوبكم إلى الله، ووليتم وجوهكم قبل بيت الله، وتركتم في سبيل ذلك أوطانكم وأموالكم وأولادكم.
اعلموا أن للحج منافع عظيمة، وآداباً عالية، وحكماً سامية، أهمها إعلان التوحيد الخالص لله، والإقرار بوحدانيته وألوهيته، وأنه المستحق للعبادة بجميع أنواعها دون ما سواه.
ومنها وحدة المسلمين وتلاحمهم، والمساواة بينهم، وإن تباعدت أقطارهم، وتباينت ديارهم، واختلفت لغاتهم وأجناسهم وألوانهم، وتوثيق عرى المودة والإخاء فيما بينهم، فيحس المسلم إحساس إخوانه المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها ويشعر شعورهم، ويشاطرهم آمالهم وآلامهم، وما أحوج المسلمين اليوم إلى استشعار هذه الحكم العظيمة، ما أحوجهم وقد جمعهم صعيد واحد، ومقصد واحد، ومظهر واحد إلى الاجتماع على قلب رجل واحد، على صراط واحد، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض، والاعتصام بحبل الله جميعاً، والسير على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم عقيدةً وشريعةً، سلوكاً ومعاملةً، والبعد عن الفرقة والاختلاف واتباع الأهواء، ليكونوا يداً واحدة على أعداء الإسلام الذين أجمعوا أمرهم على حرب الإسلام، والنيل من أهله وأرضه، لا سيما ونحن نعيش في هذه الأيام ذكرى مؤلمة على النفوس المؤمنة ألا وهي ذكرى اعتداء أعداء الله ورسوله والمؤمنين على المسجد الأقصى، أولى القبلتين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(23/3)
الموفق في الحج
أمة الإسلام: إن في مناسك حج بيت الله الحرام دروساً نيرة، وآثاراً خيرة على الأفراد والمجتمعات، ومنها تستقى العبر العبقة، والذكريات العطرة، فالموفق من عباد الله وحجاج بيته من اصطبغت هذه الآثار في نفسه، وهيمنت على قلبه، فغيرت مجرى حياته، ليصبح مطيعاً لله ذاكراً له تائباً إليه، طاوياً صفحات التقصير والتفريط عازماً على عدم العودة إلى معصية الله في مستقبل أيامه.
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله يا حجاج بيت الله! وأدوا هذه الفريضة على وجهها الشرعي، وتذكروا أنكم تؤدون عبادةً من أجل العبادات، وشعيرةً من أعظم الشعائر قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].
فتخلقوا بأخلاق الإسلام، وعاملوا إخوانكم الحجاج معاملة الرفق والسماحة والإيثار، وإياكم واللغو والرفث والفسوق والجدال والإيذاء قولاً وفعلاً، وتجردوا من هوى نفوسكم، وأسر شياطينكم، واستعينوا بالله على إتمام مناسككم فإنه نعم المعين.
نسأل الله تعالى أن يتقبل من حجاج بيته الحرام، وأن يوفقهم لأداء مناسكهم على الوجه المشروع، وييسر لهم أمورهم، ويجعل حجهم مبروراً، وسعيهم مشكوراً، وذنبهم مغفوراً.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(23/4)
واجبات وسنن الحج
الحمد لله الذي جعل لكل أمة منسكاً، وهيأ لهم إلى الخير طريقاً ومسلكاً، فأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا حجاج بيت الله! اتقوا الله تعالى واشكروه، وعظموا أمره ولا تعصوه.
أيها الإخوة حجاج بيت الله الحرام: إن من السنة أن تتجهوا غداً إلى منى، فتصلوا بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر كل صلاةٍ في وقتها، وتقصر الرباعية ركعتين، وفي اليوم التاسع تتوجهون إلى عرفات وتبقون فيها إلى غروب الشمس وجوباً، وتجتهدون في هذا اليوم العظيم، الذي يجود الله فيه على عباده، ويباهي بهم ملائكته، وتكثرون من الذكر والتهليل والاستغفار، وتلحون على الله بالدعاء لكم ولإخوانكم المسلمين مع إظهار التضرع له والافتقار إليه.
ثم بعد غروب الشمس تفيضون إلى مزدلفة وتبيتون بها وجوباً، وفي اليوم العاشر تتوجهون إلى منى لرمي جمرة العقبة والحلق والنحر لمن عليه هدي، ثم تذهبون إلى البيت لطواف الإفاضة، قال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] ويسعى من عليه سعي، ثم ترجعون إلى منى للمبيت بها ليالي وأيام التشريق، ورمي الجمار، ثم تنتهون من مناسككم بطواف الوداع عند عزمكم على السفر إلى بلادكم، فهذه سنة رسولكم صلى الله عليه وسلم، فاتبعوها، ولا تتساهلوا في أدائها، فإن ذلك مما يعرض حجكم للنقص وأعمالكم للخلل.
ألا وصلوا وسلموا على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم سلم الحجاج والمعتمرين، اللهم تقبل منهم مناسكهم، اللهم أعنهم على أدائها بيسرٍ وسهولةٍ، اللهم اجعلهم متبعين لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، وانصرهم على أعدائهم يا أرحم الراحمين!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(23/5)
نعمة العقيدة الإسلامية
نعمة العقيدة نعمة عظيمة لا تعادلها نعمة أخرى، لأنها تسمو بالروح في طريق ربها.
ولقد تمسك المسلمون بعقيدتهم وبذلوا في سبيلها كل غال ونفيس.
ولقد حارب أعداء الإسلام هذه العقيدة بكل الوسائل فتمسك بها أهلها لإيمانهم بوجوب الدفاع عنها في كل زمان ومكان.(24/1)
العقيدة الإسلامية أعظم النعم
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، وصبر على ما أصابه في سبيل ذلك، صَلَّى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سلك سبيله، وترسم خطاه إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واذكروا نعمة الله عليكم، واشكروه عليها؛ فبالشكر تدوم النعم.
عباد الله: إن أجل نعمة أنعم الله بها على الناس عامة، وعلى المؤمنين خاصة؛ نعمة الإسلام، فقد كان الناس قبله في ضلالٍ وجاهلية، وخرافة ووثنية، فقد سيطر عليهم الفساد في عقائدهم، وأفكارهم، وأخلاقهم، ومعاملاتهم، إلى أن أذن الله بانبثاق فجر الإسلام برسالة محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأشرقت به الأرض بعد ظلماتها، واجتمعت الأمة بعد شتاتها، وجاء هذا الدين العظيم يحمل للبشرية كل خير، ويبعد عنها كل شر، وحمل لواء الإسلام بعد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صحابته الكرام رضوان الله عليهم، الذين جمعتهم عقيدة التوحيد الصحيحة، ولم تفرق بينهم الأهواء والشبهات، فنشروا الإسلام في أدنى الأرض وأقصاها، حتى أظهره الله على الدين كله، فأخمد به نار الفتن، ودحر به كيد الأعداء، وحطم به أصنام الوثنية، وملأ الأرض رحمة وعدلاً، والقلوب خشية وإيماناً.(24/2)
موقف أعداء الدين من العقيدة الإسلامية
ولكن ما الذي حدث بعد ذلك؟ وماذا كان موقف الشيطان وحزبه؟ أعداء الإسلام على اختلاف مللهم، وتمايل مذاهبهم، لقد وقفوا من هذا الدين وهذه العقيدة، ولا زالوا يقفون موقف العدو اللدود، واستخدموا كل ما يملكون ويستطيعون من الوسائل للقضاء على هذه العقيدة، أو فج الناس عنها، أو تشويهها بالنقص منها أو الإحداث فيها، والدس عليها وإلقاء الشبه ضدها، ومع هذا كله فقد انكشف وارتدت سهامهم على نحورهم، وشاهت وجوههم، وماتوا بغيظهم، وبقي هذا الدين -وسيبقى بإذن الله- وبقيت العقيدة الصحيحة، وستبقى بعون الله غضة طرية كما ارتضاها الله، وجاء بها رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
إخوة الإسلام! وأكبر نعمة أنعمها الله على هذه البلاد المباركة وأهلها، وينبغي أن يحدثوا بها ويشكروها حق شكرها ولا يعرضوها للزوال ما منَّ الله عليهم بتطبيق هذا الدين الحنيف، واتباع العقيدة الصحيحة ولزوم منهج السلف الصالح رحمهم الله، حتى أصبحت هذه البلاد ولله الحمد والمنة مضرب المثل في صفاء العقيدة، وتوفر الأمن والاستقرار، وامتدت آثار هذه النعمة إلى بقاع كثيرة من العالم، كل ذلك بفضل الله، ثم بفضل أئمة الحكم الأماجد وأئمة الدعوة الأفاضل جزاهم الله عن هذه البلاد وأهلها خير الجزاء وأجزله.
لقد عاشت هذه البلاد المباركة، أحقاباً من الزمن آمنة مطمئنة، يحكم فيها بكتاب الله وسنة رسوله، تقام فيها الحدود الشرعية، يؤمر فيها بالمعروف وينهى عن المنكر، سليمة في دينها، صافية في عقيدتها، عريقة في أصالتها، نزيهة في معاملاتها، ولا تزال بحمد الله على ذلك، ونسأل الله لها الثبات على الحق، والمزيد من الفضل، ولكن هذه النعم أثارت كوامن الحاسدين، وشماتة الشامتين، وأقضت مضاجعهم، فلم يكفوا عن حقدهم وزيغهم وضلالهم فحملوا على عقيدة هذه البلاد وأحكامها، وتشريعاتها، وحاولوا تشويهها، والدس فيها وإلقاء الشبه عليها ولكن:
لا يضر البحر أمسى زاخراً إن رمى فيه غلامٌ بحجر
فلا مجال في هذه البلاد لمغيرٍ ومبدلٍ ومحدث، فهي -ولله الحمد- أمة واحدة، دستورها كتاب الله وسنة نبيه، وعقيدتها عقيدة سلف هذه الأمة، لا ترضى بها بديلاً، وقدوتها محمد بن عبد الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصحابته الكرام، وأتباعهم من القرون المفضلة، فعلى هذا الطريق المستقيم، والحق القويم، سارت وستظل سائرة -إن شاء الله- مهما حاول الأوباش الوقوف في طريقها، والتعرض لأهلها، ويبقى هذا الدين وأهله طوداً شامخاً وحصناً منيعاً لا تصل إليه سهام الأعداء، بل تعود هذه السهام إلى صدور أصحابها خاسئة ذليلة، وتلك سنة الله عز وجل: {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} [الأحزاب:62].
فاتقوا الله يا أمة الإسلام! حافظوا على دينكم، وتمسكوا بعقيدتكم، والزموا نهج أسلافكم.
فكل خيرٍ في اتباع من سلف وكل شرٍ في ابتداع من خلف
{وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40] * {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ورزقني الله وإياكم السير على هدي سيد المرسلين، وجنبني وإياكم طرق الضالين، وتاب علي وعليكم إنه هو التواب الرحيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، إنه هو الغفور الرحيم.(24/3)
وجوب الارتباط بالإسلام والدفاع عنه
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفوته من رسله، وخيرته من خلقه، صَلَّى عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
أيها المسلمون! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، عباد الله اشكروا الله تعالى أن جعلكم مسلمين وحققوا إسلامكم بمحبته والارتباط به، والدعوة إليه والدفاع عنه؛ فإن دينكم وعقيدتكم يلقيان في هذا الزمن حرباً لا هوادة فيها من أعداء الإسلام على اختلاف مبادئهم ومواقعهم، فيجب على كل مسلم أن يثأر لدينه، ويغار على عقيدته، ويدافع عنها مهما كلفه ذلك من جهد، ومهما أصابه في سبيل ذلك من أذىً حسيٍ ومعنوي، وكل مسلم بحسب قدرته وطاقته، ولا يتساهل في ذلك إلا من هانت عنده العقيدة وغره الشيطان فأقعده عن هذا الواجب العظيم {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8]، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
ألا وصلوا على الهادي البشير، والسراج المنير كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على قدوتنا وإمامنا محمد بن عبد الله، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعل ولايتنا فيمن يخافك ويتقيك، ويتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم مُنَّ على المسلمين جميعاً بصلاح قادتهم وعلمائهم وشبابهم ونسائهم يا رب العالمين، اللهم وفق إمام المسلمين بتوفيقك، وأيده بتأييدك، وأعلِ به دينَك يا رب العالمين، اللهم ارزقه البطانة الصالحة.
اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين يا رب العالمين.
اللهم وفق المسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها إلى ما تحب وترضى يا رب العالمين.
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، والمستضعفين في أرضك، تحت كل سماء وفوق كل أرض، يا رب العالمين.
اللهم احفظ على المسلمين عقيدتهم، اللهم احفظ على المسلمين عقيدتهم، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وإيمانهم يا رب العالمين.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90]، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم {وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(24/4)
واقع المسلمين آلام وآمال
إن الناظر إلى واقع المسلمين اليوم، وواقع المسلمين بالأمس يرى الفرق الشاسع بين الفريقين، ففي الأمس فتوحات وانتصارات، وتمكين في الأرض، وإعلاء لكلمة الله في مشارق الأرض ومغاربها، واليوم تهراق دماء المسلمين في كل مكان، وتنتهك أعراضهم، وتٌدنس مقدساتهم ولكن كما يقول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حياً ولكن لا حياة لمن تنادي(25/1)
حال الناس قبل البعثة وبعدها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، ومصطفاه من خلقه، ومجتباه من رسله، صلى الله عليه وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، الذين كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً.
فالموفق من عرف لهم فضلهم، واتبعهم في آثارهم، وتمسك بأخلاقهم وآدابهم فرضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون في بلد الله الحرام! إخوة العقيدة والإيمان في كل مكان: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن تقواه جل وعلا أفضل عدة وأربح بضاعة، وخير زادٍ في المعاش والمعاد.
أمة الإسلام: ما أكرم الله أمة من الأمم، بمثل ما أكرم به هذه الأمة، أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وقد منَّ عليها بأعظم منة، وأنعم بأكبر نعمة، ألا وهي نعمة الإسلام وبعثة محمدٍ صلى الله عليه وسلم، خير الأنام، وقد كان الناس قبله في جاهلية وضلال، عقائدهم شركٌ ووثنية، أفكارهم زيفٌ وجهلٌ وسطحية، أخلاقهم ظلمٌ وبغيٌ وجور وتسلطٌ وانتقام، حياتهم قلقٌ وخوفٌ واضطراب، وفوضى وإرهاب، الدماء تسفك لأتفه الأسباب، الأعراض منتهكة، الفرقة سائدة، الأخلاق متردية إلى أن أذن الله جل في علاه بانبثاق فجر الإسلام وبزوغ شمسه، ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بهذا الدين القويم، فأخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، بصر به بعد العمى، وهدى به بعد الضلالة، وأرشد به بعد الغواية، وعلم به بعد الجهالة، وجمع به بعد الشتات والفرقة، بعثه بالهدى ودين الحق، دين السعادة والسيادة والرفعة والنصر والقوة، لا خير إلا دل عليه وأمر به، ولا شر إلا حذر منه ونهى عنه، تكفل الله لمن تمسك به وسار على نهجه؛ ألا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة.(25/2)
حال الأمة الإسلامية في صدر الإسلام
إخوة الإسلام: وبالرجوع إلى الوراء قليلاً والتأمل في أمجاد هذه الأمة، والنظر في حال الأمة الإسلامية في صدر الإسلام، وعصر القرون المفضلة، وما سطره التاريخ الإسلامي المجيد بأحرف الذهب على الصفحات المشرقة، يوم أن كانت الأمة الإسلامية متمسكة بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
شعارها العز والمجد، وسلاحها الإيمان والصدق، نصرت كتاب الله فنصرها الله، صدقت مع الله فصدقها الله وعده، فتحت البلاد وأصلحت العباد، وأرهبت الأعداء، ودانت لها الأمم والشعوب، ودكت عروش الباطل وصروح الكفر، فدخل الناس في دين الله أفواجاً، ورفرفت راية التوحيد على أقطار المعمورة.
اسألوا التاريخ ماذا قدم المسلمون في بدر والأحزاب وفتح مكة؟! وفي اليرموك والقادسية، وفي حطين وعين جالوت وغيرها من معارك المسلمين؟!
بأي سلاح انتصروا! وبأي قلوبٍ خاضوا المعارك! ثم انظروا بعين البصيرة أوضاعكم، وارقبوا أحوالكم، وقارنوا بين ماضيكم العريق وواقعكم الغريق.(25/3)
حال الأمة الإسلامية الآن
أمة الإسلام: ويدور الزمان وتمر القرون، وتنصرم الأعوام، والأمة الإسلامية بين مدٍ وجزر، بين صحوة وكبوة، بين يقظة وغفلة، تتمسك بدينها، وتعلي كتاب ربها وسنة نبيها صلى الله عليه وسلم فينصرها ربها، ويعزها ويذل أعداءها، وتغرق في الشهوات وتنغمس في الضلالات، وتنسى شرع ربها فينساها مولاها، ويتخلى عنها، ويكلها إلى نفسها، ويسلط عليها أعداءها إلى أن تراجع دينها.
وتمر الأيام وتخلف الخلوف، وتبحر سفينة الحياة إلى أن ترسو على شاطئ عالمنا المعاصر، وزماننا الحاضر وواقعنا المشاهد، بأحداثه وآلامه، بأحواله المبكية ووقائعه المؤلمة، وأوضاعه المتردية، فتنٌ كقطع الليل المظلم متعاقبة، ومحنٌ متتابعة، عقائد خاطئة، وأفكارٌ زائفة، وأخلاقٌ ساكنة، وحروبٌ طاحنة، وأحزابٌ متناحرة، وفرقة متأصلة، بلادٌ مغصوبة، وحقوقٌ مسلوبة، ودماء مسفوكة، الأعداء متطاولون، والمسلمون مستضعفون، والأشقاء متناحرون، والألداء يتفرجون.
حتى أصبح العالم الإسلامي في وضعٍ لا يحسد عليه، أصبح مسرحاً لكل مشكلة، ومأوى لكل معضلة، فكل يومٍ نسمع أحداثاً ضد المسلمين وضد بلادهم، ضد مبادئهم وقيمهم ومقدساتهم، مما تتفطر منه الأكباد، وتدمى له القلوب، وتبكي له العيون، ومما يزيد في هم المسلم المتابع لأحداث أمته، المتألم لآلامها.
أن هذه المشكلات، أصبحت أمراً مألوفاً عند كثيرٍ من الناس، فلا يسعون لتغيير، ولا يجدون في إصلاح، ولا يأخذون بتأمل حاضر العالم الإسلامي وواقعه المؤلم الذي لا تترجم عنه الكلمات، وهو معلومٌ لكل مهتمٍ بقضايا أمته، ومتابعٍ لأخبارها، وحينما يقلب المسلم صفحات هذا الواقع، يجد جوانب متعددة، تطلب العلاج الناجع بإلحاح، ولا سيما الجوانب المتعلقة بأصول هذا الدين وأسسه، ونواحي الحياة الأخرى، على مختلف الأصعدة، خاصة ما يتعلق بالجوانب التربوية والأخلاقية والتعليمية والإعلامية، كذلك ما يتعلق بأوضاع المسلمين في بقاع كثيرة من العالم الإسلامي، ولا سيما في فلسطين المسلمة، وأفغانستان المجاهدة وغيرها من البلاد التي يقطنها المسلمون وهم أقلية مستضعفة، ومن ناحية أخرى الزحف الهائل من الأفكار الهدامة، والمبادئ المنحرفة، والقوى المتآمرة على ديننا، من الملحدين الشيوعيين، ومن إخوان القردة والخنازير اليهود، ومن المنصريين وغيرهم.
ومما يتعلق أيضاً بأوضاع عدة هذه الأمة، وعماد نهضتها، وهم شبابها وما يعيش فيه أكثرهم اليوم من حياة اللهو والمجون والفراغ، وكذلك وضع المرأة المسلمة، المستهدفة في أخلاقها وآدابها، وما يخص تربيتها على كتاب ربها وسنة نبيها على الخير والفضيلة، والعفاف والستر والحياء والحشمة، ولا سيما مع السيل الجرار من حركات السفور والتبرج والاختلاط، التي اجتاحت العالم الإسلامي حتى أصبحت المرأة المسلمة سلعة للعابثين وسوقاً للمغرضين.(25/4)
العلاج الناجع لواقع الأمة الإسلامية المؤلم
تلك -يا إخوة العقيدة- جولة سريعة في أوضاع أمتنا، وقد تشخص الداء، وعرفت أسبابه، التي يجمعها الإعراض عن ديننا وإسلامنا وعن كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، ولكن من المسئول عما حدث للمسلمين؟ على من تقع مسئولية النهوض بالأمة من كبوتها؟
من المسئول عن إصلاح سفينة الأمة التي تتقاذفها الأمواج من هنا وهناك؟!
ما العلاج الناجع لكل ما حدث ويحدث؟
إن المسئولية -يا إخوة الإسلام- تقع على عاتق كل منتسبٍ لهذا الدين، الكل طبيبٌ في أمراض أمته، ما دمنا شعرنا بفساد الوضع، وتدهور الموقف وخطورته، يجب علينا أن نتحرك جميعاً في سبيل الإصلاح، لا نلقي بالتبعة على غيرنا، ولا نتخلى عن المسئولية، كلٌ في مجال اختصاصه، وما أتيح له من إمكانات، كلٌ على حسب قدرته واستطاعته، القائد والمعلم، العالم والداعية، والموظف والتاجر، الشاب والمرأة، كلهم على ثغراتٍ من ثغور الإسلام، إسلامكم -أيها المسلمون- رأس مالكم، كلٌ يربي نفسه وأسرته وأولاده، يؤثر في محيطه ويتفاعل مع مجتمعه، إنني أناشد في المسلمين غيرتهم وشهامتهم وكرامتهم.
أملنا في الله كبير، وفألنا عظيم أن تعود الأمة من ذلٍ إلى عزة، ومن هزيمة إلى نصر، ثم أملنا بعد الله معقودٌ على قادة الأمة الإسلامية، الذين تتطلع آمال الأمة الإسلامية، وتتجه أنظارهم صوب اجتماعهم القريب وتشرئب أعماق الشعوب الإسلامية، إلى مؤتمرهم العظيم، فهم معه ملء السمع والبصر، ينتظرون بفارغ الصبر نتائجه الخيرة، وثماره المباركة، التي سيكون فيها بإذن الله جمع الكلمة ووحدة الصف وتحرير المقدسات، وحقن الدماء وإعزاز مواقف المسلمين.
يا قادة الأمة! يا زعماء المسلمين! دعواتنا من بيت الله الحرام، من أطهر بقعة على وجه الأرض، من هذه البقعة المباركة باسم كل مسلمٍ غيورٍ على دينه وبلاده، بملئ أفواهنا ومن أعماق قلوبنا ندعو الله أن يكلل مساعيكم بالنجاح، وما فيه خير الإسلام والمسلمين، وأن يرزقكم الصدق في الأقوال والأفعال، وأن يدلكم على الخير، ويجعلكم من أنصار الحق والعدل والسلام؛ لتنقذوا أمتكم، وشعوبكم من الظلم والبغي، والذل والهوان، ولتعيدوا لهذه الأمة مجدها التليد، وعزها الغابر وكرامتها المفقودة، فوصيتنا تقوى الله عز وجل، ونصرة دينه وتحكيم شريعته، والصدق معه، وتأييد جنده وحزبه، والمجاهدين في سبيله، وجمع الكلمة وتوحيد الصفوف، ولينصرن الله من ينصره: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(25/5)
جهل بعض الناس بآداب الحرم
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، أحمده تعالى وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:-
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله.
أيها الإخوة في الله: يقضي كثيرٌ من المسلمين في هذه الأيام ولا سيما الطلاب وأسرهم، فترةً من الإجازة والراحة بعد شطر عامٍ دراسي، وإن مما يبهج النفس ويسر الخاطر، أن كثيراً منهم يقضون هذه الأيام في رحاب بيت الله الحرام؛ لأداء العمرة، ولكن مما يؤسف له أن بعضهم يجهل آداب هذا الحرم، وينتهك قدسية هذا المكان، شعر أو لم يشعر.
فمن ذلك أن بعض الناس -هداهم الله- يرتكب ألواناً من المعاصي والمنكرات حوله، ويقع في كثيرٍ من المخالفات فيه، ومن ذلك أن بعض الناس يؤذي المسلمين ويزاحمهم بالقول والفعل ويكدر عليهم صفو عبادتهم وخشوعهم بإزعاج أطفاله وما إلى ذلك.
وأعظم من ذلك ما تقع فيه بعض النساء -هداهن الله- من التبرج بالزينة، وعدم الحجاب وأخذ كامل الزينة والتعطر بألوان الروائح والطيب، والتحلي بالحلي واللباس الفاتن، إذا أتت للحرم وهذا منافٍ لما عليه المرأة المسلمة.
أيتها المسلمات: يجب على المرأة إذا أتت إلى هذا المكان، ورأت الرجال أن تحتجب حجاباً شرعياً كاملاً بتغطية وجهها وكفيها، وإلا فقد عرضت نفسها لسخط الله، ومن الغبن أن تأتي المرأة للأجر فتعود بالإثم والوزر.
فاتقين الله -أيتها النساء- واتقوا الله يا أولياء أمور النساء، خذوا على أيدهن، ومروهن بالحق والواجب عليهن، واتقوا الله يا أمة الإسلام، وتوبوا إليه؛ لعلكم تفلحون.
وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبي الرحمة والهدى كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا خادم الحرمين الشريفين إلى ما تحب وترضى، اللهم هيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير إذا ذكر، وتذكره إذا نسي يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم خذ بأيديهم، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم، اللهم اجمع كلمتهم، ووحد صفوفهم يا رب العالمين.
اللهم وفق قادة الأمة الإسلامية إلى الاجتماع على الإسلام الحق، إلى تحكيم كتابك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم وفق المسلمين قاطبة إلى ما تحب وترضى يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(25/6)
وداعاً رمضان
إن شهر رمضان المبارك يعود الإنسان على القيام بعبادة ربه والاستمرار على طاعته سبحانه وتعالى، ويغرس الرحمة في نفوس المؤمنين، ويدر الصدقة على الفقراء والمساكين، ولوداع رمضان كيفية وصفة، وينبغي علينا بعده المداومة على الطاعة والقربة.(26/1)
الاستمرار على العبادة حتى الموت
الحمد لله الذي أتم إحسانه على عباده المؤمنين، وأفاض من رحماته على المذنبين، أحمده سبحانه وأشكره على جوده وفضله العظيم، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أشرف الأنبياء والمرسلين، وسيد الأولين والآخِرين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا لله ربكم، وأطيعوه في سركم وعلنكم، وراقبوه في جميع زمنكم، واشكروه أن وفقكم لإكمال شهر الصيام، فلقد مضى وانقضى، وهو شاهد للمحسنين بإحسانهم، وعلى العاصين بعصيانهم، اللهم اجعله شاهداً لنا وشفيعاً، ولا تجعله حجة علينا يا رب العالمين!
عباد الله: ودَّع المسلمون شهر رمضان المبارك، بعد أن صاموا نهاره، وقاموا ما تيسر من ليله، وأقبلوا على تلاوة كتاب الله، ولازموا فعل الخيرات، وعمل الصالحات قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30].
إنه إنْ ودَّع المسلمون أيامَ هذا الشهر الكريم، فينبغي ألا يودِّعوا ما أودَعوا فيه من الأعمال الصالحة؛ وذلك يكون باستشعار آثار الصيام على الفرد وعلى الأمة.
فالتقوى! تلكم الكلمة الجامعة التي ختم الله بها آية الأمر بالصيام، يجب ألا يُغفَل عنها بعد انقضاء شهر الصيام، وأن تبقى شعاراً لأعمال الأفراد والأمم، إن ما يعطيه الصيام من دروس في الصبر والتضحية والوحدة والمواساة، والتضامن والإخاء والألفة والمودة، والعطف وغيرها، يجب أن يستمر عليها المسلمون، وأن تُرى متمثلةً في حياة الأمة الإسلامية، وما تدنَّى واقعُ الأمة إلا لَمَّا جعلت للطاعة وقتاً وللمعصية أوقاتاً، وللخير والفضيلة زمناً، وللشر والرذيلة أزماناً، عند ذاك -يا عباد الله- لم تعمل مناسبات الخير ومواسم الرحمة والبر عملها في قلوب الناس، ولم تُجْدِ في حل مشكلات الأمة، والإصلاح من حالها، والرفع من مستواها.
إخوة الإسلام: إن استقامة المسلم على عبادة الله ليس لها غاية إلا الموت، فلا تخصَّص بزمان ولا مكان، ولا مرحلة من العُمُر، قال الحسن البصري رحمه الله: لا يكون لعمل المؤمن أجلٌ دون الموت، ثم قرأ قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
فاحذروا -إخوة الإسلام- الرجوع إلى المعاصي بعد رمضان، فالإله الذي يُصام له ويُعبَد في رمضان هو الإله في جميع الأزمان، وبئس القوم الذين لا يعرفون الله إلا في رمضان، فإذا انسلخ هجروا المساجد، واعتزلوا المصاحف، وأعرضوا عن طاعة الله عزَّ وجلَّ، وأقبلوا على معاصيه.
أيها المسلمون: اتقوا الله ولا تهدموا ما بنيتم في شهر رمضان من الأعمال الصالحة، فإن من علامة قبول الحسنة: إتباعها بالحسنة، ومن أمارات ردها: إتباعها بالسيئة.(26/2)
عداوة الشيطان
واعلموا -عباد الله- أن عدوكم الشيطان كان مصفداً مهاناً في شهر رمضان، لا يخلُص إلى ما كان يخلُص إليه من قبل، واليوم وقد رحل رمضان، وأُطْلِق سراح هذا العدو، فإنه يصدُّكم عن طاعة ربكم، ويفتنُكم عن دينكم، ويفسدُ ما صلح من أحوالكم، ولقد أخذ بثأره -أعاذنا الله منه- فأغوى أقواماً وأضلهم عن الصراط المستقيم، فأضاعوا بعد رمضان الجُمَع والجماعات، وهجروا كتاب الله، وشغلوا أوقاتهم بالشر والرذيلة في تجمعات فاتنة، وسهرات ماجنة، وأسفار مريبة إلى بقاع لا تؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
فاحذروا -عباد الله- عدوَّكم وأعوانَه من شياطين الجن والإنس، وجاهدوه وقاوموه في السَّنَة كلها، بل في العُمُر كله.(26/3)
صيام ست من شوال
أيها المسلمون: إن من نعم الله على عباده أن والى عليهم العبادات، وتابعَ عليهم الطاعات من الفرائض والنوافل، فإن انتهى صوم الفريضة بشهر رمضان فصوم التطوع بابه مفتوح ومجاله واسع.
ومما يخص هذا الشهر: صيام ستة أيام بعده، فقد جاء في السنة بترغيب الناس في ذلك، وبيان الثواب العظيم فيه، قال صلى الله عليه وسلم: {من صام رمضان، ثم أتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر} أخرجه الإمام مسلم وغيره عن أبي أيوب رضي الله عنه.
وذلك لأن صيام شهر رمضان عن صيام عشرة شهور في الأجر، وصيام ستة أيام من شوال عن صيام شهرين، فبذلك يحصل لمن صامها أجر صيام الدهر كله، ولا فرق بين أن يتابعها أو يفرقها في الشهر، ولا بأس أن يصوم سنة ويترك أخرى، فالأمر لا يعدو كونه سُنَّة.
أيها المسلمون: لا تفوتوا على أنفسكم هذه الفضيلة، فلا يدري أحدُنا هل يدركه عام آخر أو لا، وكلنا بحاجة ماسة إلى سد ما نقص من صيامنا بصيام التطوع.
اللهم وفقنا لفعل الخيرات، وترك المنكرات، وبارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وقنا برحمتك عذاب الجحيم، وثبتنا على الصراط المستقيم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(26/4)
دعوة إلى ترك المعاصي
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عزَّ وجلَّ، وتوبوا إليه واستغفروه، واشكروه على آلائه، واستقيموا على طاعته في جميع الأزمان، وتذكروا -رحمكم الله- بانقضاءِ شهرِ رمضان، ومرورِ الليالي والأيامِ بلوغَ آجالِكم، وتصرُّمَ أعمارِكم، وقدومَكم على ربِّكم {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر:39 - 40].
فاتقوا الله أيها المسلمون! واتقوا الله يا من عزمتم على المعاصي بعد رمضان، فربُّ الشهور واحد، وهو على أعمالكم رقيب ولها مشاهد، وإن العودة إلى ارتكاب المحرمات وترك الواجبات بعد رمضان جحود بنعمة الله سبحانه؛ حيث وفق للطاعة، وإكمال عدة الصيام، ومَن عَزَمَ على العودة إلى المعاصي فذلك دليل على ضعف الإيمان، وأمارة على رد عمله، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].
واعلموا -عباد الله- أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على إمامنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واستعمل على المسلمين في كل زمان ومكان خيارهم، يا أرحم الراحمين!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدِهِم سبل الرشاد، يا أرحم الراحمين!
اللهم جنبهم الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يُعَز فيه أهل طاعتك، ويُذَل فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا رب العالمين!
اللهم أيد بالحق إمامنا، اللهم أعزه بالإسلام، اللهم اجعل عمله في رضاك يا أرحم الراحمين!
اللهم هيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير إذا ذكر وتعينه عليه، وتحذره من الشر، يا أرحم الراحمين!
اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم كن لهم ولا تكن عليهم.
اللهم وفق المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها إلى العودة السابقة إلى دينك القويم، يا رب العالمين!
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(26/5)
وقفة مع نهاية العام
ديننا الإسلامي يحذرنا من الدنيا، لأنها متعة تفوت متعة أكبر منها وأعظم وأجل.
فعلى المسلم أن يقف من الدنيا على حذر، وأن يتعظ بحوادثها، وأن يحاسب نفسه فيها كما يحاسب التاجر شريكه، فالمؤمن تاجر وعمره رأس ماله.
ولنا في كل عام يمر علينا أحداث، يجب أن نتفكر بها، ونتعظ منها.(27/1)
حال الدنيا
الحمد لله جعل في تعاقب الليالي والأيام عبرا، وفي تصرم الشهور والأعمار نذرا، أحمده تعالى وأشكره على نعم تترى، وعلى منن لا نطيق لها حصرا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تكون لنا يوم المعاد ذخرا، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المخصوص بالفضائل الكبرى، والمبعوث إلى الخليقة طُرا، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أطيب الخليقة ذكرا، وأرفعهم قدرا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل؛ فإن تقواه سبحانه وصيته جل وعلا للأولين والآخرين من عباده، يقول الله جل وعلا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131].
عباد الله: وقفات تساؤل تتبعها لحظات تأمل، تعقبها وقفات محاسبة، ونحن نعيش في ختام هذا العام.
عباد الله! أرأيتم إلى الشمس كل يوم تطلع من المشرق وتجري إلى أن تغرب، أرأيتم عباد الله إلى القمر يهل صغيراً ثم ينمو رويداً رويداً حتى يكون بدراً متكاملاً ثم يأخذ نموه بالنقص والاضمحلال، ألم تروا عباد الله إلى المطر ينزل على الأرض الهامدة فتزهو وتخضر ثم ما تلبث أن تكون هشيماً يابساً، ترى الزهرة متفتحة فواحة الشذى فما تلبث أن تذبل وتعبث بها عوامل الردى، ترى الشاب يمتلئ حيوية ونضارة، فما يلبث أن يشيب ويهرم، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً.
هذه حال الدنيا يا عباد الله! التي يستغرق فيها بعض الناس ويضيعون الآخرة، لينالوا بعض متاع هذه الحياة الدنيا، مع غرور طول الأمل ونشوة الفرح والانشغال بالأموال والأولاد، هذه هي الدنيا لا راحة فيها ولا اطمئنان، ولا ثبات ولا استقرار، حوادثها كثيرة، والناس عنها في شغال، عبرها غفيرة والناس عنها غافلون: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3] طلوع وأفول، ودول تبنى وأخرى تزول، وممالك تشاد وأخرى تباد، ومدن تعمر وأخرى تدمر، وسبحان من يغير ولا يتغير! فواعجباً لهذه الدنيا كيف خدع بها الناس وهي كغمضة عين أو لمحة بصر أو ومضة برق! كيف غرهم طول الأمل فيها! وهي كما أخبر الله سبحانه لعب ولهو وزينة وتكاثر وتفاخر، سراب خادع، وبريق لامع، لكنها سيف قاطع، كم أذاقت بؤسا، وكم جرعت غصصا، وكم أذاقت نغصا، كم أحزنت فرحا، وأبكت مرحا، وكدرت صفوا، وشابت معينا.
سرورها مشوب بالحزن، وفقرها مشوب بالكدر، ساحرة غرارة، خادعة مكارة، كم هرم فيها من صغير، وذلَّ فيها من عزيز، وتلف فيها من وزير، وفقر فيها من غني، أحوالها متبدلة، وشئونها متغيرة، فلا ترى فيها إلا راحلاً إثر راحل، وهالكاً خلف هالك، ما هي إلا أيام معدودة، وأنفاس محدودة، وآجال مضروبة، وأعمال محسوبة، وإن طالت في نظر المخدوعين بزخرفها، المفتونين بشهواتها، الراكنين إلى لهوها وغرورها.(27/2)
نظرة الإسلام إلى الحياة الدنيا
أمة الإسلام: إن منهج ديننا الحنيف وموقفه من هذه الحياة الدنيا ونظرته إليها لا تكاد تخفى على كل من قرأ كتاب الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [فاطر:5] {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ} [الحديد:20] {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:64].
إخوة الإيمان: وأما سنة الحبيب المصطفى والرسول المجتبى عليه صلوات الله وسلامه، ففيها المنهج العملي الذي ينبغي أن يسلكه المسلم في هذه الحياة، روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: {أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بمنكبي وقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وكان ابن عمر رضي الله عنه يقول: [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء]] وهذا الحديث العظيم أصل في قصر الأمل في هذه الحياة، حتى لكأن الإنسان فيها على جناح سفر يتهيأ للرحيل، الله أكبر! ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره: {ما لي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها} ومن وصايا عيسى عليه السلام لأصحابه قوله: [[الدنيا قنطرة فاعبروها ولا تعمروها]] وقال عليه السلام: [[من ذا الذي يبني على موج البحر داراً، تلكم الدنيا فلا تتخذوها قراراً]] وقيل لنوح عليه السلام: يا أطول الأنبياء عمراً كيف رأيت الدنيا؟ قال عليه السلام: [[كدار لها بابان دخلت من أحدهما وخرجت من الآخر]].
وعلى هذا النهج سار سلف هذه الأمة رحمهم الله، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[إن الدنيا قد ارتحلت مدبرة، وإن الآخرة قد ارتحلت مقبلة ولكل منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل بلا حساب وغداً حساب ولا عمل]] وخطب عمر بن عبد العزيز رحمه الله فقال: [[إن الدنيا ليست بدار قرار، كتب الله عليها الفناء، وكتب على أهلها فيها الضعن، فكم من عامر عما قريب يخرب، وكم من مقيم مغتبط عما قليل يضعن، كأن الموت فيها على غير ما كتب، وكأن الفناء فيها على غير ما وجد، وكأن الذي نودع إلى القبور سُفُرٌ عما قليلٍ إلينا راجعون]] وقال بعض السلف لأصحابه: انطلقوا معي حتى أريكم الدنيا، فذهب بهم إلى المزبلة، فقال: انظروا إلى الدنيا وما فيها.(27/3)
ذهاب عام شاهد لنا أو علينا
أيها الإخوة المسلمون: إنني أذكر بهذا الموضوع المهم، وتلك القضية المهمة، ونحن في هذه الأيام نعيش في وداع العام الذي تصرمت أيامه، وقوضت خيامه، وبالأمس القريب كنا نستقبله، واليوم وبهذه السرعة الخاطفة نودعه، وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه من أعمال، عام مضى وانقضى من أعمارنا ولن يعود إلى يوم القيامة، فهل يكون ذلك مذكراً لنا بسرعة زوال هذه الدنيا، يقول الحسن البصري رحمه الله: [[ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن آدم، أنا يوم جديد وعلى عملك شهيد، فتزود فيَّ بعمل صالح فإني لا أعود إلى يوم القيامة]] أيام تمر وتنقضي، وسنوات تفر وتنتهي، ونحن غافلون وفي ثوب السنة سادرون، والإنسان -كما تعلمون- بين مخافتين: بين عاجل قد مضى لا يدري ما الله صانع فيه، وبين آجل قد بقي لا يدري ما الله قاضٍ فيه.
إنا لنفرح بالأيام نقطعها وكل أيامنا يدني من الأجل
كل امرئٍ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله
النفس تبكي على الدنيا وقد علمت أن السلامة فيها ترك ما فيها
فلا الإقامة تنجي النفس من تلفٍ ولا الفرار من الأحداث ينجيها
وكل نفس لها دور يصبحها من المنية يوماً أو يمسيها(27/4)
الاتعاظ بحوادث الدنيا
أمة الإسلام: إنه ليجدر بالعاقل الذي يرى ويسمع حلول حوادث الموت، وأخبار الانتقال من هذه الدار، من القصور إلى القبور، حيث ضيق اللحود، ومراتع الدود، أن يفيق من سباته، وأن يستيقظ من رقاده، وأن يتذكر الموت وشدته، وأن يتدارك لحظاته؛ فإن الموت الذي تخطانا إلى غيرنا سيتخطى غيرنا إلينا، فلنأخذ حذرنا ولن يؤخر الله نفساً إذا أجلها.
ثم لنتذكر أننا مسئولون -والله- عن أعمارنا وعن أوقاتنا، هلموا بنا عباد الله لنحاسب أنفسنا ونستلهم الدروس والعبر في ختام عامنا، ماذا قدمنا فيه من أعمال صالحة؟ دعونا لنتساءل عن عامنا كيف أمضيناه؟ وعن وقتنا كيف قضيناه؟ ولننظر في كتاب أعمالنا كيف طويناه؟ وفيه نبصر ما أسلفناه ونبين ما قدمناه، فإن كان خيراً حمدنا الله وشكرناه، وإن كان شراً تبنا إلى الله واستغفرناه.
يا إخوة الإسلام: والله ليست الغبطة بالتمتع بالملذات، وليست السعادة في تناول المشتهيات، إن الخير كل الخير أن يوفق المسلم في ختام عامه إلى التوبة النصوح، وفتح صفحة جديدة من الأعمال الصالحة قبل أن تقول نفس: {يَا حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر:56].
فاتقوا الله عباد الله! وحاسبوا أنفسكم، وتوبوا إلى ربكم من ذنوبكم، واحذروا التسويف فإن الموت يأتي بغتة، وهذا نداء إلى المفتونين في هذه الدنيا المضيعين لأوقاتهم في معصية الله أن يتقوا الله سبحانه، وأن يتداركوا أنفسهم قبل أن يعضوا أصابع الندم، وهمسة إلى المخدوعين بالبريق اللامع، والسراب الخادع، أن يعملوا لما أمامهم، فكفى غفلة يا عباد الله! وكفى إعراضاً والنذر تقرع القلوب وتأخذ بالألباب، ولكن الموفق من وفقه الله، فتدارك بقية عمره في طاعة الله.(27/5)
حوادث العام والمآسي في الأمة
أمة الإسلام: تعالوا بنا نتساءل عن أحوال أمتنا خلال عام، فلا تزال مآسي المسلمين مستمرة في كثير من بقاع العالم، ما هي أخبار أولى القبلتين وثالث المسجدين الشريفين؟
ما هي آخر أخبار إخواننا في جمهورية البوسة والهرسك؟
وما هي أنباؤهم في الشيشان؟
وما أخبارهم في كشمير؟
وفي كثير من البقاع، إن أحوالهم تشكى إلى الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وحسبنا الله ونعم الوكيل! مذابح رهيبة، ومجاعة مخيفة، وتشرد وتهجير، آلاف الرجال قتِّلوا، وآلاف النساء رمِّلن، وآلاف الأطفال يتموا، دماء جارية، وأعارض منتهكة، مساجد مهدمة، وبيوت مخربة، وأموال مغتصبة، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إن كثيراً من إخواننا المسلمين يعيشون بلا مأوى ولا غذاء ولا كساء ولا ماء ولا دواء، يتحرك غير المسلمين، وتتحرك منظمات مشبوهة لكفالة أبناء المسلمين ونقلهم إلى خارج بلادهم، والمسلمون لا بواكي لهم، وإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله!
إن إخوانكم المسلمين في بقاع كثيرة من العالم يشكون إلى الله ضعف قوتهم وقلة حيلتهم وهوانهم على الناس، وينتظرون تحرك مشاعركم واستنهاض عزائمكم، ودعمكم لهم بالمال والدعاء، وينادون (وا إسلاماه) لعل نخوة تتحرك وعقيدة تتفاعل؛ لتكون نوازل المسلمين سحابة صيف تنقشع عما قريب بإذن الله، لأن النصر للإسلام وأهله {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
أمة الإسلام: لقد شهد هذا العام حدثين خطيرين جديرين بالتوقف، يجب ألا يمرا دون أخذ الدروس والعبر منهما، أما أحدهما فهو: المذبحة البشعة والمجزرة الرهيبة التي قام بها يهود على أرض لبنان، وهي مأساة تؤكد مدى عداوة أعداء الله ورسوله والمؤمنين للإسلام وأهله وأرضه، وتبرهن للحالمين بدعوى السلام أنهم يعيشون أحلام يقظة ويرومون جني العنب من الشوك، وهيهات! إنه لا سلام مع إخوان القردة والخنازير، وإنما هو مهانة واستسلام، ولا مساومة على مقدسات المسلمين فهي إسلامية إسلامية إسلامية، ويجب أن تبقى كذلك إلى الأبد، بل لأبد الأبد، ولكن يا ليت قومنا يعلمون.
أما الحدث الآخر فهو: حادث التفجير الآثم الذي وقع في عاصمة بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله بشرعه، وما تنطوي عليه هذه الجريمة من أبعاد خطيرة على شبابنا حين يفرط بالثوابت والأصول ويتخلى عن علمائه ويسلم قياده لأفكار خطيرة ومناهج دخيلة، ولقد يسر الله بفضله وتوفيقه القبض على المجرمين بفضل الله وحده، ثم بفضل الجهود الجبارة التي يقوم بها من يهمهم أمن هذه البلاد المحروسة، وساء كل مسلم أن يكونوا من أبناء جلدتنا فيقوموا ضدنا.
أعلمه الرماية كل يومٍ فلما اشتد ساعده رماني
ولكن يبقى الدرس والعبرة، وتكاتف البيت والأسرة والمدرسة ودور التربية والتعليم، ووسائل الإعلام أن تقوم بتربية شبابنا دون إفراط ولا تفريط، وليحذر من يريد الاصطياد في الماء العكر من مغبة فعله، حيث ينسب للدين وأهله ما ليس منه لخطأ آحاد من الناس، فليست كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء فحمة، ولله الأمر من قبل ومن بعد والله المستعان.
يجب أن تعالج الأمور بالهدوء والرفقة والحكمة فالحكمة ضالة المؤمن.
نسأل الله عز وجل أن يختم لنا عامنا بخير، اللهم اجعل خير أعمارنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها، وخير أيامنا يوم نلقاك، اللهم اختم بالصالحات أعمالنا وأعوامنا وأعمارنا يا ذا الجلال والإكرام، وبالسعادة آجالنا، واجعل حاضرنا خيراً من ماضينا، ومستقبلنا خيراً من حاضرنا يا حي يا قيوم.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(27/6)
استغلال العمر في الطاعات
الحمد لله مقدر المقدور، ومصرف الأيام والشهور، ومعاقب الأعوام والدهور، وأشهد أن لا إله إلا الله العزيز الغفور، الحليم الشكور، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بالهدى والنور، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى أصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] واعلموا أن الأعمال بالخواتيم، فمن تاب وأصلح فيما بقي غفر له ما مضى وما بقي، ومن أساء فيما بقي أخذ بما مضى وما بقي، وسلوا الله حسن الختام، وتذكروا رحمكم الله بانقضاء العام انقضاء الأعمار وبالانتقال إلى العام الجديد النقلة إلى دار القرار، قال بعض السلف: ابن آدم: إنما أنت أيام كلما مضى منك يوم مضى بعضك، وقال بعض السلف: كيف يفرح بهذه الدنيا من يومه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره، كيف يفرح من عمره يقوده إلى أجله، وحياته تقوده إلى موته، وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: {أعذر الله من أخر أجله حتى بلغه ستين سنة}.
كم ودعنا في هذه العام من أخ وحبيب، وصديق وقريب، واراهم الثرى، وسرى بهم البلى، ونحن في الطريق سائرون، وعلى الدرب ماضون، وعلى ما قدموا إليه قادمون، وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون.
فهل من وقفة حازمة يا عباد الله! ولحظة حاسمة ينطلق منها كل فرد منا مقوماً مسيرته العلمية والعملية والدعوية على ضوء كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومراجعاً حساباته على نهج الشرع الحنيف؟ هذا هو المؤمل لكل من أراد نجاته وسعادته في الدنيا والآخرة.
وإن واجب قادة المسلمين أن يجدوا في تطبيق شرع الله، وأن يبادروا إلى ذلك.
وإن على علماء المسلمين والدعاة إلى الله أن يجمعوا قلوبهم على الحق، وأن ينزلوا إلى ميدان التوجيه والإرشاد، وهل تنتهي بنهاية هذا العام مشكلات أمة الإسلام فتجتمع الكلمة وتتوحد الصفوف، وتتوارى الحروب والقلاقل عن مجتمعات المسلمين، وتسلك الأمة طريق الإصلاح، وتجد في السير على دروب العز والفلاح، هذا ما يؤمله كل غيور على أوضاع أمته، مهتمٍ بشئونها، ولنختم عامنا بالتفاؤل بأن المستقبل للإسلام وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير الورى كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صل وسلم على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا إلى ما تحب وترضى، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم هيئ له البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين يا حي يا قيوم.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقض الدين عن المدينين، وفك أسر المأسورين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
ربنا اختم لنا بخير واجعل عواقب أمورنا إلى خير يا ذا الجلال والإكرام.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(27/7)
ولا تفرقوا
حث الله سبحانه وتعالى في كتابه على التآلف والاعتصام ونبذ الفرقة والاختلاف، والأحاديث أيضاً في هذا الباب كثيرة، فأول ما بدأ به صلى الله عليه وسلم بعد دعوة الناس لعبادة الله هو المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وبين الأوس والخزرج، والفرقة من أعظم الأسباب التي تؤدي إلى هزيمة الأمة أمام أعدائها.(28/1)
الوحدة والتآلف أهم ما تتميز به أمة محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله، وبحمده يستفتح الكلام، والحمد لله حمده من أفضل ما تحركت به الألسن وجرت الأقلام، أحمده تعالى على الدوام، وأشكره على ما هدانا للإسلام، وأبان لنا الحلال والحرام، وشرع لنا الشرائع وأحكم الأحكام، وأمرنا بالبر والاجتماع على الحق والاعتصام، ونهانا عن الجفاء وسائر الآثام، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك القدوس السلام، ولي كل إنعام، ذو الآلاء الجسام، والمنن العظام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، هو للأمة بدر التمام، وللأنبياء مسك الختام، المصطفى من الرسل والمجتبى من الأنام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين، ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى حق التقوى، فتقوى الله عروة ليس لها انفصام، وقدوة يأتم بها الكرام، وجذوة تضيء القلوب والأفهام، من تمسك بها سلم من محذور العواقب، ومن تحقق بحملها وقي من شرور النوائب.
فاتقوا الله عباد الله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الأنفال:1].
أيها الإخوة المسلمون: من أهم ما يميز هذه الأمة أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنها أمة متوادة متراحمة متكاتفة متلائمة متحابة، تبني أفرادها، وتقيم مجتمعاتها على أسس التعاون المشترك والتقدير المشاع، وتؤسسها على قواعد الحب المتبادل، والتعامل الرفيق، والسلوك الرقيق، لا مكان في المجتمع الإسلامي للأثرة الممقوتة، والأنانية البغيضة، والفردية المتسلطة، قلوب أفراده مفعمة بالمحبة لإخوانهم، وألسنتهم ثرة بذكر محاسنهم، وعد فضائلهم، حذرة من الوقيعة في أعراضهم، والنيل من كرامتهم، لا يحملون الحقد الدفين، ولا ينشرون الكذب المبين، فهذا مسلك أهل اللؤم والوضاعة، والخسة وقلة المروءة.
لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب ولا ينال العلا من طبعه الغضب
ولقد أحاط الإسلام المجتمع المسلم بسياج منيع، وحصن حصين ينبع من الداخل يحول دون تصدع بنيانه وتزعزع أركانه، ويعلي أعلام المحبة خفاقة على أرجائه، ورايات الإخاء مخيمة على جنباته، وأقام الضمانات الواقية، والحصانات الكافية التي تحول دون معاول الهدم والتخريب أن تتسلل إلى جبهته الداخلية، فتعمل عملها فرقة وتأليباً، وهدماً وتخريباً.
وعلى أهل الإسلام أن يعيشوا بالمحبة في الله، ورعاية إخاء الإسلام، ورباط الأخوة الإسلامية بعيداً عن النعرات والعرقيات، وفي منأى عن الحزبيات والحزازات، وأن يسعوا لإصلاح ذات البين، وحفظ الألسنة من الوقيعة في الأعراض، وسلامة القلوب من الغل والشحناء والحقد والبغضاء، وأن يقفوا سداً منيعاً أمام الجرائم الأخلاقية، والأمراض الاجتماعية، وغوائل الشرور، وبوائق القطيعة، وأدواء القلوب والصدور حتى يسلم المجتمع من التفكك الاجتماعي، والتمزق الأسري، بل والخلاف العقدي والسياسي والفكري، وغيرها مما يأتي على بنيان المجتمع من القواعد، ويحوله إلى مجتمع صراع دائم، وتفكك مستمر ومحن متكاثرة، وفئات متناحرة، فيصبح مجتمع الأخوة والوحدة مجتمع أشتات متناثرة وأفراد متناثرة وآحاد متناثرة وأحزاب متناكرة، وويل للمجتمع يومئذٍ من أعدائه المتربصين حيث سيكون لقمة سائغة لهم.(28/2)
الإسلام يحث على الاجتماع والتآلف
أيها الإخوة في الله: ولما للوحدة والتضامن والاجتماع والإخاء من منزلة عظيمة، وآثار فريدة، ولما للفرقة والخلاف والتنازع والشقاق من آفات وأمراض كثيرة، وشرور مستطيرة، فقد جاء ديننا الحنيف بالحث على التآلف والمودة واجتماع الكلمة ووحدة الصفوف، والتحذير الشديد من التنافر والفرقة والشقاق والتنازع، فكان من أهم ما جاء به الإسلام بعد عقيدة التوحيد، وكلمة التوحيد توحيد الكلمة ولم الشعث وجمع الشمل؛ لأن في ذلك سر بقاء أهل الإسلام، وضمانة انتصارهم على أعدائهم، وصلاح أمورهم في دينهم ودنياهم وأخراهم، يقول عز وجل: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103].
وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله يرضى لكم ثلاثاً: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم} وقد ضُمنِت لهم العصمة من الخطأ عند اجتماعهم، وخيف عليهم الافتراق والاختلاف، وقد وقع ذلك في هذه الأمة فافترقت، وستفترق على ثلاث وسبعين فرقة منها فرقة ناجية إلى الجنة، ومسلمة من عذاب النار، وهم الذين كانوا على ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
يقول الله عز وجل أيضاً: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92]، ويقول سبحانه وتعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1]، ويقول جل وعلا: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى:13]، ويقول جل وعلا: {الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46]، ويقول جل وعلا: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم:31 - 32].
أيها المسلمون: وما شرع الإسلام صلاة الجمعة والجماعة والعيدين، وما شرع الزكاة والحج ونحوها إلا لمواساة المسلمين بعضهم بعضاً، وليحصل الوئام والتآلف، وما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وقضى على ما كان بين الأوس والخزرج إلا طلباً لمصلحة الاتحاد والإخاء، وما ظهر أمر المسلمين وقويت شوكتهم، وانتصروا على أعدائهم، وفتحوا البلاد، وقادوا العباد، وصاروا أئمة هدى، ومصابيح هدى ودجى، ودعاة خير وتقى إلا باتحادهم، وبقراءة التاريخ الإسلامي يتجلى ذلك بحمد الله، وما للضعاف المتفرقين الذين استحكمت فيهم الأثرة والبغضاء، وسرت فيهم الخلافات والتفكك إلا أن يدفعوا عن أنفسهم غوائل الأعداء، ومكر الألداء.(28/3)
عاقبة التفكك والفرقة في الأمة
أمة الإسلام: لقد مرت على هذه الأمة فترات من تاريخها اتحدت فيها صفوفها واجتمعت كلمتها، فعاشت عزيزة كريمة مرهوبة الجانب، ولما دب إليها داء الفرقة والخلاف، انقسمت الأمة الواحدة إلى أحزاب متناثرة، وأمم متناثرة، ولا يزال هذا الداء العضال والمصاب الجلل جاثماً في جسد هذه الأمة، ومستحوذاً على قلوب الشعوب، وأعظم محنة وأشد فتنة أصيبت بها هذه الأمة اليوم هي محنة الفرقة المستحكمة والخلاف المستمر على كل صعيد، وفي كل مستوى، حتى في أبناء الأسرة الواحدة يذكيه الشيطان ويُغليه الهوى، فغلب الشقاق على حياة كثير من الناس إلا من عصم الله، وسادت القطيعة، وعم الجفاء والشحناء، وتنافرت القلوب، وسادت الوحشة والظنون السيئة، وراجت سوق الغيبة والنميمة والبهتان وتناول أعراض الناس، والسعي في الفساد بينهم، فتعمقت الفجوة، واتسعت الهوة، فأصبحت حالة كثير من الناس محزنةً للصديق مفرحةً للعدو، والله المستعان.
فيا أمة الإسلام: لماذا الاختلاف والدين واحد؟
لماذا الفرقة والأصل واحد، والقبلة واحدة، والأمة واحدة؟
إلى متى الفرقة وأنتم تدركون ما فيها من الضرر والفساد؟
وهل يختل نظام المجتمع، وتنتشر الفوضى والاضطرابات، وتتصدع أركان الأمة، وتتهدد عروشها، وتنهد حضاراتها إلا بتفرق أهلها وتنازعهم.
وهل تتعطل مصالح البلاد ومنافع العباد إلا بالتفكك والاستبداد للآراء واتباع الأهواء.
وهل يتسلط الأعداء ويتمكنون في رقاب الناس إلا بتضارب الآراء وتحكيم العقول والأهواء، وانتشار الأحقاد والحزازات الشخصية والنزعات الفردية، ففيمَ الاختلاف -يا عباد الله- والإسلام هو الجامع؟
وإلى متى التفرق يا أمة الوحدة والألفة والإخاء؟
إنه لعجيب أمر المسلمين! كيف يرضون لأنفسهم هذه الحالة مع أن الشرائع قد أجمعت والعقول قد أطبقت على ضرر الفرقة وسوء أثرها في الأمة، فما أصابت أمةً إلا أهلكتها، وقضت على وجودها.
نعم أيها المسلمون: إن اختلاف الأفهام، وتباين الآراء ليس بمنكر، ولا مستغرب، بل هو من طبع البشر، ولكن الشأن كل الشأن ألا يكون ذلك سبباً للتقاطع والشقاق والتنافر والحسد والحقد والبغضاء، وإنه مما يؤسف له أن كثيراً من الناس قد ابتلوا بهذا الداء، ودأبوا على إحياء بذور الشقاق وغوائل الشرور بين المسلمين، فيتخاصمون ويتقاطعون ويتدابرون لأسباب شخصية وأمور مادية، وقد يكونون أقارب، أو جيران، وبعض الناس يجعلون من الخلاف فيما فيه سعة ومندوحة طريقاً للتناحر والتشاجر والقطيعة، وأخطر ذلك حينما يكون من يفعل ذلك من المنتسبين إلى العلم، أو الإصلاح، أو الدعوة.(28/4)
نداء للتضامن والتآلف
فيا قادة المسلمين! ويا أهل الرأي والفكر! ويا رجال العلم والدعوة والإصلاح! اتقوا الله في أنفسكم وأمتكم، احملوا رايات التضامن والتآلف بين المسلمين قادةً وشعوباً، رعاةً ورعيةً على عقيدة التوحيد ومنهج السلف الصالح رحمهم الله، واحرصوا على رأب الصدع وجمع الكلمة ووحدة الصف وتضييق مجاري الخلاف، والقضاء على أسباب النزاع والخصومات.
يا عباد الله! أعداؤكم يقيمون أحلافاً واتحادات وتكتلات للقضاء على الإسلام واحتلال دياره والكيد لأبنائه، والمسلمون أولى أن يقوموا بذلك، وإن لم يجمعهم الحق، فرقتهم الأهواء بالباطل، فوصيتي إلى المسلمين جميعاً من منبع الوحدة والإخاء أن يصلحوا ذات بينهم، ويبتعدوا عن التحريش والخصومات، وأن يعملوا على حب الخير والولاء للمسلمين جميعاً، ويحرصوا على سلامة الصدور وطهارة القلوب من الأحقاد، وسل الضغائن من النفوس، ليكونوا يداً واحدةً على أعدائهم، وإن بوادر التآلف وبذور الاجتماع والوحدة لتبشر بالخير في الأمة الإسلامية، فالأمة بخير، ولا زالت بخير بحمد الله، ونسأل الله أن يزيدها من الخير والتوفيق لتعود إلى سالف مجدها وغابر عزها وقوتها، وما ذلك على الله بعزيز.(28/5)
بعض مظاهر الفرقة بين المسلمين
أيها المسلمون: إن هناك مظاهر غريبة، وأحداثاً خطيرةً، ووقائع كثيرةً تبين مدى تقهقر وتوتر العلاقات الاجتماعية بين الناس حتى بين أبناء الأسرة الواحدة والرحم والقرابة، ولعلها من إفرازات ضعف الإخاء الإسلامي بين أهل الإسلام، بل بين ذوي القربى وأهل الأسرة الواحدة، فيؤلمك ما آل إليه أمر كثير من الناس من التفكك الاجتماعي الرهيب حتى حصلت النزاعات، ونشبت الخصومات، ورفعت الدعاوى، وكثرت الشكاوى من أجل خلافات يسيرة حول شيء حقير من حطام هذه الدنيا الفانية، ولربما تضخمت المشكلة، وتعقدت القضية، وتدخل أهل الإصلاح، فيأبى المتخاصمون إلا التشفي والانتقام والثأر وتحكيم حظوظ النفس والهوى، لماذا كل هذا أيها المسلمون؟
ويتملكك العجب من بيوت وأسر عصفت بها الخلافات، فتقاطع الأبناء والآباء، قاطع الأبناء آباءهم، وأهمل الآباء أبناءهم، وهجر الأخ أخاه، وطلق الرجل زوجته، وتقاطعا؛ بل وتقاتل أبناء العمومة والخئولة، عياذاً بالله!
إن الأمر خطير جد خطيرٍ -أيها المسلمون- لا سيما إذا كان بين القرابة والأرحام، والله عز وجل يقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
لقد وصل الحال ببعض الناس أن تمر الأشهر والسنوات وهو لا يعرف عن أقاربه شيئاً، بل ولا يسأل عنهم، ولا يكلف نفسه، ولو برفع سماعة الهاتف ليصلهم ويسلم عليهم ويتفقد أحوالهم.
نعوذ بالله من قسوة القلوب وتبلد المشاعر، وضمور الضمائر، وموت الأحاسيس، واستحكام الدنيا في النفوس، فلأجل حفنة من المال، أو شبر من الأرض، أو مشادة كلامية، أو وشاية نقلها مغرٍ، أو شائعة، أو سوء فهم، تنقطع الأواصر، وتنحل الوشائج، وتنفصم عرى المحبة، وتتحول إلى ضغائن وأحقاد، وتشهير بالمجالس، وظنون سيئة، بل وإلى قطيعة مستديمة، وفرقة مستحكمة، والعياذ بالله.
وكذلك حال الجيران بعضهم مع بعض، فالواقع أن هناك تقاطعاً كبيراً وتدابراً واضحاً بين كثير من الجيران -هداهم الله- جارك الذي تربطك به علاقة الجوار، وفرض له الإسلام حقوقاً كثيرةً، قد تمر على بعض الناس أشهر، بل أكثر وهو لا يعرف عن جاره شيئاً، قد يمرض ويعافى، ويسافر ويرجع، بل قد يموت ويدفن، وهو يهز كتفيه، وكأن الأمر لا يعنيه في قليل، ولا كثير، الله المستعان!
وكذلك ما يحصل بين الأخوة في الله والأصدقاء والزملاء، يجب أن تراعى بينهم حقوق الأخوة في الله، وآداب الصحبة، فلا ولاء إلا لله، ولا بغض إلا في الله، في بعد عن الانتماءات الحزبية.(28/6)
السبيل إلى الوحدة والتآلف
يجب أن تتسع الصدور للخلاف في وجهات النظر والتباين في الفروع والوسائل ما دام أن الاعتقاد صحيح، وإنك لترى في ذلك عجباً لما أسيء مفهوم الولاء والبراء، وأخذ على الميل والهوى، فحصل البراء من أجل خلاف يسير، والجفاء من أجل أمر صغير، وذلك يتطلب فقهاً وخوفاً من الله.
وإن أولى الناس بتحقيق الوحدة هم قادة المسلمين وولاة الأمر فيهم، فيجمعون قلوبهم على كتاب الله، وعلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحكيم شريعة الله في أرض الله على عباد الله، ويكونوا صفاً واحداً أمام أعداء الأمة الإسلامية، ولقد تطلعت أنظار الأمة في هذه الأيام إلى مؤتمر القمة الإسلامي الذي عقد خلال هذا الأسبوع، فأمِلَ الغيورون على أوضاع أمتهم وأحوال مجتمعاتهم أن يكون فيها تحقيق للآمال، وتخفيف للآلام، ووحدة للصف على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والدفاع عن قضايا المسلمين، لا سيما قضية القدس الشريف، والمسجد الأقصى المبارك، ليكون حراً طليقاً تقر به أعين المسلمين، وتنشنأ به نفوس الأعداء المتربصين والغاصبين الغاشمين المعتدين.
وكذلك قضية البوسنة والهرسك، والضغط على الصرب الظالمين لرفع الحصار عن إخواننا هناك، وكذلك قضية كشمير وغيرها من قضايا الأمة الإسلامية، وإلى مزيد من دعم القضايا العادلة، ودعاء الأمة جميعاً مرفوع إلى الله سبحانه وتعالى بأن يكلأ قادة المسلمين وشعوبهم بالتوفيق إلى ما يحبه ويرضاه، وأن يجمع قلوبهم على كتابه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(28/7)
الحث على الترابط ونبذ الفرقة
الحمد لله أولاً وآخراً، والشكر له باطناً وظاهراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واذكوا روابط الإخاء الإسلامي بينكم، وغذوا وشائج الصدق والمحبة في مجتمعاتكم، واعلموا أنه لا علاج لداء الفرقة والخلاف والتفكك الاجتماعي إلا بتتبع أسبابه وأعراضه، والجد في القضاء عليها يصحب ذلك نية صالحة، وعزيمة صادقة، ورغبة وقناعة واحتساب فيما عند الله من الأجر والثواب، وتذكر الله والدار الآخرة، وتحكيم للشرع الحق والعقل الفذ والاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وليكن كل واحد منكم -أيها المسلمون- جاداً في علاج هذا الداء العضال، ويكون مفتاحاً للخير والفضيلة مغلاقاً للشر والفتنة والقطيعة والرذيلة.
وقد جاء في الأحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يهجر المسلم أخاه فوق ثلاث ليال، كما نهى عن التدابر والتقاطع، والتحاسد والتباغض، وأن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، فعمل على التحريش بينهم {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} [الإسراء:53] وإنه حينما ترفع الأعمال إلى الله في كل يوم إثنين وخميس، يغفر لكل عبد لا يشرك بالله شيئاً إلا رجلاً كان بينه وبين أخيه شحناء، فيقول: {أنظروا هذين حتى يصطلحا}.
إن حقاً على كل متشاحنين لا سيما من القرابة والأرحام والأخوة في الله أن يصطلحوا، وأن يجمعوا قلوبهم، وأن يتقوا الله في أنفسهم، وأن يستعيذوا بالله من نزغات الشيطان الرجيم.
فيا أيها المتشاحنون! اصطلحوا فيما بينكم، فإن متاع الدنيا قليل.
ويا أيها المتخاصمون! سطروا على صفحات مجتمعاتكم أحرف الوفاء والإخاء والمحبة والوئام، أريحوا المحاكم ودور الشرطة عن الرفع بالخصومات والمشكلات، وعاهدوا ربكم أن تكونوا إخوة متحابين كما أراد الله لكم، وكما كان سلفكم الصالح رحمهم الله، فحققوا الخير لأنفسكم ومجتمعاتكم.
ألا وإن من أهم أوجه الوحدة والبعد عن الخلاف وحدة العلماء وطلبة العلم والدعاة إلى الله وائتلاف قلوبهم والتزامهم بالجماعة، وتفويت الفرص على الأعداء المتربصين، وفقه الخلاف، وضوابط الحوار، والتعقل والحكمة، وسلامة الصدور، ليتحقق لهم الخير الذي يريدون، والأمة جميعها مطالبة قادتها وشعوبها، علماؤها وعامتها، شبابها وشيبها، رجالها ونساؤها، صغارها وكبارها أن تجتمع على عقيدة التوحيد الصافية السليمة من لوثات الشرك والبدع، وتخصيص بعض الأزمنة، لا هذا الشهر ولا غيره بعبادات لم يشرعها الله عز وجل، ولم يأت بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ولم يسر عليها سلف هذه الأمة.
جمع الله القلوب، ووحد الصفوف، وأغاض الأعداء بتضامن المسلمين بمنه وكرمه، ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على البشير النذير، والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم برحمتك ألف بين قلوب المسلمين، اللهم أصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منا وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامةً يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق ولي أمرنا وإمامنا إلى ما تحبه وترضاه، اللهم وأعنه على أمور دينه ودنياه، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين، واجعله رائداً لتضامن المسلمين يا ذا الجلال والإكرام، وارزقه البطانة الصالحة يا حي يا قيوم.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان والاجتماع على الحق والاعتصام بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، وأغث بلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءوفٌ رَحِيمٌ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(28/8)
التمسك بالإسلام هو طريق الفطرة والنصر
إن الناظر لتاريخ هذه الأمة قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم يجد أنها كانت لا تعرف من الدين الحنيف إلا اسمه، حتى امتن الله على العباد ببعثة النبي صلى الله عليه وسلم فجاء بالإسلام الصافي، وبين الدين الحنيف الذي أراده الله من عباده.
وفي هذا الدرس يبين الشيخ حفظه الله نعمة الإسلام، ووجوب التمسك به، لأن به عزة الأمة، ونصرتها على أعداء الدين.(29/1)
نعمة بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وجعله مصدر عزتنا وقوتنا وصلاحنا وصلاح أمورنا في الدنيا والآخرة، وامتن علينا ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم خير الأنام، وأرسله رحمة للعالمين هادياً ومبشراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164] أحمده تعالى وأشكره حيث أكمل لنا الدين، وأتم علينا النعمة، ورضي لنا الإسلام ديناً، وأستعينه وأستهديه وأتوب إليه وأستغفره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمرنا باتباع صراطه المستقيم، وحذرنا من طرق المغضوب عليهم، والضالين وغيرهم من المنحرفين عن الهدى المستقيم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله وصفوته من خلقه، بلغ البلاغ المبين، وترك الناس على المنهج القويم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين والسائرين على نهجهم إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا ربكم تبارك وتعالى واشكروه على نعمة الإسلام، تلكم النعمة العظيمة التي ضل عنها كثير من الناس {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] {وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء:8] فتخبطوا في ضلالات المبادئ المنحرفة، ودياجير ظلمات النظم الفاسدة؛ التي تسوم الناس سوء العذاب والعياذ بالله.
فمن تأمل حال الأمم في قديم الزمان وحديثه التي تخلت عن الإسلام أو لم تَدِن به أصلاً يجد حياة الضلال والشقاء والفساد، فقد كان الناس قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم في جهالة جهلاء وضلالة عمياء، في شرك ووثنية، وتناحر وجاهلية، وفساد وضلال مبين، حتى امتن الله عز وجل فبعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم، فأخرج به الناس من الظلمات إلى النور، هدى به بعد الضلالة، وبصَّر به بعد الغواية، وأصلح به بعد الفساد، وعلَّم به بعد الجهالة، صلوات الله وتسليماته وبركاته عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
وحال الأمم اليوم في القرون المتأخرة والأزمنة المعاصرة ليس بأحقر من حال القرون السابقة، فهم يعيشون حالة الشقاء بأوسع معانيه، وحالة التعاسة بأفهم صورها، في معتقداتهم وأفكارهم ونفسياتهم وأمنهم وجميع أوضاعهم وأحوالهم؛ ذلك أنهم لم يدينوا بدين السعادة، وصدق الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8].(29/2)
لا يقبل الله ديناً غير الإسلام
أيها المسلمون: إن دينكم الإسلامي دين عظيم اختاره الله لكم ومَنَّ به عليكم، فهو خلاصة أديان الأنبياء وخاتمتها، ولا يقبل الله عز وجل من أحد غيره: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:19] {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] وقد وصاكم ربكم عز وجل باتباعه والتمسك به، وحذركم من سلوك السبل المعوجَّة قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
يا عباد الله: والتاريخ الإسلامي أكبر شاهد عملي على أن عزة المسلمين ونصرتهم تكمن في تمسكهم بدينهم واستقامتهم على شريعة ربهم، فقد حوَّل الإسلامُ عبر القرون الأعراب رعاة الغنم إلى قادة شعوب وساسة أمم، حتى قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوماً لـ أبي عبيدة رضي الله عنه حين أشار عليه أن يركب البعير وألا يخوض في الوحل، عندما مشى على الأقدام في سفره إلى بيت المقدس وهو أمير المؤمنين فقال له عمر: [[لو غيرك قالها يا أبا عبيدة لأوجعته ضرباً]] ثم ذكر حالهم في الجاهلية وما بدلهم به الله عز وجل بعد الإسلام، وكان مما قال رضي الله عنه: [[نحن قوم أعزنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]] وصدق الله عز وجل: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].
ثم ما الذي حدث اليوم؟!
خلف من بعد هذه الأجيال والقرون الفاضلة خُلوفٌ متتابعة، أهملوا أمر الدين واستهانوا بحقوقه وعبثوا بواجباته، وتجرءوا على انتهاك حرمات الله، أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات، وارتكبوا المحرمات والمنكرات، وتكاسلوا عن الطاعات والعبادات، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(29/3)
مفهوم الإسلام وحقيقته
أيها المسلمون: إن الإسلام ليس بالتحلي ولا بالتمني، بل ولا بالتسمي، ولكن الإسلام ما وقر في القلب وصدقته الأعمال، إنه الاستسلام الكامل لله عز وجل بالتوحيد، والانقياد التام له بالطاعة، والخلوص من الشرك والبراءة من أهله.
إن الإسلام وحدة كاملة لا تتجزأ، لا بد من القيام بشعائره وحقوقه كلها، ولا بد من تجنب نواقضه ومنهياته.
إن الإسلام دين ودولة، عبادة وحكم وعمل، دعوة وجهاد، فهو يحكم جميع التصرفات والتحركات الصادرة من معتنقيه.
فما بال كثير من المسلمين اليوم! الذين تسمَّوا بالإسلام وانتسبوا إلى أهله وسكنوا دياره ما بالهم زهدوا بتعاليم دينهم وعقيدتهم فتركوها، أو تركوا بعضها واستبدلوا بها تعاليم أهل الكفر والضلال والعياذ بالله؟!
ما بالهم تَرْخُص عندهم مبادئ الإسلام وأحكامه فأصبحوا لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه ولا من المصحف إلا رسمه؟!
ما بالهم تركوا الطاعات وجدُّوا في ارتكاب المنكرات -والعياذ بالله- وهم محسوبون على الإسلام ويُعَدُّون من أبنائه؟!
ما بال كثير من شباب المسلمين الذين نشئوا في بلاد التوحيد وبيئة العقيدة الصحيحة وتحت راية لا إله إلا الله محمد رسول الله يتنكرون لدينهم، ويتشبهون بالكفار في زِيهم وأشكالهم ولباسهم وكلامهم وأكلهم وسائر أعمالهم، بل وأفكارهم ومبادئهم والعياذ بالله؟!
ما بال كثير من نساء المسلمين هجرن تعاليم الدين، وتشبهن بالكافرات فأصبحن كاسيات عاريات مائلات مميلات ضالات مضلات تخلط بينهن وبين غير المسلمات عياذاً بالله؟!
ما بال بعض المسلمين والمنتسبين إليه يحقدون على بلاد التوحيد والعقيدة السلفية الصحيحة؛ فيدأبون في نشر البدع والخرافات والضلالات والأذكار المنحرفة بين أبناء المسلمين وفي ديارهم؟!
أهذه حالة المسلمين؟!
أين المسلمون المطبقون لتعاليم دينهم؟!
وصدق الله عز وجل حيث قال: {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة:8].
فاتقوا الله عباد الله! وعضوا على دينكم بالنواجذ، إنها دعوة صادقة دعوة مخلصة أوجهها إلى كل المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها مِن أطهر بقعة على وجه الأرض، مِن جوار الكعبة المشرفة، من مكة المكرمة وبلاد التوحيد والعقيدة، ليعودوا إلى دينهم ويتمسكوا به التمسك الصحيح، فوالله لنحن في هذا العصر عصر الفتن والمغريات أشد ضرورة منا للتمسك بديننا من أي زمان مضى، ووالله لن يصلح حال المسلمين اليوم مهما تقدموا مادياً وعلمياً إلا بما صلُح به أولُها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأن يسيروا على ما سارت عليه هذه البلاد الموحِّدة التي تدين بدين التوحيد وتعتقد عقيدة المسلمين وتطبق شريعة الله، فأصبحت مثالاً يُحتذى في استتباب الأمن والطمأنينة، وفي جلب الخيرات لها من باطن الأرض ومن السماوات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] فارجعوا إلى دينكم: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38].
اللهم أحينا مسلمين، وأمتنا مسلمين، وثبتنا على الدين، وألحقنا بالصالحين.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً.
اللهم وفق المسلمين في جميع أقطار المعمورة إلى العودة إلى دينك القويم.
اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.(29/4)
دعوة إلى التمسك بالإسلام
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، أحمده تعالى أن رضي لنا الإسلام ديناً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله عز وجل {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنْ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:102 - 103] واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله: تمسكوا بدينكم واحذروا نواقضه فإنها كثيرة جداًَ قد انتشرت في هذا الزمان وأعظمها: الشرك بالله عز وجل الذي تعددت صوره وكثرت أسبابه وخفيت وسائله على كثير من أبناء المسلمين، وتنبهوا رحمكم الله لمحاولات أعدائكم أعداء الدين في سبيل صدكم عنه وتشويهه أمامكم، فالله في محكم كتابه قد أخبر أنهم جادون في إبعادنا عن ديننا فقال: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217] فهم يبذلون قصارى جهدهم في الحرب الحسية المدمرة تارة، وبالحروب الفكرية والمعنوية تارات أخرى، ويشهد لذلك واقع المسلمين في ديار الإسلام فهم يبذلون ما استطاعوا لإبعادنا عن ديننا، فاحذروهم رحمكم الله، وقفوا عند حدود الله وسلوه الثبات على دينه، ووجهوا أجيالكم التوجيه الصحيح الذي يُذْكي فيهم حب الإسلام وحب الدفاع عنه؛ ليَخرُجوا صالحين نافعين لدينهم وأمتهم التي هي بأمس الحاجة إليهم.
وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبينا محمد كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه فقال: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وأخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من صلى عليَّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً} اللهم صلِّ وسلم وزِد وبارك على نبينا محمد، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، اللهم ارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين في مشارق الأرض ومغاربها يا رب العالمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.
اللهم استعمل علينا خيارنا.
اللهم اجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم وفق المسلمين قادةً وشعوباً، علماءَ ومفكرين، شباباً ونساءً، اللهم وفق الجميع إلى التمسك الصحيح بكتابك وسنة نبيك يا رب العالمين.
اللهم دمر اليهود وأعوانهم وسائر الكفرة والمرتدين والشيوعيين والمبتدعين وسائر المفسدين، اللهم عليك بهم يا رب العالمين.
اللهم قنا شرورهم يا أرحم الراحمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله يذكركم كما قال سبحانه: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].(29/5)
الزكاة ومكانتها
لقد شرع الله الزكاة لحكم عظيمة، وأسرار كثيرة، ومصالح جمة، تعود على الفرد والمجتمع، وحذر من تركها والتهاون في إخراجها، فشدد في ذلك تحذيراً وإنذاراً، وإبداءً وإعذاراً، بأسلوب ترتعد منه الفرائص، وتهتز له القلوب، وتذوب من هوله الأفئدة.
وقد جعل الشارع الحكيم للزكاة مصارف معلومة، فلا تجزئ الزكاة إلا إذا صرفت فيها.(30/1)
أهمية الزكاة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فرض الزكاة على عباده تزكية للنفوس، وتطهيراً للقلوب، وتنميةً للأموال، وسداً لعوز المحتاجين، وتحقيقاً لروح المودة والإخاء، والرأفة والرحمة والصفاء، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، ومجتباه وحبيبه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله جل وعلا، واعملوا أن دينكم الإسلامي الذي منَّ الله به عليكم ورضيه لكم، وأكرمكم بالانتساب إليه، قد بني على أسس متماسكة، وقواعد مترابطة، إذا اختل منها شيءٌ تصدع ما سواه.
روى البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان}.
وإن من بين هذه الأركان العظيمة، ركناً عظيماً تساهل الناس فيه، وعمت الغفلة عنه؛ لضعف الإيمان في النفوس، وإيثار العاجلة بزينتها وأموالها ومتاعها؛ على الآجلة الباقية، ألا وهو الزكاة.
فالزكاة يا إخوة الإسلام! ثالث أركان هذا الدين العظيم، من جحد وجوبها كفر، ومن منع أداءها قُوتل، قال الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} [التوبة:11].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله}
وقد ذكر الله في كتابه الزكاة مقرونةٌ بالصلاة تعظيماً لشأنها، وتنويهاً بذكرها، وترغيباً في أدائها، وترهيباً من تركها والتساهل فيها.
قال الله عز وجل: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43]
قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [[والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة]]
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [[ثلاث آيات مقرونةٍ بثلاث، لا تقبل منها واحدة بغير قرينتها، وذكر منها قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43] وقال: فمن صلى ولم يزكِ لم يقبل منه]].(30/2)
الحكمة من مشروعية الزكاة
أمة الإسلام: لقد شرعت الزكاة لحكم عظيمة، وأسرارٍ كثيرة، ومصالح جمة، تعود على الأفراد والمجتمعات بالخير العظيم، يقول تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103].
فالزكاة تطهر النفس من درن الشح والبخل، وتزكيها بالجود والسخاء والكرم، وهي السبيل لحصول النماء والزيادة، والبركة والفلاح والطهارة، والخلف والمثوبة، وحفظ المال، ودفع الشرور والآفات عنه بإذن الله، وفيها تثبيت للمحبة والمودة، والتكافل والإخاء بين الأغنياء والفقراء، ويشعر الفقير في المجتمع المسلم أنه أمام تعاونٍ لا تطاحن، وأمام إيثارٍ لا أثرة، وأمام مساواة وعطفٍ وإخاء، لا طبقية وعنفٍ وجفاء، وأمام مشاعر رقيقة، وقلوبٍ رحيمة أبية، لا مخالب قوية، وأنيابٍ عتية.
والزكاة ليست فريضةٍ تؤخذ من الجيوب فحسب، بل هي غرسٌ لمشاعر الحنان والرأفة، وتوطيد لعلاقات التعاون والألفة؛ ليسمو المجتمع إلى مستوى أفضل، ومقصدٍ أنبل، وهكذا أظهرت هذه الفريضة محاسن هذا الدين، وعنايته بشئون أبنائه، وتفوقه على النظم المخالفة له من شيوعية ورأسمالية وغيرها، التي يزعم أهلها زوراً وبهتاناً أنهم كفلوا الحقوق، وأشاعوا العدل والإنفاق بين الشعوب، وهل يسمى ظلم الناس عدلاً! وبخسهم وإلغاء ملكيتهم حقوقاً! وإشاعة الطبقية بينهم إنصافاً! وهل يطلق على ابتزاز ثروات الشعوب كفالة للحقوق! وقد أدى ذلك إلى شيوع الظلم والخوف، وانعدام الأمن، وانتشار السرقة والاختلاس والسطو، وتفاقم الجرائم، وارتكاب الفقير شتى الحيل للحصول على لقمة العيش؛ لما يقاسيه من آلام الفقر والمسكنة.(30/3)
التحذير من التهاون في إخراج الزكاة
إخوة العقيدة: لقد جاء الوعيد الشديد، والترهيب المرعب في حق تارك الزكاة، وفي حق من قصر فيها، وتساهل في أدائها، تحذيراً وإنذاراً، وإبداءً وإعذاراً، بأسلوبٍ ترتعد منه الفرائص، وتهتز له القلوب، وتذوب من هوله الأفئدة، بأسلوبٍ لو خوطبت به الجبال الصم؛ لخشعت وتصدعت.
يقول عز وجل فيه: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] ويقول جل في علاه: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لانْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35] ويقول سبحانه: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:180].
قال النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير هذه الآية: {من آتاه الله مالاً فلم يؤدِ زكاته، مُثِّلَ له يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، فيأخذ بلهزمتيه -يعني شدقيه- يقول: أنا مالك أنا كنزك} أخرجه البخاري.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من صاحبٍ ذهبٍ ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فيحمى عليها في نار جهنم، فيصلى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، وما من صاحب إبل ولا بقرٍ ولا غنم، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، بطح لها بقاعٍ قرقر أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها وتنطحه بقرونها، وتعضه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة} متفق عليه.
فليسمع هذا الوعيد أرباب الآلاف والملايين، وأصحاب العقارات والتجارات، وأصحاب المزارع والمواشي، ليتصوروا هذا الموقف الرهيب بين يدي الله جل جلاله، فإنها والله لا يحمى عليها في نارٍ كنار الدنيا مع شدتها وحرها، إنما يحمى عليها في نار جهنم التي يعجز عن وصفها التصوير، ولا يقدر على ذكر أهوالها التعبير، وإذا ألقي فيها الجسد لا يقضى على طرف منه فقط، وإنما يكوى بها الجسم كله، من كل ناحية، من الأمام والخلف والجنب، في الجباه والجنوب والظهور، كلما بردت أعيدت، وليت هذا العذاب في يومٍ أو شهرٍ أو سنة! لكنه في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة، فقولوا لي بالله عليكم: من ذا الذي يطيق ذلك الهول العظيم؟! {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37] فاتقوا الله يا إخوة الإسلام! وأدوا زكاة أموالكم، طيبةٍ بها نفوسكم، فقد أعطاكم الله الكثير، وأغدق عليكم المال الوفير، وطلب منكم أقل القليل، ولو أن أثرياء المسلمين اليوم قاموا بهذه الفريضة حق القيام، وصرفوا الزكاة في مصارفها الشرعية، لم تجد على الأرض من يتسول لفاقة، ومن يلح في مسألة لحاجة، ولاختفت مظاهر الإجرام والسطو والاختلاس والسرقة، ولكن نسأل الله أن يفتح على قلوب المسلمين، ويجعلهم إخوة متعاونين متكافلين، يرحم كبيرهم صغيرهم، ويعطي غنيهم فقيرهم، ليكونوا صفاً واحداً ويداً واحدة في عمارة أرض الله، ورعاية حقوق عباد الله، وما ذلك على الله بعزيز.
أقول قولي هذا.
وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو الغفور الرحيم.(30/4)
مصارف الزكاة
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تعالى، وأدوا ما أوجب الله عليكم من الزكاة، أدوها خالصةً لوجه الله طيبةً بها نفوسكم، واغتنموها قبل أن تغرموها، واحذروا الرياء والسمعة، والمن والأذى عند إخراجها لأصحابها، فالزكاة حق الله، لا تجوز المحاباة بها لمن لا يستحقها، ولا أن يجلب الإنسان بها لنفسه نفعاً، أو أن يدفع عنها ضرراً، ولا أن يقضي بها ماله، أو يدفع بها عنه مذمة، وليتق الله المعطي والآخذ، فلا يجوز لمن ليس من أهلها أن يأخذ منها شيئاً، ولا حظ فيها لغني، ولا لقوي مكتسب، واعلموا أن الزكاة لا تنفع ولا تبرأ بها الذمة إلا إذا صرفت في أحد المصارف الثمانية، التي حددها الله بقوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60].
وليس المقام مقام بسط وتوضيحٍ لأحكام الزكاة، فهي مدونة في نظامها، ومن استطاع الرجوع إليها لينهل من نعيمها فليفعل، ومن لم يستطع، فقد قال الله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبي الرحمة والهدى، من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحمِ حوزة المسلمين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً، وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم أدم عليهم التوفيق والنعمة، وأصلح لهم السريرة والبطانة، يا أرحم الراحمين.(30/5)
الله الله في أسركم
إن الله سبحانه وتعالى خلق هذا العبد الضعيف، وجعل له أهلاً يسكن إليهم، لكن لا بد أن يعرف أنه مسئول أمام الله عز وجل عنهم، فيجب عليه أن يربيهم التربية الصالحة، والقدوة الحسنة، وقد بين الشيخ حفظه الله في هذه الرسالة ما يجب على العبد نحو أسرته وأولاده من تربية وإصلاح ومتابعة.(31/1)
ترغيب الإسلام في تكوين الأسرة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله تعالى حق التقوى؛ فإن تقوى الله أقوى الذخائر، ونور البصائر، وأُنس السرائر، وحياة الضمائر.
عباد الله! لقد جاءت شريعة الإسلام نظاماً كاملاً ومنهاجاً شاملاً، لم يترك جانباً من جوانب الحياة إلا تولاه بالعناية والرعاية، فنظم علاقة العبد بربه، وعلاقته بنفسه وأسرته، وبالآخرين من حوله، سعى لتحقيق المودة والإخاء بين أبناء المجتمع، وأزكى روابط العطف والتراحم بينهم، وقوّى أواصر الأخوة ووشائج المحبة بين المسلمين؛ لتتحقق الخيرية لهذه الأمة، ويعم الخير والصلاح جميع جوانب الحياة وأنظمة المجتمع.
وإن من أهم الجوانب التي أولتها الشريعة اهتماماً بالغاً وعناية فائقة: الجانب المتعلق بالأسرة، وما ذاك إلا لأنها نواة المجتمع، والقاعدة الصلبة، والأرضية الخصبة؛ لتنشئة الأجيال وتربية الرجال، هي الخلية التي إذا صلحت صلحت الأمة كلها، وإذا تصدع بنيانها، وتزعزعت أركانها، وساد فيها الشقاق والنزاع؛ تحدَّرت الأمة إلى أودية سحيقة من الخراب والضياع، وأفرزت أجيالاً لا تعرف هدفاً، ولا تسمو لغاية، ولا تقدم لمجتمعها نفعاً وإصلاحاً.
إخوة الإيمان! إن الأسرة أساس المجتمع، واللبنة الأولى في بناء كيان الأمة، والنواة الكبرى في تشييد حضارتها، بنجاحها تقاس سعادة المجتمع، وبفشلها وسيرها في مزالق الضياع ومهاوي الردى يقاس إخفاق المجتمع وتقهقر الأمة.
ولقد رغَّب دين الإسلام في بناء كيان الأسرة المسلمة، وإقامة صرحها، وتكوين قواعدها، وإشادة أركانها، والحفاظ على جوها الصافي وظلها الوارف، أن تشوبه غوائل الشر والبغضاء، وبوائق النزاع والشقاق، والشقاء والخلاف والعناء، وعوامل الشقاق والشحناء، فكان أن عُني الإسلام أول ما عُني في تكوين الأسرة، بأن شرع الزواج وحث عليه، ورغب في اختيار الزوجة الصالحة ذات الدين والخلق والمنبت الحسن؛ لكونها دعامة الأسرة المؤمنة.
وحث على إنكاح من تتحقق فيه الكفاءة في دينه وخلقه وأمانته، وما ذاك إلا لتنشأ الأسرة في كنف حياة رغيدة، وظل أسرة صالحة سعيدة، يقول الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم:21]، ويقول سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل:72].(31/2)
أهمية التذكير بمكانة الأسرة في الإسلام
معشر المسلمين! إن الأسرة الصالحة نعمة من نعم الله على عباده، يجد فيها المسلم راحة باله، وهدوء نفسه وقلبه، وأنس فكره وضميره، وطمأنينة خاطره وفؤاده.
يجد فيها السكن والراحة والمودة والرحمة في خضم مشاغل الحياة وأعبائها، ولتتأملوا -يا رعاكم الله- قوله سبحانه: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21]، وقوله سبحانه: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً} [النحل:80] وإن التذكير بمكانة الأسرة في الإسلام وأهمية العناية بها يعد من الأمور الضرورية، لما تمثله الأسرة من منزلة سامية في هذا الدين، ولما تتمتع به من ثقل ومسئوليات، ولما للعناية بها من أثرٍ في صلاح المجتمعات، وتثبيت دعائمها، وتقوية بنائها، ولما للتفريط فيها من عواقب وخيمة على الفرد والمجتمع إذا أهملت وأصبحت عرضة للسهام المسمومة والأعاصير المدمرة.
كما تبدو أهمية التذكير بشأنها في كل الأوقات، لا سيما في أوقات الإجازات والتخفف من المشاغل والمسئوليات، لا سيما ونحن نعيش في عصر أصبحت فيه الأسرة المسلمة هدفاً لكيد أعداء الإسلام، وغاية لهجومهم الكاسح؛ لأنهم يدركون -عاملهم الله بما يستحقون- أنه إذا فسدت الأسر تحقق لهم ما يصبون إليه من القضاء على قلب الأمة النابض، ومحور تربية الأجيال، وبالتالي القضاء على الأمة بأسرها.
ولكن مهما تتالت الطعنات وتتابعت الهجمات من كل حدب وصوب على النظام الأسري الإسلامي؛ فسيبقى -بإذن الله- نظاماً بالغ الدقة والإحكام، جدير بالعناية والاهتمام، فلم يعرف العالم بأسره نظاماً للأسر أسعد ولا أكمل ولا أفضل ولا أعدل من نظام الإسلام.
وهل بقيت أمة الإسلام على مرِّ العصور، قوية الشوكة، مرهوبة الجانب، واستعصت على الاضمحلال رغم النوازل والمحن، وخلدت أمجاداً، وأنجبت أجيالاً يفخر بهم التاريخ إلا لما عنيت بهذا الجانب، فصلح أبناؤها واستقامت أجيالها؟!(31/3)
آثار انهيار الأسرة المسلمة
هل غُزِيَ المسلمون في عقر دورهم وكثرت بينهم الفتن والمشكلات، ودبت البغضاء والخلافات، وفسد كثير من الناشئة، وتمرد كثير من الأبناء والأجيال، وعمت الخلافات الزوجية، والمشكلات الأسرية، وارتفعت معدلات نسب الطلاق في كثير من المجتمعات، وبلغت مؤشرات خطيرة تنذر بأخطار داهمة، وكثرت المشكلات الزوجية، والخصومات الأسرية في المحاكم وغيرها، وأصبحت حياة كثير من الأسر جحيماً لا يطاق؛ إلا لما أهمل كثير من المسلمين أمر الأسرة، فانشغل الآباء عن تربية أسرهم والحفاظ على أبنائهم من قرناء السوء الذين يفسدون في الأرض ولا يُصلحون.
فكم زجوا بأبناء المسلمين في مهاوي الرذيلة والفساد وأودية الضياع والدمار؟! فما الذي سبب انتشار الجرائم ورواج سوق المسكرات والمخدرات، وانحراف الأحداث؟ إلا إهمال أمر الأبناء والأسر، وترك الحبل لهم على الغارب، يفعلون ما يشاءون دون رقيب ولا حسيب.
وإن انشغال من بأيديهم القوامة على الأسرة عن تسيير دفتها، وقيادة سفينتها، ومتابعة أعضائها، يقود إلى غرقها وتعرضها لأمواج الفساد وطوفان الضياع والدمار، خصوصاً في هذا الزمان الذي اشتدت فيه غربة الإسلام، وتطلاطمت فيه أمواج الفساد، وكثرت الفتن، حتى لكأن الولد فيه حمل وديع في أرض مسبعة، إن غفل عنه تخطفته السباع الضارية، والوحوش الكاسرة، والله المستعان.
كيف ونحن نعيش اليوم في عصر تقذف فيه المطابع بغزو فكري وأخلاقي بهجمات محمومة عبر مجلات هابطة وكتب مسمومة؟
كيف والعصر عصر إعلام بما تحمله الكلمة من معنى؟
ونحن نعيش اليوم عصر الأقمار الصناعية والقنوات الفضائية، لكننا نحمد الله أن وفق ولي أمرنا للتوجيه بمنع ما يخالف ديننا وقيمنا وأخلاقنا.(31/4)
الأبناء أمانة الآباء
أمة الإسلام: ماذا جنى المسلمون لما انشغل أولياء أمور الأسر عن متابعة أبنائهم وبناتهم، والقوامة على أزواجهم ونسائهم؟
إن إفراز أجيال لا تحمل رسالة، ولا تعي هدفاً ولا غاية من الجنايات العظيمة التي مردَّها إهمال التربية، وغفلة الأبوين عن القيام بواجب الإصلاح والعناية والوقاية، وقد قال الله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم:6].
قال أهل العلم: أي: علموهم وأدبوهم.
وقال صلى الله عليه وسلم: {كلكم راعٍ وكلم مسئول عن رعيته} أخرجاه في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال: {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} وفي الترمذي وغيره: {ما نحل والد ولده نحلة أفضل من أدب حسن}.
وانظروا -رحمكم الله- إلى من تربوا على مشكاة النبوة من الرعيل الأول كيف نفع الله بهم البلاد والعباد؟ وكيف كتبوا التاريخ وحققوا الأمجاد؟
وعليكم أيها الآباء -وفقكم الله وأعانكم- بحسن التوجيه والتربية، ومتابعة أبنائكم، وجهوهم، وربوهم، وانظروا أثر الأسرة المصلية التالية الذاكرة المؤمنة، وتصوروا لو كان الطفل في بيت يعاقر الفساد ويواقع الشر والباطل ماذا ستكون حاله!
وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في فلاة
وهل يُرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات
والأب الراعي هو القدوة لأبنائه، والطفل صورة عن بيئته وأسرته، وقديماً قيل:
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وما دان الفتى بحجى ولكن يُعلمه التدين أقربوه
عاتب بعضهم ابنه على العقوق وقد أهمل تربيته، فقال: يا أبتي! عققتني صغيراً فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً فأضعتك شيخاً، وإنك لا تجني من الشوك العنب.
وأعظم من ذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28].(31/5)
إصلاح الأسر وتربيتها على الإيمان والقرآن
أمة الإسلام! إن طريق الخير والصلاح والفلاح، وسبيل النجاة والعز والنجاح الموصل إلى بر الأمان وشاطئ السلام إنما يبدأ -أول ما يبدأ- بإصلاح الأسر وتربيتها على الإيمان والقرآن ومنهج الإسلام والسنة؛ لتكون صماماً للأمان في المجتمع، محبة للخير والهدى، دارئة للشر والفساد والردى، قائمة بحقوق الله وحقوق عباد الله، راعية لحق الكبير والقريب وولي الأمر والعالم ومن له حق عليها.
وإذا كانت الأسر -لا قدر الله- أوكاراً للشياطين، وبؤراً للفساد والمفسدين، لا يسمع فيها ذكر الله، ولا يتلى فيها كتاب الله، وإنما يعمرها اللهو واللغو والباطل؛ فقل على الأمة: السلام.
وإن المسئولية في تربية الأسر لتقع على كل فرد من أفراد المجتمع الإسلامي، فيجب على كل مسلم ومسلمة أن يعرف دوره، ويقوم بواجبه في الإسهام في صلاح الأسر والبيوت، وإبعاد وسائل الفساد عنهم.
فيا أيها الآباء والأمهات! ويا أيها الأزواج والزوجات! ويا أيها الأبناء والبنات! اتقوا الله في أنفسكم وفي مسئولياتكم وفي تربية أولادكم، فأنتم محاسبون عن ذلك، مسئولون أمام الله، فعليكم بتحقيق التعاون والتكاتف في تحقيق الجو الأسري الرشيد، وتكوين العش الزوجي الرغيد، والبيت الإسلامي السعيد.(31/6)
انشغال الآباء بالدنيا عن تربية الأولاد
إن بعض الآباء لينشغلون بالدنيا عن أبنائهم، فيا أيها الآباء! كفى انشغالاً بالمادة عن أسركم وبيوتكم وتربية أبنائكم وبناتكم.
إن مما يؤسف له -أشد الأسف- أن بعض الآباء -هداهم الله- لا يعرف أسرته إلا في مواعيد الطعام والنوم دون توجيه ولا تربيه، وبعضهم يحسب أن إسعاده لأسرته إنما هو بالمسكن والمطعم والمشرب والملبس، وإشباع رغباتها المادية، وتحقيق طلباتها الدنيوية وكأنها حظيرة أغنام، وهيهات أن تخرج هذه التربية المادية جيلاً صالحاً أو نشئاً مستقيماً في غياب التوجيه السديد والتربية السليمة!
وإننا لنتساءل: لمن تترك تربية الأبناء إذا تخلى عنها المربون والآباء؟
لمن تترك فلذات الأكباد ومهج النفوس وثمرات الفؤاد إذا تخلى عنها البيت والأسرة؟
فاتقوا الله عباد الله! وليقم كلٌّ منكم بواجبه تجاه بيته وأسرته، وإنه بفهم كل واحد منا حقوقه وواجباته تجاه أسرته وبالعمل بها تصلح الأسر، ويتحقق للمسلمين ما يصبون إليها من استقرار أحوالهم، وسعادة مجتمعاتهم، وصلاح أبنائهم، وسلامة أديارهم بإذن الله {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم:20].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدى سيد المرسلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه من كل ذنب ومعصية، إنه هو الغفور الرحيم.(31/7)
تربية الأبناء والدعاء لهم اقتداءً برسل الله
الحمد لله الكبير المتعال، وأشهد أن لا إله إلا الله ذو الفضل والنوال، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
عباد الله! اتقوا الله في أنفسكم وفي أسركم، وفي أولادكم، وتفقدوا -رحمكم الله- أولادكم عند ترك الأوامر وفعل الزواجر، واعملوا -رحمكم الله- على حماية أسركم من آفات فسادها، وتهدم أركانها، وتداعي بنيانها، وأقيموا سداً منيعاً وحاجزاً كبيراً بينكم وبينها، وإن الآفات التي تهدد الأسرة منها ما يكون داخل أروقتها، ومنها ما يكون من تأثير خارج عنها، فكونوا على حذرٍ وفطنة.
أيها المسلمون! التزموا في جميع أموركم الأسرية نهج الإسلام الحق، وطريق السنة المطهرة والسيرة العطرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام، وليقدم كل واحد في المجتمع -لا سيما المعنيون بشئون التربية، والقائمون على وسائل التوجيه في المجتمع، وكذلك أهل العلم والدعوة والإصلاح على الجميع أن يقوموا- بالتركيز على جوانب صلاح الأسر، فإنها المجتمع المصغر، وإذا صلحت صلحت المجتمعات كلها بإذن الله، ويومها لا نشكو من تمرد الأبناء، وكثرة الخلافات الأسرية، والمشكلات العائلية في المجتمعات.
هذا وإن عليكم -رحمكم الله- أن تحرصوا على الدعاء لأولادكم بصلاحهم كما كان أنبياء الله ورسله، فهذا إبراهيم عليه السلام يقول: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100]، {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [إبراهيم:40]، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} [البقرة:128]، ويقول زكريا عليه السلام: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38]، ويقول سبحانه: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف:15] ويقول في صفات عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان:74]، فأكثروا من الدعاء لهم، واعلموا أن صلاحهم ينفعكم بعد موتكم {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23]، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21]، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عند مسلم وغيره: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث -وذكر منها- ولد صالح يدعو له} فخذوا -رحمكم الله- بأسباب صلاح ذرياتكم قولاً وعملاً ودعاءً وقدوة تصلح أنفسكم وأسركم ومجتمعاتكم بإذن الله.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى، والحبيب المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا إلى ما تحبه وترضاه، اللهم وأعنه على أمور دينه ودنياه.(31/8)
جزيرة الإسلام
بعث الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم في عرب الجزيرة، فكانت هذه البقعة هي مهد الرسالة، وتأهل أولئك العرب ليكونوا حملتها إلى أرجاء المعمورة.
وتشربت الأمة بمعاني العقيدة، فكان المجتمع المثالي الذي لا يتكرر، ولم تتمكن الفرقة بين أبناء الأمة؛ إذ أنه كلما طرأت عواملها، أرسل الله من يعيد الأمة إلى رشدها.
ولقد تضمن الحديث هنا إضافة إلى ذلك بعض المميزات لهذه البلاد (الجزيرة العربية) والتحذير من الوشايات التي تبث ضدها.(32/1)
نور الله يسطع في الجزيرة
الحمد لله رب العالمين، يمن على عباده في كل زمان فترة من المرسلين، بوجود الدعاة المصلحين، والأئمة المهديين، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأستعينه على أمور الدنيا والدين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الصادق الأمين، الذي أنار الله به الطريق للسالكين، فأعلى منار الحق للقاصدين، وأبان السبيل بناصف الحجج وواضح البراهين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فهي جماع الخيرات، وسبب البركات، ومصدر الرحمات، ونور الظلمات، وسبيل علو الدرجات، والأمانِ من الدركات، وتكفير الذنوب والسيئات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد:28].
إخوة الإسلام: لقد اقتضت حكمة الحكيم الخبير سبحانه، وهو الرحيم اللطيف بعباده، ألا يخلو زمانٌ من الأزمنة من قائمٍ لله بحجته، مستمسكٍ بدينه وشرعتهِ منافحٍ عن منهاجه وسنتهِ، مدافعٍ عن عقيدته وملتهِ، فأنزل كتبه، وأرسل رسله: {مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]، {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] وليس بخافٍ على كل ذي لب ما كان عليه أهل الجاهلية قبل البعثة المحمدية من شركٍ ووثنية، وشقاءٍ وانحطاطٍ ووحشية، وفرقة وشتاتٍ وظلمٍ وهمجية، فبعث الله فيهم خاتم أنبيائه وأفضل رسله، هادياً ومبشراً ونذيراً: {وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب:46] ففتح الله على يديه الفتح المبين، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولم ينتقل عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى حتى دانت الجزيرة بدين الحق، وخفقت راية التوحيد على كثيرٍ من أرجاء المعمورة.(32/2)
فرقة الأمة بعد وحدتها
ثم إنه بعد انقضاء القرون المفضلة دب في الأمة داء الفرقة والخلاف، وعصفت بها عواصف التشتت والنزاع، وعمها طوفان الإعراض عن منهج الله، فتفرق شملها وتبدد صفها، وتمزقت وحدتها، فذلت بعد عزة، وضعفت بعد قوة، وغرقت في أوحال الجهل والخرافة، ومستنقعات الشرك والوثنية إلا من رحم الله، لكن من رحمة الله سبحانه بأمة محمد صلى الله عليه وسلم أن وقاها عذاب المحق والاستئصال، وقضى بوجود الطائفة المنصورة والفرقة الناجية إلى قيام الساعة، فراية التوحيد لا تسقط أبداً، وصوت الإسلام لا ينقطع سرمداً.
روى البخاري ومسلم في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون} فلم يخل قرنٌ من القرون مع كثرة الفتن وغلبة الإعراض والمحن من وجود أئمة مهديين، وعلماء ربانيين، ودعاة مصلحين، يجددون لهذه الأمة أمر دينها، إمامة ودعوة، تعليماً وإصلاحاً، قدوة وجهاداً ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، ويذبون عن شريعة رب العالمين، وسنة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أبو داود وصححه الحاكم وسنده جيد ورجاله ثقات: {إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة أمر دينها} فلم يزل سبحانه وتعالى تفضلاً منه ومنة يوفق لإقامة عقيدة التوحيد، ويمكن لشريعة الإسلام، مع أن عوامل الضعف ما برحت، ونقم الكيد للإسلام وأهله ما فتئت تصيب الأمة بالوهن والأدواء، في عددٍ من أعضاء جسدها المثخن بالجراح.(32/3)
الإيمان سلاح الماضي والمستقبل
أمة الإسلام: والمستقرئ لتاريخ هذه الأمة في أطواره المختلفة، يجد أن دولة الإسلام لم ينقطع موكبها، ولم تنطفئ أنوارها بحمد الله، منذ أن أشاد المصطفى صلى الله عليه وسلم صرح حضارة الإسلام الأولى، نعم.
كانت هناك ولا تزال محاولات مستمرة ترمي إلى إقصاء الإسلام وتجريد أهله من إمكانياتهم المادية والمعنوية، وحرمانهم من حقوقهم وقوتهم في شتى المجالات، وغزوهم عقدياً وفكرياً وتربوياً وإعلامياً، لكن يأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون.
وإذا كان العالم اليوم بساسته ومفكريه ومثقفيه ومنظريه، يرقب بحذر كيفية الدخول والتعامل مع القرن الحادي والعشرين، فإننا نقول بهاماتٍ مرتفعة، وأصواتٍ مدوية: إن سلاح العقيدة والإيمان هو السلاح الفاعل في كل العصور والأزمان معاشر المسلمين، لقد شهدت الجزيرة العربية أحقاباً عجافاً، وأتى عليها حينٌ من الدهر لم تكن شيئاً مذكوراً، إلا بالظلم والنهب، والجهل والسلب وشيوع القتل والفوضى، وكانت مسرحاً للجرائم، ومثلاً في إنعدام الأمن وكثرة المخاوف.
ضج الحجيج وضج البيت والحرم واستصرخت ربها في مكة الأمم
حين انفرط عقدها وذهبت ريحها وتسلط عليها أعداؤها، ولم تزل في هذا الوضع المتردي حتى قيظ الله لها أئمة الدعوة الإصلاحية المباركة، في زمنٍ كثر فيه الجهل والخوف وعم، وعظم فيه التخلف والإطراب وطم، ووهت صلة الناس بعقيدتهم، وانعدم توثقهم بشريعتهم، فأجرى الله على أيديهم من الخير للبلاد والعباد ما يشهد به العقلاء المنصفون، ويشكك بها المغرضون الحاقدون، وأعليت راية التوحيد ووئدت الخرافة، وأبطل التنديد، فتحاً من المجيد، وتيسيراً من العزيز الحميد، حتى قرت عيون الموحدين؛ بانتشار نور العلم، وتبددت سحب الجهالة، وتحقيق الوحدة والأخوة، وتأمين السبل وشيوع الأمن، واطمئنان ركاب السفينة إلى من يقودها بمهارة، وسط الأمواج الهائجة، إلى بر الأمان وشاطئ السلامة والنجاة، وهذا من مقتضيات الإمامة والولاية في هذا الدين.
يقول أبو المعالي الجويني الشافعي: والإمامة متضمنها حفظ الحوزة والذب عن البيضة، ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الجنف والحيف، وتشييد مباني الرشاد، وحسم معاني الغي والفساد؛ فتنتظم أمور الدين والدنيا، والغرض الأعظم منها جمع شتات الرأي، فإن معظم الخبال والاختلال يتطرق إلى الأحوال من اضطراب الآراء، فلا ينتظم تدبير ولا يستتب من إيالة الملك قليلٌ ولا كثير.(32/4)
مميزات الدعوة في الجزيرة
إخوة العقيدة: لقد قامت في دنيا الناس حضاراتٌ شتى، وواجهت أزماتٍ متعددة سياسية واقتصادية واجتماعية، غير أن القضية المهمة في حياة الأفراد والأمم، على مدار التاريخ كله هي قضية الثوابت والمنهج.(32/5)
صفاء المعتقد
ومن فضل الله على هذه الجزيرة بعدما نعمت باليقظة الإصلاحية الكبرى، أنها تميزت بخصائص فريدة، وثوابت عتيدة، أهمها صفاء المعتقد في زمنٍ غشيته غاشية سوداء، فألبس التوحيد الخالص لله نسجاً من الخرافات الباطلة، فعظمت المشاهد والقبور، وأشيدت الأضرحة والمزارات، وعبثت الأوهام والخيالات، فبدل مسلمون غير المسلمين، وهبطوا في قوة سحيقة من الظُلْم والظُلَم، فعاش العالم في جوٍ ملبد، وظلمة مطبقة، وفيما العالم مستغرقٌ في هجعته، ومدلجٌ في ظلمته إذا بصوت الإمام المصلح الشهير، والمجدد الكبير طيب الله ثراه وأكرم في الجنة مثواه، يدوي في قلب الصحراء لإيقاظ الأمة من سباتها العميق، حتى تبدت تباشير فجر الإصلاح، وسطعت شمس الحق بعدما كانت في أفول، وتبددت ظلمات الجهالة بعدما كانت في امتدادٍ وشمول، ولقد كان من الثوابت المهمة في هذه الجزيرة: تحكيم الشريعة والتحاكم إلى الكتاب والسنة، فلا تعصب لأحدٍ من المذاهب، ولا جمود على شيء من المشارب.(32/6)
تبني قضايا المسلمين
ومنها: تبني قضايا المسلمين الكبرى، ويأتي في مقدمتها قضية أولى القبلتين، وثالث المسجدين الشريفين، ومسرى سيد الثقلين عليه الصلاة والسلام، وقضايا الأقليات الإسلامية ومآسيها في كل مكان، جعله الله خالصاً لوجهه الكريم، ومنها إقامة الوحدة الإيمانية على هذا الأساس المتين.
إخوة الإيمان: لقد شاء الله لهذه الجزيرة اصطفاءً واختياراً؛ فجعلها منطلقاً للرسالة الإسلامية الخالدة، ومتنزلاً لوحيه، ومهداً لدعوة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومكاناً لحرمه ومسجد رسوله عليه الصلاة والسلام، وقبلة لعباده ومهوى لأفئدتهم، ومحلاً لأداء مناسكهم، ومأرزاً لإيمانهم، فأمنه أمن جميع البلاد، ونور إيمانها ساطعٌ بحمد الله في الأسطاع والوهاد، وهي مأوى كل مضطهدٍ في دينه من سائر العباد.(32/7)
الأمن والوحدة
وإن المسلم الحق لينشرح صدره بالتمكين لبقعة الإسلام الأولى، وانطلاقة دعوته الكبرى، ويفرح ويغتبط حينما يرى صفاء العقيدة وظهور السنة، ويغمره السرور ويكتنفه الاستبشار والحضور حين يجد الراحة والأمن، وهو يحج ويعتمر، بكل أمنٍ وأمانٍ واطمئنان، بعدما كانت رحلة الحج والعمرة رحلة مصيرية، تمثل حياة أو موتاً، فلله الحمد أولاً وآخراً، وباطناً وظاهراً:
كانت جزيرتنا بالأمس عارية واليوم قد لبست أثوابها القشبا
لقد كان فيها من الهرج ما يبكي العيون.
كانت ممزقة الأطراف مرهقة فالخد منعفر والركن مهدودُ
فأصبحت بعد ضم الشمل شامخة حين استتب لها بعثٌ وتجديدُ
فتمثلت الجزيرة بعد الدعوة الإصلاحية نسيجاً وحدوياً يقل نظيره، نجدها وحجازها، جنوبها والشمال، في نظام متحد، بعدما أدى الشقاق في الأمة إلى ضمور معاني الوحدة فيها، فكانت كثير من الكيانات تعاني الفرقة في أقسى معانيها، في انقساماتٍ عصبية، ومشاحناتٍ إقليمية.
إن كل أمة تعتنق عقيدة التوحيد، وتلتزم شريعة الله لا يحق لها أن تجعل لأسباب الفرقة طريقاً إلى وحدتها، لكي تنطلق إلى آفاق البناء، وتستشرف آمال المستقبل، على خطىً ثابتة توحداً وتوحيداً: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:92] ولقد كانت نتيجة ذلك وآثاره أمناً وارف الظلال بحمد الله في عالمٍ ضرب الخوف فيه أطنابه، ولم يعد أحدٌ آمناً على نفسه وماله وعرضه: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67].(32/8)
الحكمة من إيراد مميزات الدعوة في الجزيرة
يقال ذلك -أيها المسلمون- تذكيراً بالنعم؛ ليشكر المنعم المتفضل سبحانه، وتأكيداً على الثوابت المتينة، حتى يتذكرها الجيل المعاصر اليوم، الذي يخشى أن ينخدع ببريق المدنية الزائفة، وإهابة بالأمة للتذكر والاتعاظ والاعتبار، وليس هذا القول لأحدٍ ثناءً ومدحاً، ولا لغيره ذماً وقدحاً؛ ولكنه للحقيقة والتأريخ، ألا فليعلم ذلك أهل الجزيرة، قادة وعلماء، شباباً وشيباً، رجالاً ونساءً؛ فيلتزموا نهج السلف، ليكونوا خير خلف تمسكاً بالأصالة، وحسن تعاملٍ مع المتغيرات، بعيداً عن الإفراط والتفريط، والانبهار والانهزامية في العقيدة والمنهج، والفكر والتربية والإعلام، وفي كل مجال من المجالات، ليضيعوا الفرصة على خفافيش الظلام، الذين يحاولون الاصطياد في الماء العكر، فيجروا شباب الجزيرة وفتياتها إلى ما يخالف ثوابتها وقيمها، ويخربوا سفينة الأمة وأمنها وأمانها: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:40 - 41] نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبسنة سيد المرسلين، أقول قولي هذا، وأستغفروا الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(32/9)
الوشايات المغرضة ضد الجزيرة
الحمد لله ذي المن والعطاء، والعز والعظمة والكبرياء، أحمده تعالى وأشكره على جزيل الآلاء وترادف النعماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أنداد ولا شركاء، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل الرسل وخاتم الأنبياء، صلى الله عليه وعلى آله الشرفاء، وصحبه الحنفاء، ومن سار على منهجهم واقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله جل وعلا، فإنها العدة في الشدة والرخاء، والذخيرة في السراء والضراء.
عباد الله: ومع كل ما حبى الله مهد الإسلام ومئرز الإيمان من المزايا والخصائص؛ فإن المتقرر لدى النصفة أن الكمال لله وحده، وأن العصمة ليست لأحدٍ من خلقه سوى أنبيائه ورسله فيما يبلغون من شرعه، ومن رام الكمال فقد رام مستحيلاً، والموفق الملهم من سخر في الخير مفتاحاً، وللشر مغلاقاً، بالمعروف أماراً، وعن المنكر نهاءً، على ضوء الكتاب والسنة، وفي ضوء الأساليب الشرعية.
ولقد دأب الخصوم على رفع عقيرتهم عند تجدد كل نعمة، وتبدد كل نقمة، فبث الدعايات المغرضة، والوشايات الكاذبة، ضد هذه الجزيرة ودعوتها الإصلاحية، فدعوها مذهباً خامساً، وخروجاً عما كان عليه المسلمون الأوائل، بدعوى الوهابية أو غيرها، وتلك شنشنة يرددها من يهذي بما لا يدري، ويهرف بما لا يعرف، ممن أرخى لنفسه الزمام جهلاً أو إعراضا، دون روية وتثبت، واطلاعٍ ونظرٍ، وشأن المسلم الحصيف الواعي أن ينظر بميزانٍ النقل الصحيح والعقل الصريح، ولا يقيم وزناً للشائعات المغرضة، والوشايات الكاذبة.
كما أن علينا جميعاً الحذر من كل دعوة تخالف ثوابتنا، ومنهجنا الصحيح، وإن تزينت ببهرج القول تطويراً، وتنميق الأساليب تنويراً، فالله الله في الثبات على عقيدتنا وديننا! لا إشادة بأمجاد الماضي فحسب، وإنما استمساكاً وعزمات، وعملٌ وجدٌ وثبات، ومثابرات للنهوض والشموخ لبناء صرحٍ لا كالصروح، وحضارة لا كالحضارات، في عالمٍ يموج بالمتغيرات والتحديات، فيبني الأحفاد كما بنى الأجداد، ويفعلون مثلما فعلوا، وكان الله للمخلصين لدينهم وأمتهم ومجتمعهم معيناً ونصيراً إنه نعم المولى ونعم النصير.
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، خير الورى طرى، وأتقاهم لربه جهراً وسراً، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين والصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وبكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم اجعلهم أنصاراً لدينك حماة لشرعك، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق إمامنا لما تحبه وترضاه، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم وعجل بنصرهم يا قوي يا عزيز، اللهم أقر أعيننا بإعادة المسجد الأقصى إلى بلاد المسلمين.
اللهم عليك باليهود المعتدين، والصرب الظالمين، والوثنيين الحاقدين، وسائر الطغاة والملحدين والمفسدين يا رب العالمين.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين وفي كشمير وفي كوسوفا وفي كل مكانٍ يا رب العالمين، اللهم انصرهم يا قوي يا عزيز.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه المؤمنون المتقون، ويذل فيه المجرمون المنحرفون، يا ذا الجلال والإكرام: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم إنا خلقٌ من خلقك، فلا تمنع عنّا بذنوبنا فضلك، يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين: رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الرحمين.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(32/10)
فضل رمضان
رمضان محطة لتجديد الإيمان، وتغذية الروح، والتزود من معرفة الدين والعمل به، وحرام ما يفعله بعض الأشقياء من هتكٍ لحرمة هذا الشهر، بالسماع المحرم، والقول المحرم، والفعل الفاحش، وكلام الشيخ هنا يتضمن فضائل لصيام هذا الشهر، وآداباً حض على الالتزام بها، وبعض المميزات الهامة لهذا الشهر الكريم.(33/1)
فضل صيام رمضان وآدابه
الحمد لله الذي منَّ على عباده بمواسم الخيرات، وجعلها غنيمة لهم تغفر فيها الذنوب وتكفر فيها السيئات, ويضاعف الثواب وترفع الدرجات، أحمده تعالى على جميع الإقبال والإنعام، وأشكره أن بلغنا بلطفه وكرمه شهر رمضان، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أفضل من صلى وصام، وأتقى من تهجد وقام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى واشكروه على ما شرع لكم من العبادات العظيمة، وهيء لكم من المناسبات الكريمة، مناسبات البر والإحسان والرحمة والغفران؛ لتكون منهلاً عذباً للطائعين ليزيدوا في طاعتهم وإقبالهم على ربهم، وفرصة للمقصرين والمفرطين ليجددوا التوبة من ذنوبهم، ويفتحوا صفحة جديدة من حياتهم.(33/2)
فضل شهر رمضان
عباد الله: تعيشون هذه الأيام شهراً كريماً، وموسماً عظيماً، تضاعف فيه الحسنات وتغفر فيه الخطايا والسيئات، وترفع فيه الدرجات وتقال العثرات، إنه {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
شهر أوله رحمة، وأوسطه مغفرة، وآخره عتق من النار، فيه ليلة خير من ألف شهر، أعطيت فيه هذه الأمة خمس خصال لم تعطهن أمة من الأمم قبلها: خلوف فم الصائم أطيب من ريح المسك، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا، ويزين الله كل يوم جنته، وتصفد فيه مردة الشياطين، ويغفر للصائمين في آخر ليلة منه، كما جاء في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه: {من صام هذا الشهر إيماناً واحتسباً غفر له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه}، كما صح في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وفي هذا الشهر الكريم تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران.
وكم في رمضان من المحامد والفضائل والخيرات والبركات، فيجب على المسلمين اغتنام أيامه الغر، ولياليه المباركة بالأعمال الصالحة، وكثرة العبادة، والصلاة، وتلاوة القرآن وتدبره، والإحسان والصدقة، والدعاء والاستغفار، ونحو ذلك.(33/3)
من آداب الصيام
أيها المسلمون الصائمون: احفظوا صيامكم عن النواقض والنواقص، وأدركوا حقيقته وأسراره، وتعلموا آدابه وأحكامه، فبعض المسلمين هداهم الله يجهل هذه الأمور، فلا يؤدي هذه الفريضة على الوجه الشرعي، فمن الناس من يقصر صومه على الإمساك عن الطعام والشراب فحسب ويطلق لجوارحه العنان تصول وتجول في المحرمات، قولاً وفعلاً، ونظراً واستماعاً، وهؤلاء قد فرطوا وضيعوا حقيقة الصوم، يقول صلى الله عليه وسلم: {من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه} أخرجه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: {فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب} أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: [[إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك سكينة ووقار، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء، فطوبى لمن حفظ صيامه، وصانه عما يدنسه، وعمر شهره بالصيام والقيام وتلاوة الكتاب والإحسان إلى الفقراء والمساكين]].(33/4)
رمضان شاهد لك أو عليك
ويا سعادة من جعل من رمضان وقت تغير وتحول في حياته من المعصية إلى الطاعة، ومن البدعة إلى السنة، ومن الإصرار على الذنوب إلى التوبة النصوح.
ويا فلاح أمة عرفت ما صدره التاريخ الإسلامي من أمجاد وانتصارات في رمضان، في معارك الإسلام الفاصلة بين المسلمين وأعدائهم في بدر، وفتح مكة، وعين جالوت وحطين وحذت حذو أسلافها ونصرت دين ربها ورفعت راية الجهاد في سبيل الله، ضد أعداء الإسلام الذين تربصوا بالمسلمين، وغزوا ديارهم، وعبثوا بمقدساتهم!
ويا شقاوة من هتك حرمة هذا الشهر، ودنسه بالمعاصي! فنهاره نوم وخمول، وليله سهر على ما حرم الله، اجتماعات سيئة، ولقاءات فاسدة، الشهر عنده للموائد والتفنن بالمآكل والمشارب، يفطر في تناول أعراض المسلمين بالغيبة والنميمة واللمز والتنابز بالألقاب، لسانه لا يفتؤ يكذب ويظلم ويخاصم ويخوض في القيل والقال، يسمع ويبصر ما حرم الله، يستثقل الصيام، ويستطيل الأيام، فيا خسارة من حظه من صيامه الجوع والعطش، ومن قيامه السهر والتعب!
فلنتقي الله يا عباد الله! ولنحافظ على صومنا ونستغل أوقات شهرنا بالعمل الصالح الذي ينفعنا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، وثبتني وإياكم على الصراط المستقيم، وتقبل منا صيامنا وقيامنا وهو السميع العليم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه لعلكم تفلحون.(33/5)
الحفاظ على الفرائض
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى واشكروه على ما أنعم عليكم من إدراك مواسم الخيرات، وما حباكم من الفضائل والمكرمات، وعظموا هذه المناسبات، وقدروها حق قدرها بفعل الطاعات والقربات، واجتناب المعاصي والمحرمات، فمثل هذه الأوقات ما جعلت إلا لتكفير سيئاتكم، وزيادة حسناتكم، ورفعة درجاتكم.
واعلموا أنكم كما استقبلتم شهركم ستودعونه عما قريب، وهو شاهد لكم أو عليكم، وشافع لكم أو حجة عليكم، فاستودعوه أعمالاً صالحة تكن نافعة لكم يوم دفنكم، ويوم عرضكم على ربكم، وحافظوا على فرائض دينكم، من الصلاة والزكاة، فبعض الصائمين هداهم الله يتساهل في أداء هذه الفرائض كما شرع الله وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وتأسوا برسولكم عليه الصلاة والسلام، فقد كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان، وأكثروا من الصلاة والسلام عليه كما أمركم الله بذلك في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم على قدوتنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه.
اللهم ارض عن خلفائه الراشدين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واحم حوزة الدين يا رب العالمين.
اللهم أمنا في أوطاننا وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، واستعمل على المسلمين في كل مكان خيارهم يا رب العالمين!
اللهم وفق المسلمين والمسلمات، واهدهم سبل السلام، وألف بين قلوبهم، وتجاوز عن سيئاتهم يا رب العالمين!
اللهم تقبل منا صيامنا وقيامنا، اللهم اجعلنا ممن صام فحفظ صيامه، وممن قام فداوم على قيامه، وأخلص لك في جميع تلك الأعمال.
اللهم اجعلنا في هذا الشهر الكريم من المرحومين، اللهم اغفر لنا في هذا الشهر الكريم، اللهم اجعلنا من عتقائك من النار يا رب العالمين!
اللهم أعد هذا الشهر الكريم على الأمة الإسلامية وهي ترفل بثوب العزة والكرامة، والنصر على الأعداء يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا لهداك، واجعل عمله في رضاك يا رب العالمين، وهيء له البطانة الصالحة، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(33/6)
في ظلال سورة ق
سورة ق من السور التي ينبغي تدبر معانيها، فهي تعالج قضية مهمة، وهي قضية إنكار البعث، وتذكر الإنسان بمراقبة الله له، وتعرض له مشاهد من الموت والعرض والحساب.
وقد ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ سورة ق في كل جمعة على المنبر إذا خطب الناس.(34/1)
القرآن دستور المسلمين
الحمد لله الذي أنزل كتابه الكريم هدى للمتقين، وعبرة للمعتبرين، ورحمة وموعظة للمؤمنين، ونبراساً للمهتدين، وشفاءً لما في صدور العالمين، أحمده تعالى على آلائه، وأشكره على نعمائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحيا بكتابه القلوب، وزكى به النفوس، هدى به من الضلالة، وذكر به من الغفلة، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، الذي كان خلقه القرآن فصلوات الله عليه وعلى آله وصحبه، الذين كانوا لا يتجاوزون عشر آيات حتى يعلموا ما فيها من القول والعمل، ورضي الله عن جنده وحزبه، ومن ترسم خطاه وسار على نهجه، ما تعاقب الجديدان، وتتابع النيران، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله تبارك وتعالى واشكروه على أن هداكم للإسلام، وجعلكم من أمة القرآن المعجزة الباهرة، والآية الظاهرة، كتاب الهدى وسفر الشهادة، ولواء الريادة والسيادة، وإمام الخير والحق والفضيلة، ودستور العدل والأمان في كل زمان ومكان: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42].
أمة القرآن! إن سعادة البشرية وصلاح البلاد والعباد، مرهون باتباع هذا الكتاب، فإن كان قائداً إماماً نصب الأعين وبين الأيدي؛ حصلت سعادة الدارين، ونجاة الحياتين، وإن كان خلف الظهور والعياذ بالله! عم الذل والشقاء في الأولى والأخرى، ولو وقفت الأمة تحت راية القرآن وتفيأت ظلال دوحة الفرقان؛ لنالت سلم المجد، وتبوأت مكانة العزة والشرف والقوة، ولو أنها حافظت عليه وعملت بما فيه؛ لضاءت لها المسالك، وتفتحت لها المدارك، ولو درس المسلمون كتاب الله ووقفوا عند آياته فأحلوا حلاله وحرموا حرامه، لصاروا سعداء عاجلاً وآجلاً.
إخوتي في الله: يقول الله سبحانه وتعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29] وأنكر المولى سبحانه وتعالى على الذين أعرضوا عن كتابه، فلا يتعظون ولا يتدبرون، اسمعوا إلى قوله تقدست أسماؤه: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].(34/2)
وقفات مع سورة ق
كانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم كثرة وعظ الناس بهذا القرآن، بل كان عليه صلوات ربي وسلامه يخطب الناس به، كما أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود وغيرهم عن أم هشام بنت حارثة، قالت: [ما أخذت {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] إلا من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ بها كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس].
يا إخوة الإسلام! ويا أهل القرآن: ما أجمل أن نعيش لحظات في ظلال هذه السورة نتدبر آياتها ونتأمل عضاتها، ونقف عند عجائبها؛ إحياءً لهذه السنة التي اندثرت أو كادت تندثر، فلم يكن عليه الصلاة والسلام ليركز عليها في اجتماع الناس ويقرأها في الفجر والجمع والأعياد إلا لما لها من الشأن والمكانة، إنها سورة عظيمة رهيبة، شديدة الوقع بأسلوبها وحقائقها، تأخذ بمجامع القلوب، تهز النفوس هزاً، وتثير فيها الخوف من الله، وتوقظها من الغفلة.
فعسى أن نلقي نظرات تسحبها عبرات، من قضايا هذه السورة العظيمة، وصورها المتعددة، في الحياة والاحتضار والممات والبعث والحشر وغيرها: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق:8].(34/3)
معالجة قضية إنكار البعث
أيها المسلمون: لقد ابتدأ الله هذه السورة، بالإنكار على المكذبين المنكرين لرسالة محمد عليه الصلاة والسلام، الجاحدين بالبعث والحساب، بقولهم: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق:3].
فبين الله سبحانه أنهم لما كذبوا بالحق التبس عليهم الأمر فهم في أمرٍ مريج، قد اختلفت عليهم الحقائق، وعميت بهم السبل وهكذا كل من حاد عن الحق، تتقاذفه الأهواء، وتمزقه الحيرة، وتقلقه الشكوك.
لقد جاء صدر هذه السورة ليعالج قضية عقدية مهمة، ألا وهي قضية البعث، وإنكار الكفار له، بأسلوبٍ يذيب القلوب ويرققها، ويقيم الحجة على المعاندين، ويلفت أنظارهم إلى بديع خلق الله في الأرض والسماوات، والجبال والمطر والنبات، يقول تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق:6] إلى قوله سبحانه: {رِزْقاً لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق:11].(34/4)
التذكير بمصارع الغابرين
ثم يأتي السياق في عرض صفحة أخرى، تذكر القلوب بمصارع الغابرين وأحوال المكذبين السابقين، الذين حق عليهم وعيد الله بعذابه ونكاله بهم: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ} [ق:12] إلى قوله سبحانه: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق:14].(34/5)
رقابة الله لخلقه
وتمضي السورة مستطردة مع قضية البعث، مذكرة الإنسان بخلق الله له، وعلمه به، وقربه منه، وأنه سبحانه يعلم وساوس النفس وخلجات الضمير، فضلاً عن الظاهر البيِّن: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وتلفت الأنظار إلى رقابة الله جل وعلا على خلقه وأنه مطلعٌ على أعمالهم، وقد أوكل بكل إنسان ملكين، يتلقيان أعماله فكل لفظة وكلمة مدونة عليه يقول تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18].(34/6)
مشاهد من الموت والعرض والحساب
ثم تأتي المشاهد المرعبة بأسلوبٍ رهيبٍ مخيف، يرج الأفئدة رجاً مبتدأً بمشهد الموت وسكراته، ثم مشهد الحساب وعرض الصحف، ثم مشهد جهنم -أعاذنا الله منها- فاغرة فاها تتلمظ كلما ألقي فيها وقودها من الناس، تقول هل من مزيد؟ وفي جانب ذلك مشهد الجنة ونعيمها -جعلنا الله وإياكم من أهلها-.
يقول تعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] إنها سكرة فراق المال والمناصب: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ذلك ما كنت منه تحيد وتهرب، ولكن لا مفر من الموت ولا مهرب، ومن سكرة الموت إلى وهلة الحشر وهول الحساب: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:20 - 21] معها سائقٌ وشهيد، وفي هذا الموقف العصيب يقال له: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:22].
ويكشف السياق عن جانبٍ أشد وأعظم: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] الله أكبر! يؤتى بكل كفار عنيد {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ} [ق:25] فيقذفون مع كثرتهم في جهنم تباعاً وتتكدس ركاماً، ثم تنادى: يا جهنم! هل امتلأتي واكتفيتي؟ ولكنها تجيب جواباً يروع القلوب ويهز النفوس: {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30] فيا له من هولٍ شديد ورعبٍ أكيد يبعث على القلوب الحية على الأخذ بأسباب الوقاية منها!
ويقابل هذا المشهد المرعب، مشهد الجنة وهي تقرب من المتقين: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] إلى قوله سبحانه وتعالى: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق:35].
ثم تختم السورة بتأكيد القضايا السابقة، ولكن بأسلوب جديد ليكون أكثر وقعاً وأشد تركيزاً، فيه لمسات التاريخ ومصارع الهالكين، وفيه الإشارة لبعض الحقائق الكونية، وفيه التذكير بعقيدة البعث والنشور، كل ذلك ذكرى {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].(34/7)
تدبر القرآن والاتعاظ به
وبعد يا أمة القرآن هذه وقفات سريعة ونظرات خاطفة في سورة من أعظم سور القرآن.
فأين القلوب التي تعي كلام الله، وتتدبر آياته؟!
أين الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيماناً؟!
العجب كل العجب! أن تكون مضغٌ مكونة من لحمٍ ودم أقسى من الجبال الرواسي والحجارة القاسية! ألم يقل الله سبحانه: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر:21] فما بال القلوب -يا عباد الله- لا تلين ولا تخشع عند سماع آيات كتاب الله؟! إنها دعوة إلى المسلمين جميعاً، ولا سيما حملة كتاب الله، أن يتدبروا كتاب الله، وأن يستلهموا ما فيه من العبر والعظات، وأن يقفوا عند عجائبه ويحركوا به القلوب.
يجب أن تربى الأجيال وتنشأ الأسر على هذا المنهاج السليم، تأسياً بسلف هذه الأمة رضي الله عنهم بإخلاصٍ واحتساب دون تصنعٍ وتكلفٍ واحتراف، وليتق الله من هضم حق كتاب الله، فساواه بغيره، ولاكه بلسانه، هذراً وهرذمة، دون تدبرٍ وتفكر.
يا إخوة الإسلام: أعيدوا لكتاب الله حقه، لقد كان بعض السلف يقوم الليل كله بآية واحدة من كتاب الله يكررها ويبكي من خشية الله حتى الصباح، فأين نحن من هذا المنهج السديد؟!
أما الشاردون عن القرآن، الغافلون عنه فليتقوا الله وليعودوا إليه، ليرتووا من معينه، وينهلوا من نميره، فهو علاج أمراض القلوب، وجلاء صدئها بإذن الله، ولا بد من التذكير مع بداية العام الدراسي لما لهذا الكتاب من مكانة، وما يجب على الطلاب والمدرسين وأولياء الأمور من مسئولية تجاه كتاب الله تلاوة، وتدبراً، وتطبيقاً، وتربية؛ ليعمل الجميع قدر جهدهم على أن يكون لكتاب الله النصيب الأكبر والحظ الأوفر من الأوقات، وفي ذلك الخير العظيم في الدنيا والآخرة.
اللهم اجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهلك وخاصتك، اللهم ذكرنا منه ما نسينا، وعلمنا منه ما جهلنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وانفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(34/8)
فوائد القرآن
الحمد لله الخالق المقدر، الرازق المدبر، مالك النفع والضر عالم الغيب والشهادة، وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وسلم عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن أعظم ما استفيد من كتاب الله: صفاء العقيدة، وسلامة التوحيد، وتحقيق التوكل على الله وحده، والبعد عن كل ما يعكر ذلك من الأوهام والخزعبلات، فقد اعتنى كتاب الله بتقرير هذه القضية معلقاً آمال العباد برب العباد وحده، فلا تملك الشهور والأيام، والنجوم والطيور، والأشكال والألوان ضراً ولا نفعاً، فذلك بيد الله وحده.
وقد طهر الإسلام النفوس من عقائد الجاهلية، كالتطير والتشاؤم ببعض المخلوقات، وعليه فيجب على من آثر سعادة الدارين، وصلاح أمره في الحياتين، أن يعلم أن ما يفعله بعض الجهلة من التشاؤم من شهر صفر أمرٌ منافٍ لعقيدة الإسلام، وإنه والله لمن الغريب حقاً أن تعبث الأوهام بأمة التوحيد، وتبعدها عن نقاء العقيدة، فماذا يملك الغراب والبوم؟! وما ذنب الأربعاء وصفر؟!
وقد أبطل الإسلام عقائد الجاهلية، يقول صلى الله عليه وسلم: {لا عدوى ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر} أخرجاه في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه.
فاتقوا الله -عباد الله- وأفيقوا من سباتكم وفوضوا أموركم كلها إلى مولاكم جل وعلا، وحققوا إيمانكم بصدق التوكل على الله، وقوة اليقين به، واحذروا ممن استهواهم الشيطان، فضلوا عن الهدى، وسعوا في إضلال عباد الله، من كل زائغ عن منهج الكتاب والسنة، وكل وكرٍ من أوكار الشيطان أعاذنا الله منه.
ألا وإن من أعظم ما يقربكم لمولاكم ويزكيكم عنده: كثرة صلاتكم وسلامكم على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفقهم لهداك، واجعل عملهم في رضاك، وهيئ لهم البطانة الصالحة، اللهم احفظ على المسلمين عقيدتهم، اللهم احفظ عليهم إيمانهم وأمنهم يا رب العالمين!
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(34/9)
واعبد ربك حتى يأتيك اليقين
استهلَّ الشيخ حديثه بأهمية التذكير، والجلوس إلى العلماء، وثنَّى بالكلام عن حاجة العباد إلى ربهم، وجعل كلامه اللاحق على ثلاثة محاور:
العبودية - الربوبية - الموت.
فالعبودية وصف تشريف جعله الله لرسوله في أشرف المواضع التي ذكره بها في كتابه.
والربوبية من مبادئ العقيدة التي لا غنى لأحد عنها.
والموت حقيقة قاسية مرة، لكن يجب ترويض النفس على التفكر فيها والتذكير بها.(35/1)
التذكير والتواصي بين المسلمين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلوات الله وسلامه وبركاته عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحبه الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام: أيها الأحبة في الله! أحييكم بتحية الإسلام: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
بادئ ذي بدء أشكر الله عز وجل على ما منَّ به عليَّ وعليكم من هذا اللقاء الطيب المبارك الذي نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يحقق النفع منه إنه جواد كريم، فلا يخفى عليكم أيها الإخوة الأحبة! أهمية أمثال هذه اللقاءات؛ لأنها منطلقة من قول الحق تبارك وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] وقوله سبحانه وتعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وقوله تبارك وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
فالتعاون والتواصي بالحق والصبر عليه سمات عظيمة من أهم سمات أهل الإيمان، ينبغي على جميع المسلمين العناية بها، وما هذه المحاضرات القيمة التي يقوم عليها وبها طلاب العلم والعلماء والمشايخ إلا من باب التعاون على البر والتقوى، بل هي في الحقيقة من أهم الجوانب التي يطلق عليها هذا التعاون، فالتعاون ليس إسداء أمر مادي فقط، وإنما نصح إخوانك ونصح نفسك أولاً، وإرشادهم وتذكيرهم بالواجب عليهم، وهذه الجلسات الإيمانية التي هي تذكير للغافل، وتنبيه للعالم والجاهل علهم يحاسبون أنفسهم، ويراجعون ربهم، ويوثقون الصلة به سبحانه.
أثني بالشكر للإخوة الأحبة في الخطوط السعودية، لا سيما المسئولون عنها نسأل الله تعالى لهم كل توفيق، ونسأله تعالى أن يعينهم على ما حُمِّلوا، ونسأله جل وعلا أن يجعلهم خير من يقوموا على هذا الثغر المهم الذي له أبعاده وآثاره وأهميته لهذه البلاد وخارج هذه البلاد؛ لأنه في الحقيقة ثغر مهم ينبغي أن يمثل واجهةً إسلاميةً جيدةً تنم عن تمسك أهل هذه البلاد بعقيدتهم، واعتزازهم بدينهم، فنسأل الله تعالى أن يجعل من هؤلاء المسئولين خير من يمثل هذه المسئولية العظيمة، وإنهم لفاعلون إن شاء الله، وأخص بالشكر في الخطوط السعودية إخوتنا الفضلاء في لجنة التوعية الإسلامية، نسأل الله تعالى أن يثيبهم على جهودهم، وأن يجزيهم على جهودهم، وأن يجزيهم خيراً على ما قدموا.
والحق أني لا أكتمكم أني تأثرت بالغ التأثر بالحفاوة والإكرام والتقدير الذي لمسته منهم في خطواتي إلى هذا المكان، فقد لمست فيهم من يمثل الإسلام حقيقة نحسبهم كذلك، ولا نزكي على الله أحداً، استقامة في السلوك، وحسن أخلاقٍ في المعاشرة، وليس هذا بغريب على أبناء التوحيد، وعلى أهل العقيدة، وعلى أهل المعادن الأصيلة كرماً ورجولةً وقوة معدن، فنسأل الله تعالى أن يثيبهم على هذه المحاضرات، وهذه الندوات التي يحرصون عليها، وهي في الحقيقة أهلٌ لأن يحرص عليها.
واسمحوا لي أن أقول لكم: إن الواجب على إخوتنا في التوعية الإسلامية أكبر مما يقومون به، وإن كانوا ولله الحمد والمنة يقومون بجهود موفقة في هذا، لكن المسئولية عظيمة، والواجب كبير؛ لأننا بحاجة إلى الخطوط المعنوية التي تصلنا بعقيدتنا، تصلنا بمثلنا وقيمنا، تربطنا دائماً بمبادئنا الإسلامية القويمة، وأي انحراف عن هذا الخط العظيم، فإنه في الحقيقة مدعاة إلى التعثر في الخُطا، ومدعاة إلى أن يحصل لمن وقع في الانحراف ما لا تحمد عقباه.
فهذه المحاضرات والندوات هي في الحقيقة طبٌ يعالج كل مظهر من مظاهر المخالفات لدين الله، كما أنها غذاءٌ يشحن الإنسان بما يحتاجه في دينه ودنياه وأخراه، ونحن نعلم في زحمة الحياة المادية حاجتنا إلى مثل هذه المحاضرات، وإلى هذه الندوات التي فيها قال الله وقال رسوله، وتبين للناس ما يجب عليهم، وترشدهم إلى ما قصروا فيه، فالكمال لله وحده، والخطأ من طبع البشر، فجزى الله إخوتنا في التوعية الإسلامية خيراً، وإلى الأمام سيروا في الإكثار من هذه المحاضرات، وإنني بالأصالة عن نفسي والنيابة عن زملائي وإخواني ومشايخنا سواء في مكة، أو في غيرها من أرجاء هذه البلاد المباركة نشجعكم ونعينكم، ونجعل من استجابتنا التي هي في الحقيقة واجبٌ علينا، وليست تفضلاً منا، بل هي واجب؛ لأن الواجب علينا في البلاغ والدعوة والبيان والإرشاد عظيم جداً، وأنا أقول: إننا بحول الله وقوته، وبعونه وتوفيقه يجب علينا ألا نألو جهداً في تشجيعكم ودعمكم كل ذلك في محيط ما تمليه علينا شريعتنا الغراء، وما يوجهه لنا ولاة أمرنا وفقهم الله إلى ما فيه عز الإسلام وصلاح المسلمين.(35/2)
الذكرى في ظلال القرآن
أيها الإخوة الأحبة: الحديث في ظلال القرآن له مذاقٌ خاصٌ، وله طعمٌ معين، لأننا يجب علينا أن نكون أهلاً للقرآن، فأهل القرآن الذين يقرءونه ويتدبرونه، ويخشعون في تلاوته، ويعملون بما فيه ويؤمنون بمحكمه ويعملون به، ويؤمنون بمتشابهه، ويحلون حلاله، ويحرمون حرامه؛ هؤلاء هم أهل الإيمان في الحقيقة، فالأمة الإسلامية قد منَّ الله عليها بهذا القرآن الكريم الذي أنزله الله عز وجل هدايةً لها في جميع شئونها وأمورها {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9] فالقرآن الكريم كتاب هداية، في أمور العقائد، وفي أمور العبادات، وفي أمور المعاملات، وفي أمور الأخلاق والسلوك، وفي كل أمور الدين والدنيا والآخرة؛ الكتاب الكريم هداية لنا، ولا مصدر للهداية إلا عن طريق هذا القرآن، وهذه حقيقة ينبغي أن نعيها جيداً، وينبغي أن نعتز بها، وينبغي أن نرفعها لا سيما في هذه الآونة التي أخفقت فيها جميع الشعارات، وأصبحت لا تمثل الهداية، ولا تمثل السعادة لمعتنقيها، بل لا يمثل السعادة على الحقيقة والهداية لخيري الدنيا والآخرة إلا هذا الكتاب الكريم الذي نزل من عند رب العالمين الذي هو أعلم بمصالح الناس، وأعلم بما يصلح لهم في أمور المعاش والمعاد قال سبحانه وتعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:38] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] فالله عز وجل خلق خلقه، واعتنى بهم جل وعلا، خلقهم في أحسن تقويم، وكرمهم أحسن تكريم قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء:70] ويقول سبحانه وتعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4] ويقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] ويقول جل وعلا: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية:13].
فكل ما في الخليقة، وكل ما في الكون في الأرض، والبحر، والجو، والسماء؛ مسخر لخدمة بني آدم، فالله عز وجل خلقنا ورزقنا، وأنعم علينا بالنعم ما ظهر منها وما بطن، وسخر لنا ما في السماوات وما في الأرض، كل ذلك منَّةٌ علينا، وكل ذلك نعمةٌ من الله جل وعلا علينا، فالواجب على العباد أن يشكروا الله، من الذي خلقنا ورزقنا وكلأنا ورعانا وحفظنا بالليل والنهار؟ قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار:10 - 12] من الذي فعل ذلك إلا الله عز وجل؟! من الذي أنعم على العباد بنعم الإيمان والأمن والاطمئنان؟! وغيرهم يخافون، وغيرهم يصابون بالاضطراب، وغيرهم يصابون بالفيضانات والأعاصير والكوارث والحوادث، من الذي حفظهم إلا الله؟!
فوا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكةٍ وتسكينةٍ أبداً شاهدُ
وفي كل شيءٍ له أيةٌ تدل على أنه واحدُ
سبحان الله ما أكرمه وأعظمه! ما أحلمه وألطفه! سبحانه ما عبدناه حق عبادته، ينعم علينا؛ فلا نشكر نعم الله عز وجل على الحقيقة، ونخطئ ونذنب؛ فيسترنا ويغفر لنا ذنوبنا قال سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فالحاصل أن حاجة العباد إلى الله، وضرورة التجائهم إلى الله أعظم من ضرورتهم للطعام والشراب والكساء والهواء والدواء، لأنه لا ملجأ من الله إلا إليه، من الذي ينفع إذا حصل الضر، وحصلت الكروب والكوارث والحوادث؟! لا يستطيع الناس أن يدفعوا عنك ضرراً، أو يجلبوا لك نفعاً، وإنما يملك ذلك الله وحده جل وعلا.
وأما غيره فيقول تعالى فيهم: {وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14] وقال تعالى: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6]
لقد ضل أقوامٌ ألحدوا، وضل أقوامٌ أشركوا، وضل أقوامٌ كفروا، وضل أقوامٌ انحرفوا عن دين الله عز وجل، لقد ذاقوا وتجرعوا تعاسة الدنيا قبل عذاب الآخرة عافانا الله وإياكم.
فيا أيها الإخوة الكرام! إن الحديث في ظلال القرآن حديث له أهمية، ينبغي على أمة الإسلام أن ترتبط بكتاب الله عز وجل دائماً وأبداً قال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص:29].(35/3)
ثلاث قضايا اشتملت عليها الآية
ونحن في هذه الجلسة المباركة نتأمل في آية من آيات كتاب الله، وقد أحسن الإخوة الكرام حين اختاروا هذا العنوان الطيب المبارك، واختاروا الحديث ليكون منبثقاً من عبق كتاب الله، ومن نمير كتاب الله عز وجل، نرتوي من نميره، ونُشفى من عللنا وأدوائنا وأمراضنا وقسوة قلوبنا من كتاب ربنا تبارك وتعالى، ولا غرو فقد قال الله عز وجل: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] وقال جل جلاله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:57 - 58] والله إن هذا اللقاء الطيب المبارك -الذي نسأل الله أن يكتبه في موازين الجميع- لهو خيرٌ من الدنيا وما عليها؛ لأن صلة الإنسان بالله وارتباطه بالله، وجلوسه في مجلس تحفه الملائكة، وتغشاه الرحمة، ويذكر الله الحاضرين في الملأ الأعلى فيمن عنده، لهو خيرٌ من الدنيا وما فيها، فنسأل الله الإخلاص في الحضور، وفي الاستماع، والانتفاع إنه جوادٌ كريم.
يقول الله عز وجل في الآية الأخيرة من سورة الحجر: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] هذه آية عظيمة من كتاب الله عز وجل، لها دلالاتها العظيمة، ولها أهميتها الكبيرة، لأنها تشتمل في نظري وتدور على ثلاث قضايا رئيسية:
القضية الأولى: قضية العبودية.
القضية الثانية: قضية الوحدانية والربوبية.
القضية الثالثة: القضية المصيرية التي كلنا قادمون عليها ألا وهي الموت.
فهذه الثلاث القضايا الجوهرية يدور عليها رحى هذه الحياة، وتدور عليها متطلبات الناس في هذه الحياة، وما ينبغي عليهم في هذه الدنيا، العبادة: (وَاعْبُدْ)، الربوبية: (رَبَّكَ) الغاية التي تنتهي من أجلها وأساسها هذه الرسالة، وهي تحقيق العبودية لله، وهي قضية الموت (حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ).(35/4)
قضية العبودية
العبادة في لغة العرب: الذل والخضوع، يقال: طريق معبد، أي: مذللٌ قد وطأته الأقدام.
والعبادة في الاصطلاح- كما نعلم جميعاً-: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، وقد عرف ذلك التعريف جمعٌ من أهل العلم منهم شيخ الإسلام/ أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن تيمية رحمة الله عليه في كتاب جيد نفيس أنصح بقراءته اسمه" العبودية " بين فيه رحمه الله ما يجب على العباد تجاه خالقهم، لأن الله سبحانه وتعالى-كما نعلم- خلقنا في هذه الحياة لا ليستكثر بنا من قلة، ولا ليستقوي بنا من ضعف، ولا ليتعزز بنا من ذلة، حاشاه سبحانه فهو الغني عن خلقه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر:7].
فالعبادة أمرٌ أوجبه الله عز وجل، بل هي الغاية من خلقنا، لم نخلق لنأكل، ولم نخلق لنتمتع في هذه الحياة، لم نخلق لنشرب، ولنركب، ولنتمتع بالشهوات، كما يفهم الشهوانيون الماديون، وإنما خلقنا لأمر عظيم، خلقنا لرسالة سامية لواجب كبير ألا وهو تحقيق العبادة لله، ففي هذه الآية أمر من الله عز وجل لرسوله وحبيبه محمد بن عبد الله بالعبادة {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} [الحجر:99] وهذا أمر، والأمر للوجوب، وهذا أمر للنبي صلى الله عليه وسلم وتدخل فيه أمته؛ لأن الأمر للنبي صلى الله عليه وسلم أمر لأمته ما لم يرد دليل على تخصيصه عليه الصلاة والسلام كما هو مقررٌ عند الأصوليين.(35/5)
مكانة العبادة
العبادة أمر واجب، ليست أمراً اختياراً، وليست أمراً يعاد فيه إلى رغبة الإنسان، بل على الإنسان أن يقوم بتحقيق العبادة لله {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، هذه الغاية التي خلقنا من أجلها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] من هو؟ {الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَكُمْ} [البقرة:21 - 22] هذا هو الله! {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22] يخلقكم ويرزقكم ويسخر لكم هذه النعم، فتحادونه، وتعبدون معه غيره! {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة:22].
فواجب العباد أن يقوموا بالعبودية لله سبحانه وتعالى، والعبودية -أيها الإخوة الكرام- وسام عزِّ، وتاج شرف، هي في الحقيقة أغلى والله من كل متاع هذه الحياة، ولهذا لما كانت أشرف وسام، كان النبي عليه الصلاة والسلام وهو أشرف الخلق ينادى بأشرف نداء وهو نداء العبودية لله قال تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] وقال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1] نعم هذا هو الوسام العظيم الذي ينبغي أن نتشرف بحمله في عبوديتنا لله عز وجل، وفي ذلك العز لنا والسعادة، والخيرية لنا في الدنيا والآخرة، ولهذا الذين يدَّعون أنهم يرفعون شرف النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته بالتشييد وغيره هم في الحقيقة أخطئوا ما هو أهم من هذا، فالنبي صلى الله عليه وسلم ناداه ربه بأشرف نداء وهو نداء العبودية لله.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا(35/6)
العبادة حياة للأرواح
العبادة نعمةٌ لا يحس بها إلا من حرمها، اسألوا الماديين، واسألوا الذين ذاقوا من متع هذه الحياة وشهواتها ما ذاقوا، ركبوا ما ركبوا، ولبسوا ما لبسوا، وتمتعوا بكل أمور هذه الحياة؛ ولكن كما قال الله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] ثم ماذا؟ إن لم يتربع الإيمان في سويداء قلوب الناس، وإن لم يشرفوا بالإيمان والعبودية لله الواحد الأحد، وإن لم يصلوا له عز وجل، ويتصلوا به في كل يوم وليلة خمس مرات، فإن ذلك معناه قضاء على الحياة الحقيقية، قضاء على الحياة التي لا تكون إلا بحياة الروح، وحياة الفكر حياة الإيمان، وحياة العقيدة.
من هم الناس بدون الإيمان؟!
ومن هم الناس بدون العقيدة؟!
ومن هم الناس بدون العبادة لله عز وجل؟!
وحوش في غابة، أو بهائم في زريبة، بينما إذا كانوا مؤمنين موحدين حقاً يتحلون بحلية الإيمان، يلتزمون تعاليم الإسلام، يطبقون في أنفسهم أعظم نظام عرفته البشرية، ولن تعرف أحسن منه إلى قيام الساعة، ولهذا ينبغي أن نعلم أن المخدوعين المنهزمين الذين ابتلوا بعقدة التأثر بأعداء الإسلام، ويطالبون أمة الإسلام بالتخلي عن هذا الدين، إنما هم أعداءٌ لنا في عقيدتنا، وأعداءٌ لنا في ديننا، وأنهم في الحقيقة يريدون تعاستنا، وأنهم حسدونا على ما نحن فيه من إيمان، وعلى ما نحن فيه من إسلام، فلن يكون عزٌ لهذه الأمة، ولا نصرٌ، ولا توفيقٌ، ولا سعادةٌ، ولا هدايةٌ في أمور الدين والدنيا إلا بتحقيق الإسلام، وهذه حقيقة مثبتةٌ في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وليس في قلوبنا مثقال ذرة من الشك في هذا، بل كلنا يقين، وكلنا اعتقاد إلا أننا نخشى أن يتأثر بعض أبناء المسلمين بهذه الدعاوى الجوفاء التي يطلقها إما بأقلامٍ، أو بأصوات بين الفينة والأخرى أناسٌ حاقدون على الإسلام، وإن تسموا باسم الإسلام، وأناسٌ منبهرون بأعداء الإسلام، وأناسٌ أُشربت قلوبهم والعياذ بالله بالعاجلة، وآثروها على الآجلة.
ثبتنا الله وإياكم على طاعته، وهداهم إلى الحق، فإن نعمة الهداية لهذا الدين لا يحس بها إلا من حرمها الذين ينادون اليوم بالرجوع إلى الإسلام، والذين جربوا كل شرٍ وفتنةٍ ورذيلةٍ، ذاقوا من متع هذه الحياة ما ذاقوا، وانغمسوا في الشهوات ما انغمسوا، ثم ماذا؟ يحسون بفراغ! يحسون بنقص! ما حصل الاكتئاب والقلق والاضطراب والتوتر وكثر الأطباء النفسيون إلا لما ضعف الإيمان في النفوس، ولما ضعفت العبادة وتحقيقها في نفوس أهل الإسلام وفي نفوس الناس جميعاً.
ولهذا المجتمعات الإسلامية التي طبقت الإسلام هي من أقل الناس أمراضاً وأوبئةً، ومن أقلها جرائم، ومن أسعدها حياةً، ونحن ولله الحمد والمنة في هذه البلاد من باب التحدث بنعم الله ننعم بهذه النعمة، ونحس طعم الإيمان في الحقيقة، ونحس الحياة السعيدة التي هي حياة الكتاب والسنة، ولكننا مع كل ذلك على خطر، أعداءٌ حاقدون، وأمورٌ يريد أعداء الإسلام تحقيقها حسداً من عند أنفسهم، ولكن أملنا في الله عز وجل، ثم في يقظة أبنائنا وإخواننا أبناء العقيدة الذين تربوا عليها لا يمكن أن يتنازلوا عنها يوماً ما؛ لأنهم جربوها، وأصبحوا ولله الحمد والمنة دعاةً لله، وأصبحت وبفضل الله ترى في كل مكان، وفي كل ثغر من الثغور، وفي كل بقعة من البقاع من يصدع بهذه العقيدة، ومن يدعو بهذه الدعوة، ومن يتمثل هذا الإسلام تمثلاً حقيقياً، وهذا من بشائر دين الله، ومن بشائر نصرة دين الله.
وهنا أطمئن الجميع أن الذين يأسون على مستقبل المسلمين، وعلى أوضاع المسلمين، ويطلقون الآهات تلو الآهات على ما وصل إليه واقع الأمة المتردي عليهم ألا ييأسوا من روح الله، وعليهم أن يبشروا ويتفاءلوا، فالله عز وجل ناصرٌ دينه، والناظر في تاريخ المسلمين، وفي تاريخ الأمم يجد أن الأمم مهما بعدت عن دين الله عز وجل، فإن الله بلطفه وكرمه ومنته يخرج منها طائفة في كل مكان تصدع بهذا الدين، وتقوم به، وتمتثل أمره حتى في البلاد التي تقول: لا إله، أصبحت اليوم تسمع لا إله إلا الله، وينطلق الأذان مدوياً عبر مآذنها، لما سقطت جميع الشعارات التي أثبتت إفلاسها، ولم تقدم السعادة للبشرية، ولم تحقق الحياة الإنسانية كما يقولون، فالحياة الإنسانية الكريمة حياة الطهر والعفاف والمبادئ والقيم والأخلاق لا تتحقق إلا في ظل الإسلام، أما إذا قصد بالحياة الإنسانية حياة العهر والخنا والرذيلة، فهذه في الحقيقة حياة بهيمية أكرمنا الإسلام أن نقع في حضيضها وفي مستنقعاتها.(35/7)
عدم اقتصار العبادة على الشعارات أو الشعائر
أيها الإخوة: عبادتنا لله عز وجل وسام شرف نحمله في أعناقنا وفي صدورنا ينبغي ألا نفرط فيه، ولا يفوتني أن أنبه أن العبادة التي يأمرنا الله عز وجل بها في هذه الآية وفي غيرها من آيات كتاب الله العزيز ليست مقصورة على الشعارات أو الشعائر، إنها ليست مقصورة على الشعائر التعبدية التي جاء بها الإسلام، وإن كانت في الحقيقة هي جزٌ كبيرٌ في العبادة، ولكن ليست هي العبادة، وإنما هي جزءٌ منها، ولهذا عرف أهل الإسلام العبادة بأنها: اسمٌ جامعٌ -معناها: واسع- لكل ما يحبه الله ويرضاه من قول أو فعل فإنه داخلٌ ضمن هذه العبادة سواء كان ظاهراً من الأعمال التي يراها الناس وتفعل، أو من الأمور الباطنة الأمور القلبية التي لا يعلمها إلا الله جل وعلا.
وبهذه المناسبة أنبه الإخوة العاملين في كل مجال من مجالات الحياة الذين يعملون الأعمال المادية، الذين يعملون في هذا الثغر مثلاً في الخطوط السعودية، أو غيرها من الأعمال في قيامهم بخدمة إخوانهم المسافرين، في قيامهم بأعمالهم هذه إعفافاً لأنفسهم، وبحثاً عن لقمة العيش، وسداداً لأسرهم ومن يعولون أنهم في عبادة إذا أخلصوا النية لله، المزارع في عبادة لله عز وجل إذا غرس وبذر وحصد إخلاصاً لله عز وجل وتقويةً على العبادة، وإقامةً لجسده، وسداً لحاجة أسرته وحاجته {إنك إن تذر ورثتك أغنياء خيرٌ من أن تذرهم عالةً يتكففون الناس} فالإنسان في عبادة في أي عمل عمله، الموظف في وظيفته، والتاجر في متجره، وكل إنسان في عمله متى ما أخلص النية لله -وهذا شرط مهم- واحتسب الأجر عند الله، وأخذ من هذه الوظيفة عوناً له على عبادة الله، وسداداً له وقياماً له بحاجاته وحاجات أسرته، فإنه في عبادةٍ يؤجر عليها، لم أقل هذا أنا، وإنما قاله المعصوم عليه الصلاة والسلام حبيبنا وقدوتنا وأسوتنا وسيدنا بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، يقول: {وفي بضع أحدكم صدقة} حتى معاشرة الرجل لأهله وزوجته يؤجر، وهي صدقة يتصدق بها على نفسه، وعلى زوجه، الصحابة رضي الله عنهم عجبوا من هذا، فقالوا: {يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟!} هذه الشهوة والغريزة التي ركبت في الإنسان لا غنى له من إخراجها في طريق الحلال، أو في طريق الحرام والعياذ بالله ولكن طريق الحرام مغلق، فتصرف في طريق الحلال لا غنى له عن ذلك يؤجر على ذلك قال: {أرأيتم لو وضعها في حرام، أكان عليه وزر؟ قالوا: نعم، قال: فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر}.
فهذه العبادة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، وقامت بها أمته من بعده، ويجب على الأمة الإسلامية أن تقوم بها خير قيام في كل أمورها في أمور الأعمال، وفي أمورها الوظيفية، وفي أمورها الأسرية، وفي أمور البيت والأسرة، وفي غير ذلك من الأعمال التي يقوم بها كل إنسان عليه أن يعلم أنه في عبادة إذا أحسن النية وأخلصها لله جل وعلا، كذلك الأقوال التي يكون فيها دلالة على الخير، أو فيها كلام مباح، أو فيها سؤال عن الحال، أو فيها انشغال عن المحرمات كل ذلك يؤجر عليه الإنسان، لكن لا يفوتنا أن نستصحب إخلاص النية والاحتساب للأجر من الله جل وعلا، هذه هي القضية الأولى التي شملتها هذه الآية، وهي قضية العبادة.(35/8)
تحقيق العبودية معيار للعزة
العبادة أيها الإخوة الكرام! معناها -كما سمعنا وكما علمنا- واسع وجامع، يدخل فيها كل قول، وكل عمل، وكل فعل، وكل خلق، وكل سلوك، وكل أمر يعمله الإنسان، أو يقوله، أو يتلفظ به، أو يقوم به ابتغاء وجه الله فيما يحبه الله ويرضاه، وهذا أمر مهم من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، والكلام في هذا في الحقيقة يطول، ويستحق محاضرة كاملة، لكني أنبه على أهمية هذا الأمر، وأنبه أيضاً على أن شرف الإنسان ومكانته إنما هو في الحقيقة بقيامه بعبادة الله، بقيامه بطاعة الله جل وعلا في كل أمر شرعه الله سبحانه وتعالى، فليست الكرامة، وليست العزة، وليست السعادة هي في أمور هذه الحياة، المناصب تزول، المراكب، المشتهيات، المطعومات، المشروبات، كلها عرضٌ زائلٌ، فلا يبقى إلا القيام بالعبادة لله جل وعلا، القيام بالأعمال الصالحة، فالله عز وجل هو الذي خلقك، ربط جل وعلا بين الخلق والأمر كما قال سبحانه وتعالى: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] فينبغي على العبد أن يقوم بعبادة الله عز وجل، فالذي خلقك ورزقك وأنعم عليك بهذه النعم هو الذي أمرك بما في كتاب الله، وما في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، عليك أن تقوم بتحقيق هذه الأوامر، وما تحقيق هذه الأوامر إلا لسعادتك، ولصلاحك، ولسعادتك في الدنيا وفي الآخرة.(35/9)
العبادة والعقيدة
أهم العبادات التي يقوم العبد بها في جانب العقائد: جانب الوحدانية لله، جانب الألوهية لله عز وجل، تأليه الله سبحانه وتعالى، بمعنى أن كل أمر يجب أن يكون لله، العبادة لله، الذبح لله، الخوف من الله، النذر لله، التوكل على الله، والاستعانة والاستغاثة والرجاء والخوف كله بالله ومن الله جل وعلا، هكذا يجب أن يقوم العباد، فالمحقق للعبادة لا يخاف إلا الله؛ لأنه يعلم أن أجله وأن رزقه مقسوم، والله عز وجل هو الذي كتبه، وهو الذي يملك له الحياة، وهو الذي يملك له الموت، فلا يستطيع أحد في هذه الدنيا كائناً من كان أن يقدم من أجلك دقيقة، أو يؤخر دقيقة، أو يعطيك رزقاً منعك الله إياه، أو يجلب لك رزقاً منعك الله إياه، أو يحرم رزقك الذي أعطاك الله إياه وساقه إليك.
فهذه العقيدة ينبغي أن تصطبغ في حياتنا، وفي أمورنا العامة، وفي أمورنا العملية، فليست العقيدة قضايا نظرية فقط، وإنما هي في الحقيقة ينبغي أن تتفاعل وأن تتحول إلى سلوك في حياة الناس، وهذا أمر مهم ينبغي ألا نغيب عنه أبداً، وألا يغيب عن أمورنا.
فليس من العبادة، وليس من العقيدة أيضاً أنك تجعل للعبادة موسماً، أو وقتاً، أو مكاناً، ثم بعد ذلك تترك العبادة، فكما يقول بعض الناس، أو يتصور أن العبادة في المساجد، وأن العبادة في رمضان، أو أن العبادة في أشهر الحج، أو في موسم الحج، أو ما إلى ذلك من المناسبات الشرعية كما يقولون، هذا في الحقيقة قصور، وهذا في الحقيقة من الغزو الذي بلينا به، والذي حصل عند كثير من أبناء المسلمين لما عطلوا فهمهم لشعائر دينهم كما ينبغي، ولهذا في الطائرة مثلاً، في البر، أو العمل، أو الوظيفة لا تطالبنا بعبادة، لا تطالبنا بحلال وحرام كما يقول بعض الناس، سبحان الله! أدين الله في أماكن، ثم نعصي الله عز وجل في كثير من الأماكن، سبحان الله! هذا قصور في الفهم في أمور الدين، فأمور ديننا ينبغي أن تكون في كل أمورنا والإسلام نظام شامل لم يترك مجالاً من مجالات الحياة إلا كفله ونظمه وأصلحه ووضعه قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] ولهذا ينبغي أن نصطبغ بصبغة الإسلام، وصبغة العبودية لله أينما كنا {اتق الله حيثما كنت} في البر، في البحر، في الجو، في الوظيفة، في العمل، في البيت، في السوق، في الأسرة، في أمور الأموال، في أمور المعاملات، في البيع والشراء، في الأخلاق، في السلوك، في التعامل ينبغي أن نفهم الإسلام على أنه دين شامل، وعلى أن العبودية أمر واجب في كل مجال من المجالات التي جاء بها ديننا الإسلامي الحنيف.
أيها الإخوة الكرام! هذا هو الجانب الأول، وتلك هي القضية الأولى التي هي قضية العبودية لله جل وعلا.(35/10)
قضية الوحدانية
قضية الربوبية {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} [الحجر:99] هذا فيه تجريد العبادة لله عز وجل، العبادة ذلك الشرف العظيم الذي أمرنا به، والذي خلقنا الله عز وجل لتحقيقه ينبغي أن تكون لله سبحانه وتعالى، فالله عز وجل الخالق الرازق، المنعم المتفضل، المحيي المميت الذي بيده أزمة الأمور كلها، مالك النفع والضر سبحانه وتعالى، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، هو الله عز وجل الذي ينبغي أن يعبد، هو سبحانه وتعالى الذي ينبغي أن يوحد قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ} [الحجر:99] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ} [النساء:1] فالعبادة محض حق الله سبحانه وتعالى، فالربوبية مجالها عظيم، وهي إفراد الله عز وجل بأفعاله هو بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والنفع والضر، فلا يملك ذلك إلا الله سبحانه وتعالى، وينبني على ذلك قضية الألوهية التي هي قضية أنه مادام أيقنا واعتقدنا وآمنا أن الله سبحانه وتعالى هو الخالق الرازق، فيجب علينا أن نوحده، ويجب علينا أن نعبده حق عبادته، ينبغي علينا أن نفوض الأمور كلها إليه.
ولهذا لا يجوز للناس أن يلتفتوا إلى غير الله، لا ملجأ من الله إلا إليه، المخلوق الضعيف مشغولٌ بنفسه، عاجزٌ عن إدراك مصالحه حتى يحقق مصالح غيره، ينبغي أن نلتجئ إلى من بيده قلوب الناس جميعاً فلا نلتجئ ولا نستعين بمخلوق ضعيف مثلنا، بل نلتجئ إلى الله الخالق الرازق القادر جل وعلا، والإنس والجن يعجزون، الإنس والجن لا يستطيعون دفع ضرر، أو جلب نفع، ولا يملك ذلك إلا الله جل وعلا وحده، فينبغي أن تكون عقيدتنا وإيماننا مبدؤنا وثقتنا بالله عز وجل فوق كل شيء، وهذا في الحقيقة هو ما يميز أهل الإسلام، لما جعلت الجاهليات المعاصرة والحديثة من الإنسان، إما حيواناً ناطقاً، أو حيواناً صامتاً كما في النظرية الداروينية الجاهلية الإلحادية، ولما وضعت الأديان المحرفة من الإنسان مكبلاً بالخطيئة الموروثة التي فعلها آدم لما كان سبباً في هبوطه من الجنة إلى الأرض، وكان الإنسان عندهم مكبلاً بالأحزان والأوهام والخيالات والضلالات، أعز الله الإنسان وشرفه، وأعلمه قدره ومكانته، ورزقه من الطيبات، وفضله على كثير ممن خلق تفضيلاً.
إذاً: فالله عز وجل الذي خلقنا ورزقنا فلماذا نلتجئ إلى جمادات، أو إلى بشر ضعاف لا يستطيعون جلب نفع، أو دفع ضر، من الذي يملك الخير للناس ودفع الشر عنهم إلا الله، لما أصيبت الأمة بالحوادث والكوارث، لم يكن مخلصاً منها إلا الله عز وجل وحده قال تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17] وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [يونس:107] فالوحدانية لله والربوبية لله، فينبغي أن تكون هاتان القضيتان من القضايا المهمة في حياة المسلمين، وينبغي ألا تشغله قضايا المال، وقضايا الأعمال، وقضايا الوظيفة عن تحقيق هذا الأمر، فإيقاننا واعتقادنا ويقيننا بالله عز وجل وإيماننا به يبعث فينا الضمير الذي يراقبه جل وعلا في كل لحظة، ولهذا أمر الإخلاص لله، وأمر أداء الأمانة، والقيام بالمسئوليات على الوجه الشرعي كما يريد الله، وكما أمر الله عز وجل هذه قضية لا يقوم بها إلا من حققوا الإيمان، ولهذا لو علمت الجاهليات وعلمت النظم الأرضية اليوم ما يفعل الإسلام في تحقيق الرقابة الذاتية، وفي تكوين الشعور والإيمان الذي يجعله يراقب الله عز وجل، ويبعثه على مراقبة الله عز وجل، ويعتقد أن الله سيحاسبه، لو علمت ذلك، لربت شعوبها على الإيمان، فإذا أوجدنا الجيل المؤمن والفرد المؤمن، كسبنا القيام بأعمالنا على الوجه الصحيح؛ لأننا نطمئن أن صاحب الإيمان سيراقب الله.
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمةٍ والنفس داعيةٌ إلى الطغيان
فاستح من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ولا أن ما تخفي عليه يغيب
أفيظن أصحاب المعاصي، وأصحاب الانحرافات، والذين يخلون بما حرم الله عز وجل من سماع محرم، ومن نظر محرم، ومن قراءة محرمة، ومن ممارسة محرمة في أفعال وأقوال أبعدت القلوب عن خالقها وبارئها ورازقها، أفيظنون أن الله لا يراهم، ولا يطلع عليهم، ولا يراقبهم؟! قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
ينبغي أن نُكَون هذا الشعور في نفوسنا، وأن نعلم أن رقابة الله عز وجل ينبغي أن تكون شعاراً لنا وديدناً لنا في كل عمل نقوم به، وفي كل لفظ نتلفظه، لو وجد الجيل المراقب لله، لما وجدت من يعصي الله، لما وجدت من يخل بالعمل، لما وجدت من يقع في الظلم والغش والتزوير والتدليس، لما رأيت من يواقع معصية، لما رأيت امرأة تخالف شرع الله وتقع فيما حرم الله عز وجل، لما رأيت رجلاً يقع في أي أمر حرمه الله عليه.(35/11)
الموت ونهاية العبادة
أمر الرقابة، وأمر العبادة، وأمر الوحدانية لله ينبغي علينا جميعاً أن نحققه، ولكن هل نحققه في يوم، أو في شهر، أو في لحظات معينة، أو في مواسم نأتي بها من عند أنفسنا؟ ما هي الغاية؟
لقد أفصحت عنها الآية الكريمة: {حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وهذا يبين أن عبادة الإنسان لله، وقيامه بالواجب عليه ليس محدوداً بحد، ولا مغيئاً بغاية، لا يحول عن العبادة، ولا الطاعة، ولا القيام بأمر الله عز وجل إلا الموت، إلا مغادرة هذه الحياة، والموت تلك الحقيقة المرة القاسية التي هي في الحقيقة ثقيلة على نفوس الناس، ولا يريدها الناس بفطرهم، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [العنكبوت:57] حقيقة كتبها الله على الناس جميعاً، يموت الأغنياء، ويموت الفقراء، ويموت الأقوياء، ويموت الضعفاء، يموت الملوك وغير الملوك، يموت المسئول وغير المسئول، يموت الكبير والصغير والذكر والأنثى، إذاً هذه نهاية كل الناس داخلها.
الموت كأس وكل الناس شاربه والقبر بابٌ وكل الناس داخله(35/12)
معنى اليقين في الآية
السؤال الذي نسأله: ثم ماذا بعد ذلك؟
أيقنا أن هذه حقيقة ينبغي ألا تغيب عنا {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] واليقين كما فسره أهل العلم وأهل التفسير: الموت، كما فسر ذلك فيما نقل البخاري عدد من الصحابة رضي الله عنهم وعدد من التابعين كـ قتادة والحسن وعكرمة ومجاهد وسالم وغيرهم أن اليقين هو الموت، وقد دل على ذلك في كتاب الله عز وجل، قال الله عز وجل عن أهل النار عافانا الله وإياكم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:42 - 46] هذه حال أهل النار والعياذ بالله لا يصلون، لا يؤدون الزكاة، يقعون فيما حرم الله عز وجل، يكذبون بيوم الدين، لا يبالون بالبعث والنشور، لا يستعدون للقاء الله، ألهتهم هذه الحياة بمغرياتها ومادياتها وشهواتها.
فينبغي علينا أيها الإخوة! أن ننتبه لهذه الأمور، قال الله تعالى: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر:47] فاليقين هنا الموت كما في آية الحجر التي معنا.
وقد جاءت السنة أيضاً في بيان أن اليقين الموت، عندما دخل النبي عليه الصلاة والسلام على عثمان بن مظعون وقد مات، قال: {أما هو فقد أتاه اليقين، ولكني أرجو الله له الخير} فنبه على أن اليقين هنا هو الموت، وهنا لطيفة: أن اليقين هنا هو الموت خلافاً لما عليه بعض أهل الإلحاد الذين يقولون: إن اليقين هو المعرفة، يقولون: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ما هو اليقين عندكم؟ قالوا: المعرفة، تتدرج في سلم المعرفة حتى تعرف الله -كما يقولون- وحتى تصل إلى درجة تسقط عنك فيها التكاليف، وحتى تصل إلى درجة والعياذ بالله يكون العبد فيها معبوداً والمعبود عابداً والعياذ بالله كما قالوا:
العبد ربٌ والرب عبدٌ يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبدٌ فذاك ربٌ أو قلت ربٌ أنى يكلف
حمقٌ وجهلٌ وسفسطةٌ وفلسفة خلاف دين الله عز وجل، وما على ذلك من غلاة المتصوفة الذين يرون أن اليقين هنا هو المعرفة، أو أن الإنسان يعبد الله يصلي حتى يصل إلى درجة معينة، ثم تسقط عنه التكاليف، فهذه الآية ردٌ عليهم، وهذه الآيات والأحاديث تدل على أن عبادة الإنسان وطاعته تجب عليه ما دام عقله معه، وما دام يعيش على هذه البسيطة يجب عليه أن يقوم بعبادة الله، وليس معنى ذلك -كما قلت يا إخوان- أن ندخل المسجد فلا نخرج منه، أو أن نمسك المصاحف فلا نتركها، لا.
بل نفهم العبادة، ونفهم الدين على أنه مجالٌ واسعٌ في كل مجال من المجالات حتى الأعمال الوظيفية يخلص فيها العبد النية لله عز وجل، فتندرج ضمن العبادات، وهذا أمرٌ ينبغي أن نتنبه له.(35/13)
الموت والاتعاظ به
الموت تلك الحقيقة التي نغفل عنها لما كبلنا بالماديات والأعمال والشهوات والوظائف والمناصب والكراسي، فأصبح بعض الناس يغفل، أما يفكر أين أبوه؟ أين أجداده؟ أين الناس الذين قبله؟
أين الملوك ذوو التيجان من يمنٍ وأين منهم أكاليلٌ وتيجان
وأين ما شاده شداد في إرم وأين ما ساسه في الفرس ساسان
أتى على الكل أمرٌ لا مرد له حتى قضوا فكأن القوم ما كانوا
فإذاً علينا أن نستعد لهذه القضية ولهذه الحقيقة التي نحن قادمون عليها، ولكن ماذا بعد الموت أيها الإخوة؟
الموت باب وكل الناس داخله فليت شعري بعد الموت ما الدار؟!
الدار دار نعيمٍ إن عملت بما يرضي الإله وإن خالفت فالنار
فلو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شيء
{لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيمَ أفناه، وعن شبابه فيمَ أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه، وعن علمه ماذا عمل فيه} هذه أسئلةٌ ينبغي أن نعد لها جواباً، وينبغي علينا أيها الإخوة ألا نطيل الأمل [[إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك]] هذه الدنيا إن أسعدتنا قليلاً بهذه الشهوات فإنها لن تدوم، هذه الشهوات لن تدوم، هذه الماديات لن تدوم، إما تنتقل عنا، أو ننتقل عنها، فينبغي علينا أن نعتبر، وأن نعد العدة لما بعد هذه الحقيقة التي سنقدم عليها، وأن يكون عند الإنسان إحساسٌ بها، وقد غفلنا عنها، والله لما أهملنا الصلوات الخمس مع الجماعة، ولما أذن المؤذن ونحن سادرون وغافلون ومنهمكون في دنيانا، غفلنا عنها لما ضيعنا أبناءنا وأسرنا، كثير من أبناء المسلمين وقعوا فيما حرم الله، بدل أن يعرفوا طريق المساجد عرفوا طريق قرناء السوء، المسكرات، المخدرات، المشكلات، المصائب التي جرت عليهم وعلى مجتمعاتهم فساداً عريضاً.(35/14)
الاستعداد للموت
يجب علينا أن نستعد لهذه الحقيقة يا من قصرنا في معاملاتنا، أكلنا الربا، وتساهلنا في الرشوة، ووقع بعضنا في الخيانة، يجب علينا أن نستعد لهذه الحقيقة يا من بخلت بزكاة مالك، ويا من ضيعت عمرك ووقتك عبر محرم من المحرمات أغنيات ماجنة، أو منظر محرم، أو فيلم يذكي فيك الغريزة، ويبعدك عن ربك، ألم تعلم أن أوقاتك محسوبة عليك، وأن ساعاتك مدونة عليك، وأن الله سائلك عن كل دقيقة؟ الوقت يمر، الوقت يمضي، فعليك أن تتزود من محطة من المحطات التي ينبغي أن تتزود فيها من الأعمال الصالحة، لا يمر علينا العمر هكذا، لا تمر علينا هذه الأعمار نمسي ونصبح ونحن في عجلة من الزمن لا ندري إلى أين نحن صائرون، ألا نعتبر بما يقع من الحوادث والكوارث عند الناس، نسمع هكذا أن فلاناً مات، وأن فلاناً انتقل من هذه الحياة، ألا نصور أنفسنا مكانهم؟! ثم نعلم أننا محشورون، وقائمون أمام الله عز وجل في موقف عظيم، وقبله موصدون وموضوعون في حفرة ضيقة لا أنيس فيها إلا العمل الصالح، هل سأل الإنسان نفسه هذه الأسئلة؟ فإن ذلك يدفعه إلى العمل الصالح أن يقول خيراً، أن يحب الخير للناس، أن يطهر قلبه من الأحقاد والضغائن والحسد والغيبة والنميمة، أن تتقي المرأة ربها، فتلتزم بحجابها وعفافها وحيائها وحشمتها، وبعدها عن الاختلاط بالرجال وإبداء الزينة أمامهم، كل هذه أمورٌ ينبغي أن نستعد بها وفيها أمام ربنا جل وعلا.
هذه القضايا الثلاث أيها الإخوة الكرام: قضية العبادة، وقضية الوحدانية والربوبية، وقضية الموت والنهاية، كل تلك قضايا تضمنتها هذه الآية العظيمة، وهي آية كريمة ينبغي أن نقف عندها طويلاً، وأن نعرض أنفسنا وأعمالنا وأقوالنا عليها، وأن ننظر في أنفسنا، وأن نحاسبها: هل نحن حققنا هذه الأمور أم نحن قصرنا فيها؟
وحري بالعبد وعلى من علم عظمة الله، وعلم قدرة الله، وعلم واجبه تجاه ربه جل وعلا، وشكر نعمة الله عليه الذي خلقه ورزقه وحباه وكلأه وهيأ له النعم؛ أن يقوم في هذه الأيام بعبادة الله، فإن العمر قصير، آجالٌ محدودة، وأنفاس معدودة، أجل مقسوم، ووقت محسوم، ثم بعد ذلك سؤالٌ وحشرٌ ونشرٌ وجنةٌ أو نارٌ، عذاب ٌلا نعيم بعده، أو نعيمٌ لا عذاب بعده.
نسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعلنا وإياكم ممن حقق هذه الأمور كلها بمنِّه وكرمه، كما نسأله تعالى بأسمائه الحسنى أن يرزقنا حسن عبادته، وأن يرزقنا القيام بها على الوجه المطلوب، كما نسأله تعالى أن يغفر لنا ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا في أمرنا، وأن يتوب علينا إنه جوادٌ كريم، كما نسأله تعالى أن يوفقنا للاستعداد للقائه، وأن يحسن خاتمتنا وعاقبتنا، وأن يصلح فساد قلوبنا وأعمالنا إنه جوادٌ كريم، ونسأله تعالى أن يجمعنا بكم دائماً وأبداً على طريق الخير والحق والإرشاد والتذكير، والتعاون على البر والتقوى، ونسأله تعالى أن يجمعنا بكم في دار كرامته كما جمعنا بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك.
شكر الله لكم حضوركم وإنصاتكم، وبارك الله فيكم، وشكر الله لإخواننا المسئولين في الخطوط السعودية الذين أتاحوا لي هذا اللقاء الطيب المبارك، والذين ترك بعضهم أعماله، وأتى وشرفنا في هذا اللقاء الأخوي، شكر الله للجميع، وجعل ذلك في موازين الأعمال، وجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خير خلقه نبينا محمدٍ وعلى آله وصحبه، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(35/15)
الأسئلة
.(35/16)
السبيل إلى مجاهدة النفس
السؤال
ما هو السبيل إلى مجاهدة النفس، وإخلاص النية في جميع الأقوال والأفعال؟ وجزاكم الله خير الجزاء على إجابة هذا السؤال؟
الجواب
أحمد الله تعالى، وأصلي وأسلم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسانٍ إلى يوم الدين.
لا شك أن هذه الطرق الثلاث، أو هذه القضايا الثلاث الرئيسية التي ذكرناها ضمن الحديث تحتاج إلى مجاهدة، وتحتاج إلى عمل؛ لأن هناك أعداء يريدون إشغالنا عما خلقنا له.
إبليس والدنيا ونفسي والهوى كيف الخلاص وكلهم أعدائي
فشياطين الإنس والجن مع النفس الأمارة بالسوء والهوى كل هؤلاء حريصون على إضلالنا وإبعادنا، وأن نكون معهم في نار جهنم والعياذ بالله! كما حرص الشيطان الرجيم -أعاذنا الله منه- على إغواء بني آدم، وأنه سيأتيهم من أيديهم ومن خلفهم، وعن أيمانهم، وعن شمائلهم إلى آخر ما ذكر الله عز وجل عنه، فينبغي على العبد أن يجاهد نفسه، وطرق مجاهدة النفس تأتي ضمن عدة أمور:
الأمر الأول: الدعاء والالتجاء إلى الله عز وجل، فهو سبحانه الذي يعين، ولهذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكثر من دعاء: {اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} ويقول: {يا معاذ! إني لأحبك، فلا تدعن دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}.
إذا لم يكن عونٌ من الله للفتى فأول ما يجني عليه اجتهاده
الأمر الثاني: أن يأخذ الإنسان بطرق مكافحة الشيطان، أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم دائماً وأبداً، ويسأل الله دائماً أن يعيذه من شرور نفسه وسيئات عمله، وأن يدله على الصراط المستقيم، وأن يثبته عليه، ثم عليه أن يأخذ بعوامل الثبات، يقبل على كتاب الله عز وجل، يقوي الإيمان في قلبه عن طريق تقوية الإيمان المعروفة: قراءة القرآن، الأذكار الشرعية، صلاة الفرائض وصلاة النوافل، والصدقات، والتطوع، والواجبات، وأيضاً من ذلك أن يشتغل الإنسان بالطاعات، ويبتعد عن المعاصي، فإن المعاصي تقرب الإنسان مما يبعده عن الله عز وجل، وتأخذ به رويداً رويداً حتى تقذف به بعيداً عن جادة الصواب والعياذ بالله، ولهذا يجب على المسلم ألا يستقل صغيرة، لا يقول أنا لم أصلِّ السنن، وهذه سنن ويتساهل فيها، عليه أن يأخذ نفسه بالجد، ولا يضع لنفسه ثغرة من الثغرات، فإن الشيطان حريص أن يتسلل منها إلى قلبه، وإلى دينه وإيمانه.
الأمر الثالث: عليه أن يلتمس الجلساء الصالحين، وهذه قضية مهمة.
إذا ما صحبت القوم فاصحب خيارهم ولا تصحب الأردى فتردى مع الردي
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرينٍ بالمقارن يقتدي
إذا مشى الإنسان مع الذين يصلون ويذكرون الله ويطيعون الله؛ صار منهم، وإذا مشى مع الذين يلعبون ويلهثون ويلغون ويرابون ويسكرون ويعبثون في هذه الدنيا؛ أصبح منهم، فالتمس لك قريناً صالحاً، والتمس لك خلاً صادقاً وفياً، فإن هذا مما يعينك على مجاهدة نفسك، لازم العلماء، استفد منهم عبر مجالستهم، أو مجالسة أصواتهم والاستفادة منهم عبر محاضراتهم وندواتهم.
الكتاب الإسلامي، الشريط الإسلامي، الالتزام بالرفقة الصالحة، كل ذلك ومما يعين على مجاهدة النفس، البعد عن المعاصي، لا نستمرئ المعاصي، إذا كثر إمساسنا للمعاصي، قل إحساسنا لها، ولهذا تجد بعض الناس الذين واقعوا كثيراً من المعاصي يعدونها سهلة، وإن كان ثبت {أن الإنسان المنافق يرى ذنوبه كذباب وقع على أنفه، فقال له هكذا فطار، والمؤمن يرى ذنوبه كأنه جبل يريد أن يقع عليه}.
{إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} [المؤمنون:57] إلى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:60 - 61] هذه بعض الوصايا التي تعين الإنسان على أن يسلك مجاهدة النفس، وطريق الثبات، وعليه أن يسأل الله دائماً وأبداً الثبات على الحق، فمن نحن عند أفضل الخلق على الإطلاق الذي قام الليل حتى تفطرت قدماه؟ وكان يقول: {يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك} يقوم الليل حتى تتفطر قدماه! فقلوبنا نحن قاسية الآن، وعلينا أن نسأل الله الثبات، ثم علينا أيها الإخوة أن نتذكر الموت، نزور المقابر، نتذكر الآخرة، نأخذ برصيد، لا تشغلنا هذه الحياة بزخارفها وشهواتها، كل ذلك بإذن الله عونٌ على مجاهدة الإنسان نفسه، وسيره على الطريق المستقيم، نسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من أهل ذلك؟(35/17)
واجب رجل الخطوط الجوية تجاه دينه
السؤال
ما هو واجب رجل الخطوط السعودية تجاه دينه لكونه أول واجهة لهذا البلد الإسلامي الذي حباه الله تعالى بنعمة الإسلام؟
الجواب
الحقيقة هذا سؤال غاية في الأهمية، وليته كان عنوان المحاضرة، لكن أشير إشارة بشيء على ما ينبغي أن يكون عليه المسلم.
أولاً: المسلم أياً كان موقعه مطالبٌ بالالتزام بهذا الدين، والقيام بما أوجب الله عليه، وأن يكون متحلياً بما فرض الله عليه، متخلياً عمَّا حرم الله عليه، فكيف بالرجل الذي يقوم بعمل من أهم الأعمال، ومن أكثرها ملامسةً للجمهور، وهي في الحقيقة الواجهة -كما تفضل الأخ- التي يواجهها أي قادم لهذه البلاد، بل هي حلقة الوصل في الحقيقة بين المسافرين وبين محطات سفرهم.
عليه أولاً: أن يستشعر أنه عضوٌ في مجتمعٍ شرفه الله بالإسلام، نحن في هذه البلاد شرفها الله وحرسها، وأدام عليها نعمة العقيدة والإيمان، ونعمة تحكيم شريعة الإسلام، ووفق ولاة أمرها إلى ما فيه الخير للمسلمين جميعاً في مشارق الأرض ومغاربها، وجزاهم خيراً على ما قدموا ويقدمون من خدمات جُلَّى للمسلمين، أقول نحن في هذه البلاد لسنا كغيرنا، ومن الخطأ أن نكون كغيرنا، نحن في هذه البلاد دستورنا كتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، منهجنا منهج الإسلام، يجب علينا أن نتمسك به، وأن نلتزم به، وأن يُرى الإسلام متمثلاً في كل مجال من المجالات، وفي كل مكان من الأمكنة في هذه البلاد المباركة، وهذا ولله الحمد والمنة موجود في جملته، ولكن الكمال لله وحده، والقصور من طبع البشر، يحصل فينا قصور وأخطاء، ولكن علينا أن نحاسب أنفسنا، وأن نصلح من أخطائنا، وألا نستمر فيما عرفنا أنه خطأ محض، والحمد لله فإن الله عز وجل قد شرفنا بهذا الدين، وأكرمنا أيضاً بنعمة العقل والتمييز والإدراك والتفريق بين الحق والباطل.
أقول: إن عضو الخطوط السعودية أول ما ينبغي أن يحمله: إيمانه وعقيدته والتزامه بالإسلام الذي يجعله لا يمارس عملاً يخالف هذا الدين، لا يقع في أمر يخالفه ويحرمه الإسلام، هذا جانب مهم عليه أن يتمثل هذا الدين وهذه العقيدة في كل مكان.
الأمر الثاني: عليه أن يلتزم بالإسلام ظاهراً وباطناً، ثم عليه أن يعتز بذلك لا ينظر لنفسه على أنه دون غيره، وأن المكانة واللياقة والمكان العظيم والتقدم إنما هو في غير ما تقوم به، الذي أعلمه أن الخطوط السعودية ولله الحمد والمنة تكاد تكون من أفضل الخطوط في العالم من حيث الإمكانات المادية، بل ومن حيث الالتزام أيضاً، وهي أسلم ولله الحمد والمنة من غيرها، أو من كثير من الخطوط فيما يعرض فيها، لكن مع ذلك كلنا يدرك أن ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وأن ما يحصل من أمور تخالف الإسلام وتخالف الشريعة، وهي ولله الحمد والمنة معدودة بالأصابع وقليلة ينبغي علينا ألا نيأس في حلها، ونحمد الله أن ولاة أمرنا يفتحون صدورهم، ويحبون كل ما فيه إبداء النصح لهم، وإبداء النصح فيما فيه الخير لهذه البلاد أمام الشعوب الإسلامية؛ لأن الشعوب الإسلامية حينما تأتي إلى هذه البلاد كأنها تريد أن ترى جيل الصحابة، وجيل العهد النبوي الذي كان فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي أن نكون عند حسن الظن، أنا ألخص الأمر في أمور حتى لا يضيع الوقت.
أولاً: يعلم أنه عضو مسلم تسلح بالعقيدة.
ثانياً: عليه أن يلتزم بالإسلام ظاهراً وباطناً.
ثالثاً: عليه أن يمثل واجهة لهذا الدين، الذي يحضر إلى هذه البلاد يرى في رجل الخطوط السعودية المسلمة الالتزام بالإسلام حقيقة، فلا يخالف شيئاً من الإسلام، لا يكذب في حديثه، لا يخلف في موعده، لا يقع فيما يخالف السلوك الإسلامي الحسن، ينبغي علينا أن نتخلق مع القادمين والمسافرين والمغادرين، لا سيما الذين يأتون من الحجاج والمعتمرين أن نتمثل أمامهم بأحسن صورة بالأخلاق الطيبة، بالتعامل الحسن، والتفاني في خدمتهم، واحتساب هذا عند الله عز وجل، فهذا أمر يؤجر عليه الإنسان، أيضاً جانب الخلق جانب مهم، أيضاً معالجة بعض الظواهر التي نراها، وهي في الحقيقة معروفة، ينبغي علينا أن نلتزم بكل ما يمليه علينا ديننا وكفى.
هذا هو المطالب به رجل الخطوط السعودية من حيث كونه يحمل الإيمان في جنبيه، ويحمل العقيدة بين جوانحه وتعاليم الإسلام في سلوكه وأخلاقه وأعماله الظاهرة والباطنة، لكن السؤال الذي نطرحه: هل طُبِّقَ هذا؟ وهل قمنا بهذا أم لا؟
هذا سؤال يطرحه كل فرد من أفراد مؤسسة الخطوط العربية السعودية على نفسه، والحقيقة لا نعدكم شيئاً آخر، وإنما نحن منكم وفيكم، وأنتم منا وفينا، وكلنا أسرة واحدة، والإنسان يكمل نقص أخيه، الخطأ ولا شك موجود والتقصير حاصل، لكن علينا من الآن أن نسعى بجد واجتهاد، وأن نفتح مجالات الإصلاح قدر المستطاع، والحمد لله سرنا ما لقينا من إخواننا في التوعية، وأيضاً بلغنا الكثير من المبادرات الطيبة التي قام بها المسئولون في الخطوط السعودية، والمسئولون في هذه البلاد وفقهم الله قاموا بخطوات جبارة، فقد سمعنا أموراً سرتنا كثيراً فيما يتعلق بصون حرمات المسلمين وسلامة أعراضهم من أمور قد يراد بها غير ذلك، ولكن ولله الحمد والمنة وقفوا؛ لأن هذه أمور تخالف عقيدتنا، وتخالف شريعتنا، وتخالف إسلامنا، ولا شيء إلا وفي الإسلام له حل، وفي تعاليم الإسلام له علاج، لكن علينا بالصدق مع الله عز وجل، والمبادرة والعزم، وإنكم لفاعلون إن شاء الله، لكن الذي أوصي به الإخوة الأفاضل الملتزمين الطيبين أن يسعوا في حل ذلك بالطرق السليمة، وأن يدعُوا إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وأن يغمروا الناس بحسن أخلاقهم وحسن تعاملهم وتفانيهم في العمل ليكونوا قدوة عملية ليستطيعوا من خلالها الوصول إلى تحقيق المجالات التي ينبغي أن تصلح، وهي ولله الحمد والمنة في طريقها إلى الإصلاح، وولاة الأمر كما نحسبهم كذلك، ولا نزكيهم على الله لا يألون جهداً في تحقيق كل ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين، والحمد لله.(35/18)
استخدام الممتلكات العامة في الأغراض الشخصية
السؤال يقول: فضيلة الشيخ/ عبد الرحمن السديس المحترم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ذكرتم في المحاضرة القيمة أن الشخص في عمله يعتبر في عبادة، فما حكم استخدام الهاتف لأغراض شخصية؟ وكذلك الأمر بالنسبة لأدوات المكتب ومحتوياته؟
الجواب
لا شك أن مراقبة الله عز وجل يجب أن تكون في كل مجال، وفي كل أمر، وفي كل نهي، وفي كل فعل، وفي كل ترك، وفي كل مكان من الأماكن ينبغي أن يتقي اللهَ العبدُ، وأن يقوم بواجبه، وأن يعلم أن الله مطلعٌ عليه، ومن أهم ما يميز الموظف المسلم أمانته ونزاهته وخوفه من الله، وقيامه بعمله على الوجه المطلوب، وعدم استغلال عمله لأغراضه الشخصية، ولهذا فالذي أراه أنه لا يجوز للفرد العامل في مؤسسة، أو دائرة حكومية، أو غير ذلك أن يستغل ذلك في أموره الشخصية، بل عليه أن يتقي الله عز وجل، وأن يعلم أن الله سائله عن كل ذلك لا السيارات، ولا الهواتف، وغير ذلك من الإمكانات، اللهم إلا إذا كان في حدود عمله، أتصل بالهاتف في حدود عملي، أذهب في السيارة التي أعطيتها في حدود عملي، وما يسمح لي مجالي، وما يراه ولاة الأمر عني، فهذا أرجو ألا حرج فيه إن شاء الله، أما استغلال أموال المسلمين في أمورنا الشخصية، فلا ينبغي، ولا يليق، وينبغي أن يعلم أن الله عز وجل سائله عن ذلك، وعليه أن يتحلى بالأمانة والنزاهة والإخلاص أولاً لله عز وجل، ثم القيام بما أسند إليه من أعمال -أسندها إليه ولاة الأمر- لأنه عند حسن الظن، أما إذا كان خائناً، وإذا كان يستغل الأمور لصالحه وأموره الشخصية، فهذا في الحقيقة قصر في شيء من الأمانة، ووقع في شيء من الخيانة، اللهم إلا ما يمليه عليه عمله، والله أعلم.(35/19)
حكم الوقوف لبعض الأشخاص
السؤال
ما حكم الرجل الذي يحب أن يقف الناس له وهو جالس على مكتبه؟
الجواب
على كل حال نحن قدمنا في أن الإنسان ضعيف، الإنسان خلقه الله عز وجل، وكلنا يعرف أساس خلقه قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْأِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق:5 - 7] لماذا التكبر؟ ولماذا الغطرسة؟ ولماذا الغرور؟ ولماذا النظر إلى الناس، والتعامل معهم معاملة الخيلاء، والبطر، وحب الذات والنفس؟ كل ذلك في الحقيقة ضعف إيمان، وفي الحقيقة أيضاَ يدل على أن الإنسان لم يتفكر في خلقه، رأى بعض السلف رجلاً متكبراً، فقال: أنت من أنت؟ أنت أصلك نطفةٌ قذرة، وآخرك جيفةٌ مذرة، وبين جنبيك تحمل العذرة، فلماذا التكبر؟ وقد ورد: {من أحب أن يتمثل له الناس قياماً، فليتبوأ مقعده من النار} الحاصل أن على العبد أن يتسم بالتواضع لله عز وجل، ويعلم أنه إن لم يسخر عمله ومنصبه ومكانته وكرسيه لخدمة الناس ونفعهم والتواضع لهم، وسماع أقوال الناس، وكون بابه مفتوحاً لجميع الناس، فإن معنى ذلك أنه وقع في أمر يبعده عنهم ويبغضه لهم، والمتكبر بعيد من الله، بعيد من الناس ويمقته الناس على عمله؛ لأنه في الحقيقة تعدى قدره، لماذا يشمخ الإنسان بنفسه؟ ولماذا يتطاول على الناس؟ من هو؟ هو والناس سواء، الناس سواسية {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].
أقول إن هذا الأمر لا ينبغي، ولا يليق، بل إن على الإنسان أن يتسم بالتواضع، ولكن لا ينظر الإنسان الفقير إلى هؤلاء، لا تنظرون إلى من هو فوقكم، وإنما انظروا إلى من هو دونكم، فهو أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم، إذا رأيت أن هذا متكبر، فانظر إلى آلاف الناس الفقراء والمساكين والمتواضعين، وهذا إنما في الحقيقة يجني على نفسه، وكفى بالكبر مرضاً وداءً وإثماً أنه كان سبباً في إنزال إبليس وإبلاسه وإبعاده من رحمة الله عز وجل؛ لأنه تكبر على الله وأبى عن السجود لآدم عليه السلام.(35/20)
حكم الوساطة
السؤال
ما حكم ما يحدث في الدوائر الحكومية من الوساطة للتوظيف أو العلاوات أو غيرها؟
الجواب
على كل حال دائماً الصراحة محببة للنفوس تدل في الحقيقة على أن هناك من يتمحض النصح بين جوانبه، وحاجتنا إلى العنصر الصريح أكثر من حاجتنا إلى المجامل؛ لأن المجامل أحياناً يضرنا على حساب مصلحة الجميع، فيظهر لك الشيء على أنه حسن، وهو غير حسن، ويبدي لك الحسن سيئاً، بينما العنصر الصريح والحمد لله اكتشفت مواهب من طرح هذه الأسئلة شكر الله لهم وجزاهم الله خيراً، وهذا دليل على الإيمان في نفوسهم، وتقدير أيضاً للمسئول، فهذا لا ينافي أننا مع إبداء النصح أننا لا نحب المسئول، أو لا نطيعه ولا نمتثل أمره فيما يتمشى مع الشرع.
أقول: إن الواسطة، ليست أمراً خاصاً في دائرة، أو مؤسسة، أو مكان، هذا أمر يعم الناس جميعاً، الحقيقة فيه تفصيل فيما يعرف بالشفاعة وهي شرعية، قال الله عز وجل: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا} [النساء:85] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {اشفعوا تؤجروا ويقضي الله على لسان نبيه ما يشاء} فإذا كان الإنسان مظلوماً، ويشفع له ليرد ويبعد عنه الظلم، أو كان حقه التقديم فيؤخر، إلى آخره، أو منع من حقه، فلا مانع من الشفاعة له، أو كان هناك فرص متاحة، ويريد أن يشفع له في هذا، فهذا لا بأس به.
أما الواسطة التي فيها ظلم للناس، وفيها رفع للناس على حساب آخرين، وفيها إعطاءٌ للناس على حسب مراتبهم وأماكنهم، وإهانة ودوس على حق الضعيف المحتاج، فهذا أمر لا يجوز، فإذا كانت لا تحق باطلاً، ولا تبطل حقاً، فأرجو أن الأمر فيه سعة إن شاء الله.
لعل فيما حصل إن شاء الله كفاية وبركة، ولا نحب أيضاً أن نطيل عليكم، ولا نحب أيضاً أن نتخطى الجدول المرسوم، فقد اطلعت على جزأين في الجدول الذي أعده الإخوة لنا، إنما إن شاء الله هذا لقاء تعقبه لقاءات إن شاء الله مني، أو من غيري من الإخوة.
نسأل الله تعالى أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، ويرزقنا وإياكم العمل الصالح والعلم النافع، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(35/21)
تحقيق العبودية
لقد خلق الله الإنسان لحكمة عظيمة تتجلى في قول المولى عز وجل: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فهذا هو واجب المسلم في الحياة، ولقد عرّف العلماء العبادة بمفهومها الشامل.
وهناك من أساء فهم العبادة فأحدث ما أحدث -والعياذ بالله- وأخرجها عن شروطها التي وردت عن محمد صلى الله عليه وسلم، وعن مقتضاها الشرعي في الشريعة الإسلامية.(36/1)
الحكمة من خلق الإنسان
الحمد لله الذي خلق الخلق لعبادته، وأمرهم بتوحيده وطاعته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أكمل الخلق عبودية لله، وأعظمهم طاعة له، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تأسى به واهتدى بهديه إلى يوم المعاد، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واعلموا أنكم لم تخلقوا عبثاً ولن تتركوا سداً، وإنما خلقتم لمهمة عظيمة، وغاية جسيمة شريفة، ألا وهي تحقيق العبودية الحقة لله وحده، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وبعبادة الله وحده لا شريك له أمر الناس كلهم، قال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21]، وقال عز وجل: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة:5] وقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23].(36/2)
العبادة حق الله على العباد
وعبادة الله وحده لا شريك له، خلاصة دعوة الرسل وأولها وأصلها، يقول عز من قائل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقال جل شأنه: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وكل رسول يقول لقومه: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون:32].
إخوة العقيدة: إن عبادة الله هي أوجب الواجبات، وآكد الحقوق، فحق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، كما صح في ذلك الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل رضي الله عنه، كما إنها وسام العز والشرف في الدنيا والآخرة، وقد وصف الله بها أكرم خلقه وصفوتهم من الملائكة والرسل عليهم الصلاة والسلام، كما وصف بها خاتمهم وأشرفهم محمداً صلى الله عليه وسلم في أكمل أحواله وأشرف مقاماته، فهنيئاً لمن اتصف بها حقاً، مشاركة خير خلق الله في هذه المنزلة العظيمة والمكانة السامية.(36/3)
تعريف العبادة
أيها المسلمون: إن العبادة التي أمرنا بها كلمة جامعة وعبارة شاملة ونطاق واسع، فهي ليست محصورة بعدد من الشعائر، وليست مقصورة على نوع من المكان، ومرحلة من الزمان، وليست محدودة بجملة من الأعمال، بل هي: اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة وهي بهذا التعريف تشمل كل ما يصدر عن المسلم من الأعمال القلبية والبدنية والمالية المشروعة، حتى العادات تتحول إلى عبادات إذا قارنتها نية صالحة، ولا تنقطع العبادات إلا بالموت، قال تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] وعبادة الله وحده، هي السر في انتصارات المسلمين وعزتهم وأمنهم وتمكينهم في الأرض.(36/4)
مفهوم العبادة الخاطئ عند الناس
وقد أساء كثير من الناس اليوم في مفهوم العبادة، وقصروها -جهلاً منهم وضلالاً- على عدد من الأعمال التعبدية، وجهلوا بعد مراميها وكثرة متضمناتها، وسعة أبعادها، ولسان حال الكثير منهم يقول: الدين في المسجد ليس إلا -والعياذ بالله- ويبرز هذا جلياً في الناحية العملية التطبيقية، فهل عبد الله حق عبادته من أدخل في عبادته غيره، وجعله شريكاً له يدعوه ويستغيث به، ويعول في أموره عليه؟
وهل عبده حق عبادته من زاد في دين الله، وأحدث في شريعته ما لم يأذن به؟
وهل عبده من دنس معاملاته وأخلاقه بالمعاملات المحرمة، فبيعه وشراؤه وسائر معاملاته لا تسلم من الطرق المحرمة، فأكل الربا والتحايل على أكله، وغش المسلمين وظلمهم وخديعتهم ديدنه وطريقته.
أين العبادة في أفعال هؤلاء الذين آثروا الحياة الدنيا وخدعوا بحطامها وشهواتها وهي وبال عليهم وحسرة وندامة يوم القيامة، يوم يقفون أمام جبار السماوات والأرض، ويسألهم عن أموالهم من أين اكتسبوها وفيما أنفقوها؟ وهل عبد الله حق عبادته من ضيع وقته وأفنى عمره في معصية الله، باللهو واللغو القولي والعملي؟ أين نصيب العبادة في أوقات هؤلاء؟!
أنسوا أن الله سائلهم عن أعمارهم فيما أفنوها؟ وأوقاتهم فيما شغلوها؟ إن هؤلاء وأمثالهم قد تركوا عبادة الله، وأصبحوا عبيداً لأهوائهم وعبيداً لشياطينهم؟ وقد حذرنا الله من عبادة الشيطان والهوى فقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس:60 - 61] وقال: {أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23].
فاتقوا الله -أيها المسلمون- وقوموا بواجب الله عليكم في عبادته، فأنتم تعاهدونه في كل ركعة من ركعاتكم على ذلك حينما تقرءون قوله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ولكن قل من يتنبه لها ويفهمها ويعمل بمقتضاها، والله المستعان!
اللهم اجعلنا من عبادك الصالحين وحزبك المفلحين، وارزقنا العمل لوجهك الكريم، واجعلنا ممن عبدك حق عبادتك يا كريم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(36/5)
شروط صحة العبادة
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى، واعلموا أن العبادة لا تسمى عبادة ولا تنفع صاحبها عند الله إلا إذا توفر فيها شرطان:
أولهما: أن تكون خالصة لله وحده، ليس فيها شرك ولا رياء ولا سمعة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {قال الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه}.
ثانيهما: المتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، وذلك بأن تكون الأعمال على وفق سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهديه، سليمة من شوائب البدع والمحدثات، وقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وفي رواية مسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
فاتقوا الله عباد الله واعبدوه حق عبادته، وابتغوا بأعمالكم كلها وجه الله، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على من عبد الله حق عبادته، الذي قام في عبادة ربه حتى تفطرت قدماه، نبينا محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في قوله سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن صحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم ارض عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين ودمر أعداء الدين واجعل كيدهم في نحورهم يا رب العالمين.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين، وأعداء المسلمين، اللهم عليك بهم عاجلاً غير آجل، اللهم اكفِ المسلمين شرورهم يا أرحم الراحمين، اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم وفق إمامنا لهداك، اللهم وفقه لما تحب وترضى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة يا رب العالمين، اللهم منّ على المسلمين جميعاً في كل مكان، بصلاح قادتهم وعلمائهم ونسائهم وشبابهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم سقيا رحمة لا سقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم: وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(36/6)
محاضرة في منى
إن شعيرة الحج هي تلكم العبادة العظيمة التي أشاد الإسلام بفضلها، وضمن الله عز وجل الجنة لمن قام بها على وجهها الشرعي.
إن هذه العبادة تمثل جوانب شتى في حياة المسلم، منها تذكر المسلم بالغاية التي خلق لها، ومنها ينطلق إلى تصحيح العقيدة وإفراد الخالق بالعبودية.
والدعوة إلى الوحدة والتحام الصف.
ويجب استغلال مثل هذه المواسم في المسارعة إلى الخيرات ومحاسبة النفس وتغيير وإصلاح الأوضاع.(37/1)
فضل الحج ومنزلته في الدين
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله وحبيبه وخليله، وصفوته من رسله، الذي بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان، ممن دعا بدعوته واستقام على سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: أحييكم بتحية الإسلام، فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأعتذر للتأخير الذي حصل، والحمد لله أنه لم يكن طويلاً، ولعل هذا التأخير يكون باعثاً على الشوق للسماع والعناية به، أضف إلى ذلك الأجر والثواب الذي يعده الله جل وعلا لمن حضر مثل هذه المجالس مخلصاً للنية، ورابط وتعب حرصاً على سماع الذكر، نسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم منهم.
أيها الإخوة في الله: يطيب لي في هذا اللقاء الطيب المبارك أن أتوجه إلى الله جل وعلا بالشكر والثناء؛ أن منَّ علينا بهذا اللقاء الطيب المبارك، الذي يجمع بين شوق المكان في مهبط الوحي ومنبع الرسالة، هذا البلد الأمين الذي شرفه الله عز وجل وعظمه وأعلى ذكره، وفضله على بقاع العالمين.
ثم في هذا الزمان المبارك الذي نعيشه هذه الأيام وهو موسم الحج إلى بيت الله الحرام، تلكم العبادة العظيمة التي ضمن الله عز وجل الجنة لمن أداها على وجهها الشرعي، دليل ذلك قول المصطفى صلى الله عليه وسلم في حديثه كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: {من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه} وفيهما عنه رضي الله عنه: {والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة}.
إننا في هذا اليوم المبارك في أول أيام التشريق، وفي ليلة الثاني من أيام التشريق، هذه الأيام المباركة التي يعم فيها الخير، ويقبل الناس فيها من الحجاج وغيرهم على عبادة ربهم، ويقطعون أيامهم ولياليهم بذكره جل وعلا، كما قال الله عز وجل: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة:203] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: {أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل}.
فنلتقي في هذه الليلة بعد أن منّ الله على الجميع بأداء هذه العبادة العظيمة وبعد أن وقف الحجاج بـ عرفة، ذلكم الموقف العظيم الذي يباهي الله عز وجل به ملائكته ويقول: {انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم}.
وما من يوم يعتق الله عبيداً من النار أكثر من يوم عرفة، وما رؤي الشيطان أصغر ولا أحقر ولا أدحر منه من يوم عرفة إلا ما خزي يوم بدر، فبعد وقوف المسلمين هذا الموقف العظيم، يلتجئون فيه إلى الله جل وعلا، ويفوضون أمورهم إليه وحده جل وعلا، ويطّرحون بين يديه رغبة فيما عنده وخوفاً من عذابه.
إن هذا اليوم كفيل أن يعتني به المسلمون ولا سيما من الحجاج، فيقفون في هذا اليوم مخبتين لربهم جل وعلا، خاضعين أذلاء منكسرين بين يديه، فبعد وقوفنا هذا الموقف العظيم الذي أسأل الله جل وعلا بأسمائه الحسنى وصفاته العلى ألا يحرمنا فضله وجوده وكرمه ومغفرته في ذلك اليوم، وأن يجعل الجميع من عتقائه من النار وما ذلك على الله بعزيز.
ثم في هذا اليوم الذي بعد يوم عرفة الذي هو يوم النحر، يوم الحج الأكبر، الذي يقبل فيه الحجاج لقضاء بقية مناسكهم محلين هذا البقعة -أعني: منى - برمي جمرة العقبة، متقربين إلى الله جل وعلا بذبح هديهم وذبح ضحاياهم وما إلى ذلك من العبادات القولية والفعلية.
إن لقاءنا في هذه الأيام المباركة له مذاق خاص، وطعم خاص، إن مما ينبغي علينا ونحن هنا أن نستشعر عظمة هذه الأيام ومكانتها عند الله سبحانه وتعالى، وأسأل الله سبحانه بعد أن منّ علينا بهذا اللقاء الطيب المبارك في هذه الأيام المباركة، وفي هذه المواسم الفاضلة أن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يكون الحاضرون في هذا المكان وفي هذا الموسم معاهدين الله جل وعلا أن يبدءوا صفحة جديدة من حياتهم، وأن يتوبوا إلى ربهم جل وعلا، وأن يقلعوا عن الذنوب والمعاصي، وأن يستقيموا على شرع الله سبحانه، ويعقدوا العزم والتصميم على ألا يعودوا لمعصية الله مطلقاً.
ثم أشكر الإخوة الكرام في هذه المؤسسة العريقة "الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" الذين قاموا بهذا الواجب وفقهم الله للقيام بمضاعفة الجهد؛ لأن هذا عمل من أهم الأعمال التي يقوم عليها عماد الدين، ويقوى بها عموده، ويدحض الباطل وأهله، فشكر الله سعيهم وحرصهم على إتاحة هذا اللقاء بهذه النخبة الطيبة وهذا العدد المميز الذي لم أكن -يعلم الله- أتوقعه.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلني عند حسن الظن لإبداء بعض الخواطر التي تجول في النفس؛ رغبة في إصلاح الحال، والتنبيه على ما ينفع الحاضرين، وما ينفع أمتهم، رغبة في أن نبدأ صفحة جديدة بعد موسم هذا الحج المبارك.(37/2)
واجب الحجاج بعد حجهم
الذي يظهر لي أن موضوع الإخوة الذي رغبوا في الحديث عنه هو ما يناسب الحال، وهو أننا نعيش في هذه الأيام قرب إنهاء موسم الحج؛ فيحتاج الحجاج وغيرهم أن يذكّروا بالواجب عليهم بعد حجهم، وهل ينتهي الواجب عليهم بعد أداء هذه الشعائر أم أن رسالة الإسلام باقية ما بقوا على قيد الحياة؟
لا ريب أن حمل رسالة الإسلام والعمل به وبأركانه وواجباته، وحمل رسالة الدعوة ومعارف هذا الدين، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بل والعمل الصالح مطلقاً لا ريب أنه يصاحب المسلم في حياته كلها، والإنسان لا يعمل أعمالاً ولا يقول أقوالاً إلا وقد نظر الإشارة الشرعية لأقواله وأفعاله، وتأمل النصوص والأوامر التي إن استقام عليها فتكون استقامته استقامة صحيحة، قائماً بما جاء به كتاب الله ومتبعاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن من يقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى ويتأمل النصوص والأوامر الإلهية التي وردت فيه، يجد أنها تذكر المسلم بالحكمة النبيلة والغاية السامية التي أوجد من أجلها في هذه الحياة، ليعلم معناها ويعمل بمقتضاها، ألا وهي عبادة الله جل وعلا، يقول سبحان: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ويقول جل وعلا: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] وقال سبحانه: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف:7] {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً} [المؤمنون:115] كل هذه النصوص -وغيرها كثير وكثير- تشد المسلم بالغاية، وتربطه بالمنهج الذي خلق في هذه الحياة من أجله، ذلكم المنهج الذي ينبغي ألا يغيب عن المسلم طرفة عين، وأن يختلط في جسمه وروحه، ويسري فيها سريان الدم في جسمه.
فإذا كان الدم إذا انتهى انتهى الإنسان، وإذا كان القلب وهو الشريان المتدفق إذا وقف نبضه وقف الإنسان عن هذه الحياة ومات، فكذلكم الأعمال الصالحة فإنها بمثابة المحرك للمسلم في هذه الحياة، والمسلم عليه أن يستشعر عبادة الله وطاعته والعمل الصالح مدة حياته، يقول سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99] ويقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
فهذه النصوص تدل المسلم وترشده على أن مقامه في هذه الحياة كلها ينبغي أن يكون بطاعة الله، بما يقرب إلى الله من العمل الصالح الذي توفر فيه إخلاص العمل لله، الصواب على سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أن يفهم المسلمون أن الإقبال على الله، وعبادة الله سبحانه وتعالى والالتجاء إليه والعمل بشرعه أن ذلك كله محصور بسويعات قليلة وأيام معينة؛ فذلك من سوء فهمنا لشعائر ديننا، ومن سوء فهم المسلمين الذين يفعلون هذه الأفعال لمقتضى نصوص الشرع المطهر.
وهذا -والعياذ بالله- من إغواء عدو الله الشيطان لكثير من المسلمين؛ فصدهم عن دينهم، ولقد عمل وسعى جهده -أعاذنا الله من حبائله وتلبيساته- أن يضل الناس كلهم عن المنهج الذي خلقوا للسير عليه، وعن السنة التي ألزم العباد بالسير على ضوئها دون زيادة ولا نقصان، فكثير من الناس ممن وقعوا في حبائل الشيطان أبعدوا عن هذا الدين، وصدوا عنه صدوداً كبيراً، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ودليل ذلك أن فئاماً من البشر ومجموعات كثيرة ممن ينتسبون إلى الإسلام جهلوا حقيقة الإسلام، وأصبحوا يعملون أعمالاً تناقض الإسلام، بل تهدم الإسلام عياذاً بالله.(37/3)
الحج دعوة إلى تصحيح العقيدة
ومن يتأمل حال كثير من المسلمين من الحجاج وغيرهم، يجد أن كثيرين منهم يحتاجون إلى إعادة بناء للأصل الذي بني عليه هذا الدين، وهو العقيدة الصحيحة التي تستقى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتؤخذ مما عمله سلف هذه الأمة وساروا عليه في القرون الثلاثة المفضلة.
فما يفعله كثير ممن ينتسبون إلى الإسلام من مناقضة هذا الأصل، والوقوع فيما يخالفه جملة وتفصيلاً، من التوجه إلى غير الله جل وعلا، وسؤال غير الله سبحانه ما لا يقدر عليه إلا الله، والاستعانة بغير الله سبحانه، وطلب المدد وقضاء الحوائج وتفريج الكروب من الأموات والأحياء، أو من الملائكة والأنبياء، وهذا موجود في بقاع كثيرة من البقاع التي تنتسب إلى الإسلام وتظهره وتتسمى به.
إن أولئك مدعوون أن يجدّدوا هذا الأصل، وأن يسيروا على طريق صحيح في هذا المجال؛ لأنه القاعدة التي تبنى عليها عبادات الإسلام، وتبنى عليها جميع الأمور، فإذا صلحت صلح سائر الأعمال، وإذا فسد فسدت سائر الأعمال فقد قال الله سبحانه: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] وقال سبحانه: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] وقال سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
فالحج يا إخوة الإسلام! دعوة إلى تصحيح العقيدة، ودعوة إلى أن يلتزم المسلم عقيدة الإسلام، ومن يتأمل آيات الحج في كتاب الله وشعائر الحج، والعبادات التي يعملها المسلم في حج بيت الله الحرام، يجد أنها كلها تقرر هذا القاعدة قال الله: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً} [الحج:26].
ومن يتأمل الآيات -كلها في كتاب الله- التي تتحدث عن هذه الفريضة العظيمة يجد أنها تحوم حول تقرير هذه القاعدة {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} [الحج:31] {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} [الحج:34].
وما إلى ذلك من النصوص التي تربط المسلم بوحدانيته لله، وأنه لم يقرر الحج أصلاً ولم يفرض في شريعة الإسلام إلا ليتوجه المسلمون إلى ربهم وحده، لا يتعلقون بغيره، ولا يلتجئون إلى سواه، يعلنونها صريحة: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
كل ذلك يقرر نفي الشريك عن الله وتصحيح العقيدة التي أمر الناس أن يتنبهوا لها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما جعل الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله} فهل استشعر المسلمون وهم يؤدون هذه المناسك من طواف، وسعي، وذبح، ورمي، وما إلى ذلك من الأمور؟ هل استشعروا أن كلها تحوم حول تحقيق العقيدة وحول صحة العقيدة، وربط المسلم بالله الواحد القهار لا شريك له جل وعلا؟(37/4)
دعوة إلى التسلح بالعقيدة
فهذا الأمر -أيها الإخوة في الله- أمر ينبغي أن ينتبه له حجاج بيت الله، وأن يعملوا بداية من موسم الحج إذا كان فيهم قصور من هذه الناحية، سواء من ناحية العلم والرغبة والعمق في القراءة في كتب أهل العقيدة الموثوقين، والقراءة على أهل العلم الموثوقين المعروفين بصحة العقيدة، فيجب على المسلمين ويجب على شباب الإسلام أن يكونوا متسلحين بالعقيدة، وهذا الدعوة ليست دعوة نظرية وإنما هي دعوة عملية، ينبغي أن يقبل المسلمون -ولا سيما علماؤهم وشبابهم- إلى الاستقاء من نمير هذه العقيدة الصافية، وأن يقرءوا فيها كثيراً، وأن يقرءوا على أهلها ليقارعوا مناوئيها ومخالفيها؛ لأننا في عصر تكالب فيه أعداء هذه العقيدة التي سار عليها سلف هذه الأمة، تكالبوا للنيل منها والقضاء عليها، ورموها بسهامهم من هنا وهناك، مشككين المسلمين -ولا سيما الناشئة- بصلاحيتها مدخلين شيئاً من الشبهات وشيئاً من الوساوس في صفوف المسلمين وبلاد المسلمين التي التزمت هذا النهج.
فيجب على المسلمين -ولا سيما خاصتهم- أن يتقوا الله سبحانه وأن يدرءوا عن هذه العقيدة أعداءها، وأن يصدوا عنها من يريد النيل منها، وهذا يقتضي أن يقبل شباب المسلمين على النهل من هذه العقيدة والقراءة في كتب العقيدة، ودعوة الناس إلى العقيدة، وبناء مناهجهم في الدعوة إلى الله، وفي العلم، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لتكون مبنية على دعوة الناس لتحقيق هذه القضية التي دعا إليها رسل الله، وكانت الأصل الذي بنيت عليها دعوات الرسل والمصلحين في قديم الزمان وحديثه.
وأي منهج وأي طريق على غير هذا الطريق؛ فإنه طريق مخالف لمنهج رسل الله الذي دعا إليه جميع رسل الله قال الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].(37/5)
صفحة جديدة لتصحيح العقيدة
كما يتأكد في حق المسلمين الذين نشئوا على أمور تخالف العقيدة؛ أن يفتحوا صفحة جديدة من موسم الحج -الذي هو دعوة لتصحيح العقيدة- ويبدءوا صفحة جديدة في حياتهم، فيعلقوا جميع أمورهم بالله، فلا يجوز في شريعة الإسلام أن يتجه المسلم إلى غير الله جل وعلا، في طلب حاجة أو في قضاء مهمة أو في تفريج كربة وما إلى ذلك من الأمور، فالسؤال لله، والدعاء لله وحده، والآمال والآلام ينبغي أن يتوجه بها إلى الله جل وعلا الذي يكشف الضر، ويجلب الخير ويدفع الشر، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه جل وعلا.
فمن الخطأ العظيم ومن المحادة لله ورسوله أن يشرك بالله غيره، وأن يدخل مع الله سبحانه تعالى شريك، ولله عز وجل المثل الأعلى الذي لا يشركه فيه أحد جل وعلا {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23].
وهذه أيها الإخوة الكرام: القاعدة التي ينبغي أن نعيها وأن نعيشها بعد موسم الحج وفي موسم الحج وأثنائه، وقبل موسم الحج، أعني أنها ينبغي أن ترتبط بحياة المسلم من حياته إلى وفاته، إذ ليس في دين الإسلام مناسبات لله ومناسبات لغير الله، وأوقات يتوجه بها إلى الله وأوقات أخر يتوجه بها إلى غير الله كما يفعله كثير من جهلة المسلمين.
فدين الإسلام -يا إخوة الإسلام- مبني على تحقيق العبادة لله وحده، العبادة التي تعايش المسلم وتخالط روحه وقلبه وحياته كلها إلى أن يتوفاه الله قال الله: {وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].(37/6)
دعوة إلى الأعمال الصالحة
والعقيدة هي أساس الأعمال التي بني هذا الحديث على إقرارها والتأكيد عليها بعد موسم الحج، وأن موسم الحج يجب أن يكون انطلاقة للبدء والالتزام بالأعمال الصالحة التي يحبها الله ويرضاها، ومن يتأمل نصوص كتاب الله يجد أنها أمرت المسلمين بالعمل الصالح ولم تحدد له زمناً، ولم توقت له وقتاً، ولم تطلب له أجلاً {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3] فقد أقسم الله سبحانه على أن جميع بني الإنسان في خسارة، إلا المؤمنين الذين التزموا الإيمان والعمل الصالح، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وليس في زمن محدد، بل العبرة بعموم الأوامر التي جاءت في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد جاء الأمر صراحة بالعمل الصالح يقول الله سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110].(37/7)
قضايا تنم عن سوء الفهم للدين
وهناك قضية خطيرة تنم عن سوء فهم المسلمين لدينهم، ولا يمكن أن يقف المسلمون سداً منيعاً أمام أعدائهم وينصروا دين الله سبحانه وتعالى وهم يتجهون إلى الله في أيام ويقبلون على معصيته في بقية العام، فإن هذه رزية وبلية بلي به المسلمون نتيجة الجهل بدين الله، ونتيجة ضعف البصيرة في دينه.
يجب على المسلمين أن يأخذوا من هذه المواسم انطلاقة للأعمال الصالحة، وأن يجعلوها تغيراً في حياتهم كلها، وفرصة للتوبة إلى الله، والإقلاع عن الذنوب، والتوبة الصادقة منها، والعزم على عدم العودة إليها مرة أخرى.
ومن دنس عقيدته أو تساهل فيها أو كان مفرطاً في الولاء لها والدفاع عنها؛ فعليه أن يبدأ توبة جديدة؛ ليكون جندياً للدفاع عن هذه العقيدة التي تواجه حرباً لا هوادة فيها من أعداء المسلمين وإن تسموا باسم الإسلام.
كذلك يجب على من قصر في لون من ألوان العبادات لا سيما الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر أو غير ذلك من الأمور أن يتق الله فيبدأ بالتوبة الصادقة إلى الله جل وعلا؛ لأن من علامة قبول الحسنة إتباعها بالحسنة، أما الرجوع إلى المعاصي بعد الحسنات فإنها أمارة على رد العمل عياذاً بالله.
يقول بعض السلف: إن الله لم يجعل لعمل المسلم أجلاً سوى الموت، وتلا قوله سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99].
وشتان وهيهات أن يقدم المسلمون الذين أساءوا فهم دينهم وأقبلوا على ربهم في موسم، وهجروا بيوت الله ونسوا الله سبحانه، ونسوا شرعه، ونسوا دينه في بقية حياتهم، هيهات أن يقدموا لأمتهم نصراً، وهيهات أن يقدموا لأمتهم خيراً لا سيما في هذا الزمن الذي تكالب فيه أعداء هذه الأمة على اختلاف مقاصدهم، وشعاراتهم للنيل منها، وإبعادها عن دينها، وبث المنكر والفساد في ربوعها، وبين شبابها ومجتمعاتها؛ ليقضوا على البقية الباقية من إيمان هذه الأمة.
إنه لا يمكن أن يقدم المسلمون خيراً لأمتهم إلا إذا ساروا على ما سار عليه سلفهم، وقد كان سلفهم يعبدون الله سبحانه وتعالى حتى لو قيل لأحدهم: إن الساعة تقوم غداً لم يستطع أن يزيد على العمل الذي يعمله شيئاً؛ لأنه عمل كثيراً ولم يبق إلا مغفرة الله ورحمته.
فما بال المسلمين اليوم على بعدهم عن الله سبحانه، وعلى ما في مجتمعاتهم وما في حياتهم من بعد عن الله، ما بالهم يطلبون النصر من الله جل وعلا وقد فرطوا بأسباب النصر، وأكبر من ذلك الإيمان بالله؟ ولن يعود النصر ولن تصلح حال المسلمين ويستفيدوا من مواسم الحج ومواسم الخير والفضيلة؛ إلا إذا بالإيمان الذي حرك الرعيل الأول من صحابة رسول الله عليه الصلاة والسلام الذين كانوا رهباناً بالليل قياماً، وعبادةً، وتهجداً، وطاعة، وقراءة للقرآن، وكانوا أسوداً في النهار في الوغى يقاتلون لإعلاء كلمة الله، فهل المسلمون اليوم يعملون هذه الأعمال أو عشر معشار هذه الأعمال؟!(37/8)
الجد في تحقيق نهضة الأمة
إن الواقع -أيها المسلمون- يقتضي أن يجدّ الجميع لنهضة هذه الأمة وإيقاظها من رقدتها، وإبعادها عن جمرتها، والسير قُدماً في تحقيق العمل للإسلام، وليحمل كل منا رسالة الإسلام على قدر استطاعته، وليجعل من هذه المواسم فرصة للانطلاقة في حياته.
إن هذه المواسم مواسم للتزود من الأعمال الصالحة، وليست مواسماً للعمل المجرد ثم الرجوع إلى المعاصي، وإن من يعزم على الرجوع إلى المعاصي بعد الحج؛ فتلك أمارة على رد عمله عياذاً بالله؛ لأن من علامة قبول الحسنة أن يستمر المسلم على عمل الحسنات والبعد عن السيئات، فكما أن الحسنات تذهب السيئات فكذلك السيئات تقضي على الحسنات.(37/9)
استغلال الفرص للمسارعة في الخيرات
يجب علينا أن نأخذ من موسمنا الذي كاد أن يتقوض قيامه وأن تنصرم أيامه، أن نأخذ منه حافزاً وفرصة للتزود في هذه الحياة للعمل بكتاب الله وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليكن فرصة لمحاسبة النفس وأطرها على شريعة الله، وليحاسب كلٌ منا نفسه حساباً دقيقاً قبل أن توزن أعمالها، فلا ينفعها والله حينئذ إلا رجحان الأعمال الصالحة.
إننا قادمون على مواقف عظيمة -أيها الإخوان- قادمون على الله سبحانه وتعالى في يوم عصيب لا يخفى على الجميع هوله، ولا تخفى على الجميع مواقفه العظيمة التي لا يتحملها الإنسان، وإن هذا الموسم ليجسد صورة لذلك اليوم العظيم باجتماع الناس في مكان واحد وانشغال كل واحد منهم بنفسه، والزحام الهائل، إننا قادمون على أيام عظيمة، ومواقف رهيبة لا تنفعنا فيها والله إلا الأعمال الصالحة قال الله: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} [الأعراف:8 - 9] فليتق الله كل واحد منا، وليستشعر هذا اليوم الذي أمامه، والذي لا ينفعه فيه إلا عمله الصالح قال تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس:34 - 37]
{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً} [آل عمران:30] {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} [آل عمران:28] لا ينفعكم في هذه المواقف إلا العمل الصالح، ولا ينجوا إلا من أخذ كتابه بيمينه، وملأ صحيفته بالأعمال الصالحة، ولن يكون كذلك إلا إذا عمّر حياته كلها بالعمل الصالح، واستمر على العمل الصالح طيلة حياته، ولم يفعل ما يفعله الجهلة الذي لا يقبلون على الله إلا في أوقات قليلة، فيدبرون عنه في مواسم وأعوام طويلة، إن هذا من الجرأة على حدود الله، ومن المحادة لله.
ومن الاستهزاء بشريعة الله أن يعمل المسلم أوقاتاً بالطاعات ثم يرجع إلى المعاصي.(37/10)
التوبة ومحاسبة النفس
إن المسلم الذي يريد أن يقبل حجه، وأن يكون حجه مغفوراً هو المسلم الذي يحاسب نفسه ويتقي الله عز وجل، فما كان من عمل صالح فليستمر وما كان من سوء وتقصير فليتب إلى الله، وليفتح صفحة جديدة في حياته، كل منّا مقصّر، وكل منّا خطّاء، وكل منا يواقع ألواناً من الذنوب، والبشر هذا طبعهم، وتلك سجيتهم، ولكن على المسلم ألا يبتعد عن الله، وألا ينسى الله جل في علاه، وأن يأخذ من هذه المواسم مرحلة ومحطة للتزود بالأعمال الصالحة التي تقربه إلى الله، وليجدّ في حسن الختام في ختام ذلك الموسم؛ فإن الأعمال بالخواتيم.
وإنني لأطالب كل حاجّ -وأخص كل من يسمع هذا الكلمة، وحضر هذا المجلس- أطالبه بأن يتقي الله سبحانه وتعالى، وألا يخرج من هذا المكان إلا وقد عاهد ربه وأخذ على نفسه العهد أن يكون تائباً إلى الله، جاعلاً من هذا الموسم فرصة للعمل الصالح والانطلاقة إلى الله والعمل للآخرة.
وإنني لأناشد كل مقصر وأولهم المتحدث أن يقبل على الله سبحانه وتعالى، وأن يتوب إلى ربه وأن يفتح صفحة جديدة بعد أن تخفف من أحماله، وبعد أن تخفف من بعض ذنوبه، فيا لها من فضائل! ويا لها من مواسم! هذه المواسم التي تتنزل فيها الرحمات، وتغفر فيها الزلات، ويباهي الله ملائكته، بحجاجه وعباده، ويقول: انظروا إلى عبادي ويشهدهم أنه قد غفر لهم، وأنه أعتقهم من النار بمنه وكرمه.
إنه لمن المخادعة للنفس، ومن المخجل بعد هذا الخير العميم وهذا الفوز العظيم أن نحاجّ الله وأن نقبل على سالف حياتنا البعيدة عن الله، وأن نستمر في معصية الله، وأن تستمر الأمة في أوضاعها المتردية وفي أحوالها المزرية.
إن على الأمة إذا أرادت الخير لنفسها، والحل لمشكلاتها أن تجعل من هذه المواطن فرصة للرجوع إلى الله وتحكيم شريعة الله، والبعد عن غير الله سبحانه، والإقبال على الله جل وعلا، والاعتصام بحبل الله وحده.(37/11)
واجب الشباب نحو دينهم
وإن على شباب المسلمين أن يعلموا أن رسالتهم عظيمة، ومسئوليتهم جسيمة، وأن أحوال الأمة الإسلامية لن تحل بعد توفيق الله عز وجل ومنه وكرمه إلا بأكتافهم وسواعدهم، فليتقوا الله فيها، وليتعلموا أحكام دينهم، وليبنوا حياتهم على صحة العقيدة وقوة الإيمان، وليجعلوا من شباب الصحابة الذين حركهم الإيمان وسيرهم التقى، وحثهم على العمل الصالح في حياتهم كلها، أن يجعلوهم خير قدوة، وأسوة فيسيروا على خطاهم، وأن يبتعدوا عن كل ما حرم الله، ويزنوا خطاهم بميزان الكتاب والسنة فما وافقها أخذوه وما خالف شيئاً من ذلك تركوه وابتعدوا عنه.(37/12)
مسئولية كل مسلم
إن مسئولية النهوض بالأمة من كبوتها، وإيقاضها من غفلتها، مسئولية كل من قال ربي الله وحمل رسالة الإسلام، وإن المسئولية تتضاعف وتتجاسم على حسب قوة الإنسان وعمله، وعلى حسب مكانته ومنصبه وجاهه، فأروا الله من أنفسكم خيراً، وأروا دينكم دفاعاً، وأروه التزاماً بمنهجه، وخذوا من هذه المواسم فرصة للانطلاقة والتوبة، واختموا أعمالكم بالاستغفار والتوبة، يقول سبحانه: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200] وقال سبحانه: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة:198] إلى قوله سبحانه {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199] {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة:200] الآية.
فهي فرصة أن نتوب إلى الله في هذه السويعات القليلة، وأن نأخذها عهداً على أنفسنا، وتوبة إلى ربنا، إن كنا صادقين في معاهدتنا، فوالله لا خير في كثرة الكلام، ولا خير في المحاضرات والندوات إن لم تكن حافزاً على العمل، وإن لم تكن منطلقاً للتمكين، والدعوة إلى الله جل وعلا، واتباع ذلك بالعمل.
أما الكلام فقد عرفه الجميع، وقد قامت الحجة فيجب علينا أن نعمل، وإلى متى يظل المسلمون على أحوالهم؟ وإلى متى ينسحب الغيورون؟ وإلى متى يحوقل المحوقلون؟ إننا مع ذلك بحاجة إلى الانتفاضة والعمل، بحاجة إلى تقوى الله جل وعلا والصدق مع الله سبحانه، والإخلاص لدينه وشرعه، فوالله إن هذه لرسالة عظيمة يجب على كل مسلم أن يعمل بها.
أسأل الله جل وعلا أن يجعلنا وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأن يجعل حجنا مبروراً، وسعينا مشكوراً، وذنبنا مغفوراً، وعملنا صالحاً مقبولاً، وأن يجعل الجميع من التائبين الهداة المهتدين المقبلين على ربهم طيلة حياتهم، الذين كتب الله لهم الخير، وكتب لهم الهداية، وكتب لهم بمنه وكرمه رحمته وجنته وما ذلك عليه جل وعلا بعزيز.
ونسأله تعالى أن يجعل السامعين جميعاً من المنتفعين، وأن يجعلنا من العاملين بما نسمع، وأن يجعل كلامنا حجة لنا لا علينا، وأن يجعل للأمة الإسلامية من هذه المواسم المباركة انطلاقة وتوبة إلى الله ورجوعاً إليه جل في علاه.
ونسأله تعالى أن يختم للجميع بخاتمة القبول والمغفرة والرحمة، وأن يجعلنا جميعاً ممن تقبل حجهم، وممن رجعوا كيوم ولدتهم أمهاتهم، وممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: {من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه}.
وأن يهيئ لأمة الإسلام من أمرها رشداً، وأن يصلح قادتها ويوفقهم للبطانة الصالحة، ويوفقهم للحكم بشريعته والسير على سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يوفق العلماء لبيان الحق والدعوة إليه، وأن يوفق الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر -وكلنا يجب أن نكون كذلك- لمضاعفة الجهد وحث الخطى وتقديم الخير لهذه الأمة، وأن يوفقنا لما يحب ويرضى.
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(37/13)
الأسئلة(37/14)
حكم لبس الساعة للرجل
السؤال
ما رأي فضيلتكم بلبس الساعة للرجل في يده، وهل فيها شيء من النهي؟
الجواب
الأصل أن يسير المسلم في حياته على ضوء الدليل، ما كان من الأمور الواجبة أو من الأمور المستحبة التي جاءت النصوص بإقرارها أو الأمر بها فإنه يلتزم ذلك، وإذا كانت هناك نصوص واضحة في النهي عن المحرمات أو المكروهات أو ما إلى ذلك فإنه يجتهد في تركها، ولا أعلم دليلاً يمنع من لبس الساعة في اليد للرجل، فالأمر في هذه الأمور وأمثالها كالساعة أو النظارة أو نحوها الأمر فيه سعة، ولا ينبغي أن تكون مجالاً للإنكار من بعض الناس، ومن حرم فعليه الدليل.
وإذا كان الإنسان يتورع عن بعض الأمور المباحة فلا ينبغي له أن يلزم الناس بذلك، فالأمر في هذه الأمور واسع ولا حرج فيه إن شاء الله تعالى، كما لاتؤثر الساعة على الإحرام كما يتصور بعض الناس.
السؤال
هل في لبس الساعة شيء من الأشياء التالية: التشبه بالنساء، التشبه بالإفرنج، التشبه بأهل النار لأن الحديد حلية أهل النار، هل يجوز لبسها أم لا، جزاكم الله خيراً؟
الجواب
أما التشبه بالنساء فالساعة ليست من خصائص النساء حتى نقول إن فيها تشبهاً، إلا إذا قصد اللابس تخير الساعات ذات العرف العام عند الناس أنها تلبسها النساء ويبالغ في جمالها ورونقها فهذا شيء آخر، كل بقصد نيته، أما مجرد لبسها لغرض معرفة الوقت فهذا لا حرج فيه إن شاء الله، ولا ينبغي المغالاة وأن تكون فرصة للتزين، والإنسان ليس هذا قصده، ولكن الأولى أن تكون دليلاً للإنسان يعرف بها وقت الصلاة وما إلى ذلك.
وليس فيها تشبه بالأعداء أيضاً، وليس فيها تشبه بأهل النار، ولا أعرف أن في هذا حديثاً صحيحاً.
وعلى كل حال فالإنسان عليه أن يعمل الأمور قدر استطاعته، وأن يسير فيها النصوص، أما الأمور المباحة والطيبات فالعمل بها لا حرج فيه إن شاء الله، وأما من أراد أن يتورع فباب التورع مفتوح، ولا ينكر أحد على أحد في هذا المجال والله أعلم.(37/15)
حكم الصلاة خلف أصحاب الطرق
السؤال
هل يجوز الصلاة خلف أصحاب الطرق الذين يأمرون الناس بزيارة القبور؟
الجواب
هذا السؤال سؤال عام فقول السائل: الذين يأمرون الناس بزيارة القبور، إذا كان قصده الزيارة الشرعية، فهذا لا بأس به، والزيارة الشرعية: أن يزور الرجل المقابر ويسلم على أهلها كما هي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بأن يزور المسلم المقابر ويدعو لأهلها ويقول: {السلام عليكم أهل الديار من المسلمين والمؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، يغفر الله لنا ولكم، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم}.
فهذا سنة حث النبي صلى الله عليه وسلم عليها، وأخبر أنها تذكر الآخرة.
أما الزيارات الشركية والبدعية للقبور التي يفعلها بعض الجهلة من الطرقيين وغيرهم، الذين يظنون أن بعض أصحاب القبور يستطيعون أن يشفوا المرضى أو يقضوا الحوائج، ويأمرون الناس بالذهاب إلى المقابر، قبر الولي الفلاني أو السيد الفلاني ويطلبون منهم المدد وما إلى ذلك، فإن هذا شرك ولا تجوز الصلاة خلف من هذا حاله.
أما إذا كانت مجرد معصية لا تصل إلى حد الشرك فالأمر فيه سعة، وينبغي للمسلم أن يسعى للفضل؛ لأن الصلاة عمود الإسلام، فيبحث عمن يرتضي دينه واستقامته والتزامه وعقيدته، ويصلي خلفه، وأصحاب الطرق الغلاة لا تجوز الصلاة خلفهم؛ لأن عندهم كثير من الشركيات، ويظنون بالأولياء ويعتقدون بهم، والطرق الصوفية كثيرة، منها: الطريقة التيجانية، والشاذلية، والقادرية، وما إلى ذلك من طرق الصوفية وفي الغالب أنها طرق بدعية شركية، ينشئون الناس على أن للولي تأثيراً في الكون، وأنه ينفع أو يضر، ويغلون في محبتهم -والعياذ بالله- وقد يصرفون لهم شيئاً من أنواع العبادة، فمن كانت هذه حاله فلا تجوز الصلاة خلفه، والله أعلم.(37/16)
وقفات مع قضايا مهمة
الهجرة النبوية من أعظم الأحداث التاريخية في تاريخ الإسلام، ولذلك كان لابد من الوقوف مع هذا الحديث عدة وقفات.
ومن ذلك: ما نستفيده من خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر الصديق معتمداً على الله عز وجل، وكذلك ما تدل عليه مواقف الصحابة من بذل وتضحية في دين الله، فيجب على المسلم أن يعتز بتاريخه، ومن ذلك التوقيت بالتاريخ الهجري.(38/1)
وقفات مع الهجرة النبوية
إن الحمد لله، نحمدك اللهم ونستعينك ونستهديك ونستغفرك ونتوب إليك، ونثني عليك الخير كله، اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك، لك الحمد بالإسلام ولك الحمد بالقرآن، ولك الحمد بالمال والأهل والمعافاة، كبت عدونا، وأظهرت أمننا وجمعت فرقتنا ومن كل ما سألناك ربنا أعطيتنا، فلك الحمد والشكر على ذلك كثيراً، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، ولك الحمد على كل حال، سبحانك لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك، ونشهد أن لا إله إلا أنت سبحانك أنت الواحد فلا شريك لك، والأحد فلا نِدَّ لك، شرعت الهجرة والجهاد، لدرء الشر والفساد ووعدت عبادك المؤمنين بالنصر والفتح المبين، والعز والتأييد والتمكين.
ونشهد أن نبينا محمداً عبدك ورسولك، ومصطفاك وخليلك، شكر نعمتك وحقق عبادتك، وبلغ شريعتك، ونصح خليقتك، وهاجر وجاهد لإعلاء كلمتك، اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:-
فيا أيها الناس: اتقوا الله ربكم، فإنه سبحانه وتعالى حقيق أن يتقى، بأن يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا ينسى، ويشكر فلا يكفر: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} [النحل:52].
أمة الإسلام: في مطلع كل سنة هجرية، ومع إطلالة كل عام جديد، تبرز في تاريخنا الإسلامي المجيد أحداث عظام ووقائع جسام، لها مكانتها عند أهل الإسلام، ولها أثرها البالغ في عز هذه الأمة، ونصرها وقوتها، وصلاح شريعتها في كل زمان ومكان، وتحقيقها سعادة البلاد والعباد في أمور المعاش والمعاد.
أيها الإخوة في الله: ما أجمل أن نقف بعض الوقفات مع عدة قضايا مهمة، جديرة بالتنبيه والإشادة، وحرية بالتذكير والإفادة، لا سيما ونحن نعيش مع إشراقة عام هجري جديد، علَّ هذه الوقفات تكون سبباُ في تحريك الهمم واستنهاض العزائم للتمسك الجاد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مصدر العزة والقوة والتوفيق في الدارين، والخير والسعادة في الحياتين.(38/2)
الهجرة تعلمنا الاعتماد على الله
إخوة العقيدة والإيمان: وإن أول هذه الوقفات الجديرة بالتنويه والعناية، والاهتمام والرعاية، مع حدث لا كالأحداث، حدث غير مجرى التاريخ، حدث يحمل في طياته معاني الشجاعة والتضحية والصبر والفداء، والعزة والقوة والإخاء، والتوكل على الله وحده مهما بلغ كيد الأعداء، ذلكم هو حدث الهجرة النبوية على صاحبها أفضل صلاة وأزكى تحية، ذلكم الحدث الذي جعله الله سبحانه وتعالى طريقاً للنصر والعزة والكرامة، ورفعاً لراية الإسلام، وتشييداً لدولته، وإقامة صرح حضارته على العقيدة الخالصة والوحدة الصادقة: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40].
أيها المسلمون: إنه لما اشتد أذى الكفار برسول الله صلى الله عليه وسلم بـ مكة، أذن الله له بالهجرة إلى المدينة النبوية المنورة، فخرج عليه الصلاة والسلام من بيته يتحدى أعداءه، ويفوت الفرصة عليهم في تدبيرهم ومكرهم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وبرفقته صاحبه الصديق رضي الله عنه، الذي ضرب مثلاً رائعاً في نصرته وفدائه لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وشفقته على حياته، ففي الغار يقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: [[يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا]] فيجيبه المصطفى صلى الله عليه وسلم بجواب الواثق بنصر الله، المطمئن لوعد الله: {يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما} الله أكبر! ياله من درس عظيم في نصرة الله جل وعلا لأوليائه، وعدم تخليه عنهم لا سيما في الشدائد!(38/3)
الهجرة مثال للبذل والتضحية
وفي موقف عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه مثل يحتذى لشباب الإسلام في أثرهم البالغ في الاضطلاع بأمر الدعوة إلى الله، كما أن في موقف أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ما يقرر مكانة المرأة المسلمة وأثرها العظيم في نجاح الدعوة وإعداد الدعاة، وكم في الهجرة النبوية من دروس تحتذى وعبر تقتفى، لو رجع المسلمون لدينهم واعتزوا بتاريخهم وثوابتهم، وأمعنوا النظر في سيرة رسولهم صلى الله عليه وسلم، لا سيما والأمة الإسلامية اليوم تعيش في عالم عصفت فيه أمواج المحن، وهبت فيه أعاصير الفتن، حتى أصبحت أمتنا حبلى بالمشكلات، وثكلى بالفتن والمعضلات، ضعف وفرقة وخلافات، ذلة ومهانة ومنازعات، حروب ونكبات، كوارث وتحديات، ما هي آخر الأنباء في أرضنا المباركة، فلسطين المسلمة المجاهدة؟ وقدسنا السليب وأقصانا الحبيب؟ ما هي أوضاع إخواننا في العقيدة وأحوال الأقليات الإسلامية في كثير من بقاع العالم؟ إلى أي حال أدى الشقاق والنزاع بين أبناء الإسلام؟! كيف ومن دروس الهجرة وثمراتها ترسيخ مبدأ الأخوة الإسلامية والوحدة الإيمانية؟ إلى أن يحد من كيد سيطرة أعداء الإسلام وغزوهم عسكرياً وفكرياً وثقافياً وخلقياً وإعلامياً لبلاد الإسلام، كل ذلك وغيره من غيوم الفتن وسحب المحن، يتطلب من أمة الإسلام حلولاً عاجلة مع إطلالة هذا العام التي ترتسم على محياه بسمات التفاؤل، وتبرق في آفاقه فلول من الآمال العريضة، والتطلعات لمستقبل أفضل، تتبدد فيه سحب الآلام والأحزان عن كل بلاد الإسلام وما ذلك على الله بعزيز.(38/4)
من معاني الهجرة هجر المعاصي
أمة الهجرة والجهاد: إن من أبرز ما يصور معاني الهجرة -يا رعاكم الله- الأخذ بتعاليم الإسلام التي جاء بها صاحب الهجرة صلى الله عليه وسلم، والتجافي عن الهبوط إلى مستنقعات المعاصي والآثام، وهذه هجرة لا يعذر مسلم في تركها لقوله صلى الله عليه وسلم: {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه} أخرجه البخاري من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما.
ومن أكبر ما يترجم عناية الأمة بالهجرة النبوية، هو التمسك بمنهج صاحب الهجرة عليه الصلاة والسلام، والتزام سنته وأطر النفوس على الهجرة في كل صورها ومعانيها، إما بمعناها الشرعي الخاص، بالانتقال إلى حيث العزة والمنعة وإقامة الدين، أو بمعناها العام بهجر المعاصي بكل أنواعها، وإن وقائع الهجرة النبوية -يا عباد الله- ليست قصصاً تورد ولا روايات تسرد، ولانعوتاً ومدائح تردد، ولا احتفالات تقام، لكنها عقيدة وانتماء، وعمل واهداء، واتباع واقتداء، وجهاد وافتداء، والله عز وجل يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: إن في هذا الحدث العظيم من الدروس والعبر ما لو استلهمته أمة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه لتحقق لها عزها المنشود، ومجدها المفقود، ومكانتها المرموقة بين العالمين، ولعلمت علم اليقين وهي تعيش على أبواب قرن جديد، بل على مفترق طرق وتشعب سبل، أنه لا حل لمشكلاتها، ولا صلاح لأحوالها إلا بالتمسك بإسلامها، والتزامها بإيمانها وعقيدتها، فوالله ثم والله ما قامت الدنيا عبر التاريخ إلا بقيام الدين، ولا نال العز والنصر والتمكين إلا لما خضعوا لرب العالمين، وهيهات هيهات أن يحل أمن وأمان، ورخاء وسلام واطمئنان، إلا باتباع نهج الأنبياء عليهم السلام: {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:123 - 124].
إنه متى تذكر المسلمون هذه الحقائق الناصعة، وعملوا على تطبيقها في واقع حياتهم، كانت هي السلاح الفاعل التي تقاتل به، والحصن الحصين، والدرع الواقي المتين الذي تتقي به في وجه الهجمات الكاسحة، والتكتلات العالمية والمؤامرات الدولية، والصراع التي تعيشه قوى الأرض جميعاً، فالقوة لله وحده: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً} [البقرة:165].(38/5)
وقفة مع كتابة التاريخ بالهجري
معاشر المسلمين: الوقفة الثانية، وقفة مع قضية تعبر عن اعتزاز هذه الأمة بشخصيتها الإسلامية، وتبرهن للعالم بأسره عن استقلال هذه الأمة بمنهجها المتميز المستقى من عقيدتها وتاريخها وحضارتها وثوابتها، إنها قضية أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنها التوقيت والتاريخ بالهجرة النبوية المباركة، وكم لهذه القضية من مغزى عظيم، يجدر بأمة الإسلام اليوم تذكره، لاسيما وقد فتن بعض أبنائها بتقليد غير المسلمين والتشبه بهم في تاريخهم وسلوكهم.
أين عزة الإسلام؟ وأين هي شخصية أهل الإسلام؟ هل ذابت في خضم مغريات الحياة؟ إننا أمة ذات أمجاد وحضارة، وتاريخ وأصالة، وثوابت راسخة، ومنهج متميز، منبثق من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم وسيرة سلفنا الصالح.
لسنا بحاجة إلى تقليد غيرنا، بل غيرنا -في الحقيقية- بحاجة إلى أن يستفيد من أصالتنا وحضارتنا، لكنه التقليد والتبعية، والإعجاب والمجارات والانهزامية، والتشبه الأعمى من بعض المسلمين هداهم الله، والله عز وجل يقول: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].(38/6)
نصر الله لأوليائه
أيها الإخوة المسلمون: وثالث هذه الوقفات مع حدث عظيم في شهر الله المحرم، فيه درس عظيم على نصرة أولياء الله، وانتقام الله من أعدائه مهما تطاولوا، إنه حدث قديم، لكنه بمغزاه متجدد عبر الأمصار والأعصار، إنه يوم انتصار نبي الله وكليمه موسى عليه السلام، وهلاك فرعون الطاغية، وكم في هذه القصة من الدروس والعبر، والعظات والفكر للدعاة إلى الله في كل زمان ومكان.
فمهما بلغ كيد الأعداء وأذاهم وظلمهم وتسلطهم، فإن نصر الله قريب، وهو درس لكل عدو لله ولرسوله، ممن مشى على طريق فرعون، أن الله منتقم من كل طاغية وظالم، طال الزمان أو قصر، إن يوم الهجرة ويوم عاشوراء -يا عباد الله- يومان من أيام النصر الخالدة، ألا فلتقر أعين أهل الحق ودعاته بذلك، فالعاقبة للمتقين، ولينتبه لذلك -قبل فوات الأوان- أهل الباطل ودعاته: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [المرسلات:26].
وإن في الحوادث لعبراً، وإن في التأريخ لخبراً، وإن في الآيات لنذراً، وإن في القصص لمدّكراً ومزدجراً: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111].
تلكم -أيها المسلمون- إشارات عابرة، ولمحات عاطرة، ووقفات مهمة عاجلة، يحتاج المسلمون إلى التذكير بها وهم يستقبلون عامهم الهجري الجديد، الذي نسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعله عام خير وبركة ونصر للإسلام والمسلمين في كل مكان، وعام ذل وهوان لأعداء الإسلام والمسلمين في كل مكان، كما نسأله سبحانه أن يجعله عام يقظة رشيدة، ونقطة تحول سديدة، وفتح صفحة جديدة، صلاحاً لأحوال المسلمين في كل مكان، وهزيمة ساحقة لأعداء الله ورسوله والمؤمنين.
كما نسأله سبحانه أن يجعل مستقبل أيامنا خيراً من حاضرها، وحاضرها خيراً من ماضيها، وأن يعيد هذا العام على أمة الإسلام بالخير واليمن والبركات إنه سميع قريب مجيب الدعوات.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطايا والسيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.(38/7)
الحث على صيام يوم عاشوراء
الحمد لله الذي لم يزل بالمعروف معروفا، وبالكرم والإحسان موصوفاً، أحمده سبحانه وأشكره، كل يوم هو في شأن، ييسر عسيراً ويجبر كسيراً، ويغفر ذنوباً ويستر عيوباً، ويكشف كروباً، ويدفع خطوباً، ويغيث ملهوفاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً خالصةً لمن فطر السماوات والأرض حنيفا، ً وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، جعله الله صادقاً أميناً شريفاً عفيفاً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه، صلاةً وسلاماً تزيدهم تفضيلاً وتكريماً وتشريفاً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله: ووقفة رابعة مع فاتحة شهور العام، شهر الله المحرم، إنه من أعظم شهور الله جلَّ وعلا، مكانته عظيمة، وحرمته قديمة، هو رأس العام، ومن أشهر الله الحرم، فيه نصر الله موسى وقومه على فرعون وملئه، الأعمال الصالحات فيه لها فضل عظيم، لا سيما الصيام، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل} وأفضل أيام هذا الشهر -يا عباد الله- يوم عاشوراء.
في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه}.
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام عاشوراء، فقال: أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله} الله أكبر! يا له من فضل عظيم لا يُفوته إلا محروم! وقد عزم صلى الله عليه وسلم على أن يصوم يوماً قبله، مخالفة لأهل الكتاب، فقال صلى الله عليه وسلم: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} أخرجه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
لذا ينبغي على المسلمين أن يصوموا ذلك اليوم، اقتداءً بأنبياء الله، وطلباً لثواب الله، وأن يصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده، مخالفةً لليهود وعملاً بما استقرت عليه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، حقاً إنه عمل قليل وأجر كبير وكثير من المنعم المتفضل سبحانه.
إن ذلك -أيها الأحبة في الله- لمن شكر الله عز وجل على نعمه، واستفتاح هذا العام بعمل من أفضل الأعمال الصالحة التي يرجى فيها ثواب الله تعالى، فالكيس الواعي، والحصيف اللبيب، يدرك أنه كسب عظيم يجب ألا يسقطه من حسابه، فأين المشمرون المخلصون؟!
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، بمنه وكرمه.
واعلموا -رحمكم الله- أن الله أمركم بالإكثار من الصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين النبي الهادي المصطفى الأمين، صاحب المعجزات الدائرات، والآيات البينات، فقال تعالى قولاً كريما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من صلَّى عليَّ صلاة صلىَّ الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واخذل الكفرة والطغاة والظالمين يا رب العالمين.
اللهم أمِّنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، اللهم خذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم يا سميع الدعاء.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك، والمضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم انصر إخواننا في فلسطين، اللهم أنقذ المسجد الأقصى من براثن اليهود المعتدين يا قوي يا عزيز: رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(38/8)
إخلاص العبادة لله وحده
إن التوحيد أوجب الواجبات على العبد، وما من رسول إلا ودعا قومه إلى التوحيد الخالص، فلا يجوز صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، وقد دلت على ذلك الكثير من الأدلة في الكتاب والسنة.(39/1)
التوحيد أوجب الواجبات على العبد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أَمَرَنا بإخلاص التوحيد له، وأوجب علينا طاعته وعبادته، وحذرنا من الإشراك به والوقوع في معاصيه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المصطفى، وحبيبه وخليله المجتبى، أرسله بالحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً ودعا إلى الدين الحق عقيدةً وشريعةً، عبادةً وأخلاقاً ومنهجَ حياة، دعا عليه الصلاة والسلام لتثبيت العقيدة ثلاثة عشر عاماً في مكة، وواصل ذلك في المدينة، وما ذاك -أيها المسلمون- إلا لأن العقيدة هي القاعدة والأساس والأصل لدين الإسلام، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه، ومن دعا بدعوته وتمسك بسنته إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون في هذه البقعة المباركة: أيها المسلمون في أرجاء العالم الإسلامي بأسره! اتقوا الله عز وجل واشكروه على ما مَنَّ به عليكم مِن نعمة الإسلام.
عباد الله: اعلموا -رحمكم الله- علمَ يقينٍ يتبعه عمل أن أوجب الواجبات على العبد معرفة توحيد الله عز وجل وما يضاده ويناقضه من الشرك، ولاسيما في هذا الزمن الذي طغت فيه موجات الفتن والشهوات والشبهات، وفي هذا العصر الذي قامت فيه أعاصير الفسق والفساد، وانتشر فيه الجهل واتباع الأهواء، وكثرت الفرق والطرق الضالة والمذاهب والأحزاب المنحرفة {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [المؤمنون:53] وثارت فيه براكين الإلحاد والكفر والزندقة والمنكرات والبدع والمعاصي والخرافات، وتكتَّل فيه أعداء الإسلام والمسلمين -على اختلاف مللهم- على الأمة الإسلامية حتى كبرت المحنة وعظمت المصيبة وعاد الإسلام غريباً بين أهله، ومِن هنا زادت الأهمية وعظم الواجب على العباد في تحقيق التوحيد بأنواعه -توحيد الربوبية، والألوهية، والأسماء والصفات- وإخلاص العبادة لله وحده، والبُعد عن الشرك ووسائله وأسبابه، والحرص على سد الذرائع والطرق الموصلة إليه.(39/2)
أدلة وجوب صرف العبادة لله وحده
أيها المسلمون! لقد امتلأت الأدلة السمعية من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالحث على وجوب صرف العبادة لله وحده لا شريك له يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] ويقول عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ويقول سبحانه: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36] ويقول: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء:23] وبين تبارك وتعالى أن توحيد الله في العبادة هو أول ما دعا إليه الرسل أقوامَهم قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25] وقال: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنْ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] وكل نبي من أنبياء الله يدعو قومه بادئاً بقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] {وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72] وهذا خاتم الأنبياء وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم أمره الله بقوله: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي} [الزمر:11 - 14].
فالعبادة -يا عبد الله- بجميع أنواعها لا بد أن تُصرَف لله وحده ولا يجوز صرف شيء منها لغير الله كائناً مَن كان قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَاي وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] فلا نَذْر إلا لله، ولا دعاء إلا له، ولا ذبح إلا له، ولا استغاثة ولا استعاذة ولا استعانة ولا حلف إلا به، ولا توكل إلا عليه، سبحانه وتعالى عما يشرك به المشركون علواً كبيراً.(39/3)
تلازم التوحيد الخالص مع النصر والتمكين
تلك أهم مقومات عقيدة المسلمين التي بها قوام أمرهم وصلاح حالهم، وبها قوتهم وعزتهم وانتصاراتهم وأمنهم {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمْ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
وما انتصر المسلمون السابقون على أعدائهم وفتحوا البلاد في مشارق الأرض ومغاربها إلا بهذه العقيدة الصحيحة الصافية من شوائب الشرك والخرافات، ولا خلاص ولا مناص مما يعيشه المسلمون اليوم من فتن وتناحر وتدهور وذلة، ولا حل لمشكلاتهم كلها إلا بالعودة الصحيحة الصادقة إلى العقيدة الإسلامية وتحكيم شرع الله عز وجل في كل كبير وصغير من أمورهم، وإننا لنحمد الله عز وجل أن وفقنا في هذه البلاد المباركة للسير على هذا الطريق الذي جدده وأعلى كيانه الإمامان العظيمان: محمد بن سعود، ومحمد بن عبد الوهاب رحمهما الله وأجزل لهما المثوبة ونفع بذراريهم، فسارا بهذه البلاد على طريق العقيدة الصحيح السلفي النقي من الشوائب، ولا تزال بلادنا والحمد لله وستزال بمشيئة الله وعونه تنعم بذلك قادةً وعلماءَ وشعباً إلا أننا نلمس قصوراً ظاهراً من بعض أبناء المسلمين وتساهلاً بيِّناً من آخرين في أمر هذه العقيدة، وهي مسئوليتنا جميعاً لإعادة ما اندرس من أمرها وإبعاد ما عَلِق بها وران عليها من مُحدثات، وتتجسد هذه المسئولية على العلماء وطلبة العلم الذين يملكون سلطان البيان والبلاغ.(39/4)
إصلاح التوحيد يا حجاج بيت الله الحرام
أيها المسلمون حجاج بيت الله الحرام: تنبهوا جيداً لأمر العقيدة، واعلموا أن أول المهمات على الحاج: إصلاح عقيدته، والبُعد عن الشرك ووسائله، ومن تأمل حال الحجيج اليوم في هذا الأمر عظُم أساه واشتد أسفه؛ وذلك لأن الكثير منهم يقع في الشرك بالله عز وجل شَعَرَ أو لَمْ يشعر، فكثيراً ما نسمع دعاء غير الله والاستغاثة بغير الله من الأشخاص الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فضلاً عن أن يملكوا لغيرهم بل ربما يكونون من الأموات، وهذا من أعظم أبواب الشرك بالله، وكثيراً ما نسمع الحلف بغير الله وكثيراً ما نشاهد البدع والخرافات القولية والعملية.
فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله يا حجاج بيت الله الحرام، أصلحوا عقيدتكم ما دمتم في زمن الإمهال، ووالله لا ينجو من أهوال يوم القيامة وتضاربه إلا صاحبُ القلب السليم المفعم بنور العقيدة الصافية.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر.
اللهم احفظ على هذه البلاد عقيدتها، اللهم احفظ عليها أمنها وإيمانها، اللهم قِها شر أعدائها، اللهم أصلح قادتها ووفقهم لتأييد الحق وأهله ودحر الباطل ومروجيه.
اللهم من أرادنا وأراد عقيدتنا بسوء فأشغله في نفسه ورد كيده في نحره، اللهم اجعل كيده في نحره يا رب العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه يغفر لكم إنه كان غفاراً.(39/5)
القرآن والسنة يحذران من الشرك بالله
الحمد لله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه، ولا يشركوا به شيئاً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله إلى الناس كافة فأشاد صرح التوحيد وأعلى مناره، وطمس الشرك ومحا آثاره، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى وأطيعوه وأنيبوا إليه وأسلموا له، واحذروا من الشرك فإن الشرك محبطٌ للأعمال مفسدٌ للأحوال، وأهله أشطن وأشر وأظل مَن على وجه الأرض، قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] وقد كثرت الأدلة الشرعية على التحذير من الشرك وما يجره على العباد من خزي وعذاب يقول تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً} [النساء:48] وفي الآية الأخرى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:116] ويقول عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23] ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] ويقول: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88] ويقول سبحانه: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13].
وفي الحديث الصحيح في صحيح البخاري وصحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {اجتنبوا السبع الموبقات: وذَكَرَ أولها وأكثرها وأشيعها، وهو: الشرك بالله عز وجل} والموبقات: هي المهلكات.
وفي صحيح مسلم عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من لقي الله لا يشرك به شيئاً دخل الجنة، ومن لقيه يشرك به شيئاً دخل النار}.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مَن مات وهو يدعو من دون الله نداً دخل النار} رواه البخاري.
وإن مما يَحُزُّ في النفس -مع عظيم هذا الوعيد- ما نشاهده ونلمسه في كثير من البقاع من انتشار الشرك بالله وعبادة غير الله من مثل القبور والتواصي بها وسؤالها قضاء الحاجات، وتفريج الكربات، وشفاء المرضى، وإدرار الرزق وغير ذلك من الأمور التي لا يملكها إلا الله عز وجل.
فاتقوا الله -عباد الله- وحققوا توحيده قولاً وعملاً واعتقاداً، واحذروا الشرك أكبره وأصغره؛ تُقْبَلُ أعمالُكم، وتُغفَر زلاتكم، وتصلح أحوالكم في الدنيا والآخرة.
عباد الله: صلوا وسلموا على محمد بن عبد الله أكمل الخلق توحيداً كما أمركم الله بذلك بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ على محمد وآله وصحبه، اللهم ارضَ عن خلفائه الراشدين: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وسائر الصحابة والتابعين، اللهم ارضَ عنا معهم برحتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل -اللهم- ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين.
اللهم أيد بالحق إمامنا وعلماءنا وولاة أمرنا، اللهم أعزهم بالإسلام، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكرِّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، واجعلهم من الراشدين، اللهم اجعلهم صالحين مصلحين هادين مهتدين يا رب العالمين!
اللهم عليك بأعداء الدين أينما وُجِدوا وحيثما حلوا، اللهم عليك بهم عاجلاً غير آجل، اللهم اجعل الدائرة عليهم، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم مُنَّ على المسلمين بصلاح قاداتهم وعلمائهم وشبابهم ونسائهم يا رب العالمين!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم وَلِّ علينا خيارنا، وارزق ولاة أمرنا البطانة الصالحة التي تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر يا رب العالمين!
وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(39/6)
الحج المبرور
إن الله سبحانه وتعالى جعل الحج إلى بيته ركناً من أركان هذا الدين؛ لأنه به يكتمل دين الإسلام الحنيف، على ملة إبراهيم عليه السلام.
وقد بين الشيخ في هذه المادة وجوب الحج، ومنافعه، وما ينبغي للعبد أن يفعله في الحج اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم.(40/1)
حج بيت الله استجابة لندائه
الحمد لله، أحمده تعالى وأشكره، وسع كل شيء رحمةً وعلماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فرض على عباده حج بيته الحرام، فقال سبحانه: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97] وامتن عليهم بالحرم الآمن، الذي خص بالمحامد والفضائل العظيمة، يقول تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة:125]، ويقول عز وجل: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67]، ويقول: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص:57]، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وخليله وصفيه {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:33] فبلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه على دينه، المتمسكين بسنته، المهتدين بهديه، الداعين بدعوته إلى يوم المعاد، وسلم تسليماً.
أما بعد:
أيها المسلمون حجاج بيت الله الحرام! أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، والوقوف عند حدوده، والتزام هديه في كل أخذٍ وطرح، وفي كل قول وفعل.
عباد الله! لقد منَّ الله على عباده بمواسم الخير، وأوقات الفضل والإحسان، وأزمنة الجود والغفران، ومن هذه الأوقات الفاضلة؛ ما نعيشها في هذه الأيام، من موسم الحج إلى بيت الله الحرام، هذا الموسم العظيم الذي يفيض الله فيه من رحماته على عباده، ومن نفحات بره وجوده وأسراره على خلقه، ويُباهي به الملائكة، ويقول: {انظروا إلى عبادي! أتوني شعثاً غبراً من كل فج عميق يرجون رحمتي ومغفرتي ولو كانت ذنوبهم عدد الرمل لغفرتها لهم}.
أيها الإخوة! في هذه الأيام المباركة يتجه المسلمون إلى بيت الله الحرام؛ لأداء فريضة من فرائض الله، تاركين في سبيل ذلك أوطانهم، وأولادهم، وأموالهم، متجهين إلى مكان واحد، في زمن واحد؛ قاصدين رباً واحداً، وهدفاً واحداً؛ فإذا وصلوا إلى الميقات، خلعوا ثيابهم المألوفة، ولبس كل واحد منهم إزاراً ورداءً شبيهة بأكفان الموتى، وكأنهم مسافرون إلى الآخرة، واقفون في عرصات القيامة لا فرق في ذلك بين الصغير والكبير، والغني والفقير، والمأمور والأمير، والأبيض والأسود، والعربي والعجمي، والمشرقي والمغربي؛ فالكل جاء يقطع البلاد جواً وبراً وبحراً؛ لحضور هذا التجمع الإسلامي الكبير، ً استجابة لنداء الله -عز وجل- على لسان خليله وشوقاً إلى لقائه {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28] ويدخلون في حرم الله مُحرمين خاضعين خاشعين متذللين، قد تركوا ما فاتهم، واتجهوا إلى الله بقلوبهم وأبدانهم، ويترقبون في تلك المشاعر العظيمة من الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بـ عرفة، والمبيت بـ مزدلفة ومنى، ورمي الجمار، وذبح الهدي على اسم الله، والحلق أو التقصير وغيرها من أعمال الحج إلى أن يُودعوا البيت، كل ذلك بقلوبٍ خاشعة، وأعينٍ دامعة، وألسنةٍ مكبرة مهللة ملبية داعية.
يالها من مواقف عظيمة! تُسكب فيها العبرات، ويُتاب فيها من السيئات، ويُكثر فيها من الصالحات؛ لتقال العثرات، وتُغفر الخطيئات، وتُستر الزلات بعفو الله ولطفه.(40/2)
الحج المبرور وشروطه
.(40/3)
الإخلاص وعدم الشرك بالله
أيها المسلمون حجاج بيت الله الحرام! إن أوجب الواجبات عليكم تحقيق التوحيد، وإخلاص العقيدة، وتنقيتها من شوائب الشرك والبدع والخرافات، فإن من يقع في الشرك بالله عز وجل فلا ينفعه عمله ولا يجزئ حجه؛ لأنه ليس على أصلٍ ثابت من العقيدة الصحيحة عقيدة أهل السنة والجماعة.
ومن الواجبات -أيضاً- إخلاص العمل لله عز وجل، وابتغاء المسلم بحجه وجه الله والدار الآخرة، وليحذر الحاج -كل الحذر- أن يريد بحجه الدنيا وحطامها، أو الرياء والسمعة والمفاخرة والمباهاة.
عباد الله! يقول الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من حجَّ فلم يرفث ولم يفسق؛ رجع كيوم ولدته أمه} أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، وعنه رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة} متفق عليه.
{وسئل النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور} متفق عليه.
من هذه النصوص المباركة يتبين أن الحج المقبول عند الله هو الحج المبرور الذي لا يرتكب صاحبه فيه معصية من الرفث والفسوق والجدال بالباطل.
والرفث يا عباد الله! فُسِّر بالجماع قبل التحلل من الإحرام، ويلحق بذلك كل كلام فاحش.
أما الفسوق: فهو العصيان؛ ويدخل في ذلك جميع المعاصي من الظلم والسب وإيذاء المسلمين بغير حق، والسخرية والكذب والغيبة والنميمة كما يدخل فيه إيذاء المسلمين والحجاج بالقول أو بالعمل، بالمشاعر والطرقات، وفي الطواف والسعي، وحين رمي الجمار وفي غير ذلك من الأماكن، كما يدخل فيه مزاحمة المسلمين والتعرض لأذاهم، ويدخل فيه -أيضاً- كل ما يدعو لجلب الفوضى والإخلال بالأمن واستغلال موسم الحج لغير ما شرعه الله وسنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم.(40/4)
متابعة النبي صلى الله عليه وسلم في أداء مناسك الحج
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله يا حجاج بيت الله! أدوا مناسك حجكم على ما أمره الله، وعلى ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل: {خذوا عني مناسككم}.
حافظوا على أوامر الله عز وجل، وأدوا فرائضه، واحذروا معصيته في هذه البقاع المباركة، وتخلقوا بالأخلاق الفاضلة، وعاملوا إخوانكم الحجاج المعاملة الحسنة؛ تكونوا بإذن الله ممن حاز على ثواب الحج المبرور.
ألا إن مما يحز في نفس كل مسلم، ويحق أن يأسى ويأسف له واقع كثير من حجاج زماننا هذا، فهم تجسموا المشاق، وتحملوا الصعاب، وأتعبوا أبدانهم، وتركوا أوطانهم، وأنفقوا أموالهم ومع ذلك كله لا يؤدون الحج على الوجه المطلوب، ويقعون في مخالفات كثيرة، ويقعون في الأذى لعباد الله نتيجة الجهل بأحكام هذا الركن العظيم.
فتفقهوا في دينكم، وتعلَّموا مناسك حجكم، واسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون.
نسأل الله لنا ولحجاج بيت الله الحرام وللمسلمين عامة العلم النافع والعمل الصالح.
اللهم وفق حجاج بيتك الحرام لأداء المناسك، واكتب لهم القبول والبر والمغفرة يا رب العالمين، اللهم قِهم الأذى والشر يا رب العالمين!
عباد الله! استغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود.(40/5)
نفقة الحج بين الحلال والحرام
الحمد لله، أحمده وأستعينه وأستهديه، وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله عز وجل واشكروه على سوابغ نعمه، ومنها: ما يسره لكم من الوصول إلى بيته الحرام، والاجتماع أمام هذه الكعبة المشرفة في هذا المكان المبارك الذي يُرجى فيه غفران الذنوب وإجابة الدعاء.
عباد الله! بادروا بالتوبة إلى الله من جميع الذنوب، وحافظوا على أوامر الله وعلى رأسها الصلاة مع جماعة المسلمين بخشوعها وأداء أركانها وواجباتها وسننها؛ فإن بعض الحجاج هداهم الله يتساهل في ذلك وهذا منكر عظيم.
كما يجب على الحاج أن يختار النفقة الطيبة لحجه؛ لأن الله طيب لا يقبل إلا طيباً وفي الحديث: {إذا خرج الرجل بنفقة طيبة فنادى: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لبيك وسعديك، زادك حلال، وحجك مبرور، وإذا حج بالنفقة الخبيثة ينادي: لبيك اللهم لبيك، ناداه منادٍ من السماء: لا لبيك ولا سعديك، زادك حرام، ونفقتك حرام، وحجك مأجورٌ غير مبرور} وقال الشاعر:
إذا حججت بمال أصله سحتُ فما حججت ولكن حجت العير
لا يقبل الله إلا كل طيبةٍ ما كل من حج بيت الله مبرور
فعلى المسلم الحذر من خبيث النفقة، واختيار الطيب، ونحن في عصر عزت فيه النفقة الطيبة، نتيجة انتشار الأموال المحرمة، وكثرة طرقها، ولا حول ولا قوة إلا بالله!(40/6)
منافع الحج وحكمه
واعلموا أن من أوجب الواجبات عليكم: إتباع الأعمال الصالحة ببعضها، من ذكر الله، والتلبية، والتسبيح، والتهليل، والتكبير، والاستغفار، والدعاء، ففي الحديث: {إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار؛ لإقامة ذكر الله} رواه أبو داود والترمذي وقال: حديث حسن صحيح.
فاستفيدوا -رحمكم الله- من منافع الحج العظيمة، ففيه امتثال لأمر الله، وإعلان لتوحيده، وفيه تفكر لأحوال الأنبياء والمرسلين، وأخص منهم إبراهيم الخليل الذي رفع القواعد من البيت وإسماعيل، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم الذي عاش في مكة، وبلَّغ الدعوة، وأصابه من الأذى ما الله به عليم، فلنا به القدوة الحسنة.
وينبغي علينا تذكر هذه المواقف العظيمة؛ ففيها من المنافع الدينية والدنيوية والاجتماعية والصحية ما لا يعد ولا يحصى، فالسعيد من وفق لاغتنامها.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على نبينا محمد، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد، وارضَ اللهم عن صحابته أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وارضَ عنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين.
اللهم وفق المسلمين لما تُحب وترضى، اللهم ردهم إليك رداً جميلاً يا رب العالمين!
اللهم وفق الحجاج والمعتمرين وارزقهم القبول والتوفيق والسداد يا رب العالمين!
اللهم أيد بالحق إمامنا، اللهم وفقه ووفق جميع ولاة أمورنا، اللهم اجزهم خير الجزاء وأوفره، نتيجة ما قدموا ويقدمون لحجاج بيت الله الحرام، من تسهيل ورعاية، اللهم اجعله في موازينهم يا رب العالمين!
اللهم أصلح علماءنا وشبابنا ونساءنا يا رب العالمين!
اللهم دمر اليهود وأعوانهم، اللهم عليك بهم جزاءً بما قاموا ويقومون من إحراق المقدسات، وقتل الأبرياء، وتشريد المسلمين، اللهم عليك بجميع أعدائك عاجلاً غير آجل، اللهم أنزل عليهم بأسك يا رب العالمين! رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، اللهم اجعلنا ممن وفق للعمل الصالح يا رب العالمين!
وأقم الصلاة! إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(40/7)
خطبة عيد الأضحى
إن الله سبحانه وتعالى سن سنناً، وشرع أحكاماً قدراً وكوناً، ومن حكمه سبحانه وتعالى أن شرع لهذه الأمة مواسم تزداد فيها الطاعة، وأياماً يفرحون بها وفق شرع الله، وإن من هذه الأيام عيد الفطر وعيد الأضحى، وقد تكلم الشيخ عن عيد الأضحى وسننه وآدابه، وأحكامه، ثم ذكر وصايا ذكَّر فيها المسلمين بإخوانهم في كل مكان.(41/1)
حقيقة العبد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً مبرأةً من الشك والشرك والريب والنفاق، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، وخيرته من خلقه وصفوته من رسله، بعثه الله بالهدى ودين الحق، فبلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه، ومن اقتفى أثره واهتدى بهداه ودعا بدعوته إلى يوم الدين.
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، وسبحان الله وبحمده بكرةً وأصيلاً، لا إله إلا الله، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، لا إله إلا الله الولي الحميد، الله أكبر عدد ما ذكر الله ذاكرٌ وكبر، الله أكبر عدد ما لاحت بوارق السعادة على من قصد البلد الحرام، وما دامت عليهم في تلك الرحاب الطاهرة مواهب ذي الجلال والإكرام، الله أكبر عدد ما أحرموا وصلوا إلى البيت وطافوا بالكعبة وسعوا بين الصفا والمروة، الله أكبر عدد ما رفعوا أصواتهم بالتلبية، وعدد ما ذبحوا وحلقوا ورموا وشربوا من ماء زمزم.
الله أكبر عدد ما تحركت قوافل الحجيج، آمةً هذا البيت العتيق، الله أكبر عدد ما انطلقت مواكبهم من مكة إلى منى، ومنها إلى عرفة، الله أكبر عدد ما باتوا بـ مزدلفة، وذكروا الله عند المشعر الحرام، الله أكبر عدد ما أثابوا وودعوا، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أما بعد:
أيها المسلمون في بلد الله الحرام: أيها الحجاج الكرام! أيها الإخوة في الله في مشارق الأرض ومغاربها! اتقوا الله تبارك وتعالى، فتقوى الله جماع كل خير، وسياجٌ من كل شر، اتقوه بفعل أوامره واجتناب نواهيه، إذا كنتم تنشدون خيري الدنيا والآخرة، وترمون السعادة والفلاح في العاجل والآجل، فعليكم بتقوى الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً * وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} [الطلاق:2 - 5].
عباد الله: من نعم الله على عباده أنه شرع لهم مواسم مباركة، يفرح فيها الطائعون ويسر فيها المؤمنون، لما فيها من النفحات وتنزل الرحمات، وكثرة البركات ورفعة الدرجات، وتكفير السيئات، ومن هذه المواسم ما شرعه الله لعباده من الأعياد الشرعية، التي تعود عليهم كل عام مرتين، وتتكرر عليهم بالخير والفضل والإحسان كل سنةٍ في وقتين اثنين، في الفطر بعد رمضان، وفي الأضحى بعد يوم عرفة.
في الأعياد يظهر المسلمون شعائر دينهم، ويتعارفون ويتآلفون وتسود بينهم حياة الصلة والمحبة والوئام، ويجتمعون على ذكر الله سبحانه وتعالى، وتكبيره، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
وإننا لنحمد الله سبحانه حق حمده على ما مَنَّ به علينا من إدراك عيد الأضحى المبارك، هذا العيد الذي يعود كل عامٍ بخيره وبركته على المسلمين عامة، وعلى حجاج بيت الله الحرام خاصة، حيث يتقرب فيه الجميع إلى الله، بأعمالٍ جليلة، وعبادات عظيمة.
أمة الإسلام: ما أشد حاجتنا اليوم إلى التعرف على المغزى الحقيقي في العيد، وعلى الأثر الإيماني والاجتماعي منه، وما الدروس والعبر التي يجب أن يخرج بها المسلمون من مرور العيد عليهم، وكيف ينبغي أن تكون حياتنا وأخلاقنا في العيد، إنه ليس العيد السعيد بالتحلي بالجديد والتنعم بالغيد وخدمة العبيد، إنما السعيد حقاً من جعل الإيمان والتقوى شعاره فيما يبدأ وما يعيد، فهل أدرك المسلمون حقيقة العيد؟ وهل فهموا حكمة التشريع منه؟ وهل تفطنوا لآثاره واستناروا بعبره؟
إنهم إن أرادوا ذلك فعليهم أن يروضوا أنفسهم على الخير فعلاً وإسداءً، وقياماً بصنائع المعروف التي تضفي على المجتمع طابع الترابط والتآلف والتآخي، وتقيه مصارع السوء، وأوائل الشرور، ليفتش كل مسلمٍ عن جيرانه وأقاربه وإخوانه، فيسأل عن أحوالهم، ويتفقد شئونهم، ويسد حاجاتهم، ويعينهم في إدخال البهجة والسرور على قلوب أبنائهم، يسعفهم بالكلمة الطيبة، والابتسامة الحانية، والبشاشة المؤثرة، ليتذكر كل مسلمٍ يجتمع بأسرته يوم العيد أطفالاً يتامى، ونساءً أيامى، لا يجدون ابتسامة الأب الحنون، وحنان الأم الرءوم، ليتذكر جموعاً من إخوانه المسلمين، في بقاع كثيرة من العالم، يعيشون أوضاعاً مؤلمة، ومآساً مبكية، إشراقة العيد عندهم يخيم عليها الحزن والأسى، وأيامه تصطلي بالألم وتفقد طعم الأمن والاستقرار.(41/2)
تذكر مآسي المسلمين
ما هي أحوال إخوانكم في فلسطين، حيث البطولة والشجاعة هذه الأيام ضد أعداء الله ورسوله والمؤمنين؟! إخوان القردة والخنازير وسفكة الدماء، وخونة العهود ونقضة المواثيق، وقتلة الأنبياء والصلحاء، شذاذ الأصقاع وحثالة العالم، وأسافل الناس من اليهود الصهاينة، إن إخوانكم هناك بحجارتهم، وانتفاضتهم حول المسجد الأقصى الجريح، يحتاجون إلى الدعم مادياً ومعنوياً، والإحساس بالشعور المشترك والهدف الواحد، فالعمل على تحرير المسجد الأقصى من براثن اليهود مسئولية المسلمين جميعاً.
ما هي أنباء إخوانكم المجاهدين في أفغانستان، الذين يئنون تحت أقدام الغزاة الملحدين؟!
يستجدون منكم نخوتكم وأخوتكم، ويحتاجون إلى الدعاء والكساء والدواء والغذاء، والمساهمة والفداء، مع أن بوارق نصرهم تلوح بالأفق -ولله الحمد والمنة- وصدق الله حيث يقول: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173].
ولا تنسوا كل من تجمعكم بهم رابطة العقيدة، فوق كل أرض، وتحت كل سماء.(41/3)
الصراع قائم بين الحق والباطل
أمة الإسلام: الصراع بين الحق والباطل، وبين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، قائمٌ مستمرٌ إلى قيام الساعة، ليميز الله الخبيث من الطيب، فهاهم أعداء دينكم -يا عباد الله- على اختلاف توجهاتهم مجمعون على حرب الإسلام والكيد لأهله، فكونوا على وعيٍ وحذرٍ وفطنة من الأخطار التي تهدد أمتكم في شتى أقطارها، ونواحي حياتها، هاهم أهل الإلحاد والشيوعية، وأصحاب الشرك والوثنية، ودعاة الصهيونية واليهودية، وأنصار التثليث والنصرانية، وأهل الفساد والإباحية يشنون الحرب على الإسلام، ولسان حالهم ومقالهم يقول: "دمروا الإسلام، أبيدوا أهله، اقضوا على تعاليمه واطمسوا أنواره"، لا بلغهم الله ذلك.
وأناسٌ خرجوا في عقب الزمان يعلنون الحرب على الإسلام، ويطالبون بنبذه والتخلي عنه، والسير وراء الشعارات البراقة، والرايات الخدَّاعة، زاعمين أن الإسلام رجعية وتأخر، لا يليق بهذا العصر الحديث، وآخرون يشنون الحرب على الإسلام ومقدساته، ويسعون إلى تعكير أمن حجاج بيت الله الحرام، ويصرفون تعاليم الإسلام إلى تقديس الذوات، ورفع الشعارات، والسعي وراء التظاهرات والتجمعات، وتشجيع المسيرات والهتافات، مع نيلهم من كلام رب الأرض والسماوات، وطعنهم في صفوة الأمة وأفضل البريات، وتشكيكهم في قدسية الحرمين الشريفين، ومحاولة بث الشغب والعدوان فيهما، فيا لجرأتهم على حدود الله! ومخالفتهم لإجماع عباد الله! ويا لشناعة إلحادهم في حرم الله!! وعماهم عن قول الحق جل في علاه {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25].(41/4)
السلاح الحقيقي
إخوة الإسلام! حجاج بيت الله الحرام! من منبر المسجد الحرام، لابد أن تدركوا وأنتم تجتمعون في هذه البقاع الطاهرة، والمشاعر المقدسة، وقد تجلت فيكم مظاهر الوحدة الإسلامية بأسمى صورها، أنه لا عز للبشرية، ولا فلاح للإنسانية، إلا بتطبيق الإسلام وتحكيم الشريعة، لابد من اليقين الجازم، أنه لا يمكن أن تحقق أمة الإسلام اليوم نصراً على عدو، أو استعادةً لمجد، أو استرداداً لحقوق، أو استعادةً لمغتصبات، أو جمعاً لكلمة، أو وحدةً لصف، دون أن تسير على الثوابت والأصول التي سار عليها أسلافها من قبل.
فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، بماذا انتصر المسلمون الأوائل؟!
وبأي سلاحٍ حاربوا في غزوات الإسلام، ومعاركه الفاصلة عبر التاريخ؟!
إنه سلاح الإيمان الذي بتوفره وتمكنه في القلوب يغلب كل سلاحٍ مادي عرفته البشرية، بإذن الله القوي العزيز الذي تتضاءل أمام قوته وجبروته قوة الشرق والغرب قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ} [فاطر:44].
فحذارِ يا أمة الإسلام: أن يضعف اليقين، ويموت الأمل بنصرة هذا الدين، ويتطرق اليأس إلى نفوس المسلمين، إن مشكلات المسلمين وإن كثرت، وآلامهم وإن استمرت؛ فهي سحابة صيف يوشك أن تنقشع بإذن الله؛ متى ما نصروا دين الله، وأووا جميعاً إلى حماه قال سبحانه وتعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
إخوة الإيمان: إن أجل نعمة أنعم الله بها علينا نعمة الإسلام، التي هدانا إليها وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، ما هي أحوال العالم قبل الإسلام؟
وما هي مظاهر الحياة في الجاهلية؟
شركٌ ووثنية، ظلمٌ وجهلٌ وبغي، قتلٌ وتسلطٌ وفساد، حتى أذن الله بانبثاق فجر الهدى، وإشعاع نور الإيمان، بمبعث سيد الأولين والآخرين عليه الصلاة والسلام.
فحذارِ أن تتساهلوا بدينكم، وتعيدوها جاهليةً أشر من الجاهلية الأولى!(41/5)
العقيدة الصحيحة
إخوة العقيدة: إن أول واجبٍ عني به هذا الدين تحقيق الوحدانية لله رب العالمين، وحدانية الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، فكان أصل الدين وأساس الملَّة، وقاعدة الإسلام، العقيدة الصحيحة لها القدح المعلَّى، والنصيب الأكبر من اهتمام الكتاب والسنة، قولاً وعملاً ودعوة.
يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم: لقد قام هذا الدين على أصل إفراد الله بالعبادة فلا أنداد ولا شركاء: {فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} [الجن:18]، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36].
فواجب العباد أن يحققوا شهادة التوحيد علماً بمعناها وعملاً بمقتضاها، فلا معبود بحقٍ إلا الله سبحانه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج:62] فلا يجوز صرف شيءٍ من ألوان العبادة، صلاةً ودعاءً، ذبحاً ونذراً، استغاثةً واستعانةً وحلفاً، لغير الله كائنٌ ما كان، ويقول الله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فمالك الضر والنفع هو الله سبحانه، لا إله غيره ولا رب سواه، وبذلك يعلم أن ما يفعله عباد القبور والأضرحة من صرف العبادة لها، وسؤال أصحابها شفاء المرضى، وقضاء الحوائج، وتفريج الكروب ودفع الخطوب، والعون والمدد، أنه منافٍ لعقيدة التوحيد، وصاحبه على خطرٍ عظيم، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].
تلكم هي العقيدة الصحيحة، في جانب توحيد العبادة، أما توحيد ربنا بأسمائه وصفاته، فالمسلم يؤمن بما سمى الله به نفسه، من الأسماء الحسنى الواردة في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ويصفه بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل ولا تكييفٍ ولا تعطيل ولا تحريف قال سبحانه وتعالى عن نفسه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
فلا يجوز تمثيل الله بخلقه، كما لا يجوز نفي صفات الكمال عنه، بل نثبت لله الأسماء والصفات إثباتاً بلا تمثيل، وننفي عنه ما لا يليق به تنزيهاً بلا تعطيل، فالمسلم يقف عند ما حده الشرع، لا يزيد عليه ولا ينقص منه، ودين الله وسطٌ بين الغالي فيه والجافي عنه، والمسلم الحق يجرد المتابعة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فلا يحدث في دين الله شيئاً لم يكن عليه سلف هذه الأمة، وأهل القرون الخيرة، يقول صلى الله عليه وسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} أخرجه مسلم في صحيحه.
بهذه العقيدة الصافية عزت الأمة وسادت، وفتحت البلاد وقادت العباد، ووالله ثم والله ثم والله لن تقوم للمسلمين قائمة إلا بتحقيق هذا الأصل العظيم، والجانب المهم في دينها القويم.(41/6)
الحكمة من خلقنا
عباد الله: إياكم والغفلة عن سر خلق الله لكم في هذه الحياة، والإعراض عن حكمة وجودكم! فالله خلقكم في أحسن تقويم، وأمدكم بالسمع والبصر والفؤاد والعقل والجوارح؛ لا ليستكثر بكم من قلة، ولا ليتعزز بكم من ذلة، ولا ليستقوي بكم من ضعف، حاشاه سبحانه! بل خلقكم ابتلاءً وامتحاناً ليبلوكم أيكم أحسن عملاً، فهل أدرك ذلك أصحاب التكاثر والتفاخر، وأهل المراتب والقصور والمراكب، وأرباب الثراء والمال، والمفتونون في الدنيا، والمتنعمون بالقوة والشباب والصحة والفراغ؟
أنسوا أن الله سبحانه جامع الناس ليوم لا ريب فيه؟!
في موقفٍ رهيب يقول جل جلاله فيه: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2] أغفلوا عن يومٍ يجعل الولدان شيباً؟! يوم يجمع الله الأولين والآخرين لفصل القضاء، ففريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير، يوم تنصب الموازين وتتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذٌ كتابه بشماله، كفى ركضاً وراء المادة، وجنوناً في حب الدرهم والدينار، إنما الحياة الدنيا لعبٌ ولهو: {إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:39] الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر، الله أكبر ولله الحمد.(41/7)
أركان الدين
أيها المسلمون: يقوم صرح دينكم على أركانٍ خمسة، أهمها بعد الشهادتين الصلاة المفروضة، التي هي عمود الإسلام، والفاصل بين الكفر والإيمان، من حفظها فقد حفظ دينه، ومن تركها فلا حظ له في الإسلام، فحافظوا -رحمكم الله- على عمود دينكم، أقيموا الصلاة في أوقاتها، أدوها مع جماعة المسلمين في بيوت الله، حافظوا على أركانها وواجباتها وشروطها، وسننها وخشوعها، مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر، فإنه قوام الإسلام، وصمام الأمان في المجتمعات.
قوموا بواجب الدعوة إلى الله، بالحكمة والموعظة الحسنة، أدوا زكاة أموالكم طيبةً بها نفوسكم، فما منع قوم زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، وإن في حياة الجفاف والقحط والجدب والمجاعة، وهلاك الزروع والثمار والمواشي التي أصابت المسلمين في هذا الزمن، عبرة لمن يعتبر وذكرى لمن يزدجر.
صوموا شهركم يا عباد الله! وحجوا فرضكم، وأفشوا السلام بينكم، واصبروا على ما أصابكم، وتعاونوا على البر والتقوى، قوموا ببر الوالدين وصلة الأرحام، والإحسان إلى الفقراء والأيتام، غضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم وجوارحكم عن المحرمات، أوفوا المكاييل والموازين والمقاييس، ولا تبخسوا الناس أشياءهم، وقروا اليمين بالله في الخصومات والمنازعات، احذروا الوقوع في المعاصي، فإن لها شؤماً عظيماً على المجتمعات، وتسلحوا بسلاح الإيمان والتقوى للخروج من مآزق الإيمان، والطرق الصادة عن الكتاب والسنة، اقضوا على المظاهر الاجتماعية المخالفة لتعاليم الإسلام، كغلاء المهور، ورد الأكفاء، والمغالاة في تكاليف الزواج، حلوا مشكلاتكم بأنفسكم، مستنيرين بهدي الكتاب والسنة، اجتنبوا ما حرم الله عليكم، من الشرك والقتل والسحر والشعوذة، وإتيان الكهان والعرافين، جددوا التوبة من ذنوبكم، احذروا الربا والزنا، والمسكرات والمخدرات، والرشوة والتزوير والغش والخديعة، اجتنبوا الغيبة والنميمة والكذب والبهتان وقول الزور والحديث في أعراض المسلمين، احذروا الحسد والأحقاد والضغائن والسخرية بالمسلمين، احذروا الرياء والسمعة، اصدقوا إذا حدثتم، أوفوا إذا عاهدتم، أدوا إذا أؤتمنتم، احرصوا على اجتماع القلوب، واسعوا في جمع الكلمة وتوحيد الصفوف: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال:46] الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن والعظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم، ولجميع المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(41/8)
من السنن في العيد
الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، شهادة أرجو بها النجاة يوم يقوم الناس لرب العالمين، يوم يبعثر ما في القبور ويحصل ما في الصدور، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، المبعوث بالهدى واليقين، لينذر من كان حياً ويحق القول على الكافرين، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه الطيبين الطاهرين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا الله تبارك وتعالى وأطيعوه، وراقبوه ولا تعصوه، واشكروه شكراً يوافي نعمه، ويكافئ مننه، والهجوا بالثناء والشكر لله جل وعلا، أن بلغكم هذا اليوم العظيم، وهذا الموسم الأغر الكريم، واعلموا -رحمكم الله- أن يومكم هذا يومٌ مبارك، رفع الله قدره وأعلى مكانه وأظهر فضله، وسماه يوم الحج الأكبر، وجعله عيداً للمسلمين، حجاجاً ومقيمين، في هذا اليوم يتكامل عِقد الحجيج بـ منى، بعد أن وقفوا بـ عرفة، وباتوا بـ مزدلفة، في هذا اليوم العظيم يتقرب المسلمون إلى ربهم؛ بذبح ضحاياهم اتباعاً لسنة الخليلين: إبراهيم ومحمدٍ صلى الله عليهما وسلم، فقد أمر الله خليله إبراهيم عليه السلام بذبح ابنه وفلذة كبده، فامتثل وسلم، لكن الله سبحانه بلطفه ورحمته فداه بذبحٍ عظيم، فكانت سنة جارية، وشرعةً سارية، عملها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ورغب فيها، ففي الصحيحين {أنه عليه الصلاة والسلام، ضحى بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده وسمى وكبر}.
ومن فضل الله على عباده أن يسر لهم في الأضاحي، حيث تجزئ الشاة الواحدة عن الرجل وأهل بيته، كما في حديث أبي أيوب رضي الله عنه.
فلنتق الله يا عباد الله! ولنحذر من البخل والشح في مال الله، فقد أعطانا الكثير وطلب منا القليل، ولنضحي في هذه الأيام المباركة عن أنفسنا وأهلينا وأبنائنا، ففضل الله واسعٌ وله الحمد والمنة، وليحذر من أراد أن يضحي من العيوب التي تمنع الإجزاء، فلا تجزئ العوراء البين عورها، ولا المريضة البين مرضها، ولا العرجاء التي لا تطيق المشي مع الصحاح، ولا يجزئ من الإبل إلا ماله خمس سنين، ومن البقر إلا ما له سنتان، ومن المعز إلا ما تم له سنة، ولا من الضأن إلا ما تم له نصف سنة، والسنة في نحر الإبل قائمةً معقولة يدها اليسرى، وذبح البقر والغنم على جنبها الأيسر، موجهةً إلى القبلة، ويقول عند ذبحها: باسم الله والله أكبر، اللهم هذا منك ولك، والسنة أن يوزعها أثلاثاً، فيأكل ثلثاً، ويهدي ثلثاً ويتصدق بثلث، ووقت الذبح يمتد من بعد الفراغ من صلاة العيد إلى آخر أيام التشريق على الصحيح من أقوال العلماء، فلا تحرموا أنفسكم ثواب الله في هذه الأيام المباركة، وتقربوا إلى الله بالعج والثج فما عمل في هذه الأيام المباركة عملٌ أحب إلى الله من إراقة الدم، وكثرة ذكره وتكبيره، الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد.(41/9)
أعمال الحج يوم العيد وبعده
حجاج بيت الله الحرام يفيضون في هذا اليوم إلى منى، لرمي جمرة العقبة بسبع حصيات متعاقبات، استناناً بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، القائل: {خذوا عني مناسككم} ثم بعد الرمي ينحر المتمتع والقارن هديه، ثم يحلق رأسه أو يقصره، والحلق أفضل، وبعد ذلك يباح للمحرم كل شيء، حرم عليه بالإحرام إلا النساء، ويسمى هذا التحلل الأول، ويسن له بعد ذلك التطيب والتوجه إلى مكة لطواف الإفاضة وهو ركنٌ من أركان الحج لا يتم إلا به، لقوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج:29] ثم يسعى المتمتع سعي الحج، وكذلك المفرد والقارن إن لم يسعيا مع طواف القدوم، وبعد ذلك يرجع الحجاج إلى منى، للإقامة بها ليالي أيام التشريق، والرمي والمبيت ليالي أيام التشريق واجبٌ من واجبات الحج، ثم بعد الرمي في اليوم الأولين، من أيام التشريق، يجوز لمن أراد التعجل أن يخرج من منى قبل غروب الشمس، ومن تأخر وبات الليلة الثالثة ورمى الجمرات في اليوم الثالث، فهو أفضل وأعظم أجراً، يقول تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} [البقرة:203].
فعليكم -عباد الله- بتطبيق سنة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وشغل هذه الأيام المباركة بالذكر والتكبير، لقوله صلى الله عليه وسلم: {أيام التشريق، أيام أكلٍ وشربٍ وذكرٍ لله عز وجل} ثم إذا أردتم الرجوع إلى دياركم يجب أن تطوفوا للوداع، وهو واجبٌ من واجبات الحج، لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {أُمر الناس أن يكون أخر عهدهم بالبيت إلا أنه خفف عن المرأة الحائض} تقبل الله منكم، وجعل حجكم مبروراً، وسعيكم مشكوراً، وذنبكم مغفوراً، وعملنا وعملكم خالصاً صالحاً مقبولاً.
حجاج بيت الله الحرام: يا من لبيتم نداء ربكم! وجئتم إلى هذا المكان المبارك؛ تاركين أوطانكم وأموالكم، وأعمالكم وأولادكم، لبوا نداء ربكم في كل أمرٍ فاتبعوه، وفي كل نهيٍ فاجتنبوه، قولوها دائماً وأبداً: لبيك اللهم لبيك، إجابة بعد إجابة، في كل أمرٍ من أموركم، تذكروا باجتماعكم هذا يوم يجمع الله الأولين والآخرين مما يدفعكم إلى العمل بهذا العمل العظيم، ولتبقى عليكم آثار الحج المباركة بعد عودتكم إلى دياركم؛ بالاستمرار على طاعة الله، والبعد عن معاصيه، فإن مسئولية صلاحية المجتمعات، وأمانة العمل للإسلام، منوطة في عنق كل من انتسب للإسلام، كلٌ على حسب مكانته، فقادة المسلمين وولاة الأمر فيهم يطبقون في شعوبهم شرع الله، ويسوسون رعاياهم بحكم الله، وإن من التحدث بنعم الله، التنويه بما حبا الله هذه البلاد المباركة، من ولاة أمرٍ يعلنون الإسلام، ويعتزون به، ويحكمونه ويدعون إليه، وينصرون أهله ويقومون بخدمة الحرمين الشريفين، ويرعونهما إعماراً وتوسعةً وتطهيراً، صيانةً ونظافةً وتطويراً، ويتشرفون بخدمة حجاج بيت الله الحرام، فيذللون الصعاب أمامهم شقاً للطرق والأنفاق، وجلباً للماء العذب الزلال، وتوفيراً للمواد الغذائية، والتموينية والصحية، فولاة أمرنا -أيدهم الله بنصره وتوفيقه- حماة لهذا الدين، أنصارٌ لأهله، دعاة إلى عقيدة التوحيد، ينفذون شرع الله، ويطبقون حدوده، والله نسأل أن يثبتهم على الإسلام، ويزيدهم من الهدى والتوفيق، ويرزقهم البطانة الصالحة، إنه على كل شيءٍ قدير.(41/10)
دور الدعاة في إصلاح المجتمع
هذا وإن من أكبر الوسائل لصلاح المجتمع قيام علماء المسلمين بواجبهم في الدعوة والبلاغ والبيان، وتعليم الشعوب الإسلامية أحكام دينهم، وإذا قصر أرباب هذا الشأن بواجبهم، ولم يرعوا العهد والميثاق الذي أخذه الله عليهم فإن الأحوال سوف تتفاقم شراً، وتزداد تدهوراً لا سمح الله.(41/11)
دور الدعاة والشباب في الدعوة
على الدعاة إلى الله أن يجتمعوا صفوفهم، ويوحدوا كلمتهم، ويتنازلوا عن الخلافات الجانبية، فكفى فرقةً ونزاعاً، ولم يعد الوقت وقت خلافات ودعوةٍ للذات، ولا ريب أن ما قذف به العلم الحديث من الوسائل الجديدة وآلات التقنية الحديثة لا ريب أنه ينبغي أن تستغل لخدمة الإسلام، فوسائل الإعلام الحديثة يجب أن تسخر للدعوة إلى الله، ونبذ ما يخالف شريعة الله، وأن تكون صروحاً للدعوة إلى الفضيلة، والتحذير من الرذيلة، فيكفي عبرةً وعظة ما تموج به مجتمعات الفساد، ومستنقعات الرذيلة، مجتمعات الزهري والسيلان والهربز والإيدز، وعصابات المخدرات والمسكرات، وفلول المروجين والمهربين والمدمنين.
يجب على المسلمين أن يعنوا بالأسرة المسلمة، كنواة للتربية الصالحة، وتربةٍ خصبة للتعليم والتنشئة على الإسلام، كما يجب أن تكون الجرعات العلمية التي يتناولها أبناء المسلمين في مدارسهم وجامعاتهم قائمةً على إشباع نهم الطلبة من علم الكتاب والسنة، فهذا والله هو الطريق السليم لنصرة دينهم وخدمة بلادهم، مع أن هذا لا ينافي تضلعهم فيما يحتاجه المسلمون، من علم الطب والصناعة والاقتصاد وسواها.
أما شباب الإسلام، فمهمتهم هي المهمة الكبرى، وواجبهم في الاستقامة على هذا الدين كبيرٌ وعظيم.
الله الله أيها الشباب المسلم في سلوك طريق الإسلام الصحيح! لا غلو ولا جفاء، ولا إفراط ولا تفريط، استغلوا صحوة الأمة ورجعتها بالتوجه الصحيح للإسلام الصحيح الحق، لتعيدوا مجد أسلافكم، من شباب هذه الأمة وسلفها الصالح، وحذارِ من الاغترار بالصحة والفتوة، والاسترسال في حياة الترف والدعة فإنها أسبابٌ للغفلة عن الله والدار الآخرة.(41/12)
دور المسلمة في الإسلام
وأنتِ أيتها الأخت المسلمة! اعلمي أن رسالتك في الإسلام عظيمة، يجتمع فيك حنان الأمومة وعطف الزوجية، ولَطَافة البنوة، وشفقة الأخوة، أنتِ في الإسلام اللؤلؤة المكنونة، والدرة المصونة، فواجبك على تقويم نفسك على شريعة الله، التزاماً بالحجاب والعفاف والحشمة والحياء، وفي أسرتك بالتربية الصحيحة، والعناية والرعاية الدقيقة، كل ذلك من المسئوليات العظيمة، الملقاة على عاتقك، فتفرغي لذلك، واحذري دعاة الضلال والسفور والإباحية، واعتزي بتمسكك بتعاليم دينك، التي تضمن لك عيشةً هانيةً رضية، في ظل المحافظة والستر والحياء، بعيداً عن الرذيلة والفساد والإباحية.
أمة الإسلام: بمعرفة كل فرد في المجتمع الإسلامي دوره في الصلاح والإصلاح، وتطبيق ذلك واقعاً عملياً يعود للإسلام عزه ومجده، وللمسلمين قوتهم ومكانتهم، وهذا أمل كل مسلم، وما ذلك على الله بعزيز.
فما علينا إلا أن نصدق مع الله، ونتوب إليه توبةً نصوحاً، ونفتح صفحةً جديدة للعمل بالإسلام، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على نبي الرحمة والهدى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] وقال صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة، صلى الله عليه بها عشراً}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم عليك بالشيوعيين والملحدين واليهود وسائر الكفرة المعاندين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل اللهم ولاية المسلمين فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين!!
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم أيده بالإسلام، وأعزه بالإسلام، اللهم اجعل عمله في رضاك، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم وفقه وإخوانه وأعوانه إلى ما فيه عز الإسلام، وصلاح المسلمين، اللهم اكتب على أيديهم جمع كلمة المسلمين يا رب العالمين!
اللهم اجزهم خير الجزاء وأوفره، جزاء ما قدموا ويقدمون لحجاج بيتك الحرام، اللهم اجعل ذلك في موازين أعمالهم، وفي صحائف حسناتهم، يا حي يا قيوم!
اللهم ولِّ على المسلمين في كل مكان خيارهم، وأصلح قادتهم وعلماءهم وشبابهم ونساءهم، يا رب العالمين!
اللهم اجعل عيدنا سعيداً، وعملنا صالحاً رشيداً.
اللهم أعد هذا العيد السعيد على الأمة الإسلامية وهي ترفل بثوب العز والنصر على الأعداء يا قوي يا عزيز!
اللهم أقر أعيننا بإعادة المسجد الأقصى إلى بلاد المسلمين، ونصرة إخواننا المجاهدين في أفغانستان، وفي فلسطين، وفي غيرها من بلاد المسلمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن، اللهم حبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء!
اللهم تقبل من حجاج بيتك الحرام مناسكهم يا ذا الجلال والإكرام! اللهم أعنهم على الإتمام، وارزقهم القبول والتوفيق، يا حي يا قيوم! اللهم أعدهم إلى بلادهم سالمين غانمين مأجورين غير مأزورين.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار! ربنا ظلمنا أنفسنا، وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكوننَّ من الخاسرين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم! وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(41/13)
أخطاء شائعة في الصلاة
إن الصلاة التي تحكم الصلات بين المخلوق وخالقه، وتحقق الأثر البالغ في نفس المصلي؛ فتنهاه عن المنكر وتأمره بالمعروف وتعينه على أمور دينه ودنياه هي الصلاة الشرعية المقامة على ضوء معالم الكتاب العزيز والسنة النبوية، وذلك باستكمال آدابها ومستحباتها، وشروطها وأركانها.
والصلاة الشرعية تمثل دواءً ناجعاً للمشكلات النفسية، والتوترات العصبية، والقلق والاكتئاب.(42/1)
الصلاة علاج روحي ناجع
الحمد لله، جعل الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، وسيدة القربات وغرة الطاعات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، أفضل البرية وسيد البشر، القائل فيما صح عنه من الخبر: {وجُعلت قرة عيني في الصلاة}.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمة المُسداة، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه، وأزواجه، ومن اهتدى بهداه.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: أقول بعد الوصية بتقوى الله: إن الإنسان في خضم مشاغل الحياة المادية، وما تورثه في النفس البشرية؛ من مشكلات نفسية، وتوترات عصبية، يحتاج حاجة ملحةً إلى ما ينفس عن مشاعره، ويفرج من لأْوَائِهِ ومصائبه، ويبعث في نفسه الطمأنينة القلبية، والراحة النفسية، بعيداً عن العُقد والقلق والاكتئاب، وهيهات أن يجد الإنسان ذلك إلا في ظل دين الإسلام، وعباداته العظيمة، التي تمثل دواءً روحياً ناجعاً، لا نظير له في الأدوية المادية!!
ألا وإن أعظم العبادات أثراً في ذلك: الصلاة بنوعيها: فرائض ونوافل، يقول الله سبحانه: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45].
ويقول جل وعلا: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال رضي الله عنه: {أقم الصلاة، أرحنا بها} {وكان عليه الصلاة والسلام إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة} رواه: الإمام أحمد، وأبو داوُد عن حذيفة رضي الله عنه.
وما ذلك -يا عباد الله- إلا لأن الصلاة صلة بين العبد وربه، ولأن للقيام بين يدي الله عزَّ وجلَّ في الصلاة أثراً عظيماً في إصلاح النفس الإنسانية، بل وكافة المجتمعات البشرية.
ولكن -يا عباد الله- ما هي الصلاة التي تُحكم الصلات بين المخلوق وخالقه؟ ما هي الصلاة التي تحقق الأثر البالغ في نفس المصلي، فتنهاه عن الفحشاء والمنكر، وتعينه على أمور دينه ودنياه، عملاً بالواجبات والمباحات, وبُعداً عن المحرمات والمكروهات؟
أهي الصلاة جسداً بلا روح؟
وقالَباً بدون قلب؟
وحركاتٍ بدون خشوع؟
وعادة لا عبادة؟
وصورة لا حقيقة؟
وألفاظاً ومبانٍ، لا مقاصد ومعانٍ؟
لا.
وكلا؛ ولكنها الصلاة الشرعية النبوية، المُقامة على ضوء معالم القرآن العزيز، ومنهاج السنة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
إن الصلاة التي يريدها الإسلام هي التي تمثل المعراج الروحي للمؤمن، حيث تعرج به روحه كلما قام لله مصلياً؛ في فريضة أو نافلة، منتقلة من عالم المادة إلى عالم السمو والطهر والصفاء والنقاء، وفي ذلك مصدر السعادة والسرور، ومبعث الطمأنينة والحبور.
إخوة الإسلام: لا يخفى على كل مسلم بحمد الله مكانة الصلاة في دين الله، ومنزلتها في شرع الله، فهي عمود الإسلام, والفاصل بين الكفر والإيمان، ومنزلتها في الإسلام بمنزلة الرأس من الجسد، فكما أنه لا حياة لمن لا رأس له، لا دين لمن لا صلاة له والعياذ بالله، ونصوص الشرع في ذلك متظافرة بحمد الله.
وإذا كان الأمر بهذه الأهمية والخطورة، فإن الذي يحز في النفس، ويؤلم القلب، أنه لا يزال في عداد المنتسبين إلى الإسلام من لا يرفع رأساً بها، فما بال أقوام يعيشون بين ظهراني المسلمين، قد خف ميزان الصلاة عندهم، وطاش معيارها، بل لربما تعدى الأمر إلى ما هو أفظع من ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
فهل ينتهي أولئك قبل أن يحل بهم سخط الله، وتعاجلهم المنية، وهم على هذه الحال السيئة؟!
أيها الإخوة المصلون: لتهنكم الصلاة! ويا بشرى لكم بما شرح الله صدوركم لهذه الفريضة العظيمة! وهنيئاً لكم ثواب الله وفضله العاجل والآجل، لقيامكم بهذا الواجب الشرعي العظيم!(42/2)
إرشاد إلى مسائل مهمة في الصلاة
يا أيها المصلون: لتعلموا أن للصلاة المقبولة شروطاً وأركاناً، وواجبات وآداباً، لا بد من الوفاء بها، كما أن هناك مسائل مهمة، وأخطاء شائعة في هذا الفريضة؛ يحتاج المصلون إلى أن يعوها ليطبقوها.
وقد ورد في المسند: {إن أشد الناس سرقة، الذي يسرق من صلاته} وذلك بعدم تمام ركوعها وسجودها وخشوعها.
كما ورد: {إن المصلي لينصرف من صلاته، وما كُتب له إلا ربعها، أو خمسها، حتى بلغ عشرها}.
وهذا يدعو المسلم المصلي إلى أن ينتبه لشأن صلاته، حتى لا يخسر الثواب ويبوء بالعقاب.
وهذه مسائل مهمة موجزة يحسن التنبيه عليها في هذا الموضوع:
الأمر الأول: الطهارة باطناً وظاهراً، فالطهارة شرط مهم للصلاة، ولا تقبل الصلاة إلا بها، فواجب المصلي أن يتعاهد أمر طهارته ووضوئه، فلا يتساهل في ذلك، ولا يزيد إلى حد الوسوسة.
ومما يؤسف له في ذلك أن بعض العامة لا يُعنى بالوضوء والطهارة، بل إن بعضهم ليتيمم مع قرب الماء، أو إمكان الوصول إليه، وهذا تفريط ظاهر.
الأمر الثاني: استقبال القبلة: وهو كذلك شرط مهم من شروط الصلاة، ومن كان في الحرم لزمه أن يتوجه إلى عين الكعبة، وبعض المصلين -هداهم الله- يجهل ذلك أو يتساهل فيه.
الأمر الثالث: ستر العورة: وهو كذلك من الشروط المهمة، وما يفعله بعض المصلين من التقصير في هذا الأمر بلبس الثياب الشفافة، أو السراويل القصيرة التي يُرى من خلالها لون البشرة وتُميز صفتها أمر ينبغي التنبه له.
والمرأة في الصلاة عليها أن تستر جميع بدنها إلا وجهها، إلا أن يكون عندها رجال من غير محارمها، أو تكون في المسجد الذي هو مظنة رؤية الرجال لها، فيجب عليها -والحالة هذه- أن تستر وجهها، وتأتي متبذلة محتشمة، غير متبرجة ولا متطيبة؛ لترجع مأجورة غير مأزورة.
الأمر الرابع: العناية بتسوية الصفوف: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يسوي الصفوف بنفسه، كما ورد التشديد على من لمن يهتم بذلك، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {عباد الله! لَتُسَوُّنَّ صفوفَكم، أو لَيُخَالِفَنَّ اللهُ بين قلوبكم} وهذه مسئوليةٌ ينبغي أن يتعاون عليها الإمام والمأموم، بالحث والتواصي؛ ولكن يُحذر الإيذاء، ويدفع العنت، وهذا من فقه المصلي وحكمته.
الأمر الخامس: لب الصلاة وروحها، ألا هو الخشوع فيها، يقول سبحانه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].
فأين الخشوع عند أولئك المتكاسلين عنها، المستسهلين لها، الذين يتضايقون ويتبرمون ويودون الراحة منها؟!
وأين الخشوع عند أولئك المتشاغلين فيها؟ صلاتهم عبث وحركة، التفات وتمايُل، نقرٌ وعجلة، قلوبهم في كل وادٍ تهيم، وعقولهم في كل مكان تسرح، فصلاة كهذه خداج لا تمام.
فواجب المصلي أن يلازم الخشوع وحضور القلب، وأن يأخذ بالأسباب التي تعينه على ذلك، ويحذر الصوارف عنه.
والطمأنينة -أيها المصلون- ركن عظيم من أركان الصلاة، لا تصح الصلاة إلا به، وقد ابتلي كثير من الناس لضعف الإيمان، وقلة الفقه، وتمكن الدنيا في النفوس بالتساهل فيها والعياذ بالله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته؛ لسرعته وعدم طمأنينته: {ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ} متفق عليه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
الأمر السادس الذي ينبغي التنبه إليه: وجوب متابعة الإمام، يقول عليه الصلاة والسلام: {إنما جُعل الإمام ليؤتم به} فلا يجوز التقدم عليه ومسابقته، بل إن ذلك قد يكون سبباً في رد الصلاة وبطلانها، وقد ورد الوعيد الشديد على مَن هذه حاله.
يقول عليه الصلاة والسلام في حديث أبي هريرة المتفق عليه: {أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحوِّل الله رأسه رأس حمار، أو يجعل صورته صورة حمار}.
وقال الإمام أحمد رحمه الله: ليس لمن سبق الإمام صلاة.
وأمرٌ هذه خطورتُه، وتلك عقوبته، ينبغي للمصلي أن يتنبه إليه جيداً، ولا يستهويه الشيطان -أعاذنا الله منه- الذي يريد أن يفسد على المصلين صلاتهم.
وحال كثير من المأمومين في هذا الأمر يؤلم ويؤسف، فالله المستعان!
فلنتق الله -يا عباد الله- في أمورنا عامة، وفي صلاتنا خاصة؛ فإن حظ المرء من الإسلام على قدر حظه من الصلاة، ولنفكر في حالنا ماذا جنينا من جراء التهاون بشعائر الإسلام كله، ولا سيما الصلاة؟!
إن أمةً لا يقف أفرادها بين يدي الله في الصلاة؛ لطلب الفضل والخير منه؛ لجديرة ألا تقف ثابتة في مواقف الخير والوحدة والنصر والقوة؛ لأن هذه كلها من عند الله وحده.
فإذا أصلحنا ما بيننا وبين الله، أصلح الله ما بيننا وبين الناس، وإن مَرَدَّ تَرَدِّي كثير من الأوضاع في شتى البقاع لِتَرَدِّي أبنائها في أودية المخالفات، وعدم القيام بما هو من أوجب الواجبات، ألا وهو الصلاة.
واللهُ المسئول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويرزقهم الفقه في دينه، والبصيرة فيه، وأن يجعلهم محافظين على شعائر دينهم، معظمين لها، قائمين بعمودها على خير وجه، إنه جواد كريم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(42/3)
السر في الأمر بإقامة الصلاة
الحمد لله وحده، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واحرصوا على إقامة صلاتكم؛ فإنها نور لكم في الأرض، وذُخر لكم في السماء، وإن المتأمل في آيات التنزيل ليجد أن الأمر بالصلاة يأتي دائماً بأسلوب الإقامة، وفي ذلك زيادة معانٍ على مجرد الأداء؛ لأن الإقامة تعني الإتمام والعناية.
وإن مسئولية المصلين لعظيمة بالنسبة لأنفسهم تعاهداً لها، وعناية بها، وبالنسبة لغيرهم من معارف وأقارب، وأبناء وجيران؛ من حيث أمرهم ونصحهم في هذا الموضوع العظيم.
وعلى أئمة المساجد دور كبير؛ لأنهم يضطلعون بمهمة كبرى، فعليهم أن يقوموا بها عناية بالصلاة، وتفقيهاً بأحكامها وحِكَمِها على حسب قول المصطفى صلى الله عليه وسلم: {صلوا كما رأيتموني أصلي} ولا بد من تحقيق التعاون بين الأئمة والمأمومين، وذلك بقيام كل برسالته؛ لتتحقق النتائج المرجوة بإذن الله.
بقي ملحظ مهم في هذا الموضوع، وهو أن من المسائل التي فيها سعة، وقد وقع الخلاف فيها بين الأئمة؛ لا سيما في أمور السنن والمستحبات، لا ينبغي أبداً أن تكون محل شقاق ونزاع، وتنافرٍ بين المسلمين، كما لا يليق التشديد والإنكار فيها، ولا ينافي ذلك الحرص على السنة.
فاتقوا الله -عباد الله- وتفقهوا في أحكام دينكم.
وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير من قام بالصلاة، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، كما أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين, واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك.
اللهم وفق جميع ولاة أمر المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجمع قلوبهم على الحق والهدى يا رب العالمين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميراً عليه، يا قوي يا عزيز.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
ربنا اجعلنا مقيمي الصلاة، ومن ذريتنا، إنك أنت السميع العليم.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(42/4)
ومن دخله كان آمنا
إن الله عز وجل اختار مكة المكرمة لتكون مكاناً يعبد فيه سبحانه وتعالى وخصه عن سائر بقاع الأرض، فجعل في هذا المكان البركة في المطعم والمشرب، وجعل أفئدة الناس تهوي إليه، ومن خصائصه أيضاً أن الله عز وجل جعله أمناً للخائف، وليس ذلك في عهد النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل من قبل أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بمئات السنين، وما زالت حرمته إلى اليوم.(43/1)
خصائص الحرم المكي
الحمد لله المتفرد بالخلق والاختيار، القائل في محكم التنزيل: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68] أحمده تعالى على نعمه الغزار، وأشكره على فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العزيز الغفار، سبحانه هو الله الواحد القهار، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الأطهار، وصحبه الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله -تبارك وتعالى- واشكروه على نعمه الظاهرة والباطنة.
عباد الله: إن المتأمل في أحوال هذا الكون، يجد أنَّ من أعظم الدلائل على وحدانية الله، وأكبر الشواهد على ربوبيته وكمال حكمته وعلمه وقدرته، أنه جل وعلا يختار ما يشاء من الأشخاص والأمكنة، ويخص ما يريد من الأشياء والأزمنة، لمقاصد عُظمى تقوم عليها مصالح العباد، فلا شريك له سبحانه يختار كاختياره، ويدبر كتدبيره: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:68].
ومن ذلك اختياره -سبحانه- للملائكة المقربين، والأنبياء والمرسلين، فاصطفى -سبحانه- الأنبياء من ولد آدم، واختار الرسل منهم {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] واختار من الرسل أولي العزم، واختار من أولي العزم الخليلين إبراهيم ومحمداً عليهما الصلاة والسلام، ومن ذلك اختياره ولد إسماعيل من أجناس بني آدم، ثم اختار منهم بني كنانة من خزيمة، ثم اختار من بني كنانة قريش، ثم اختار من قريش بني هاشم، ثم اختار من بني هاشم سيد ولد آدم محمداً صلى الله عليه وسلم، واختار له أصحاباً هم أفضل الأمة بعده، واختار أمته وفضلها على سائر الأمم {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
فلله القدرة النافذة، والحكمة البالغة فيما يخلق ويختار، وإن مما اختاره الله -عز وجل- لعباده من الأمكنة المباركة هذا البلد الحرام، خير الأماكن وأشرف البقاع على الإطلاق، اختاره الله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وجعل عرصاته مناسك لعباده، وأوجب عليهم الإتيان إليه من كل فجٍ عميق، فيدخلونه متواضعين متذللين متجردين عن لباس أهل الدنيا.(43/2)
الأمان لمن دخل البلد الحرام
عباد الله! لقد جعل الله هذا البلد حرماً آمناً، ومكاناً مباركاً، وهدى للعالمين، يجدون عنده الهدى بدين الله، هو أول بيتٍ وُضع في الأرض للعبادة، وخُصِّص لها، فلا يخرج به عنها بحال من الأحوال، من دخله كان آمناً، فهو بمثابة الأمن لكل خائف، وليس هذا لمكان آخر في الأرض سواه، وقد بقي هكذا منذ أن رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وحتى في جاهلية العرب، وفي الفترة التي انحرفوا فيها عن دين إبراهيم، وقد بقيت حُرمة هذا البيت سارية، وستبقى -بإذن الله- إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها وهو خير الوارثين، فقد حماه الله عز وجل فلم يغلب عليه جبَّار، ولم يعلو فيه صوت على صوت الحق، ولم ترتفع فيه راية غير راية التوحيد، ولم يُرفع فيه شعارٌ مناهض للإسلام.
لقد كان الرجل في الجاهلية يلقى قاتل أبيه أو أخيه في البلد الحرام والشهر الحرام فلا يعرض له، كيف وقد امتن الله بذلك على الناس بقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت:67] ويقول جل وعلا: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْء} [القصص:57] بل لقد تعدَّى الأمر الإنسان إلى الحيوان والطير والنبات والزرع والشجر والمال والجماد، أخرج الشيخان في صحيحيهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة: {إن هذا البلد! حرَّمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يُسفك فيه دم، ولا يُعضد فيه شوك، ولا يُنفَّر فيه صيد، ولا يختلى خلاه، ولا تلتقط لقطته إلا لمن عرّفها}.(43/3)
تكفير الذنوب وتعظيم الحسنات
كما جعل المولى -جل وعلا- قصد هذه البقعة المباركة؛ مكفراً للذنوب، ماحياً للأوزار، حاطاً للخطايا، بل لم يرضَ لقاصده ثواباً دون الجنة، فلو لم يكن هذا البلد الأمين خير البلاد وأحبها إلى الله لما جعلها مناسك لعباده، وفرض عليهم قصدها، وجعل ذلك ركناً من أركان الإسلام، وأقسم به جل وعلا في موضعين من كتابه الكريم، في سورتي البلد والتين، وليس على وجه الأرض بقعة يجب على المستطيع السعي إليها والطواف بالبيت الذي فيها سواها، وجعل فيها من المقاصد والخصائص والمزايا الجم الوفير، فالصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة فيما سواه، كما في المسند والنسائي وابن حبان بسند صحيح، وهي قبلة المسلمين، ومهوى الأفئدة، ومهبط الوحي، ومهد الرسالة، ومنبع النور، ومصدر إشعاع الهدى للبشرية قاطبة.(43/4)
الحرم منطقة أمن ودار سلام
إخوة الإيمان! لقد جعل الله للناس منطقة أمان، ودار سلام، وواحة اطمئنان، تلكم هي هذه البقاع الطاهرة، يستوي في ذلك جميع عباد الله ممن تشرَّف بالإسلام: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج:25].
ولقد كان النهج الأمني الذي شرعه الله في البيت الحرام سابقاً لكل محاولات البشر في إيجاد منطقة حرام يلقى فيها السلاح، ويأمن فيها المتخاصمون، وتُحقن فيها الدماء، ويجد كل مسلم فيها مأواه.(43/5)
الأدب مع حرم الله
وإذا كان الإسلام يُقرر أن هذا البلد واحة سلام، ومنطقة أمن وأمان، فإنه يُهدد ويتوعد كل من يريد اعوجاجاً عن هذا النهج المستقيم بالعذاب الأليم، فرتب العقاب على الهم والإرادة بالسيئة وإن لم تفعل، يقول تعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25] فكيف بمن يريد ويفعل؟
إن في هذا التعبير البليغ زيادةٌ في التحذير ومبالغة في التوكيد.(43/6)
تعظيم الحرم عند السلف الصالح
ولقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة في الأدب مع حرم الله عز وجل، يقول عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما: [[كنا نعد لا والله وبلى والله من الإلحاد في الحرم]] وقال بعضهم: "إن احتكار الطعام وظلم الخادم إلحاد في الحرم".
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قوله: [[لأن أُخطئ سبعين خطيئة بركبة، أحب إلي من أن أخطئ خطيئة واحدة في الحرم]].
أيها المسلمون! حقاً لقد ظهر سر تفضيل هذا المكان المبارك في انجذاب أفئدة المسلمين وهوي قلوبهم، وانعطاف نفوسهم ومحبتهم له، يثوبون إليه على تعاقب الأعوام من جميع الأقطار، ولا يقضون منه وطراً.
لا يرجع الطرف عنها حين ينظرها حتى يعود إليها الطرف مشتاقا
فلله كم لهذه البقعة المباركة من محب أنفق في حبها الأموال والأرواح، ورضي بمفارقة فلذات الأكباد، والأهل والأحباب والأوطان؟!
محاسنه هيولا كل حسن ومغناطيس أفئدة الرجال
يحدوهم الشوق، ويحفزهم الأمل في مغفرة الله ورضوانه.
أيها المسلمون! يقول الله عز وجل: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة:97] ويقول سبحانه: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:96 - 97].
مكة المكرمة أفضل البقاع عند الله، وأحب البلاد إلى رسول الله، فقد أخرج الإمام أحمد في المسند والترمذي والنسائي وابن حبان، عن عبد الله بن عدي بن الحمراء أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف على راحلته بـ الحزورة -موضع بـ مكة - يقول: {والله إنك لخير أرض الله، وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني أخرجت منكِ ما خرجت}.
بـ مكة نور يهز الشعور وينطق كل فتى أخرس
يجاذب قلبي إليها الهوى ففي غيرها القلب لم يأنس
وبيت العتيق لنا قبلة نُفدِيه بالنفس والأنفس
لقد ظلت مكة عبر التاريخ، وعلى مر القرون بناءً شامخاً، وصرحاً منيعاً، تتهاوى الدول، وتتساقط كأوراق الخريف، وتحفظ مكة بحفظ الله، رمزاً للإيمان والأخوة، وموئلاً للعقيدة، ومصدراً للدعوة، ومركزاً لأعظم حضارة إسلامية انبثقت من تلك البقاع، حتى غيَّرت مجرى التاريخ، وهزَّت كيان العالم، وزلزلت كيان الوثنية، وحطَّمت عروش الجاهلية.
الله أكبر! بـ مكة عبق الذكريات الخالدة، وشذا البطولات الماجدة.
مكة المكرمة مركز العالم وواسطة الدنيا، وقطب الرحى في كيان هذه الأمة، اسألوا عن ذلك التاريخ من عهد آدم عليه السلام إلى إبراهيم حيث بناء البيت، وحيث المقام والحطيم وزمزم وهاجر وإسماعيل، إلى هود وصالح وموسى وعيسى عليهم السلام، إلى محمد بن عبد الله عليه صلوات الله وسلامه، يصدع بدعوة التوحيد في تلك الربى والبقاع، إلى أن يعود إليها فاتحاً مظفراً، إلى الصحابة الكرام والفاتحين العظام، حتى هيأ الله لهذه البقاع المباركة تلك الدولة المباركة، ترعى شئون الحرمين وتوليهما العناية والاهتمام، أخلص الله أعمالها، وسدد أقوالها وأفعالها، وجعل ما تقدمه في موازينها، وليمت الحاسدون بحسدهم، والغائظون بغيظهم: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119].(43/7)
عتابٌ لمن أساء الأدب في الحرم
أيها المسلمون! إن الواجب علينا -جميعاً- أن نراعي الآداب الشرعية، ونحن نعيش في هذه البقاع الطاهرة، ولكن الله المستعان! لقد أساء أقوام الأدب مع الله، ومع حرمه ومع عباده، فهل من الأدب أن يمارس العبد ما يخالف العقيدة؟! أو يقترف بدعة أو خرافة؟! أو خطيئة أو معصية؟!
هل من الأدب! وحسن الجوار أن تضيع الصلاة ويتساهل في الطاعات؟!
هل من الأدب اقتراف الذنوب من وقوع في الزنا أو تعامل بالربا أو تعاطٍ للمسكرات والمخدرات، وجلبها إلى أفضل البقاع؟!
هل من حسن الجوار: السباب والشتائم، والغيبة والنميمة والبهتان، والظلم والتعدي والغش والتزوير، أو إعلان المعازف ورضع الملاهي، أو التبرج والسفور والاختلاط المحرم، وما يفعله بعض السفهاء من قلة الحياء في حرم الله وأمنه؟!
هل من الأدب مع حرم الله أن يحول إلى جلب منشورات، أو يحول إلى مزايدات ومهاترات؟!
فاتقوا الله ربكم -أيها المسلمون- وأحسنوا الأدب مع هذه البقاع الطاهرة.(43/8)
نداء لأهل أم القرى في موسم الحج
أيها المسلمون! هاهي طلائع عباد الرحمن وفدت إلينا، وفدت إليكم يا أهل أم القرى، فماذا أعددتم لهم من قِرى، إن القِرى المطلوب قِرى الروح والخلق وحسن التعامل، فليتق الله المسئولون عن الحجيج، وليتق الله المطوفون والمسئولون عن حملات الحج والعمرة، ليخلصوا أعمالهم لله، وليرعوا شئون عباد الله، وليعلموا أنهم مسئولون عنهم أمام الله، وليكونوا عند حسن الظن بهم، فلقد كان العرب وهم في جاهليتهم يُكرمون الحجيج، وما السقاية والرعاية والرفادة والوفادة إلا دليل على ذلك، فأهل الإسلام أولى بذلك وأحرى.
فاتقوا الله -عباد الله- والتزموا -جميعاً- بالآداب الإسلامية، وعلينا -جميعاً- أن نحمد الله ونشكره على ما حبانا من نعمة هذه البقاع المباركة، وأن نرعى الأدب فيها.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا التأدب بآداب الإسلام، وأن يرزقنا اتباع سنة سيد الأنام بمنه وكرمه، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(43/9)
تعظيم الشعائر من تقوى الله
الحمد لله الذي جعل بيته الحرام مثابةً للناس وأمنا، وأشهد أن لا إله إلا الله أغنى وأقنى، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بَلَغَ من المراتب أشرفها وأسنى، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين مدحهم ربهم وأثنى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله- وعظِّموا المشاعر والشعائر {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] واشكروه جل وعلا على ما حباكم من نعمة الأمن والطمأنينة، لا سيما في هذه البقاع الشريفة، والحرمات الآمنة المُنيفة، واعلموا أنكم كما تعيشون في الأمكنة المباركة، فإنكم تعيشون في الأزمنة المباركة، وهي أشهر الحج، والأشهر الحُرم التي قال الله فيها: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} [التوبة:36]، فيجب عدم ظلم النفس بالوقوع في المعاصي في هذه الأزمنة والأمكنة المباركة.
ألا وإن من شُكر نعمة الله التحدث بما حبا الله هذه البلاد المباركة، حيث هيأ لهذين الحرمين الشريفين من الرجال الأفذاذ من يقومون برعايتهما وصيانتهما، من ولاة الأمر -وفقهم الله- الذين بذلوا ويبذلون قصار جهدهم في صيانة الحرمين الشريفين إعماراً وتطهيراً وتوسعة وصيانة، وصدقاً وإنصافاً للحق والتاريخ، إنه لم يشهد الحرمان الشريفان عناية ورعاية، وخدمةً للحجيج، كما حصل أو يحصل في هذه البلاد المباركة، نقولها حقاً لا نريد بها نفاقاً ولا مجاملة، وليمت الحاسدون بحسدهم، لا سيما والمسلمون يعيشون هذه الأيام فرحة كبرى بوضع اللبنة الأخيرة لمشروع توسعة المسجد النبوي الشريف، وهي أعظم توسعة عرفها التاريخ، فباسم المسلمين جميعاً، وباسم الحجاج والعمار والزوار، نرفع أكف الضراعة لمن كان خلف هذا العمل الإسلامي الجليل، أن يجزيهم الله خير الجزاء وأوفره، وأن يجعل ذلك في موازين أعمالهم، وأن يزيدهم من الهدى والتوفيق بمنه وكرمه.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرسول المجتبى، والحبيب المصطفى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وأرض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، وسلِّم الحجاج والمعتمرين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير.(43/10)
الإمام القدوة
إن سير العلماء وأعظمها سيرة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم، تعتبر حافزاً كبيراً، ومنهجاً قويماً يسير عليه طلاب العلم، وينهجون فيه إلى الصراط المستقيم، وإن من أهم تلك السير هي سيرة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله، وقد بين الشيخ في هذا الدرس كيف كانت حياته ونشأته على طلب العلم، وزهده وورعه، ومدافعته للمحن والفتن، والذب عن سنة إمام المرسلين محمد بن عبد الله الصادق الأمين.(44/1)
أهمية قراءة سير العلماء
الحمد لله، جعل من الرسل بقايا من أهل العلم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله لي ولسائر المسلمين الهدى واليقين، والعز والنصر والتمكين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المؤمنين، وخالق الخلق أجمعين، وقيوم السماوات والأرضين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله إمام المتقين، وأشرف الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابتة الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
عباد الله: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله رحمكم الله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة:282].
عباد الله: إن في تاريخ العظماء لخبرا، وإن في سير العلماء لعبرا، وإن في أحوال النبلاء لمدّكرا، وأمتنا الإسلامية أمة أمجادٍ وحضارة، وتاريخ وأصالة، وقد ازدان سجلها الحافل عبر التاريخ بكوكبة من الأئمة العظام، والعلماء الأفذاذ الكرام، مثلوا عقد جيدها وتاج رأسها، ودري كواكبها، كانوا في الفضل شموساً ساطعة، وفي العلم نجوماً لامعة، فعدوا بحقٍ أنوار هدى، ومصابيح دجى، وشموعاً تضيء بمنهجها المتلألئ، وعلمها المشرق الوضاء غياهب الظُلَم، وتبددها أنوار العلوم والحكم.
إخوة الإيمان: في تاريخ الإسلام علماء ربانيون، وأعلامٌ عاملون، وأئمة مهديون، هم من منة الله على هذه الأمة، قاموا بالإسلام وللإسلام، يحيون بكتاب الله الموتى، ويبصرون به أهل العمى، ويرشدون به من ضل منهم إلى الهدى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍ تائه قد هدوه، يقتبسون من نور الوحي، ويسبرون على مشكاة النبوة، عقيدة وعلماً وعملاً ومنهجاً ودعوة، فكم نفع الله بهم البلاد، وكم هدى بهم من العباد.
وإن ارتباط الأجيال اللاحقة والناشئة المعاصرة بسلفهم من العلماء الأفذاذ، ينتفعون بسيرتهم ويسيرون على منهجهم، ويقتبسون من نور علمهم وفضلهم، لهو من أهم الأمور التي ينبغي أن نعني بها، لا سيما العلماء وطلاب العلم والدعاة إلى الله، ورجال الحسبة والإصلاح، كيف ونحن نعيش في أعقاب الزمن حيث كثرت الفتن، وطمت المحن، واستحكمت الأزمات، وعمت الخلافات، وتباينت المشكلات والمعضلات، ولا مخلص منها إلا الاعتصام بالكتاب والسنة، والسير على منهج علماء سلف هذه الأمة رحمهم الله الذين يعدون أمثلة حية ونماذج فريدة، تمثل التطبيق الحي السليم، والمنهج العملي الصحيح للإسلام، عقيدة وسلوكاً.
ولهذا قال بعض أهل العلم: سير الرجال أحب إلينا من كثيرٍ من الفقه، غير ألا عصمة لأحدٍ من سائر الناس، والتعصب للرجال مذموم وخير الهدي هدي من لا ينطق عن الهوى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4].(44/2)
سيرة الإمام أحمد
أمة الإسلام: وكان من أجل هؤلاء الأئمة، وأفضل هؤلاء العلماء، عالمٌ لا كالعلماء، وعلمٌ لا كالأعلام، جبلٌ أشم، وبدرٌ أتم، وحبرٌ بحر، وطودٌ شامخ، يعد بجدارة إمام القرن الثالث الهجري، فريد عصره، ونادرة دهره، قَلَ أن يجود الزمن بمثله، إنه أئمة في شخص إمام، وأمة في رجل.
قال عنه الإمام الشافعي رحمه الله: خرجت من العراق فما خلفت فيها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أتقى لله منه.
وقال عنه الإمام الذهبي رحمه الله: عالم العصر، وزاهد الدهر، ومحدث الدنيا، وعَلَمُ السنة، وباذل نفسه في المحنة، قَلَ أن ترى العيون مثله، كان رأساً في العلم والعمل، والتمسك بالأثر، ذا عقلٍ رزين، وصدقٍ متين، وإخلاصٍ مكين، انتهت إليه الإمامة في الفقه والحديث والإخلاص والورع، وهو أجل من أنه يمدح بكلمي أو أن أفوه بذكره بفمي.
أتدرون -يا رعاكم الله- من تعطرون أسماعكم بذكر سيرته؟!
إنه إمام أهل السنة الإمام الفذ والعالم الجهبذ، الإمام المفضل، والعالم المبجل، أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله، من عرفته الدنيا، وذاع ذكره، وشاع صيته في الآفاق، إماماً عالماً فقيهاً محدثاً مجاهداً صابراً لا يخاف في الله لومة لائم، يتحمل المحن في سبيل الله، والذب عن سنة رسول الله، ويقارع الباطل بحكمة نادرة، لا تزعزعه الأهواء، ولا تميد به العواصف، حتى عد قمة عصره وما بعد عصره، وأجمع على جلالته وقدره، إلا عند من لم يعبأ بهم.
قال عنه يحيى بن معين: أراد الناس منا أن نكون مثل أحمد لا والله ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد ولا على طريقة أحمد.(44/3)
مولد الإمام أحمد
أيها الإخوة في الله: على ثرى بغداد ولد الإمام ونشأ وترعرع، ومن أصلٍ عربيٍ أصيلٍ انحدر نسبه رحمه الله، وعلى عصامية اليتم تربى ودرج في صباه مما ساعد على سمو نفسه وعلو همته، ونمو مداركه وتعرفه على أحوال مجتمعه، وكانت بغداد آنذاك ليست كما هي في عقب الزمان والله المستعان، حيث كانت حاضرة العالم الإسلامي، ومهد العلوم والحضارة، تموج بأنواع الفنون والمعارف، وتزخر بشتى الأفكار والعلوم، وعصره عصر نضوج الفقه وظهور الفقهاء، واشتداد الجدل الفكري بين العلماء، مع عدم استقرار الحالة السياسية، وكثرة الفتن مما ساعد على حسن توجه الإمام رحمه الله، فاتجه إلى تحصيل العلم ولزوم السنة، فلم يحرض على فتنة، ولم يواجه ذا سلطان مع قوة في الحق، وحبٍ للخلق، وذبٍ عن السنة وتحذيرٍ من البدعة.(44/4)
همة الإمام أحمد في طلب العلم
معاشر المسلمين: لقد أقبل الإمام الرقيق النحيل، الربعة من الرجال والطوال، ذو اللون الأسمر والتواضع الجم، ينهل من العلم، فحفظ القرآن وأقبل على الحديث والأثر حتى حفظ مئات الألوف من الأحاديث، وما كتابه المسند إلا دليلٌ على طول باعه في علم السنة، في مجال الرواية، وقد جمعه من أكثر من سبعمائة وخمسين ألف، واستغرق في جمعه أكثر من خمس عشرة سنة.
أما الدراية فهو ابن بجدتها والصيد في جوف الفرى، ملتزماً بفقه السنة، والعناية بالدليل والأثر، والأخذ بفتاوى الصحابة رضي الله عنهم.
رحل في طلب العلم إلى كثيرٍ من البلدان، حتى قال عنه ابن كثير: لقد طاف في البلاد والآفاق ليسمع من المشايخ، وكانت له همة عالية في الطلب والتحصيل، فما ترك لحظة من لحظات شبابه وكهولته، إلا حرص فيها على سماع حديث، أو تصحيح رواية، وما قصته في سماعه من عبد الرزاق بن همام الصنعاني في مكة وسفره معه إلى بلاده، مع بعد الشقة وانقطاع النفقة، إلا دليلٌ على علو الهمة ومضاء العزيمة، حتى عد حافظ زمانه.
قال ابن المديني: ليس في أصحابنا أحفظ منه.
وقيل لـ أبي زرعة من رأيت من المشايخ المحدثين أحفظ؟ قال: أحمد بن حنبل، حزرت كتبه في اليوم الذي مات فيه، فبلغت اثني عشر جملاً وأكثر، كلها يحفظها عن ظهر قلب.
ومع هذا العلم الجم، فقد خاف الإمام على نفسه البروز والشهرة والتصدر، فلم يجلس للتدريس إلا بعد الأربعين من عمره، كما قال ابن الجوزي رحمه الله، وما ذاك إلا مراعاة لسن النضج والاستيثاق من العلم.
وكان من شدة ورعه رحمه الله أنه لا يحدث إلا في كتاب خشية الزلل، مع قوة حافظته وشدة عارضته، ولا يسمح بتدوين فتاواه، ولا يرى تأليف الكتب تقوىً وورعاً منه عليه رحمة الله، قيل إنه لسعة علمه أجاب عن ستين ألف مسألة بقال الله وقال رسوله وفتاوى الصحابة رضي الله عنهم.(44/5)
موقف الإمام أحمد من المحنة
إخوة العقيدة: ومن أهم حياة الإمام أبي عبد الله رحمه الله منهجه في العقيدة، والتزامه نهج الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة في التوحيد والصفات وإنزال القرآن، حتى أوذي وامتحن، فصبر وصابر ولم يتزحزح عن قول الحق، حتى ربط موقفه في محنته بموقف الصديق رضي الله عنه.
يقول علي بن المديني: لقد أعز الإسلام برجلين، بـ أبي بكر يوم الفتنة، وبـ أحمد بن حنبل يوم المحنة.
ولم يكن الإمام بمعزلٍ عن الأمة والمجتمع، بل كان عالماً عاملاً، مصلحاً مجاهداً، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، لكنه مع ذلك يلتزم مسالك الرفق والحكمة، ملتزمٌ بالطاعة، موافقٌ للجماعة، بعيدٌ النظر في الإصلاح.
يقول ابن عمه حنبل بن إسحاق بن حنبل رحمه الله فيما أخرجه الخلال في كتاب السنة: اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلى أبي عبد الله -يعني الإمام أحمد رحمه الله- وقالوا له: يا أبا عبد الله إن الأمر قد تفاقم وفشى -يعنون إظهار القول بخلق القرآن وغير ذلك- ولا نرضى بإمارته وسلطانه، فناظرهم في ذلك وقال عليكم بالإنكار في قلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، لا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم، وانظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح ضَرٌ ويُستراح من فاجر، وقال: ليس هذا صواباً -أي: نزع اليد من الطاعة- هذا خلاف الآثار.
وفي ذلك عبرة على مدى التاريخ أن سلطان العلم، لا بد له من منهجٍ سليمٍ يتخذ مع سلطان الحكم، تحقيقاً للمصالح ودرأً للمفاسد، وتجنيباً للأمة غوائل الشرور وعاليات الفتن.
الله أكبر! ما أعظم العلم! وما أهم الفقه! وما أجل مكانة العالم إذا ثبت على السنة! لم تستمله العواطف، ونظر بعين الحكمة في مصالح الأمة.
أمة الإسلام: ولقد ضرب الإمام أروع الأمثلة في الثبات على المبدأ والصبر أمام الفتن، لقد أوذي وسجن، وضرب وأهين؛ فلم تلين له قناة، وبذل مهجته في سبيل الله، ولم يتزحزح عن حقٍ يراه ولو كلفه حياته، وهذه دروسٌ للعلماء والدعاة في كل زمانٍ ومكان.
لقد سخر بالأهوال التي حاطت به، والمخاطر التي حفت به، والمؤامرات التي أحيكت ضده، وهزأ بالسياط التي تلهب ظهره، ولم يبالي بالحديد الذي كبل فيه، والسجن الذي أودع به، وبالتالي ثبت أمام المغريات، كل ذلك هين ما دام في سبيل الله، وصيانة كتابه من عبث العابثين، وحفظه من اعتقادات المخالفين.(44/6)
عبادة الإمام أحمد وزهده
أيها الأحبة: صفحة أخرى في حياة هذا الإمام الهمام، صفحة العبادة وتصفية الروح، وتزكية النفس بالصلاة والذكر والدعاء والتلاوة، وكذلك صفحة الخلق الرفيع والسجايا الحميدة، زهدٌ وحياء، تواضعٌ وورع، تعففٌ وجود، بذلٌ وكرم، حبٌ للفقراء والمساكين، بعدٌ عن الشهرة والأضواء وحب الظهور وكثرة الجماهير، مجانبة للرياء، وضعف الإخلاص.
قال ابنه عبد الله: كان أبي أحرص الناس على الوحدة، لم يره أحدٌ إلا في المسجد، أو حضور جنازة أو عيادة مريض، وكان يكره المشي في الأسواق، ولا يدع أحداً يتبعه، وتلك والله مقامات العظماء، ومناهج العلماء الأتقياء.
فاتقوا الله عباد الله! اتقوا الله يا علماء الإسلام! اتقوا الله يا دعاة الإسلام! ويا طلاب العلم ويا أرباب الإصلاح! وليت الأمة اليوم وليت شبابها يتوجهون بعقولهم إلى علماء سلفهم؛ ليتذكروا القدوة الصالحة، والأسوة الحسنة حتى تحيي في أنفسهم سيرة سلفهم الصالح رحمهم الله، وسيرتهم خير طريقٍ لسعادة الدنيا والآخرة، وضمانة من الفتن، وبعدٌ عن المحن والله المستعان، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً * لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الأحزاب:23 - 24].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبسنة سيد المرسلين، وبسير سلفنا الصالحين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه كان للأوابين غفوراً.(44/7)
معاشرة الإمام أحمد لأهله وأولاده
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين، منَّ على المسلمين بأئمة هداة مهتدين، وعلماء صادقين عاملين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الذي أكمل به الدين، وأرسله رحمة للعالمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الراشدين المرشدين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:-
فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
واعلموا -رحمكم الله- أن الأمة إذا لم تعتز بماضيها، وسير علمائها، والاستفادة من تاريخها؛ ضيعت حاضرها ومستقلبها، واضطربت مكانتها، وتخبط أجيالها، وسير سلفنا الصالح رحمهم الله شموعٌ على طريق العلم والدعوة والإصلاح، بهم يستفاد تصحيح المسار وتوجيه المسيرة، وتوازن الخطى.
ولقد ضل أقوامٌ زهدوا بسير سلفهم، والتفتوا يمنة ويسرة، يخبطون في شتى المذاهب، ويتذبذبون بين جديد المشارب: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83].
أيها الإخوة في الله: وحينما نقلب صفحة أخرى من حياة هذا الإمام نرى العجب العجاب، إنه الجانب الأسري، وتربية الأولاد، فلم تشغله هموم العلم والدعوة والإصلاح والجهاد عن أسرته وحسن العشرة لأهله وزوجه، يقول الإمام أحمد رحمه الله: تزوجت أم صالح فأقامت معي ثلاثين سنة فما اختلفت أنا وهي في كلمة واحدة.
أيها الإخوة في الله: وثمة صفحة أخرى من سجل هذا الإمام الخالد، هي إنصافه للمخالف، وسلامة صدره للمسلمين، وتقديره لأهل العلم وإن اختلف معهم، ولما عتب عليه بعضهم وأرادوا إثارة الخلاف بينه وبين الشافعي قال: مه! ما رأت عيناي مثل الشافعي، وقال: إني لأدعُ الله للشافعي في صلاتي منذ أربعين سنة.(44/8)
وفاة الإمام أحمد رحمه الله
وإذا أردنا أن نقلب صفحات حياة هذا الإمام كلها لطال المقام، ولكن حسبنا الإشارة والتذكير وفاءً لعلمائنا وأداءً لبعض حقهم علينا، وربطاً للناس بسيرهم التي ورثوها من المنهج النبوي، واستقوها من معين الكتاب والسنة في بعدٍ عن التعصب المذهبي، والمسلك التحزبي، وفي مجانبة لمسالك الغلو في الأئمة، والجفاء لهم والحط من مكانتهم، وبعد حياة حافلة بالخير بجميع جوانبه، قدم فيها أبو عبد الله جهده وجهاده، وأيقظ في الأمة الاعتزاز في الإسلام، وشدة التمسك بالسنة والمنهج الصحيح.
بعدها مرض بالحمّى، يقول ابنه عبد الله لما حضرت أبي الوفاة، جلست عنده فجعل يغشى عليه ثم يفيق ثم يفتح عينيه ويقول بيده: لا بعد، لا بعد، لا بعد، ثلاث مرات، ففعل هذا مرة ثانية وثالثة، فلما كانت الثالثة قلت له: يا أبتِ! إنك قلت كذا وكذا.
فقال: ما تدري، هذا إبليس قائم حذائي عاضٌّ على أنامله يقول: فتني يا أحمد! وأنا أقول: لا بعد حتى أموت.
قال صالح فجعل أبي يحرك لسانه بالشهادة حتى توفي رحمه الله وله سبعٌ وسبعون سنة وأيام، وقد شهدت جنازته كما تقول كتب السير جمعاً لم يُشهد مثله، حتى قيل أن غير المسلمين أسلموا ذلك اليوم، وكان رحمه الله يقول: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم الجنائز، وأوصى رحمه الله عند موته لأهله وذريته وللمسلمين خيراً.
تلك صفحاتٌ ناصعة، وذلك غيضٌ من فيض لا يوفيه حقه، وكم من معانٍ يعجز اللسان عن تصويرها، وحياة الإمام كلها معانٍ ومواقف، وحسبه إنه إمام السنة في علمه وعمله ودعوته وجهاده، وأنه حربٌ على الجهل والانحراف والبدعة، وقد خلف للأمة تراثاً علمياً، ومذهباً فقيهاً، له من المزايا والخصائص ما ليس لغيره، فرحمه الله رحمة واسعة، ورفع منزلته في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
وثمة تنبيه أخير: وهو أنه ليس الحديث عن عالم حطاً من مكانة غيره من العلماء فـ أبو حنيفة رحمه الله ومالك والشافعي رحمهم الله وسائر الأئمة لهم حظهم الوافر في خدمة الإسلام وأهله، فرحمهم الله ورضي عنهم.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير الورى، على النبي المصطفى والحبيب المجتبى، كما أمركم بذلك ربكم جلَّ وعلا فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم وفق ولاة المسلمين للحكم بشريعتك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم يا سميع الدعاء!
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم عجل بنصرهم يا قوي يا عزيز.
اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله العظيم يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(44/9)
علامة محبة النبي صلى الله عليه وسلم
يحتاج كل مسلم في هذه الحياة أن يرسم منهجاً سليماً من التعثر، بعيداً عن الزيغ والضلال؛ ليضمن الوصول إلى هدفه المنشود، لا سيما مع كثرة الفتن وغلبة الهوى وشيوع مظاهر المخالفة للكتاب والسنة، فإن للدين معالم رئيسية يجب التمسك بها والولاء لها والرسوخ عليها.(45/1)
أهمية معرفة التأصيل المنهجي لدين الإسلام
الحمد لله، أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، أحمده وأشكره وأتوب إليه وأستغفره، وكفى به ولياً حميداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشأنه وتمجيداً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، نبي شرح الله صدره ورفع ذكره ووضع وزره وأعلى في العالمين قدره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره، بعثه الله بالهدى ودين الحق فأشاد صرح العقيدة، وأرسى قواعد الملة، وأكمل الله به الدين وأتم به النعمة، فالخير ما جاء به، والدين ما شرعه، والحق ما التزمه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه خير هذه الأمة وأطوعها له وأحبها لرسوله عليه الصلاة والسلام، وأكثرها اتباعاً له، فرضي الله عنهم وأرضاهم ومن لزم هديهم ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون: وصيتي إليكم من هذه البقعة الطاهرة تقوى الله عز وجل، والقيام بعبادته أداء لحقه، وطمعاً في مرضاته، وخوفاً من عقابه، كما أوصيكم ونفسي بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتنفيذ أوامره، والبعد عن زواجره، ولزوم سنته، والتعبد لله بشريعته؛ لنحقق الفوز بالسعادة الأبدية، قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور:52].
عباد الله: يحتاج المسلم في هذه الحياة أن يرسم لنفسه -إن أحب نجاتها- منهجاً سليماً من التعثر، بعيداً عن السبل، يضمن وصوله -بإذن الله- إلى هدفه المنشود.
فكما أن الناس في أمور دنياهم يعدون الخطط ويرسمون المناهج للوصول إلى مبتغاهم وما يؤملون دون تعقيد ولا مصاعب، فمن أراد سفراً فإنه يجتهد غايته، ويبذل وسعه في إتقان خطة السير لمعرفة الطريق وسلامته من المخاوف، والوصول بأقصى سرعة دون ضياع ولا عقبات، فكذلكم -يا عباد الله- من كان مسافراً إلى الآخرة، باحثاً عن السلامة والنجاة، راغباً في نعيم الله وجنته، خائفاً من عقابه وناره؛ فأولى له ثم أولى له أن يجتهد غاية الاجتهاد في معرفة الطريق الموصل إلى الله دون زيغ ولا ضلال؛ خشية أن يفجعه الأجل فيلقى ربه على غير هدى من الله، ولا أثارة من علم بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولكن يجب على المسلم في هذه الحياة -لا سيما مع كثرة الفتن وغلبة الاختلاف والهوى، وشيوع مظاهر المخالفة للكتاب والسنة- أن يسير في حياته ملتزماً بكتاب الله، مقتدياً بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مقتفياً آثار سلف هذه الأمة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتابعيهم بإحسان من أهل القرون الثلاثة المفضلة، المشهود لها بالخيرية من رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
ولما كادت معالم هذا المنهج أن تخفى، وأوشكت دلائله أن تمحى، وآثاره أن تندثر، ومعالمه أن تلتبس؛ كان لزاماً أن يذكر المسلمون به؛ فيعملوا به؛ ليعود لهم سالف عزهم، وظاهر مجدهم، وسابق حضارتهم، فالمسلمون في أعقاب الزمن لغلبة الجهل بدين الله، وقلة البصيرة بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ محتاجون لوضع تأصيل علمي وعملي، وتقعيد منهجي شرعي، يكون منطلقاً للعمل المثمر والجهد البناء الذي يوصلهم إلى الله دون مخالفة ولا مجاوزة، لا سيما في قضايا الاعتقاد والاتباع.(45/2)
المعالم الرئيسية لدين الإسلام
ومن الخطوط العريضة والمعالم الرئيسية في هذا المنهج ما يلي:(45/3)
الوعي بالرسالة والعمل لها
المعلم الأول: وعي المسلم العميق برسالته في هذه الحياة، وعي يسري في روحه وقلبه مع سريان الدم في جسده، فلا يغفل عن تحقيقها طرفة عين، ولا يعزب عن العمل بها ساعة من ليل أو نهار، تحقيقاً لقوله سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].(45/4)
الإخلاص والمتابعة
المعلم الثاني: أن هذه العبادة قائمة على شرطين مهمين، وأصلين عظيمين لا تقبل إلا بتحقيقهما، هما: الإخلاص لله، والمتابعة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم، يقول سبحانه وتعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] ويقول عليه الصلاة والسلام: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} أخرجه الشيخان من حديث عائشة رضي الله عنها وفي رواية مسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.(45/5)
لزوم طاعة الله
المعلم الثالث: أنه لا طريق للهداية والصلاح والفوز والسعادة في العاجل والآجل؛ إلا بطاعة الله ورسوله، يقول سبحانه: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:71] ويقول جل وعلا: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54] وقد روى الإمام مسلم في صحيحه أنه عليه الصلاة والسلام قال: {إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا بعدي أبداً: كتاب الله -وفي رواية- كتاب الله وسنتي}.(45/6)
لزوم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم
المعلم الرابع: أن لزوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، واقتفاء أثره، والوقوف عند هديه؛ هو الضمانة الأكيدة لنجاة الأمة وسلامتها من الفتن، ولذا فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم -وهو الرءوف الرحيم بأمته- شديد الحرص على أن تلتزم أمته سنته، وكان كثير الأمر بذلك عليه الصلاة والسلام.(45/7)
التأسي بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
المعلم الخامس: أن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم هي النبراس الوهاج الذي يستضيء به كل مؤمن موحد، والغيث الثجاج الذي يرتوي من نميره وينهل من معينه كل محب متبع، غير أنها ليست روايات تتلى وتسرد، ولا قصائد تسجع وتورد في أوقات محدودة وأزمنة مشهودة، بل إنها منهاج شامل لإصلاح الحياة كلها في العمر جميعه.
وشخصية الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم ليست شيئاً مغموراً، ولا في ثنايا التاريخ مطموراً؛ بل إن ذكره عليه الصلاة والسلام يرتفع على المنابر ويدوي عبر المنائر دائماً وأبداً، ولكنه مع ذلك ليس رباً فيعبد، ولا إله فيقصد؛ وإنما هو رسول يطاع ويتبع، وقد حذر أمته صلى الله عليه وسلم من إطرائه والغلو فيه، يقول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله}.(45/8)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم
المعلم السادس: أن محبة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم دين يدين لله به كل مسلم، بل هو أمر واجب لا خيار فيه، فهو عليه الصلاة والسلام: إمامنا وقدوتنا وحبيبنا، سيد الأولين والآخرين، ورحمة الله للعالمين، وحبه يفوق حب النفس والأهل والمال والولد، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح عن أنس رضي الله عنه: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} بيد أنه يجب أن تقاس محبته -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- بمقياس الشرع المطهر، وتوزن بميزان النقل الصحيح ومعيار الكتاب والسنة.
فشتان بين المحبة الحقيقة الصادقة وبين المحبة المزيفة المدعاة! وفصل ما بينهما تحقيق المتابعة للمحبوب، وقديماً زعم أقوام محبة الله ورسوله؛ فأنزل الله مطالبتهم بصدق برهانهم في دعوى المحبة بقوله سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31].
فالمحبة الصادقة -يرعاكم الله- تقتضي اتباع سنته، ولزوم منهجه، والتأسي به ظاهراً وباطناً، قولاً وفعلاً واعتقاداً، ومنهجاً وسلوكاً وأخلاقاً؛ لقوله سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب:21].
وأما المحبة المدعاة فهي القائمة على الألفاظ دون المعاني، والمظاهر دون الحقائق، والشكليات دون المعنويات، والادعاء والشقشقة دون العمل والمتابعة، والذكريات والمناسبات في أيام وليال معلومات، دون الاتباع مدى الحياة إلى الممات، فانظر لنفسك أيها المحب من أي الفريقين أنت!
يا أحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم! إن حب الله وحب رسوله عليه الصلاة والسلام أمر كامن في شغاف النفوس، وفي قلوب أهل الإيمان متأصل ومغروس؛ لكن هيهات هيهات أن يكون في سجع المدائح وهز الرءوس!
محبة الله ورسوله عبادة يتقرب بها إلى الله، مقدمة عند أهل الإيمان على محبة كل محبوب، ولما قال عمر رضي الله عنه للحبيب صلى الله عليه وسلم: {والله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي.
قال عليه الصلاة والسلام: لا.
والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك.
قال: بل أنت أحب إلي من كل شيء حتى من نفسي.
قال: الآن يا عمر} رواه البخاري.
يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: ومنزلة المحبة هي: المنزلة التي تنافس فيها المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وإلى عالمها شمر السابقون، وبروح نسيمها تروح العابدون، فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون، وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات، والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، والشفاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام، واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام إلى آخر ما قاله رحمه الله في هذا المقام.
فيا أيها المسلمون! أيها المحبون! لقد عرف سادات المحبين رحمهم الله معنى المحبة وضوابطها الشرعية؛ فوقفوا عند حدود ما جاء به المحبوب صلى الله عليه وسلم، وعلموا أن عصيان أمره ومخالفة منهجه دليل على كذب الادعاء.
هل يجرأ أحد من المحبين أو مدعي المحبة أن يزعم أنه أحب لدين الإسلام ولرسول الإسلام عليه الصلاة والسلام من أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وأرضاهم، ومن بعدهم من القرون المفضلة؟!
أين العقول المفكرة؟! وأين البصائر الحية؟!
ولكن، صلوات الله وسلامه على الحبيب المصطفى والنبي المجتبى، القائل: {فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة} أخرجه أهل السنن من حديث العرباض بن سارية.
ألا ما أحوجنا أمة الإسلام -وقد انعكست كثير من المفاهيم، وتغيرت كثير من المعايير- أن تحيي في النفوس الحب المنهجي لا الحب العاطفي، وأن يستبدل الحب في الادعاء والمظهر بالصدق في الحقيقة والجوهر، ووالله الذي لا إله غيره إن ما أصاب المسلمين من ذل ومهانة، واختلاف وتفرق، سببه عدم الرجوع إلى المنبع الصافي، والمنهل العذب ما كان عليه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم.(45/9)
النجاة كل النجاة في الاعتصام بالكتاب والسنة
أمة الإسلام! إن المرحلة الخطيرة التي يمر بها المسلمون اليوم سببها ضعف ولائهم لعقيدتهم، وتفريطهم في متابعة رسولهم صلى الله عليه وسلم.
إن مما يؤسف كل غيور على دينه أن تكون فئام من الأمة يسيرون دون تحقيق ولا اتباع، والله إنها لأحوال مبكية وأوضاع مزرية، هؤلاء مسئولية من أيها المسلمون؟! على ماذا يحيون؟! وعلى ماذا يموتون؟!
والويل لمن حيا ومات على غير سنة النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، إلى متى تستمر الغثائية التي أثقلتها التكاليف الشرعية فعمدت إلى مظاهر محدودة، وعاطفة مشبوبة، دون تأصيل ولا منهجية؟!
إلى متى يستمر بعض المسلمين يعيشون حياة الادعاء للإسلام والتسمي به دون تحقيقه في عقيدة واتباع؟!
ماذا جنت الأمة من تمييع القضايا العقدية، وإذابة شخصيتها الإسلامية في تعتيمات وغمومات؟!
نعم.
كانت ولا زالت سبباً فيما وصل إليه حالها، فالله المستعان!
أمة الإسلام: بهذه المعالم الواضحة، والمقومات الظاهرة في قضية الاتباع، يستطيع كل ذي لب وبصيرة، ويتأهل كل ذي عقل رشيد ورأي سديد، أن يحكم على ما جدّ في حياة الناس اليوم، وما أحدث في مجتمعاتهم، فيدفعه ذلك إلى التمسك الصحيح بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ففيهما السلامة والعصمة.
إن الاعتصام بالوحيين قضية عقدية منهجية لا تخضع للتغييرات الجغرافية الضيقة، ولا النظرات الإقليمية المحدودة، بل إنها تتجسد بعيداً عن التعصب المذهبي والتحزب المنهجي الذي يسلكه بعض من قل فقهه وآثر الهوى على الهدى.
إن أمة الإسلام اليوم بحاجة ماسة إلى العودة إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد أن أصبحت غرضاً للسئام، وطعمة للئام، وعبثاً للأقزام، وما هذه الحروب والويلات والتحديات والمؤامرات حتى استحلت المقدسات، وتُحِكمت في كثير من المقدرات؛ إلا دليل على ذلك، وإن تخلي كثير من أبناء المسلمين عن عقيدتهم، وتأثرهم بقيح شعارات براقة، وصديد ثقافات نافذة؛ أخرج أجيالاً بعيدة الانتماء عن مصدر عزها وسعادتها، وينبوع مبادئها وقيمها ومثلها، فلماذا كل هذا -أيها المسلمون- كأن لم يكن بيننا كتاب وسنة!
بأيديهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات
ولقد كان سفلنا الصالح رحمهم الله يعظمون أمر السنة، وكانوا شديدي التمسك بها.
يقول الزهري رحمه الله: كان من مضى من علمائنا يقولون: الاعتصام بالسنة نجاة.
الله أكبر! وبعد يا حماة السنة! كيف هي الحال؟ لقد خلفت قلوب تعرف منهم وتنكر.
فلنتقي الله يا عباد الله، ولنروض أنفسنا على الاعتصام بالكتاب والسنة في كل الأمور اعتقاداً وقولاً وعملاً وسلوكاً وأخلاقاً، ولنحرص على إشاعتها وتعليمها والعمل بها، ودعوة الناس إليها، وتربية البيوت والأسر والنشء عليها، وإن على من أوتوا فيها حظاً من العلم ونصيباً من الفقه والفهم مسئولية كبرى في ذلك، فما ارتفعت رايات المخالفات إلا لما خلت لها الساحات، وتوارى بعض أهل الحق عن إرشاد الخلق.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! أبدعاً والسنة ظاهرة؟! أمحدثات والسنن واضحات؟! أيتحول دين الله في رابعة النهار لهواً ولعباً، ويترك ميراث النبوة نهباً للعوادي؟!
فالله المستعان! ولكن قد صح عن سيد البشر عليه الصلاة والسلام قوله: {لا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك}.
نسأل الله تعالى أن يرزقنا صدقاً في التمسك بكتابه، وحسن المتابعة لرسوله صلى الله عليه وسلم، إنه جواد كريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام:153].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.(45/10)
أهمية الولاء للمبادئ والثوابت
الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، أكمل الله به الدين وأتم به النعمة وأقام به الحجة، وسد كل طريق إلى الجنة إلا من طريقه، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
عباد الله! إن قيمة الأفراد والمجتمعات ومكانة الأمم والحضارات؛ تكمن في ولائها لمبادئها، وانتمائها لأصولها وثوابتها، وإن انتماء المسلم وولاءه يجب أن يكون لدينه وعقيدته، ولكتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم مهما طالت السنون، ومرت القرون، ولله در إمام دار الهجرة رحمه الله حيث يقول: لن يصلح حال هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، وما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً.
كتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله إلى عامل له فقال: أما بعد:
فإني أوصيك بتقوى الله، والاقتصار على أمره، واتباع سنته وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وترك ما أحدثه المحدثون بعده مما جرت به سنته، وكفينا مؤنته، فعليك بلزوم السنة؛ فإنها لك بإذن الله عصمة، واعلم أن السنة إنما سنها من علم ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم السابقون وإنهم عن علم وقفوا، وببصر نافذٍ كفوا، ولهم كانوا على كشف الأمور أقوى، وبفضل فيه لو كان أحرى، فلئن كان الهدى ما أنتم عليه فقد سبقتموهم إليه، وقد تكملوا فيه بما يكفي، ووصفوا منه ما يشفي، لقد قصر دونهم أقوام فجفوا، وطمح عنهم آخرون فغلوا، وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم.
وما أحسن ما قاله الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: [[من كان منكم مستناً فليتسن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذا الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوماً اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبه نبيه صلى الله عليه وسلم، فاعرفوا لهم فضلهم وتمسكوا بما استطعتم من آثارهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم]].
ألا ما أحوجنا أمة الإسلام اليوم، بعد أن أوشكت أمواج الفتن وأعاصير المحن أن تعصف بسفينة الأمة، وتطيح بها بعيداً عن ساحل الأمان، وشاطئ السلامة والنجاة، ما أحوجنا أن نراجع أنفسنا وننظر في أحوالنا ومناهجنا! ما مدى التزامنا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟ ما مدى صدق دعوانا في عقيدتنا وتمسكنا بسنة رسول الهدى صلى الله عليه وسلم؟ إن مقياس ذلك الذي لا يتغير ومعياره الذي لا يتبدل هو النظر في التطبيق والاتباع.
هذا وإني أوصي المسلمين جميعاً من هذه البقعة التي انتشرت فيها رايات الكتاب والسنة -إعذاراً وبلاغاً للأمة، وبراءة للذمة- أن يتقوا الله عز وجل، ويتمسكوا بهدي سلفهم الصالح، ويبتعدوا عما أحدثه المحدثون وابتدعه المبتدعون.
فخير الأمور السالفات على الهدى وشر الأمور المحدثات البدائع
هذا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56] اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصلِّ عليه ما تعاقب الليل والنهار، وصلِّ عليه وعلى المهاجرين والأنصار، اللهم صلِّ عليه ما تلاحمت الغيوم، وما تعاقبت النجوم يا رب العالمين!
اللهم ارض عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأدم الأمن والاستقرار في ربوعنا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفق إمامنا بتوفيقك وأيده بتأييدك، اللهم وفقه لهداك واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
اللهم هيئ لأمة الإسلام من أمرها رشداً، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ولِّ عليهم خيارهم، واكفهم شر شرارهم يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير وفي كوسوفا وفي غيرها يا رب العالمين! اللهم عجل بنصرهم يا قوي يا عزيز!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكون من الخاسرين، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(45/11)
ألا لله الدين الخالص
إن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الدين على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأمره بالإخلاص له في الدعوة؛ لكي تثمر دعوته ويكثر الله أتباعه، ثم إن الله عز وجل أمر المؤمنين أن يخلصوا في طاعتهم لربهم في شتى العبادات، كالعلم والدعوة والعبادة وغير ذلك وقد تعرض الشيخ في هذا الدرس لأهمية الإخلاص وتعلقه بالدين قولاً وعملاً واعتقاداً.(46/1)
الإخلاص وجوانب أهميته
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك.
فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:-
أيها الإخوة في الله! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك في مدينة جدة عبر هذه الكلمة المتواضعة التي منّ الله بها عليّ، فالتقيت بإخوة فضلاء نُحبهم في الله، جمعنا بهم طريق الهدى، ومنهج الإسلام والتقى، والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فإنها لنعمة عظيمة أن نلتقي في هذا المكان الطيب المبارك، قرب بيتٍ من بيوت الله، ولعل هذا من نشاط إخواننا في جدة -وفقهم الله- الذين لم تقتصر محاضراتهم على المساجد فقط، وإنما شملت حتى الميادين، ويذكرنا هذا اللقاء برحلة برية نلتقي فيها عبر الهواء العليل، والظل الظليل، والمكان المناسب.
كيف لا؟! وكل اجتماع خير تحفه ملائكة الرحمن، ويذكر الله الحاضرين فيمن عنده، نسأل الله أن يشملنا وإياكم بمنه وكرمه.
وليس المراد المكان بقدر ما يكون المراد اللقاء والتوجيه والمشاركة والذكرى، فإن الذكرى تنفع المؤمنين.
أشكر الله تعالى أولاً وآخراً على جميع مننه وآلائه، ثم أشكر المنظمين لهذه المحاضرة في مركز الدعوة وغيرهم من إخوة نذروا أنفسهم لله، ويعملون وينظمون المحاضرات التعاونية بتوجيه ومعونةٍ لإخوانهم في المراكز الرسمية، فأثابهم الله وبارك في جهود الجميع، ثم نشكر جميع الحاضرين الذين آثروا اللقاء في هذه الليلة المباركة، رغم أنها ليلة من الليالي التي يكثر فيها انشغال الناس، لا سيما والوقت عشاء، فلعل صاحبكم لا يطيل عليكم بالكلمة المختصرة التي تشمل موضوعاً غايةً في الأهمية، لا يستغني عنه كل مسلم؛ بل يحتاجه كل إنسانٍ في هذه الحياة؛ لأن مصيره الأخروي وحياته الدنيوية وصلاحها واستقامتها وسعادتها، مرهونةٌ بتحقيق هذا الأمر المهم، ألا وهو أمر الإخلاص لله تعالى.
أيها الإخوة! ما أهمية هذا الموضوع، وما جوانب أهميته؟
وما تعريف الإخلاص عند أهل اللغة، وما أقوال أهل العلم في تعريف الإخلاص؟
وما هي الآيات والنصوص الدالة على هذا الأمر المهم؟
وما هي الأحاديث النبوية الشريفة التي جاءت في هذا الجانب؟
وما هي أقوال السلف في هذا الأمر المهم؟
ثم ما هي أحوالنا وما أوضاعنا تجاه هذه القضية المهمة؟
لننظر في أحوالنا وفي واقعنا، هل حققنا الإخلاص لله، أم أن هناك شوائب أُخرى أثَّرت على إخلاصنا، وإيماننا وتوحيدنا وعقيدتنا؟
ما هي أسباب وجود الإخلاص في نفس العبد، وما دوافع ذلك، وما مجالات الإخلاص التي تحول دون تحقيق الإخلاص؟
ما هي الأسباب التي تؤثر على الإخلاص، وما الآثار النافعة التي يُحققها الإخلاص في الدنيا والآخرة؟
هذه بعض الجوانب التي يحتاجها المتحدث والسامع لهذه القضية المهمة.
إن هذا الموضوع المهم -الذي هو موضوع الإخلاص- تأتي أهميته من ثلاثة أمور:(46/2)
الإخلاص شرط لقبول الأعمال
الأمر الأول: أن هذا الموضوع يعتبر من الأهمية بمكان، حيث إنه شرطٌ لقبول الأعمال، فالأعمال لا تُقبل إلا إذا كانت خالصةً لله عز وجل، صواباً على سنة الحبيب المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأمرٌ هذه مكانته، جدير بنا أن نتواصى به! ألا يجدر بنا أن نذكر به؟! ألا يجدر بنا أن نعرفه وأن نربط أنفسنا به؟ لأن هذا أمرٌ مهم! ولا تُقبل الأعمال إلا إذا حققت هذا الشرط.(46/3)
اعتناء الشريعة بموضوع الإخلاص
الأمر الثاني: أن هذا الموضوع المهم قد جاءت به نصوص الشريعة، من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فعشرات الآيات والأحاديث تركز على هذا الموضوع المهم، وما ذاك إلا لأهميته، وأنه أساس متين ينبغي على كل عاملٍ وعالمٍ ومسلمٍ أن يعرفه ليطبقه.(46/4)
إهمال الناس لجانب الإخلاص
الأمر الثالث: تفريط كثيرٍ من الناس في هذا الجانب المهم إي والله! تفريطٌ عظيم، وتقصير كبير، فكم من الأمور التي تزاحم الإخلاص؟! وكم من الاهتمامات التي تعوق مسيرة الإخلاص؟! وكم من الأمور التي تخالط النفوس والقلوب؛ فتؤثر في مجراها الصحيح، لتصرف العمل لغير الله، أو تصرفه لله مع ما يلحقه من الشوائب المنقصة للعمل، أو المحبطة له والعياذ بالله!!
إننا في زمانٍ غلبت فيه الماديات، وكثرت فيه المغريات، وأصبح الإخلاص عزيزاً عند كثيرٍ من الناس، وأصبح الإخلاص قليلاً في اهتمامات كثير من العاملين، ومع الأسف الشديد!!
ولهذا قال بعض السلف: "إن الناس كلهم هلكى؛ إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى؛ إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى؛ إلا المخلصون، والمخلصون على خطرٍ عظيم! ".
هناك أعداء ضد تحقيق الإخلاص، من داخل النفس ومن خارجها، أمورٌ زيَّنها الشيطان لكثيرٍ من الناس؛ في العلم والدعوة والإصلاح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في العبادة في السلوك، حتى انحرفت بهم الجادة إلى غير الطريق المستقيم، عافانا الله وإياكم: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:103 - 104].(46/5)
تعريف الإخلاص(46/6)
الإخلاص في اللغة
الإخلاص في اللغة: من خلص يخلص خلوصاً، وأخلص يخلص إخلاصاً، وهذه اللفظة ذات الحروف الثلاثة (الخاء واللام والصاد) تدل على السلامة، وعلى الصفاء والنقاء من الشوائب.
تقول: (ذهب خالص) إذا كان سالماً من الشوائب التي تؤثر على صفائه ونقائه، وتقول: عمل خالص: إذا كان محققاً للشروط التي تجعله مقبولاً وصالحاً ومتبعاً فيه سنة النبي صلى الله عليه وسلم.(46/7)
الإخلاص في الشرع
عرَّف عُلماء السلف الإخلاص بأنه: العمل لله دون شوائب محبطة له، أو دون الشوائب التي تنقصه وتؤثر عليه.(46/8)
حقيقة الإخلاص
إخلاصٌ لله بأن الله هو الخالق الرازق الرب المحيي المميت المعبود، فلا معبود بحقٍ سواه، الذي يجب أن تصرف له العبادة: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
هذا هو الإخلاص، أن تكون الحياة وأن يكون الممات وأن تكون الصلاة وأن يكون النسك والعبادة كلها خالصة لوجه الله، لا تصرف لأحد، ولا لبشر، ولا لحجر، ولا لبقر، ولا لطاغوت، ولا لوثن، ولا لأحد من الناس كائناً من كان، هذه هي العبادة لله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، وهذا الأمر هو حقيقة دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، فالرسل عليهم صلوات الله وسلامه إنما بُعثوا لدعوة الناس إلى الإخلاص في عبادة الله وحده لا شريك له، وترك ما يعبده الآباء والأجداد والأهل ترك ما يعبده كل الناس من عبادةٍ ما سوى الله {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36]، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
وكل نبيٍ يُبعث إلى قومه يقول: اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، فلا دعوة إلى أشخاص، أو إلى زعامات، أو جماعات، أو أحزاب، أو مناصب، أو للدنيا وكل أمرٍ وجانبٍ منها، بل دعوة لله وإلى الله؛ يقول تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
هذه هي القضية التي ينبغي أن يرتبط بها الناس والأجيال، ويرتبط بها الدعاة قضية العقيدة والإيمان والتوحيد لله، وإخلاص العمل لوجه الله تبارك وتعالى، هذا هو الأمر الذي ينبغي أن نهتم به.
أيها الشباب أيها الدعاة أيها الإخوة الأحباب! أينما كنتم وحيث ما حللتم، نحن أمة نرتبط بمنهج وبتوحيد، ونرتبط بعقيدة صحيحة، وبإيمانٍ بالله الواحد القهار، فيجب أن نعلمه ونعمل به، وأن ندعوا إليه، وأن نصبر لما يصيبنا من الأذى فيه، وأن تكون حياتنا ومماتنا كلها في هذا السبيل، هذه هي حقيقة الإخلاص.
أيها الإخوة الذين نحسبكم مخلصون ولا نزكي على الله أحداً! وما هذا الموضوع إلا للتذكير بهذه القضية، في وقتٍ زاحمت فيه كثيرٌ من الاهتمامات الجانب الرئيس في الإخلاص، وأصبح ولاء الناس -بل كثيرٌ من الناس- لغير الإخلاص عياذاً بالله، فينبغي أن يراجع الإنسان نفسه، وأن يحاسبها، وأن يقومها على منهج السلف الصالح رحمهم الله ورضي عنهم.(46/9)
الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب الإخلاص
أيها الإخوة! حديثٌ عظيم -كلكم يعرفه- يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات! وإنما لكل امرئٍ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه}.
حديث عظيم في النية ومكانتها، والنية: هي التي ينبني عليها الإخلاص لله عز وجل، فالعمل بلا نية -كما قال أهل العلم- عناء، وعمل بلا إخلاص هباء، والعياذ بالله، يقول الله عز وجل: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً} [الفرقان:23].
وقاعدة النية قاعدة عظيمة، اعتنى بها علماء الإسلام، وصدر كثيرٌ من أهل العلم في الحديث وغيرهم كتبهم بهذا الأمر المهم، تذكيراً بشأن النية، وأن على المسلم أن يكون ذا نية، وأن يكون مخلصاً نيته لله تبارك وتعالى، يقول الله عز وجل: {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ} [الزمر:2] أمرٌ بالعبادة؛ والعبادة لا تكون عبادة إلا إذا كانت خالصة لوجه الله: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:2 - 3].
بلى والله! لله الدين الخالص، وتعالى الله عما يُشرك به المشركون علواً كبيراً.
الله سبحانه هو الذي منّ علينا في هذه الحياة وخلقنا ورزقنا، وما بنا من نعمة فمنه وحده، ومن قلة الحياء عقلاً أن تتوجه إلى غيره، فكيف وقد جاءت النصوص الشرعية، وأصبح إيمان العبد لا يصح إلا بتحقيقه لله وحده.
الله سبحانه يجب أن تُصرف له العبادة بكل ما تحمله كلمة (العبادة) من معنى، فكل تحرك ينبغي أن يكون لله، ولهذا ينبغي على المسلم المحب نجاته أن يعرف خطواته كم منها لله؟ وكم منها لغير الله؟
وأن يعرف لقاءاته وجلساته، وأن يعرف اهتماماته، هل هي لله أو تشوبها شوائب من العمل للدنيا أيَّن كانت؟
يقول تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة:5] {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:11 - 15].
إن يرضى عني الناس أو إن يسخطوا أنا لم أعد أسعى لغير رضاك
على المسلم أن يلتمس رضا الله وإن سخط الناس كل الناس، عليه أن يسير على منهج كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام وفهم السلف الصالح، المأخوذ من العلماء الربانيين الذين يبينون للناس ما خفي عليهم، ويبينون الحق عند التنازع والاختلاف من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.
أما الذين يعملون لغير الله؛ فإن أعمالهم وبالٌ عليهم والعياذ بالله! أو من يعملون أعمالاً لكنهم يقعون في الرياء الذي يُناقض الإخلاص أو ينقصه، والعياذ بالله.
أن ينظر الإنسان إلى أعمال الناس وإلى أقوالهم، وأن يلتمس مدحهم وثناءهم وإعجابهم، فالناس هم الذين يوجهونه، وهم الذين يريدون منه أن يفعل كذا فيفعل، ويلتمس رضاهم ويبحث عن ثنائهم، ويسأل عن مدى إعجابهم، هذه هي البلية التي تناقض الإخلاص، والعياذ بالله!
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً} [الإسراء:18 - 19].
أيها الإخوة! فلنكن ممن يريد الآخرة بعمله، فالدنيا سوف تأتيك وهي راغمة ولن يأتيك من الدنيا إلا ما كُتِبَ لك، فلا تنظر إلى الناس ولا إلى مدحهم، كباراً كانوا أو صغاراً، بل يجب عليك أن تسلك رضا الله وإن سخط الناس.
نعم! المسلم يأتيه مدح الناس وثناؤهم؛ لكنه لا يتطلع إليه إن جاءه شيء، فذلك مشجعٌ له على الخير؛ كما قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح حينما سُئِلَ عليه الصلاة والسلام: {إن الرجل ليعمل بالعمل ابتغاء وجه الله فيمدحه الناس، قال: تلك عاجل بُشرى المؤمن}.
لكن الخطر كل الخطر! أن يلتمس الإنسان رضا الناس على معنى أنه يعمل فيما يرضيهم، وإن سخط الناس أحجم عن العمل وإن كان عملاً شرعياً، ولهذا يقول بعض السلف: "ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك".
أن تعمل لأجل أن يراك الناس، أو لأجل الناس فهذا شرك والعياذ بالله!!
أما أن تترك العمل الصالح للناس فذلك من باب الرياء؛ لأنك لم تنظر إلى ما يريده الله، وإنما نظرت إلى آراء الناس وكلامهم ورضاهم، وليس معنى ذلك: أن الإنسان يضرب بآراء الناس عرض الحائط، لكن يسمع كلام الناس ويأخذ منهم، ويفتح قلبه وصدره لهم، ويناقشهم ويجادلهم بالحسنى، لكن الحق أحق أن يُتَّبع، أما إذا رضي الناس إلا أن تترك الخير، أو تترك السنة، أو تترك المعروف، فليسخط الناس كلهم، ولكن على الإنسان أن يبين لإخوانه في الله، ويبين للناس ما ينبغي أن يعرفوه من أمور دينهم، ولا ينبغي أن يعرفوه عند الاختلاف والتنازع، وأن يكون معروفاً مأخذه ورأيه، ومستنداً إلى دليل من كتاب أو سنة، ويكون أهل العلم هم الذين يبينون النزاع فيما وقع فيه النزاع: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83].(46/10)
علاقة الاعتقاد بالإخلاص
أيها الإخوة! إن قضية الاعتقاد والإخلاص، ينبغي أن نتنبه لها لا سيما في هذا الزمن، لأننا نشهد ما يزاحمها من الأعمال، ونشهد أن الناس في تفريط، الذين يذهبون إلى غير الله، أو يتوجهون إلى غير الله، في طلب نفع، أو دفع ضر، أو شفاء مرضى، أو طلب حاجات، أو رد غائب، أو سؤال للنجاح، أو التوفيق من غير الله، أو الذين يعملون لغير الله، أو يذهبون إلى القبور ومن يسمونهم بالأولياء، أو الأضرحة، أو السحرة، أو المشعوذين، أو الدجالين ماذا تطلبون منهم؟ أين الإخلاص لله عز وجل؟!
لو كان هؤلاء عندهم إخلاصٌ لله لعلموا أن الشافي هو الله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80] وأن الناس لا يستطيعون جلب نفع، أو دفع ضر إلا بإذن الله، هذا ينبغي أن يعرفه المسلمون؛ لأننا نلمس قصوراً كبيراً في جانب التطبيق عند كثير من المسلمين.
ولا يقلل في هذه القضية من يعرف العقيدة أو من يعرف الواقع على حقيقته، فليس الواقع يُعرف من الناحية السياسية، ويغفل من الجانب العقدي الذي هو القضية الأساس وأصل الأصول كلها، وقضية القضايا باتفاق، وأهم القضايا على الإطلاق، والعقيدة لا قائل: إنها في هذا الزمن ليست مهمة، أو إن الناس على عقيدة صحيحة!! هؤلاء الذين يقولون ذلك، ليعرفوا ما عليه حال كثير من الناس في كثيرٍ من البلاد الإسلامية.
وإذا كان الله عز وجل بمنِّه وكرمه طَهر بلاد الحرمين، فليس فيها وثنٌ يعبد ولا صنمٌ يقصد، فإن في كثيرٍ من البلاد ما يشتكى إلى الله من التقصير في هذا الجانب المهم.
فينبغي على الدعاة إلى الله وعلى طلبة العلم أن يعنوا بهذا الأمر غاية العناية، وأن يعلموا أن هذه هي القضية الأساس، فلا يدعى الناس إلى فكر ولا إلى سلوك ورقائق، ولا يدعى الناس إلى مناهج ومذاهب ومشارب، وإنما يدعى الناس إلى ما دعا إليه الرسل عليهم الصلاة والسلام: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
لكن على المسلم ألا يقلل من جهود إخوانه الدعاة، وأن يعرف لهم فضلهم وسبقهم، وليكن عوناً لهم في الخير (كل ابن آدم خطاء) وكل بني الإنسان يُخطئ، لكن علينا أن نتواصى ونتعاون على الحق وبيانه والإرشاد إليه، وأن يتناصح الدعاة إلى الله فيما بينهم، ليرجع من ضل منهم إلى الهدى -هذا هو الواجب- بلا تشهير وبلا تتبعٍ للسقطات، ولا نشر للسوءات، بل ينبغي أن يكون برفقٍ وحكمة، ليكون ذلك أدعى إلى القبول، وأقرب إلى الإخلاص.
إن من القواعد المقررة في الشريعة: (الأمور بمقاصدها).
عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية
النية ينبغي أن نتواصى في حسنها وإخلاصها وصدقها، وأن تكون خالصة لوجه الله عز وجل، فو الله لن تصيب من الدنيا إلا ما كتب لك، ولن تبلغ الكراسي، ولا المناصب، ولا الزعامات يوم أن تعمل لغير الله، ووالله لن تصيب المكانة والشهرة يوم أن تدعو لغير الله، ولا يكون لدعوتك ولا لعلمك قبولٌ عند الناس، ولا أثرٌ في الدنيا ولا في الأخرى إلا بقدر إخلاصك لوجه الله.(46/11)
حالنا مع الإخلاص
وانظر -أيها اللبيب- إلى أحوال الناس في ذلك، واعلم أنَّ تعثر كثيرٍ من طلبة العلم ومن الدعاة إلى الله، ووقوع كثيرٍ من الناس في مآزق كلُّ ذلك قد يكون ابتلاءً وامتحاناً من الله، وقد يكون لحظوظ النفس شيء وأثرٌ في ذلك، ولا يتهم أحدٌ من المسلمين، ولا نخوض في مقاصد الخلق، لكن هذه سنة ماضية، وسنة جارية، منذ بزوغ فجر الدعوة وإلى اليوم.
وانظروا! إلى الأثر البارز لرجالٍ ودعاة وعلماء في هذه البلاد وفي غيرها، نفع الله بهم البلاد والعباد، وظلوا سنين بل عشرات من السنين والله ينفع بهم، ولدعوتهم وعلمهم أثرٌ وصدىً وقبول، وهذا دليل إخلاصهم وصدقهم ولا نزكي على الله أحداً؛ لكن ينبغي أن نعلم أن قضية الإخلاص قضية مهمة.
فحاسب نفسك يا عبد الله! ويا طالب العلم! ويا أيها الداعية إلى الله! ويا أيها المسلم! ويا أيها التاجر الثري! ويا أيتها المرأة المسلمة! ويا أيها الشاب! ويا أيها العامل للإسلام في أي موقع! ويا أيها المسلم أياً كان مكانك! انظر في نفسك وانظر في إخلاصك وحاسبها في هذا الجانب المهم {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3].
واعلم أن الله لا يقبل منك علماً، ولا عملاً، ولا عبادةً، ولا دعوةً، ولا سلوكاً ولا أخلاقاً؛ إلا إذا كنت مخلصاً فيه لوجه الله تبارك وتعالى، مبتعداً فيه من الرياء الذي هو محبطٌ للعمل: {أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر! فُسئل عنه؟ فقال: الرياء} أخرجه مسلم في صحيحه.
فنحن على خطر أيها المسلمون أيها العلماء أيها الدعاة أيها الخطباء أيها القراء! علينا أن ننظر إلى إخلاصنا لله، وإلى تعاملنا مع الله.
لننظر هل الذي يدفع في العلم والعمل والدعوة هو رغبة الناس كثرتهم جمهرتهم، ليقول الناس عني كذا وكذا أم أني أعمل ابتغاء وجه الله رضي الناس أم سخطوا؟
أين الأسئلة التي يسألها الإنسان نفسه في هذه القضايا المهمة؟
وما أحوجنا -والله- في وقتٍ أصبحت نيات كثيرٍ من الناس مدخولة، يُطلب العلم لكن للشهادات، وللوظيفة! أين العلم لوجه الله؟
أين الذين يثنون ركبهم، ويحنون ظهورهم، ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة يوم القيامة} أي: ريحها، خرّجه الإمام أحمد وأهل السنن، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، فالأمر خطير.
وكذلك العقيدة والإيمان، والتوجه إلى غير الله، وما يفعله كثيرٌ من الناس عند حلول المرض، أو عند حلول فتنة أو بلية أو مصيبة أن يذهب إلى الدجالين والمشعوذين يسألهم من دون الله، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد} أخرجه أهل السنن.
ويقول في حديثٍ عند مسلم: {من أتى كاهناً أو عرَّافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوما} الأمر خطير جدُّ خطير، أن ينعم الله عليك وأن يرزقك ويكلأك بالنعم وتتوجه إلى غيره، وتعلم أن هؤلاء لا يجلبون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، فكيف يملكون ذلك لغيرهم؟ {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:5 - 6].
والعبادة من صلاة، وزكاة، وحج، وصوم، وفرائض، ونوافل، لا تصح إلا إذا كانت خالصة لوجه الله، فكم هم الذين يصلون لأجل أن يراهم الناس في المساجد!
وكم هم الذين يُحسنون صلاتهم لما يرون من نظر الناس إليهم!
وكم هم الذين يتصدقون ليقال: تصدق التاجر الفلاني بكذا! وكم من يعمل الأعمال الصالحة لغير وجه الله تبارك وتعالى! فالأمر خطير.
أيها الإخوة! وكم هم طلبة العلم لغير الله؟ يطلبون العلم ليقال علماء، ليقال: طلبة علم ليقال: متحدثون ليقال: عندهم علمٌ، وعندهم قدرة، وعندهم فصاحة وطلاقة، ليظهر أمرهم عند الناس يتعلمون ليقال: الدكتور الفلاني، يتعلمون لأجل منصبٍ أو وظيفة أو عملٍ من الأعمال، يتعلم العلم ليُجاري به العلماء، وليُماري به السفهاء، ليُجادل، ليقال عنه كذا وكذا.
أما الدعوة فأمر الإخلاص فيها مهم غاية في الأهمية، لأن الدعوة دين وقربة، ويجب أن تكون خالصة لوجه الله، فالداعي لا يدعو لكثرة أتباعه، ولا لكثرة أفراده، ولا لجماعته ولا لحزبٍ ما، ولا لمذهب ولا لمشرب، إنما يدعو إلى الله وكفى بالله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يدعو إلى الله وعلى منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكم هم الذين يسعون للشهرة أو للتحدث أو ليقال؟! قالوا: كذا وكذا وعملوا كذا وكذا.
فينبغي أيها الإخوة أن نتواصى ومنا الدعاة وطلاب العلم، والشباب، والأجيال، ينبغي أن نتواصى في شأن الإخلاص، وأن نحرص عليه، وأن نذكر به، وأن نربي عليه أبناءنا وإخواننا، وأن ندعوا دائماً إليه، لأنه لا قبول للعمل إلا به، فالثلاثة الذين تُسَّعر بهم النار يوم القيامة " عالمٌ قارئ، ومجاهد، ومتصدق منفق" لكنهم عملوا لغير الله، فهم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة والعياذ بالله!
أحاديث ونصوص، ينبغي أن تذكر الغافل وأن تنبه الجاهل، وأن تبين لكل ذي لب، أنه ينبغي أن يعاود نفسه، كذلك ينبغي أن يكون الإخلاص رائدنا في كل أحوالنا.(46/12)
مجالات الإخلاص
أما مجالات الإخلاص: ففي العلم، والعقيدة، والدعوة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والبيت، والأسرة، والوظيفة، والعمل وكل مجالات الحياة كلها ينبغي أن تكون خالصة لوجه الله، حتى الأمور العادية ينبغي أن يُخلص الإنسان فيها لوجه لله، لتنقلب من عادة إلى عبادة، يأكل ابتغاء ثواب الله، للتقوي على الطاعة، ينام ليستريح فيقوم نشيطاً لأداء العبادة.
وهكذا يتزوج لقضاء الشهوة؛ وليعف نفسه ابتغاء وجه الله في بضع ذلك الرجل حسن النية صدقة، كما قال الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام حينما قال لهم: {وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله! أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟! قال: أفرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر، فكذلك إذا وضعها في حلال كان له أجر} فينبغي على المسلم أن يحتسب الأجر، وأن يستصحب النية الصالحة الخالصة لوجه الله في كل عملٍ من الأعمال.
ولهذا كانت النية الصالحة عزيزة على النفوس، وتحتاج إلى مجاهدة، كما قال بعض السلف لما سُئِلَ عن أهم الأعمال قال: "الإخلاص ولا تستطيعه النفوس إلا بالمجاهدة".
وكان معروف الكرخي يقول: [[يا نفس! أخلصي تتخلصي]].
أخلصي اليوم لله عز وجل؛ تتخلصي في هذه الدنيا من المتاعب، وتتخلصي غداً من العذاب الأليم عند الله تبارك وتعالى، وكيف ونتيجة عدم الإخلاص النار والعياذ بالله؟! ولهذا ذكر الله عز وجل عن المنافقين أنهم لا يُخلصون وإنما {يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء:142]، وذكر أن عقابهم النار وأنهم {فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً * مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} [النساء:145 - 147].
المنافقون يعملون أعمالاً صالحة فيما يظهر للناس، ولكن أمرهم إلى وبال؛ لأنهم أعداء للمسلمين، فهم وإن صاموا وصلوا وزعموا أنهم مسلمون! فنتيجة عدم إخلاصهم أن صار لهم العذاب الأليم في الدنيا والآخرة والعياذ بالله.
فينبغي علينا -أيها الإخوة- أن نسلك سبيل المخلصين والمؤمنين، وأن نبتعد عن طريق المنافقين، وينبغي علينا -أيضاً- أن تكون كل تحركاتنا لله فعلمنا لله، وإخلاصنا لله، وأدبنا مع إخواننا، وأخلاقنا ينبغي أن تكون لله -الأخلاق والسلوك -أيضاً- ينبغي أن تكون لله- لا تكن أخلاقاً تجارية كما يراه بعض الناس لتسويق بضاعة، أو ليقال: فلان خلوق، لكنه يتخلق بالأخلاق الحسنة؛ لأنه يعلم أن الخلق الحسن مما يُثقِّل الموازين، وأنه ما من شيء أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق، وأن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم، وأن تبسمه في وجه أخيه صدقة، وأن الأخلاق عبادة يتقرب بها إلى الله تبارك وتعالى، هذا هو الذي ينبغي أن يكون عليه المسلم، أن يكون بيته بيت إخلاص، لا يذكر فيه غير الله، ولا يُربى فيه الأبناء إلا على منهج الله.
المرأة المسلمة! أين الإخلاص من المرأة المتبرجة التي تريد أن يرى الناس زينتها وأن تفتن الناس؟
إنها تعمل للناس، ولو عملت لله لأخلصت لله بحجابها وعفافها وحشمتها.
وهكذا الرجل وهكذا الشاب المسلم وهكذا التاجر المسلم وهكذا الموظف المسلم يعمل لا ليقال: إداري ناجح، وإنما يعلم أن عمله أمانة، وأن عليه أن يخلص لله قبل كل شيء، عمله عبادة إذا أخلص فيه لله.
ولهذا ينبغي علينا أن نحتسب، وأن نعلم أن وظائفنا وأعمالنا ودراستنا وطلبنا للعلم عبادة إن أخلصنا فيه النية لله تبارك وتعالى.
فيا أيها الرجل! الذي يقوم من الساعة السابعة، وقبل ذلك يقوم لأداء ما افترض الله عليه من الصلاة وبعد الصلاة، يقوم ليستعد هو وأولاده للعمل والمدرسة! عليك أن تُخلص، وأن تدرس الأبناء لا ليأخذوا امتيازاً ولا لينالوا الشهادة، ولا ليكونوا غداً موظفين مرموقين.
ولهذا أسأل هذه الأفواج الهائلة من أبنائنا وشبابنا وطلابنا في المدارس والجامعات: لماذا تدرس يا أخي؟ وما هوايتك؟
يريد أن يكون أحسن طبيب، وهذا يريد أن يكون أحسن مهندس، وهذا يريد أن يكون دكتوراً يُشار إليه بالبنان، وهذا وهذا وهذا اهتمامات.
أين الذي يقول: أنا أريد أن أعمل ابتغاء وجه الله، أخلص لله، أطلب العلم لرضا الله، ثم أعمل فيما يُرضي الله -عز وجل- ولأخدم الإسلام وديني قبل كل شيء، ولأكون جندياً في ميدان الإسلام، وأن أخدمه عن طريق عملي وعلمي ووظيفتي؟
وليس معنى ذلك أننا لا ندرس أو لا نأخذ الشهادات العليا، أو لا نمتهن مهنة الطب أو الهندسة! لا، الأمة بحاجة إلينا؛ لكن علينا -نحن- أن نخلص، ولا ينافي الإخلاص أنك تطلب هذا العلم أو العمل الدنيوي لوجه الله.
لكن عليك أن تحسن النية، أن تعمل لكن ابتغاء ثواب الله، وما يأتيك من أمور الدنيا: من الشهادة، والعمل، والمرتبة، والوظيفة، والترقية؛ فهذا من حظك ومن نصيبك ومن توفيق الله لك، لكن لا يكن قصدك هو هذا، على معنى أنه إن لم يحصل هذا فإنك تحجم.
فيا أيها الإخوة! علينا أن نتواصى بهذا الأمر، وفهم الإخلاص يجب أن يكون دقيقاً، وليس معنى الإخلاص ترك العمل، أو ترك الدنيا!! لا، نريد من الإنسان أن يعمل في الوظيفة في التجارة في الطب، وأن يأخذ الشهادات العليا؛ لكن مع ذلك نذكره بإخلاص النية، والعمل لوجه الله، وما يأتي من أمور الدنيا فإنه تبع، ووسيلة وليس هذا هو الهم الأول والأخير، وإنما من وفق:
ما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا وأقبح الكفر والإفلاس في الرجل(46/13)
أمور مهمة نحتاجها في الإخلاص
أيها الإخوة! إن موضوع الإخلاص موضوعٌ مهم وأنا لن أطيل عليكم في هذه الكلمة ويكفي أني أشرت إلى أمورٍ مهمة ينبغي أن نتواصى فيها.
أولاً: ينبغي أن يُعنى بهذه القضية المهمة على جميع المستويات في أمور الدعوة، ليست القضايا -فقط- قضايا أخلاق، ولا قضايا سلوك، ولا قضايا فكرية معينة، وإنما القضية قضية إخلاص منهج، وعقيدة خالصة لوجه الله تبارك وتعالى، وهذا هو المنهج الصحيح يوم أن تعثَّرت المناهج الوافدة، ويوم أن أصبحت كثيرٌ من الاهتمامات يقع فيها الناس تعثراً ووقوعاً فيما لا يرضي، فينبغي على المسلم أن يكون على منهجٍ سليم، وأن يتواصى طلبة العلم، والدعاة إلى الله، والشباب المسلم، والآباء، والأمهات، والتجار، والأغنياء، والفقراء، والمأمورون، والأمراء، كلٌ في عمله، إخلاصاً لوجه الله تبارك وتعالى.
هذا الأمر المهم! أن يُخلص العمل لوجه الله كلٌ في موقعه، أنا لا أعمل للأمير الفلاني أو للوزير أو للمسئول عني في العمل، وإنما أبتغي قبل كل شيء رضا الله تبارك وتعالى، ثم مع إخلاص المسلم لله عز وجل لا يُنافي هذا أن يكون مُخلصاً في عمله، فيكون له النصيب الأكبر والقدح المُعلا في وظيفته وعمله، وتكون له السمعة الطيبة والشهرة، لكنها ليست مقصودة، هذه أتت وهي راغمة عندما أخلص العبد لوجه الله عز وجل.
ولهذا ينبغي أن نتواصى في هذا الأمر، وفي أنفسنا، وأن نحسن النية في إخواننا المسلمين، وألا نسيء الظن بأحدٍ من المسلمين، فلا نقول: هذا إنسان منافق، أو هذا إنسان يقصد بكلامه كذا وكذا، أو هذا إنسان يريد دنيا أو يريد منصباً، أو يريد جاهاً؛ لأن المقاصد علمها عند الله، ولا يجوز لنا أن نحكم على مقاصد المسلمين أو على نياتهم، فالنيات لا يعلمها إلا الله، والناس يقعون في الأعراض، لكن يجب على المؤمن ألا يقع في الأعراض، وإن وقع فليستغفر لإخوانه المسلمين، وليدع لهم بظهر الغيب، وليحسن النية، وليحسن القصد في إخوانه المسلمين، لا سيما طلاب العلم والدعاة إلى الله.(46/14)
الإخلاص في الدعوة والعقيدة
كذلك على الدعاة إلى الله أن يسلكوا السلوك الصحيح في الدعوة، وكذلك الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر؛ وليكون أقرب لهم إلى الإخلاص أن يدعو لا ليقول الناس: فلان قويٌ في الحق، أو شجاع، أو أنكر ما لم ينكره غيره، أو تكلم بكذا، أو عُدت أشرطته، أو عد من يحضروه في الحلقة! فهذه ليست هذه مقاييس، وإنما المقياس هو المنهج الصحيح على الكتاب والسنة، وعلى فهم السلف الصالح، والأخذ من العلماء الربانيين، ذوي العمق العلمي، والعقيدة الصحيحة، والتجربة الطويلة في الدعوة إلى الله.
أيضاً: على المسلم أن يكون مخلصاً في عمله وفي وظيفته، ومخلصاً في جوانب العقيدة كلها، ومن جوانب العقيدة: أن يكون إخلاصه لله، مبنياً على متابعة لسنة النبي صلى الله عليه وسلم، فالإخلاص وحده لا يكفي بل لا بد من المتابعة، ولا بد أن يكون العمل على وفق السنة، الأقوال والأعمال لا بد أن تكون على وفق السنة العلم والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، أن يكون على منهجٍ سليم وعلى منهج النبي صلى الله عليه وسلم الذكر والعبادة ينبغي أن يكون على وفق السنة، فما نفع كثيراً من الناس إخلاصهم لمبادئهم لما لم يتابعوا فيها السنة.
فانتبهوا أيها الإخوة! لأن هذين الأمرين شرطان في قبول العمل؛ فإخلاصٌ بلا متابعة لا فائدة فيه، ومتابعة بلا إخلاص لا خير فيها، ولا تكون متابعة إلا إذا توفر فيها الإخلاص لله، كما قال الله عز وجل: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك:2].
قال الفضيل بن عياض في تفسير قوله تعالى: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] قال: [[أخلصه وأصوبه قالوا: يا أبا علي! وما أخلصه وأصوبه؟ قال: أخلصه: أن يكون لله، وأصوبه: أن يكون على منهج محمدٍ صلى الله عليه وسلم]].
وقد قال الله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110]، ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء:125] قال المفسرون: (أسلم وجهه لله): بإخلاص العمل لله.
(وهو محسن) أي: متبعٌ للسنة.
فيا أيها الإخوة! حياتنا كلها لا خير فيها إن لم يتحقق فيها جانب الإخلاص.
ويا أيها العلماء! عليكم أن تخلصوا لله، ولتجمعوا قلوبكم على منهج محمد بن عبد الله.
ويا طلبة العلم! إنه ليس من الإخلاص أن تُعمر المجالس للوقيعة في بعضكم بعضاً، فالإخلاص إخلاصٌك في الدعوة أن تنكر المنكر على أيٍ كان بينك وبينه، ولا تشهر بأحد ولا تدعو إلى اتباع السوءات والنقصات وتكبر وتضخم الهِنات، فالناس بشر كلهم يخطئون ويصيبون؛ لكن عليك أن تناصح إخوانك -في الله- فيما بينك وبينهم، وإن لم يرضوا فالحق يسع الجميع في المسائل الاجتهادية.
أما في مسائل الأصول وفي قضايا الاعتقاد فالحق فيها واحد، ينبغي أن يجتمع الناس عليه، ولا يسع الخلاف في القضايا الأصلية وقضايا الاعتقاد.
وإننا لنحمد الله -تبارك وتعالى- أن هيأ في هذه البلاد العلماء الصادقين المخلصين -نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحداً- فينبغي على شبابنا أن يلتحموا معهم، وعلى طلابنا أن يستفيدوا منهم، ومن منهجهم، أعمارهم كلها في الدعوة، ستون سنة، وخمسون سنة، ومع ذلك مخلصون فيها لله، ينصحون لله ولرسوله ولكتابه ولولاة الأمر وللعامة، كلٌ في مجاله؛ ليكون ذلك أقرب وأدعى إلى الإخلاص وقبول النصح وأدعى إلى إنكار المنكر.
أما الإنكار العلني فإنه في الحقيقة له أضرار ومفاسد، وليس من الحكمة أن ينبه على أخطاء الناس في المجامع العامة، فالسنة أن يقال: ما بال أقوام؟ لكن فيما بينك وبين ولي الأمر، وفيما بينك وبين المنصوح أياً كان؛ فإنك تنبهه على خطائه بالحكمة والموعظة الحسنة على درجات الإنكار المعروفة، لكن في المجامع العامة يُحذِّر الناس عن الشرك، وعن الرياء، ويحذرون عن ترك الصلاة، وعن كل ما يخالف العقيدة، يحذرون من المحرمات: كالقتل، والربا، والزنا، والمفاسد الأخلاقية كلها يحذرون منها، لكن ينبغي أن يضع الحكيم نفسه، وأن يضع في كل موضعٍ موضعه، وفي كل مقامٍ مقال، ليكون أدعى لقبول عملك وإخلاصه لله، لأن هؤلاء الكثرة الذين يأتون إليك وينظرون إليك كلهم ينظر ما تقول، وبعد ذلك يخرج ليقول: قال فلان كذا، وفلان اليوم لم يُقصِّر في كلمته وتكلم بكذا! لا، ليس المراد هذا؛ بقدر المراد ما يكون منهج صحيح وسليم يحق الحق ويبعد الضرر عني وعنك وعن الدعوة وفيه -أيضاً- إخلاص لله ولرسوله ولولاة أمر المسلمين، بالدعاء لهم بالإخلاص والصلاح والهداية، لأن المسلم لا يدعو لهم لما عندهم من الدنيا، فالدنيا يأتي بها الله، رضي أولئك أم لم يرضوا، ولكنه يدعو لهم قربة إلى الله، عقيدة يعتقدها، وديناً يدين لله به، فإذا صلح ولاة أمر المسلمين صلح الناس.
وهكذا ينبغي علينا أيها الإخوة! أن نتواصى في هذا الطريق، وأن نسلك طريق الإخلاص، وأن نعلم أن كثيراً من المشكلات والفتن والمحن التي حلت بأمة الإسلام ما هي إلا نتيجة لمؤثراتٍ جانبت الإخلاص، ولا ينبغي أن يحكم على أحدٍ بعينه، فليتنبه لهذا جيداً، ولكن {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] وقد يبتلي الله العبد، فالابتلاء سنة وتمحيص ورفعة في الدرجات، وتكفيرٌ في السيئات، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما ابتلي، والصحابة لما وقع منهم ما وقع في غزوة أحد قال لهم الله عز وجل: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] لم يقل: هذا من بطش العدو، وهذا من كيدهم، وإنما قال: {قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].(46/15)
الأسباب الباعثة على الإخلاص
فينبغي علينا أن نعود إلى أنفسنا وأن نحاسبها ونسأل الله دائماً الإخلاص وهذه -أيضاً- من الأمور المهمة.
ما هي الأسباب الباعثة على الإخلاص؟
الدعاء بالإخلاص في كل قول وعمل، تسأل الله وتلح عليه سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً؛ أن يرزقك الإخلاص، وهذا أمر مهم، الدعاء والالتجاء إلى الله، والاعتصام به، ومجالسة الأخيار الذين يُذكرونك بالله، ويبينون لك ضعف نفسك.
كذلك من البواعث والأسباب التي تقوي الإخلاص: الرفقة الصالحة، وطلب العلم من أهله، ومجالسة الصالحين، والذكر والدعاء والعبادة، كلُّ ذلك مما يقوي الإخلاص لله عز وجل.
أيضاً: ينبغي على الإنسان أن يعرف مداخل الشيطان، وهذه من الأمور المهمة التي تُنافي الإخلاص وتُنقصه أو توقع صاحبه في الرياء، على الإنسان أن يحذر عدوه الشيطان بالاستعاذة بالله منه، وأن يبتعد عن الرياء ويدعو الله دائماً أن يُعيذه من الرياء، لكن عليه ألا يترك العمل الصالح لأجل الناس.
هناك شبهة: بعض طلبة العلم يترك طلب العلم، ويترك تعليم العلم، ويترك الدعوة إلى الله، ويترك إمامة المساجد، ويقول: هذا أقرب إلى الإخلاص؟! وليس هذا بصحيح، ادع الله! واسأله الإخلاص وأخلص نيتك لله، وقم بهذا العمل.
فلا تترك العمل لأجل الناس، ولا تعمل لأجل الناس، بل اعمل ابتغاء وجه الله واترك العمل إذا كان غير صالح وغير خالص، أما إذا كان العمل صالحاً فأقبل ولا تتردد أبداً، واعلم أن ترددك إنما هو من الشيطان.
وعلينا أيها الإخوة! أن نتواصى في هذا ونتناصح؛ لنكون أقرب إلى الإخلاص بالأسلوب الحسن وبالحكمة والموعظة الحسنة، وأن نعود إلى أنفسنا.
إلى متى يظل الإنسان يتبع الهوى؟!
وإلى متى يظل الإنسان يُعجب برأيه؟!
وإلى متى يضرب الإنسان بآراء إخوانه عرض الحائط؟
وإلى متى يجر الإنسان لنفسه ولأمته ولإخوانه الشر والفساد؟
لا بد من النظر في نصوص الشريعة ومقاصدها ولا بد من عرض أمورنا على القواعد الشرعية، وألا نتحرك كل التحرك ولا نعمل كل عمل إلا وأمامنا أهل العلم الربانيون المخلصون هكذا نحسبهم ولا نُزكي على الله أحداً.
نسأل الله تعالى أن يمنَّ علينا وعليكم بالإخلاص، وأن يجعلنا وإياكم من المخلصين في أقوالنا وأعمالنا ونياتنا، وأن يرزقنا وإياكم صلاح النية، وصلاح الذرية، وصلاح القول والعمل، وأن نكون فيه مخلصين لله، متبعين فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يعيذنا من الرياء والسمعة، وأن يرزقنا رضاه وإن سخط الناس.
نسأله تعالى أن يرزقنا الحق ويحببنا فيه، ويرزقنا اتباعه، ويجنبنا الباطل ويرزقنا اجتنابه، وأن يجعلنا وإياكم متآخين متعاونين على البر والتقوى، ونشهد الله تبارك وتعالى أننا نحبكم في الله، وأننا ندعو لكم وأن حضوركم هذا ما هو إلا دليل على إخلاص وحسن نية إن شاء الله، وما هو إلا دليل على الرغبة في الخير.
نسأل الله تعالى أن يجمعنا وإياكم على الخير، وأن يرزقنا وإياكم التآخي والمحبة فيه، مخلصين فيه لوجه الله، فأنتم لا تحبوننا لدنيا عندنا، ونحن لا نحبكم لدنيا عندكم، فالذي يأتي بالدنيا ويصرفها هو الله، يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، هذا هو الاعتقاد الذي نعتقده، وأنه لا ينفع إلا الله، ولا يضر إلا الله كائناً من كان ذلك الإنسان أو ذلك الأمر.
فينبغي علنيا أن نتآخى في الله عز وجل وأن نتواصى فيه، وأن نخلص النية لله عز وجل، وأن نستحضرها في كل أعمالنا، في بيوتنا وأعمالنا ومدارسنا وطلبنا للعلم ودعوتنا وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر، في ولائنا لولاة أمرنا وفي غير ذلك من الأمور، كل ذلك نخلص فيه لله تبارك وتعالى.
ونسأله تبارك وتعالى أن يمنَّ علينا وعليكم بالقبول، وأن يرزقنا وإياكم جزاء المخلصين في جناتٍ ونهر في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، بمنه وكرمه.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين.(46/16)
الأسئلة
.(46/17)
زكاة المال المعد للعلاج
السؤال
شخص مريض -نسأل الله عز وجل لنا وله الشفاء- يقول في سؤاله: إنه جمع مبلغاً كبيراً من المال ليتعالج به، ثم إن هذا المال قد حال عليه الحول، فهل عليه زكاة؟
الجواب
أولاً: نسأل الله تعالى أن يشفي هذا الأخ السائل ومن كان مسئولاً عنه، وأن يَمنَّ على الجميع بالشفاء من أمراض القلوب، ومن أمراض الأبدان، على أخينا السائل أن يعلم أن الزكاة واجبة في الأموال على حسب شروطٍ معينة معروفة عند أهل العلم، منها: تمام الحول، وملك النصاب ونحو ذلك من الشروط التي ذكرها أهل العلم، فما دام أن هذا المال لك وأنت ادخرته وملكته، فإنه من أموالك ولو ادخرته لأمرٍ من الأمور التي تريدها، وعليك أن تُبادر بالعلاج حتى لا يحول عليه الحول فتلزمك زكاته والله أعلم.(46/18)
نصيحة لمن يبحث عن عيوب العلماء ويطعن فيهم
السؤال
أكثر من سائل يريدون توجيهاً إلى بعض الشباب الذين جعلوا ديدنهم البحث عن معايب بعض العلماء والطعن فيهم؟
الجواب
على كل حال! هذه قضية مهمة جداً، وينبغي أن يتواصى فيها طلاب العلم؛ لأن المسلم إنما يبحث في هذه الحياة عن رضا الله، وما يقربه إلى الله، وعليه أن يسأل عن الحق الذي يُقربه إلى الله تبارك وتعالى، ولا ينبغي للإنسان أن يعلم أو يعمل على ضوء أمرٍ يخالف كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وطلاب العلم هم القدوة الذين ينبغي أن يقتدي بهم الناس في ضبط أوقاتهم، وعفة ألسنتهم، وسلامة قلوبهم من بعضهم لبعض، الخطأ ينبغي أن يبين للناس كائناً من كان، فليس أحدٌ معصوماً، وكل ابن آدم خطاء، فعلينا أن نبين الخطأ لكن ليس من ضرورة بيان الخطأ أن أقول: أخطأ فلان على الملأ.
ينبغي أن يكون بين طلبة العلم ورائدهم الإخلاص لله عز وجل في كل أعمالهم، في طلبهم للحق وفي بحثهم عنه، وفي تحريهم إياه، وفي السؤال عنه، فلا تقع في عرض مسلم لتتشهى في الوقيعة به، أو لتدمر مجلسك بالغيبة والنميمة لفلان وفلان، هؤلاء لا علينا من أعراضهم، لكن اربطوا أنفسكم -أيها الإخوة- بالمنهج، واربطوا أنفسكم بالدليل، فمن خالف الدليل ينبغي أن يُردَّ عليه، وأن يُعرف مأخذه، وإن كان في المسائل الاجتهادية فلا بأس بعذره، ولا يجعل من وسائل الخلاف الاجتهادية والوسائل التي فيها سعة وللرأي فيها مجال، لا ينبغي أن تكون مثارة خلاف، اختلف الصحابة واختلف الأئمة، ولكن كانت القلوب سليمة.
أما المناهج الوافدة، والأحزاب المخالفة للحق، ومن يريدون أن يدعوا إلى أنفسهم، أو يدعوا إلى تكثير سوادهم، والأمة على خطر منهم، فينبغي أن تبين المناهج المخالفة، وإن لم تُسمَّ بأسمائها، وإن لم يسم أصحابها بأشخاصهم، فالأشخاص بينهم وبين الله، فالله عز وجل هو الذي يطلع على نياتهم ومقاصدهم، فنحن لا نقول: فلان يريد كذا، ولا يريد كذا، لكن عمله وعلمه وسريرته عند الله تبارك وتعالى.
لكني أقول: إن الأسلوب -مثلاً- في مواجهة إنكار المنكر، وما يترتب عليه من ضرر أسلوبٌ خاطئ، وقد جُرِّب في كثير من البلدان فلم ينفع وإنما سبب الضرر، فالعقل والنقل والشرع والقواعد والمقاصد الشرعية كلها تدل على أنه ينبغي أن يوضع لكل مقامٍ مقال، ولا ينافي هذا أن يبين الحق للناس، لكن ليس من الضرورة أن يبين بأسلوبٍ قد يجر عليك وعلى دعوتك وعلى إخوانك المسلمين ضرر، فالبيان والبلاغ درجات ومراتب، وكلٌ يعرف المرتبة المناسبة له، فليس من الحكمة أن تتكلم مع عامة الناس فيما يحتاجه الخاصة، ولا تتكلم مع الخاصة في أمورٍ لا تناسبهم أو بأسلوبٍ لا يناسبهم، فينبغي أن يضع الداعية الحكيم لكل مقام موضوعاً، وحالة تناسبه، ولكل حالة لبوسها، ولكل مقامٍ مقال.
ولكن أيها الإخوة! لا ينبغي أن يُؤدِّي الخلاف في وجهات النظر، أو في الآراء، أو في المسائل الاجتهادية أن ينقلب ذلك إلى عداوات شخصية، وإلى إحن وردود، ومخالفات بأساليب، يلتمس القارئ لها أن العاطفة أو الاندفاع أو عدم الأسلوب العلمي الهادئ الرزين المؤصل أنه هو المنهج الذي يسلك في هذا.
فعلى كل حال! أوصي نفسي والحاضرين أن نُعمِّر أوقاتنا، وأن نضبط أنفسنا، وأن نحفظ الود لإخواننا في الله مهما خالفونا، هذا ينبغي أن يسير عليه الناس، فليس الناس كلهم نسخة واحدة.
أنا أعلم أن في المجلس من يحضر، لكنه قد يكون يرى آراء معينة تخالف رأي المتحدث، لكنه لم يمنعه ذلك من الحضور والسماع، ثم لا يمنعني ذلك أن أقول: إني أحب ذلك الرجل في الله وإن خالف في هذا الرأي ما دام أن عقيدته عقيدة صحيحة، ومنهجه منهج سليم والحمد لله، فعلى ماذا الخلاف؟
إذا كان في الأساليب ووجهات النظر، وكلٌ سيعرف مدى نجاحه في أسلوبه أو عدمه اليوم أو غداً؟
لكننا نتواصى في المنهج الحق، والسير على منهج السلف الصالح، والأخذ من علمائنا -وفقهم الله- فهم أعلم منا وأكثر خبرة وتجربة.
ثم علينا أن نحرص على اجتماع الكلمة، وترك الفوضى والاضطراب الفكري، والخلل والبلبلة بين الناس وبين الدعاة، ليست أمراً محموداً لا للمجتمع ولا للبلاد ولا للعباد ولا للدعوة نفسها، فينبغي أن يربأ الناس بأنفسهم عن هذه الأمور، ويعلموا أن كل ضرر يتسبب في أحد من الناس بسبب دعوته وأسلوبه الخاطئ، ينبغي أن يتحمله وأن يراجع نفسه، وأن يستفيد الناس من الناس في الدروس، وأن يكون لهم في الأحداث عبر، ومع ذلك لا يقعون في المجالس عرضة لطلاب العلم، ولا العلماء، فهذا مجانبة للصواب، فيجلسون في المجالس وكأنهم أحمد بن حنبل وابن حجر ويحيى بن معين والذهبي وغيره، ليس هذا بصحيح، وهذا من قلة البضاعة وقلة الإيمان، ويخشى أن يكون ذلك من إفرازات عدم إخلاصهم، فلو أخلصوا لواجهوا، لا تدوس الناس في المجالس، ولا تطرح كرامة الناس وتدوس بكرامتهم في مجالسك الخاصة، وتربي شبابك وأبناءك وأقاربك وإخوانك ومحبيك على هذا، لكنك واجه الناس -إن كنت شجاعاً- بالأسلوب والحجة، فالحكمة ضالة المؤمن.
وإن الذي بيني وبين بني أبي وبين بني عمي لمختفٌ جداً
فإن أكلوا لحمي وفرت لحومهم وإن هدموا مجدي بنيت لهم مجداً
ولا أحمل الحقد الدفين عليهم وليس شريف القوم من يحمل الحقدا
بلينا بأحقاد وحزازات وحسد وبغضاء وأمور لا يعلمها إلا الله، فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه، وأن يجمع قلوبنا على طاعته.
إلى متى أيها الشباب؟
وإلى متى أيها الدعاة؟
وإلى متى نغتر بمن نعلم أنه يخالف ما عليه السلف الصالح رحمهم الله؟
على أننا ينبغي ألا نخوض في عرض مسلم، وألا نتهم قصد أحد؛ بل نكل الأمور إلى الله، ونكل السرائر إلى الله سبحانه وتعالى، فبئست البضاعة أن تُدِّمر المجالس بالغيبة والنميمة، لا سيما إذا كانت والوقيعة في طلاب العلم وقيعة خطيرة، ولحومهم مسمومة كما قال ذلك ابن عساكر رحمه الله؛ فعليك أن تحذر من الوقوع فيهم، ويخشى على من هذه حاله أن يُعاجله الله بموت القلب، ولهذا نجد الذين هذه بضاعتهم أعياهم العلم، فلا هم مبرزون في العلم ولا هم مبرزون في الدعوة إلى الله، ولا هم حلوا الساحة ودعوا إلى الله بأسلوبٍ حسن، وإنما يجلسون -فقط- يتفكهون في أعراض الناس وبئست البضاعة!! فعليكم بتقوى الله والخوف من الله.
أين الخوف من الله؟
وأين الإيمان وأين الرقابة؟!
ألا تخشى أن يسألك الله عز وجل وأنت تقع في عرض مسلم، قد يكون أتقى وأعلم وأحرص منك على الخير للأمة، وقد يعلم ويعمل وأنت لا تعلم، أتريدون من الناس أن يكشفون أوراقهم في كل مجلس؟!
هناك جنود مجهولون ينصحون لله ولرسوله ولولاة أمر المسلمين وللعامة، وينذرون أنفسهم، وهم قد لا يكونون معلومين لدى كثيرٍ من الناس، فعلينا أن نضبط أنفسنا -أيها الإخوة- وتصرفاتنا، وأن نكف عن هذه المجالس التي يكفي أنها معمورة على كبائر الذنوب من الغيبة والحسد والبغضاء.
أما إذا كان الأمر لقصد بيان حق أو لبيان خطأ وقع فيه إنسان أو جماعة أو فرد أو أناس؛ فينبغي أن يبين الخطأ، كمنهج ينهج، لكن ليس علينا من الأشخاص ولا من الذوات، وإنما الإنسان يبين الحق ويقصد اتباعه، ويجرد قلبه من الغل والحقد لأحدٍ من إخوانه المسلمين من كانوا.
لعل هذا هو المنهج المعتدل الذي أعلمه من منهج سلف هذه الأمة رحمهم الله، وهو الذي عليه مشايخنا وعلماؤنا وفقهم الله، ووفق الجميع لما فيه الخير والسلام.(46/19)
المناسبة بين البلاء والعقوبة
السؤال
هل كل ما أصاب الداعية من مصيبة دليلٌ على عدم إخلاصه، أو أن ذلك لابتلائه على قدر الإيمان؟
الجواب
هذا سؤال مهم! وفعلاً قد يوقع لبساً عند بعض الإخوة.
لا شك أن المؤمن يُبتلى، وأن الله -عز وجل- قد كتب الابتلاء وجعله سنة، وأشدكم بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى الرجل على قدر دينه، لكن قد يبكي الإنسان أحياناً لأمرٍ وقع في نفسه، فلا تنافي بين الأمرين، وعليه إذا ابتلي أن يراجع نفسه، فدليل إخلاص الرجل أنه إذا أخطأ أن يتبين له الخطأ، وإذا حصل له ابتلاء عليه أن يلتجئ إلى الله، وأن يخلص ويفوض أمره إلى الله سبحانه: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
فمع أنهم علموا أن الابتلاء من الله، لكنهم لم يمنعهم ذلك أن يراجعوا أنفسهم وأنهم قد يكونوا قصروا في أمر من الأمور، فعلى الإنسان أن ينظر في نفسه وينظر في تقصيره، فإن علم أنه ليس منه تقصير فذلك ابتلاء من الله، والله عز وجل سيرفعه به درجات، ويكفر عنه به سيئات، وليصبر وليحتسب {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] بلى! كل مسلم يُحب أن يغفر الله له، وأن يعافيه من الابتلاء، لكن لا يعرض الإنسان نفسه للبلاء.
أحياناً: قد يعرض الإنسان نفسه للبلاء؛ إما من قلة علمه، أو إما لاستعجاله في أي أمرٍ من الأمور، فيقع في ابتلاء نتيجة أمرٍ في نفسه، فهذا ينبغي أن يعود إلى نفسه لعله استعجل أو لعله أخطأ في الأسلوب، ولعله ولعله من الأسباب التي يُوردها على نفسه، فأهم شيء ما بينك وبين الله، إذا أخطأت أو قد تكون استعجلت، أما وجود الغيرة لدى المسلمين؛ فهذا أمر طيب يشكرون عليه {أتعجبون من غيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير منّي}.
إن الله عز وجل يغار، ويجب على المسلم أن تتحرك غريزته وفطرته وأن يتحرك إيمانه حينما يرى أن حرمات الله تنتهك، لكن عليه أن يربط نفسه بالميزان الشرعي، وعليه أن ينكر على حسب حاله واستطاعته، وأن يرجع إلى أهل العلم.
أما أن يضيع الإنسان نفسه، ويعرضها ويجعلها في محل التهم، ويستعجل في أمر له فيه أناة، ويقول له أهل العلم: رويدك يا أخي! وقد يتهم العلماء باتهاماتٍ لا تليق، فهذا إنما أوتي من قبل نفسه، فعليه أن يعود إلى نفسه؛ فإن ذلك أدعى إلى أن يراجع نفسه، وأدعى إلى إخلاصه، وليفهم الكلام جيداً، وليفهم هذا التفريق الطيب، ولا ينبغي أن يأخذ كلام المتحدث وكلٌّ يركبه على فهمه، ويقول الشيخ يقصد فلاناً أو يريد فلاناً، كلامنا ليس عن النية، فالنية عند الله، كلامنا في الإخلاص، والإخلاص لله تبارك وتعالى.
فنسأل الله أن يدل الجميع للحق، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين فيه، وأن يجعلنا وإياكم ممن ابتلوا في سبيله، فإن من ابتلي في سبيل الله عز وجل وفي دعوته وفي إنكاره المنكر فإن هذا -إن شاء الله- خيرٌ له في دينه ودنياه، وقد يكون هذا من الخير أنه يراجع الصواب في بعض المسائل التي قد يكون أخطأ فيها، فإن لم يجد من نفسه خطأ فهذا ابتلاء: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106]، {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك:2] ابتلاء لرفعة الدرجات، وتكفير السيئات، كما ابتلي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وكما ابتلي الأئمة والعلماء والجهابذة قديماً وحديثاً في كثيرٍ من البلاد.
ونسأل الله تعالى أن يُصلح أحوال المسلمين، وأن يمنَّ علينا وعليهم بالهداية والتوفيق، وأن يُجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن؛ إنه جوادٌ كريم.(46/20)
الشيخ عبد الرزاق عفيفي
ذكر الشيخ في هذه المادة نبذة عن حياة الشيخ عبد الرزاق عفيفي، تحدث فيها عن مولده ونشأته وطلبه للعلم، ثم تكلم عن حياته في الدعوة إلى الله، وكيف كان يتعامل مع المخالفين له، وكذلك تعرض لحرصه على الخير وحبه للناس وحرصه على النصيحة بحكمة، مبيناً ما تعرض له الشيخ عبد الرزاق من ابتلاءات في حياته مثل: موت ثلاثة من أولاده ووالده وصبره وتجلده، وكذلك مرض الصرع الذي أتاه منذ السابعة من عمره.
كما تحدث عن أخلاقه العالية وتواضعه، وأن الدنيا لم تشغله عن الفتاوى والعمل في الدعوة.(47/1)
أهمية الحديث عن سير العلماء
الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترةٍ من الرسل بقايا من أهل العلم، ينفون عن دين الله تحريف الغالين وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وأشهد أن لا إله إلا الله ولي المتقين، وقيوم السماوات والأرَضين، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، الذي بلغ البلاغ المبين، تركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فصلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وأزواجه أمهات المؤمنين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا أيها الإخوة الأحبة في الله: أحييكم بتحية الإسلام: فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وأسأل الله تبارك وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، أن يجعل هذا اللقاء لقاءً طيباً مباركاً فيه، وأن يجعله في ميزان حسنات الجميع، الذين تركوا أعمالهم وأشغالهم في هذه الليلة وأوَوا إلى بيتٍ من بيوت الله عز وجل، فهنيئاً لهم أن تحفَّهم الملائكة، وأن تتنزل عليهم السكينة، وأن يذكرهم الله فيمن عنده.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا وإياكم لحسن القول والعمل والتطبيق، ونشكر إخواننا في الله، في إدارة مركز الدعوة بمدينة جدة على إسهاماتهم الطيبة، ومن ذلك: الإسهام في هذه المحاضرات القيمة عن تراجم وسير العلماء الصالحين الصادقين الذين عُرِفوا بعلمهم وعُرِفوا بعملهم، وحسن معتقدهم، وعُرِفوا -أيضاً- بمنهجهم الصحيح في العلم والدعوة والحِسبة والإصلاح.
أيها الأحبة: إن هذا الموضوع المهم الذي نحن بصدده -موضوع الحديث عن سير علمائنا الأفاضل وأئمتنا الكرام- موضوعٌ في غاية الأهمية، وتأتي أهمية هذا الموضوع من نواحٍِ كثيرة وأسبابٍ متعددة:
السبب الأول: أن هؤلاء العلماء في الأمة هم أنوار هُداها، وهم مصابيح دُجاها، وهم الشموع التي تنير طريق العلم والعمل والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍ وافر.
فإذا كانت هذه مكانة العلماء، فإن الواجب على الأمة أن تعرف سِيَر علمائها، وأن يرتبط خَلَفُ الأمة بسلفها، وأن ترتبط الأجيال المعاصرة والناشئة في عقب الزمن بعلمائهم الذين ساروا على منهج السلف الصالح رحمهم الله ورضي عنهم.
السبب الثاني: مكانة العلم، فالعلم له مكانةٌ عظيمة، وله منزلةٌ رفيعةٌ في هذا الدين، والجهل ظلامٌ وشؤمٌ وبُعدٌ عن الله عز وجل:
وفي الجهل قبل الموت موتٌ لأهله وأجسامهم قبل القبور قبورُ
وإن امرؤٌ لَمْ يحيى بالعلم ميِّتٌ وليس له حتى النشور نشورُ
...
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهمُ على الهدى لمن استهدى أدلاءُ
وقدر كل امرئٍ ما كان يحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداءُ
ففُزْ بعلمٍ تحيا به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياءُ
وأجلُّ من ذلك وأبلغُ قولُ الحق تبارك وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر:9] {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
السبب الثالث: أننا نعيشُ في عصرٍ يمثل عصر غربة الإسلام، وعصر نقص العلماء الذين يسيرون على المنهج الصحيح، وما ذاك إلا لأن كثيراً من العلماء الأبرار انتقلوا من هذه الدار، وهذه ثُلْمَةٌ لا تسد، وفاجعةٌ لا تُعَدُّ ولا تُحَدُّ، فقبض العلماء وموت الأفذاذ من المصائب على الأمة، ويدل ذلك على أن الأمة بحاجةٍ إلى أن تأخذ علم علمائها قبل أن يُفْقَدوا، فإذا انخسفت النجوم وانكسفت وغابت أوشكت أن تضل الهداة.
فالعلماء في الأرض بمثابة النجوم في السماء، وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، فإذا لم يبقَ عالم؛ اتخذ الناس رءوساً جهالاً فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا}.
هذه الأمور تجسد المسئولية على الأمة وعلى شبابها وطلابها أن يرتبطوا بكبار العلماء قبل أن يُفقَدوا وأن تستفيد الأمة منهم ومن علمهم وفضلهم، وأن تقتبس من نور سيرتهم ما يبين لها طريق الحق، هذا هو الواجب على الأمة الإسلامية وعلى شبابها وطلاب العلم فيها وناشئتها بصفةٍ خاصة.
السبب الرابع: أننا نعيش في عصر الفتن، والخلافات وعصرٍ كثُر فيه النزاع والشقاق، وإعجاب كلُّ ذي رأيٍ برأيه، فيجب على الأمة أن تعرف العلم بدليله، وأن تأخذ الحق بناصع حجته وبيانه، وذلك لا يؤديه إلا من رسخت أقدامهم في العلم وثنوا ركبهم، وحنوا ظهورهم سنين عديدة في التحصيل والطلب، ومن ثَمَّ البذل والدعوة والتعليم والجهاد والبلاغ.
السبب الخامس: أن الأمة اليوم يوجد من أعدائها مَن يُلَمِّع رموز الباطل ومن يزين للأمة أصنافاً من أهل العفن، الذين هم ضد قيم الأمة وأخلاقها وعقيدتها، فواجب الدعاة إلى الله وواجب العلماء، وطلاب العلم أن يبرزوا أمثال هؤلاء الأئمة للأمة؛ لأن إبرازهم من أقل الواجب علينا تجاههم.
السبب السادس: أن هناك فجوةٌ كبيرة -ويؤسفنا أن نقول هذا- بين الشباب وبين علمائهم، فإذا سألتَ كثيراً من الشباب عن كبار علمائهم -لا سيما من تُوفُّوا إلى رحمة الله عز وجل- فستجدُ أن بعضهم لا يعرف عن هؤلاء شيئاً، وهذا والله هو العقوق، أن يظل علماء راسخون وأئمة مهديون، وجهابذةٌ بارزون، أن يظل أولئك في طي النسيان إذا ماتوا!!
فيجب على الأمة وعلى العلماء وعلى طلاب العلم أن يبرزوا هؤلاء العلماء للأمة.
ويؤسفني أن أقول: إن عَلَمَنا اليوم الذي نريد أن نتحدث عنه -مع أنه مر على وفاته أكثر من عامٍ وثلاثةِ أشهر أو لعام ونصف تقريباً- لم نر من طلاب العلم فينا ولا من المهتمين من أبرز سيرته، أو حرص على إبرازها أو ذكر نشاطه ونتاجه العلمي ومنهجه الدعوي، وذلك من الخطورة بمكان، فإن موت العالِم ثلمة في الأمة، ويجب على هؤلاء العلماء وطلاب العلم أن يكونوا على صلةٍ بعلمائهم فالعلماء هم الذين يبينون الطريق الصحيح للأمة، لا سيما في عصرٍ غلبت فيه الخلافات وكثر فيه النزاع والشقاقات.
فيجب علينا -أيها الأحبة في الله- أن نحرص على سير علمائنا، وأن نستفيد منهم، ولهذا قال بعض أهل العلم: "سِيَر العلماء أحب إلينا من كثيرٍ من الفقه"؛ لأن كثيراً من الفقه إغراقٌ في مسائل فرضية أو في مسائل فرعية وجانبية، وقد يكون ليس لها أهمية في مجال العمل والتطبيق، أما سير العلماء -لا سيما إذا عُرفوا بحسن المعتقد وسلامة المنهج- فإبرازهم للأمة هو ترجمانٌ صريحٌ(47/2)
إنزال أهل العلم منازلهم
أيها الأحبة في الله: إن في سير العلماء خبرٌ أيُّ خبر! وإن في تراجم العظماء عبرٌ أيُّ عبر! وإن في أحوال النبلاء مُدَّكَرٌ أيُّ مُدَّكَر! هم صفحةٌ ناصعة ينبغي أن يمتثلها الجيل اليوم وأن يسيروا على ضوئها وأن يقتبسوا من نورها في عصرٍ طغت فيه الماديات، وكثر فيه تلميع أهل الباطل، والإقلال من أهل الخير والحق عند كثيرٍ من الناس، فينبغي أن يُبْرَز أولئك وأن يُبَيَّنوا للأمة لشبابِها وشيبِها، ولعلمائها وعامتِها، ليُعَرَف فضلهم على الأمة.
أيها الإخوة: إن في تاريخ الإسلام العظيم كوكبةٌ من علماء الشريعة بذلوا جهودهم للتحصيل العلمي، وبذلوا أنفسهم وأوقاتهم في طلب العلم ونشره وبذله للناس.
مِن علماء سلفنا الصالح -رحمهم الله- أمثال: الإمام أحمد رحمه الله، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه العلامة ابن القيم، والأئمة الكرام الذين برزوا في فنونٍ شتى، في فنون العقيدة والفِرَق، والحديث درايةً ورواية، والفقه، والأحكام، وأصول الفقه، واللغة العربية، وعلم التفسير، وعلوم القرآن، وعلم الأدب وغير ذلك من العلوم النافعة.
فأمة الإسلام أمةٌ معطاءة خرَّجت العلماء والزعماء والقادة والعظماء والأدباء والنبلاء، وتاريخ الإسلام زاخر بهؤلاء الأئمة، فيجب علينا أن نعرف قدرهم وفضلهم، وأن نستفيد منهم وأن نرتبط بمنهجهم، وأن نسير على ما ساروا عليه؛ لأنهم أسبقُ منا وأرسخ قدماً في العلم، وأكثر خبرةً وتجربة وعمقاً في الأمور والنظر إلى العواقب والحكمة في طريق العلم والدعوة، والموقف من المخالف وما إلى ذلك من الأمور المهمة التي ينبغي علينا جميعاً أن نحرص على تجليتها حينما نتحدث عن سِيَر هؤلاء العلماء.
إن في علمائنا المعاصرين من مشائخنا وكبار علمائنا لَمَنهجاً وأسوةً وقدوة ينبغي أن يستفيد شبابنا منهم، وحينما نقول ذلك لا نقول: إننا نغلو بهم، ولا نقول: إننا ندعي لهم العصمة، لكننا نعرف لهم فضلهم وسبقهم ولا خير في أمة لا يعرف شبابُها قدر علمائها، ولا خير في أمة لا يعرف ناشئتُها مكانة كبار علمائها.
ويؤسفنا أن نسمع عن هؤلاء العلماء من يقول: إن فيهم وفيهم، وإنهم رجالٌ ونحن رجال، وإنهم لا يعرفون شيئاً من أمور العصر أو أمور الواقع أو غير ذلك من الأمور، وما أُتِيَ أولئك إلا مِن قِبَل جهلهم، وإلا مِن قِبَل سوء أدبهم مع علمائهم وتقديرهم لأهل الفضل منهم، ولا تسأل عما يعيشه هؤلاء من فُرقةً وخلاف وتخبطٍ في الجديد من المشارب والحديث من المذاهب.(47/3)
مسيرة الشيخ عبد الرزاق عفيفي
أيها الأحبة: عَلَمُنا اليوم؛ علمٌ لا كالأعلام، وأقولها بصراحة؛ لأنها عن خبرةٍ وتجربة، وإني لا أكتمكم أن الفرائص ترتعد، وأن الأعصاب تهتز، وأن الدموع تكاد تنسكب، وأن الأفئدة تكاد تضطرب، ونحن نتحدث عن رجل قدَّم لأمته ومجتمعه، وقدم للعالم نتاجاً علمياً وجهوداً جبارة، أصبحت عند كثير من الناس في طي النسيان والكتمان مع شديد الأسف:
لعمرك ما الرزية فقدُ مالٍ ولا شاةٌ تموت ولا بعيرُ
ولكن الرزية فقد شهمٍ يموتُ لموته بشرٌ كثيرُ
...
وما كان هُلْكه هُلْك واحدٍ ولكنه بنيان قومٍ تصدعا
الشيخ العلامة والحبر الفهامة شيخنا؛ الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله من الجيل الذي يُعَد من بقية السلف الصالح رحمهم الله، الذين عرفهم هذا العصر، علماء عاملين، وأئمةً ربانيين، ومجاهدين في سبيل العقيدة الصحيحة وفي سبيل نشرها وبذلها وتعليمها للأمة.
الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله أئمةٌ في إمام؛ إمامٌ في الحديث، لا يُشَّق له غبار، وإمامٌ في الفقه لا يجارى، وإمامٌ في الأصول لا يبارى، وإمامٌ في اللغة، وإمامٌ في علم التفسير وعلم القرآن، رحمه الله رحمة الأبرار وجمعنا به في دار كرامته، إنه جوادٌ كريم {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69].
إن العناصر التي يُتَحَدَّث عنها عند سيرة أي علَمٍ من الأعلام ينبغي أن تكون عناصر متكاملة، ولكن ماذا عساي أن أقول عن اثنتين وتسعين سنة من الجهاد والدعوة والعلم والتعليم والخير بجميع جوانبه، عن اثنتين وتسعين سنة من هذا الجهاد الكبير؟! ماذا أقول في ستين دقيقة أو في تسعين دقيقة؟!
إنني لا أريد أن أطيل، وأنا أعد بذلك في أول هذه المحاضرة؛ لأنني لن أوفِ شيخنا -رحمه الله- حقه، لكني أؤكد أن هذه المحاضرة ما هي إلا إشارةٌ ومفتاح، ونعيش فيها مع دقائق مباركة، من سيرة شيخنا رحمه الله، وحينما نتكلم عن سيرة شيخنا لا يهمنا في حياته الجانب الأسري، ولا يهمنا في حياته الجانب النظري، ولا يهمنا في حياته جانب أكله وغذائه وجانب أموره الشكلية، ورغم أنني سأذكر ذلك، ولكن يهمنا ما هو أهم من ذلك كله وهو: منهج الشيخ رحمه الله في عقيدته، ومنهجه في العلم، ومنهجه في التعليم، ومنهجه في النشر والبذل والعطاء، ومنهجه في الدعوة إلى الله عز وجل، ومنهجه ومواقفه من ولاة الأمر، وموقفه من العلماء، وموقفه من الجماعات العاملة في حقل الدعوة الإسلامية، ومواقفه من أمورٍ شتى، تبين غزارة علم الشيخ وسليم منهجه رحمه الله.
سأتناول في الحديث باختصار عن شيخنا رحمه الله، بل سنعطر أسماعنا وسنتوج لقاءنا هذا بذكر شيءٍ من حياته في ضوء النقاط الآتية:
أ- اسمه ونسبه.
ب- مولده ونشأته.
جـ- طلبه للعلم وجهوده في ذلك.
د- نبوغه المبكر وذكاؤه وحفظه.
هـ- تخرجه ومؤهلاته.
وأعماله في التدريس والدعوة.
ز- أخلاقه وصفاته.
ح- خَلْقُهُ وخُلُقُهْ.
ط- شيوخه وأقرانه وتلاميذه.
ي- منهجه في العلم والتعليم والدعوة والعقيدة وجهوده في ذلك.
ك- احترامه لغيره وموقفه من المخالفين.
ل- مواقف ولطائف في حياة الشيخ رحمه الله.
م- ابتلاؤه وصبره.
ن- ثناء الناس عليه، وثناؤه على غيره.
س- زهده وورعه وتقواه وصلاحه وبُعده عن الأضواء والشهرة.
ع- عمقه في العلم وتأصيله.
ف- مكانته العلمية وجهوده العملية.
ص- مرضه ووفاته.
ق- جنازته وعزاؤه.
ر- نتاجه العلمي ومؤلفاته، ومنهجه في ذلك.
ش- أولاده ومخلفاته ومراثيه وما قيل فيه من ذلك.
ت- ثم أخيراً نزف إليكم بشرى ونقترح مقترحات تليق بحياة شيخنا وعلمه ومنزلته رحمه الله.
وأنا أجزم أن هذا الكلام يحتاج إلى ساعاتٍ طويلة، لكني أبشركم أنني لن آخذ في هذا كله أكثر من نصف ساعة، وأجعل لأسئلتكم النصف الآخر أو ما هو أقلّ من ذلك؛ لأنني لا أحب أن أثقل عليكم، ومهما قلتُ من الحديث والكلام فلن أوفي الشيخ حقه، وسأحيلكم إلى بعض المراجع في ذلك، ليستفيد مَن رَغِب الاستزادة من علم الشيخ ومنهجه رحمه الله.
وبادئ ذي بدء أقول: إن كلام أصغر تلاميذ الشيخ فيه لا يوفيه حقه، فهذا المقام الذي أقفه اليوم أمامكم للحديث عن سيرة عالِمِنا المبجل، وإمامنا المفضل الشيخ عبد الرزاق رحمه الله لا ينبغي أن يحدث أمثالي عن أمثاله:
لا تعرِضَنَّ بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
ما المتحدث عن فضيلته رحمه الله إلا أصغر تلاميذه، وفي علمائنا اليوم وفي كبار علمائنا مَن هُم مِن أبر تلاميذ الشيخ وأوثقهم صلةً به، فالشيخ بذل جهده ودعوته، وتعليمه قبل أن يولد المتحدث أمامكم، فكيف أتحدثُ عن شيخي رحمه الله وأنا لَمْ أُدْرِك إلا سُنَيَّات عمره الأخيره؛ لكن هو حسن ظنٍ من إخواننا في مركز الدعوة، وهو الحقيقة حرصٌ على أن يفي تلاميذ الشيخ بمكانته وبحقه علينا، وعذري لكبار تلاميذه أنهم اليوم يتسنمون مناصب علمية وإدارية في الأمة قد تحول مشاغلُهم عن الحديث في الشيخ رحمه الله، لكن ذلك جهد المقل، وعسى أن يكون فيه خيرٌ وبركةٌ إن شاء الله.(47/4)
نسب الشيخ عبد الرزاق ومولده
أما اسم شيخنا رحمه الله؛ فاسمه: عبد الرزاق بن عفيفي بن عطية النوبي.
هذا اسمه كاملاً، والشيخ رحمه الله ولد في جمهورية مصر في قريةٍ تُسمى شنشور في محافظة المنوفية، وهذه القرية معروفةٌ بتمسكها بالإسلام وعاطفتها الدينية، ولهذا نشأ الشيخ رحمه الله نشأةً دينية وتأصل في الإيمان والتربية الصحيحة على خير ما يتربى عليه ناشئٌ يافع.
أما تاريخ ولادة الشيخ رحمه الله: فقد ولد في العام الثالث والعشرين بعد الثلاثمائة والألف من هجرة النبي المصطفى عليه الصلاة والسلام.(47/5)
نشأة الشيخ عبد الرزاق
لقد نشأ الشيخ نشأةً دينية ونشأةً علمية، فمنذ صباه رحمه الله كان متوجهاً توجهاً دينياً وعلمياً، فالتحق بتحفيظ القرآن الكريم، فحفظ القرآن الكريم منذُ صغره، وهكذا ينشأ الناشئ من العلماء، ينشأ مرتبطاً بكتاب الله عز وجل، ومرتبطاً بدستور هذه الأمة، ويؤخذ من هذا: أن علينا أن نربي أبناءنا وناشئتنا على كتاب الله سبحانه.
وينشأ ناشئ الفتيان منا على ما كان عوده أبوهُ
وما دين الفتى بِحِجى ولكن يعوده التدين أقربوهُ
ولنستمع -أيها الإخوة الأحبة- إلى مَن لازم الشيخ وعرفه أكثر مما عرفته أنا، وسأذكر اسمه جزاه الله خيراً في ثنايا هذه المحاضرة، يقول رحمه الله وحفظه ووفقه لما فيه الخير وجميع علمائنا والمسلمين جميعاً: في قريةٍ هادئةٍ متواضعة تترابط أُسَرها وتمتزج في كيانٍ واحد وتتنسم عبير الإخاء والود في مجتمعٍ ريفي صغير، هي قرية شنشور، إحدى قرى محافظة المنوفية بـ مصر في هذه القرية ولد الشيخ عبد الرزاق سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وألف، وكانت النشأة التي تغمرها العاطفة الدينية فتحرك مشاعر الإيمان، وتجعل من الدعوة إلى الله سياجاً حصيناً، وأصبح عبد الرزاق الفتى الموهوب في حفظه للقرآن وإقباله على العلم.(47/6)
رحلة الشيخ عبد الرزاق في طلب العلم
لقد منَّ الله على الشيخ رحمه الله منذُ صباه ومنذُ صغره بالحافظة وبالرعاية السليمة وبالذكاء المتوقد وبميله إلى الحفظ مع الفَهم، فكان رحمه الله حافظاً لكتاب الله، حافظاً للمتون العلمية في العقيدة والحديث والفقه وغير ذلك من الأمور.
ثم بعد أن درس في المدارس الابتدائية، أو ما يُعرف بالكتاتيب التي تحفِّظ كتاب الله عز وجل والقراءة والكتابة، التحق رحمه الله بالأزهر وأنهى الدراسة العليا متخصصاً في الفقه وأصوله، والعالِمية -وهي الشهادة التي تسمى عندنا اليوم: شهادة الدكتوراه- ودرس في الأزهر بعد تخرجه بمعهد الإسكندرية عليه رحمة الله.
وقد تدرج الشيخ رحمه الله في سلك التعليم فدرس في المعاهد الأزهرية التي تمثل مثلما يمثل عندنا اليوم المدارس المتوسطة والثانوية ثم التحق بجامعة الأزهر -قبل أن تكون جامعة يوم أن كانت جامعاً أزهراً- وتخرج منها مع كوكبةٍ من علماء الأزهر القدامى.
فالشيخ رحمه الله أثناء تحصيله في مستواه الثانوي والإعدادي، وفي مستواه الجامعي كان معروفاً رحمه الله بالحرص على التحصيل والمناقشة والرغبة في الفائدة والأخذ من العلماء والاستفادة منهم عليه رحمة الله.
وتخرج من الجامع الأزهر ونال الشهادة العالية، التي هي بمثابة ما يسمى اليوم بالليسانس أو بالبكالوريوس، ثم أخذ التخصص الذي هو الماجستير، ثم نال الشهادة العالمية العالية وهي بما يسمى اليوم وبما يوازي عندنا اليوم شهادة الدكتوراه، فقد بلغ رحمه الله من مراحل التعليم أجلَّها وأعظمها وأكبرها في عالَم شهادات اليوم، لكنه ليس طالب شهادة رحمه الله، ولم يكن يعترف بهذه الأمور، بل كان حريصاً على العلم، وحريصاً على التحصيل وعلى المواصلة حتى في آخر حياته رحمه الله، حتى وهو على مرضه، كان يُسأل وكان يَسأل، وكان يحرص على التحصيل والإفادة عليه رحمة الله.
أيها الأحبة: هذه رحلةٌ زمنية من عمر شيخنا رحمه الله، وهي تمثل الرحلة العلمية النظامية التي كان الشيخ رحمه الله فيها مبدعاً، وكان قد بَزَّ أقرانه، وكان يشار إليه بالبنان بين زملائه ومجالسيه وتلاميذه وأقرانه.(47/7)
اهتمام الشيخ عبد الرزاق ببناء المساجد
ومنذ كان الشيخ رحمه الله في مراحله العليا، يمتزج معه روح العلم والعمل والدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فلم يكن مقتصراً على العلم فقط، وإنما كان يحرص على العلم والعمل وعلى التعليم أيضاً، وعلى الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وهو في قريته وبعد التحاقه بالأزهر، كان رحمه الله حريصاً على الدعوة إلى الله، مركزاً على ما يحتاج إليه مجتمعه آنذاك، وهذه غاية معرفة بيئة الداعية لعصره وفقهه لواقعه الذي يعيشه، فالشيخ رحمه الله وُجِد في عالَمٍ يموج في كثيرٍ منه بالبعد عن الله عز وجل وبالوقوع في معتقداتٍ تخالف العقيدة الصحيحة، وبالوقوع في الشركيات والبدع وعبادة القبور والخرافات، فكان رحمه الله داعيةً إلى التوحيد وهو في مقاعد التحصيل والعلم والدراسة، وكان له في ذلك أسلوبٌ حسن.
ومن أساليبه رحمه الله في الدعوة إلى الله أنه كان في قريته حريصاً رحمه الله على أن يبني المساجد، وعلى أن يسهم فيها، وأن يوجد في كل مكانٍ من قريته مسجداً يجتمع فيه الناس ويؤدون فيه شعائر الإسلام، ولم يكُ ينظر إلى أن يؤدى فيه شعائر الإسلام فقط، وإنما رأى أن ذلك من رسالة المسجد التي ينبثق منها العلم والتعليم والدعوة إلى الله، وما المسجد إلى بمثابة قلعةِ إيمان وحصنِ فضيلة، ومحلٍّ للدعوة إلى الله وإشعاع النور في بيئةٍ تموج فيها الخرافة والعقيدة المخالفة لعقيدة أهل السنة رحمهم الله.
فكان الشيخ رحمه الله حريصاً على عمارة المساجد، حتى يذكرون عنه أنه لا يرى صاحب عمارة إلا ويعرض عليه أن يجعل جزءاً منها مسجداً يجتمع فيه المصلون، وكما قلتُ لكم: كان ينظر إلى المسجد على أنه يؤدي رسالةً في التعليم والدعوة عن طريق الخطابة، وعن طريق الدروس، وعن طريق الندوات والمحاضرات.
ويذكرون من لطائف ما يُذكر عنه في حسن أسلوبه في الدعوة وهو صغير عليه رحمة الله: أنهم كانوا قد عزموا على بناء مسجد في قريتهم، وكان بجانب المسجد مقهى، وكان صاحب المقهى لا يريدُ لهؤلاء أن يبنوا هذا المسجد، فما كان منه إلا أن عمل خصاماً مع جماعة المسجد، وقام أهل المسجد كلهم يريدون أن يمسكوا بتلابيبه، فما كان من الشيخ رحمه الله إلا أن قال: دعوا أمره إليَّ، فذهب إليه -رحمه الله- وهو في سنٍ مبكرة، لكنه كان حريصاً على الدعوة إلى الله وعلى منهج الدعوة الصحيح بالرفق والأسلوب الحسن والحكمة التي هي أحسن، والموعظة الحسنة.
فذهب هو ومجموعةٌ قليلةٌ من أهل المسجد ووجهائه إلى صاحب المقهى في مقهاه، وسلموا عليه وجلسوا معه، وأشعروه بالأمان، وأنهم لا يريدون أن يدخلوا معه في خصام، وأنه ابن هذه البلدة التي عُرفت بالدين وعمارة المساجد وما إلى ذلك من الأمور، فتحدث الشيخ معه حديثاً موجزاً وجماعة المسجد ينتظرون من صاحب المقهى أن يضرب الشيخ أو يوقع فيه إيذاءً بأي أنواع الأذى، لكن ما كان من هذا الرجل وقد ذهبوا إليه في وقت المساء، إلى أن أتى معهم ليؤذن في هذا المسجد الذي سعى إلى إغلاقه وعدم السماح ببنائه بجانب مقهاه، فرجع هذا الذي كان مؤذياً للدعوة ومؤذياً لأهل الخير، رجع مؤذناً للمسجد، ولعل هذا من حكمة الشيخ رحمه الله، فأتاه بأسلوبٍ حسن، وعرض عليه هذا الأمر ولعله قبل، وهذا ينبغي أن يتفطن له أهل الخير والفضل والدعوة والإصلاح.(47/8)
الشيخ عبد الرزاق رئيساً لجماعة أنصار السنة في مصر
الشيخ رحمه الله بعد تخرجه درَّس في المعاهد الأزهرية في بعض القرى وفي الإسكندرية، وكان حريصاً رحمه الله على السنة، فأنشئت جماعة أنصار السنة في مصر، وهذه جماعة -أقولها بحق- ليست جماعةً حزبية، وإنما هي أُناسٌ نذروا أنفسهم للدعوة إلى الله ولنصرة السنة، وللتركيز على العقيدة الصحيحة وإلى دعوة الناس إلى الوحيَين والتمسك بكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد رُشِّح الشيخ رحمه الله في سنٍ مبكرة نائباً لرئيس جماعة أنصار السنة في الإسكندرية، ثم عين رئيساً لـ جماعة أنصار السنة في مصر كلها، خَلَفاً للشيخ/ محمد حامد الفقي رحمهم الله جميعاً، فالشيخ رحمه الله التحق بالعلم والعمل والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وإحياء السنة والتركيز على العقيدة ونبذ البدع والخرافات، كل ذلك بأسلوبٍ حسن وهذا مما يبين الأولويات في الدعوة، وينبغي على الدعاة إلى الله أن يبنوا دعوتهم على الأولويات التي دل عليه الدليل من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، وقضية العقيدة هي أم القضايا على الإطلاق، وهي أصل القضايا باتفاق، وهي دعوة الرسل الذين دعوا أقوامهم إلى التوحيد والعقيدة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
ويكفي الشيخ في ذلك شرفاً أنه يسير على منهاج النبوة وعلى مشكاة الرسالة، وعلى منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.(47/9)
قدوم الشيخ عبد الرزاق إلى السعودية
مَنَّ الله على الشيخ وشَرُف الشيخ وشَرُفَت بلاد الحرمين الشريفين بالشيخ رحمه الله، فمن نعم الله عز وجل على هذه الأمة وعلى هذه البلاد وعلى الجزيرة أن هيأ لها الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن الفيصل آل سعود، رحمه الله، فجمع الله به البلاد والعباد على منهجٍ واحد، فبعد أن ضربت الجزيرة في الفرقة والخلاف وفي القبائل وغير ذلك من الأمور الكثيرة، جمعهم الله على يد الإمام عبد العزيز بن عبد الرحمن رحمه الله، فقد رأى مع علماء هذه البلاد -وفي مقدمتهم سماحة المفتي السابق الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله- أن البلاد بحاجةٍ إلى مجموعةٍ من العلماء الذين عُرِفوا بعمقهم العلمي وبحسن منهجهم العقدي وبإثرائهم البلاد وأهلَها بالعلم والتحصيل والتوجيه فكان أن استُقْدِم مجموعةٌ مباركة من علماء الأزهر، مِن أهمِّهم وأولاهم وأفضلهم: شيخنا الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله، ومنهم أيضاً: الشيخ عبد الظاهر أبو السمح إمام الحرم المكي الشريف رحمه الله، ومنهم: الشيخ محمد بن عبد الرزاق حمزة، ومنهم: الشيخ: محمد خليل الهراس، ومجموعةٌ مباركة من كبار علماء الأزهر المعروفين بحسن عقيدتهم، وحسن منهجهم، فأتوا إلى هذه البلاد المباركة لما افتُتِحت المدارس عن طريق مديرية المعارف آنذاك، وافتتحت دار التوحيد بـ الطائف وافتُتِحت المعاهد العلمية التي هي نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.
ففي عام ألفٍ وثلاثمائة وثمانية وستين قَدِم الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله إلى بلاد الحرمين الشريفين، لم يأتها طالباً للدنيا علم الله، ولم يأتها يريد المنصب، ولم يأتها يريد المال، كما يأتيها كثيرٌ من الناس اليوم ممن لم يصونوا العلم، لكنه أتى إليها حباً في الحرمين وأهلها، وحباً في الإسلام وعلماء الدعوة السلفية الذين ساروا على منهج الدعوة الإصلاحية، منهج الشيخ الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، ولا شك أن هذه البلاد المباركة التي هي مأرز الإيمان وموئل العقيدة، عنيت بالمنهج الاعتقادي الصحيح، وكان الشيخ -وهو من كبار علماء السنة في العصر الحاضر- كان حريصاً على أن يكون في ظل هذه البلاد يستفيد منها ويفيد أجيالها وناشئتها.
فكان أن شرُفت هذه البلاد به وشرُف بها، وأتى مع كوكبةٍ من علماء الأزهر، وكان لهم بعد الله الفضل والشرف في أن يُخرجوا جيلاً من العلماء.(47/10)
بعض زملاء الشيخ وطلبته
أقول لكم وبصراحة: إن كبار علمائنا اليوم هم من زملاء الشيخ وأقرانه ومن تلاميذه:
اسألوا عن الإمام الشيخ العلامة والد الجميع.
الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، فلقد كان زميلاً للشيخ وكان ممن أُعجب بالشيخ غاية الإعجاب، حتى إنه رشحه جزاه الله خيراًً نائباً للإفتاء، وعضواً في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، فكان أن أحسن الاختيار جزاه الله خيراً وأثابه على أعماله الطيبة.
وأيضاً مَن سوى الشيخ عبد العزيز من علمائنا اليوم ومن كبار علمائنا، هم من تلامذة الشيخ جزاه الله خيراً ورحمه، اسألوا عن أهل الطبقة الذين هم اليوم كبار العلماء، والذين هم اليوم قضاة المحاكم وقضاة التمييز، وكبار الدكاترة وأوائل المدرسين والدعاة، هم من تلاميذ الشيخ رحمه الله، ومنهم على سبيل المثال:
معالي الدكتور عبد الله بن عبد المحسن التركي، وزير الشئون الإسلامية والأوقاف، فلقد كان من أبرز تلاميذ الشيخ رحمه الله، وكان الشيخ رحمه الله هو الذي أشرف على رسالتيه في الماجستير والدكتوراه، ومنهم أيضاً: الشيخ: صالح بن محمد اللحيدان، والشيخ: عبد الله بن غديان، والشيخ: صالح بن فوزان، والشيخ: عبد الله بن جبرين، والشيخ: عبد الله بن سعود، وغيرهم كثير من كبار علمائنا اليوم، هم تلاميذ الشيخ رحمهم الله، ورحمه الله، وجزاهم الله خيراً وبارك فيهم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلهم خير خلفٍ لخير سلف.
أيها الإخوة: أرى أن الموضوع كاد يتفلت مني وكنتُ أمسك بزمامه والأمور كثيرة، وأنا أمام بحرٍ لا ساحل له، ولعلي أن أعود إلى ما ذكرته في العناصر، حتى يكون طريقاً للجادة.
أعماله في مصر في التدريس والدعوة، والتحاقه بـ جماعة أنصار السنة المحمدية.
ومع أن الشيخ رحمه الله ممن أُعجِب بهذه الجماعة، إلا أنه كان متعاوناً ومفيداً لسائر الجماعات في الساحة، فلم يكن يتعصب لجماعةٍ معينة، وكان ينظر إلى الجميع بمنظار العدل والإنصاف، وكان يناصح ويبين الخطأ لمن عنده خطأ من الأفراد أو الجماعات بالأسلوب الحسن.(47/11)
المناصب التي تولاها الشيخ عبد الرزاق
قدم إلى المملكة -كما قلتُ- ودرَّس في دار التوحيد، ودرَّس قبلها في المعارف، ثم درَّس في معهد عنيزة العلمي، واستفاد منه شيخنا الشيخ: محمد بن صالح العثيمين -رحمه الله- كما استفاد الشيخ أيضاً من دروس الشيخ: عبد الرحمن بن سعدي في القصيم، وبعدها أيضاً، افتُتح معهد الرياض العلمي في العام السبعين بعد الثلاثمائة والألف، فأُتِي بالشيخ ليدرِّس في هذا المعهد الذي هو نواة للمعاهد العلمية -وهي نواةٌ مباركة- التي أصبحت اليوم جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وقبلها الرئاسة العامة للكليات والمعاهد العلمية، وكان مدير الكليات والمعاهد العلمية الشيخ: عبد اللطيف بن إبراهيم -وهو أخو المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله- معجباً بالشيخ عبد الرزاق رحمه الله، فكان أن أسند إليه مهمة اختيار المدرسين، وأيضاً مهمة وضع المناهج في المعاهد العلمية، وفي جامعة الإمام، وفي كلية الشريعة، وفي المعهد العالي للقضاء، وفي الجامعة الإسلامية بـ المدينة المنورة، وذلك يعطيه الثقة من ولاة الأمر ومن علماء هذه البلاد بارك الله فيهم جميعاً.
وفي عام ثلاثة وسبعين وثلاثمائة وألف، افتتحت كلية الشريعة بـ الرياض، فطُلِب الشيخ مدرساً فيها لمواد العقيدة، وأصول الفقه، والفقه والتفسير فكان من خير المدرسين رحمه الله.
وفي عام خمسة وثمانين وثلاثمائة وألف افتتح المعهد العالي للقضاء، الذي -كما تعلمون- يؤهل القضاة، فاختير الشيخ رحمه الله أول مديرٍ لهذا المعهد، ووضع مناهج هذا المعهد، فكانت مناهج رائدة معروفة تنافس مناهج التعليم العالي في العالم الإسلامي.
وفي عام ألف وثلاثمائة وواحد وتسعين، وبعد أن أحيل الشيخ على التقاعد من المعهد العالي للقضاء، حرص شيخنا الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز حفظه الله أن يكون الشيخ عبد الرزاق بقربه وبجانبه في إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وكان الشيخ حفظه الله يحب الشيخ كثيراً ويُثني عليه ويُعجَب بعلمه وعقله وفضله وبُعد نظره رحمه الله.
ففي عام ألف وثلاثمائة وواحد وتسعين عُيِّن الشيخ عبد الرزاق عفيفي نائباً لرئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، وأيضاً عضواً في هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية، وعُرف رحمه الله بجده واجتهاده وقيامه بالعمل خير قيام، فقد ضَرَب مثالاً في الرغبة والحرص والاحتساب، فلم يكن للعمل موظفاً يتقاضى أجراً فقط، وإنما كان رحمه الله معروفاً بجده واجتهاده إلى أن اعتلت صحته، وهو يقاد بالعربة إلى مكتبه في إدارة البحوث العلمية والإفتاء حتى أقعده المرض، عليه رحمة الله.
وقد جاورتُه رحمه الله، فكان يذهب للعمل أحياناً بعد صلاة الفجر يصلي معنا الفجر ثم ينتظر حتى تشرق الشمس، ثم يذهب إلى العمل، ويجلس في العمل، في الإفتاء، في الدعوة، في تحرير الفتاوى والكتابة فيها، وفي استقبال المستفتين، وفي الأعمال الإدارية والعلمية الكثيرة حتى الساعة الثانية والنصف أو الثالثة، ثم يأتي إلى البيت ويتناول طعام الغداء، ويستريح بعد صلاة العصر قليلاً وبعد صلاة المغرب يفتح أبوابه للراغبين من طلاب العلم؛ والمستفيدين؛ والعامة والخاصة؛ والشباب والشيب؛ والصغار والكبار؛ كلٌ يفد إلى بيته بعد صلاة المغرب من كل يوم.
وكان لي أن شَرُفْت بلقاء الشيخ رحمه الله في آخر أيامه، وكنت بعد صلاة المغرب أراوده وأختلف إليه لأستفيد من علمه وفضله رحمه الله، وبعد صلاة العشاء يتناول العشاء ثم يرجع إلى أعماله العلمية وإلى فتاويه والاستعداد العلمي ليوم غد، ثم ينام مبكراً، وفي آخر الليل يستيقظ يصلي ما كتب الله له.
وهكذا، بابٌ مفتوح، علمٌ، وفضلٌ، ودعوة، وإصلاح، وحسبة، وأمرٌ بالمعروف ونهيٌ عن المنكر، وفتحُ بابٍ للمستفيدين والراغبين من طلاب العلم ومِن غيرهم، وأشرف على كثير من رسائل الماجستير والدكتوراه، حتى إنه أشرف على مئات الرسائل، وكان أن شرفتُ بإشرافه رحمه الله في أول رسالة الماجستير في علم أصول الفقه، ويعلم الله أن السنوات التي قضيتها وهي بمثابة ثلاثٍ أو أربع إلى خمس سنوات من أعز أيام وليالي العمر، ولا أعرف أنني رأيت مثله ومثل شيخنا الشيخ عبد العزيز بن باز -حفظهم الله- فيما جبلهم الله من صفاتٍ متعددة في العلم والتعليم، وبذل النفس، والتحصيل، مع العقل والحصافة، وبُعد النظر، وإنزال الناس منازلهم، والتوجيه بالتي هي أحسن.(47/12)
أخلاق الشيخ عبد الرزاق عفيفي
أما أخلاق الشيخ وصفاته: فكان رحمه الله مثالاً في الخُلُق الحسن، ومثالاً في الورع والزهد، لا يعرف الأضواء البته، حتى إن كثيراً من الناس لا يعرفون الشيخ؛ لأن الشيخ ليس صاحب شهرة، ولا صاحب أضواء، وكم يأتيه الإعلاميون من أرباب الصحافة والإذاعة والتلفزة وغيرها ليخرجوه للأمة، لكنه رحمه الله يؤثر التواضع والبعد عن الأضواء والشهرة احتساباً، وحتى يكون بعيداً عن الرياء، وحتى يزداد تواضعاً إلى تواضعه رحمه الله.
أما احترام الشيخ لغيره: فكان يحترم المخالِف بشكلٍ كبير، يحترمه أمام الناس وإن خالفه -هذا في مسائل الفروع طبعاً- ففي مسائل الفروع لا يحجر على أحد، حتى إن طلابه ليتمردون عليه أحياناً في الرسائل العلمية، ويقولون له: يا شيخ! نحن نخالفك في هذه المسألة؛ فيقول: أنتم أحرار، وأنتم وما ترون، هذه رسالتكم واكتبوا ما ترونه، لكنَّ رأيي كذا ودليلي كذا، والذي أراه كذا، فيقنعُ بالحجة والبرهان والدليل دون إزعاج، ودون جَلَبة، ودون ضوضاء، ودون انتصارٍ لرأيه، وبدون ردودٍ عقيمة لا تجدي شيئاً، وأيضاً بدون إسفافٍ في القول، أو تَنَزُّلٍ إلى الكلام في أعراض الناس.
كان عفَّ اللسان رحمه الله عن أعراض الناس، ولا يتكلم إلا بخير، ولا يُرَى إلا ذاكراً لله، معلماً، أو باذلاً للعلم، أو داعياً إلى الله، ولا يسمح لأحدٍ أن يتحدث في مجلسه في أعراض الناس، بل إنه يرى للناس فضلهم وسبقهم، ولا يسمح لأحدٍ أن يتحدث في أعراض الناس أمامه، ومجال النصح مشروع، ومع ذلك كان من أنصح الناس للناس، وإذا رأى على أحدٍ خطأً أو ملحوظةً نبهه على ذلك بحسن أدب، وحسن منطق، وبحجة وبرهان، لا ينتصر لنفسه ولا لرأيه، ولا يسُفُّ في التعامل مع المخالف أو يرميه بالكلام البذيء والفاحش من القول، بل يدعو بالتي هي أحسن عليه رحمة الله، حتى إن بعض تلاميذه في رسائل الماجستير والدكتوراه لَيثبتون أنهم يخالفونه في مسائل، ومع ذلك يجلُّهم ويقدرهم ويحترمهم ويجعل ذلك منهم مزيةً على غيرهم؛ لأنهم متمكنون وحريصون على إثبات شخصيتهم العلمية.
أما الموقف من المخالف -إذا كان في أمور الاعتقاد- فإن الشيخ رحمه الله لا يجامل أحداً، ولا يعرف المداهنة، لكنه يداري -والمداراة محمودة، والمداهنة مذمومة- لا يداهن وجيهاً لجاهه، ولا غنياً لغناه، ولا شريفاً لشرفه، ولا كبيراً لكِبَره ومنزلته، لكنه يبين بالحسنى، ويتلطف مع الناس بالأسلوب الحسن، ويصل إلى ما يريد بالأسلوب المناسب، حتى مع الجماعات المخالفة يبين ما لها وما عليها، عليه رحمة الله.
وهناك مواقف ولطائف في حياة الشيخ، وفي تحصيله وبذله، وفي نشره للعلم، وفي معرفته وفراسته رحمه الله.
الشيخ رحمه الله ذو بالٍ واسع، ورجلٌ موسوعي، رجلٌ مهيب، أخلاقُه وخُلُقُه وخْلْقُه جَبَلَه الله على أحسن ما جبل عليه عباده الصالحين.(47/13)
صفات الشيخ الخَلْقِية
أما خَلْقُه وصفاته الخلقية: فكان الشيخ ربعةً بل إلى الطول قليلاً عليه رحمة الله، وكان ذا هيبة، وذا وقار، يهابه كل مَن يراه أو يجلس معه، وكان رحمه الله متمسكاً بالسنة في مظهره، فلحيته طويلةٌ وكثة، ولا يأخذ منها شيئاً، ولباسه على حسب السنة، وكان رحمه الله يطبق السنة تطبيقاً علمياً وعملياً عليه رحمة الله، وكان أبيض البشرة.
أخلاقه متعددة، وما جبله الله عليه من السجايا الحميدة كثيرة أهمها: أن الشيخ رحمه الله زَهِدَ في الدنيا، بيتُه المتواضع في بعض الأحياء الشعبية في الرياض، مَن يراه لا يليق بيته بأقل تلاميذه، ومجلسه متواضعٌ جداً، وهِنْدامه وشكله متواضعٌ جداً، لا يتعالى ولا يبين لكَ موقفه أنه دخلت عليه الدنيا أو غمرته بشهواتها ودرهمها ودينارها، بل إنه رحمه الله كان لجوده وكرمه قد لا يدخر شيئاً من أمواله إلا ما يدخره لأبنائه، حتى إن بعض طلابه في كلية الشريعة، والمعهد العالي للقضاء ممن حالهم من الحال المتوسطة كان يسامحهم، ويعطيهم من أمواله، وكان ينفق عليهم رحمه الله، ويؤثرهم على نفسه.
وأما علم الشيخ وفتاواه: فقد ذُكر عنه أيضاً أنه وقَّع على أكثر من أربع عشرة ألف فتوى في هيئة الإفتاء، أو اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد كما كانت سابقة.(47/14)
بعض اللطائف من حياة الشيخ عفيفي
هناك لطائف، والشيخ رحمه الله له فراسة بالسائلين، وله فراسة بالناس، ولا يسمح لأحدٍ أحياناً أن يقل أدبه أمامه.
يُذكر أن رجلاً من البادية أتى الشيخ في موسم الحج، فقال له: يا شيخ! إن ابني هذا صغير وقد أحرمت عنه، ولكن ابني مشاغب، فيفتيه الشيخ ويعلمه بأنك إن أردت الإحرام لابنك فلا بأس، فتمنعه من المحظورات، فيذهب الرجل ثم يرجع إلى الشيخ ويقول: يا شيخ! ابني فعل كذا، ثم الثانية ثم الثالثة، قال له الشيخ: وماذا أقول إذا كان ابنك بهيمة؟
فالشيخ رحمه الله أسلوبُه هذا تربوي: ليس غضاً ولا فضاً، هو عَمِل للرجل فقابله وبيَّن له، ثم قابله ثانية، ثم قابله ثالثة، فكان من هذا المستفتي أدباً أن يعرف أدب الشيخ وأن يقدر مشاغله وظروفه وكثرة السائلين، فما كان من الشيخ إلا أن أعطاه درساً تربوياً، حرص بعده الرجل على تربية ابنه وألا يعود به إلى الشيخ، هذه من المواقف واللطائف التي تُذكر في أسلوبه التربوي التعليمي والدعوي.
ومن مواقفه أيضاً: أنه أحياناً يتفقد أبناءه في المعهد العالي للقضاء وفي كلية الشريعة، فإذا رأى من أحدهم انحرافاً في بعض التصوُّر، أو بعض السلوك، قال له: يا فلان! احذر أن تسقط من الزنبيل، هكذا يقول، والطالب يعرف مراد الشيخ، والطلاب يعرفون مراد الشيخ، وهذا أسلوبٌ مناسب في أن الرجل يعود إلى نفسه وأن يصلح من حاله فيقول له: احذر أن تسقط من الزنبيل.
يأتيه بعض الطلاب من الذين عندهم -أحياناً- شغبٌ وفوضى في الطلب فيكثرون عليه، وأحياناً تنعكس بعض المفاهيم وتختلف بعض المعايير، فكان رحمه الله يقول: إن بعض هؤلاء كنبت البصل، رجلاه إلى أعلى ورأسه إلى أسفل.
وهذا يبين أن الشيخ رحمه الله كان متفرساً في الناس، وكان أيضاً يتخذ الأسلوب التعليمي التربوي.
وكان يهابه كل من يسأله، لكنه مع ذلك كان منشرح الصدر لكل من يسأله، ويفتح صدره وبابه، حتى إنه يُسأل وهو على فراش المرض فيجيب، لكنه إذا رأى وتفرس في السائل أنه يحتاج إلى لذعة تكون أسلوباً تربوياً فإنه يبين له لعل ذلك يفيده في حياته.(47/15)
ابتلاءات حصلت للشيخ عبد الرزاق
مرت في حياة الشيخ مواقف، فابتُلي في هذه الدنيا، ببلاء المرض، فكان يصاب بالصرع وهو منذ سبع سنوات، وكان أصيب بالشلل مرتين، وأصيب أخيراً بالسكَّر وضغط الدم، وضعف في أجهزة الكبد والكلى، حتى توفي رحمه الله، ومع هذا كان الشيخ صابراً محتسباً متجلداً لا يعرف من يواجهه أو يلاقيه أن به مصيبة، وهذا من تجلد المؤمن قال رسول صلى الله عليه وسلم: {عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير}.
وابتلي الشيخ رحمه الله بفقد الولد، فلقد كان له خمسةٌ أبناء ثلاثةٌ منهم، توفوا والشيخ على قيد الحياة، هم أحمد أكبر الأولاد، وعبد الله وعبد الرحمن رحمهم الله جميعاً، لكن الوالد، انظر إلى موقف الوالد، الصابر المحتسب، تأتيه رسالة وهو يدرِّس في المعهد العلمي، فيفتح الرسالة في استراحة المدرسين -بين الحصص- فلا يزيد إلا أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله! إنا لله وإنا إليه راجعون! ويغلق الرسالة ويذهب يدرِّس الدرس الذي عليه بعد أن يسمع المصيبة، ماذا بالشيخ؟ توفي ولده رحمه الله.
توفي أكبر أولاد الشيخ وهو في المعهد العالي للقضاء، جاءه خبره وذهب الشيخ كعادته يدرِّس في المعهد العالي للقضاء في يوم خبر وفاة ابنه ودخل إلى القاعة ودرَّس الطلاب في مادة التفسير، ودرسهم وكأن الشيخ ليس به شيءٌ البتة، ولم يُرَ عليه تلعثم ولا تلكؤ، بل أعطاهم المادة العليمة كخير ما تؤدى، وبعد ذلك يطرح عليه الطلاب الأسئلة الطلاب، فما إن خرج الشيخ من القاعة حتى توافد عليه إدارة المعهد والمدرسون يعزونه في وفاة ابنه الذي جاء خبر وفاته في ذلك اليوم.
فيقول الطلاب: ليست دهشتنا من موت ابن الشيخ، وليست دهشتنا من أن الشيخ جاء ليدرس؛ لكن دهشتنا وانبهارنا من صبر الشيخ وتجلده! وكأنَّ شيئاً لم يكن، يرضى بقضاء الله وقدره، ولا يقعده ذلك عن العمل.
لم يجلس ثلاثة أيام، ولم يجلس ليأخذ إجازة؛ لأنه جاءته مصيبة.
يُتوفى ابنُه عبد الله -أيضاً- بسكتةٍ قلبية، ويموت أحب أبنائه إليه عبد الرحمن وكان زميلاً لنا في الكلية، يموت بحادث والشيخ متجلد وصابر رحمه الله، لم يظهر منه جزعٌ البتة، وكان لا يزيد على أن يسترجع.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يرفع منزلته ويجعل ذلك في ميزان حسناته بمنه وكرمه.(47/16)
ثناء الناس على الشيخ عبد الرزاق
الشيخ رحمه الله ممن كَتَب الله له القبول في الأرض، ووضع الله له محبة الناس على اختلاف درجاتهم، فمِن الملك إلى أصغر الناس كان يحظى بتقديرهم، وثناء الناس عليه، الملك عبد العزيز رحمه الله كان له درس في قصره في يوم الأربعاء ليلة الخميس، وكان العلماء يجتمعون عنده، وكان يطلب من الشيخ عبد الرزاق رحمه الله أن يلقي درساً وموعظة فيستريح لها الملك ويدعو له كثيراً.
نال الشيخ شهادة تقدير من ملك مصر فؤاد، ومن ملكها فاروق على مستوىً كبير، وما ذاك إلا لإخلاصه وحرصه ورغبته ونشاطه وإفادته البلاد والعباد بمنهجٍ سليم.
وما عرفتُ أحداً إلا ويُثني على الشيخ وطلابه وتلاميذه يثنون عليه كثيراً.
وهو كذلك يُثني على غيره، يحبُّ غيره ولا يتكلم في عرض أحد، بل يذكر الناس بالخير والجميل.
والحقيقة أني لا أريد الإفاضة، لكني سأقتصر فيما بقي على اختصارٍ شديد.
والشيخ عنده من الورع ما لا يوجد عند كثيرٍ من علمائنا اليوم، لا في منزله، ولا في بيته، ولا في سيارته، ولم يعرف ما عرفه الناس من خدم وحشم وسائقين وسيارات، وقصور، إلى غير ذلك من الأمور، بل آثر ما عند الله تبارك وتعالى.
وأيضاً مِن أهم جوانب حياة الشيخ: بُعده عن الأضواء والشهرة والظهور.
ومن أهم منهج الشيخ أيضاً، وما يتميز به: أنه رجل موسوعي عميق العلم، عميق العلم في الاعتقاد، إذا تحدث كأنك تسمع وتقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية، وأقول ذلك بلا مبالغة، حتى إنه رحمه الله يقول: أنا ما رأيت من العلماء مثل شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ما قرأتُ لعالمٍ من علماء السلف إلا وأرى أن له سلف، لكن شيخ الإسلام رحمه الله كان يأتي بمنهجٍ سليمٍ مؤصَّل، على ضوء الكتاب والسنة، على ضوء صحيح المنقول وصريح المعقول.
كان الشيخ رحمه الله قليل الكلام، لكنه يتكلم بمجامع وجوامع الكلم، يتحدث بما يفيد، لا يعرف الثرثرة، ولا كثرة الكلام، ولا الكلام الإنشائي الذي يستطيع أقرانه ويستطيع أصغر الناس اليوم أن يتحدث به ساعاتٍ طويلة؛ لكنك لا تجد طائلاً منه، أما الشيخ فيتكلم كلاماً قليلاً لكن لو أراد الناس أن يشرحوها لشرحوها في كتب ومجلدات.
كان الشيخ يؤصِّل تأصيلاً علمياً، يعتني بالدليل، ويؤصِّل المسائل، وكان الشيخ يعتني بتحرير الخلاف وتحرير محل النزاع وتحقيق المناط في المسائل، يرى أن ذلك يغني عن كلامٍ كثير في عدد من المسائل، حتى لربما أتاه الطلاب فكان يقول: انظر المسألة في كتاب كذا وكذا.
كان الشيخ رحمه الله لا يعتني بكثرة الكتب، ولم تكن عنده مكتبةٌ كبيرة، بل كان عنده أمهات الكتب فقط، وكان يحرص على أن يقرأ القرآن ويقرأ كتب السنة والأمهات، ولا يعتني بالكتب المعاصرة البتة، ويرى أنها لا تفيد، على كل حال هذا رأي الشيخ رحمه الله؛ لأنه يرى أن الأول لم يترك للآخِر شيئاً؛ لكن لا يمنع أن يستفيد الإنسان من كتب غيره؛ لكن أقصد أن هذه الكتب التي يعتني بها الناس اليوم -الكتب الفكرية، وحتى الكتب المعاصرة، وحتى الكتب العلمية- يرى أن الأوائل كفَوا في هذا المجال.
وكان رحمه الله يحفظ كثيراً، حتى إنه في السنين الأخيرة قد لا يطالع كتباً، وكان يقرأ من حفظه، وكان يدرس من حفظه، وما ذاك إلا لذكائه وموهبته وسعة حافظته رحمه الله.(47/17)
منهج الشيخ العلمي والدعوي
مما ينبغي أن يُذكر أيضاً: منهج الشيخ:
منهجه في العقيدة، لا يعرف الذبذبة واللف والدوران، صاحب منهج توحيد، وعقيدة سلفية صحيحة، دليله (قال الله، قال رسوله) أثر، ونص من القرآن أو من السنة، ومنهج السلف الصالح، فلم يتميع في هذه الأمور ولم يتذبذب في المسائل، وإنما كان على رأيه، وكان يعتني بالتوحيد غاية العناية تعليماً ونشراً ودعوةً إلى الله تبارك وتعالى حتى نفع الله به نفعاً عظيماً.
وأيضاً من منهج الشيخ: منهجه الدعوي، وله رسالة في هذا، اسمها: الطريقة المثلى في الدعوة إلى الله، تكلَّم عن الدعوة بوجهها المشرق، وبين مكانة الداعية، وأسلوب الداعية الصحيح، مؤصِّلاً وناظراً إلى دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام، عنايةً بالتوحيد والأسلوبِ الحسن، وما قصته التي ذكرنا إلا دليلٌ على حسن أسلوبه رحمه الله، فكان لا يواجه؛ لاقتناعه رحمه الله أن المواجهة أحياناً قد تضر ولا تنفع، لكنه يصل سراً إلى ما يريد من الوصول إلى الخير، والوصول إلى الهدف، دون أن يرى الناس، وبدون جلبة ولا ضوضاء، وكان لا يحب الجماهير ولا يحب الظهور، ولا يحب كثرة الناس، كما يتطلع إلى ذلك غيره من الناس، وهذا مما يؤكد تواضعه رحمه الله وإخلاصه وبعده عن الرياء والظهور والشهرة.
وأيضاً: كان الشيخ رحمه الله له موقف في الإصلاح والدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يتمشى مع مقاصد الشريعة، وقواعد الدين، ومقاصد الإسلام، لم يكن الشيخ عَجِلاً، ولم يكن الشيخ مندفعاً بل كان عاقلاً حصيفاً بعيد النظر في الأمور، حتى إنه لتأتيه الجماعة الذين هم من نبتٍ كنبت البصل الذين أرجلهم إلى أعلى ورءوسهم إلى أسفل، فيحثهم على التلطف والرفق بالناس وحسن التوجيه؛ لأن الداعية يريد الخير للأمة، لا يريد أن يُحدِث من دعوته ما هو أشد ضرراً وأكثر فتنة، فقد يكون أحياناً إنكار المنكر، إذا كان بأسلوبٍ ليس بسليم قد يأتي بضررٍ وعواقب وخيمة، فكان الشيخ رحمه الله مع أنه لا يخاف في الله لومة لائم، وكان يقول الحق ويغار على حرمات الأمة وعلى عقيدتها وقيمها لكنه لا يندفع، يغار الغيرة المتعقلة والمنضبطة، وكان مع ذلك ينصح الخاص والعام، يكاتِب الولاة والمسئولين ويبين لهم ويعظهم، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ولا يُقِر منكراً ولا باطلاً؛ لكنه كان يسلك الأسلوب الحسن، مَن يراه في عالمنا اليوم، وفي تصنيفات الناس اليوم يراه مداهناً، ويراه أنه لا يتكلم بحق، ويراه مجاملاً، ويراه قد رضي بالدرهم والدينار، لكنه في الحقيقة كان مجاهداً قوياً في الحق، لا يخاف في الله لومة لائم؛ لكنه في بُعدٍ عن الأضواء والشهرة والجمهرة، وحتى أمام مجامع الناس لا يتكلم، إذا أراد أن ينصح المسئول نصحه بينه وبينه، وإذا رأى في مسئولٍ أو في أحدٍ مِمَّن لهم الأمر كاتبه وناصحه وبيَّن له، أو عن طريق سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز، أو ما إلى ذلك من الأساليب الناجحة التي تفيد في إزالة الضرر، وتحصيل الخير، ولا تحدث شكاً ولا رِيبةً ولا إثارةً ولا فتنةً ولا بلبلة.
والشيخ رحمه الله يرى من ذلك مقصداً من مقاصد الشريعة وهو جمع كلمة المسلمين، وعدم الإثارة والفتن، وعدم الخلافات، وعدم إيغار الصدور، فكان رحمه الله يحرص على المنهج السليم في دعوته وإصلاحه وحِسبته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر.
وكان الشيخ رحمه الله مجاهداً صابراً عالماً معلِّماً، تخرج على يديه التلاميذ الكبار ممن عددتُ لكم.(47/18)
منهج الشيخ في التأليف
وكان رحمه الله لا يرى التأليف، كان رحمه الله مع غزارة علمه، وسعة إدراكه، وأنه بحرٌ في كثيرٍ من العلوم وموسوعي المعارف والعلوم لكنه كان لا يحب التأليف.
كان الطلاب يأتونه ويقولون له: يا شيخ عبد الرزاق! لماذا لا تؤلف؟ فكان رحمه الله، يهز كتفه ويقول: حاجتنا إلى القراءة والإطلاع أكثر من حاجتنا إلى التأليف، وهذا صحيح، فالأرفف اليوم كثيرة وممتلئة من الكتب، والعالَم تؤلف والمطابع تنشر، وأصبح عالَم التأليف اليوم عالَم مليء بالعجائب.
أين الناس الذين هم على عشرين سنة وعلى ثلاثين سنة وعلى أقل وأكثر في المراحل الجامعية والثانوية؟ أصبحوا الآن مؤلفين، وأصبحوا يردون على غيرهم في عددٍ من المسائل، ينبغي أن يستفيد هؤلاء من منهجٍ أولئك رحمهم الله، وأنا مع مخالفتي للشيخ رحمه الله في هذه المسألة إلا أنني لا أرى أن يتصدر الإنسان في التأليف، ولكن عليه أن يؤلف، وعليه أن ينشر علمه حتى يستفيد الناس منه، ومدار ذلك على إخلاص النية، وعلى نية المؤلف، فالشيخ رحمه الله كان لا يحب التأليف وكان يقول: عندنا من الكتب ما يكفي ولم يترك الأول للآخِر شيئاً.
ما عُرف عنه من الكتب والتراث العلمي إلا أشياء قليلة، لكنها تكتَب بماء الذهب، وهي الآن لو تولاها العلماء وطلاب العلم شرحاً وتعليقاً لؤلِّف منها مجلدات منها: مذكرة في التوحيد درِّست في المعاهد العلمية والكليات، وهي مذكرة في بيان توحيد العبادة، التوحيد الصحيح الذي هو حق الله على العبيد في عالمٍ يموج اليوم بسائر المعبودات من دون الله تبارك وتعالى.(47/19)
منهج الشيخ في توحيد الأسماء والصفات
لقد بيَّن هذا، ورد على المعتزلة والأشاعرة بالأسلوب العلمي، والشيخ لا يعرف الرد على الأشخاص لذواتهم؛ لكنه يرد لبيان الحق، يرد لبيان المنهج الصحيح، ويرد على الطوائف والفرق وإن لَمْ يسمِّ، لكنه يؤصِّل منهج السلف الصالح تأصيلاً صحيحاً وحقيقياً وكافياً وشافياً لا يحتاج -في نظري- مَن قرأه إلى غيره، وحين تقرأ في كتبه كأنك تقرأ لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله الذي كان الشيخ محباً له ومغرماً بقراءة كتبه، حتى إني أكاد أقول: إنه استظهر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وكتب ابن القيم رحمه الله.
وللشيخ أيضاً: (حاشية على تفسير الجلالين)، بيَّن فيها الخطأ في تفسير الجلالين في مسائل في الاعتقاد -لا سيما في الأسماء والصفات- بأسلوبٍ علمي، رحمه الله.
ومما يُذكر عنه في مواقفه أنه في مصر كان هناك كلامٌ كثير حول قضايا الصفات، وقضية الاستواء، وكان كثيرٌ من علماء الأزهر ينحَون منحىً آخر في هذا، خلاف منهج السلف، وكان الشيخ رحمه الله يبين مذهب السلف، وحتى كان بعض الذين يسيرون على منهج السلف، كانوا يواجهون أولئك بخصومات ومشاكل إلى درجة أنها أحياناً ترتفع أصوات في المسجد، فالشيخ رحمه الله بأسلوبه يعلن عن محاضرة في منهج السلف في الصفات مثلاً أو الاستواء عند أهل السنة، فيأتي لمسألة الاستواء، فلا يقول فيها: قال بعض الناس كذا وأخطئوا في كذا، لا.
بل يذكر المسألة، بدليلها وأقوال السلف فيها بالنقول، ويذكر ذلك حتى يخرج السامع إذا كان أشعرياً أو معتزلياً وقد رجع إلى عقيدة السلف، ولا يتكلم الشيخ فيه بأي شيء، وهذا منهج يحتاجه الدعاة إلى الله والعلماء، وطلاب العلم اليوم أحوج ما يكونون؛ لأننا نعاني من عدم منهجية صحيحة في الردود، وعدم ضوابط مناسبة يتخذها كثيرٌ من الناس، مما قد يضر ذلك، ويوغر الصدور ويفرق الكلمة أكثر مما ينفع.
وقد ظل الشيخ رحمه الله داعيةً مجاهداً صابراً محتسباً باذلاً نفسه إلى الأمة ماشياً في حوائج الناس وشفاعاتهم والكرم والبذل لهم، وفتح بابه للراغبين والطالبين والمستفتين، وشارك في مواسم الحج في التوعية بالحج سنين عدداً، وكان مخيمه في منى مفتوحاً للمستفتين والمستفيدين من طلاب العلم ومن العلماء ومن عامة الناس ومن سائر ضيوف وحجاج بيت الله الحرام وغيرهم، فكان الشيخ على ذلك إلى أن مرض رحمه الله مرضاً في آخر حياته، وكان الشيخ رحمه الله في مرضه ذلك مثالاً للتجلد والصبر والاحتساب حتى إن الولاة والعلماء والمحبين يشفقون عليه ويقولون: يا شيخ عبد الرزاق! جسمك وصحتك وراحتك أولى لنا، ولكنه مع ذلك من بعد صلاة الفجر يُدَف على العربة حتى يوصل إلى المكتب، فأمامه سيل من المعاملات ويفتي ويحرر ويكتب ويبين للأمة حتى نفع الله به نفعاً عظيماً.(47/20)
الإنتاج العلمي للشيخ عبد الرزاق
أقول: من نتاجه العلمي أيضاً -وإن كان مقلاً- تعليقٌ مِن أحسن ما رأت عيناي في علم الأصول: (تعليق على كتاب الأحكام في أصول الأحكام للآمدي)، علَّق عليه الشيخ عبد الرزاق تعليقات زُبَدٌ، تكتب بماء الذهب، وترك علم الكلام، ترك علم المنطق، ترك الإغراق في العقليات، وأصَّل علم الأصول زُبَداً على منهج الكتاب والسنة، والسلف الصالح، قاعدة ومثال؛ دليل وتطبيق؛ أصل، وفرع، وخذ على ذلك، أما الإغراق في علم الكلام والجدل فكان الشيخ بعيداً عنه؛ لأن الشيخ رحمه الله تربى على الأثر.
وللشيخ رحمه الله تحقيقات خفيفة، وكتابات قليلة: حقَّق كتاب (العلو للعلي الغفار) للذهبي، ووضع تعليقاتٍ يسيرة على (العقيدة الطحاوية) وأرجع كل ما فيها إلى كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم رحمه الله، وعلق على (العقيدة الواسطية)، وعلى (الفتوى الحموية)، وعلق على كتاب الاعتقاد في (سنن البيهقي)، كل ذلك يُكتب بماء الذهب لكنه قليل ومحفوظ.
له كتابات في مجلة التوحيد ومجلة الهدي النبوي من أحسن ما يكتب، وينبغي أن يستفاد فيها، والحقيقة: أنه يُقترح أن يكون هناك دورات وجلسات وحِلَقٌ علمية يُستفاد فيها من منهج الشيخ رحمه الله، وإفادته في هذه المجالات كلها، وإني لأقترح على رئاسة الإفتاء وعلى جامعة الإمام وعلى وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف -وكل أولئك هم زملاؤه وتلاميذه- أن يحرصوا على جمع فتاوى الشيخ رحمه الله وكتاباته وتُخرج في كتابٍ موسوعي كبير يستفيد منه طلاب العلم، وإني لأرى على الجامعات في جميع أقسامها أن تُعنى بالاستفادة من منهج الشيخ، وأن يقدم في الشيخ وجهوده في العقيدة ومنهجه في العلم والدعوة ومنهجه أيضاً في علم الأصول، وردوده على الفرق المخالفة وطريقته في الدعوة والإصلاح، وموقفه من مسائل معاصرة، وله فيها إسهامات كبيرة، أقترح أن يُكتب عنه في كل مجال من هذه رسالة ماجستير أو دكتوراه: الشيخ عبد الرزاق عفيفي وجهوده في الدعوة.
لماذا يلمَّع أناسٌ ما وصلوا إلى الركب في علم الشيخ، ومع هذا تجدهم الآن لهم صولة وجولة، ولمعان عند كثير من شبابنا وأبنائنا، وتجد أن الشيخ لا يُعرف له قدره وحقه في هذا، الشيخ جدير بأن يكتب فيه عشرات الرسائل العلمية، في كل منهجٍ ومجالٍ من المجالات وليس هذا والله بكثيرٍ عليه.
وأنا أرجو إن شاء الله أن تكون هذه المحاضرة والكلمات المتواضعة نواةً لتأليف رسالة عن الشيخ رحمه الله، وأزف لكم بشرى أن هناك كتاباً مجلداً سيخرج عما قريب، لفضيلة الشيخ محمد أحمد السيد أحمد، المدرس في دار الحديث الخيرية الذي كتب عن الشيخ محمد نصيف رحمه الله، وهو زميلٌ للشيخ أيضاً، وكان الشيخ يجله ويكرمه، والذي كتب عن الشيخ محمد نصيف سيكتب عن الشيخ عبد الرزاق عفيفي وجهوده في هذا المجال، في المجالات العلمية والدعوية والإصلاحية، وما إلى ذلك من الأمور المهمة.
أرجو أن أكون قد وفقت إلى إلقاء إطلالة على حياة الشيخ رحمه الله.(47/21)
حياة الشيخ عبد الرزاق الاجتماعية
أما قضية جانب بيته وأسرته: فكان الشيخ أيضاً حريصاً على بيته وأسرته لم يشغله العلم والدعوة عن بيته وأسرته، فقد كان حريصاً على حسن العشرة، وكان حريصاً على الأدب ورعاية شئون زوجه، وهذا يبين موقفه من المرأة، فقد كان حريصاً على إكرامها وتقديرها والسعي للعناية بها.
خلَّف الشيخ من الأولاد خمسة ذكور، وثلاثاً من البنات، وكلهم -إن شاء الله- من أهل الخير والفضل وسائرون على منهجه رحمه الله، ثلاثة من أبنائه توفوا في حياته، واثنان موجودان، أحدهما في جدة، والآخر في الرياض، وهم -إن شاء الله- سائرون على منهجه، وحريصون -جزاهم الله خيراً وهذه أقولها لهم ونشكرهم- على نشر تراث الشيخ رحمه الله، ومستعدون لأي خدمةٍ في هذا المجال، عن تراث والدهم ووالد الجميع شيخنا العلامة الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله.(47/22)
وفاة الشيخ عبد الرزاق
توفي الشيخ رحمه الله في يوم الخميس، الخامس والعشرين من الشهر الثالث، عام خمسة عشر وأربعمائة وألف للهجرة، أُدخل المستشفى العسكري بـ الرياض إثرَ تردي حالته الصحية رحمه الله، وبقي في المستشفى لمدةٍ تقرب من أسبوع أو أكثر بقليل، إلى أن فاضت روحه إلى بارئها عليه رحمة الله، وجمعنا الله به في دار كرامته بمنه وكرمه.
لقد شَهِدَت -حقيقةً- جنازةََ الشيخ مشهداً عظيماً، بما قاله الإمام أحمد رحمه الله لأهل البدع: "بيننا وبينكم يوم الجنائز"، فصُلِّي عليه في الجامع الكبير بمدينة الرياض، جامع الإمام تركي بن عبد الله، وقد أمَّ المصلين عليه سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز، وقد ضج المسجد بالبكاء، وذهب الناس إلى مقبرة العَود في الرياض زرافاتٍ ووحداناً راجلين وركباناً أمام الجنازة وخلفها ومن حوالَيها، وشهدت جنازته مشهداً عظيماً لم يُشهد إلا في مشاهد كبار العلماء رحمهم الله جمعياً.
وتركَ الشيخ رحمه الله للأمة تلامذةًَ هم اليوم يقومون بمنهجه ويسيرون على طريقته في الإصلاح.
والحقيقة: أنني -وإن كنت أقل من يتحدث عنه- عاشرت الشيخ وجاورته واستفدت من علمه وعمله، وأشهد أني لم أستفد من غيره ما استفدته منه هو وسماحة شيخنا الشيخ عبد العزيز رحمه الله، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يرفع درجة الشيخ في عليين، وأن يرحمه رحمة الأبرار، وأن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يجمعنا بعلمائنا في دار كرامته، وأن يجعلنا خير خلف لخير سلف، وأن يجعل أجيالنا المتأخرة مرتبطةً بعلمائها وسِيَرهم، وما ذلك إلا دليل خير في الأمة إذا التقى صغارها بكبارها، وإذا استفاد معاصروها من سلفها.
وفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد، وأستسمحكم العذر لإطالتي عليكم، وما إطالتي إلا وفاءً لشيخنا رحمه الله الذي أحس وكأنني عندما أتحدث عنه أمام جبلٍ أشم، وبدرٍ أتم، وطود شامخٍ في العلم والمعرفة، وكأني أمامه الآن -رحمه الله- أستفيد من علمه وعمله ومنهجه وتحصيله، فجزاه الله عني وعنكم وعن أمة الإسلام خير الجزاء.(47/23)
بعض ما قيل في رثاء الشيخ عبد الرزاق
كان من التوفيق أن سماحة الوالد ابن باز رحمه الله، بعث ببرقية عزاءٍ لولي الأمر خادم الحرمين الشريفين، بيَّن فيها مكانة الشيخ وأثره على هذه البلاد، فأرسل ولي الأمر وفقه الله رسالة عزاءٍ لأبناء الشيخ ولكبار العلماء، ولسماحة الشيخ عبد العزيز وللأمة جميعاً هو وولي عهده والنائب الثاني، وعددٌ من الزعماء والعلماء والقادة وطلاب العلم أيضاً، وقد قيلت فيه عددٌ من المراثي الشعرية، لعلِّي أن أشنف أسماعكم ببعضها ولا أطيل إن شاء الله.
وقفت لكي أرثي العفيفي فصدني وجومٌ وقد حل النوى وبكاءُ
وقمت أعزي فيه من رام علمه فقالوا وهل يسليك عنه عزاءُ
فعدت أناجي ذكرياتٍ ترحلَتْ وقد ضمني والشيخ ثم لقاءُ
وأبصرت فيها الشيخ يرقى بعلمه وعاينت فيها الشيخ وهو بهاءُ
وناجيت فيها الشيخ فازوَرَّ طيفه وما في ازورار الطيف منه جفاءُ
قد سار في درب الشريعة يافعاً يطير به عزمٌ له وإباءُ
وأنفق في بسط الشريعة عمره يسيرُ به خوفٌ له ورجاءُ
ثمانون عاماً والحياة مصاعبٌ وللشيخ فيها منهجٌ وسناءُ
إذا المحفل الراقي تناظر جمعُه رأيتَ مقال الشيخ فيه سخاءُ
شواهده الآيات جل دليلُها وحشد أحاديث لهنَّ صفاءُ
يسربل بالإقناع كل مقالةٍ فيُصغي له الكتَّاب والخطباءُ
إلى عرصات الخلد يا وافر النهى لعلك عند الله حيث تشاءُ
وإن قصيدي حين يندى بذكركم حريٌ بأن يندى به الشعراءُ
قالها: محمد بن سعد المشعان.
لا فُضَّ فوه وجزاه الله خيراً.
وهذه مرثيةٌ مختصرة لا نطيل بها عليكم، يقول فيها أحد تلاميذ الشيخ، وهو محمود عبد رب النبي محمد، من مصر:
الشعر باكٍ والقصائد أدمُعُ والقلب مندوح المشاعر موجَعُ
والحزن في شفتي نزفٌ دائمٌ صعبٌ على العشَّاق ألا يُفجَعوا
وأسى الفجيعة ماثلٌ في خاطري في كل جسمٍ ليس يخلو موضعُ
ماذا دهى عيني تجمد دمعها وكأنها أُخرى فليست تجزعُ
إلى أخر ما قال، جزاه الله خيراً.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يكون ما قدمه الشيخ حُجةً له لا عليه، وأن يجعله في موازين حسناته يوم القيامة، وأن يقدِّس سرَّه وينوِّر ضريحه ويجمعنا به في دار كرامته بمنه وكرمه، وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، وبارك الله في تلاميذه وفي أبنائه وجزى الله بلاد الحرمين الشريفين أن احتضنت أمثال هؤلاء العلماء الأفذاذ والجهابذة الكبار، فجزاهم الله خيراً، وما ذاك إلا تقديرٌ منهم للعلم وأهله، لا سيما من سار منهم على منهج السلف.
والحمد لله رب العالمين.(47/24)
مشكلاتنا الاجتماعية في ضوء الكتاب والسنة
في هذا الواقع المرير كثيراً ما تقع المشكلات الاجتماعية بين المسلمين، وذلك نتيجة بعدهم عن هذا الدين واتباعهم سنن اليهود والنصارى، وإن علاج هذا إنما يكون بالتزام هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، وسعي المصلحين وأرباب العلم والهدى بالدعوة لذلك.(48/1)
المشاكل الاجتماعية وأهمية علاجها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده، فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه على دينه، ومن استن بسنته واقتفى أثره إلى يوم الدين.
أما بعد:
أيها الإخوة في الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأحمد الله تبارك وتعالى الذي هيء لي هذا اللقاء الطيب المبارك بكم، وإن سعادتي لغامرة بهذه الوجوه الناضرة، التي أتت إلى بيت من بيوت الله لأداء فريضة من فرائض الله، والاستماع إلى حلقة من حلق الذكر والعلم، نتواصى فيها بما يجب علينا في هذه الحياة.
نجتمع في هذه الليلة يُذَّكر بعضنا بعضاً انطلاقاً من قول الحق تبارك وتعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] نحقق في هذه الليلة -بإذن الله وتوفيقه وعونه- التعاون على البر والتقوى، انطلاقاً من قوله سبحانه: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وهكذا شأن المسلمين، يحرص بعضهم على أداء حقوق إخوانه المسلمين، ولا سيما طلاب العلم الذين أُخِذَ على عاتقهم البلاغ والبيان وأداء هذه الأمانة أن يبينوا للناس ما نزل إليهم من ربهم، ولا يكتمون الحق الذي يعرفونه من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، هم في المجتمع أطباء لعلاج كل مشكلة، وعلاج لكل معضلة، وإذا كان الناس حريصين على طب الأبدان فإن المشكلات التي تتعلق بتقصير المسلمين بأداء ما أوجب الله عليهم لهي أهم من قضايا الأبدان، فإن واجبات الأديان أهم بكثير من واجبات الأبدان.
يا خادم الجسم كم تشقى لخدمته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح فاستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
أيها الإخوة في الله: ما أحوجنا إلى مثل هذه اللقاءات المباركة التي نتحسس فيها مشكلاتنا التي هي بحاجة إلى علاج، وتركها بلا علاج يجعل الداء يستفحل، ومن ثم يستعصي على العلاج والعياذ بالله!
والحداد الماهر -كما يقولون- هو من يطرق الحديد الساخن، والمشكلات قد وصلت ذروتها، ولا سيما القضايا الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات الإسلامية لأسباب سأورد أهمها بإذن الله.
وإذا كانت هذه المشكلات تشغل حيزاً كبيراً من أوقاتهم، وتشغل نصيباً كبيراً من القضايا والمعضلات التي تمر على من يبحث لها عن علاج تمثل نسباً عظيمة وإحصاءات كثيرة؛ فلا يجوز أبداً لأهل العلم والدعوة والإصلاح في المجتمعات أن يغفلوها، لأن كثيراً من القضايا التي نعايشها قضايا اجتماعية بالدرجة الأولى.
كم يزعجني رنين الهاتف فأتناول السماعة فإذا بها مشكلة اجتماعية، وإذا بها قضية أسرية: امرأة تشتكي من زوجها، زوج يشتكي من زوجته، امرأة تنوح على حظها ونصيبها مع زوجها البائس المسكين الذي لا يعرف الله والعياذ بالله! الذي ضل عن الصراط المستقيم فأهمل البيت والأسرة وذهب يبحث عما تسول له نفسه الأمارة بالسوء مع قرناء السوء لا كثرهم الله.
كم هي قضايا الطلاق في المجتمع التي بلغت إحصاءات تنذر بالخطر في مستقبل الأجيال!
كم هي قضايا الزواج التي أثقلت كواهل الشباب من الجنسين، وأصبحوا يكتوون بلظى الشهوة التي تصطلي في أجسامهم وهم يريدون الطريق الحلال لقضائها، وإذا بهم يواجهون بمشكلات اجتماعية وعقبات وضعها الناس من قبل أنفسهم، متى ما استحكمت واستمرت في المجتمع فلا نستغرب أن يذهب أجيالنا وفلذات أكبادنا من هنا وهناك لقضاء هذه الشهوة في الطريق المحرم والعياذ بالله!
إذاً: لا يجوز أبداً أن يسكت عن هذه المشكلات وهي مستشرية في المجتمع استشراء النار في الهشيم إذا تركت بلا علاج؛ فقل: على السعادة الاجتماعية السلام، وقل على الأسر: أنها محل للقلق والاضطراب والتعاسة والشقاء، وقل على أجيال المسلمين وفلذات أكبادهم -الذين يعدون لحمل راية الإسلام ورفع لواء الدعوة إلى الله عز وجل- عليهم السلام؛ لأنهم لن يجدوا الأسرة التي يأوون إليها لتصلح من حالهم ولتخفف من مشكلاتهم.
أحب أن أقدم في بداية هذا اللقاء بعض القضايا المهمة التي تكون توطئة للدخول في الموضوع:(48/2)
شمولية الدين الإسلامي
القضية الأولى: أننا معشر هذه الأمة أمة شرفها الله بهذا الدين، الدين الشامل الكامل قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] فدين الإسلام لم يترك مجالاً من المجالات التي فيها نفع العباد في المعاش والمعاد إلا بينه وسلكه وطرقه ودعا الناس إليه، وهذه قضية لا يختلف فيها البتة؛ ولهذا فإن القضايا الاجتماعية لا تتطلب منظرين في علم الاجتماع، ولا إلى رواد علم النفس أن يبحثوها، وإنما تحتاج إلى حملة الشريعة؛ لأن شريعة الله لم تترك مجالاً إلا أوضحته غاية الإيضاح ولله الحمد والمنة! وما مات المصطفى عليه الصلاة والسلام إلا وقد بين الخير كله لهذه الأمة وحذرها من الشر كله، بل ما مات عليه الصلاة والسلام وطائر يقلب جناحيه في السماء إلا وقد ذكر لأمته منه علماً.
فالقضية في المسلمين أنفسهم وإلا فشريعة الإسلام فيها العلاج الناجع، وفيها الحل الناجح لكل قضية من القضايا وكل بلية من البلايا التي ابتليت بها هذه الأمة.(48/3)
الدين الإسلامي فيه الحل لكل المشكلات
الأمر الثاني: أن كل مشكلة وكل معضلة في المجتمع فإنما سببها ضعف ولاء الناس لعقيدتهم، وتقصيرهم في أمور دينهم، والله الذي لا إله غيره لو أن الناس وقفوا عند نهج كتاب الله والتزموا سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام في كل قضاياهم لم تجد من يشكو من مشكلة، لكن لما وضع الناس أصراً وأغلالاً على أعناقهم وعلى أنفسهم ما أنزل الله بها من سلطان، ولما التمسوا العلاج من غير شرع الله جل وعلا؛ ابتلوا بقلة النتيجة، وضعف الشفاء، لأن الشفاء بيد الله عز وجل، وما أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء، والشفاء للأبدان والأديان وفي كل قضية من القضايا إنما هو في كتاب الله يقول تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس:57] {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت:44].
نعم.
إن في كتاب الله الشفاء والعلاج والدواء لكل قضية من القضايا، ولقد عجز أساطين البشرية ومفكرو الإنسانية أن يجدوا حلولاً للمستعصي من المشكلات، وهيهات أن يجدوها إلا في كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام!(48/4)
طبيعة الحياة الدنيا عدم خلوها من المشاكل
القضية الثالثة التي ألفت النظر إليها: أن وجود هذه الحياة ووجودنا في هذه الحياة إنما هو ابتلاء وامتحان، فالحياة لا تسلم من مشكلات، ولا يمكن أن تكون الحياة وروداً كلها، ولا يمكن أن تكون المجتمعات والأسر والأفراد والبيوت سليمة من المشكلات، لكن المشكلات على نوعين:
النوع الأول: ابتلاء وامتحان من الله عز وجل، فهذا علاجه وشفاؤه بيد الله عز وجل، وعلى الإنسان أن يصبر ويحتسب ويتضرع إلى الله عز وجل ليفرج عنه كربته، وإلا فلا تجد أحداً إلا وعنده من المنغصات والابتلاءات والمشكلات ما لا يعلمه إلا الله.
النوع الثاني: مشكلات أحدثها الناس أنفسهم لأنفسهم، فلم تكن لتحدث لو أن الناس التزموا في أمورهم هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام، فإن هذه الشريعة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم ضمنت الخير للبشرية، ولا يشك أحد من المسلمين -بحمد الله- في هذه القضية المسلَّمة، بل إننا نجد أنفسنا اليوم أكثر قناعة -مع قناعتنا ولله الحمد والمنة- حينما أفلست النظريات الغربية والفلسفات الشرقية، وتهاوت أمام عظمة الإسلام وعلوه ورفعة منزلته، كل ذلك يجب أن يزيد المسلمين تمسكاً بعقيدتهم، عندما يرون أن البشرية التي جربت ما جربت من النظريات والفلسفات والقضايا التي تريد أن تحقق لها النفع قد خسرت وفشلت وباءت بالذلة والمهانة والصغار، وهاهي تموت في عقر دورها، وهاهي تفشل اليوم في أماكن نشوئها وعزها، فهذه أكبر قناعة يقتنع بها المسلمون أن دينهم الإسلامي -ولله الفضل والمنة- قد تكفل بكل علاج، وأنه هو الدين الشامل الكامل الذي لا يمكن أن يتأتى للبشرية خير ولا فلاح ولا سعادة إلا من خلال التمسك به.
هذه توطئة للموضوع الذي سوف ندخل فيه، ونحن في هذه الأمسية -أيها الإخوة في الله- نتذاكر بعض القضايا المهمة التي تؤرقنا في الحقيقة، ولا يجوز لنا أن نسكت عنها أبداً؛ لأن واجب المسلم أن يحس بإحساس إخوانه المسلمين، من الشباب والفتيات والأزواج والزوجات والأسر، ومن العامة والخاصة والصغار والكبار الذين يحسون بهذه القضايا، فليس من حقوق المسلم تجاه أخيه المسلم أن يغفل عن قضاياه، بل يجب عليه أن يعالجها وأن يناصحهم، وأن يحرص كل الحرص على أن يقدم لإخوانه المسلمين العلاج بقالب النصح والمودة، وقالب العمل والتطبيق، فلا يكفي في مجال النصح مجرد الكلمات، ومجرد الخطب والمواعظ والمحاضرات ولكننا نحتاج إلى خطوات عملية.(48/5)
أهمية علاج الأخطاء بتطبيق الأقوال
وبهذه المناسبة أنا أقترح -وسأذكر هذا في ختام هذه الكلمة إن شاء الله- أن نجتاز مرحلة القول اللساني واللفظ إلى التخطيط والعمل البناء المثمر، ويجب أن تتولى مراكز الدعوة والإصلاح في المجتمع علاج هذه القضايا، أما أن تترك هذه القضايا لتأكل الأخضر واليابس، وليصطلي بلظاها ونارها فئام في المجتمع ونحن نتفرج فليس هذا من حقوق الأخوة الإسلامية، وليس ذلك من أداء واجبنا تجاه مجتمعنا الذي ما تحل فيه معضلة إلا ويجب علينا أن نتكاتف لعلاجها.
ثم إن العلاج يقتضي إخلاص النية لله، وسلامة الصدور للمسلمين، وأن يحب المرء لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه، كيف ترضى أن يصل شباب إلى سن الثلاثين أو الخامسة والثلاثين وهم يبحثون عن شريكة الحياة وعن الزوجة: السكن والمودة والرحمة وعن الإنجاب والأولاد، وأنت تنعم مع زوجتك وأولادك، أين الأخوة والمحبة في الله؟
كيف ترضى لامرأة أيم أرملة مسكينة طلقت، أو يتمت، أو أصاب أولادها كوارث وحوادث، وأنت تنعم أنت وأولادك وأهلك وأسرتك بعيش رغيد وظل ظليل؟!
أين واجب الأخوة الإسلامية؟ لماذا لا يحس المسلمون إحساس إخوانهم المسلمين؟
الجيران بعضهم مع بعض، تجد أناساً عندهم مشكلات ومعضلات أسرية لا يقوى لها عظماء الرجال، وآخرون لا يهتمون بحقوق إخوانهم.
إن من أهم نفع المسلمين وأداء الخير لهم -وأكثر من إعطائهم المادة- أن تصلح أحوالهم، وأن يسعى المسلم لقضاء حوائج إخوانه المسلمين، ولتعلم أن مساعدتك للشاب الراغب في الزواج، أو مساعدتك لامرأة تعفها وتحصن فرجها وتتقدم إلى خطبتها من أكبر النفع لها، ومساعدتك لإنسان آخر يبحث عن زوجة بأن تدله على زوجة صالحة هذا من أكبر النفع له، هذا الهاجس يكاد يكون مفقوداً بين المسلمين! إما نتيجة الأنانية والأثرة، وإما نتيجة ضعف الإيمان، وإما البعد عن المسئوليات والتملص عن الواجبات، ولا يبالي أحد أن يقول: هذه قضايا شخصية لا أتدخل فيها.
هذه قضايا شرعية في الدرجة الأولى، وإعفافك لأخيك المسلم وإحصانك لفرجه وسيرك معه في هذه القضية من أولها إلى آخرها من أكبر النفع له، أتعلم أنك بذلك تشارك في ميلاد أسرة جديدة تؤمن أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يخرج منها أجيال وأبناء يحملون مشعل الهداية للعالمين؟!
هذه قضيتنا وهذه نظرتنا؛ ولهذا أقترح بهذه المناسبة أن يكون هناك خطوات عملية في كل حي، وفي كل مدرسة، وإذا أمكن في كل دائرة، تحت إشراف رسمي يتابع هذا الأمر في قضية الإصلاح، ويطلق على هذا: (كتائب الإصلاح) أو (قوافل الإصلاح بين الناس) بالمساعدات المادية المعنوية والدلالة على الخير، ومن دل على الخير فله مثل أجر فاعله لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً.
فينبغي علينا -أيها الإخوة- ألا نهمل هذا الخير، ولنعلم أن هذا من النفع المتعدي، والنفع المتعدي أفضل من النفع القاصر؛ فكونك تصلي أو تقرأ القرآن أو تذكر الله بنفسك هذا خير؛ ولكن قيامك بهذه الأعمال التي فيها نفع للمسلمين أفضل منها.
أيها الإخوة الأحباب في الله: لا يزال الناس بخير ما تحسسوا مشكلاتهم، وما تابعوها ووصفوا العلاج، وسعوا جادين للسعي في الخطوات العملية في القضاء على هذه المشكلات.
وقبل أن أبدأ في عرض عدد من المشكلات التي نعاني منها سأبدأ بذكر أسباب هذه المشكلات، مع يقيني أنني لا أستطيع حصرها لأنها كثيرة جداً، وقد قلبت في فكري وخاطري عدداً من المشكلات التي تمر بالمجتمع، والتي يعاني منها فئام سواء من فئات الشباب أو من فئات النساء أو القضايا الزوجية، أو العلاقات الأسرية، أو القضايا الاجتماعية العامة، فوجدتها تزيد على ثلاثين مشكلة، وهذا ليس بالأمر الهين لأن وجود مشكلة واحدة من هذه المشكلات إنما هي معول يهدم ويخرق في سفينة المجتمع، فتركه والتساهل فيه وغض الطرف عنه يجعل سفينة المجتمع تغرق لا قدر الله! وهذا يجعل من دعاة الإصلاح وربان هذه السفينة أن يسعوا لوأد الشر في مهده وعلاجه حتى لا يستشري.(48/6)
أسباب ظهور المشكلات الاجتماعية
أسباب المشكلات في المجتمع كثيرة جداً، أهمهما وأولها وأخطرها:(48/7)
ضعف الوازع الديني والولاء للعقيدة
نحن أمة شرفها الله بهذا الدين، فيجب أن تكون منطلقاتنا في كل قضايانا العقدية والفكرية والاجتماعية من منطلق عقدي شرعي، أما أن نجعل من الشريعة في قضايا الشعائر فقط والعبادات ولكن في القضايا الاجتماعية لا نسأل عن الحكم الشرعي في ذلك فهذا من التقصير.
تجد بعض الناس صالحاً في نفسه، محافظاً على الصلوات، وعنده خير، لكنه في القضايا الاجتماعية أو حينما يكون عنده قضية من قضايا الزواج -على سبيل المثال- تجده لا يأنف أن يخالف الشريعة في عدد من القضايا التي تعمل ليلة الزواج، أين الإسلام؟! هل جعلنا الإسلام في المساجد وأغفلناه عن قضايانا الأسرية والاجتماعية؟!
إن هذه من اللوثات وموجات التغريب والعلمنة التي وجدت في العالم الإسلامي نتيجة جهل الناس بدينهم، صرفت كثيراً من الناس عن تحقيق الإسلام الحق كما يريده الله، الإسلام الذي يتمثل في المسجد وفي البيت، ويتمثل في ليلة الزواج وفي الأسرة والوظيفة والأخلاق والسلوك، وفي الأعمال العامة يراقب الله العبد في كل أمر من أموره، هكذا يجب أن يكون المسلمون، وهكذا يجب أن يكون كل مسلم، لا يجعل هناك انفصام بين قضايا الشريعة وقضايا الحياة، فكلها قضايا يجب أن تصطبغ بصبغة الشرع قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].(48/8)
التقصير في جانب العقيدة
إن كل مشكلة من المشكلات إنما تجد في الأمة نتيجة تقصيرهم في عقيدتهم.
وهناك رباط وثيق بين القضايا الاجتماعية والقضايا العقدية، ونحن أمة لا نفصل بين هذه القضايا، عقيدتنا مراقبة الله عز وجل ووحدانيته، والتزام أمره ومراقبته، كما نخافه في الشهادة نخافه في الغيب، ونتقيه جلَّ وعلا في السِّر والعلانية، لا نعصي الله عز وجل في قضايانا الأسرية والبيتية، لا أقول: المسجد للعبادة والبيت أفعل فيه ما أشاء، كما يحلوا لبعض الناس أن يقول أو يفعل، ولهذا فارتباطنا -نحن المسلمون أمة العقيدة الصحيحة- يجب أن يكون ارتباطاً عقدياً في كل القضايا الاجتماعية، أسأل وأبحث هل هذا الأمر يتنافى مع عقيدتي وشريعتي، أم أن الشريعة الإسلامية أباحت لي ذلك؟
وقضايانا الاجتماعية لم تكن لتحدث إلا لما فرطنا في القضايا العقدية، والقضايا العقدية هي القضايا المهمة التي لو صلحت في المجتمع صلحت القضايا الاجتماعية من باب أولى؛ لأن قضية قبول حكم الله عز وجل في كل أمر من الأمور قضية ينبغي أن يعيها المسلمون ولا يفرطوا فيها.(48/9)
ضعف العلم الشرعي
من الأسباب التي تجعل المشكلات الاجتماعية تتفشى في المجتمع: ضعف العلم الشرعي.
فلو وجد العلم الشرعي: العلم بكتاب الله، والعلم بسنة رسوله عليه الصلاة والسلام في كل قضية من القضايا وعمل الناس بذلك ما وجدت مشكلة، أعني: لو عرف الناس أمور دينهم وأمور شريعتهم في قضايا العبادات والعقائد والأخلاق والسلوك، والقضايا الاجتماعية -أو ما يسمى بالشخصية وغيرها- وتحلوا جميعاً بالعلم؛ لهان شيء كبير من المشكلات التي نعاني منها، ولكن قضية الجهل وتقصير العلماء وطلاب العلم في هذا المجال وعرض هذه القضايا وتنبيه الناس إليها جعل هذا الأمر يتفاقم.(48/10)
تحكيم العادات والأعراف على الشرع
من أسباب وجود هذه المشكلات: استحكام ما يسمى بالعادات والأعراف والتقاليد المخالفة للإسلام.
نحن أمة لا نأخذ ديننا إلا من كتاب ربنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وإن كان في شريعتنا ما يعرف بالعرف فإن العرف له ضوابط وشروط، فلا يؤخذ بالعرف إذا خالف الشرع بإجماع العلماء، فإذا كانت الأعراف والعادات والتقاليد حسنة لا تتنافى مع الإسلام فهي على العين والرأس، أما إذا كانت تخالف الإسلام فهي مرفوضة، ويجب أن يضرب بها الناس عرض الحائط.
إن مصدر التلقي عند المسلم كتاب ربه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام، لا يقول: أنا سأنظر إلى قبيلتي وعشيرتي، ماذا يقولون؟ هل نجعل الزواج مختصراً أم نجعله كبيراً، نجمع فيه الناس جميعاً ونذبح فيه ما يزيد على العشرات من الأغنام، ويكون في أحسن قصر من القصور، ويكون -أيضاً- من عادة قبيلتي وعشيرتي أو ما اعتدنا عليه أن يكون المهر مائة ألف أو مائة وخمسين أو مائتين أو أقل أو أكثر؟
يجب أن ينظر الناس في ذلك إلى شريعة الله، وإلى شريعة محمد بن عبد الله، أولسنا مؤمنين؟! لو قلت لإنسان ذلك لخشيت أن يضربك وأن ينالك منه إهانة وسباً وتقريعاً، لكن أين الإيمان؟ أين الأدلة العملية على تحقيق الإيمان؟ أولست مؤمناً؟
إذاً: فالإيمان يأمرك باتباع المصطفى عليه الصلاة والسلام، ومن هديه عليه الصلاة والسلام: التيسير في أمور الزواج وعدم المغالاة فيها.
ولهذا أُلفت النظر إلى قضية خطيرة يقع فيها كثير من الناس، وهي: كره شيء مما أنزل الله أو شيء مما جاء به الإسلام على حساب ما يعرف بالعادة والقبيلة والعرف والتقليد الذي نحن سائرون عليه، أن يكره شيئاً من الشريعة، أو أن يبغض شيئاً مما جاء به الإسلام بحجة الأعراف والعادات والتقاليد، وذلك صنم قد يعبد من دون الله عند بعض الناس والعياذ بالله! تضرب أوامر الشرع ظهرياً وتترك كأنهم ليسوا بمسلمين! وهؤلاء يخشى أن يحل فيهم قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:9] ومن أبغض شيئاً مما جاء به الإسلام أو كرهه أو كره من عمل به بسبب أنه متبع فيه هدي الإسلام؛ فذلك نوع من أنواع الردة عن الدين والعياذ بالله! شعر الإنسان أو لم يشعر، وما أكثر الذين يقعون في هذا وهم لا يعلمون!
أيها المسلمون: نحن أمة نتلقى ديننا وأمورنا من كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويعجبني كثير من الناس عندما يسأل عن هدي الإسلام في مثل هذه القضايا، ولا سيما من الشباب المتطلع المتمسك بالعقيدة والمعتز بإسلامه، لكنه يواجه بمشكلات وعقبات كأراء من أناس لم تترسخ العقيدة الإيمانية في قلوبهم وانتسبوا إلى الإسلام اسماً، لكن انظر إليه في مجالات التطبيق العملي في البيوت والأسر، وفي مثل هذه القضايا الاجتماعية فتجد بوناً شاسعاً بينهم وبين ما يجب أن يكونوا عليه!(48/11)
تقصير أهل العلم في حل المشكلات
من أسباب وجود المشكلات في المجتمعات الإسلامية: تقصير أرباب الإصلاح والدعوة في عرض هذه القضايا، حيث إن هذه القضايا تلامس شريحة كبيرة من المجتمع، فئات لا تحصى يعانون من قضايا اجتماعية، لماذا لا تولى هذه القضايا حلولاً وعلاجاً؟
ولا نريد علاجاً بالخطب الرنانة والكلمات الطنانة فقط فهذه لا تكفي في العلاج، وإنما نريد أهل الإيمان الذين يؤثرون دينهم على أهواء نفوسهم، يؤثرون ما جاء به الشرع على ما تراه النفوس الأمارة بالسوء، لماذا يا أخي بيتك مليء بالبنات ولا تدعو لهن من هؤلاء الشباب الصالح من يتزوجهن؟
يقول: أخشى أن يقول الناس عني كذا، أو أن يتهموا بناتي وأخواتي بكذا يا سبحان الله! أأنتم أعلم أم الله؟
أنحن أفضل أم رسول الله عليه الصلاة والسلام؟! أنحن أهدى أم صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام؟!
ألم يعرض عمر بن الخطاب رضي الله عنه حفصة ابنته على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله على أبي بكر رضي الله عنه؟ ألم يعرض سعيد بن المسيب عليه رحمة الله ابنته، بل يزوج ابنته من تلميذه أبي وداعة؟
هؤلاء أناس آثروا ما عند الله ولو سخط الناس كلهم، وإذا خالف الناس أمر الله أو إذا ألزموني بأمر يخالف شرع الله؛ فيضرب كلامهم بعرض الحائط ما دمت على بينة من أمري وعلى صراط مستقيم، وعلى حق ودليل وحجة فلا يبالي المسلم برضا الناس أو بسخطهم.
هذه قضايا يجب أن نتواصى بها؛ ولهذا ليس بغريب أن يقوم أحد من الحاضرين ويعلن أن عنده بنات ويبحث عن الأزواج الصالحين، أو أن يقوم أحد الصالحين من الأبناء الذين أضناهم البحث عن المرأة الطيبة في دينها وعقيدتها وأخلاقها فيسأل أحداً من الحاضرين -أو غيرهم- ابنته زوجة له، ولتسقط كل المخالفات الشرعية التي أثقلت كواهلنا، وأضنت شبابنا وشاباتنا، وأرهقت مجتمعنا بأمور ما أنزل الله بها من سلطان.
ولهذا ينبغي على الإخوة الطيبين الصالحين من الرجال والنساء -ولا غضاضة في ذلك- أن يعرض المرء نفسه على أخيه في الله ليخطب ابنته -مثلاً- أو موليته أو قريبته، أو يعرض عليه ليساعده في البحث عن زوجة صالحة، ولا مانع أن يوجد من الرجال من يخطب من هؤلاء الشبيبة لابنته أو قريبته، وليست القضية -أيها المسلمون- مادية، فنحن لا ننظر إلى القضايا الاجتماعية على أنها قضايا مادية، فما أفلسنا -والله- إلا حينما نظرنا إلى القضايا الاجتماعية على أنها قضايا نبحث من ورائها مادة وشهرة وجاهاً ورفعة وكلاماً بين الناس.
إن بناتك اللاتي أنعم الله بهن عليك بل ابتلاك بهن من أعظم إحسانك إليهن البحث عن الشريك الصالح والزوج الطيب، ولن يعدموا -ولله الحمد والمنة- بل هم كثر، وما أكثر الشباب الذي يبحثون عن الزوجات! بل وأقولها بكل صراحة: ما أكثر ما نعاني من بنات وفتيات يبحثن عن الأزواج، لكن من يكون وسيطاً في الإصلاح؟!
ومن يحتسب لأجل الإصلاح بين الناس، ولأجل الشفاعة الحسنة، والتعريف بين المجتمعات؛ علَّ الله أن يثيبه على ذلك؟!
هذا أمر ينبغي أن نتجرد له جميعاً، ولهذا ينبغي أن يوجد في كل حي ومكان وفي كل مسجد عن طريق الإمام أو غيره أناس ينذرون أنفسهم لهذه القضايا، فقد ترى أناساً نذروا أنفسهم لطلب العلم أو للدعوة وتجدهم يجوبون البلاد ويخرجون للدعوة والإصلاح لكن قد يهملون أقرب قريب، وقد يتركون أناساً هم بحاجة إلى الإصلاح، وقد يكون مجتمعهم بحاجة إلى أن يصلحوا فيه، فيقصرون في ذلك، فلماذا لا تسد هذه الثغرة في المجتمع؟!(48/12)
الغزو الفكري والأخلاقي للمسلمين
أيضاً من أهم الأسباب التي نريد التنبيه عليها حتى لا تكون مدخلاً لعرض القضايا والعلاج: الهجمات الشرسة، واسمحوا لي أن أقول بكل مرارة: الغزو الفكري والأخلاقي المركز على المجتمعات الإسلامية، الذي يريد أن يقلب المجتمعات الإسلامية من مجتمعات آمنة إلى مجتمعات قلقة ومضطربة بنشر المعاصي والفتن وبإثارة هذه المشكلات في المجتمع.
نعم جُنِدَت أسباب ووسائل كثيرة في مجتمعات المسلمين لإثارة مشكلات اجتماعية لها آثارها على المجتمعات الإسلامية، ونحن نقول: إن كل ما يخدش الفضيلة ويخالف الأخلاق بأي طريقة من الطرق أو وسيلة من الوسائل التي تريد جر المجتمعات الإسلامية من مجتمعات الفضيلة إلى مجتمعات رذيلة تعكر أسباب الزواج، لكنها في المقابل تفتح أبواب قضاء الشهوة المحرمة على مصارعها، وتضرب على وتر الجنس والشهوة التي تتأجج في نفوس الشباب والمراهقين من الجنسين بأفلام رخيصة، ومجلات داعرة، وصور عارية، وغناء ماجن خليع يقسي القلوب، ويزين الفواحش، ويبعد الناس عن صراط الله المستقيم، ويجعل الشباب ضحايا الصراع الجنسي، مع الأسف ونقولها بصراحة: أن يبتعد كثير من أبنائنا، وتوضع العقبات في طريقهم إلى الفضيلة وتسهل لهم كثير من القضايا المحرمة فهذه بحد ذاتها مشكلات يجب أن تعالج.
نعم لما وضعت العقبات في سبيل الزواج -على سبيل المثال- ووجد من يذكي الشهوة والغريزة في نفوس شبابنا وأبنائنا وبناتنا، مع إهمال القوامة والتربية الأسرية على شريعة الله وترك الحبل على الغارب للشباب المراهقين من الجنسين أن يفعلوا ما يشاءون، وينظروا ما يشاءون، ويسمعوا ما يشاءون، ماذا حصل؟
لقد سبب ذلك في وجود ضحايا نراهم في جلسات على الأرصفة، وفي سهرات محرمة مع قرناء السوء، بعيدين عن الذكر والتلاوة والطاعة وحلاوة الإيمان، وضحايا الوقوع في حبائل الشيطان وتسويله وتزيينه.
فأقول: نحن اليوم في عصر الإعلام، ويجب أن تستغل الوسائل الإعلامية في بلاد المسلمين لعلاج القضايا الاجتماعية والمشكلات الأسرية، ويجب أن تركز على التربية وعلى تقويم الناس على نهج الله عز وجل وشريعة محمد عليه الصلاة والسلام، وتقوم بأداء ما ائتمنت عليه بأن تكون قنوات إصلاح وتوجيه وتربية لأجيال المسلمين وأسرهم.(48/13)
الإهمال في جانب التربية
من الأسباب أيضاً: إهمال التربية من قبل الآباء للبيوت -وهذه مشكلة- فينشغل الآباء بدنياهم وتجاراتهم مع جلسائهم، ويهملون الزوجة والأولاد أين القوامة وأين التربية؟
إننا نريد من بيوتات المسلمين بيوتاً أن يعمها الذكر، وأن تكون خلايا نحل من التلاوة والطاعة، وسليمة من المحرمات والمنكرات، وقنوات توجيه وإصلاح يخرج منها أجيال يعيدون مجد الفاتحين والعظماء والجهابذة والعلماء، يعيدون أمجاد سلفنا الصالح ورعيلنا الفاتح المجاهدين في سبيل الله، أما أن يخرج أبناؤنا صرعى مسكرات ومخدرات وملهيات وفواحش ومغريات والعياذ بالله! فهذه -والله- من عدم القيام بالأمانة، وعدم الخوف من الله، والتفريط في ما اؤتمنا عليه {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.
فالأسرة يجب أن تقوم بدورها، ولما أُهملت الأسرة التي هي نواة المجتمع حصلت المشكلات في المجتمعات الإسلامية عموماً.(48/14)
ضعف التعليم
كذلك من الأسباب: ضعف التعليم، وعدم إشباع نهم الأبناء والأولاد فيما يفيدهم في أمور دينهم وعقيدتهم، وأصبح بعض الناس يرى من الفخر أن يجيد أبناؤه العلوم المادية والعلوم الوافدة، وبعضهم لا يشجع أبناءه على العلوم الشرعية وهذه مشكلة، فإذا كان ابنك قليل البضاعة في علوم الشريعة فكيف تريده أن يكون سعيداً في مجتمعه؟!
فليست السعادة في المال ولا الثراء ولا الشهادة ولا المنصب، وإنما السعادة -والله- سعادة الإيمان، سعادة الصلاة.
كم جرب أرباب الأموال والثراء؟! وكم جرب أصحاب الشهرة والمناصب؟! وكم جرب أهل الفن واللعب؟! كم جربوا هذه الأمور لكنها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً، ولم يجدوا اللذة إلا بالإيمان، ولا السعادة إلا بطاعة الرحمن، ولما كانت حياتهم بين لهو وغناء، ومجون وخلاعة، وسهرات وفواحش؛ قست قلوبهم، وعمهم القلق والأرق والمشكلات، وهذه القضايا لم تجعل المجتمعات -التي جربت هذه الأمور سنين طويلة- سعيدة يوماً ما، فالدول المتقدمة صناعياً ومادياً هي من أكبر البلاد وأكثرها عدداً في الجرائم والانتحار ومشكلات لا أول لها ولا آخر، وما ذلك إلا تحقيقاً لقوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124].(48/15)
ظاهرة التغريب في المجتمع
أيضاً من الأسباب: موجات التغريب في المجتمعات الإسلامية التي لعبت دوراً كبيراً في التأثير على أبناء المسلمين وعلى فتياتهم وأسرهم؛ فوجدت مثل هذه القضايا.
الحاصل: أن هذه وغيرها أسباب لكل ما يرد من مشكلات، ولكن لا نيئس من كثرة المشكلات فمجتمعنا -ولله الحمد والمنة- إذا قورن بغيره فمشكلاته قليلة؛ لأنه مجتمع بعامته -ولله الفضل والمنة- يدين بهذا الدين، والتقصير الذي يوجد عند بعض أبناء المسلمين هو الذي كان سبباً وراء استشراء هذه المشكلات.(48/16)
عتاب للدعاة والمصلحين
ما هي المشكلات الاجتماعية التي نعانيها ويعاني منها المجتمع؟
هناك عدد من المشكلات، والحقيقة أنا أكتفي بذكر بعضها، وأعتذر أني لست منظراً في القضايا الاجتماعية طرحاً وعلاجاً وإبداءً وإعادةً، لكن هي كلمة -علم الله- ما أردت إلا أن أذكر بها وأهمس بها أن هذه المشكلات مشكلات كل مسلم ولا يجوز له أن يتركها أبداً، ويجب عليه أن ينزل إلى ميدان الناس، كفانا كلاماً، وكفانا نقداً وتجريحاً للعلماء، وكفانا وقوعاً في الولاة.
أقلوا عليهم من اللوم لا أبا لأبيكم أو سدوا المكان الذي سدوا
أين الذين يتجردون ويغارون على محارم المسلمين ومجتمعاتهم، ويحسون أن قضايا المجتمع قضاياهم؟! يجب أن يظهروا فيها.
ألا من متجرد لله جاعلاً من نفسه مصلحاً اجتماعياً لكثير من القضايا؟! يكون على مستوى بيته وجيرانه وحيَّه الذي يعيش فيه، وعلى مستوى بيته ومسجده الذي يصلي فيه.
إن السلبية التي نعاني منها وهي إلقاء اللوم على الآخرين، إلى متى نستمر بعرضها؟! هل أجدت؟!
ما أجدت والله الجلسات الصباحية والمسائية التي يقوم بها بعض الناس ويعقدونها نقداً للمجتمع، إلى متى هذا؟ أين دوركم؟ أين نزولكم وإصلاحكم؟
كفى النازلين إلى الميدان رفعة ومكانة أن كان الناس يتكلمون فيهم، كفاهم والله فضيلة لأنهم آثروا العمل على التجريح والنقد اللاذع.
أيها المسلمون: إن صفاء القلب، وإخلاص النوايا، والتعاون؛ من أكبر العوامل لإصلاح المشكلات، وإن الإيجابية في الطرح والواقعية في الأسلوب هذه قضايا نحتاجها، فلسنا بحاجة إلى أن ينزل بعض الناس بحجة الإصلاح فيوقعوا الناس في مشكلات جديدة، إننا بحاجة أن يتعاون الجميع ويتواصوا بوضع الخطط وعرض كثير من القضايا الاجتماعية وإصلاحها عن طريق العلماء والمصلحين ومراكز الدعوة، ما ذنب هؤلاء الهائمين العابثين اللاعبين على البحر -مثلاً- أو على الأرصفة؟!
هؤلاء مسئوليتنا نحن، إلى متى نظل نجلس في المساجد ونتحدث؟! أين النزول إلى الميدان وإصلاح الناس؟!
وما معنا من دعوة وإصلاح يجب أن نعرضه للمجتمع، ونحن بين اثنين: إما من يغرق في السلبية حتى الثمالة ولا يهمه أمر هذا الدين، ويكتفي بمجرد النقد والتخطئة، وإما من ينزل بعاطفة وحماسة واندفاع ويريد الإصلاح بين عشية وضحاها لا.
بل نريد طول النفس في الإصلاح، وبعد النظر في علاج المشكلات، نحن أمة تخوض الدعوة في دمائها إلى أن يتوفاها الله، إذا انتهت قضية فتتبعها قضية أخرى.(48/17)
أهمية تزكية الأنفس وتربيتها في علاج المشاكل
يا أيها المسلمون ويا أيها الشباب: وصيتي أن نبدأ -أولاً- بعلاج النفوس، أو ما يسمى بالمشكلات النفسية التي نعاني منها، فعدم تربيتنا أنفسنا هو الذي جعل مشكلات الأفراد تتعدى إلى أن تكون مشكلات مجتمعات، ولو أصلح كلٌ نفسه وقومها على ما يجب؛ ما وجدت مشكلة، لكن قصرنا في تربية أنفسنا على ما شرع الله، كثير منا صرعى الشهوات!
إلى متى؟ أما حان وقت التوبة؟ أما آن لنا أن نعود إلى الله؟ أنظن أن هذه الحياة دار قرار؟!
ألا نعتبر بكثرة من ينتقلون عنها إلى الدار الآخرة؟!
ألا نعتبر بكثرة من تصيبهم الخاتمة السيئة -والعياذ بالله- وهم على أمور تخالف شرع الله؟!
أيسرك أن تلقى الله تاركاً للصلوات؟ أو أن تلقى الله بعيداً عن المساجد؟ أو أن تلقى الله واقعاً في الغناء، واللهو، ومع قرنا السوء، ومع أهل المسكرات والمخدرات؟!
أم تريد أن يتوفاك الله وأنت من أرباب المساجد، ومن أهل الإصلاح والتوبة والإنابة والذكر وطلب العلم والتلاوة؟!
كلنا والله يريد ذلك، فإلى متى التسويف والتحصيل؟
فأول لبنة في علاج المشكلات الاجتماعية: علاج النفوس وأطرها على شرع الله عز وجل، وتحليها بالعلم والعمل الصالح، وسلامة الصدور لأهل الإسلام، ومعرفة مكانة أهل العلم والاستفادة منهم، والكف عن الوقوع في أعراض المسلمين لا سيما من ينزلون إلى أرض الميدان للدعوة والإصلاح.(48/18)
أهمية اختيار الرفقة الصالحة في علاج المشاكل
كذلك من القضايا التي ينبغي أن نهتم بها أن يتخذ الإنسان لنفسه رفقة صالحة -وهم كثر ولله الحمد والمنة- يعرضوا هذه الدعوة ويتخطوا بها أماكن الصالحين إلى غيرها من أماكن اللهو والفساد، والحمد لله أن المساجد تعمها مجالس الذكر والعلم، لكن ما ذنب هؤلاء المغافلين؟ مسئولية مَنْ؟
إنها مسئوليتنا والله، لماذا لا نضع من أنفسنا دعاة إصلاح؟
لماذا لا نترك التواني والكسل والنقد من بعد وننزل إلى ميدان الدعوة والإصلاح والتوجيه بالحسنى؟!
أسلوب الدعوة -أيها الإخوة- ليس حملاً للعصي، ولا رفعاً للأصوات، ولا ضجيجاً وجلبة وإحداثاً للمشكلات، وإنما عرضها بأسلوب محكم هادئ حكيم عاقل بعيد عن التشنج، أقول ذلك والله من باب التناصح والمحبة وغيرة على دعوتنا لأننا نريد أن نعرضها للناس بقالب مشوق، وكما أن ذلك أدعى للنتيجة فإنه أسلوب القرآن والسنة، وانظروا إلى دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
والمشكلات التي نعاني منها -أيها الإخوة- هي إما مشكلات يعاني منها الشباب، أو مشكلات يعاني منها النساء، أو مشكلات تعاني منها الأسر ولا سيما من الزوجين والأولاد، ومشكلات عامة أخرى، وأنا سأعرض أمثلة ونماذج لبعض هذه المشكلات.(48/19)
مشاكل الشباب وأسبابها
من مشكلات الشباب على سبيل المثال:(48/20)
كثرة الوسائل المهيجة للشهوة
مشكلات الشباب التي نعاني منها كثيرة يجمعها المشكلات الجنسية، أو ما يتعلق بقضايا الزواج، أو بقضايا التربية لأنها هي الأساس في الحقيقة، وبعض الشباب وقع في كثير من المشاكل وأهمل مع الأسف، وكان هناك نشاط جاد من قنوات مضادة لإبعاد الشباب عن المنهج السوي فوقع فريسة في المشكلات؛ ولهذا كأس وغانية، أو أغنية ماجنة، أو مجلة رخيصة، أو فيلم، قد يهدم دين الإنسان والعياذ بالله! ويقضي على حيائه وعفته وعرضه، ولهذا شاء أعداؤنا أن يوقعوا كثيراً من شبابنا بمثل هذه القضايا التافهة، وأصبح شبابنا الذين نريدهم أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وسعد ومصعب وصلاح الدين إلى غيرهم من الفاتحين العظماء والقادة أصبحوا لا همَّ لهم هذه القضايا التافهة.
أهؤلاء الشباب الذين يعدون لحمل راية الإسلام وعلاج قضايا الأمة؟!
إذاً: يجب على هؤلاء أن يعودوا إلى الله، ويجب على أسرهم مناصحتهم وتربيتهم التربية الصحيحة، ويجب علينا نحن الدعاة أن نعرض الدعوة عليهم من جديد لأنهم لا زالوا في سبات الغفلة وتحت تأثر الشهوة، نريد تغيير هذا البديل إلى بديل صالح من قرناء الصلاح وجلساء الخير.(48/21)
رغبة الشباب في الزواج وعزوف الآخرين
أكثر ما يواجهني من المشكلات التي نعاني منها: رغبة شبابنا في الزواج، هذا أمر، وأمر آخر عزوف بعضهم عن الزواج، وقد يكون هذا لأسباب خاصة بهم، أو لأسباب تعود إلى مجتمعهم الذي يعيشون فيه، على كل حال أنا في صف الشباب جملة وتفصيلاً، لكني لا أحملهم إلا في حدود ما يقومون به، أما أن يكون هناك اعتذارات أو اختلاق بعض العقبات والعوارض عن الزواج فهذه أمور ليست بصحيحة، ما أكثر الأسر التي تريد الأزواج الصالحين، وإذا عرضت على بعض شبابنا أن يتزوج تجد بعض الأعذار الواهية في الحقيقة.
ويؤسفنا كل الأسف أننا معشر أهل السنة من أشد الناس تقصيراً في معرفة أهمية الزواج بالنسبة إلينا، نحن أمة أنعم الله علينا بهذه العقيدة فننظر إلى الزاوج لا على أنه متعة أو أنه شهوة بهيمية فحسب، لا والله.
وإنما نريد في اليوم الذي نسمع فيه زواجاً أن توجد أسرة على منهاج سليم، وعلى عقيدة صحيحة تدعو إلى الله ويكون من أبنائها من يحمل شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويدعو إلى الإسلام هذا الذي نريد.
ولهذا المخالفون ممن تحركهم أفكار ومبادئ واعتقادات مخالفة للحق ركزوا على هذا الجانب، فأقبلوا على الزواج، بل أقبلوا على التعدد ولا يمكن أن تجد شاباً في سن الخامسة عشرة ولم يتزوج، لكن تجد من أبناء المسلمين الذين نريدهم أن يبادروا بتكوين الأسر الإسلامية لم يفكر بعد في موضوع الزواج، يعيش على هامش الحياة!
أنت عضو ولبنة في مجتمعك يجب أن تسعى لهذا القضية، ولهذه أنا أطالب الشباب ألا يبيتوا هذه الليلة إلا وقد فكروا في موضوع الزواج جدياً، وإذا فكر أعانه الله، وإذا اجتهد وفقه الله، وإذا علم الله حسن نيته يسر له أسباب الزواج، لكن أن يعيش إلى الثلاثين وأكثر من ذلك ويقول: سأتم الدراسة وأؤمن المستقبل وأبني البيت، سأبحث عن شريكة الحياة التي صفاتها كذا وكذا وكذا وقد تكون ليست موجودة في المجتمعات أبداً سبحان الله! أين الواقعية في النظرة؟
وكثير من الناس ابتلوا بهذه النظرات التي هي في الحقيقة من الشيطان؛ لأن الشيطان حريص على أن يبعد الناس عن الزواج، وحريص على أن يكتوي الشباب بلظى هذه الشهوة علهم يزلون ويضلون ليكونوا معه في الجحيم والعياذ بالله!
فهذا أمر ينبغي أن يتنبه له شبابنا، لا بد أن توجد القناعة التامة بأهمية الزواج لدى أبنائنا هذه القضية يجب أن نحرص عليها، وأنا أطالب الشباب بها، كما أطالب -أيضاً- أولياء أمور الفتيات أن يتقوا الله فيهن وأن يبادروا إلى إعفافهن، والله إن حاجة الشباب للزواج -بالذات إذا كان قد وصل إلى مرحلة تشتد فيها حاجته إلى الزواج- لهي أشد من حاجته إلى الطعام والشراب، لأن هذه الشهوة التي ركبها الله في الإنسان من الضروري أن يخرجها، ولابد لها من منفذ، فإما أن تنفذ عن طريق الحلال، وإما أن تنفذ عن طريق الحرام إلا من رحم الله.
فنحن ما دمنا الآن في مشكلات تذكي هذه الشهوات وتزين لشبابنا ضعف الولاء لعقيدته ودينه وضعف إيمانه وصلاحه، وكثرت أسباب المغريات، فانظر كيف تفعل أجهزة الفيديو، وبعض الوسائل الإعلامية في إذكاء هذه الغريزة!
وشبابنا لم يفكر بعد في موضوع الزواج، ويلجأ إلى ما يسمى بالعادة السرية، ونقولها بكل صراحة ولا حياء في الدين وهي قضية ومشكلة ومعضلة اجتماعية لما وقع فيها شبابنا، أصبح شباباً لم يعد لحمل الرسالة التي وجد من أجلها وخلق لتحقيقها، شباب لا يهتم إلا بإذكاء هذه الغريزة من خلال هذه الطريقة، وقد يكون حريصاً على الزواج لكنه يواجه بما يعرف بغلاء المهور.(48/22)
غلاء المهور
قضية غلاء المهور هي قضية أخرى وهي قضية طويلة الجذور، لكنها في الحقيقة سهلة العلاج، ما الدافع إلى هذا؟ أولسنا مطالبين باتباع الهدي النبوي في ذلك؟
أولسنا مطالبين باتباع السنة في المهور في المهور كما نطالب باتباع السنة في صلاتنا وزكاتنا وحجنا وصيامنا؟! ألا نطالب باتباع السنة في أمور زواجنا؟
مهر الرسول عليه الصلاة والسلام لزوجاته أمهات المؤمنين ومهر بناته ومهر الصحابيات رضي الله عنهن لم يتعد اثني عشرة أوقية، والاثنتي عشرة أوقية تكون في حسابنا اليوم مائة وأربعين ريالاً فقط -هذا بحسابنا نحن- هذا هو المهر الشرعي الذي سار عليه النبي صلى الله عليه وسلم والأئمة من بعده رضي الله عنهم.
أيها الإخوة: الموضوع ذو شجون، والحق أننا لا زلنا في الساحل ولم نلج بعد لجج هذا الموضوع المهم، ونظراً لهذا التشعب الذي اقتضاه الموضوع تحت رغبة الإخوة جزاهم الله خيراً أن يكمل إن شاء الله في الأسبوع القادم في مثل هذا الموعد بإذن الله جل وعلا، لكنني أشترط شرطين:
أولاً: الذي أريده ومن هذا الأسبوع إلى الأسبوع القادم بإذن الله أن مدير مركز الدعوة الشيخ علي، والشيخ فهد إمام هذا المسجد جزاهم الله خيراً يكونان بمثابة مرجع لكل من أراد السير في خطوات عملية في علاج هذه المشكلات، بمعنى: أنه ينبغي على كل شاب راغب في الزواج أن يتقدم ويعرض رغبته وطلبه.
ثانياً: أطالب الآباء الحاضرين وكل من عنده بنات أو قريبات أن يأتي إلى الشيخين -ولا غضاضة في ذلك- ويعرض عليه حاجته إلى التماس بعض أهل الخير وبعض الشباب الصالح للزواج من هؤلاء البنات، وكل فتاة ترغب الزواج ينبغي أن تتصل بهؤلاء المشايخ لعرض قضيتها؛ لأنها أمام أمرين: إما الزواج أو الفساد، وهل نرضى نحن بالفساد؟ لا يجوز أبداً، لا نرضى بهذا والله.
فأيها الإخوة: ينبغي أن نبادر بخطوات عملية.
وأيضاً من الخطوات العملية: أن يكون في كل حي وفي كل مسجد وفي كل مكان من يكون محتسباً في قضايا الإصلاح للمشكلات الاجتماعية وأن يكون مرجعاً في هذا، إما إمام المسجد أو أحد الدعاة والعلماء المعروفين، وعليه أن يقوم بزيارة الجيران وتفقدهم.
حقيقة نحن نعاني من جفاء وانشغال عن مشاكل الناس، حتى بعض المنتسبين للهداية والإصلاح والدعوة ينبغي أن يعيدوا النظر في قضايا دعوتهم وإصلاحهم، فإن الدعوة لا تكون في أبراج عالية، أو بمجرد وسائل محدودة وضيقة، إنما الدعوة بالنزول إلى الميدان، وعرض كل طريق فيه إصلاح للناس وأخذهم من طريق الشر إلى طريق الخير، فكتائب الإصلاح وقوافل الدعوة ينبغي أن تكون في كل حي تنشر الشريط الإسلامي والرسالة الإسلامية والكتاب الإسلامي.
ولا بد من إيجاد يوجد البديل الصالح لقرناء السوء الذين يكثرون في المجتمعات، فإذا أراد الإنسان أن يبحث عن طريق الهداية فإنه قد يجد أمامه عقبات كثيرة، فإذا وجد أن في كل حي ومكان من الأمكنة، وفي كل مسجد من المساجد جماعة وشباب من أهل الخير والإصلاح، ومن أهل الهداية والاستقامة وطلب العلم والقيام بواجب الدعوة إلى الله فسوف يلتف حولهم، وأتمنى ألا آتي في الأسبوع القادم إلا وقد خطوتم في هذا خطواتٍ جيدة فأنا مستعد أن آتي إليكم، أما أن آتي لأجل أن أتحدث فقط ثم نخرج وليس هناك عمل فلا فائدة إذاً.(48/23)
بعض الحلول للمشاكل الاجتماعية
وهنا قضية أخرى وهي: أن قضايانا يجب أن نسير فيها على ضوء شريعة الله، ونحن لسنا إلا أهل دعوة وإصلاح، ولا مقصد لنا إلا هذا، فمقصدنا يعلم الله ومقصد الدعاة إلى الله انتشال الناس الغرقى في بحور الفتن والشهوات إلى طريق الخير، وأيُّ قصد غير ذلك فليطرح.
ثم إننا في قيامنا بهذه الأعمال يجب أن نكون متحلين بالآداب الحسنة والأخلاق الطيبة، وعرض هذه القضايا عرضاً نظامياً ورسمياً، ولا أقول ذلك إلا من باب تشجيع التركيز والتنسيق في العمل حتى لا يكون هناك ازدواجية، ويكون هذا العمل تحت رئاسة ومسئولية مركز الدعوة عن طريق أئمة المساجد والدعاة في هذه البقعة المباركة.
هذه أربع قضايا أعيدها ليتم العمل بها:
الخطوات العملية التي ينبغي أن نخطوها تجاه تربية أنفسنا، وأن أي سلبية في حياتنا ينبغي أن نزيلها، ولهذا ينبغي أن تكون أول الخطوات العملية التي نريدها أن أي عقبة من مشكلة اجتماعية: في نفسه أو بيته أو أسرته أو حتى بين زملائه وأقرانه ينبغي أن تعرض وتسجل على هيئة أو لجنة من الدعاة لأننا نريد في الحقيقة ألا نتخذ من طريقة الدعوة: طريقة المحاضرات فقط، وإنما نريد السعي العملي الإصلاحي في إطار ما هو مسموح به نظاماً، وقبل ذلك ما هو مأمور به شرعاً، ولا أظن أحداً يقف في طريق ذلك بحمد الله؛ لأن النوايا -ولله الحمد والمنة- سليمة والخطوات بإذن الله متزنة، ويقوم عليها من أهل العلم والفضل والإصلاح من يكون خير من يقوم بها.
ثم لا غضاضة أن يكون هناك أهل خير يتوسطون في كل من كان عنده رغبة أو مساعدة مادية في الزواج بتأييد مشروع الزواج أو عن طريق مركز الدعوة أو غيره لكل راغب في الزواج أو لكل مريد لعلاج هذه المشكلات الاجتماعية، من المساعدات المادية والمعنوية، ونهيب بأهل الثراء والخير والوجاهة أن يدخلوا في خطوات عملية، ولا يكون هناك فقط تركيز على جانب من الجوانب المعينة.
أيضاً: أولياء الأمور، الآباء والأمهات لا بد أن يطالبن بالدخول في مثل هذه المشروعات الخيرية لأنهم طرف في الإصلاح وعلاج هذه المشكلات الاجتماعية.
أيها الإخوة: في الحقيقة الكلام يطول، وقضايا الزواج وعقباته، وقضايا الطلاق في المجتمع كثيرة، ولو سألتم المحاكم لعرفتم أن ثلث القضايا أو أكثر من ثلثها -والثلث كثير تعرض- كلها قضايا طلاق ومشكلات، يجلس القاضي فتعرض عليه عشر قضايا طلاق في اليوم، وخمسة قضايا طلاق في اليوم الثاني، ماذا يعني هذا؟
معنى ذلك هدم لخمس أسر في المجتمع، هذا ليس بأمر هين، ينبغي أن يسعى أهل الإصلاح، ومن لجان الإصلاح هذه من يذهب للإصلاح بين الزوجين {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] وهذا نحن بحاجة إليه دائماً وأبداً، بحاجة إلى مساعي إصلاح إذا أخطأ أحد الزوجين فإنه يأتي لمثل هؤلاء المشايخ ويعرض عليه قضيته علهم أن يكونوا طرفاً وعلاجاً فيها.
المهم أننا لا زلنا نعاني من عدم التنسيق في علاج هذه القضايا -العلاج فردي- وماذا عسى أن يجدي فلان من الناس أو زيد في علاج مئات وآلاف من المشكلات الاجتماعية التي تمر عليه، فلهذا نحن نحتاج إلى شيء من التنسيق والتركيز، منطلقنا ليس تكوين اجتماعات أو خلايا كما يتصور البعض، بل القضية كما قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة:2] وأنا أقول: إن السعي ولو خطوة واحدة في النواحي العملية لعلاج هذه القضايا أفضل من الكلام عشر سنين أو عشرين سنة كلاماً فقط ليس بعده خطوات عملية.
هناك شريحة من المشكلات توجد في المجتمع سببها مثلاً إطلاق اللسان، والغيبة والنميمة والحسد والبغضاء، وما يوجد في الصدور بين المسلمين ولا سيما بين بعض طلبة العلم أو بعض الدعاة وليس هذا بغريب، لكن الغرابة كل الغرابة أن تستمر هذه القضايا بلا علاج، وأن يستمر بعض الناس على هذه الأمور، هذه قضايا اجتماعية نحن بحاجة إلى التركيز عليها.
قضايا الصحوة ومشكلات التوجه إلى الله، ولا أقصد أن الخطأ من حيث التوجه وإنما من حيث التوجيه، فينبغي أيضاً أن تعالج حتى لا يستفحل الخطأ، وشعارنا في ذلك قول تعالى: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
وفق الله الجميع لما فيه الخير والسداد، وجعلنا وإياكم عالمين عاملين بما سمعنا، هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين بمنه وكرمه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(48/24)
السحر والشعوذة.
الداء والدواء
إن خطر السحر عظيم على الأفراد والمجتمعات، ولذلك أبطل الإسلام السحر والشعوذة وحذر منهما وشدد في حكمه على السحرة والمشعوذين، وشرع لنا العلاج القرآني والنبوي للتخلص من السحر والإصابة بالعين كي لا نكون عرضة للمشعوذين والدجالين.(49/1)
إبطال الإسلام للسحر والشعوذة
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، أحمده تعالى حمداً يتجدد بالعشي والإبكار، وأشكره سبحانه على نعمه الغزار، وأسأله المزيد من فضله المدرار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم الغيب والشهادة وكل شيء عنده بمقدار، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى المختار، صلى الله وسلم عليه وعلى آله البررة الأطهار، وصحبه الأئمة الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، صلاة تترى آناء الليل وأطراف النهار، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! فإن تقواه سبحانه جنة من النار، وسبب لدخول الجنة دار القرار، فاسلكوا رحمكم الله مسالك المتقين الأبرار، واحذروا مسالك الأشرار وطرائق الفجار.
أيها المسلمون! المستقرئ للتأريخ البشري والمتأمل للتراث الإنساني، يجد أن ثمة حقيقة مرة مؤلمة، وهي أن العقول البشرية قد تعرضت لعمليات وأد واغتيال خطيرة عبر حقب طويلة، يتولى كبر أسلحتها خناجر الوهم والخرافة، وألغام الدجل والشعوذة، وتلك لعمر الحق أعتى طعنة تسدد في خاصرة الإنسان العقلية، وقواه الفكرية والمعنوية.
ومن ثم فإن التحرر الحقيقي من أغلال الوهم والخرافة، وآصار الدجل والشعوذة، إنما يمثل السياج المحكم والدرع الواقي والحصن الحصين لحقٍ من أهم حقوق الإنسان، وهو تحصين عقله من الخيالات، وحفظ فكره من الخرافات، ومن هنا كانت أنبل معارك العقيدة، تحرير العقول الإنسانية من كل ما يصادم الفطر، ويصادر الفكر، ويغتال المبادئ والقيم، وهيهات أن تعمر الحياة وتشاد الحضارات بالمشعوذين البله؛ الذين لا يرعون للإنسان كرامة، ولا للعقول حصانة وصيانة.
إخوة العقيدة! لقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق، فأبطل الله به مسالك الجاهلية، وقضى على معالم الشرك والوثنية، فاستأصل شأفتها، واجتث جرثومتها، وفي طليعة ذلك الأوهام والخزعبلات لما تمثله من إزراء بالعقول.
يعمد أحدهم إلى نصب وحجارة، فيعلق بها آماله وآلامه، فيبول عليها الثعلبان فيتركها.
وآخر إلى مجموعة من تمر وطعام، فيجوع فيأكلها، وثالث يتعلق بحروز وتمائم، وخيوط وطلاسم، وكان هناك انتشار لسوق التخرصات والشعوذات، وإلغاء للتفكير وسلب للعقول.
فلما جاء الإسلام بعقيدة التوحيد الخالصة لله، وأشرقت أنوارها في جميع أصقاع المعمورة، حررت القلوب من رق العبودية لغير الله، ورفعت النفوس إلى قمم العز والشرف والصفاء، وسمت بالعقول عن بؤر الوثنية ومستنقعات الخرافة والشقاء، كيف وعقيدة المسلم أعز شيء عليه، وأغلى شيء لديه؛ بها يوجه أعتى التحديات، وبها يصبر على مر الابتلاءات، ويقاوم موجات القلق والأرق والاكتئاب النفسي والاضطرابات، وبها يقيم سداً منيعاً ودرعاً مكيناً أمام زحف الأباطيل والضلالات، وغزو الشعوذة والخرافات؟!
{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51] {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر:38].
إخوة الإيمان! لقد نأى الإسلام بأتباعه عن أوهام الجاهلية وأوضارها، وطهر أنفسهم من رجس الوثنية وأباطيلها، وابتعد بهم عن براثن الإسفاف وبؤر الاستخفاف في كل صوره وأنماطه.
ويأتي في الطليعة منها مظاهر السحر والشعوذة والتجهيل، ومعالم الخرافة والدجل والتضليل، بما تمثله من طعنة نافذة في صميم العقيدة، وشرخ خطير في صرح التوحيد الشامخ، وانهيار مزر يسلب القوة، ويذهب العزة، ويجلب الانتكاسة، ويلحق الهزائم، ويقضي على العزائم، ويشكك في الثوابت واليقينيات، ويروج لبضاعة التخرصات والخزعبلات، فيقع الاضطراب في المجتمع، وتحصل الفوضى في الأمة، ويخرق سياج أمنها العقدي، فتغرق سفينتها في مهاوي العدم وبؤر الفناء، وقد قال عز وجل: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].(49/2)
أهمية حماية جانب الأمن العقدي في الأمة
أمة الإسلام! إنه من طول الأمد، وحصول التخلف المشين لدى فئام كثيرة في الأمة، ووقوع أنواع من التغافل والتزييف للحقائق، مع غلبة الجهل الذريع عند كثير من الناس في أعقاب الزمن؛ صحب ذلك تلاعب بالألفاظ وتغيير للمصطلحات، تحت ستار مسميات معسولة، ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب، نتج عن ذلك كله تمرير بعض الصور الشركية، وتسويق بعض الطقوس البدعية.
ولعل مظاهر السحر والشعوذة من أوضح النماذج على هذا التزييف الذي أصاب الأمة في أعز ما تملك من الثوابت والمسلمات، وأغلى ما لديها من المبادئ والمقومات، وهو تمسكها بعقيدتها الإسلامية الصافية من اللوثات الشركية والصور الخرافية، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد ليقذف كل يوم بجديد في عالم الخرافة والدجل ونسج الأكاذيب والشعوذات وبث الشائعات والخزعبلات؛ مما يؤكد أهمية حماية جانب الأمن العقدي في الأمة.
فإن سوس الأوهام، وخلايا الإجرام تؤثر سلباً في جوانب شتى من حياة الأمة والمجتمع، وتلك عاقبة وخيمة المراتع، ونتيجة تجعل الديار بلاقع، فما حلت أعمال الشعوذة في قلوب إلا أظلمتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، ويزداد ذهول أهل التوحيد حينما تجد هذه الأوهام رواجاً لدى كثير من العامة ممن ينساقون وراء الشائعات، ويلغون عقولهم عند جديد الذائعات، ويتهافتون تهافت الفراش على النار على الأوهام، ويستسلمون للأباطيل والأحلام، وحتى أضلت سرادق الشعوذة عقول كثير من أهل الملة والديانة.
ولا تسأل بعد ذلك عما تفعله هذه المسالك المرذولة، في أوساط كثير من الدهماء، وما تحدثه في عقول كثير من السذج والبسطاء؛ فأين الإيمان عباد الله؟! وأين الحجى والعقول السليمة؟! أولسنا نتلو ونؤمن بقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:107]؟ لكن العجب والعجائب جمة، حينما تلغى العقول والأفكار أمام قول كل دعي مأفون!(49/3)
خطر السحر والشعوذة على المجتمع
إخوة الإسلام! إن تصديق أدعياء علم الغيب، وإتيان السحرة والعارفين، والكهنة والرمالين، والمنجمين والمشعوذين؛ الذين يزعمون -وبئس ما زعموا- الإخبار عن المغيبات، أو أن لهم قوىً خارقةً يستطيعون من خلالها جلب شيء من السعد أو النحس أو الضر أو النفع؛ لهو ضلال عظيم، وإثم مبين، فعلم الغيب مما استأثر الله به وحده سبحانه، وقد قال جل وعلا: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النمل:65]، وإننا اليوم لفي زمان كثر فيه هؤلاء الأدعياء الدجاجلة، لا كثرهم الله! فهم داء خطير وشر مستطير، يقوض سعادة الأفراد واستقرار الأسر، وأمن المجتمعات.
إن أعمال الشعوذة خصلة شيطانية، وخلة إبليسية، ولوثة كفرية، ودسيسة يهودية.
لقد أمر أمرهم، وتعاظم خطرهم، وتطاير شررهم، واستفحل شرهم، فكم من بيوت هدمت، وعلاقات زوجية تصرمت، وحبال مودة تقطعت بسببهم، حسيبهم الله!
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [البقرة:10].
{قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] * {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} [يونس:82].
معاشر المسلمين! إن تعاطي السحر وإتيان السحرة فيه جمع بين الكفر بالله والإضرار بالناس والإفساد في الأرض.
فكم في كثير من المجتمعات من محترفي هذا العفن ممن يعملون ليل نهار لإفساد عقائد الأمة، مقابل مبلغ زهيد يتقاضونه من ضعاف النفوس، وعديمي الضمائر الذين أكل الحسد قلوبهم، فيتفرجون على إخوانهم المسلمين، ويتشفون برؤيتهم وهم يعانون آثار السحر الوخيمة، فلا براحة يهنئون، ولا باستقرار يسعدون، حتى حقق هؤلاء المشعوذون رواجاً كثيراً، وانتشاراً كبيراً.(49/4)
طرق السحرة في إغواء الناس
فتارة يأتون من باب العلاج الشعبي والتداوي، وأخرى من باب التأليف والمحبة بين الزوجين، وهو ما يسمى بالتولة، وهي أشياء يزعمون أنها تحبب الزوجين لبعضهما، وتارة من باب الانتقام بين الخصمين، ومنها الصرف والعطف، فاستشرى فسادهم؛ حتى علا كثيراً من المتعلمين والمتعبدين، فكم من جنايات حصلت بسبب هؤلاء التعساء، وعداوات زرعت بسبب هؤلاء الأشقياء -عليهم من الله ما يستحقون- متظاهرين للناس بشيء من الخوارق، موهمين السذج بشيء من القُدرة والعلائق، وخسئ أعداء الله، وإن طاروا في الهواء، ومشوا على الماء، وزعموا تحضير الأرواح والتنويم المغناطيسي، ولبسوا على العيون بما يسمونه بطريقة الكف والفنجان وغيرها من الأعمال البهلوانية، فهذا دعي مأفون، يزعم أنه يجر المركبات الثقيلة بأسنانه، وآخر يستلقي فتمر المركبة على بطنه، وآخر يبدل العشرات مئين والآلاف ملايين، فتضيع عقول كثير من الناس ممن يصابون بالهوس المادي.(49/5)
حكم الإسلام في السحرة والمشعوذين
وقد قال صلى الله عليه وسلم: {من أتى عرافاً فسأله لم تقبل له صلاة أربعين يوماً} أخرجه مسلم في صحيحه، وأخرج الحاكم وأهل السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم}، وقد عد المصطفى صلى الله عليه وسلم السحر من السبع الموبقات -أي: المهلكات- كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومن ذلكم -يا عباد الله- التعلق بالنجوم والمطالع، والأبراج والكواكب، فمن ولد في برج كذا، فهو السعيد في حياته، وسيحصل على ما يريد من مال أو جاه أو حظوظ، ومن ولد في برج كذا فهو التعيس المنحوس، وسيحصل له كذا وكذا من الشرور والبلايا، في سردٍ للفضائح وإعلان بالقبائح، لا يقره شرع ولا عقل ولا منطق، وإنك لواجد في بعض الأسواق والمدارس وعند الخدم من ذلك شيئاً عجيباً.
ومن هنا يأتي الواجب العظيم في تكثيف الحصانة العقدية الإيمانية ضد هذه الأعمال الشيطانية، كما أن الواجب القضاء على هذه الفئات الضالة، لما تمثله من خطر على الأمة وإخلال بأمن المجتمع، وإفساد لعقائد الناس، واستهانة بعقولهم، وابتزاز لأموالهم.
روى الترمذي عن جندب مرفوعاً وموقوفاً: {حد الساحر ضربة بالسيف}، وفي حديث بجالة التميمي، قال: {كتب عمر رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة، قال: فقتلنا ثلاث سواحر} أخرجه أحمد والبخاري معلقاً وأبو داود والبيهقي.
وصح عن حفصة رضي الله عنها: {أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقتلت} رواه مالك في الموطأ.
وثبت قتل الساحر عن عدد من الصحابة والتابعين، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: أكثر العلماء على أنه يقتل الساحر، وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله، قال ابن قدامة رحمه الله: وهذا اشتهر فلم ينكر فكان إجماعاً.(49/6)
واجب المسلمين نحو السحرة والمشعوذين
كما أن واجب المسلمين جميعاً التكاتف في القضاء على هؤلاء المشعوذين والإبلاغ عنهم، والتعاون مع الجهات الاحتسابية والأمنية في ذلك؛ حتى لا يحل عقد ثوابت الأمة، ويشتتوا لآلئ أمنها ونظامها واستقرارها، ويقضوا على البقية الباقية من تألقها، ومع أن العالم يعيش عصر المدنيات والتقنيات التي يفترض أنها تناوئ الخرافة، وتناقض الشعوذة، وتحارب الدجل؛ فإن الغيور ليأسى حينما تطورت الخرافة بتطور الزمن، ودخلت مجالات شتى في الاقتصاد والاجتماع والإعلام وغيرها، طلباً للحظ بزعمهم؛ بل سخرت بعض وسائل الإعلام وبعض القنوات الفضائية لبثها للتشويش والإثارة، مما يتطلب من أهل العلم والدعوة التركيز على الجانب العقدي في الأمة، وإعزاز جانب الحسبة والإصلاح.
ولئن بدت الصورة قاتمة، نتيجة الجرح العميق الذي نكأته الشعوذات والخرافات في عقول كثير من أبناء الأمة، فإن الأمل كبير في أن يسترجع المسلمون ما فرطوا فيه من أمر عقيدتهم، ويجدوا في إنقاذ التائهين في دروب الباطل والأوهام، إلى شاطئ النجاة وساحل الأمان بإذن الله.
وكان الله في عون العاملين المخلصين لعقيدتهم ومجتمعاتهم وأمتهم، إنه خير مسئول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأسال الله أن يبارك لي ولكم في القرآن، وينفعنا بما فيه من الآيات والهدى والبيان، وأن يرزقنا السير على سنة المصطفى من ولد عدنان.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إنك أنت الغفور الرحيم.(49/7)
أوهام السحر والعين عند الناس
الحمد لله خلق فأمر، وملك فقهر، وكل شيء عنده بقضاء وقدر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إرغاماً لمن جحد به وكفر، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الشافع المشفع في المحشر، القائل فيما صح عنه: {لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر} صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان، ما اتصلت عين بنظر، وأذن بخبر.
أما بعد فاتقوا الله -عباد الله- ففيها الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، واعلموا أن أشد ما ابتليت به النفوس، وأصيبت به المجتمعات، دخول النقص عليها في أعز ما لديها؛ في عقيدتها وثوابتها.
ومن ذلك أعمال السحر والشعوذة، والتطير والتشاؤم، والتعلق بالأوهام من بعض الشهور والليالي والأيام، وذوي العاهات والأمراض والأسقام.
والمؤمن الحق يعيش نقي السيرة، صافي السريرة، لا يعرف الوهم إلى نفسه سبيلاً، ولا يجد الهلع عليه مدخلاً وطريقاً.
أيها الإخوة! ومع أن السحر حقيقة واقعة، والمس والتلبس والإصابة بالعين كلها حقائق شرعية وواقعية، إلا أن بعض الناس يعيش حياة الوهم في كافة أموره، فكثيرون هم صرعى الأوهام والوساوس؛ إذا آلم أحدهم صداع، قال: هذا مس، وإذا أصيب بزكام قال: أواه! هذه عين، ومن المقرر أن الابتلاء سنة وتمحيص، والبشر عرضة للأمراض والأسقام.(49/8)
علاج السحر والعين
إخوة الإسلام! ومع تشخيص الداء، فلا بد من وصف العلاج والدواء، إلا أن الله سبحانه لم يجعل شفاء أمة محمد صلى الله عليه وسلم فيما حرم عليها، والتداوي بالرقى المشروعة أو بألوان الطب الحديث أمر مشروع، ولا ينافي التوكل على الله، لكن لا بد من النظر في أهلية المداوي ديناً وعقيدةً واستقامةً وصدقاً وأمانةً.
وحل السحر ودواء العين لا يكون بسحرٍ مثله، وهو ما يعرف بالنشرة، وهي حل السحر عن المسحور، وقد سئل عنها صلى الله عليه وسلم فقال: {هي من عمل الشيطان} أخرجه أحمد وأبو داود بسند جيد.
بل بالأدوية الشرعية، ولا يلزم أن يكون من يرقي معروفاً أو مشهوراً أو ممن اتخذ هذا الأمر حرفة؛ يستدر من خلالها أموال الناس، ويبتز جيوبهم؛ بل القرآن شفاء من كل مرض وداء: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفَاءٌ} [فصلت:44] {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82].
فعليكم -رحمكم الله- بالإقبال على القرآن، والبعد عن المعاصي، فلم تكن أعمال الشعوذة لتروج في بعض المجتمعات، لولا ضعف الإيمان لدى كثير من أهل الإسلام، وانتشار المعاصي في كثير من البيوتات والمجتمعات، وعليكم -يا رعاكم الله- بتحصين أنفسكم وأولادكم بالرقى المشروعة والأوراد المأثورة فهي حصن حصين وحرز أمين.
حافظوا على أذكار الصباح والمساء، وأدعية الدخول والخروج والنوم.
أكثروا من قراءة فاتحة الكتاب، وآية الكرسي، وخواتيم سورة البقرة، وسورة الإخلاص، والمعوذتين، فإنها حرز لصاحبها بإذن الله، من كل داء وبلا.(49/9)
وصفة طبية نبوية لعلاج السحر والشعوذة
وهاكم رحمكم الله وصفة طبية نبوية هي خير لكم وأمان.
روى أبو داود والترمذي عن عبد الله بن حبيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {اقرأ قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمسي وحين تصبح ثلاث مرات، تكفيك من كل شيء}.
وعن عثمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث مرات إلا لم يضره شيء}.
الحمد لله الذي ما أنزل من داء إلا وأنزل له دواء، ونسأله تعالى أن يمن على الجميع بالشفاء والعافية من أمراض القلوب والأبدان إنه جواد كريم، ونشكره سبحانه أن هيأ في بلاد التوحيد ومؤئل العقيدة ومأرز الإيمان من يصلت الصارم البتار على رقاب هؤلاء السحرة الأشرار، وينفذ حكم الله فيهم، صلاحاً للعباد، وحفظاً لأمن البلاد، وتطهيراً لها من ألوان الشر والفساد.
مهما حاول خفافيش الظلام إسدال الستار وتشويه الحقائق فلن يحجب ضوء الشمس كف دعي مغرض والله المستعان!
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والحبيب المرتضى، كما أمركم بذلك ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريما: ً {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل على نبينا محمد ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصل عليه ما اختلف الليل والنهار، وصل عليه وعلى المهاجرين والأنصار، وارض اللهم عن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الملة والدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق والتسديد إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لاتباع كتابك، وتحكيم سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم إنا نعوذ بك من كل شيطان وهامة، ومن كل عين لامة.
اللهم اكفنا شر الأشرار وكيد الفجار وشر طوارق الليل والنهار، إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم قو عزائمهم، وسدد سهامهم وآراءهم.
اللهم عليك باليهود المعتدين فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنقذ المسجد الأقصى من براثن المعتدين، اللهم عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ.
عباد الله! إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أعلى وأجل وأكبر، والله يعلم ما تصنعون.(49/10)
حوار الحضارات
إن ما يشنه أعداء الله من حرب إعلامية ضد الإسلام، لتشويه معالمه، والطعن في الألوهية والرسالة المحمدية، كل هذا يوجب على الأمة أن تستيقظ من سباتها، وتتخذ الوسائل الموجبة للدفاع عن الدين الإسلامي الحنيف بالحوار والمناظرة، والإعلام والصحافة الإسلامية وغير ذلك.(50/1)
الحرب الإعلامية على الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71]
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلاله.
أيها المسلمون: في عصر التحدي الحضاري، ودوامة التحامل الإعلامي على هذا الدين الإسلامي؛ تتعاظم حاجة الأمة الإسلامية إلى الاضطلاع بمهمة المشروع الحضاري الإسلامي، تقويماً للمسيرة، وتصحيحاً للرؤى، وتنسيقاً في الجهود والمواقف، وإعلاءً لمنظومة المثل والقيم، وإشاعة للود والتسامح والتراحم، وبثاً لرواح التعاون والتصافي والتفاهم، وبالتالي ارتقاءً بالإنسانية وإسعاداً للبشرية.
معاشر المسلمين: واستقراءً لنصوص الوحي المطهرة، واعتباراً بحوادث التاريخ، وتأملاً في دنيا الواقع يخرج الغيور المستبصر، ويدرك المتابع المتأمل: أن آليات الهجوم على الإسلام وتشويه حقائقه وطمس محاسنه، تتنامى ولا تتناهى، وتكون أكثر خطورة وأشد ضراوة، حينما تشعل الحرب الإعلامية فتيلها، وتذكي الهجمة الدعائية أوارها.
حيث لم تعد مقتصرة على بعض الأقلام الآحادية المغرضة، بل تبنتها مراكز أبحاث ودراسات، وتلقفتها دوائر ومؤسسات في ظاهرة من التحامل المنظم، والتخطيط المبرم، مما يستدعي من الأمة وقفة جادة متأنية، لدراسة أبعاد هذه الحملة ومراميها وأهدافها، ووضع البرامج والآليات العملية لمواجهتها والتصدي لها، ومن هنا جاءت الحاجة الملحة، لتبني الأمة للمشروع الحضاري الإسلامي الذي ينبغي على كل ذي دين وغيرة أن يسهم بما يستطيع لدعمه وتشجيعه ولو بإعطاء صورة مشرقة عن الإسلام، في حسن تعامله وتصرفاته وضبط سلوكياته وأخلاقياته.(50/2)
بواعث طرح المشروع الحضاري(50/3)
التعدي على مقام الألوهية والرسالة
إخوة العقيدة: ولعل أهم بواعث طرح هذا المشروع الحضاري: تلك الحملات الموتورة التي تصوب سهامها ضد دين الأمة وقيمها، وثوابتها وبلادها، فتطاولت على مقام الربوبية والألوهية، ونالت من جناب صاحب الرسالة المصطفوية -بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم- وسخرت من الحدود الشرعية وطالبت بإلغائها، وهاجمت الحجاب وقضايا المرأة المسلمة، وحملت على مناهج التعليم الإسلامي، واتهمت المؤسسات الخيرية والإغاثية والإنسانية، وشوهت دورها الريادي الذي تقوم به عالمياً، وسلطت ألسنة حداداً وأبواقاً شداداً على بلاد الحرمين -حرسها الله- في أهم جوانب كيانها ومكونات وجودها، تشويهاً للحقائق وتضخيماً للهنات والشقاشق، وما ذاك إلا لأنها محضن الإسلام، ومأرز الإيمان، ومتنزل القرآن، ولها المكانة الكبرى والقدح المعلى في تبني قضايا المسلمين والدفاع عن حقوقهم.
والأدهى من ذلك الأساليب المنفرة التي تقوض دعائم السلام العالمي، وتخلخل ضمانات الأمن الدولي، وتسهم في إضعاف فرص التعايش بين الحضارات، وتدعم الصراع بين المؤسسات، وتغذي الإنسانية بالأحقاد، وتذكي لهجة الكراهية بين الشعوب، وتهز المصداقية والموضوعية في الطرح والرؤى، وتروج الأكاذيب والأراجيف والشنشنات الأخزمية، وكل ذلك لن يضير هذا الدين بحمد الله، بل لقد كان من أسباب الإقبال عليه والقراءة عنه.
كما أن هذه الافتراءات سوف تتحطم -بإذن الله- أمام صخرة تمسك الأمة بثوابتها، وتتلاشى أمام سدها المنيع، المتمثل في عدم اهتزاز قناعات الأمة بدينها، وتلاحم رعاتها ورعيتها في مرحلة حرجة، وفترة عصيبة، تتطلب بُعْد النظر، وتغليب منطق العقل والحكمة، والإرجاء لصغار المصالح لئلا تفوت كبارها، والأخذ بأدنى المفاسد حتى لا تحصل عظامها، فالدين والأمة، والمجتمع والبلاد مستهدفة في أعز مقوماتها.
ولذلك فإن تبني الأمة للمشروع الحضاري الإسلامي، يحقق الحفاظ على ثوابتها وعلى هويتها، ويوحد جهودها في مواجهة المخاطر، ويحفظها -بإذن الله- أن تستدرج لمعارك خاسرة، أو يستثار ويستفز بعض أبنائها في أنماط هامشية، تستجر الأمة من خلالها إلى ويلات من الفتن والمحن، وطوفان من الرزايا لا يعلم عواقبها إلا الله.
كما أن الحفاظ على جبهة الأمة الداخلية ووحدة صفها الأرضية الصلبة التي ينطلق منها هذا المشروع الحضاري، ليتفيء العالم ظلاله خيراً وعطاء وسعادة ونماء وأمناً وسلاماً وتسامحاً ووئاماً، في بعد عن غوائل الشرور والعنف والإرهاب، ومسالك الظلم والإفساد والإرعاب.(50/4)
توالي الحملات الغربية المغلفة
إخوة الإيمان: ومما يؤكد أنه قد آن الأوان لتبني الأمة لهذا المشروع الحضاري: أن تلك الحملات المغرضة تقدم للعالم بقالب آخاذ تغطيه أصباغ خادعة، ومكايد حضارية مصطنعة، لا يلبث قناعها أن يسقط؛ ليتبدى زيف الشعارات وترنح هذا الحضارات، فقدمت الحملات تحت شعار حقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب، ومن أجل الحرية والعدالة والمساواة والرخاء والانفتاح، وتخليص الإنسانية من الجمود والتخلف، والتقدم بها نحو حياة تسودها مقايس التحديث والتقدم والحضارة، في حرب مصطلحات خطيرة، يوشك أن تخدع ببهرجتها كثيراً من المنهزمين من أبناء هذه الأمة.
أمة الإسلام: لقد استهدفت هذه الحملات الدعائية القضاء على الوجه الإسلامي المتألق، وتشويه صورته الوضاءة، والهجوم على حضارتنا الإسلامية، وقيمنا الاجتماعية المحافظة، في عولمة مشبوهة تنفث سمومها لتفرض أنماطاً من الهيمنة الفكرية والأخلاقية على الأمة الإسلامية وتحمل أبعاداً عقدية خطيرة.
ومن الأسف أن ينبري بعض المخدوعين من أدعياء الفكر والثقافة، بأصوات بغبغاوية، ليستعدي -أصحاب هذه الحملات المغرضة- على أمته وتاريخه وبلاده في تشويه متعمد، وآخرون في تشويه غير متعمد؛ ممن يجهلون أو يتجاهلون حقيقة رسالة الإسلام الحضارية، فلا يحسن عرضه وتقديمه للعالم بجمالياته ومحاسنه وأخلاقياته ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينه.(50/5)
اقتراح المشروع الحضاري في الحوار مع الأمم
أمة الإسلام: إن سيبل المواجهة لهذه الحملات الإعلامية أضحى أمراً حتمياً على الغيورين، بعدما تبين خطورة الأمر وأبعاد المؤامرة، وأن القوم يعدون لأبعاد تآمرية على أمتنا الإسلامية، لا يمكن إغفالها أو تجاهلها، أوالاعتذار عنها وتبريرها، أو ظن أن التنازلات والاستجابة لشدة ضغوط هذه الحملات تستثني أصحابها عن تحقيق أحلامهم ضد هذه الأمة.
وإذا ما أخذنا شاهداً حياً على ذلك: فإن قضية المسلمين الكبرى، قضية فلسطين المسلمة المجاهدة، تأتي مثلاً ساخناً على الأطماع الدنيئة لأصحاب هذه الحملات الدعائية العدوانية، حيث صورت المقاومة الشرعية والانتفاضة الجهادية على أنها عمليات إرهابية.
واليوم يكاد أسفنا لا ينقضي ونحن نرى ونسمع ما يتحدى مشاعر أكثر من مليار وربع المليار من المسلمين ويمثل صدمة عنيفة لهم، وذلك بقرار خطير غير مسبوق يسلب مدينة القدس عروبتها وإسلاميتها، في تحدٍ للحقوق التاريخية والقرارات الدولية، مما يتطلب استنفاراً إسلامياً على كافة الأصعدة والمستويات؛ لمواجهة صهينة أولى القبلتين، ومسرى سيد الثقلين، صلى الله عليه وسلم أقر الله الأعين بفك أسره وتحريره.
ومن هنا: فإن تبني الأمة للمشروع الحضاري سوف يسهم بأفعال -لا بردود أفعال- إلى مواجهة مثل هذه الحملة وأبعادها بالأساليب الحضارية الهادفة إلى تثبيت هوية الأمة، وتفعيل دورها، من حيث كونها أمة الخيرية والرحمة والشهادة على العالمين، وإبراز دورها الحضاري، وحقها التاريخي ووجهها المشرق، وتصحيح الصور المغلوطة عن الإسلام وأهله، وتوعية الأمة بخطورة الحملة ضد دينها وثوابتها وبلادها ومقدساتها، والسعي في إصلاح أحوالها، وتفادي أزماتها لتقوية عقيدتها بربها، والتلاحم الصادق بين قياداتها وشعوبها، والمطالبة بتجاوز خلافتها الجانبية، ومعاركها الوهمية، والتوحد في وجه الطوفان الكاسح الذي يسعى لاجتياح الجميع، وأن يتم تنسيق الجهود بسد جميع الثغرات التي ينفذ منها المصطادون بالمياه العكرة، والحاجة ملحة لمقابلة الحملة بنفس وسائلها، وإلى وضع برنامج علمي إعلامي مدروس يتسم بحسن العرض، وأسلوب الخطاب، والمتمثل في قول الحق تبارك وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء:53] {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:12]، والحوار الحضاري للعالم بلغاته الحية، وتوضيح الحقائق أمامه، وبيان خطورة الحملات الظالمة، وما تجره من استعداء العالم، وإعلاء لهجة الحقد والكراهية والتميز، وما تجره من شقاء على الإنسانية.
والحق أن غياب الإعلام الإسلامي الهادف ومواكبة التطور التقاني، واستثمار القنوات الإعلامية الفضائية، والشبكات المعلوماتية الإلكترونية كان من أكبر العوائق لوصول الكلمة الرصينة، والحوار الهادف إلى العالم، فهل يعي رجال الإعلام والأعمال في الأمة، حقيقة دورهم ووجوب إسهامهم في هذا المشروع الحضاري، دفاعاً عن دينهم وأمتهم وبلادهم؟!
وهل يحسن علماء الشريعة ودعاة الإسلام عرض ما لديهم من حق وثوابت مرتبطاً بالمبادئ والغايات والمصالح والقيم والأخلاقيات والآداب والشرائع والجماليات في تنسيق للجهود، وسلامة للصدور، وبعد عن غوائل الشرور، ومراعاة للأولويات، وحسن تعامل مع المتغيرات المرتبطة بالوسائل والأساليب، حتى تقام الحجة، وتتضح المحجة، فالحق يعلو ولا يعلى عليه؟!
وفي طلعة البدر ما يغنك عن زحل: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ} [الرعد:17].
نفعني الله وإياكم بهدي كتابه، وبسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.(50/6)
معالم وركائز المشروع الحضاري
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، أحمدك ربي وأشكرك على إنعامك وإحسانك وتوفيك وامتنانك، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! فإنها خير شعار، وأفضل دثار، وبها النجاة من سخط الجبار، ودخول الجنة دار القرار، وعليكم بالجماعة؛ فهي طريق الأخيار، وحاذروا مسالك الأشرار والفجار.
أيها الإخوة في الله! من ملامح هذا المشروع الحضاري ومعالمه وركائزه؛ ليرسم طريق الخلاص للعالم من الواقع البئيس الذي يعيشه: أنه رباني عالمي، وسطي سلفي، أخلاقي إنساني حضاري، إيجابي شمولي واقعي، ترتبط الأصالة فيه بالمعاصرة، يلتزم المصداقية بلا تضخيم، والواقعية بلا انهزامية، والشفافية بلا تهريج.
الإنصاف رائده، والعدل حاديه، والتسامح أسلوبه وقالبه، يعمل على حشد الطاقات في الأمة لا على تحديدها، يسلك مسالك الإخلاص للخالق والرفق والرحمة بالمخلوقين، يتسم بالعقل والتسامح والحكمة، ويحاذر الصلف والعنف والتهور والشطط، وبذلك تحقق أمتنا الريادة الحضارية وتستعيد أمجادها التاريخية، وتتخلص من أزماتها الخانقة، وتصلح أوضاعها المتردية بإذن الله.
أيها الإخوة في الله: ولعل أولى الخطوات في ذلك: الرجوع إلى الذات، ومحاسبة النفس، والوقوف طويلاً للمراجعات، تصحيحاً في المعتقد، وسمواً في الخلق والسجايا، وسلامة في الاتباع، ومحاذرة للابتداع، ومعالجة لجوانب النقص التي دخلت على الأمة في عقيدتها ومنهجها، وأن تلتزم الأمة نور الوحيين ومنهج القرون المفضلة، وألا تجعل من أيام وليالٍ مخصوصة، مناسبات وعبادات لم يكن عليها سلف هذه الأمة رحمهم الله، كما يعتقده بعض الناس في شهر رجب وليلة السابع والعشرين منه.
يقول الإمام الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله: لم يصح في فضل شهر رجب ولا في ليلة معينة منه -لا ليلة سبع وعشرين ولا غيرها- حديث صحيح يصلح للحجة، ولو صح لم يجز تخصيصها بعبادة لم يكن عليها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ولو كان خيراً لسبقونا إليه.
وبمثله قال جمع من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن رجب، والشوكاني وآخرين.
فيا أمة محمد صلى الله عليه وسلم! إنها فرصة للحوار مع الذات، فهي البنية التحتية للحوار مع الآخر، وما لم تصلح الأمة ما بينها وبين ربها، وما لم تتصالح فئاتها وفعاليتها على الكتاب والسنة، لن تستطيع أن تتصالح مع الآخرين، فضلاً أن تقدم ذلك للعالم بأسره.
إن الصدق في الطرح، والجهر بالفكرة، والوضوح في الرؤية؛ من أهم سمات مشروع الأمة الحضاري، لكن لا يلزم من ذلك أن يكون ذلك بأسلوب التعصب والكراهية، ولهجة العنف والشدة، ولغة الحقد والتشنج، بل بأسلوب الرحمة والشفقة، والعدل حتى مع المخالف: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
إن الفرصة متاحة للأمة في طرح ما لديها من عقيدة وموروث حضاري للعالم بأسره، ولا يفت في عضدها كثرة الفتن والابتلاءات، وهي الطريق إلى المعالي والمكرمات، وإن في طيات المحن لمنح، وفي ثنايا البلايا والرزايا منناً وعطايا.
الله الله في العمل الجاد، والجهد الفاعل البَنَاء، ووضع آلياتٍ عملية ودراسات ومراكز أبحاث استراتيجية بعيدة المدى؛ لمواجهة هذه الحملات المغرضة، وكان الله في عون العاملين المخلصين لدينهم وأمتهم، ومجتمعهم وبلادهم، إنه جواد كريم {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الرحمة المهداة والنعمة المسداة نبيكم محمد بن عبد الله؛ فقد أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن آله الأطهار، وصحابته الأبرار، المهاجرين منهم والأنصار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمرنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن له على الحق معيناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم اجعل لنا وللمسلمين من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ومن كل بلاء عافية.
اللهم يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! نسألك أن تنصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان، اللهم احفظ المسجد الأقصى من الصهاينة المعتدين، اللهم احفظ المسجد الأقصى من الصهاينة الغاشمين، اللهم أخرجهم منه أذلة صاغرين يا ذا الجلال والإكرام!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للدين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين برحمتك يا أرحم الراحمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المسلمين، والحمد لله رب العالمين.(50/7)
الدعوة إلى الله
أرسل الله رسوله داعياً إليه؛ فكانت هذه الدعوة خلاصة رسالات الرسل.
وعلى طريق الرسول في الدعوة سار أتباعه بدءاً بالصحابة الكرام، ثم العلماء العاملين في مختلف العصور.
ولحملة الدعوة نقوش خالدة على جدار الزمن، ولهم أياد بيضاء لا تطمسها الأحداث والفتن.
وفي هذه المادة بيان لآثار هؤلاء ومآثرهم، وتوضيح لإشكاليات الدعوة في العصر الحديث، ووسائلها المستحدثة.
مع بعض المقترحات لتحصين فكر الأمة وعقيدتها وأخلاقها.
وفي ختام هذه الخطبة نبذة عن أحوال المسلمين في العالم، وجهودهم الدعوية، وصور من معاناة المضطهدين منهم.(51/1)
مكانة الدعوة في الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، نحمدك ربي وأنت أهل الحمد والجود والثناء، ونشكرك وأنت ذو الفضل والمن والعطاء، ونستعينك وأنت مُسْدِي النعماء، ومُسْبِغ الآلاء، ودافع البلاء، ونستغفرك ونتوب إليك وأنت الغفور لكل خَطَّاء، والسِتِّير على كل مَن أساء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ذو العز والعظمة والكبرياء، رفع شأن الدعاة والعلماء، وأعلى قدرَهم حتى وصلوا ذرى العلياء، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، إمام الحنفاء، وسيد الأصفياء، وأفضل الدعاة، وأشرف الأتقياء، صلى الله عليه وعلى آله الشرفاء، وصحبه النجباء، الذين أشادوا بدعوتهم صروح الحضارة والمجد والبناء, والتابعين ومَن تبعهم بإحسان ما دامت الأرض والسماء، وسلَّم تسليماًَ كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فإنها خير الزاد، وأعظم الوسائل لرضا رب العباد، وتطهير القلوب من الفساد، وبها النجاة يوم التناد، والفوز يوم المعاد.(51/2)
حاجة الدعوة إلى القوى الكامنة
أيها المسلمون: أرأيتم إلى القوى الكامنة في الجهاز المحرك لأي آلة سريعة معاصرة، كيف تدفع بها إلى أن تحَلِّق في آفاق السماء، وتجوب أجواء الفضاء؛ لتقطع المسافات الشاسعة لبرهة يسيرة؟! وأنه بحسب قوة دفع المحرك أو ضعفه تظهر آثار السير أو تتبين مواطن الخلل!
إذا كان هذا في المعايير المادية، فإن الأمور المعنوية هي الأخرى كذلك بحاجة إلى قوىً كامنةٍ، تدفع بعجلة محرك الخير في الأفراد، وتشعل فتيله في المجتمعات؛ لتتفيء الأمة ظلال الأمن الوارف، ودوحة الإيمان البهية، وتجني ثمار الدعوة يانعةً شهية، لما تمثله الدعوة إلى الله من مادة حياة القلوب، وصلاح الأفراد والشعوب، وأمن وسلامة الأمة، ونسيم رَوحها، وقوة رُوحها، وسبب خيرها وسعادتها في الدنيا والآخرة.(51/3)
الدعوة خلاصة رسالة الإسلام
إخوة العقيدة: لقد أرسل الله رسله مبشرين ومنذرين، وختمهم بأشرف الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، بعثه بالهدى ودين الحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أرسله رحمة للعالمين، وقدوة للعاملين، ومناراً للسالكين، وحُجة على الخلق أجمعين، به أتم الله النعمة، وكمُلت به على الأمة المنة، واستبانت معالم الملة، فقامت به الحجة، ووضُحت به المحجة، دعا إلى الله على بصيرة، وجعل هذا نهجه ونهج أتباعه من بعده، كما قال سبحانه: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [يوسف:108].
لقد أوضحت هذه الآية العظمية أن رسالة المصطفى صلى الله عليه وسلم تتلخص بكلمة واحدة هي: الدعوة.(51/4)
قيام العلماء والدعاة بواجب الدعوة إلى الله
معاشر المسلمين! لقد كان منهجه صلى الله عليه وسلم في دعوته أعظم منهج وأكمله، وهديه فيها أتم هدي وأفضله، أولى جانب توحيد الله الاهتمام البالغ، وتحلى بالرفق والصبر والأناة والحكمة، فأثمرت دعوتُه رحمة بالأمة، ودخولاً لها في دين الله، ورفعة لكلمة الله، ومحبة وسلاماً ووئاماً بين عباد الله، وشهد العالم بحسن دعوته عليه الصلاة والسلام، حضارة إسلامية عالمية عريقة، لم يشهد التاريخ لها مثيلاًَ.
وسار على منهجه في دعوته صحابته الكرام، عليهم من الله الرحمة والرضوان، والتابعون لهم بإحسان؛ فحفظ الله بهم الدين، فكانوا نِعْم الرجال المخلصين، والعلماء العاملين، وأصبحوا أسود الوغى وليوث العرين.
رهبان ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعُه في الخد أجراهُ!
وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هَبُّوا إلى الموت يستجدون رؤياهُ
وهكذا العلماء والدعاة في كل زمان وحين.
هم الأئمة الأعلام، وبدور النور والتمام.
الأمة بهم تهتدي، والناس بحسن دعوتهم تقتدي.
هم الأقطاب الذين تدور عليهم معارك الأمة، والأنوار التي تنجلي بها غياهب الظلمة.
هم نجوم الأمة اللامعة، وشموسها الساطعة.
بالعلماء العاملين، والدعاة الصادقين يُحفظ دين الأمة، وتُشاد معالم الملة، وتُرفع راية السنة، وتُصان عزة الأمة وكرامتها.
هم السياج المتين، والدرع المكين، والحصن الحصين، الذي يحول بين الدين وأعدائه المتربصين.
وهم النور المبين، الذي تستنير به الأمة عند اشتباه الحق وخفائه.
هم ورثة الأنبياء في أممهم، وأمناؤهم على دينهم.
عليهم أُخذ العهد والميثاق لتبليغ ميراث النبوة.
وهم شهداء الله في أرضه، والحماة لدينه وشرعه.
ينفون عن دين الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
فليس في الأمة مثل العلماء الربانيين، والدعاة الصادقين، نَصَحَةً ومخلصين.
يعلِّمون دين الله، ويرشدون عباد الله، ويقودون الأمة إلى شاطئ الأمان وبر السلام.
فكم تعبوا والناس مستريحون؟!
وكم دأبوا والناس غافلون؟!
وكم نفع الله بهم البلاد وأصلح بهم العباد؟!
يحثون الأمة على الخير والرشاد، ويحذرونها من أسباب الشر والفساد.
يدينون بالولاء، والنصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.
يؤلفون القلوب، ويصدون عن الأمة الغارات والخطوب.
فهم صِمام الأمان في المجتمع حقاً، وأهل الخير في الأمة صدقاًَ.
فحقٌ على الأمة معرفة فضلهم ومكانتهم وسبقهم، والقيام بتقديرهم وتكريمهم، وحقٌ عليهم أن يسلكوا المسار الصحيح في الدعوة، ويبذلوا جهودهم للنهوض بمستواها، والجد في دعوة الناس إلى ظلها وحماها.(51/5)
صفات دعاة الإسلام
إخوة الإيمان! ولم تزل الدعوة الإسلامية عبر القرون تسير في حفظ من الله ومَنَعَة، شامخة وضاءة، تضيء الطريق للسالكين، وتنشر النور والخير للخلق أجمعين.
يحمل لواءها جهابذة علماء، ودعاة صلحاء:
- قد ارتوَوا من نمير الوحيَين.
- أخلصوا لله فخَلصَت دعوتهم إلى قلوب عباد الله.
- دعوا إلى الله بعلم وبصيرة مستنيرين بالنصوص النقلية، ومستهدين بالقواعد الفقهية، والمقاصد الشرعية.
- يدعون إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة.
- يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر بالأساليب الشرعية.
- يدرءون المفاسد، ويجلبون المصالح.
- ويردُّون عن الأمة عاديات الفتن، وأمواج المحن.
- يتمسكون بالثوابت، ويحسنون التعامل مع المتغيرات.
- ويستلهمون الضوابط الشرعية في ترتيب الأولويات.
- يَلْزَمون العقل في أقوالهم وأفعالهم، والرشد في تصرفاتهم وأحوالهم.
- يبدءون بالأهم فالمهم، ويأخذون بالأصلح فالأصلح، مستهدين بمنهج القرآن والسنة في ذلك.(51/6)
الدعوة في القرآن والسنة
قال سبحانه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
ويقول عزَّ وجلَّ: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: قال الحسن البصري لما تلا هذه الآية: هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال: إنني من المسلمين، هذا خليفة الله.
ويقول صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند مسلم وغيره: {مَن دعا إلى هدىً كان له مِن الأجر مثل أجور مَن تبعه، لا ينقص ذلك مِن أجورهم شيئاً}.
ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {بلغوا عني ولو آية}.
وفي الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث علياً يوم خيبر، وأمره بالدعوة إلى الإسلام، ثم قال: {فوالله لأَن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
الله أكبر! يا له من فضل عظيم قد فرط فيه كثير من المسلمين ممن غفلوا عن أداء واجبهم في الدعوة إلى الله التي هي رسالة المجتمع الإسلامي بعامة، مما يتطلب نوايا مخلصة، وعزائم دائبة، ومساعي حثيثة، ووسائل قويمة مبنية على العلم النافع، والعمل الصالح، والأسلوب الأمثل، مؤسسة على الإخلاص لله، والتجرد من التحزب المقيت، والتعصب المذموم.(51/7)
الدعوة في العصر الحديث
أمة الإسلام، ولم تكن الحاجة إلى الدعوة بل الضرورة إليها ماسة في عصر من العصور، كهذا العصر الذي يشهد الصراع بين الحق والباطل على أشده.
فقد بلغ دعاةُ الباطل ما لم يبلغوه في أي عصر مضى، واستخدموا من الوسائل ما يفطِّر قلوب أهل الحق، وتشيب منه نواصيهم، ولا يزال كثير من أهل الخير والحق في انشغال عن قضاياهم الأساسية، وإغراق في جزئيات وأمور هامشية، ولهذا ظهروا أمام غيرهم في شكل باهت داكن ومظهَر شاحب مرباد، شوهته الخلافات في عصر اتسم بالانفتاح والعولمة، وخطا دعاةُ الباطل إلى استثمار وسائل الاتصال الحديثة، كالقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية، في نشر باطلهم، في موجات من الغزو المركز الذي يتطلب حصانة قوية، ووعياً عميقاً، كما يتطلب ضرورة استثمار هذه الوسائل في الدعوة الإسلامية؛ لأنها تعد الأكثر انتشاراً، والأبلغ رواجاً وتأثيراً.
والمتأمل في واقع الدعوة يجد أن هناك ظروفاً تغيرت، وأحوالاً تبدلت، ووسائل استجدت، ولا بد من أخذ زمام المبادرة لشغلها بالحق، بدل أن تُشغل بالباطل.
ماذا جنى المسلمون لما قصروا في المبادرات العملية في شَغل هذه الوسائل الحديثة؟! لقد ابتدرها أهل الأهواء والشهوات، فضلوا وأضلوا.
إنه بالنظر إلى واقع التقانات الحديثة يرجع الغيور بالأسى وهو يرى الباطل يرفع عقيرته دونما خوف من الله ولا خجل من عباد الله.(51/8)
الدعوة عبر الإنترنت
خذوا على سبيل المثال: وسيلة من الوسائل المعاصرة، لم تحظَ وسيلة من وسائل نشر المعلومات ما نالته هذه الوسيلة تلكم هي: ما يعرف بـ (جهاز الإنترنت).
ولكم أن تتصوروا أن الذين يستخدمونه في العالم بلغ ما يقرب من مائتي مليون نسمة، لما يتصف به من مزايا اللازمان واللامكان، مع التفاعلية والمجانية أو شبه المجانية، مع تنوع الاستخدامات، وسهولة الاستعمالات.
والسؤال الذي يطرح نفسه: أليست هذه فرصة سانحة للدعاة إلى الله الذين يهمهم أمر هذا الدين؛ ليثبتوا للبشرية عالميتنا الحقة ورسالتنا السمحة؟!
ويا لها من أمانة ومسئولية! وإن الغيور ليتساءل: ما مدى استفادة مؤسساتنا الدعوية من تِقانة الشبكات المعلوماتية، التي تشق طريقها إلى الاستمرار والتضخم، شئنا أم أبينا في ظل ما يسمى بـ (ثورة التقانات وتفجر المعلومات)؟!
إن على الأمة الإسلامية ألا تقف موقف المتفرج، وإنما يجب عليها الدخول إلى حلبة السباق لتنافس في هذا المضمار، وأن تأخذ بزمام المبادرة في نشر الحق الذي معها، وإذا كان العالم الغربي ينافس في نشر عولمة مفضوحة، فإن عالميتنا الحقة أولى أن تؤثّر ولا تتأثر، وتقدم ولا تحجم، وتصدِّر ولا تستورد، وتنافس ولا تقلد، فالخطر في تزايد، والشرور في تكاثر، والسنن لا تتغير، والمستجدات لا تتمهل، والثقافات الوافدة والمناهج المستوردة تهدد الأمة في عقيدتها وقيمها، ويزداد الأمر خطورة حينما يتراجع أهل الحق عن الميدان، فيشغله أولياء الشيطان.
فإلى المهتمين بشئون الدعوة الإسلامية، وإلى رجال المال والأعمال والإعلام: الله الله في الاضطلاع بهذا الدور المهم! فالدعوة مسئولية المسلمين جميعاً، كل في مجاله، وعلى حسب قدرته ومكانته، فكل على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قبله.
كما أنه لا بد من التنسيق في ذلك بين المواقع الإسلامية، وأن تكون تحت إشراف هيئات علمية معتبرة، ومرجعية شرعية موثوقة، ومظلة دعوية مأمونة، حتى لا تنساق الأعمال الإسلامية وراء أخبار ملفقة، أو شائعات مغرضة، تبعث عليها عواطف مجردة، بعيداً عن التأصيل الصحيح، والمنهجية المدروسة.
ألا ما أحوج البشرية اليوم إلى أن تتفيء ظلال هذا الدين القويم، وتسخر كافة الإمكانات ووسائل العصر لهذا الهدف النبيل، بعد أن سئمت حياة الماديات، وملت بريق الشعارات، مما يتطلب الجد في مجال العمل للإسلام، والنهوض بمستوى الدعوة الإسلامية، وتنسيق الجهود بين العاملين، والحذر من الفرقة والخلاف، التي لا يستفيد منها إلا العدو المتربص.
إن هناك فرصاً عظيمة يؤسف كل غيور على أوضاع أمته أن تفرط الأمة في استثمارها، فالأرض خصبة جداً، والناس متعطشون، والفرص مواتية، وإن القضية ترجع إلى حاجة الأمة اليوم إلى وضع خطط سليمة، ومنهجية صحيحة، تخرج دعاة على مستوى العصر الذي يعيشونه لنثبت للعالم صدق توجهاتنا، ونبل مقاصدنا، بعد أن شُوِّه الإسلام من طرفَي الإفراط والتفريط، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه.
أيعجز كل مسلم أن يقدم شيئاً ولو يسيراً في الدعوة إلى الله؟! فتكلفة أيسر رسالة تعريفية بالإسلام ومحاسنه والدعوة إليه أقل من دولار واحد، قناة إذاعية تبث القرآن والسنة والدعوة بمبلغ ليس بالكثير على نشر دين الله.
فاحرص أخي المسلم على المشاركة في الدعوة إلى دينك القويم، والإسهام في الدعوة إليه، عن طريق الجهات الموثوقة، والهيئات المأمونة عقيدةً ومنهجاً وسلوكاً.
أما الحلم الذي يراود كل غيور فهو تلك القناة الإسلامية العالمية، التي لم تَعْقَم بإذن الله أرحامُ أمهات أهل الإسلام فيمن يتبناها، ويقر عيون المسلمين ويثلج صدورهم بإيجادها وإنشائها في ظل هذا الزخم المسف من الفضائيات المأفونة التي تعلو فيها الرذائل وتُوأد فيها الفضائل.
فأين الحمية الدينية؟! وأين الغيرة الإسلامية؟!
أما لله والإسلام حقٌ يدافع عنه شُبان وشيبُ؟!
فقل لذوي البصائر حيث كانوا أجيبوا الله ويحكمُ أجيبوا(51/9)
كيفية تحصين الأمة في شتى المجالات
فيا دعاة الإسلام! من أجل براءة الذمة، ونُصح الأمة، وحتى تندفع الفتن، وتزول المحن، وتسلم الأمة في دينها، وتتحصن في عقيدتها وفكرها، وأخلاقها وسلوكها: لا بد من القيام بالتالي:
- بمهمة الدعوة إلى الله على نهج الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة.
- والتلاحم مع العلماء الربانيين، والدعاة الصادقين، ذوي الأقدام الراسخة، والعقول الراجحة، والنفس الطويل.
- وعدم الانخداع بكل ما يُشاع، والانسياق وراء كل ما يُذاع.
- والتركيز على العقيدة والعلم.
- وإرشاد الناس إلى ما يفيدهم في أمر دينهم ودنياهم.
- والحرص على جمع القلوب، وسلامة الصدور.
- والسعي إلى الاعتصام والائتلاف.
- والبُعد عن الشقاق والخلاف.
وهذا والله عين الشفقة والمحبة والنصيحة للأمة جميعاً؛ حتى تسلم الأمة من الفرقة والشقاق، وتشق الدعوة طريقها بأمن وأمان، وتُصان الدعوة الإسلامية وأهلها من كيد الكائدين، وتآمر الأعداء المتربصين: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان عفواً غفوراًً.(51/10)
المسلمون في العالم بين الجهود الدعوية والمعاناة
الحمد لله الذي تفرد بكل كمال، واختص بأبهى جمال، وأعظم جلال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكبير المتعال، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المبعوث بكريم السجايا وشريف الخصال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله.
واعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
إخوة الإسلام! إن المسلم يتفاءل كثيراً بأن المستقبل للإسلام، كما قال سبحانه: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47].
وكما أخبر المصطفى صلى الله عليه وسلم وبشر: {ليبلغن هذا الدين ما بلغ الليل والنهار}.
غير أن الواجب على الأمة الإسلامية أن يكون لها مزيد الاهتمام، وبذل جهود أكثر في خدمة الدعوة الإسلامية.
أيها الإخوة في الله! إن لكم في بلاد العالم ولا سيما في العالم الغربي إخوة في العقيدة، يقومون بأعمال دعوية مباركة، عن طريق المراكز الإسلامية، والمؤسسات والجمعيات الخيرية، والصروح العلمية والحضارية، وهم بأمسِّ الحاجة إلى أن يتعرف المسلمون على أعمالهم الطيبة، ويطَّلعوا على مناشطهم الخيرة، ويسهموا معهم بما يحتاجون من دعم ومؤازرة مادياً ومعنوياً.
كما أن لكم إخوة في الدين، في بلاد مرت بهم محن ورزايا، وحروب وبلايا، يحتاجون إلى جهود إعمارية وإغاثية، ودعوية وتعليمية، وأخص بذلك بلاد البوسنة والهرسك المسلمة الصامدة المجاهدة، وليس الخبر كالمعاينة.
فلا تنسوهم وفقكم الله من دعمكم ودعائكم، وسائر إخوانكم المضطهدين في دينهم في كل مكان.
ألا وإن من التحدث بنعم الله والعمل بقوله صلى الله عليه وسلم: {لا يشكر الله مَن لا يشكر الناس} أخرجه أبو داود والترمذي.
فالشكر بعد شكر الله عزَّ وجلَّ لكل من جعل الدعوة قضيته، ونصرة دين الله همه ومهمته، ممن يبذلون الجهد المشكور، والعمل المذكور، وعند أهل الإنصاف غير منكور، من الجنود المغمورين، من أهل الخير والدعوة والإصلاح، ممن آثروا العمل بصمت ابتغاء ما عند الله.
ولا يُنسى الدور الفاعل لبلاد الحرمين الشريفين حرسها الله في هذا المضمار، فلا تكاد توجد دولة من دول العالم إلا ولها فيها مركز أو مسجد أو صرح علمي أو حضاري أو إسهام دعوي أو خيري أو إغاثي، جعله الله خالصاً لوجهه الكريم، وضاعف مثوبتها، وزادها من الخير والتوفيق بمنه وكرمه.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والحبيب المرتضى، كما أمركم بالصلاة والسلام عليه ربكم جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا.
اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم يا سميع الدعاء.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، والأمراض والأوبئة يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم انصر إخواننا المسلمين والمضطهدين في دينهم في كل مكان.
اللهم انصرهم في كل مكان يا قوي يا عزيز.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(51/11)
الصلاة عماد الدين
إن الله سبحانه وتعالى جعل لكل أمة خصائص وشعائر، وإن من شعائر هذه الأمة الصلاة التي هي عماد الدين ولبه، ففيها يصلح عمل العبد كله في الدنيا والآخرة، وبها يفسد؛ وبها يفرج الله الهموم ويقضي الديون عن كل عبد، وبها يضيع الله العبد وينساه ولا يبالي به في أي واد هلك؛ فلذلك يجب علينا أن نحافظ عليها في أوقاتها بشروطها وواجباتها وأركانها وخشوعها وخضوعها حتى تقبل عند الله سبحانه.(52/1)
مكانة الصلاة في الإسلام
إن الحمد لله، نحمدك ربي ونستعينك ونستغفرك ونتوب إليك، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، سبحانك ربنا! لك الحمد والشكر والثناء، جعلت الصلاة عماد الدين، وعصام اليقين، وسلوى الطائعين، وقرة عيون المؤمنين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، أفضل البرية، وسيد البشرية، إمام المتقين، وقدوة المصلين الخاشعين، اللهم صلِّ وسلم وبارك على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، ومَن دعا بدعوته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
أما بعد:
فيا أيها المسلمون! اتقوا الله ربكم رب العالمين، وكونوا بدينكم مستمسكين، وعلى عموده محافظين، وفيه خاشعين خاضعين، تسْلُكوا سبيل المفلحين، وهذا وايم الله غاية العاملين.
معاشر المسلمين: يحتاج الإنسان في خضم مشاغل الحياة الدنيوية، وما تفرزه الحضارة المادية من مشكلات نفسية، وتوتراتٍ عصبية، يحتاج حاجةً مُلِحَّةً إلى ما ينفِّس عن مشاعره، ويخفِّف من لأوائه ومصائبه، ويبعث في نفسه الطمأنينة القلبية، والراحة النفسية، بعيداً عن العُقَد والاكتئاب، والقلق والاضطراب، وهيهات أن يجد الإنسان ذلك إلا في ظل الإسلام وعباداته العظيمة، التي تمثل دواءً روحياً ناجعاً لا نظير له في الأدوية المادية.
إخوة الإيمان! تَحُلُّ بالأمة حوادث وبلايا، وتُصاب بكوارث ورزايا تشغلها عن قضاياها الأصلية وثوابتها الشرعية، وتمر بالأمة المناسبات والمواسم، فتأخذ حقها من التذكير والاهتمام؛ غير أن حديث المناسبة وكل مناسبة موسمٌ عظيم، ومنهل عذبٌ كريم، يتكرر كل يومٍ خمس مرات، وكثيرٌ من الناس في غفلة عن تحقيق آثاره، والتنويه بمكانته وأسراره، والعناية بحِكَمِه وأحكامه.
يقول صلى الله عليه وسلم: {أرأيتم لو أن نهراً غمراً بباب أحدكم يغتسل منه كل يومٍ خمس مرات! هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيء، قال: فذلك مَثَل الصلوات الخمس، يمحو الله بهن الخطايا} متفق عليه.
معشر المسلمين! إنه نتيجة لارتماء كثيرٍ من الناس في أحضان الدنيا، والتنافس في جمع حطامها، وانشغال القلوب والهمم بها، ونسيان الدار الحقيقية، والغفلة عن العمل لها في هذه الدوامة؛ تناسى بعضُهم مكانة هذه العبادة العظيمة، فلم يبالوا بها، ولم يكترثوا بإقامتها، وصَدَقَ فيهم قول الحق تبارك وتعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيَّاً} [مريم:59].
وصنفٌ آخر يؤديها؛ ولكن مع الوقوع في الزلل والاستمرار في الخلل، يصلُّون؛ ولكن لا تُرى آثار الصلاة عليهم، لا يتأدبون بآدابها، ولا يلتزمون بأركانها وواجباتها، صلاتهم صورية عادية؛ لإخلالهم بلُبِّها وروحها وخشوعها، يصلُّون جسداً بلا روح، وبدناً بلا قلب، وحركاتٍ بلا مشاعر وأحاسيس، صلاتهم مرتعٌ للوساوس والهواجس، يأتي الشيطانُ أحدَهم وهو في صلاته فيجعله يصول ويجول بفِكره في مجالات الدنيا، يتحرك ويتشاغل، يستطيل ويتثاقل، ويلتفت بقلبه وبصره إلى حيث يريد، فينفتل من صلاته ولم يعقل منها شيئاً، بل لعل بعضَهم لا يعقل منها إلا قليلاً.
ثم لا تسأل عن الأحوال، وسيء الفعال، وقبيح الخصال بعد الصلاة؛ فحشٌ في القول، وإساءةٌ في الفعل، وأكلٌ للحرام، وتعسفٌ في الأخلاق، واجتراحٌ للسيئات، وإصرارٌ على المعاصي والمنكرات، وربما تساءل بعضهم: ألم يقل الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]؟! فأين نحن من هذه الآية؟!
فنحن نؤدي الصلاة؛ ولكن لا أثر لها في حياتنا، ولا ثمرة لها في واقعنا، وتغيير أحوالنا، وتحسن مناهجنا، وصلاح سائر جوانب حياتنا!
إخوة العقيدة! إن الصلاة التي يريدها الإسلام هي التي تمثِّل المعراج الروحي للمؤمن؛ حيث تعرج به روحه كلما قام مصلياً في فريضةٍ أو نافلة، منتقلة من عالم المادة إلى عالم السمو والصفاء والطهر والنقاء، وفي ذلك مصدر السعادة والسرور، ومبعث الطمأنينة والحُبور، وكان ذلك ديدن الأنبياء جميعاً عليهم صلوات الله وسلامه، وهكذا كان الحبيب المصطفى القدوة عليه الصلاة والسلام: {إذا حزبه أمرٌ فزع إلى الصلاة} خرَّجه الإمام أحمد وأبو داود من حديث حذيفة رضي الله عنه.(52/2)
فضل الصلاة والمحافظة عليها
معاشر المسلمين! الصلاة غذاء القلوب، وزاد الأرواح، مناجاةٌ ودعاء، خضوعٌ وثناء، تذللٌ وبكاء، وتوسلٌ ورجاء، واعتصامٌ والتجاء، وتواضعٌ لكبرياء الله، وخضوعٌ لعظمته، وانطراحٌ بين يديه، وانكسارٌ وافتقارٌ إليه، تذللٌ وعبودية، تقربٌ وخشوع لجناب الربوبية والألوهية، إنها ملجأ المسلم، وملاذ المؤمن، فيها يجد البلسم الشافي، والدواء الكافي، والغذاء الوافي، إنها خير عُدةٍ وسلاح، وأفضل جُنة وكفاح، وأعظم وسيلة للصلاح والفلاح والنجاح، تُنشئ في النفوس وتُذْكي في الضمائر قوةً روحيةً، وإيماناً راسخاً، ويقيناً عميقاً، ونوراً يبدد ظلمات الفتن، ويقاوم أعتى المغريات والمحن، وكم فيها من الأسرار والحكم والمقاصد والغايات التي لا يعقلها كثيرٌ ممن يؤديها! فما أعظم الأجر، وأوفر الحظ لِمَن أداها على الوجه الشرعي!
أخرج الإمام أبو داود في سننه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {خمس صلواتٍ افترضهن الله عز وجل، مَن أحسن وضوءهن، وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وخشوعهن كان على الله عهدٌ أن يغفر له}.
إخوة الإسلام! لا يخفى على كل مسلمٍ بحمد الله مكانة الصلاة في دين الله، ومنزلتها في شرع الله، فهي عمود الإسلام، والفاصل بين الكفر والإيمان، وإذا كان الأمر بهذه الأهمية والخطورة؛ فإن الذي يحز في النفس ويؤلم القلب أنه لا يزال في عداد المنتسبين للإسلام من لا يرفع رأساً بها، فما بال أقوامٍ يعيشون بين ظهرانَي المسلمين قد خف ميزان الصلاة عندهم، وطاش معيارها، بل لربما تعدى الأمر إلى ما هو أفظع من ذلك، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فهل ينتهون قبل أن يحل بهم سخط الله؟ وتعاجلهم المنية وهم على هذه الحال السيئة؟!
أيها الإخوة المصلون! لِتَهْنِكُم الصلاة! ويا بشرى لكم يا من شرح الله صدوركم بهذه الفريضة العظيمة! وهنيئاً لكم ثواب الله وفضله العاجل والآجل لقيامكم بهذا الواجب الشرعي العظيم!(52/3)
الخشوع في الصلاة
يا أيها المصلون! لتعلموا أن للصلاة المقبولة شروطاً وأركاناً، وواجباتٍ وآداباً، لابد من الوفاء بها، كما أن هناك مسائل مهمة، وأخطاءً شائعةً في هذه الفريضة، يحتاج المصلون إلى معرفتها، وقد ورد عند أحمد وغيره: {إن أسوأ الناس سرقة: الذي يسرق من صلاته، وذلك بعدم تمام ركوعها وسجودها وخشوعها} كما ورد عن أحمد وأبي داود والنسائي: {إن المصلي لينصرف من صلاته وما كُتِب له إلا ربعها أو خمسها حتى بلغ عشرها} وهذا يدعو المسلم المصلي إلى أن يتنبه لشأن صلاته؛ حتى لا يخسر الثواب، ويبوء بالعقاب، متعهداً طهارتها وشروطها وأركانها وواجباتها، مجتهداً في الخشوع فيها، فهو لُبُّها وروحها.(52/4)
الخشوع في الصلاة عند السلف
أمة الإسلام! لقد مدح الله المؤمنين وأثنى عليهم ووصفهم بالخشوع له في أجلِّ عباداتهم، ورتب على ذلك الفوز والفلاح، فقال جل وعلا: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2].
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح.
وقال ابن رجب: وأصل الخشوع: لين القلب ورقته وسكونه وخضوعه وانكساره وحُرْقته، فإذا خشع القلب تبعه خشوع جميع الجوارح؛ لأنها تابعة له.
وقد رأى بعض السلف رجلاً يعبث بيده في الصلاة فقال: [[لو خشع قلب هذا لخشعت جوارحه]] رُوِي ذلك عن حذيفة وسعيد بن المسيب، ويُرْوَى مرفوعاً لكن بإسنادٍ لا يصح.
وفي معنى الخشوع في الصلاة يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[هو الخشوع في القلب وأن تُلِيْنَ كنفك للمرء المسلم، وأن لا تلتفت في صلاتك يميناً ولا شمالاً]].
وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:2] قال: [[خائفون ساكنون]].
وعن الحسن رحمه الله قال: [[كان الخشوع في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا الجناح]].
وقال ابن سيرين: [[كانوا يغضون أبصارهم إلى موضع سجودهم]].
وحُكِي أن مسلم بن يسار أنه كان يصلي في مسجد البصرة، فسقط حائط المسجد، ففزع أهل السوق لهدته، فما التَفَتَ، ولما هُنِّئ بسلامته عَجِبَ وقال: ما شعرتُ به.
الله أكبر! هذا هو منهج السلف الصالح رحمهم الله، الذين كانت قلوبهم تستشعر رهبة الموقف في الصلاة بين يدي الله، فتسكن وتخشع، فيسري الخشوع منها إلى جميع الجوارح، وكل الحركات والملامح، ويغشى أرواحهم جلال الله وعظمته، وهم يقفون بين يديه، فتختفي من أذهانهم جميع الشواغل عندما يشتغلون بلذيذ المناجاة للجبار جل جلاله، ويتوارَى عن حسهم في تلك الحالة كلُّ ما حولهم، فيتطهر وجدانهم من كل دنس، وينفضون عنهم كل شائبة، وعندئذٍ تتضاءل الماديات، وتتلاشى جميع الدنيويات، وحينئذٍ تكون الصلاة راحةً قلبيةً وطمأنينةً نفسيةً وقرة عين حقيقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي عن أنس رضي الله عنه: {وجُعِلَت قرة عيني في الصلاة}.
وفي المسند وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {قُمْ يا بلال! فأرحنا بالصلاة} رواه أحمد وأبو داود.
الله أكبر! إنها الراحة الدائمة للنفوس المطمئنة؛ لكي تشعر من خلال أدائها أنها تناجي من بيده ملكوت كل شيء.
وأن المصلي حينما يكبر ويرفع يديه؛ إنما هو تعظيم لله.
وإذا وضع اليمنى على اليسرى؛ فهو ذل بين يدي مولاه، كما قال الإمام أحمد رحمه الله: هو ذلٌّ بين يدي عزيز.
وإذا ركع؛ فهو إقرار بعظمة الله.
وإذا سجد؛ فهو تواضعٌ أمام علوِّ الله، وهكذا يكون المسلم في صلاته يوثق الصلة بمولاه؛ ليفوز بوعد الله الذي لا يخلف الميعاد.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه: عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما من امرئ مسلم تحضره صلاةٌ مكتوبة، فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها؛ إلا كانت كفارةً لما قبلها من الذنوب ما لم تؤتَ كبيرة، وذلك الدهر كله}.(52/5)
ذهاب الخشوع من صلاة الناس
أيها الإخوة المصلُّون! إن المصلي حقاً من يقيم الصلاة كاملة الفرائض والأركان، مستوفية الشروط والواجبات والآداب، يستغرق فيها القلب، ويتفاعل من خلالها الوجدان، ويحافظ عليها محافظةً تامةً قدر الطاقة، يبعثه على ذلك قلبٌ يقظ، وشعور صادق، وإحساس مرهف، وضمير حي، فينصرف بكليته إلى الصلاة؛ لأن الخشوع فيها إنما يحصُل لمن فرَّغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، ومنزلة الخشوع من الصلاة كمنزلة الرأس من الجسد، فالذي يجعل الصلاة مرتعاً للتفكير في أمور دنياه، ومحلاً للهواجس في مشاغله قلبه في كل واد، وهمه في كل مكان، يختلس الشيطان من صلاته بكثرة التفاته، وعبثه بملابسه ويده ورجله وجوارحه، وربما أخل بطمأنينيتها، ولم يعِ ما قرأ فيها، فيُخْشى أن ترد عليه صلاته، فقد ورد عند الطبراني وغيره أن صلاةَ مَن هذه حالُه: {تُلَفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ الخلِق، ثم يُرْمَى بها وجه صاحبها} والعياذ بالله.
أمة الإسلام! إنه لما طال بالناس الأمد، وقست قلوبهم، وأساءوا فهم شعائر الإسلام، أصبَحْتَ ترى مَن يخل ببعض شروط الصلاة وأركانها وواجباتها، فلم تعمل الصلاة عمَلَها في قلوب الناس، ولم تؤثر في حياتهم، فهل مَن يؤديها ولكن لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ولا تمنعه مما يخدش العقيدة أو يخالف السنة أو يناقض مبادئ الإسلام، ولا تمنعه من تعاطي الربا، واقتراف الزنا، والرشوة، والغش، وشرب المسكرات، وتعاطي المخدرات، والتساهل في حقوق العباد، والوقيعة في أعراضهم، وما إلى ذلك من المحرمات، هل أولئك قد أقاموا الصلاة وأدَّوا حقها؟! والله لو فعلوا ذلك لانتهوا عن كل محرم، وأقلعوا عن كل ما يخالف شرع الله، ولكنه إضاعة جوهر الصلاة، ولا حول ولا وقوة إلا بالله!
خرَّج الترمذي والنسائي من حديث جبير بن نفير: {أن أول علمٍ يُرْفع من الناس الخشوع، فيوشك أن تدخل المسجد الجامع فلا ترى فيه رجلاً خاشعاً} فالله المستعان!
يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم! ما هي حالنا اليوم مع هذه الفريضة العظيمة؟!
أجسادٌ تهوي إلى الأرض، وقلوبٌ غافلة، وأفئدة متعلقة بالدنيا، إلا من رحم الله.(52/6)
إقامة الصلاة من أسباب النصر
هل من عودة صادقة أيها المسلمون المصلون إلى ترسُّم خطى المصطفى صلى الله عليه وسلم في هذه الفريضة العظيمة وغيرها من فرائض الإسلام؛ لتعود للأمة قوتها وهيبتها بعد أن مُنِيَت بنكسة خطيرة، أفقدتها كثيراً من مقوماتها التي تجعلها متماسكة قوية؟!
ألا ما أحرى الأمة وهي تتجرع غصص الهزائم أن تتحرى الأسباب والدوافع لتقوم بالتغلب عليها، وإنها واجدةٌ في شعائر الإسلام وأعظمها الصلاة ما يكون سبباً في صقل الأفراد، وتهذيب المجتمعات، وصلاح الأحوال، والقضاء على أسباب الضعف والهزيمة وخواء الروح المعنوية في الأمة.
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
فلنتقِ الله -عباد الله- في أمورنا عامة وفي صلاتنا خاصة، فإن حظ المرء من الإسلام على قدر حظه من الصلاة، ولنفكر في حالنا ماذا جنينا من جراء التهاون في شعائر الإسلام كلها لاسيما الصلاة؟!
إن أمة لا يقف أفرادها بين يدي الله في الصلاة لطلب الفضل والخير منه، لَجَدِيْرَةٌ ألا تقف ثابتة في مواقف الخير والوحدة والنصر والقوة؛ لأن هذه كلها من عند الله وحده.
فإذا أصلحنا ما بيننا وبين الله؛ أصلح الله ما بيننا وبين الناس.
وإن أمة لا يعفر أبناؤها وجوههم في التراب، ويمرغون جباههم في الأرض تعظيماً لخالقهم، وإعلاناً للعبودية التامة له، لَحَرِيَّةٌ ألا تثبت أمام التحديات والمتغيرات، وأن تذوب في خضم المغريات والابتلاءات، وسيول المحن والبلايا، وأن تغرق في مستنقعات الفتن والرزايا.
وإن مَرَدَّ تَرَدِّي كثيرٍ من الأوضاع في شتى البقاع لتردي أبنائها في أودية المخالفات، وعدم القيام بما هو من أوجب الواجبات، ألا وهو الصلاة، فإلى الله المشتكى! ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان، ويرزقهم الفقه في دينه، والبصيرة فيه، وأن يجعلهم محافظين على شعائر دينهم، معظِّمين لها، قائمين بعمودها على خير وجه، إنه جوادٌ كريم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بهدي سيد المرسلين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه كان عفواً غفوراً.(52/7)
أسباب إقامة الصلاة بخشوع
الحمد لله الذي جعل لكل شيء عماداً، وجعل الصلاة لنا ذخراً وزاداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، فلا شركاء له ولا أنداداً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أكمل الأمة إيماناً وصلاةً، وأعظمها عبادةً وجهاداً، صلى الله وسلم وبارك عليه صلاةً وسلاماً تامَّين متلازمَين لا نحصيهما أعداداً، وعلى آله وأصحابه إلى يوم يبعث الناس زرافاتٍ وفرادى.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، وعظموا شعائر دينكم، واستحضروا فيها عظمة بارئكم جل وعلا، وفرغوا قلوبكم من الشواغل الدنيوية، والعلائق المادية، وأقيموا صلاتكم بقلوبٍ حاضرة خاشعة.
واعلموا -يا رعاكم الله- أن أكبر ما يعين على ذلك حضور القلب فيها، واستشعار عظمة وجلال الخالق جل وعلا، وتفريغ القلوب من الصوارف عن الله والدار الآخرة، والتخفف من مشاغل الدنيا، وعمارة القلوب بالإيمان، وسد مداخل الشيطان على الإنسان.
ومما يعين على ذلك أيضاً: قَصْرُ النظر على موضع السجود، ووضعُ اليد اليمنى على اليسرى حال القيام، والتدبرُ فيما يُقْرأ بالقرآن وفيما يُرَدَّد من الأدعية، وعدم الالتفات، ومراعاة الطمأنينة، والحذر من العجلة ومسابقة الإمام، والعبث والحركة، كل ذلك مع توفيق الله عز وجل من الأسباب التي تعين المسلم على إقامة الصلاة كما شرع الله، وكما سن رسوله صلى الله عليه وسلم.
أيها الإخوة في الله! إن من الظواهر الجديرة بالمعالجة والتي لها أثر كبيرٌ في انصراف المصلين عن الخشوع في الصلاة: ما قذفت به المدنية المعاصرة من وسائل الاتصال الحديثة، كالهواتف المتنقلة التي بُلِي بها كثيرٌ من الناس، فيصطحبونها في صلواتهم ومساجدهم وهي تسبب أذىً وإزعاجاً للمصلِّين، فأي خشوعٍ عند هذا المصلي عفا الله عنه، الذي يقطع حلاوةَ إقباله على ربه ولذيذَ مناجاته لخالقه رنينُ هاتفه المتكرِّر، فيُشْغِل نفسَه ويؤذي غيره؟!
فهل هؤلاء الذين جاءوا إلى المسجد مصطحبين هذه الأجهزة مفتوحة جاءوا مصلين أم ماذا؟!
ألا فليتقِ الله أولئك في صلاتهم، وليحذروا من إيذاء إخوانهم المصلين، وانتهاك حرمة بيوت الله، ومتى علم الله من عبده الرغبة في الخير وفَّقه له وأعانه عليه، ولو أن المسلمين اليوم أدوا هذه الصلاة كما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكانت بتوفيق الله انطلاقةً جادة لإصلاح أوضاعهم، وتغيير أحوالهم وسلامة مجتمعاتهم، وطريقاً إلى النصر على أعدائهم، وتحقيق ما يصبُون إليه في دنياهم وأخراهم؛ لأن في تطبيق شعائر الإسلام السلاح القوي، والدرع الواقي من كل مكروه بإذن الله؛ لأن الدافع إليه قوة الإيمان، وصدق اليقين، والشوق إلى الآخرة.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على إقامة صلاتكم؛ فإنها نور لكم في الأرض، وذخرٌ لكم في السماء، وإن المتأمل في آيات التنزيل لَيَجِدُ أن الأمر بالصلاة يأتي دائماً بأسلوب الإقامة، وفي ذلك زيادةُ معانٍ على مجرد الأداء، لأن الإقامة تعني: الإتمام والعناية، وإن مسئولية المصلين لَعَظِيمة بالنسبة لأنفسهم تعاهداً لها وعناية بها، وبالنسبة لغيرهم من معارف وأقارب وأبناءٍ وجيران؛ من حيث أمرهم ونصحهم في هذا الموضوع المهم كما قال سبحانه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه:132] وعلى أئمة المساجد دورٌ كبيرٌ في ذلك؛ لأنهم يضطلعون بمهمة كبرى، فعليهم أن يقوموا بها عنايةً وتفقيهاً بأحكامها وحكمها كما قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري: {صلوا كما رأيتموني أصلي} ولابد من تحقيق التعاون بين الأئمة والمأمومين، وذلك بقيام كلٍّ برسالته؛ لتتحقق النتائج المرجوة بإذن الله.
هذا وصلوا وسلموا رحمكم الله على خير مَن أقام الصلاة، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود، كما أمركم بذلك الرب المعبود، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارضَ اللهم عن الأربعة الخلفاء، والأئمة الحنفاء، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون: أبي بكر، وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واخذل الطغاة والملحدين وسائر أعداء الدين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا.
اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى.
اللهم كن له على الحق مؤيداً ونصيراً، ومعيناً وظهيراً.
اللهم هيء له البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم يا قوي يا عزيز! يا ذا الجلال والإكرام! نسألك أن تصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وأن تنصر إخواننا المجاهدين والمضطهدين في دينهم في كل مكان.
اللهم انصرهم في فلسطين، وكشمير، والشيشان، وفي كل مكانٍ يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين!
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(52/8)
المسئولية
في ظل شريعة الإسلام يجد المرء نفسه مسئولاً أمام الله تعالى عن كل شيء، حتى على النعمة المنعم بها عليه.
وتتوزع مسئولية المسلم في كل شيء، فهو مسئول عن نعمه، وعن بيته، وأولاده، والقيام بتربيتهم تربية سوية، وعن مجتمعه، ثم تأتي المسئولية الجماعية ولوازمها مبتدأة بالإمامة الكبرى في تحكيم شرع االله، ومسئولية تربية الأجيال، ومسئولية قيام البيت المسلم، ومسئولية الإعلام في نصرة الإسلام.
ثم القيام بمسئولية النصيحة، والحفاظ على قيمة الوقت لاسيما في الإجازات.(53/1)
صور من المسئوليات
إن الحمد لله، نحمدك ربي ونستعينك ونستغفرك ونتوب إليك، ونثني عليك الخير كله، سبحان ذي المنن والآلاء والعز والعظمة والكبرياء، المستحق لأعظم الشكر، وأجزل الثناء.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنزه عن الأنداد والنظراء، والأمثال والشركاء، جعل كل راعياً ومسئولاً عن رعيته من الرجال والنساء، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله إمام الحنفاء، وقائد الأصفياء، وأفضل من شرع أسس الإصلاح والبناء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الشرفاء، وصحبه الأوفياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسان مادامت الأرض والسماء.
أما بعد:
فيا عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا، اتقوه سبحانه في أنفسكم ومسئولياتكم؛ فتقوى الله هي العز من غير جاه ونسب، والشرف من غير منصبٍ وحسب، هي الغنى من غير مال، وبها صلاح الحال والمآل.
أيها المسلمون: مقومات نهضة الأمم والمجتمعات، ودعائم تشييد الأمجاد والحضارات، يكمن في العناية بقضية غاية في الأهمية، قضية تُعدُّ بداية طريق البناء الحضاري، ولبنة مسيرة الإصلاح الاجتماعي، والمتأمل في دنيا الناس اليوم وواقع الأمة المعاصر، يهوله ما تعيشه الغالبية الساحقة من شعوب العالم من حياة الفوضى واللامبالاة، وعلى الرغم من توفر كثير من الإمكانات، وتسيير كافة التسهيلات، مما تقذفه رحم المدنية المعاصرة من وسائل التقنيات، وما يفرزه الواقع اليومي من شتى المغالطات، وكثرة المتناقضات، مع نسيج المتغيرات والمستجدات.
كلما أنبتَ الزمان قناة ركب المرء في القناة سنان
والمسلم الحق يتلمس دائماً طريق الإصلاح ليعيد للأمة شيئاً من عافيتها، بعد أن اشتدت عليها الأزمات وكثرت عليها السهام والتحديات، وهنا يأتي بيتُ القصيد في قضيتنا المطروحة بحرارة كمخرج للأمة من نفق التيه المظلم، لتنهض من كبواتها، وتحقق طموحاتها، إنها قضية المسئولية.
معاشر المسلمين: إنَّ كلَّ لحظة من لحظات حياة المسلم تتجسد فيها المسئولية بكل صورها، أفراداً ومجتمعات، هيئات ومؤسسات، شعوباً وحكومات، روى البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته، والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راع في مال سيده ومسئول عن رعيته؛ فكلم راع وكلكم مسئول عن رعيته}.(53/2)
معنى المسئولية في الإسلام
إخوة العقيدة: المسئولية في الإسلام تعني أن المسلم المكلف مسئول عن كل شيء جعل الشرع له سلطاناً عليه، أو قدرة على التصرف فيه بأي وجه من الوجوه، سواء أكانت مسئولية شخصية فردية، أم مسئولية متعددة جماعية، فأما المسئولية الشخصية، فهي مسئولية كل فرد عن نفسه وجوارحه وبدنه، روحه وعقله، علمه وعمله، عباداته ومعاملاته، ماله وعمره، أعمال قلبه وجوارحه، وهي مسئولية لا يشاركه في حملها أحد غيره، فإن أَحسن تَحقق له الثواب، وإن أساء باء بالعقاب.
روى الترمذي عن أبي برزة الأسلمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل فيه، وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه}.
كما أن المرء -يا عباد الله- مسئول عن لسانه أن يلغ في أعراض البُرآء أو أن ينقل الأراجيف والشائعات ضد الصُلحاء، وعن قلبه أن يحمل الضغينة والشحناء، والغل والحسد والبغضاء: {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
أخوة الإيمان! وأما المسئولية الجماعية فتتضمن أولاً: المسئولية الكبرى في الإمامة العظمى؛ وفي تحكيم شرع الله في أرض الله على عباد الله، وكذا القيام بالمسئوليات في الوظائف العامة عدلاً في الرعية، وقسماً بالسوية، ومراقبة لله وحده في كل قضية، وكذا الحفاظ على الأموال والممتلكات والمرافق العامة، فليست المسئوليات غنماً دون غرم، ولا زعماً دون دعم، وسيتولى حارها من تولى قارها، في بعد عن الخلل الإداري، والتلاعب المالي، والتسيب الوظيفي، فلا تصان الحقوق إلا بتولية الأكفاء الأمناء، والأخذ على أيدي الخونة السفهاء، قياماً بالمسئولية والأمانة كما شرع الله، وتحقيقاً لما يتطلع إليه ولاة الأمر وفقهم الله، وهو ما يحقق مصالح البلاد والعباد.(53/3)
المسئولية الأسرية في تربية الأجيال
وفي إطار المسئولية الجماعية يأتي دور البيت والأسرة في حمل مسئولية التربية الإسلامية الصحيحة للأجيال المسلمة، وكذا معاقل التعليم المختلفة في تنشئة الطالبات والطلبة، ومسئولية المجتمعات في النهوض بالأفراد، ودور الإعلام في تهذيب الأخلاق والسلوكيات.
إخوة الإيمان: إن مسئولية تربية الأجيال، وإعداد النساء والرجال مسئولية عظمى، وإن قضية العناية بفلذات الأكباد، وثمرات الفؤاد من النشأ والأولاد قضية كبرى يجب على أهل الإسلام أن يولوها كل اهتمامهم؛ لأن مقومات سعادتهم -أفراداً ومجتمعات- منوطة بها.
وإنما أولادنا أكبادنا فلذاتنا تمشي على الأرض.
ولذلك لا بد من الإعداد لها أيما إعداد، رسماً للمناهج، وإعداداً للبرامج، وتظافراً في الجهود، وتولية للأكفاء، لتتم المسئولية التربوية سليمة من تعثر الخطى، بعيدة عن التناقض والازدواجية، محاذرة للتقليد والتبعية، اعتزازاً بشخصيتنا الإسلامية، وشموخاً في مناهجنا الشرعية، مترسمين هدي القرآن الكريم ونهج السنة النبوية.
معاشر الأحبة: إنَّ البيت هو الركيزة الكبرى، وعليه المسئولية العظمى في بناء الفرد، وتقع على كاهله تحديد شخصيات الأبناء، وتكوين ملامحهم الإيمانية، والفكرية، والروحية، والأخلاقية.
فيا أيها المسلمون: ربوا أولادكم منذ نعومة أظفارهم على الإيمان بالله، واجعلوهم يستشعرون الأبعاد الحقيقة لكلمة التوحيد، بحيث يكون إيمانهم نابعاً من يقين ومعايشة، وإدراك لحقيقة الربوبية والألوهية، وفهم واضح لمعنى العبودية.
معاشر المسلمين: إن كثيراً من الأسر مع شديد الأسف لا تعنى كثيراً بتأصيل الفهم العقدي الصحيح، زاعمين أن التوحيد من المسلَّمات البدهية التي لا تحتاج إلى مزيد عناية، وتلك -وايم الله- من التسطيح في النظرة، ومن نتائجها توهين الأسس العقدية الصحيحة في نفوس كثير من الأبناء.
والبيت لا يبتنى إلا له عُمد ولا عماد إذا لم ترس أوتاد
فعلى الأسرة أن تجتهد في تصحيح سلوكيات أبنائها، وغرس المثل الإسلامية في نفوسهم، وتأصيل الأخلاق الحميدة التي جاء بها ديننا الحنيف، وليكن الأبوان قدوة حسنة لأبنائهم، فلا يكون هناك تناقض بين ما يمارسونه من سلوك عملي، وبين ما ينصحون به أبناءهم في ظلام وكلام نظري.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه
وإنها لمسئولية عظيمة أن يبني الأبوان شخصية أبنائهم على أساس العقيدة الصحيحة والاعتزاز بمبادئهم وتراث أمتهم، محاطين بالإيمان والهدى والخير والفضيلة، أقوياء في مواجهة المؤثرات المحيطة بهم، لا ينهزمون أمام الباطل، ولا يضعفون أمام التيارات الفكرية الزائفة.
فيا أيها الأباء والأمهات: اتقوا الله في أولادكم، كونوا قدوة لهم في الخير، وإياكم ثم إياكم أن تكلوا عملية تربيتهم للخادمين والخادمات، فهم ضرر على الأسرة لما يحملونه في الغالب من أفكار وأخلاق وعادات ثبت في الواقع خطرها، وثبت لدى كل غيور شرها وضررها، أبعدوهم عن قرناء السوء، تابعوهم في صلواتهم، وخلواتهم، وجلواتهم، كونوا الرقابة المكثفة المقرونة بمشاعل المحبة والحنان والشفقة.
حذارِ أن تتسلل إلى الأسرة ألوان من الغزو الفكري والأخلاقي، فتهدم ما بنيتموه، وتنقض ما شيدتموه، نشِّئوهم على الخير والفضيلة والهدى، والبعد عن الرذيلة والشر والردى.
أيها المسلمون: كما تشمل المسئولية الأسرية حسن اختيار الزوجين على أساس الدين والأمانة والخلق، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه؛ إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} رواه الترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
وبهذا الاختيار الحسَنَ، ينشأ جيل من الأفراد الصالحين الذين يحققون العبودية الخالصة لله رب العالمين.
كما تتضمن المسئولية الأسرية، حُسنُ العشرة بين الزوجين، والقيام بالواجبات، وأداء الحقوق، والتعاهد على التربية، يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
فكيف يهنأ والد بالعيش وهذا الوعيد الشديد يطرق سمعه، وهذه العاقبة المحزنة تهدد أولاده، ألا فليتقِ الله القوَّامون على النساء من الأزواج والآباء، فليربوهنَّ وليأخذوا على أيديهنَّ، ويلزموهن بالقرار في البيوت والحجاب الشرعي، حتى لا يُفَتَنَّ ولا يَفتِنَّ، فيأتين على بنيان التربية من القواعد، وإن من الخطأ كل الخطأ والخيانة في الأمانة، إهمال قضايا المرأة في حجابها وعفافها واختلاطها بالرجال، والانسياق المحموم وراء الأزياء والموضات دون رقيب ولا حسيب.
وتتضمن المسئولية الأسرية -يا عباد الله- تسهيل أمور الزواج وعدم المغالاة في المهور وتكاليف الزواج، والإسراف والتبذير وما يقع من منكرات في الأفراح.
فيا أهل العفة والغيرة والحياء! يا أرباب الشهامة والرجولة والإباء! أليس هذا من الغش والخيانة، والتساهل في القيام بالمسئولية.(53/4)
مسئولية المجتمع في الحفاظ على سفينة الأمة
أمة الإسلام: وتقع على المجتمع مسئولية كبرى في الحفاظ على سفينة الأمة، وفي تعميق الروابط فيما بين أفرادها من التواد والتراحم، والأخوَّة والتفاهم، انطلاقاً من الركيزة الإيمانية لا من المصالح الدنيوية والعلاقات المادية، ولقد عُني الإسلام بالمجتمع وتشييد أركانه، بصورة متماسكة في بنيانه أمام الأفكار المسمومة، والآراء المذمومة، فليتواصى أبناء المجتمع على عبادة الله وحده، وعلى الاضطلاع بمهمة الدعوة الإسلامية والحسبة، وإعلاء راية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمام سيل المنكرات، وطوفان المحرمات، والأخذ على أيدي المستهترين، وإنَّ السكوت على الأيدي الآثمة هو في الحقيقة إثم أكبر من إثمها، وإجرام أبشع من إجرامها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
وهذا ما ينبغي أن تدركه الأمة الإسلامية لتعرف حقيقتها وقيمتها وتضطلع بمسئولياتها، وتعرف أنها أخرجت لتكون في الطليعة؛ لتكون لها القيادة؛ لأنها خير أمة: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد:25].(53/5)
مسئولية الإعلام في تحقيق مصالح الأمة
أيها الإخوة المسلمون: أما وسائل الإعلام في عصر التفجر الإعلامي، وثورة المعلومات والتقنيات، فمسئوليتها من أعظم المسئوليات، ولا سيما القنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية، فالله الله -أيها التربويون- في استثمارها لخدمة ديننا الحنيف.
وإن الغيورين ليأسفون أشد الأسف على المهازل الرخيصة، والجنوح اللامسئول مسئول بهذه الوسائل الإعلامية إلى ما يفرز ضد الأجيال إلى ما لا تحمد عقباه، في أعز ما تملكه الأمة في قدرات شبابها وفتياتها، فإلى الله المشتكى ولا حول ولا قوة إلا بالله!
معاشر الأحبة: إن للإعلام دوراً كبيراً في تشكيل عقول الأفراد، وتحديد معالم الشخصيات، وتوجيه السلوكيات، وغرس القيم والأهداف بما يحقق المصالح الخاصة والعامة، فليتق الله القائمون على وسائل الإعلام المختلفة المرئية والمسموعة والمقروءة، فكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فلا يقدم لأفراد الأمة ومجتمعاتها إلا كل ما يدعو إلى الخير والفضيلة، ويرسخ القيم الإسلامية الأصيلة، والمبادئ القويمة، والمُثلُ العظيمة، وعليهم أن يستنقذوا أبناء هذه الأمة من التشويش الفكري، والغبش العقدي، والعفن الأخلاقي، الذي ينعكس على حياتهم العملية، وسلوكياتهم اليومية، مما تعج به سماء القضاء، ويرتج منه الأرض والأجواء، فرحماك ربنا رحماك!
أيها الإعلاميون: الأعلام نبض الأمة، ومرآة المجتمع، فراعوا مسئولية الكلمة، وأمانة الحرف، وموضوعية الطرح، وشفافية الحوار، ومصداقية الرؤى، واعلموا أنه بالمبادئ والقيم وبالعقيدة والإيمان يتميز الإعلام عند أهل الإسلام، فكم تعاني المجتمعات البشرية اليوم من جرائم وحوادث، وكم تجرعت من ويلات وكوارث، لماذا ارتفعت معدلات الجريمة بما يذهل العقول؟ لم يكن ذلك ليحدث إلا لما أهمل الإنسان مسئوليته.
إن من مسئوليات الأمة العظمى التصدي لألوان الغزو السافر، ضد عقيدتنا ومقدساتنا، والإبانة عن الموقف الحق ضد الحملات، التي تشن ضد ديننا وقيمنا ومبادئنا، والوقوف بحزم وحصانة، ورعاية وصيانة، لصد اخطبوط العولمة المفضوحة، بالحفاظ على مميزاتنا الحضارية، وثوابتنا الشرعية، والتصدي القوي لما تقوم به الصهيونية العالمية، في دعم من القوى الدولية، ضد مقدساتنا في فلسطين المسلمة، وما يقوم به أشياعهم في كشمير والشيشان، فمسئولية مَنْ مواجهة هذه الغطرسة الصهيونية الآثمة؟ وهذه الهجمة العدوانية العنصرية ضد أمتنا الإسلامية؟
إن كلاً منا على ثغر من ثغور الإسلام، فالله الله أن يؤتى الإسلام من قِبَله.(53/6)
مسئولية نصرة الدين مسئولية مشتركة
إن حقاً على أهل الإسلام أن يقوموا بمسئوليات في تحقيق نصرة هذا الدين بكل ما أوتوا من إمكانات، وأن تتكاتف في ذلك جميع القنوات.
الأسر والبيوتات، الأباء والأمهات، المدارس والجامعات، المساجد والإعلام والمنتديات، الشعوب والحكومات، والمجتمع بكافة فئاته، ووسائل الإعلام بشتى قنواتها مسموعها، ومقروءها، ومرئيها، الكل يؤد واجبه، في التربية والبناء، وغرس القيم والأخلاق في البنات والأبناء، ليخرج جيل مثالي من الرجال والنساء، وبذلك يتحقق الأمر المنشود، ويتجدد المجد المفقود، والتطلع المعقود، وما ذلك على الله بعزيز.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:27 - 28].
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.(53/7)
المسئولية تجاه الأبناء في الإجازة
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وسع كل شيء رحمة وعلماً وتدبيراً، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- وقوموا جميعاً بما أنتم مسئولون عنه أمام ربكم، ثم أمام الأمة والتاريخ، فلقد علمتم عِظَم منظومة المسئولية؛ من الخدمة الصغرى إلى قمة الهرم في الإمامة العظمى.
واعلموا -يا رعاكم الله- أن مسئولية النصيحة في هذه الأوقات ما يحدث من ظواهر اجتماعية، في أوقات الإجازات، فيا أيها الآباء والأمهات: يا أيها الطلاب والطالبات: يا أيها التربويون في كافة القنوات: ماذا أعددتم لشغل الفراغ والأوقات مدة هذه الإجازات؟!
إن واجب النصح للأمة في هذه القضية المهمة ينبغي أن ينصب على كيفية شغل أوقات فلذات الأكباد، وثمرات الفؤاد بما يعود عليهم وعلى مجتمعهم بالنفع العظيم والخير العميم.
أيها الإخوة الأحبة في الله: إن فرص استغلال الوقت في هذه الإجازة -لا سيما للشباب والفتيات- كثيرة بحمد لله، فينبغي أن نحرص على الفرص الشرعية المباحة، والمناسبات المرعية المتاحة، وليحذر العباد من تضيبع الأوقات في المحرمات والمشتبهات.
ألا وإن أنَفس ما صُرفت فيه الأوقات؛ العناية بكتاب الله تعلماً، وتعليماً، وحفظاً، وتدبراً، وفهماً، وعملاً، وتطبيقاً، والقراءة والاطلاع على الكتب الشرعية النافعة، والالتحاق بالدروات العملية، والمخيمات الدعوية، والمراكز الصيفية، والمعاهد المهنية التي يقوم عليها أهل الخير والصلاح، والدعوة والإصلاح، بما يعود بفائدة كبرى في زيادة المعارف، وحفظ الأوقات، وتنمية المواهب واكتساب المهارات.
ولا بأس بإدخال الفرح على الأهل والأولاد في سفر مباح في محيط بلاد الإسلام، ولنا مع السفر والمسافرين حديث قادم بإذن الله.
وألا وإن من غير المنكور وجود الأتقياء الأمناء في الأمة بحمد لله، ممن جدوا في أداء مسئولياتهم مستشعرين معية الله جلَّ وعلا فيها، حريصين على تقوية الوازع الديني وضمير الإحساس الإنساني في أداء حقوق الله وحقوق عباد الله، وبمثل هؤلاء يصلح حال الأمة، وتسعد مجتمعاتها بإذن الله، والله المسئول أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وإنه خير مسئول وأكرم مأمول.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على معلم البشرية، المبعوث بالحنيفية، خير من قام بالمسئولية، كما أمركم بذلك ربكم رب البرية، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على حبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفاءه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَ الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين واحمِ حوزة الدين، واجعل هذا البلد آمناً مُطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيدَّ بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم وفقه ونائبه لما فيه صلاح البلاد والعباد، يا من له الدنيا والآخرة وإليه المعاد.
اللهم كن لهم على الحق مؤيداً ونصيراً، ومعيناً وظهيراً يا جواد يا كريم!
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك والمضطهدين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان، اللهم انصر إخواننا في فلسطين على اليهود المعتدين، والصهاينة الغاشمين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك فوق كل أرض، وتحت كل سماء يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأقوال والأعمال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
عباد الله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(53/8)
أمل جديد مع عام جديد
الأيام تمر، والأعمار تنقضي، والساعات تذهب، جيل يموت وجيل يخلق، عام يأتي وعام ينصرم، والكيس الفطن من يعتبر بغيره وإن التاريخ له أهمية في واقع الأمة؛ لتستعيد ثقتها بنفسها؛ وتنزع ما بها من انهزامية.
وهناك دروس كثيرة تستفاد من التاريخ ذكرها الشيخ باختصار، كما نوه إلى أن الأمة بحاجة إلى مراجعة ووقفة تأمل ومحاسبة.
ثم تكلم في آخر الخطبة عن فضل شهر الله المحرم، وفضل صيام يوم عاشوراء.(54/1)
الاعتبار بما مضى
الحمد لله الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، ييسر عسيراً، ويجبر كسيراً، وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً، سبحانه وبحمده، جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً أدخرها ليوم كان شره مستطيراً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، بعثه بالحق بين يدي الساعة بشيراً ونذيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً، فصلوات الله وبركاته عليه، وعلى آله وأصحابه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فمن رام خيراً غفيراً ورزقاً وفيراً ومقاماً كبيراً؛ فعليه بتقوى الله، فمن حققها حقق في الدنيا مجداً أثيراً، وفي الآخرة جنة وحريراً، ورَوحاًَ وعبيراً.
أيها المسلمون: في ظل ازدلاف الأمة إلى عام جديد، وتطلعها لمستقبل مشرق رغيد؛ تبرز بجلاءٍ قضايا حولية، وموضوعات موسمية، جديرة بالإشادة والتذكير، وحفية بالتوقف والتبصير، علها تكون محركاً فاعلاً يستنهض الهمم ويشحذ العزائم لمراجعة الذات، وتدقيق الحسابات، وتحديد الرؤى والمواقف، وتقويم المسيرة لتستعيد الأمة تاريخها المجيد ومجدها التليد، وما امتازت به من عالمية فريدة، وحضارة عريقة، بوأتها في الطليعة بين أمم الأرض قاطبة، والإنسانية جمعاء.
معاشر المسلمين: إن قضية المناسبة تكمن في وقفة المحاسبة، فاستقبال الأمة لعام جديد هو بمجرده قضية لا يُستهان بها، وإن بدا في أنظار بعض المفتونين أمراً هيناً لطول الأمل والغفلة عن صالح العمل.
وإن في مراحل العمر وتقلبات الدهر وفجائع الزمان لعبرة ومزدجراً، وموعظة ومدَّكراً، يحاسب فيها الحصيف نفسه، ويراجع مواقفه، حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غِرَّة، ويكون بعد ذلك عظة وعبرة.
ولئن أُسدل الستار على عام مضى فإن كل ماضٍ قد يُسترجع إلا العمر المنصرم، فإنه نقص في الأعمال، ودنو في الآجال.
نسير إلى الآجال في كل لحظةٍ وأيامنا تُطْوَى وهن مراحلُ
وإذا كان آخر العمر موتاً فسواءٌ قصيرُه والطويلُ
فكم من خطوات مُشيت، وأوقات صُرفت، ومراحل قُطعت؟! ومع ذلك فالإحساس بمضيها قليل، والتذكر والاعتبار بمرورها ضئيل، مهما طالت مدتها، وعظُمت فترتها، ودامت بعد ذلك حسرتها.
إخوتي في الله: إن عجلة الزمن وقطار العمر يمضيان بسرعة فائقة، لا يتوقفان عند غافل، ولا يحابيان كل ذاهل، كم ودعنا فيما مضى من أخ وقريبٍ؟! وكم فقدنا من عزيز وحبيب، هزنا خبرُه، وفجعنا نبؤه؟!
حتى إذا لم يدع صدقه أملاً شرقت بالريق حتى كاد يشرقني
لقد كانوا زينة المَجالس، وأُنسها، سبقونا للقبور، وتركوا عامر الدور والقصور.
فاللهم أمطر على قبورهم سحائب الرحمة والرضوان، ولا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم، لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل شيء عنده بأجل مسمى.
فالله المستعان!
إلى متى الغفلة يا عباد الله؟!
ماذا ران على قلوبنا؟!
وماذا غشي أبصارنا وبصائرنا؟!
إن الموفق الواعي من سعى لإصلاح حاله ليسعد في مآله، وإن الكيس الملهم من أدام المحاسبة، وأكثر على نفسه المعاتبة، وتفقد رصيده الأخروي، وحاذر كل لوثة عقدية وفكرية وسلوكية؛ ليحيا حياة السعداء، ويبوَّأ نزل الشهداء، وما ذلك بعزيز على ذي المن والعطاء.(54/2)
أهمية الرجوع إلى التاريخ
إخوة العقيدة: ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم وهي تتفيأ ظلال عام جديد مليء بالتفاؤل والتطلعات، بالخروج من الفتن والمشكلات، وتجاوز العقبات والأزمات، ومواجهة التحديات والنكبات، ما أحوجها أن تقرأ تاريخها!
اقرءوا التاريخ إذ فيه العبرْ ضل قومٌ ليس يدرون الخبرْ
اقرءوا التاريخ لتدركوا كيف كانت أحداثه العظام، ووقائعه الجسام، نقطة تحول كبرى لا في تاريخ الأمة الإسلامية فحسب، بل في تاريخ البشرية قاطبة.
اقرءوا التاريخ الإسلامي لتروا كيف كانت وقائعه العظيمة منعطفاً مهماً غير مجرى التاريخ الإنساني برمته.
اقرئي يا أُمتي تاريخك المجيد لتعلمي كيف أرست مصادرُه وأحداثه مبادئ الحق والعدل والأمن والسلام، وكم رسخت وقائعه منذ ما يزيد على أربعة عشر قرناً من الزمان مضامين الحوار الحضاري الذي يتنادى به العالم اليوم.
أيتها الإنسانية الحائرة: لتسلمي من الأحكام الجزاف الجائرة، اقرئي تاريخ حضارتنا الإسلامية؛ لتري بأم عينيك كيف كفل الإسلام حقوق الإنسان بجدارة، فقد أزال الطبقات ومحى العنصريات، وألغى الفوارق والتمايزات، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] في وحدة تتضاءل أمامها الانتماءات العنصرية، والأواصر والعلاقات الدنيوية، بل تضمحل بها كل دعاوى الجاهلية.
إخوة الإيمان: إن الارتباط التاريخي الوثيق، والانتماء الحضاري العريق، يؤكد أن ليس غير العقيدة الإسلامية جامعاً للعالم المتناثر، ومؤلفاً للشتات المتناكر، وناظماً للرأي المتنافر، فهل تعي الأمة ذلك بعد هذا التمزق المزري، والتخلف المخزي، والتيه في الأنفاق المظلمة، وسراديب الغواية المعدمة، إنه لا درب سوى الإسلام، ولا إمام غير القرآن، ولا نهج إلا نهج سيد الأنام عليه الصلاة والسلام.
ألم تستيقن الأمة بعد طول سبات أن التخلي عن العقيدة، والتساهل بأمر الشريعة، والتفريط في الثوابت والمبادئ، والتقصير في المثل والقيم مآله شقاء المجتمعات، وانتقاض الحضارات، وهلاك العباد، وخراب البلاد، وطريق البوار، وسبب الانهيار، وحلول الثبار، وتحقق الدمار؟!!
فهل يدرك أصحاب الرأي والنظر في الأمة أن التحديات السابقة والمعاصرة، وصور التصادم الحضاري، والعداء الثقافي والفكري إنما مرده إلى ثوابت عند الغير لا يتحقق الانتصار عليها إلا بالتمسك بموروثنا الحضاري العريق، الذي ينضح خيراً وسلاماً للبشرية، وأمناً وإسعاداً للإنسانية، في بُعد عن مسالك العنف والإرهاب العالمية التي أقضَّت المضاجع الإنسانية؟!
وهنا ينبغي أن يتنادى العقلاء والمنصفون في العالم بإعلاء القيم الحضارية والأخلاقية، والمثل الإسلامية والإنسانية، والتأكيد على مبدأ الحوار الحضاري بلا تميع ولا انهزامية.(54/3)
دروس من التاريخ
اقرءوا التاريخ أيها المنهزمون من بني جلدتنا؛ لتدركوا أن الحوار مع الآخر يجب أن يُبنى أولاً على الإصلاح من الداخل، حين تمتلئ النفوس محبةً ومودةً وحناناً، حينما توضع الكوابح المرئية، وترسم الضوابط الشرعية لحركة الانفتاح الفكري والثقافي والتربوي والإعلامي المتسارعة، التي لا تعرف التمهُّل؛ فقنوات، وفضائيات، وتقنيات، وشبكات معلومات.
واللهم حوالينا ولا علينا.
يجب أن تُعاد الثقة إلى الذات، ويُعالج الانهزام النفسي لدى كثير من المعنيين في مجالات التربية والثقافة والإعلام، الذين لهثوا وراء عفن الأمم؛ عَبُّوا منها طويلاً، فلم تغنهم، ولم تغن أمتهم فتيلاً ولا نقيراً ولا قطميراً.
وهنا يتأكد تعزيز جانب الحسبة في الأمة، حتى لا تغرق سفينة المجتمع، كما يجب الذب عن أهلها، وعدم الوقيعة بهم، وتضخيم هيناتهم، والكف عن التمادي في اتهامهم، والطعون في أعراضهم، في وشايات مأفونة، أو مقالات مغرضة، أو أقلام متشفية؛ فأي شيء يبقى للأمة إذا انتُقصت معالم خيريتها.
أمة الإسلام: حينما تتقاذف سفينةَ الأمة أمواجُ الفتن، فإن قوارب النجاة وصمامات الأمان مرهونة بولاء الأمة لدينها، وتمسكها بعقيدتها، وحينما يدير الغيور نظره في واقع أجيال من المنتسبين إلى أمتنا اليوم، ويرى التبعية والانهزامية أمام تيارات العصر الوافدة، ومبادئ المدنية الزائفة، ويقارن بينهم وبين جيلنا التاريخي الفريد، يدرك كم كانت وقائع تاريخنا المشرق الوضاء، وحوادث سيرتنا العطرة سبباً في عزة الأمة وكرامتها، وبذلها وتضحياتها وإن تنكر فئام من الأمة لمبادئ دينهم ولهثهم وراء شعارات مصطنعة، ونداءات خادعة، لَهُوَ الأرضية الممهدة للعدو المتربص، مما جرأ علوج صهيون على العبث بمقدسات الأمة، وممارسة إرهاب الدولة، بكل ما تحمله من معاني الصلف والوحشية ضد إخواننا في الأرض المباركة فلسطين تحت سمع العالم وبصره.
كما أن من الدروس المستفادة لتحقيق مصالح الأمة: جواز عقد المعاهدات والمهادنات لا الاستسلام والمداهنات.
يا أمة التوحيد والتاريخ: في خضم هذه الظروف الحوالك التي اختلطت فيها المسالك، يتأمل قراء التاريخ ويتساءلون: أين دروس الهجرة وعبرها من شعارات العصر بإنسانيته الزائفة وديمقراطياته المزعومة التي تحسب على دعاتها مغانم، وعلى غيرهم مغارم، في غياب المنهجية الشوروية المصطفوية؟!
أين دروس التاريخ وعبر الهجرة، وأخوة المهاجرين والأنصار من أناس مزقهم التفرق والتشرذم، وأحلوا العداوة والخصام محل المحبة والوئام، وترسبت في سويدائهم الأحقاد، وتأجج في قلوبهم سعير الحسد والبغضاء والغل والشحناء، حتى تمزقت الأواصر، وساد التفكك الأسري والاجتماعي في كثير من المجتمعات؟! فرحماك ربنا رحماك!
اقرءوا التاريخ؛ لتجدوا كم تحتاج العقيدة إلى دولة وسلطان، ينافح عن كيانها، ويذود عن حماها، كما هي منة الله سبحانه على بلاد الحرمين ومدارج الهجرة وأرض التاريخ والرسالة حرسها الله.
ألا فليتيقن دعاة الإصلاح في الأمة أنه لا عقيدة ولا تمكين إلا بجماعة، ولا جماعة إلا بولاية، ولا ولاية إلا بسمع وطاعة؛ لتُدرَأ عن الأمة غوائل الشرور والفتن، وعاديات الاضطراب والمحن.
وفي الميدان التربوي يجب أن يقرأ التربويون تاريخنا؛ ليروا كيف تربى المرء المسلم عبر كافة قنوات التربية على نصرة العقيدة والولاء للقيادة.
وليقرأ التاريخ شبابنا المعاصر الذين خُدع كثير منهم ببريق حضارة مادية أفرزت غزواً في الصميم، تَنَكَّب من خلاله كثير من شباب الأمة طريق الهداية الربانية، وعاشوا صرعى حرب الشهوات، وضحايا غزو التفرق والشبهات، ويبرز ذلك في مجال التشبه والتبعية والتقليد والمحاكاة للغير في كثير من المجالات، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه أحمد وأبو داود: {من تشبه بقوم فهو منهم}.
لتقرأ التاريخ وتستلهم دروسَه وعبرَه المرأةُ المسلمةُ المعاصرة؛ لتدرك أن عز المرأة ومكانتها في تمسكها بقيمها ومبادئها حجاباً وعفافاً، واحتشاماً وقراراً، وأن وظائفها ومسئولياتها التربوية والأسرية والاجتماعية في الأمة كبيرة التبعة، عظيمة الجوانب والآثار، لا كما يصورها أعداؤها الذين يوحون إلى أوليائهم ومولياتهم أن الحجاب والعفاف فقدان للشخصية، وسلب للحرية، فأخرجوها دُمية تفتش عن سعادة موهومة، وحرية مزعومة، كان من نتائجها دوس العرض والشرف، والعبث بالعفة والكرامة من ذئاب مسعورة لا ترعى الفضائل، ولا تبالي باقتراف الرذائل.(54/4)
حاجة الأمة إلى وقفة تأمل ومحاسبة
تلك -أيها المسلمون- إلماحة عابرة إلى شيء من وقائع التاريخ ودروس السيرة وعبرها، تظهر في حدث الهجرة النبوية والتاريخ بها، تُقدَّم للأمة اليوم وهي تعيش مرحلة من أخطر مراحلها، علَّها تكون نواة لمشروع حضاري إسلامي يسهم في صلاح الحال، وتقويم المسار لسعادة المآل، ويمثل بلسماً شافياًَ لعلاج الحملات الإعلامية المسعورة، وسهام الحقد الطائشة ضد ديننا وأمتنا وبلادنا، التي ما فتئ أعداء الإسلام يصوبونها تجاهنا؛ مستغلين نقاط الضعف في الأمة، متصيدين في الماء العكر أخطاء بعض أبنائها.
ألا ما أشد حاجتنا -ونحن نستشرف آفاق العام الهجري الجديد- إلى وقفات تأمل ومحاسبة ومراجعة جادة؛ لاستكمال كل ما يعزز مسيرة أمتنا؛ لتزدلف إلى عام جديد وهي أكثر عزماً وأشد مضاءً؛ لفتح آفاق جديدة لإسعاد الإنسانية؛ لتتبوأ مكانتها الطليعية، ومنزلتها الريادية فوق هذا الكوكب الأرضي، الذي ينشد سكانه مبادئ الحق والعدل والسلام، ويرومون الخير والأمن والوئام، ولن يجدوه إلا في ظل الإسلام، وتعاليم الإسلام، زادنا في ذلك موروث حضاري وتاريخي وعقدي وقيمي لا ينضب، ونهل من معطيات العصر وتقنياته في خدمة دين الأمة ومثلها وقيمها.
والله المسئول أن يجعل هذا العام عام خير وبركة، ونصر وتمكين للإسلام والمسلمين، وعام أمن وأمان وعدل وسلام للإنسانية قاطبة، وأن يجمع فيه كلمة المسلمين على الحق والهدى، ويوحد صفوفهم، ويطهر مقدساتهم، وينصرهم على أعدائهم، وأن يجعل حاضرنا خيراً من ماضينا، ومستقبلنا خيراً من حاضرنا، إنه خير مسئول وأكرم مأمول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الهدى والبيان، ورزقنا التمسك بسنة المصطفى من ولد عدنان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات: إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ، وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ.(54/5)
فضل صيام يوم عاشوراء
حمداً لك اللهم أنت الملك القدوس السلام، تجري الليالي والأيام، وتجدد الشهور والأعوام، أحمد ربي تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، جعل شهر المحرم فاتحة شهور العام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأنام، وبدر التمام، ومسك الختام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! وتمسكوا بدينكم، فهو عصمة أمركم، وتاج عزكم، ورمز قوتكم، وسبب نصرتكم.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله: تعيشون -يا رعاكم الله- هذه الأيام فاتحة شهور العام شهر الله المحرم، شهر من أعظم الشهور عند الله تبارك وتعالى، عظيمةٌ مكانتُه، قديمةٌ حرمتُه، هو غرة العام، وأحد أشهر الله الحُرُم، فيه نصر الله موسى والمؤمنين معه على فرعون ومن معه.
وقد ندبكم نبيكم صلى الله عليه وسلم إلى صيامه، فقد قال فيما أخرجه مسلم في صحيحه: {أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم} لا سيما يوم عاشوراء، ففي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه}.
وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: {أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله}.
الله أكبر! يا له من فضل عظيم من مولىً كريم ورب رحيم!
وقد عزم صلى الله عليه وسلم على أن يصوم يوماً قبله مخالفة لأهل الكتاب، فقال صلى الله عليه وسلم: {لئن بقيتُ إلى قابل لأصومن التاسع}.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فمراتب صومه ثلاث:
أكملها أن يُصام قبله يوم وبعده يوم.
ويلي ذلك أن يُصام التاسع والعاشر، وعليه أكثر الأحاديث.
ويلي ذلك إفراد العاشر وحده بالصيام.
فينبغي للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم؛ اقتداءً بأنبياء الله، وطلباً لثواب الله، وأن يصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده؛ مخالفة لليهود، وعملاً بما استقرت عليه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وإن صيام ذلك اليوم لَمِن شكر الله عزَّ وجلَّ على نعمه، واستفتاح هذا العام بعمل من أفضل الأعمال الصالحة التي يُرجى فيها ثواب الله عزَّ وجلَّ.
فهنيئاً للصائمين! ويا بشرى للمشمرين! ويا خسارة المفطرين! ويا ندامة المقصرين!
فاتقوا الله عباد الله! واستفتحوا عامكم بالتوبة والإنابة والمداومة على الأعمال الصالحة، وخذوا من مرور الليالي والأيام عبراً، ومن تصرم الشهور والأعوام مدَّكراً ومزدجراً، وإياكم والغفلة عن الله والدار الآخرة!
ثم صلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والحبيب المرتضى، كما أمركم بذلك المولى جلَّ وعَلا فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وأفضل الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد بن عبد الله وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب الليل والنهار.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، واخذل الطغاة والمفسدين وسائر أعداء الدين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم هيء له البطانة الصالحة، اللهم كن له على الحق معيناً وظهيراً ومؤيداً ونصيراً يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم فرِّج هَمَّ المهمومين من المسلمين، ونفس كرب المكروبين، واقضِِ الدين عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين.
اللهم فارج الهم، كاشف الغم، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، نسألك اللهم رحمة من عندك تغنينا عن رحمة مَن سواك.
اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين.
اللهم كن لإخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز!
اللهم انصر إخواننا في فلسطين، وفي كشمير، والشيشان، وفي كل مكان يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود المعتدين، والصهاينة الغاشمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك.
اللهم طهر مقدسات المسلمين من عبث العابثين، وعدوان المعتدين يا رب العالمين.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(54/6)
حسن الخلق
الأخلاق هي صرخات الضمير في وجه الرذيلة، وهي معيارٌ لبقاء الأمم وزوالها.
والتاريخ الإنساني لم يعرف ينبوعاً ولا معيناً للأخلاق أصفى وأعذب من أخلاق النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم، وهنا دعوةٌ للتحلي بتلك الأخلاق، وبيان لها، وشهادة بروعتها.
كما يتضمن هذا بياناً لمكانة أهل الأخلاق في الدار الآخرة.(55/1)
عقيدة الإسلام
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا إليه صراطاً مستقيماً، وأشهد أن نبينا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، أرسله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لهذه الأمة، فجزاه الله عن أمته خير ما جزى نبياً عن قومه، وصلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أيها المسلمون! اتقوا الله تبارك وتعالى واشكروه على ما هداكم للإسلام وجعلكم من أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام.
عباد الله! إن أعظم نعمة أنعم الله بها علينا نعمة الإسلام، ذلكم الدين القويم، والصراط المستقيم، الذي خلق الله خلقه لأجله وبه أرسل رسله وبه أنزل كتبه ولا يقبل الله من أحد ديناً سواه {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85]، أتمه وأكمله وارتضاه ولا يقبل من أحد ديناً سواه، والاستسلام المطلق والانقياد التام لله جل وعلا قولاً وفعلاً واعتقاداً، تضمنت تعاليمه السمحة ومبادئه السامية كل ما فيه صلاح البلاد والعباد في المعاش والمعاد، فيه صلاح النفوس والقلوب، ونور العقول والبصائر، وسعادة الأفراد والمجتمعات والأمم، وتحقيق الأمن والاطمئنان للبشرية جميعاً.
أيها المسلمون! يقوم هذا الدين على أصل عظيم وأساس متين، ألا وهو توحيد الله وإفراده بالعبادة، وإخلاص العبادة له وحده دون سواه، وتخليصها من كل شائبة، وتجريد المتابعة للحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام، وسد كل طريق يوصل إلى ثلم العقيدة أو إضعاف التوحيد أو الإخلال بالمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم، ولقد أكد الإسلام على هذا الجانب تأكيداً بالغاً، بل لم يحظ جانبٌ في الإسلام بمثل ما حظي به الجانب العقدي، وما ذاك إلا لأنه القاعدة الكبرى التي تنبني عليها الأقوال والأفعال، ولقد كان هذا الأمر مفتاح دعوة الرسل عليهم الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25]، ومحل عناية القرآن الكريم والسنة النبوية قولاً وفعلاً ومنهاجاً ودعوة، فالمسلم الحق يعتقد أن الله سبحانه هو الخالق الرازق المعبود المالك المتصرف المحيي المميت الضار النافع، وأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وأن أحداً لا يستطيع أن يجلب نفعاً أو يدفع ضرراً من دون الله سبحانه وتعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنعام:17]، وأنه جل وعلا متصف بكل كمال منزه عن كل نقص، له الأسماء الحسنى والصفات العلى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:11].
فلا يجوز صرف شيء من أنواع العبادة لغير الله، فهو سبحانه يعطي ويمنع، ويضر وينفع، والعبادات كلها من صلاة وطواف ودعاءٍ ونذر وذبح واستغاثة وحلف واستعاذة وغيرها كل ذلك محض حقه سبحانه لا شريك له {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} [النساء:36]، بذلك طهر الإسلام النفوس، وأعلى مكانتها، وحارب ما يناقض ذلك ويضاده من ضروب الإشراك بالله {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:88]، حتى لا تنحط النفوس إلى عبادة من لا يملك لنفسه شيئاً فضلاً عن أن يملك لنفسه ضراً أو نفعاً أو موتاً أو حياة أو نشورا، وحتى لا تخضع القلوب إلا لمن له الملك والخلق والأمر والعبادة وحده جل جلاله.
هكذا جاء الإسلام بهذه العقيدة الصافية وهذا التوحيد الخالص؛ ليخرج الناس من ظلمات الجهل والشرك والضلالة والأوهام والأباطيل ويرفع النفوس من هوة الشرك وحضيض الوثنية وهوة الكفر والإلحاد إلى نور الحق والإيمان.(55/2)
الإسلام دين الأخلاق
إخوة الإسلام! وكما جاء دين الإسلام منهج هداية للبشرية في تصحيحها عقائدها، كذلك جاء لتهذيب نفوسها وتقويم أخلاقها وأخلاق مجتمعاتها ونشر الخير والفضيلة بين أفرادها، ومحاربة الشر والرذيلة وإطفائها عن بيئاتها، وسد منافذ الفساد أن تتسلل إلى صفوفها؛ لذلك فقد كانت مكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ومعاني القيم وفضائل الشيم وكريم الصفات والسجايا من أسمى ما دعا إليه الإسلام، فقد تميز بمنهج أخلاقي فريد لم ولن يصل إليه نظام بشري أبداً، وقد سبق الإسلام بذلك نظم البشر كلها؛ ذلك لأن الروح الأخلاقية في هذا الدين منبثقة من جوهر العقيدة الصافية، لرفع الإنسان الذي كرمه الله وكلفه بحمل الرسالة، وتحصين العبادة من درك الشر والانحراف وبئر الرذائل والفساد لرفعه قمم الخير والصلاح، وأوج الاستقامة والفلاح ليسود المجتمع السلام والمحبة والوئام، رائده نشر الخير والمعروف ودرء الشر والمنكر والفساد.(55/3)
أهمية الأخلاق للأمم
أمة الإسلام! الأخلاق في كل أمة عنوان مجدها، ورمز سعادتها، وتاج كرامتها، وشعار عزها وسيادتها، وسر نصرها وقوتها:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن هُمُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
فصلاح الأفراد والأمم مرده إلى الإيمان والأخلاق:
صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوم النفس بالأخلاق تستقم
وضعف الخلق أمارة على ضعف الإيمان، وإذا أصيبت الأمة في أخلاقها فقل عليها السلام
وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتماً وعويلاً
فقد آذنت بتصدع أركانها وزعزعة أمورها، وخراب شئونها وفساد أبنائها.(55/4)
الأخلاق في السنة النبوية
أمة الإيمان والأخلاق! لقد بلغ من عظم مكانة الأخلاق في الإسلام أن حصر رسول الله صلى الله عليه وسلم مهمة بعثته وغاية دعوته بكلمة عظيمة جامعة، فقال فيما رواه البخاري في الأدب المفرد وغيره: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}، وفي هذا أكبر دليل وأنصع حجة على أن رسالة الإسلام حققت ذروة الكمال وقمة الخير والفضيلة والأخلاق، كما أن قدوة هذه الأمة عليه الصلاة والسلام كان المثل الأعلى والنموذج الأسمى للخلق الكريم، وحسبنا في ذلك ثناء ربه عليه في قوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، فكان عليه الصلاة والسلام أحسن الناس خلقاً، وقد وصفته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بوصف جامع فقالت فيما رواه مسلم وغيره: {كان خلقه القرآن}، وعن أنس رضي الله عنه، قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خلقاً، والله ما مسست ديباجاً ولا حريراً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شممت رائحة قط أطيب من رائحة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي: أف قط، ولا قال لشيء فعلته لم فعلته، ولا لشيء لم أفعله ألا فعلت كذا} رواه مسلم.
وعنه رضي الله عنه قال: {إن كانت الأمة لتأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنطلق به حيث شاءت، فكان إذا استقبله الرجل فصافحه لا ينزع يده من يده حتى يكون الرجل هو الذي ينزع يده، ولا يصرف وجهه عن وجهه حتى يكون الرجل هو الذي يصرفه، ولم ير مقدم ركبتيه بين يدي جليس له} رواه الترمذي.
وعنه رضي الله عنه، قال: {كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه برد غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أثرت بها حاشية البرد من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد! مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فضحك وأمر له بعطاء} متفق عليه.
وعن عبد الله بن الحارث رضي الله عنه، قال: {ما رأيت أحداً أكثر من تبسماً من رسول الله صلى الله عليه وسلم} رواه الترمذي.
وعن عائشة رضي الله عنها، قالت: {ما كان أحد أحسن خلقاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما دعاه أحد من أصحابه ولا من أهل بيته إلا قال: لبيك}، وقال جرير بن عبد الله رضي الله عنه: {ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت، ولا رآني إلا تبسم}، وتقول خديجة رضي الله عنها في كلامها التاريخي: {كلا والله لا يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق}، الله أكبر بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، ما أكرم شمائله المحمدية، وما أعظم أخلاقه المصطفوية.
أفلا يجدر بأمة محمد صلى الله عليه وسلم في أعقاب الزمن، وقد عصفت بها موجات الفساد والفتن من كل جانب، وأعاصير الشر والإلحاد والمحن من كل وسيلة وطريقة، أن تسلك سبيله، وتترسم خطاه، وتتمسك بسنته، إن أرادت الخير والأمن والنصر والسلام، وكما كانت سيرته العملية وسنته الفعلية نبراساً للأخلاق والشمائل، فقد زخرت سنته القولية بالإشارة والإشادة بمكارم الأخلاق، ومكانة أهلها وعظيم ثوابها، وهي مبثوثة في كوكبة من مشكاة النبوة في الصحاح والسنن وغيرها، منها قوله صلى الله عليه وسلم: {البر حسن الخلق} رواه مسلم، {إن من خياركم أحسنكم أخلاقاً} متفق عليه، {ما من شيء أثقل في ميزان المسلم يوم القيامة من حسن الخلق} رواه الترمذي، {إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم} رواه أبو داود، {أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه} رواه أبو داود، {إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً} رواه الترمذي، {وخالق الناس بخلق حسن}.
ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة، قال: {تقوى الله وحسن الخلق} رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.(55/5)
الأخلاق عند السلف
أيها المسلمون! لقد كانت الأخلاق السمة البارزة في سيرة الرعيل الأول من سلف هذه الأمة، فأولوها اهتمامهم قولاً وعملاً وسلوكاً، يقول الحسن البصري رحمه الله: [[حسن الخلق بسط الوجه، وبذل الندى، وكف الأذى]] ويقول عبد الله بن المبارك رضي الله عنه ورحمه الله: [[حسن الخلق في ثلاث خصال: اجتناب المحارم، وطلب الحلال، والتوسعة على العيال]]، حتى قال بعضهم: لأن يصحبني عاصٍ حسن الخلق أحب إلي من عابد سيئ الخلق.
وقال أهل العلم في علامة ذي الخلق الحسن: أن يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاة، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، براً وصولا، وقورًا صبوراً شكوراً، رضياً حليماً، وفياً مؤثراً، عفيفاً، لا لعاناً، ولا طعاناً، لا مغتاباً ولا نماماً، لا فاحشاً ولا متفحشاً، لا كذاباً، ولا غاشاً، ولا خائناً، لا حقوداً، ولا حسوداً، ولا متكبراً، هاشاً باشاً، يحب في الله ويبغض في الله، حكيم في الأمر، قوي في الحق، هذا غيض من فيض ما زخر به كتاب الله سبحانه، من ذكر صفات وأخلاق أهل الإيمان.(55/6)
أين نحن من أخلاق الإسلام؟
وبعد ذلك كله يا إخوة الإسلام! لنتأمل في واقع أخلاقنا وسلوكنا مع أنفسنا وأهلينا وأولادنا وأسرنا وإخواننا المسلمين، إن الواقع في هذا يبعث على الأسى، فقد زهد كثير من الناس رجالاً ونساء شباباً وشيباً بأخلاق القرآن، في الوقت الذي نشط فيه أعداء الإسلام بنشر الغزو الأخلاقي المركز المختلف الوسائل، المتعجل القوارب ضد المسلمين، وأسرهم ومجتمعاتهم، فكثر الفساد وانتشرت المخالفات والمنكرات، وانتشر سوء الأخلاق وقل الحياء في سلوك كثير من الناس ومعاملاتهم، فهل من عودة يا أمة الإيمان والأخلاق لأخلاق القرآن والسنة؟! وهل من يقظة يا شباب الإسلام ترشد إلى المثل العليا، وتبعد عن سفاسف الأخلاق ومساوئ الأعمال؟!
وهل من رجعة أيتها الأخت المسلمة إلى التزام أحكام وأخلاق الدين القويم بالمحافظة على الحجاب والعفاف والاحتشام والبعد عن الاختلاط والتبرج والسفور؟
هل من عودة صادقة يا أمة الإسلام؟! إلى خلق الإسلام في حياتنا كلها بكل جوانبها؟ هذا الرجاء والأمل وعلينا الصدق والعمل، والله المستعان.
اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق والأقوال لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم أعذنا من منكرات الأخلاق والأقوال والأعمال والأهواء والأدواء يا سميع الدعاء.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.(55/7)
نداء للتحلي بأخلاق الإسلام
الحمد لله على نعمائه، والشكر له على فضله وآلائه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، الذي عبد ربه في سرائه وضرائه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله وتخلقوا بأخلاق الإسلام الفاضلة، واحذروا التأثر بأخلاق غير المسلمين، ألا وإن أولى الناس بمراعاة الأخلاق الفاضلة والتزام السجايا الكريمة هم أهل العلم وطلابه والمنتسبون إلى الحسبة والدعوة والإصلاح؛ ليتأثر الناس بهم ويكون لهم الأثر البالغ في مجتمعهم، وليعطوا صورة حسنة عن أخلاق الإسلام وسماحته ورفقه وحكمته، فذلك يجب أن يسود الأدب بين طلبة العلم في مسائل الخلاف، كذلك -أيها الإخوة- يجب أن ترفرف رايات الأخلاق على الأسرة، لا سيما بين الزوجين معاشرة بالمعروف، ومعاملة بالحسنى؛ حتى تسلم الأسرة من عواصف التصدع والتفكك والانهيار، وهكذا الأبناء مع آبائهم، والطلاب مع معلميهم، خلقاً ناشئاً عن عبادة وإيمان لا عن رياء ونفاق وتملق كما هو حال الكثير من المفتونين بالدنيا، الذين استبدلوا أخلاق القرآن بأخلاق تجارية، ومعاملة النزاهة والإخلاص بمعاملات مادية، يرى أحدهم مع أهله ومع الناس صفيق الوجه عبوساً مقطب الجبين، معوج السلوك، غير آبه بأحد، لكنه إذا لاح له طمع، أو خاف من فزع، أو بدت له حاجة؛ تصنع وتملق، حتى إذا ما ظفر بحاجته عاد إلى قبح فعله، وذلك لعمر الحق غاية الإفلاس، فالواجب على أهل الإسلام التخلق بأخلاقه والتأدب بآدابه، فمن الأخلاق ما هو جبلي وفطري، ومنها ما هو مكتسب بالتخلق والمعاهدة:
هي الأخلاق تنبت كالنباتِ إذا سقيت بماء المكرمات
ويا أيها الآباء والأمهات! والمدرسون والمدرسات! كونوا قدوة حسنة لمن تحت أيديكم:
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم
وربوا أجيالكم وناشئتكم على أخلاق القرآن، أدباً وصدقاً وبراً وحسن معاملة؛ ليكونوا أعضاء صالحين في مجتمعهم نافعين لبلادهم وأمتهم، والله المسئول أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على صاحب الخلق العظيم، كما أمركم بذلك الرءوف الرحيم فقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا.(55/8)
خطبة الاستسقاء (نعمة الغيث والقطر)
أنزل الله من الغيث ما تحيا به القلوب، كما أنزل من الغيث ما تحيا به الأبدان، وربط بعضها ببعض، وكما قال علي رضي الله عنه: [ما نزل بلاء إلا بذنب، وما رفع إلا بتوبة].
فإذا أهمل العباد غيث القلوب ماتت، وبموتها تموت أبدانهم وأرضهم، لذا كان لزاماً عل الناس الأخذ بكلا الغيثين ليتحقق لهم ما يريدون من رضا الله عليهم، ونزول مطره إليهم.(56/1)
الماء أصل نماء الحياة
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، مغيث المستغيثين، ومجيب دعوة المضطرين، وجابر كسر المنكسرين، ورافع البلاء عن المستغفرين.
لا إله إلا الله! مجيب الدعوات، وغافر الزلات، وفارج الكربات، ومنزل البركات، وغادق الخيرات، سبحانه مِن إله كريم، ورب رحيم، عم بفضله وكرمه جميع المخلوقات.
لا إله إلا الله الولي الحميد، لا إله إلا الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، سبحان مَن يعطي ويمنع! ويخفض ويرفع! ويصل ويقطع! {إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
اللهم لك الحمد كله، ولك الشكر كله، وإليك يُرجع الأمر كله، علانيته وسره، فأهلٌ أنت أن تُحمد، وأهلٌ أنت أن تُعبد، وأنت على كل شيء قدير.
لك الحمدُ كلُّ الحمد لا مبدا له ولا منتهىً والله بالحمد أعلمُ
وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، ومصطفاه وخليله، خاتم النبيين، وإمام المرسلين، وسيد ولد آدم أجمعين، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله! اتقوا الله تعالى حق تقواه، فإن مَن اتقى الله حفظه ووقاه، ومَن سأله منحه وأعطاه، ومَن توكل عليه كفاه وآواه.
أيها المسلمون: إن دلائل وحدانية الله وآيات قدرته كثيرة، لا تُعدُّ ولا تُحصى، وشواهدُ عظمته وفيرة، لا تُحد ولا تُستقصَى.
فواعجباً كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
ولله في كل تحريكةٍ وتسكينةٍ أبداً شاهدُ
وفي كل شي له آيةٌ تدل على أنه الواحدُ
{أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل:63].
ولكن القلوب عن آيات الله غافلة، والنفوس عن شواهد قدرته لاهية، والعقول عن دلائل عظمته شاردة، إلا من رحم الله.
فأين المتفكرون؟! وأين المتأملون؟! أين أولو الألباب؟! وأين أهل البصائر، عن التفكير في عظمة رب الأرباب، وقدرة مسبب الأسباب، وخالق الناس من تراب؛ ليقودهم ذلك إلى توحيد ربهم جلَّ وعَلا، وإخلاص الدين له، وإفراده بالعبادة دون سواه؟!
إخوة الإسلام: هنالك نعمة من نعم الله، وآية من آياته، لا غنى للناس عنها، هي مادة حياتهم، وعنصر نمائهم، وسبب بقائهم، منها يشربون ويسقون، ويحرثون ويزرعون، ويرتوون ويأكلون، تلكم -يا رعاكم الله- هي نعمة الماء والمطر وآية الغيث والقطر.
إخوة الإيمان: الماء أصل النماء الفائق على الهواء والغذاء والكساء والدواء، هو عنصر الحياة وسبب البقاء، مَن الذي أنشأه من عناصره إلا الله؟! ومَن الذي أنزله من سحائبه إلا الله؟!
{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:68 - 70] {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30] {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً * وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً} [الفرقان:48 - 50].
تلك كوكبة من آيات كتاب الله، تدل على عظمة هذه النعمة، وأهمية تلكم المنة.(56/2)
نعمة المطر وأثر الذنوب في منعها
أمة الإسلام: إنه لا يَقْدُر هذه النعمة قَدْرَها إلا مَن حُرِمَها، تأملوا في أحوال أهل الفقر والفاقة التي تغلب على حياة من ابتلوا بالجدب والقحط والجفاف والمجاعة، سائلوا أهل المزارع والمواشي: في أي حالة من الضُّرِّ يعيشون، من قلة الأمطار وغور المياه، وهي سبب خصب مزارعهم وحياة بهائمهم؟!
أرأيتم يا من تنعمون بوفرة المياه: ماذا لو حُبِسَ الماء عنكم ومُنعتم إياه؟! هل تصلح لكم حال؟! وهل يقر لكم قرار؟! وهل تدوم لكم حياة؟! {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك:30].
إنه لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه.
ومن حكمته تبارك وتعالى ألا يديم عباده على حالة واحدة، بل يبتليهم بالسراء والضراء، ويتعاهدهم بالشدة والرخاء، ويمتحنهم خيراً وشراً، نعماً ونقماً، محناً ومنحاً: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء:35] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155].
ومن ابتلاء الله لعباده: حبسُ القطر أو تأخيرُه عنهم، أو نزعُ بركته منهم، مع ما للمطر من المنافع العظيمة للناس والبهائم والزروع والثمار؛ وما في تأخيره من كثير من المضار.
معاشر المسلمين: إن للغيث أسباباً جالبة وأخرى مانعة، هل سألنا أنفسنا ونحن في مواسم الغيث؟! هل أخذنا بأسباب نزوله؟! أم قد نكون نحن بأفعالنا سبباً في منعه؟!
تعالوا بنا نعرض شيئاً من أحوالنا، لعلها تكون ذكرى نافعة، وسبباً في تقويم أوضاعنا على منهج الله، لنحظى برزقه الوافر الذي لا يُنال إلا بمرضاته، فالغيث جماع الرزق، قال تعالى: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات:22] والمطر أصل البركات، قال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأعراف:96].
فيا عباد الله: لنحاسب أنفسنا: ألم نقصر في تحقيق الإيمان والتقوى؟!
ألم تتسلل إلى بعض أهل الإسلام لوثات عقدية، ومظاهر شركية، وأخرى بدعية؟!
ما ميزان الصلاة، وهي ثاني أركان الإسلام، والفارق بين الكفر والإيمان، وقد خف مقدارها، وطاش ميزانها عند كثير من الناس؛ إلا من رحم الله؟!
وإذا سألت عن الزكاة المفروضة وإخراجها، ترى العَجَب العُجاب من بخل بعض الناس وتقصيرهم في أدائها، مما نزع البركة من الأموال، وكان سبباً كبيراً في منع القطر من السماء، أخرج البيهقي والحاكم وصححه من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {ولم ينقص قوم المكيال والميزان إلا أُخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان عليهم، ولم يَمنعوا زكاة أموالهم إلا مُنعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا}.
لقد راجت المنكرات، وعمت المحرمات في كثير من المجتمعات، فلم يتمعَّر منها وجه، ولم يشمئز منها قلب إلا من عصم الله؛ قتلٌ وزنا، ظلمٌ وربا، خمورٌ ومسكرات، مجونٌ ومخدرات.
وفي مجال المعاملات غشٌّ، وتزوير، وبخسٌ، ومماطلة، ورشاوى، في انتشار رهيب للمكاسب المحرمة، والمعاملات المشبوهة، وتساهل في حقوق العباد.
وعلى الصعيد الاجتماعي: هناك مشكلاتٌ أسرية معقَّدة، وعلاقات اجتماعية مفكَّكة، ساد كثيراً من القلوب الحسدُ، والبغضاء، والحقد، والضغينة، والشحناء، وقل مثل ذلك في مظاهر التبرج والسفور والاختلاط، وما أفرزته موجات التغريب من مساوئ في النساء والشباب، مما يذكي الجريمة، ويثير الفتنة، ويشحذ الغريزة، من مظاهر محرمة، وصور ماجنة، وأفلام خليعة، يتولى كِبْرَ ذلك كثيرٌ من الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية، حتى ضعفت الغيرة في النفوس، وقل التآمر بالمعروف، والتناهي عن المنكر، مع أنه قِوام أهل الدين، وبه نالت هذه الأمة الخيرية على العالمين، وحصل القصور في مجال التربية والدعوة والإصلاح، مع شيء من مظاهر التحلل والإباحية والعولمة والانفتاح.
فأين الغيرة الإيمانية؟! وأين الحمية الإسلامية؟!
وأين الشهامة الإنسانية؟!
وعلى الصعيد العالمي والدولي: هناك حروب وحوادث، ومصائب وكوارث؛ فتن وبلايا، ومحن ورزايا، ظُلْم وإرهاب، وفوضى واضطراب.
فاللهم سلِّم سلِّم! ورُحماك ربنا رُحماك! وإلى الله المشتكى! ولا حول ولا قوة إلا بالله!
عباد الله: إن ذنوبنا كثيرة، ومعاصينا عظيمة، وإن شؤم المعاصي جسيم وخطير، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: وهل في الدنيا شر وبلاء إلا سببه الذنوب والمعاصي؟!
الذنوب ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا في مجتمعات إلا دمرتها، ولا في نفوس إلا أفسدتها، ولا في قلوب إلا أعمتها، ولا في أجساد إلا عذبتها، ولا في أمة إلا ألَمَّتْها؛ إنها تُقِضُّ المضاجع، وتدَع الديار بلاقع.
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن ما عند الله لا يُسْتَنْزَل إلا بالتوبة النصوح، يقول أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: [[ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، وما رُفع إلا بتوبة]].
عباد الله: لقد شكوتم إلى ربكم جدب دياركم، وتأخر المطر عن إبَّان نزوله عن بلادكم وأوطانكم، فما أحرى ذلك أن يدفعكم إلى محاسبة أنفسكم ومراجعة دينكم!
{إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11].
{أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم:41].
وما ابتلي المسلمون اليوم بقلة الأمطار، وغور المياه, وانتشار الجدب والقحط، وغلبة الجفاف والمجاعة والفقر في بقاع كثيرة من العالم إلا بسبب الذنوب والمعاصي.
رأيتُ الذنوبَ تميتُ القلوب وقد يورث الذل إدمانُها
وتركُ الذنوبِ حياةُ القلوب وخير لنفسك عصيانُها
***(56/3)
أسباب منع القطر من السماء
أيها الأحبة في الله: إن تشخيص الداء في هذه القضية يحمل في طياته أسباباً كثيرة، منها:
1 - غفلة العباد.
2 - وقسوة قلوبهم.
3 - وضعف إيمانهم.
4 - وانتشار الذنوب والمعاصي بينهم، لا سيما منع الزكاة.
5 - ونقص المكاييل والموازين.
6 - والتقصير في الدعاء والضراعة.
7 - والإعراض عن التوبة والتسويف فيها.
9 - وإغفال الاستغفار، الذي هو السبب العظيم في إسْتِنْزال المطر من السماء.
يقول تعالى عن نوح عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12].
وقال سبحانه عن هود عليه السلام: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ} [هود:52].
واستسقى عمر رضي الله عنه فلم يزد على الاستغفار، فقيل له في ذلك، قال: [[لقد طلبتُ الغيث بمجاديح السماء التي يُسْتَنْزَل بها المطر]].
فالاستغفار -يا عباد الله- هو الدواء الناجع في حصول الغيث النافع، ولا بد في الاستغفار أن يكون صادقاً، فقد قال بعض السلف: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
فلنتقِ الله عباد الله! ولنعلم أنه ليس طلب الغيث بمجرد القلوب الغافلة والعقول اللاهية، وإنما يتطلب تجديد العهد مع الله، وصدق العمل بشريعة الله، وفتح صفحة جديدة من حياة الاستقامة، وإصلاحاً شاملاً في كل مرافق الحياة، ومع هذا كله ففضل الله واسع، ورحمتُه وسعت كل شيء، وعفوه عَمَّ كلَّ التائبين.
فما ضاق أمرٌ إلا جعل الله منه مخرجاً، ولا عَظُم خطبٌ إلا جعل الله معه فرجاً، فمنه يكون الخوف، وفيه يكون الرجاء.
هاهو جلَّ وعَلا ينادي عباده للتوبة والإنابة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ويقول سبحانه: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82].
وإن مواعظ ربنا لجليلة، وعطاياه لجزيلة، بابه للسائلين مفتوح، وعطاؤه للمقبلين ممنوح، وفضله للراغبين يغدو ويروح، فاشكروه على ما أعطى، وارجعوا عن المعاصي والأخطاء، جددوا التوبة لغياثكم، واتركوا التشاحن، واخرجوا من المغانم، وأحسنوا الظن بربكم، وتسامحوا وتراحموا، ولا تقنطوا من رحمة الله، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
وإني لأدعو الله حتى كأنما أرى بجميل الظن ما الله صانعُ(56/4)
أنواع الغيث
أيها الإخوة في الله: مِن رحمة الله بعباده أن أنزل لهم من الغيث نوعين اثنين:
أحدهما: معنوي.
والآخر: حسي.
فالأول: غيث القلوب والأرواح بالكتاب والسنة، وهذا الغيث هو مادة حياة القلوب، وصفاء الأرواح، وبه تتحقق سعادة الدارَين، وصلاح الحياتَين، وهذا الغيث -يا عباد الله- هو ما يفتقده الناس اليوم على الحقيقة، بل إن ضرورتهم إليه وحاجتهم له أشد من الغيث الحسي، وهو غيث الأرض بالمطر.
ولا يحصل الثاني إلا بتحقق الأول.
فعلينا -يا عباد الله- أن نتفقد قلوبنا: هل رَوِيت من القرآن، أم هي ظامئة عطشى؟!
يجب علينا أن ننظر في صحائفنا: هل هي ربيع بوحي الله، أم قاحلة جدباء؟!
لعل ذلك يدفعنا إلى إصلاح حالنا، وتقوية الإيمان في قلوبنا.
عباد الله: يا من خرجتم تستغيثون! هنيئاً لكم اجتماعكم هذا، لقد أجبتم داعي الله، وأحييتم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وامتثلتم أمر ولي الأمر وفقه الله.
فلا حرمكم الله فضله وثوابه، وحقق آمالكم، واستجاب دعاءكم.
وإنه لمن الحرمان العظيم تساهل بعض الناس في حضور دعوة الخير، وإحياء سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
هذا وإن الارتباط بين الغيث المعنوي والحسي عظيم ووثيق؛ فإذا أجدبت الأحاسيس والمشاعر، وقحطت المعاني الخيرة والمثل العليا في النفوس والضمائر، وساد الناسَ جفافٌ في الإيمان والسلوك، ذلَّت الأمة بمنع القطر، وإذا رويت بالإيمان والتقوى سَعِدَت في الأولى والأخرى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43].
فيا عباد الله: ألم يأن لنا أن تخشع قلوبنا لذكر الله؟!
فلنتقِ الله عباد الله! ولنتأس بنبينا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد خرج يوم الاستسقاء متخشعاً متذللاً متضرعاًَ مجتهداً في الدعاء؛ لأن الاجتهاد في الدعاء من أعظم الأمور التي يُسْتَنْزَل بها المطر.
يقول سبحانه: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [النمل:62].
{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186].
{وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60].
وقد ورد أن الله عزَّ وجلَّ يستحيي من عباده إذا رفعوا أيديهم إليه أن يردها صفراً، أي: خائبتَين.
أتهزأ بالدعاء وتزدريهِ ولم تدرِ ما صنعَ الدعاءُ
سهامُ الليل لا تخطي ولكن لها أمد وللأمد انقضاءُ
إذا علمتم ذلك -يا عباد الله- فارفعوا قلوبكم وأيديكم إلى ربكم ومولاكم، والهجوا بالثناء عليه سبحانه، طالبين الغيث منه، راجين لفضله، مؤمِّلين لكرمه، مُلِحِّين عليه بإغاثة القلوب والأرواح، وسقي البلاد والعباد، ومتى علم الله إخلاصكم وصدقكم وتضرعكم أغاث قلوبكم بالتوبة إليه، وبلدكم بإنزال المطر عليه.
لا إله إلا الله غياث المستغيثين، وراحم المستضعفين، وجابر كسر المنكسرين!
لا إله إلا الله العليم الحليم!
لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم!
نستغفر الله، نستغفر الله، نستغفر الله.
نستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم ونتوب إليه.
اللهم يا حي يا قيوم برحمتك نستغيث، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك.
{عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [يونس:85 - 86].
{لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:149].
لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم إنا خلقٌ من خلقك فلا تمنَعَنَّا بذنوبنا فضلك.
اللهم آنس قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين.
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراًَ.
اللهم أغثنا غيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً سحاًَ غدقاًَ طبقاً عاماً واسعاً مجللاً نافعاً غيرَ ضار، عاجلاً غيرَ آجل.
اللهم سُقيا رحمة، لا سُقيا عذاب ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
اللهم اسقِِ عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك، وأحي بلدك الميت.
اللهم أغثنا غيثاً مباركاً تحيي به البلاد، وتسقي به العباد، وتجعله بلاغاً للحاضر والباد.
اللهم أنزل علينا الغيث واجعل ما أنزلته عوناً لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين.
اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركاتك، وأنزل علينا من بركات السماء، وأخرج لنا من بركات الأرض.
اللهم ارفع عنا الجَهد والقحط والجفاف، وعن بلاد المسلمين يا رب العالمين، واكشف عنا من الضر ما لا يكشفه غيرك.
اللهم إنَّ بالعباد والبلاد من اللأواء والجَهد والضنك ما لا نشكوه إلا إليك.
اللهم ارحم الشيوخ الركَّع، والبهائم الرتَّع، والأطفال الرضَّع.
اللهم اكشف الضر عن المتضررين، والكرب عن المكروبين، وأسبغ النعم، وادفع النقم عن عبادك المؤمنين.
اللهم صلِّ وسلم وبارك على خاتم النبيين، وإمام المتقين، وأشرف المرسلين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن والقحط وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم وفق إمامنا بتوفيقك، وأيده بتأييدك.
اللهم وفقه لهداك، واجعل عمله في رضاك، وهيئ له البطانة الصالحة يا رب العالمين.
اللهم أمِدَّ بالعون والتسديد والتوفيق أميرنا وسائر المسلمين.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: لقد كان من سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم بعدما يستغيث ربه أن يقلب رداءه، فاقلبوا أرديتكم اقتداءً بسنة نبيكم صلى الله عليه وسلم، وتفاؤلاً أن يقلب الله حالكم من الشدة إلى الرخاء، ومن القحط إلى الغيث، وليكون ذلك شعاراً وعهداً تأخذونه على أنفسكم بتغيير لباسكم الباطل إلى لباس الإيمان والتقوى، بدلاً من لباس الذنوب والمعاصي.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدِينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تردنا خائبين، ولا عن بابك مطرودين، ولا من رحمتك محرومين.
اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلَّم تسليماً كثيراً.(56/5)
ظاهرة التفكك الأسري
إن ما يشهده العالم الإسلامي اليوم من تفكك ونزاع قبلي وسياسي، ونزاعات على مستوى الجماعة، وعلى مستوى الأسرة؛ إنما ذلك بسبب الذنوب والمعاصي، وعدم الأخذ بالدين من جميع جوانبه التي تأمر بالاجتماع والترابط والتزام الجماعة، مع ما يرتكب من أمور تفسد الأخوة والمودة في الدين.(57/1)
أهمية الترابط الاجتماعي
الحمد لله ذي المن والعطاء، يوالي على عباده النعماء، ويرادف عليهم الآلاء، أحمده تعالى حث على الصلة وحذر من القطيعة والجفاء، وأشكره على حال السراء والضراء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزه عن الأنداد والشركاء، وتعالى عن الأمثال والنظراء، هو الأول بلا ابتداء، والآخر بلا انتهاء، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله إمام الحنفاء، وسيد الأصفياء صلى الله عليه وعلى آله الأوفياء، وصحابته الأتقياء، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما دامت الأرض والسماء، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله الملك العلام؛ فإن تقواه سبحانه عروة ليس لها انفصام، وجذوة تنير القلوب والأفهام: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ} [النساء:1].
أيها المسلمون! القاعدة الكبرى في تحقيق سعادة المجتمع وضمان استقراره، والركيزة العظمى في إشادة حضارة الأمة وبناء أمجادها، تكمن بعد عقيدتها وإيمانها بربها في نسيجها الاجتماعي المترابط، ومنظومتها القيمية المتألقة، التي تنظم عواطف الود المشترك، والحب المتبادل والتصافي المشاع، والصلة المستديمة، في بُعدٍ عن الضغائن والبغضاء، وغوائل التقاطع والجفاء، وإثارة الأحقاد والشحناء.
معاشر المسلمين! إن المستقرئ للأوضاع الاجتماعية في كثير من المجتمعات الإسلامية ليدرك أنه في خضم المتغيرات الاجتماعية وفي ظل تداعيات النقلة الحضارية، وفي دوامة الحياة المادية، ومعترك المشاغل الدنيوية حدثت أنواعٌ من السلوكيات والأنماط الخطيرة التي يُخشى أن تؤثر في إختلال نظام الأمة الاجتماعي، ويأتي الانفتاح العالمي، والأخطبوط العولمي ليذكي غوار هذه السلوكيات، ويشعل هذه السلبيات؛ مما يؤكد أهمية تمسك الأمة بعقيدتها وقيمها الحضارية وأخلاقها الاجتماعية الأصيلة.(57/2)
تردي الأوضاع الاجتماعية
ولعل من أخطر الظواهر والمشكلات التي أذكتها المتغيرات في الأمة ما يتعلق بالأوضاع الاجتماعية، وما جد عليها من مظاهر سلبية، يوشك أن تعصف بالكيان الأسري، وتهدد التماسك الاجتماعي، فكثرت ظواهر عقوق الأبناء، وتساهل الآباء، وتقلصت وظائف الأسرة، وكثر جنوح الأحداث، وارتفعت نسب الطلاق والمشكلات الاجتماعية، وتعددت أسباب الجريمة ومظاهر الانحراف والانتحار والعنف العائلي، والمشكلات الزوجية، ووهت كثيرٌ من الأواصر، وضعف التواصل بين الأقارب والأرحام، وسادت القطيعة والجفاء، وحلت محل الصلة والصفاء، وضعفت وشائج الأخوة، وروابط المودة، وشاعت قيم الأنانية والآحادية، بدل القيم الإيثارية والجماعية، مما ينذر بإشعال فتيل أزمة اجتماعية خطيرة، يجب المبادرة إلى إطفائها والقضاء عليها بإيلاء قضايانا الاجتماعية حقها من العناية والرعاية والاهتمام.(57/3)
ظاهرة التفكك الأسري
إخوة العقيدة! وهذه وقفة مع قضية من أخطر القضايا الأسرية، تشخص ظاهرة من أخطر الظواهر الاجتماعية التي لها آثارها السلبية على الأفراد والأسر والمجتمع والأمة، تلكم هي ظاهرة التفكك الأسري والخلل الاجتماعي الذي يوجد في كثير من المجتمعات اليوم مما ينذر بشؤمٌ خطير، وشر مستطير، يهدد كيانها، ويزعزع أركانها، ويصدع بنيانها، ويحدث شروخاً خطيرة في بنائها الحضاري، ونظامها الاجتماعي مما يهدد البنى التحتية لها، ويستأصل شأفتها، وينذر بهلاكها وفنائها.(57/4)
ظاهرة العصرنة وأثرها على المجتمع
إخوة الإيمان! إن الترابط الأسري والتماسك الاجتماعي ميزة كبرى من مزايا شريعتنا الغراء، وخصيصة عظمى من خصائص مجتمعنا المسلم المحافظ الذي لحمته التواصل، وسداه التعاون والتكافل، ويوم أن زبعت زوابع العصرنة والتحديث على كثير من المجتمعات الإسلامية عاشت مرحلة انتقالية افتقدت من خلالها ما كان يرفرف على جنباتها من سلامٍ أسري ووئام اجتماعي، مما أفرز جيلاً يعيش على أنماطٍ اجتماعية وافدة، وينحدر إلى مستنقعٍ موبوء، ووحلٍ محموم، من أمراض حضارة العصر التي سرت عدواها إلى بعض المجتمعات الإسلامية فاجتاحت المثل الأخلاقية العليا، والقيم الاجتماعية المثلى، وكأنها الإعصار المدمر لقيم الأمة ومثلها.(57/5)
ظاهرة العقوق
أمة الإسلام! إن النظرة الفاحصة لما تعيشه المجتمعات الغربية لتأكد أن أقسى ما تعانيه هذه المجتمعات اليوم هو التفكك الأسري والفردية المقيتة، التي ضاقت بها بيوتهم بعد أن ضاقت بها قلوبهم، ولا عجب أن يطلب أهل الحي فيهم الجهة الأمنية لأن مسناً قد مات، فأزكمت رائحته الأنوف بعد تعفنه دون أن يعلم بموته أحد.
فسبحان الله! عباد الله: إنها الماديات حينما تغلب على القيم والأخلاقيات، والأعجب بل الأدهى من ذلك والأمر أن يسري هذا الداء إلى بعض المجتمعات الإسلامية! وهي ترى بأم عينها كيف أوشكت الأسرة الغربية على الانقراض، فكم نصنع من مظاهر التفكك، وصور الخلل والعقوق في بعض المجتمعات.
فهذا أبٌ لما كبرت سنه ووهن عظمه، واحتاج لأولاده، لم يجد ما يكافئه إلا بالتخلص منه في دور الرعاية وكأن لسان حاله يتمثل قول الأول المكلوم:
غذوتك مولوداً وعلتك يافعاً تعل بما أجني عليك وتنهل
إذا ليلة ضاقتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهراً أتململُ
فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيك أأملُ
جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل
فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعلُ
ولما سمع صلى الله عليه وسلم ذلك بكى وأخذ بتلابيب الابن وقال: {أنت ومالك لأبيك}.
وهذا آخر، طاعنٌ في السن يدخل المستشفى وهو على فراش المرض ويعاني من مرارة العقوق والحرمان، ويقول: لقد دخلت هنا منذ أكثر من شهر، ووالله ما زارني أحدٌ من أبنائي وأقاربي.
بل تعدى الأمر إلى ما هو أفظع من ذلك، فهذا مأفونٌ لما بلغت أمه من الكبر عتياً، تبرم وضاق بها ذرعاً، فما كان منه إلا أن أمر الخادمة فأخرجتها خارج المنزل، لتبيت المسكينة على عتبة الباب حتى يحسن إليها الجيران من الغد.
وهذا آخر يطلق النار على أبيه فيرديه قتيلاً من أجل مشادة كلامية، يا ألله! رحماك يا إلهي! أي جريمة ارتكبها هؤلاء العاقون في حق أعز وأقرب الناس إليهم، ويحهم على قبيح فعالهم حتى لكأن قلوبهم قدت من صخر أو هدت من صلب والله المستعان!
ونماذج العقوق والقطيعة في زمن الأعاجيب كثيرة، فأين الرحمة عند هؤلاء والديانة؟!
بل أين المروءة والإنسانية؟!(57/6)
ظاهرة قطع ذوي الأرحام
وإذا كان هذا في حق الوالدين فما بالكم بموقف هؤلاء من الأقارب والأرحام؟!
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23].
لقد وصل الحال ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظاً وحقداً على أقاربه وذوي رحمه فيقاطعهم، بل يعاديهم ويخاصمهم بل يقاضيهم، ويتمنى لهم الموت الزؤام من أجل أمرٍ تافهٍ حقير يتعلق بحفنة من الحطام، أو وشاية غرٍ لئيم، أو زلة لسان، أو شجارٍ بين الأطفال، فتمر الأشهر والسنوات وقلبه يغلي عليهم، ونفسه تموج غلاً ضدهم كما يموج البركان المكتوم، فلا يستريح إلا إذا أرغى وأزبد، وآذى وأفسد، وانبلجت أساريره بنشر المعايب، وإذاعة المثالب، وسرد القبائح، وذكر الفضائح، وتلك لعمر الحق من دلائل الصغار واللؤم وخسة الطبع وقلة المروءة لدى أقوامٍ لا يتلذذون إلا بالإثارة والتشويش، ولا يرتاحون إلا بالتحريش والتهويش.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المؤمن لا يطالب، ولا يعاتب، ولا يضارب.
إن غليان مراجل القطيعة في المجتمع لا سيما بين أبناء الأسرة وذوي الرحم والقربى، وطغيان المآرب الشخصية، والمصالح الذاتية أدواءٌ فتاكة إذا تمكنت من جسد الأمة أثخنتها، فهي مصدر كل بلاء، وسبب كل عداء، ومنبع كل شقاء، بل هي السلاح البتار الذي يشهره الشيطان ضد القلوب فيفرقها والعلاقات فيمزقها، في غلياناتٍ شيطانية، وهيجاناتٍ إبليسية إذ أرخي لها الزمام، وأطلق لها الخطام، قضت على حاضر الأمة ودمرت مستقبلها، وإذا تنافر ود القلوب كسرت زجاجات التواصل، وتمكن الشر في النفوس، وعاد الناس ذئاباً مسعورة، ووحوشاً كاسرة: {يَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25].(57/7)
فضائل صلة الأرحام وآثارها الخيرة
أمة الإسلام! ويوم أن ضعف التدين في قلوب الكثيرين، وكثر الجهل بالشريعة، وطغت المادة؛ ضعفت أواصر التواصل، وتعددت مظاهر القطيعة، وإلا فلا تكاد فضائل الصلة وآثارها الخيرة تخفى على العاقل اللبيب، فهي صفة أهل الإيمان قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:21].
وهي ثمرة من ثمار الإيمان بالله واليوم الآخر.
أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه}.
وهي سببٌ للبركة في الرزق والعمر يقول صلى الله عليه وسلم: {من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له أجله فليصل رحمه} مخرجٌ في الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إن الله خلق الخلق، حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال: نعم.
أما ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى.
قال: فذلك لك} وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لا يدخل الجنة قاطع} قال سفيان: يعني قاطع رحم، رواه البخاري ومسلم.
إن حقاً على كل قاطع رحم أن يبادر بالصلة وهذا الوعيد يقرع سمعه قبل فوات الأوان، ولا أظن أن أحداً يعذر بعد خدمة الاتصالات الحديثة، فرحم الله عبداً يصل رحمه وإن قطعوه، يتعهدهم بالزيارة ويتخولهم بالهدية وإن جفوه، يقول صلى الله عليه وسلم: {ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها} خرجه البخاري وعند مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً قال: {يا رسول الله! إن لي قرابة أصلهم ويقطعوني، وأحسن إليهم ويسيئون إلي، وأحلم عنهم ويجهلون علي، قال صلى الله عليه وسلم: لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل، ولا يزال معك من الله ظهيرٌ عليهم ما دمت على ذلك} فهنيئاً لقريب أعان على صلته بقبول العذر والصفح والعفو والتغاضي عن الهفوات، والتغافل عن الزلات، إن أحسن فلا يمن، وإن أعطى فلا يظن، لا يعرف السباب، ولا يكثر العتاب، فليست تدوم مودة وعتابُ، يتجنب المراء والجدال، ويحسن الأقوال والفعال، يشارك أقاربه آلامهم وآمالهم ويشاطرهم أفراحهم وأتراحهم مفتاحٌ لكل خير، مغلاقٌ لكل شر، ينصح ولا يفضح، ويستر ولا يعير، وفي ذلك ذكرى للذاكرين وعبرة للمعتبرين، والله المسئول أن يصلح الحال، ويسعد المآل إنه جزيل العطاء والنوال.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه فيا لفوز المستغفرين، ويا لبشرى التائبين، اللهم أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين.(57/8)
خطوات في إصلاح ظاهرة التفكك الأسري
الحمد لله الذي هدانا للإسلام، وأمرنا بصلة الأرحام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك القدوس السلام، منَّ علينا بقرب حلول شهر الصيام والقيام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله بدر التمام، ومسك الختام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحابته الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة في الله! وبعد تشخيص الداء لظاهرة القطيعة والتفكك الاجتماعي يأتي وصف الدواء، وأخذ التدابير الواقية للتصدي لهذه المشكلة الاجتماعية الخطيرة، ولعل أولى خطوات العلاج:
إصلاحٌ النفوس بالخوف من الله ومراقبته، واستشعار معيته وتعظيم أمره ونهيه في ذلك، وتربية النفوس على التكافل والإحسان، وحفظ اللسان، والتثبت عند إطلاق الشائعات، والحذر من الغضب، وكظم الغيظ والسعي في الإصلاح مع الصبر والتحمل، والعفو والتجمل واليقين بأن قوة الأمة إنما تكمن في تماسكها وترابط أبنائها.(57/9)
الاستعداد لأغلى المواسم
أيها الأحبة في الله! ولعل التذكير بهذه القضية والأمة على أبواب شهر الخير والبركة من أكبر الدوافع على الأخذ بالخطوات العملية في إصلاح النفس والمجتمع، وبمثل هذا ينبغي أن تستقبل الأمة شهرها الكريم مع الحاجة الماسة في أن يولي المتخصصون هذه الظاهرة وأمثالها الدراسة الجادة والحلول العملية الناجعة.
فيا أيها المسلمون! يا من هبت رياح اشتياقكم ببلوغ شهر رمضان المبارك ماذا أعددتم لاستقباله؟
أولستم تريدون الفوز بالجنان؟
أين زادكم وعدتكم، وقد قربت أيام المرابحة؟
أين تدريبات العزائم والاستعداد لأغلى المواسم؟ إن الكيس الصادق من أعد للسباق والمنافسة، حتى إذا ما هل الهلال المبارك انطلق لا يلتفت، وشمَّر لا يفترك، عالي الهمة، لبلوغ القمة، غايته نصب عينيه، وشوقه حاديه على مواصلة الجد في ميدان التسابق حتى يفوز بالموعود.
إذا نزل الناس إلى أسواق الدنيا لشراء ما لذ وطاب من المطاعم والمشارب؛ نزل إلى أسواق الجنان يرابح ويغالب.
ألا فلتهنأ الأمة بشهرها، ولتستعد لحسن الاستقبال بتوبة عامة، وإنابة شاملة مخلصة، في شتى المجالات، وفتح صفحة المحاسبة لمستقبلٍ أفضل تعالج فيه مشكلاتها، وتتوحد فيه كلمتها، وتنتصر بإذن الله على أعدائها، وما ذلك على الله بعزيز.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي المصطفى، والرسول المجتبى، كما أمركم بذلك المولى جل وعلا، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم على سيد الأولين والآخرين، وأفضل الأنبياء والمرسلين نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين: أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الرحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن له على الحق مؤيداً ونصيراً، ومعيناً وظهيراً، اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، ورد كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميره يا سميع الدعاء!
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان، اللهم عليك باليهود المعتدين، اللهم عليك بالصهاينة الغاشمين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين!
رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين!
اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(57/10)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الوهم والحقيقة
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء والمرسلين، ومحبته واجبة على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر؛ محبة لا إفراط فيها ولا تفريط، وهكذا أمر صلى الله عليه وسلم هذا ما بينه الشيخ، وذكر أنه لابد من اتباع سنته صلى الله عليه وسلم حتى يعود للأمة عزها ومجدها وصلاحها، ثم ذكر فضل الصحابة وآل البيت، وفضل الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم.(58/1)
أهمية معرفة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم
الحمد لله مَنَّ على هذه الأمة ببعثة خير البرايا، وجعل التمسك بسنته عصمة من الفتن والبلايا، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله الثبات على السنة والسلامة من المحن والرزايا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والخفايا، والمطلع على مكنون الضمائر والنوايا، وأشهد أن نبينا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله كريم الخصال وشريف السجايا، والمجبول على معالي الشمائل والمعصوم من الدنايا، عليه من الله وعلى آله وأصحابه وأتباعه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات وأشرف التحايا.
أما بعد:
فيا عباد الله: اتقوا الله تبارك وتعالى، فإن تقواه سبحانه وصيته للأوائل والأواخر، وبها تسمو المشاعر، وتحيا الضمائر، وبها النجاة يوم تبلى السرائر.
أيها المسلمون: إن المتأمل في تاريخ الأمم والحضارات يجد أنه ما من أمة زخر تاريخها بالعظماء كهذه الأمة؛ أمة محمد صلى الله عليه وسلم، كما يرى الناظر في سير عظماء التاريخ، وصناع المجد وبناة الحضارة أن الشخصية الفذة -بلا منازع- التي تتضاءل عند عظمتها عظمة كل عظماء البشرية هي شخصية الحبيب المصطفى، والرسول المجتبى؛ أبي القاسم محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي القرشي صلوات ربي وسلامه عليه حبيب القلوب، والمبلغ عن علام الغيوب، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم، فأعظم به من نبي! وأكرم به من رسول!
فأعظم منه لم تر قط عينٌ وأعظم منه لم تلد النساءُ
وسيرته العطرة بما فيها من شمائل نبوية، ومعجزات محمدية، ووقائع مصطفوية، كلها معينٌ وينبوعٌ صافٍ متدفق، يرتوي من معينه ويستقي من رحيقه كل من أراد السلامة من لوثات الوثنية، والنجاة من آصار الجاهلية، بل هي الشمس الساطعة، والسنا المشرق المتلألئ، والمشعل الوضاء، والنور المتألق الذي يبدد ظلمات الانحرافات: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15] {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:16].
معاشر المسلمين: إن حاجة الأمة إلى معرفة سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم والاقتباس من مشكاة النبوة فوق كل حاجة، بل إن ضرورتها إلى ذلك فوق كل ضرورة، وستظل السيرة العطرة الرصيد التاريخي والمنهل الحضاري، والمنهج العلمي والعملي الذي تستمد منه الأجيال المتلاحقة، من ورثة ميراث النبوة وحملة مشاعل الهداية زاد مسيرها، وأصول امتدادها، وعناصر بقائها، فكل من يرجو الله واليوم الآخر يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم قدوته، والمصطفى عليه الصلاة والسلام أسوته: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
وأهل الإيمان الحق عبر العصور يستمدون من الهدي النبوي منهاج حياتهم، فلا يستقيم السبيل إلا بذلك، فبهديه عليه الصلاة والسلام يهتدون، وعلى ضوء سنته يسيرون، ومن معين نبوته يرتوون، ولأعلام هدايته يحملون، وتحت لوائها ينضوون أسقطوا الرايات المشبوهة، ودحضوا الشعارات الزائفة، ولم يرفعوا إلا شعار التوحيد والمتابعة، عليه يحيون، وعليه يموتون، وفي سبيله يجاهدون، وعليه يلقون الله رب العالمين.(58/2)
إشارات إلى أهم الجوانب من سيرته صلى الله عليه وسلم
أمة الإسلام! أحباب سيد الأنام عليه الصلاة والسلام: ولد صلى الله عليه وسلم في هذه البقاع الشريفة، وكانت ولادته إيذاناً ببزوغ فجر الحق وأفول شمس الباطل
ولد الهدى فالكائنات ضياءُ وفم الزمان تبسمٌ وثناءُ
الله أكبر! إنه ضياء الحق والإيمان أشرق على الدنيا فبدد ظلام الجاهلية، وقضى على معالم الشرك والوثنية، وارتقى بالإنسانية إلى آفاق الحرية الشرعية، وقمم أمجادها الحضارية التي لم تشهدها على امتداد تاريخها وبين تلك الربى والبطاح نشأ وترعرع عليه الصلاة والسلام، ودرج مدارج الصبى محفوظاً بحفظ الله من أرجاس الوثنية ولوثات الجاهلية نشأ يتيماً تكلؤه عناية الله، وعندما بلغ الأربعين من عمره الشريف أكرمه الله بحمل الرسالة، وبعثه إلى كافة الناس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.
وكم لقي في سبيل تبليغ دعوة ربه من الأذى، فصبر وصابر، وجاهد وثابر ثلاثٌ وعشرون سنة لم تلن له قناة، ولم يفتر عن تبليغ رسالة الله أيده الله بالمعجزات الباهرة، والآيات الظاهرة، والحجج القاهرة، وجبله على أكرم سجية، وخصه بأفضل مزية، عليه من الله أفضل صلاة وأزكى سلامٍ وتحية وهبه من الأخلاق أعلاها، ومن المكارم أزكاها، ومن الآداب أفضلها وأسناها، وحسبكم بما وصفه ربه بقوله سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وعندما اشتد أذى خصومه له في مكة أذن الله له بالهجرة إلى المدينة؛ طيبة الطيبة، قاعدة الدعوة، ومنطلق الرسالة، ومأرز الإيمان، وأساس دولة الإسلام، فأعلى راية الجهاد والدعوة إلى الله حتى انتهت بعز الإسلام ودخوله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وبعد حياة حافلة بجليل الأعمال وكريم السجايا والفعال، توفاه الله عز وجل، ولحق بالرفيق الأعلى بعد أن بلغ البلاغ المبين، وأنار الطريق للسالكين، فجزاه الله عن أمته خير ما جزى نبياً عن قومه، وصلوات الله وسلامه عليه دائماً وأبداً إلى يوم الدين.
تلك يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم إشاراتٌ إلى أهم الجوانب في شخصية وسيرة المصطفى عليه الصلاة والسلام، التي لم تكن غائبة يوماً ما عن سلوك محبيه، رفع الله ذكره، وأعلى في العالمين قدره، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره.(58/3)
محبة النبي صلى الله عليه وسلم بين الإفراط والتفريط
إخوة الإيمان: ولم تكن حاجة الأمة في عصرٍ ما إلى معرفة السيرة العطرة معرفة اهتداءٍ واقتداء أشد إليها من هذا العصر الذي تقاذفت فيه الأمة أمواج المحن، وتشابكت فيه حلقات الفتن، وغلبت فيه الأهواء، واستحكمت الزعوم والآراء، وواجهت فيه الأمة ألواناً من التحديات، وصنوفاً من المؤامرات، من قبل أعداء الإسلام على اختلاف مللهم ونحلهم، يتولى كبر ذلك من لعنهم الله وغضب عليهم، وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت، من اليهود الصهاينة، ويوالي مسيرتهم دعاة التثليث وعباد الصليب، ويشد أزرهم المفتونون بهم، والمتأثرون بصديد أفكارهم وقيح ثقافاتهم من أهل العلمنة ودعاة التغريب.
ويزداد الأسى حينما يجهل كثيرٌ من المسلمين حقائق دينهم، وجوهر عقيدتهم، ويسيرون مع التيارات الجارفة دون تمحيصٍ ولا تحقيق، أو يجمدون على موروثات مبتدعة دون تجلية ولا تدقيق، وحينما يضرب المثل في ذلك على نظرة كثيرٍ من المسلمين للسيرة العطرة فإنك واجدٌ العجب العجاب.
ففئاتٌ تغلو في الجناب المحمدي وترفعه إلى المقام الإلهي، وفئات تجفوا وتعرض، والميزان الشرعي في ذلك توجيهه صلى الله عليه وآله وسلم لأمته بقوله: {لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، إنما أنا عبدٌ فقولوا: عبد الله ورسوله} خرجه البخاري ومسلم من حديث عمر رضي الله عنه فهو عليه الصلاة والسلام ليس إلهاً فيعبد، ولا رباً فيقصد، وإنما هو رسول يطاع ويتبع.
من الناس من نظر إلى السيرة النبوية على أنها قصصٌ تورد، وروايات تسرد، دون متابعة واقتداء فلا تحرك قلوباً، ولا تستثير همماً.
وأبو القاسم محمدٌ صلى الله عليه وسلم فوق كونه عظيماً من عظماء التاريخ؛ فإن شرف النبوة وتاج الرسالة هو الذي يحتم له المحبة والاتباع، وإن صلة الأمة وارتباطها برسولها وحبيبها صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة ليس ارتباط أوقاتٍ ومناسبات، ولا حديث معجزاتٍ وذكريات، بل إنه ارتباطٌ وثيق في كل الظروف وجميع الشئون وأحوال الحياة إلى الممات.
وشخصيته صلى الله عليه وسلم ليست شخصية مغمورة في زوايا السير، ولا مطمورة في جنبات التاريخ، تروى قليلاً وتطوى كثيراً حاشاه عليه الصلاة والسلام فداه أبي وأمي بل إن ذكره يملأ الآفاق، والشهادة برسالته تدوي عبر المآذن والمنابر، وتنطلق عبر الحناجر والمنائر، والمسلم الذي لا يعيش الرسول صلى الله عليه وسلم في ضميره، ولا تتبعه بصيرته في علمه وعمله وتفكيره في كل لحظة من لحظاته لا يغني عنه أبداً التغني بسيرته، ولا صياغة النعوت في مدائحه، وليس هناك أغلى وأعلى من مدح ربه جلَّ وعلا له وثنائه عليه.
وما جنح بعض المسلمين إلى مثل هذا اللون في الإفصاح عن تعلقهم بنبيهم صلى الله عليه وسلم إلا يوم أن زهدوا في الثوابت واليقينيات، وانبهروا بالمظاهر والشكليات، وتركت نفوسهم الجد والعزمات، واستسلمت للتواني والدونيات، فالجهد الذي يتطلب العزائم هو: الاستمساك والاقتداء، فينهض المسلم الجاد إلى تقويم نفسه وإصلاح شأنه؛ حتى يحقق الاقتداء والاهتداء برسوله صلى الله عليه وسلم، وحتى يترجم تلك الدعاوى إلى واقعٍ عملي في كل شئونه في معاشه ومعاده، في حربه وسلمه، في علمه وعمله، في عباداته ومعاملاته وإن تحويل الإسلام إلى هزٍ للرءوس، وجمود على مظاهر وطقوس، يصاحب ذلك تعلقٌ بأذكارٍ وتسابيح، وترنمٌ بقصائد وتواشيح؛ لشيءٌ عجيب يحار العقل في قبوله!
والأدهى من ذلك أن تكون هذه الأمور معايير لصدق المحبة وعدمها، ومقاييس يُرمى كل من تركها واستبان عوارها بتنقصه لجناب الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وتلك شنشنة معروفة من أخزم، فحب رسولنا صلى الله عليه وسلم يتغلغل في أعماق نفوسنا، ويتربع في سويداء قلوبنا، ولا يغيب حبه إلا من قلب أهل النفاق والزندقة، ونشهد الله الذي لا إله غيره أنه أحب إلينا من أنفسنا ووالدينا وأولادنا والناس أجمعين كيف لا ومحبة المصطفى صلى الله عليه وسلم دينٌ يدين لله بها كل من تشرف للإسلام؟! بل لا يستحق أحدٌ شرف الإيمان إلا بتحقيقها، يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين} خرَّجه الشيخان من حديث أنس رضي الله عنه.
وعند البخاري من حديث عمر رضي الله عنه قال: {قلت: يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيءٍ إلا من نفسي.
فقال: والذي نفسي بيده! حتى أكون أحب إليك من نفسك.
فقال له عمر: فإنك الآن أحب إلي من نفسي، قال: الآن يا عمر}.(58/4)
حقيقة محبته صلى الله عليه وسلم
إن المعول -أيها المحبون رعاكم الله- على صدق المحبة ولوازمها وحقيقتها بالاتباع والاهتداء والتأسي والاقتداء، يقول سبحانه: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:31 - 32].
ومن الأسف أن أعداء الملة وخصوم السنة وسماسرة الخرافة، تمكنوا في غفلة من المصلحين أن يصدعوا البناء، ويشوبوا الصفاء، ويكدروا النقاء، ويتركوا دينهم لعباً ولهواً {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الأنعام:70].
فكيف -يا أحباب رسول الله صلى الله عليه وسلم- يترك ميراث النبوة نهباً للعوادي؟! وكيف يكون التبديل والتغيير في دين الله في غفلة وسكون؟! وكيف يمهد للجاهلية الأولى أن تعود من جديد؟!
ألا فليفقه المسلمون سيرة رسولهم صلى الله عليه وسلم فقهاً مؤصلاً بالدليل والبرهان، والسير على منهج سلف الأمة رحمهم الله، قبل أن تأخذ السبل الملتوية بهم فتطيح بهم بعيداً عن جادة الحق والهدى {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} [الكهف:104].(58/5)
اتباع السنة هو مصدر عز الأمة وصلاحها
أمة الإسلام! لقد جربت الأمة هذه المظاهر والشكليات بعد انحسار القرون الثلاثة المفضلة، فلم تحقق عزة، ولم تورث منعاً، ولم تعد مقدسات، وإذا كانت الأمة في هذه الظروف الحرجة التي تمر بها تتحدث عن سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فكيف يطيب الحديث والذكريات؟ وكيف يحلو الكلام والمناسبات ومقدسات المسلمين يعيث فيها أعداء الإسلام والمسلمين؟
كيف يجمد الحديد وأعداء الإسلام من الملحدين يصرون على صلفهم وعدوانهم ضد إخواننا في الشيشان المجاهدة؟ كيف يحلو الكلام وأعداء الإسلام من الوثنيين يمعنون في حقدهم السافر ضد إخواننا في كشمير؟ كيف وكيف وقضايا المسلمين معلقة وأوضاعهم متردية إلا من رحم الله؟ ألا حق أن نذرف الدموع الحراء على أحوال السنة الغراء!
إن الأمة بحاجة ماسة إلى تجديد المسار، وتصحيح المواقف، والوقوف طويلاً للمحاسبة والمراجعة، نريد من مطالعة السيرة ما يزيد الإيمان، ويزكي السريرة، ويعلو بالأخلاق، ويسمو بالقيم، ويقوم المسيرة.
ويخطئ كثيراً من يظن أن انتكاسات الأمم، وهزائم الشعوب، وزوال الحضارات؛ راجعٌ إلى ضعفٍ مادي، أو نقصٍ حربي أو تقني؛ ولكن الحقيقة أن ذلك راجع إلى التفريط في الثوابت ودخول النقص في المبادئ والمعتقدات.
إن عز الأمة وسعادتها وصلاحها وهدايتها مرهونٌ باتباع سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وشواهد ذلك جلية في نصوص الشرع وحوادث التاريخ.
فيوم أن كانت الأمة متمسكة بإسلامها الحق، مهتدية بنور الوحيين، مقتفية آثار النبوة؛ دانت لها المشارق والمغارب، وتحققت لها العزة والمجد المؤثل، والشرف المؤصل اجتمعت كلمتها، وتوحدت صفوفها، ولم تجد البدع والأهواء طريقاً إلى مجتمعها وتمر القرون، وتمضي الأعصار والسنون، وتبتلى هذه الأمة بالفرقة والاختلاف في أمور دينها، حتى تسربت إلى صفوف الأمة ألوانٌ من العقائد المنحرفة، وتسللت عبر الحصون ضروبٌ من الطوق الفاسدة التي تشوش على الأمة في أعز ما تملك في عقيدتها، واتباعها وحبها لرسولها صلى الله عليه وسلم، وأضل سرادق الخرافة عقول كثيرٍ من أبناء أهل الديانة، مما يجسد المسئولية على حماة السنة وحراس الملة أن يهبوا من رقدتهم، ويبذلوا مزيداً من الجهود المنسقة في الدعوة إلى الكتاب والسنة، والتحذير مما يخالفها، والذب عن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم تعلماً وتعليماً، ودعوة وجهاداً.
يقول الإمام النيسابوري رحمه الله: الذب عن السنة أفضل من الجهاد في سبيل الله.
ألم يئن الأوان -يا أمة الإسلام- أن تجتمع القلوب، وتتوحد الدروب على الكتاب والسنة بمنهج سلف الأمة؟ وإذا كانت الأمة تعيش عصر الانفتاح والعولمة فإن ترميم بنائها من الداخل ضمانة -بإذن الله- لوجود الحصانة من التأثير السلبي ضد عقيدة الأمة وقيمها ومثلها، ولن يكون ذلك إلا بتحقيق الاتباع، والحذر من الابتداع، ولو كان خيراً لسبقونا إليه والله المستعان!
{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة:128 - 129].
بارك الله لي ولكم في الوحيين، ونفعني وإياكم بهدي سيد الثقلين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو البر الرحيم.(58/6)
فضل الصحابة وآل البيت
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم كتابه المبين: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل العاقبة الحميدة للمتقين المتبعين، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الصادق الأمين، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته الغر الميامين، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله: إن شأن المسلم الحق التمسك بالثوابت التي كان عليها خير القرون، وهم سادات المحبين، ولا شك أنهم أحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ممن جاء بعدهم، وهيهات أن يأتي أدعياء المحبة في أعقاب الزمن بمحدثاتٍ يزعمون أنها ترجمان المحبة، وهي لا تزيدهم من المحبة إلا بعداً، ولطالما كان سبباً في توسيع هوة الفرقة في الأمة، وإن من يدعو إلى الاعتصام بالوحيين داعية وفاق وخير للأمة، لا من يتعصب لهواه على حساب هداه: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50].
أخي المحب المبارك: ومما يلحق بمنزلة المصطفى صلى الله عليه وسلم المختار مكانة أهل بيته الأطهار، وصحابته الأبرار، وآله الأخيار، وزوجاته أمهات المؤمنين، وحبهم ومعرفة قدرهم وفضلهم جميعاً، وعدم تنقصهم أو الوقيعة بهم؛ فإن ذلك أمارة الخسران، والكف عما شجر بينهم؛ فإنه علامة الإيمان، والترضي عنهم جميعاً رضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم مع رسولنا الحبيب صلى الله عليه وسلم في دار كرامته بمنه وكرمه.(58/7)
فضل الصلاة والسلام على رسول الله
ألا واعلموا -رحمكم الله- أن من أفضل ما تقرب به المتقربون، وعبر به الصادقون عن محبتهم لرسولهم صلى الله عليه وسلم كثرة الصلاة والسلام عليه؛ فقد أمر الله بذلك بقوله جل وعلا: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56]، كما حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك وأخبر أن فيه الأجر العظيم، كما في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً} وروى الإمام أحمد والنسائي بسندٍ صحيح عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من صلى عليَّ صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات، وحط عنه عشر سيئات، ورفع له عشر درجات}، ولما قال له أبي بن كعب رضي الله عنه: {إني أكثر الصلاة عليك، فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال: ما شئت -إلى قوله- أجعل لك صلاتي كلها؟ قال: إذاً تكفى همك، ويغفر لك ذنبك} رواه الإمام أحمد والترمذي بسندٍ صحيح، والحاكم ووافقه الذهبي.
فيا من يريد الخير في الدارين! أكثر من الصلاة والسلام على سيد الثقلين، لكن ذلك الأجر مرهونٌ بالإخلاص والمتابعة، والالتزام بالصلوات المشروعة دون المبتدعة، وأجمعها الصلاة الإبراهيمية، التي يقرؤها المسلم في تشهده: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميدٌ مجيد.
فأكثروا -رحمكم الله- من الصلاة على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، صلاة متبعٍ له، مقتفٍ لسنته.
اللهم صل على محمدٍ ما ذكره الذاكرون الأبرار، وصل على محمد ما تعاقب الليل والنهار، وصل على محمدٍ وعلى المهاجرين والأنصار.
اللهم صل على نبينا محمد ما ازدهرت النجوم، وتلاحمت الغيوم.
اللهم صل وسلم على صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، واللواء المعقود.
اللهم صل وسلم وبارك على صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، والمقام الأطهر، والمجد الأظهر.
اللهم ارزقنا شفاعته، وأوردنا حوضه، وأسقنا بيده الشريفة شربة لا نظمأ بعدها أبداً، إنك أكبر مسئول، وخير مأمول.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين،،واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين للحكم بشريعتك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين والمضطهدين في دينهم في سائر الأوطان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان، وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم ألف بين قلوب المسلمين، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن، ما ظهر منها وما بطن اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(58/8)
مفاهيم صحيحة للإجازة
ناقش الشيخ حفظه الله في هذه المادة بعض المفاهيم التي تتعلق بواقع الناس في الإجازة الصيفية، وقد بين الآثار السلبية لغياب الضوابط الشرعية لاستغلال الإجازة.(59/1)
الإجازة الصيفية ومهمة المسلم في الحياة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونثني عليه الخير كله، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائم على كل نفس بما كسبت، والرقيب على كل جارحة بما اجترحت، والمتفضل على عباده بنعمٍ توالت وكثرت، سبحانه لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا الأرض تحركت أو سكنت، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الذي تمت ببعثته النبوة وختمت، وسطعت به أنوار الشريعة وكملت، وعلت به راية الملة وارتفعت، وحيرت معجزاته العقول وبهرت، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين زكت نفوسهم وطهرت، وعلت هممهم في نصرة الدين وانتهضت، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تلاحمت الغيوم وانسكبت، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- فما للنفوس لا تتزود من التقوى وهي مسافرة؟!
وما للهمم عن ركب المتقين فاترة؟!
وما للألسن عن شكر نعم الله قاصرة؟!
وما للعيون إلى زهرة الدنيا الفانية ناظرة، وعن طريق الهداية الواضحة حائرة؟!
ألا فاتقوا الله ربكم، وعظموا نواهيه وأوامره، وتدبروا آياته؛ فكم فيها من موعظة وعبرة زاجرة!
أيها المسلمون: متى ما استمسكت الأمة بعقيدتها وثوابتها؛ صلحت أحوالها، واستتبت أوضاعها، وتلاشت عن مجتمعاتها الظواهر المخالفة لدينها.
ومتى فرطت في إسلامها، وأرخت الزمام لأبنائها يخبطون خبط عشواء في دخيل الأفكار، وهزيل المناهج، ومستورد الثقافات، وانفتاح على العالم دون ضوابط شرعية وآدابٍ مرعية؛ تفشت بينها الظواهر المخالفة لشريعتها، مما يترك آثاراً سلبية على أفرادها ومجتمعاتها, ويحتاج إلى التصدي والعلاج من قبل الغيورين عليها، والمهتمين بشئونها وأوضاعها.
معاشر المسلمين: ظاهرة اجتماعية مؤرقة وكبيرة، وقضية تربوية مهمة وخطيرة؛ هي برسم الخطط والمناهج وإعداد الدراسات والبرامج لتأصيلها والعناية بها حفية وجديرة، تلكم هي ما يحصل في مثل هذه الأيام من كل عام، حينما تشتد حرارة الصيف، ويلقي بسمومه اللافحة على بعض أقطار المعمورة، مما يحمل كثيراً من الناس على الهروب إلى المصائف والمنتزهات، والفرار إلى الشواطئ والمنتجعات، والعزم على السفر والسياحة، وشد الأحزمة للتنقل والرحلات.
يوافق ذلك فرغ من الشواغل، وتمتع بإجازة صيفية يقضيها الأبناء بعد عناء عام دراسي كامل، وحيث قد أعد كثير من الناس برامج لشغل إجازاتهم، وقضاء وقت فراغهم، وكثير منهم قد حزم حقائب السفر أو سافر فعلاً.
يترجم ذلك الكم الهائل المتهافت على مكاتب الحجوزات والمطارات للسفر عبر الأجواء والمحيطات، في مراكب تمخر عباب الجو والبحر والفيافي لشتى القارات، وقد أعد هؤلاء وأولئك أمتعة الترحال إلى هنالك وهناك.
لذا أستلطفكم -يا راعاكم الله- لنضع هذا القضية على الميزان الشرعي، ونعرضها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع إلماحة يسيرة إلى واقع بعض الناس فيها، وبيان الآثار السلبية عند غياب الضوابط الشرعية، لهذه القضايا الواقعية، وذلك عن طريق هذه المحاور الموجزة المهمة.(59/2)
ثبات المسلم على مبادئه
المحور الأول: مهمة الإنسان في هذه الحياة؛ فهي سر وجوده، ووسام عزه، وتاج شرفه، وإكسير سعادته، تلكم هي عبوديته لربه عز وجل وتسخيره، كلما أفاء الله عليه بالقيام بها وعدم الغفلة عنها طرفة عين، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
وإن أمارة المسلم الحق: بقاؤه ثابتاً على مبادئه وفياً لدينه وعقيدته، معتزاً بأصالته وشخصيته، فخوراً بمبادئه وثوابته، لا يحده عن القيام برسالته زمان دون زمان، ولا يحول بينه وبين تحقيق عبوديته لربه مكان دون آخر، فمحياه كله لله، وأعماله جميعها لمولاه: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163].
فحيثما ما كان وحل، وأينما وجد وارتحل، فإنه يضع العبودية لله شعاره، وطاعته لربه دثاره، هذا هو منهج المسلم الصادق في إسلامه، القوي في إيمانه، الإيجابي في انتمائه.
ومن أسوأ ما أصيبت به الأمة في أعقاب الزمن: انتشار الانتماء السلبي وغلبة الفكر الهامشي الذي طغى على كثير من جوانب الحياة؛ مما أفرز أجيالاً تسيء فهم الإسلام على حقيقته، وتجعل للوثات الفكر المنحرف ومظاهر السلوك المحرم رواجاً في تكوين شخصيتها بانهزامية ظاهرة، وتبعية ممقوتة، وانسياق محموم، ولهث مذموم، خلف سراب موضات التشبه والتقليد، وبهارج العلمنة والتغريب المنتشرة في بعض صفوف المسلمين مع شديد الأسف، حتى ضاعت عندهم الهوية الدينية، وفقدت معالم الشخصية الإسلامية.
مما يتطلب إذكاء روح العزة الإيمانية في نفوس أبناء الأمة المحمدية: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].(59/3)
الوقت هو الحياة
المحور الثاني يا إخوة الإيمان: الوقت: فهو مادة الحياة، والزمن: فهو وعاء العمر، فالواجب استثماره في مرضاة الله، وشغله بطاعته سبحانه؛ فإن الإنسان مسئول عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، كما صح بذلك الخبر عن سيد البشر عليه الصلاة والسلام، خرجه الترمذي وغيره من حديث أبي برزة رضي الله عنه.
يقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: السَّنَةُ شجرة، والشهور فروعها، والأيام أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمارها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنما يكون الجداد يوم المعاد، فعند الجداد يتبين حلو الثمار من مرها.
ألا فليعلم ذلك من أهدروا أوقاتهم، وبددوا أعمارهم في غير مرضاة مولاهم.(59/4)
الفراغ سلاح ذو حدين
المحور الثالث: الفراغ: فهو نعمة من نعم الله، يجب شغله بكل وسيلة شرعية؛ وذلك بالقيام بالعبادة بمفهومها الواسع، أو على أقل تقدير بالأمور المباحة شرعاً دون ما هو محرم، ففيما أحل الله غنية عما حرم.
وقد أرشد المولى جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله سبحانه: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8].
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} خرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
ويقول صلى الله عليه وسلم: {اغتنم خمساً قبل خمس -وذكر منها- وفراغك قبل شغلك} خرجه الإمام أحمد والبيهقي والحاكم وصححه ووافقه الذهبي من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
وكم كان الفراغ سبباً في الانحراف بكل ضروبه، والفساد بشتى صوره، عند عدم استثماره فهو منّة ونعماء، لكن إذا استغل في معصية الله فهو نقمة وبلاء.(59/5)
الترويح المباح
المحور الرابع يا إخوة العقيدة: الترفيه البريء والترويح المباح: لا غضاضة على الإنسان فيه؛ بل قد يكون مطلوباً أحياناً لأغراض شرعية، كما في حديث حنظلة: {ولكن ساعةً وساعة}.
يجب أن يكون لك ترفيه وترويح في حدود ما هو مباح شرعاً، فالإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروحوا عن أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم بالوسائل المباحة في ذلك شرعاً.
أما أن يستغل ذلك فيما يضعف الإيمان، ويهز العقيدة، ويخدش الفضيلة، ويوقع في الرذيلة، ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل والمبادئ فلا.
وكلا!!
وإن رغمت أنوف من أناس فقل يا رب لا ترغم سواها(59/6)
مع السفر والمسافرين
المحور الخامس: مع السفر والمسافرين: فالسفر في هذا الدين لا بأس فيه؛ بل قد يكون مطلوباً لمقاصد شرعية، يقول الثعالبي رحمه الله: من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى، ويدعوه إلى شكر نعمه.
تلك الطبيعة قف بنا يا ساري حتى أريك بديع صنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزتا لروائع الآيات والآثار
وقد قيل:
لا يصلح النفوس إذا كانت مدبرة إلا التنقل من حال إلى حال
فالماء الدائم يأسن، والشمس لو بقيت في الأفق واقفة لمل الناس منها.
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب(59/7)
من أحكام السفر
السفر في الإسلام له حدود مرعية، وضوابط شرعية، منها: أن يكون السفر في حدود بلاد الإسلام المحافظة، أما أن يكون إلى بقاع موبوءة ومستنقعات محمومة، وبؤر مشبوهة فلا، ما لم يكن ثمة ضرورة مع القدرة على إظهار شعائر الإٍِسلام، وهل يلقى بالحمل الوديع في غابات الوحوش الكاسرة، والسباع الضارية، أخرج الترمذي وأبو داود بسند صحيح، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {أنا بريء من رجل يبيت بين ظهراني المشركين} وقد استثنى أهل العلم من ذلك الداعية إلى الله، والمضطر لعلاجٍ أو نحوه.(59/8)
السياحة وآثارها
المحور السادس يا رعاكم الله: مع السياحة: وما أدراكم ما السياحة؟!
لفظة براقة، وعبارة أخاذة، لها دلالاتها الشرعية، فكم كان أسلافنا يجوبون الأرض شرقاً ومغرباً؛ جهاداً في سبيل الله، ودعوة إلى دين الله بأقوالهم وأفعالهم وسلوكهم وحسن تعاملهم.(59/9)
السياحة المباحة والسياحة المحرمة
نعم لاستثمار السياحة في هذا المقصد الشرعي النبيل، إننا جميعاً مع السياحة بمفهومها النقي النظيف، المنضبط بالضوابط الشرعية، غير أن مما يبعث على الأسى أن في الأمة منهزمين كثراً، عبوا من ثقافة الغير حتى ثملوا، وزعموا -وبئسما زعموا- أن السفر والسياحة لا يمكن أن تتحقق إلا بأيام سوداء، وليال حمراء، ومجانبة للفضائل ونبذ للحياء، وإعلان بالفضائح ومجاهرة بالقبائح.
إن الولوغ في هذه المياه العكرة، والانسياق وراء أمراض الأمم المعاصرة، وأدواء المجتمعات المنحرفة، وإفرازاتها المنتنة، لا يمكن أن يقبله ذوو النفوس المؤمنة، والمجتمعات المحافظة.
نعم لسياحة التأثير لا التأثر، والاعتزاز لا الاهتزاز، والفضيلة لا الرذيلة، والثبات لا الانفلات، كيف وقد ثبت -بما لا يدع مجالاً للشك- أن أعداء الإسلام يستهدفون أفواجاً من السياح المسلمين للوقيعة بهم، فيبهرونهم عن طريق الغزو الفكري والأخلاقي ببلادهم، ويستغلون كثيراً من السائحين اقتصادياً وأخلاقياً، ويجرونهم رويداً رويداً إلى حيث الخنا والفجور، والمخدرات والخمور، والتبرج والاختلاط والسفور.
بل قد يرجع بعضهم متنكراً لدينه ومجتمعه وبلاده وأمته، أين العقول المفكرة عن الإحصاءات المذهلة من مرضى الهزبر والإيدز، ومن عصابات وشبكات الترويج للمسكرات والمخدرات؟!
إننا نناشد المسافرين والسائحين أن يتقوا الله في أنفسهم وأسرهم ومجتمعاتهم وأمتهم، ونقول لهم: قبل أن ترفعوا أقدامكم: فكروا أين تضعوها؟
فمن مشى غرة في موضع زلقاً
نعم.
سافروا للخير والفضيلة والدعوة والإصلاح، فلا حجر عليكم، وكونوا ممثلين لبلادكم الإسلامية، مظهرين لدينكم، داعين إلى مبادئه السمحة، حيث يتخبط العالم بحثاً عن دين يكفل له الحرية والسلام، ولن يجده إلا في ظل الإسلام.
فكونوا أيها المسافرون سفراء لدينكم وبلادكم، مثلوا الإسلام أحسن تمثيل، كونوا دعاة لدينكم بأفعالكم وسلوككم، لا تبخلوا على أنفسكم باصطحاب رسائل تعريفية بالإسلام ومحاسنه وتعاليمه السمحة، فو الله: {لَأَنْ يَهْدِيَ الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم}.(59/10)
سمعة المسلمين مرهونة بأخلاق سائحيهم
حذار أن يفهم العالم عن المسلمين وشبابهم أنهم أرباب شهوات وصرعى ملذات!
بل أفهموه بسلوككم أنكم حملة رسالة، وأرباب أعلى هدف وأشرف غاية، وأصحاب شخصية فذة وشريعة خالدة ودين يرعى العقيدة والمبادئ والقيم، ويدير الحياة عن طريق الحق والعدل والسلام، ويبحث عما يكفل للعالم الرقي والتقدم والحضارة.
أمة الإسلام: ومما ينبغي التحذير منه براءةً للذمة، ونصحاً للأمة، ما تعمد إليه بعض الشركات والمؤسسات السياحية من الدعوة إلى السفر إلى بلاد موبوءة، وإظهارها بدعايات مزركشة، وإعلانات مزخرفة، ظاهرها الرحمة، وباطنها العذاب.
إنها تمثل قنابلَ موقوتةً، وألغاماً مخبوءة، لنسخ المبادئ ودوس القيم والأخلاق والفضائل.
ألا وإن من التحدث بنعم الله وشكر آلائه سبحانه ما حبا الله بلادنا المسلمة المباركة -حرسها الله- من مقومات شرعية وتأريخية وحضارية، تجعلها مؤهلة لتكون بلد السياحة النظيفة النقية، فهي -بإذن الله- قادرة على إعطاء مفهوم صحيح، ووجه مشرق للسياحة التي خيل لبعض المفتونين المنهزمين أنها صناعة الفجور والإباحية والانحلال.
أوليس الله قد منّ على بلادنا بالحرمين الشريفين مهوى أفئدة المسلمين ومحط أنظارهم؟!
أوليست بلادنا تنعم بحمد الله بالأجواء المتنوعة التي تشكل منظومة متألقة، ومجموعة متكاملة، يقل نظيرها في العالم؟!
فمن البقاع المقدسة إلى الشواطئ الجميلة، والبيئة النظيفة السليمة من أمراض الحضارة المادية وإفرازاتها، إلى الجبال الشم الشاهقة ذات المنظر الجميل، والهواء العليل، والأودية الخلابة، والسهول الجذابة، والجداول المنسابة، مروراً بالمصائف الجميلة، والصحاري البديعة، والقمم الرفيعة، والوهاد الواسعة، والبطاح الشاسعة ذات الرمال الذهبية العجيبة.
وأهم من هذه المقومات المادية والحسية: المقومات المعنوية والمميزات الشرعية والخصائص الإسلامية والحضارية، والآداب العربية الأصيلة التي تحكي عبق التأريخ والحضارة المعطرة بالإيمان، الندية بالمروءة والإحسان.
فهل بعد ذلك يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير بتأثيرات عقدية وثقافية، وانحرافات أخلاقية وسلوكية، ومخاطر أمنية وأمراض صحية ووبائية، مما لا يخفى أمره على ذوي العقول والحجى؟!
وبذلك يتحقق لمن ينشدون الطهر والعفاف والنقاء، والفضيلة والخير والحياء، التمتع بأجواء سياحية مباحة، ويسد الطريق أمام الأبواق الناعقة والأقلام الحاقدة، التي تسعى لجر هذه البلاد المباركة وأهلها إلى ما يفقدها خصائصها ومميزاتها، ويخدش أصالتها وثوابتها، فماذا يريد هؤلاء؟!
وماذا يقصد أولئك؟!
فلنشكر الله على نعمه وآلائه، ولنحافظ عليها بطاعته واتباع أوامره، حفظ الله لهذه البلاد عقيدتها وقيادتها، وأمنها وإيمانها من كيد الكائدين، وسائر بلاد المسلمين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي لطيف لما يشاء، إنه هو العليم الحكيم، وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلكم تفلحون.(59/11)
الشباب والإجازة بين السلب والإيجاب
الحمد لله؛ أعاد وأبدى، وأنعم وأسدى، أحمده تعالى وأشكره على آلائه التي لا نحصي لها عداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً فرداً صمداً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، أكرمْ به رسولاً وعبداً، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الذين أكسبهم شرفاً ومجداً، والتابعين ومن تبعهم بأمثل طريقة وأقوم سبيل وأهدى.
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أيها الإخوة الأحبة في الله! المحور السابع مع الشباب من الأبناء والبنات.
أهدي الشباب تحية الإكبار هم كنزنا الغالي وسر فخاري
هل كان أصحاب النبي محمد إلا شباباً شامخ الأفكار
الشباب عماد الأمة، وقلوبها النابضة، وشرايينها المتدفقة، وعقولها المتلألئة، هم جيل اليوم، ورجال المستقبل، وبناة الحضارة، وصناع الأمجاد، وثمرات الفؤاد، وفلذات الأكباد، فلا بد من تربيتهم تربية صحيحة شاملة، وشغل أوقاتهم بطريقة متوازنة، فهذه الأشهر التي يمرون بها في فراغ من المشاغل الدراسية النظامية لا بد أن يستثمرها أولياء أمورهم في برامج حافلة، تكسبهم المهارات، وتنمي فيهم القدرات، تقوي إيمانهم، وتثقل فكرهم، وتثري ثقافاتهم.
فأين الآباء والمربون عن إعداد البرامج الشرعية المباحة؟! وهي كثيرة بحمد الله، كحفظ كتاب الله عز وجل واستظهار شيء من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتعلم العلم النافع، وكثرة القراءة في كتب أعلام الإسلام قديماً وحديثاً، والاطلاع على السير والتأريخ والآداب ونحوها، وإدخال السرور عليهم بالذهاب بهم إلى بيت الله الحرام في عمرة، أو إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة، أو إلى أحد مصائف هذه البلاد في سياحة بريئة، وفي محافظة على دينهم وأخلاقهم، وصلة لأقاربهم وأرحامهم؛ حتى لا يقعوا فريسة في دهاليز الإنترنت، وشبكات المعلومات، وضحايا في سراديب القنوات والفضائيات، وأرصفة البطالة واللهو والمغريات.(59/12)
الزواج ومنكرات الأفراح
ومما يسر المسلم أن تشغل الإجازة بالزواجات للشباب والفتيات، وتلك قضية مهمة، لكننا نوصي المسلمين بالتزام منهج الإسلام في ذلك، وعدم الخروج على تعاليمه بالإسراف والبذخ والمغالاة والسهر، والتكاليف الباهظة، والحذر من منكرات الأفراح التي يفعلها بعض ضعيفي الديانة هداهم الله!
ومن المحاور المهمة في هذه القضية: أن يعلم العبد أنه يُراقَبُ من قِبَلِ رَبِّه ومولاه، فلا يراه حيث نهاه، ولا يفقده حيث أمره، إن الله كان عليكم رقيباً.
ومنها أحبتي في الله: أن شدة الحر في هذه الدنيا يجب أن تذكر بالآخرة، فشدة الحر من فيح جهنم عياذاً بالله! فهل اعتبرنا وهل تذكرنا -ونحن في هذه الدنيا- هذه النار، فعملنا على الأخذ بأسباب الوقاية منها؟ فرحماك ربنا رحماك!(59/13)
الشعور بآلام المسلمين
أمة الإسلام: وأهم هذه المحاور: أن المسلم المرتبط بإسلامه وإيمانه يكون شعوره مع شعور إخوانه المسلمين، يتذكر أحوالهم ومآسيهم؛ لا سيما الذين يعيشون حياة القتل والتشريد والاضطهاد، فهل من الإحساس بشعورهم إهمال قضاياهم؟!
أين الأحاسيس المرهفة، والمشاعر الفياضة؟!
أين الذين يفكرون بأحوال إخوانهم في العقيدة، ويهتمون بمقدسات الأمة وما يمر به المسجد الأقصى المبارك، وما تضج به فلسطين المسلمة؛ حيث شلالات الدم المتدفقة هذه الأيام؟!
وليس ما فعلته وتفعله الصهيونية العالمية واليهودية الدولية بخافٍ على ذوي النخوة والمروءة.
وقل مثل ذلك في الشيشان الصامدة، وكشمير المجاهدة، في الوقت الذي يفكر فيه كثيرون بالتمتع بإجازاتهم في منتجعات ليست للكرام ولا كرامة، فالله المستعان!
فاتقوا الله عباد الله! {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
ثم صلوا وسلموا رحمكم الله على خير الورى طراً، وأفضل الخليقة شرفاً وطهراً، صلاةً تكون لكم يوم القيامة ذخراً، فقد أمركم بذلك ربكم تبارك وتعالى في تنزيل يتلى ويقرا، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وادحر الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم كن له على الحق مؤيداً ونصيراً، ومعيناً وظهيراً، اللهم ارزقه البطانة الصالحة، التي تدله على الخير وتعينه عليه.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان، وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم عليك باليهود المعتدين، وسائر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم اهتك أستارهم، وافضح أخبارهم، وأبن عوارهم، يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم إنا نسألك عيش السعداء, ونزل الشهداء، والنصر على الأعداء، يا سميع الدعاء!
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر، اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسائر الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ؛ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكره على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(59/14)
نهاية العام دروس ووقفات
ما أسرع مرور الأيام والليالي؛ فها نحن في نهاية عام هجري، وبهذه المناسبة نتذكر هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، وكيف أن هذه الحادثة غيرت مجرى التاريخ.
وفي هذا الدرس ذكر الشيخ حفظه الله دروساً ومواقف من الهجرة النبوية، كما تحدث عن فضل شهر الله المحرم وصيام يوم عاشوراء.(60/1)
دروس ومواقف من الهجرة النبوية
الحمد لله مقدر المقدور، ومصرِّف الأيام والشهور، ومجري الأعوام والدهور، أحمده تعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، إليه تصير الأمور، وهو العفو الغفور.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنفع صاحبها يوم يُبَعْثر ما في القبور، ويُحَصَّل ما في الصدور، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، النبي المجتبى، والحبيب المصطفى، والعبد الشكور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما امتدت البحور، وتعاقب العشي والبكور، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم النشور، وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله، فهي أربح المكاسب، وأجزل المواهب، وأسمى المناقب، وبها تنال أعلى المراتب، وتتحقق أعظم المطالب.
عباد الله: تعيش الأمة الإسلامية هذه الأيام إشراقة سنة هجرية جديدة، وإطلالة عام مبارك بإذن الله، بعد أن أفلت شمسُ عام كامل مضى بأفراحه وأتراحه، فقوِّضت خيامه، وتصرَّمت أيامه، فالله المستعان عباد الله!
ما أسرع مرور الليالي والأيام! وتصرُّم الشهور والأعوام! لكن الموفق الملهم من أخذ من ذلك دروساً وعبراً، واستفاد منه مُدَّكَراً ومُزدَجَراً، وتزود من الممر للمقر؛ فإلى الله سبحانه المرجع والمستقر، والكيس المُسَدَّد مَن حاذَرَ الغفلة عن الدار الآخرة، حتى لا يعيش في غمرة، ويؤخذ على غرة، فيكون بعد ذلك عظة وعبرة، واللهَ نسأل أن يجعل من هذا العام نصرة للإسلام والمسلمين، وصلاحاً لأحوالهم في كل مكان، وأن يعيده على الأمة الإسلامية بالخير والنصر والتمكين إنه جواد كريم.
إخوة الإسلام: حديث المناسبة في مطلع كل عام هجري ما سطره تأريخنا الإسلامي المجيد من أحداث عظمية، ووقائع جسيمة، لها مكانتها الإسلامية، ولها آثارها البليغة في عزِّ هذه الأمة وقوتها، وصلاح شريعتها لكل زمان ومكان، وسعيها في تحقيق مصالح العباد، في أمور المعاش والمعاد.
معاشر المسلمين: ما أجمل أن نشير إشارات عابرة لعدد من القضايا المهمة الجديرة بالإشادة والتذكير ونحن في بداية هذا العام الجديد؛ علها تكون سبباً في شحذ الهمم، واستنهاض العزمات، للتمسك الجاد بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وحاملة على الاتعاظ والاعتبار، ووقفات المحاسبة الدقيقة، ونظرات المراجعة المستديمة في الأمة؛ تجريداً للمواقف، وإصلاحاً للمناهج، وتقويماً للمسيرة في كافة جوانبها.(60/2)
العقيدة الإسلامية هي الرابطة التي لا تنقطع
أمة الإسلام: ودرس آخر من دروس الهجرة النبوية يتجلى في أن عقيدة التوحيد هي الرابطة التي تتضاءل أمامها الانتماءات القومية، والتمايزات القبلية، والعلاقات الحزبية.
إن طريق الأمة للتبجيل والتكريم مدين بولائها لعقيدتها، وارتباطها بمبادئها.
يُقال ذلك -أيها المسلمون- وفي الأمة في أعقاب الزمن منهزمون كُثُر أمام تيارات إلحادية وافدة، ومبادئ عصرية زائفة، تُرفَع شعارات مصطنعة، وتطلق نداءات خادعة، لم يجنِ أهلها من ورائها إلا الذل والصغار، والمهانة والتبار، والشقاء والبوار؛ فأهواء في الاعتقاد، ومذاهب في السياسة، ومشارب في الاجتماع والاقتصاد، كانت نتيجتها التخلف المهين، والتمزق المشين.
وفي خضم هذا الواقع المزري يحق لنا أن نتساءل بحرقة وأسى: أين دروس الهجرة في التوحيد والوحدة؟!
أين أخوة المهاجرين والأنصار من شعارات حقوق الإنسان المعاصرة ومدنيته الزائفة؟!
فقولوا لي بربكم: أي نظام راعى حقوق الإنسان وكرمه أحسن تكريم، وكفل حقوقه كهذا الدين القويم؟!
فلتصغ منظماتُ حقوق الإنسان العالمية إلى هذه الحقائق، وتطَّرح الشائعات المغرضة عن الإسلام وأهله وبلاده؛ إن أرادت توخي الصدق والموضوعية.(60/3)
الهجرة النبوية تغيير لمجرى التاريخ
إخوة العقيدة: وأول هذه الإشارات مع حدث الساعة وحديثها، الحدث الذي غير مجرى التاريخ، الحدث الذي يحمل في طياته معاني الشجاعة والتضحية والإباء، والصبر والنصر والفداء، والتوكل والقوة والإخاء، والاعتزاز بالله وحده مهما بلغ كيد الأعداء.
إنه حدث الهجرة النبوية الذي جعله الله سبحانه طريقاً للنصر والعزة ورفع راية الإسلام، وتشييد دولته وإقامة صرح حضارته، فما كان لنور الإسلام أن يشع في جميع أرجاء المعمورة لو بقي حبيساً في مهده، ولله الحكمة البالغة في شرعه وكونه وخلقه.
إن في هذا الحدث العظيم من الآيات البينات، والآثار النيرات، والدروس والعبر البالغات، ما لو استلهمته أمة الإسلام اليوم وعملت على ضوئه وهي تعيش على مفترق الطرق؛ لتحقق لها عزها وقوتها ومكانتها وهيبتها، ولعلمت علم اليقين أنه لا حل لمشكلاتها ولا صلاح لأحوالها؛ إلا بالتمسك بإسلامها، والتزامها بعقيدتها وإيمانها، فوالذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق بشيراً ونذيراً ما قامت الدنيا إلا بقيام الدين، ولا نال المسلمون العزة والكرامة والنصر والتمكين إلا لما خضعوا لرب العالمين.
وهيهات أن يحل أمن ورخاء وسلام إلا باتباع نهج الأنبياء والمرسلين.
إذا تحقق ذلك -أيها المسلمون- وتذكرت الأمة هذه الحقائق الناصعة، وعملت على تحقيقها في واقع حياتها كانت هي السلاح الفاعل الذي تقاتل به، والدرع الحصين الذي تتقي به في وجه الهجمات الكاسحة، والصراع العالمي العنيف، فالقوة لله جميعاً، والعزة لله ولرسوله وللمؤمنين.(60/4)
عزة الأمة تكمن في تحقيق كلمة التوحيد
أمة التوحيد والوحدة: لقد أكدت دروس الهجرة النبوية أن عزة الأمة تكمن في تحقيق كلمة التوحيد، وتوحيد الكلمة عليها، وأن أي تفريط في أمر العقيدة، أو تقصير في أخوة الدين مآله ضعف الأفراد، وتفكك المجتمع، وهزيمة الأمة.
وإن المتأمل في هزائم الأمم وانتكاسات الشعوب عبر التاريخ؛ يجد أن مرد ذلك إلى التفريط في أمر العقيدة، والتساهل في جانب الثوابت المعنوية، مهما تقدمت الوسائل المادية.
وقوة الإيمان تفعل الأعاجيب، وتجعل المؤمن صادقاً في الثقة بالله، والاطمئنان إليه، والاتكال عليه، لا سيما في الشدائد.
ينظر أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى مواضع أقدام المشركين حول الغار، فيقول: {يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدميه لأبصرنا، فيجيبه صلى الله عليه وسلم -جواب الواثق بنصر الله-: يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!} الله أكبر! ما أعظم لطف الله بعباده، ونصره لأوليائه!
وفي هذا درس بليغ لدعاة الحق وأهل الإصلاح في الأمة: أنه مهما احلولكت الظلمات فوعد الله آت لا محالة: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف:110].(60/5)
دروس من مواقف التضحية والفداء في الهجرة
إن هذه الإلماحة إلى درس الهجرة في التضحية والبذل والفداء، ومراعاة كرامة الإنسان والحفاظ على حريته وحقوقه يجر -يا رعاكم الله- إلى تذكر أحوال إخواننا في العقيدة، في بقاع شتى من العالم، حيث حلت بهم مصائب وبلايا، ونكبات ورزايا.
سائلوا أرض النبوَّات، ومهد الحضارات، ومنطلق الرسالات، وبلاد المعجزات؛ فلسطين المجاهدة: ماذا تعاني من صلف يهودي سافر، ومن حقد صهيوني أرعن؟!
سائلوا الشيشان وكشمير وغيرهما عن الأوضاع المأساوية؟
علَّ دروس الهجرة النبوية تحرك نخوة، وتشحذ همة، وتنهض عزماً، وما ذلك على الله بعزيز.(60/6)
موقف عبد الله بن أبي بكر
إخوة الإيمان: في مجال تربية الشباب والمرأة، وميدان البيت والأسرة، يبرز الأثر العظيم في حدث الهجرة المصطفوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم، ففي موقف عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنهما في خدمة ونصرة صاحب الهجرة عليه الصلاة والسلام -بأبي هو وأمي- ما يجلي أثر الشباب في الدعوة، ودورهم في الأمة ونصرة الدين والملة.
أين هذا مما ينادي به بعض المحسوبين على فكر الأمة وثقافتها من تخدير الشباب بالشهوات، وجعلهم فريسة لمهازل القنوات، وشبكات المعلومات في الوقت الذي يُعدُّون فيه للاضطلاع بأغلى المهمات بالحفاظ على الدين والقيم والثبات على الأخلاق والمبادئ أمام المتغيرات المتسارعة، ودعاوى العولمة المفضوحة؟(60/7)
موقف أسماء بنت أبي بكر
أيها الإخوة والأخوات: وفي موقف أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها -ورضي الله عن آل أبي بكر وأرضاهم- ما يجلي دور المرأة المسلمة في خدمتها لدينها ودعوتها، فأين هذا من دُعاة المدنية المأفونة الذين أجلبوا على المرأة بخيلهم ورجلهم، زاعمين -زوراً وبهتاناً- أن تمسك المرأة بثوابتها وقيمها، واعتزازها بحجابها وعفافها؛ تقييد لحريتها وفقد لشخصيتها؟! وبئس ما زعموا.
خرجت المرأة من البيت تبحث عن سعادة موهومة، وتقدمية مزعومة، وهي تظنها في الأسواق والشوارع والملاهي والمصانع، فرجعت مسلوبة الشرف، مدنسة العرض، مغتصبة الحقوق، عديمة الحياء، موءودة الغيرة، وتلك صورة من صور إنسانيات العصر المزعومة، وحريته المأفونة، ومدنيته المدعاة.
ألا فليعلم ذلك اللاهثون واللاهثاث وراء السراب الخادع، والسائرون خلف الأوهام الكاذبة.(60/8)
التاريخ الهجري في حياة المسلمين
أيها الأحبة في الله: وإشارة أخرى إلى أمر يتعلق بحدث الهجرة النبوية في قضية تعبر بجلاء عن اعتزاز هذه الأمة بشخصيتها الإسلامية، وتثبت للعالم بأسره استقلال هذه الأمة بمنهجها المتميز المستقى من عقيدتها وتاريخها وحضارتها، إنها قضية إسلامية وسنة عُمَرية، أجمع عليها المسلمون في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إنها التوقيت والتاريخ بالهجرة النبوية المباركة.
وكم لهذه القضية من مغزىً عظيم يجدر بأمة الإسلام اليوم تذكره والتقيد به؟! كيف وقد فُتن بعض أبنائها بتقليد غير المسلمين والتشبه بهم في تاريخهم وأعيادهم؟! أين عزة الإسلام؟! وأين هي شخصية المسلمين؟! هل ذابت في خضم مغريات الحياة؟!
فإلى الذين تنكروا لثوابتهم، وخدشوا بهاء هويتهم، وعملوا على إلغاء ذاكرة أمتهم، وتهافتوا تهافتاً مذموماً، وانساقوا انسياقاً محموماً خلف خصومهم، وذابوا وتميعوا أمام أعدائهم.
ننادي نداء المحبة والإشفاق: رويدكم، فنحن أمة ذات أمجاد وأصالة، وتاريخ وحضارة، ومنهج متميز منبثق من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم.
فلا مساومة على شيء من عقيدتنا وثوابتنا وتاريخنا، ولسنا بحاجة إلى تقليد غيرنا، بل إن غيرنا في الحقيقة بحاجة إلى أن يستفيد من أصالتنا وحضارتنا؛ لكنه التقليد والتبعية، والمجاراة والانهزامية، والتشبه الأعمى من بعض المسلمين هداهم الله، وقد حذر صلى الله عليه وسلم أمته من ذلك بقوله فيما أخرج الإمام أحمد، وأهل السنن: {من تشبه بقوم فهو منهم} والله المستعان!(60/9)
فضل شهر الله المحرم
أيها الإخوة المسلمون: وثالث هذه الإشارات إلى حدث عظيم في شهر الله المحرم، فيه درس بليغ على نصرة الله لأوليائه، وانتقامه من أعدائه مهما تطاول، إنه حدث قديم؛ لكنه بمغزاه متجدد عبر الأمصار والأعصار.
إنه يوم انتصار نبي الله وكليمه موسى عليه السلام، وهلاك فرعون الطاغية، وكم في هذه القصة من الدروس والعبر والعظات والفكر للدعاة إلى الله في كل زمان ومكان؟! فمهما بلغ الكيد والأذى والظلم والتسلط فإن نصر الله قريب، ويا لها من عبرة لكل عدو لله ولرسوله ممن مشى على درب فرعون؛ أن الله منتقم من الطغاة الظالمين، طال الزمان أو قصر!
فيوم الهجرة ويوم عاشوراء يومان من أيام النصر الخالدة.
ألا فليقر أعيناً بذلك أهلُ الحق ودُعاتُه، فالعاقبة للمتقين، وليتنبه لذلك قبل فوات الأوان أهلُ الباطل ودُعاتُه: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات:26] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14] وإن في الحوادث لَعِبَراً، وإن في التاريخ لَخَبَراً، وإن في الآيات لَنُذُراً، وإن في القصص والأخبار لَمُدَّكَراً ومُزْدَجَراً: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف:111].
اللهم اجعل خير أعمالنا خواتمها، وخير أعمالنا أواخرها، وخير أيامنا يوم نلقاك.
اللهم اجعل حاضرنا خيراً من ماضينا، ومستقبلنا خيراً من حاضرنا إنك خير مسئول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من كل الذنوب والخطايا والسيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان تواباً.(60/10)
فضل صيام يوم عاشوراء(60/11)
فضل صيام يوم عاشوراء
الحمد لله الملك القدوس السلام، مجري الليالي والأيام، ومجدد الشهور والأعوام، أحمده تعالى وأشكره على ما هدانا للإسلام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جعل شهر المحرم فاتحة شهور العام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، سيد الأنام، وبدر التمام، ومسك الختام، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله البررة الكرام، وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما تعاقب النور والظلام.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله: وتمسكوا بدينكم، فهو عصمة أمركم، وتاج عزكم، ورمز قوتكم، وسبب نصركم.
واعلموا أن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها الإخوة في الله: إشارة رابعة إلى فاتحة شهور العام؛ شهر الله المحرم، إنه من أعظم شهور الله جل وعلا، عظيم المكانة، قديم الحرمة، رأس العام، من أشهر الله الحرم، فيه نصر الله موسى وقومه على فرعون وملئه.
ومن فضائله: أن الأعمال الصالحة فيه لها فضل عظيم، لا سيما الصيام، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل}.
وأفضل أيام هذا الشهر -يا عباد الله- يوم عاشوراء، في الصحيحين: عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم: ما هذا اليوم الذي تصومونه؟ قالوا: هذا يوم عظيم، أنجى الله فيه موسى وقومه، وأغرق فرعون وقومه، فصامه موسى شكراً، فنحن نصومه، فقال صلى الله عليه وسلم: نحن أحق بموسى منكم، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه}.
وفي صحيح مسلم: عن أبي قتادة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صيام يوم عاشوراء، فقال: {أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله} الله أكبر! يا له من فضل عظيم، لا يفوته إلا محروم!
وقد عزم صلى الله عليه وسلم على أن يصوم يوماً قبله مخالفة لأهل الكتاب، فقال صلى الله عليه وسلم: {لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع} خرَّجه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
لذا فيستحب للمسلمين أن يصوموا ذلك اليوم اقتداءً بأنبياء الله، وطلباً لثواب الله، وأن يصوموا يوماً قبله أو يوماً بعده مخالفة لليهود، وعملاً بما استقرت عليه سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
فياله من عمل قليل، وأجر كبير وكثير من المنعم المتفضل سبحانه!
إن ذلك -أيها الأحبة في الله- لَمِن شُكْر الله عزَّ وجلَّ على نعمه، واستفتاح هذا العام بعمل من أفضل الأعمال الصالحة التي يُرجى فيها ثواب الله سبحانه وتعالى، والكيِّس الواعي والحصيف اللبيب يدرك أنه كسب عظيم ينبغي أن يتوج به صحائف أعماله.
فيا لَفوز المشمرين!
نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم بمنه وكرمه.
هذا واعلموا -رحمكم الله- أن من أفضل الطاعات، وأشرف القربات، كثرة صلاتكم وسلامكم على خير البريات، صاحب المعجزات الباهرات، والآيات البينات، فقد أمركم بذلك ربكم جلَّ وعلا فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، ذوي المقام العلي؛ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعن سائر الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم بكرمك ورحمتك يا أرحم الراحمين!
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق والتوفيق إمامنا وولي أمرنا.
اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك، واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم مجري السحاب، ومنزل الكتاب، وهازم الأحزاب، اهزم أعداء الدين يا رب العالمين.
اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك.
اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق.
اللهم انصر إخواننا في فلسطين، وكشمير، والشيشان، وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسن، وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(60/12)
وقفة قبل أن تسافر!!
إن للسفر فوائد كثيرة منها: الترويح عن النفس، والتفكر في مخلوقات الله وغيرها الكثير، ولكن بعض الناس جعل السفر وسيلة لارتكاب المحرمات والفواحش.
وقد تحدث الشيخ حفظه الله عن السفر واضعاً إياه في الميزان الشرعي، فذكر أحكامه، وضوابطه، وبعض آدابه، وذكر بعض الوصايا للمسافر، كما ذكر بعض محاذير السفر ثم دعا للسفر والسياحة إلى بلاد الحرمين، وذكر بعض مميزاتها.(61/1)
الرحلات في ميزان الشريعة
الحمد لله الواحد القهار، العزيز الغفار، مكور النهار على الليل ومكور الليل على النهار، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خلق الأنصار، وعمر الأرض بالديار، وباعد بين الأقطار، وكتب على الناس الأسفار، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله المصطفى المختار، خير من حل وارتحل، ومكث وانتقل وسار ونزل، أقام فكان الخير في إقامته، ورحل فكان الظفر في رحلته، دلنا على الخير في سفرنا وحضرنا، وإقامتنا وظعننا، صلى الله عليه وعلى آله الأطهار، وصحابته الأبرار، ومن اهتدى بهديه وسار على أثره واقتدى به في حضره وسفره ما تعاقب الجديدان الليل والنهار.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله عز وجل في كل ما نأتي ونذر، والاستجابة له سبحانه في كل ما نهى وأمر، ولزوم تقواه في الحضر والسفر، لتكن التقوى شعارنا ودثارنا: {اتق الله حيثما كنت}.
أيها المسلمون: قضية مهمة وخطيرة، وظاهرة اجتماعية مؤرقة وكبيرة، جديرة برسم الخطط والمناهج، وإعداد العدد والبرامج لتأصيلها والعناية بها، وبذل مزيدٍ من الجهد حيالها والاهتمام بها، تلكم هي ما يحصل في مثل هذه الأيام من كل عام، حين تشتد حرارة الصيف، ويلقي بسمومه اللافح على بعض أقطار المعمورة؛ مما يحمل كثيراً من الناس إلى الهروب على المصائف والمتنزهات، والفرار إلى الشواطئ والمنتجعات، والعزم على السفر والسياحة، وشد الأحزمة للتنقل والرحلات؛ تذهب إلى المطارات فتجد ركاماً من البشر وفئاماً من الناس يسابقون الريح، وينافسون الآلات سرعة واشتغالاً، قد حملوا حقائبهم، ونقلوا أغراضهم، وأعدوا عدتهم لأسفارٍ كثيرة، ورحلاتٍ طويلة؛ اشرأبت أعناقهم وتطلعت أنفسهم إلى سياحة أثيرة، وتنقلاتٍ مثيرة، مع تباينٍ في حقيقة أسفارهم، واختلافٍ في آرائهم وأفكارهم.
ويتملكك العجب وأنت تقرأ عن السفر والمسافرين الإحصاءات المذهلة، والأرقام الهائلة، ولا ينتهي عجبك وأنت ترى تلك الوفود وقد أقفلت الحجوزات، وتزاحمت على البوابات، وتسارعت لامتطاء المركبات، وكل ما يستهويهم هو تحقيق الرغبات، بل لعل بضعهم ينسى في سبيل ذلك عقيدته وقيمه وأخلاقه، فيجعلها في عداد المخلفين والمخلفات، ولا يمنحها تأشيرة سفرٍ معه، فينزع رداء التقوى وجلباب الحياء قبل أن يطاول الفضاء.
وفي خضم هذه المشاهد والمناظر، ودوامة تلك الأحوال والمظاهر، وحيث إن الإجازة الصيفية هي الوقت الذي يحلو فيه السفر، وتعذب فيه الرحلات، ويحرك في عصى الحل والترحال، والسفر والانتقال، تعالوا -يا رعاكم الله- لنضع هذه القضية على الميزان الشرعي، ونعرضها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، مع إلماحة إلى واقع بعض الناس فيها، وبيان الآثار السلبية عند غياب الضوابط الشرعية في هذه القضية الواقعية، ولنذكِّر أنفسنا وإخواننا المسلمين ببعض الوصايا النافعة، والملامح الماتعة، التي ينبغي أن يتذكرها المسافرون في أسفارهم، والمرتحلون في تنقلاتهم.(61/2)
إباحة الترويح على النفس
إخوة العقيدة: إن الإسلام لا يحجر على أتباعه أن يروحوا على أنفسهم، أو يدخلوا السرور على أهليهم وأبنائهم وأن يعملوا بالوسائل المباحة في ذلك شرعاً، فالترفيه البريء والترويح المباح لا غضاضة على الإنسان فيه، بل قد يكون مطلوباً أحياناً لأغراض شرعية، وأهدافٍِ مرعية، لكن يجب أن يكون كل ترفيه وترويح في حدود ما هو مباحٌ شرعاً، أما أن يستغل ذلك فيما يضعف الإيمان، ويهز العقيدة، ويخدش الفضيلة، ويوقع في الرذيلة، ويقضي على الأخلاق والقيم والمثل، فلا.
وكلا!!(61/3)
الأسفار في الإسلام
أيها الإخوة المسلمون: إن السفر في الإسلام لا بأس به، بل قد يكون مطلوباً لأغراض شرعية.
يقول الثعالبي رحمه الله: من فضائل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى، ويدعوه شكراً على نعمه، وقد قيل:
لا يصلح النفوس إذا كانت مدبرة إلا التنقل من حال إلى حال
إني رأيت وقوف الماء يفسده إن سال طاب وإن لم يجر لم يطب
والأسد لولا فراق الغاب ما افترست والسهم لولا فراق القوس لم يصب
والشمس لو وقفت في الفلك دائمة لملها الناس من عجم ومن عرب(61/4)
الضوابط الشرعية للسفر
لكن السفر في الإسلام له حدودٌ مرعية، وضوابط شرعية منها:
أن يكون السفر في حدود بلاد الإسلام المحافظة، أما أن يكون إلى بقاعٍ موضوعة، ومستنقعاتٍ محمومة، وأماكن مشبوهة فلا.
ما لم يكن ثَم ضرورة، مع المحافظة على شعائر الإسلام، لاسيما الصلاة، وهل يلقى بالحمل الوديع في غابات الوحوش الكاسرة، والسباع الضارية؟!
وقد ذكر أهل العلم شروطاً ثلاثة لجواز السفر إلى بلاد غير المسلمين:
أولها: أن يكون عند الإنسان دينٌ يدفع به الشهوات.
ثانيها: أن يكون عنده علمٌ يدفع به الشبهات.
ثالثها: الضرورة الشرعية كعلاجٍ ونحوه.
فيا أيها المسافرون: هلا سألتم أنفسكم إلى أين تسافرون؟
ولماذا تسافرون؟ أفي طاعة الله أسفاركم، أم إلى معصيته ارتحالكم؟
فإذا كان سفركم طاعة لله في منع ما يسخط الله فالحمد لله، وامضوا على بركة الله تكلؤكم عناية الله، وإن كان سفركم في معصية الله وفي غير طاعته ورضاه فاتقوا الله واستحيوا من الله، فإنه يراكم ومطلع عليكم: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1].
يا أيها المسافرون: اجعلوا سفركم ابتغاء مرضاة الله، وإن كنتم تنوون في أسفاركم المعاصي فأنتم مدعوون إلى الرجوع عنها وتغيير هذه النية السيئة، مدعوون إلى التوبة والإنابة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً} [التحريم:8].
أخي المسافر المبارك: إن المسلم الواعي هو من أعمل فكره، وأخذ من أحداث الناس عبرة، فكم من أناسٍ سافروا طلباً لاقتراف الحرام، وبحثاً عن المعاصي وقبيح الآثام، فكان جزاؤهم الخيبة والخسران، أصابتهم الأمراض المستعصية، وانتقلت إليهم الجراثيم المعدية، بما كسبت أيديهم، وبما اقترفوا من معصية باريهم.
أتفرح بالذنوب وبالمعاصي وتنسى يوم يأخذ بالنواصي(61/5)
وصايا للمسافر
أيها المسافرون: تحلوا بآداب السفر، قدموا الاستخارة والاستشارة، ولا تنسوا دعاء السفر، وحسن اختيار الرفيق، وتفقد المركبة، والأخذ بوسائل السلامة والأمان، وعدم تجاوز السرعة النظامية، فإن في الحوادث -لاسيما حوادث السيارات- لعبراً عليكم بأداء حق الطريق، والمحافظة على البيئة، واجعلوا سفركم دراسة في سفر الحياة، وقراءة وتدبراً في دفتر الكون.
وكتابي الفضاء أقرأ منه سوراً ما قرأتها في كتابي
وتفكراً في ملكوت الله وعظيم خلقه وبديع صنعه.
تلك الطبيعة قف بنا يا ساري حتى أريك بديع صنع الباري
فالأرض حولك والسماء اهتزتا لروائع الآيات والآثار
أيها المسافرون: ولما كان السفر قطعة من العذاب كما أخبر به المصطفى الأواب، فيما أخرجه الشيخان في صحيحهما؛ جعل الله له رخصاً تيسره مِنَّة منه ورحمة، فاحرصوا على الأخذ برخص السفر؛ فإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته.
واقتفوا هدي نبيكم صلى الله عليه وسلم في السفر، فقد كان من هديه صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة الرباعية ركعتين، وإذا اشتد به السفر جمع بين الظهرين والعشائين، وكان يقتصر على صلاة الفريضة، ولم يكن يصلي الراتبة إلا الوتر وسنة الفجر فإنه لم يكن يدعهما حضراً ولا سفراً.
ورخص للمسافر أن يمسح على الخفين ثلاثة أيامٍ بلياليها، ونهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، خرَّجه الشيخان في صحيحيهما.(61/6)
محاذير في السفر
أخي المسافر الكريم: تجنب المحاذير الشرعية من منكرات الحظر والسفر التي نهانا عنها الله جلَّ وعلا في كتابه، وحذرنا منها رسوله صلى الله عليه وسلم؛ تجنب الشرك بالله، فلا تخف إلا الله، ولا ترجو إلا الله، فلا تسافر إلى الأضرحة والقبور، ولا تدع أحداً من دون الله.
إياك والربا، اجتنب المرابين والربا، ولا تقربوا الزنا فإنه من أقبح الأمور وأعظم الآثار والشرور.
حذاري من الخمور والمسكرات وتعاطي المخدرات، فإنها خرابٌ للدين ودمارٌ للعقل، وكيف يسعى في جنونٍ مَنْ عَقِل إنها بغيضة إلى الرحمن، ورجسٌ من عمل الشيطان.
لا تتعامل بالحرام، ولا تتاجر فيما يسخط الملك العلام، فقد ذكر صلى الله عليه وسلم: {الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب! يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له؟!} خرَّجه مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
لا تسافر مع الذين أترعت قلوبهم بحب الشهوات، ولا ترافق الذين خلت أفئدتهم من مراقبة رب الأرض والسماوات: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27].
أيها المسلمون: من الناس من يطلق لنفسه وأسرته العنان في السفر إلى بلاد موبوءة؛ ليفتن نفسه بالشهوات المحرمة، والأفعال الآثمة، والمظاهر المخزية، والأعمال المردية، في مواخير الفجور والزنا، وحانات الغي والخنا، في دهاليز الميسر والقمار، وفي مستنقعات العار والشنار، بعيداً عن أنظار الخيرين، وأهل الفضل المصلحين، فاحذروا مواقع الزلل وأماكن الخطأ والخطل.
بل لقد وصل الحال ببعضهم وببعضهن أن تنزع جلباب حيائها قبل أن تغادر أرض بلادها، ولا حول ولا قوة إلا بالله! فيا من أخفيت نواياك في سفرك عن البشر! ويا من قصدت مكاناً لا تقع فيه تحت عينٍ ونظر! ألا تخشى سطوة رب البشر، وأنت تبارزه بالقبائح، وتعامله بالفضائح؟!
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب(61/7)
حكم السفر إلى بلاد الكفار لغير ضرورة ملجئة
أمة الإسلام: إن سفر المسلم إلى ديار غير المسلمين لغير غرض شرعي ترجحت مصلحته وظهرت فائدته؛ لهو ضرر محض على الدين والنفس والعرض والمثل والأخلاق والقيم، فإنه -مع ما يظن من معاقرة لأنواع الفواحش والمنكرات، وتضييع للفرائض والواجبات- مخاطرة بالنفس غير مأمونة، بتعريضها لمواطن الريب والشبهات، وأماكن الهلكات وبؤر الدركات، هذا فضلاً عما يحيط بالمرء من أخطار لصوص القلوب، وسُرَّاق الجيوب، والغفلة عن رقابة علام الغيوب.
ألا فليتذكر هؤلاء وأولئك الموت والفناء، وليشعروا بمآسي إخواننا المسلمين البرآء في فلسطين وكشمير والشيشان وكوسوفا؛ فأين الأحاسيس المرهفة؟ والمشاعر الفياضة؟ فأناس يحملون قضايا أمتهم ويفكرون بمآسي إخوانهم في العقيدة، وآخرون كثيرون يفكرون في قضاء إجازاتهم في منتجعاتٍ ما، فالله المستعان!(61/8)
السياحة بين المباح والمحذور
وإن مما يتذرع به بعض الناس للسفر والرحلات: دعواهم الاصطياف والسياحة، وما أدراكم ما السياحة؟ لفظة براقة، وعبارة أخاذة، لها دلالاتها الشرعية، فكم كان أسلافنا يجوبون الأرض شرقاً وغرباً جهاداً في سبيل الله، ودعوة إلى دين الله بأقوالهم وأفعالهم وسلوكهم وأخلاقهم وحسن تعاملهم، فنعم لاستثمار السياحة في هذا المقصد الشرعي.
إننا جميعاً مع السياحة بمفهومها النقي المنضبط بضوابط الشريعة والآداب المرضية، غير أن مما يبعث على الأسى أن في الأمة منهزمين كثر، عبوا من ثقافة الغير عباً حتى ثملوا، وزعموا -وبئس ما زعموا- أن السفر والسياحة لا يمكن أن تتحقق إلا بأيامٍ سوداء، وليالٍ حمراء، ومجانبة للحياء.
إن الولوغ في هذه المياه العكرة، والانسياق وراء أمراض الأمم المعاصرة، وأدواء المجتمعات المنحرفة وإفرازاتها المنتنة؛ لا يمكن أن يقبله ذوو النفوس المؤمنة والمجتمعات المحافظة.
نعم لسياحة التأثير لا التأثر، والاعتزاز لا الابتزاز، والفضيلة لا الرذيلة، والثبات لا الانفتاح والانفلات؛ كيف وقد ثبت -بما لا يدع مجالاً للشك- أن أعداء الإسلام يستهدفون أبناء المسلمين السائحين للوقيعة بهم، والنيل من أخلاقهم وعقيدتهم، عن طريق الغزو الفكري والفساد الأخلاقي، ويستغلون كثيراً من السائحين اقتصادياً وخلقياً، ويجرونهم رويداً رويداً إلى حيث الخنا والفجور، والمخدرات والخمور.
بل قد يرجع بعضهم متنكراً لدينه ومجتمعه، وأمته وبلاده!! أين العقول المفكرة عن الإحصاءات المذهلة من مرضى الإيدز، ومن عصابات وشبكات الترويج للمسكرات والمخدرات؟!
إننا نناشد المسافرين والسائحين أن اتقوا الله في أنفسكم وفي أسركم وفي مجتمعاتكم وأمتكم، ونذكركم قبل أن ترفعوا أقدامكم فكروا أين تضعوها؟
نعم.
سافروا للخير والفضيلة والدعوة والإصلاح، فلا غضاضة عليكم، وكونوا ممثلين لبلادكم الإسلامية، مظهرين لدينكم داعين إلى مبادئه السمحة، حيث يتخبط العالم بحثاً عن دينٍ يكفل له الحرية والسلام، ولن يجده إلا في ظل الإسلام.
فكونوا -أيها المسافرون- سفراء لدينكم وبلادكم وأمتكم، مثلوا الإسلام أحسن تمثيل، وحذار أن يفهم العالم عن المسلمين وشبابهم أنهم أرباب شهوات، وصرعى ملذات!
بل أفهموه بسلوككم وعرفوه بأخلاقكم أنكم حملة رسالة، وأرباب أعلى وأغلى هدفٍ وأشرف غاية، وأصحاب شخصية فذة، وشريعة خالدة، ودينٍ يرعى العقيدة والقيم، والمثل والأخلاق والفضائل، ويدير الحياة عن طريق الحق والعدل والسلام، ويبحث عما يكفل للعالم الرقي والتقدم والحضارة.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله، ثم توفى كل نفسٍ ما كسبت وهم لا يظلمون.
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم، وبارك لنا في سنة سيد المرسلين، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجرنا من العذاب الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه كان حليماً غفوراً.(61/9)
السياحة والتنزه في أرض الحرمين
الحمد لله تعاظم ملكوته فاقتدر، وعزَّ سلطانه فقهر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أمرنا بتقواه في الحضر والسفر، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله الشافع المشفع في المحشر، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه السادة الغرر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ما اتصلت عينٌ بنظرٍ وأذن بخبر، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أن خير الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة، وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية.
أيها الإخوة في الله: إن من التحدث بنعم الله وشكر آلائه سبحانه ما حبا الله بلادنا الطيبة المباركة -حرسها الله- من مقوماتٍ شرعية وتاريخية وحضارية، تجعلها مؤهلة لتكون بلد السياحة النظيفة النقية، فهي -بإذن الله- قادرة على إعطاء مفهومٍ صحيح ووجه مشرقٍ للسياحة التي خيل لبعض المفتونين أنها صناعة الفجور والانحلال، والفسق والضلال.
أوليس الله قد منَّ على بلادنا بالحرمين الشريفين، مهوى أفئدة المسلمين، ومحط أنظارهم في العالمين؟!
شعائر الإسلام فيها ظاهرة، وأنوار التوحيد في سمائها باهرة! أوليست بلادنا تنعم -بحمد الله- بالأجواء الممتعة المتنوعة، والأماكن الخلابة المتعددة، التي تشكل منظومة متألقة يقل نظيرها في العالم؟! فمن البقع المقدسة، إلى الشواطئ الجميلة والبيئة النظيفة السليمة من أمراض الحضارة المادية، وإفرازاتها الحسية والمعنوية، إلى الجبال الشم الشاهقة، ذات المنظر الجميل، والهواء العليل، والأودية الخلابة، والأماكن الجذابة مروراً بالمصائف الجميلة، والصحاري الممتدة، ذات الرمال الذهبية العجيبة.
يتنقل المرء في روابيها، ويتنزه في نواحيها، يسعد في أجوائها، ويسافر إلى جميع أنحائها، فلا بأس بإدخال الفرح على الأهل والأولاد في سفرٍ مباح في محيطها المبارك، أو اصطحابهم إلى بيت الله الحرام في عمرة، أو إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيارة وفي سياحة مشروعة بريئة، توصل فيها الأرحام، وتحصل فيها الراحة والاستجمام، مع المحافظة على الخير والفضيلة، والبعد عن أسباب الشر والرذيلة، وأهم من هذه المقومات المادية والحسية المقومات المعنوية والمميزات الحضارية الشرعية، والخصائص الإسلامية، والآداب الأصيلة العربية، التي تحكي عبق التاريخ والحضارة المعطرة بالإيمان، الندية بالمروءة والإحسان في بلادنا السياحة الروحانية، والنزهة الربانية، والمتعة الإيمانية.
فهل بعد ذلك يستبدل بعض الناس الذي هو أدنى بالذي هو خير في تأثيراتٍ عقدية وثقافية، وانحرافاتٍ فكرية وأخلاقية وسلوكية ومخاطر أمنية، وأمراضٍ صحية ووبائية، مما لا يخفى أمره على ذوي الحجى، ولا يغيب عن أولي النهى، وبذلك يتحقق لمن ينشدون الطهر والعفاف والفضيلة والنقاء، والخير والحياء والصفاء التمتع بأجواءٍ سياحية مباحة، ويسد الطريق أمام الأبواق الناعقة، والأقلام الحاقدة، التي تسعى لجر هذه البلاد المباركة إلى ما يفقدها خصائصها ومميزاتها، ويخدش أصالتها وثوابتها.
ألا فلنشكر الله على نعمه وآلائه، ولنحافظ عليها بطاعته واتباع أوامره واجتناب نواهيه، حفظ الله لهذه البلاد عقيدتها وقيادتها وأمنها وإيمانها، وحماها من كيد الكائدين، وسائر بلاد المسلمين بمنه وكرمه.
وأخيراً: أيها الإخوة المسافرون: إذا قضى أحدكم نهمته من سفره؛ فليعد إلى أهله وبلده، وليقل: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون.
وختاماً: أيها المسافرون! نستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه، نستودع الله دينكم وأمانتكم وخواتيم أعمالكم، ونسأل الله أن يحفظنا وإياكم في الحل والترحال، وأن يعيدكم إلى أهلكم سالمين غانمين، مأجورين غير مأزورين، إنه خير المسئولين وأكرم المأمولين.
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على خير من أقام وسافر، وجاهد وهاجر، النبي المصطفى والرسول المجتبى، إمام المتقين، وأفضل المقيمين والمسافرين، كما أمركم بذلك ربكم رب العالمين، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا.
اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى.
اللهم وفقه ونائبه إلى ما فيه خير البلاد والعباد يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم اجعل لنا من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاءٍ عافية، اللهم اصرف عنا شر الأشرار، وكيد الفجار، وشر طوارق الليل والنهار.
اللهم يا سميع الدعاء! يا حي يا قيوم! يا ذا الجلال والإكرام! يا ذا المن والعطاء! يا من لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء! نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلا أن تنصر إخواننا المسلمين المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان.
اللهم عليك باليهود فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بالصهاينة فإنهم لا يعجزونك، اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، واجعلهم وأموالهم غنيمة للمسلمين يا ذا الجلال والإكرام
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، بمنك وكرمك يا أكرم الأكرمين!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(61/10)
وماذا بعد شهر رمضان؟
رمضان شهر يرجع فيه الناس إلى الله، ولكن سرعان ما يعودون إلى أحوالهم الأولى بعد انقضائه، وهذه ظاهرة تحتاج إلى جهد من أجل علاجها، وقد حاول الشيخ حفظه الله في هذه المادة علاج هذه المشكلة.(62/1)
رحيل الشهر الكريم
الحمد لله ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
أشهد أن لا إله إلا الله أصدق القائلين وأعدل الحاكمين، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خيرة المرسلين، وقائد الغر المجلين.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله في السر والعلن ينجيكم من هلاك الهالكين، ويتولاكم فيما يتولى به عباده الصالحين.
ها قد رحل عنا هذا الشهر ومضى مع الراحلين، ورحيله خير شاهد على أن الله يرث الأرض ومن عليها وهو خير الغالبين.
مضى هذا الشهرُ الكريم وقد أحسن فيه أناسٌ وأساء آخرون، وهو شاهدٌ لنا أو علينا، شاهدٌ للمشمِّر بصيامه وقيامه، وعلى المقصِّر بغفلته وإعراضه، ولا ندري -يا عباد الله- هل سندركه مرة أخرى، أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرِّق الجماعات.
فسلام الله على شهر الصيام والقيام، لقد مر كلمحة برق، أو غمضة عين، كان مضماراً يتنافس فيه المتنافسون، وميداناً يتسابق فيه المتسابقون، فكم من أكُفٍّ ضارعةٍ رُفعت! ودموعٍ ساخنةٍ ذُرِفت! وعَبَراتٍٍٍ حرَّاءَ قد سُكِبَت؟! وحُق لها ذلك في موسم المتاجرة مع الله، موسمِ الرحمة والمغفرة والعتق من النار.
معاشر المسلمين: لقد مر بنا هذا الشهر المبارك كطَيف خيال، مر بخيراته وبركاته، مضى من أعمارنا وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه فيه، فليفتح كل واحد منا صفحة المحاسبة لنفسه: ماذا عمل فيه؟ ماذا استفاد منه؟ ما أثره في النفوس؟ وما ثمراته في الواقع؟ وما مدى تأثيره على العمل والسلوك والأخلاق؟(62/2)
من يحمل هَمَّ القبول؟
إن السؤال المطروح الآن بإلحاح: هل أخذنا بأسباب القبول بعد رمضان، وعزمنا على مواصلة الأعمال الصالحة، أو أنَّ واقعَ كثير من الناس على خلاف ذلك؟! هل تأسينا بـ السلف الصالح رحمهم الله، الذين تَوْجَل قلوبهم وتحزن نفوسهم عندما ينتهي رمضان؟ لأنهم يخافون أن لا يُتَقَبَّل منهم عملهم، لذا فقد كانوا يكثرون الدعاء بعد رمضان بالقبول.
ذكر الحافظ ابن رجب رحمه الله عن معلى بن الفضل، أنهم كانوا يدعون الله ستة أشهر أن يتقبله منهم، كما كانوا رحمهم الله يجتهدون في إتمام العمل، وإكماله وإتقانه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله، ويخافون من ردِّه.
سألت عائشة رضي الله عنها الصِّدِّيقة بنت الصِّدِّيق رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60] {أهم الذين يزنون ويسرقون ويشربون الخمر؟ قال: لا.
يا ابنة الصديق؛ ولكنهم الذين يصلُّون ويصومون ويتصدقون ويخافون أن لا يُتَقَبَّل منهم}.
ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]]].
وعن فَضالة بن عبيد قال: [[لو أني أعلم أن الله تقبل مني مثقال حبة خردل أحبُّ إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]]].
وقال عطاء: [[الحذر: الاتقاء على العمل أن لا يكون لله]].
وقال ابن دينار: [[الخوف على العمل أن لا يُتَقَبَّل أشد من العمل]].
إخوة الإيمان: وماذا بعد شهر رمضان؟ ماذا عن آثار الصيام التي صنعها في نفوس الصائمين؟
لننظر في حالنا، ولنتأمل في واقع أنفسنا ومجتمعاتنا وأمتنا، ولنقارن بين حالنا قبل حلول شهر رمضان وحالنا بعده: هل ملأت التقوى قلوبنا؟ هل صلحُت أعمالنا؟ هل تحسنت أخلاقنا؟ هل استقام سلوكنا؟ هل اجتمعت كلمتنا وتوحدت صفوفنا ضد أعدائنا، وزالت الضغائن والأحقاد من نفوسنا؟ هل تلاشت المنكرات والمحرمات من أسرنا ومجتمعاتنا؟(62/3)
الثبات بعد رمضان
أيها المسلمون: يا من استجبتم لربكم في رمضان استجيبوا له في سائر الأيام: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الشورى:47].
أما آن أن تخشع لذكر الله قلوبنا؟! وتتوحد على الصراط المستقيم دروبنا؟!
أيها الإخوة في الله: لقد جاءت النصوص الشرعية بالأمر بعبادة الله والاستقامة على شرعه عامة في كل زمان ومكان، ومطلقة في كل وقت وآن، وليست مخصصة بمرحلة من العمر، أو مقيدة بفترة من الدهر، بل ليس لها غاية إلا الموت.
يقول الحسن البصري رحمه الله: [[لا يكون لعمل المؤمن أجل دون الموت، وقرأ قوله سبحانه: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر:99]]].
ولمَّا سُئِل بشر الحافي رحمه الله عن أناس يتعبدون في رمضان ويجتهدون، فإذا انسلخ رمضانُ تركوا، قال: بئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان!
إخوة العقيدة: إنه إن ودَّعتِ الأمة الإسلامية شهر رمضان المبارك بعد الإقبال على الله والإكثار من الأعمال الصالحة، فينبغي أن لا يودع المسلمون صالح العمل بعد رمضان، بل يجب أن تبقى آثار الصيام شعاراً متمثلاً في حياة الفرد والأمة، وما أعطاه الصيام من دروس في الصبر والتضحية والإذعان لأمر الله والوحدة والتضامن والألفة والمودة بين أفراد هذه الأمة؛ يجب أن يستمر عليها المسلمون، وتُرى متجسدةً في حياتهم العملية بعد رمضان، وما تدنَّى واقع الأمة وأصيب المسلمون بالوهن في أنفسهم والضعف أمام أعدائهم إلا لما تخلوا عن أعز مقومات نصرهم وسيادتهم، وهو الدين الإسلامي الحق.
ولِما أساء بعض أبناء الإسلام فَهمه فجعلوا للطاعة وقتاً وللمعصية أوقاتاً، وللخير والإقبال زمناً، وللشر والإدبار أزماناً، عند ذلك لم تعمل مناسبات الخير والرحمة ومواسم البر والمغفرة عملَها في قلوب كثير من الناس، ولم تؤثر في سلوكهم وأخلاقهم، ولم تُجدِ في حل مشكلاتهم وقضاياهم إلا مَن رحم الله.
أيها الإخوة المسلمون: إن من شُكر الله عزَّ وجلَّ على نعمة توفيقه للصيام والقيام؛ أن يستمر المسلم على طاعة الله عزَّ وجلَّ في حياته كلها، فالإله الذي يُصام له ويُعبد في رمضان، هو الإله في جميع الأزمان، ومن علامة قبول الحسنة الحسنة بعدها.
وإن من كفر النعمة وأمارات رد العمل: العودة إلى المعاصي بعد الطاعة.
يقول كعب: [[من صام رمضان وهو يحدث نفسه أنه إذا خرج رمضان عصى ربه؛ فصيامه عليه مردود، وباب التوفيق في وجهه مسدود]].
وإن الناظر في حياة كثير من المسلمين اليوم في رمضان وبعد رمضان يأسف أشد الأسف لما عليه بعض الناس -هداهم الله- بعد شهر الصيام من هجر المساجد، وترك الجماعات، والتساهل في الصلوات، واعتزال الطاعات؛ من قراءة القرآن والذكر والدعاء والبذل والإحسان والصدقة، والإقبال على أنواع المعاصي والمنكرات، واستمراء الفواحش والمحرمات، وما ذاك -أيها الإخوة في الله- إلا من قلة البصيرة في الدين، وسوء الفَهم لشعائر الإسلام.
وما إضاعة الصلوات، واتباع الشهوات، والإغراق في الملذات، والعكوف على المحرمات عبر السهرات والسمرات، والخروج إلى الشواطئ والمنتزهات، ومتابعة الأفلام -وعفن القنوات- والفضائيات، إلا دليل على ضعف الإيمان في نفوس فئام من الناس؛ فلنتق الله عباد الله!
فاتقوا الله -عباد الله- ولا تهدموا ما بنيتم من الأعمال الصالحة في شهر رمضان، اتقوا الله يا من عزمتم على المعاصي بعد رمضان، فرَبُّ الشهور واحد، وهو على أعمالكم رقيب مشاهِد: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيْبَاُ} [النساء:1].
واعلموا أن الموت يأتي بغتة، وما مرور الأعوام بعد الأعوام، وتكرار الليالي والأيام، إلا مذكِّر بتصرُّم الأعمار وانتهاء الآجال، والقدوم على الكبير المتعال.
أيها المسلمون: أنسيتم أن الله افترض عليكم طاعته، وألزمكم عبادته في كل وقت؟!
ألا فليَعْلَم ذلك جيداً مَن ودَّعوا الأعمال الصالحة بوداع رمضان، أفأمِنَ هؤلاء أن ينزل بهم الموت ساعة من ليل أو نهار وهم على حال لا ترضي العزيز الجبار، ولا تنفعهم يوم العرض على الواحد القهار؟! {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل:92] نعوذ بالله من الحور بعد الكور!
أما آن لنا -أمة الإسلام- أن ندرك أن ما أصابنا من ضعف وهوان؛ إنما هو من عند أنفسنا، ونتيجة لعدم استفادتنا من مواسم البر والإحسان؟! إذْ لم تعمل هذه المواسم عمَلَها في القلوب؛ فتحييها بعد مَوات، وعمَلَها في الأمة؛ فتجمعها بعد فرقة وشتات، ولم تُجْدِ في حل ما استعصى من مشكلات، وعلاج ما استفحل من معضلات، فإن ذلك دليل على عدم الوعي، وقصور الفهم للإسلام.
أما إذا استقامت الأمة على العبادة، ولَمْ تَهدم ما بنته في مواسم الخير، ولَمْ يستسلم أفرادُها وأبناؤها لنزغات الشيطان وأعوانه، ولم يُبْطلوا ما عملوه في رمضان، فإن الأمة بإذن الله تُمْسِك بصِمام الأمان وحبل النجاة؛ لتصل إلى شاطئ الأمان وبر السلام بإذن الله.(62/4)
تذكر البائسين من الإخوان وقت النعم
ولنتذكر يا أمة الإسلام -ونحن نعيش فرحة العيد بالأمن والأمان- إخواناً لنا في العقيدة يحل بهم العيد وهم يعانون الحروب الطاحنة، والمآسي المستمرة، بأي حال يعيش المسلمون في الأرض المباركة فلسطين، أولى القبلتين، ومسرى سيد الثقلَين هذه الأيام، ويستقبلون العيد؟! وكذا إخوانكم في بقاع أخرى؟!
فتذكروا كيف يعيشون العيد مع حياة القتل والتشريد، والملاجئ والتهجير والتهديد.
فلا تنسوهم رحمكم الله، في دعمكم ودعائكم.
ونداءٌ مِلْؤه الحنان والإشفاق إلى الذي عزموا على العودة إلى المعاصي بعد رمضان: أن يتقوا الله سبحانه، فالعمر قصير، والآجال محدودة، والأنفاس معدودة، كفى مخادعة للرحمن، وانزلاقاً في طريق الشيطان، وعبثاً بشعائر الإسلام! إلى متى الاسترسال في الغفلة والإعراض؟!
فلتعلنوها عباد الله توبة صادقة نصوحاً لا رجعة بعدها إلى الذنوب والمعاصي، فهذا والله هو الشكر الحقيقي لنعمة الصيام.
وهمسةٌُ في آذان شباب الإسلام أن يتقوا الله تبارك وتعالى ويُقبلوا عليه, ويحفظوا أوقاتهم بعد رمضان، ويشغلوها بطاعة الله، فلا يغتروا بعمل المفتونين بمعصية الله، وليحذروا ما يُسِيء إلى دينهم وقيَمهم ويُضعِف الإيمان في نفوسهم، ويَئِد الأخلاق في قلوبهم وأعمالهم وواقعهم؛ مما يثير الغرائز، ويهيج المشاعر، مما يُرى ويُسمع ويُقرأ عبر وسائل الإعلام من معصية الله عزَّ وجلَّ، وعليهم الحذر من قرناء السوء.
وعلى المرأة المسلمة أن تتقي الله عزَّ وجلَّ، وتستمر على طاعة ربها بعد رمضان حجاباً وعفافاً وحشمة، وأن تحذر كل الحذر من دعاة الضلال والفتنة.
وعلى أرباب الأسر وأولياء الأمور أن يتقوا الله عزَّ وجلَّ في مسئولياتهم، ويحافظوا على أماناتهم بمتابعتهم وتربيتهم والعناية بهم تحقيقاً لقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيْكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
نسأل الله عزَّ وجلَّ بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يهدينا جمعياً صراطه المستقيم، وأن يثبتنا على الدين القويم، كما نسأله جل وعلا أن يرزقنا الاستمرار على الأعمال الصالحة بعد رمضان، وأن يَمُنَّ علينا بالقبول والتوفيق، إنه خير مسئول، وأكرم مأمول.
بارك الله لي ولكم في الوحيَين، وبسنة سيد الثقلَين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفوراًً.(62/5)
معاني العيد
الحمد لله؛ تَتِمُّ الصالحات بنعمته، وتُكََفَّر السيئات وتُقال العثرات بِمِنَّته، وتُضاعَف الحسنات وتُرفَع الدرجات برحمته، سبحانه! يقبل التوبة عن عبادة ويعفو عن السيئات أحمده تعالى وأشكره على جزيل العطايا والهبات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له بارئ النسمات، وأشهد أن نبينا محمداً عبده المصطفى ورسوله المجتبى أفضل البريَّات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمَكْرُمات، ومن اقتفى أثرهم ما تجددت المواسم ودامت الأرض والسماوات.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، اتقوه حق التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، واشكروه جل وعلا أن هداكم للإسلام، ووفقكم للصيام والقيام، وعلى ما تنعمون به في هذه الأيام من أيام عيد الفطر المبارك.
واعلموا -رحمكم الله- أن السعيد في العيد ليس مَن لَبِس الجديد، وتنعم بالغيد، وإنما السعيد في العيد من خاف يوم الوعيد، وسَلِم من العذاب الشديد.
وتذكروا أن العيد في الإسلام له حِكَم وأسرار، وكم له من مغزىً عميق بتحقيق شكر الله عزَّ وجلَّ قولاً وعملاً؟! فتذكروا الأطفال اليتامى، والنساء الأيامى والمعوِزين، والأرامل والمساكين، وليتحرك فيكم شعور الأخوة الإسلامية، ولتلزموا طاعة ربكم في هذه الأيام، وتحذروا مِن جَعْلِها أيام غفلة واسترسال في اللهو والمعاصي، وتوسع في المباحات، ولتكن فرصة لمحاسبة النفوس، وصفاء القلوب، وتجديدها من الضغائن والأحقاد، والقيام بأعمال البر وصلة الأرحام والمودة بين المسلمين.
مرَّ وهيب بن الوردي رحمه الله على أناس يلهُون ويلعبون أيام العيد، فقال لهم: عجباً لكم! إن كان الله قد تقبل صيامكم؛ فما هذا عمل الشاكرين! وإن كان الله لم يتقبله منكم؛ فما هذا عمل الخائفين.(62/6)
صيام الست من شوال
واعلموا رحمكم الله أن رسولكم صلى الله عليه وسلم نَدَبَكم لصيام ستة أيام من شوال، فقد روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي أيوب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {مَن صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال كان كصيام الدهر}.
فلا تفوِّتوا -رحمكم الله- على أنفسكم هذه الفضيلة العظيمة، فإن أحدنا لا يدري هل يدرك رمضان مرة أخرى أو لا يدركه، وكلنا بحاجة إلى سد ما نقص من صيامنا بصيام التطوع.
ويجوز لمن أراد صيام ستة أيام من شوال أن يتابعها، أو يفرقها في الشهر، ولا بأس في ذلك كله بحمد الله.
ألا فحاسبوا أنفسكم -رحمكم الله- بعد صيام شهركم، إذا كان أرباب الأموال وأصحاب التجارات الدنيوية ينظرون في أرباحهم بعد مواسم التجارة، فأصحاب المتاجرة مع الله أولى وأحرى أن ينظروا في أرباحهم.
فانظروا ماذا قدمتم لأنفسكم في رمضان، واستمروا عليه بعده وضاعفوه، وتقربوا إلى الله بأنواع الطاعات؛ فتلك والله هي التجارة الرابحة في أسواق الآخرة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].
ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على الهادي البشير والسراج المنير كما أمركم بذلك اللطيف الخبير، فقال عز من قائل: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مُطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق إمامنا وولي أمرنا.
اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى.
اللهم كن له على الحق مؤيداً ونصيراًَ، ومعيناً وظهيراً.
اللهم ارزقه البطانة الصالحة، واجمع به كلمة المسلمين على الحق والهدى يا رب العالمين!
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم كتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان.
اللهم انصرهم في فلسطين، وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم إنا نسألك أن تنقذ المسجد الأقصى من عدوان المعتدين، ومن اليهود الغاصبين.
اللهم عليك باليهود الصهاينة؛ فإنهم لا يعجزونك.
اللهم شتت شملهم، وفرق جمعهم، واجعلهم عبرة للمعتبرين، واجعلهم غنيمة للمسلمين، وأنزل عليهم بأسك الذي لا يُرَد عن القوم المجرمين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثننا.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين!
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاً للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واغفر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين، الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(62/7)
ومضى الشهر الكريم
مضى شهر رمضان وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، فهنيئاً للمقبولين فيه، والخسارة والخيبة لمن رد في هذا الشهر الكريم، وإن من علامة قبول الصيام يستمر الإنسان ويستمر على العمل الصالح في بقية أيام العام.(63/1)
وداعاً شهر الصيام
الحمد لله، أحمده تعالى حمداً يستدعي مزيد الإنعام، وأشكره شكراً يرقى بقائله إلى أسمى مقام.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوس السلام، مَنَّ على مَن شاء مِن عباده بحسن الصيام والقيام، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله سيد الأنام صلى الله عليه وعلى آله البررة الكرام وصحبه الأئمة الأعلام، والتابعين ومن تبعهم في التبجيل والإكرام، وسلَّم تسليماً كثيراً على الدوام.
أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله، فإنها عروة ليس لها انفصام، وجَذوة تضيء القلوب والأفهام، وهي خير زاد يبلِّغ إلى دار السلام، مَن تحلى بها بلَغ أشرف المراتب، وتحقق له أعلى المطالب، وحصل على مأمول العواقب، وكُفِي من شرور النوائب.
أيها المسلمون: المستقرئ لتاريخ الأمم والمتأمل في سجل الحضارات يُدرك أن كلاً منها يعيش تقلبات وتغيرات، ويواكب بدايات ونهايات، وهكذا الليالي والأيام والشهور والأعوام، وتلك سنن لا تتغير، ونواميس لا تتبدل: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور:44].
إخوة الإسلام: أرأيتم لو أن ضيفاً عزيزاً ووافداً حبيباً حلَّ في ربوعكم، ونزل بين ظهرانيكم، وغمركم بفضله وإحسانه، وأفاض عليكم من بره وامتنانه، فأحبكم وأحببتموه، وألِفَكم وألِفْتموه، ثم حان وقت فراقه، وقربت لحظات وداعه، فبماذا عساكم مودِّعوه؟ وبأي شعور أنتم مفارقوه؟ كيف ولحظات الوداع تثير الشجون، وتُبكي المقل والعيون، وتنكأ الالتياع، ولا سيما وداع المحب المُضَنَّى لحبيبه المُعَنَّى؟! وهل هناك فراق أشد وقعاً ووداعاًَ، وأكثر أساً والتياعاً من وداع الأمة الإسلامية هذه الأيام لضيفها العزيز ووافدها الحبيب شهر البر والجود والإحسان، شهر القرآن والغفران والعتق من النيران، شهر رمضان المبارك؟! فالله المستعان!
عباد الله: لقد شمر الشهر عن ساق، وآذن بوداع وانطلاق، ودنا منه الرحيل والفراق، لقد قُوِّضت خيامُه، وتصرَّمت أيامُه، وأزِف رحيلُه، ولم يبقَ إلا قليلُه، وقد كنا بالأمس القريب نتلقى التهاني بقدومه، ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقى التعازي برحيله، ونسأل الله قبوله.(63/2)
أحوال الناس في رمضان
مضى هذا الشهر الكريم وقد أحسن فيه أناس وأساء آخرون، وهو شاهد لنا أو علينا بما أودعناه من أعمال، شاهدٌ للمشمِّرين بصيامهم وقيامهم وبرهم وإحسانهم، وعلى المقصِّرين بغفلتهم وإعراضهم وشحهم وعصيانهم، ولا ندري هل سندركه مرة أخرى؟! أم يحول بيننا وبينه هادم اللذات ومفرق الجماعات؟!
ألا إن السعيد في هذا الشهر المبارك مَن وُفِّق لإتمام العمل وإخلاصه ومحاسبة النفس والاستغفار والتوبة النصوح في ختامه، فإن الأعمال بالخواتيم.
إخوة الإيمان: لقد كان السلف الصالح رحمهم الله يجتهدون في إتقان العمل وإتمامه، ثم يهتمون بعد ذلك بقبوله ويخافون مِن ردِّه، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: [[كونوا لقبول العمل أشد اهتماماً منكم بالعمل، ألم تسمعوا إلى قول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]؟]].
ويقول مالك بن دينار رحمه الله: الخوف على العمل ألا يُتَقَبَّل أشد من العمل.
وقال فضالة بن عبيد رحمه الله: [[لو أني أعلم أن الله تقبل مني حسنة واحدة، لكان أحب إلي من الدنيا وما فيها]].
الله أكبر! هذه حال المشمِّرين! فرحماك ربنا رحماك! وعفوك يا ألله لحال المقصِّرين!
ألا فسلام الله على شهر الصيام والقيام! سلام الله على شهر التراويح والتلاوة والذكر والتسبيح! لقد مر كلمحة برقٍ أو غمضة عين، كان مضماراً للمتنافسين، وميداناً للمتسابقين.
ألا وإنه راحلٌ لا محالة فشيعوه، وتمتعوا فيما بقي من لحظاته ولا تضيعوه، فما من شهر رمضان في الشهور عِوَض، ولا كمُفْتَرَضه في غيره مُفْتَرَض، شهر عمارات القلوب، وكفارات الذنوب، وأمان كل خائفٍ مرهوب، شهر العبرات السواكب، والزفرات الغوالب، والخطرات الثواقب، كم رُفِعَت فيه من أكُفٍّ ضارعة؟! وذَرَفَت فيه من دموع ساخنة؟! ووجلت فيه من قلوب خاشعة؟! وتحركت فيه من مشاعر فياضة، وأحاسيس مرهفة، وعواطف جياشة؟!
هذا وكم وكم يفيض الله من جوده وكرمه على عباده! ويمن عليهم بالرحمة والمغفرة والعتق من النار؛ لا سيما في آخره!(63/3)
وقفة محاسبة مع رحيل رمضان
عباد الله: متى يُغفر لمن لم يُغفر له في هذا الشهر؟! ومتى يُقبل من رُدَّ في ليلة القدر؟!
أورد الحافظ ابن رجب رحمه الله عن علي رضي الله عنه أنه كان ينادي في آخر ليلة من رمضان: [[يا ليت شعري مَن المقبول فنهنيه، ومَن المحروم فنعزيه]].
أيها المقبولون: هنيئاً لكم، أيها المردودون: جبر الله مصيبتكم، ماذا فات مَن فاته خير رمضان؟! وأي شيء أدرك مَن أدركه فيه الحرمان؟! كم بين مَن حظه فيه القبول والغفران؟! ومَن حظه فيه الخيبة والخسران؟! متى يصلح مَن لم يصلح في رمضان؟! ومتى يصح مَن كان فيه مِن داء الجهالة والغفلة مَرَضان؟!
ترحَّل الشهر والَهْفَاهُ وانصرما واختص بالفوز بالجنات مَن خَدَما
فيا أرباب الذنوب العظيمة: الغنيمة الغنيمة في هذه الأيام الكريمة، فمن أُعتق فيها من النار فقد فاز والله بالجائزة العظيمة، والمنحة الجسيمة، أين حَرَق المهتمين في نهاره؟! أين قلق المجتهدين في أسحاره؟!
فيا من أعتقه مولاه من النار: إياك ثم إياك أن تعود بعد أن صرت حراً إلى رق الأوزار! أيبعدك مولاك من النار وأنت تقترب منها؟! وينقذك وأنت توقع نفسك فيها، ولا تحيد عنها؟! وهل ينفع المفرط بكاؤه وقد عظُمت فيه مصيبته وجل عزاؤه؟!
فبادروا يا رعاكم الله! فلعل بعضكم لا يدركه بعد هذا العام، ولا يؤخره المنون إلى التمام، فيا ربح من فاز فيه بالسعادة والفلاح! ويا حسرة من فاتته هذه المغانم والأرباح!
لقد دنا رحيل هذا الشهر وحان، ورب مؤمِّل لقاء مثله خانه الإمكان، فاغتنم -أيها المفرط- في طاعة المنان الفرصة قبل فوات الأوان، وتيقظ -أيها الغافل- من سِنَة المنام، وانظر ما بين يديك من فواجع الأيام، واحذر أن يشهد عليك الشهر بقبائح الآثام، واجتهد في حسن الخاتمة، فالعبرة بحسن الختام.(63/4)
آثار الصيام(63/5)
آثار الصيام في نفوس الصائمين
أمة الإسلام: ماذا عن آثار الصيام التي عملها في نفوس الصائمين؟!
لننظر في حالنا! ولنتأمل في واقع أنفسنا وأمتنا! ونقارن بين وضعنا في أول الشهر وآخره! هل عُمِرت قلوبُنا بالتقوى؟! هل صلحت منا الأعمال، وتحسنت الأخلاق، واستقام السلوك؟! هل اجتمعت الكلمة، وتوحدت الصفوف ضد أعداء الأمة؟! هل زالت الضغائن، والأحقاد، وسُلَّت السخائم من النفوس؟! هل تلاشت المنكرات والمحرمات عن المجتمعات؟!
أيها المسلمون: يا من استجبتم لربكم في الصيام والقيام، استجيبوا له في سائر الأعمال وفي كل الأيام.
أما آن أن تخشع لذكر الله القلوب، وتجتمع على الكتاب والسنة الدروب، لتُدْرأ عن الأمة غوائل الكروب وقوارع الخطوب؟!(63/6)
أثر الصيام على المسلمين تجاه قضاياهم الإسلامية
إخوة الإسلام، أمة الصيام والقيام: ما أجدر الأمة الإسلامية وهي تودع هذه الأيام موسماً من أعز وأحلى وأفضل وأغلى أيام وليالي العمر! ما أحراها وهي تودع شهرها أن تودع الأوضاع المأساوية والجراحات الدموية التي أصابت مواضع عديدة من جسدها المثخن بالجراح! ما أحرها أن تتخذ الخطوات الجادة والعملية لوقف نزيف الدم المسلم المتدفق على ثرى الأرض المباركة فلسطين المجاهدة، وفي بلاد الشيشان، وكشمير المسلمة!
فهل يعجز المسلمون، وهم أكثر من مليار مسلم أن يتخذوا حلاً عاجلاً يحقن دماء المسلمين، ويعيدوا لهم أمنهم ومجدهم وهيبتهم بين العالمين؟!
هل تودع الأمة الإسلامية -وهي تودع شهرها- التخاذل الكبير تجاه قضيتها الأولى، قضية أولى القبلتين، ومسرى سيد الثقلين المسجد الأقصى المبارك، أقر الله الأعين بفك أسره وقرب تحريره، الذي يرزح تحت وطأة العدوان الصهيوني الغاشم، ويستنجد ولا مجيب! ويستغيث ولا ذو نخوة يتحرك؟! فإلى الله المشتكى، ومنه وحده الفرج، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم!
وعلى صعيد القضية الأفغانية: هل تودع الفصائل الأفغانية خلافاتها؟ وتتحد على من يحكمها بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم حقناً لدماء المسلمين؟ وحفظاً على أمن بلادهم، وسلامة الشعب الأفغاني المسلم من التشرد والتهجير؟!
هل تودع الأمة الإسلامية في وداع شهرها مآسي الأقليات الإسلامية في بقاع شتى من العالم؟!
نرجو أن يكون ذلك قريباً بإذن الله، وهذا والله ليس بعزيز، فالآمال معقودة بعد الله على قادة المسلمين وعلمائهم وأهل الحل والعقد فيهم لبذل المزيد من الجهود لإعزاز دين الله، ونصرة قضايا المسلمين في كل مكان، لا سيما بعد ما شهد المتابعون أحداثاً عالمية، ومجريات دولية، كان لها أثر بالغٌ على أوضاع المسلمين في العالم.
فهل تودع الأمة تلك الحملات الإعلامية المغرضة ضد الإسلام وأهله وبلاده ومقدساته، لا سيما بلاد الحرمين الشريفين حرسها الله؟! وهل تُسْتَثْمَر الطاقات العلمية والدعوية والتقنيات المعاصرة الإعلامية لنشر محاسن الإسلام، ورعايته لحقوق الإنسان، وإرسائه معاني الحق والعدل والسلام، ومجانبته مسالك العنف والإرهاب، في ظل تداعيات العولمة العارمة التي توشك أن تأتي على بنيان ثوابت أمتنا من القواعد، وفي ظل ما يسمى بصراع الحضارات والتلاعب بالمصطلحات؟!
هل يوضع حدٌّ للإرهاب على مستوى الدولة الذي تمارسه الصهيونية العالمية على مرأىً ومسمعٍ من العالم؟!
يا زعماء العالم! يا صُنَّاع القرار! يا أهل الرأي العام الإسلامي والعالمي والدولي! أيها العقلاء والمنصفون: لقد أكدت الأحداث أن من لم يتعظ بالوقائع فهو غافل، ومن لم تقرعه الحوادث فهو خامل!(63/7)
حلول عاجلة لإصلاح أحوال المسلمين
يا أهل الإسلام! يا أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم: نحن أمة عُرِفَت عبر تاريخها المشرق بِعِزٍّ ومجدٍ يطاول الثريا، رفعةً وسناءً! فحرامٌ أن نضعف ونستكين، ونتحسى كأس المذلة مُتْرَعاً!
لا بد أن تأخذ الأمة الإسلامية مكانتها بين الأمم؛ لتحقيق ما تنشده البشرية المضطهدة، والإنسانية الحيرى من حقٍ وعدلٍ وسلام، وانتشالها مما غرقت فيه من أوحال الضلال والشقاء، ومستنقعات الاضطراب والفوضى.
وإذا كان أعداؤكم سادوا العالم وهم على مادية وضلالٍ وباطل، فما أحراكم بالقيادة والسيادة والريادة، وأنتم على منهج الشهد الزلال، منهج الإيمان والحق والتقوى.
لا بد من صياغة الجيل المعاصر على منهج الوسطية والاعتدال، ووضع دراساتٍ استراتيجية، واتخاذ آليات عملية؛ للنهوض بمستوى الدعوة الإسلامية، ووقاية الأمة من شرور التشرذم، والخلافات الجانبية، التي عانت الأمة منها طويلاً، والمشكلات المفتعلة التي تمثل طعنةً نجلاء في خاصرة هذه الأمة.
حقاً إن على أهل الإسلام جميعاً أن يعلموا أنه لا صلاح لأحوالهم التي يطلبون لها الحلول العاجلة إلا بالتمسك بالعقيدة الإسلامية الصحيحة، في عالمٍ يموج بالإلحاد والوثنيات والانحراف والمتغيرات.
ووالله وبالله وتالله! إن فساد العقائد والأخلاق، والتخلي عن الثوابت العقدية والمناهج الشرعية لَهُوَ سبب هزائم الأمم، وانتكاسات الشعوب، وتدهور الحضارات! وتلك مسئولية الأمة بأسرها!
فهل يعي المسلمون مكانة عقيدتهم؟! ويتَّحدوا على ما كان عليه سلفهم الصالح رحمهم الله؛ ليتحقق الخير للبلاد والعباد؟!
هذا هو الأمل، وعلينا الصدق والعمل.
نسأل الله عز وجل أن يتقبل منا جميعاً صيامنا وقيامنا ودعاءنا، وأن يمن علينا بالقبول والمغفرة والعتق من النار بمنه وكرمه، وأن يجبر كسرنا على فراق شهرنا، ويعيده علينا أعواماً عديدة، وأزمنةً مديدة، وعلى الأمة الإسلامية وهي ترفل في حلل العز والنصر والتمكين، وقد عاد لها مجدها وهيبتها بين العالمين، إنه خير مسئول وأكرم مأمول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين والمسلمات من كل الآثام والخطيئات، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان للأوابين غفوراً.(63/8)
الإرشاد إلى بعض الأعمال الصالحة في ختام شهر الصيام
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبفضله تُرفع الدرجات، وتُكفَّر السيئات.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، قاضي الحاجات، والعالم بالخفايا والمكنونات، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، سيد البريات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضل والمكرومات، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ ما دامت الأرض والسماوات.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله، واستودعوا شهركم عملاً صالحاً يشهد لكم عند الملك العلام، وودِّعوه عند فراقه بأزكى تحية وأوفر سلام.
قلوب المتقين إلى هذا الشهر تَحِنُّ، ومن ألم فراقه تأسى وتَئِنُّ، كيف لا يجري المؤمن على فراقه دموع، وهو لا يدري هل بقي له في عمره إليه رجوع؟!
إن قلوب المحبين لألم فراقه تَشَقَّقُ، ودموعَهم للوعة رحيله تَدَفَّق، فالله المستعان وهو وحده الموفِّق!(63/9)
الاستغفار والشكر والتوبة
أيها الإخوة الصائمون: لقد شرع لكم مولاكم في ختام شهركم أعمالاً عظيمة تسد الخلل وتجبُر التقصير، وتزيد في المثوبة والأجر، فندبكم في ختام شهركم إلى الاستغفار والشكر والتوبة: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:185].(63/10)
زكاة الفطر
كما شرع لكم زكاة الفطر شكراً لله على نعمة التوفيق للصيام والقيام، وطُهرة للصائم من اللغو والرفث، وطُعمةً للمساكين، وتحريكاً لمشاعر الأخوة والألفة بين المسلمين، وهي صاعٌ من طعامٍ من برٍ أو نحوه من قوت البلد، كالأرز أو غيره، فيجب إخراجها عن الكبير والصغير والذكر والأنثى، كما في حديث أبي سعيدٍ وابن عمر رضي الله عنهم.
ويُستحب إخراجها عن الحمل في بطن أمه، والأفضل إخراجها ما بين صلاة الفجر وصلاة العيد، وإن أخرجها قبل العيد بيومٍ أو يومين فلا حرج إن شاء الله، والسنة أن يخرجها طعاماً، كما هو نص حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم وعمل السلف الصالح رحمهم الله، وقد كان عمر بن عبد العزيز رحمه الله يكتب في نهاية شهر رمضان إلى الأمصار يأمرهم بختم شهر رمضان بالاستغفار وصدقة الفطر.
فأدُّوا رحمكم الله زكاة الفطر طيِّبة بها نفوسُكم، فقد أعطاكم مولاكم الكثير وطلب منكم القليل.(63/11)
الثبات والاستمرار على الأعمال الصالحة
أيها الإخوة في الله: الله الله! في الثبات والاستمرار على الأعمال الصالحة في بقية أعمالكم، واصِلُوا المسيرة في عمل الخير وحُثُّوا الخطى في العمل الصالح؛ لتفوزوا برضا المولى جل وعلا، فلديكم من الأعمال الصالحة ما يُعَد من المواسم المستمرة؛ هذه الصلوات الخمس المفروضة، وهذه نوافل العبادات من صلاة وصيام وصدقة، وهكذا سائر الأعمال الصالحة.
واعلموا أنه لئن انقضى شهر رمضان المبارك؛ فإن عمل المؤمن لا ينقضي إلا بالموت، ومن علامة قبول الحسنة: الحسنةُ بعدها، ورب الشهور واحد، وهو على أعمالكم رقيبٌ مشاهد، وبئس القوم لا يعرفون الله إلا في رمضان!(63/12)
خدمة المعتمرين والزائرين لبيت الله الحرام
ألا وإن من التحدث بآلاء الله: ما نَعِم به الصائمون والمعتمرون من أجواءٍ آمنة، وخدماتٍ متوفرة، وأعمالٍ مذكورة، وجهودٍ مشكورة، لم تكن لتحصل مع هذا العدد الهائل لولا توفيق الله أولاً وآخراً، ثم ما من به سبحانه على الحرمين الشريفين وروُّادِهما من هذه الولاية المسلمة التي بَذَلت وتبذل كل ما من شأنه تسهيل أمور العُمَّار والزُّوَّار، جعله الله خالصاً لوجهه الكريم، وزادها خيراً وهدىً وتوفيقاً بمنه وكرمه، وأدام عليها خدمة الحرمين الشريفين وقاصديهما، ورعاية قضايا المسلمين في كل مكان، والشكر لله أولاً وآخراً وباطناً وظاهراً، شكراً كثيراً دائماً أبداً إلى يوم الدين.
هذا واعلموا رحمكم الله أن من خير أعمالكم وأزكاها عند مليككم: كثرة صلاتكم وسلامكم على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، نبيكم محمد بن عبد الله، كما أمركم بذلك ربكم جل في علاه، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله.
وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم برحمتك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمِنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا.
اللهم وفقه لما تحب وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى.
اللهم هيئ له البطانة الصالحة، وأسبغ عليه لباس الصحة والعافية.
اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لتحكيم شرعك واتباع سنة نبيك صلى الله عليه وسلم يا سميع الدعاء.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، وألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنا، اللهم إنك عفو تحب العفو فاعفُ عنا.
اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعفُ عنا.
اللهم اعتق رقابنا من النار، اللهم اعتق رقابنا من النار، اللهم اعتق رقابنا من النار.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين.
اللهم اجعل ما أنزلته قوة لنا على طاعتك وبلاغاً إلى حين.
اللهم يا حي يا قيوم، يا ذا الجلال والإكرام، نسألك اللهم أن تحرر المسجد الأقصى من براثن اليهود المعتدين يا قوي يا عزيز.
اللهم ارزقنا فيه صلاة قبل الممات يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.
اللهم انصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان.
اللهم انصرهم في فلسطين، وكشمير، والشيشان، وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم كن للمشرَّدين والمهجَّرين الأفغان، وفي كل مكان يا ذا الجلال والإكرام.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(63/13)
حرب الشائعات
منذ أن خلق الله الخليقة وجد الصراع بين القوى، صراع يستهدف أعماق الإنسانية، ويؤثر في كيان البشرية، وإذا كانت الحروب والأزمات والكوارث والنكبات تستهدف بأسلحتها الفتاكة الإنسان من حيث جسده وبنائه، فإن هناك حرباً سافرة، مستترة، تتولد على ضفاف الحوادث والملمات، وتتكاثر في زمن التقلبات والمتغيرات، وهي أشد ضراوة وفتكاً؛ لأنها تستهدف الإنسان من حيث عمقه وعطائه، وقيمه ونمائه، ألا وهي حرب الشائعات، فكم أفسدت من أمم ومجتمعات، والتاريخ الإنساني خير شاهد على هذا.(64/1)
خطورة الشائعات على الأمم والمجتمعات
إن الحمد لله، جل من رب وتعالى من إله، هو سبحانه رب كل شيء ومليكه ومولاه، وهو العلي الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له عالم السر والنجوى، والمؤمَّل لكشف كل بلوى، ورفع كل لأوى، سبحانه وبحمده ليس في الكون رب سواه فيدعى، وليس في الوجود إله غيره فيرجى، وليس في الملأ حكم غيره فترفع إليه الشكوى، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله النبي المصطفى، والرسول المجتبى، والحبيب المرتضى، بلغ رسالة ربه فما ضل وما غوى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
صلى الله عليه وعلى آله أنوار الهدى، وصحبه مصابيح الدجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيا عباد الله: خير الوصايا وصية رب البرايا: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ) [النساء:13] فاتقوا الله رحمكم الله، فبالتقوى العصمة من الفتن، والسلامة من المحن.
يقول طلق بن حبيب رحمه الله: [[اتقوا الفتن بالتقوى]].
أيها المسلمون: منذ أن خلق الله الخليقة وُجِد الصراع بين القوى، صراع يستهدف أعماق الإنسانية، ويؤثر في كيان البشرية، وإذا كانت الحروب والأزمات، والكوارث والنكبات تستهدف بأسلحتها الفتاكة الإنسان من حيث جسده وبنائه، فإن هناك حرباً سافرة مستترة، تتوالد على ضفاف الحوادث والملمات، وتتكاثر في زمن التقلبات والمتغيرات، وهي أشد ضراوة وأقوى فتكاً؛ لأنها تستهدف الإنسان من حيث عمقه وعطائه، وقيمه ونمائه، أتدرون يا رعاكم الله، ما هي هذه الحرب القذرة؟
إنها حرب الشائعات.
الشائعات من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، بل من أشد الأسلحة تدميراً، وأعظمها وقعاً وتأثيراً، وليس من المبالغة في شيء إذا عدت ظاهرة اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية، وأنها جديرة بالتشخيص والعلاج، وحرية بالتصدي والاهتمام لاستئصالها والتحذير منها، والتكاتف للقضاء على أسبابها وبواعثها، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة التي هي عماد نجاح الأفراد، وأساس أمن واستقرار المجتمعات، وركيزة بناء أمجاد الشعوب والحضارات.(64/2)
موقف الإسلام من الشائعات
معاشر المسلمين: المستقرئ للتاريخ الإنساني يجد أن الشائعات وجدت حيث وجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التأريخ والشائعة تمثل مصدر قلق في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات، ولمّا جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها، لما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية على تماسك المجتمع المسلم وتلاحم أبنائه وسلامة لحمته والحفاظ على بيضته، بل لقد عدَّ الإسلام ذلك سلوكاً مرذولاً منافياً للأخلاق النبيلة، والسجايا الكريمة، والمثل العليا التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا الغراء من الاجتماع والمحبة والمودة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء.
وهل الشائعة إلا نزف لتلك القيم، ومعول هدم لهذه المثل، كما حذر الإسلام من الغيبة والوقيعة في الأعراض، والكذب والبهتان، والنميمة والقالة بين الناس، وهل الشائعة إلا كذلك، وأمر بحفظ اللسان، وأبان خطورة الكلمة، وحرم القذف والإفك، وتوعد محبي رواج الشائعات بالعذاب الأليم: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} [النور:19].
وحث على التثبت والتبين في نقل الأخبار، يقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] قرأ حمزة والكسائي: (فتثبتوا).
وأخبر سبحانه أن الإنسان مسئول أمام الله عز وجل ومحاسب عن كل صغير وجليل فقال: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18] وقال: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
والشائعة مبنية على سوء الظن بالمسلمين، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12] وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث} كما نهى الإسلام أتباعه أن يطلقوا الكلام على عواهنه، ويلغوا عقولهم عند كل شائعة وتفكيرهم عند كل ذائعة، أو ينساقوا وراء كل ناعق، ويصدقوا قول كل دعي مارق.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع} وفي رواية: {كفى بالمرء إثماً} وسداً للباب أمام الوشاة المغرضين، ونقلة الشائعات المتربصين، ومنعاً لرواج الشائعات، والبلاغات المجهولة الكيدية المغرضة، والأخبار الملفقة المكذوبة على البرآء الغافلين، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في الأدب المفرد عن أسامة بن زيد رضي الله عنها: {ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: المشاءون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبرآء العنت}.
إخوة العقيدة: إذا كان في دنيا النبات طفيليات تلتف حول النبتة الصالحة لتفسد نموها؛ فإن الشائعات ومروجيها أشد وأنكى، لما يقومون به من خلخلة البُنى التحتية للمجتمع، وتقويض أركانه وتصديع بنيانه.
فكم تجنّوا على أبرياء، وأشعلوا نار الفتنة بين الأصفياء، وكم نالوا من علماء وعظماء، وكم هدمت الشائعة من وشائج، وتسببت في جرائم، وفككت من أواصر وعلاقات، وحطمت من أمجاد وحضارات، وكم دمرت من أسر وبيوتات، وأهلكت من حواضر ومجتمعات، بل لرب شائعة أثارت فتناً وبلايا، وحروباً ورزايا، وأذكت نار حروب عالمية، وأججت أوار معارك دولية، وإن الحرب أولها كلام، ورب كلمة سوء ماتت في مهدها، ورب مقالة شر أشعلت فتناً، لأن حاقداً ضخمها ونفخ فيها.(64/3)
بيان خبث ودناءة مروج الشائعة
عباد الله: إن مروج الشائعة لئيم الطبع، دنيء الهمة، مريض النفس، منحرف التفكير، صفيق الوجه، عديم المروءة، ضعيف الديانة، يتقاطر خسة ودناءة، قد ترسب الغل في أحشائه، فلا يستريح حتى يزبد ويرغي، ويفسد ويؤذي.
فتان فتاك، ساع في الأرض في الفساد، يجر الفتن للبلاد والعباد، إنه عضو مسموم، ذو تجاسر مذموم، وبذاء محموم، يسري سريان النار في الهشيم، يتلون كالحرباء، وينفث سمومه كالحية الرقطاء، ديدنه الإفساد والهمز.
وسلوكه الشر واللمز، وعادته الخبث والغمز، لا يفتؤ إثارة وتشويشاً، ولا ينفك كذباً وتحريشاً، ولا يبرح تقولاً وتهويشاً، فكم حصلت وحصلت من جناية على المؤهلين الأتقياء، بسبب شائعة دعي مأفون، ذي لسان شرير وقلم أجير، في سوء نية، وخبث طوية، وهذا سر النزيف الدائم في جسد الأمة الإسلامية.(64/4)
نماذج من حرب الشائعات في التاريخ
إخوة الإيمان: ومنذ فجر التأريخ، والشائعات تنشب مخالبها في جسد العالم كله، لا سيما في أهل الإسلام، يروجها ضعاف النفوس والمغرضون من أعداء الديانة، ويتولى أعداء الإسلام عبر التأريخ لا سيما اليهود، قتلة الأنبياء ونقضة العهود، كبر الشائعات بغية هدم صرح الدعوة الإسلامية، والنيل من أصحابها، والتشكيك فيها، ولم يسلم من شائعاتهم حتى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فقد تعرضوا لجملة من الافتراءات والأراجيف ضد رسالتهم تظهر حيناً وتحت جنح الظلام أحياناً: {فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].(64/5)
الشائعات ضد الأنبياء السابقين
فهذا المسيح عليه السلام، تشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمه الصديقة: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28].
والكريم بن الكريم بن الكريم يوسف عليه السلام، نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].(64/6)
حادثة الإفك
والسيرة العطرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنموذج يحمل في طياته نماذج حية، لتاريخ الشائعة والموقف السليم منها، فقد رميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها، فرمي بالسحر والجنون والكذب والكهانة، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صنع الأراجيف الكاذبة، والاتهامات الباطلة ضد دعوته عليه الصلاة والسلام.
ولعل من أشهرها قصة الإفك المبين، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات، وهي تتناول بيت النبوة الطاهر، وتتعرض لعرض أكرم الخلق على الله صلى الله عليه وسلم وعرض الصديق والصديقة، وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم أجمعين، وتشغل هذه الشائعة المسلمين بـ المدينة شهراً كاملاً، والمجتمع الإسلامي يصطلي بنار تلك الفرية، ويتعذب ضميره، وتعصره الشائعة الهوجاء عصراً، ولولا عناية الله لعصفت بالأخضر واليابس، حتى تدخل الوحي ليضع حداً لتلك المآساة الفظيعة، ويرسم المنهج للمسلمين عبر العصور للموقف الواجب اتخاذه عند حلول الشائعات المغرضة.
قال الله: {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} [النور:12] إلى قوله سبحانه: {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:16 - 17].
تقول عائشة رضي الله عنها: [[فمكثت شهراً لا يرقأ لي دمع، ولا أكتحل بنوم]]، حتى برأها الله من فوق سبع سموات، رضي الله عنها وأرضاها.
ومن ذلك -يا عباد الله- استغلال الكفار والمنافقين لحادث موت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حين أخذوا يشنون الحرب النفسية ضد المسلمين، عن طريق الشائعات المغرضة، زاعمين أن الإسلام قد انتهى ولن تقوم له قائمة، حتى أثّر ذلك على بعض الصحابة رضي الله عنهم، وظل الناس في اضطراب حتى هيأ الله الصديق أبا بكر رضي الله عنه، فحسم الموقف بتذكير الأمة بقول الحق تبارك وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].(64/7)
العصر الحاضر ورواج الشائعات
أمة الإسلام: وتتطور الشائعات بتطور العصور، ويمثل عصرنا الحاضر عصراً ذهبياً لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لتطور التقنيات وكثرة وسائل الاتصالات، التي مثلت العالم قرية كونية واحدة، فآلاف الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية، تتولى كبر نشر الشائعات المغرضة، والحملات الإعلامية المحمومة، في صورة من أبشع صور الإرهاب النفسي والتحطيم المعنوي، له دوافعه المشينة، وأغراضه المشبوهة، ضد عقيدة الأمة ومثلها، وثوابتها وقيمها، إنها ألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة تصيب الأمة في مقتلها وتفعل في عرضها مالا يفعله العدو بمخابراته وطابوره الخامس، مركزة على شائعات الخوف والمرض، وإثارة القلق والرعب والحروب، وزرع بذور الفتنة، وإثارة البلبلة بين الناس، لا سيما في أوقات الأزمات، يوافق ذلك فراغ عند المتلقي وفضول، وبطالة وخمول، فتسري الشائعة في الناس مسرى الهواء، وتهيج فيهم هيجان البحر المتلاطم، وتكمن خطورتها أنها سلاح جنوده مغفلون أغرار، سحرتهم الشائعات ببريقها الخادع، فأصبحوا يرددونها كالببغاوات، دون أن يدركوا أنهم أدوات يستخدمون لمصالح أعدائهم وهم لا يشعرون.(64/8)
الآثار السلبية للشائعات
كم كان للشائعات آثارها السلبية على الرأي العام، وصناع القرار في العالم.
وكم كانت سبباً في أن يصرف الأعداء جبهة الأمة الداخلية عن مشكلاتها الحقيقية؛ لإغراقها في مشكلات مفتعلة، علاوة على تمزيق الوحدة الإسلامية، والعمل على تفتيت الجبهة الداخلية.
يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم: الشائعات جريمة ضد أمن المجتمع، وصاحبها مجرم في حق دينه ومجتمعه وأمته، مثير للاضطراب والفوضى في الأمة، وقد يكون شراً من مروجي المخدرات، فكلاهما يستهدف الإنسان، لكن الاستهداف المعنوي أخطر وأعتى.
وإنك لتأسف أشد الأسف ممن يتلقى الشائعات المغرضة، وكأنها حقائق مسلمة، يجلس أحدهم الساعات الطوال أمام أجهزة الشبكات المعلوماتية بوجهها الكالح وما يعرف بجهاز الإنترنت، عبر مواقعه المشبوهة، فيلطخ سمعه وبصره من الشائعات الباطلة، وتلفيق التهم الصفيقة، مما تجفل القلوب من مجرد سماعه، وتتحرج النفوس المؤمنة من مطالعته فضلاً عن البوح به، وما درى من هم هؤلاء الجبناء خفافيش الظلام!
إنهم أدوات في أيدي ما يعرف بـ اللوبي الصهيوني العالمي، ضد أمن الأمة ومجتمعاتها الإسلامية.
وإنه ليخشى ممن أدمن النظر فيها، أن يخسر دينه ودنياه وآخرته، وأن يلتبس عليه الحق بالباطل؛ فينحرف عن جادة الصواب والعياذ بالله، وهل يجوز لنا ويليق بنا نحن أهل الإسلام أن نتخلى عن شيء من ثوابتنا؟ أو أن تهتز بعض قناعتنا؟ أو أن نظن غير الحق بأحد من علمائنا، وفضلائنا بمجرد وشاية كاذبة أو شائعة مغرضة؟ أين عقولنا وتفكيرنا؟ بل أين ديننا وإيماننا أن نتلقف كل شيء تحت شعار قالوا وزعموا؟!
يقول الإمام الذهبي رحمه الله: ولو أن كل عالم تركنا قوله بمجرد خطأ وقع فيه، أو كلام الناس فيه ما سلم معنا أحد، ونعوذ بالله من الهوى والفظاظة، فالله المستعان.
عباد الله: ومن هنا تدركون -يا رعاكم الله! - خطورة هذه الحرب ضد دين الأمة وأمنها ومجتمعاتها مما يتطلب ضرورة التصدي لها وأهمية مكافحتها، والتخطيط لاستئصال جرثومتها، حتى لا تقضي على البقية الباقية من تماسك المجتمع وتلاحم أفراده، وواجب علماء الأمة ودعاتها وطلاب العلم فيها وشبابها في ذلك كبير وعظيم، فإنهم مستهدفون فعليهم أن يدركوا أبعاد المؤامرة، وأن لا يكونوا ميداناً خصباً لتواجدها وانتشارها بينهم، وأن يحرصوا على التثبت والتبين، وأن يحذروا مسالك التأويل والهوى، واتباع المتشابه، وأن يقفوا في الأحداث على علم وبصيرة، ويكفوا ببصر نافذ ونظر ثاقب وحسن ظن، بعيداً عن إيغار الصدور، وبث الشائعات والشرور، معتصمين بالكتاب والسنة، متخذين من موقف السلف الأنموذج عند الفتن.
الأمة مطالبة كلٌ في مجاله، للقضاء على هذه الظاهرة التي لها آثارها المدمرة ضد أمن الأمة واستقرار المجتمع، كما أن على البيت والمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دوراً كبيراً في الحفاظ على سلامة المجتمع من شرورها وأخطارها، بدءاً بالوعي وتقوية الوازع الإيماني، وتبيين الحقائق ونشرها، وعدم التساهل في نقل الكلام وبث الأنباء، لا سيما في أوقات الأزمات، وعدم التهويل والإثارة في التعليقات، والمبالغة في التحليلات المشبوهة، وإيجاد صيغة علمية، وآلية عملية، للحوار الحضاري والموقف السليم في الأحداث والمتغيرات، واختلاف الظروف والمستجدات، بإخلاص وصدق وشفافية، دون تزييف أو التواء؛ رفعاً للروح المعنوية، وبعداً عن الخور والضعف والانهزامية، كما قال سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ * إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:173 - 175].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه كان حليماً غفوراً.(64/9)
وسائل مواجهة حرب الشائعات
الحمد لله مبدع الكائنات وبارئ النسمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جزيل العطايا والهبات، وواهب الخيرات والبركات، أمر بالصدق وحرم الأكاذيب والشائعات، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل البريات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أولي والمكرمات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! واعلموا أن دينكم الإسلامي الحنيف رسم المنهج الصحيح لمواجهة أخطار الشائعات، قاصداً من ذلك بناء المجتمع المسلم المتماسك، فأقام الضمانات الواقية والحصانات الكافية، التي تحول دون معاول الهدم والتخريب، ومستنقعات الترويج والتأليب، أن تتسلل إليه أو تؤثر عليه، في غفلة من أهل الوعي والصلاح، فتتناثر حبات عقده الناصع، وتتشتت لبنات بنائه المحكم، فلا يقوى على التصدي لعاتيات العواصف والفتن، وتلاطمات أمواج المحن، فيوشك أن تغرق سفينته، أو يتغير مسارها الصحيح، أو تحدث فيها الشروخ والخروق، فتطوح بها بعيداً عن شاطئ السلامة وساحل النجاة.(64/10)
تربية النفس على الخوف من الله
أيها الإخوة الأحبة في الله: وإن من أولى الخطوات في مواجهة حرب الشائعات، تربية النفوس على الخوف من الله، والتثبت في الأمور، فالمسلم لا ينبغي أن يكون أذناً لكل ناعق، بل عليه التحقق والتبين وطلب البراهين الواقعية، والأدلة الموضوعية، والشواهد العملية، وبذلك يسد الطريق أمام الأدعياء الذين يعملون خلف الستور، ويلوكون بألسنتهم كل قول وزور، ضد كل مصلح ومحتسب وغيور.(64/11)
الاستنكار على الحملات الإعلامية ضد الإسلام وأهله
ألا وإن من العدل والإنصاف استنكار تلك الحملات الإعلامية المغرضة، والشائعات والأراجيف الباطلة، ضد عقيدتنا وشريعتنا، وضد بلادنا الإسلامية، والمسلمين الذين يشرفون بالانتساب إلى هذا الدين القويم.
وإن الطعن في بلاد الإسلام وعلماء الإسلام، ليس المقصود منه أشخاصهم وأعيانهم، وإنما ما يحملونه من عقيدة ومنهج، وإن الحملات المسعورة، ضد بلاد الحرمين أدام الله عزها وحفظ لها أمنها وإيمانها، لن تهز بإذن الله من قناعاتها بثوابتها، ولن تكون سبباً في التنازل عن شيء من عقيدتها ومواقفها، فلا مساومة على شيء من مثلنا وقيمنا.
والسؤال الملح، ماذا يريد المهاجمون من بلاد الحرمين حرسها الله؟ ومن يقف وراءهم؟ ولمصلحة من يهرفون بما لا يعرفون، ويهذون بما لا يدرون؟
ولن يضر البحر أمسى زاخراً أن رمى فيه غلام بحجر
ألا فلنتق الله عباد الله! ولنقم بواجبنا تجاه دين الله، تعلماً وتعليماً، وإصلاحاً ودعوة، فما أحوج العالم اليوم إلى فهم الصورة الحقيقية عن الإسلام والمسلمين، وما أحرى وسائل الإعلام العالمية المعاصرة في أن تسهم في تحقيق ذلك، ألا فلنكن صفاً واحداً أمام أعدائنا، ولنسر على منهجية صحيحة، تحقق المصالح وتدرأ المفاسد عن أمتنا ومجتمعاتنا بإذن الله، ولنتلاحم مع ولاة أمور المسلمين وعلمائنا الراسخين، أمام طوفان الفتن، ولا نقبل فيهم قول الوشاة المغرضين، وما أشد حاجة الأمة وقد ظهرت الفتن بقرنها، واستشرفت بزمامها إلى ربان مهرة، يقودون سفينتها إلى شاطئ السلامة والنجاة!؛ فإنه إذا كثر الملاحون غرقت السفينة، والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان بمنه وكرمه.
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على النبي الأواب، كما أمركم بذلك المولى العزيز الوهاب، فقال تعالى قولاً كريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنها معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين من اليهود والمفسدين، وسائر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم عاجلاً غير آجل يا قوي يا عزيز، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في دينهم في كل مكان.
اللهم انصرهم في فلسطين والشيشان، وكشمير والأفغان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين.
اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء، والربا والزنا، والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة، وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك أن تجعل لنا وللمسلمين من كل هم فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ومن كل بلاء عافية، يا قوي يا عزيز.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين.
اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون.
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.(64/12)
سمة الاعتدال والوسطية
إن سمة الاعتدال والوسطية تتجلى في صور سماحة الإسلام، وهذه السمة هي علامة لهذه الأمة التي نشرت الحق والعدل والسلام، وما وصلنا إلى ما نراه اليوم إلا نتيجة لترك الوسطية والبعد عنها إلى التطرف، والأمل في الخروج من هذا هو في عودة أمة الوسطية.(65/1)
سمة الوسطية في هذه الأمة
الحمد لله تفرد بالربوبية والألوهية كمالاً، واختص بالأسماء الحسنى والصفات العلى جلالاً، أحمده تعالى وأشكره على سوابغ نعمه إفضالاً، وجزيل عطائه نوالاً، وأسأله المزيد من فضله دعاءً وابتهالاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أمر بالتمسك بالإسلام وسطية واعتدالاً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، المبعوث بأوسط شريعة وأكملها خلالاً، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أكرم بهم صحباً وأنعم بهم آلا، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسلم تسليماً تترى غدواً وآصالا.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله تبارك وتعالى، تحلوا بها أقوالاً وأفعالاً، فكم أورثت مالاً، وتوجت جمالاً، وشرفت خصالاً، ووقت زيغاً وضلالاً، وأصلحت حالاً ومآلاً.
أيها المسلمون: من الحقائق والمسلمات لدى ذوي البصائر والحجا، أنه بقدر تمسك الأمم بمميزاتها الحضارية، والتزام المجتمعات بثوابتها وخصائصها القيمية؛ بقدر ما تحقق الأمجاد التأريخية والعطاءات الإنسانية، ولئن برزت في عالمنا المعاصر صور وظواهر من الانحرافات تهدد الأمن الدولي، وتعرض للخطر وعدم الاستقرار السلام العالمي؛ فإن مرد ذلك إلى التفريط بالمبادئ الحضارية، والتهاون بالمثل والقيم الإنسانية.
ومن يجيل النظر في جوانب عظمة هذا الدين الذي أكرمنا الله به وهدانا إليه -وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله- يجد أن هناك سمة بارزة، وميزة ظاهرة، كانت سبباً في تبوء هذه الأمة مكانتها المرموقة بين الأمم، ومنحها مؤهلات القيادة والريادة للبشرية، ومقومات الشهادة على الناس كافة، لعلكم يا رعاكم الله، أدركتم ما هذه الميزة الحضارية
إنها سمة الاعتدال والوسطية، التي تجلي صور سماحة الإسلام، وتبرز محاسن هذا الدين، ورعايته للمثل الأخلاقية العليا والقيم الإنسانية الكبرى، يقول الحق تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:14].
ولما كان من الضرورة بمكان تحديد هذا المصطلح على ضوء المصادر الشرعية، منعاً للخلط في المفاهيم واللبس في التصور، وحتى نقف على حقيقة الوسطية ومجالاتها لنظهر الصورة المشرقة لسماحة هذا الدين، في الوقت الذي اشتدت فيه الحملة على الإسلام ورمي أتباعه بمصطلحات موهومة، وألفاظ مغرضة، لتشويه صورته والتنفير منه؛ تصيداً لأخطاء بعض المنتسبين إليه، في زمن انقلبت فيه الحقائق وانتكست فيه المقاييس، وبلي بعض أهل الإسلام بمجانبة هذا المنهج الوضاء، فعاشوا حياة الإفراط والتفريط، وسلكوا مسالك الغلو أو الجفاء، ودين الله وسط بين الغالي فيه والجافي عنه، والمنبَتُّ لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى.
معاشر المسلمين: ولقد عني علماء الإسلام ببيان حقيقة الوسطية الواردة في آية البقرة، وهي لا تخرج عن معنيين مشهورين يؤديان معنىً واحداً.
أولهما: (وسطاً) أي خياراً عدولاً، ومنه قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم:28] وقول الأول:
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم
وهو قول جمهور المفسرين، والذي رجحه الإمامان الحافظان ابن جرير وابن كثير رحمهما الله.
والثاني: أنهم وسط بين طرفي الإفراط والتفريط، جاء هذا في سياق الامتنان على هذه الأمة المحمدية.
والوسطية يا عباد الله! منهج سلف هذه الأمة، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: فإن الفرقة الناجية أهل السنة والجماعة، يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، بل هم وسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم.
ويقول الإمام الشاطبي رحمه الله: إن الشريعة جارية في التكليف لمقتضاها على الطريق الوسط العدل، الآخذ من الطرفين بقسط لا ميل فيه، فإذا نظرت إلى كلية شرعية فتأملها تجدها حاملة على التوسط والاعتدال، ورأيت التوسط فيها لائحاً ومسلك الاعتدال واضحاً، وهو الأصل الذي يرجع إليه، والمعقل الذي يلجأ إليه.
ويقول الإمام العز بن عبد السلام رحمه الله: وعلى الجملة فالأولى بالمرء ألا يأتي من أقواله وأعماله إلا بما فيه جلب مصلحة، أو درء مفسدة مع الاعتقاد المتوسط بين الغلو والتقصير.
ويقول الإمام العلامة ابن القيم رحمه الله: ما من أمر إلا وللشيطان فيه نزغتان، إما إلى غلو وإما إلى تقصير، والحق وسط بين ذلك.(65/2)
مجالات وسطية الإسلام
إخوة العقيدة: وتتجلى وسطية الإسلام في مجالاته كلها:(65/3)
الوسطية في مجال العبادات
ففي مجال الاعتقاد: جاء الإٍسلام وسطاً بين الملل، فلا إلحاد ولا وثنية، بل عبودية خالصة لله في الربوبية والألوهية.
وكذا في الأسماء والصفات: وسط بين أهل التشبيه والتمثيل والتحريف والتعطيل.
وفي القضاء والقدر: وسط بين نفاة القدر والمغالين فيه القائلين إن العبد مجبور على فعله.
وفي مسألة الإيمان: وسط بين من جفوا فأخروا الأعمال وأرجئوها عن مسمى الإيمان، وبين من غلوا فأخرجوا من دائرة الإيمان من عمل بعض المعاصي، ويلحق بذلك الحكم بالتكفير، فأهل الحق لا يكفرون بالذنوب ما لم تستحل، كما لم يجعلوا المذنب كامل الإيمان بل هو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته.
وفي باب النبوة والولاية والصحابة توسط: فلا غلو من اتخذهم أرباباً من دون الله، ولا جفاء كما جفت اليهود، ففريقاً كذبوا وفريقاً يقتلون.
وأهل الإسلام الحق يتوسطون فيؤمنون بجميع رسل الله عليهم الصلاة والسلام، وجميع كتبه ويحبون أولياءه، ويترضون عن جميع صحابته رضي الله عنهم وأرضاهم.
إخوة الإيمان: وثمة مجال آخر تتألق فيه وسطية هذه الأمة، وهو مجال العبادة ومراعاة مقتضيات الفطرة، والتناسق البديع بين متطلبات الروح والجسد، بلا غلو في التجرد الروحي ولا في الارتكاز المادي، فلا رهبانية ولا مادية بل تناسقٌ واعتدال على ضوء قول الحق تبارك وتعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) [القصص:77].
وقد رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، وأنكر على من حرم نفسه طيبات الدنيا قائلاً: {أما إني أخشاكم لله، وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء؛ فمن رغب عن سنتي فليس مني} مخرج في الصحيحين.
وعند مسلم وغيره: {هلك المتنطعون}، وعنده أيضاً: {إن هذا الدين يسر؛ فأوغلوا فيه برفق، ولن يشادَّ الدين أحد إلا غلبه}، وهكذا نأى الإسلام بأتباعه عن كل الكبوات والنبوات، والهزات والهفوات، التي تخل بغاية الوجود الإنساني، وتضيع حقوق الإنسان، وتفرط في تحقيق التوازن بين متطلبات روحه وجسده، حيث تأرجحت كثير من النظم المادية، كما هو ظاهر في المدنية الغربية، التي تنطلق من نظرات ومقتضيات مادية صرفة، حتى تنادى عقلاؤهم ومنصفوهم بالحاجة إلى دين يحقق التوازن بين الرغبات والتناسق بين المتطلبات، ويرتفع بالبشرية إلى مستوى إنسانيتها، وتحقيق قيمها ومثلها، وينتشلها مما تعاني منه من بؤس وطغيان وشقاء.(65/4)
الوسطية في التحليل والتحريم والنظر والاستنباط
أمة الإسلام: ومن المجالات المهمة، التي تبرز فيها وسطية هذه الأمة ما يتعلق بالتشريع والتحليل والتحريم، ومناهج النظر والاستدلال، فتوسطت الشريعة في هذه المجالات بين اليهود الذين حرم عليهم كثيراً من الطيبات، وبين قوم استحلوا حتى المحرمات، والحكم بالتحليل والتحريم حق لله سبحانه (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) [الأنعام:57] {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف:54] {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
وفي منهج النظر والاستنباط: وازن الإسلام بين مصادر التلقي والمعرفة، ووافق بين صحيح المنقول وصريح المعقول، وعالم الغيب والشهادة، وإعمال النصوص ورعاية المقاصد واستجلاء القواعد، وحكم الشريعة وأسرارها، ووازن يبن تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
معشر الأحبة: وفي مجال الأخلاق والسلوك مظهر من مظاهر الوسطية في هذا الدين بين الجنوح إلى المثالية والواقعية، وسطية تزكي المشاعر وتهذب الضمائر، وتسمو بالتفكير والشعور وتوازن بين متطلبات الفرد والمجتمع، وإعمال العقل والعاطفة، في تربيةٍ متوازنة وتنسيق متسق بديع، على ضوء المنهج النبوي: {إن لنفسك عليك حقاً ولأهلك عليك حقاً، ولجسدك عليك حقاً، ولربك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه} خرجه أحمد ومسلم.
وفي النظام الاقتصادي: وازن الإسلام بين حرية الفرد والمجتمع، فيحترم الملكية الفردية، ويقرها ويهذبها بحيث لا تضر بمصلحة المجتمع، فجاء الإسلام وسطاً بين رأسمالية ترعى الفرد على حساب الجماعة، واشتراكية تلغي حقوق الأفراد وتملكهم بحجة مصلحة الجماعة.
وفي مجال: الإنفاق تتحقق الوسطية في قول الحق تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67].
قال حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: [[هو الحسنة بين سيئتين]] والمراد أن الإسراف سيئة والتقتير سيئة، والحسنة ما بين ذلك، فخير الأمور أوساطها.
ولا تغلُ في شيء من الأمر واقتصد كلا طرفي قصد الأمور ذميم(65/5)
الوسطية في مجال المعاملات
وهكذا في مجال الحرية بين الفرد والمجتمع: حرية الرأي والفكر والسلوك وغيرها؛ جعل الإسلام ضوابط شرعية لهذه الحرية، بحيث تكون ضمن دائرة المشروع، ومجانبة المحظور الممنوع.
وفي النظام السياسي: جاء الإسلام وسطاً بين النظم، مبيناً حقوق الراعي والرعية، حاضَّاً على العدل والقسط، معلياً قيم الحق والأمن والسلام، والسمع والطاعة بالمعروف، مترسماً المنهج الشوري المتكامل، سابقاً شعارات الديمقراطيات المعاصرة إلى تحقيق منافع البلاد والعباد في بعد عن الاضطراب والفوضى، محاذراً الديكتاتورية في الحكم، والاستبداد في الرأي: (وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) [آل عمران:159].
ومما يجلي وسطية الإسلام: جمعه بين الأصالة والمعاصرة، وتميزه بالثبات والمرونة، وحسن التعامل مع المتغيرات، ووضع الضوابط للاجتهاد في النوازل واستيعاب المستجدات، فهو بثوابته وأصوله يستعصي على التميع والذوبان، وبمرونته يستطيع التكيف ويواجه التطور بلا جمود ولا تحجر بل يبني الحياة على القواعد الشرعية، والنواميس المرعية التي تستجيب لحاجات الأمة في مختلف الظروف والأحوال: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].(65/6)
دعوة للرجوع إلى الوسطية
الحمد لله منّ علينا فجعلنا أمة وسطاً، أحمده سبحانه تعالى أن يقول غلطاً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، تقدس أن يقضي لغطاً، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله، المنزل عليه قول ربه سبحانه: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه الذين سلكوا منهجاً وسطاً، فلا تجاوز ولا شطط، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وحث في نصرة الدين الخطا.
أما بعد:
فاتقوا الله عباد الله! وتحلوا بالمنهج الوسط كما شرع الله، واستقيموا على الوسطية كما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسار على ذلك سلفكم الصالح عليهم رضوان الله.
أيها الإخوة في الله! ولم تقف وسطية الإسلام على أمور العبادات من طهارة وصلاة ونحوها فحسب، بل تعدتها إلى العادات والمعاملات واللباس والطعام والنوم وغيرها في تنظيمٍ شاملٍ لشتى مناحي الحياة.
أيها الإخوة والأخوات! وثمة مجال آخر برزت فيه وسطية هذه الأمة، في جانب من أهم جوانبها ألا وهو الجانب المتعلق بالمرأة: فجاءت هذه الشريعة الغراء والمرأة مظلومة بين جاهليتين، فكَرَّمتها وحفظت حقوقها وسمت بها أن تكون أجيرة، وصانتها من الوقوع في مستنقعات الرذيلة، وكفلت لها حريتها الشرعية، ونأت بها عن مسالك التحرر من القيم والهبوط إلى براثين الإباحية والانحلال، والانسلاخ من الفضائل وسلوك مسالك التبرج والسفور والاختلاط المحرم.
غير أن ثمة ملحظاً أخيراً مهماً يا عباد الله! وهو: أن الوسطية في الإسلام لا تخضع للأهواء والرغبات، فليست تنصلاً من الثوابت والمقومات، ولا تمرداً على المبادئ والأهداف والغايات، وإنما تضبط بضوابط الشريعة، فمن الناس من يحمل على كل ملتزم بدينه -لا سيما من أهل الخير والحسبة والإصلاح- ويصفهم بالغلو والتزمت، فمن يلتزم بالسنة باطناً وظاهراً فهو عندهم متحجر متشدد، ومن يدعو إلى الإسلام غالٍ متنطع، والغيورون عليه رجعيون متأخرون، أما المنهزمون المنفلتون من المثل، المفرطون بالقيم، المتلاعبون بالثوابت والمبادئ، فهؤلاء عندهم متمتعون بسعة الأفق، متحررون متنورون، متطورون متفتحون على الآفاق المعاصرة، واقعيون في النظر والسلوك؛ ولعمر الحق إن هذا نوع من التطرف المحموم والفكر المسموم، في مقابل نوع غير متاكفئ من الغلو المذموم، مما يحمل طلاب الوسطية على الاعتدال بين ذينك الطرفين، والدعوة موجهة من بلاد الوسطية، حساً ومعنى، مكاناً وزماناً، عقيدة ومنهاجاً، زادها الله خيراً وهدى وتوفيقاً.
إلى أن يفيء العالم إلى ظِلال هذه الوسطية المتألقة، ليحقق لنفسه ومن حوله الخير والسلام، وليعيش الناس في أمن وأمان وإخاء ووئام: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21].
ألا وصلوا وسلموا رحمكم الله على إمام الحنيفية المبعوث بالاعتدال والوسطية، كما أمركم بذلك ربكم رب البرية، فقال تعالى في محكم تنزيله، وأصدق قيله: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب:56].
اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيد الأولين والآخرين، وأشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين، وعن الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمناً مطمئناً وسائر بلاد المسلمين.
اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيد بالحق إمامنا وولي أمرنا، اللهم وفقه لما تحبه وترضى، وخذ بناصيته للبر والتقوى، اللهم هيئ له من لدنك معيناً وظهيراً يا ذا الجلال والإكرام! اللهم ارزقه البطانة الصالحة التي تدله على الخير وتعينه عليه، اللهم وفق جميع ولاة المسلمين لاتباع كتابك، وتحكيم سنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلهم رحمة على عبادك المؤمنين.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنك سميع قريب مجيب الدعوات.
اللهم فارج الهم، كاشف الغم، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، نسألك اللهم رحمة من عندك تغنينا عن رحمة من سواك، اللهم اكشف الغمة عن هذه الأمة يا ذا الجلال والإكرام!
اللهم عزَّ جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، نسألك يا من لا يخلف وعده، ولا يهزم جنده، أن تنصر إخواننا المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين وكشمير والشيشان.
اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك باليهود ومن شايعهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:20].
عباد الله! {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل:90].
فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.(65/7)
عولمة المرأة
عولمة المرأة من الشعارات الزائفة التي تنتهك من خلالها حرمة المرأة بعد أن كانت مصونة في ظل الإسلام، وتستعبد بعد أن حررها الإسلام، وتباع بأرخص سعر وقد أغلاها الإسلام وأعلاها، ومنحها آدميتها التي سلبها منها بعض المنحرفين من البشر.
فعلى المسلمين والمسلمات أن يحذروا من الخطر القادم المتمثل في التيارات التي تدعي تحرير المرأة، وإدراك أن المرأة فتنة وقد تصبح نكبة إذا تمكن الأعداء من استغلالها كما يريدون.(66/1)