ثمار التربية الجادة
النقطة الثانية ثمار التربية الجادة: قد أكون أطلت كثيراً في النقطة الأولى واستغرقت وقتاً طويلاً؛ لأنها نقطة مهمة؛ لأنها تعطينا القناعة فعلاً بالحاجة والضرورة الملحة إلى التربية الجادة، ماذا تنتج التربية الجادة؟(46/14)
العمل المستمر المثمر
التربية الجادة تنتج أولاً العمل المستمر المثمر، إن الذي تربى تربية جادة هو ذاك الرجل الذي يعمل عملاً مستمراً مثمراً، قد تجد الكثير من الناس عنده استعداد أن يعمل ويضحي ويتعب ويعمل عملاً يتطلب منه تضحية، لكنه عمل متقطع، أما الإنسان الذي يتحمل عملاً يحتاج إلى برنامج طويل، ووقت طويل، ونفس طويل، هؤلاء عملة نافعة، ولا يتحمل هذا العمل إلا من تربى، ومن تربى تربية جادة، يسهل جداً أن الإنسان يتحمس فيكون عنده مبادرة ويعمل أعمالاً ضخمة وكبيرة جداً لكنها أعمال متقطعة سرعان ما يتركها.
أما الإنسان الذي يتحمل عملاً يتطلب وقتاً طويلاً وبرنامجاً فهؤلاء قلة، هؤلاء الذين تربوا تربية جادة هم الذين عندهم استعداد ليتحملوا؛ فإنه تأتي عليه حالات ضعف وحالات قوة وحالات وتأتي صوارف وتأتي، فعندما يكون تربى تربية جادة صار أمامه طريق واضحة وهدف يسعى إليه، لكن إنسان ممكن يستجمع له حماس ويعمل له عمل ثم يفتر، لأنه لم يترب فعلاً تربية حقيقية وتربية جادة؛ فهو لا يشعر أن هذا الطريق أمامه إلى أن يموت.(46/15)
الجدية في التعامل مع الوقت
كذلك من ثمار التربية الجادة: الجدية في التعامل مع الوقت، أن يكون المرء جاداً في تعامله مع وقته، في تحكمه في وقته، في استغلاله لوقته، انضباطه في مواعيده، تنظيمه لأوقات الراحة، لا يمكن أن يكون الإنسان جاداً في ذلك إلا الرجل الذي أمامه هدف جاد، لكن الإنسان الذي أموره عنده سهلة، الذي أموره عنده هينة ليس بحاجة أصلاً إلى أن ينظم وقته ولا إلى أن يستغل وقته.(46/16)
الجدية في الاهتمامات
الثمرة الثالثة: الجدية في الاهتمامات، الرجل الذي تربى تربية جادة اهتماماته عالية، واهتماماته طموحة، ومن ثم لا يجد وقتاً للأمور الدونية، حتى عندما تقرأ في تراجم بعض أهل الحديث يقول أحدهم: بقي شهراً لا يجد وقتاً يغسل ثوبه.
أحدهم نصح أحد تلامذته نصيحة طريفة قال له: اطل ثوبك بطلاء أسود حتى لا تنظر بعد ذلك إلى ما يصيبه من قذر وأذى.
وهذه الصورة لا نطلبها لكنها على الأقل صورة تعطينا من اهتمام أولئك الرجال الجادين الذين هم أصحاب اهتمامات عالية؛ ولهذا تجدون مثلاً أنا نحن نفوق في العناية بالكماليات، العناية بالمظاهر، فمثلاً عندما يأتي الإنسان يقرأ كتاباً يكلمك عن الإخراج والطباعة وشكل الإخراج وغيره، وعندما يقيم عملاً معيناً تجده يعتني بالمظاهر، نعتني بالأشياء هذه ونوليها جهداً وعناية وتستغرق علينا وقتاً.
أنا أقول: هذا مظهر من مظاهر سذاجة الاهتمامات، ومن مظاهر عدم الجدية؛ لأن الرجل الجاد أصلاً منصرف إلى هدف أساس، يعني: القضايا هذه ما يهتم بها، إذا تحققت أهلاً وسهلاً، وإذا ما تحققت ما عنده وقت أصلاً أن يهتم بها، ومن ثم فالرجل الجاد تجده صاحب اهتمامات عالية واهتمامات جادة، وتستطيع أنت أن تقيس المرء من خلال اهتماماته.(46/17)
الاقتصاد في المزاح والهزل
الثمرة الرابعة: الاقتصاد في المزاح والهزل؛ فإن كثرة المزاح والهزل مظهر أيضاً من مظاهر عدم الجدية.(46/18)
تحمل البرامج الجادة
الثمرة الخامسة: تحمل البرامج الجادة، فمثلاً: عندما يكون هناك درس عملي يطول لمدة ساعة، أو ساعة ونصف تجد البعض يبدأ يغير جلسته، يبدأ يتنحنح وينظر للساعة، يريد أن يستأذن، كأن هناك جبلاً سوف يسقط عليه، فتجده يحاول إذا كان المتحدث معه رءوس أقلام أن ينظر ماذا بقي من الموضوع، المهم أنه قد أصبح هذا الموضوع ثقيلاً عليه وهماً عليه، وعندما يذهب في سفر أو في رحلة جادة يجد فيها شظف العيش، تجده ينتظر العودة، لكن الرجل الذي تربى تربية جادة لا يتحمل كل هذه الأمور، يتحمل البرامج الجادة كما سيأتي الآن بعد قليل من نماذج من سير السلف.(46/19)
تحمل المسئوليات
الثمرة السادسة: تحمل المسئوليات، المسئوليات لا يتحملها إلا الرجل الجاد؛ لأنه يعرف تبعاته، ويعرف ما يترتب عليها ويعرف أنه لا بد أن يتحملها؛ لأن هذا عمل ومسئولية وأمر يجب أن نبادر جميعاً إلى تحمله وإلى التسابق عليه؛ لأن هذه قضية دين وقضية مستقبل أمة، ليست قضية مجرد التخلي عن المسئوليات والتبعات.(46/20)
النقد العلمي الجاد
الثمرة السابعة: النقد العملي الجاد: الرجل الذي يتربى تربية جادة عندما ينتقد انتقاداً جاداً، ما ينتقد انتقاداً هازلاً، فإنه يسهل أن يجلس الإنسان في المجلس وينتقد الناس، فيقول: فلان مشكلته أن أسلوبه ضعيف، فلان مشكلته أنه يتحمس في هذه القضية، فلان مشكلته كذا، وينتقد البرامج وينتقد الناس وينتقد الدعوات، وقد ينتقد انتقاداً صحيحاً، لكن هذا انتقاد غير عملي.
أما الرجل الجاد فعندما ينتقد ينتقد انتقاداً عملياً مثمراً، فهو عندما ينتقد يبلغ هذا الانتقاد إلى من يراه، فمثلاً: أنا أعرف أن فلاناً قد لا يطيق إلا هذا المستوى، وأن هذا العمل غاية ما يصل إليه هذه المرحلة فقط، فلا داعي لكي أزعجه بالانتقاد والنقد؛ لأني إنسان عملي؛ وإنسان جاد، فعادة الإنسان كثير الانتقاد والذي ينتقد الناس جميعاً يكون غير عامل وغير جاد، أما الرجل الجاد فهو ينتقد، لكنه ينتقد انتقاداً عملياً، وهو يعرف كيف ينتقد.(46/21)
المبادرة الذاتية
الثمرة الثامنة: المبادرة الذاتية: الرجل الجاد لا ينتظر التكليف، بل يبادر، ويفكر، ويعمل، يكون صاحب مبادرة ذاتية، لا يتنظر أن يكلف ويوجه.(46/22)
صور من نتائج التربية الجادة
النقطة الثالثة: صور من نتائج التربية الجادة:(46/23)
لا يتبعني أحد من هؤلاء
لا يتبعني أحد من هؤلاء، يحكي لنا النبي صلى الله عليه وسلم قصة في الصحيحين: عن يوشع بن نون أنه عندما أراد أن يغزو ببني إسرائيل القوم الجبارين خطب فيهم فقال: (لا يتبعني منكم رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبني بها) يعني: إنسان خطب وتزوج وعقد ولم يدخل بامرأته، (ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينظر ولادها) ثم ذكر الحديث، فلما وصل قريباً من العصر وسيصبح على يوم السبت قال للشمس: (أنت مأمورة وأنا مأمور) فحبس الله له الشمس حتى فتح الله له القرية.
إنه رجل فعلاً ربى أصحابه تربية جادة، فليس لديه مجال للذي يذهب للغزو وهو يفكر في زوجته، أو يفكر في البيت والأغنام والإبل والماشية، في التجارة، في المؤسسات، فهذا ليس له مكان، فهو يريد رجلاً جاداً فعلاً، ولذلك فتح الله على أيديهم.(46/24)
فمن شرب منه فليس مني
صورة ثانية أيضاً من نتائج التربية الجادة: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة:249].
وهي القصة التي نقرأها جميعاً في سورة البقرة: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ} [البقرة:249] جيش يسيرون ويصيبهم الضمأ ومع ذلك أمامهم النهر، من شرب منه فليس منه، إلا من اغترف غرفة بيده، لأنه لا يريد إلا رجلاً جاداً، فالإنسان الذي لا يصبر، ولا يتحمل، ليس له مكان معه.(46/25)
لو سرت بنا إلى برك الغماد
صورة أيضاً: لو سرت بنا إلى برك الغماد.
وهي تلك الصورة التي نقرأها في غزوة بدر حين استشار النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فتنوعت مقولاتهم، فمنهم من قال: لو خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد.
وآخر: لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا وراءك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون.
إلى غير ذلك من تلك العبارات القوية التي نقرأها في سير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين تربوا التربية الجادة.(46/26)
والله لا يخزيك الله أبداً
والله لا يخزيك الله أبداً، تلك الكلمة العظيمة التي قالتها خديجة، المرأة الجادة فعلاً عندما جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (دثروني دثروني) وقد ثقل عليه أمر الوحي وقال: (خشيت على نفسي)، واجه امرأة جادة، قالت: (والله لا يخزيك الله أبدا) فطمأنته ثم انتقلت إلى ورقة وسألت ورقة وحكت له ذلك، ثم أخذت النبي صلى الله عليه وسلم إلى ورقة وقالت: اسمع من ابن أخي.
وصارت معه صلى الله عليه وسلم، حتى قال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: (بشر خديجة ببيت من قصب لا صخب فيه ولا نصب)، وقد ذكروا معنى لطيفاً في لا صخب ولا نصب فقالوا: لا صخب؛ لأنها لم ترفع صوتها يوماً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولا نصب؛ لأنها تعبت في خدمة النبي صلى الله عليه وسلم.
من قصب؛ لأنها حازت قصب السبق في التصديق بالنبي صلى الله عليه وسلم ومناصرته، إنها صورة أيضاً من المرأة الجادة العاملة فعلاً.(46/27)
لقد وجدناها حين فنيت
لقد وجدناها حين فنيت: قصة نقرأها جميعاً في السيرة وهي في الصحيحين من حديث جابر، سرية الخبط عندما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بعثاًَ قبل الساحل وأمر عليهم أبا عبيدة بن الجراح وهم 300، قال: فخرجنا وكنا ببعض الطريق ففني الزاد فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمعت، ثم صار يقوتهم، فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني، فلم يكن يصيبنا إلا تمرة تمرة، ومع ذلك واجهوا عدوهم، فقلت: ما تغني عنكم تمرة؟ قال: لقد وجدناها حين فنيت.(46/28)
وعلى الثلاثة الذين خلفوا
نموذج آخر: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:118]، لقد سار النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في جيش العسرة، {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة:117 - 118]، وماذا أصاب الثلاثة الذين خلفوا حين تخلفوا عن هذه الغزوة؟ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهجروا، فلم يكلمهم المسلمون شهراً كاملاً، وبعد الشهر أمرهم أن يعتزلوا أزواجهم، إنها صورة من التربية الجادة، لماذا؟ لأنهم تخلفوا عن غزوة من الغزوات.(46/29)
مسيرة خالد بن الوليد من العراق إلى الشام
صورة أخرى أيضاً: خالد بن الوليد رضي الله عنه كان في العراق واستنجد المسلمون الذين كانوا في الشام أبا بكر رضي الله عنه، فأمر خالداً أن يسير إليهم، فسار خالد رضي الله عنه بأصحابه مسرعاً في 9500، ودليله رافع بن عميرة الطائي، فأخذ به حتى انتهى إلى قراقر وسلك به أراض لم يسلكها قبله أحد، فاجتاب البراري والقفار وقطع الأودية وتصعد على الجبال، وسار في غير مهيع أي: في غير طريق بين، وجعل رافع يدلهم في مسيرهم على الطريق، وهو في مفاوز معطشة، وعطش النوق وسقاها الماء عللاً بعد نهل يعني: شربة ثانية، والنهل أول الشراب، يعني: يسقيها تارة ويتركها تارة، وقطع مشافرها حتى لا تحتز رحل أدبارها واستاقها معه، فلما فقدوا الماء نحرها فشربوا ما في أجوافها من الماء، ويقال: بل سقاه الخيل وشربوا ما كانت تحمله من الماء وأكلوا لحومها، ووصل ولله الحمد والمنة في 5 أيام، وكانت طريقه في صحراء قاحلة، حتى أشار عليه كثير من الناس أن لا يقطعها.
إنها صورة من تلك التربية الجادة التي تتخذ القرار الحاسم في ذاك الموقف، ولم يكن خالد وحده بل كان الجيش معه كلهم على هذا المستوى، وإلا لقالوا له كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون.(46/30)
طلب أسد بن الفرات للعلم
ومن هذه النماذج أيضاً أسد بن الفرات حينما جاء إلى الإمام مالك فتعلم عنده ثم رحل إلى محمد بن الحسن فطلب أن يعطيه درساً خاصاً فكان يدرس مع الطلاب في النهار ثم يأتي إلى محمد بن الحسن في الليل فيدرس عنده، فكان إذا أتاه النوم وهو في الدرس أخذ محمد بن الحسن ماء فينضح في وجهه، فكان يجاهد ويكابد السهر حتى أصاب علماً كثيراً.(46/31)
هل وجد لهم وقتاً؟
هل وجد لهم وقتاً؟ قال أبو حاتم عن القعنبي: سألناه أن يقرأ علينا الموطأ.
فقال: تعالوا بالغداة يعني: بعد الفجر.
فقلنا: لنا مجلس عند الحجاج بن منهال.
قال: فإذا فرغتم منه.
قلنا: نأتي حينئذ مسلم بن إبراهيم، قال: فإذا فرغتم.
قلنا: نأتي أبا حذيفة النهدي.
قال: فبعد العصر، قلنا: نأتي عارماً أبا النعمان.
قال: فبعد المغرب.
فكان يأتينا بالليل فيخرج علينا وعليه كبل ما تحته شيء في الصيف، فكان يقرأ علينا في الحر الشديد حينئذ.
فكان هذا الوقت في الصيف، وما كان هناك مكيفات ولا أجهزة تبريد، وكانوا يجلسون في الضحى في شدة الحر، وبعد الفجر درس ثم بعده درس ثم بعده درس ثم يقيلون، ثم بعد العصر درس ثم بعد المغرب بعد ذلك درس في شدة الحر، كلها دروس متلاحقة ومتواصلة.(46/32)
حين تتخلف التربية الجادة(46/33)
اذهب أنت وربك فقاتلا
والصورة المقابلة حين تتخلف التربية الجادة، (اذهب أنت وربك فقاتلا) كان موسى مع بني إسرائيل، بعد أن عانى ما عانى منهم قال لهم: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21]، هذه الأرض المقدسة وقد كتب الله لكم، {ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:21 - 22]، يعني: إذا خرج القوم الجبارون عندنا استعداد أن ندخل، لكن حتى هذه فيها شك، فقد لا يدخلوا، {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، يعني: القضية ما تحتاج شيء، مجرد أن تدخلوا الباب، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا} [المائدة:24]، ولن تفيد النفي التأبيدي عند الزمخشري، وهي عند بني إسرائيل تفيد التأبيد، وإذا كان هناك معنى آخر أقوى من التأبيد فهو عندهم، {لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] هذا نموذج، وهذه النهاية التي يصل إليها من لم يترب التربية الجادة، {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ * قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25 - 26].
ثم دخلوها لما عاشوا في الصحراء أربعين سنة وهلك هذا الجيل وجاء أبناؤهم بعد ذلك، وعاشوا على الشظف والمعيشة القاسية، وأتاهم يوشع بن نون وقال: (لا يتبعني أحد بنى داراً وينتظر أن يتم سقوفها)، فخرج إليه القوم الجادون فاستطاع أن ينتصر بهم.(46/34)
تولوا إلا قليلاً منهم
يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [النساء:77] أولئك كانوا يقولون: لو كتب علينا القتال، {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:246].
إذاً فحين لا يتربى المرء تربية جادة قد يتمنى الجهاد، وقد يكون عنده تصور أنه يثبت عند المحن، لكن عندما تأتي المحن قد يكون ممن قال الله فيهم: {تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:246].(46/35)
التواضع المصطنع
نتيجة ثالثة لتخلف التربية الجادة: التواضع المصطنع: الكثير من الناس لما تطلب منه إلقاء محاضرة، أو كلمة، أو مساهمة في عمل، يقول لك: والله يا أخي الكريم أنا أشعر أني لست أهلاً لذلك، وهو يعرف أنه أكثر الناس أهلية لذلك، بعض الناس قد يقولها تواضعاً، لكن الكثير يقولها تهرباً من المسئولية، وأنا أعتبر الإنسان الذي يعرف أنه أكفأ هذه المجموعة ويترك عملاً يعرف أنه إذا تخلى عنه سيقوم به من هو دونه أن هذا رجل غير جاد في الواقع، وليس هذا هو التواضع أبداً، وإلا إذا كان رجلاً جاداً فيستعين بالله سبحانه وتعالى ويتحمل العمل ويعرف أن الله سبحانه وتعالى سيعينه حينما لا يسأل الإمارة.(46/36)
اقتراح جميل
اقتراح جميل: تتحدث مع الناس، تطرح عليهم أفكار، مشاريع جبارة تحتاج إلى إنفاق، تحتاج إلى جهد، فتجد بعضهم يقول لك: هذا اقتراح رائع ومشروع جميل جداً، طيب من عنده استعداد أن يتحمل العمل؟ من عنده استعداد أن يقوم بالعمل؟ فتجد
الجواب
أنا مشغول، أنا لا أصلح، أنا غير مؤهل، فهذا نموذج من نماذج التربية غير الجادة، تجد عندنا استعداد لكي نؤيد ونقترح لكن العمل لا.(46/37)
أوقات الراحة
كيف نتعامل مع أوقات الراحة؟ مثلاً طلبة العلم، يجلسون فيقرءون في كتاب أو في جلسة علمية أو درس علمي أو نقاش فكري جاد ثم بعد ذلك يأتي وقت الراحة فتجد وقت الراحة كله ضحك وهزل وكلام غير مفيد، يكونون في السيارة كذلك، صار وقتهم وقتاً غير جاد، الوقت الجاد عندهم فقط هو الوقت الذي يكون في محاضرة أو في درس أو في قراءة معينة، وسائر الأوقات أوقات غير جادة.
مثل هذا التعامل مع أوقات الراحة صورة أيضاً من صور التربية غير الجادة، الإنسان الجاد يسيطر عليه هذا الهم، فتجده وهو يتحدث وهو يأكل، وهو يمشي، دائماً يتحدث في هذه الأمور الجادة.(46/38)
التربية الجادة والمفاهيم المغلوطة(46/39)
ساعة وساعة
نقطة أخرى: التربية الجادة والمفاهيم المغلوطة: ساعة وساعة، عندما تتحدث عن التربية الجادة يقول لك: ساعة وساعة، لكن في الواقع أن منطقنا ليس ساعة وساعة، فلا تجد وقت الترفيه يوازي الوقت الذي يستفيد منه، أيضاً خارج هذا الوقت الوقت الذي يتحدث فيه الأوقات الأخرى كلها أيضاً داخلة في وقت الترفيه، فعندما تأخذ الوقت الذي تستفيد منه وتنسبه إلى ساعات اليوم أنه لا يساوي شيئاً، وحينما نحتج بهذا النص يجب أن نأخذ المناسبة التي قيل فيها هذا النص عندما جاء حنظلة يشتكي إلى النبي صلى الله عليه وسلم الحديث الذي تعرفونه.
أيضاً الذين رووا لنا حديث: (ساعة وساعة) كيف كانوا يعيشون؟ كانوا يعيشون كما حكينا لكم قبل قليل.(46/40)
حدث الناس كل جمعة
صورة ثانية أو مفهوم ثاني أيضاً: حدث الناس كل جمعة، يحتجون مثلاً بما قاله ابن مسعود لـ مسروق: حدث الناس كل جمعة ولا تملهم، (وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتخولنا بالموعظة في الأيام كراهة السآمة علينا)، يجب أن نفرق بين الحديث لعامة الناس ووعظ عامة الناس وبين الجيل الذي يتربى، فالجيل الذي يتربى يجب أن يكون مثل أبي حاتم، عنده درس بعد الفجر ودرس في الضحى ودرس بعده ودرس بعده ودرس في العصر ودرس في المغرب، أو يكون مثل الذي لم يجد وقتاً ليشوي السمكة التي عنده، هذا هو الجيل الذي قد تربى، الجيل الذي يحمل الرسالة، الجيل الذي يحمل العلم ويحصل العلم.
إذاً فتحديث الناس كل جمعة والتخول بموعظة هذا خطاب لعامة الناس، أما أن يكون الإنسان الذي يريد أن يربي نفسه ولا يتعلم فلا، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح نقرأ سيرهم في العلم والتحمل والرحلة فيه نرى أنها صورة أخرى غير تلك الصورة الخاطئة التي تصورت في أذهاننا.(46/41)
لكن الناس لا يستحملون
ثالثاً: لكن الناس لا يستحملون.
يعني: بعض الناس يقول لك: الكلام الذي تقوله كله صحيح، لكن يا أخي الشباب ما يتحملون، وحرام عليك أن تنفر الناس إلى غير ذلك؛ ولهذا تبدأ برامجنا هزيلة هزيلة هزيلة، لماذا؟ حتى نجمع الناس، حتى نجمع الغثاء، هذه النهاية التي نصل إليها، يا أخي هذا شاب انتقل من الشارع إلى حياة الاستقامة والالتزام، كان في الشارع فوضوياً لا يعرف استئذاناً، ولا يعرف انضباطاً، ولا يعرف أدباً، لا يعرف إلا الكلمة القبيحة، رجل كان يعيش حياة تختلف كلياً، عندما استقام والتزم انتقل نقلة هائلة جداً في مظهره، في عبادته، في اهتماماته، في منطقه، طيب نحن نريد أن ننقله نقلة أخرى جادة، المسافة الآن أيهما أبعد: المسافة بين هذه النقلة بين واقعنا الذي هو عليه الآن والصورة الجادة التي نريد أو المسافة بين النقلة الذي كان عليها في الشارع وتلك الصورة؟ لقد انتقل نقلة هائلة من الشارع إلى حياة الاستقامة والخير والصلاح، إذاً فهو مؤهل، هذا الذي انتقل هذه النقلة عنده استعداد أن ينتقل، وأن يكون جاداً أيضاً، لكن متى؟ عندما يتربى.
أعطيكم صورة: مصعب بن عمير كان شاباً مترفاً منعماً فتياً يشم العطر منه عندما يمر في السوق، ومع ذلك عندما أسلم وتابع النبي صلى الله عليه وسلم عاش حياة الشظف فهاجر إلى الحبشة ثم هاجر إلى المدينة وتغرب وصار به ما صار إلى أن قتل في غزوة أحد وما وجدوا عنده شيئاً إلا بردة واحدة فقط، إذا غطوا بها رأسه بدت قدماه، وإذا غطوا قدميه بدا رأسه.
فمع احترامي لك ولأصحابك من الذي يكون أكثر ترفاً من مصعب بن عمير؟ وأيضاً لا نريدهم أن يصلوا إلى حالة مصعب بن عمير، فأقول: الذي جعل مصعب بن عمير وهو بشر ينتقل هذه النقلة الهائلة يمكن أيضاً أن يجعل هؤلاء ينتقلون نقلة دونها بكثير.
أقول: لا يسوغ أن نجعل وضعنا مقياساً، ونقول: لابد أن نحفظ برامجنا حتى تكون هزيلة، ويتخرج لنا جيل هزيل، ليس عنده استعداد أن يتحمل أي شيء، ولا يمكن أن يطلب منه موقف، ولا يمكن أن يصمد أمام أي فتنة، سواء كانت من فتنة الشبهات أو فتنة الشهوات.(46/42)
الرجل الطريف
من المفاهيم المغلوطة الرجل الطريف: فقد يكون الإنسان طريفاً وصاحب نكتة، وقد نتساءل كيف يكون هذا جاداً؟ فنقول: قد يكون إنسان طريفاً ومع ذلك يكون رجلاً جاداً، وسأضرب لكم صورة من صور بعض السلف فمن مشاهير السلف في الطرافة: الأعمش والشعبي، الأعمش كان عنده رجل فسأله وقال: كيف بت البارحة؟ فدخل منزله وأخذ وسادة فوضعها ثم استلقى وقال: بت هكذا.
وذات يوم كان عنده ضيوف فأحضر لهم رغيفين فأكلوها كلها، فدخل المنزل وأحضر حزمة قت -يعني: برسيم- وقدمه لهم وقال: أكلتم طعامي وطعام أولادي وبقي طعام شاتي.
وكان الأعمش واقفاً عند النهر فأتاه جندي متكبر مغرور يريد منه أن يعبر به النهر فصعد على ظهره وقال: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، فما كان من الأعمش إلا أن سار به فلما توسط النهر رماه وقال: رب أنزلني منزلاً مباركاً وأنت خير المنزلين.
هذه صور الآن من ذاك الرجل الطريف الأعمش رحمه الله فكيف كان جاداً؟ كان يقال عنه رحمه الله: ما خلف الأعمش أعبد منه، وكان يعرض القرآن فيمسكون عليه المصاحف فلا يخطئ في حرف واحد، إضافة إلى أنه إمام من الأئمة، فتلك الطرافة التي كانت لديه لم تكن تشغله عن أن يكون رجلاً جاداً عاملاً عالماً.
وكذلك الشعبي أيضاً هو الآخر جاءه رجل مغفل وهو واقف هو وامرأته فقال: أيكم الشعبي؟ فقال: هذه، وسأله رجل: ما اسم زوجة الشيطان؟ قال: إني لم أحضر العرس.
المهم أن الشعبي هو الآخر كان طريفاً، لكنه كان يقول عنه مكحول: ما رأيت أحداً أعلم من الشعبي.
ويقول هو عن نفسه: ما مات ذو قرابة لي وعليه دين إلا وقضيت عنه، ولا ضربت مملوكاً لي قط، ولا حللت حبوة إلى شيء مما ينظر إليه الناس.
وهو إمام من الأئمة في الحفظ، كان يقول: ما كتبت سوداء في بيضاء قط، وما حدثني رجل بحديث فاحتجت أن يعيده، وأقل ما أحفظ الشعر، ولو شئت أنشدكم شهراً دون أن أعيد بيتاً واحداً.
إذاً قد يكون الرجل رجلاً طريفاً وصاحب دعابة لكنه أيضاً رجل عملي، ورجل جاد، فعلاً يعمل وينتج ويكون مثل أولئك، لكن يتخفف من مثل هذه الطرافة، أو تكون هذه الطرافة والدعابة في غير مواطن الجد.(46/43)
مقترحات للنقلة إلى التربية الجادة
بعد كل ما عرضنا نعرض بعض المقترحات ووسائل العلاج التي نرى أننا بحاجة إليها حتى ننتقل إلى التربية الجادة.(46/44)
الاقتناع والتخلص من العوائق
أولاً: الاقتناع والتخلص من العوائق، وهذا هو نصف الطريق، فعندما نقتنع بأننا بحاجة إلى التربية الجادة وأننا نستطيع أن نربي أنفسنا وأن نربي أبناءنا وأن نربي جيلنا تربية جادة، ونتخلص من تلك العوائق التي كثيراً ما نتعلل بها.(46/45)
القدوة الحسنة
الأمر الثاني: القدوة الحسنة، إن الأب الذي يطلب من ابنه أن يحافظ على وقته ثم يكون هو مفرطاً في وقته لا يمكن أبداً أن يربي ابنه تربية جادة، الأب الذي يحث ابنه على طلب العلم ثم يقصر هو لا يمكن أبداً أن يكون قدوة لابنه، الأستاذ الذي يضيع الوقت في الفصل في الأحاديث الجانبية وفي الأحاديث غير المفيدة ثم يطالب الطلاب أن يعتنوا بأوقاتهم لا يمكن أبداً أن يكون قدوة حسنة، الأستاذ غير الجاد، الأب غير الجاد، الموجه غير الجاد، المربي غير الجاد لن يخرج إلا أمثاله.
إذاً فيجب أن نكون قدوة صالحة، يكون المربي قدوة صالحة فعلاً في الجدية في كل جوانبها، فيدعو بعمله أكثر مما يدعو بقوله.(46/46)
الوسط الجاد
الأمر الثالثة: الوسط الجاد: أن نسعى إلى وسط جاد فعلاً؛ لأن الكثير من الناس عنده قابلية أن يتشكل حسب الظروف، تأتيه مع أناس أصحاب هزل تجده من الأوائل في الهزل والضحك، يأتي مع ناس جادين تجده يكون جاداً؛ فإذا ساقته الظروف إلى قوم هازلين صار هازلاً، وساقته الظروف إلى قوم جادين فصار جاداً، إذاً عندما نهيئ الوسط الجاد والبيئة الجادة نستطيع أن نهيئ للشاب المحضن الذي يربيه التربية الجادة بعد ذلك.(46/47)
غير عتبة بابك
الأمر الرابع: غير عتبة بابك، إبراهيم عليه السلام جاء يزور ابنه اسماعيل، فلما جاء وجد فسألها عنه ثم قال: كيف عيشكم؟ كيف طعامكم وشرابكم؟ فذكرت له سوءاً فقال: أبلغيه السلام وقولي له: يغير عتبة بابه، ثم لما جاء إسماعيل وسألها قال: أنت عتبة بابي وقد أمرني بطلاقك، فإبراهيم عليه السلام أحس أن هذه المرأة غير جادة، امرأة ما تتحمل الحياة هذه؛ ولهذا عندما سأل المرأة الثانية واكنت تعيش نفس المعيشة أثنت خيراً فقال: ثبت عتبة بابك.
إذاً بعض العناصر أصلاً غير مؤهلة أن تصل إلى مستويات عالية؛ لهذا من العبث أن نحاول أن نرتفع بها، وكما كان يقول الأعمش رحمه الله لما قيل له: حدث أولئك، قال: لا يقلد الذهب الخنازير، أي: هناك أناس لا يستحقون العلم أصلاً، أي: غير جادين؛ فمثل هذا ينبغي أن لا يشغلنا ولا يكون عبئاً على غيره، فلا ينقل مثل هذا إلى الأوساط الجادة، يعني: هذا يمكن أن ننقله إلى مرحلة معينة لا يتجاوزها، أما الأوساط الجادة العالمة بالمراحل التي نريد فعلاً أن نعد فيها أناساً يتحملون مسئوليات يجب أن نبعد عنها أمثال هؤلاء وأن نغير عتبة الباب.(46/48)
الأعمال بالخواتيم
سادساً: الأعمال بالخواتيم: أن ننظر إلى نتاج التربية لا ننظر إلى العدد، قد تقول لي: عندي درس في المسجد أو حلقة قرآن أو برنامج يجمع فئة من الشباب، فعندما يكون البرنامج جاداً وحازماً قد لا يبقى عندي إلا (10)، لكن إذا كان برنامجاً مبحبحاً -على ما يقول الناس- وواسعاً قد يكون عندي (30)، وبالحسابات المادية (30) أكثر من (10)، لكن لا تنظر إلى هذا المقياس، بل انظر إلى النتائج، فمثلاً خلال خمس سنوات ماذا حققت، وصاحب الـ30 خلال خمس سنوات كم حقق، من ناحية العدد تجد أن الثلاثين هؤلاء يتنافرون أصلاً؛ لأنهم لم يتربوا تربية جادة، وعندما تأتي إلى صاحب العشرة هذا الرجل الجاد تجد أنه مثلاً يمكن أن نقول: إنه استطاع أنه يخرج مثلاً خلال 5سنوات خرج لنا 50 شخصاً، لكن صاحب 30 ما خرج لنا إلا 10، و 10 المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع، كلهم ضعاف، فأنا أجزم وأقول هذا الكلام عن قناعة: إن التربية الجادة على مدى أوسع تخرج حتى أكثر عدداً من التربية الهزيلة؛ لأن أصحاب التربية الهزيلة أصلاً لا يستمرون؛ لأنه لا يجد شيئاً مقنعاً بعد ذلك، ثم يتساقطون والعبرة بالخواتيم، وفكر وراجع التاريخ وتأمل ستجد هذه النتيجة، وعندما تكون عندنا هذه القناعة لا تأتينا هذه الإشكالات في الحسابات المادية والحسابات العددية.(46/49)
الرجل الجاد لا ينظر إلا للأمام
وأخيراً الرجل الجاد لا ينظر إلا للأمام، يعني: افترض أنك اقتنعت أن تربيتك تحتاج إلى عنف وجدية، سواء تربيتك لنفسك أو تربيتك لأبنائك أو لطلابك أياً كنت متربياً أو مربياً، فليس هناك داع أن تجلس تتحسر على الماضي، فالرجل الجاد ليس عنده وقت أصلاً أن يتحسر على الماضي، الماضي مضى بما فيه نحن أبناء اليوم، واعتبر الماضي مرحلة سواء كانت خطأ أو لم تكن خطأ، فأهم شيء أن ننظر إلى الأمام، فالرجل الجاد هو الذي ينظر إلى الأمام ويبحث عن العمل المنتج.
ولهذا فأنا أقول: إن المراحل التي قطعناها وكونت لنا هذا الجيل الطيب من الصحوة لم تكن خطأً، وأيضاً كانت مرحلة من المراحل قطعناها لا نريد أن نستمر نحن على هذه المرحلة، بل نريد أن نرتقي إلى مرحلة أعلى، فأيضاً من الإجحاف أن نقول: أن هذا خطأ، وأنا كنا نعمل في السابق على خطأ، لا، أنا أقول: نحن قطعنا مرحلة نحتاج بعد ذلك لأن ننتقل إلى مرحلة ثانية أعلى.(46/50)
الأسئلة(46/51)
صور من التربية غير الجادة
السؤال
إننا في هذا الزمن نجد بعض شباب الصحوة ليس لهم هم سوى متابعة الأناشيد والمخيمات الترفيهية، وتجدهم لا يفكرون تفكيراً جاداً للعمل للإسلام، سواء كان بدعوة أو طلب علم، فما نصيحتكم لأمثال هؤلاء؟
الجواب
فعلاً كثير من الشباب تجده يحفظ من النشيد أكثر مما يحفظ من القرآن، ودائماً حياته سماع النشيد، هذه صورة من التربية الهزيلة، ولو كان هذا جاداً ما وجد وقتاً أصلاً أنه يسمع مثل هذا، وأنا لا أقول أنها محرمة، لكن الرجل الجاد عنده ما يشغله أصلاً.
كذلك المخيمات التي تقدم للشباب طيبة وخيرة، لكن يجب أن نرتفع بها، فهي فرصة لأن يتربى هؤلاء الشباب من خلال هذه المحاضن، وهذه البرامج، فالمخيمات أو المراكز الصيفية أو الأنشطة المدرسية لا يكون الهدف منها الترفيه، ونغرق فيها في برامج ووسائل الترفيه حتى يخرج لنا هذا الجيل الغثاء.(46/52)
نفرة الشباب بالتربية الجادة
السؤال
التربية الجادة ربما تنفر الشباب وتجعلهم يتركون العمل للدعوة إلى الله؟
الجواب
هذا سبق أن أجبنا عليه، ويمكن أن نقول الآن أن التربية الجادة مراحل، فنحن نريد أن يتربى المجتمع كله تربية جادة لكن على مستوى معين، فهناك ناس يصلون إلى مستوى معين، وهناك آخرون إلى مستوى آخر، وليس بالضرورة أن نطالب الجميع بمستوى معين من التربية، ومستوى معين من الجدية، لكن أقول أنا: أنه عندما نتأمل الواقع نجد أننا متأخرون كثيراً، وأننا نضع الكثير من الناس دون مراحلهم التي يجب أن يصلوا إليها.(46/53)
التربية الجادة وحفظ القرآن
السؤال
أليس من التربية الجادة اقتطاع شيء من البرنامج اليومي لحفظ كتاب الله والانتظام في حلقة لتحفيظ القرآن؟
الجواب
لا شك أن من التربية الجادة أن يعتني الشاب بنفسه، ومن أهم ما ينبغي أن يعتني به حفظ القرآن الكريم، لكن كيف؟ يلتحق بحلقة يحفظ على شخص، هذا شأن آخر، المهم هو الهدف، أما الوسيلة فتختلف من شخص إلى آخر ومن ظرف إلى آخر.(46/54)
من جوانب التربية الجادة
السؤال
نجد بعض الشباب يتحمس فيربي نفسه تربية جادة، فينقطع لطلب العلم فترة من الزمن، وبعد مدة نجده يفتر ويكسل، وإن لم ينتكس عن الطريق المستقيم، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟
الجواب
سبق أن قلنا يا إخوان في الدرس السابق أن التربية ليست هي طلب العلم وحده، بل هو جانب من جوانب التربية فالإنسان يحتاج إلى جوانب عديدة لتربية نفسه، والجانب العلمي جزء منه، فالإنسان الذي يتفرغ ليتعلم وحده، وهو يرى المنكرات ويرى الواقع الذي يحتاج إلى تغيير ليس جاداً، والجدية لا تعني أن الإنسان يكون مقطب الجبين، ولا تعني أن الإنسان مجرد يقرأ، ولا تعني أن يستغل الإنسان وقته كيفما اتفق، بل الجدية أن يكون الإنسان فعلاً يختار العمل المناسب، ويكون عنده توازن، هذا هو الرجل الجاد، أما الإنسان الذي يتفرغ مثل هذا التفرغ ويهمل الواقع ويهمل الدعوة أصلاً فأنا أعتبره رجلاً غير جاد.(46/55)
الخلطة والتربية الجادة
السؤال
نرى كثيراً من الشباب يبالغون في الخلطة، حتى إنها قد تصل إلى الخلطة الممرضة للقلب، وهم يعللون ذلك بالتربية، وهي في الحقيقة سبب من أسباب تعطيل التربية الجادة أرجو التعليق على ذلك.
الجواب
هذا كلام صحيح، أنك تجد كثيراً من الشباب فعلاً يطيل في الخلطة، فتجده في ذهاب وإياب ليس له أي ثمرة ولا نتيجة، وهو يقول لك: تربية، تربية أن تتعرف على الشباب وتسلي عنهم إلى غير ذلك، وبهذا يخرج لنا فعلاً جيل هزيل، فنربي الشباب على إضاعة الأوقات، وعلى الأمور الهزيلة، والتعلق بالتوافه، وإن كان ولا شك أنا نحتاج إلى نوع من الترفيه، ونحتاج إلى نوع من الخلطة، لكن يجب أن تكون الأمور بقدرها.
فيجب أن نتخفف من الخلطة غير المجدية، فإنها من الخلل التربوي، فعندما يقضي المربي مع من يربيه وقتاً طويلاً دون فائدة، هذا يهدر شخصية المربي ويجعل شخصيته شخصية غير مؤثرة، ويحول المربي إلى مجرد زميل وصديق، وما لم يكن هناك مسافة بين المربي والمتربي، ونوع من الهيبة لا يمكن أن تؤدي التربية ثمارها المطلوبة.
كثرة الخلطة والبرامج الهازلة تؤدي إلى القضاء على هذا الشعور الموجود عند المتربي، ويمكن أن نتقلل نحن من الخلطة بأمرين: نتقلل أصلاً من الخلطة غير المفيدة، يعني: اللقاءات غير المفيد وغير العملية لا يوجد داعي إلى كثرتها.
والأمر الثاني: أن نستغل أوقات الراحة كما قلنا، فما المانع عندما نكون في مناسبة أن نتناقش في موضوع جاد، ونتحدث عن موضوع جاد؟ بل هذا هو الواجب، وهذا من معايير ودلائل الجدية.(46/56)
مقياس التربية الجادة
السؤال
تكلمت عن الرجل الجاد وعن بعض الصور من التربية الجادة، ولكن ما هو المقياس الذي يتضح منه أن التربية جادة جزاك الله خيرا؟
الجواب
المقياس هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما أصلح أولها، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالمقياس هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(46/57)
التربية الجادة والشهوة
السؤال
لا بد للإنسان أن يربي نفسه تربية جادة لكي يواجه الشهوة فكيف يتم ذلك؟
الجواب
الذي يربي تربية جادة سيكون صاحب عبادة، متخل عن الشهوات، ويكون جاداً مع نفسه وحازماً مع نفسه، فيغلق على نفسه أبواب الذرائع، وإذا وقع في المعصية فسيكون جاداً فيتوب، الرجل الجاد لا شك أنه سيكون أبعد الناس عن الشهوات، وإذا أصابه منها شيئاً سيكون أسرع الناس إلى التخلي عنها؛ لأنه رجل جاد وقليلاً ما يتعلق بهذه الشهوات.(46/58)
ضابط النقد الجاد
السؤال
ما ضابط النقد الجاد وكيفية استثماره؟
الجواب
النقد الجاد الذي يكون له نتيجة عملية؛ فكل واحد يستطيع ينتقد، فلو نقول الآن: من أفصح شخص فيكم؟ فيقول شخص: أنا، ويقوم فيلقي خطبة عصماء، فواحد يقول لك: لحن في كذا وكذا، وواحد يقول لك: أخطأ في هذه الآية، وواحد يقول لك: مستوى العاطفة عنده مرتفع، وكل واحد ينتقد، سهل الانتقاد، لكن هذا انتقاد غير عملي، نريد نحن الانتقاد العملي الانتقاد الجاد فعلاً، تجد -مثلاً- الناس بعد خطبة الجمعة يتجمعون فينتقدوا خطيب الجمعة: بالغ في كذا، قال كذا، تحدث عن كذا، لكن ما هو نقد عملي؛ لأنه ولا واحد منهم يوماً من الأيام فكر أن يخاطب الخطيب بمثل هذه الملحوظة، فهذا نقد غير جاد، وأعتبره نقداً هازلاً.
عندما نتحدث في المجالس ننتقد المؤسسات الدعوية، وننتقد البرامج ونتحدث عنها ونطيل الحديث فيها أيضاً أنا أعتبر هذا نقداً غير جاد، فالنقد الجاد هو الذي يوجه إلى أصحابه، للقنوات السليمة، ثم أيضاً النقد الجاد -ليكون نقداً موضوعياً- يأخذ في الاعتبار المحاسن والمساوئ، ويأخذ في الاعتبار أيضاًَ العناصر البشرية، وأن البشر لا بد أن يكونوا بشراً يقعون في الخطأ، وأتصور أن هذه بعض معالم النقد الجاد العملي.(46/59)
علاقة الرجل الجاد بمجموعته غير الجادة
السؤال
إذا كان الشخص مع مجموعة غير جادة فهل الأصلح أن يتركهم إلى مجموعة جادة أم يحاول الإصلاح؟ ثم كيف يصلح مجموعته؟
الجواب
لا شك أن الأولى أن يحاول الإصلاح ولا يترك المجموعة إلا إذا وصل إلى حد الإياس، لكن هذه قضايا أعيان، وقضايا الأعيان كما يقال: تحتاج إلى فتوى خاصة.(46/60)
الرفق في الدعوة
السؤال
الدعوة إلى الله -خصوصاً مع المدعوين- تحتاج إلى نوع من إرخاء الحبل قليلاً حتى يتم جذبهم ودعوتهم إلى الله عز وجل.
الجواب
نحن نحتاج إلى الرفق بالمدعوين، والعناية بهم، وتلمس نفسياتهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أرفق الناس، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، والله عز وجل قال عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، لكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بالرفق، والذي كانت هذه مواصفاته هو الذي جعل الصحابة يعملون في غزوة الخندق حتى كان أحدهم يربط على بطنه الحجارة من الجوع، ونزل فيهم ما نزل.
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الصحابة يسيرون إلى جيش العسرة بعد أن طابت الثمار، يعني: يغرسون ويتعبون، ولما طابت الثمار وجاء وقت أكلها رحلهم إلى الجيش في شدة الحر، فساروا في طريق طويل، إلى مواجهة الروم، وتركوا الثمار كلها بكل ما فيها؛ ولم يكن هناك ثلاجات ولا وسائل حفظ، ومع ذلك استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وساروا، وحينما تخلف ثلاثة من أصحابه عاتبهم بما سبق أن أشرنا إليه.
هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر بالرفق، فيجب أن يكون عندنا توازن، فلا نبالغ في الإثقال على الناس والحزم الذي نقضي معه على كل معاني الرفق، وأيضاً لا نبالغ في هذه المعاني فنميع تربيتنا، والذي ينظر إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة متكاملة يسلم من الأخطاء.
وهناك نصيحة أود أن أقولها وقد سبق أن أشرت إليها مراراً، وهي أن المشكلة أحياناً تأتي من سوء الفهم، فالإنسان عندما يتحدث عن موضوع سيحشد الأدلة والمؤيدات والأمور التي تؤدي إلى إصلاح خلل معين وخطأ معين، فأنت لا تأتيه بالمقابل وتقول له: إن الذي يفهم من كلامك كذا وكذا.
فمثلاً عندما يأتيك إنسان ويقول لك: لا بد أن نعتني بالعلم، ونوظف نفيس أوقاتنا في طلب العلم وإلى غير ذلك، يأتيك إنسان يقول لك: هذا يعني أن نترك الدعوة؟ لا، من قال لك ذلك؟ فنحن كذلك عندما نطالب بالتربية الجادة لا يعني أن نهمل الرفق، ولا يعني أن نهمل أخذ الناس بالتؤدة، لكن أيضاً الرفق وفق المنهج السليم، الرفق والتؤدة وفق التوازن، فنمسك العصا من الوسط ونتوسط، وكما قلت لكم: المقياس لذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أرحم الناس وأرفق الناس، ومع ذلك انظروا كيف كان يفعل مع أصحابه، النبي صلى الله عليه وسلم بايع بعض أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً، قال: (بايعوني على أن لا تسألوا الناس شيئاً)، وبايعوه، أليس هذا من الحزم؟ أليس هذا من الجدية؟ فالجدية لها مستويات ولها منازل تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فنحن يجب أن ننظر إلى الأمر نظرة عامة، نظرة متوازنة، وعندما ننظر من خلال هذه النظرة لا يمكن أن نقع في مثل هذه الإشكالات.(46/61)
كيفية وضع برنامج للسير عليه
السؤال
هل يمكن أن يضع الرجل جدولاً يسير عليه؟ وما هي أساسيات هذا الجدول؟
الجواب
ينبغي للإنسان أن يضع لنفسه جدولاً وبرنامجاً، لكن أنا أتحدث مع فئات مختلفة، مع طالب في المتوسط وطالب في الثانوي وطالب في الجامعة ومع موظف ومع أستاذ ومع متخصص في العلم الشرعي، فمن الغلط أن يقتطع لكل هؤلاء جدول واحد، لكن كل إنسان يعرف كيف يضع لنفسه جدولاً، وأهم شيء أن يكون جاداً في استغلال وقته واستثماره وفق ظروفه.
فالتاجر -مثلاً- الذي يعمل في ميدان التجارة يحتاج إلى برنامج يتناسب مع عمله وموقعه، وكذلك الأستاذ، والطالب، والموظف، والرجل، والمرأة، فالناس يختلفون، فمن الخطأ أن نضع جدولاً واحداً نطالب الناس بالسير عليه، ونقول: هذا الجدول نموذجي ومثالي، والرجل الجاد لا يحتاج أن يوضع له جدول، هو نفسه يعرف كيف يحقق هدفه.(46/62)
العمل الصالح وأيام العشر
السؤال
ما رأيك لو ذكرت الحضور بقضية التكبير في أيام العشر، وكثرة العمل الصالح فيها.
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام -يعني: عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)، فالنبي صلى الله عليه وسلم صور لنا أجر المجاهد كمثل الصائم والقائم الذي لا يفتر من صيام ولا من صلاة، ومع ذلك يجعل النبي صلى الله عليه وسلم العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد في سبيل الله.
وفي الحديث الآخر يقول: (فأكثروا فيهن من التحميد والتكبير والتسبيح) فينبغي أن نكثر في هذه الأيام من العمل الصالح، ولا شك أن أفضل عمل صالح يعمله المرء في هذه الأيام هو الحج إلى بيت الله؛ لأن هذه الأيام ما كانت فاضلة إلا لأنها كانت أيام الحج؛ لأن فيها يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، فأحث نفسي وأحث إخواني على اغتنام هذه الأيام وهذه الليالي.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياكم على خير، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح ويتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(46/63)
الأسئلة(46/64)
صور من التربية غير الجادة
السؤال
إننا في هذا الزمن نجد بعض شباب الصحوة ليس لهم هم سوى متابعة الأناشيد والمخيمات الترفيهية، وتجدهم لا يفكرون تفكيراً جاداً للعمل للإسلام، سواء كان بدعوة أو طلب علم، فما نصيحتكم لأمثال هؤلاء؟
الجواب
فعلاً كثير من الشباب تجده يحفظ من النشيد أكثر مما يحفظ من القرآن، ودائماً حياته سماع النشيد، هذه صورة من التربية الهزيلة، ولو كان هذا جاداً ما وجد وقتاً أصلاً أنه يسمع مثل هذا، وأنا لا أقول أنها محرمة، لكن الرجل الجاد عنده ما يشغله أصلاً.
كذلك المخيمات التي تقدم للشباب طيبة وخيرة، لكن يجب أن نرتفع بها، فهي فرصة لأن يتربى هؤلاء الشباب من خلال هذه المحاضن، وهذه البرامج، فالمخيمات أو المراكز الصيفية أو الأنشطة المدرسية لا يكون الهدف منها الترفيه، ونغرق فيها في برامج ووسائل الترفيه حتى يخرج لنا هذا الجيل الغثاء.(46/65)
نفرة الشباب بالتربية الجادة
السؤال
التربية الجادة ربما تنفر الشباب وتجعلهم يتركون العمل للدعوة إلى الله؟
الجواب
هذا سبق أن أجبنا عليه، ويمكن أن نقول الآن أن التربية الجادة مراحل، فنحن نريد أن يتربى المجتمع كله تربية جادة لكن على مستوى معين، فهناك ناس يصلون إلى مستوى معين، وهناك آخرون إلى مستوى آخر، وليس بالضرورة أن نطالب الجميع بمستوى معين من التربية، ومستوى معين من الجدية، لكن أقول أنا: أنه عندما نتأمل الواقع نجد أننا متأخرون كثيراً، وأننا نضع الكثير من الناس دون مراحلهم التي يجب أن يصلوا إليها.(46/66)
التربية الجادة وحفظ القرآن
السؤال
أليس من التربية الجادة اقتطاع شيء من البرنامج اليومي لحفظ كتاب الله والانتظام في حلقة لتحفيظ القرآن؟
الجواب
لا شك أن من التربية الجادة أن يعتني الشاب بنفسه، ومن أهم ما ينبغي أن يعتني به حفظ القرآن الكريم، لكن كيف؟ يلتحق بحلقة يحفظ على شخص، هذا شأن آخر، المهم هو الهدف، أما الوسيلة فتختلف من شخص إلى آخر ومن ظرف إلى آخر.(46/67)
من جوانب التربية الجادة
السؤال
نجد بعض الشباب يتحمس فيربي نفسه تربية جادة، فينقطع لطلب العلم فترة من الزمن، وبعد مدة نجده يفتر ويكسل، وإن لم ينتكس عن الطريق المستقيم، فما نصيحتكم لمثل هؤلاء؟
الجواب
سبق أن قلنا يا إخوان في الدرس السابق أن التربية ليست هي طلب العلم وحده، بل هو جانب من جوانب التربية فالإنسان يحتاج إلى جوانب عديدة لتربية نفسه، والجانب العلمي جزء منه، فالإنسان الذي يتفرغ ليتعلم وحده، وهو يرى المنكرات ويرى الواقع الذي يحتاج إلى تغيير ليس جاداً، والجدية لا تعني أن الإنسان يكون مقطب الجبين، ولا تعني أن الإنسان مجرد يقرأ، ولا تعني أن يستغل الإنسان وقته كيفما اتفق، بل الجدية أن يكون الإنسان فعلاً يختار العمل المناسب، ويكون عنده توازن، هذا هو الرجل الجاد، أما الإنسان الذي يتفرغ مثل هذا التفرغ ويهمل الواقع ويهمل الدعوة أصلاً فأنا أعتبره رجلاً غير جاد.(46/68)
الخلطة والتربية الجادة
السؤال
نرى كثيراً من الشباب يبالغون في الخلطة، حتى إنها قد تصل إلى الخلطة الممرضة للقلب، وهم يعللون ذلك بالتربية، وهي في الحقيقة سبب من أسباب تعطيل التربية الجادة أرجو التعليق على ذلك.
الجواب
هذا كلام صحيح، أنك تجد كثيراً من الشباب فعلاً يطيل في الخلطة، فتجده في ذهاب وإياب ليس له أي ثمرة ولا نتيجة، وهو يقول لك: تربية، تربية أن تتعرف على الشباب وتسلي عنهم إلى غير ذلك، وبهذا يخرج لنا فعلاً جيل هزيل، فنربي الشباب على إضاعة الأوقات، وعلى الأمور الهزيلة، والتعلق بالتوافه، وإن كان ولا شك أنا نحتاج إلى نوع من الترفيه، ونحتاج إلى نوع من الخلطة، لكن يجب أن تكون الأمور بقدرها.
فيجب أن نتخفف من الخلطة غير المجدية، فإنها من الخلل التربوي، فعندما يقضي المربي مع من يربيه وقتاً طويلاً دون فائدة، هذا يهدر شخصية المربي ويجعل شخصيته شخصية غير مؤثرة، ويحول المربي إلى مجرد زميل وصديق، وما لم يكن هناك مسافة بين المربي والمتربي، ونوع من الهيبة لا يمكن أن تؤدي التربية ثمارها المطلوبة.
كثرة الخلطة والبرامج الهازلة تؤدي إلى القضاء على هذا الشعور الموجود عند المتربي، ويمكن أن نتقلل نحن من الخلطة بأمرين: نتقلل أصلاً من الخلطة غير المفيدة، يعني: اللقاءات غير المفيد وغير العملية لا يوجد داعي إلى كثرتها.
والأمر الثاني: أن نستغل أوقات الراحة كما قلنا، فما المانع عندما نكون في مناسبة أن نتناقش في موضوع جاد، ونتحدث عن موضوع جاد؟ بل هذا هو الواجب، وهذا من معايير ودلائل الجدية.(46/69)
مقياس التربية الجادة
السؤال
تكلمت عن الرجل الجاد وعن بعض الصور من التربية الجادة، ولكن ما هو المقياس الذي يتضح منه أن التربية جادة جزاك الله خيرا؟
الجواب
المقياس هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما أصلح أولها، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فالمقياس هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(46/70)
التربية الجادة والشهوة
السؤال
لا بد للإنسان أن يربي نفسه تربية جادة لكي يواجه الشهوة فكيف يتم ذلك؟
الجواب
الذي يربي تربية جادة سيكون صاحب عبادة، متخل عن الشهوات، ويكون جاداً مع نفسه وحازماً مع نفسه، فيغلق على نفسه أبواب الذرائع، وإذا وقع في المعصية فسيكون جاداً فيتوب، الرجل الجاد لا شك أنه سيكون أبعد الناس عن الشهوات، وإذا أصابه منها شيئاً سيكون أسرع الناس إلى التخلي عنها؛ لأنه رجل جاد وقليلاً ما يتعلق بهذه الشهوات.(46/71)
ضابط النقد الجاد
السؤال
ما ضابط النقد الجاد وكيفية استثماره؟
الجواب
النقد الجاد الذي يكون له نتيجة عملية؛ فكل واحد يستطيع ينتقد، فلو نقول الآن: من أفصح شخص فيكم؟ فيقول شخص: أنا، ويقوم فيلقي خطبة عصماء، فواحد يقول لك: لحن في كذا وكذا، وواحد يقول لك: أخطأ في هذه الآية، وواحد يقول لك: مستوى العاطفة عنده مرتفع، وكل واحد ينتقد، سهل الانتقاد، لكن هذا انتقاد غير عملي، نريد نحن الانتقاد العملي الانتقاد الجاد فعلاً، تجد -مثلاً- الناس بعد خطبة الجمعة يتجمعون فينتقدوا خطيب الجمعة: بالغ في كذا، قال كذا، تحدث عن كذا، لكن ما هو نقد عملي؛ لأنه ولا واحد منهم يوماً من الأيام فكر أن يخاطب الخطيب بمثل هذه الملحوظة، فهذا نقد غير جاد، وأعتبره نقداً هازلاً.
عندما نتحدث في المجالس ننتقد المؤسسات الدعوية، وننتقد البرامج ونتحدث عنها ونطيل الحديث فيها أيضاً أنا أعتبر هذا نقداً غير جاد، فالنقد الجاد هو الذي يوجه إلى أصحابه، للقنوات السليمة، ثم أيضاً النقد الجاد -ليكون نقداً موضوعياً- يأخذ في الاعتبار المحاسن والمساوئ، ويأخذ في الاعتبار أيضاًَ العناصر البشرية، وأن البشر لا بد أن يكونوا بشراً يقعون في الخطأ، وأتصور أن هذه بعض معالم النقد الجاد العملي.(46/72)
علاقة الرجل الجاد بمجموعته غير الجادة
السؤال
إذا كان الشخص مع مجموعة غير جادة فهل الأصلح أن يتركهم إلى مجموعة جادة أم يحاول الإصلاح؟ ثم كيف يصلح مجموعته؟
الجواب
لا شك أن الأولى أن يحاول الإصلاح ولا يترك المجموعة إلا إذا وصل إلى حد الإياس، لكن هذه قضايا أعيان، وقضايا الأعيان كما يقال: تحتاج إلى فتوى خاصة.(46/73)
الرفق في الدعوة
السؤال
الدعوة إلى الله -خصوصاً مع المدعوين- تحتاج إلى نوع من إرخاء الحبل قليلاً حتى يتم جذبهم ودعوتهم إلى الله عز وجل.
الجواب
نحن نحتاج إلى الرفق بالمدعوين، والعناية بهم، وتلمس نفسياتهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أرفق الناس، وما كان الرفق في شيء إلا زانه، والله عز وجل قال عنه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران:159]، لكن النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمرنا بالرفق، والذي كانت هذه مواصفاته هو الذي جعل الصحابة يعملون في غزوة الخندق حتى كان أحدهم يربط على بطنه الحجارة من الجوع، ونزل فيهم ما نزل.
النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل الصحابة يسيرون إلى جيش العسرة بعد أن طابت الثمار، يعني: يغرسون ويتعبون، ولما طابت الثمار وجاء وقت أكلها رحلهم إلى الجيش في شدة الحر، فساروا في طريق طويل، إلى مواجهة الروم، وتركوا الثمار كلها بكل ما فيها؛ ولم يكن هناك ثلاجات ولا وسائل حفظ، ومع ذلك استنفرهم النبي صلى الله عليه وسلم وساروا، وحينما تخلف ثلاثة من أصحابه عاتبهم بما سبق أن أشرنا إليه.
هذا هو النبي صلى الله عليه وسلم الذي أمر بالرفق، فيجب أن يكون عندنا توازن، فلا نبالغ في الإثقال على الناس والحزم الذي نقضي معه على كل معاني الرفق، وأيضاً لا نبالغ في هذه المعاني فنميع تربيتنا، والذي ينظر إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم نظرة متكاملة يسلم من الأخطاء.
وهناك نصيحة أود أن أقولها وقد سبق أن أشرت إليها مراراً، وهي أن المشكلة أحياناً تأتي من سوء الفهم، فالإنسان عندما يتحدث عن موضوع سيحشد الأدلة والمؤيدات والأمور التي تؤدي إلى إصلاح خلل معين وخطأ معين، فأنت لا تأتيه بالمقابل وتقول له: إن الذي يفهم من كلامك كذا وكذا.
فمثلاً عندما يأتيك إنسان ويقول لك: لا بد أن نعتني بالعلم، ونوظف نفيس أوقاتنا في طلب العلم وإلى غير ذلك، يأتيك إنسان يقول لك: هذا يعني أن نترك الدعوة؟ لا، من قال لك ذلك؟ فنحن كذلك عندما نطالب بالتربية الجادة لا يعني أن نهمل الرفق، ولا يعني أن نهمل أخذ الناس بالتؤدة، لكن أيضاً الرفق وفق المنهج السليم، الرفق والتؤدة وفق التوازن، فنمسك العصا من الوسط ونتوسط، وكما قلت لكم: المقياس لذلك هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان أرحم الناس وأرفق الناس، ومع ذلك انظروا كيف كان يفعل مع أصحابه، النبي صلى الله عليه وسلم بايع بعض أصحابه على أن لا يسألوا الناس شيئاً، قال: (بايعوني على أن لا تسألوا الناس شيئاً)، وبايعوه، أليس هذا من الحزم؟ أليس هذا من الجدية؟ فالجدية لها مستويات ولها منازل تختلف باختلاف الأحوال والأشخاص، فنحن يجب أن ننظر إلى الأمر نظرة عامة، نظرة متوازنة، وعندما ننظر من خلال هذه النظرة لا يمكن أن نقع في مثل هذه الإشكالات.(46/74)
كيفية وضع برنامج للسير عليه
السؤال
هل يمكن أن يضع الرجل جدولاً يسير عليه؟ وما هي أساسيات هذا الجدول؟
الجواب
ينبغي للإنسان أن يضع لنفسه جدولاً وبرنامجاً، لكن أنا أتحدث مع فئات مختلفة، مع طالب في المتوسط وطالب في الثانوي وطالب في الجامعة ومع موظف ومع أستاذ ومع متخصص في العلم الشرعي، فمن الغلط أن يقتطع لكل هؤلاء جدول واحد، لكن كل إنسان يعرف كيف يضع لنفسه جدولاً، وأهم شيء أن يكون جاداً في استغلال وقته واستثماره وفق ظروفه.
فالتاجر -مثلاً- الذي يعمل في ميدان التجارة يحتاج إلى برنامج يتناسب مع عمله وموقعه، وكذلك الأستاذ، والطالب، والموظف، والرجل، والمرأة، فالناس يختلفون، فمن الخطأ أن نضع جدولاً واحداً نطالب الناس بالسير عليه، ونقول: هذا الجدول نموذجي ومثالي، والرجل الجاد لا يحتاج أن يوضع له جدول، هو نفسه يعرف كيف يحقق هدفه.(46/75)
العمل الصالح وأيام العشر
السؤال
ما رأيك لو ذكرت الحضور بقضية التكبير في أيام العشر، وكثرة العمل الصالح فيها.
الجواب
النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام -يعني: عشر ذي الحجة- قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)، فالنبي صلى الله عليه وسلم صور لنا أجر المجاهد كمثل الصائم والقائم الذي لا يفتر من صيام ولا من صلاة، ومع ذلك يجعل النبي صلى الله عليه وسلم العمل الصالح في هذه الأيام أفضل من الجهاد في سبيل الله.
وفي الحديث الآخر يقول: (فأكثروا فيهن من التحميد والتكبير والتسبيح) فينبغي أن نكثر في هذه الأيام من العمل الصالح، ولا شك أن أفضل عمل صالح يعمله المرء في هذه الأيام هو الحج إلى بيت الله؛ لأن هذه الأيام ما كانت فاضلة إلا لأنها كانت أيام الحج؛ لأن فيها يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر، فأحث نفسي وأحث إخواني على اغتنام هذه الأيام وهذه الليالي.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياكم على خير، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح ويتقبل منا ومنكم صالح الأعمال.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(46/76)
الطاقة المعطلة
تمتلك الأمة كثيراً من الطاقات البشرية، لكن للأسف أكثر هذه الطاقات معطلة لم تقم بدورها في رفعة الأمة، وقليلة تلك الطاقات التي تستثمر بالصورة الصحيحة.
ولو وجهت طاقات الأمة التوجيه الصحيح، واستثمرت الاستثمار الأمثل لكان للأمة شأن آخر، ولرأيتها في وضع يسر.(47/1)
أهمية دراسة المسائل الدعوية العامة دراسة جماعية متأنية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فعنوان هذه المحاضرة: الطاقات المعطلة، ولعلي أتمثل بقول الأميري رحمه الله: قم وجه اللاهين بالذكرى إلى النهج القويم فالمجد ليس ينال بالدعوى أو الصوت الرخيم عبء الرسالة ليس لهواً إنه عبء جسيم القول دون الفعل لا يهدي الصراط المستقيم هذا الموضوع أيها الإخوة! أحسب أنه يحتاج إلى غيري، وأرى أنني عندما أتجشم نقاش هذا الموضوع، ووضع الحلول له، أنني أرتقي مرتقى لست أهلاً له، ولذا فإني لن أتجاوز قدر إثارة الموضوع، وطرح أو اقتراح بعض الحلول، والتي ليست إلا حلولاً عاجلة وآنية، وأرى الموضوع يستحق أكثر من ذلك.
وهنا سؤال يفرض نفسه: ما مدى العمق والموضوعية في طرح قضايا الصحوة وقضايا الدعوة؟ ألا تدركون معي أن الكثير من الموضوعات الأساسية والجوهرية التي تهم الدعوة وتهم الصحوة إنما تطرق ارتجالاً، فهي خواطر يعدها محاضر استجابة للإلحاح عليه من فلان، أو هي خواطر عاجلة يسطرها أيضاً في صحيفة أو في كتيب.
وقد يكون أيضاً الدافع وراء ذلك ليس هو القناعة بهذه الفكرة، أو الشعور بضرورة طرحها، وإنما نتيجة لإملاء أو ضغوط، فيحصل في الواقع كثير من حالات الإجهاض الفكري لكثير من قضايا الدعوة وقضايا الصحوة، فتطرح طرحاً آنياً، وطرحاً سطحياً لا يتناسب مع عمق وأهمية الموضوع.
وهنا لست أقلل أيها الإخوة! من الجهود المبذولة، ولا مما يطرح سواء مما يطرحه الإخوة المحاضرون، أو الكتّاب أو غيرهم، بل هناك لا شك أطروحات فعلاً على مستوى ما نحتاج إليه، لكن أشعر أن هناك قضايا كثيرة هي أكبر أصلاً من مفكر واحد، وأكبر من رجل واحد، فيحتاج إلى أن يتنادى إليها عقلاء القوم، وأن يطرح كل ما عنده.
ألا تستحق قضايا الصحوة أن تعقد لأجلها مؤتمرات وندوات وبحوث لعلاج مثل هذه القضايا التي تعنينا؟ ومن نريد أن يعنى بأمراضنا، ويعنى بتصحيح مسيراتنا إلا نحن؟! فليس من المنطق، ولا من المقبول لا شرعاً ولا عقلاً بأي مقياس أو بأي منطق؛ ليس من المقبول أن تكون حلولنا وأطروحاتنا وعلاجنا لقضايا الصحوة، والقضايا الجوهرية حلولاً سطحية.
وأظن أن هذا الكلام مؤيداً لما قلته قبل قليل، مؤيداً لما قلته أن هذا الموضوع أشعر وأجزم أنه أكبر من حجمي بكثير، ولكن ما أريد أن أصل إليه هو فقط إثارة هذا الموضوع، والعناية به.(47/2)
الأسباب الداعية إلى تكاتف طاقات الأمة(47/3)
أن الواجب الشرعي في الدعوة والتغيير الأمة كلها مخاطبة به
نحن في مسيرتنا لتصحيح الواقع، والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى نحتاج إلى طاقات أكثر من الطاقات العاملة الآن بكثير، ونشعر أن هناك طاقات هائلة معطلة يجب أن تستثمر وأن تستغل.
فنحن نحتاج إلى هذه الطاقات؛ نظراً لأن الواجب الشرعي أصلاً في الدعوة والتغيير مخاطبة به الأمة جمعاء، فكل النصوص التي تأمر بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو الدعوة إلى الله عز وجل هي خطاب للأمة كافة، وليست خطاباً لجيل الصحوة وحدهم، ولا للعلماء وحدهم، وللدعاة دون غيرهم.
ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: وهذا الواجب -يعني: واجب الدعوة- واجب على مجموع الأمة، وهو الذي يسميه العلماء فرض كفاية إذا قام به طائفة منهم سقط عن الباقين، فالأمة كلها مخاطبة بفعل ذلك، ولكن إذا قامت به طائفة سقط عن الباقي.
ولا أظن أن أحداً الآن يجادل أو يشك في أن واجب الدعوة لم تقم به الطائفة التي نذرت نفسها وبذلت جهدها له، لا لأجل التقصير منها، وإن كان البشر لا يخلو من التقصير، ولكن لأن الأمر أكبر من طاقتها وقدرتها، فلا نقول: قام به من يكفي إلا عندما تصحح الأخطاء الموجودة في المجتمعات الإسلامية فعلاً، ويصل المسلمون إلى ما يسعون إليه من إقامة الحكم لله سبحانه وتعالى، وإقامة الدولة على شرع الله عز وجل، وإقامة واقع الناس على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، فما دام لم يتحقق هذا الواجب، فلا زالت الأمة كلها جميعاً مخاطبة بهذا الواجب.
إذاً: فالأصل شرعاً أن تعمل كل هذه الطاقات لخدمة هذا الدين، وللدفاع عن الأمة، ولإعادة واقع الأمة إلى الواقع الشرعي.(47/4)
ضخامة الفساد والانحراف في الأمة يفرض ضرورة تكاتف جهود وطاقات الأمة
الأمر الثاني: أن الفساد والانحراف الموجود في مجتمعات المسلمين بقدر من الضخامة فلا يمكن أن يقوم بإزالته الدعاة فقط وحدهم ما لم تسر الأمة وراءهم، ولا يمكن أن يقوم به فرد ولا جماعة ولا فئة من الناس، فهو أكبر بكثير من طاقات هؤلاء.
فالانحراف في العقيدة، والانحراف في المفاهيم والتصورات، والجهل بأحكام الدين، والانحراف في السلوك، وأبواب ومجالات الخلل في واقع الأمة وواقع المجتمع مجالات واسعة أكبر من أن يحيط بها، أو أن يسد هذه الأبواب وهذه الثغرات الداعية فلان أو فلان، أو حتى جماعة من الجماعات، أو فئة من الفئات، فما لم تتضافر الجهود، وتعمل كافة طاقات الأمة على درء هذا الفساد، فسنظل نسير سير السلحفاة.(47/5)
اختلاف طاقات الناس وتخصصاتهم يوجب تكاتف جميع طاقات المجتمع
كذلك الأمر الثالث أيضاً الذي يدعونا إلى ضرورة تشغيل كافة الطاقات والعناية بها: اختلاف طاقات الناس، وتخصصاتهم، وقدراتهم، فالناس مثلاً منهم العالم ذو العقلية العلمية الفذة الذي يستطيع أن يؤصل المسائل الشرعية، ويستطيع أن يعلم الناس، ومنهم الواعظ الزاهد الذي يستطيع أن يصل إلى قلوب الناس، وقد يصل إلى قلوب الناس ما لا يصل إليه العالم، ومنهم الخطيب، ومنهم المفكر، ومنهم أصحاب المواهب والطاقات المتنوعة، وكل هذه الطاقات نحتاج إليها، والأمة كل الأمة، المفكرين، المثقفين، المتعلمين، الأميين، النساء، كل طبقات المجتمع بحاجة إلى من يخاطبها بهذا الدين.
وطبقات المجتمع وشرائح المجتمع طبقات متفاوتة، فتحتاج إلى أنواع وألوان من الخطاب، وإلى أنواع من القدرات، ولذا فإن الأمة تحتاج إلى كل طاقة وكل قدرة، فكل إنسان يملك موهبة، وكل إنسان بارع في أي تخصص له مجال مفتقر إليه، وقد لا يقوم به غيره.(47/6)
ضرورة أن يتعاون المجتمع كله في نشر دين الله تعالى، فالعلماء وحدهم والحكام وحدهم لا يقدرون على ذلك لوحدهم
الأمر الرابع: أن الدعاة وحدهم والقادة وحدهم لا يمكن أن يصنعوا شيئاً: وهذا ليس شأن هذه الأمة فقط بل الأمم السابقة كذلك، فالله سبحانه وتعالى يقول: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147].
فهذا النبي ما قام وحده، وهذا النبي ما قاتل وحده وإنما قاتل معه ربيون كثير، وعندما يتخلى هؤلاء عن النبي فقد لا يصنع شيئاً، أعني: أنه قد لا يتحقق له النصر والتمكين في دار الدنيا، ونجد مصداق ذلك في قصة موسى مع بني إسرائيل: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ * يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:20 - 21].
فدعا موسى بني إسرائيل إلى دخول الأرض المقدسة: ((ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)) يعني: الأرض المقدسة مكتوبة لهم فيحتاج الأمر إلى أن يدخلوا الأرض المقدسة فقط، فرفض بنو إسرائيل أن يستجيبوا لدعوة موسى، فقام رجلان بواجب المناصرة والتأييد لموسى، {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، فالقضية تحتاج فقط إلى مجرد الدخول على القوم الجبارين، وحينئذٍ إذا دخلتموه فإنكم غالبون، {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
وحينئذٍ صرحوا بأنهم لا يملكون أي استعداد إطلاقاً لدخول الأرض المقدسة، {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا} [المائدة:24] فحتى ما قالوا: اذهب أنت وربنا، أو أنت والله سبحانه وتعالى، وإنما بلغ سوء أدبهم مع موسى أن قالوا: ((فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ)) فالقضية ما تعنيهم، القضية تعني موسى، {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] يعني: نحن عندنا استعداد أن ننتظر الآن في هذا المكان، واذهب أنت وقاتل، وإذا فتحت المدينة حينئذٍ لدينا استعداد أن ندخل الأرض المقدسة التي كتب الله لهم.
فقال موسى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25].
وماذا كانت النتيجة؟ النتيجة: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:26].
وحرمت عليهم أربعين سنة، وبقوا في التيه أربعين سنة، ثم ولدت ذرية تربت على القسوة، وعلى الجدية، وتركت حياة الذل والاستعباد، فلما جاء بهم يوشع بن نون خطب بهم فقال: لا يتبعني رجل تزوج امرأة ولما يدخل بها وهو ينتظر أن يدخل بها، ولا يتبعني رجل بنى داراً وهو ينتظر أن يسكنها، ثم ذكر كل ما يقطع الناس ويعلقهم في الحياة الدنيا، فجاء بهذه الصفوة، وقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، وكانت الشمس ستغيب على ليلة السبت، وقد حرم عليهم القتال يوم السبت، ففتح الله عليهم.
إذاً: مع وجود موسى، ومع وجود هارون، ومع وجود الرجلين اللذين يخافان الله سبحانه وتعالى، مع ذلك عندما تخلى الأقوام لم ينتصر موسى، ولم يدخل الأرض المقدسة.
الشاهد هنا: أن الداعية وحده، أو القائد وحده لا يمكن أن يصنع شيئاً ما لم تسر الأمة وراءه، وما لم يكن معه ربيون كثير، يقاتلون في سبيل الله، ولا يهنون، ولا يستكينون، ولا يضعفون لما أصابهم في سبيل الله.
ولذلك يقول الشافعي عن الليث بن سعد: كان الليث أفقه من مالك، ولكن لم يكن له أصحاب يقومون بفقهه، فـ الليث بن سعد على الأقل في رأي الإمام الشافعي أفقه من مالك، ومالك أخذ شهرة ومكانة وأتباع لم يأخذها الليث بن سعد، بل لعلك -للأسف- تجد بعض طلبة العلم قد لا يعرف من هو الليث بن سعد! فما الذي جعل مالكاً يقوم وينتشر مذهبه؟ أنه كان له أصحاب يقومون بمذهبه، فمع أن(47/7)
تكاتف جميع طاقات الأمة لصد مكر الأعداء وعدوانهم
الأمر الخامس: أنه عندما تعمل كل الطاقات، وعندما يسير الجميع في ركاب الصحوة، فستفوت الفرصة على المتربصين بالأمة الدوائر وما أكثرهم، وهاأنتم الآن ترون مصارع إخوانكم في كافة أنحاء العالم الإسلامي، والقوم هم القوم، تشابهت قلوبهم، والقضية واحدة، فقد يختلف التوقيت، وقد يختلف الأسلوب، لكن يجب أن تعلموا حقيقة لا شك فيها أن الأعداء يكيدون لهذه الصحوة، ويتآمرون عليها.
فعندما تكون الصحوة محصورة في إطار معين، وفي فئات معينة فإنه يسهل على الأعداء أن يضربوا هذه الصحوة، ويسهل على الأعداء أن يصنعوا ما يشاءون، لكن عندما تتحول الصحوة إلى تيار جارف، وعندما يكون على الأقل المتعاطفون مع الصحوة جزءاً منها وأناساً عاملين، عندما ننجح فعلاً في توظيف هؤلاء فإننا نفوت فرصة ثمينة على هؤلاء الأعداء فلن يستطيعوا أن يضربوا الصحوة؛ لأنهم حينئذٍ سيواجهون المجتمع، وسيواجهون الأمة بدلاً من أن يواجهوا مجموعة يخيلون للناس أنهم متطرفون، أو أصوليون، أو غلاة، أو غيرها من المصطلحات التي يطلقونها على هؤلاء.
أقول: إذاً لهذه الأمور الخمسة ولغيرها كان لابد من أن تستثمر كافة هذه الطاقات، فالفساد واسع ولا يمكن أن يحيط به آحاد من الناس، والناس طاقاتهم وقدراتهم ومواهبهم تختلف، وكذلك القائد والداعية والموجه للأمة ما لم يسر وراءه أتباعه ويقفوا وراءه، ويشعروا أنهم جزء منه فلا يستطيع أن يصنع شيئاً.
كذلك لا شك أن استغلال هذه الطاقات، وتشغيل هذه الطاقات فيه تفويت وقطع للطريق على الأعداء الذين يتربصون بالصحوة.(47/8)
أصناف الطاقات المعطلة في الأمة
بعد ذلك ننتقل إلى الحديث عن أصناف هذه الطاقات المعطلة، والمعذرة أيها الإخوة! فقد أتحدث عن أصناف من الخيرين، بل ومن الذين نتمنى أن نجالسهم، ونستفيد منهم، فلا يعني أني أتهم جميع الناس، بل أقول فئة من هذا الصنف، وفئة من هذا الصنف، وفئة من هذا الصنف هم لا زالوا طاقة معطلة.
الأمر الثاني: ليست القضية يا إخوة! التراشق بالتهم، ولا القضية اتهام بالتقصير، بل القضية قضيتنا جميعاً، القضية قضية تذكير، القضية أننا ندعو هؤلاء جميعاً إلى أن يقفوا في خندق واحد لمواجهة تيار الفساد، ولمواجهة الأعداء، والقيام بالمهمة.
ثالثاً: إنني حين أقول ذلك أعرف أنني أول المقصرين، وأعرف أني أهمل كثيراً مما أملكه من طاقات ومواهب على ضآلتها، وعلى سذاجتها، وأني أبخل بكثير مما أستطيع أن أقدمه، ولكن القضية قضية تناصح، وتعاون على البر والتقوى قبل أن تكون تراشق بالتهم، أو اتهام للناس بالتقصير؛ لأني أخشى أن يقول أحدكم بعد ذلك: وماذا بقي من طبقات المجتمع عندما تتهم كل هذه الطبقات بأنها طاقات معطلة، أو أن هؤلاء مقصرون؟!(47/9)
من الطاقات المعطلة المتفاعلون مع الدعوة والمحبون لها
أول هذه الطبقات وأهمها: هم ما يمكن أن نسميه -وهذا مصطلح ولا مشاحة في الاصطلاح- الصف الثاني للصحوة، ونعني بهم الناس الذين يتفاعلون مع قضايا الصحوة، فتجده مثلاً يتابع ما يطرحه الدعاة إلى الله عز وجل، ويتضامن معهم، فهو مثلاً يحضر المحاضرات العامة، ويقرأ الكتب والإصدارات التي يصدرها هؤلاء، ويتحدث عن الصحوة مع غيره في المجالس، ويتابع ويتفاعل مع قضايا الصحوة داخل نفسه، ويبدو ذلك أيضاً في حديثه مع الناس.
وهم قطاع كبير في المجتمع، لكن لا يصنع شيئاً وراء ذلك، ولا يقدم أي عمل، وغاية ما يقدمه هو -كما قلت- مجرد التفاعل مع قضايا الصحوة، بل لا أبالغ إذا قلت: إن الكثير الآن من طبقات المجتمع يتفاعلون مع قضايا الصحوة، ومع رواد الصحوة، بدليل أنك تجد مثلاً رواج الشريط الإسلامي، وتجد أن الآلاف يسمعون الشريط الإسلامي، وتجد المحاضرات التي تقام لكبار قادة الصحوة مثلاً أن يحضرها الآلاف من الناس، وهي إنما تقام مثلاً في مدينة واحدة فقط، والآخرون لا يتيسر لهم الحضور، فهذا مظهر من مظاهر التفاعل مع قضايا الصحوة.
والتفاعل مع كافة الأطروحات التي يطرحها الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، ورواد جيل الصحوة، ولكن القضية عند الكثير تقف عند هذا الحد، فهو يسمع الأشرطة، ويحضر المحاضرات، ويقرأ ما يكتب، ويتفاعل فقط داخل نفسه، لكن ما وراء ذلك لا يصنع شيئاً.
أقول: للأسف أن الكثير ممن يتفاعلون مع قضايا الصحوة هم من هذه الفئة، ولو نجحنا فقط في توظيف هذه الطاقات، لو نجحنا في توظيف الذين يستمعون إلينا فعلاً النجاح التام لاستطعنا أن نصنع الشيء الكثير، لكن متى ننجح في ذلك؟ وهذا ما أدعو إليه.
وهذا لا يعني أني أتهم المتحدثين، أو أتهم الدعاة، أو أتهم جيل الصحوة بأنهم قاصرون وعاجزون، كلا فكونهم يكسبون هذا التأييد هذا دليل على أنهم يملكون قدراً كبيراً من النجاح، لكن أقول: نريد أن ننتقل خطوة أكبر من ذلك، أكثر من مجرد أن يسمع حديثنا الناس، أكثر من مجرد أن يتفاعل مع حديثنا الناس، بل أن نستطيع أن نصنع جهود عملية من وراء ما تحدث به.
أن نحرك هذا الجيل الذي يسمع لنا ويؤيدنا، بل أقول يا إخوة! وأنا واثق مما أقول: إن أكثر طبقات المجتمع يتضامن ويؤيد الصحوة، ويقف مع قضايا الصحوة، ولكن تبقى القضية قضية مشاعر قلبية، تبقى القضية تضامن وشعور داخلي قد يتجاوز إلى الحديث في المجالس، والدفاع وتبني قضايا الصحوة، لكن ما وراء ذلك هو ما نريده.(47/10)
من الطاقات المعطلة في المجتمع كثير من طلاب العلم
ثم أنتقل إلى طبقات أخرى قد تكون طبعاً داخلة تحت هذه الطبقة التي أشرت إليها، ومن أهم هذه الطبقات طبقة من طلاب العلم، فطبقة كبيرة من طلاب العلم للأسف هم من الطاقات المعطلة، والأمة أحوج ما تكون إليهم، وهنا أذكر بما قلته قبل قليل، فلا يعني هذا أبداً أنني أتهم طلاب العلم أنهم مقصرون، بل إننا نأنس بحديثهم، والجلوس إليهم، والاستفادة منهم، ونحن جميعاً عالة عليهم.
ولكن أقول: هناك فئة من طلاب العلم بقي الخير قاصراً عنده على نفسه، ويتعلل بأنه عاجز، وبأنه ما عنده قدرات، وبأن واقع المجتمع لا يتطلب ذلك إلى غير ذلك، فيتعلل بعلل وأصناف ووسائل شتى سبق أن تحدثت عنها في حديث سابق، وفي محاضرة سابقة؛ لذا لا أحتاج إلى العودة إليها، كنت تحدثت عنها في محاضرة بعنوان: فتن التهرب من المسئولية.
وحتى نأخذ صورة فقط عن حجم هذه الطاقات فإنك عندما تنظر إحصائيات خريجي الدراسات الشرعية فإنك تصاب بذهول، هذه الأرقام الهائلة في مقابل الجهود المبذولة الآن، وفي مقابل فعلاً مدى انتفاع الناس بها.
فمثلاً: خريجي الدراسات الشرعية في جامعة الإمام وحدها من عام 92هـ إلى عام 1409هـ (9656) طالباً، فهؤلاء لم يتخرجوا من هذه الجامعة في كافة الدراسات، وإنما من الدراسات الشرعية في المرحلة الجامعية وحدها من عام 92هـ إلى عام 1409هـ فقط، وانظر ما قبل عام 92هـ، وما بعد عام 1409هـ من أعوام، فهذه الأفواج الهائلة من خريجي الدراسات الشرعية أين هم؟ وجامعة أم القرى من عام 1401هـ - 1402هـ إلى عام 1409هـ بلغ أيضاً عدد خريجي الدراسات الشرعية (4027) طالباً، وخذ بعد ذلك سائر الخريجين من أقسام الدراسات الإسلامية والدراسات الشرعية في سائر الجامعات.
وخذ بعد ذلك طلبة العلم وخريجي حلق المساجد الذين قد يكون الكثير منهم يفوق هؤلاء الخريجين، وقد تقول لي مثلاً: إن الكثير من خريجي الدراسات الشرعية ليسوا على المستوى المطلوب، وقد تقول: إنهم ضعاف، وقد تقول: فيهم كذا وكذا، لكن هذا خلاف الأصل، فالأصل أن يكون طالب الدراسات الشرعية خاصة في هذا العصر يشعر بدوره، ويرى أثر العلم عليه، ومهما كان فعلى الأقل قد أتيحت له فرصة لدراسة العلم الشرعي لم تتح لغيره، وأما كونه مهملاً، وكونه مقصراً، فهذا أصلاً مظهر من مظاهر تعطل الطاقات.
فالمفترض أن صاحب الدراسات الشرعية سواء كان في المرحلة الثانوية، أو المرحلة الجامعية، أو المراحل العليا، المفترض ألا يفارقه هذا الشعور: أن يرى أن الناس بحاجة ماسة إلى علمه.
وعندما تنتقل مرحلة أخرى أيضاً إلى قطاع أكبر مثلاً فستجد أن خريجي مثلاً المعهد العالي للقضاء، والمعهد العالي للدعوة الإسلامية، وهو يمنح درجات عالية: الماجستير والدكتوراه، في الفترة نفسها (731) طالباً هؤلاء أصحاب تخصصات عليا في الدراسات الشرعية، ناهيك عمن يأخذ أو يحصل على الشهادات العليا من غيرها مثلاً من كليات الجامعة، أو من الجامعات الأخرى، أو ممن هم -كما قلت- رواد المساجد الذين الكثير منهم أفضل بكثير من حملة الشهادات العالية، فأين هذا الرقم الهائل؟ وأين أثرهم في الواقع؟ وأساتذة ثلاثة جامعات فقط: أساتذة الدراسات الشرعية في جامعة الإمام، وجامعة أم القرى، والجامعة الإسلامية من السعوديين وحدهم في عام 1409هـ بلغ عددهم (906)، وهؤلاء لا شك أنهم على مستوى أعلى منا جميعاً، أعلى منا نحن الذين نتحدث عنهم، فنحن -كما قلت- لا نوجه التهمة، ولا نؤيد هذا المنطق أن نوجه التهم للناس بالتقصير والإهمال، لكن أقول: عندما تنظر إلى هذه الأرقام وغيرها، وتنظر إلى الجهود المبذولة: الدروس العلمية في المساجد، والمحاضرات، والواجبات المنوطة بهؤلاء، تتساءل أين البقية؟ ولا أبالغ أيها الإخوة! إذا قلت: إنه لو عمل ربع هذه الطاقات فقط لتغير الأمر، فتجد الآن مثلاً عندما يكون لأحد الإخوة قدر ضئيل من العلم، ومستواه الفكري قدراته ضئيلة ومحدودة، فبمجرد أن تظهر له محاضرة أو محاضرتان في التسجيلات، وأصبحت أشرطته تتداول، إلا تنهال عليه الطلبات الهائلة التي لا يستطيع حتى أن يوفق بينها.
وأقول أيها الإخوة: لو أن فقط هذا الصنف من المحاضرين تفرغ لنشاط المحاضرات وحدها، وتفرغ لتلبية الطلبات التي ترد عليه لم يستطع أن يلبي جميع هذه الطلبات، فكيف به وهو منوط به أعمال أخرى كثيرة، ناهيك عن ظروفه ومشاغله الخاصة.
أين البقية؟ لو كان كل واحد من هؤلاء من طلبة العلم يشعر بدوره وواجبه، ويقوم بجهد ولو كان ضئيلاً لتغيرت الصورة، ولخف العبء على أولئك الذين -وأنا أولهم- يعرفون أنهم ليسوا أهلاً لترقي مثل هذه المراقي أو هذه المنابر التي نتحدث من خلالها، وأرى أنه لو قام بعض هؤلاء الأكفاء بواجبهم لما استطعنا أن نجد لنا مكاناً في مثل هذه المنابر، ولبحثنا عن مكان آخر نستطيع أن نقدم منه خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، لكن الإنسان عندما يجد الساحة فارغة يرى أنه غير معذور إذا لم يدل بدلوه.(47/11)
من الطاقات المعطلة بعض خطباء الجوامع
طبقة أخرى أيضاً، وفئة أخرى من الطاقات المعطلة: بعض خطباء الجوامع: أقول: يا إخوة! خطبة الجمعة بحاجة إلى إعادة نظر، ولا شك أن هناك فئة من الخطباء لسنا نحن نتحدث عنهم ولا نقيمهم، بل أظن أن ثناءنا عليهم يعتبر غضاً من شأنهم، فهم أكبر من أن نثني عليهم، وأكبر من أن نشيد بدورهم، لكن البقية أين دورهم؟ فمثلاً هل هو وضع طبيعي أن يوجد في مدينة مثل مدينة الرياض عشرة خطباء أو خمسة عشر خطيب يجتمع الناس حولهم، والبقية الذين يتحدثون لسائر المسلمين ما شأنهم؟ وما دورهم؟ ولو نجحنا في توظيف خطباء الجوامع وحدهم فعلاً، وأصبح خطيب الجمعة يشعر بأن القضية أمانة مسئولية، وأن خطبة الجمعة تستمع إليها الملائكة، وأن خطبة الجمعة يجب على كل مسلم أن يسعى إليها، وأنه يجب عليه الإنصات، إنها أمر الله سبحانه وتعالى للمسلمين جميعاً بأن يسعوا إلى ذكر الله، وأن يسعوا ليسمعوا هذا الذكر.
لو كان كل خطيب يشعر بهذا الشعور، ويشعر بثقل الأمانة والمسئولية ويعتني بما يقدمه للناس لتغيرت الصورة.
ولمَ لم ينجح هؤلاء فعلاً في توظيف الناس في خدمة دين الله سبحانه وتعالى؟ لمَ لم ينجح هؤلاء في أن يتوب على أيديهم عدد كبير من العصاة؟ لما ترى الكثير مثلاً من هؤلاء الخطباء عندما يأتي لخطبته فكأن الخطبة جبل ثقيل يريد أن يتخلص منه، فيجمع النصوص من هنا وهناك، مجموعة أحاديث، وبعض الآيات، وقال فلان وقال فلان من الناس، ويقرأ الخطبة، والجميع ينظر إلى ساعته ينتظر أن تنتهي هذه الخطبة ليغادر المسجد.
فمثلاً: هل هؤلاء الخطباء يعالجون قضايا الشباب وانحراف الشباب فعلاً بعمق؟ سبق أن أجريت دراسة لمجموعة من الشباب، فكان 75% منهم يرى أنه لا يستفيد من خطبة الجمعة، ويرى أن خطبة الجمعة لا تدعوه إلى الالتزام والاستقامة، يعني: أنها لا تعالج قضايا الشباب.
وأنا أجزم أن خطيب الجمعة لو عالج مشكلة من مشاكل الشباب، لو عالج قضية مثلاً المعاكسات الهاتفية، وتحدث عنها فعلاً بعمق، وبعيداً عن العاطفة، وبعيداً عن أساليب الإثارة، وبعيداً عن مجرد استثارة العواطف، وتحدث عنها حديثاً علمياً، وبذل جهد فعلاً، وأحضر وقائع، لاستطاع أن يقنع الكثير من الناس، وأن يقنع الآباء والفتيات والشباب.
ولو تحدث للشباب بمنطق العقل، ومنطق الإقناع عن النهاية لطريق الشهوات والسير وراءها، وتحدث عن الضريبة التي يدفعها هؤلاء عندما يسيرون في طريق الغواية، ولو تحدث عن كثير من هذه الأمراض، وأنا لا أريد أن تكون خطب الخطيب بهذا الشكل، أنا أريد من خطيب الجمعة أن يخصص له خطبة في الشهر أو كل شهرين يهتم فيها بقضية من قضايا المجتمع، ومشكلة من مشاكل المجتمع فإن الناس جميعاً يخرجون وهم يشعرون أن القضية تعنيهم، ويشعرون أن الخطيب قدم لهم شيئاً جديداً.
فيجتهد الخطيب ويقرأ، ويطلع، ويتابع الدراسات والإحصائيات، ويتابع ما يطرح في الصحف، ويستطلع آراء الناس ويستفيد، ويجمع من هنا وهناك، ثم يقدم مادة جيدة للناس، لو أن الخطباء سلكوا هذا الأسلوب وهذا المنهج، وصار عندهم عمق في طرح هذه القضايا لصنعوا الشيء الكثير.
وليس عيباً أيها الإخوة! ليس عيباً أن يقول الشاب: أنا ما عندي قدرة على خطابة الجمعة، فليس المؤهل كي تكون إمام جامع أن تكون مجرد شاب ملتزم، ليس صحيحاً أن كل شاب ملتزم يكون خطيباً، بل أحياناً ليس كل طالب علم مؤهلاً لأن يكون خطيب جمعة.
فالخطابة لها مواصفات معينة، فما الذي يمنع الإنسان أن يقول: والله هذا المكان ليس لي، وأنا غير مؤهل لأن أتولى خطابة الجمعة، ويتولاها من هو خير مني.
ثم افترض أنك توليت الخطابة، فما الذي يمنعك أنك تستعين بأحد الناس الذين عندهم قدرات؟ فإذا كان هناك شخص مثلاً تعرف أنه ليس خطيب جمعة، فتطلب منه يوم من الأيام أن يقدم خطبة، وأنت مستهلك فحتى لو كنت أكثر منه طاقة فالناس قد سمعوا كل ما عندك، فعندما يأتي هذا الرجل فإنه يستطيع أن يقدم لهم شيئاً كثيراً بجهد قليل؛ نظراً لأنه لأول مرة يقف أمامهم.
فما الذي يمنع خطيب الجمعة أن يدعو فلاناً من الناس ويقول: أريدك أن تقدم خطبة للناس؟ وما الذي يمنعه أن يتقدم إلى فلان أو فلان من الناس ويقول: أريد أن أخطب في هذا الموضوع، فأعطني بعض العناصر، وأعطني بعض الأفكار، ويسترشد بآراء الغير؟ وأنا لا أدعو الخطيب إلى أن يسلك هذا الأسلوب في كل خطبة؛ فهذا أمر يصعب عليه، لكن أقول مثلاً: ليجعل خطبة واحدة في الشهر، أو خطبة كل شهرين يعتني بها هذه العناية.
والأصل يا إخوة! أن يكون خطباء الجوامع كلهم فعلاً يسيرون وراء هذا المنهج، لكن عندما يكون الخطباء المشهورون يأتي الناس إليهم، والذين لم يصلوا معهم سيسمعون الأشرطة التي تطرح في التسجيلات، لكن أريد من يخاطب الناس الذين لا يصلون إلا الجمعة، أريد من يخاطب الناس الذين لا يسمعون الخطب والمحاضرات وإنما يسمعون أشرطة الغناء الساقط، وإنما يتابعون الأفلام الساقطة، فأحدهم يأتي لصلاة الجمعة نظراً لأنه ملزم أن يحضر خطبة الجمعة، فأريد من يخاطب هؤلاء، فهذا لا يبحث عن فلان وفلان(47/12)
من الطاقات المعطلة طلاب المدارس
كذلك من الطاقات المعطلة أيضاً: طلاب المدارس: كثير من طلاب المرحلة الثانوية والمرحلة المتوسطة فعلاً أشعر أنهم طاقات معطلة، لماذا؟ نأتي مثلاً إلى ثانوية من الثانويات كم فيها من الشباب الملتزمين الذين تجدهم رهن الإشارة، هم -كما قلنا- من الطبقة التي تحدثنا عنها في البداية من الجيل الثاني للصحوة، فعنده استعداد يسمع أي توجيه، وعنده استعداد ينفذ أي برنامج يطرح عليه، فيستجيب لأي أمر ولأي توجيه، فكم ستجد مثلاً في هذه الثانوية؟ أفترض مثلاً أنا وجدنا ثلاثين شاباً، ففي بداية السنة كان عندنا ثلاثون شاباً، وانتهت السنة فما النتيجة؟ وما أثر هؤلاء الشباب؟ وكم شاب اهتدى على أيديهم؟ وكم زاد العدد؟ قد يزيد العدد خمسة ستة، بمقابل الخسائر التي نخسرها، وقد تكون هذه الزيادات أحياناً نتائج عفوية لم تكن وراءها جهود مبذولة.
لكن لو كان هؤلاء الطلاب مثلاً فعلاً طاقات عاملة، وأنا ما أريد من الطالب أن يهتدي على يديه جميع الطلاب، لكن لو كان للطالب محاولة واحدة كل شهر، وأشهر الدراسة إذا حذفنا أيام الامتحانات والإجازات وغيرها ستكون ستة أشهر، سيكون عندك كم محاولة في السنة؟ ست محاولات، وإذا كان عندي ثلاثون طالباً، فكم سيكون عندي من المحاولات؟ ستكون مائة وثمانين محاولة.
افترض يا أخي! أننا نجحنا بنسبة 10% فقط، 10% من جهودنا نجحت، 90% فاشلة فكم سيهتدي على يد هؤلاء الثلاثين شاباً؟ سيهتدي ثمانية عشر، أي: أكثر من النصف، يعني: عندما ننجح بنسبة 10% فسيزيد العدد بمقدار النصف، مع أن المفترض ألا تكون محاولة الشاب مجرد مرة واحدة في الشهر، والمفترض أن تكون النتائج أكثر من 10%، يعني: من كل عشر محاولات تنجح محاولة واحدة، فافترض أن نسبة النجاح 5%، وأن 95% من الجهود التي يبذلها هؤلاء الشباب في استصلاح الشباب الآخرين تفشل، فستكون النتيجة أن يهتدي على يد كل ثلاثين شاباً تسعة شباب، يعني: بمقدار الثلث.
وتخيل معي بعد أربع سنوات أو خمس سنوات كم سيزيد الرقم؟ تخيل النتائج التي تحصل بعد ذلك لو أجدنا استغلال هذه الطاقات.
وهؤلاء الشباب والطلاب الذين لديهم تقصير لا أحملهم المسئولية وإنما أحملها الأساتذة، وأحملها موجهيهم، فهؤلاء عندهم استعداد، بدليل أنك عندما تقترح عليهم أي اقتراح تجد أنهم يبادرون في تنفيذه، لكن يحتاجون إلى من يأخذ بأيديهم ويقول: هذا هو الطريق، وبحاجة إلى من يشير لهم وسيسيرون بمجرد الإشارة.
ألا توافقون أيها الإخوة! أن هذا أيضاً هو الآخر قطاع كبير معطل فعلاً، ولو أن هؤلاء الشباب أدوا أدوارهم لتغيرت الصورة.
إذاً: إذا استطعنا أن نوظف هؤلاء الشباب فسننجح كثيراً.
وعلى كل حال هناك خواطر كثيرة حول هذا الموضوع: موضوع الطلاب سبق أن أشرت إليها في المحاضرة السابقة، ولعلي أيضاً أن أخصص لهذا الموضوع إن شاء الله محاضرة مستقلة.(47/13)
من الطاقات المعطلة أصحاب المواهب
كذلك من الطاقات المعطلة أيضاً: أصحاب المواهب أو الموهوبون: وللأسف نحن أسوأ الأمم والمجتمعات برعاية الموهوبين، فالدول الأخرى عندها شيء اسمه رعاية الموهوبين، وهو غير موجود في مجتمعاتنا إطلاقاً، فهناك مدارس خاصة بالموهوبين، ودراسات خاصة، ومؤتمرات خاصة لتدريس الموهوبين ورعايتهم، وهناك دراسة أجراها مكتب التربية العربي لدول الخليج عن واقع الموهوبين في دول الخليج العربي فإذا قرأتها فستنصدم عندما ترى ما فيها من النتائج.
فهناك سؤال وجه لوزارات التعليم في دول الخليج: هل توجد إدارة أو جهة مسئولة عن الموهوبين؟ فالجميع أجاب بلا ما عدا البحرين.
وهناك أسئلة أخرى: هل توجد خطط تربوية خاصة بالموهوبين؟ وهل توجد تشريعات تربوية خاصة بالموهوبين؟ وهل توجد مناهج دراسية خاصة بالموهوبين؟ وهل توجد برامج تربوية خاصة بالموهوبين؟ وهل يوجد معلمون متخصصون في التعامل مع الموهوبين؟ وهل هناك متابعة للطلاب الموهوبين؟ فالجميع أجاب: بلا.
فهذا واقع الموهوبين عندنا، لكن نحن لا نخاطب أولئك فلهم من يتحدث معهم، نخاطب الدعاة والأساتذة، فنقول: يجب أن نلتفت إلى هذا الجانب، أعني: الطاقات الموهوبة، وهذا أمر شرعي، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الناس كالإبل المائة لا تكاد تجد فيها راحلة)، فالناس يختلفون: طاقات ومواهب.
والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يقول: (مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء) إلى آخر الحديث.
ويقول: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا).
فعل كل حال ليس هذا وقت التأصيل لهذه القضية، لكن هذه القضية معروفة شرعاً، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يحرص على إيمان فئة من الناس يعلم أن لإيمانهم ودخولهم في الإسلام أثراً في خدمة الإسلام والمسلمين.
فما مدى عناية الأساتذة بهؤلاء الموهوبين؟ أنت أستاذ تدرس في مدرسة وعندك طالب شاعر، أو عندك طالب ذكي، أو عندك طالب يملك أي مواهب معينة وقدرات معينة، فما مدى عنايتك بتوجيهه ورعايته؟ وبعبارة أخرى: ما مدى عنايتك بتوظيف مثل هذه الطاقة لخدمة الأمة؟ فبدلاً من أن يكون هذا شاعراً شعبياً يكتب في صفحة الأدب الشعبي، وبدل من أن يمدح فلاناً وفلاناً من الناس نريده يا أخي أن يوظف هذه الطاقة لخدمة دين الله سبحانه وتعالى.
وأنا أمامي مرحلتان مع هؤلاء الموهوبين: المرحلة الأولى: أن يكون هذا الموهوب أحد المتابعين، أو أحد العاملين فعلاً في جيل الصحوة، وحوله إلى إنسان مهتدي وإنسان عامل، إنسان فعلاً يشعر بأن الدعوة هي همه وهي كل شيء، إذا ما نجح في الأمر هذا، ولم أنجح في تربيته التربية الكاملة على الأقل يا أخي أوجد عنده قناعات، على الأقل أكسبه كمؤيد، وكرجل على الأقل محايد، وقد تكون كلامات محدودة أوجهها لمثل هذا الموهوب تجعله يوجه مساره إلى خدمة هذا الدين، وخدمة قضايا الأمة.
ويجب أيضاً أن ينتبه إخواننا الكرام إلى أن الموهوب ليس هو الذكي فقط، لا، لا شك أن الأذكياء طبقة من طبقات الموهوبين، لكن غيرهم كل من يملك طاقة وقدرة وموهبة ليست عند الآخرين فهو رجل موهوب نحن بحاجة إلى توظيفه.
ولذا فأنا هنا أدعو الأساتذة الذين يملكون الغيرة فعلاً على واقع الأمة أن يحرصوا على هؤلاء ويعتنوا بهم، سواء في استصلاحهم وهدايتهم لأن فيهم الخير الكثير، أو على الأقل في دعوتهم وتوجيههم بكافة الوسائل؛ لتوظيف طاقاتهم لخدمة قضايا الأمة.(47/14)
من الطاقات المعطلة أصحاب المهن الحرة
كذلك من الطاقات المعطلة: أصحاب المهن الحرة كالتجار مثلاً، فالآن الصحوة لها انتشار طيب في قطاع التعليم وقطاع الطلاب، لكن ما مدى انتشار الصحوة في قطاع التجار، وفي قطاع العمالة، فالقطاعات الأخرى تجدها قطاعات بعيدة فعلاً عن هذا الأمر.
وسنعطيكم تصوراً بسيطاً جداً لذلك، فمثلاً هناك مشكلة نعاني منها كثيراً في المجتمع وهي مشكلة السفور، فتخيلوا لو وجد عندنا مثلاً في سوق من الأسواق خاصة أسواق الملابس الجاهزة، أو الأسواق التي تعرض منتجات تحتاج إليها المرأة، لو كان عندنا في هذا السوق أكثر من تاجر مستقيم ملتزم، أو على الأقل -بعبارة أوضح- أكثر من تاجر واستطعنا أن نوظفه لخدمة الدعوة فعلاً، فعندما تأتيه امرأة متبرجة يقول لها: أنا أرفض أن أبيع للمرأة المتبرجة.
يرفض أن يبيع للمرأة المتبرجة، ويضع لافتة على المحل يكتب فيها آية أو حديثاً، ويقول: لذا نرفض أن نبيع للنساء المتبرجات.
لا شك أنه سيساهم فعلاً بدور كبير في مواجهة الفساد، وستسخر منه المرأة المتبرجة قطعاً، وستعرض عنه، لكنها عندما تذهب إلى المنزل فإنها ستقول: لا أستغرب أنا أن أسمع هذه الكلمة مثلاً من رجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو من خطيب المسجد، لكن لما أسمع هذه الكلمة من التاجر، ومن صاحب المحل، وأسمع الكلمة من الرجل الآخر، ومن فلان وفلان من الناس، فسيدعوها هذا إلى أن تعيد النظر في نفسها، وأن تعيد النظر في هذا التبرج والسفور التي قد وقعت فيه.
والآن بدأنا نرى وجود محلات خياطة لا تفصل مثلاً ثياباً أسفل من الكعبين، وهذا مظهر طيب، وأنا لا أقول: إن القضية هذه ستحل مشاكل الأمة، لكن هذا مظهر طيب من مظاهر الصحوة، ومظهر يشعر الناس أن الصحوة بدأت تمتد في مجال أوسع، ومدى أوسع.
وعندما يوجد عندنا أيضاً في وسط الأسواق الذي فيها تبرج وسفور محلات لا تبيع الأزياء المخالفة، وعندما يوجد صاحب المحل الذي يحمل عاطفة خيرة، والكثير من هؤلاء طيبون، فهل تتصورون مثلاً أن أصحاب المحلات كلهم أناس سيئون، لا، ولذلك أحياناً عندما تأتي صاحب المحل وتتحدث معه تجده يعاني من السفور الموجود في السوق، بل أحياناً بعضهم يترك المحل ويترك هذه التجارة؛ نظراً لأنه لا يطيق أن يبقى في هذا المكان.
وأنا أعتبر هذا الموقف غير سليم، فإذا كان الإنسان متزوجاً، وعنده قدر من التحمل فيجب عليه أن يبقى في السوق، فإذا كان هؤلاء الخيرون سيتركون هذا الميدان فسيبقى الميدان لمن يتمنى أن يرى المرأة متبرجة لينظر إليها.
فأقول مثلاً: لو استطعنا أن نوظف هذه الطاقات، أصحاب المهن الحرة: التجار، وأصحاب المحلات التجارية، وكافة طبقات المجتمع، أن نوظف هؤلاء لخدمة قضايا الدعوة لكان خيراً كثيراً، ولا يشترط أن يأتي مثل هذا الرجل ويسجل في المركز الصيفي، أو يجلس في حلقة من حلقات تحفيظ القرآن حتى يكون من جيل الصحوة، لا، لكن عندما نخاطب هؤلاء، ونشعر هؤلاء، ونقدم لهم برامج فعلاً للدعوة، فنقول: أنت تستطيع أن تقدم خدمة للدعوة عندما تصنع كذا وكذا، فأجزم أن هناك فئة كبيرة عندها استعداد أن تساهم.(47/15)
من الطاقات المعطلة المرأة
كذلك من الطاقات المعطلة: المرأة والحديث عن المرأة حديث ذو شجون، وأظن أننا قد أخذنا نصيب الأسد من الوقت ولم نأت على نصف ما أردنا أن نأتي عليه في هذه المحاضرة، فلعلي أن أختصر.
فعندنا عدد من النساء متعلمات وعندهن قدرة على التعامل مع المراجع، وعلى التعامل مع الكتب، وعندهن قدرة على الاستفادة والإفادة، فالوقت الذي يضيع عليها وقت هام، فلو أن مثلاً المرأة استغلت جزءاً من وقت الفراغ وقامت مثلاً بإعداد عناصر لبعض الموضوعات، فتجمع بعض النصوص مثلاً، وبعض الشواهد، وتجمع بعض ما ينشر في الصحف، فتجمع مثل هذه القضايا وتوصلها إلى خطيب الجامع مثلاً عن طريق أحد محارمها، أو ترسلها مثلاً إلى أحد الدعاة، أو أحد المهتمين بهذه القضية، أو حتى لو استطاعت أن تخدم زوجها في مثل هذه القضايا، فإنها تقدم خيراً كثيراً، وتوفر لهؤلاء وقتاً يمكن أن يصرفوه لأمر آخر.
وكذلك المرأة مثلاً تتعامل مع مجتمع لا نستطيع أن نتعامل معه نحن، فالخطباء والدعاة يستطيعون أن يتحدثون مع النساء اللاتي يأتين إلى المسجد عندما تكون محاضرة في المسجد، في مكان مخصص للنساء، أو فقط اللاتي يسمعن الشريط الإسلامي، لكن القطاع الكبير والواسع من يتعامل معه؟ ما يتعامل معه إلا المرأة.
فما مدى أداء المرأة المدرسة لدورها؟ والمرأة التي تلتقي بالنساء في المجتمعات العامة كالأفراح والمناسبات، وإذا كان الآن الأستاذ مثلاً، وأتحدث أيضاً عن نفسي نحن جميعاً نحتاج إلى الخبرة، ونسأل المختصين كيف نستطيع أن نؤثر على الطلاب؟ وكيف نستطيع أن نوجه الطلاب؟ إذا كان الأستاذ وهو الذي يتعامل مع الناس الآن، ومفتوح على أبواب الصحوة على مصراعيها، فكيف بالمرأة التي لا تجد من يربيها، ولا تجد من يوجهها، غاية ما عندها من الثقافة ما تسمعه من الأشرطة، أو ما تقرأه في الكتب، فالمرأة أيضاً أحوج ما تكون إلى أن يرسم لها برامج، وأن تفتح لها آفاق تستطيع أن تعمل من خلالها.(47/16)
الوسائل المقترحة لاستغلال الطاقات الموجودة في المجتمع
بعد ذلك ننتقل إلى وسائل مقترحة لاستغلال هذه الطاقات: ن أن لعلي أن أذكركم مرة أخرى بما قلته في المقدمة: أنني لا أريد أن أضع النقاط على الحروف، ولن أستطيع، وعندما أدعي ذلك، بل عندما أحاول أن أضع النقاط على الحروف في مثل هذا الموضوع، وأوجد الحلول لمثل هذه المشكلة أعرف أنني أرتقي مكانة ليست لي، وأعرف أنني أتشبع بما لم أعط، لكن على الأقل يكفي أن أثير الموضوع؛ ليتولى من هو أعلم مني ومن هو خير مني دراسة مثل هذا الموضوع، والعناية به، وإيجاد الحلول.
لكن لعلي أشير باختصار إلى أهم ما أراه من وجهة نظري من بعض الوسائل والأساليب التي يمكن أن نستطيع من خلالها أن نوظف هذه الطاقات:(47/17)
مخاطبة الناس بأهمية الدعوة، وتنبيههم على أنهم مخاطبون بها
أولاً: أن نركز في حديثنا في الخطب، وحديث الأستاذ في الفصل، والحديث مع الناس في مجتمعاتهم العامة على أهمية الدعوة، وعلى شمول الدعوة، وعلى أن الناس جميعاً مخاطبون بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأنها ليست خاصة بفئة دون أخرى.(47/18)
بيان مراتب فضائل الأعمال
كذلك من الوسائل: بيان مراتب فضائل الأعمال.
فإنك تجد فئة كبيرة من الناس عندهم حرص على العبادة، وعندهم حرص على نوافل العبادات، وعلى نوافل الطاعات، وعندهم اجتهاد مثلاً في أمور من الخير نتمنى أن نملك قدراً من هذا الاجتهاد الذي لديهم.
والكثير من هؤلاء إنما يؤتى من جهله بمراتب فضائل الأعمال، ولذا من وسائل الشيطان وأساليب الشيطان في إضلال الناس أن يشغل العابد بالمفضول عن الفاضل، ولا شك أنه كما قال ابن الجوزي: ألست تبغي القرب منه -يعني: من الله سبحانه وتعالى-؟ فاشتغل بدلالة عباده عليه، فهي حالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أما علمت أنهم آثروا تعليم الخلق على خلوات التعبد؛ لعلمهم أن ذلك آثر عند حبيبهم.
والإمام ابن القيم رحمه الله يقول: الشجاع الشديد الذي يهاب العدو سطوته: وقوفه في الصف ساعة، وجهاده أعداء الله أفضل من الحج والصوم والصدقة والتطوع، والعالم الذي عرف السنة، والحلال والحرام، وطرق الخير والشر: مخالطته للناس، وتعليمهم ونصحهم في دينهم أفضل من اعتزاله، وتفريغ وقته للصلاة، وقراءة القرآن، والتسبيح.
وقبل ذلك كله يقول الله سبحانه وتعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:19].
فأنا أرى أنه من وسائل تشغيل هذه الطاقات: أن يعرف هؤلاء مراتب فضائل الأعمال، وأن من أفضل الأعمال الانشغال بنفع الناس، وأفضل نفع للناس هو إنقاذهم من الضلال، إنقاذهم من الظلمات إلى النور.
أليس الله سبحانه وتعالى يقول: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114]؟ فالله سبحانه وتعالى رتب الأجر العظيم على هذه الأعمال؛ لأنها أعمال متعدية للناس نفعها ليس قاصراً على صاحبها وحده.(47/19)
اقتراح برامج للناس وطرحها
كذلك أيضاً من الوسائل: اقتراح برامج للناس وطرحها.
فلا يكفي مثلاً أن نطالب الناس بالدعوة، وأن نطالب الناس بالمساهمة في أمور الخير، وأن نقول للناس: إنكم قادرون أن تبذلوا، وأن تصنعوا كذا وكذا، بل الناس كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة).
فلو تأتي إلى الإبل المائة مثلاً لو توجها ستسير في الطريق، والراحلة تنتفع بها أكثر من غيرها، لكن تبقى تسع وتسعون يمكن أن ينتفع بها، وإذا وجهتها توجهت.
فالناس لا يكفي أن تقول لهم: اعملوا، اصنعوا، افعلوا كذا وكذا، ليس كل الناس قادرين على ذلك، القادرون هم طبقة معينة من الناس أو فئة من الناس الذي بمجرد أنه يستشعر المسئولية، ويدرك الأمانة هو من تلقاء نفسه فإنه يبتكر الأساليب والوسائل، فهو يدرك ماذا يصنع، هؤلاء فئة قليلة، لكن البقية ينتظرون أن يرسم لهم برنامج محدد، فمثلاً عندما يحصل منكر ونطالب الناس بتغييره ينبغي أن نرسم لهم برنامجاً واضحاً، فنقول: افعلوا كذا وكذا وكذا، ثم بعد ذلك نفتح المجال للرواحل، نفتح المجال للطاقات أن تبدع بعد ذلك فيما وراء ذلك.
وهكذا مثلاً عندما نخاطب التاجر ونطالبه أن يساهم في الدعوة، فنقول له: اصنع كذا وكذا وكذا، وعندما نخاطب الطالب، فالأستاذ مثلاً عندما يقول لطلابه، سواء طلابه في الفصل عموماً، أو الطلاب الذين هم أخص من ذلك الذين يتلقون منه التوجيه، ويثقون به، ويسمعون كل ما يقول، عندما يحثهم على الدعوة، ويشجعهم، ويثير حماستهم، فسيتحمس الجميع.
لكن ماذا بعد ذلك؟ يجب أن ننتقل إلى خطوة أخرى، فنرسم لهم برامج واضحة محددة مقنعة يستطيع هؤلاء أن يصنعوها، ونحدد لهم الخطوات، ونرسم لهم البرامج، فحينئذٍ تجزم أن هؤلاء سيصنعون شيئاً.
وأضرب لكم مثالاً: لو جاء أستاذ وتحدث مع الطلاب عموماً عن ضرورة الدعوة، والحاجة إليها، ولا تحتقرون أنفسكم، وافعلوا وافعلوا، فسينصرف الجميع وهو يحمل في نفسه قناعة، ويحمل في نفسه شعور وتوجه نحو الدعوة، لكن لا يدري بعد ذلك ماذا يصنع، بدليل مثلاً أنك تجد الأسئلة بعد ذلك: ماذا أصنع؟ وماذا علي؟ عرفت أن الدعوة مهمة فماذا أصنع؟ وما الحل لهذه المشكلة؟ لكن لو قال مثلاً لهم: من الحلول مثلاً أن تصنعوا كذا وكذا، والفصل فيه مثلاً ثلاثون طالباً، وفيه خمسة من الشباب الأخيار، لو يجتمع كل واحد منهم مثلاً ويدفع شهرياً مثلاً عشرين ريالاً فقط، فسيكون عندنا مائة ريال، وعندنا ثلاثون طالباً إذا نسخنا شريطاً بثلاثة ريالات فسنستطيع أن نعطي جميع طلاب الفصل نسخة من هذا الشريط.
فأنا أجزم أن الأستاذ عندما يقترح مثل هذا البرنامج على الطلاب فإنه سيجد منهم المبادرة إلى تنفيذه، لكن لو كان يحدثهم عن الدعوة عموماً، وعن مجالات الدعوة الواسعة فقد لا يهتدوا إلى مثل هذه الفكرة أو تلك.
فأقول يا إخوة: لا يكفي فقط أن ندعو الناس إلى الدعوة، ولا يكفي أيضاً أن نتهم الناس بالتقصير: أنتم مقصرون في الدعوة، وما عندكم غيرة، وما عندكم اهتمام، وقائمة من التهم التي نصف بها هؤلاء الناس، والمشكلة أننا لا نوجه هذا الكلام إلا إلى الناس الخيرين الذين يسمعون لنا.
فأنا مثلاً عندما أتحدث وأقول: أنتم مقصرون في الدعوة، وأنتم ما عندكم غيرة، وما عندكم حمية، من يسمع لي؟ يسمع لي الناس الأخيار، يسمع لي رواد الصحوة، فما يكفي هذا الأسلوب، ولا شك أن بيان الأخطاء مطلوب، لكن بأسلوب، لكن خير من ذلك كله أن أرسم البرامج للناس يسيرون وراءها.
الأسلوب الآخر: مثل هذا الأسلوب لكنه نقلة أخرى، وهو أن نقوم بإشراك هؤلاء في برامج عملية، يعني: نحن ننظم البرامج، ونجعل هؤلاء يشاركون فيها، فمثلاً بدلاً من أن أقوم أنا بالعبء لوحدي، أو يقوم بالعبء مثلاً خمسة من الشباب الذين يمكن أن يعملوا أعمالاً أخرى، ويستغلوا ميادين أخرى، ممكن يقوم واحد من هؤلاء الشباب ويستغل عشرة من الطاقات المعطلة، وسيجد فئة كبيرة من طبقات المجتمع عندها استعداد أن تتعاون معه.
فيرسم البرنامج، ويقوم هو بنفسه على هذا البرنامج، فيقوم الجميع وراءه، ويسيرون معه، فنستطيع هنا أن نشغل هذه الطاقات، ونستطيع أن نشعر الناس أنهم قادرون على أن يعملوا، ونستطيع أن نوفر أوقات نحتاج إليها عندما تكون كل الأعمال والأعباء علينا.
وانظروا مثلاً إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم لما جاء قوم من مضر عامتهم من مضر، بل كلهم من مضر، مجتابي النمار، فرقّ النبي صلى الله عليه وسلم لحالهم، فدخل وخرج، وتغير وجهه، فصعد المنبر وقال: (تصدق رجل من بره، تصدق رجل من درهمه، من ديناره)، فما تصدق أحد، حتى جاء رجل من الأنصار معه صرة كادت يده أن تعجز عنها، بل قد عجزت عنها، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فتتابع الناس.
يقول الراوي: حتى رأيت كومين من طعام وثياب عند النبي صلى الله عليه وسلم، حتى تهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة).
فالنبي(47/20)
أن نشعر الناس أنهم جزء من الصحوة
كذلك من وسائل أيضاً استغلال هذه الطاقات: أن نشعر الناس أنهم جزء من الصحوة، فما يشعر الناس أن القضية أن هناك أعداء، هناك أناس مؤيدون أصحاب الصحوة، ونحن جمهور المتفرجين دورنا فقط هو التصفيق والتأييد.
فهناك قطاع كبير من الناس يشعر بأن دوره هو التأييد، فيقف ويسمع وينظر من بعيد، لكن لما نشعر هؤلاء بأنهم جزء من الصحوة أصلاً، فنقول لأحدهم: أنت جزء من الصحوة، فيجب أن تشعر أنك إذا استهدف فلان أنك أنت مستهدف، الأعداء ما يستهدفون الدعاة وحدهم، وإنما أيضاً يستهدفونك أنت، فالدعاة فقط مجرد قادة، ومجرد أعلام، وأنت يجب أن تسير وراءهم.
فعندما نشعر الناس بهذا، ونقضي على الحاجز هذا: أن القضية مجرد مجموعة من الناس هم جيل الصحوة، والمجتمع بمعزل، لا، لابد أن نكسر هذا الحاجز، ونشعر الناس بأنهم جميعاً أبناء الصحوة، فلا شك أن هذا يدعوهم إلى أن يساهموا أكثر، وأن يقدموا خدمات أكثر للصحوة.(47/21)
تغيير لغة التخاطب مع الناس
أسلوب سابع: تغيير لغة التخاطب مع الناس.
أظن مثلاً يعني الحديث مع الناس: هذا حرام، والكثير من الناس يستهينون به، ولا يعبأون بحدود الله، وحرمات الله، هذا الهجوم الشرس على الناس أظن أنه ليس وحده أسلوب الموعظة الناجح، وكذلك الحديث العاطفي الذي يأخذ قدراً كبيراً من المبالغة، وإلهاب عواطف الناس وحماس الناس، مما يجعلهم يأخذون ردة فعل معاكسة ليس هو الأسلوب وحده أيضاً الذي يؤدي إلى إقناع الناس.
أحد الخطباء الغيورين خطب وتحدث مع الناس عن مشكلة موجودة، وللأسف ليست حالات فردية، ولا حالات نادرة، بل حالات منتشرة، وهي أن بعض الفتيات يخرجن مثلاً في الليل دون أن يعلم عنهن أولياء الأمور، فهي ظاهرة موجودة ومشكلة موجودة في المجتمع، فالكثير من أولياء هؤلاء الفتيات لا يعلمون.
فالخطيب يريد أن يتحدث عن هذه المشكلة، وعن مشكلة العلاقات السيئة بين الفتيات وبين الشباب، فبالغ في الموضوع، وضخم الأمر، وقال: يجب على كل أب أن يستيقظ الساعة الواحدة، ويذهب يتفقد ابنته هل هي في الفراش أم لا! وضخم الموضوع، حتى يقول لي أحد الحاضرين: خرجت وأنا أشك في والدتي، وأنا أشك بأمي أنها تستيقظ نصف الليل وتذهب مع بعض الشباب.
فالخطيب يريد أن يعالج قضية فعلاً مهمة، وقضية حساسة، لكنه عندما يندفع بهذه العاطفة، ويتجاوز ويبالغ، فالنتيجة ستكون ردة فعل، أو النتيجة أن يقول الناس: هذا إنسان عاطفي، لكن لو كان يعالج المشكلة فعلاً بعقلانية وبمنطق، ويتحدث مع الناس بأسلوب مناسب، ويطرح حلولاً معقولة، ويتعامل مع الناس بالثقة، فأظن أن الصورة ستختلف كثيراً.
كذلك مثلاً عندما أتحدث مع ناس يقعون في معصية معينة من المعاصي بدلاً من أن أقول: أنتم للأسف متهاونون بحرمات الله سبحانه وتعالى، ولا تقيمون لشرع الله وزناً، ولا يبالي أحدكم بأمر الله عز وجل، ويعطي قائمة من التهم، لو كان يقول للناس: إننا مقصرون في طاعة الله، ونحن نتجاوز حرمات الله عز وجل، ونتجرأ على المعاصي، ويشرك نفسه مع الناس؛ لاختلفت نظرة الناس إلى هذا الحديث.
ولو كان يتحدث للناس مثلاً عن أضرار المعاصي فقط وشؤم المعاصي، فالناس يدركون أنهم واقعون في المعصية، فعامة المسلمين الآن الذين يقعون في المعاصي يدركون أنهم واقعون في المعصية، لو كان يتحدث فقط عن أضرار المعصية، أو يتحدث عن ورع السلف عن المعاصي، ويتحدث عن حال الزهاد، وعن حال النبي صلى الله عليه وسلم، ويسلك مثل هذه الأساليب والوسائل.
فلنغير لغة التخاطب مع الناس، فأحياناً نتحدث عن جوانب الخير عند الناس: عندكم جوانب خير، وفيكم كذا وكذا، فمثلاً أحد الناس قام يتحدث بعد صلاة الفجر عن التأخر عن صلاة الفجر، فهؤلاء جاءوا يصلون الفجر، ففيهم خير، وبدأ ينزل على الناس: للأسف أنتم لا تبالون بصلاة الفجر، ولا تقيمون لها وزناً، فقال له أحد الحاضرين: خاطب الناس الذين في الفرش، وأما نحن فقد حضرنا، ولو ما كان عندنا خير، ولو كان ما عندنا شعور بأهمية صلاة الفجر لما جئنا أمامك، ولما سمعنا حديثك.
فأقول: أيضاً من الوسائل: تغيير لغة التخاطب مع الناس، وأنا لا أدعو إلى أن نتنازل ونميع القضايا، ونقول للفساق: أنتم من الأتقياء، وأنتم من البررة، لا، لكن على الأقل نغير أسلوب التخاطب مع الناس.
ولنا أسوة بأنبياء الله، وأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم، فيوسف عليه السلام قال وهو يخاطب أناساً مشركين: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ * يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:37 - 39]، فبدأ يتدرج مع هؤلاء مع أنهم مشركون.
وابن القيم رحمه الله له عبارة جميلة في (الفوائد) قريبة مما قلناه، يقول: العارف لا يأمر الناس بترك الدنيا، فإنهم لا يقدرون على تركها، ولكن يأمرهم بترك الذنوب مع إقامتهم على دنياهم، فترك الدنيا فضيلة، وترك الذنوب فريضة، فكيف يؤمر بالفضيلة من لم يقم بالفريضة؟! فإن صعب عليهم ترك الذنوب، فاجتهد أن تحبب الله إليهم؛ بذكر آلائه، وإنعامه، وإحسانه، وصفات كماله، ونعوت جلاله، فإن القلوب مفطورة على محبته، فإذا تعلقت بحبه هان عليها ترك الذنوب والإصرار عليها، والاستقلال منها.(47/22)
التنويع والتجديد في مجالات الدعوة
وأخيراً من هذه الأساليب: التنويع والتجديد في مجالات الدعوة.
إن قطاعات المجتمع تختلف، فمثلاً عندما نسير على برامج محددة، وعلى خطوات محددة، فهذه البرامج وهذه الخطوات قد لا تتناسب مع فئات أخرى من المجتمع، فيجب أن ننوع، والمجتمع يتحمل، وأظن أن الفساد والانحراف الموجود في مجتمعات المسلمين يحتمل كل ما عندنا من قدرات، وكل ما عندنا من مواهب، وكل ما عندنا من أساليب، فلو رمينا به في الساحة أجزم أن الواقع سيتحمل كل هذه الجهود.
فينبغي أن نجدد، ونبتكر، ونطور في أساليب الدعوة التي من خلالها نستطيع أن نوظف كثير من هذه الطاقات المعطلة.
مرة أخرى -أيها الإخوة- أكرر ما قلته في بداية هذه المحاضرة: أن هذا الموضوع أكبر مني، بل أرى أن مثل هذا الموضوع لا يمكن أن يعالجه مجرد شخص واحد، ولا حتى مفكر واحد، مثل هذه الأمور أعتبر أنها قضايا أساسية، وقضايا مهمة من قضايا الصحوة، يجب أن يتعاون ويتكاتف عليها الجميع، ويجب أن تقوم دراسات فعلاً حول مثل هذه القضايا، ولكن فقط ما أردت تحقيقه من خلال هذا العرض هو إثارة الاهتمام بمثل هذه القضية، وتوضيح هذه المشكلة التي أرى أننا بحاجة إلى أن نعتني بها.
وما طرحت من الأساليب والوسائل أيضاً أجزم أنها ليست هي الأساليب المثلى، وليست هي الأساليب الكافية فعلاً لتشغيل مثل هذه الطاقات، ولكنها على الأقل مجرد أمور ومقترحات أقترحها للأخوة جميعاً أن يعملوا بها، وأن يساهموا في تطوير مثل هذه المقترحات، وأجزم أيضاً أنهم قادرون على اقتراح وصنع وإيجاد وسائل وأساليب أخرى.
وأخيراً أيضاً: أنبه مرة أخرى أني لست أتهم هؤلاء الخيرين الذين قد أكون صنفت البعض منهم في مثل هذه الطاقات المعطلة، لست أتهمهم بالتقصير أو الإهمال، لا، إنما أقول -وأنا أول المقصرين-: يجب أن نوظف جميع طاقاتنا وقدراتنا في خدمة دين الله سبحانه وتعالى، والقضية تناصح وتعاون على البر والتقوى.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المتعاونين على البر والتقوى.(47/23)
الأسئلة(47/24)
دور المسلم في خدمة هذا الدين
السؤال
قد يقول قائل: ما هو دوري كطاقة معطلة بعد سماعي للشريط، أو قراءتي للكتاب، أو طلبي للعلم الشرعي؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أنت عندما تعترف بأنك طاقة معطلة فإنك تكون قد قطعت علينا ثلاثة أرباع الطريق.
فاعترفت أولاً أنك طاقة، يعني: أنك قادر أن تصنع شيئاً.
الأمر الثاني: اعترفت أنك معطل، أي: أنك لم تقم بالواجب الشرعي، فهذا الشعور بحد ذاته يكفي، فأحياناً نجد عناء في إقناع الناس به.
ودورك بعد ذلك أن تقوم بواجبك، فمجالات الدعوة كثيرة وليست مجالاً واحداً، فأنت تسخر طاقتك وقدراتك لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، فمهما كان مجالك، ومهما كانت قدراتك، ومهما كان تخصصك أظن أنك ستجد مجالات واسعة لخدمة دين الله سبحانه وتعالى.
فأقول: دورك ما دمت أنك اعترفت أنك طاقة معطلة: أن تشغل هذه الطاقة لخدمة دين الله سبحانه وتعالى.(47/25)
الفرق بين الطاقة المعطلة والطاقة المتعطلة، والسبب في تعطيل هذه الطاقات
السؤال
عنوان هذه الموضوع: الطاقات المعطلة، فلماذا لم يكن: الطاقات المتعطلة، وهل هذه الطاقات قد عطلت من أصحابها، أم أنها عطلت من غيرهم؟
الجواب
أظن أنه ليس هناك مشكلة، فكلها سواء: الطاقات المعطلة، الطاقات المهدرة، الطاقات المتعطلة، فأنتم إذا وافقتمونا على ما طرحناه، فيبقى العنوان ليس فيه إشكال، فسواء كان: الطاقات المتعطلة، أو الطاقات المعطلة، لكن أنا مع تقديري واحترامي لوجهت نظر الأخ وشكري له، أتصور أن الطاقات معطلة وليست متعطلة؛ لأني قلت يا إخوة: مع أننا نحمل هؤلاء المسئولية، لكن أرى أن أهل التوجيه يتحملون جزءاً كبيراً من المسئولية، فمثلاً عندما نقول: إن قطاعاً كبيراً من الطلاب هم من الطاقات المعطلة، فالذي يتحمل المسئولية هم الأساتذة؛ لأنهم هم القادرون على رسم برامج محددة لهؤلاء.
وكذلك القطاع المتعامل مع الصحوة، فأقول: الموجهون الآن للصحوة من خلال كافة المنابر التي من خلالها يتعاملون مع قطاع عريض من قطاع الصحوة، أقول: هؤلاء هم أيضاً مسئولون عن تشغيل هذه الطاقات، وهم مسئولون عن رسم برامج معينة، ولذا قصدت إلى اختيار هذا العنوان نظراً لأني أرى من وجهة نظري الشخصية أن العبء الأكبر يقع على الدعاة، وإن كان في الواقع الناس الآخرين ليسوا معفيين من تحمل المسئولية، لكن هذه الطاقات التي نعنيها هي طاقات متجاوبة مع الصحوة، فكثير من طلبة العلم، ومن الطلاب، ومن خطباء الجوامع، ومن غيرهم، هم أناس يتفاعلون مع قضايا الصحوة، لكنهم يحتاجون أن يوجهوا، وأن يرسم لهم برامج معينة.(47/26)
نصيحة لأئمة المساجد
السؤال
فضيلة الشيخ! ألا ترى أن من الطاقات المعطلة بعض أئمة المساجد؟ فإن كان كذلك فما علاج هذه الطاقة المعطلة؟ وجزاكم الله خيراً.
الجواب
أيضاً من الطاقات المعطلة ولا شك أئمة المساجد، وفي الدراسة السابقة التي أشرت إليها أيضاً للأسف أن نسبة أقل جداً 85% من الشباب غير الملتزمين يقولون: إن إمام المسجد دعاه إلى الالتزام والاستقامة، فما دور الإمام؟ فهو يصلي بهم وعلى الأقل هو موجود في الحي، فإذا كان 15% فقط من أئمة المساجد هم الذين يعتنون بهؤلاء الشباب الموجودين عندهم في الحي فأظن أن هناك تقصيراً واضحاً.
فالإمام مثلاً لو دعا هذا إلى منزله، ولو تحدث معه حديثاً ودياً أخوياً؛ لتغيرت الصورة بمجرد لقاء واحد أحياناً مع إمام المسجد، لكن أنا تحدثت عن الخطيب نظراً لأن الخطيب يتعامل مع كافة الناس، فكل المسلمين يصلون مع خطيب الجمعة، والخطيب يستطيع أن يتحدث معهم، وينصتون إليه أكثر من الإمام، لكن الإمام أيضاً هو الآخر عليه مسؤوليات أخرى يجب أن يقوم بها.
فأنا لا أود أن يطرح هذا السؤال مرة أخرى: كيف يعمل؟ ما دمت تشعر أنك طاقة معطلة يا أخي! فشغل هذه الطاقة، فينصح الناس الذين لا يصلون في المسجد، ويقوم بجمع التبرعات للمسلمين، ويقوم بجمع الزكاة، ويخدم أهل الحي، ويساهم في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الحي، ويقوم بدعوة الشباب الموجودين في الحي، ويرتب برامج لهؤلاء، كل جهد وكل دعوة يمكن أن تقدم في الحي فإمام المسجد من مسئوليته أن يقوم بها.(47/27)
كيفية تدريب الطاقات المعطلة
السؤال
تعطيل الطاقات أمر صحيح، ولكن كيف تدرب هذه الطاقات؛ لكي تؤدي دورها الآن، لأن فاقد الشيء لا يعطيه؟
الجواب
نعم، هذا سؤال وجيه ويفرض نفسه، لكن هل تريدون أنه مثلاً نعقد دورات تدريبية لهؤلاء؟ إن التدريب هو في العمل، التدريب يكون على رأس العمل في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فما عندنا فترة تدريبية، فإذا أسلمت ودخلت في الإسلام فابدأ، فعلى قدر ما تستطيع ساهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا التزمت واستقمت وسلكت طريق الخير فابدأ ساهم في الدعوة بقدر ما تستطيع، والتدريب على رأس العمل، والقدرات والمواهب لن تملكها إلا من خلال العمل، فليس هناك تدريب إلا بالعمل نفسه.
صحيح أنك ستستفيد من خبرات الآخرين، فمثلاً عندما تقرأ في سير الدعاة، وتطرح بعض التجارب المعينة، وبعض الأفكار، وبعض التوجيهات، فإن ذلك يفيد، لكن التدريب الحقيقي هو من خلال العمل، فالخطيب الذي يستطيع أن يؤثر في الناس ويشد الناس، كيف تعود؟ تعود من خلال المنبر، فمن خلال الخطابة استطاع أن يملك مهارة الخطابة، وهكذا كل إنسان.
فأقول: إن تدريب هذه الطاقات، وإعداد هذه الطاقات، إنما يتم ذلك فعلياً من خلال العمل، فالعمل نفسه هو الذي يعد هذه الطاقات ويهيئها.(47/28)
نصيحة لبعض الشباب العاطلين والذي لا يعترفون بأنهم طاقات معطلة
السؤال
بعض الشباب -للأسف- لا يقتنع بأنه طاقة معطلة، مع أنه لا يبذل إلا القليل للإسلام، فما علاج هذه المشكلة؟
الجواب
هذه القضية سبق أن تحدثت عنها في المحاضرات السابقة، وهي التهرب من المسئولية، يعني: إما أن يشعر أنه غير قادر، أو يشعر بعدة مشاعر يرى أنها تعفيه من المسئولية، فالطريق هو إقناعه أولاً بأنه طاقة، ثم إقناعه بأنه معطل، ثم بعد ذلك يرسم له البرنامج العملي الذي يساهم فيه.
لكن أحياناً قد يكون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الناس كالإبل المائة لا تجد فيها راحلة) يعني: بعض الناس أصلاً هذه غاية ما يصل إليه، وهذه قدراته، فلن نحمل الناس إلا ما يطيقون.(47/29)
نصيحة لمن كانت طاقته معطلة
السؤال
أنا شاب طاقاتي معطلة، فكيف أحركها؟
الجواب
الشاب الغالب عليه أن يكون طالباً، وأنا عرضت لكم نموذجاً، فنريد أن تستغل وقتك فعلاً في الدراسة، وأن تشعر أن عليك واجباً تجاه زملاء الدراسة، وتبذل الجهد في استصلاح هؤلاء وهدايتهم، وتقدم أنت خيراً كبيراً لهم، وهذا غاية ما تقدم، وغيرك قد لا يستطيع هذا الجهد.
فأنت قادر على أن يهتدي على يديك الكثير من الشباب، وقادر أن تمنع مثلاً الكثير من المخالفات الموجودة في وسط المدرسة، وقادر على أن تصنع الشيء الكثير عندما تقتنع بأنك قادر.
فنريد من الشباب هذا الجهد وحده، مع عنايتهم بإعداد أنفسهم، ولا يشغلنا يا إخوة! العناية بالدعوة، والشعور بخدمة الأمة، أن يشعر كل واحد منا أنه قد تخرج وانتهى، وأصبح يعطي ولا يأخذ، لا، يجب أن يكون نصيب الأسد الآن من اهتمامنا هو في إعداد أنفسنا، لكن أيضاً مع هذا الإعداد أن نقدم ونبذل الكثير.
فالشاب يستطيع أن يصنع جهوداً لا يصنعها غيره، ويستطيع أن يؤثر على زملائه بقدر لا يمكن أن يصنعه غيره.
ولعلي على كل حال أتحدث عن مثل هذه القضايا إن شاء الله فيما وعدت أن أتحدث عنه.(47/30)
المراهقون الوجه الآخر
المراهقة مرحلة زمنية يمر بها الشاب يُصاحبها نمو جسمي وعاطفي يشكل اليوم أزمة كبيرة، بحيث يتوجه الشاب خلالها نحو منحدر شديد من الانحراف والضياع، وقد أضفت التحليلات والدراسات النفسية الغربية عليها كثيراً من الأفكار التي جعلتها ملازمة للانحراف السلوكي والأخلاقي، لكن تعاليم الإسلام تقرر غير ذلك.(48/1)
التعريف بالمراهقة
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
حديثنا بعنوان: المراهقون الوجه الآخر، وهو ليس حديثاً حول علم النفس، فالحديث حول هذه الموضوعات إنما يتحدث به المختصون، ويوجه إلى أصحاب الاهتمام، لكن ثمة قضايا تعنينا باعتبارنا مسلمين، ومن ثم لا يسوغ أن تكون حكراً على أهل الاختصاص.
الحديث عن المراهقة والمراهقون يكثر في هذا الوقت عند علماء النفس، وعند دعاة الإصلاح، وعند أهل التربية والتعليم، بل هو مع العصر الحاضر الذي نعيشه أصبح حديث الكثير من الناس، سواءً أكانوا شباباً يعيشون هذه المرحلة فيتحدثون عن همومها وآلامها ومشكلاتها، أم كانوا ولاة أمور يتحدثون عما يعانونه من أبنائهم وبناتهم أو كانوا أهل تربية وتعليم يبثون شكواهم حول ما يلقونه من الجيل الذين عامتهم من أهل هذه المرحلة.
سيطر على كثير من الناس -وتدعم هذا دراسات كثيرة في علم النفس المعاصر- أن مرحلة المراهقة أزمة ومشكلة، وحين يطلق لفظ المراهق فهو يعني عند الكثير الطيش والانحراف والشطط.
وأدى الغلو في هذا المفهوم إلى نتائج خاطئة فصار الأب يعتذر عن انحراف ابنه وعن صبوته بأنه مراهق، وحينما تتحدث مع أحد أولياء الأمور، أو مع أحد الأستاذة، أو مع أحد ممن يتولى مسئوليته في بلاد المسلمين؛ تتحدث معه حول شاب من الشباب، أو حول جمع من الشباب مبدياً شكواك بما تراه عليه يجيبك: إنه مراهق! وهذا يعني أن مرحلة المراهقة عذرُ لارتكاب الجريمة، عذر للانحراف، عذر للصبوة، عذر للطيش والغفلة، أو بعبارة أخرى: إن هذه المرحلة تعني التلازم مع هذه الحالة.
وحين يطلب منه أن يرتقي بابنه أو من يتولى تربيته مستوى أعلى ومرحلة غير تلك التي هو عليها يعتذر لك بأنه ما يزال شاباً مراهقاً.
فما مدى صحة هذه النظرة؟ أليس ثمة وجه آخر للمراهقين غير هذا الوجه الذي نراه؟ بين يدي مناقشة هذه القضية نعرج سريعاً على التعريف بالمراهقة: وهو مصطلح ورد في لغة العرب يقولون رهق أي: غشي ولحق أو دنا منه، سواءً أخذه أم لم يأخذه، والرهق محركاً السفه والخفة، وركوب الظلم والشر وغشيان المحارم.
وراهق الغلام قارب الحلم، ودخل مكة مراهقاً أي آخر الوقت حتى كاد يفوته التعريف، يعني الوقوف بعرفة.
وقد ورد هذا اللفظ أيضاً في كتاب الله عز وجل في قوله سبحانه وتعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس:26].
أي: لا يغشى وجوههم قتر ولا ذلة.
وأيضاً في قوله عن الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6].
وهي تعني هذه المرحلة التي هي قرب البلوغ، فرهق يعني دنا واقترب.
أما في علم النفس المعاصر: فهي المرحلة التي تلي البلوغ، وهي غالباً من الثانية عشرة إلى التاسعة عشرة أو الحادية والعشرين، فعلماء النفس يصنفون من كان في هذه السن مراهقاً تحكمه خصائص معينة وطبيعة معينة.
ما الفرق بين المراهقة والبلوغ؟ هناك من يعتبر أنهما مترادفان، وأن البلوغ يعني المراهقة، وهناك من يعتبر أن البلوغ هو العلامة المتميزة لبداية مرحلة المراهقة، ومنهم من يعتبر أن المراهقة أعم، فالبلوغ يختص بالنمو الجسمي أو النمو العضوي والجنسي، والمراهقة تشمل ما سوى ذاك.
وعلى كل حال لا يهمنا كثيراً الوقوف حول المعاني اللغوية لكن هذه إشارة سريعة للتعريف بالمقصود حول هذا، فحين يطلق علماء النفس مراهق فإنهم يعنون الشاب في هذه المرحلة.
أقول: نتيجة عوامل عدة تولدت نظرة شائعة عن المراهقة أنها تعني الصبوة والانحراف والطيش وأنه ليس فيها إلا هذا العبث.(48/2)
الدوافع لإعادة النظر فيما صدر من الدراسات عن المراهقة
ثمة عوامل عدة تدعونا إلى إعادة النظر في قبول هذه النظرة العاجلة للمراهق.(48/3)
النشأة الغربية لعلم النفس
أول هذه العوامل: نشأة علم النفس ونباته أصلاً، فهو قد نشأ نشأة غربية، ووجد كغيره من سائر العلوم الإنسانية المعاصرة أول ما نشأ في بلاد الغرب، والمسلمون لا يحسنون إلا الترجمة والنقل الحرفي.
الجامعات الإسلامية وجامعات بلاد المسلمين أكثرها فيها فروع مستقلة لعلم النفس، وسائر العلوم الإنسانية، لكن كيف تنظر هذه الجامعات وكيف تدرس علم النفس؟ وحينما تقلب الطرف في مكتبة من المكتبات العربية فإنك تجد قسماً خاصاً حول الكتب المؤلفة حول علم النفس باللغة العربية، وحول سائر العلوم لكن حينما تقلب الطرف في هذه الكتب ترى أنها لا تعدو أن تكون نقلاً حرفياً لما قرأه هؤلاء، ولا تعدو أن تكون ترجمة حرفية، والغالب أن تكون ركيكة لعلم النفس الغربي وما يطرحه الغرب، قد يكون مثلاً من المقبول أن نترجم علوماً مادية بحتة كالطب والفيزياء والكيمياء والهندسة ونحوها، لكن العلوم الإنسانية والتي تختص بدراسة الإنسان، وحياة الإنسان لا يليق أن ننقلها من تلك المجتمعات نقلاً حرفياً.
وللأسف كثيراً من المهتمين بهذه الدراسات لا يزالون متأخرين في عرض هذه العلوم عرضاً إسلامياً، وفي دراسة هذه العلوم من وجهة نظر إسلامية، ولا يزال المسلمون في جامعات العالم الإسلامي يدرسون هذه الدراسات وفق نظرة أولئك، فيدرسون علم النفس والتربية والاجتماع والاقتصاد والتاريخ والأدب وسائر العلوم من وجهة نظر الغربيين.
وحين يكون علم النفس نشأ في البلاد الغربية فهذا يعني بالضرورة أنه سيعكس حياة الإنسان الغربي في تلك المجتمعات خاصة أنه من العلوم الإنسانية التي تعنى بدارسة الإنسان، وشتان بين الإنسان في هذه البيئة بين الإنسان كما خلقه الله وكما يريده الله وبين الإنسان في تلك المجتمعات.(48/4)
تأثر هذه الدراسات بشخصية الباحثين الغربيين
ثانياً: العلوم الإنسانية تتأثر بشخصية الباحث فالذي يبحث في أي فرع من فروع العلوم الإنسانية فلا يمكن أن يتخلص من شخصيته كنظرته مثلاً للإنسان، نظرته للأديان، نظرته للأخلاق للسلوك، لكل هذه الاعتبارات.
ولما كان هذا العلم وليد حياة أولئك فهو لا يعدو أن يكون انعكاساً لنظرتهم تجاه الإنسان وتجاه الدين والأخلاق، ومن أوائل علماء النفس الغربيين الذين عنوا بالمراهقة عالم غربي اسمه استان ليبول ألف كتابه عام 1917م للميلاد، يقول فيه عن مرحلة المراهقة: والمراهقة فترة عواصف وتوتر وشدة تكتنفها الأزمات النفسية وتسودها المعاناة والإحباط والصراع والقلق والمشكلات وصعوبات التوافق.
ويرى آخر وهو قراندر والذي كتب كتابه عام 1969م للميلاد أن المراهقة مجموعة من التناقضات.
ويشبه البعض حياة المراهق بحلم طويل في ليل مظلم تتخلله أضواء ساطعة تختطف البصر أكثر مما تضيء الطريق، فيشعر المراهق بالضياع ثم يجد نفسه عند النضج.
ويصفها البعض بأنها مرحلة جلود.
ويعتبر استان ليبول الذي أشرنا إليه قبل قليل أن جميع المراهقين مرضى ويحتاجون إلى المعالجة الطبية والنفسية.
إن هذه الأقوال وغيرها لا يمكن أن تفصلها عن شخصية أولئك الذين قالوها، فهم ممن نشئوا في تلك المجتمعات والبيئات.
أمر آخر: أن هذه الدراسات الإنسانية تتم على تلك المجتمعات، فالذين خرجوا لنا بهذه النظريات قاموا بدراساتهم في بلاد الغرب، وفي المجتمعات الغربية، فهم أجروا هذه الدراسات على مجموعات من المراهقين والمراهقات الذين يعيشون في تلك المجتمعات، وهل يسوغ مثلاً أن نعمم النتائج التي وصلنا إليها في تلك المجتمعات على واقع المسلمين؟ هل يسوغ مثلاً أن نقارن بين مراهق يعيش في بلاد المسلمين، ومراهق يعيش هناك في بلاد الغرب؟ إن العالم الغربي يعيش عالماً من الضياع والانهيار، خاصة في أوساط الشباب والشابات.
ويوضح هذا تصريحٌ مشهور أطلقه الرئيس الأمريكي جون كنيدي عام 1962م للميلاد مع أن الواقع قد تغير كثيراً الآن، يقول فيه: إن مستقبل أمريكا في خطر لأن شبابها منحل غارق في الشهوات، لا يقدر المسئولية الملقاة على عاتقه، وأنه من بين كل سبعة شبان يتقدمون للتجنيد يوجد ستة غير صالحين لأن الشهوات التي أغرقوا فيها أفسدت لياقتهم الطبية والنفسية.
فمن بين كل سبعة من الشباب لا يوجد إلا واحد فقط صالح للجندية، ثم هذا الواحد الصالح للجندية لا يعني أنه عفيف طاهر نزيه، لكن مستوى إقباله على الشهوات لم يصل إلى ذاك الحد الذي يمنعه من الدخول إلى الجندية.
وتعرفون أنتم أن الشواذ جنسياً لا يزالون يطالبون بإعطائهم الحق في الالتحاق بالقوات المسلحة الأمريكية، وفي نفس العام أصدر الرئيس السوفيتي خروتشوف أيضاً تصريحاً شبيهاً بهذا فيقول: إن مستقبل روسيا في خطر، وإن شباب روسيا لا يؤمن على مستقبله لأنه منحل غارق في الشهوات، وأهم أسباب ذلك الفوضى الجنسية والخيانة الزوجية.
المقصود من هذا أن هذا الجيل من الشباب الذي يصفه قادته بهذا الوصف هو الذي تجرى عليه الدراسات، وأن النتائج التي يصل إليها هؤلاء حينما يتحدثون مثلاً عن طبيعة المراهق عن طبيعة الإنسان في هذه المرحلة أو تلك فإنما يصلون إلى هذه النتائج بناء على دراسات يجرونها على مجموعة من المراهقين أو المراهقات الذين قال عنهم قادتهم ما قالوا، فهل يسوغ أن نعمم هذه النتائج على سائر المجتمعات؟ أيضاً من العوامل المهمة التي تؤثر في هذه النظرة سيطرة نظرية في علم النفس المعاصر تسمى نظرية التحليل النفسي، وهي نظرية العالم النفسي الشهير فرويد والتي تقوم على أساس التفسير الجنسي لسلوك الإنسان، يقول فرويد: إن حياة الإنسان هي حياة الجنس، وإن الجنس يبدأ مع الطفل وهو رضيع، فإن الرضيع يرضع ثدي أمه بشهوة جنسية، ويقضي حاجته بشهوة جنسية، وإن الرضيع يتعلق بأمه بشهوة جنسية.
وكذلك أيضاً الفتاة تتعلق بأبيها بشهوة جنسية ثم ينشأ من ذلك ما يسمى بعقدة أوديب والتي تتولد عند الطفل حين يحس أن أباه قد استأثر بأمه.
والأخلاق والدين والسلوك ليست إلا مظاهر لكبت الشهوات الجنسية، ومن ثم دعا إلى الإباحية المطلقة وصار يفسر سلوك الإنسان بتفسير جنسي وهو متأثر بنظرية دارون التي تقول بحيوانية الإنسان، وبالمناسبة فإن فرويد هذا كان أحد العلماء اليهود.
نظرية التحليل النفسي ونظرية فرويد سيطرت على علم النفس المعاصر وصارت تدرس هذه النظرية حتى في جامعات المسلمين، ولهذا صار ينظر إلى عالم المراهقة وعالم المراهقين من خلال هذه الزاوية.(48/5)
ارتباط مرحلة المراهقة بسن التكليف الشرعي
وأهم العوامل التي تدعونا إلى إعادة النظر فيما يطرح الآن في علم النفس المعاصر حول المراهقة، هو أن هذه المرحلة ترتبط بسن التكليف الشرعي.
فالشاب حين يبلغ سن البلوغ يصبح مكلفاً تكليفاً شرعياً، فتجب عليه الواجبات الشرعية، ويجب عليه أن يمتنع عن كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى، ولو مات وهو في هذه السن فإنه سيحاسب في قبره ويسأل.
وحينها نتساءل: من الذي خلق الإنسان؟ أليس هو الله سبحانه وتعالى! أليس سبحانه وتعالى هو العليم بهذا الإنسان وبدواخله وبنوازعه؟ {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
فهو سبحانه وتعالى الذي خلق الإنسان، وهو سبحانه وتعالى أعلم بهذا الإنسان بكل ما فيه، فهو أعلم بخصائصه ونوازعه ودوافعه وشهواته ورغباته، ومع ذلك شرع سبحانه وتعالى تكليف الإنسان في هذه السن بالتكليف الشرعي، فصار مؤتمناً على الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وسائر التكاليف الشرعية.
حينما حرم الله سبحانه وتعالى على المسلم قائمة من الشهوات، وأوجب عليه سبحانه وتعالى الواجبات، ألا يعني بالضرورة أنه قادر ومؤهل، قادرٌ على أن يمتنع من كل ما حرمه الله سبحانه وتعالى عليه، ومؤهل لأن يتحمل هذه الأمانة وهذه المسئولية التي حملها الله سبحانه وتعالى إياه؟ بلى ولا شك.
بل إن اختيار هذه السن للتكليف فيه حكمة بالغة، فهو في هذه المرحلة وهذا السن أقرب ما يكون للعبادة، أقرب ما يكون للتوجه إلى الله سبحانه وتعالى لأن يتحمل أمانة التكليف، فهو سبحانه وتعالى أعلم من هؤلاء البشر، هو الذي خلق الإنسان سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق نوازعه، وهو الذي خلق شهوته، وهو سبحانه وتعالى عليمٌ حكيمٌ، يعلم هذا الإنسان وما يحيط به، ومع ذلك كلف الله سبحانه وتعالى الناس كل الناس، الشباب والفتيات، في كل عصر وزمان ومكان اعتباراً من هذه السن، فما أن يصل الشاب أو تصل الفتاة إلى مرحلة البلوغ حتى يصبح مكلفاً بالتكاليف الشرعية، فلا يجوز له أن ينظر إلى ما حرمه الله سبحانه وتعالى، ولا يجوز له أن يمتع نفسه بشهوة محرمة، وفي المقابل يجب عليه أداء ما افترض عليه من الصلاة، والبر، والصدقة، وسائر الواجبات الشرعية، بل حتى الجهاد له ارتباط وثيق بهذه السن كما سيأتي بعد قليل.
إذاً فالله سبحانه وتعالى حين كلف الشاب وكلف الفتاة في هذه السن فهذا يعني أنه مؤهل، وهذا يعني أنه عاقل مهما كان ومهما قال الناس ومهما تحججوا ومهما أظهرت الدراسات فهي أقوال بشر وآراء بشر، والله سبحانه وتعالى هو الذي خلقه، وهو سبحانه وتعالى أعلم بخلقه، فهذا التكليف يعني أنه قادر على أن يكون عفيفاً، قادر على أن يمتنع عن الفواحش، وأن يمتنع عن أكل المال بالباطل، وعن إيذاء الناس وإزعاجهم، وعلى أن يحافظ على أوامر الله سبحانه وتعالى.
أمرٌ آخر: تقول معظم الدراسات المعاصرة في علم النفس: إن المراهق في هذه المرحلة يعيش توجهاً نحو التدين والعبادة، وهذا مما يكشف لنا السر والحكمة في كون التكليف الشرعي يبدأ من هذه المرحلة.
ولهذا يبدأ المراهق طرح الأسئلة على نفسه: من أين أنا؟ وكيف جئت؟ فيبدأ يتساءل عن سر خلق الوجود والكون، ولعلنا نلحظ أن الكثير ممن نراهم من الشباب في هذه المرحلة حين ينشأ في بيئة صالحة متدينة يقبل على الطاعة وعبادة الله سبحانه وتعالى إقبالاً جماً، وذلك كما أنه يعيش مرحلة من الشهوات والنوازع، فهو أيضاً يعيش إقبالاً على العبادة والتدين وطاعة الله سبحانه وتعالى، وحتى لو لم يدرك البشر ذلك، ما دام الله سبحانه وتعالى قد شرع التكليف في هذه المرحلة فهو مؤهل، واختيار هذه المرحلة وهذا السن لم يكن ليأتي عبثاً.(48/6)
نماذج من التاريخ في الدور الإيجابي للمراهقين
حقيقة أخرى أيضاً: نماذج التاريخ، حين نقرأ في التاريخ، نرى نماذج ممن عاشوا في هذا السن، وهذه المرحلة تثبت لنا أن هناك وجهاً آخر لعالم المراهقة غير الوجه الذي يبديه علم النفس المعاصر، فتقرءون في القرآن الكريم قصة أهل الكهف: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا} [الكهف:13 - 14].
ويحكي لنا النبي صلى الله عليه وسلم أن قرية كاملة قد آمنوا ودخلت في دين الله سبحانه وتعالى على يد شاب يعيش في هذه المرحلة التي يسمونها مرحلة المراهقة، واستطاع أن يصمد، وأن يبقى بإذن الله عز وجل وتوفيقه أمام الابتلاء، وأمام الإيذاء، وأن يقدم نفسه رخيصة لله سبحانه وتعالى، فيؤمن الناس حين رأوه، وتبقى قصة محفوظة منقوشة في ذاكرة التاريخ، يتغنى بها الصغير والكبير، ويرددها الجميع.
وهكذا لنرى أن أثر ذاك الشاب -المراهق في المصطلح المعاصر- لم يكن قاصراً على أهل قريته، بل امتد على مدى الزمان ما دامت هذه القصة تتلى ويتحدث عنها الناس.
إنا حين نعود إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ونقرأ حياة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فإنا نرى نماذج عدة، ونرى عجباً من أولئك الشباب الذين كانوا في هذه السن، كيف كانوا في العلم والجهاد والعبادة؟ ولنستعرض أسماء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان لهم القدح المعلى، والذي نسمع دائماً ونقرأ في كتب السنة، عن فلان بن فلان رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين نتغنى بأمجادهم وبطولاتهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يحشرنا معهم.
من هؤلاء جابر بن عبد الله رضي الله عنه وهو من رواة الحديث المكثرين، كان عمره عند الهجرة ستة عشر عاماً، وكان أراد أن يحضر غزوة بدر وأحد فمنعه والده لأنه كان يريد أن يحضر هذه الغزوة، واستشهد فيها والده، وقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أتدري ما قال الله لأبيك؟ لقد كلمه الله كفاحاً)، وهو ممن نزل فيهم قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، ثم لم يفته بعد ذلك مشهد مع النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم أيضاً عبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه بايع بيعة الرضوان، وعمره سبع عشرة سنة، وقد بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم فيها على الموت، وأهل بيعة الرضوان هم أولئك الذين قال الله سبحانه وتعالى عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18].
وقال فيهم صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة).
وأيضاً من شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبو جحيفة وهب بن عبدالله السوائي رضي الله عنه لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم كان مراهقا.
ومنهم أيضاً عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد فلم يجزه، وعرض يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه، وهو ممن بايع تحت الشجرة، فكانت عمره عندما بايع تحت الشجرة ستة عشر عاماً، فشهد بيعة الرضوان وهي التي قال الله سبحانه وتعالى فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18].
وهم أيضاً الذين قال عنهم صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل النار أحد من بايع تحت الشجرة).
ومنهم أيضاً سلمة بن الأكوع رضي الله عنه ومواقفه مشهودة مشهورة في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، فهو صاحب غزوة ذي قرد، التي قال فيها صلى الله عليه وسلم: (خير رجالتنا سلمة وخير فرساننا أبو قتادة).
وهو الذي كان في غزوة حنين، فجاء جاسوس من المشركين إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فجلس معهم ساعة ثم ولى، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بلحاقه فلحقه على قدميه حتى أدركه وقتله، وكان عمره رضي الله عنه عند الهجرة ست عشر عاماً.
وعبد الله بن عباس رضي الله عنه ولد في الشعب قبل عام الهجرة بثلاث سنين، قال في حديثه المشهور في الصحيحين: (أقبلت على أتان وقد ناهزت الاحتلام ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بمنى).
ومنهم أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه كان عمره عند الهجرة عش(48/7)
هل كان المسلمون يعانون أزمات المراهقة من قبل
قضية أخرى أيضاً: تدعونا إلى إعادة النظر فيما يقال حول عالم المراهقة، هل كان المسلمون على مدى التاريخ يعانون من أزمات المراهقة كما نعاني الآن في هذا العصر؟ هذا السؤال لو طرحته على من له أدنى صلة بالتراث الإسلامي لأجابك بالنفي مباشرة، حين نقرأ ما سطره السلف في أي فن من فنون العلم، فإننا لا نلمس أثراً لهذه المشكلة، نعم قد تجدهم مثلاً يوصون الشاب بالعبادة والطاعة، لكن هل تجدون الحديث المستفيض عن مشكلات الشباب، وعن أزماتهم، وعن عالم المراهقة الذين نعيشه الآن، هل تجدونه في تراث العلماء الأوائل؟ وهل تجدونه في كتاباتهم؟ إنك لا تكاد تجد إلا نزراً يسيراً في كتاباتهم وهذا يعني بالضرورة أن هذه المشكلة لم تكن موجودة عند سلفنا.
إذاً: ما دامت غير موجودة فهذا يعني أن القضية ليست صفة ملازمة للإنسان، بل هناك عوامل أخرى وأمور أخرى تؤثر حتى ولدت هذه المشكلة التي تعاني.
نحن الآن نعاني من أزمات مزعجة في عالم المراهقة، حتى في مجتمعات المسلمين، وتجد الحديث المستفيض عن الشباب، وعن عالم الشباب، وانحراف الشباب والخطورة والمشكلات التي تواجه الشباب، هذا الحديث لا تجده كثيراً ولا تجد الإفاضة عنه في الحديث عند السلف، بل أنك حين تقرأ لسلف الأمة تجد هؤلاء ما أن يبلغ أحدهم السابعة أو الثامنة حتى تراه قد أتم حفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، أو قطع فيه شوطاً، ثم أصبح يثني ركبتيه في مجالس العلم مستمعاً ومقيداً لما يسمع.
هكذا كان عالم الشباب في سلف الأمة، وهذا يعني بالضرورة أن القضية ليست صفة ملازمة لعالم المراهقة أنه عالم الأزمات كما يقول علماء النفس المعاصرون، بل إن هناك عوامل أخرى تؤثر في هذه الأزمة وهذه المشكلة.
أيضاً قضية أخرى: ثمة نماذج من العصر الحاضر، فمع ما نعيش الآن من أزمات المراهقين، ومشكلات المراهقين إلا أننا نرى نماذج تثبت خطأ هذه النظرية الظالمة المتجددة.
من هم عمار المساجد؟ من هم حفاظ القرآن الكريم؟ لو أجريت الآن دراسة لمجتمعات المسلمين، وبحثت عن حفاظ القرآن الكريم ففي أي سن سوف تجد هذا العدد أكثر من غيره؟ قطعاً ستجد أن الكثير من حفاظ القرآن الكريم من هؤلاء المراهقين، ورواد مجالس العلم ودروس العلماء هم المراهقون، بل هم السبب أصلاً في قيامها؛ لأن هؤلاء لو لم يأتوا ولم يعمروا هذه المجالس لما استطاع الشيخ أن يلقي درسه آنذاك.
لو أجريت جولة سريعة على مجالس العلم لرأيت أن عامة الحاضرين وأكثرهم من هذه السن.
وفي عالم الجهاد لا ننسى جميعاً قضية أفغانستان، وكم هم الشباب من المراهقين الذين دفنوا هناك في بلاد العجم، في حين كان أقرانهم وأترابهم يسافرون إلى حيث الفساد والرذيلة، إلى حيث قضاء الشهوات المحرمة، وحينذاك كان جمع من شبان المسلمين يعيشون عالم المراهقة أطهاراً أبرياء، ذهبوا وهم يتمنون ألا يعودوا، ولسان حال أحدهم يقول: أذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام منجدل الثواء هنالك لا أبالي طلع بعلٍ ولا نخل أسافلها رواء لسان حالهم لسان عبد الله بن رواحه رضي الله عنه وقد قال حين ودعه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى مؤتة قالوا: حفظكم الله وردكم إلينا.
قال: لا ردنا الله إليكم.
ثم قال: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرغ تقذف الزبدا أو طعنة بيدي حران مجهزة وضربة تنفث الأحشاء والكبدا هكذا كان شعارهم، وهكذا كان سؤالهم، كان أحدهم إذا سجد يبكي في سجوده وهو يسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقه الشهادة، وأن لا يعيده إلى أهله وإلى بلاده.
ورأينا نماذج فذة من أولئك الذين شاركوا وضربوا أصدق الأمثلة، وكنا وكان المسلمون يظنون أن تلك القصص والروايات التي تروى عن الاستبسال والشجاعة والشهادة قد أغلق عليها في كتاب لن يفتح أبداً في ذاكرة التاريخ، فإذا بهم يرونها حية أمام ناظريهم، يرونها حية يفتحها ويعيدها أولئك الذين لا زالوا يعيشون عالم المراهقة.
إذاً: هذا النموذج الذي نراه في هذا العصر مع أزماته ومشكلاته يثبت لنا بما لا يدع مجالاً للشك ظلم وجور أولئك الذين يصفون عالم المراهقة بأنه عالم الانحراف، وعالم الأزمة وعالم الفساد.(48/8)
شواهد علم النفس
وحقيقة أخرى نختم بها الحديث حول هذه الحقائق: شواهد علم النفس نفسه، فالكثير من علماء النفس وعلماء التربية يشككون في صحة هذه المقولة، وفي صحة هذه الدعوى، سواءً كانوا من المسلمين أو كانوا من غيرهم.
وقد سبق أن أشرت إلى أن الكثير من الدراسات النفسية تشير إلى أن الشاب يعيش في مرحلة المراهقة توجهاً نحو التدين والعبادة والبحث عن الدين.
من علماء النفس المعاصرين الذين ناقشوا مصداقية مقولة أزمة المراهقة امرأة غربية مارجريت ميت فهي تعتبر المراهقة مرحلة نمو عادية، وما دام هذا النمو يسير في مجراه الطبيعي لا يتعرض المراهق لأزمات، وقد اهتمت هذا المرأة بدراسة المجتمعات البدائية، تقول: وفي هذه المجتمعات تختفي مرحلة المراهقة، وينتقل الفرد من الطفولة إلى الرشد مباشرة بعد احتفال تقليدي.
ويقول الدكتور عبدالرحمن العيسوي: وجدير بالذكر أن النمو الجسمي في مرحلة المراهقة لا يؤدي بالضرورة إلى أزمات ولكن النظم الحديثة هي المسئولة عن أزمة المراهقة.
والدكتور ماجد الكيلاني يقول: وقد أفرز فقدان ذلك مضاعفات سلبية في حياة الناشئة أهمها ما سماه فقهاء التربية الحديثة بالمراهقة، وهذه فتوى خاطئة أصدرها علماء النفس الحديثين تبريراً للسياسات الجائرة التي يمارسها مترفو العصر من أصحاب الرأسمالية والشركات الدولية، المراهقة ليست ظاهرة حتمية في تطور العمر الزمني للإنسان، إنها مشكلة يمكن تجنبها كلياً في حياة الفرد، وأن لا يمر الإنسان بها أبداً، وهي من مزاعم علماء النفس في المجتمعات الصناعية الرأسمالية، ومرضاً من أمراضهم الاجتماعية.
ونحن لسنا بحاجة إلى الإفاضة في ذكر الشواهد من كلام هؤلاء، لكن أيضاً مع الحقائق الشرعية الثابتة ومع الحقائق التاريخية ومع ما نراه من واقعنا المعاصر؛ مع ذلك كله هاهم علماء النفس المعاصر ينطقون بهذه الحقيقة ويشهدون بها.(48/9)
المسئول عن أزمة المراهقة
إذاً: نخلص من هذه الحقائق السابقة إلى أن المقولة حول أزمة المرهقة وأن مرحلة المراهقة مرحلة متحكمة فيها الأزمات، والمشكلات، والصبوة والانحراف، مقولة خاطئة ولدها علم النفس المعاصر الذي نشأ نشأة غربية، فالباحثون هم أولئك الغربيون، والمجتمعات التي تجرى عليها الدراسات هي تلك المجتمعات الغربية، وهذا يعني أن يعيد الآباء النظر من جديد في تعاملهم مع أبنائهم، وأن يروا أن كون الابن شاباً لا يزال في ريعان الشباب ومرحلة المراهقة لا يعطيه مسوغاً بحال للانحراف والصبوة وأن يعب من الشهوات.
وينبغي أن يعيد الأساتذة ورجال التربية النظر أيضاً من جديد في نظرتهم للجيل الذي يعلمونه ويدرسونه، ينبغي أن نعيد النظر في تطلعاتنا وما نرجوه من الشباب في هذه المرحلة، وأن نعيد النظر أيضاً لأنفسنا إذا كنا نحن نعيش هذه السن وهذه المرحلة.
هذا كله لا يعني أبداً أن مرحلة المراهقة ليس فيها مشكلات، وليس فيها أزمات، وحينما ننفي ذلك نفياً قاطعاً فنحن قد نناقض الواقع الذي نعيشه، لكن فرق بين أن يكون هناك أزمات ومشكلات يعيشها المراهق، وبين أن تكون مرحلة المراهقة مرحلة ملازمة للأزمة والمشكلة والانحراف والصبوة، فرق بين أن نلتمس له العذر من جراء هذا الانحراف وهذا الفساد لأنه مراهق، ولأنه لا يزال شاباً، ولأنه سيدرك بإذن الله أن يستقيم حين يكبر ويتقدم به السن؛ فرق بين هذا وذاك.
ثم إن الواقع الذي نعيشه والمشكلات التي نعيشها هي نتاج للعصر الحاضر الذي نعيشه بكل ما فيه من فساد وسوء، فالعصر الحاضر هو المسئول عما يسمى بأزمة المراهقة، ولهذا رأينا عالم المراهقة عند أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعند سلف الأمة عالماً آخر يختلف تماماً عن هذا العالم الذي نعيشه.
إن المراهقين الذين أصبحنا نراهم الآن يلاحقون آخر الصرعات المعاصرة الهيبز والانحراف والأمراض الجنسية ونزلاء الدور الإصلاحية ودور الملاحظة، ونراهم يتزعمون عصابات الإجرام والفساد ولا يطيق ضبطهم آباؤهم ولا أمهاتهم ولا أساتذتهم ولا مجتمعاتهم ولا حتى أجهزة الأمن في هذه المجتمعات التي يعيشونها.
إن الشباب الذين يعيشون في هذه السن قد عاش قبلهم أولئك في السن نفسها أولئك الذين كانوا يتسابقون على ميادين الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، ويتسابقون على حلق العلم وحفظ كتاب الله سبحانه وتعالى، فلو كانت القضية قضية السن لرأينا هذا النموذج عند أولئك السابقين.(48/10)
مؤثرات الحياة المعاصرة في مرحلة المراهقة
إذاً: الحياة المعاصرة والمجتمع المعاصر هو المسئول عن أزمة المراهقة، من خلال أمور عدة:(48/11)
سيطرة التحليل الغربي على علم النفس
أولها: ما أشرنا إليه قبل قليل بسيطرة التحليل الغربي، فعلم النفس كغيره من العلوم الإنسانية تلقفه المسلمون تلقفاً غربياً، فصار دور المسلمين دور النقد والترجمة كما ذكرنا، ولهذا سيطرت هذه النظرة على علماء النفس والتربويين والآباء، ولهذا صار أهل التربية والمسئولون عن التربية والتوجيه يتعاملون مع الشاب في هذه المرحلة على أنه معذور، وأن هذا هو ما ينتظر منه وما يتوقع أن يصل إليه.(48/12)
نظام التعليم المعاصر
المؤثر الثاني: نظام التعليم المعاصر في المجتمعات المعاصرة يساهم في طول مرحلة المراهقة، وذلك أن الشاب يعيش في التعليم إلى أن يصل إلى سن الثانية والعشرين، فيعيش بعيداً عن الزواج، ونسبة ضئيلة جداً ممن يتزوج قبل أن ينتهي من الدراسة الجامعية، بل الكثير يحتاج إلى سنوات بعد إنهاء الدراسة الجامعية حتى تتيسر له أمور الزواج، ثم هو خلال هذه المرحلة وهذا السن يعتمد على أهله اعتماداً كلياً، ويعتمد على أبويه اعتماداً تاماً، بل حتى نظام التعليم يعيش فيه على التسول العلمي والفكري، ويعتمد على تلك المعلومات الجاهزة التي يقدمها له أستاذه والتي يقرؤها في الصفوف، فلا يمارس الطالب جهده في اكتشاف المادة العلمية، غاية ما يقوم به هو أن يسمع ما يقول له الأستاذ سماعاً جيداً وأن يحفظ ما في الكتاب ثم يعبر عنه بعد ذلك برمته، وهذا يولد شخصية غير مستقلة تعتمد على غيرها وتعتمد على الآخرين، ولهذا أثبتت بعض الدراسات التي أجريت في بعض المجتمعات الأخرى أن عالم المراهقة عالم آخر كما في دراسة أجراها أحمد أبو زيد على قبائل الطوارق الليبية، وذلك أن قبائل الطوارق الليبية عندهم نظام خاص حينما يبلغ الشاب أو تبلغ الفتاة سن التكليف وسن البلوغ، يقومون باحتفال ويلبس ملابس خاصة ويعامل معاملة الرجال، فلاحظ أن أزمة المراهقة تختفي بذاك المجتمع، نظراً لأنه يعامل وينظر المجتمع إليه على أنه بلغ مبلغ الرجال، وأصبح يعتمد على نفسه.
أما في مجتمعات المسلمين المعاصرة فمع نظام التعليم المعاصر ومع نظام الحياة المعاصرة صار الشاب كَلاًّ على المجتمع كلاًّ على والده لا يعتمد على نفسه ولا يتحمل مسئولية، أيضاً لا تتيسر له سبل الزواج وبناء الأسرة، لهذا تطول هذه الأزمة.(48/13)
الإثارة والمغريات والترف
المؤثر الثالث: الإثارة والمغريات وحياة الترف المعاصر، وهي قضية لسنا بحاجة للحديث عنها، فقد صارت الأجهزة المعاصرة تصور غرف النوم تصويراً فاضحاً، تصور العملية الجنسية بكل وقاحة أمام المراهقين والمراهقات، وصارت الصور الفاتنة تعرض أمام شباب وفتيات المسلمين بكل ما فيها من إغراء وإثارة ويتفنن تجار الغرائز والمتاجرون بالفضيلة في الإثارة والإغراء حتى أصحاب السلع المادية وجدوا أن أفضل ترويج لها في استخدام صور المرأة وأساليب الإثارة الجسمية.
فالشاب والفتاة تعيش في المجتمع المعاصر في جو مشحون بالإثارة الجنسية والمغريات التي تدعوه إلى عالم الشهوات وصار يفتح عينيه في هذه المجتمعات وهو لا يرى إلا الشهوات، وما يدعوه إلى الشهوات والتمتع بها، ومن ثم كان من نتيجة ذلك ما نراه الآن من أزمات ومن معاناة المراهقين.
أما لو عاش الناس عيشة سوية بعيداً عن مظاهر الإثارة والإغراء لكان الأمر يختلف.(48/14)
غياب التوجيه والمثل الأعلى
العامل الرابع غياب التوجيه والقدوة والمثل الأعلى: من هم الذين يبرزون الآن أمام شباب المسلمين، وأمام فتيات المسلمين في مجتمعات المسلمين المعاصرة؟ هم أهل الفن، أهل الغناء والتمثيل والرقص، أهل الرياضة والمجون، هذه هي النجوم اللامعة، والأسماء المشتهرة بين شباب وفتيات المسلمين، فهل يرى هؤلاء القدوات الصالحة التي تضرب لهم المثل الأعلى؟ وهل يسمعون بكل وضوح وكل طمأنينة الكلمة الواعية العميقة الناصحة التي تحدثهم عن مشكلاتهم وعن معاناتهم، والتي تحدثهم عن الدين حديثاً يربطهم بعالمهم وواقعهم المعاصر؟ فحين تثار أمامهم الغرائز والشهوات، وحين يعولون الاعتماد على غيرهم، وحين تفتح أمامهم القدوات السيئة والساقطة حينها يعيشون فعلاً أزمة المراهقة.
المقصود -أيها الإخوة- من هذا الحديث كله هو أن هذه النظرة السائدة عن المراهق بحاجة إلى مراجعة، فهذه النظرة -كما قلنا- ولدت شعوراً خاطئا عند الشباب والمراهقين أن مرحلة المراهقة مرحلة ملازمة للأزمة والانحراف والشهوات التي ولدت النظرة عند الأب أن ابنه أو ابنته ما دام في مرحلة المراهقة فهو معذور ولا يرجى منه إلا ذاك، هذه النظرة التي ولدت عند المجتمع بأسره التماس العذر لهؤلاء نظرة خاطئة، لا تتفق مع النظرة الشرعية التي ترى أنه فرد مكلف وأنه إنسان مطالب بسائر التكاليف الشرعية.
وهذا كما قلنا لا ينفي أنها مرحلة ذات صعوبة أو أنها مرحلة فيها أزمات ومشكلات؛ لكن هذه المشكلات ليست كلها عائدة إلى طبيعة الشاب أو طبيعة الفتاة أو طبيعة السن، بل هناك عوامل عدة تساهم في التأثير عليها.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لطاعته وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب، ونترك بقية الوقت للإجابة على الأسئلة.(48/15)
الأسئلة(48/16)
كتب ينصح بقراءتها عن المراهقة
السؤال
كتب تنصح بقراءتها عن المراهقة.
الشيخ: طبعاً الذي يحتاج للقراءة عن المراهقة هو من يتعامل مع المراهق، وليس هو المراهق نفسه، فهناك كتب كثيرة ومن أفضلها كتاب (مراهقون) للدكتور عبد العزيز الرمش عميد كلية العلوم الاجتماعية في الجامعة والأستاذ عبد العزيز يقول: إنه زاركم أمس في المخيم.
كتاب كتب بلغة مبسطة ومناسبة فهو يناسب الأب والأستاذ الذي قد لا يكون بالضرورة متخصصاً، وكذلك سيكيولوجية المراهق المسلم المعاصر.
وأيضاً (تربية مراهق)، و (تربية الشاب في المدرسة والبيت) لـ خالد الشحتوت.
فهذه بعض الكتب التي كتبت حول هذه المرحلة، وفي النية أن نقوم إن شاء الله بدراسة حال واقع الشاب ونذكر بعض النماذج من الصحابة ونماذج واقعية فعلاً لشباب المسلمين وقدوات حية لهم، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعين على ذلك.(48/17)
مشكلة النظر إلى المردان
السؤال
يعاني بعض الشباب من مشكلة النظر إلى المردان؟ الشيخ: لا شك أن النظر إلى الحرام والشهوة المحرمة من أكبر المشكلات التي يواجهها الشاب في هذه السن، وذلك أنه حين يبلغ سن التكليف وتقوى عنده حدة هذه الغريزة يعيش في بداية هذه المرحلة وشهوته في حدتها وفورانها، ثم يواجه ما يواجه من مثيرات ومغريات في مجتمعات المسلمين والتي أصبحت للأسف تلاحق الشاب في كل مكان وكل مجتمع.
وأيضاً ضعف قدرته على ضبط النفس وقلة خبرته في هذه الأمور قد تولد عنده هذه المشكلة.
لكن علينا أن نجتهد في غض البصر، والبعد عن هذه المنكرات والمغريات قدر الإمكان، وأن نجاهد أنفسنا فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
ومن لطائف هذه الآية أن الله ختمها بقوله: (خبير بما يصنعون)، وذلك أن الإنسان قد ينظر نظرة حرام ومن حوله لا يدرك سر هذه النظرة، لكن الله سبحانه وتعالى خبير، وفرق بين التعبير بخبير وعليم، فهو هنا إدراك دقيق، فخائنة الأعين لا يدركها ولا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (إياكم والجلوس في الطرقات قالوا: يا رسول الله ما لنا منها بد وهي مجالسنا، قال: فأعطوا الطريق حقها، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر ورد السلام) إلى آخر الحديث، فالنبي صلى الله عليه وسلم نهاهم عن الجلوس في الطريق ابتداء حتى لا يتعرضوا للنظر الحرام مع أن ذلك المجتمع كان مجتمعاً عفيفاً نزيهاً بعيداً عن السفور والفساد.
فعليك أن تبتعد أصلاً عما يثير النظر الحرام، عليك أن تبتعد عن الأسواق وعن المواطن التي تدعوك إلى هذه الأمور، ثم تغض بصرك وتبعد نفسك عن التفكير بمثل هذه الأمور والانسياق وراءها.(48/18)
خوف الأب من انحراف الابن
السؤال
أنا شاب أجد كثيراً من المشاكل التي بدورها تدفعني إلى الانحراف، ومن أول ذلك الفراغ وتشدد أهلي في مصاحبة أي شخص خوفاً أن أنحرف وأخرج عن الجادة والطريق القويم.
الجواب
الكثير من الآباء يعمد إلى منع ابنه من المشاركة مع الناس والذهاب والإياب معهم، وهذا لا شك نتيجة لما يراه من فساد وسوء في المجتمع، وصار لا يثق بأي شخص، ولا شك أن حرص الأب على منع ابنه عن أن يصحب أي شخص لا يثق فيه ولا يعرفه ناشئ عن دافع خير وحرص على استقامة الابن وصلاحه، لكن يجتهد الشاب في إقناع والده في أن يتعرف والده على أولئك الذين يريد أن يصاحبهم، وبعدها إن شاء الله يمكن أن يقتنع والده بصحبته لهؤلاء وأن هؤلاء لم يجد منهم إلا الخير والفائدة.(48/19)
سبب الكلام في موضوع المراهقة
السؤال
ما هو السبب الذي استحثك على طرح هذا الموضوع مع أني أتوقع أن هذه جرأة منك لمخالفة الواقع والتصور الآن إلى آخره.
الجواب
الواقع والتصور الآن إذا كان غير صحيح كان مرفوضاً غير شرعي ينبغي أن نناقش فيه.
وأيضاً: فمن حق الإنسان في المجتمع أن يناقش الأفكار والقضايا المطروحة في المجتمع وخاصة إذا كانت قضايا شرعية وقضايا يسندها العلم الشرعي، ومن حق أي إنسان أن يعبر عما يرى، فما كان حقاً قبل وما كان باطلاً يرفض، وإذا كان فيه حق وباطل يقبل الحق ويرفض الباطل.
ونحن ما تحدثنا مثلاً عن دراسات نفسية ولا قضايا نفسية، نحن نتحدث عن قضايا شرعية، وعلم الإنسان ليس حكراً على أولئك الغربيين أهل المجون والفساد والسوء؛ لأنه لا يحق لأحد أن يتكلم إلا من خلال ما يراه فرويد أو دوركايم أو دارون أو غيرهم، فلا شك أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق الإنسان وهو أعلم بخلقه عز وجل.(48/20)
علاج مشكلة الإعجاب والتعلق بين المراهقين
السؤال
يعاني بعض الشباب من مشكلة التعلق والإعجاب بصور بعض رفقائهم مما يكون عائقاً أمام التزامهم وزيادة إيمانهم، فما نصيحتك لهؤلاء حفظك الله ووفقك لكل خير.
الجواب
النفس إذا لم تشغلها بالطاعة شغلتك بالمعصية، فإذا لم تشغلوا أنفسكم بطاعة الله سبحانه وتعالى، والحرص على العبادة، وتلاوة القرآن، والانشغال بحفظ القرآن وتعلم العلم الشرعي فإنكم لا بد أن تنشغلوا بهذه الأمور، وما رأيت أكثر شغلاً للشاب وملئاً لوقته وفراغه من تعلقه بالعلم الشرعي والقراءة، لأن مشكلة الشاب تأني غالباً من الفراغ، وإذا بقي في البيت بدأ يفكر أو جلس ينظر للتلفاز؛ لكن حينما يكون عنده عناية بالعلم الشرعي وولع بالقراءة والاطلاع فإنه يتمنى الفراغ، وإذا تيسرت له ساعة فراغ رأيته في مكتبته يقلب الكتب ويقرأ ويتصفح ويبحث فتمضي عليه الساعات الطوال وهو بين كتبه، ويعيش في عالم آخر.
ولهذا كان السلف مشغولين بالعلم والتعلم وكانوا بعيدين عن هذه المشكلات، لكن عندما يعيش الشاب في فراغ من هذه الأمور فلا شك أنه يفكر ويبدأ الشيطان يدعوه ويستدرجه.
أما الذي ينشغل بالعلم فهو يعيش في عالم آخر بعيداً عن كل هذه المشكلات، ويحرص على الاستزادة من الطاعة والعبادة وخاصة وقت السر، فإن هذا مما يزيده قرباً من الله سبحانه وتعالى، ويستعين بالله عز وجل في كل وقت، نسأل الله أن يعينه وأن يوفقه وأن يجنبه أسباب هذه الفتن وهذه الشهوات.(48/21)
التوبة في حق من أسرف في المعاصي
السؤال
هذا سؤال طويل يقول: إني أسرفت على نفسي بالمعاصي والكبائر وفعلت وفعلت مما لا أستطيع ذكره في مثل هذا المجلس، ولكن أنعم الله علي بالتوبة النصوح ثم يسأل عما وراء ذلك.
الجواب
بالنسبة للمعاصي التي بينك وبين الله سبحانه وتعالى لا يلزمك إلا أن تتوب وتستغفر الله عز وجل وتقبل عليه، ولا يلزمك شيء بعد ذلك.
أما ما يتعلق بالمخلوقين مثل أخذ مال أو هتك عرض، فإذا كنت قد أخذت مال أحد ظلماً أو غشاً أو سرقة فإن عرفته واستطعت أن تعيده إليه بأي وسيلة ولو بغير وسيلة مباشرة فحسن، وإلا فتصدق به عنه على أنك متى رأيته فإنك ستعطيه إياه، وحين تكون صادقاً مع الله عز وجل فإن الله سبحانه وتعالى يقضي عنك، وييسر لك أن يعفو عنك هذا عن حقه يوم القيامة.
ولا تقنط فالله عز وجل يقول: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54].
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:68 - 71].
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر:53 - 54].
والآيات والنصوص في هذا كثيرة فينبغي لك أن لا تيئس مهما بلغت الذنوب: (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي).(48/22)
علاج الشك والسؤال عن بدء الخلق
السؤال
يقول: إنه يسأل نفسه: من أين أتى؟ وكيف؟ فما علاج ذلك جزاكم الله خيراً؟
الجواب
عند المراهق أفضل توجه نحو التدين، طبعاً في تلك المجتمعات التي لا يعرف فيها إله يبدأ يفكر كيف خلق ولماذا ومن أين؟ لكن في مثل مجتمعات المسلمين وفي مثل مجتمعاتكم يعيش الإنسان فيها بين أبوين مسلمين فلا يجد أصلاً مشكلة في هذا لأنه تعلم منذ الصغر أن الله هو الذين خلقه، وأن هناك جنة وناراً؛ لكنه قد تبدأ عنده مشكلة أخرى وهي التي يبدو دفعت الأخ للسؤال فيبدأ يتساءل ويشكك مع هذه السن والمرحلة؛ لأنه يبدأ المراهق مع النمو العقلي يناقش وما يسلم بكل ما يتلقاه، ويحتاج إلى أن يقتنع بكل شيء، فيبدأ يفكر في مثل هذه الأمور.
وهذا أمر ذكره أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: (إن أحدنا يجد في نفسه ما أن يخر به من السماء أحب له من أن يتكلم به! فقال صلى الله عليه وسلم: أوجدتم ذلك؟ قالوا: نعم.
قال: ذلك صريح الإيمان).
ليس صريح الإيمان هو الوسوسة إنما كونهم يخشون من ذلك، ويتمنى أحدهم أن يخر من السماء ولا يتكلم بذلك، فعليه أن يقول: آمنت بالله، ويستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، ويبتعد عن مثل هذه الأفكار ويكثر من تلاوة القرآن، والتفكر في مخلوقات الله سبحانه وتعالى، فإنه سرعان ما يزول عنه ذلك، وما دام لا يتحدث به وهو مجرد توارد أفكار فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله تجاوز عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم).(48/23)
حكم العادة السرية
السؤال
هناك أسئلة كثيرة حول عادة أقلقت كثيراً من المراهقين وهي العادة السرية، فما مضارها وما حكمها؟
الجواب
لا شك في تحريمها؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المعارج:29 - 31].
وسؤال الشخص دليل على أنه يشعر أن فيها مشكلة، فهو يقول: ما الحكم وما الدليل، ولو أنه يشعر أنه ليس فيها مشكلة لما سأل أصلاً حول هذه القضية.
ثم إن لها أضراراً نفسية وأمراضاً على جسم الإنسان، وهي كما قلنا مما يعانيه المراهقون من جراء ما يرونه أمامهم من الشهوات والفتن، وهو لا يجد المصرف الشرعي، لذلك فأولاً يجب أن نقتنع أن شأنها شأن سائر المعاصي، ومادمت مكلفاً فأنت قادر أن تتركه، لأنك الله عز وجل أمرك ونهاك، ولم يأمرك إلا بما تستطيع فعله، ولم ينهك إلا عما تستطيع تركه، فما دام قد نهاك عن هذا الأمر فأنت تستطيع أن تتركه، وما دام قد أمرك بهذا الأمر فأنت تستطيع أن تفعل.
فرق بين كون الشيء صعباً وشاقاً وبين كونه مستحيلاً، لأنه قد يكون الأمر فيه صعوبة في فعله أو صعوبة في تركه، ولكن لا يمكن أن يوجد أمر شرعي بشيء مستحيل، أو نهي عن شيء يستحيل تركه، لكن الإنسان عليه أن يجاهد نفسه بسد الطرق والأبواب ابتداء من نفسه، بحيث يبتعد عن التفكير والنظر للحرام والخلوة والمغريات التي تدعو إلى ذلك، ثم يقوي إيمانه بالصيام، وتقوى الله عز وجل ومراقبة الله سبحانه وتعالى.
ثم لو وقع في شيء من ذلك فعليه أن يتوب ويقبل على الله عز وجل ويعمل عملاً صالح ولا ييئس، ولا يتصور أن هذا دليل على الانحراف والضلال والفساد، فهذه معصية شأنها شأن سائر المعاصي إذا وقع فيها المسلم عليه أن يبادر ويتوب إلى الله سبحانه وتعالى، ويستغفر الله عز وجل، والله سبحانه وتعالى إذا تاب عبده فإنه يقبل توبته: (يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي).
وأنا أنصح الأخ السائل أن يقرأ كتاب العادة السيئة للشيخ محمد المنجد، فهو كتاب طيب حول هذه القضية.
وأيضاً كتاب آخر حول هذا الموضوع وحول النظر الحرام وهو كتاب سهم مسموم للأخ أحمد حفظه الله ووفقه وإيانا جميعاً.(48/24)
تنمية التوجه للعبادة والتقوى
السؤال
يقول: أريد إيضاح بعض السبل لتنمية التوجه للعبادة والتقوى في نفس الشاب المراهق مما يبعده عن الانحراف والشبهة.
الجواب
من أهم الوسائل والطرق في ذلك الصحبة الصالحة التي تعين الإنسان؛ لأن الإنسان لوحده قد يتشجع ويقوم ببعض العبادات ويجتهد فيها لكن سرعان ما يدعوه داعي الشهوة، ويمل ويفتر، لكن حين يكون مع صحبة صالحة فإنه سيرى منهم مثلاً من هو أكثر منه طاعة وعبادة ومنهم من يفوقه في الميدان، ومنهم من يفوقه في الميدان الآخر، فيصبح الميدان ميدان تنافس على البر والتقوى، وميدان تسابق على العمل الصالح، ويرى أمامه قدوة صالحة حية تعينه بإذن الله عز وجل.(48/25)
حكم من يمارس العادة السرية في نهار رمضان
السؤال
أنا شاب أسترسل في المعاصي حتى أني قد فعلت العادة السرية في رمضان ثلاثة أيام، ولما أتى رمضان الثاني فعلتها سبعة أيام، فهل علي قضاء؟ الشيخ: نعم عليه قضاء؛ لأنه أفطر متعمداً.
ثم إن العادة السرية معصية في حد ذاتها، وفعلها في رمضان في وقت يصوم فيه الإنسان معصية أخرى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه لو وجاء).
فالصوم علاج الشهوة، فإذا كان الإنسان يفعلها في رمضان فهذا دليل على مشكلة ينبغي أن يراجع فيها نفسه، وحتى الوقت الذي صام فيه لم يكفه ذلك عن هذه المعصية، ثم فعلها أيضاً في نهار رمضان، فهذا يجمع أموراً كثيرة، فعليه أولاً: أن يتوب إلى الله عز وجل، فالإفطار عمداً كبيرة من الكبائر.
ففعل العادة السرية ليس بالضرورة أن يكون كبيرة، لكن الفطر في نهار رمضان وبهذه الصورة كبيرة من الكبائر، فعليه أن يتوب إلى الله عز وجل، ويكثر من الاستغفار، والندم على هذا العمل، بل إن بعض أهل العلم يقول: إنه من أفطر متعمداً في نهار رمضان لا يقضي، وإنه لو قضى لم يصح؛ لأنه لو صام الدهر كله لم يقضه؛ لأن هذا يوم كان يجب عليك أن تصومه فمضى، وكما هو القول أيضاً في من فاتته الصلاة، فمنهم من قال: إن من فاتته صلاة بأن أخرها متعمداً حتى خرج وقتها فإنه لا يقضيها؛ لكن على كل حال عليه أن يقضي هذه الأيام، ثم الفقهاء يقولون: إنه إذا أتاه رمضان وعليه أيام من رمضان قبله فإنه يطعم عن كل يوم فاته من رمضان السابق.(48/26)
حديث (يعجب ربك من شاب ليست له صبوة)
السؤال
ماذا تقول في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك من شاب ليست له صبوة) فما هو رأيك في هذا الحديث؟ وما هو تعليقك عليه؟
الجواب
الذي أعرف أن الحديث في المسند، وهو حديث ضعيف، لكن حتى لو صح الحديث فلا يعني أن المراهق يعيش أزمة، ونحن ما نفينا أن المراهقة فيها مشكلة، وأن المراهقة فيها صعوبة، لكن كلامي يتحدث عن أننا أردنا أن نبرز الوجه الآخر، لأنه يقال الآن إن المراهقة تعني الفساد والانحراف والصبوة، وأنه معذور على كل الأحوال، وهناك فرق بين أن يكون الشاب أكثر عرضة للانحراف، وأكثر إقبال على الشهوات، وبين أن نقول إن المراهق ليس له ذنب وإن الله عز وجل سيهديه عندما يكبر.(48/27)
تربية النفس على الجهاد
السؤال
يقول: لقد علمت ما أصاب إخواننا المسلمين من البلاء، فكيف استشعار المسئولية نحوهم؟ ثم كيف يربي الإنسان نفسه على الجهاد والقتال وهو يكره الجهاد والقتال؟
الجواب
كره القتال طبيعة جبلية، قال الله عز وجل في القرآن: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:216].
هذا شيء طبيعي أن يكره المسلم هذا الأمر، والله عز وجل قال: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7].
هذه قالها الله عز وجل في أهل بدر، هذا وضع طبيعي أن يوجد هذا الأمر، لكن فرق بين الإنسان الذي يكرهه وبين أن ينظر للجهاد ولا يريده ولهذا: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة النفاق).
فالمسلم يهيئ نفسه بالشجاعة يهيئ نفسه بالصبر والتعود على التخلي عن الملذات، ثم يهيئ نفسه بالإقبال على الله عز وجل، ويشعر ويسعى الشاب أن يخدم الأمة، ويخدم الإسلام والمسلمين بكل وسيلة، وأنت قادر بكل ميدان مثل الفصل الدراسي، ومع زملائك وأقاربك في الحي، وأن يقول كلمة، ينصح أحد يقدم هدية: (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اتقوا النار ولو بشق تمرة).
فلا تحتقر أي شيء ولا أي عمل أو كلمة تقولها، فرب كلمة تقولها لشخص تكون سبباً في هدايته بعد توفيق الله عز وجل فأي عمل تقوم به ينبغي لك أن لا تحتقره.
وأسأل الله سبحانه وتعالى كما جمعنا في هذا المقام الطيب المبارك أن يجمعنا وإياكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، وأن يجمعنا وإياكم في جنات النعيم إنه سميع مجيب، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله، إنه سميع مجيب.
هذا والله وأعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك(48/28)
الورع يا رجال الصحوة
الورع مصطلح يكثر ترداده في كتب التزكية والسلوك، وترد تحته قصص وحكايات عن السلف قد صارت عندنا أشبه بالأساطير وأقرب إلى الخيال، حتى إن البعض من المتدينين فضلاً عن غيرهم يسارع إلى التشكيك في مدى صحتها، ويصمها بالمبالغة إن لم يدخلها في عداد الأكاذيب، وقد أورث ذلك عندنا جفافاً وجفاءً، ولذا تجب مراجعة النفس والتخلي عن رعونتها، والاقتداء بالصالحين من السلف السابقين.(49/1)
خير الدين الورع
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: (الورع يا رجال الصحوة) عنوان حديثنا لهذه الليلة المتمة للنصف من شهر شوال، عام خمسة عشر وأربعمائة وألف للهجرة النبوية، على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
الورع مصطلح، من منا لم يسمع عنه، إن من يقرأ في سير السلف أو يستمع إلى وصاياهم، أو يدرس سيرهم لا بد أن تتكرر هذه الكلمة على مسمعه كثيراً.
ويرى وهو يقرأ أنه يتحدث عن قضية تاريخية أصبح بيننا وبينها حجر محجور.
أصبحت قضية من قضايا التاريخ لا نكاد نراها، وحين نقرأ سير السلف وأخبارهم في الورع والزهد والرقائق، فإننا تارة نتهم أسانيد تلك الروايات بالضعف والبطلان، وتارة نتهم ما روي عنهم بالمبالغة والتشدد، وأخرى نتهم الراوي بالغلط والخطأ، لكننا نادراً ما نتهم أنفسنا، وأنها لم ترق إلى إدراك هذه المعاني، وأن قلوبنا لم تصح فعلاً حتى ترى بعين حقيقتها ما كان عليه أولئك من الخوف من الله سبحانه وتعالى، وأنه هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم والسلف السابقين.
وقدمت رجلاً وأخرت أخرى وأنا أريد الحديث حول هذا الموضوع، حتى إني وأنا أعد له وأقرأ عزمت على أن لا أتحدث حول هذا الموضوع، ليس تقليلاً من شأنه وأهميته، لكن ينبغي ألا يتحدث عن الورع إلا أهل الورع، وينبغي ألا يتحدث عن الصدق إلا الصادقون الخائفون المخبتون، والمتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور، لكن عزائي أن أقول لكم: اسمعوا مقالي، وإياكم وحالي! فالقضية أقوال وشذرات من سير سلف الأمة، نسعى إلى ربطها بواقعنا، نقولها لإخواننا ونحن جميعاً نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من الورعين المتقين الصالحين، وإن لم نرق إلى منازلهم فلنتشبه بهم: فإن من تشبه بقوم فهو منهم، والتشبه بالكرام فلاح.(49/2)
معنى الورع
الورع معشر الإخوة الكرام مصطلح نبوي شرعي، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا اللفظ والوصية به فقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه البيهقي في وصيته لـ أبي هريرة رضي الله عنه: (كن ورعاً تكن أعبد الناس، وكن قنعاً تكن أشكر الناس، وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمنا، وأحسن مجاورة من جاورك تكن مسلما، وأقل الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب).
وأيضاً روى البزار والطبراني في الأوسط والحاكم من حديث حذيفة رضي الله عنه، ورواه الحاكم أيضاً من حديث سعد أنه صلى الله عليه وسلم قال (فضل العلم أحب إلي من فضل العبادة، وخير دينكم الورع).
إذاً هذه النصوص الصحيحة أطلق النبي صلى الله عليه وسلم فيها هذا اللفظ وهذا المصطلح، فهو إذاً مصطلح شرعي نبوي، وليس أيضاً بالضرورة كما تعلمون في المصطلح أن يرد بنصه عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما دام المصطلح لا يعارض النصوص الشرعية فلا مشاحة في الاصطلاح.
أما الأدلة على معنى الورع دون لفظه فهي أدلة كثيرة في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ومنها الحديث العظيم الجامع الذي جعله جمع من أهل العلم إحدى الدعائم التي يقوم عليها الإسلام، وهو حديث النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحلال بين وإن الحرام بين، وبينهما مشبهات، لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه).
والحديث مشهور في كتب السنة بروايات عدة، ويحفظه الصغير والكبير، وهو قاعدة في التورع مما يشتبه منه، مع أن معنى الورع كما سيأتي يأخذ مدى أبعد من هذا المدى، ودائرة أوسع من هذه الدائرة، والتورع عن المشتبهات والبعد عنها ليس إلا باباً من أبواب الورع.
ومن الأدلة أيضاً على هذا المعنى حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس) والحديث رواه الإمام مسلم في صحيحه.
وأيضاً جاء وابصة بن معبد إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: (جئت تسأل عن البر؟ فقال: نعم، قال له صلى الله عليه وسلم: استفت قلبك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك).
والحديث رواه الإمام أحمد والدارمي، وله شاهد أيضاً عند الإمام أحمد من حديث ثعلبة، وهذا الحديث فيه إيماء وإشارة إلى تلك الحساسية المرهفة التي يملكها عباد الله الصالحون، فصارت نفوسهم تطمئن للبر، وترتاح إليه، وصارت نفوسهم تأنف من المعصية وإن أفتاه الناس وأفتوه.
ولا شك أن هذا الحديث مع ما فيه من الدلالة على الأمر بالتورع عما حاك في الصدر، وإتيان ما اطمأنت إليه النفس، فهو إشارة إلى حال الصالحين، وإلى حال قلوبهم، التي ترى بنور الله سبحانه وتعالى.
فتطمئن هذه القلوب للبر، والهدى والتقى والصلاح، وتشعر باشمئزاز ونفور وتردد من الإثم وأسبابه، وحين يفتيها الناس ويفتونها ويبدئون ويعيدون، فإنها لا تطمئن.
إن هذه إنما هي حال القلوب الصادقة، ولهذا هذا المقياس في مسألة البر والإثم ليس إلا لعباد الله الصالحين، بل لعله أن يكون أمارة نختبر بها قلوبنا، فإن كانت قلوبنا تطمئن للبر والصلاح والتقوى، وتشمئز من المعصية والسيئة وتنفر منها، فهي قلوب صالحة بإذن الله.
وإن كانت دون ذلك، فهي بحاجة إلى تزكية وإصلاح.
وهو ليس خطاباً للمخلطين، ليس خطاباً للمعرضين، ليس خطاباً لأولئك الذين ران على قلوبهم، فأصبحت نفوسهم وقلوبهم مأسورة بهواها وشهواتها، فأصبح لا يرى إلا من خلال هذه الزاوية، كم من الناس من يطمئن قلبه ونفسه لمعصية الله سبحانه وتعالى، وإيذاء عباده المؤمنين والمتقين.
بل كم من الناس من انقلبت الموازين لديه، فأصبحت السيئة حسنة، فصار يتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بمعصيته وإيذاء عباده، أرأيتم أولئك الذين كانوا يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى، بإيذاء الصالحين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
ويرون هذا ديناً وقربة لله سبحانه وتعالى، في حين كان يسلم من شرهم أهل الأوثان والطغيان والضلال.
أترون أولئك أصبحت قلوبهم تملك هذا المقياس، لقد اطمأنت قلوبهم إلى إيذاء عباد الله المتقين، إلى إيذاء خيرة خلق الله أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، بل يتقربون إلى الله عز وجل بذلك، في حين أنهم كانوا يدعون أهل الطغيان والضلال والأوثان.
إذاً هذا المقياس إنما هو لأولئك الصالحين الذين توجهت قلوبهم لله سبحانه وتعالى، فأصبح القلب لا يحب إلا لله سبحانه وتعالى، ول(49/3)
الورع عند السلف الصالح
ثم ننتقل بعد ذلك إلى بعض التعريفات للورع عن سلف الأمة، وتعرفون جميعاً أن السلف لم يكونوا يعنون بالتحرير المنطقي للتعاريف فتصبح جامعة مانعة، إنما كانوا يقصدون أن يعبروا عن الكلمة بما يقاربها، وبما يفهم السامع.
قال ابن القيم رحمه الله في المدارج: وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم الورع كله في كلمة واحدة فقال: (من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه).
فهذا يعم الترك لما لا يعني من الكلام والنظر والاستماع والبطش والمشي والفكر وسائر الحركات الظاهرة والباطنة، فهذه الكلمة كافية شافية في الورع.
وقال إبراهيم بن أدهم: الورع ترك كل شبهة، وترك ما لا يعني هو ترك الفضلات.
وقال الشبلي: الورع أن يتورع عن كل ما سوى الله.
وقال إسحاق بن خلف: الورع في المنطق أشد منه في الذهب والفضة، والزهد في الرياسة أشد منه في الذهب والفضة، لأنهما يطلبان في طلب الرياسة.
وقال أبو سليمان الداراني: الورع أول الزهد، كما أن القناعة أول الرضا.
وقال يحيى بن معاذ: الورع الوقوف على حد العلم، من غير تأويل.
وقال: الورع على وجهين: ورع في الظاهر، وورع في الباطن.
فورع الظاهر: ألا يتحرك إلا لله.
وورع الباطن: هو أن لا تدخل قلبك سواه.
وقال: من لم ينظر في الدقيق من الورع، لم يصل إلى الجليل من العطاء.
وقيل: الورع الخروج من الشهوات وترك السيئات.
وقيل: من دق في الدنيا ورعه أو نظره، جل في القيامة خطره.
وقال يونس بن عبيد: الورع الخروج من كل شبهة، ومحاسبة النفس في كل طرفة عين.
وقال سفيان الثوري: ما رأيت أسهل من الورع، ما حاك في نفسك تتركه.
وقال سهل: الحلال الذي لا يعصى الله فيه، والصافي منه الذي لا ينسى فيه.
وسأل الحسن غلاماً فقال له: ما ملاك الدين؟ قال: الورع، قال: فما آفته؟ قال: الطمع، فعجب الحسن منه! وقال الحسن: مثقال ذرة من الورع، خيرٌ من ألف مثقال من الصوم والصلاة.
وقال أبو هريرة: جلساء الله غداً أهل الورع والزهد.
وقال بعض السلف: لا يبلغ العبد حقيقة التقوى حتى يدع ما لا بأس به حذراً مما به بأس، ويروى مرفوعاً.
وقال بعض الصحابة: كنا ندع سبعين باباً من الحلال مخافة أن نقع في باب من الحرام.
هذه بعض الأقوال عن السلف حكاها ابن القيم رحمه الله في المدارج حين تحدث عن منزلة الورع.
والوقت يضيق عن سرد أقوالهم وعباراتهم في ذلك.
ومنهم من يستعمل الورع مرادفاً للزهد، ومنهم من يفرق بينهم وهو المشهور عند المتأخرين، أن الزهد: ترك ما لا ينفع في الآخرة.
والورع: ترك ما يخشى ضرره.
فالورع كما سيأتي أعم من الزهد.(49/4)
قواعد وضوابط في الورع
بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الثالثة وهي قواعد وضوابط في الورع، وهي قواعد مهمة حول الورع، وأكثرها مما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله فله حديث حول الورع في مجموع الفتاوى في الجزء العاشر، وفي الجزء العشرين.(49/5)
الورع منه واجب ومنه مستحب
القاعدة الأولى: الورع منه واجب ومنه مستحب، لأن الكثير من الناس حينما يطلق مصطلح الورع ينصرف ذهنه إلى دقائق الورع، والبعد عن المشتبهات، أو الورع عما حاك في الصدر فيرى أن الورع ليس ضمن دائرة الواجبات، إنما هو مقام للخاصة، ومقام للصالحين، وليس واجباً على آحاد الناس.
يقول شيخ الإسلام: فأما الورع المشروع المستحب الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو اتقاء ما يخاف أن يكون سبباً للذم والعذاب عند عدم المعارض الراجح، ويدخل في ذلك أداء الواجبات والمشتبهات التي تشبه الواجب، وترك المحرمات والمشتبهات التي تشبه الحرام.
وإن أدخلت فيه المكروهات قلت نخاف أن تكون سبباً للنقص والعذاب.
وأما الورع الواجب، فهو اتقاء ما يكون سبباً للذم والعذاب، وهو فعل الواجب وترك المحرم، والفرق بينهما -أي بين الورع الواجب والمستحب- فيما اشتبه أمن الواجب هو أم ليس منه، وما اشتبه تحريمه أمن المحرم أم ليس منه.(49/6)
ما لا ريب في حله ليس فيه ورع
القاعدة الثانية: أن ما لا ريب في حله ليس فيه ورع، بل الورع فيه من التنطع.
قال رحمه الله: فأما ما لا ريب في حله فليس تركه من الورع، وما لا ريب في سقوطه فليس فعله من الورع.(49/7)
لا ورع عند وجود المعارض الراجح
القاعدة الثالثة: لا ورع عند وجود المعارض الراجح.
قال رحمه الله: وقولي عند عدم المعارض الراجح فإنه قد لا يترك الحرام البين أو المشتبه إلا عند ترك ما هو حسنة، موقعها في الشريعة أعظم من ترك تلك السيئة.
مثل من يترك الائتمام بالإمام الفاسق فيترك الجمعة والجماعة والحج والغزو.
وكذلك قد لا يؤدي الواجب البين أو المشتبه إلا بفعل سيئة أعظم إثماً من تركه، مثل من لا يمكنه أداء الواجبات من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لذوي السلطان إلا بقتال فيه من الفساد أعظم من فساد ظلمه.
إذاً: الورع ينبغي أن يكون عند عدم المعارض الراجح، فمثلاً قد يتورع شخص كما مثل شيخ الإسلام عن الصلاة خلف الإمام الفاسق، وهذا يعني أن يصلي وحده، فيترك الجماعة التي هي آكد في وجوبها.
وهذا مدخل كما سيأتي في نهاية الحديث يدخل به الشيطان على الكثير فيصدهم عن الإصلاح، وعن الدعوة وعن إنكار المنكرات بحجة الورع من دخول بعض هذه الميادين أو تلك.(49/8)
الورع في الفعل
القاعدة الرابعة: الورع يكون في الفعل كما هو في الترك، وذلك أن البعض من الناس يعتقد أن الورع لا يكون إلا في الترك.
يقول شيخ الإسلام: لكن يقع الغلط في الورع من ثلاث جهات، إحداها: اعتقاد كثير من الناس أنه من باب الترك، فلا يرون الورع إلا في ترك الحرام، لا في أداء الواجب، وهذا يبتلى به كثير من المتدينين المتورعة، ترى أحدهم يتورع عن الكلمة الكاذبة، وعن الدرهم فيه شبهة، لكونه من مال ظالم، أو معاملة فاسدة، ويتورع عن الركون إلى الظلمة من أهل البدع في الدين، وذوي الفجور في الدنيا، ومع هذا يترك أموراً واجبة عليه، إما عيناً وإما كفاية وقد تعينت عليه، من صلة رحم، وحق جار ومسكين، وصاحب ويتيم وابن سبيل، وحق مسلم وذي سلطان وذي علم، وعن أمر بمعروف ونهي عن منكر، وعن الجهاد في سبيل الله، إلى غير ذلك مما فيه نفع للخلق في دينهم ودنياهم مما وجب عليه، أو يفعل ذلك لا على وجه العبادة لله تعالى، بل من جهة التكليف ونحو ذلك.(49/9)
الورع يحتاج إلى الدليل
القاعدة الخامسة: أن الورع إنما هو بأدلة الكتاب والسنة.
قال رحمه الله: الجهة الثانية: من الاعتقاد الفاسد أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه.
أي أن المشتبه يأتي في الواجب ويأتي في المحرم، يأتي في الواجب باعتبار أنه مشتبه هل هل هو واجب أو سنة، وحينها ينبغي على الإنسان أن لا يتركه، حتى لا يتعرض للذم والعقوبة.
والمشتبه في التحريم وهو الإطلاق الغالب والأعم ما يشتبه بتحريمه.
يقول: أنه إذا فعل الواجب والمشتبه وترك المحرم والمشتبه فينبغي أن يكون اعتقاد الوجوب والتحريم بأدلة الكتاب والسنة، وبالعلم لا بالهوى، وإلا فكثير من الناس تنفر نفسه عن أشياء لعادة ونحوها، فيكون ذلك مما يقوي تحريمها واشتباهها عنده، ويكون بعضهم في أوهام وظنون كاذبة، فتكون تلك الظنون مبناها على الورع الفاسد، فيكون صاحبه ممن قال الله تعالى فيه: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23].
ومن هذا الباب الورع الذي ذمه الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح، لما ترخص في أشياء فبلغه أن أقواماً تنزهوا عنها فقال: (ما بال أقوام يتنزهون عن أشياء أترخص فيها، والله إني لأرجو أن أكون أعلمهم بالله وأزكاهم).
وفي رواية: (أخشاهم وأعلمهم بحدوده له).
وكذلك حديث صاحب القبلة، ولهذا يحتاج المتدين المتورع إلى علم كثير بالكتاب والسنة والفقه في الدين، وإلا فقد يفسد تورعه الفاسد أكثر مما يصلحه، كما فعله الكفار، وأهل البدع من الخوارج والروافض وغيرهم.
إذاً قد يكره الإنسان أمراً، وقد ينفر عن أمر فيتورع حينئذ عنه ومستنده ليس الكتاب والسنة، وضرب شيخ الإسلام أمثلة على ذلك، بما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم: (أن أقواماً تنزهوا في أمر ترخص فيه صلى الله عليه وسلم) ومثل الحديث المشهور عن الثلاثة الذين جاءوا فتورع أحدهم عن أكل اللحم فقال: لا أكل اللحم، وقال الآخر: لا أصوم ولا أفطر، وقال الأخر: أقوم ولا أنام.
فتورع هؤلاء ليس من هذا الباب، التورع إنما يكون بأدلة الكتاب والسنة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (أنا أتقاكم لله وأخشاكم له).
يعني أنه لن يأتي أحدٌ أتقى لله وأخشى من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا فمن تورع فيما لم يتورع فيه صلى الله عليه وسلم فكأن لسان حاله يقول: إنه أتقى لله عز وجل وأخشى له من نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.(49/10)
لا ورع إلا بإخلاص
القاعدة السادسة: لا ورع إلا بالإخلاص، فلا بد من الإخلاص، لأنه قد تأتي الإنسان شوائب واعتبارات، فقد يكون له مقام واعتبار، ويرى أنه مما لا يليق بأمثاله أن يفعله أمام الناس، فيكون دافعه لذلك مراءاة الناس.
وقد يكون دافعه حظ النفس أو هوى النفس أو غيرها من الأمور، فالورع مثله مثل سائر الأعمال الصالحة التي يتقرب بها الإنسان عند الله عز وجل لا بد فيها من الإخلاص، قال: واعلم أن الورع لا ينفع صاحبه فيكون له ثواب إلا بفعل المأمول به من الإخلاص.(49/11)
التدقيق في الورع للخاصة
القاعدة السابعة: ذكرها الحافظ ابن رجب وهي أن التدقيق في مسائل الورع إنما هو للخاصة، وليس لآحاد الناس، قال: وهاهنا أمر ينبغي التفطن له، وهو أن التدقيق في التوقف عن الشبهات إنما يصلح لمن استقامت أحواله كلها، وتشابهت أعماله في التقوى والورع.
فأما من يقع في انتهاك المحرمات الظاهرة، ثم يريد أن يتورع عن شيء من دقائق الشبه، فإنه لا يحتمل له ذلك، بل ينكر عليه.
وهذا حال بعض المتكلفين المرائين يسلك هذا المسلك.
كما قال ابن عمر لمن سأله عن دم البعوض من أهل العراق: يسألونني عن دم البعوض وقد قتلوا الحسين وسمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (هما ريحانتاي في الدنيا).
ونقل بعض النقول عن بعض السلف، هي أمثله على هذا النوع، من ذلك والكلام لا يزال لـ ابن رجب: وسأل رجل بشر بن الحارث عن رجل له زوجة وأمه تأمره بطلاقها، فقال: إن كان بر أمه في كل شيء، ولم يبق من برها إلا طلاق زوجته فليفعل، وإن كان يبرها بطلاق زوجته ثم يقوم بعد ذلك إلى أمه فيضربها فلا يفعل.
وسئل الإمام أحمد رحمه الله عن رجل يشتري بقلاً ويشترط الخوصة، يعني التي تربط بها حزمة البقل -والمعنى أنه عندما يشتري البقل وهو مربوط بخوصة يشترط على البائع من تدقيقه في الورع أن الخوصة له لأنه في الأصل اشترى البقل ولم يشتر الخوصة- قال أحمد: أيش هذه المسائل، قيل له: إنه إبراهيم بن أبي نعيم، قال أحمد: إن كان إبراهيم بن أبي نعيم فنعم، هذا يشبه ذاك.
يعني أن إبراهيم مشهور بالورع والتقوى والصلاح فيحتمل منه هذا الأمر.
أما الذين لا يتورعون عن الحرام فينكر عليه الإمام أحمد، والإمام أحمد من هو في الورع والتقوى والصلاح، فيأتينا نقل الآن عنه أنه يتورع عن أشياء ثم ينكر على غيره التورع عنها.
قال: وإنما أنكر أحمد هذه المسائل ممن لا يشبه حاله، وأما أهل التدقيق في الورع فيشبه حالهم هذا، وقد كان الإمام أحمد يستعمل في نفسه هذا الورع، فإنه أمر من يشتري له سمناً فجاء به على ورقة فأمر برد الورقة إلى البائع.
وكان أحمد لا يستمد من محابر أصحابه، وإنما يخرج معه محبرة يستمد منها.
واستأذنه رجل أن يكتب من محبرته فقال له: اكتب فهذا ورع مظلم، واستأذنه آخر في ذلك فتبسم، وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا.
ولاحظ الآن الفرق فإنه أنكر على الذي يشترط الخوصة، بينما كان هو يعيد الورقة التي يشتري عليها السمن، وهو ينكر على الذي استأذن في استعمال المحبرة إنكاراً غليظاً ويخبره أن هذا ورع مظلم، في حين استأذنه آخر فتبسم وقال: لم يبلغ ورعي ولا ورعك هذا.
يقول ابن رجب: وهذا قاله على وجه التواضع، وإلا فهو كان في نفسه يستعمل هذا الورع، وكان ينكره على من لم يصل إلى هذا المقام، بل يتسامح في المكروهات الظاهرة ويقدم على الشبهات من غير توقف.
وهذا الأمر مهم أن نعيه ونحن نورد بعض الروايات مثلاً عن السلف في ورعهم، حتى لا نقع في هذا اللغط، والذي له أحياناً آثار سلبية على نفوسنا، فإننا أحوج ما نكون إلى الورع الواجب، وأحوج ما نكون إلى اجتناب المحرمات الظاهرة الواضحة، وأحوج ما نكون إلى إصلاح قلوبنا، فإذا انشغلنا بهذه الدقائق تركت آثاراً على أنفسنا.
أولاً: تشعر أنفسنا بالزهو وهي لم ترق إلى هذا القدر أصلاً، وتشعر باحتقار الآخرين.
وأيضاً: تنشغل النفس عما هي أولى به من إصلاح القلب، ومن الورع الواجب.(49/12)
نماذج من ورع السلف
ونسوق الآن نماذج من الورع، ولا شك أن أولى النماذج ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك الحديث المشهور في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم: (وجد تمرة في الطريق فقال: لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها).
معناه أنها تمرة في الطريق فهناك احتمال بعيد أن تكون من تمر الصدقة.
وتضور صلى الله عليه وسلم ليلة فقيل له في ذلك فقال: (إني وجدت تمرة مسقوطة فأكلتها فأخشى أن تكون من تمر الصدقة).
وقصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مشهورة ترويها عائشة رضي الله عنها حين كان له غلام يأتيه بالخراج، فكان يسأله عن الطعام الذي يأتي به فلم يسأله ذات يوم فقال: ما بالك لم تسألني؟ فسأله فأخبره أنه كان تكهن في الجاهلية ولم يحسن الكهانة فجاء وتقاضى هذا فتقيأ أبو بكر رضي الله عنه ما في بطنه، مع أن هذا الأمر لا يلزمه، والطعام ليس حراماً لأنه أكله وهو لم يعلم بتحريمه وهو معذور كل العذر في ذلك، لكن هذا من ورعه رضي الله عنه.
ومر عبادة بن الصامت رضي الله عنه بقرية دمر فأمر غلاماً أن يقطع له سواكاً من صفصاف على نهر بردى، فمضى ليفعل ثم قال له: ارجع، فإنه إلا يكن بثمن فإنه ييبس فيعود حطباً بثمن.
ونسوق بعض النقول عن السلف في الورع مع ملاحظة ومراعاة أن النقول عن آحاد السلف ليست حجة، فقد يتحفظ على بعض ما ينقل، لكن هذا الورع في الجملة مطلوب، وهذه النقول في الجملة تعطينا صورة عن حال السلف، لكن لا يعني أن كل ما يفعله آحاد السلف فهو حجة وأمر مطلوب من الناس، مع مراعاة القاعدة التي أشرنا إليها قبل قليل.
كهمس سقط منه دينار ففتش عنه فلقيه ثم لم يأخذه قال: لعله غيره، لعله غير الدينار الذي سقط مني.
ويروي الحسن بن عرفة عن ابن المبارك قال: استعرت قلماً بأرض الشام على أن أرده فلما قدمت مرو نظرت فإذا هو معي، فرجعت إلى الشام حتى رددته على صاحبه.
وكان لـ علي بن الفضيل بن عياض -والفضيل بن عياض من الورعين الزهاد وابنه علي كذلك من الورعين وكان توفي رحمه الله في حياة والده، وكان والده يتحدث عن ورعه وزهده- كان له شاة أكلت شيئاً يسيراً من علف أمير فما شرب لها لبناً بعده.
وسقط من عقدة دنانير فجاء بنخال ليطلبها فقال عقدة: فوجدتها ثم فكرت فقلت: ليس في الدنيا غير دنانيري! فقلت للنخال: هي في ذمتك، وذهبت وتركته.
وروى ابن أبي الدنيا في الورع أن امرأة من الصالحات أتاها نعي زوجها وهي تعجن، فرفعت يدها من العجين وقالت: هذا طعامٌ قد صار لنا فيه شريك.
لأن هذا الطعام قد صار للورثة.
وأخرى أتاها نعي زوجها والسراج يتقد، فأطفأت السراج وقالت: هذا زيت قد صار لنا فيه شريك.
هذه بعض النماذج من مواقف السلف والأمثلة على ذلك كثيرة، وحين تقرأ في أي كتاب من كتب التراجم لا تخطئك مثل هذه المواقف وغيرها عن سلف الأمة رضوان الله عليهم.(49/13)
الصحوة والورع(49/14)
الورع في الجانب الشخصي
أخيراً: ننتقل إلى الحديث المهم وهو الصحوة والورع، فتحدثنا حول قضايا لتأصيل الورع وبعض القواعد المهمة فيه، ثم نعود بعد ذلك إلى الحديث عن الصحوة وحاجتها إلى الورع.
فنحن أولاً نحتاج إلى الورع في الجانب الشخصي، والسلوك عند الناس، بدءاً بالورع الواجب، وهو ما أوجبه الله سبحانه وتعالى من فعل الواجبات، وترك المحرمات.
ولعلنا نتساءل بأسى وحزن: أين نماذج العباد الصالحين، الأخيار الأتقياء، التي كنا نسمع عنها في حياة السلف؟ أين صور العبادة والإقبال على الله سبحانه وتعالى، والزهد والورع والخوف من الله عز وجل وصلاح القلوب؟ أين تلك الأحوال التي سقنا بعضها، والتي نسمع عنها من أخبار السلف، فما بالنا لا نرى نماذج منها؟ وما بالنا عندما نسمع هذه القضايا نشكك في صحتها، أو نشكك في نسبتها، أو نبحث عن المعاذير؟ لأننا لم ترق نفوسنا أصلاً لإدراك هذه المعاني؟ ها نحن نرى جيل الصحوة المبارك وقد ملأ الآفاق، وانتشر بحمد الله وعلا صوته، فهل نرى في جيلنا العباد والزهاد والورعين، نحن لسنا نحكم على الناس، ولا شك أن هذا الجيل فيه خير كثير والحمد لله، لكن أيضاً ألا ترون معي أننا نفتقد هذا الجانب كثيراً في سلوكنا، وأننا أحوج ما ندعو الناس بأعمالنا وسلوكنا.
إن المقالة التي يقولها المرء قد تحرك القلوب، وتؤثر في النفوس، وقد تسطر وتتداولها الأجيال، لكنها لا يمكن أن ترقى بحال إلى موقف يقف، وحدث يروى فيترك أثراً عظيماً في النفوس أبعد بكثير من آثار هذه الكلمة المجردة.
فلماذا لا نسعى إلى أن نتمثل هذه النماذج في أنفسنا، فنكون كما أننا ندعو الناس إلى ترك المنكرات بأقوالنا وأعمالنا ندعو الناس إلى الإقبال على العلم الشرعي، وعلى طاعة الله عز وجل بما نقول ونحدث الناس به، ونكون كذلك قدوة في أعمالنا، وفي سلوكنا، وفي صلاحنا واستقامتنا فندعو الناس بأعمالنا وأحوالنا قبل أن ندعوهم بأقوالنا، وأن نكون ممن إذا رءوا ذكر الله عز وجل.(49/15)
تربية الناشئة على الورع
الأمر الثاني: تربية الناشئة وجيل الصحوة على ذلك، كما طرحنا السؤال السابق نطرحه مرة أخرى: ما مدى اعتبار هذا الجانب ضمن أهدافنا التربوية، هل نحن نسعى فعلاً جيل ورع، يتصف بصفات التقوى والصلاح والخوف من الله سبحانه وتعالى؟ ألسنا نعاني الآن من كثير من الأمراض التي يعاني منها الشباب ويبحث عن الحل والعلاج والمخرج؟ والعلاج والمخرج هو في الإيمان بالله سبحانه وتعالى والصلاح والتقوى.
فكم يرى منا الجيل والناشئة من الحديث حول هذه القضايا في مجالسنا وفي دروسنا وفي منتدياتنا، فعلينا أن نحدث الناشئة وأن ندعوهم وأن نربيهم من خلال القول والتعليم والتدريس وأن نربيهم من خلال العمل، والسلوك فيرون فيما نقدمه لهم وفي سلوكنا التورع عما حرم الله.
نعم لا شك كما قلت أننا نرى جيلاً من الشباب والناشئة قد أقبل على الخير، وأقبل على طاعة الله سبحانه وتعالى، قد أخذ على نفسه أن يصلح ويغير في واقع أمتنا، وصار الناس يتطلعون إلى هذا الجيل، وينظرون إليه نظرة المحب، نظرة من وقع على كنز كان يبحث عنه.
وينظرون إليه أيضاً نظرة المشفق عليه من الانحراف أو الضياع، والمشفق عليه من كيد أعدائه ومكرهم، وهذا دليل على أن الناس قد بدءوا يشعرون أن هؤلاء يمثلون بإذن الله عز وجل خيط النجاة لهم، وهذا أمر صحيح.
لكن أيضاً ينبغي أن نربي هذا الجيل الذي يتطلع الناس إليه على الورع وتقوى الله عز وجل، والخوف منه، فإنه يحاط بفتن كثيرة، يحاط بفتن الشهوات، ويحاط بفتن الشبهات، ويحاط بوسائل تصده عن سبيل الله عز وجل وتفتنه عنه، فنخشى أن يكون من بينهم من يؤمن بالله سبحانه وتعالى ويتوجه له لكن تأتيه شهوة من شهوات النفس فتصرفه وتصده.
أو يكون بينهم ممن قال الله عز وجل فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10].
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى} [النساء:77].
إن هؤلاء وأولئك لو تربوا على الورع والإيمان والتقوى والصلاح لسمت نفوسهم، ولاستطاعوا بإذن الله عز وجل وتوفيقه أن يجتازوا هذا البلاء وهذا الامتحان.
أقول: إن الشباب والفتيات وجيل الصحوة تواجهه فتن العصر الحاضر، فتن الشهوات وفتن الشبهات، وكم نرى ممن يتنكب الطريق، وممن يزيغ يمنة ويسرة، ولو عنينا بتربية الإيمان والتقوى والورع في النفوس لكان ذلك بإذن الله سبحانه وتعالى حاجزاً وسداً مانعاً من مقارفة هذا الفساد والانحراف، ولكان مانعاً بإذن الله عز وجل من ضياع هذه النشأة.(49/16)
الورع في ترك السكوت عن المنكرات والدعوة إلى الله
الأمر الثالث: الورع في ترك السكوت عن المنكرات وترك القعود عن الدعوة.
ومن العجائب أن ترى من الناس من يقعد ويسكت ويتخاذل ويرى أن هذا ورع، أي أنه يتورع عن الحديث للناس، والتصدر لهم، ويتورع عن نشر علم آتاه الله إياه، ويتورع عن بيان علم قد علمه الله عز وجل إياه، لكنه لا يتورع أن يكون ممن قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:159 - 160].
فمن يتورع عن أن تصيبه هذه الآية، ومن يتورع أن يكون من أهل هذه الآية! إنه قد يتورع أن يقول حقاً رآه أو علمه حتى لا يكون ممن يقول ما لا يفعل، أو حتى لا يعرفه الناس، لكنه ينسى أنه قد يكون ممن يلعنهم الله ويعلنهم اللاعنون، ممن يكتم ما أنزل الله من البينات والهدى، ولا يتورع أن يكون يوم القيامة ممن هو متوعد بأن يلجمه الله بلجام من نار يوم القيامة: (من سئل عن علمٍ فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار).
إذاً: فكما أننا ينبغي أن نتورع في كلامنا ومنطقنا، فلا يتحدث المرء إلا بما يعلم، ولا يقول إلا ما يحسن، ولا يدعو إلا بعلم، وأن نؤكد على الناس ذلك، فكذلك يجب أن نتورع عن كتمان العلم، يجب أن نتورع عن كتمان حق نعلمه، ويجب أن نعلم أن ذلك مجلبة للعنة الله والملائكة والناس أجمعين، وأن ذلك مجلبة لأن يحق على المرء لعنة الله واللاعنين.
وقد أخذ الله عز وجل الميثاق على {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
أخذ الله عز وجل الميثاق على أهل العلم أن يبينوا وأن يتحدثوا، وأن ينكروا إذا رأوا منكراً، وأن يأمروا بمعروف إذا رأوه معطلا.
ومن هم أهل العلم؟ إن أهل العلم هم كل من آتاه الله علماً في مسألة من المسائل، فمن علم أمراً من شرع الله عز وجل وتيقنه فهو من أهل العلم في هذا الميدان، ويصدق عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
وكان مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كما في حديث عبادة بن الصامت قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر والمنشط والمكره وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله).
وبقية الحديث: (وعلى أن نقول بالحق حيث كنا، لا تأخذنا في الله لومة لائم).
فلماذا نجتزئ الحديث ونأخذ الشطر الأول منه ونترك بقيته التي تلزمنا المسلم أن يقول بالحق، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وأن ذلك مما بايع النبي صلى الله عليه وسلم عليه أصحابه.
إذاً: فالقعود عن المشاركة في الدعوة، والقعود عن إنكار المنكرات وعن تعليم ما يحتاجه الناس، وعن نشر العلم، والخير، وعن نشر كلمة الحق التي يحتاجها الناس، عن بيان ما يرى المرء أنه حق؛ القعود عنه هو أعظم إخلال بالورع، وهو مجلبة لاستحقاق لعنة الله سبحانه وتعالى، ولعنة اللاعنين، وهذا من كيد الشيطان لبعض المتدينين والعابدين؛ أن يروا أن من باب الورع والصلاح والتقوى أن يبتعدوا عن هذا الأمر، وينسون أن يتورعوا عن السكوت عن ما حرم الله عز وجل السكوت عنه.(49/17)
تورع الداعية عن القول بغير علم
الأمر الرابع: في المقابل أن يتورع الداعية عن أن يقول ما لا يعرف: كما أنه يجب أن يتورع فلا يسكت عن حق يعلمه، ولا يتخاذل عن تعليم ما يعلمه، أو عن أمر بمعروف ونهي عن منكر، فكذلك أيضاً يجب أن يتورع فيما يقول، وأن يعلم أنه يوقع عن رب العالمين، وكما أنه يحذر أن ينطبق عليه قول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة:159]، ويحذر أن ينطبق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم فكتمه) كذلك ينبغي عليه أن يحذر من أن يكون ممن ينطبق عليه قول الله عز وجل: {وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33].
أو ينطبق عليه قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
فيتورع أيضاً عن أن يقول أمراً لا يرى أنه الحق، أو لا يوقن أنه حق، وعليه أن يعلم أنه مسئول أمام الله عز وجل عن كل كلمة يقولها.
والمهم في ذلك أن يجتهد، وأن يبذل وسعه، ولو أخطأ في ذلك بعد أن بذل جهده ووسعه فالله سبحانه وتعالى يغفر له، بل هو مأجور على اجتهاده.
لكن حين تريد أن تقول كلمك تنقل عنك وتسطر عنك، وحين تريد أن تنكر أمراً أو تأمر بأمر فعليك أن تسأل نفسك: هل هذا مما يرضاه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا مما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم؟ هل هذا من الحق الذي لا مرية فيه؟ أم أن هناك مداخل، وهناك هوى، فقد يسأل الإنسان فيخشى ألا يجيب فيتهم بنقص العلم.
أو قد يكون هناك مدخل هوى أو رغبة أو رهبة أو غير ذلك، فعليه أن يتورع أن يتحدث بغير علم، وميدان الدعوة ميدان فسيح يا معشر المسلمين، كثيرة هي الأمور التي نعلمها ونعلم أنها محرمة ولنا فيها ميدان فسيح وواسع، لم تضق الدائرة إلى تلك القضية التي لم تتضح فيها المعالم لنا حتى نتحدث فيها، من من المسلمين يجهل مثلاً أن محبة الكفار وموالاتهم وإعانتهم ونصرتهم ضلال قد توصل المرء إلى الكفر بالله عز وجل؟ مَنْ مِن المسلمين يجهل أن تحكيم غير شرع الله عز وجل كفرٌ بالله سبحانه وتعالى؟ مَنْ مِن المسلمين يجهل أن دعاء غير الله والتوجه له، وأن التوسل بالصالحين والتبرك بآثارهم أمرٌ محرم؟ مَنْ مِن المسلمين يجهل تحريم البدع والسفور والربا والخمر والغناء والظلم والبغي وأكل أموال الناس بالباطل والكذب والغيبة والنميمة، وغيرها من المحرمات الظاهرة التي يعلمها الصغير والكبير؟ أقول: أمامنا ميدان فسيح من هذه الأمور وهذه المخالفات، فينبغي أن نتحدث في مثل هذه الأمور والمنكرات الظاهرة الواضحة.
أما دقائق الأمور فحين يعلمها المرء ينبغي أن يتكلم، لكن حين لا يثبت الحكم لديه فله مندوحة، وحين يراجع نفسه ويشعر أن ثمة مأخذ عليه فإنه يتورع ويتركها.(49/18)
أمور يخل بها كثير من الدعاة
خامساً: وأخيراً وهي من الأمور المهمة والتي يخل بها الكثير من المنتسبين لجيل الصحوة، ونحن لا شك نحسن الظن أن الخطأ يقع فيها من باب الاجتهاد، والكلام هنا عن باب الورع في المسائل الدعوية والأمور الدعوية، ولنأخذ على ذلك مثالين مما يتسع لهما هذا الوقت.
الأمر الأول: في الميادين التربوية.
كثيراً ما نقع في مخالفات شرعية ظاهرة واضحة، وكثيراً ما ننسى الضوابط الشرعية المهمة لمثل هذه الميادين، ونتصور مثلاً أن المربي أو الأستاذ أو الداعية ينبغي أن يعلم وينبغي وينبغي إلى آخره، ونعطيه صلاحيات واسعة تتيح له تجاوز كثير من الضوابط الشرعية.
فالأصل أن أعراض الناس محفوظة، فلا يجوز الحديث عن أعراض الناس ولا ذمهم ولا غيبتهم، وحين تأتي حاجة تبيح ذلك فإنها ينبغي أن تكون محصورة ضمن هذه الدائرة.
فأحياناً يغفل المرء عن هذا الأمر فيتوسع في مثل هذه الميادين، وتتحول الحاجة إلى قاعدة عامة، وينسى أن أعراض المسلمين أعراض محفوظة لها حرمتها.
ومن هؤلاء من يتربون على يديه، فليعلم أن أعراضهم محفوظة، وأنه ينبغي أن يحفظ أعراضهم، وأن يحفظ حقوقهم، وأنه لا يجوز أن يتحدث في أعراضهم إلا حين تكون هناك مصلحة شرعية ظاهرة تبيح له ذلك، وما سوى ذلك فالأصل أن يحفظ أعراضهم.
والأصل أن ذلك داخل تحت قول الله سبحانه وتعالى: {وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات:12].
والتطلع على دقائق أمور الناس وخفاياهم أمر حرمه الله عز وجل، فقال: {وَلا تَجَسَّسُوا} [الحجرات:12].
ونهانا أن نتطلع إلى دواخل الناس، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه مأمور بأن يعامل الناس على ظاهرهم، قال: (إني لم أومر أن أنقب عن بطون الناس).
وتوعد صلى الله عليه وسلم من يتتبع عورات الناس أن يتتبع الله عورته ويفضحه ولو في جوف بيته، فقال: (من تتبع عورات الناس تتبع الله عورته، حتى يفضحه الله ولو في جوف بيته).
وهذا نص عام يخاطب كل الناس، يخاطب فيه الطالب والأستاذ والمربي والصغير والكبير، وكون الإنسان يتولى أمراً أو مسئولية لا يعفيه إطلاقاً من النصوص الشرعية، ولا يجيز له أبداً أن يعمل بقانون الطوارئ كما يقال، فيرى أن توليه لهذه المسئولية أو تلك يبيح له تسلق هذه الأسوار وتجاوز هذه الحدود، فهي حدود الله فلا يجوز أن يتعداها.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أشار إلى هذا المعنى في نهيه صلى الله عليه وسلم أن يطرق الرجل المسافر أهله ليلاً، قال: (لئلا يتخونهم يطلب عثراتهم).
يعني أن الرجل حينما يكون مسافراً فأحياناً قد يفكر أن يأتي لأهله فجأة حتى يكتشف حالهم، ويكتشف أنه لا يكون عندهم مشكلة أو معصية، أو ألا تدخل زوجه أحداً غريباً في البيت، فينهى صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا النوع، وينهى عن طلب العثرات وعن تخون الناس، ويقول صلى الله عليه وسلم: (من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يبغض الله، فأما الغيرة التي يحب الله فالغيرة في ريبة، والغيرة التي يبغضها الله الغيرة في غير ريبة).
فالتطلع على دقائق أحوال هؤلاء لا ينبغي ولا يسوغ، بل لا يجوز، وهذا من باب التطلع على عورات الناس.
وينبغي أن نراجع أنفسنا كثيراً في أعمالنا الدعوية، وفي جهودنا ووسائلنا وبرامجنا، هل هي تنضبط بالضوابط الشرعية أم لا؟ ويجب أن نعرف أن كون الإنسان داعية أو مربياً، وكون الإنسان مصلحاً لا يمكن أبداً أن يعفيه من نصوص الشريعة، وأن شأنه شأن سائر الناس، مخاطب بالنهي عن غيبة المسلمين، مخاطب بالنهي عن احتقارهم، مخاطب بالنهي عن التطلع على أسرارهم، وعما وراء ذلك مما قد يظن أن في هذا الأمر مصلحة شرعية، ولو كان به مصلحة لأجاز النبي صلى الله عليه وسلم للزوج أن يتطلع على زوجته.
ولو كان فيه مصلحة لاستجازه صلى الله عليه وسلم، وقد نهى صلى الله عليه وسلم من يخبره عن أصحابه، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما أحب أن يبلغني أحد عن أحد شيئا).
كان إذا أتاه أحد من أصحابه يخبره عن بعض أصحابه لا يرضى صلى الله عليه وسلم فنهى أن يخبر أحد عما في نفوس أصحابه، مع أنه قد يقال: إن المصلحة أن يعرف دقائق أمور أصحابه، حتى يصلحهم أو حتى يدعوهم، لكن المسلم والداعية شأنه شأن غيره يتعامل مع الظاهر، والغالب أن الظاهر مرآة للباطن، وأن ما يخفيه الإنسان لا بد أن يظهر على جوارحه، ولهذا لا يجوز له أن يتطلع ويبحث عما وراء ذلك.
وقد أشرت إلى أمثلة ونماذج؛ لكن عموماً يجب أن لا يفارقنا الورع في أمورنا التربوية وأمورنا الدعوية، وأن نحسب ألف حساب لعملنا، وأن نشعر أن هذا عمل صالح نتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى فيجب أن ينضبط بالضوابط الشرعية، وأننا مخاطبون كسائر الناس بالآداب الشرعية، وكون هذا العمل عمل دعوة وتربية وعمل إصلاح لا يعفي بحال من الالتزام بالضوابط والنصوص.
وقل مثل ذلك في الأعمال والبرامج الد(49/19)
الأسئلة(49/20)
البدء بالورع الواجب
السؤال
ما هي المرحلة والمنزلة التي تسبق الورع للأخذ بها؟
الجواب
أصل الورع قضية مبنية على وهم أشرنا إليه في المحاضرة، وهي شعور الناس أن الورع في ترك الشبهات، وقد قلنا في أول القواعد إن يكون واجباً ويكون مستحباً.
إذاً: أول قضية الورع عن المحرمات والورع في فعل الواجبات، هذا ضمن دائرة الورع.
وهذا لا يعذر فيه أحد من المسلمين؛ لكن كلام السلف عن الورع المستحب.(49/21)
حكم إجابة دعوة الوليمة المشتملة على منكر ومصلحة
السؤال
إذا كان هناك من يتورع عن تلبية الدعوة إذا كانت من شخص لديه منكر في منزله، مع العلم أن ذهابه وإجابة الدعوة قد تكون من باب دعوته إلى الله، فما رأيكم في ذلك، علماً بأن صاحب المنكر قريب له؟
الجواب
إذا كان يترتب على ذلك دعوة وتأديب ورأى أن مصلحة ذهابه خير من بقائه، فينبغي عليه أن يذهب، وهذه الأمور توزن بالموازين الشرعية، فقضية أن عنده منكراً لكن سينكر عليه منكراً آخر، أو يتسبب هجره في وقوعه في منكر أكبر منه، كما ترك النبي صلى الله عليه وسلم هجر الرجل الذي كان يشرب الخمر، لأن هجره قد يوقعه في ما هو أكبر منه.(49/22)
التأثر بسير السلف والعجز عن التأسي بهم
السؤال
عندما نقرأ سيرة من سير السلف ونتدارسها فإننا نتأثر بما نسمع عنهم وبمواقفهم، وربما تأسينا بهم في مثل هذه المواقف، ولكن ما نلبث أن نرجع لحالنا السابقة، وغلب الواقع وتغيرنا، وسأضرب لك مثلاً.
عندما نقرأ أن السلف كان بعضهم لا يسأل أحداً شيئاً، فيعاهد أحدنا نفسه ألا يسأل أحداً شيئاً، ولكن ما يلبث أن يشعر بالغربة فيرجع لسؤال الناس، فنرجو التوضيح.
الجواب
هذا من منازل الناس العليا في الصلاح، ونحن ينبغي أن نأخذ منهجاً قبل هذا كله، فأقول: كونه لا يسأل الناس شيئاً هذه منزلة عالية، وبايع النبي صلى الله عليه وسلم عليها خاصة أصحابه، فأنت حينما تكون أنت عندك مشكلات أصلاً في الثقل عن الواجب والوقوع في الحرام، ينبغي أن تصرف الهمة لعلاج هذا الأمر.(49/23)
الفرق بين الورع والغلو
السؤال
ما الفرق بين الورع والغلو؟
الجواب
الورع اتباع المشروع، سواء كان واجباً أو مستحباً، والغلو: أن يتكلف المرء ما لم يرد الشرع به.(49/24)
العلاقة بين الورع والزهد
السؤال
ما وجه الارتباط بين الورع والزهد؟
الجواب
سبق أن أشرنا إلى ذلك، وقلنا إن الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يخشى ضرره.(49/25)
دقائق الورع التي ينهى المقصرون عنها
السؤال
عندما ذكرتم القاعدة السادسة، وهي أن دقائق الورع لا تكون إلا لخواص الناس الذين استكملوا الحسنات الظاهرة، وتركوا المحرمات عموماً، وذكرتم أنه على هذا فترك دقائق الورع لأمثالنا من المقصرين خير، فهذا صحيح؛ ولكن هذا يعني أن المقصر إذا كان يستطيعه لا يفعله، ولو كان حتى منفرداً مع محاولة هذا الشخص إكمال نفسه وإصلاحها؟
الجواب
إذا كان يستطيع فليتوجه للأمور الأهم، مثل السنن الشرعية المتأكدة في القرآن وقيام الليل والصدقة والإحسان للناس، وترك المحرمات والمكروهات ويبتعد هذا عن الكلام في الدقائق، لا عن ترك المشتبهات، وضربنا أمثلة بإنسان يستأذن في الأخذ من المحبرة أو يعيد الورقة التي اشترى عليها السمن للذي باعه، مثل أن يأتي إنسان فيأخذ (شوارما) يأكله وبعد أن ينتهي يعيد الورقة إلى صاحبها مثلاً، فهذه دقائق الورع.
بعض الناس يتصور أن ترك النظر الحرام من دقائق الورع، أو يتصور أن ترك الأمر الذي فيه شبهة من دقائق الورع، وإنما المقصود بدقائق الورع الأمور التي يسوغ للإنسان أن يتركها بكل سهولة.
ولهذا أنكر السلف على من فعل ذلك لأن الأمر واسع فيها.
فقضية تحرير الدقائق أمر مهم، لأنه مقياس في أن هذه من الدقائق أم ليست من الدقائق.(49/26)
التورع عن فعل الخير
السؤال
عندما يسأل الشيخ طلابه في مجلس ذكر ونحوه، يتحرز بعض الطلاب عن الإجابة مع كونهم يعرفونها، ويرون ذلك ورعاً، وكذلك إلقاء الدرس ودخول المسابقات وغيره يراه البعض ورعاً فما رأيك؟
الجواب
هذا ليس من باب الورع، ونحن صراحة بحاجة إلى إبراز الطاقات وإلى تربية النفوس الناشئة، وتعويد الشباب ورفع هممهم.
ولو كنا نفكر بهذه العقلية فلن نجد الخطيب ولن نجد من ينكر المنكر، ولن نجد من يدرس ولا من يعلم، ولا من يقضي حوائج الناس، بحجة التورع، وهذه ليست تورعاً فإن ي صلى الله عليه وسلم كان يسأل أصحابه وكانوا يجيبون.(49/27)
الورع الواجب والورع المستحب
السؤال
أرجو إعادة ذكر الورع الواجب والورع المستحب وأمثله لكل واحد منهم، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
الورع الواجب هو في ترك الحرام، مثل ترك النظر الحرام، وترك الذهاب إلى مكان يعرف أنه إذا ذهب إليه فإن فيه تبرجاً وسفوراً، فسيرى صوراً فاتنة ومواقف فاتنة وهو لا يملك نفسه، فهذا يجب عليه ألا يذهب، وهذا ورع واجب.
وكذلك في فعل الواجبات الشرعية، مثل إنسان أمرته والدته بأمر وهو مشغول أو متعب، فيرى أنه من الورع أن يفعل هذا الأمر الذي أمر به، وألا يخل به لأن هذا واجب.
والورع المستحب في ترك المكروهات، والأمور المشتبهة كما أخبر صلى الله عليه وسلم، وهي مشتبهة بالنسبة للناس، وإلا فالشرع كله واضح، لكن بالنسبة للإنسان قد يشك: هل هي حرام أم حلال، وأضرب لذلك مثالاً: من المسائل التي اختلف فيها الفقهاء مسألة الأنفحة في الجبن، فإن من المواد التي يصنع منها الجبن الأنفحة، وأنفحة الميتة هل هي نجسة أم طاهرة؟ هذه محل خلاف.
فحين يتورع الإنسان عن هذا الأمر فهو من الورع المستحب، وخاصة قضية المطعم والمشرب فكل ما تورع فيه الإنسان فهو خير، لأن المطعم له أثر في إجابة الدعوة، لكن لو أن إنساناً استقر عنده أن هذه ظاهرة، وأنها لا تتأثر ولا تنجس بالموت، فقد اتضحت عنده الحقيقة، لكن هي شبهة بالنسبة لغيره.
ونقول مثل ذلك في معاملاته، فهذه المعاملة قد تكون عندك واضحة أنها مباحة، لكن عند فلان من الناس شبهة، فلهذا قضية الشبهات قضية نسبية بالنسبة للناس، يعني أنه قد يشتبه الأمر على أحد الناس دون غيره، أما في الجملة فلا بد أن يكون الحق قد قال به أحد الناس: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين).(49/28)
حكم ترك المسئولية خوفاً من المساءلة يوم القيامة
السؤال
هل ترك المسئولية في العمل والنزول إلى عمل ليس فيه مسئولية، والقصد من ذلك الخوف من الله في يوم العرض أن يسأله عن الغير؛ هل هذا نوع من الورع المذموم أو المرغوب؟
الجواب
يختلف هذا الأمر، إذا كان يوجد من أقرانه من يقوم به، فحينئذٍ ينبغي أن يتورع، وهذا الخوف من تحمل المسئولية.
لكن حينما يكون الناس الآخرون سيئين، كما لو كان هناك متدينون وعلمانيون فلا ينبغي للصالحين التورع وترك الأمر لأولئك الفجار السيئين، بل حينما يكون البديل رجلاً فاجراً يجب أن نزاحمه، بل من الورع الدخول في هذا الميدان، والورع عدم ترك هذه الميادين لهؤلاء، وينبغي أن نتجاوز هذه العقلية.
وأعمال السلف تختلف، وهناك قاعدة مهمة -واسمحوا لي ولو استطردت في هذه القضية- لأنه كثيراً ما يحتج الناس بأقوال السلف، وأقوال السلف تختلف: أولاً: أقوال آحاد السلف ليست حجة مطلقاً، بل يجب أن تعرض على الكتاب والسنة.
ثم أقوال آحاد السلف ليست هي منهج السلف، أحياناً إنسان يقول: هذا منهج السلف، أو هذا خلاف منهج السلف، ثم يختار من أقوال السلف ما يؤيد الكلام الذي يقوله، ويترك بقية الأقوال.
فمنهج السلف أن تجمع كل أقوالهم ثم تناقش القضية على ضوئها، لا أن تختار الأقوال التي تؤيدها ثم تقول هذا منهج السلف، فهذا غير صحيح.
ثم القضية المهمة التي هي موضع الشاهد هنا: أن السلف عاشوا عصراً، له ظروف معينة، وأوضاع معينة، فحينما يقول أحدهم كلاماً، ويفعل عملاً فإنه ينطبق على عصره، وعلى موطنه، فلا نسوق الكلام الذي قاله ونطبقه على عصرنا، فمثلاً: من السلف من عاش في بلاد المغرب أو مصر تحت حكم العبيديين، وقد كانوا باطنيين وكفاراً، فهذا سيكون له قول فيهم غير قول الذي عاش عند هارون الرشيد، أو عند أبي جعفر المنصور، أو غير قول الذي عاش عند عمر بن عبد العزيز، هناك من عاش في المدينة بين الصحابة وبين أبناء الصحابة، وهناك من عاش في الأندلس، وهي بلاد بعيدة وحديثة عهد بالإسلام، فوضع هذا غير وضع ذاك، والأقوال التي يقولها هذا غير الأقوال التي يقولها ذاك.
فالشاهد أن أقوال السلف مع أنها يجب أن نحفظها ونعنى بها، لكن يجب أيضاً أن نضع في الاعتبار العصر الذي قيلت فيه.
فهذا حينما يتورع عن توليه المسئولية سيخلفه غيره ومن هو خيرٌ منه، وربما من هو من دونه لكنه فيه خير وعلم وفيه صلاح.
لكن ما كان أحد من السلف في مسؤلية فيتخلى عنها وهو يعرف أنه سيتولاها علماني، أو رجل صاحب شهوات، لا، لأن القضية تصير كما قال يوسف: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55].(49/29)
ترك العمل خشية الرياء
السؤال
عندما أعمل خيراً أحس أني أفعل الرياء، وعندما أحاول أن أتخلص منه لا أستطيع التخلص منه؟
الجواب
إحساسك بالرياء دليل إن شاء الله أنه من العمل الخالص لله، لأن المرائي أصلاً مرتاح من العمل، ويتمنى من الناس أن ينظروا إليه، هذا نوع من الرياء، ونحن نتهم أنفسنا ونراجع أنفسنا ونسأل الله الإخلاص، ولكن لا تترك العمل خوفاً من الرياء، بل اعمل وأخلص النية لله عز وجل.
وقد قيل: من رأى إخلاصه في إخلاصه فهو غير مخلص.
يعني: من رأى أنه مخلص فإخلاصه يحتاج إلى مراجعة، والسلف عندهم دقائق وعبارات جميلة حول هذا كما كانت تقول رابعة الشامية: أستغفر الله من قلة صدقي في قولي أستغفر الله.
وكانوا يقولون: استغفار يحتاج إلى استغفار، أي: أننا يجب أن نستغفر لاستغفارنا، لأنا غير جادين في الاستغفار.
فكذلك الشعور بالإخلاص لأن المخلص يجب ألا يشعر بهذا، فعلى السائل أن يجاهد نفسه، لكن لا يترك العمل لأجل خوف الرياء.(49/30)
حكم الإنكار على الورع وتسميته تنطعاً
السؤال
نظراً لاختلاف المقاييس بين جيلنا والسلف فإنه ينكر على الشاب كثيراً عندما يريد أن يتورع، ويكون هذا الإنكار من الشباب الملتزمين على أنه تنطع، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
أحياناً يقال لمن حافظ على صلاة الفجر: إنه متنطع ومتفرغ، الذي يطالب بتغطية وجه المرأة يقال له أيضاً هذا تنطع.
وهذه مقاييس واسعة، لكن ميزان كل إنسان يكون على حسب دينه وتقواه وورعه، وهو يحس أنه في الوسط، وحس أن الذي أتقى منه غلاة ومتشددون ومتورعون، وكثيراً ما نسمع هذا الكلام.
وللأسف أن بعض الصالحين الأخيار عندما يرى إنساناً يتورع عن شيء يقول هذا متشدد، ونحن نقول: على الأقل المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، وهو قد اختار هذا القول.
وكم سمعت من كثير من الشباب من يحكم على شخص بأنه متشدد، وهو اتبع مسألة فيها خلاف معتبر، فما دامت المسألة فيها خلاف ورأي معتبر، وهذا اتبع رأياً من آراء: هل العلم، وعنده دليل الكتاب والسنة، فيجب ألا تصفه بذلك، بل هو احتياطاً يا أخي تورع.
وأما متى يكون الإنسان متشدداً، فذلك حينما يتورع عن حلال ليس فيه شبهة أصلاً، بل هو حلال واضح.
حينها يكون الإنسان متشدداً فعلاً وغير متورع.
أما حين يتورع عن أمر فيه إشكال وفيه شبهة فلا.
ثم أيضاً هناك فرق بين السلوك الشخصي وبين التحريم والتحليل وإفتاء الناس، فأنا قد أتورع عن طعام في شبهة فأتركه؛ لكنني لا أعتقد تحريمه، ولا أنهى الناس عنه، لكن أتركه تورعاً مثلما ترك النبي صلى الله عليه وسلم التمرة التي رآها وخشي أن تكون تمر الصدقة، مع أنه صلى الله عليه وسلم لا يعتقد أن هذه محرمة، ولم ينه من تحرم عليه الصدقة أن يأكل من مثل هذا التمر الذي يجده، بل هو حلال له لا شك فيه.(49/31)
اعتزال الساحة الدعوية لما فيها من خلاف
السؤال
هذا سؤال طويل حول قضية الخلافات في الساحة الدعوية، ثم يقول: رأيت أن أعتزل الجميع، فهل عملي هذا تورع مشروع؟
الجواب
لا، بل هذا من مداخل الشيطان، إذا وصل الإنسان إلى حالة اختلطت فيها الأمور عليه فصارت في ليل مدلهم لا إذا أخرج يده لم يكد يراها، حينها يمكن أن يعتزل.
أما هذه فعليه أن يتبع أقرب الناس إلى الحق، ويسدد ويقارب، أما اعتزالك هذه الميادين الدعوية، واعتزالك من مشاركة أمور الخير، فهو مدعاة لأن تترك الصلاح، وتفوت عنك أبواب كثيرة من أبواب الخير.
وقد ترى أموراً عند بعض الناس لا تقرهم عليها، مثلاً: يأتينا شخص يعيش في بلاد بعيدة عندهم مخالفات وعندهم بدع، ويسألنا عن عمله هناك في جماعة فيها خير وفيها صلاح لكن عندهم مخالفات وعندهم أخطاء، فنقول له: شاركهم واعمل معهم، واجتنب ما عندهم من الأخطاء، لأنه لا يوجد البديل، وعندما يبقى لوحده يمكن أن يضيع وتتخطفه الشهوات، ولذا يحتاج الإنسان إلى من يعينه حتى يجتنب ما يرى أنه مخالفة شرعية.
وعملك مع هؤلاء ومشاركتك معهم لا يعني أن توافقهم في كل صغيرة وكبيرة.
ونكتفي بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من المتورعين الصالحين المتقين، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(49/32)
اليأس لا يصنع شيئاً
يتدفق هذا العصر بسيل جارف من وسائل الإعلام والتواصل، وأكثر ذلك مما يوظف في إفساد الأخلاق ونشر الرذيلة، مع ما تتمتع به دول الأعداء من السيطرة على الإعلام والمال، وهذا قد أدى ببعض دعاة الفضيلة وحملة الإسلام إلى أن يدب اليأس في قلوبهم، وهذه المادة تعالج ذلك وتبعث الأمل في نفوس اليائسين.(50/1)
عوامل انتشار اليأس(50/2)
انتشار الفساد وغربة الدين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: تسيطر على حياة كثير من المسلمين اليوم سحابة قاتمة من اليأس، ويشعر طائفة منهم أن الواقع الذي يعيشونه اليوم واقع لا مناص لهم منه ولا خلاص، سواء كان هذا الأمر على مستوى الأفراد، أو على المستوى الأمة والمجتمعات، فكثير من المسلمين يشعر أن واقعه لا يمكن أن يتفق مع ما يقتنع به، وما يرى أنه يجب أن يكون عليه، ويصل به الأمر إلى اليأس من تغيير هذا الواقع الذي يعيشه.
إنك حين تدعوه وتناصحه يخبرك أنه يعلم علم اليقين أن هذا الواقع الذي يعيشه لا يرضي الله تعالى، يعلم علم اليقين أنه على خطأ، لكن قد سيطر عليه اليأس من تغيير واقعه، إنه يقول لك بلسان حاله وربما بلسان مقاله: إنني أعرف أن الحق خلاف ما أنا عليه، لكنني لا أستطع أن أغير ما أنا عليه.
والأمر يتجاوز ذلك إلى واقع الأمة وواقع المجتمع، واليوم لست بحاجة إلى أن تقنع أحداً من المسلمين بسوء واقع الأمة وسوء حالها، لكن هذا قد أدى بطائفة من المصلحين، بل طائفة من الغيورين الصادقين إلى أن سيطر عليهم اليأس، وأدركهم القنوط، وشعروا أن الأمر قد خرج عن طوقهم وإرادتهم.
وهذا اليأس الذي سيطر على كثير من المسلمين اليوم أدت إليه عوامل عدة: أول هذه العوامل: انتشار الفساد وغربة الدين: من يتأمل واقع مجتمعات المسلمين اليوم يجد أن مظاهر الفساد قد انتشرت في حياة المسلمين، فالمنكرات الظاهرة أصبحت معلماً بارزاً وظاهراً في بلاد المسلمين، بل أصبح إنكارها تدخلاً في شئون الآخرين، وأصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً في مجالات وجوانب كثيرة من حياة المسلمين، بل إن بعض المسلمين يستنكر ويستنكف ويعترض عليك حين تنكر عليه مخالفته لما شرع الله عز وجل، وامتد الأمر إلى المراجعة والمناقشة في مدى شرعية هذه الأمور، وبدأ الناس يعيدون قراءتهم للأحكام الشرعية والنصوص الشرعية؛ لأجل أن يشعروا أو يقنعوا أنفسهم أن هذا الواقع الذي يعيشونه واقع شرعي.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حال هذا الدين بقوله: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء).
انتشار هذا الفساد، واستمرار المنكرات، وظهورها في مجتمعات المسلمين وحياتهم أدت بفئة كثيرة من المسلمين إلى اليأس من تغير الأحوال، والشعور بأن هذا الفساد أصبح جزءاً لا يتجزأ من واقع المسلمين وحياتهم.(50/3)
اتجاه التغير وحركته
العامل الثاني: اتجاه التغير وحركته: صحيح أن الواقع اليوم فيه فساد، لكن يزيد ذلك أن الاتجاه يسير إلى مزيد من الانفتاح على الفساد، ويسير إلى مزيد من الغربة، وحين يقارن المسلم واقع مجتمعه اليوم بما كان عليه قبل عشر سنوات يجد أن الاتجاه يتجه نحو الفساد، والأمة تسير نحو مزيد من التغريب، ولهذا فكأنه يقول: إنك تريد أن تعكس هذا الاتجاه، وتسبح ضد التيار، وهذا أمر مستحيل.(50/4)
المتغيرات الجديدة
أمر ثالث: المتغيرات الجديدة وهي تنذر بمستقبل لا يعلم حاله إلا الله عز وجل، في ظل عصر العولمة، وعصر الانفتاح على العالم الآخر، ستزول خصوصية المجتمعات المحافظة، المجتمعات المنغلقة، المجتمعات المتدينة، ستنفتح على العالم الآخر بكل ما فيه.
إن مجتمعاتنا اليوم تعيش انفتاحاً على المجتمعات الأخر من خلال التواصل المباشر عن طريق السفر والاحتكاك بالمجتمعات الكافرة والمجتمعات الغربية، أو من خلال وسائل الاتصال والمواصلات، لكن هذا الاتصال سيصبح بالنسبة لما يستقبل سيصبح لا شيء، فسيصبح الإنسان وهو في غرفته في قرية منعزلة ليس بينه وبين أن ينفتح على العالم بكل ما فيه من ثقافة، أو ملة، أو نحلة، أو دين، ويخاطب أي رجل، ويتعامل مع أي مجال وباب من أبواب الشهوات أو الشبهات؛ ليس بينه وبين ذلك إلا مجرد ضغطة زر، فالحاسب الآلي سينفتح على هذا العالم.
ومع اتجاه العولمة والانفتاح ستذوب هذه الفوارق، فتصبح سيطرة المجتمعات ومحافظتها أقل مما هي عليه من ذي قبل، بل ستصبح سيطرتها محدودة في ظل هذا السيل الجارف من الغزو العالمي، إن في البعد الثقافي للعولمة وخطورته، أو في البعد الاجتماعي والذي ينادي أول مبادئها بالتحرر من القيم والأخلاق والروابط الاجتماعية.
مبدأ الأسرة مبدأ غير وارد في ثقافة العولمة، الأسرة يمكن أن تكون من ذكر وأنثى، الأسرة يمكن أن تكون من ذكرين، الأسرة يمكن أن تكون من أنثيين، أي إنسان حر في أن يختار نوع العلاقة ونوع الأسرة التي ينشئها، الإنسان حر في أن يتصرف ويفعل ما يشاء، هذه من أبسط المبادئ مبادئ العولمة الجديدة التي ستكتسح بلاد ومجتمعات المسلمين.
أيضاً: الجانب الاقتصادي، وخلفياته وآثاره: الجانب الاقتصادي سيؤذن بمزيد من الانفتاح على الشركات الأجنبية، والشركات العالمية، وسيحتك المسلمون بالآخرين والمجتمعات الأخرى، لن تكون هناك قيود على حركة الأفراد، لن تكون هناك قيود على حركة السلع، وما يصاحب النشاط الاقتصادي من حركة الإعلان والدعاية، والتي لا تخلو من قيم، ولا تخلو من معان وافدة تعكس ثقافة وقيم المجتمعات التي نشأت فيها، أيضاً هي الأخرى سوف تغزو مجتمعات المسلمين المحافظة البعيدة عن هذا العالم.
آثار الوضع الاقتصادي الجديد على واقع دول العالم الإسلامي وهي تعيش في منظومة دول العالم الثالث، وضعف الفرص التنافسية للمجتمعات والأفراد في ظل هذا الغزو الاقتصادي، هذه الآثار ستولد متغيرات اجتماعية ومتغيرات ثقافية جديدة.
زوال القيود على حركة الثقافة والمطبوعات وما يتعلق بها، كل هذه الأمور تؤذن بتحول وتغير جديد، ولئن عاشت -مثلاً- بلاد الخليج تحولاً مع اكتشاف النفط، فإنها ستعيش تحولاً لا يقارن مع عصر العولمة العصر الجديد.
أقول أيضاً: هذا مما يزيد اليأس عند طائفة من الناس، فالواقع فيه فساد، الاتجاه يسير نحو الفساد، المتغيرات المتوقعة في المستقبل تؤذن بفساد أوسع وأكبر.(50/5)
مواقع قوى التغيير
الأمر الرابع: مواقع قوى التغيير: هناك قوى تغيير في المجتمع، هناك قوى تقود المجتمع نحو الصلاح، قوى تتمثل في الاتجاهات التي تسعى لإصلاح المجتمعات والعودة بها إلى المنهج الشرعي، وهناك قوى تسير بها وتدفعها نحو التغريب، وهي قوى شتى متباينة ومختلفة في مدارسها، لكن نستطيع أن نصنفها في معسكرين: المعسكر الذي يريد أن يعيد المجتمعات إلى أصالتها وإلى منهجها الشرعي، والقوى التي تريد أن تقود المجتمعات إلى الفساد، حينما نقارن بين اتجاه وقوى الإصلاح واتجاه وقوى الفساد، ننظر ماذا يملك هؤلاء من الإمكانات والوسائل، وماذا يملك أولئك؟ وما هي الفرص المتاحة لهؤلاء والفرص المتاحة لأولئك؟ والقضية ليس فيها مجال للمقارنة، وليس فيها مجال أن توازن بين هذا وذاك، ولا أن تقول: إن هذا الاتجاه أو الاختيار أقوى وذاك أقوى، إن هذا الاتجاه لا يساوي شيئاً بالنسبة لهذا التيار الجارف، فرؤية مواقع قوى التغيير أيضاً تزيد هؤلاء يأساً، فالقوى التي تدفع المجتمع للفساد أقوى وأكبر وأكثر ضغطاً، بينما القوى التي تشدهم إلى الأصالة، وتريد أن تعود به إلى الأصالة قوى ضعيفة هزيلة.(50/6)
إخفاقات الصحوة وأمراضها
الأمر الخامس: إخفاقات الصحوة وأمراضها: قامت الصحوة الإسلامية في وقت كان لا يتوقع الأعداء أن تقوم، قامت هذه الصحوة وقدمت خيراً للأمة، وأعادت للأمة الاعتزاز بالإسلام، والشعور بأن الإسلام يمكن أن يحكم حياة الناس المعاصرة، وأحيت العلم الشرعي، ومظاهر التدين، حتى أصبحت ظاهرة لا ينكرها أحد، وقوى اجتماعية لا يستهان بها.
لكن حين يتأمل هؤلاء في واقع الصحوة فإنهم سيجدون إخفاقات وأمراضاً ومشكلات، وهي أمراض لم تعد سراً اليوم، فمن أمراض العمل الإسلامي الخلاف والتفرق، وضآلة الوعي حيث إن كثيراً مما تتعامل به الصحوة ليس على مستوى الواقع، وليس على مستوى التغيير.
أقول: هناك أمراض وضعف وإخفاقات مرت بها الصحوة، تزيد هؤلاء يأساً وإحباطاً.
هذه العوامل الخمسة حين تضيف إليها طريقة تفكير هؤلاء، والتي دائماً تنظر إلى الجانب المظلم، والحديث الذي يتألم على واقع الأمة، وغالباً ما يكون حديثاً ناقداً متشائماً، هذه العوامل أدت إلى بروز ظاهرة اليأس وسيطرته، والأمر يهون حين يكون الشعور باليأس عند فئة محدودة من المسلمين، لكنك تجد أن هذا اليأس يتسرب إلى فئة ممن ينتظر منهم أن يشاركوا في التغيير والإصلاح، وتجد أن هذه اللغة تسيطر وتسود في كثير من مجالس الصالحين، فلا يكادون يتحدثون إلى عن الأمراض، الفساد، الانحراف، التغير الهائل المحدث.
أقول: هذه العوامل والمتغيرات صحيحة ولا إشكال فيها، لكن النتيجة التي أدت إليها هي التي تحتاج إلى أن نناقشها في هذا اللقاء.(50/7)
أضرار اليأس ومشكلاته(50/8)
اليائس لا يصنع شيئاً
اليأس أيها الإخوة! يولد مشكلات عدة وآثار عدة: أولها: أن اليائس لا يمكن أن يصنع شيئاً.
اليأس لا يدفع إلى العمل، اليأس لا يحرك ساكناً، اليأس لا يثير همة، بل غاية ما يتركه على صاحبه أن يجلس ينتظر النهاية التي تنتظره.
لو أن إنساناً في هذا المكان فشب فيه حريق، وسيطر عليه شعور بأنه ليس هناك مخرج، فماذا يصنع؟ لن يصنع شيئاً، لن يفكر، لن يحتال، سيبقى ينتظر الموت، وهي النهاية التي تنتظره، وهكذا اليأس.
إذاً: حين يسيطر علينا اليأس، وحين نسعى إلى غرس اليأس في نفوسنا وفي نفوس الآخرين، من حيث نشعر أو من حيث لا نشعر، فإننا لن نصنع شيئاً.
أحياناً نتصور أن مزيد التألم على الواقع، وأن ارتفاع حدة السخط على الواقع والتضايق منه دليل على الغيرة، وأن هذا ربما يكون أكثر دفعاً للإصلاح.
نعم، المسلم المؤمن يغار لحرمات الله، يتحرك قلبه إذا رأى المنكرات، إذا رأى الفساد، لكن هذا ينبغي أن يقف عند حد معين، فإذا تجاوز ذلك وزاد لا يمكن أن نحرك ساكناً، حتى في أبسط المواقف، خذ على سبيل المثال منكراً محدوداً عند شخص معين -فضلاً عن قضية تتعلق بالواقع- فحينما ترى شخصاً يقع في منكر، وتهم أن تناصحه وأنت يائس من استجابته فلن تندفع إلى العمل، ولن تعمل، ولو افترضنا أنك تجرأت وأتيت لتناصحه، أو تنكر عليه هذا المنكر، فإنك غاية ما تقوم به وغاية ما تفعله أن تسجل موقفاً فقط أنك اعترضت، أن تسجل أنك قلت كلمة، أما أن تعمل وأنت تنتظر التغيير فهذا لا يمكن أن يحصل مع حال اليأس.
إذاً: فاليأس لا يصنع شيئاً، ولا يدفع إلى العمل.(50/9)
اليأس يقضي على الاتجاه نحو الإصلاح
ثانياً: اليأس يقضي على أي اتجاه نحو الإصلاح والتغيير: حين يفكر الإنسان بالتغيير سواء في واقعه هو، أو في واقع أسرته، أو في واقع أكبر كواقع المجتمع والذي نأمل ونتمنى أن يحمل هذا الهم المسلمون جميعاً، وأن يشعروا أنهم مسئولون عن تغيير واقع مجتمعاتهم، وأنهم قادرون على هذا التغيير.
أقول: حين يسيطر اليأس على الإنسان فإنه لا يمكن أن يفكر في التغيير، ولا يمكن أن ينطلق نحو التغيير.(50/10)
اليائس يثبط من حوله
الأمر الثالث: اليائس يثبط من حوله: اليائس لا يقف ضرره على نفسه إنه يثبط الآخرين، فتراه دائماً يتحدث مع الآخرين أنه لا أمل، ويقول: أنت تتعامل مع واقع محدود والسيل جارف، والأمر أكبر مما تتصور، فلا تشغل نفسك بمثل هذا الأمر، فانشغل بخاصة نفسك، أو انتظر حتى تحصل تغيرات، أو أمور أخرى غير محسوبة.
واليائس يئد المشاريع والأفكار الطموحة، فأحياناً تثار أفكار ومشروعات فيها نوع من الطموح، مشروعات فيها تميز، مشروعات يتوقع منها أصحابها أن تنتج وتثمر، وهذه المشروعات حين تثار في مجتمع اليائسين فإنها توأد، لأن هؤلاء ينظرون إلى جوانب الفشل في هذه المشروعات، ويتنبئون بفشل مثل هذه المشروعات وهذه الأعمال قبل أن يتنبئوا بنجاحها.(50/11)
الفهم الخاطئ للأحداث
الأمر الرابع: اليأس يولد نفسية تفهم الأحداث فهماً خاطئاً، ويؤثر على تفكير صاحبه، فتراه يفترض مخاطر لم تقع أصلاً، ويتوهم أموراً لم تقع، وتتحول الأوهام عنده إلى حقائق، وتصبح الأحلام واقعاً ملموساً لدى هؤلاء، هذا على مستوى ما لم يقع.
أما على مستوى الأحداث التي تقع فهو يفهمها فهماً آخر يتفق مع نفسيته اليائسة التي سيطر عليها الوهن، تسيطر عليه دائماً النظرة التآمرية، يشعر أن هذه الأحداث مؤامرة، وأنها مؤامرة ضخمة، وأنها قد حيكت خيوطها، ودبرت بليل.
فكل حدث يتوقع ما لم يحدث، والحدث الذي يحصل ولو كان حدثاً عفوياً يفهمه بصورة تتفق مع طريقة تفكيره، لأن الإنسان في طريقة نظرته للأحداث لا يمكن أن يتخلص من طريقة تفكيره، لا ينظر إلى الأحداث كما هي، لا ينظر إليها نظرة موضوعية، أو نظرة محايدة، إنما ينظر إليها من خلال نفسيته وطريقة تفكيره، فالإنسان اليائس ينظر إليها نظرة يائس، والإنسان المتفائل ينظر إليها بروح التفاؤل، الإنسان سيئ الظن ينظر إليها بنظرة الريبة، والإنسان حسن الظن ينظر إليها بنظرة أخرى.
يندر أن ينظر الإنسان وأن يتعامل مع الأحداث تعاملاً موضوعياً، وأن يتعامل معها كما هي، فاليائس يتخيل ما لم يحدث، والأحداث يفهمها على خلاف ما هي عليه، يبالغ في تصور المؤامرات، حتى تجد أنه يخرج لك بنتائج لا تتفق مع مستوى عقله وتفكيره.
قبل أيام سمعت حديثاً من شخص درس في بلاد الغرب، يقول لي: إن الإنترنت كلها مؤامرة للتجسس على المسلمين، وكلها مؤامرة للدخول على خصوصيات المسلمين.
فانظر هذا المستوى من التفكير، ومثل هؤلاء لا يمكن أن يعملوا، ولو عملوا عملوا بروح الفشل والهزيمة، والشعور بأن كل صيحة يمكن أن تدور عليهم وتصبح عليهم.
الأمر الخامس: أن هؤلاء اليائسين يفهمون الأحداث المبشرة فهماً يتفق مع نفسيتهم، فهو يشكك في صحة الأخبار السارة، فعندما يأتي خبر سار يشكك في صحته، أو يهون من شأنه.
إنك مثلاً حين تحدثه عن الصحوة وانتشارها، فإنك تراه يهون من شأنها، ويقول لك: إن هذه الظاهرة محدودة وضعيفة وهزيلة وفيها أمراض، فهي من حيث الحجم أقل مما تصورون، ثم هي من حيث الكيف ومن حيث المحتوى ضعيفة وضئيلة، وأقل من أن تواجه وو إلى آخره.
بل حينما تحصل مثلاً أخبار سارة تجد أنه يبحث لها عن تفسير يتفق مع طريقة تفكيره، فيشكك في الدوافع التي كانت وراء هذه الأحداث، تارة يتصور أن هذا استدراج من العدو حينما يعطي مثل هذه الفرص، ويقول: إن هذه مؤامرة يراد من خلالها الانقضاض أو كشف صفوف الأخيار إلى آخره.
المهم أن هذه الروح تسيطر على أمثال هؤلاء، تسيطر عليهم فيما لم يقع من الأحداث، فيتوهمون ما لم يقع، تسيطر عليهم في الأحداث السيئة فيبعدون في تفسيرها، ويبالغون في تضخيمها.
أيضاً اليائس في تقويمه ينظر في المشروعات والأعمال إلى السلبيات فقط، ويضخم السلبيات والأخطاء، وفي المقابل يتغاضى عن الإيجابيات والمشاكل، حين يقيِّم أي ظاهرة تجد أن نظره دائماً يتجه نحو السلبيات والأخطاء، والجهد البشري لا يمكن أن يسلم من الخطأ أبداً، سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات، فـ (كل بني آدم خطاء) كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، والمرء لابد أن يذنب، ولابد أن يقصر، والقصور صفة ملازمة للبشر أياً كانوا.
وهذا لابد أن يظهر أثره على مستوى المشروعات العامة، لأنها نتاج أعمال البشر، ونتاج تفكير البشر، ولهذا هي لا تسلم من أخطاء وقصور وضعف البشر.
المجتمعات أيضاً حينما تحللها إلى وحداتها الأولية فهي مجموعة الأفراد الذين يبقى القصور والضعف أمراً ملازماً لهم، ولهذا فأي عمل بشري لا يخلو من قصور، ولا يخلو من الضعف، وتأمل هذا في واقعك أنت وحياتك حينما تقوم بمشروع ثم تنهيه، وعندما تعود إليه بعد فترة ستجد أنك وقعت في أخطاء، فأنت حينما تكتب مقالة أو كلمة أو تكتب كتاباً أو تلقي كلمة، وتعود مرة أخرى فتقرأ ما كتبت، أو تستمع إلى ما تحدثت عنه، ستجد فيه أخطاء، ستجد فيه قصوراً، ستجد أنك لو عدت من جديد لتكتب أو لتنفذ هذا المشروع، فإنك ستنفذه بصورة غير تلك التي قمت بها، وهذا من شأن البشر، وهو أمر ملازم لهم.
إذاً: فأي عمل بشري وأي جهد بشري لابد أن يكون فيه قصور، ولابد أن يكون فيه سلبيات، واليائس ينظر إلى هذا الجانب المظلم السلبيات ويضخمها، ويتغاضى عن الإيجابيات ويهون من شأنها ويقلل من شأنها.
إذاً: أيها الإخوة! سيطرة اليأس تخرج لنا في النهاية أفراد محبطين غير عاملين، أفراداً لا يمكن أن يصنعوا شيئاً، وحين يسيطر على المجتمع فإن المجتمع سيستلم ولن يسعى للتغيير، وإذا لم يقتنع الأفراد بأنهم يستطيعون أن يغيروا واقعهم، وإذا لم تقتنع المجتمعات بأنها تستطيع أن تغير واقعها، فإن التغيير الذي نريده وننتظره لا يمكن أن يحصل.(50/12)
وسائل التخلص من اليأس
كيف نتخلص من اليأس؟(50/13)
العلم بأن اليأس مذموم
أولاً: ينبغي أن ندرك أن اليأس مذموم، ولا يأتي إلا في مقام الذم عند الناس.
الناس حين يتخلصون أحياناً من ضغط الواقع ومؤثراته، ويفكرون تفكيراً مجرداً؛ فإنهم يرون أن وجود جذوة من الأمل والتفاؤل أمر مطلوب ولابد منه، فأن يعمل المرء ولا ينجح خير من أن يكون يائساً لا يصنع شيئاً ولا يعمل شيئاً.
واليأس لم يأت في نصوص الشرع إلا في مقام الذم والعيب، بل حين يصل بالإنسان اليأس إلى يأسه من روح الله ورحمة الله، فإن هذا من صفات الكافرين، كما قال عز وجل: {إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وهذا حكاه الله عز وجل على لسان يعقوب، قاله عليه السلام حين أوصى بنيه أن يبحثوا عن يوسف بعد سنين طويلة مرت من يوم ألقوا فيها يوسف في الجب، وتخيلوا أنه قد هلك ومضى، فلما حصل ما حصل، وافتقد ابنه الآخر، قال: {يَا بَنِيَ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ} [يوسف:87]، حتى قالوا له: {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يوسف:85 - 86]، وفعلاً كان الأمر كما كان يعلمه نبي الله يعقوب، وكما كان حسن ظنه بالله تبارك وتعالى.
فمن هنا ندرك أن اليأس لا يمكن أن يدفع للعمل، جميل أن ندرك سوء واقعنا، سواءً واقعنا الشخصي أو واقع مجتمعاتنا، ومن المهم أن ندرك حجم التحديات والمخاطر التي تواجهنا، وحجم الانحراف الذي يصيب مجتمعاتنا، لكن ينبغي ألا يتجاوز هذا الإدراك حده؛ لأنه لا يمكن أن يدفعنا للعمل، بل سيدفعنا فيما بعد للقعود والاستسلام.
حين ندرك أن اليأس مذموم، ولا يأتي إلى في مقام الذم والعيب، ندرك أن اليأس لا يمكن أن يدفع للعمل، بل هو يدفع للقعود والتواني والكسل، وهذا الإدراك سيدفعنا هذا إلى أن نتجاوز حالة اليأس التي نعيشها.(50/14)
الاعتدال في النقد
أيضاً من الأمور المهمة: الاعتدال في النقد: أحياناً يكون تفكيرنا تفكيراً متطرفاً، فلا نجيد إلا الإعجاب المطلق المبالغ فيه، أو الذم والنقد والعيب المبالغ فيه، وهذا نراه مثلاً في أقرب صورة محسوسة حينما نتعامل مع الجانب المادي أو الواقع المادي، حينما تقوم سلعة من السلع، وتبحث عن آراء الناس فيها، تجد أنهم يتفاوتون بين من يقول لك: هذه سلعة متميزة، ولا يعلى عليها، ولا يقاس غيرها بها إلى آخره، وبين من يذمها ذماً مطلقاً.
فما بالك بما هو فوق مستوى الماديات فيما يتعلق بإصدار الأحكام على الظواهر الاجتماعية، إصدار الأحكام على الظواهر التربوية، إصدار الأحكام على الأفراد، على المجتمعات؛ في هذه الحالة تجد أن الاعتدال تقل مساحته ويزداد التطرف، سواء في هذه الزاوية أو في تلك الزاوية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.
النقد مطلوب حتى نصحح واقعنا كأفراد، وحتى نصحح واقع مجتمعاتنا لابد من النقد، ولابد أن نمارس النقد الذاتي؛ حتى يؤدي دوره وثمرته، فإما أن ننتقد أنفسنا، أو ينتقدنا الآخرون، لكن النقد ينبغي أيضاً أن يكون بموضوعية واتزان، فحين نبالغ في النقد، ويتجاوز النقد حده، فإن هذا الأمر سيؤدي إلى اليأس.
جيء برجل يشرب الخمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجلد، فسبوه، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تعينوا الشيطان عليه)، العقوبة الشرعية التي يستحقها أخذها وهي الجلد، حينما يذمونه ويعيبونه ويلعنونه، فإن هذا سيجعل الشيطان يتسلط عليها أكثر كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها)، يعني: لا يجمع عليها بين العقوبة الشرعية وعقوبة أخرى، فليقم عليها العقوبة الشرعية التي شرعها الله عز وجل وهي الحد، لكن لا يؤنبها ويلومها ويثرب عليها.
وكذلك نهاهم صلى الله عليه وسلم عن أن يلعنوا هذا الرجل الذي شرب الخمر، وأخبر صلى الله عليه وسلم أن هذا فيه إعانة للشيطان على أخيهم.
هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المجتمعات فإن النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن المبالغة في ذلك، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا قال الرجل: هلك الناس، فهو أهلكهم)، فأهلك الناس هو الذي يصل به الحد إلى اليأس من واقع الناس، فيتهمهم بالهلاك.
يقول الإمام الخطابي رحمه الله: معناه لا يزال الرجل يعيب الناس، ويذكر مساوئهم، ويقول: فسد الناس وهلكوا، ونحو ذلك، فإذا فعل ذلك فهو أهلكهم، أي أسوأ حالاً منهم، بما يلحقه من الإثم في عيبه، والوقيعة فيهم، وربما أداه ذلك إلى العجب بنفسه، ورؤيته أنه خير منهم، والله أعلم.(50/15)
النظر في السنن الربانية
من الأمور المهمة أيها الإخوة! التي تجعلنا نتخلص من اليأس: النظر في السنن الربانية، وهذا الأمر أمر مهم، من ذلك مثلاً أن ننظر أن هذا الدين جاء من عند الله تبارك وتعالى الذي له الخلق وله الأمر، فهو الذي خلق الناس، وهو عز وجل أعلم بهم، بل هو تبارك وتعالى أعلم بالناس من أنفسهم: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14].
وشرع الله تبارك وتعالى لهم هذا الدين، والله عز وجل لم يشرع للناس إلا ما يطيقون.
وهذا يقودنا إلى نتيجة بدهية أن كل ما أمرنا به الله عز وجل فهو مما نطيق فعله، وأن كل ما نهانا الله تبارك وتعالى عنه فهو مما نطيق تركه والتخلي عنه، ولو عشنا فترة فأنسنا واقعاً سيئاً في ذوات أنفسنا، أو أنسنا منكراً أو معصية داومنا عليها وتخيلنا أنها أصبحت جزءاً منا، فهذا من كيد الشيطان وتلبسيه.
وإلا فمادام الله عز وجل قد نهانا عنها، وحرمها علينا، وكلفنا بالتخلي عنها، فهذا يعني أننا نطيق أن نتجنبها ابتداءً، ونطيق أن نتخلى عنها حينما نقع فيها، وحينما نواقعها، وقد فتح تبارك وتعالى لنا باب التوبة، وباب التوبة لا يغلق.
هذا على مستوى الأفراد، وعلى مستوى المجتمعات هناك حقيقة مهمة في هذا الدين، وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن كل نبي كان يبعث إلى قومه خاصة، أما النبي صلى الله عليه وسلم فبعث إلى الثقلين الجن والإنس، بعث إلى الناس عامة، فهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء، ورسالته خاتمة الرسالات، وشريعته خاتمة الشرائع، فلا نبي ولا رسالة ولا شريعة للناس بعد محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن منزلة هذه الأمة وكرامتها على الأمم السابقة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، أما هذه الأمة فليس فيها إلا نبي واحد، لكن فيها طائفة منصورة إلى قيام الساعة.
جاء هذا الدين من عند الله خير الأديان، جاءت هذه الشريعة خير الشرائع، اختص الله عز وجل بها خير رسله صلى الله عليه وسلم، واختار الله تبارك وتعالى لها خير الأمم هذه الأمة، وجعل هذا الدين رسالة وشريعة للأمة إلى أن تقوم الساعة.
وهذا يعني أن البشرية تستطيع في كل الظروف والمتغيرات منذ أن بعث النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن تقوم الساعة أن تقيم حياتها على أساس هذا الدين، وأن تستوعب كل المتغيرات الجديدة وتقيم حياتها على هذا الدين، وإلا لما كان هذا الدين ديناً خاتماً، ولما كانت هذه الرسالة رسالة خاتمة، لما كان هذا النبي خاتماً للأنبياء لا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.
هذا يعني أن المسلمين قادرون على أن يلتزموا بدينهم، أن يقوموا بهذه الرسالة التي حملهم الله إياها، فهم خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويقودون البشرية للهداية، والأمم الأخرى هي مخاطبة أيضاً بهذه الرسالة.
أقول: إدراك هذه القضية البدهية يقودنا إلى هذه النتيجة: أن هذه الأمة، بل البشرية كلها يمكن أن تستقيم على هذا الدين في ظل أي متغير، وفي ظل أي عصر، وفي ظل أي ظروف تأتيها، وأنه لا يمكن أبداً أن يتعارض هذا مع التقدم العلمي والتقني، بل أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه: (لا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة حتى يأتي أمر الله)، وفي رواية: (حتى يقاتل آخرهم الدجال).
صحيح أنه تمر بهم حالات مد وجزر، وحالات ضعف وهوان، لكن ستبقى هذه الطائفة إلى أن يقاتل آخرهم الدجال في آخر الزمان.(50/16)
النظر في النصوص التي تبشر بتمكين الدين
أيضاً مما يزيل اليأس من النفوس النظر في النصوص الشرعية التي تدل على تمكين الدين وانتصار الإسلام، ومنها ما جاء في كتاب الله عز وجل من وعد الله تبارك وتعالى لعباده المؤمنين، {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد:7]، {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة:14]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
فهذا وعد من الله تبارك وتعالى لابد أن يتحقق، والذين في قلوبهم مرض أو الذين يسيطر عليهم ضغط الواقع قد تغيب عنهم هذه الحقائق من وعد الله تبارك وتعالى وما أخبر به عز وجل، فالله تبارك وتعالى قد وعد بني إسرائيل، وحقق لهم ما وعد تبارك وتعالى، يقول عز وجل: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ} [القصص:4]، ثم قال تبارك وتعالى في الآية التي تليها: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص:5 - 6].
وانظر كيف صارت الأحداث، {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7]، بدأ الأمر من هنا منذ أن ولد هذا الرضيع الذي سيحطم الله عز وجل على يديه عرش فرعون، وسيمكن على يديه لبني إسرائيل، ولم تذكر قصة موسى بهذا التفصيل في مرحلة ما قبل الرسالة أكثر مما ذكرت في هذه السورة؛ لأنها تتحدث عن قضية التمكين وطغيان فرعون وعلوه.
ثم بعد ذلك ختمت هذه السورة بطغيان قارون وعلوه، ثم كيف أهلكه الله عز وجل، ومكن لبني إسرائيل.
إذاً: فقد وعد الله تبارك وتعالى بني إسرائيل هذا الوعد، ومتى كان هذا الوعد؟ هذه الآية أتت بعد وصف الله عز وجل لحال طغيان فرعون: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ} [القصص:4].
هذا الواقع لا يوصف وصفاً مبالغاً فيه، إنه كلام الله تبارك وتعالى {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت:42]، ثم يأتي هذا الوعد ويتحقق.
إذاً: الوعد الذي تحقق لبني إسرائيل في ظل ذاك الواقع المظلم البائس، لابد أن يتحقق لهذه الأمة، وهذه الأمة قد اصطفاها الله عز وجل، فهي أبر وأتقى وخير من بني إسرائيل، وأعلى منزلة عند الله تبارك وتعالى، وهي خير الأمم كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
في نصوص السنة أيضاً نجد شواهد كثيرة، منها قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والنصر والتمكين، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب).
وأيضاً ما في المسند من حديث تميم الداري قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر)، وكان تميم يقول: قد عرفت ذلك في أهل بيتي، لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز، ولقد أصاب من كان منهم كافراً الذل والصغار والجزية.
في هذا الحديث يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه لن يكون بيت في الأرض إلا ودخله هذا الدين، ولن يكون هناك مكان يصله الليل والنهار إلا وسيصله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل ذليل.
والنصوص التي يخبر فيها النبي صلى الله عليه وسلم عن النصر والتمكين نصوص كثيرة ليس هذا مقام الإفاضة في الحديث عنها، لكن الشاهد -كما قلت- أن إدراك هذه النصوص مما يزيل اليأس.(50/17)
إن مع العسر يسراً
أيضاً: إدراك أن استحكام اليأس طريق إلى الفرج، فالفرج عادة ما يأتي بعد شدة اليأس في عالم المادة وعالم المحسوس، ويأتي بعد أحلك المواقف والصعوبات: إذا اشتملت على اليأس القلوب وضاق لما بها الصدر الرحيب وأوطأت المكاره واطمأنت وأرست في أماكنها الخطوب ولم تر لانكشاف الضر وجهاً ولا أغنى بحيلته الأريب أتاك على قنوط منك غيث يمن به اللطيف المستجيب وكل الحادثات إذا تناهت فموصول بها الفرج القريب وقال آخر: ولرب نازلة يضيق بها الفتى ذرعاً وعند الله منها المخرج كملت فلما استحكمت حلقاتها فرجت وكان يظنها لا تفرج(50/18)
عسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم
أيضاً الأحداث السيئة في ظاهرها قد تكون خيراً، قد يكون حدثاً لا يرى منه الناس إلا الوجه السيئ، فيصبح خيراً والناس لا يعلمون، والله تبارك وتعالى يقول: {فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء:19].
ودعوني أضرب على ذلك مثالاً أو أمثلة: في قصة الإفك حين قذفت عائشة رضي الله عنها بالزنا، واتهمت بذلك، هل كان يدور في بالها حين سمعت هذه المقولة أن هذا الحدث سيكون خيراً لها؟ أو هل كان يدور في ذهن أحد ممن عاش الحدث ذاك الوقت أن هذا خير لها؟ ثم نزل قول الله تبارك وتعالى: {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [النور:11].
وفعلاً حصل هذا الأمر، فبرأها الله عز وجل من فوق سبع سماوات، وهي كانت تقول: كان شأني في نفسي أحقر من أن ينزل الله في قرآناً يتلى.
وكان غاية ما تؤمله رضي الله عنها أن يري الله نبيه رؤيا يبرئها فيها.
إذا: هذه الحادثة التي كانت تظنها شراً صارت خيراً لها، ومثل ذلك ما حصل لمريم حين حملت بعيسى، حتى تمنت أنها لم تولد قبل هذا الموطن فكان خيراً لها، وحملت بنبي من أولي العزم من الرسل.
وفي حادثة الهجرة أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بالأسباب المادية، واختبأ وصاحبه في الغار، ثم انصرفا، فجاء رجل يتحدث وسراقة مع طائفة من قومه، فقال: رأيت هاهنا سواداً أظنه محمداً وصاحبه، ففطن سراقة لذلك وعلم أنه قوام النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إنه فلان وفلان، يريد أن يصرف الناس عن ذلك، وأمر أهله أن يجهزوا فرسه من خلف الدار وانصرف، وركب فرسه، ثم لحق النبي صلى الله عليه وسلم، حتى اقترب، فقال أبو بكر رضي الله عنه: هذا سراقة قد رهقنا.
فحصل ما حصل، وخارت قوائم فرسه، والقصة معروفة.
الشاهد أن الذي يقرأ الحدث الآن ويعيشه يفترض محمداً صلى الله عليه وسلم وصاحبه رجلين أعزلين من السلاح، خرجا فراراً من قومهما، وقد جعل قومهما لمن يأتي بأحد هذين الرجلين حياً أو ميتاً جائزة عظيمة، وهذا الرجل على وشك أن يظفر بها.
والمتبادر إلى الذهن أنه خطر محقق، ولهذا أصاب أبا بكر رضي الله عنه القلق والخوف على النبي صلى الله عليه وسلم وحق له ذلك، أما النبي صلى الله عليه وسلم فكان ينظر بنور الله، والنبي صلى الله عليه وسلم لا شك أنه أعلى منزلة من أبي بكر رضي الله عنه، فخارت قوائم فرس سراقة، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، ثم لم ييئس مرة ثانية وثالثة، حتى عرف سراقة أنه ممنوع.
فلما انصرف سراقة كان كل من لقيه يقول: قد كفيتم ما هاهنا، فأي إنسان يرى سراقة قد جاء من هذا المكان ولم يجد أحداً يعلم أن هذا المكان لا يمكن أن يجد فيه الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه.
فانظر كيف تحولت الصورة وانقلبت، ولهذا قال الراوي: فكان في أول النهار طالباً لهما، وفي آخر النهار صاداً عنهما، يعني: هذا الحدث الذي يبدو في أوله حدثاً سيئاً لا يتمنى أن يحصل صار فيه الخير، فصار سراقة هو الذي يصد الناس عنهما.
إذاً: أيها الإخوة! الأحداث التي تحصل قد يكون ظاهرها سيئاً، بل قد يكون فيها سوء، لكنها تنقلب بعد ذلك إلى خير، تنقلب إلى صلاح، مثلاً: بعض الناس قد يكون مسلماً مقصراً مفرطاً، لكن على الأقل محافظ على العبادات الظاهرة، ثم يهوي ويقع في معصية أو كبيرة من الكبائر، لا شك أن هذا شر للإنسان، لكن وقوعه في هذه المعصية قد يكون سبباً في توبته، وإذا تاب تغيرت حاله، وصار على حال الصالحين المتقين، فصار وقوعه في هذا الذنب خيراً له، فقد وقع في هذا الذنب فتاب منه، فقبل الله عز وجل توبته، وتغيرت حاله من فساد إلى صلاح.
الشاهد والخلاصة: أن الأحداث السيئة قد تكون خيراً، والمتفائلون هم أولئك الذين يبحثون في الأحداث عن البشائر والمبشرات، ليسوا هم أولئك الذين يسيطر عليهم اليأس والقنوط، حينما نأتي رجلان إلى قرية فيها فقر مدقع وجهل وتخلف، ويأتينا رجلان رجل متشائم ورجل متفائل، فالرجل المتشائم كل ما يراه في هذه القرية يزيده إحباطاً، يشعر أن الأمية منتشرة فيها، فمستوى التعليم فيها لا يشجع، فيها فقر، ليس فيها بنية اقتصادية، ليس فيها طرق، ليس فيها إمكانات، ليس فيها بيئة يمكن أن تهيئ استثمارات تحرك النشاط الاقتصادي في البلد، الناس يعانون من بطالة، يعانون من أمراض، هذه نظرة، فكل ما يراه في البلد يؤيد عنده هذه الحقيقة.
يأتينا شخص آخر متفائل فيرى أن هذه القرية تعيش في وضع سيئ، لكن هو يتلمس الجوانب التي يمكن أن ننطلق منها، يقول: البلد فيها بطالة، لكن هذه البطالة يمكن أن أستفيد منها، يمكن أن نشغل هؤلاء ولو بأجور محدودة، وهؤلاء يمكن أن يكونوا نواة لإقامة مشروعات يمكن أن تحيي البلد مثلاً، يمكن أن يكون فيها بيئة جيدة للتعليم.
المهم أن الموقف الواحد ينظر إل(50/19)
نماذج تاريخية على الفرج بعد الشدة(50/20)
من قصص موسى وبني إسرائيل
من الأمور المهمة قراءة التاريخ، فحين نقرأ التاريخ سنجد أن الفرج دائماً يأتي بعد الشدة، ويأتي بعد الضيق، ولنضرب على ذلك نماذج سريعة: في قصة موسى مع بني إسرائيل، جاء موسى وقد تسلط فرعون كما قلنا قبل قليل على بني إسرائيل، واستعبدهم واستذلهم، ثم حصل ما حصل، فأمره الله عز وجل أن يخرج ببني إسرائيل فخرج، فلحقه فرعون وقومه، حتى كانوا أمام الخطر المحدق، البحر أمامهم وفرعون وراءهم، بالمنطق المادي قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ} [الشعراء:61]، قال موسى: {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
قمة الخطر على بني إسرائيل، قمة سوء الأوضاع هنا، في السابق كان يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، فهو وضع فيه استعباد، لكن كان يمكن الناس أن يعيش بعضهم، لأنه فرعون وقومه ما أرادوا أن يهلكوا بني إسرائيل، لكن الآن بنو إسرائيل محصورون هنا، وليس أمامهم هنا إلا البحر وراءهم فرعون، فليس أمامهم إلا الإبادة، فقد شعروا بأن حياتهم انتهت، فحصل لهم الفرج، {فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ} [الشعراء:63 - 65]، وأهلك الله فرعون، فانظر كيف أتى الفرج بعد هذه الشدة!(50/21)
من أحداث الردة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم
مات النبي صلى الله عليه وسلم وأصاب المسلمين ما أصابهم، وارتدت قبائل العرب، حتى ما بقي إلا المدينة ومكة والطائف ومن حولهم من المؤمنين الصادقين، حتى كاد طائفة من المؤمنين أن يشعروا باليأس والإحباط، ثم فرج الله لهم، حتى أن خلافة أبي بكر رضي الله عنه كانت سنتين وأشهراً، وما انتهت خلافة أبي بكر إلا وقد أخضعت الجزيرة كلها، وعاد المرتدون إلى دولة الإسلام، وبدأت الفتوحات في بلاد فارس وفي بلاد الروم، بعد أن كاد أن يصل بهم اليأس حين مات النبي صلى الله عليه وسلم، وحين ارتدت طوائف العرب.
استقرت دولة الإسلام، وحصلت أحداث، ولعلنا نشير إلى حدثين:(50/22)
غزو الصليبيين لبيت المقدس
حدث غزو الصليبين لبيت المقدس: يقول ابن كثير رحمه الله: ثم دخلت سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وفيها أخذت الفرنج بيت المقدس، قال: لما كان ضحى يوم الجمعة لسبع بقين من شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة أخذت الفرنج لعنهم الله بيت المقدس شرفه الله، وكانوا في نحو ألف ألف مقاتل، وقتلوا في وسطه أزيد من سبعين ألف قتيل من المسلمين، وجاسوا خلال الديار.
فنقل الحافظ ابن كثير قصيده لـ أبي المظفر الأبيوردي يقول فيها: مزجنا دمانا بالدموع السواجم فلم يبق منا عرضة للمراحم وشر سلاح المرء دمع يريقه إذا الحرب شبت نارها بالصوارم فأيها بني الإسلام إن وراءكم وقائع يلحقن الذرى بالمناسم وكيف تنام العين ملء جفونها على هفوات أيقظت كل نائم وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم ظهور المذاكي أو بطون القشاعم تسومهم الروم الهوان وأنتم تجرون ذيل الخفض فعل المسالم وفيها: وبين اختلاف الطعن والضرب وقفة تظل لها الولدان شيب القوادم وتلك حروب من يغب عن غمارها ليسلم يقرع بعدها سن نادم فللن بأيدي المشركين قواضباً ستغمد منهم في الكلى والجماجم يكاد لهن المستجير بطيبة ينادي بأعلى الصوت يا آل هاشم أرى أمتي لا يسرعون إلى العدا رماحهم والدين واهي الدعائم ويجتنبون النار خوفاً من الردى ولا يحسبون العار ضربة لازم أيرضي صناديد الأعاريب بالأذى ويغضي على ذل كماة الأعاجم فليتهم إذ لم يذودوا حمية عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم وإن زهدوا في الأجر إذ حمي الوغى فهلا أتوه رغبة في المغانم هذا الشاعر كأنه يحكي واقعنا اليوم، واستولى الصليبيون على بيت المقدس، وبقي في أيدهم تسعين سنة، ثم بعد ذلك كتب الله النصر والتمكين للأمة وأعيد لهم.(50/23)
دخول التتار واجتياح بغداد
ثم حصلت كارثة أخرى كارثة التتار، وأنقل لكم نماذج مما ذكره الحافظ ابن كثير لعلي اختصر فيها اختصاراً للوقت فقد أطلنا في الحديث.
يقول: ثم دخلت سنة ست وخمسين وستمائة، فيها أخذت التتار بغداد، وقتلوا أكثر أهلها حتى الخليفة، وانقضت دولة بني العباس منها.
يقول: ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد من ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم في غاية الضعف، وبقية الجيش كلهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم، حتى استعطى كثير منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء قصائد يرثون لهم ويحزنون على الإسلام وأهله.
يقول: ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار، وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكذلك في المساجد والجوامع والربط، ولم ينج منهم أحد سوى أهل الذمة من اليهود والنصارى، ومن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي وطائفة من التجار أخذوا لهم أماناً بذلوا عليه أموالاً جزيلة حتى سلموا وسلمت أموالهم، وعادت بغداد بعد ما كانت آنس المدن كلها كأنها خراب ليس فيها إلا القليل من الناس، وهم في خوف وجوع وذلة وقلة.
قال: وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريب مما جرى على أهل بغداد، كما قص الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز، حيث يقول: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء:4 - 5].
قال: وقد قتل من بني إسرائيل خلق من الصلحاء، وأسر جماعة من أولاد الأنبياء، وخرب بيت المقدس بعد ما كان معموراً بالعباد والزهاد والأحبار والأنبياء، فصار خاوياً على عروشه واهي البناء.
وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتلى ألفي ألف نفس.
فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وكان دخولهم إلى بغداد في أواخر المحرم، وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يوماً.
يقول: وأسر من دار الخلافة من الأبكار ما يقارب ألف بكر فيما قيل، والله أعلم، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وكان الرجل يستدعي به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه وجواريه، فيذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه، وقتل شيخ الشيوخ مؤدب الخليفة، وقتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد.
ثم قال: ولما انقضى الأمر المقدر، وانقضت الأربعون يوماً؛ بقيت بغداد خاوية على عروشها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التلول، وقد سقط عليهم المطر، فتغيرت صورهم، وأنتنت من جيفهم البلد، وتغير الهواء، فحصل بسببه الوباء الشديد؛ حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام؛ فمات خلق كثير من تغير الجو، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً، فلا يعرف الوالد ولده، ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد، فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى، واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله الذي لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى.
هذه مقتطفات مما حكاه الحافظ ابن كثير رحمه الله حول ما أصاب المسلمين في غزو التتار.
هذه المآسي وقعت للأمة في بغداد، حتى سيطر على المسلمين اليأس، وشعروا أن التتار قوة لا تقهر، ثم استفاقت الأمة بعد ذلك، وقاتلوا التتار وهزموهم، وعادت الأمة إلى مجدها ونصرها.
إذاً هذه النماذج أيها الإخوة! الأمة التي استفاقت بعد أحداث الردة، الأمة التي استفاقت بعد غزو الصليبيين، الأمة التي استفاقت بعد مجازر التتار وغزوهم، قادرة بإذن الله أن تستفيق وأن تنتصر.
وقراءة التاريخ يعطينا الدرس والعبرة، لكن اليائسين لا ينجحون، والنصر لا يكتب لليائسين، والتغيير لا يمكن أن يتم على اليائسين.
اللهم إنا نعوذ بك أن نيئس من روحك ورحمتك، إنك(50/24)
تحقيق التوحيد
العقيدة هي الأساس الذي تبنى عليه الحياة وتبنى عليه أعمال الإنسان، ولذلك فهو أول ما يجب على الإنسان أن يتعلمه ويفهمه، ولا يكفي فيه التعلم النظري حتى يعمل المرء على تحقيقه في جميع أموره، والحذر مما ينافيه أو يقدح فيه.(51/1)
دواعي الكلام عن تحقيق التوحيد
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أيها الإخوة في الله هذا الموضوع المتعلق بتحقيق التوحيد، هو موضوع خطير ومهم جداً في حياة المسلم وفي حياة الأمة كلها، ومن ثم فإننا حينما نطرق هذا الموضوع المتعلق بتحقيق التوحيد لله سبحانه وتعالى فإنما نطرقه لأسباب منها: أولاً: أن العقيدة هي الأساس الذي تُبنى عليه الحياة وتبنى عليه أعمال الإنسان، فإن الله سبحانه وتعالى لا يقبل من العبد أي عمل وأي أمر قدّمه في هذه الدنيا يبتغي به وجه الله، لا يقبل منه ذلك إلا إذا كان مبنياً على هذا الأساس المتين، وهو توحيد الله سبحانه وتعالى، ولما كان الأمر كذلك كان الحرص من جانب المؤمن ومن جانب الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى في كل زمان ومكان على هذا الأمر لا بد منه، ولا بد أن يراقب الإنسان نفسه دائماً لخطورة هذا الموضوع.
ثانياً: ولأن مجتمعاتنا بدأت تظهر فيها ظواهر خطيرة يجب على الدعاة أن يقفوا عندها ليعالجوها، ومن ذلك: تعلق النفوس بغير الله سبحانه وتعالى توكلاً ومحبة وغير ذلك، وهذا أمر خطير جداً، ولقد شاهدنا أمثلة لذلك من خلال ما يضر بمجتمعات المسلمين من أزمات.
ومنها أيضاً: كثرة السحرة والكهنة وتعلق النفوس بهم، وكون بعض الناس يظن أن هؤلاء لهم سيطرة ولهم قدرات، وأن هؤلاء أيضاً بيدهم الشفاء ولا شفاء إلا بأيديهم! وهذا أمر خطير يجب أن يُنتبه له.
ومن ذلك أيضاً التوسع في أبواب الرقى لتشمل رقىً غير مشروعة، وتلك الرقى غير المشروعة حينما تكثر ربما تؤدي إلى أنواع من السحر والكهانة والشعوذة، وذلك كله مما يصادم أصل العقيدة أو كمالها؛ لهذه الأسباب أيها الإخوة في الله كان لا بد من طرق هذا الموضوع تحقيق التوحيد وأهميته ووجوبه.(51/2)
معنى تحقيق التوحيد
ومن هنا فإننا نعرض أولاً لقضية مهمة جداً ألا وهي: ما معنى تحقيق التوحيد؟ وتحقيق التوحيد الذي يعلمه الجميع والحمد لله مقتضاه أن يحقق الإنسان شهادة أن لا إله إلا الله بأركانها وشروطها، فكون الإنسان ينطق بهذه الكلمة ويقول: لا إله إلا الله، وكون هذا الإنسان يعود من كفر ومن شرك ومن انحراف وإلحاد ومن جاهلية بمجرد أن يعلن إسلامه وينطق بكلمة التوحيد، نقول إن هذه النقلة لها مقتضى عظيم جداً، وليست مجرد كلمة تقال باللسان.
ولا إله إلا الله تقتضي أول ما تقتضي أمرين متلازمين لا بد منهما:(51/3)
عدم صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله عز وجل
الأمر الأول: أن ينفي الإنسان أي نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى، فلا يصرف أي نوع من أنواع العبادة سواء كان صلاة أو نذراً أو حباً أو خوفاً أو توكلاً أو دعاء أو استغاثة أو استعاذة أو توسلاً أو غير ذلك، لأي شيء من المخلوقات، سواء كان ذلك المخلوق ملكاً، أو نبياً، أو ولياً، أو رجلاً صالحاً، أو نجماً، أو حجراً، أو شجراً، أو غير ذلك، وهذا الأمر لا يتم إلا بالأمر الثاني ألا وهو(51/4)
صرف أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له
الأمر الثاني: أن يصرف أنواع العبادة كلها لله وحده لا شريك له، فهما ركنان دلت عليهما هذه الكلمة لا إله إلا الله، فلا إله: نفي، إلا الله: إثبات، فهي تنفي صرف أي نوع من أنواع العبادة لغير الله، ثم تثبت تلك الأنواع كلها لله وحده لا شريك له.
ومن هنا فإن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:104 - 107] أقم وجهك للدين حنيفاً بعبادة الله وحده لا شريك له، والبراءة والبعد من الشرك وأهله.
ومن هنا فإن هذه الكلمة يالتي تقتضي ما ذكرناه سابقاً، وذلك بهذين الركنين العظيمين مع شروط لا إله إلا الله المعروفة: علم يقين وإخلاص وصدقك مع محبة وانقياد والقبول لها هذه الشروط السبعة إذا تكاملت عند المؤمن علماً وعملاً فإنه والحالة هذه يكون قد حقق هذا التوحيد العظيم، ولكن ينبغي أن نعلم أيها الإخوة في الله أن مقتضي التوحيد الذي ذكرناه سابقاً يلزم منه أمر مهم جداً، ألا وهو البعد عن الشرك بجميع أنواعه، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] أي: اعبدوا الله وحده لا شريك له، واجتنبوا الطاغوت بجميع أشكاله وصوره، وهذا يشمل اجتناب الإنسان الشرك الأكبر والشرك الأصغر.(51/5)
الشرك(51/6)
الشرك أعظم الذنوب
ومن هنا فإننا نفرد للكلام عن الشرك فقرة خاصة فنقول: إن هذا الشرك ينبغي أن يُعلم أنه أعظم الذنوب، كما ذكر ذلك لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان الشرك أعظم الذنوب لأسباب منها: أن الله سبحانه وتعالى لا يغفره إذا مات عليه الإنسان، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} [الزمر:53] فمن كان عاصياً وتاب فالله يتوب عليه، ومن كان مشركاً ثم تاب من شركه فالله سبحانه وتعالى أيضاً يتوب عليه، لكن إذا مات الإنسان على هذا الشرك انقطع الأمر كما قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فمغفرته تبارك وتعالى للشرك إنما تكون إذا وقعت التوبة منه في الدنيا، أما في الآخرة فلا يُغفر لصاحبه أبداً.(51/7)
الشرك الأكبر صاحبه مخلد في نار جهنم
ثانياً: أن صاحبه مخلد في نار جهنم، نسأل الله السلامة والعافية، ونحن نعلم أن من الأمور القاطعة في عقيدتنا والتي دل عليها كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والتي لا يشك فيها مؤمن أبداً هذه الحقيقة تقول: إن الناس في يوم القيامة لا بد أن يفترقوا إلى فريقين لا ثالث لهما أبداً: فريق في الجنة، وفريق في السعير، فمن كان من أهل التوحيد فهو في الجنة، ومن كان من أهل الكفر فهو في النار خالداً مخلداً فيها أبداً، ولهذا فإن من أعظم عقوبات الشرك بالله أن صاحبه مخلد في نار جهنم نسأل الله السلامة والعافية.(51/8)
الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال الصالحة
الأمر الثالث: أن الشرك الأكبر محبط لجميع الأعمال الصالحة، فالكافر إذا عمل أعمالاً صالحة في الدنيا يجازى عليها في الدنيا، لكن إذا جاء يوم القيامة بتلك الأعمال الصالحة لا تُقبل منه قال تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23] لكن المؤمن الموحد يأتي يوم القيامة بالأعمال الصالحة التي أخلص فيها لربه سبحانه وتعالى والله سبحانه وتعالى يثيبه عليها.
من هنا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم تحقيقاً لهذا التوحيد وحماية له حذّر من أنواع الشرك الأكبر والأصغر.(51/9)
أنواع الشرك الأكبر
لا نريد أن نطيل في الكلام حول هذا الموضوع ولكن أشير إشارات سريعة فأقول: الشرك الأكبر أنواعه كثيرة، وأهمها أربعة أنواع:(51/10)
شرك الدعوة
النوع الأول من الشرك الأكبر: شرك الدعوة، وذلك بأن يدعو الإنسان غير الله سبحانه وتعالى، وهذا ولا حول ولا قوة إلا بالله منتشر في كثير من بلاد المسلمين، حيث تتعلق القلوب بولي أو تتعلق بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم، أو تتعلق بقبر من القبور فيؤدي هذا التعلق إلى دعائها من دون الله سبحانه وتعالى، فإذا دعاها من دون الله تبارك وتعالى وقع هذا الداعي في الشرك الأكبر.(51/11)
شرك الإرادة والقصد
ومن أنواع الشرك الأكبر: شرك الإرادة والقصد، وذلك بأن يقصد غير الله سبحانه وتعالى بنوع من أنواع العبادة، كالمحبة، أو التوكل، أو الاستغاثة، أو غير ذلك، فإذا وجّه هذا النوع من العبادة لغير الله سبحانه وتعالى فقد أشرك مع الله غيره.(51/12)
شرك الطاعة
ومنها: شرك الطاعة، وذلك بأن يطيع غير الله سبحانه وتعالى في معصية الله سبحانه وتعالى.
وهذا باب خطير جداً، حينما يأتي المشرّعون وواضعوا القوانين المخالفة لشرع الله سبحانه وتعالى فيشرّعون هذه الشرائع، ويضعون هذه النظم والقوانين، ثم يأتي هؤلاء الأتباع ويطيعونهم فيها من دون الله تعالى، ويتّبعونهم عليها، مع علمهم أنهم مغيّرون للشريعة، فهذا سمّاه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى شركاً أكبر حين علّق على حديث عدي بن حاتم حين دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31] فقال عدي وكان يعرف أحبار النصارى، قال: (يا رسول الله إنهم لا يعبدونهم، يعني لا يعبدون الأحبار والرهبان، لا يسجدون لهم ولا يركعون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: أليسوا يحلون الحرام فيحلونه، ويحرمون الحلال فيحرمونه؟ قال: بلى، قال: فتلك عبادتهم) وهذا حديث حسن.
ومن ثم فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال: وهؤلاء الأتباع نوعان: نوع منهم اتبعوهم على تبديلهم، يعني علموا أنهم مغيرون لشرع الله واتبعوهم على ذلك، فهؤلاء مثلهم.
والنوع الثاني: أناس علموا شرع الله الحق ولكنهم اتبعوا أولئك معصية، أي أنهم فعلوا ما يخالف الشرع من باب المعصية، فهؤلاء فسّاق عصاة وليسوا بكفار، أما بالنسبة للأحبار والرهبان أنفسهم المغيرين لشرع الله تعالى فهؤلاء لا شك في أنهم واقعون في الشرك الأكبر الذي هو شرك الطاعات.(51/13)
شرك المحبة
ومن أنواع الشرك الأكبر: شرك المحبة، وذلك بأن يحب غير الله كمحبة الله سبحانه وتعالى، وهذا يقع فيه بعض الناس حينما تتعلق قلوبهم بغير الله، فيجعلون محبة أولئك مقدمة على محبة الله أو مساوية لمحبة الله، وهذا يختلف عن المحبة الطبيعية والمحبة في الله، التي هي جزء من الإيمان بالله سبحانه وتعالى.(51/14)
أنواع الشرك الأصغر
القسم الثاني من أنواع الشرك: الشرك الأصغر، والشرك الأصغر قسمان:(51/15)
شرك الأعمال
القسم الأول منه: شرك في الأعمال، وهذا الشرك هو الشرك الخفي، وهو الرياء الذي حذر منه رسولنا صلى الله عليه وسلم حين قال: (أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر وهو الرياء) وهذا الرياء شرك أصغر لا يخرج صاحبه من الملة، لكنه ولا حول ولا قوة إلا بالله قد يمتد خطره فيؤدي إما إلى أن يرقى بصاحبه إلى الشرك الأكبر، وإما أن يحبط عمله فليحذر المسلم وهو في عباداته، وهو في أعماله الخيرية، وهو في صلاته، وهو في صيامه، وهو في أمره بالمعروف وفي نهيه عن المنكر، وفي دعوته إلى الله سبحانه وتعالى؛ ليحذر من هذا المدخل الشيطاني الخفي.(51/16)
شرك الأقوال
النوع الثاني من الشرك الأصغر: هو شرك الأقوال، كالحلف بغير الله، وقول: ما شاء الله وشئت، وقول: لولا فلان ما حدث كذا، وغير ذلك من الألفاظ التي يتساهل فيها بعض الناس وهي من الأمور التي حذرنا منها رسول الله صلى الله عليه وسلم حماية للتوحيد وتحقيقاً له، (ولما جاءه رجل فقال: يا رسول الله! ما شاء الله وشئت، غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: أجعلتني لله نداً؟ بل ما شاء الله وحده) ونهى عن الحلف بغير الله، وغير ذلك.(51/17)
أمور تنافي التوحيد أو كماله
وبعد هذه الفقرات المتعلقة بمعنى تحقيق التوحيد ومعنى لا إله إلا الله، ومعنى الشرك وأنواعه ننتقل إلى الموضوع الثالث المتعلق بموضوعنا، ألا وهو أمور تنافي حقيقة التوحيد أو كماله ابتلي فيها كثير من الناس.(51/18)
التمائم
من ذلك: التمائم، فإن مما اشتهر عند بعض الناس في بعض البلاد الإسلامية تعليق التمائم التي يُظن أن تعليقها يحمي الإنسان أو الطفل من العين أو من الجن أو من المرض أو غير ذلك.
ولهذا ورد عن عقبة بن عامر الجهني: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل إليه رهط، فبايع تسعة وأمسك عن واحد، فقالوا: يا رسول الله بايعت التسعة وتركت هذا، قال عليه الصلاة والسلام: إن عليه تميمة، فهجره رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبايعه، فأدخل يده فقطعها فبايعه، فقال عليه الصلاة والسلام: من علّق تميمة فقد أشرك) رواه الإمام أحمد، والحديث صحيح.
والتمائم خرزات أو نحوها تُعلق على صدور الأولاد أو في أكتافهم أو في أيديهم يتقون بها العين، ويدخل في هذه التمائم بعض الخرزات التي يضعها بعض السائقين يعلقونها على المرآة في السيارة ونحوها، ويظنون أنها تقيهم الصدام أو الحوادث أو غير ذلك، وبعضهم قد يضع نعلاً في مقدمة السيارة أو في مؤخرتها لهذا السبب، وبعضهم كما أخبرني بعض الإخوة يعلّق شيئاً من ذلك في دكانه يطلب به الرزق أو يتقي به عين من يمر عليه.
ومن ذلك أيضاً اعتقاد بعض الناس حينما يظن أنه إذا أمسك عنده ذئباً أو قطعة من جلده أو نحو ذلك أن هذا يمنع الجن عنه، فهذه من الأمور التي اشتهرت عند كثير من الناس، وبعضهم يتساهل فيها وهي إما أن تكون من الشرك الأكبر إن اعتقد فيها أنها هي التي تنفع وتضر من دون الله تبارك وتعالى، أو أنها تكون من الشرك الأصغر إذا اعتقد أنها سبب، ولهذا انتشر هذا الأمر حتى عند كثير من الصوفية وما أكثر الشركيات عند كثير من الصوفية! حتى يقول صاحب دلائل الخيرات وهو يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يقول اللهم صل على محمد وعلى آل محمد ما سجعت الحمائم، وسرحت البهائم، ونفعت التمائم فكأن قضية نفع التمائم تنفع كل يوم، وكل دقيقة مثلما تسرح البهائم أو مثلما تسجع الحمائم، وغير ذلك، وكأن هذا الأمر مُسلّم عندهم.(51/19)
حكم تعليق تمائم من القرآن
وهنا قد يقول قائل: وإذا عُلّقت تميمة من القرآن كما يفعل البعض حينما يكتبون آيات من القرآن ويخيطونها بقطعة قماش أو نحو ذلك ويعلقوها على صدر الطفل أو في كتفه أو غير ذلك، والذي يظهر وإن كانت المسألة فيها خلاف أن مثل هذا الأمر لا يجوز لعدة أمور: الأمر الأول: أنه بدعة لم يفعله السلف رحمهم الله تعالى.
الأمر الثاني: أنه ذريعة إلى الوقوع في المحرم؛ لأن تعلق النفس بهذا الأمر يُضعف التوكل على الله سبحانه وتعالى ولربما لو حدث لهذا الطفل مرض لقيل ما نفعت ائتونا بتميمة أخرى! وهكذا، وما أضعف نفوس الوالدين أمام مرض ابنهم وخاصة الأم، فلربما أدى بهم إلى أن يقعوا فيما هو محرم صُراح.
الأمر الثالث: أن وجود الآيات القرآنية على كتف الصبي أو في صدره أو نحو ذلك يؤدي إلى امتهان القرآن، فإنه يدخل به دورات المياه، وإذا تعلقت النفوس بهذه التميمة فإن الأم لا تستطيع أن تفكها ولو لحظات، وظنت أنها لو أزالت هذه التميمة التي هي من القرآن عن ابنها وهو داخل الحمام فلربما أدى به إلى أن يصاب بأذى، فتضطر إلى أن تدخل مثل هذا الأمر الذي فيه كلام الله سبحانه وتعالى إلى الأماكن التي يجب أن ينزه القرآن منها؛ لهذه الأسباب فإن مثل هذا الأمر لا يجوز.(51/20)
الرقى
الأمر الثاني: الرقى، وينبغي أن نعلم أن هذه المسألة كثر في هذه الأيام الحديث عنها، ما هي الرقية الشرعية؟ وما الرأي في هؤلاء القراء الذين صاروا ينتشرون في كل مكان؟ وهذا الأمر أيها الإخوة في الله يحتاج منا إلى وقفة فأقول: يجب أن نعلم أولاً أن الرقية الشرعية لا تصح إلا بشروط منها: الشرط الأول: أن تكون بكلام الله تعالى وبأسمائه وصفاته.
الشرط الثاني: أن تكون باللسان العربي.
الشرط الثالث: أن يعتقد أن الرقية لا تؤثر بذاتها، بل هي سبب من الأسباب، والنافع الشافي هو الله سبحانه وتعالى.
ومن هنا فإن من المهم جداً أن أذكر بعدة أمور.
الأمر الأول: كثير من الناس يغفل عن الرقية الشرعية التي يقوم بها الإنسان نفسه حين يرقي نفسه أو أحداً من أهل بيته، وهذا يجب أن يتنبه له الجميع، إذا الإنسان عنده مريض فعليه أن يرقى هو، وأن يُخلص في رقيته وفي دعائه فإن الله سبحانه وتعالى ربما جعل مثل هذه الرقية سبباً للشفاء.
أما ما يفعله كثير من الناس وهو أنه إذا وجد عندهم المريض تعلقت النفوس بغير الله سبحانه وتعالى سواء كانوا قراء أو أطباء! فلا، بل يجب على الأسرة أن تكون صابرة محتسبة، ويجب عليها أن تبذل الوسائل الشرعية ولا مانع من فعل الأسباب.
الأمر الثاني: ليس كل من قيل عنه إنه يقرأ يذهب إليه الإنسان، بل يجب عليك أن تبحث عن القارئ الذي تعرف عنه الصلاح والتقوى، فإذا عرفت من حال القارئ أنه من أهل الصلاة وأنه من أهل الصلاح، فحينئذ لا مانع من أن تذهب إليه، لكن ما نجده اليوم من انتشار كثير من القراء وبعضهم لا يُعرف حاله، وبعضهم يستراب في أمره، ومع ذلك فإن الناس يتوافدون عليهم زرافات ووحداناً؛ نقول: إن مثل هذا الأمر مما يجب أن يُحتاط له وأن ينتبه له الناس، لقد تعلقت النفوس بغير الله سبحانه وتعالى، وأصاب الناس كثير من الوهن والضعف، فلنحذر من هذا الأمر، وإذا ما احتجنا وأردنا أن نطلب من أحد أن يقرأ فعلينا أن نبحث عن القارئ الذي نعرف صلاحه وتقواه، ويجب أن نتقي الله سبحانه وتعالى في هذا الأمر العظيم.(51/21)
السحر والكهانة
الأمر الثالث وهو متعلق بالفقرة السابقة: انتشار السحر والكهانة في كثير من بلاد المسلمين، وهؤلاء السحرة والكهنة والعرّافون الذين يدعون علم الغيب، ويقولون إنهم يعالجون الناس بأنواع من العلاجات، هؤلاء كثروا لا كثّرهم الله تعالى.
وينبغي أن نعلم أن الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العزيز: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] هذه الآية جاءت خبراً عن الناس في الجاهلية، فإن العرب كانوا في الجاهلية يخافون من الجن خوفاً شديداً، حتى أن الواحد منهم إذا نزل وادياً وهو في سفر خاف من الجن في هذا الوادي، فماذا يصنع؟ يتعوذ من سفهاء هذا الوادي بسيد هذا الوادي من الجن، فإذا نزل قال: أعوذ بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه، فماذا فعلت الشياطين؟ لما رأت الشياطين أن هؤلاء يخافون منهم هذا الخوف تسلطوا عليهم فزادوهم رهقاً وتعباً وطغياناً.
تعالوا إلى الحالة اليوم لما أن الناس ضعف إيمانهم تعلقت نفوسهم بغير الله سبحانه وتعالى، وصاروا يخافون من غير الله تبارك وتعالى، فماذا حدث؟ تسلطت الشياطين، وتسلط السحرة وكثروا، وصاروا يفتنون الناس، وزادوهم تعباً ومشقة ورهقاً.
وهذا أيها الإخوة في الله أمر خطير جداً يجب أن ينتبه له الجميع، والواجب في مثل هؤلاء السحرة أن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى وهو كفر على القول الراجح؛ لأن الله تعالى يقول: {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة:102] إلى آخر الآية، وإذا كان الأمر كذلك فينبغي أن نعلم أن هؤلاء يجب أن يُحذر منهم الحذر الشديد، فهؤلاء السحرة يدّعون علم الغيب، وادعاؤهم لعلم الغيب هو ادعاء كاذب؛ لأن الله تعالى يقول: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] فلا يعلم الغيب إلا الله وحده لا شريك له.
إذاً: كيف يدّعون؟ عن طريق الشياطين، حينما يأتي ضعيف من ضعفاء النفوس عنده مريض فيقال له: هناك رجل يعالج في المكان الفلاني فاذهب إليه، وهذا الرجل ساحر، فتأتي الشياطين إلى ذلك الساحر وتخبره، وتقول له: سيأتيك فلان اسمه فلان ابن فلان، وأمه اسمها فلانة، وخالته اسمها فلانة، وجرى له قبل عشرة أيام كذا، وقبل سنة كذا؛ فيدخل هذا المسكين على هذا الساحر، فإذا دخل عليه وجلس بين يديه، قال: أنت اسمك فلان ابن فلان؟ جرى لك كذا وكذا؟ جدك اسمه كذا؟ جرى لكم كذا؟ فإذا بهذا الإنسان يُدهش ويسقط بين يديه، ويظن أن هذا الساحر قد امتلك قدرة عظيمة منها علم هذه المغيبات؛ لأنه قد يخبره بأشياء لا يعلمها أقرب الناس إليه، بل حتى جيرانه وبعض أقاربه لا يعلم هذا، فكيف علمها هذا الرجل الذي يعيش في تلك البلدة النائية؟ ولقد حدثني أحدهم وكان مريضاً قال: ذُكر لي طبيب في إيطاليا، فذهبت إليه للعلاج في إيطاليا، فلما دخلت عليه أخبرني من أسرار أسرتنا ما لا يعلمه أحد، أقول: فمن الذي أخبر هذا الساحر الكاهن في روما؟ إن الذي أخبره هي الشياطين.
فهؤلاء السحرة يدّعون علم الغيب، ويستعينون بالشياطين، ولا يستعينون بهم إلا حينما يقعون في الشرك ولا حول ولا قوة إلا بالله، ومن ثم فإنك تجدهم أحياناً يطلبون من الشخص أن يذبح ذبيحة ولا يذكر اسم الله عليها؛ لتكون ذبيحة لغير الله، وهذا هو الشرك.
فينبغي أيها الإخوة أن ننتبه لهذه القضية، وأن هؤلاء السحرة الذين انتشروا وبلي الناس بهم يجب أن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى، فيجب أولاً أن يحذّر منهم، ثم يجب ثانياً أن يردعوا عملياً وأن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى، فإذا أقيم فيهم حكم الله وهو القتل فإن هؤلاء يرتدعون ويسلم الناس من شرهم، أما إذا تُركوا يعبثون بعقائد الناس فهذا ما لا يجوز السكوت عليه أبداً، ومن المحزن حقاً أن مثل هؤلاء السحرة لهم نفوذ حتى يقال إن كثيراً من زعماء العالم لكل واحد منهم كاهن وساحر يخبره عمّا يجري عليه وعمّا يمكن أن يجري ويقع، وتتعلق نفوس هؤلاء الكبراء بهؤلاء السحرة ويؤدي هذا إلى حمايتهم.
والواجب أيها الإخوة أن نحذر من ذلك حذراً شديداً، وكثير من الناس يقع في شيء من هذا، ومن ذلك أن بعض الناس يذبح للجن خوفاً منهم أو تقرباً إليهم، حتى أنني سمعت من ذلك نماذج غريبة جداً حتى أخبرني أحد الإخوة أنه سمع إحدى الإذاعات العربية تقول: ذهب أمير المنطقة الفلانية إلى مزار سيدي فلان، وكان معه الأبقار وذبحوها عند قبر السيد وكأنه خبر إسلامي، وكأن هذا الخبر من الأمور المسلّمة عندهم، وهذا أمر خطير جداً.
ومن ذلك أيضاً أنني أُخبرت أن بعض الناس إذا أراد أن ينزل منزلاً جديداً يذبح ذبيحة وينثر دمها على أسوار البيت، وأحياناً ينثر دمها على أسوار البيت أيضاً من الداخل ويظن أنه إذا سكن البيت دون أن يذبح هذه الذبيحة ربما أُصيب هو أو أولاده بما يمكن(51/22)
الغلو في الرسول صلى الله عليه وسلم
ومن الأمور التي تتعلق بهذا الموضوع، أقصد موضوع تحقيق التوحيد ووجوبه: الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الغلو في رسول الله صلى الله عليه وسلم كثر في هذه الأيام، لأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة، بل يجب على الإنسان أن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أشد من محبته لنفسه وولده ووالده والناس أجمعين، فجاء بعض الناس ليقولوا إن هذه المحبة لا تتحقق إلا بأن تتوسل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فوقع كثير من هؤلاء في الشرك، وهذا أمر خطير يحتاج إلى تفصيل مستقل، لكنني أذكر به في معرض هذه الفتنة التي وجدت عند بعض المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.(51/23)
تعليق التماثيل والنصب التذكارية
ومن ذلك أيضاً: تعظيم التماثيل والنصب التذكارية وغيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التصوير؛ لأنه من وسائل الشرك، فالتصوير الذي يؤدي إلى وجود تماثيل أو غيرها وسيلة من وسائل الشرك كما ذكر الله سبحانه وتعالى عن قوم نوح، وكيف وقع فيهم الشرك كما ذكر ذلك ابن عباس رضي الله عنهما، وتعظيم التماثيل من الأمور التي يجب أن يُنتبه لها؛ لأن كثيراً من الناس يدخلها في باب الآثار، وباب الآثار باب عريض، قد يدخل فيه الآثار التي يكون الاهتمام بها أمراً مباحاً، لكن كثيراً ما يدخل فيها بعض الآثار التي تُعظَّم وتُقدّس ويؤدي تعظيمها إلى أنواع من التعلق بها، وتعلمون أنتم ما يجري فقد يأتون بلوحة عبث فيها ملحد أو نصراني فخطها قبل ثلاثين سنة أو مائة سنة أو مائة وخمسين سنة فتباع بالملايين من الدولارات، ولو عُثر على صنم هبل الذي قد كسر لبيع بملايين، فتعظيم الآثار وخاصة آثار الرسول صلى الله عليه وسلم يؤدي أحياناً إلى أنواع من التعلق بها والشرك بها، وهذا مدخل خطير يجب أن نحذر منه جميعاً.
أيها الإخوة في الله! ينبغي أن نعلم أن تحقيق التوحيد ضروري لبناء الإيمان، وأن من أعظم الأمور التي لا بد منها في تحقيق هذا التوحيد هو الحذر من الشرك الأكبر والأصغر بجميع أشكاله وصوره، ولنعلم أن الأمر خطير وأنه مدخل من المداخل الخطيرة أسأل الله سبحانه وتعالى أن يقيني وإياكم شرها، وأن يرزقني وإياكم تحقيق التوحيد، وأن يجعلنا ممن يموت على كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، غير واقع في شرك ولا في غيره مما يضاد هذا التوحيد.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(51/24)
الأسئلة(51/25)
التركيز على التوحيد والجهل بأمور الدين الأخرى
السؤال
يوجد أناس يقولون: التوحيد قبل كل شيء، فلا تطلب العلم إلا بعد التوحيد وبعد ذلك تعلم ما بدا لك، فتجده جاهلاً في كثير من أمور دينه؛ لأنه أهملها وركز على التوحيد، فما رأيك يا شيخ في هذه الحالة؟
الجواب
الحقيقة هذه الحالة وغيرها ينبغي أن يُنظر فيها من خلال ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم، ما هي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وما هي سيرته في هذا الأمر فنقول: لا شك أن تحقيق التوحيد وبناءه والتركيز عليه لا بد منه، لكن من قال إنك وأنت تركز على التوحيد تُهمل غيره؟ ونحن نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات والدين كامل، يعني بعد فرض الصلاة هل كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا جاء رجل وأسلم قال علموه التوحيد والبعد عن الشرك، ثم قال بعد شهرين أو ثلاثة ائتوا به نعلمه الصلاة؟ لا، وإنما كان صلى الله عليه وسلم إذا شهد شهادة الحق علمه الوضوء والصلاة؛ لأن الوضوء والصلاة توحيد، فالانفكاك بين هذه الأمور خطأ.
وأبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه لما أن ارتدت الجزيرة العربية وانتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى وتولى الخلافة من بعده، ماذا فعل المرتدون؟ قسم من المرتدين اتبعوا المتنبئين الكذابين، فهؤلاء منكرون لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم أو مقرون معها بنبوة غيرهم فهم مرتدون، لكن قسم آخر منهم قال: نحن على الإسلام ونؤدي الصلاة، لكن هذه الزكاة لا نؤديها، فهل قال أبو بكر أهم شيء عندنا التوحيد؟ فما داموا يقرون بنبوة محمد فهذا الذي نركز عليه؟ ولهذا قال عمر واحتج على أبي بكر كما هو معروف، في حديث: (أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله).
ورأى بعض الصحابة أن يُترك هؤلاء الذين منعوا الزكاة، لكن أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه قال: (والله لأقاتلن من فرّق بين الصلاة والزكاة) وقاتلهم على ذلك، فهل فِعل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه هنا هذا إلا سنة؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين)، ويقول: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر).
لهذا فإنني أقول: إن مثل هذه القضية وهي قضية التركيز أو غير التركيز يخطئ البعض في فهمها وفي تطبيقها أحياناً، وإلا فلا أظن أن هناك خلافاً بين من يفقهون دين الله أن أي أمر لا بد أن يبنى على العقيدة، وأنك حينما تجد مجتمعاً ضعفت فيه العقيدة أو كثرت فيه الشركيات يجب عليك أن تركز على هذه الشركيات، لكن مع ذلك تدعوهم إلى الله وإلى غيرها فشعيب دعا قومه إلى لا إله إلا الله ودعاهم إلى: {وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ} [هود:84] والأمر إن شاء الله واضح.(51/26)
حكم من أتى كاهناً يسأله من باب حب الاستطلاع
السؤال
لو ذهب شخص إلى أحد الكهنة لكي يخبره عن المولود القادم له، هل هو ذكر أم أنثى، وما ذهب لذلك إلا حباً للاستطلاع لكنه لا يصدّق ما يخبر به، فما حكم ذلك؟
الجواب
ورد في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أتى كاهناً فصدقه فقد كفر بما أُنزل على محمد)، وفي بعض الروايات: (من أتى كاهناً) بدون (فصدّقه)، فإتيانه حرام لا يجوز؛ أولاً لأن فيه تكثيراً لسواده وتعظيماً له؛ وثانياً وهو الأخطر: أن فيه جانب اعتقاد أنه يعلم الغيب، وإلا لما ذهبت إليه، لماذا لم تذهب إلى غيره وتقول: هل مولودي ذكر أو أنثى؟ إذاً: ما ذهب إلى هذا الكاهن إلا وهو يظن أنه ربما يصدق في قوله، ونحن نعلم أن الكهنة في الجاهلية كانوا يسترقون السمع، يركب الجن فوق بعض حتى يصلون إلى السماء فيسمعون الوحي، فإذا سمعوا به ربما قيل يؤمر السحاب بأن يُمطر بلد بني فلان في يوم الثلاثاء، فأحياناً يُدركه الشهاب فيحرقه، وأحياناً يبلّغه قبل أن يُدركه فتصل إلى الكاهن فيقول الكاهن: يوم الثلاثاء يأتي مطر لبني فلان، قال صلى الله عليه وسلم: (فيضيف إليها تسعة وتسعين كذبة) وكل الكذبات يتبين كذبه فيها؛ لكن لأنه صدق في تلك المرة تتعلق النفوس به، فيقال: ألا ترون أنه صدقنا في يوم كذا؟ لكن بعد ذلك حُرست السماء، فلا مجال لاستراق السمع أبداً، أي أنه لا مجال لأي إنسان مهما بلغت قدرته أن يطّلع على الغيب، لكن أن يطّلع على ما يمكن أن يُطلّع عليه بالأسباب هذا أمر لا شيء فيه، لكن أن يطّلع على الغيب فلا: {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} [النمل:65] فمن أتى كاهناً فهو ضعيف الإيمان في هذا الجانب.(51/27)
حكم اتباع الهوى
السؤال
هل كل من اتبع هواه يُعد مشركاً؟
الجواب
اتباع الهوى درجات، فاتباع الهوى إذا أدى بالإنسان إلى الكفر بالله أو الوقوع في أنواع من الشرك فهذا يقال اتبع هواه وأدى به إلى الكفر، وما نزل عن ذلك فهو بحسبه، فمن اتبع هواه مثلاً وقصّر في العبادة فنقول: هذا متّبع لهواه، أي أنه مقصّر في هذه العبادة، وهكذا فالأمر في هذه المسألة على درجات، وينبغي أن يُنتبه لذلك؛ لأن بعض الناس يعمم، ويقول: من اتبع هواه فقد اتخذه إلهاً من دون الله فهو كافر، فيدخل فيه مثلاً من اتبعه هواه في مسألة أو في أمر دنيوي أدى به إلى كسل عن صلاة أو كسل عن واجب، فهذا الاتباع لا يقال عنه إنه شرك، وبعض الناس على العكس من ذلك فنقول: الأمر فيه تفصيل.(51/28)
حكم الاستغاثة بمن يقدر على إنقاذه لكنه لا يسمعه
السؤال
لو استغاث شخص برجل قادر ولكنه لا يسمعه حالة استغاثته، فما حكم ذلك؟
الجواب
إذا كان نطقه بهذا الكلام عند من سيبلّغ ذلك الرجل القادر فهذا مثلما لو كان حاضراً، فهذه من الأسباب المعروفة في حياة الناس ولا شيء فيها، أما إذا استغاث به وهو يعلم أنه لا يسمعه وليس هناك أحد يبلّغه فهو في هذه الحالة بحسب اعتقاده في هذه المقالة، وأقل أحوالها أن تكون من الشرك الأصغر.(51/29)
حكم علاج السحر بالسحر
السؤال
كثير من الناس يُصاب بسحر أو يتوهم أنه مصاب بسحر فتضيق عليه الأرض وكذا على أهله، فيضطر هو وأهله إلى الذهاب إلى السحرة والكهنة ليحلوا ذلك السحر، وإذا قيل لهم إن هذا كفر أو شرك قالوا: إذا رجعنا تبنا إلى الله عز وجل، وما الطريقة المثلى أو الطريقة الشرعية لحل السحر؟
الجواب
هذا السؤال مهم وينبغي أن نعلم أنه كما أخبر الله تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:6] السبب هو ضعف الإيمان، وضعف الإيمان يؤدي بالإنسان أحياناً إلى الوهم، لو قيل لإنسان أصيب مثلاً في ليلة أو ليلتين بالأرق: أكيد أنه أصابتك عين أو أصابك سحر! فصدّق فتوهم فإنه لا يمكن أن يبيت لا يمكن أن ينام، يصبح هاجسه ليلاً ونهاراً هذا المرض، بينما الرجل ليس فيه مرض، لكن لما قيل له ذلك ربما صدّق فأدى به إلى هذا، ولهذا تجد كثيراً من الأمراض في بدايتها سهلة عادية، لكن تتعقد بالوهم، وهذا معروف حتى في المرض العضوي الإنسان إذا أُصيب بمغص في بطنه، أو بجرح معين أو شيء من ذلك! إذا أعطاه قدره المناسب له، تشجع الرجل وصار يأكل ويأخذ بالأسباب ونفسيته طيبة، لكن لو قيل له: لا، هذا فيه مرض خطير، بدأ الوهم عنده، وتعلمون أنتم أن الوهم يهد الإنسان خلال ساعات، بل خلال وقت قصير، فإذا هُد هذا المريض وصار لا يأكل وصار مهموماً ومغموماً مرض واشتد مرضه وضاق صدره وصدر أهله، بل إنك تجد الإنسان وهو في أشد حالات المرض في المستشفى لأنه واهم وخائف، فإذا جاءه الطبيب وقال له: الحمد لله، لقط أظهرت التقارير أنه لا شيء فيك، فكأنما ينشط من عقال، فإذا به يجلس ويحدث من حوله، ويبتسم، ويشتهي ويأكل وتتحسن حالته، والعكس بالعكس، فهذه واحدة.
الأمر الثاني: أن من وقع عليه ابتلاء في مثل هذه الأمور مما ذكره السائل، يجب على العبد أن يتقي الله سبحانه وتعالى: (إن الله لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم) وما من داء إلا وله دواء، وليس هناك مرض إلا وله دواء إلا السام وهو الموت، أما ما عدا ذلك فله دواء، وهذا الدواء شرعي، وحينئذ فإنني أقول: إن من ابتلي بمثل هذا المرض فعليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى.
أولاً: لا يجوز له أن يذهب إلى هؤلاء السحرة، وخداعه لنفسه أنه يقول: إذا رجعنا نتوب! هذا كلام خطير يُخشى على صاحبه، مثل ذلك الشخص الذي يقول: أقع في المعصية وأتوب، سبحان الله! وإذا جاءك الأجل وأنت على المعصية فماذا ستقول لربك سبحانه وتعالى؟ كذلك أيضاً نقول لهؤلاء لو وقع حادث سيارة وأنتم راجعون ومتم لم تدرككم التوبة، فاتقوا الله سبحانه وتعالى.
ثانياً: يجب على هؤلاء أن يبحثوا عن الرقية الشرعية، ومثل السحر وغيره توجد رقى شرعية، هذه الرقى تنفع مع الإخلاص والتعلق بالله سبحانه وتعالى، والله سبحانه وتعالى يشفي صاحبه، وقد تكون إرادة الله أن يُبتلى هذا الرجل وأن يستمر عليه البلاء زمناً، فلا ييئس الإنسان.
فينبغي يا أيها الإخوة أن ننتبه لهذه القضية، فلا يجوز الذهاب إلى هؤلاء، ولا يجوز علاج السحر بسحر مثله على القول الراجح وخاصة في هذه الأيام التي انتشر فيها هؤلاء السحرة.(51/30)
حكم من يعلم بمشعوذ ولا يقدر على إزالته
السؤال
ما حكم من يعلم عن حال مشعوذ يفد الناس إليه جماعات لكنه لا يستطيع أن يعمل شيئاً، فما الواجب عليه؟
الجواب
القول بأنه لا يستطيع غير صحيح، فعليه أن يبذل، أن يأتي إلى أهل الخير والعلم من أبناء هذه المدينة الذي هو فيها أو القريبة منها ويشرح حاله ويحذّر منه، وكما أشرت في أثناء هذا الدرس فإن من المهم أن يقام فيهم حكم الله سبحانه وتعالى ضرورة حتى لا يستفحل شرهم وقد استفحل.(51/31)
حكم الرقية بغير اللغة العربية
السؤال
إذا كان من يرقي لا يجيد اللغة العربية، فهل يرقي بغير اللغة؟
الجواب
لا يجوز، وقد ذكرنا أنه من شرطها أن تكون باللغة العربية.(51/32)
المعاصي والرياء بريد الكفر
السؤال
نود منك أن تبين صوراً للرياء تقود فاعلها إلى الشرك الأكبر؟
الجواب
كل المعاصي قد تقود إلى الشرك الأكبر، كم من شاب قادته الشهوة إلى ذلك، بمعنى أنه أتاه صديق له وقال: تعال، فوقع في الزنا، والزنا معصية من المعاصي وكبيرة من الكبائر، إذا تاب منها الإنسان فالله يتوب عليه ولا يكفر صاحبها، لكن قد تأتي هذه المعصية حين يبدأ بها من خلال أصدقائه، فيؤدي به الأمر أحياناً إلى ترك الصلاة، وهذا يقع، ومن وقع في شرب الخمرة أو وقع في الزنا ونحو ذلك غالباً ما يؤدي به نعوذ بالله إلى ترك الصلاة، وهذا بحد ذاته كفر، بل قد يكون ما هو أشد من ذلك، قد يؤدي به إلى الاستهتار بالدين والاستهزاء بالدين، وهذا أيضاً ردة، قد يؤدي به أحياناً إلى أنه لا يستطيع أن يتحلل هذا التحلل إلا من خلال الإلحاد وإنكار وجود الله سبحانه وتعالى، وهذا واقع، بل كثير من دعاة الإلحاد والكفر بالله سبحانه وتعالى يدخلون إلى الشباب عن طريق الشهوات، فبدأه بمعصية وانتهى إلى كفر بالله سبحانه وتعالى السائل سأل عن الرياء؟ نقول: نعم، قد يبدأ الرياء خفيفاً مع الإنسان فيبطل صلاته أو عبادته أو جزءاً منها، لكن قد يستحكم عليه، ثم يبدأ هذا الإنسان لا يعمل لله، ربما كثر الأتباع له ونظر الناس إليه فصار في الخفاء يجاهر ربه بالمعاصي، وأمام الناس يتظاهر أنه من الأتقياء، فتأتيه النفس وتقول: إنك تضحك على الناس فاضحك على ربك أيضاً! فيبدأ ولا حول ولا قوة إلا بالله يتظاهر بهذا الرياء، وهو في الحقيقة إذا كان بينه وبين ربه سبحانه وتعالى ربما لا يؤدي الصلاة أو لا يؤدي بعض العبادات الواجبة.(51/33)
علاج الرياء
السؤال
شخص ابتلي بالرياء فما العلاج لذلك؟
الجواب
العلاج لذلك الرقابة الشديدة على القلب وأنت تعمل هذه الأعمال التي تخشى من الرياء فيها، ومقتضى ذلك أن توقن يقيناً تاماً أن هؤلاء الناس لا يستطيعون أن ينفعوك بشيء، ومن ثم فإنك إذا راءيتهم خسرت الآخرة فلا ثواب لك، وخسرت الدنيا أنك لم تعمل هذا العمل لوجه الله تعالى، فلم ينفعك عملك في زيادة إيمانك وفي تقوية قلبك، ومن هنا فإنني أقول: يا أيها الأخ العزيز إذا خشيت من هذا فعليك أن تعالج نفسك بنفسك من خلال أمور: الأول: أن تحرص كثيراً على أن تكون عباداتك الخاصة لوحدك، كالعبادات التي هي نوافل.
الأمر الثاني: أن تجاهد نفسك عند عمل الطاعة إذا كان لا بد من عملها أمام الناس، فتجاهد نفسك ولا تستتر للشيطان، فإن الشيطان قد يأتيك ويقول لك: إنك ترائي، فعليك أن تراغمه وأن تستمر في عبادتك.
الأمر الثالث: أن تدعو ربك سبحانه وتعالى أن يعصمك من مثل هذا الأمر، وأنا أخشى أن يكون مثل هذا وهماً، أعني أن الشيطان يريد أن يفسد عليك عباداتك فيقول لك: إنك ترائي، ويريد أن يُفسد عليك العبادة حتى تتركها أو حتى تتخلى عن الصالحين ولا تجالسهم فالأولى مراغمة الشيطان وأن تحرص كل الحرص على أن تُحضر قلبك ليكون مخلصاً لله تعالى في هذه العبادة، والله تبارك وتعالى يتولاك.(51/34)
حكم تعليق القرآن أو الأذكار في السيارات
السؤال
انتشر في هذه الأيام عند بعض الناس وضع المصحف في السيارة أو تعليق بعض الآيات أو الأحاديث، أو وضع بعض الملصقات التي فيها آيات قرآنية، فهل هذه تُعتبر من التمائم؟ وهل ما يوضع من الأدلة الواردة في السنة كدعاء الركوب من ذلك؟
الجواب
أظن أن بعض هذه الأمور يدخل في هذا، مثل الذي يضع المصحف في مقدمة السيارة أظنه يقصد أنه تميمة، فإذا كان قصده ذلك فيدخل في الحكم الذي رجّحنا أنه لا يجوز، أما ما عدا ذلك من الأشياء المعلقة فهي بحسب مقصدها، إن كان قصده أن يتذكرها، بمعنى أنه إذا ركب السيارة تذكر الدعاء فمثل هذا إن شاء الله لا بأس به خاصة إذا لم يكن آية قرآنية، أما إذا كانت آية قرآنية مثل آية الكرسي وغيرها فحكمها حكم اللوحات التي تعلق أحياناً في البيوت وغيرها، وهذه الأمور مما اختلفت فيها الفتوى بالنسبة للمشايخ حفظهم الله تعالى، والذي يظهر والعلم عند الله تعالى أن مثل هذه اللوحات تتحول إلى نوع امتهان لها، وهذا الامتهان إما أن يكون من خلال أن توضع كأواني، وأحياناً يمتهنها الأطفال، وأقل أحوالها أنها تتحول إلى زينة فقط، فلا تُقرأ ولا أحد يلتفت إليها، وإنما تحولت إلى مجرد زينة، وهذا مما ينبغي أن ينزه عنه كلام الله تعالى.(51/35)
حكم تعليق الأدوية العشبية على الطفل
السؤال
هل ما يعلق على الطفل من الأدوية العشبية خشية من الأمراض يعتبر من التمائم المحرمة؟
الجواب
نعم، بل هو من أشدها، ولا شك أنها لا يجوز؛ لأن مثل هذه الأمور يظنون أنها تحمي، فالاعتقاد بأنها تحمي كتعليق الخرزات، أو سلسلة مغناطيسية، أو غير ذلك يظن أنها تحمي، فهذا كله مما لا يجوز.(51/36)
حكم الحلف بآيات الله
السؤال
هل الحلف بآيات الله عز وجل يعتبر من الشرك، وخاصة إذا كان يقصد الآيات الكونية؟
الجواب
إذا كان يقصد آيات كونية، وقصده مثلاً كأنه يحلف بالسماء أو يحلف بالشمس، فهذا لا شك أنه حلف بغير الله، أما إذا كان يحلف بآيات الله أي القرآن فهذا جائز.(51/37)
حكم الحلي التي على شكل كتاب
السؤال
انتشر في الآونة الأخيرة بعض حلي النساء يُعلّق على رقابها على شكل كُتيب صغير، فهل هذا من الرقى والتمائم؟
الجواب
حسب مقصدها، إذا كان هذا الكتيب الصغير لا يقصد بأنه مصحف أو لا يقصد به أنه يحمي فهذا من الأمور التي هي زينة جائزة؛ لأنه أحياناً تأتي على شكل من الأشكال المصورة من كتاب وغيره فهذا لا بأس به، أما إذا قُصد التميمة فالأمور بحسب مقاصدها؛ لأنه حتى الحلي التي ليس فيها شكل كتاب ولا غيره لو قصدت به صاحبتها أنها تحميها لتحولت إلى تميمة، ومن ثم فلا تجوز.(51/38)
حكم من يرمي بعض الطعام عن العين إذا مر عليه شخص وهو يأكل
السؤال
بعض الناس إذا مر عليه شخص وهو يأكل رمى بعض الطعام ويقول: عن العين، فما حكم ذلك؟
الجواب
لا دليل عليه، وهذا من ضعف الإيمان.(51/39)
أنواع المحبة ودرجاتها
السؤال
بعض الناس يُفرط في الحب في الله عز وجل بحيث يتعدى الحدود الشرعية كأن يقدم محبة الشخص على الوالدين، أو أن تكون النتيجة ترك بعض السنن أو عمل بعض المكروهات؟
الجواب
ينبغي أن يفرق بين أنواع ثلاثة من المحبة: النوع الأول: محبة العبادة، فهذه يجب أن تكون خالصة لله، فالله تعالى هو وحده يُحب لذاته، ومن ثم فالطاعة له وحده لا شريك له، وكذلك أيضاً مقتضيات المحبة الأخرى.
النوع الثاني: المحبة في الله، وهذه المحبة على درجات، أعلاها محبة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يجب أن يُقدم على محبة النفس والولد والوالد، ثم يأتي على إثرها كل محبة في الناس، محبة الطاعات، محبة أخيك المؤمن، محبة الصحابة، محبة كل من عمل صالحاً من المؤمنين؛ هذا كله مما يقوي الإيمان، فهذه الأنواع من المحبة هي إيمان؛ لأنها في الله.
النوع الثالث من المحبة: المحبة الطبيعية، مثل محبة الولد، ومحبة الوالد، ومحبة الوالدة فهذه محبة ركّبها الله سبحانه وتعالى في طبيعة البشر، بل إنها موجودة في البهائم والطير وغير ذلك، فهذه المحبة لا يأتي قائل ليقول: إن هذه المحبة تخالف تلك المحبة، وإنما ننظر إليها من خلال درجاتها، فمن قدّم مثلاً محبة الولد على محبة الله يُشبه من قدّم محبة المال أو محبة الزوجة على محبة الله تعالى بحيث يؤدي به إلى ترك عبادة الله وحده لا شريك له فنقول: إن هذا التقديم لهذه المحبة خطر على صاحبه قد يؤدي به إلى كفر وقد يؤدي به إلى أنواع من الفسق أو المعاصي، فهي على درجات كما سبق أن بيّنا.(51/40)
قواعد وضوابط في الشرك
السؤال
لو ذكرت لنا بعض القواعد والضوابط في تمييز الشرك عن غيره، وفي تمييز الشرك الأكبر عن الأصغر؟
الجواب
ليس هناك قواعد وضوابط بحيث توضع هذه القاعدة وتأتي عليها الأنواع كلها، وإنما الأمر يحتاج إلى شيء من الاستقصاء؛ لأننا مربوطون بالدليل من كتاب الله ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن نعلم أن بعض هذه الأمور قد تكون شركاً في شريعة ولا تكون شركاً في شريعة أخرى، فالسجود مثلاً للاحترام والتقدير كان جائزاً كما في قصة يوسف مع أخوته، لكنه في شريعة محمد صلى الله عليه وسلم شرك أكبر، ولهذا كما في الصحيح: لما قدم معاذ من الشام وأقبل على الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة هيبته وفرحه برؤية النبي صلى الله عليه وسلم سجد له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا يا معاذ؟ قال: يا رسول الله إنني كنت في الشام فرأيتهم يسجدون لرهبانهم وقساوستهم فأنت يا رسول الله أحق بذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: (لا تفعل، فلو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها) فصار السجود لغير الله من العالم به شركاً وكفراً أكبر.
صحيح أن هذا يدخل في المعاني وتمييز الأمور وضبطها، لكن أيضاً لا بد من النظر فيه إلى الأدلة، عندما نقول: عبادة غير الله شرك القصد بأي نوع من أنواع العبادة، فما يأتينا أحد ليقول لا بد أن تستقصي كل هذه الأمور بحيث يكون هذا الأمر شاملاً شمولاً كلياً، وإنما يُذكر من ذلك الأمثلة ويميز بين ما كان أكبر وما كان أصغر أيضاً بالدليل، ولهذا تجد مثلاً إرادة الإنسان بعمله الدنيا، أو ما ذكرناه قبل قليل مثل اتباع الهوى على درجات، أو المحبة، أو الخوف من غير الله الإنسان يخاف من السبع ويخاف من النار، هل نقول هذا وقع في الشرك الأكبر؟ لا، وإنما نقول: الخوف من غير الله سبحانه وتعالى على درجات، فإن كان هذا الخوف من غير الله سبحانه وتعالى في أمر لا يقدر عليه ولا يملكه إلا الله سبحانه وتعالى! فهذا قد يوصل صاحبه إلى الشرك الأكبر، وإن كان في أمر يخاف منه الإنسان عادة فهذا من الأمور العادية، وإن كان في أمر مما بين ذلك فهذا دال على ضعف إيمانه وقد لا يوصل صاحبه إلى الشرك الأكبر، وهكذا بقية الأمور.(51/41)
ضعف التوحيد عملياً
السؤال
كثير من الناس يعرف التوحيد علمياً ولكن قل من يعرفه عملياً، كيف العلاج لذلك؟
الجواب
هذا مرض عضال؛ لأن بعض الناس التنظير الذهني عنده جيد، لكن إذا جاء إلى الأمور العملية اختلطت عليه الأمور.
كثير من الناس فيما مر من أزمة سابقة قيل: هؤلاء تربوا على التوحيد، بل يحفظون كتاب التوحيد للشيخ محمد بن عبد الوهاب، ويستطيع الواحد أن يشرح لك لمدة نصف ساعة أو أكثر، ثم لما جاء الأمر إلى تطبيق عملي وقع بعض الناس في أنواع من المخالفات، فتعلقت النفوس بغير الله، حيث ظن أن هذا الشخص أو هذه الجهة أو هذه الدولة ربما تحميه من النار، ظن أنه حينما يهرب من هذا المكان أنه ينجو من الموت، وهذا كله دليل على ضعف الإيمان، فعند التنفيذ العملي ضعف إيمانه، ولهذا نحن نقول: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التوحيد، وأن يعيذنا من الفتن؛ لأن الإنسان قد يبتلى، وعند الابتلاء قد يقوى الإنسان على المواجهة وقد لا يقوى.(51/42)
حكم استخدام الذئب في علاج الجن وحكم أخذ الأجرة على الرقية
السؤال
بعض الناس الذين يقرءون يستخدمون الذئاب في علاج بعض الأشخاص لإخراج مس الجن، وما حكم أخذ الأموال على ذلك؟
الجواب
أما الرقية الشرعية فالصحيح جواز أخذ المال للحديث الصحيح الذي فيه أن الصحابة رقوا الرجل الذي لُدغ فأعطوهم مقابل ذلك أغناماً، لكن العلماء يتكلمون في الاشتراط المسبق، أما إذا أُعطي فلا شيء فيه إن شاء الله تعالى، ولكن ينبغي للقارئ المخلص أن يتجنب هذا الأمر وأن يجعل قراءته خالصة لوجهه تعالى؛ لأنه مدخل لهوى النفس والتعلق بالدنيا والتعلق بالمال كما يحدث للبعض، نسأل الله لنا ولهم العافية.
أما ذلك الذي يقرأ ويستخدم بعض هذه الأشياء فنحن نقول: إن هذا الأمر يترك للتجربة، إذا كان يظن أن الجن تنفر من هذا الشيء فهذا متروك للتجربة، لكن على ألا يُعتقد فيه؛ لأن بعض الناس سمع ما ذكره السائل فاقتنى ذئباً، وبعضهم اشترى ذئباً وقطع رأسه وحنّطه وأبقاه في بيته، وبعضهم بحث عن جلد الذئب ليجعله في بيته وهذا كله من الأمور التي هي مضعفة لتحقيق التوحيد.(51/43)
حكم قول القائل في ذمتك ونحوه
السؤال
ما حكم قول القائل: في ذمتك أو أمانتك، أو قول بعضهم: في ذمته ليفعلن كذا؟
الجواب
هذا حلف بغير الله، بل هو أخطر من الحلف بغير الله، فينبغي أن يتجنب.(51/44)
حكم قول القائل إنه ما صدق على الله
السؤال
ما حكم قول القائل: أنه ما صدّق على الله، من الناحية الشرعية؟
الجواب
الذي يظهر أن مثل هذه العبارة وإن كان التعبير عنها عامية فيه شيء من الغموض، لكن الذي يظهر أنه لا شيء فيها؛ لأن قصد صاحبها أنني ما كنت أتوقع هذا، ثم تبيّن لي أن هذا قد كتب وقدر، ما كنت أتوقع أن فلاناً يأتي فإذا بي أراه في هذا المكان إلى آخره، فأقول: لو اجتنبت هذه العبارة لكان أولى، لكن من قالها فالذي يظهر أن قصده فيها لا شيء فيه.(51/45)
حكم النظر إلى المسلسلات في التلفاز
السؤال
ما حكم النظر إلى المسلسلات التي تظهر في التلفاز، وخاصة أن في بعضها بعض الأمور التي تخالف الشريعة، أو الإشراك بالله عز وجل؟
الجواب
إذا كان فيها محرمات فلا تجوز، وإذا كان فيها شرك فلا تجوز، إذا كان فيها نساء فلا يجوز النظر إليهن، هذه كلها واضحة الدلالة.(51/46)
حكم الأجرة على تعليم القرآن
السؤال
ما حكم أخذ الأجرة على الرقية استناداً على حديث: (إن خير ما أخذتم عليه أجراً هذا القرآن) وأنه إنما يكون في الرقية فقط كما يراه المحدث العلامة الشيخ ناصر الدين الألباني؟
الجواب
أخذ الأجرة على الرقية مسألة خلافية، وكذلك هل تجوز أخذ الأجرة على تعليم كلام الله؟ أما أخذ الأجرة لأجل أن يقرأ، مثل لو جاء إنسان وقال: يا فلان اقرأ لي سورة البقرة بمائة ريال، فيأتي هذا فيقرأ له سورة البقرة لأجل المائة، فالذي يظهر أنه لا يجوز، لكن أخذ الأجرة على التعليم مسألة خلافية بين العلماء، والذي يظهر والله أعلم جوازها، لكن ينبغي أن يكون معلوماً لدى المؤمنين الأخيار أنه لا ينبغي أن يلجأ معلم القرآن إلى مثل هذا، إذا كان هناك معلم للقرآن فالأولى له أن لا يُلجأ إلى أن يطلب هذا الأمر وتكون أجرة ومفاصلة وغير ذلك، وإنما يُعلِّم ويُعطى ما يكفيه من رزقه، هذا الذي ذكره العلماء، وهو الأمر الطيب الذي يجب أن يُسلك.(51/47)
أفضل شروح الطحاوية
السؤال
ما أفضل الشروح للعقيدة الطحاوية، خاصة من ناحية التصحيح والتعليق والتخريج؟
الجواب
أفضل الشروح هو شرح ابن أبي العز الحنفي، وأما عن التعليق فأقول: هما طبعتان من أفضل الطبعات: فالطبعة الأولى هي الطبعة المشهورة طبعة المكتب الإسلامي، وعليها تعليقات المحدث الشيخ الألباني، والطبعة الثانية هي الطبعة الأخيرة التي بتحقيق الشيخ تركي وشعيب الارنؤوط، وهذه الطبعة ظهرت منها الآن طبعة جديدة في مجلد واحد، فلعله استدرك فيها ما كانت عليها من ملحوظات.(51/48)
حاجتنا إلى التربية
تكثر الشهوات وتتوالى الفتن والمغريات، ويتكالب أعداء الدين على إتاحة الفساد والعمل المؤسسي لإضلال الشباب، ومن هنا تأتي الحاجة للعمل من أجل هذا الدين بصورة جماعية، وذلك بأن يجمع الشمل وتتكاتف الجهود على تربية الشباب وتزويدهم بالمعاني الإسلامية والقيم الأخلاقية العليا.(52/1)
الحاجة إلى التربية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أرسله الله منقذاً للبشرية من الضلال إلى الهدى، ومن الظلمات إلى النور، ومعلماً ومربياً للبشرية ومزكياً لها، وما عرفت البشرية معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً ولا تربية منه صلى الله عليه وسلم.
أما بعد: أيها الإخوة! إن الحديث عن التربية حديث ملح، ومطلب له أهميته، ذلك أننا نشهد -ولله الحمد- في عالمنا الإسلامي صحوة إسلامية طيبة مباركة، هذه الصحوة التي تنوعت مظاهرها ومجالاتها، وعمت العالم بأسره، لا العالم الإسلامي وحده، إنها صحوة تعلن لكل متأمل وناظر لها أن الإسلام قادم؛ ليحكم حياة الناس، وأن الإسلام قادم ليتبوأ المكانة التي اختار الله سبحانه وتعالى هذه الأمة لها.
وإننا ينبغي أن نقف وقفات طويلة مع أنفسنا، وأن نتمعن في مسيرة هذه الصحوة، وأن نراجع الحسابات بين الفينة والأخرى.
إن العاطفة وحدها لا يمكن أن تكون مقياساً لمسيرتنا، ولا يمكن أن تكون قائداً لدعوتنا، إنها إذا لم تربط بالمنهج، والعلم الشرعي، والتربية، والاستقامة، قد تقودنا إلى مهالك.
ومن هنا كان لزاماً علينا أن نتحدث عن التربية التي نحتاج إليها جميعاً، نحتاج إليها لأنفسنا، سواء كنا شباباً أو شيباً، رجالاً أو نساءً، يحتاج إليها المربي ليربي من ولاه الله أمانته ومسئوليته، أخاً كان أو تلميذاً أو ابناً، أو حتى هذا المجتمع العريض، إنه يتلقى تربيته من قادة هذا المجتمع خطيباً، أو متحدثاً، أو كاتباً، أو محاضراً.
وعناصر هذه المحاضرة هي: مقدمة لا بد منها.
ماذا نعني بالتربية؟ من يمارس التربية؟ سؤال يفرض نفسه.
مسوغات مطالبتنا بالتربية.
لم يكن أسلافنا بمعزل.
نريد باختصار.
مقدمة بين يدي هذا الموضوع: إنني حين أتحدث عن التربية هنا لست أتحدث حديث مختص، فلست أتحدث عن تلك التربية التي أصبحت علماً خاصاً له أصوله ونظرياته، وله قواعده ومنهجه في البحث، إنما نعني بالتربية هنا أن يسلك المرء بنفسه المنهج الشرعي، ويربيها على أوامر الله سبحانه وتعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى أخلاقيات هذا الدين.
وما أطرحه هنا أيضاً ليس نظرية تربوية متكاملة، وليس حديثاً عن أبعاد التربية، وأهدافها، ومجالاتها، وجوانبها، إنني أريد أن أصل إلى نتيجة واحدة باختصار هي: أن يخرج السامع وهو على قناعة بأننا بحاجة إلى التربية.
هذا ما أريد أن أتحدث عنه، ومن هنا فليس هذا وقت الحديث عن أهداف التربية، أو جوانبها، ومجالاتها، والأخطاء التربوية إلى غير ذلك، غاية ما نريد أن نصل إليه أن نقنع أنفسنا أننا بحاجة إلى التربية.(52/2)
ماذا نعني بالتربية
إن التربية التي نتحدث عنها والتي ترد في مصطلحات الدعاة إلى الله عز وجل، ومصطلحات من يتخاطب مع جيل الصحوة هي أبعد من أن تكون نظريات فلسفية، أو مفاهيم سلوكية مجردة.
إنها تعني الصياغة المتكاملة للفرد والمجتمع على وفق شرع الله سبحانه وتعالى، أن نصوغ الفرد بدءاً بصلته بالله سبحانه وتعالى، وأخلاقه، وسلوكه، ومهاراته، وقدراته العلمية والاجتماعية، وتعامله مع الناس، فهي تعني باختصار إعادة بناء الفرد، وإعادة بناء المجتمع بناءً مستقيماً وفق شرع الله سبحانه وتعالى.(52/3)
من يمارس التربية
إن الإنسان أياً كان لا بد أن يتعرض للتربية، والتربية ليست بالضرورة تربية إيجابية، فقد تكون تربية سلبية، وقد تكون تربية على مفاهيم خاطئة، وقد تكون تربية منحرفة، لكن الناس كل الناس لا بد أن يتعرضوا للتربية، إما تربية ذات منهج وخطا واضحة، أياً كان هذا المنهج، قد يكون منهجاً للإصلاح والخير والاستقامة، وقد يكون منهجاً يراد به الإفساد، ويراد به الانحراف، كما نلمس الآن في المناهج التي تخاطب بها الأمة، حيث نشروا الفساد والرذيلة، وعملوا على محاصرة أبواب الخير، وهي -لاشك- جهود منظمة لإحداث إخلال تربوي في وسط هذه الأمة.
ولعل جزءاً من الأمراض التي تعاني منها الأمة كان نتيجة لتلك التربية السلبية، أو تلك التربية السيئة المتعمدة، أقول: قد تكون التربية تربية مقصودة ذات أهداف وخطا واضحة، سواء كانت تربية إيجابية أو كانت خلاف ذلك، وقد تكون أموراً ارتجالية غير مقصودة، ولكنها تربي الإنسان شاء أم أبى.
هذه التربية تمارسها طوائف شتى في المجتمع، وليس صحيحاً أن التربية منحصرة في إطار المؤسسات التربوية، فالمؤسسات التربوية جزء -ولاشك- ممن يمارس التربية، ولكننا حين نتأمل نجد أن الذين يمارسون التربية أصناف، الأب والأم في المنزل يمارسان التربية، أياً كانت هذه التربية، مقصودة أو غير مقصودة، فالأب أحياناً يساهم في تربية ابنه على الانحراف، وعلى عدم القيام بأوامر الله سبحانه وتعالى، وعلى أن يكون عبداً لشهواته وأهوائه، من خلال تلك القدوة السيئة التي يراها الابن من أبيه، أو من خلال ما ييسره الأب ويسخره لابنه من وسائل الإفساد، فهو هنا يمارس تربية سيئة.
وقد يمارس الأب أيضاً تربية سيئة من جانب آخر، فيقتل شخصية الابن؛ فيخرج الابن مسحوق الشخصية، لا يمكن أن يستقل في تفكير ولا رأي ولا قرار، ويتعود الابن أن يكون مقلداً للآخرين، محاكياً للآخرين، ضعيف الشخصية، لا يستطيع أن يتخذ أي قرار في حياته.
وقد يربي الأب أو الأم الولد على الجبن والخوف والهلع، فيحسب ألف حساب لكلمة يريد أن يقولها، أو موقف يريد أن يعمله، وحين نعود إلى حياة السلف نرى كيف كان السلف يربون أبناءهم على الشجاعة والتضحية، وكيف كان الجبن والهلع صفة ذم ينتقص بها الإنسان عندما يذم ويهجى.
وأحياناً يربي الأب ابنه على معاني الفضيلة، والحياء، والخلق الفاضل، والعفة، وعلى طلب العلم الشرعي، والسلوك الإسلامي، المهم أن الأب يمارس تربية لابنه، سواء كان مثقفاً، أو كان غير مثقف، وسواء كانت تربية مدروسة ذات أهداف وخطط وبرامج واضحة، أو كانت تربية ارتجالية.
والشيخ الذي يدرس العلم الشرعي هو الآخر يربي، وليس صحيحاً أن الشيخ في حلقته وفي درسه العلمي لا يزيد على أن يلقي جوانب علمية مجردة، بعيدة عن المفاهيم التربوية والسلوكية، بعيدة عن تربية المنهج العلمي عند الطالب.
ولهذا عندما تتأمل وتقرأ في سيرة عالم من العلماء، ترى بصمات شيخه واضحة عليه، من خلال عباراته، ومن خلال ترجيحاته واختياره، ومن خلال جوانب الضعف العلمي لديه، ترى بصمات ذاك الشيخ الذي لازمه طويلاً ظاهرة عليه، سواء كانت سلباً أو إيجاباً؛ لأن الشيخ يمارس تربية مع التعليم.
كذلك المؤسسات التربوية: المدارس، ودور الرعاية، والدور الاجتماعية، كل هذه المؤسسات التربوية أيضاً هي الأخرى تمارس التربية.
وكذلك تجمعات الشباب، سواء كانت هذه التجمعات تجمعات خيرة، كفئة من الشباب يجتمعون على حفظ القرآن، أو على تدارس العلم الشرعي، ويكون بينهم تجمعات ولقاءات داخل المدرسة وخارجها، أو داخل الحي وخارجه، أم كانت من التجمعات الفوضوية، فتجمعات الأحياء والشوارع والسوقة هي الأخرى أيضاً تمارس تربية، فهي تربي المنتمي لهذه المجموعة على معانٍ سائدة داخل هذا الوسط الاجتماعي المصغر الذي تعيشه هذه المجموعة، وعادة ما تكون تربية مثل هذه المجتمعات -أعني مجتمعات الشوارع- تربية سلبية.
المهم أن التجمعات أياً كانت تمارس تربية، وتصبغ الفرد من خلال هذا الجو العام السائد على هذه المجموعة، سواء كانت سلبية أو إيجابية.
كذلك الموروثات الاجتماعية من آداب وتقاليد يرثها الناس ويتوارثها المجتمع، فتصبح جزءاً مستقراً في كيان هذا الشخص، فأنت ترى مثلاً مجتمعاً ألف الكرم والسخاء والجود، فترى مثل هذه الجوانب تظهر على كل فرد يخرج من هذا المجتمع، وترى مجتمعاً تربى على الشجاعة والإرادة فترى أفراده كذلك.
وبالعكس، ترى مجتمعاً تربى على الجبن والخوف والبخل وبذاءة اللسان، فترى أيضاً هذه الموروثات تصبغ هذا المجتمع بصبغة معينة من خلالها يتربى الفرد، ويتأثر من خلال هذه الموروثات التي يرثها من مجتمعه.
وكذلك وسائل الإعلام: التلفاز، الفيديو، الإذاعة، أياً كانت هذه الوسائل، فهي الأخرى تمارس تربية.
والفرد نفسه يمارس تربية لنفسه، من خلال عبادته، وتعامله مع الناس، ومحاسبته لنفسه، ومن خلال تلك المعاني التي يغرسها في نفسه أياً كانت هذه المعاني.
إذاً: فالتربية -كما قلنا- ليس صحيحاً أنه لا يمارسها إلا المؤسسات التربوية، أو الأساتذة،(52/4)
القناعة بأهمية التربية
سؤال يفرض نفسه: إن الحديث عن التربية ووضع أسسها وأهدافها وبرامجها، كل ذلك فرع عن القناعة بجدواها، فما مدى قناعتنا بجدوى التربية؟ وما مدى شعورنا بأهمية التربية؟ إننا بحاجة إلى التربية، وإن جيلنا مهما ارتقى ومهما بلغ من مستوى فهو بحاجة إلى التربية.
أقول: إننا يجب أن نطرح على أنفسنا هذا السؤال، والقضية لا يمكن أن نجيب عليها بـ (نعم) أو (لا)، فمستوى القناعة يتفاوت عند الناس، فما لم يكن لدينا قناعة تامة بأهمية التربية، وحاجتنا إليها وضرورتها؛ فإن الحديث عن أهدافها وعن أسسها وبرامجها، والحديث عن الجوانب التربوية يعتبر من فضول الحديث؛ لأن هذا -كما قلنا- إنما هو فرع عن شعورنا وقناعتنا بأهمية التربية.(52/5)
مسوغات المطالبة بالتربية(52/6)
كثرة الفتن والمغريات
بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الأساسية والمقصودة من خلال عرض هذا الموضوع، ألا وهي: مسوغات مطالبتنا بالتربية.
نحن حينما نطالب بالتربية، ونرى أننا بحاجة إليها، فما المسوغات التي تدفعنا لذلك؟ عندما نقول: إن جيل الصحوة يجب أن يعتني بالتربية، وأن توجه له التربية، وأن تقوم مؤسسات ودراسات وبحوث وجهود لتأصيل النظرية التربوية المتكاملة، ومن خلال برنامج عملي أيضاً، وألا تكون القضية مجرد كلام وطرح نظري معرفي فقط، أقول: عندما نطالب بذلك فإن لنا حججاً ومسوغات: أولها: كثرة الفتن والمغريات: إن الشاب الآن يتعرض لفتن كثيرة خاصة في مرحلة المراهقة وما يعقبها، ومن هنا فتراه يعيش صراعاً مع نفسه، وصراعاً مع شهواته، وصراعاً مع هذه الفتن والمغريات التي تؤزه أزاً للفساد وتدفعه دفعاً، ويرى أن هناك عوامل عدة تدفعه دفعاً إلى الرذيلة والفساد، فيرى وسائل الإثارة والإغراء، بدءاً بالأفلام والتلفاز.
وها نحن أقبلنا على خطر داهم يدركه الجميع ألا وهو البث المباشر، فأصبح الشاب الذي قد لا يكون خرج من مدينته، بل قد لا يكون جاوز قريته يدير التلفاز ومحطات الاستقبال، فينقله إلى أوروبا وأمريكا ودول الكفر والإلحاد؛ ليرى الإباحية والتفسخ والانحلال.
وهو خطر قادم أشعر أننا لم ندرك حقاً حجم خطورته، وأشعر أن تعاملنا مع هذا الخطر دون مستوى خطورته، وأخشى أيها الإخوة! أن نحصد النتيجة مرة، من خلال خسارتنا لعفاف بناتنا، وعفاف أبنائنا، وهي قضايا لسنا نتحدث عنها من خلال مبالغة، وها نحن نرى نماذج مرة من الانحلال والفساد والتفسخ والجريمة إنما تحصل من خلال هذه المغريات وهذه المثيرات التي يراها الشاب أو تراها الفتاة.
كم جنينا وعانينا من جراء أفلام الفيديو، والتي تتعرض لمراقبة أياً كانت هذه المراقبة، لكنها تتعرض لمراقبة، وقد يصعب على الشاب الحصول على الفلم الذي يريد، ولكن الآن أصبح العالم كله يعرض بين يديه دون مراقبة، ودون استثناء، في الطعن في عقيدته وأخلاقه وسلوكه، وتعليمه أساليب الجريمة، وسائل الإثارة والإغراء والفتن تعرض أمام ناظريه، فماذا يفعل هذا الشاب؟! وحينما يذهب إلى أي محل تجاري يرى تلك المجلات الساقطة التي زينت أغلفتها بصور النساء تعرض أمامه، حينما يذهب يمنة ويسرة يرى هذه الفتن تدعوه وتؤزه أزاً.
إن الشاب الملتزم المستقيم يعيش معاناة لا يعلمها ولا يدركها إلا هو، واسمحوا لي أيها الإخوة! لأقول: إن الكثير من الآباء، بل الكثير من الأساتذة، بل الكثير من أهل التوجيه يعيشون بمعزل عن عمق المعاناة التي يعاني منها الشاب، والجحيم الذي يعيشه، ومن هنا فأنت ترى أسئلة الشباب كثيرة، تدور حول الثبات، ومعاني الثبات، والخشية من الانحراف, إلى غير ذلك.
لا شك أن هذا سؤال يبعث على الفهم، ونحن حينما نرى الشاب يشعر بعمق الخطر، لا شك أن هذه بداية لمواجهة هذا الخطر، ولكن مثل هذا التساؤل الذي يطرحه الشاب كثيراً، إنه نتيجة إفراز معين عن شعور من تلك المعاناة العميقة التي يعاني منها الشاب، والتي للأسف لا يجد الشاب من يشاركه هذه المعاناة، فيتحدث مع أبيه، ويطرح على أبيه مطالب، فيرى أنه يعيش في وادٍ ووالده يعيش في وادٍ آخر.
إن الأب يحاكم هذا الشاب المراهق التي تتوقد الشهوة لديه، وقد أشرعت الفتن ناظريها أمام عينيه، يحاكم هذا الشاب إلى نفسه، وإلى عقليته، وإلى ظروفه، وإلى مرحلته التي عاشها، وقد تكون هذه المرحلة مضت بكل مشاعرها ومغرياتها وبكل الفتن وكأنها حلم أو رؤيا رآها، غير أنه عاش مرحلة ومجتمعاً يختلف عن هذا المجتمع، وهذه المعاناة التي يعاني منها الشاب.
أقول أيها الإخوة: إن هذه المعاناة، وهذه الفتن والمغريات التي أصبحت تعصف بالشباب يمنة ويسرة من أهم المسوغات التي تدعونا إلى المطالبة بالتربية الجادة والعميقة، إن هذا الشاب يواجه ألواناً من الفتن والمغريات والضغوط التي تدعوه وتؤزه إلى الفساد، فحينئذٍ يحتاج إلى الثبات، ويحتاج إلى ما يعينه، ليس ثم إلا تلك التربية القوية التي تربي عند الشاب الخوف من الله سبحانه وتعالى، والتضحية لله عز وجل، والصبر، والتحمل، وضبط النفس، والإرادة، كل هذه المعاني بحاجة إلى أن تغرس عند الشاب؛ حتى تكون سلاحاً له بعد توفيق الله سبحانه وتعالى وتثبيته، حتى يقف أمام هذه المغريات وهذه الشهوات.
ولعل قراءتنا وتأملنا السريع في السيرة تعطينا القناعة بذلك، حينما تتأمل مثلاً في حادثة الردة، ترى أن الذين ارتدوا عن الإسلام هم أولئك الذين دخلوا في الإسلام حديثاً، هم أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
فبعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت قبائل من العرب، ولكن أهل المدينة ومكة ومن حولهم من الأعراب الذين قال الله عز وجل عنهم: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ(52/7)
ضخامة الدور المنوط بالصحوة
الجانب الثاني أو المسوغ الثاني من مسوغات مطالبتنا بالتربية: ضخامة الدور المنوط بالصحوة: إن إعداد الشاب المسلم أبعد من مجرد تخريج فرد ملتزم بالإسلام بحد ذاته، إننا حينما نعد الشاب فإننا نعد الصف الأول على مستوى الأمة الذي يطلب منه أن يساهم في إنقاذ الأمة، وأن يساهم في إعادة صياغة مجتمعات المسلمين، وأن يساهم في إعادة بناء مجتمعات الأمة، وهو هدف ضخم وبعيد لا يمكن أبداً أن يقوم إلا من خلال تربية، وإعداد متكامل، لا يمكن أن يقوم به مجرد شخص يحمل عواطف جياشة، وحماسة ثائرة.
إن ذاك التفكير الذي كنا نفكر به سابقاً، وتلك النظرية التي كنا نطرحها أحياناً كنوع من التخدير، والتي تعني أن القضية ببساطة أن يصلح الفرد، وتصلح الأسرة، ويصلح المجتمع، وتصلح الأمة، إنه تفكير ساذج، وتفكير غير واقعي، ولماذا لا تتحول النظرة إلى أسلوب آخر، إننا حين نفكر بهذه العقلية نحتاج إلى مدى وإلى قرون متطاولة؛ لأنك أنت تعمل وتملك وسائل محدودة في حين إن تيارات الفساد تملك وسائل وأبواب لا تملك أنت واحداً، أو جهدك ووسائلك ومجالاتك لا توازي واحداً فقط من تلك الأبواب التي يملكها دعاة الفساد وأهل الفساد.
فماذا تصنع مع هذا الزخم الهائل؟ إذاً: لماذا لا نفكر بعقلية أخرى؟! ولماذا لا يكون هدفنا هدفاً آخر؟! لا أن نعد مجرد الفرد الملتزم بالإسلام، بل نعد الفرد العامل للإسلام، نعد الفرد الذي يرى أنه ينبغي أن يصلح، فبدلاً من أن نعد فرداً يتخلى عن تقصيره وإهماله ومعصيته، ويقتصر على التزامه الشخصي، ينبغي أن يتحول هدفنا إلى أن نعد فرداً يدعو إلى الله عز وجل، أن نعد فرداً عاملاً، فرداً مصلحاً يساهم معنا في دفع العجلة، وأن الجهد المنوط بالدعوة والصحوة جهد ضخم، لا يمكن أبداً أن يقتصر على فئة من الناس وفئة من البشر.
مع عدم إهمالنا للإصلاح المجرد، لا شك أن إنقاذ مسلم واحد من الضلال والانحراف يعتبر إنجازاً، ويعتبر هدفاً بحد ذاته، وأنت ترى النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى عمه أبي طالب وهو عند الموت، فيدعوه إلى الإسلام ويلح، وماذا سيحصل الإسلام وتحصل الأمة من إسلام أبي طالب مثلاً في تلك اللحظة، إنه رجل على فراش الموت، ولكن إنقاذ فرد من النار يعتبر مكسباً وهدفاً.
جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى شاب يهودي يحتضر فعاده صلى الله عليه وسلم ودعاه إلى الإسلام وأسلم، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (الحمد لله الذي أنقذه بي من النار).
لا شك -كما قلت- أن إنقاذ الفرد المسلم أياً كان من النار، بل إنقاذه من معصية واحدة عمل وإنجاز، ولكن ينبغي ألا يكون هذا هو الهدف الوحيد، وأن نتجاوزه إلى هدف أبعد مدى، فبدلاً من أن يكون الهدف مجرد تخريج إنسان ملتزم بالإسلام بسلوكياته وأخلاقه أن نهدف إلى أن نخرج رجلاً عاملاً للإسلام، داعياً إلى الله سبحانه وتعالى، أن نخرج الصف الأول الذي يقود الأمة.(52/8)
المعاني الكبيرة التي يحتاج المسلم إلى أن يتربى عليها
المسوغ الثالث: هناك معانٍ كبيرة يحتاج إليها الإنسان في حياته العادية، فضلاً عن مسلم، فضلاً عمن يراد منه أن يساهم في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، ويساهم في قيادة الأمة.
الصبر: يسهل أن تتحدث عن الصبر في خطبة، في درس، في كتاب، في مقالة، في أي مكان يمكن أن تتحدث عن الصبر، ولكن أيها الإخوة! الصبر معنىً عميق يجب أن تتربى عليه النفوس، الصبر الذي نريد يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى جهد وتربية، وليست قضية تقف عند مجرد طرح معان معرفية، يقول الله عز وجل: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
فالصبر إذاً معنىً يحتاج إلى أن يتواصى على تحقيقه والوصول إليه.
التأني والروية، وعدم الاستعجال، الكرم، الشجاعة، المبادرة، الثقة بالنفس، أدب الحوار، معانٍ كثيرة يمكن أن نطرحها طرحاً نظرياً مجرداً، ونتحدث عن هذه المعاني، ونتذكر الصور من التاريخ من القديم والحديث، ولكن لا تتصور أن هذا وحده كافٍ بأن تغرس هذه المعاني عند النفوس أبداً، إن هذه المعاني بحاجة إلى تربية من الفرد نفسه، ومن الأستاذ، ومن الأب، ومن الجميع أن يتربى الفرد على الصبر، ويتربى على الكرم، ويتربى على الشجاعة، ويتربى على المبادرة والثقة في النفس.
هذه المعاني -كما قلت- يحتاجها الإنسان العادي؛ حتى يعيش حياة سوية، فضلاً عن المسلم، فضلاً عمن نريد منه دوراً أعظم من ذلك كله، نريد منه أن يساهم في قيادة الأمة.
من السذاجة أيها الإخوة! أن نتصور أننا يمكن أن نصل إلى هذه المعاني وأن نحققها من خلال الطرح النظري المجرد، ومن خلال الحديث العاطفي، الجميع يجيد الحديث عن ذلك، ولو طلبت من أحد الإخوة الحضور أن يتحدث عن جانب من هذه الجوانب لأشبعه حديثاً، ولكن هذا شيء والتربية عليه شيء آخر، مع عدم إهمالنا أيضاً للطرح المعرفي والنظري، فهو خطوة أولى في طريق التربية.
هذه المعاني -كما قلت- لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال التربية.
تأمل مثلاً في السيرة النبوية مرة أخرى، فهناك معانٍ تربى عليها الجيل الأول من خلال الميدان، من خلال العمل والواقع، ولم تكن تعرض هكذا عرضاً أجوف، اقرأ في القرآن مثلاً لترى أن القرآن يربي الأمة من خلال الأحداث والمواقف.
كانت حادثة الإفك حدثاً هز المجتمع كله، وصار حديث الناس كلهم، فانظر كيف تربت الأمة من خلال هذا الحدث على معاني التثبت، والتأني، وحسن الظن بالمؤمنين، إلى غير ذلك من تلك المعاني العميقة التي لو طرحت طرحاً مجرداً لم يكن أثرها في النفوس مثلما كان من خلال التربية بالحدث.
معاني النصر والهزيمة التي تراها تطرح مثلاً في سورة الأنفال بعد أحداث غزوة بدر، ولا يزال رنين السيوف في آذان المسلمين، في ذلك الوقت سمعوا الحديث عن معاني النصر والهزيمة، وحقيقة الحياة الدنيا، وسمعوها بعد غزوة أحد، وجراحهم لا تزال تنزف، وقتلاهم لم يدفنوا بعد، تنزلت تلك الآيات التي تتحدث عن معاني النصر والهزيمة، والتمحيص، والحياة الدنيا، والتعلق بها إلى غير ذلك.
تلك المعاني التي تربى عليها الجيل الأول من خلال الحدث، من خلال الميدان، لم تكن معاني مجردة تطرح على الناس وهم في بيوتهم، أو في المساجد أو في المدارس.(52/9)
عمق الخلل التربوي في المجتمع
المسوغ الرابع لمطالبتنا بالتربية: عمق الخلل التربوي في المجتمع: لو نحينا جانباً الانحرافات والخلل الشرعي الموجود في المجتمع من خلال التقصير في الأوامر الشرعية، ومن خلال ارتكاب المعاصي، وحرمات الله عز وجل، مع أننا نعتبر أن هذا أكبر خلل، لكن نريد جانباً آخر نغفل عنه له أهميته، وهو جانب المعاني التربوية التي يحتاج إليها الإنسان.
مثلاً: مجتمعاتنا تربي الفرد على الاتكال على الآخرين، وغياب الروح الجماعية، فأنت ترى مثلاً مؤسسة أياً كانت هذه المؤسسة أهلية أو حكومية تفكر بعقلية الرجل الواحد، فالمدير هو كل شيء في هذه المؤسسة، هو الذي يفكر، وهو الذي يتخذ القرار، وهو الذي يعمل، وكل عامل في هذه المؤسسة لا يرى أن عليه أي مسئولية تجاه مثل هذه المؤسسة.
حتى داخل قطاع الصحوة عندما تأتي مثلاً إلى الجهود الدعوية، وترى المؤسسات الدعوية، تراها أيضاً هي تقاد من خلال الرجل الواحد.
فالفرد يشعر باتكالية، ولا يشعر بأي مسئولية، يرى أن المسئولية تقع على فلان.
عندما تأتي إلى الأسرة ترى أن كل شيء على الأب، ولا تكاد ترى من يشعر بالمسئولية المشتركة والمسئولية الجماعية.
ونتج عن ذلك خلل في معان شرعية مهمة، مثل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتناصح، فهذا الآخر كنتيجة من نتائج هذه التربية، حيث يشعر كل إنسان أنه غير مسئول عن هذا المنكر فينهى عنه، ولا عن هذا المعروف والأمر به، إنما المسئول فلان.
الفردية: فلا نحسن العمل الجماعي مطلقاً، قد ترى عملاً جباراً من خلال فرد وشخص نشيط وقوي ومفكر وعامل، أما عمل جماعي فعلاً فتكاد تراه، وإذا رأيت عملاً جماعياً منتجاً ترى وراءه فرداً واحداً.
أما أن تكون هناك جهود متكاتفة ومجتمعة فهذه حالات نادرة، هذا مرض من الأمراض التي تعاني منها مجتمعات المسلمين.
التعصب: التعصب مرض ترثه الأمة، التعصب لإقليم، لقطر، لبلد، لحزب، وأياً كان هذا التعصب فهو مرض من أمراض الأمة، ونادراً ما ترى أحداً يخلو منه.
النظرة العاطفية المجردة: أي: أن تقييمنا للأمور تقييم عاطفي، فعندما يحصل حدث من الأحداث التي تمر بها الأمة فإننا نحلل الحدث تحليلاً عاطفياً، ونطرح حلولاً عاطفية، ويكون تعاملنا مع الأحداث بعاطفة، فليس عندنا عمق للتفكير، ولا عمق في الحلول، ولا في العمل، كل أمورنا دائماً تسير وراء العاطفة.
الثقة بالنفس، المبادرة، الكرم، الشجاعة، معانٍ كثيرة نرى أن هناك خللاً تربوياً في المجتمع، وأن هذه المعاني بحاجة إلى تصحيح، وبحاجة إلى تربية أيضاً هي الأخرى، فكلما ازداد هذا الخلل في المجتمع ازدادت ضرورة المطالبة بالتربية والحاجة إليها.(52/10)
الخلل في واقع الصحوة
المسوغ الخامس: الخلل في واقع الصحوة: إن الصحوة قطعت خطوات طيبة مباركة، ولكنها لا تزال تعاني من أمراض، وتعاني من مشاكل كثيرة، فحدث واحد يمكن أن يهز قطاع الصحوة، كأن يأتي إنسان ويطرح كلمة تشكك الكثير بقناعات تربو عليها فترة طويلة، يمكن أن يأتي إنسان يشكك في قيادات الصحوة، ويشكك في منطلقات، ويشكك في بدهيات، وفي قضايا كثيرة، ويجب أن يستجيب له، ويسمع له، فهذه الاستجابة والسماع مظهر من مظاهر المرض الذي تعاني منه الصحوة.
أمراض كثيرة تعاني منها الصحوة لست بحاجة إلى الحديث عنها، ويجب أن نكون صرحاء مع أنفسنا، نعم نحن نرى آثار الصحوة طيبة وظاهرة، ولا ينكرها إلا مكابر، ولكن هناك أمراض، وهناك خلل يجب أن نعترف به، ويجب أن نكون صرحاء، وألا ننتظر الحديث من أعدائنا، ولا ننتظر النقد من الآخرين.
هذا المرض وهذا الخلل الموجود داخل الصحوة لا يمكن أن نصححه إلا من خلال التربية العميقة والتربية التي تكون عن قناعة تامة، أما إذا كانت الأمور مجرد عاطفة ومجرد حماسة ثائرة، وأعمال مرتجلة فلا يمكن أبداً أن نعالج مثل هذا الخلل وهذا الخطأ، بل سيزيد الخلل عمقاً، بل هذا الخلل إنما هو نتيجة إهمال التربية ابتداءً.(52/11)
الانفصام الواقع في المؤسسات التربوية بين النظرية والتطبيق
ومن المسوغات الانفصام الواقع في المؤسسات التربوية بين الأهداف النظرية والتطبيق العملي، فأنت مثلاً عندما تأتي إلى المؤسسات التربوية، وتقيم المنهج والخطة النظرية ترى أنها خطة عالية وأهداف عالية.
خذ على سبيل المثال أهداف التعليم في المرحلة الثانوية، أو في المرحلة المتوسطة، تراها أهدافاً عالية، وهي تربية الشاب على الجهاد، وعلى المعاني الإسلامية، والأخلاق الفاضلة، وارجعوا إلى سياسة التعليم وخطة التعليم؛ لتروا كيف أنها أهداف متميزة؛ لكن عندما تأتي إلى الواقع العملي ترى أن هناك مسافة شاسعة بين تلك الأهداف النظرية وبين الواقع العملي.
مثلاً: قد لا أبالغ إذا قلت: إنك يمكن أن تجد أستاذاً يدرس منهجاً من المناهج سنوات عديدة وهو لا يعرف أهداف المنهج، ولم يطلع على أهداف المنهج وخططه.
قد ترى مثلاً موجهاً تربوياً، أو ترى شخصاً يقوم بالتخطيط التربوي، فتجد أنه يعيش في واقع نظري بحت بعيداً عن الواقع العملي، وترى العزلة بين الأستاذ والموجه، وبين من يقوم بالتخطيط، ترى أن الأستاذ أصبح يتصور أن عمله مجرد مهنة يتقاضى عليها راتباً، والموجه هو الآخر كذلك، ومن يقوم بالتخطيط التربوي، ومن يتولى المؤسسات التربوية أياً كانت فإن قطاعاً عريضاً من هؤلاء يتعامل مع هذا العمل على أنه مهنة مجردة يتقاضى عليها راتباً، فلا تسأل بعد ذلك عن نتيجة تربية مثل هذا الإنسان الذي ينظر هذه النظرة التربوية.
أقول: إن هناك خللاً في المؤسسات التربوية من خلال جوانب عدة، من خلال المسافة الشاسعة بين النظرية والتطبيق، فقد يكون التأصيل النظري جيداً ورائعاً، ولكن الخلل في العمل والتطبيق، بل قد ترى أستاذاً له سنوات طويلة في المرحلة الثانوية لو تسأله عن أهداف التعليم في المرحلة الثانوية لا يعرف الأهداف.
إذاً: لماذا نضع نحن هذه الأهداف حبراً على ورق، تسأله عن أهداف المنهج لا يعرف أهداف المنهج، فضلاً عن تطبيقه لها وسعيه إليها.(52/12)
توسع مجالات الدعوة
المسوغ الأخير: توسع مجالات الدعوة وجوانبها: هذا التوسع أدى إلى نتائج منها: النتيجة الأولى: التوسع الأفقي لجيل الصحوة، وازدياد قوافل التائبين، الذين يمثلون خلفيات تربوية متناثرة، فهذا رجل كان مدمن مخدرات، هذا رجل كان صاحب فساد أخلاقي، هذا رجل جاء من الشارع.
المهم أننا نرى أفواجاً من التائبين والعائدين والمنخرطين في سلك الصحوة، والذين يمثلون خلفيات تربوية متناثرة، هذا الجيل وهذه الأفواج أليست بحاجة إلى التربية؟ أليست بحاجة إلى جهد يغسل عنها غبار الماضي؟ لا ينبغي أن نفْرط في السذاجة، ونتصور أن هذا الشاب الذي عاش سنوات طويلة في الفساد وفي تلك التربية السيئة أنه من خلال قناعة عاجلة وقناعة سريعة تحول إلى إنسان مصلح، وإلى شاب مستقيم لمجرد ذلك التغير في مظهره، لا.
أقول: ازدياد قوافل التائبين، وازدياد التوسع الأفقي لجيل الصحوة، مع أنه أمر يبعث على الفأل، فإنني أشعر أننا لا نتعامل معه إلا من خلال نظرة واحدة فقط، وهي نظرة التفاؤل، ونظرة الحديث بإفراط عن هذه القوافل العائدة إلى الله، وهذه نظرة سليمة وإن كانت تحتاج إلى نوع من التوازن، أعني: هل فكرنا تفكيراً آخر، وهل طرأ يوم من الأيام على ذهننا أن هذه الأفواج المتقاطرة والوافدة بحاجة إلى تربية، بحاجة إلى غسل أوضار الماضي، بحاجة إلى إعداد؛ حتى لا تكوِّن بعد ذلك خللاً من الداخل، وحتى لا تمارس بعد ذلك الفساد وتمارس الخلل في الصحوة من الداخل، فتضرب الصحوة من خلال هؤلاء الذين لا يملكون إلا مجرد العاطفة فقط؟ كذلك النتيجة الثانية لسعة مجالات الدعوة وجوانبها: كثير من الطاقات الدعوية والعاملة انشغلت في هذه البرامج العامة التي تخاطب الجماهير، وتتحدث مع الجماهير، مما أدى إلى فقدان جهودها التربوية، كانت هناك طاقات كثيرة موظفة في الميدان التربوي والعمل التربوي، وكانت تمارس التربية للشباب أياً كان ميدان هؤلاء، ولكن مع سعة مجالات الدعوة انفتحت أبواب، فتفرغت وانشغلت كثير من هذه الطاقات لملء ذاك الجانب وذاك الجانب العام، ونحن لا نهمل هذا الجانب، ولكن نحن الآن فقدنا طاقات.
والمفترض مع زيادة قوافل التائبين والعائدين، ومع التوسع الأفقي للصحوة أنا نحتاج إلى عدد أكثر ممن يمارس التربية، فأصبحنا نجد أننا نعاني من النقص والقصور في هذه الطاقات، ونعاني أيضاً من ازدياد الحاجة التي لا تفي بها تلك الطاقات السابقة.
كذلك الكثير من الجوانب والمجالات العامة لها نتائج مغرية وبريق عاجل يغري الشباب، مثلاً قد ترى بعض جوانب الدعوة الجماهيرية التي تتم عن طريق مخاطبة الجماهير، وتحريك عواطف الناس، لها نتائج عاجلة، ولها بريق عاجل قد يغري، فيتوجه الكثير إلى مثل هذه المجالات.
إنها مجالات مهمة لا ينبغي أن تهمل، ولكن لا ينبغي أن تكون هي المجال الوحيد، ولا ينبغي أن ننخدع بها ونترك المواقع المهمة، ونهمل التربية والعناية بالإعداد؛ لأجل الانخداع والسير وراء مثل هذا البريق العاجل، والبريق اللامع.
وذلك أن الجهد التربوي يحتاج إلى عمل طويل وبعيد ونتائج، ثم نتائجه مع ذلك غير منظورة، فمثلاً: أستطيع أن أصور لك التربية مثل الطفل في البيت، كل يوم ينمو، لكنك لا تشعر بهذا النمو ولا تقيسه، لكن الإنسان البعيد عندما يرى ابنك بعد سنة يقول: لقد تغير ابنك.
الآن لو قلت لإنسان: نريدك أن تحمل بقرة من الدور الأسفل إلى الدور العلوي لم يقدر؛ لكن لو كان يحملها كل يوم منذ أن ولدت، يحملها اليوم، وعندما يأتي من الغد سيحملها وهكذا، فسيجد أنه بعد فترة يحمل تلك البقرة الكبيرة.
أقول: التربية تمتاز بميزتين: أولاً: أنها تحتاج إلى عمل طويل، وجهد مضن، ثم نتائجها غير منظورة ولا قريبة، فليست مثل العمل العام والجماهيري الذي نتائجه واضحة وسريعة، ومن هنا فإذا كانت التربية تحتاج إلى جهد، وعمل طويل، ونتائجها غير سريعة ولا مغرية فإن الإنسان الذي تربى على الاستعجال، ويريد الثمرة عاجلة، تغريه النتائج العاجلة، ومن هنا فسينصرف الكثير عن الميدان التربوي؛ نظراً لأنهم يخدعون ببريق العمل الجماهيري، والأعمال العامة التي يجد أن الآلاف والجميع يهتدون ويصيرون وراء هذا العمل، فيهمل ذاك الجانب المهم.
مرة أخرى: أنا لا أهمل هذه الأعمال، وأرى أنها كلها مهمة، لكن أن تكون هي النظرة التي ننظر إليها، وألا ننظر إلا بهذه العين، وأن نحتقر العمل التربوي من خلال الانخداع ببريق العمل الجماهيري أيضاً، فهذا خطأ.
كذلك أيضاً النتيجة الرابعة من نتائج توسع مجالات الدعوة: قيادات المستقبل لابد أن تكون من قواعد وجيل الحاضر: فنحن نحتاج إلى قيادات تقود الدعوة على كافة المستويات، قيادات علمية، قيادات دعوية، قيادات فكرية، قيادات على المستويات العليا، قيادات وسيطة، لابد أن تقود هذه الصحوة قيادات، وليس صحيحاً أن القيادات هي القيادات العليا من شخص أو شخصين فقط قيادة علمية وقيادة فكرية، لا، فإننا سنحتاج إلى قيادات على مستويات أقل، إلى أن نصل إلى آخر حد.
هذه القيادات لابد لها من تربية، والجيل الذي(52/13)
لم يكن أسلافنا بمعزل
ننتقل بعد ذلك إلى عنصر آخر بعنوان: لم يكن أسلافنا بمعزل: أتصور أن قضية الحديث عن التربية والحاجة إليها والضرورة إليها قضية بدهية وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل ولسنا بحاجة إلى الاستشهاد والاستدلال، لكننا أصبحنا نجد من يشغب علينا كثيراً عندما نطرح مثل هذه القضايا، ويفاجئك بأن هذه قضية فيها نظر، وهذه قضية فيها كذا، وهذه قضية فيها كذا، فنحتاج إلى التأصيل والاستشهاد العلمي للقضايا البدهية التي لا تحتاج إلى استدلال، فنقول مثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم يقول الله عز وجل عنه: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، هذه التزكية هي تربية النبي صلى الله عليه وسلم.
النبي صلى الله عليه وسلم له وظائف: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2]، مناقشة التعليم والكتاب والحكمة وتلاوة القرآن معروفة، لكن التزكية ما معناها وما المقصود بالتزكية؟ المقصود بها التربية.
فإذاً: وظيفة من وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم تربية الأمة، وإلا كان يمكن أن ينزل بالقرآن ملك، ولكن أنزل الله عز وجل رسولاً يأكل الطعام ويمشي في الأسواق حتى يربي الناس، ويعيش مع الناس في عواطفهم ومشاعرهم، وأنت عندما ترى تربية النبي صلى الله عليه وسلم العلمية على سبيل المثال، تراه صلى الله عليه وسلم ما كان مجرد إنسان يعطي معلومات علمية مجردة، بل كان صلى الله عليه وسلم يربي عند أصحابه الاستنباط، يربي عند أصحابه منهج التلقي، عند أصحابه المنهج العلمي، منهج السؤال، أدب السؤال.
ما نريد أن نستطرد، لكن أعطيكم أمثلة سريعة على تربيته العلمية صلى الله عليه وسلم، فهو مثلاً كان يربي التفكير عند أصحابه والاستنباط، فيسأل يوماً من الأيام يقول: (إن من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، ومثلها مثل المسلم، فأخبروني ما هي؟)، يقول ابن عمر: فوقع الناس في شجر البوادي.
يعني: كل إنسان يقول: الشجرة الفلانية، فذهب وهلي إلى أنها النخلة، وكنت أصغر القوم فاستحيت.
الآن هنا النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكن أن يقول: مثل المسلم مثل النخلة، لكنه يضرب لهم مثلاً ما هي هذه الشجرة؛ حتى يتربون على التفكير، على الاستنباط، على الاستدلال، وهكذا يربي أصحابه على منهج التلقي، على منهج السؤال، على أدب السؤال.
المهم أن تربية النبي صلى الله عليه وسلم العلمية هذه بحد ذاتها بحاجة إلى حديث مستقل، فالنبي صلى الله عليه وسلم إذاً لم يكن مجرد إنسان وبشر مجرد يعطي معلومات جافة ومجردة، بل كان رسولاً معصوماً، وكان بشراً يعيش مشاعر البشر، ويربي الناس كما قال الله عز وجل: {يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [الجمعة:2].
مجالس العلماء: كانوا يقولون ويوصون طالب العلم: أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاكتسب علماً وحلماً ثم قيده بقيد ودع الفتنة من آثار عمرو بن عبيد فهو يقول: اكتسب علماً وحلماً، القضية ليست العلم وحده.
ويقول ابن سيرين رحمه الله: كانوا يتعلمون الهدي كما يتعلمون العلم.
ويقول الحسن: إن كان الرجل ليخرج في أدب واحد السنة والسنتين.
وأوصى حبيب الشهيد وهو من الفقهاء ابنه فقال: يا بني! اصحب الفقهاء، وتعلم منهم، وخذ من أدبهم، فإنه أحب إلي من كثير من الحديث.
وروى ابن المبارك عن مخلد بن الحسن أنه قال: نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من حديث.
والآثار عن السلف في ذلك كثيرة، كان أحدهم يقول: صحبت فلاناً لا لأتعلم منه، ولكن لأعرف سمته وهديه ودله.
فما كانت مجالس العلماء مجالس مجردة تعطي معلومات جافة، إنما كانت تعلم وتؤدب وتربي.
ولعل أيضاً مما يدلنا على ذلك الكتب التي صنفها العلماء في أدب العالم والمتعلم، وهي كتب كثيرة، منها مثلاً ما صنفه الخطيب، منها كتاب ابن جماعة تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وهي كتب كثيرة ترى أن علماء السنة وعلماء الحديث دائماً إما أن يضمنوها باباً من أبواب كتبهم التي تتحدث عن العلم وفضله، أو أن يفردوا لها تصنيفاً مستقلاً وكتاباً مستقلاً في أدب العالم والمتعلم، ويعلمون طالب العلم أدب الطلب، وترى أن هذه الآداب تحمل أبواباً شتى، من العبادة، وحسن الخلق، والتعامل مع الشيخ، وليست حتى مجرد آداب تقتصر على آداب التلقي العلمي المجرد، بل هي آداب سلوكية، آداب في عبادة الإنسان، وهذا جزء من التربية، وعناية السلف بالتربية.
كذلك الكتب التي تعنى بالمدارس، وآداب معلم الأطفال، وما يحتاج إليه معلم الأطفال، وأهل المدارس وآدابها، وهي كتب كثيرة أيضاً يعرفها أهل الشأن في ذلك.
المهم أن السلف لم(52/14)
متطلبات في طريق التربية(52/15)
العناية بموضوع التربية
بعد ذلك أقول: نريد باختصار.
وبعد هذا العرض المختصر والمقتضب لهذا الموضوع نريد العناية بموضوع التربية، دراسة وحديثاً وتأصيلاً وعملاً، فنريد أن نعتني بهذا الموضوع، وأن نتحدث كثيراً عن التربية، ونحرص على أن نتعرف على أهداف التربية، وعلى خطط التربية، وعلى برامجها ووسائلها.(52/16)
وضع أهداف تربوية واضحة
الجانب الثاني: ضرورة وضع أهداف تربوية واضحة محددة يسير عليها جيل الصحوة: ترى الكثير يتساءل: علام يتربى الشباب؟ للأسف أتصور أنه مع هذه المرحلة الزمنية الطويلة التي قطعناها الآن ليست هناك أهداف واضحة محددة أمام الشباب ليعرفوا على ماذا يتربون.
ولهذا تجد الأستاذ المربي يتساءل: ما هي الأولويات التربوية؟ وما هي الأهداف التي أريد أن أحققها؟ إن هذا التساؤل إنما هو إفراز لإهمال هذا الجانب وعدم العناية به، ونحن نرى الآن المكتبة الإسلامية تزخر بالكثير من الكتب التي تنم عن الترف والتكرار، وترى الموضوع الواحد يؤلف فيه أكثر من كتاب، أحياناً تجد عشرين كتاباً في قضية.
لماذا نهمل الجوانب المهمة التي نحتاج إليها؟ سوهناك تساؤلات تربوية كثيرة يحتاج إليها الشباب، وبالذات عن الأهداف التربوية التي تعتبر حجر الأساس وحجر الزاوية في العملية التربوية، فالتربية إنما هي عبارة عن الأهداف.
نستطيع أن نقول: إننا إذا رسمنا الأهداف التربوية قطعنا الخطوة المهمة والأساس في التربية، ومع ذلك أشعر أنه ليس هناك أهداف متفق عليها، وليس هناك أهداف على الأقل ذات وضوح ظاهر عند الكثير من الشباب، ولهذا تراهم يتساءلون عن ذلك.
فلابد من السعي إلى رسم أهداف واضحة، والمناقشة فيها، والحديث عن مثل هذه الأمور، وأن نملأ مدارسنا بالحديث عن مثل هذه الجوانب.(52/17)
سلوك طريق التربية الجادة
الجانب الثالث: ضرورة التربية الجادة، والتربية العميقة، ولا مكان اليوم للضعفاء، ولا مكان لأصحاب العواطف، ولا مكان للإنسان صاحب القناعة الهشة، هذا لا يمكن أن يستمر، ولا يمكن أن يسير، فنحن بحاجة إلى تربية جادة، تربية عميقة تخرج لنا رجال يحملون الرسالة، يحملون هذا الدين، يحملون هذا الحق، لا لمجتمعهم بل للأمة كلها جمعاء، بل للبشرية أجمع.(52/18)
بذل الجهود في التربية
الجانب الرابع: التربية تستحق منا أن تبذل لها الجهود، وأن تفرغ لها الطاقات، وألا يشغلنا بريق الدعوة العامة والخطاب الجماهيري عن العناية بالتربية، مع عدم إهمالنا -كما قلت- لخطاب الجماهير، والدعوة العامة، والأمور العامة، لابد أن تتفرغ طاقات للعناية بالتربية، تأصيلاً وبحثاً وكتابة وحديثاً وعملاً وترتيباً وتطبيقاً.
ولابد أن تضحي هذه الطاقات بكثير مما يفوتها، والقضية ليست ميادين نتسابق عليها، بقدر ما هي ثغور بحاجة إلى أن نسدها، وفضيلة العمل والجهد الذي نريده ليس بكثرة الأتباع، وليس بكثرة من يسمع لك، بل نرى أننا بحاجة إلى أن نتفحص المواقع التي نحتاج إليها، ونوزع الطاقات توزيعاً متوازناً، ونريد الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، وإن كان في الميمنة كان في الميمنة).
الإنسان الذي تضعه في موضع فيبقى في هذا الموضع، ويحرص على هذا الموضع، ولو كان يرى أن نتائجه محدودة وقليلة؛ لأنه يرى أنه موضع لابد أن يملأ، وميدان لابد أن يسد، وثغر لابد أن يقام به، وليس صحيحاً أن يكون هناك ميدان واحد، ومجال واحد هو الذي يسعى إليه الجميع.
بعد الحديث عن هذا الموضوع المهم -كما قلت- نخرج بعد بالنتيجة التي نريد أن نصل إليها، وهي أننا نحتاج لأن نربي أنفسنا، وإلى أن نربي جيلاً، وإلى أن نعتني بالتربية ونوليها عناية وأهمية.
ولك الحق بعدما سمعت هذه بضاعتي وهذه حججي وهذه مسوغاتي، فإذا كنت قد وصلت إلى قناعة تامة، وشاركتنا القناعة بضرورة التربية والحاجة إليها، فبعد ذلك ننتقل إلى الخطوة الأخرى، وإذا كان لك قناعة أخرى فأنت وشأنك، فهذا ما أريد أن أقوله في هذا الميدان.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، ونترك بقية الوقت للإجابة على ما ورد من أسئلة الإخوة.(52/19)
الأسئلة(52/20)
نصيحة تربوية لمن في سن المراهقة
السؤال
ما هي نصيحتك إلى الشباب في سن المراهقة من الناحية التربوية؟
الجواب
يعتبر سن المراهقة من أخطر المراحل التي يعاني منها الشاب، ومن هنا فهو بحاجة ماسة إلى أن يعتني بتربية نفسه، وأن يسير من خلال جهدين متوازيين: التربية الفردية لنفسه والعناية بنفسه، ومن خلال وسط ومجموعة مستقيمة يعينونه على طاعة الله سبحانه وتعالى.
فهو لا يستطيع أن يعيش وحده، وأيضاً حتى إذا كان معه إخوة ورفقة ينبغي أن لا يوكل إلى هؤلاء أمر تربيته ويهمل نفسه، فأنت ترى بعض الشباب مثلاً يسير مع الشباب ويذهب معهم، ويشاركهم في برامجهم، ولكنه لا يعتني بتربية نفسه وإعداد نفسه.
وأستطيع أن أقول باختصار: إن من أهم الأشياء التي يحتاج إليها الشاب المراهق أن يقوي في نفسه الصلة بالله سبحانه وتعالى، فيحرص على عبادة الله عز وجل، ورعاية الفرائض، واجتناب المعاصي، وأن يستكثر من عبادة السر، والنوافل، وتلاوة القرآن، وذكر الله سبحانه وتعالى، والصيام، وقيام الليل، إلى غير ذلك من العبادات.
كذلك يملأ وقته فهو يعاني من فراغ، بحيث يعتني بالعلم الشرعي، والقراءة، والمطالعة، والأعمال النافعة التي تحفظ عليه وقته وجهده.(52/21)
نصيحة لشخص مسئول عن مجموعة من الشباب وكيف يربي من هو حديث الاستقامة
السؤال
ما هي نصيحتك التربوية لشخص مسئول عن مجموعة من الشباب، وما هي أهم الدروس التي ينبغي للجديد في طريق الاستقامة أن يتربى عليها جزاك الله خيراً؟
الجواب
هنا يختلف الحديث، والشباب يختلفون، فهم في المرحلة المتوسطة مثلاً بحاجة إلى التركيز على الجوانب الإيمانية، وتربية الصلة بالله سبحانه وتعالى، وتقوى الله عز وجل، وتربية الجوانب الأخلاقية والسلوكية، وتربية المبادرة عندهم، والقدرة على الكلام والحديث مع الناس، ثم التزود بجوانب علمية محدودة على قدر مستواهم العلمي.
لكن في المرحلة الثانوية قد انتقل نقلة أخرى، وعاش أمام فتن وشهوات أكثر، فهو بحاجة إلى أن نركز فيه الجوانب الأخرى، مع إعطائه دفعة للجوانب العلمية، ومفاهيم قد لا يمكن أن يتحملها في المراحل المتوسطة.
وإذا انتقل إلى المرحلة الجامعية فهو بحاجة إلى مفاهيم دعوية أوسع، وبحاجة إلى جوانب علمية أدق، وهكذا نرى أنه من كلما ارتفع مستواه العلمي والعقلي والدراسي كلما تغير مستوى التربية.
لكن أقول باختصار: إن الشاب الذي يتولى مسئولية تربوية يجب أن يتقي الله سبحانه وتعالى، ويشعر أن هؤلاء أمانة في عنقه، ويشعر أنه سيعد قيادات المستقبل، وسيعد قيادات الأمة، وإذا وقع في خلل في تربية هذا الشخص؛ فإن هذا الخلل سينعكس على غيره، عندما يكون هذا الإنسان مربياً، عندما يكون مفكراً، عندما يكون عالماً ومتحدثاً، سينعكس هذا الخلل التربوي بعد ذلك على عمله وجهده، ومن هنا يجب أن يتقي الله سبحانه وتعالى، ويحرص على أن يراقب نفسه، ويحرص على أن يستفيد من أخطائه، ويراجع نفسه فترة بعد أخرى.
أما الشاب الجديد في طريق الاستقامة، فينبغي أن يركز على الجوانب الإيمانية والتوبة وما يتعلق بها، ويحرص أن يبتعد عن الماضي وما يتعلق به، ويحرص على ألا يتذكر الماضي كثيراً، كذلك يُملأ فراغه الذهني؛ لأنه يعيش نقلة جديدة، فيحاول أن يعطى بعض الأعمال التي تشغله والتي تعيد له الأمل، فهو مع أنه تاب يشعر بمعاناة وضغط الوضع والانحراف الذي كان يعيشه في الماضي، فيحتاج إلى مثل هذه الجوانب.(52/22)
كيفية التعامل مع الضعف الموجود عند القادة المربين
السؤال
نرى أن بعض القيادات الإسلامية في الوقت الحاضر ينقصها الكثير من التحصيل العلمي أو التربية الإسلامية، ونجد أنفسنا محرجين في انتقادهم أو تصحيح بعض مواقفهم، وذلك لكبر سنهم، أو حداثة عهدهم بالعلم الإسلامي، فما توجيهكم في ذلك؟
الجواب
القضية تحتاج إلى توازن، فنحن بين إنسان يكون همه الانتقاد أصلاً، فهو يسمع لينتقد، ويقرأ لينتقد، هذا إنسان يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان في قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم؛ فإن من تتبع عورات المسلمين تتبع الله عورته حتى يفضحه ولو في جوف بيته).
هذه عقلية لا يجوز أن نفكر بها، كذلك أيضاً الاحتقار أن فلاناً ما عنده علم شرعي، فلان ما عنده كذا وكذا، قد يكون فعلاً عنده نوع من الضعف في العلم الشرعي، لكن عنده جوانب أخرى يمكن أن نستفيد منها، كذلك أن تكون هذه الأخطاء ميداناً للتندر والحديث بها في المجالس، وأنه عندما يأتي فيرى اسمه على كتاب يذكر هذا الخطأ، يرى شريط له يذكر هذا الخطأ، هذه الأخطاء يجب أن تذكر في موقعها الذي تحتاج إليه.
أقول: يجب أن نتوازن في النقد، فلا نفرط فيتحول النقد إلى هدف، أو إلى مادة للتسلية، أو تجد أحياناً شاباً -مع الاعتذار الشديد- لا يزال في المرحلة المتوسطة أو المرحلة الثانوية، أو حتى في المرحلة الجامعية تراه يقيم العمل الإسلامي كله، فيقيم الجماعات الإسلامية، والدعاة، والعلماء، والناس كلهم، وينصب نفسه إماماً في الجرح والتعديل، وحكماً على الناس.
وعادة عندما ترى الشاب في مثل هذه المرحلة يحكم على أمثال هؤلاء فاحكم عليه بالتلف العاجل، والانتهاء العاجل؛ لأنه عندما يتحول الإنسان إلى حاكم على الآخرين، سيغفل عن عيوب نفسه، وينشغل عن عيوب نفسه، وهذا مظهر من مظاهر الغرور والإعجاب بالنفس.
أيضاً الجانب الآخر: عندما يكون فلان له قيمته ومجاله وشهرته لا ينبغي أن نعتقد فيه العصمة، فالإنسان أياً كان يخطئ، ويقع في الخطأ، وقد يكون خطأً كبيراً، وقد تكون زلة، ولا تكاد ترى أحداً لا يقع منه خطأ، والعصمة ليست لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب أن نتوازن.
ثم إذا وقع فلان في خطأ أو خطأين أو ثلاثة فهذا لا يعني أن نلغيه، ولا يعني أن نقضي عليه، ولا يعني ألا نحكم عليه إلا من خلال هذا الخطأ، وأنت ترى هذا الإنسان عنده جوانب كثيرة من الخير، وعنده خطأ أو خلل أو ضعف في هذا الجانب فترى أن الكثير لا ينظر إلا من خلال هذه الزاوية، ولا ينظر إلا بعين واحدة، فأقول: يجب أن نتوازن في مثل هذا النقد.(52/23)
كيفية التعامل تربوياً مع القوافل الكثيرة من التائبين
السؤال
لقد أشرت في حديثك إلى وجود الأعداد الكبيرة من التائبين، وأن هؤلاء بحاجة إلى التربية، فما هو الحل لإعداد التربية الكافية لهذه القوافل، مع قلة عدد المربين، ألا ترون أن هذا بحاجة إلى توحيد جهود العلماء والدعاة وطلبة العلم والمربين لإعداد هذه التربية؟
الجواب
نعم، أقول: إنها مشكلة يجب أن نعتني بها، لكن هنا سؤال يفرض نفسه: ما مدى الآن شعورنا بهذه المشكلة والحديث عنها؟ نحن نتحدث كثيراً عن التائبين والمقبلين على الله عز وجل، لكن هل نسمع الحديث عن كيف نتعامل مع هؤلاء؟ كيف نربي هؤلاء؟ قلما نسمع الحديث عن ذلك، ولو اعتنينا به وتحدثنا عنه، وبحثنا مثل هذه القضايا؛ لوصلنا إلى بعض النتائج.
أستطيع أن أقول باختصار: أولاً: لابد من إيجاد محاضن تربوية للشباب، من خلال المدارس، ومن خلال الأحياء، ومن خلال حلقات القرآن، ومكتبات المساجد، وحلقات العلم، محاضن تربوية تأخذ وقتاً طويلاً من الشاب وتربيه من كافة الجوانب، فتحتضن عدداً من هؤلاء.
أيضاً لابد من الارتقاء في المستوى التربوي من خلال خطبة الجمعة، فلابد أن تكون خطبة الجمعة خطبة مدروسة، ويسعى فيها الخطيب إلى أن يربي المجتمع، فلا تكون مجرد خطبة مرتجلة، ومن خلال الفصل والأستاذ في الفصل أيضاً يجب أن يمارس التربية، ومن خلال المحاضرات والدروس، فلا يسوغ أن يكون خطابنا للناس في هذه القنوات من المحاضرات والدروس والخطب مجرد خطاب عاطفي، أو تكراراً لقضايا معينة، بل يجب أن نرتقي بمستوى أسلوبنا، فعلى الأقل هذه تختصر لنا بعض الخطوات، ويمكن أن تسد قدر من الخلل الذي نعاني منه مع مثل هذا التيار.
وأقول: إن القضية تحتاج إلى دراسة، وتحتاج إلى عناية، وتحتاج إلى أن يتحدث عنها الكثير، ولا يمكن أن يكون مثلي يضع الحل الناجع لمثل هذه القضية في مثل هذه العجالة.(52/24)
التوفيق بين القيم الدينية والتعليم المؤسسي المنحل
السؤال
توجد كثير من المؤسسات العلمية مثل الجامعات في كثير من الدول الإسلامية بعيدة كل البعد عن القيم الدينية والتربية الإسلامية، فكيف توفق الأسرة المسلمة في التربية بينها وبين هذه المؤسسات العلمية؟
الجواب
أنت ترى للأسف أن المؤسسات التربوية في العالم الإسلامي تمارس الهدم للمعاني التربوية، من خلال الاختلاط، والتبرج، ومحاربة الحجاب، بل ترى أنه في كثير من الدول الإسلامية يمنع على الفتاة أن تدخل وهي متحجبة، ناهيك عن المناهج وما فيها، ناهيك عن أخلاق الأساتذة وأساليبهم.
أقول: إن هذا مما يزيد في صعوبة دور المربي، سواء كان أستاذاً في وسط هذا العفن، أو كان أباً، أو كان أخاً، أو غيره؛ وهذا مما يزيدنا مسئولية، لأنه كما ذكر أحد المربين يصف هذا الوضع يقول: إن الذي يربي في خلال هذا المجتمع مثل الذي يسبح ضد التيار.
فأقول: هذا مما يزيد الصعوبة، لكن ليس مستحيلاً، فقد عاش أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الفترة المكية في وسط المجتمع الجاهلي بكل مؤسساته وكل ضغوطه، ومع ذلك استطاعوا أن يتجاوزوا كثيراً من السلبيات والضغوط التي كانوا يجدونها من خلال ذاك المجتمع.(52/25)
أهمية الثقافة التربوية لمن يمارس التربية
السؤال
يذكر البعض أن التربية لا يستطيع العمل بها إلا الذين درسوا التخصصات التربوية، وأنها صعبة، ويعملون أعمالاً كثيرة مستغربة، ويقولون: أنتم لا تفهمون، وفي اعتقادي أن أي إنسان يقرأ في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وعنده فهم يستطيع أن يؤدي التربية، أي أنها ليست محصورة، فما رأيك؟
الجواب
القضية تحتاج إلى توازن، فأن نقول: إن كل إنسان يربي لابد أن يكون متخصصاً في التربية هذا مستحيل، وهذا خطأ، وأيضاً أن نهمل هذا الجانب هذا هو الآخر خطأ، فنحتاج نحن إلى من يتخصص بالتربية كعلم مستقل، ليؤصل لنا، ويحل لنا مشاكل تربوية، ويطرح لنا نظريات تربوية.
ونحتاج إلى من يمارس التربية وأن يكون عنده على الأقل وعي تربوي، وعنده ما يمكن أن نسميه بالثقافة التربوية أو القراءة التربوية، فلا يسوغ أن نهمل أيضاً العلم التربوي الذي قام وله أصوله فنقول: لسنا بحاجة إليه مطلقاً، وكذلك أيضاً لا يسوغ أن نبالغ ونرى أن كل إنسان يربي لابد أن يكون متخصصاً بالتربية، فالتوسط في ذلك مطلوب.
لكن أنا أؤكد أن الذين يمارسون التربية يجب أن يكون عندهم على الأقل ثقافة تربوية، أن يكون عندهم قراءة في بعض كتب علم النفس، وبعض كتب التربية، ويكون عندهم تصور لبعض النظريات التربوية التي تساعدهم على تحقيق هذه الأهداف، وعلى الاستفادة المثلى من قراءة السيرة النبوية وسير السلف، حتى قراءة السيرة وسير السلف إذا لم يكن عندك عقلية تربوية قد لا تستطيع أن تستنبط منها المعاني التربوية التي تحتاج إليها.(52/26)
مشكلة قلة المربين
السؤال
ألا ترى بارك الله فيك أنه بسبب قلة المربين في المجتمع يساهم في سلبية هذه الصحوة، فما البديل؟
الجواب
البديل أن نعتني بالتربية، ونخرج المربين، ولا نجلس لنشتكي، ومشكلتنا أننا نجيد الحديث عن المشاكل والشكوى، فهذه مشكلة أمامنا من سيحلها؟ يحلها الغرب، المؤسسات التربوية الغربية، أو المعاهد التربوية الغربية؟ لا، لا يحلها إلا نحن، فمشاكلنا يجب أن نفكر فيها، ونحل هذه المشاكل ولو على مدى أبعد.
فما دمنا الآن نشتكي من قلة المربين فيجب أن نعد المربين من الآن، ونربي الشاب من الصغر؛ حتى يكون مربياً ناجحاً يحل لنا هذا النقص وهذا الخلل.(52/27)
إهمال تربية الأبناء
السؤال
أب لم يحسن تربيتي منذ صغري، ومنذ طفولتي أهملني، وتركني حتى بلوغي إلى السن المتميز والإدراك الواضح، وبدأت أعمل الحرام والسرقة، وجلب المصائب لبيت أهلي وغيرهم، هل يأثم والدي ووالدتي على هذا الشيء، إذا كان الجواب نعم، فما نصيحتكم إليهم؟
الجواب
لا شك أنه يأثم، لكن أيضاً هذا ليس إهمال والدك عذراً لك، بل لو تعمد والدك أنه يربيك التربية السيئة لم يكن ذلك عذراً لك، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95].(52/28)
وسائل التربية ليست توقيفية
السؤال
هل وسائل التربية توقيفية، أم أنها خاضعة للجهد البشري، واختيار الوسيلة المناسبة؟
الجواب
وسائل التربية والدعوة ليست توقيفية، وسبق أن عرض هذا السؤال في المحاضرة الماضية التي كانت بعنوان: همسة إلى شاب، وذكرت لكم أن الكثير من العلماء والمشايخ أفتوا بأنها ليست توقيفية، ومنهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فقد سألته بنفسي، وأجابني بذلك، وأيضاً الشيخ ابن عثيمين والشيخ عبد الله بن قعود وغيرهم قرروا أن وسائل الدعوة ليست توقيفية.
وما معنى أنها ليست توقيفية؟ يعني: إذا قلنا إنها توقيفية فمعناه أنه لا يجوز أن ندعو بأي أسلوب أو وسيلة إلا إذا كانت واردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أما إذا قلنا: إنها ليست توقيفية، فيعني هذا أن عندنا حرية أن ندعو بأي أسلوب بشرط أن يكون جائزاً شرعاً، وألا يكون فيه مخالفة شرعية.
وأنت ترى الذي يقولون: إن وسائل الدعوة توقيفية يضطرون إلى نوع من خرق القاعدة، فمثلاً طلب العلم مثل الدعوة فما الفرق بينه وبين الدعوة؟ إذا قلنا: إن وسائل الدعوة توقيفية، إذاً وسائل تلقي العلم يجب أن تكون توقيفية، فالمدارس النظامية الآن ما كانت موجودة في السابق، الكتب بطريقتها الآن والتصنيف وطريقة التبويب لم تكن موجودة في السابق، الوسائل المعاصرة أجهزة الحاسب الآلي، وأجهزة الناسوخ والاتصال، أجهزة الاتصالات الحديثة، ومراكز المعلومات وكل هذه ما كانت موجودة.
إذاً هذه بدعة، والتعليم الرسمي بدعة لأنه ما كان موجوداً، وخذ كل الوسائل الموجودة في التعليم هي الأخرى بدعة إذا قررنا أن وسائل الدعوة توقيفية.
فعلى كل حال ليس ذلك صحيحاً، فوسائل التربية ووسائل الدعوة وسائل اجتهادية، ولو تمعنا في التاريخ لوجدنا أن الأمة ابتكرت وسائل في الجهاد، ووسائل في العلم، ووسائل في الدعوة، ووسائل في إدارة شئون حياة الأمة كلها ابتكرت واستفادت من العصر الذي تعيشه.
فالميدان مفتوح والمجال مفتوح لأي وسيلة بشرط ألا يكون فيها مخالفة شرعية، وأن نرى أنها تحقق المصلحة الشرعية.(52/29)
الاكتفاء بالخطب والمحاضرات في التربية
السؤال
هل الخطب والمحاضرات كافية للتربية؟
الجواب
لا، التربية تحتاج إلى عمل، وهي تربية من خلال العمل، والخطب والمحاضرات لا شك أنها تقدم خطوات تربوية، وتعطي دفعات لكنها وحدها ليست كافية.(52/30)
الجوانب التربوية المطلوبة
السؤال
لا يخفى عليكم أن المكتبات الخيرية الموجودة في المساجد تعتبر من المحاضن التربوية لإخراج شباب يؤهل فيه أن يخدم هذا الدين؟ هل هناك أسس تربوية أو بمعنى آخر مفاهيم أساسية تغرس في نفوس رواد مثل هذه المحاضن؟
الجواب
هي الأسس التي نريدها من المسلم، نريد أن نربي الإنسان على الإسلام، على أن ينضبط أولاً بالضوابط الشرعية، فنربيه على أن يلتزم أوامر الله سبحانه وتعالى، على أن يتجنب المعاصي، على أن يكون عنده ورع وخوف من الله سبحانه وتعالى، نربيه على أن يكون قلبه متوجهاً إلى الله سبحانه وتعالى.
جانب آخر: العلم الشرعي، فنعطيه المنهج العلمي، وأن نربي ونغرس عنده حب العلم والتوجه إليه.
جانب آخر: السلوك والتعامل مع الناس.
جانب آخر: أن نربيه على الدعوة من خلال العمل ومن خلال الميدان.
أقول باختصار: هذه الجوانب التربوية هي الجوانب المطلوبة من المسلم، تصور أنت ما هي الصورة التي تتطلع إليها، وترى أن يكون المسلم عليها، هي التي نريد أن نصل بالإنسان إليها من خلال هذه المحاضن التربوية، سواء كانت من خلال مدارس، من خلال مؤسسات تربوية، من خلال مكتبات مساجد، أياً كانت هذه المؤسسات، أو هذه المحاضن التربوية.(52/31)
أهمية رفع مستوى التربية عند المربين
السؤال
هناك مقولة تقول: حتى تصل التربية إلى الحد المقبول يجب أولاً النظر في تربية المربين، هل من تعليق على هذه العبارة أو توضيح؟
الجواب
نعم، لابد من رفع مستوى المربي، قد يكون عند المربين قصور تبعاً للتربية التي تلقوها هم، فيسعى المربي إلى أن يرفع مستواه، ويسعى إلى أن يزيد من تحصيله، سواءً العلم الشرعي أو صلته بالله سبحانه وتعالى، أو القدرات والمفاهيم التربوية.(52/32)
التكامل بين الجوانب التربوية والجهادية والدعوية
السؤال
في ظل واقع هذه الصحوة، هناك من يدعو إلى التربية الجهادية والذهاب إلى ساحة الجهاد، وهناك من يدعو إلى التربية على العلم الشرعي وغيرها من أمور التربية التي نحن بحاجة إليها، فما هي الأولويات التي يتربى عليها في ظل هذه الظروف، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
هذا سؤال مهم، وكثيراً ما يرد السؤال والنقاش والجدل حوله، فنقول: أولاً: هناك أشياء لا بد منها للمسلمين جميعاً، كقدر من العلم الشرعي، وقدر من إنكار المنكر، وقدر من الصلة بالله سبحانه وتعالى.
ثم يبقى جانب التخصص المهم، فمن الخطأ أن نتصور أن الأمة كلها يجب أن تذهب إلى ساحات الجهاد، فمن سيبقى هنا؟ ومن سيحمي الجيل؟ وتخيلوا مثلاً أن كل الناس ذهبوا إلى الجهاد، فمن سينكر المنكرات كلها؟ من سيربي؟ من سيبقى لأهل الفساد في مجتمعات المسلمين كله على مستوى الأمة؟ جانب آخر: جانب العلم الشرعي، فليس كل الناس مؤهلين أن يتوسعوا ويتبحروا في العلم الشرعي، وكذلك جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكافة الجوانب التي نريدها، فلماذا نحن نفترض التناقض، ونتصور أنه ليس هناك إلا ميدان واحد؟ أقول: هناك قدر مشترك مطلوب من الجميع، ثم بعد ذلك يبقى جانب التخصص، ولا ينبغي أن يشغب أحد على أحد، فنحن نحتاج إلى من يشارك الأمة في ميادين الجهاد، نحتاج إلى من يتبنى أمور الأمة الاجتماعية، إنقاذ أصحاب الفقر وقضاء حوائجهم، وأن يوفر وقته وجهده لمثل هذه المشاكل الاجتماعية.
نحتاج إلى إنسان يتفرغ للعلم الشرعي وتعليمه، نحتاج إلى إنسان يتفرغ لدعوة الشباب المعرضين، نحتاج إلى إنسان يتفرغ لتربية الشباب المستقيمين، نحتاج إلى جوانب كثيرة وجهود كثيرة ليس واحداً منها هو المطلوب دون غيره، وليس واحداً منها هو الأولى دون غيره، بل كل هذه الأمور مطلوبة، ويجب أن تسير معاً في خط متوازٍ.
ومن الخطأ أن نفترض أولويات أو تناقضاً أو تضارباً، وأنه ما دام هذا الميدان مهماً فالآخر غير مهم، ولا يجوز أن يسخر صاحب ميدان من الميدان الآخر، بل يجب أن نشعر أننا جميعاً في خندق واحد، مثال: مثل الجيش الذي يحارب، فهو يحتاج إلى قائد، إلى رجل متفرغ في غرفة عمليات يدير الاتصال وينظمه، يحتاج إلى إنسان يشارك في القتال، إلى إنسان يحمي الخلف ويحرس، إلى إنسان يعد الطعام، يحتاج إلى فني عمله فقط إصلاح السيارات والمعدات، يحتاج إلى معالجة الجرحى وإخلاء طبي، نحتاج إلى أدوار كثيرة.
لو جاءنا الإنسان الذي يعد الطعام للجيش، وقال: والله أنا أحتاج للقتال، فإن الناس يقاتلون ويتعرضون للاستشهاد، وأنا جالس أعد الطعام! إذاً: من سيعد الطعام للجيش؟ ومن سيقوم بهذا الدور؟ فهي أدوار قد تتصور أن هذا أهم، وهذا أولى، وهذا ثانوي، لكنها هي كلها مهمة ومطلوبة، ولابد منها جميعاً، ولا يجوز أن نفترض التناقض وأن يشغب بعضنا على بعض في مثل ذلك.(52/33)
التربية والتأديب بالضرب
السؤال
ما رأيك في الضرب أثناء التربية لتعليم الطفل والشاب أو حرمانه من شيء يحبه؟
الجواب
الضرب ورد أنه وسيلة تربوية قال الله عز وجل: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ} [النساء:34]، فأمر بضرب المرأة إذا احتاجت إلى الضرب، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اضربوهن ضرباً غير مبرح).
لكن هذا لا يعني أن يتحول الزوج إلى جلاد، بل النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الضرب وقال: (أولئك ليسوا بخياركم)، وقال: (خيركم خيركم لأهله).
وكذلك أيضاً شرع ضرب الصغير للصلاة: (واضربوهم عليها لعشر).
وشرع التعزير عموماً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله)، واختلف العلماء في معنى حد من حدود الله، ومن أقوى الأقوال أن المقصود أي أمر محرم، يعني أن عشرة أسواط في قضية غير محرمة مما يحتاج الأب والمربي إلى أن يؤدب ابنه عليه، أما حدود الله فالمقصود بها المعاصي، فالمعاصي من حدود الله، ولذلك يقول الله عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229].
لكن أيضاً لا ينبغي أن يكون هذا الضرب هدفاً ووسيلة، وأن يتحول الإنسان إلى رجل باطش وجلاد، ولنا قدوة في النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه معاوية بن الحكم رضي الله عنه: (فما رأيت معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً منه).
نكتفي بهذا القدر، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيما قلنا الخير والبركة، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، هذا والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك وأتوب إليك.(52/34)
رسالة إلى شاب
الشباب التائه من أبناء المسلمين كثيرون، فهم غارقون في بحار الفتن والشهوات، وهم على كل حال لا تزال فيهم جوانب كثيرة من الخير، فهم بحاجة منا إلى نصح ومساعدة حتى نأخذ بأيديهم إلى طريق الخير والصلاح.(53/1)
دواعي الرسالة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فنحمد الله سبحانه وتعالى على أن جمعنا وإياكم في هذا المكان، ونسأله سبحانه وتعالى أن يوقفنا وإياكم لما يحب ويرضى، وأن يجمعنا في مستقر رحمته، ودار كرامته، ويجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله يوم يناديهم سبحانه وتعالى: (أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي؟!).
أيها الإخوة! حديثنا هذه الليلة (رسالة إلى شاب)، وهي رسالة من نوع معين إلى أولئك الشباب الذين ولدوا من آباء مسلمين، وأمهات مسلمات، وعاشوا في هذا المجتمع المسلم، وهم يحملون الفطرة الإيمانية، ويحملون بذور الخير في قلوبهم، بل ويحافظون على كثير من أحكام الله وشعائره، ولكنهم يمارسون ألواناً من الانحراف عن دين الله سبحانه وتعالى، وألواناً من الضياع، تتفاوت هذه الألوان وهذه الصور؛ لكننا نجزم أن غالبهم وعامتهم ينتظرون اليوم الذي يسيرون فيه في طريق المستقيمين، والذي يسلكون فيه درب الاستقامة والسعادة.
ولذا كان لزاماً علينا أن نعتني بإخواننا هؤلاء، وأن نقدم لهم الكلمة الصادقة؛ لعلها أن تجد آذاناً صاغية، ولعل الله سبحانه وتعالى أن يفتح أبواب قلوب بعض المعرضين من كلمة قد لا يلقي لها صاحبها بالاً.
أيها الإخوة! هؤلاء الشباب مع ما يقعون فيه من الانحراف والضياع الذي قد يصل ببعضهم إلى ترك الصلاة وترك الواجبات، فعامتهم ينتظر ويتمنى اليوم الذي يسلك فيه الطريق المستقيم.
ولكن هناك عقبات وعوائق وموانع، ولذا فقد قمت بإجراء بحث حول هذا الموضوع، وأعددت استمارة وزعت على بعض هؤلاء الشباب في مدينة الرياض، ثم بعد ذلك خرجت لنا نتائج أعلنا بعضاً منها في المحاضرة السابقة، والتي كانت بعنوان: عوائق الاستقامة، وكان في النية أن أتحدث في تلك المحاضرة عن هذه العوائق ومناقشتها، وأن تكون موجهة إلى هؤلاء الذين تحجزهم هذه العوائق؛ ولكن ضاق الوقت فأحببنا أن نرسل لهم هذه الرسالة الخاصة.
أيها الإخوة! قد تطول صفحات هذه الرسالة، ولكن المعذرة فلعلها تكون صادرة من قلب يحترق ويتألم على ما يرى من ضياع الكثير من الشباب الذين تؤمل فيهم الأمة آمالها، والذين تعدهم الأمة لغدها المشرق، قد تطول صفحات هذه الرسالة فتبلغ عشرين صفحة، وهي: لماذا هذه الرسالة؟ من محاسنكم.
هل رأيت الأخيار؟ هل هؤلاء خير منك؟ هلا قرأت التاريخ.
ألا تعرف أحداً منهم؟ أسمعت عن هؤلاء؟ تأمل في واقع أمتك.
ألا تريد المشاركة في الإنجاز؟ قبل أن تذبل الزهرة.
ماذا يريدون منك؟ حتى لا تدفع ضريبة الغفلة.
اعلن البراءة اليوم قبل الغد.
وإليك البديل.
أيهما تختار؟ كن سابع سبعة.
استعد للامتحان.
لا تنتظر الموعد الموهوم.
فقد تكون النهاية.
لا تقطع الحبل الموصول.
لا تيأس، واتخذ القرار الحاسم.
فهو العائق الوحيد.(53/2)
لماذا هذه الرسالة
الصفحة الأولى: لماذا هذه الرسالة؟ أيها الشباب! لماذا نوجه لكم هذه الرسالة؟ ونتوجه لكم بهذا الحديث الخاص؟ إن هذا ما يدفعنا إليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه)، وإنه مهما بدر منكم من التقصير والإعراض والغفلة، فإنكم مع ذلك كله تبقون إخواناً لنا، فلكم إخوة الإسلام، وولاء الإسلام، وحق الإسلام، فمن حقكم علينا أن نحب لكم ما نحب لأنفسنا، وأعظم ما نحب لأنفسنا ونتمنى لأنفسنا هو سلوك طريق الهداية.
وهذه الهداية التي وفق الله لها الصالحين، ونسأله سبحانه وتعالى أن نكون وإياكم ممن وفق لها، هذه الهداية والله ما حصلها من حصلها بكد أمه ولا كد أبيه، ولا بجهده وطاقته، إنما هو توفيق من الله سبحانه وتعالى، ومنة ونعمة من الله عز وجل القائل سبحانه وتعالى: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم).
ومن حق هذه النعمة وواجب شكرها أن نحرص على أن ننقل هذه النعمة إلى الآخرين، وأن نقول للناس الذين لم يسلكوا الطريق: هانحن قد سلكنا هذا الطريق، فهلموا وبادروا معنا وسيروا؛ علكم تجدوا ما وجدنا فيه من السعادة والطمأنينة، ولذة عبادة الله سبحانه وتعالى، والتي نرجو أن تكون بعد ذلك طريقاً إلى السعادة الأبدية والسرمدية، ولذة النظر إلى وجهه سبحانه وتعالى.
أخي الشاب! إذا لم نرسل لك هذه الرسالة، فممن تنتظرها؟! أتنتظرها من شركائك في الفساد؟ أتنتظرها من قرناء السوء الذين أنت بنفسك قلت لنا فيما كتبته لنا وحدثتنا به: إن هؤلاء هم العائق الأول عن سلوك طريق الاستقامة، فهل تنتظر من هؤلاء أن يرسلوا لك هذه الرسالة؟ أم تنتظر هذه الرسالة من أولئك المفسدين الذين يتربصون بك الدوائر، والذين صدروا لك الأفلام الساقطة، والصور الخليعة، وتفننوا في صدك عن سبيل الله عز وجل؟ أتنتظر منهم بعد ذلك أن يرسلوا لك هذه الرسالة، ويوجهوا لك هذه النصيحة؟ أم تنتظرها من أعدائك من الكفار وغيرهم؟ أجزم أنك لن تسمع هذه الرسالة إلا من قلب يملؤه شعوران: شعور بالعطف والشفقة والمحبة لك، وشعور بالخوف والقلق أن تصير إلى النهاية الخطيرة إلى الهلاك الذي لا نجاة بعده.(53/3)
من محاسنكم
وأما الصفحة الثانية فهي بعنوان: من محاسنكم: إن هؤلاء الشباب مع ما عندهم من الإعراض والغفلة، ومع ما عندهم من الفساد الذي لا نقلل من خطورته، إلا أن الدراسة أثبتت لنا أن هناك جوانب خيرة، وهناك جوانب مضيئة في سيرة هؤلاء، فإليكم تلك الجوانب التي قد يكون قالها وأجاب عنها بعضكم ممن يستمع إلى حديثنا الآن، فمن ذلك:(53/4)
التفكير بالالتزام
أن أكثر هؤلاء قد فكروا بالالتزام، فـ (93%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (92%) من طلاب المرحلة المتوسطة قد فكروا في الالتزام، و (32%) منهم فكروا تفكيراً جاداً في سلوك هذا الطريق، و (74%) من طلاب المرحلة المتوسطة، و (71%) قد فكروا بذلك أكثر من ثلاث مرات.
إذاً: فالغالبية من هؤلاء لا يدركون خطأ الطريق فقط، ولا يدركون خطورة الأمر فقط، بل إنهم يفكرون تفكيراً قد يكون جاداً، وقد يكون دون ذلك، المهم أن لديهم الرغبة، وأن لديهم الدافع في توديع حياة الغفلة والإعراض، والسير في ركاب الصالحين.
أيضاً: أكثر هؤلاء يشعر بأن الالتزام هو طريق السعادة، فـ (79%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (81%) من طلاب المرحلة المتوسطة أجابوا بأنهم يشعرون بأن الالتزام طريق السعادة.
أما (21%) و (18%) فأجابوا بلا أدري، أما الذين أجابوا بـ (لا) فهم (1%) من كلا المرحلتين.
إذاً: فأكثر هؤلاء أيضاً يدرك تمام الإدراك أن الالتزام هو طريق السعادة.
فإذا كنت -يا أخي- قد أدركت أن هذا الطريق هو الذي يحقق لك السعادة، فما الذي يمنعك من سلوكه، والمصير إليه.(53/5)
الاستماع للنصيحة
أيضاً: من الجوانب المضيئة عند هؤلاء أن أكثرهم يستمع للنصيحة ويستجيب لها: فقريب من (70%) من هؤلاء استفادوا استفادة إيجابية من النصيحة التي وجهت لهم، فمنهم من استقام مدة محددة، ومنهم من تأثر، المهم أن النصيحة والكلمة الصادقة لها أثر على هؤلاء.
لا أريد أن أطيل في هذه النتائج، فلدي الكثير من ذلك، ولكني أرى أن الصفحات بعضها يدفع بعضاً؛ حتى لا يضيق الوقت عنها.(53/6)
هل رأيت الأخيار
الصفحة الثالثة: هل رأيت الشباب الأخيار؟ لابد أنك قد رأيت ذاك الشاب المستقيم السائر على طاعة الله سبحانه وتعالى، رأيته يوماً من الأيام يمد يده ليعطي لك شريطاً، أو يعطيك كتيباً، أو يتحرك لسانه بلغة تدرك منها الإشفاق والنصح ليوجه لك نصيحة صادقة وخالصة.
إنه أيضاً قبل أن تمتد يده بهذا الشريط وهذا الكتاب قد امتدت إلى جيبه لتخرج تلك النقود يدفعها ليشتري لك هذه الهدية يدفعها لك وهو يدعو لك بدعاء صالح، ودعاء صادق أن يهديك الله سبحانه وتعالى.
أرأيت هؤلاء؟ ما الذي يدفعهم إلى ذلك؟ ما الذي يدعوهم لهذا؟ ما الذي يدعوه إلى أن يكثر لك النصيحة؟ بل الذي دعاك لحضور هذه المحاضرة، وحضور هذا المجلس، والذي يدعوك من وقت لآخر إلى أن تحضر مجالس العلم، ولقاءات الخير، ما الذي يدفعه لذلك؟ أرأيت أولئك الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، الذين تتفطر قلوبهم حزناً وألماً على واقعك وواقع إخوانك، الذين يسهرون ليلهم، ويصرفون أقواتهم في بذل الجهد لإنقاذك من هذه الغفلة، ماذا يريد كل أولئك؟ أليس هذا -يا أخي- وحده كافياً أن يشعرك فعلاً بأنك تسير على طريق نهايته أليمة؟ أليس هذا كافياً بأن يهزك هزاً ليوجهك إلى أن تسلك الصراط المستقيم؟ كل هذه الجهود -أخي الكريم- وكل ما تراه إنما هو من أجلك، من أجل إنقاذك من الخطر الداهم، ومن أن تتعرض لسخط الله وعذابه سبحانه وتعالى، من أجل أن ينقلوك إلى سعادة الحياة الدنيا التي قلت أنت بنفسك وبقلمك: أنك تدرك أن الالتزام وأن الاستقامة هي طريق السعادة.
فلا تظن -أخي الكريم- أن ما أنت عليه من التمتع بالشهوات المحرمة هي غاية الحياة الدنيا، وهي النعيم، ولكن النعيم هو ما أشار إليه الله سبحانه وتعالى في قوله: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
إن هؤلاء الشباب الأخيار، وأولئك الدعاة، وغيرهم الكثير الكثير الذين يسهرون ويؤرقهم همك، كل هؤلاء يسعون إلى أن ينقلوك إلى هذه السعادة وهذا النعيم، وإن هذا النعيم -أخي الكريم- هو الطريق والخطوة الأولى بعد ذلك للسعادة الأبدية، والسعادة السرمدية، يوم يؤتى بالموت على هيئة كبش، فيقال لأهل الجنة: أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، الموت.
ويقال لأهل النار: أتعرون هذا؟ فيقولون: نعم، الموت.
فيذبح حينئذٍ بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار! خلود فلا موت، حينئذٍ {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].
ولتعلم -أخي الكريم- أن السعادة، ولذة الإيمان، وجنة الدنيا التي يجدها المطيع لله سبحانه وتعالى في هذه الحياة هي الخطوة الأولى في طريق السعادة الأبدية السرمدية، وهي البوابة التي لابد أن يلجها من شاء أن يسلك وأن يصير إلى طريق السعادة الأبدية، التي لا شقاء ولا خسارة بعدها.(53/7)
هل هؤلاء خير منك
الصفحة الرابعة: هل هؤلاء خير منك؟ عندما ندعوك إلى أن تسلك طريق الالتزام تعتذر بأنك لا تستطيع ذلك، وأنك مقتنع تمام القناعة بخطأ الطريق الذي أنت عليه، وأنك تتمنى أن تسير في ركب الصالحين، وتدرك هذا الأمر؛ لكنك تعتذر أنك لا تطيق، فأمامك الفتن، وأمامك الشهوات، وأمامك العوائق.
فهل رأيت هؤلاء الشباب الذين يفيضون عفة وطهارة؟ ألم ينتصروا على شهواتهم؟ أرأيت هؤلاء الشباب يتسابقون على مجالس العلم ولقاءات الخير، في حين كنت تسابق على مدرجات الكرة وملاعب الكرة؟ أرأيت هؤلاء الشباب يقضون ليلهم ركعاً سجداً حين ينزل الله سبحانه وتعالى إلى السماء الدنيا في ثلث الليل الآخر، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ أرأيت هؤلاء الشباب الذين يقضون ليلهم بكاءً وتضرعاً وخضوعاً بين يدي الله سبحانه وتعالى، في حين تقضي ليلك أنت بما لا يخفى عليك؟ أرأيت هؤلاء الشباب الذين يعيشون هذه الحالة؟ أهم ملائكة؟ أهم معصومون؟ أليس لهم شهوات؟ أليس أمامهم فتن؟ بل قد تكون أبواب الفتن مشرعة أمامهم أكثر منك، وما يدريك عن حالهم؟! قد يكونون أكثر شهوة منك، وقد تكون أنت أقوى منهم شخصية، وأقدر منهم على الثبات، فلماذا انتصر هؤلاء وانهزمت أنت؟ لماذا استطاع هؤلاء أن يسلكوا طريق العفة وخضت أنت في بحر الرذيلة؟ أليسوا بشراً مثلك؟ أليسوا يعيشون الفتن كما تعيشها؟ ألست تواجههم الشهوات؟ فلماذا استطاعوا أن يشقوا الطريق وأنت لم تستطع ذلك؟(53/8)
هلا قرأت التاريخ
الصفحة الخامسة: هلا قرأت التاريخ: أسماء أظنك لا تجهلها، وأظنك وإن تعلقت بالرياضة والفن والساقطين والغناء، فأظن بل أجزم أن هؤلاء أحب إلى قلبك من أولئك الساقطين، لعلك قد سمعت عن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعلي بن أبي طالب ومعاذ ومعوذ ابني عفراء، وغيرهم من شباب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
إنهم أيضاً بشر مثلك، لكنهم انتصروا على أنفسهم أولاً قبل أن ينتصروا على أعدائهم، فسطروا للأمة تلك الصفحات البيضاء الناصعة؟ أرأيت أسامة بن زيد رضي الله عنه يقود جيشاً يواجه به أعتى قوة دولية في ذاك الوقت وعمره دون عمرك، عمره لم يتجاوز العشرين عاماً؟ أظن أنك تسمع عن بلاد السند والهند، وما وراء النهر، أتدري من الذي نقل الإسلام إلى أولئك؟ أتدري من الذي حطم الوثنية التي كانت جاثمة هناك؟ إنهم شباب بعضهم في سنك، أو دونك، أو أكبر منك، المهم أنهم يعيشون المرحلة التي تعيشها.
لعلك -يا أخي- قد سمعت بشاب كان دون العشرين من عمره، عاش في بيئة تغص بالشرك والوثنية ليس فيها من يقول: ربي الله إلا راهب واحد مستخفٍ في رأس جبل، وحين دخل هذا الدين قلب هذا الشاب؛ جاء ليقوم بهذا الدين، ويواجه به الناس، ويقدم نفسه رخيصة لله سبحانه وتعالى؛ حتى يمن الله عز وجل عليه بعد ذلك بأن تهتدي على يديه قرية كاملة ثم يذهبون شهداء، {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} [البروج:4 - 7].
إنه شاب مثلك، لم يصحب نبياً، إنه عاش واقعاً أجزم أنه أسوأ من الواقع الذي تعيشه، عاش في بيئة ليست مليئة بالشهوات فقط، بل تغص بالشرك والعبودية لغير الله، ومع ذلك قام وحده دون معين ودون ناصح؛ ليعلن كلمة الحق، ليعلن أن لا إله إلا الله، ولا رب إلا الله، ثم بعد ذلك منّ الله عز وجل عليه بالشهادة في سبيله، ومنّ الله عليه بأن تدخل الأفواج من الناس في دين الله على يديه، قائلين: آمنا بالله رب الغلام.
فما الفرق بينك وبينه؟ أليس شاباً مثلك؟ أليست هذه النماذج كافية بأن تجعلك تودع حالة الغفلة والإعراض إلى غير رجعة، وأن تطلقها ثلاثاً؟(53/9)
ألا تعرف أحداً منهم
الصفحة السادسة: ألا تعرف أحداً منهم؟ كثير هم الشباب الذين منّ الله سبحانه وتعالى عليهم بالهداية وسلوك الطريق المستقيم بعد أن انغمسوا إلى رءوسهم في الشهوات، وأوحال الفتن والضلال، وأظن أنك ولابد تعرف بعضاً منهم، قد يكون أحدهم شقيقك، وقد يكون جارك، وقد يكون زميلك في فصلك، وقد يكون صديقك الذي كان يعينك على المعصية، بل كان يشرع أمامك الأبواب، وكان معيناً لك، وقد يكون أسوأ منك يوم أن كان على الضلال، فما الذي جعله ينتصر على نفسه وتخفق أنت؟! إنه مثلك ذاق الشهوات المحرمة، وقد غاص في أوحال الفتن، وها أنت تراه وقد سلك طريق الاستقامة وطريق السعادة، وهو يقول لك بلسان حالة قبل أن يقول لك بلسان مقاله: ها أنا الآن وجدت طريق السعادة، وودعت طريق الشقاوة والضلال إلى غير رجعة.
أليس في هذه النماذج عبرة لك ومقنعاً بأنك مهما بلغت من الفساد قادر على أن تكون خيراً منه، وما الذي يحول بينك وبين ذلك؟(53/10)
أسمعت عن هؤلاء
الصفحة السابعة: أسمعت عن هؤلاء؟ إنهم فئة من شباب الأمة منّ الله سبحانه وتعالى عليهم بمحبة دينه، والتضحية من أجله، فسافروا وسافرت، وخاطروا وخاطرت، ولكن إلى أين وبم خاطروا؟! لقد سافروا إلى بلاد العجم وقاتلوا في سبيل الله؛ حتى ذهبوا شهداء في سبيل الله عز وجل، ينهانا الله سبحانه وتعالى أن نقول إنهم أموات، {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} [البقرة:154]، {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُون * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169 - 171].
أرأيت أولئك الشهداء الأبرار الذين قد تكون تعرف واحداً منهم، بل قد يكون أحدهم شريكاً لك في الضلالة والانحراف، ثم منّ الله سبحانه وتعالى عليه، فلم يجد أغلى من نفسه فجاد بها في سبيل الله سبحانه وتعالى، وسافر للجهاد في سبيل الله يوم أن سافرت أنت لتحقق الشهوات واللذات المحرمة، وشتان بين الأمرين، خاطر بنفسه في سبيل الله وهو يستلذ تلك الخطورة، وأكثر ما يواجهه الموت، وهذا ما يتمناه ويريده، بل هذا ما ارتكب المشاق من أجله.
ولكنك أنت خاطرت لارتكاب الجريمة والفاحشة، وللوقوع فريسة الأمراض الجنسية والإدمان على المخدرات التي تقضي على حياتك.
إن هذه هي المخاطر التي ارتكبتها، وهذا هو الطريق الذي وضعت قدمك في أوله، ومن وضع قدمه في أول الطريق، فلابد أن يصل إلى آخره، ما لم يمن الله عليه بالرجعة والأوبة إليه سبحانه وتعالى.
أخي الكريم! هل تتصور أنه من المستحيل أن تكون مثل أولئك؟ ومن هم أولئك؟ ليسوا صحابة ولا تابعين، ولم يعيشوا في عصر السلف، بل عاشوا في العصر الذي عشت فيه، عاشوا في عصر الفتن والشهوات، وتعرضوا لما تعرضت له، وبعضهم قد مارس مثلما مارست، بل قد يكون أسوأ من الحال التي أنت عليها، وبعد ذلك منّ الله عليهم بالهداية؛ حتى قضوا نحبهم في سبيل الله، وهم يقولون للأجيال من بعدهم: هانحن نضيء الطريق لكم بدمائنا وبأرواحنا، فسيروا فإن الجنة تنتظر الشهداء.(53/11)
تأمل في واقع أمتك
الصفحة الثامنة: تأمل في واقع أمتك: استمع الآن لنشرة الأخبار، لابد أن يواجهك ما يقال عن إخوانك المسلمين في يوغسلافيا، القتلى بالآلاف، والمشردون بالملايين، والمساجد تهدم وتدمر على المصلين، إخوانك المسلمون هناك يذبحون، وتراق دماؤهم، بل ترتكب معهم أبشع الجرائم، وأبشع انتهاك لحقوق الإنسان إذا عبرنا بالمصطلح المعاصر، ها هم يعيشون آلاماً يتمنون أن تشاركهم فيها.
ومن قبلهم تعرض إخوانك المسلمون في بورما لما تعرضوا له، ومن قبلهم أريقت دماء عشرين ألفاً من المسلمين في حلبجة، ومن قبلهم أريقت دماء ربع مليون من أهل السنة في الأرض التي بارك الله حولها على يد الباطنيين الذين يحقدون على أهل السنة، ويتمنون اليوم الذي يعيدون فيه أمجاد العبيديين والقرامطة.
أما الذين يئنون في السجون تحت وطآت السياط، فإنك لا تسمع أناتهم، وكيف لك أن تسمع أناتهم وأنت منشغل بسماع أمر آخر، أما صرخات أخواتك اللاتي تنتهك أعراضهن في كل مكان، بل وفي بلاد المسلمين وللأسف، فلن تسمع هذه الصرخات؛ لأنك تسمع صرخات من نوع آخر.
أخي الكريم! أيليق بك وأنت ترى المسلمين يقادون لمجازرهم كما تقاد الشياه، وترى أنهار الدماء تجري من إخوانك المسلمين، أيليق بك بعد ذلك أن يكون غاية همك شهوة محرمة، ونزوة عاجلة، ولهواً ولعباً، ومزاحمة على مدرجات الكرة، وإخوانك يستصرخون ويستغيثون؛ ماذا يقولون عنك لو رأوا حالك؟! ماذا يقولون عنك وأنت على أقل الأحوال لم تتابع أخبارهم؛ لأنك شغلت بمتابعة أخبار الرياضيين والساقطين، ولم يؤلمك ما يحصل لأخواتك المؤمنات من انتهاك للأعراض وإهانة؛ لأنك مشغول بمتابعة نساء من لون آخر ومتابعة أخرى.
ماذا تقول عنك أختك التي ينتهك عرضها وتصرخ وتستغيث؟ كيف لو تراك وأنت تطارد النساء في الأسواق وعند المدارس؟ أرجو أن تعذرني على هذه الصراحة، ولكنه الواقع الأليم! أليس إدراكك لهذا الواقع، وإدراكك لهذا التآمر الذي يمارس ضد أمتك، وضد إخوانك، بل ضدك أنت، وقد تقول يوماً من الأيام: أكلت يوم أكل الثور الأبيض، وإن كان اليوم ليس يومك، فقد يكون غداً هو يومك، وقد يأتي عليك اليوم الذي تستصرخ فيه كما يستصرخ إخوانك، فلا تجد من يغيثك، لماذا؟ لأنك سمعت أناتهم، وسمعت صرخاتهم، ورأيت واقعهم، وأنت في وادٍ آخر، والجزاء من جنس العمل؟(53/12)
ألا تريد المشاركة في الإنجاز؟
الصفحة التاسعة: ألا تريد المشاركة في الإنجاز؟ مع هذا الواقع المؤلم الذي تعيشه الأمة أخي الشاب، والذي يدمي حديثه القلوب، والذي يسيل الدموع فتح بعض صفحاته، فعن ماذا نتحدث، عن التآمر الدولي على المسلمين، وعن تكالب الأعداء وتداعي الأمم، أم عن الفساد والانحلال السائد في مجتمعات المسلمين وواقعهم؟ مع ذلك كله -أخي الكريم- ومع هذه الصفحة الكالحة بدأنا نرى الفجر الصادق تلوح أنواره في الأفق، وبدأنا نرى الصفحة البيضاء تنصع، وبدأنا نرى الصحوة الإسلامية المباركة، ولقد سارت -أخي الكريم- هذه الصحوة وحققت إنجازات رائعة، لعل هذه المظاهر التي تراها، وهذا الشباب الغض المقبل على طاعة الله سبحانه وتعالى إنما هو جزء من النجاح الذي حققته هذه الصحوة المباركة، وهذه المظاهر للنشاط الإسلامي التي تملأ العالم الإسلامي من أقصاه إلى أقصاه، وهذا الشعور الذي أصبح يوجد عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم، ذكرهم وأنثاهم، جاهلهم ومتعلمهم، إنما هو جزء وثمرة من ثمرات هذه الصحوة المباركة.
أخي الكريم! لقد دخل إخوانك أحفاد عقبة، وتلاميذ ابن باديس الحياة السياسية والبرلمانية؛ فأسمعوا العالم كله أن الشعب المسلم يسير وراءهم، ويريد تطبيق الإسلام، ويريد الحكم للإسلام، فلم تعد القضية مطالب فئة من الدعاة، ولا مطالب جماعة من الجماعات، إنما عبر المسلمون جميعاً الفاسق منهم والمعرض قبل التقي والصالح أنهم لا يريدون إلا الإسلام.
أرأيت الصفحة البيضاء والإنجاز الرائع الذي حققه إخوانك هناك في أفغانستان عندما مرغوا أنوف الروس الذين كانوا في ذاك الوقت أعتى قوة دولية، والذين كان يحسب الغرب لهم ألف حساب؟ أرأيت إخوانك هناك بالبنادق، والسلاح اليدوي، وبالجهود المتواضعة، ومع الجوع والفقر والبرد، لكنهم استطاعوا أن يرغموا أنوف الروس، وأن يخرجوهم صاغرين من أفغانستان، ثم توجوا هذا النصر بإسقاط الحكم الشيوعي، وإقامة حكم الله، وإقامة دولة الإسلام، أرأيت هذا النصر وهذا الإنجاز؟ لن أسترسل معك -أخي الكريم- في الحديث عن إنجازات الصحوة ونتائجها، ولكنها إنجازات أجزم أنك تشاركني أنها رائعة، ولا تظن أنها هي الوحيدة، بل هي البداية، وهي الطليعة.
إننا نعتبر النصر الذي تحقق في أفغانستان طليعة الانتصارات الرائعة التي لابد أن تتحقق لهذه الأمة، ولن يدع الله بيت مدرٍ ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز، أو بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر.
بعد ذلك أقول لك: ألا تتمنى -أخي الكريم- أن تشارك في هذه الإنجازات؟ ألا تتمنى أن تخط اسمك بين الذين يسطرون هذه الصفحات؟ وما الذي يحول بينك وبين ذلك؟ مرة أخرى أقول: إن الذين حققوا هذه الإنجازات هم بشر مثلك، يعيشون في الوقت الذي تعيش فيه، ويتعرضون للشهوات التي تتعرض لها، ويتعرضون للعوائق التي تتعرض لها، ومع ذلك استطاعوا أن يخطوا هذه الصفحات، ويحققوا هذه الإنجازات.
ألم تحدثك نفسك يوماً من الأيام أن تشارك في تحقيق هذه الإنجازات، وأن تضرب بسهم مع أولئك المتسابقين في رفع راية لا إله إلا الله؟ وما الذي يحول بينك وبين ذلك؟ مرة أخرى أقول: ليست هذه الإنجازات الوحيدة، بل هي الطليعة، وهي البوابة، وهي البداية للمد الكاسح الذي لابد أن يحقق أهدافه بمشيئة الله وتوفيقه، (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار)، فهو وعد صادق من النبي صلى الله عليه وسلم.
أخي الكريم! أيهما أحب لك: أن تحقق إنجازاً كروياً، وإنجازاً رياضياً، فتسطر اسمك بين ألمع أصحاب الكرة، أو تحقق إنجازاً فنياً، فتصير فناناً صاعداً، يسمع لك الجميع، أو ممثلاً، أو غير ذلك من الأماني الساقطة التي يسعى إليها الكثير، أو أن تكون مشاركاً في تحقيق هذا النصر، فتقر عينك بما حققته في الحياة الدنيا، وما عند الله خير وأبقى؟ أخي الكريم! مرة أخرى أقول: مهما بلغ بك الإعراض، ومهما بلغت من الغفلة والانغماس في أوحال الفتن والشهوات، فلا تتصور أبداً أن هذا الأمر مستحيل، إنك قادر على أن تتوب إلى الله، وتحقق أكثر مما حقق إخوانك، فقد فتحوا لك الطريق، وأضاءوا أمامك السبيل.
أرأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ كانوا حفاة رعاة، وكانوا يأكلون الخنافس، ويأتون الفواحش، وكان أحدهم يقتل ابنته خشية أن يلحقه العار، ويقتل وليده خشية أن يطعم معه، وبعد ذلك منّ الله عليهم بهذا الدين، فماذا صنعوا؟ لقد بنوا لهذه الأمة مجداً لا يخفى عليكم، فخرجوا من تلك الجزيرة فقراء معدمين؛ حتى استطاعوا أن يدكوا عروش أقوى قوتين في العالم، فدكوا عروش كسرى وقيصر.
أولئك الصحابة: عمرو بن العاص وعكرمة بن أبي جهل وأبو سفيان ومعاوية بن أبي سفيان وخالد بن الوليد، وغيرهم، ألم يكونوا يوماً من الأيام معرضين؟ بل ألم يكونوا عبدة للأوثان؟ بل قد كانوا فوق ذلك كله في يوم من الأيام يحملون السلاح ويخاطرون بأنفسهم؟ ليئدوا هذا الدين وهذه(53/13)
قبل أن تذبل الزهرة
الصفحة العاشرة: قبل أن تذبل الزهرة: ها أنت شاب تتدفق حيوية ونشاطاً وقوة وفتوة، ولكن هل تتخيل -أخي الكريم- أن هذه الزهرة اليانعة التي تتمتع بها الآن ستبقى معك أبد الآبدين؟ أرأيت ذاك الشيخ الطاعن في السن وقد شاب شعره، واحدودب ظهره، وأصبح يمشي على ثلاث، بعد أن كان يمشي على اثنتين، وأصبح لا يخطو إلا خطوات وئيدة، ثقل سمعه وبصره، أرأيت ذاك الشيخ؟ إنك لابد لك من أحد مصيرين: إما أن تصير إلى ما صار إليه، أو أن تهلك وتموت وأنت في شبابك، وبعد ذلك تتحسر على هذه الزهرة اليانعة، وعلى هذه الأيام التي أضعتها في غير طاعة الله سبحانه وتعالى.
فهل تتخيل -يا أخي الكريم- أن هذا الشباب سيستمر معك، وهذه الفتوة ستبقى معك؟ بل قد تكون النتيجة قبل ذلك كله مرضاً مزمناً يجعلك تعيش في عداد المعوقين، حينئذٍ تقول: ليتني فعلت قبل ذلك.
اسمع ما يقول عبد الله بن عمرو رضي الله عنه حينما شدد على نفسه في عبادة الله سبحانه وتعالى، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فأمره بالقسط والاعتدال، فماذا قال عبد الله رضي الله عنه الذي كان يصوم كل يوم، ويختم القرآن كل يوم، ويقوم الليل كله قال: يا رسول الله! دعني أستمتع بقوتي وشبابي.
نعم، لقد نهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن المبالغة، لكنه لم ينهه عن الاستمتاع بالقوة والشباب، وكيف كان يستمتع بقوته وشبابه؟ لقد كان يستمتع بها في طاعة الله عز وجل.
ألم تنظر إلى أولئك الشباب الذين حينما يردهم النبي صلى الله عليه وسلم عن المعركة وهم لم يبلغوا الحلم بعد، ينصرفون وهم يبكون؛ لأنه حيل بينهم وبين أن تراق دماؤهم في سبيل الله عز وجل، فقارن -أخي الكريم- بين أمنيتك وأمنية أولئك، وبين تطلعاتك وتطلعات أولئك.(53/14)
ماذا يريد منك أولئك
الصفحة الحادية عشرة: ماذا يريد منك أولئك؟ هذا العصر يمتاز بأنه عصر التقنية، وعصر التقدم العلمي والتطور، ولقد استغل الأعداء هذا التقدم وهذا التطور، فوفروا هذه الطاقة والتقنية ووظفوها في التفنن في استخراج الصور الخالعة والفاتنة، وفي استخراج وتصنيع أجهزة الفيديو التي تعرض لك الأفلام الساقطة التي أنت أعلم مني بما يدور فيها.
من الذي وراء ذلك؟ ومن الذي يساهم في إدخال هذه المصائب إلى بلادنا؟ ومن الذي يقودك بصورة أو بأخرى إليها؟ ومن الذي يقودك إلى المخدرات؟ ومن الذي يسعى إلى ترويجها؟ أجزم أنك تعرف أنهم أعداؤك، إنهم وإن ساعدوك في تحقيق شهوة من شهواتك، فهل تظن -أخي الكريم- أنهم يريدون بك خيراً.
إنهم يريدون القضاء على آخر ما تملكه من مقومات العفة والحياء والديانة والطهارة، فهل تستجيب لهم، وتكون لهم بوقاً بعد ذلك؟(53/15)
حتى لا تدفع ضريبة الغفلة
الصفحة الثانية عشرة: حتى لا تدفع ضريبة الغفلة: تسمع عن شيء اسمه الأمراض الجنسية، وهي أمراض قد تصيب كل من يمارس ممارسة محرمة، فتخيل معي موقف الشاب الذي يقف بين يدي الطبيب، فتخرج نتيجة التحليل بعد ذلك، فيقول له الطبيب: أنت مصاب بمرض جنسي! تخيل معي الحالة النفسية، والجحيم النفسي الذي لا يطاق، والذي سيعاني منه هذا الشاب، قبل الألم الجسدي الذي لا يستطيع أن يتحمله بعد ذلك! وحين يودع غرفة خاصة فيعوده الناس، من يا ترى سيعوده؟! ومن سيسأل عن حاله؟! قد يعوده بعض شركائه في المعصية، وإن كانوا أول من يتخلى عنه، ولكن تخيل معي أي لعنة وسب وشتم سيسمعونه منه حينما يأتون إليه يعودونه؛ لأنهم هم الذين أوقعوه في هذا الوحل.
فهل يليق بك أن تشتري لذة وشهوة عاجلة، وتعرض نفسك لهذه العقوبة الشنيعة: (وما ظهرت الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها؛ إلا ابتلاهم الله عز وجل بالطواعين، والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم).
وتخيل معي بعد ذلك حاله عندما يموت، كيف سيكون مجلس عزائه؟! أي كلمة ثناء ستقال عنه؟! أي شيء من محاسنه سيذكر؟! عافانا الله وإياك من سوء الخاتمة.
إنها -أخي الكريم- ليست هي العقوبة الوحيدة، وليست هي العقوبة الكبرى، بل هي عقوبة عاجلة، وما بعد ذلك عند الله عز وجل أشد وأطغى.
فهل يليق بك أن تمتع نفسك بلذة عاجلة سرعان ما تزول، مقابل أن تتعرض لهذا الجحيم، وهذا الألم الذي لا يطاق؟ مصيبة أخرى وكارثة أخرى: قد تقع يوماً من الأيام بصورة أو بأخرى في قبضة رجل الأمن، أو رجل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتودع السجن، وحينئذٍ ماذا سيقول الناس عنك؟! ومن سيثق فيك؟ ومن سيثني عليك؟ وحين تخرج من السجن بعد ذلك كيف سينظر الناس إليك؟ تخرج من السجن فقدت وظيفتك، وفقدت دراستك، وفقدت سمعتك، وفقدت كل ما تملك أمام الناس، فأصبح الناس ينظرون إليك بنظرة خاصة، بل حتى الذي ينظر إليك بنظرة الإشفاق ستتخيل أنه ينظر إليك بنظرة المقت؛ لتلك النفسية والجحيم الذي تعيشه.
وبعد ذلك تبحث عن الزواج، ثم تتقدم لعائلة عفيفة كريمة، فيسأل عنك، فيقال: قد دخل السجن، فتخيل من ذا الذي سيوافق على أن يضع ابنته عندك؟! حينئذٍ تضطر إلى أن تتزوج إحدى اثنتين: إما فتاة لم تجد من يتقدم لها، ووجد والدها أن أهون الشرين أن تكون أنت زوجها، أو أن تجد فتاة شاركتك الحياة، وكانت قد دخلت السجن قبلك، أي حياة تعيشها بعد ذلك مع هذه الفتاة؟ أخي الكريم! والله إني لا أتمنى لك هذا المصير، ولكن أقول: إن طريق المعصية وطريق الفساد بوابة لهذا المصير الذي قد تصير إليه.(53/16)
أعلن البراءة اليوم قبل الغد
الصفحة الثالثة عشرة: أعلن البراءة اليوم قبل الغد: عندما وجهت السؤال لبعض الشباب: ما الذي يمنعك عن الاستقامة؟ وما الذي يحول بينك وبينها؟ فأجابوا جميعاً بالحرف الواحد: إنه صديق السوء، وزميلي وجليسي، ويشير إلى صاحبه الذي يجلس بجواره، وأيضاً الكثير من الشباب الذين أجابوا في الأوراق التي أرسلت إليهم أفادوا أن جليس السوء وزميل السوء من أكبر العوائق عن سلوك طريق الاستقامة والهداية.
وتقول بعد ذلك: لا أستطيع أن أتخلى عنه، يجب أن تعلم أنه لابد من الفراق، ولابد من البراءة منه شئت أم أبيت، الآن أو غداً، فقد تتبرأ منه يوم القيامة {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً * يَا وَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27 - 29].
فتبرأ منه الآن قبل أن تقول يوم القيامة يوم لا ينفع الندم: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28].
تبرأ قبل أن يقول قرينك: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27].
وقبل أن يقال: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38].
فلابد أن تعلن البراءة، ولابد أن تقول هذه الكلمة، فإن لم تقلها الآن فستقولها غداً، فأيهما تختار؟ وأي الأمرين أهون عليك؟ أن تقولها الآن فتسلك طريق السعادة، وتحمد الله على الهداية، أو أن تقولها يوم لا ينفع مال ولا بنون، يوم تعض على أصابع الندم، يوم أن تتمنى الرجوع وهيهات هيهات ذلك!(53/17)
وإليك البديل
الصفحة الرابعة عشرة: وإليك البديل: حينما نطلب منك أن تتخلى عن جلساء السوء، فإننا لا ندعوك إلى أن تعيش وحيداً، ولا ندعوك إلى أن تعيش حبيس حوائط أربعة، ولا ندعوك إلى أن تكون كأختك، بل ندعوك إلى بديل آخر، إلى رفقة يقول الله عز وجل عنهم يوم القيامة: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
قارن -أخي- بين الحالتين، بين من يقول: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:28]، ويقول: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} [ق:27]، ويقول: {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:38]، وبين أولئك الذين قال الله عنهم: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، نعم، إنهم الصحبة الصالحة، والرفقة الصالحة.
ليس هذا فقط، فهناك نعيم آخر، يقول الله عز وجل يوم القيامة: (أين المتحابون بجلالي؛ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي).
ليس هذا فقط، بل هناك نعيم آخر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (المتحابون بجلال الله على منابر من نور يغبطهم النبيون والشهداء).
أما بعد دخول الجنة فيزول كل ما في القلوب، {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
أما أولئك فيقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، أولئك يدعون على قرنائهم، ويلعنونهم، ويتبرءون منهم، أما هؤلاء فقد نزع الله ما كان في قلوبهم من غل.
إنه بديل فعلاً خير لك من هذا الجحيم الذي تعيشه، والذي عبرت أنت عنه بأنه رفيق السوء وزميل السوء.(53/18)
أيهما تختار
الصفحة الخامسة عشرة: لقد أفاد الكثير من الشباب أن الذي يعوقهم عن سلوك طريق الاستقامة هو الشهوة المحرمة، واسمع ما قاله أحد الشباب، يقول: هناك كلمة أخيرة أحب أن ألقيها، وهي مشكلة حياتي وعمري، ألا وهي شهوة الجنس، فأنا أعتبرها كأنها أشد من إدمان الهروين والعياذ بالله، فماذا أفعل عندما أرى بنتاً في الشارع مثلاً، أو امرأة تشتد الشهوة على الرغم من أنني لا أسمع الأغاني، ولا أشاهد التلفزيون إلا في الأخبار فقط، ولا أشاهد المجلات، فكيف بمن يشاهد ما هو أسوأ من ذلك؟! يقول: ولكن هذه المشكلة لم أجد لها حلاً، وهي المشكلة الوحيدة التي تؤثر على قلبي، وعلى دراستي، وعلى مستقبلي، فماذا أفعل.
ليست هذه الكلمة الوحيدة، إنها مجرد نموذج واحد اخترته مما كتبه وسطره الكثير من أولئك الشباب.
أي البدائل تختار أن تمتع نفسك بالشهوة واللذة العاجلة، والتي تكون نتيجتها مرضاً جنسياً، أو سجناً مظلماً، أو نهاية مؤلمة، أو عقوبة عاجلة من الله عز وجل، أو أن تختار ما يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة: (لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها)، ثم يقول بعد ذلك: (ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً، ولأضاءت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها).
ويقول في الحديث الآخر، وهو في الصحيحين: (أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر، والتي تليها على أضوء كوكب دري في السماء، لكل امرئ منهم زوجتان يرى مخ سوقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب).
فأيهما خير لك الشهوة العاجلة، أم ذاك النعيم المقيم الذي يصفه لك النبي صلى الله عليه وسلم؟! هناك تحقق ما تريد، ولكن مع الرضا والطمأنينة، ومع السعادة واللذة التي لا تزول ولا تحول، أما هذه الدنيا فوالله لو اجتمعت لك كل الشهوات واللذات، فإنها سرعان ما تزول بغمسة واحدة في العذاب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأنعم أهل الدنيا يوم القيامة من أهل النار فيغمس غمسة في العذاب، فيقال له: هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك خير قط؟ فيقول: لا، يا رب).
فأي البديلين خير لك؟ واسمع ما يقول ابن القيم رحمه الله في وصف تلك التي تنتظرك حينما تنتصر على نفسك وعلى شهواتك، والجزاء من جنس العمل، يقول: ولله كم من خيرة لو تبسمت أضاء لها نور من الفجر أعظم فيا لذة الأبصار إن هي أقبلت ويا لذة الأسماع حين تكلم ويا خجلة الغصن الرطيب إذا انثنت ويا خجلة البحرين حين تبسم فإن كنت ذا قلب عليل بحبها فلم يبق إلا وصلها لك مرهم يراها إذا أبدت له حسن وجهها يلذ بها قبل الوصال وينعم تفكه منها العين عند اجتلائها فواكه شتى طلعها ليس يعدم وللورد ما قد ألبسته خدودها وللخمر ما قد ضمه الريق والفم تقسم منها الحسن في جمع واحد فيا عجبا من واحد يتقسم تذكر بالرحمن من هو ناظر بجملتها أن السلو محرم لها فرق شتى من الحسن أجمعت فينطق بالتسبيح لا يتلعثم إذا قابلت جيش الهموم بوجهها تولى على أعقابه الجيش يهزم ولما جرى ماء الشباب بغصنها تيقن حقاً أنه ليس يهزم فيا خاطب الحسناء إن كنت راغباً فهذا زمان المهر فهو المقدم وكن مبغضاً للخائنات لحبها فتحظى بها من دونهن وتنعم وكن أيماً ممن سواها فإنها لمثلك في جنات عدن تأيم وصم يومك الأدنى لعلك في غد تفوز بعيد الفطر والناس صوم(53/19)
كن سابع السبعة
الصفحة السادسة عشرة: كن سابع السبعة: يقول صلى الله عليه وسلم: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلائق، حتى تصير منهم قدر ميل، فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً).
وفي الحديث الآخر: (يعرقون فيذهب عرقهم في الأرض سبعون ذراعاً).
فانظر هذا الهول، وهذه الشدة، وهذا الكرب، وانظر قوله صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -ومن هؤلاء السبعة- شاب نشأ في طاعة الله عز وجل).
هاهي الفرصة أمامك قبل أن يذهب وقت الشباب، فانشأ في طاعة الله، وأقبل على الله، ومهما مضى منك من الصبوة والغفلة، فإنك حين تعود وتقبل على الله عز وجل، وأنت لا زلت في مرحلة الشباب، فأنت أهل لأن تنال هذا النعيم، وما الذي يحول بينك وبين هذا النعيم؟ ولم لا تكون سابع هؤلاء السبعة؟ لم لا تكون صاحب همة عالية، وتتطلع إلى أن تكون من أولئك السبعة؟ أخي الكريم! أليس خيراً لك أن تتطلع إلى هذا النعيم، وأن تسخر زهرة شبابك في طاعة الله عز وجل؟ والله إنه خير لك من كل ما يسعى إليه الكثير من الشهوات واللذات العاجلة.(53/20)
استعد للامتحان
الصفحة السابعة عشرة: استعد للامتحان: يقول صلى الله عليه وسلم: (لن تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين أكتسبه وفيما أنفقه).
سيسأل كل إنسان عن عمره، ولكنه أيضاً يسأل سؤالاً آخر عن هذه المرحلة من حياته، وعن هذه الفترة من عمره، ألا وهي مرحلة الشباب، فستسأل -يا أخي الكريم- عن هذا الشباب فيما أفنيته، فما أنت قائل؟ أأفنيته في السفر، أو في التعلق بالشهوات، أو باللهو واللعب؟ فأنت خصيم نفسك، فأعد الإجابة للسؤال، وخير لك أن تراجع نفسك الآن قبل أن تواجه بهذا السؤال، فحينئذٍ قد تجد ما لا طاقة لك على تحمله.(53/21)
لا تنتظر الموعد الموهوم
الصفحة الثامنة عشرة: لا تنتظر الموعد الموهوم فقد تكون النهاية: ذكر الكثير من الشباب الذين قابلناهم شخصياً، أو الذين أجابوا على الاستمارة أنه ينتظر أن يأتيه حادث مثلاً، أو يموت له قريب، أو يأتيه أي شيء؛ حتى يدعوه إلى التوبة، فيتخيل أنه مع رغبته في الاستقامة لابد أن يأتيه هذا الموعد الموهوم، ينتظر هذا الوهم أن يتحقق، نعم قد يتحقق، ولكن قد تموت قبل أن يتحقق لك هذا الأمر، وقد يكون هذا الشخص الذي تتمنى أن تتعظ به هو أنت، ويتعظ بك غيرك، وقد يكون هذا الحادث الذي تنتظر أن يصيبك فيهزك هزاً ويوقظك من غفلتك هو النهاية لك.
فلم تخادع نفسك؟ ولم التسويف؟(53/22)
لا تقطع الحبل الموصول
الصفحة التاسعة عشرة: لا تقطع الحبل الموصول: يقول الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186].
ويقول الله سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ} [النمل:62].
ويقول صلى الله عليه وسلم أعلم الخلق بربه: (ما على وجه الأرض مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، أو صرف عنه من السوء مثلها).
ويقول أيضاً صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم حيي كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه أن يردهما صفرا).
فإن الله سبحانه وتعالى يسمع دعاءك حينما تتوجه له بقلب صادق، وحينما تقطع الحبل والثقة من غير الله عز وجل، وتتوجه إلى الله، فتسأله التوبة والهداية والثبات، فثق -يا أخي الكريم- أن الله سبحانه وتعالى سيجيب دعاءك، وسيسمع دعاءك، {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأَرْضِ} [النمل:62].(53/23)
عبارات كتبها بعض هؤلاء الشباب
قبل أن أصل إلى الصفحة الأخيرة اقرأ بعض العبارات التي كتبها بعض هؤلاء الشباب: كان من الأسئلة الموجهة لهم: كلمة تقولها لكل من: الدعاة، الأساتذة، الآباء، الشباب الملتزمين، الشباب غير الملتزمين.
وكان السؤال الأخير: كلمة أخيرة تود أن تقولها.
وفي الواقع أنه قد وردت علي كلمات عديدة تستحق أن تقرأ، ولكن الوقت يضيق، وعلى الأقل من حق هؤلاء الذين كتبوا هذه الكلمات أن نقرأ نماذج منها، وليعلم هؤلاء أن عباراتهم وصلت، وأن ما أبدوه قد وصل إلينا.
من عباراتهم للدعاة: يقول أحدهم: أكثروا المحاضرات خاصة في المدرسة.
والآخر يقول: الدعاة قليلون هذه الأيام.
وأما رسائلهم للأساتذة: فيقول أحدهم: تهيئة ظروف الالتزام، وإعطاء الفكرة الصحيحة عنه.
والآخر يقول: إن الأمانة التي في عنقك كبيرة، وأنت مسئول عنها.
وأما رسائلهم للشاب الملتزم: فمنهم من يقول: أن يحمد الله على الهداية.
والآخر يقول: تقديم النصيحة لغير الملتزمين مرة ومرة.
والآخر يقول: أن ينظر أمامه، ولا يبالي بمن يسخر به، فهو أفضل منهم.
والآخر يقول: أتمنى أن أكون مثلهم.
والآخر يقول: هم قدوتنا نحو الصلاح.
وآخر يقول: عدم التفكير في الرجوع إلى ما كانوا عليه.
وأخيراً: يقول أحدهم: كم أسر عند رؤيتكم يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
إن هذه عبارات الشباب الذين يعيشون حالة الغفلة والإعراض، ولا شك أنها تعطي دلالة على ما قلناه في الصفحة الثانية: أن هؤلاء لديهم جوانب كثيرة من الخير.
أما وصيتهم لرفاق الدرب غير الملتزمين، فهي وصايا كثيرة منها: الالتحاق بركب الملتزمين، والتأمل هل هم على طريق مستقيم أم لا؟ وسوف يجد أنه على غير الطريق المستقيم، والالتزام والبحث عن أسباب الهداية، والتفكير في وماذا بعد، والجنة تنتظر المسلمين، وأقول لكم: إنكم لستم سعداء، فالسعادة في الدين، والابتعاد عني، وأخذ العبرة ممن سبقوا، واستحقار هذه الدنيا.
ولست أرى السعادة جمع مال ولكن التقي هو السعيد هذا بعض ما قاله هؤلاء لرفاق دربهم وزملائهم.
أما الكلمة الأخيرة: فهناك كلمات كثيرة تعبر عما في نفوس هؤلاء الشباب، ولنقرأ بعضها: أحدهم يقول: كنت أتمنى منذ الصغر أن أكون شيخاً وخطيباً، فكيف يكون ذلك؟ والآخر يقول: لو سمحت -يا أخي- أن تدعو لي بالهداية، وجزاكم الله خيراً.
والآخر يقول: أحيي فيك الروح الطيبة لإخوانك المسلمين.
والآخر يقول: أرجو الإفادة منه -يعني البحث- والإكثار من هذه الوسائل؛ لأن الإنسان يقول ما بداخله دون خوف من أحد، ويصبح قادراً على إبداء رأيه في أي ساعة وأي مكان.
والآخر يقول: إن السعادة الحقيقية حقاً في الالتزام.
والآخر يقول: هل من مزيد؟ وآخر يقول: وإن شاء الله مهما بعد الزمن فسوف أعود إلى الله، وأعمل الأعمال الصالحة إن شاء الله تعالى.
والآخر يقول: كلمتي الأخيرة أقولها للدعاة والشباب أن يتقوا الله فينا، فيجب العمل والمبادرة إلى ما يرضي الله سبحانه وتعالى.
وآخر يقول: أتمنى أن تدعو لي بظهر الغيب، وأن أكون ملتزماً، وأدخل الجنة.
وآخر يقول: لا يسعني إلا أن أشكركم على حسن تلطفكم معنا، ووالله إني أحب الإيمان والالتزام، ويشهد الله على ما أقول؛ لأنه لا أحد يدري عما تكن الأنفس، يحفظكم الله ذخراً لنا.
والآخر يقول: أود أن أشكر الأستاذ على هذا الاستبيان، وإن شاء الله في الاستبيان الثاني يكون ردي على سؤالك هل أنت ملتزم أم غير ذلك؟ أقولها بكل سرور: إنني ملتزم بما أمرني الله، وجزاكم الله خيراً.
والآخر يقول: لا أقول إلا جزاكم الله خيراً، والله ولي التوفيق، هذا ما قلته عن نفسي، وهو الحقيقة، ويشهد على ذلك رب العزة والجلال، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
والآخر يقول: أنا قلبي يتقطع من داخلي، وأريد أن أرجع إلى الله، ولكن أحس بشيء في داخلي يحاول إبعادي وتكريهي في ذلك، وكلما أحاول البعد عن العادات الخبيثة، وأنا أريد أن أرجع، ولكن ما العمل؟ والله يعلم ما في قلبي، أنا أحب الله ورسوله والطاعة، ولكن ما العمل؟ أعتذر للإطالة، ولكن هذا بعض حق إخواننا علينا أن نقرأ ما قالوه، وما عبروا به، بعبارات يغلب على ظننا جميعاً أنها عبارات صادقة، صادرة من قلوب صادقة، وهذا يؤكد لنا ما قلناه أن الكثير من هؤلاء يتطلع لسلوك طريق الاستقامة والالتزام.(53/24)
لا تيأس واتخذ القرار الحاسم
وأخيراً: نفتح الصفحة الأخيرة: لا تيأس واتخذ القرار الحاسم، فهو العائق الوحيد: الكثير من هؤلاء الشباب يقول: قد فعلت وفعلت، وارتكبت الفواحش، وفعلت المعاصي، وارتكبت من الكبائر والموبقات ما أظن أنه لن يبقى بعد ذلك أمل لي في التوبة والإقلاع، فإلى هؤلاء نسوق قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} [الزمر:53 - 54].
وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:68 - 71].
واعلم -أخي الكريم- (أن الله سبحانه وتعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل).
واعلم (أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟).
واعلم -أخي الكريم- أن الله سبحانه وتعالى يقول لك: (ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني؛ غفرت لك ما كان منك ولا أبالي).
الأمر -أخي الكريم- لا يقف فقط عند قبول التوبة، بل إن الله سبحانه وتعالى وهو الغني عن عباده يفرح بتوبة عبده فرحاً أشد من فرح من أضل دابته في أرض فلاة ثم وجدها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم يصور لنا ذلك المثل: (رجل كان في صحراء مع دابته عليها طعامه وشرابه، فأضلها في أرض فلاة، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ وجدها عند رأسه، فالله عز وجل يفرح بتوبة عبده أشد من فرح هذا الرجل بدابته).
فاتخذ القرار الحاسم، وقرر أن تودع الغفلة والضلال إلى غير رجعة، وقرر من هذه الساعة التي تندم فيها على ماضيك، قرر قراراً حاسماً، وتخل عن كل دواعي المعصية، وعن قرناء السوء، وعن ذرائع المعصية، وعن كل ما يدعوك إليها.
واعلم -أخي الكريم- أنك عندما تتوب إلى الله توبة صادقة، وتقبل على الله عز وجل، فإن الله سيستجيب لك، وستجد صعوبة في أول الطريق، لكنها الضريبة للسعادة، وستجد عقبات نعم، لكنها البوابة لأن تذوق بعد ذلك لذة الإيمان، وطعم الإيمان.
أختم بعد ذلك هذه الصفحات بهذه الوصية، أسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون قد صدرت من قلب صادق، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، وأن يرزقنا وإياكم استماع القول واتباع أحسنه.
بعد ذلك لعلي أن أجيب باختصار على هذه الأسئلة التي وردت.(53/25)
الأسئلة(53/26)
نصيحة بتعجيل التوبة
السؤال
يوجد بعض الشباب من يضع في مخيلته أن التوبة لا تكون إلا بعد فاحشة يقوم بها الإنسان، أو بعد حادثة شنيعة تحدث له، أرجو منكم تصحيح هذا الشعور عند بعض الشباب؟
الجواب
أما ما يتعلق بالحادثة فقد أجبت عليها فيما مضى، وأما قضية أن يتخيل أنه سيفعل فاحشة ثم يتوب بعد ذلك، أو يفعل معصية، فقد تكون هذه المعصية سبباً في سوء خاتمته، وقد يموت وهو على هذه المعصية، وقد تكون هذه المعصية سبباً في أن تكون عائقاً بينه وبين التوبة، فلا يليق أبداً بالذي يؤمل في التوبة أن يسوف أو يؤخر.(53/27)
لا بد للتوبة من فعل الأمر واجتناب النهي
السؤال
قد يقف عقبة أمامي في الالتزام صعوبة تطبيق الأوامر واجتناب النواهي، فهل من وسيلة أو حل؟
الجواب
ليس هناك وسيلة غير ذلك، يقول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (حجبت الجنة بالمكاره).
لابد من صعوبات، ولابد من عقبات، خاصة في أول الطريق، ولكن هذه الضريبة، أتريد السعادة في الدنيا والفوز بالآخرة هكذا؟! ما قيمة أولياء الله إذاً، وما قيمة المتقين إذا لم يكن هناك صعوبات ومشاق.(53/28)
التخلص من قرناء السوء
السؤال
كيف يتخلص الشاب من الأصحاب السيئين، مع العلم أنه لا يجد غيرهم، فمن الصعب أن يجلس بدون أصحاب؟
الجواب
أما كونه لا يجد غيرهم فهذه مغالطة، وإن لم يجد غيرهم فالوحدة خير له من جليس السوء، أما كيف يتخلص منهم؟ فعندما يعلم أنه لابد أن يتبرأ منهم، وإن لم يتبرأ منهم الآن، فسيتبرأ منهم يوم القيامة، فليخسر أهون الطريقين عليه.(53/29)
الحل لاضطهاد الوالدين بسبب الالتزام
السؤال
إنني أعاني من اضطهاد في البيت بسبب التزامي من جهة الوالد والوالدة، فما هو الحل في وجهة نظرك جزيت خيراً؟
الجواب
الحل ليس إلا المجاهدة، والصبر، والتحمل، ليس غير ذلك أبداً، وكما قلت: أتريد طريق الجنة بسهولة، لا يمكن، ليس إلا المجاهدة، وقد تعرض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لأشد مما تعرضت إليه، فجاهد، وتوجه إلى الله بالدعاء الخالص واصبر، واعلم أن الفرج مع الصبر، وأن مع العسر يسراً.(53/30)
كسر الحواجز الحائلة دون مصاحبة الأخيار
السؤال
أنا شاب ملتزم إن شاء الله، ولكن أجد في نفسي شيئاً من مخالطة الشباب الملتزم، مع علمي ما لفائدة الشباب الصالح، فما السبيل إلى كسر تلك الحواجز، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
لابد أن تتحمل، وخير لك أن تجالس الأصدقاء الأخيار، ولو وجدت منهم ما تجد، ولو أصابك ما أصابك، فهم خير لك من أن تجالس الآخرين، وتندم وتتبرأ منهم يوم القيامة، والبشر لابد أن يكونوا كذلك، ولا تتخيل أنك عندما تجالس الأخيار والصالحين ستعيش في جنة، وستعيش في نعيم، فلابد أن يحصل ما يكدر، أليس أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد حصل بينهم ما حصل؟ أليس الله يقول: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} [الحجر:47]؟ فهذا الوضع الذي تتطلع إليه لن يكون إلا في الجنة، فلن ينتهي الغل، ولن تنتهي الأمور كلها إلا في الجنة، لابد من وجود شيء في النفوس، وأنا لا أدعو الإنسان إلى أن يحمل على إخوانه، لكن أقول: لابد أن يحصل ما يحصل، أما السعاة الأبدية فهي في الجنة.(53/31)
مجاهدة النفس على ترك الحرام
السؤال
أنا شاب في الثامنة عشرة من عمري، أستعمل بعض المحرمات مثل الدخان، وأشياء أخرى مثل العادة السرية، وقد سقطت في اللواط وتبت إلى الله، وتركت الدخان، ولكن العادة السرية لم أستطع تركها، فأرجو نصحي بتركها، والله أعلم، وجزاكم الله خيراً، أرجو قراءتها لأنني في حيرة من أمري؟
الجواب
هذا الأمر يشتكي منه الكثير من الشباب، ولا حل له إلا المجاهدة، أنت تعلم -يا أخي- أن هذا أمر محرم، ولا يجوز لك، وتعلم أن هذه لذة عاجلة تجدها الآن ثم تزول، ويعقبها بعد ذلك ما يعقبها من الأمراض التي قد تنشأ عنها، من الآلام، ومن الهم النفسي، ومن حسرة فقد اللذة إن كنت لازلت مصراً عليها، أو من التألم لفعل المعصية إن كان في قلبك خير، فلماذا تشتري كل تلك الآلام مقابل تحصيل هذه اللذة العاجلة؟ كم تبقى معك هذه اللذة؟ ثواني ولحظات عاجلة، ولكن انظر البديل عندما تجاهد نفسك، وتنتصر على نفسك، صحيح أنك ستجد صعوبة وآلاماً في البداية، ولكن بعد ذلك تشعر بلذة الإيمان، ولذة الانتصار على النفس، وما هو أعظم من ذلك ثواب الله عز وجل.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم جميعاً لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه، وأن يمنّ على إخواننا الشباب بالهداية والتوفيق.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(53/32)
سوء الفهم آفة
تحدث في مجتمعاتنا كثير من المشاكل والأزمات بسبب سوء الفهم المرتكز على خلفيات سابقة أو الناتج عن سوء نية أو سوء ظن أو غير ذلك، وهذا بدوره يزيد التفكك في المجتمع ويزرع الأحقاد، ولكن يمكن تداركه بعلاج المشكلة من أساسها وقطع الشر من جذوره.(54/1)
مقدمات بين يدي الموضوع
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فسيكون عنوان حديثنا هو: (سوء الفهم آفة).
مقدمة سريعة بين يدي الموضوع.
ثم سوء الفهم متى يكون آفة ومتى لا يكون آفة؟ وأخيراً: أسباب سوء الفهم.
وبعد ذلك مقترحات للعلاج.
نسمع كثيراً أن فلاناً قال كذا، وفلاناً فيه كذا، وذلك في الحكم على الأشخاص، والحكم على الكتب، والحكم على الجماعات، والحكم على المجتمعات، والحكم على الأعمال والجهود.
نسمع أحكاماً متناقضة ومتباينة، بل نسمع من يقول: إن فلاناً يقول كذا وكذا، ويعتقد كذا وكذا، فيقول الرجل بأعلى صوته: إني لا أقول كذا، إني لا أعتقد كذا، إني براء من كذا، فيقال له: كذبت، بل أنت تقول كذا، أو بعبارة أخرى: نحن أعلم منك بكلامك، وربما نحن أعلم منك بما في قلبك، ونحن أعلم منك بنيتك! إن هذا لسان حال كثير من الناس الذين يحاكمون الآخرين إلى أفهامهم، وإلى نظراتهم وقناعتهم.
ثمة ظاهرة عادية تحصل بيننا كثيراً في الاتفاق على موعد أو مناسبة، أو في نقاش قضية من القضايا، فنفترق وكل منا في ذهنه أن الاتفاق قد تم على كذا وكذا، ونختلف في الموعد، ثم يحصل النقاش والجدل، يقول أحدهما: اتفقنا على كذا، والآخر يقول: لا.
إنها مظهر من مظاهر سوء الفهم، فأحدنا قد أساء الفهم إما أنا وإما أنت، المهم أنه مظهر تقف فيه أنت أمام الشخص، فتقول له: كان الموعد في الوقت الفلاني، فيقول: لا، الموعد قبله أو بعده، ولا يوجد احتمال للكذب ولا الروغان، فهو زميلك وصديقك، وقد تكون هناك مصلحة مشتركة، فليس هناك إلا احتمال واحد هو سوء الفهم.
وحينئذٍ نحكم العقل أحياناً، ونحكم المنطق؛ لأننا نحتاج إليه، وتنتهي هذه المشكلة.
لكن سوء الفهم قد يمتد إلى ذلك، وأحياناً تنتج عنه مواقف ونتائج سلوكية أخرى، ومن ثم كان لابد من الحديث عن سوء الفهم.(54/2)
متى يكون سوء الفهم آفة؟(54/3)
أمثلة لسوء فهم النصوص الشرعية
النقطة الأولى: متى يكون سوء الفهم آفة؟ أولاً: أمر عادي أن يسيء المرء الفهم، أو أن يخطئ في الفهم، وهذا يحصل في حياتنا كثيراً، كما ذكرت في المثال السابق، فأنت مثلاً تسمع كلاماً من فلان من الناس، فتفهم منه أنه يقصد كذا، وتكتشف خلاف ذلك، فأحياناً يأتي الموظف إلى المدير، فيفهم منه أنه موافق على مشروع معين، أو على برنامج يقترحه، ويبدأ بالتنفيذ، فيساءل من قبل المدير نفسه، فيقول: إنك قد وافقت، فيقول: لا.
أي أنه حصل سوء فهم.
بل إن الخطأ في الفهم حصل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في مواطن كثيرة أشير إلى بعضها إشارة عاجلة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في غزوة بني قريظة في قصة مشهورة: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، فكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أخر صلاة العصر حتى وصل إلى بني قريظة بعد خروج الوقت، ومنهم من فهم النص فهماً آخر، ففهم أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد منهم أن يعجلوا في المسير إلى بني قريظة، ومن ثم أدوا الصلاة في الطريق.
لا يهمنا الآن أن نقرر ماذا كان يقصد النبي صلى الله عليه وسلم، لكن على كل حال منهم من أخطأ فهم نص النبي صلى الله عليه وسلم.
صورة أخرى ومثال آخر: يقول الله عز وجل: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة:187]، فجاء عدي رضي الله عنه، فوضع خيطين عند وساده أبيض وأسود، وأصبح ينظر إليهما، فلما استبان له الأبيض من الأسود أمسك، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له مداعباً: (إن وسادك لعريض -أي: كأنك قد توسدت الأفق- إنما هو سواد الليل وبياض النهار).
نحن الآن أمام خطأ في الفهم وقع من أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأخطأ في فهم هذه الآية، فظن أن المقصود هو أن يتبين له الخيط الحقيقي الأبيض من الأسود.
يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وخطب أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقال: إنكم تقرءون هذه الآية، وتضعونها على غير موضعها، أي بعبارة أخرى: إنكم تخطئون في فهم المقصود من هذه الآية.
إذاً: فكان هناك من يخطئ في فهم هذه الآية ممن كان يخاطبهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
قال الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93]، فهم بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من هذه الآية فهماً آخر، فمنهم من شرب الخمر متأولاً هذه الآية في عصر عمر رضي الله عنه، ثم دعاهم وقررهم بالحكم، لا يهمنا الآن بقية القصة وما يتعلق بها.
الشاهد: أن هناك من فهم من هذه الآية أن المؤمن ليس عليه جناح في أي أمر يطعمه أو يشربه إذا آمن بالله عز وجل، وعمل صالحاً.
يقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158]، عروة بن الزبير رحمه الله سأل عائشة رضي الله عنها فقال: أرأيت قوله تعالى، ثم ذكر الآية، ففهم عروة رحمه الله من هذه الآية أنها تدل على أن الطواف بالصفا والمروة ليس واجباً، فصححت له عائشة رضي الله عنها هذا الفهم، وأخبرته بسبب نزول هذه الآية الكريمة.
لعلي أقتصر على هذه الأمثلة، وقصدت أن أمثل بالخطأ في فهم النصوص الشرعية، لما كان للجيل الأول من الاحتراز والتعامل مع النصوص الشرعية بعقلية كبيرة، ومع ذلك يقع بعضهم في هذا الفهم الخاطئ.(54/4)
آفة سوء الفهم الإلزام به
سوء الفهم أمر لابد أن يقع المرء فيه لأنه بشر، ولأن المتحدث قد لا يزن حديثه، أو قد يكون حديثه أحياناً ملتبساً، أو مدعاة لسوء الفهم.
فأن نطالب الجميع بالتخلي عن سوء الفهم، أو نحاكم الجميع على سوء الفهم، ونرى أن الجميع يجب أن تصح أفهامهم بنسبة 100%، أتصور أنه مطلب غير معقول.
فلابد أن يقع المرء في الخطأ في الفهم، لكن متى يكون سوء الفهم آفة؟ ونحن لن نتحدث عن هذه القضية جملة، فلن نتحدث عن سوء الفهم وما يتعلق به، ولكن عن جانب من الجوانب، وعن مرض يحصل كثيراً في الساحة، وسببه سوء الفهم، ومن ثم سيتركز حديثنا حول هذه الظاهرة.
يكون آفة حينما يكون قاعدة يحكم بها على الآخرين، أي: أن أحكم على الآخرين من خلال فهمي لكلماتهم، أو أقوالهم، أو أعمالهم، أو مواقفهم، وتسمع هذه الكلمات التي تعبر عن أعمال القلوب: هو يقصد كذا، يريد كذا، يظهر خلاف ما يريد، يتظاهر بكذا، وكلها أمور تدور حول قضية قلبية، يعني: أننا قد تجاوزنا الظاهر إلى ما يخفيه ويعتقده صاحبنا، فقد أصبحنا نملك وسيلة نستطيع بها أن نحكم على نوايا الآخرين، وأن نطلع على نوايا الآخرين.
إذاً: فحينما يكون قاعدة تجعلني أحاكم الآخرين دائماً إلى ما أفهمه من مواقفهم وأعمالهم وجهودهم، وما يقومون به، فهذه آفة، وحينئذٍ نقول لمن يكون كذلك: لا يسوغ لك أن تحاكم الآخرين إلى فهمك، قد تقول: ها أنت عرضت لي قائمة وأمثلة طويلة من أمور اجتهد فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأخطئوا الفهم مع نص شرعي، فكيف لا أخطئ في الفهم أنا.
أقول: نعم، من حقك أن تخطئ الفهم، وبعض الناس عقله لا يؤدي به إلا إلى الفهم السقيم، لكن هذا شيء وأن تجعل فهمك قاعدة تحاكم الآخرين إليها شيء آخر.
حين أنقل عن الآخرين بناء على فهمي أيضاً هذا خطأ، وحينما أنقل يجب أن أكون دقيقاً في النقل، فأقول: قال: كذا وكذا، أو فعل كذا وكذا، وفهمت أنا أنه يقصد كذا، أو أنه يريد كذا، فمن حقك أن تقول هذا الكلام، لكن لا تنقل عن الآخرين شيئاً فتقول: إن فلان يقول كذا، أو إن فلان يعتقد كذا، أو يريد كذا، وتقتصر على هذا الكلام، ومعيار النقل وأساس النقل هو فهمك أنت.
وبعض الناس عنده منطق عجيب، مرة كان يناقشني شاب في مقال كتبته، فقال لي: إن الناس الذين تقصدهم في هذا الكلام عندهم كذا وكذا، فقلت له: يا أخي! أنا لا أقصد أحداً بعينه، وهذا وهم في ذهنك، فيقول: بل أنت تقصد! يعني: أنت الآن تخبرني بما أقصد وبما لا أقصد وبما أريد، إذا كنت أنا متهماً عندك بالكذب فليس هناك داع أن تناقشني، لأنني أصبحت كذاباً! فأنت من حقك أن تفهم أني أقصد شخصاً، لكن يجب أن يبقى فهماً لك ولا تلزمني به، لأنه حينما يكون سوء الفهم وسيلة للإلزام يصبح آفة، وسنأتي إلى الحديث عن الإلزام.(54/5)
أسباب ظاهرة سوء الفهم
ننتقل بعد ذلك إلى الحديث عن أسباب هذه الظاهرة، وقد نتحدث عنها بالتفصيل:(54/6)
فساد النية
السبب الأول: سوء النية: أحياناً يكون الرجل صاحب نية سيئة أصلاً، فهو مثلاً يسمع لفلان، لا لأجل أن يسمع له، ويقرأ لفلان وينظر إلى عمل فلان ويسأل، كل هذه الأمور لا لأجل أن يستفيد، وليس عنده استعداد أن يستفيد، إنما يبحث عن مدخل للطعن.
فهو إذاً سيئ النية ابتداءً، لكنه يقول لك: أنا لست بسيئ النية، أنا أعتقد أن هذا عدو للإسلام والمسلمين، أنا أعتقد أن هذا رجل سيئ، فمن باب الدفاع عن الدين سأقرأ له وسأسمع حتى أكتشف أخطاءه وأحذر منه الناس.
أحياناً يأتي شخص من المسلمين عالم أو طالب غيور، فيريد أن يقرأ لكاتب من الكتاب، ولنفترض أنه كاتب سيئ أو عنده انحراف، فيبدأ يقرأ بالمناقيش، وهنا لابد أن يقع أحياناً في سوء الفهم؛ لأنه يبحث عن الخطأ، بغض النظر عن موقفه هنا هل هو سليم أم لا.
لكن لماذا وقع في سوء الفهم هنا؟ لأنه يقرأ لأجل أن يبحث عن الخطأ، كما لو كنت تريد أن تقرأ ورقة مثلاً، فتبحث عن خطأ نحوي فيها، أو خطأ إملائي، فأنت لا يهمك الصواب ولا يهمك أي شيء، إنما تقرأ لتبحث عن الخطأ، وأن تصحح.
المهم أنك أصبحت تريد الخطأ وتبحث عنه، ومن ثم فستقع على الخطأ قطعاً، لكنك قد تقع على ما ليس خطأ، فمثلاً: لو كان الأخ مدرساً للغة العربية، فعندما أعطيه هذه الكلمة وأقول له: قيمها، فيمكن أن يقرأ الآن ويقول لك: هذه الكلمة فيها خلاف بين النحويين، وهذه لا تجوز، وهناك رأي يمنع هذا الشيء، أو هذه فيها احتمال، لماذا؟ لأنه يبحث عن خطأ.
لكن لو كان يقرؤها قراءة عادية متجردة قد يجد أنها لا إشكال فيها، وأن استعمالها سائغ، لكن عندما يقرأ ليبحث عن خطأ، سيجد أشياء هي أصلاً محتملة، لكنه سيحملها على المحمل الخاطئ لغة، أو الخاطئ في أي باب نبحث فيه ونناقش.
فيأتينا الآن مثلاً هذا الشخص فيقرأ، أو يسمع، أو يقيم عملاً معيناً، وهو يبحث عن الأخطاء، فسيقع على أخطاء، ويجب ألا نكون عاطفيين، فنقول: إن كل ما يتحدث عنه ليس أخطاء، بل سيقع على أخطاء، لكن هذا سيقع على كلمة تحتمل وجهين.
أنت عندما تسمع أو تقرأ ستجد الكلام يحتمل وجهين، ويحتمل عدة احتمالات، فعندما تقرأ وأنت تبحث عن الخطأ، فستحمل الكلام على الوجه الخاطئ وربما لا يحتمل.
وكم نجد من الناس من يقول كلاماً في كتاب، أو في مجلس، أو في مناسبة، ثم في مجال آخر يأتينا كلام يحتمل أنه يريد هذا الشيء، ثم في مجال آخر يصرح تصريحاً قاطعاً بخلاف هذا، ومع ذلك نرفض هذا الكلام، فنسلط الضوء على هذه العبارة الصغيرة، أو على هذا الموقف الصغير، وما سواه نرفضه.
وقد يقول: أنا لا أقصد كذا، وأنا لا أريد كذا، فيقال: لا، أنت تقصد كذا، وتريد كذا، يعني: بعبارة أخرى: نحن أعلم منك بما في نفسك، وأعلم منك بما تريد، وأعلم منك بما تقول، وإذا شككت في نيتك فعليك أن تسألنا، فنحن قد أصبحنا على مستوى من الاطلاع على النوايا.
إن هناك فئة ممن يأتي بسوء نية، قد لا يكون سوء النية قصد القضاء على الإسلام والمسلمين، وقد لا يكون الحرب على الدين، فقد يكون دفعه إلى ذلك حسده لفلان من الناس، وكم واجه شيخ الإسلام ابن تيمية وعبد الغني المقدسي وغيرهم من أئمة أهل السنة من مضايقات، ومن تحميل كلامهم ما لا يحتمل، وقالوا: خالف الإجماع في هذه القضية، وفعل كذا، وفعل كذا، حتى عندما ناظروا شيخ الإسلام في الواسطية قالوا له: لماذا قلت: من غير تكييف ولا تمثيل، ولم تقل: ولا تشبيه؟ يعني: لك مقصد في هذه العبارة! فأولئك منهم من كان صاحب علم، لكنه يحمله الحسد، ويحمله البغي، فصار عنده هذا الشعور، وكون نظرة معينة فصار يبحث لأجل هذه القضية.
ومن هذا القبيل النتائج التي يصل إليها المستشرقون في أبحاثهم، فالمستشرقون مثلاً يقرءون نصوص الكتاب والسنة والتاريخ الإسلامي، ويخرجون لنا بأقوال مضحكة، ويدعون تناقضات وأخطاء، إلى غير ذلك.
هناك عدة أسباب تحول بين المستشرقين وبين الفهم الصحيح، من هذه الأسباب: سوء النية، لأنه يقرأ ويبحث بنية معينة، فصار تلقائياً يفهم هذا الفهم، وينصرف إلى ذهنه مباشرة هذا الفهم السيئ، لأنه صاحب نية سيئة.(54/7)
سوء الظن
السبب الثاني: سوء الظن: صاحبنا الأول يقصد النقد، ويسعى إلى النقد، ويهدف إلى النقد، ويهدف إلى سوء الفهم، لكن صاحبنا الآخر قد لا يكون كذلك، لكنه إنسان سيئ الظن، ولهذا سيسيء الفهم.
فبعض الناس الحساسين يقول زميله كلمة، فيقول: يقصد كذا وكذا، يريد كذا، ويحلل الكلمة ألف تحليل، فيسيء الفهم.
والله عز وجل ينهانا ويأمرنا باجتناب الكثير من الظن؛ حتى لا نقع في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12]، فليس كل الظن إثماً، وإنما بعض الظن إثم، لكن يجب أن نجتنب كثيراً من الظن حتى لا نقع في هذا البعض من الظن الذي هو الإثم.
فعندما يسيء الإنسان الظن في شخص فلابد أن يسيء الفهم تلقائياً.
أنا أذكر شخصاً حساساً كان يناقشني في مشكلة، فقلت له: أسألك سؤالاً هل تعرف أنك حساس؟ قال: لا، لكن أنا عندي ظن وظن وظن وظن، فصارت يقيناً، قلت: عندك وهم ووهم ووهم ووهم فصارت يقيناً، والقضية كلها أوهام.
وتأتي إلى صاحبك فتقول له: أنت تسيء الظن، يقول لك: لا، فلا أحد يعترف أنه يسيء الظن أبداً، يقول لك: لا، هذا أصلاً إنسان سيئ.
فلماذا دائماً نحمل الكلمة على المحمل السيئ؟ ولماذا نحمل مقاصد الناس على المحمل السيئ؟ وأعمال الناس على المحمل السيئ.
إن المنطق العقلي البحت، ومنطق العدل المجرد مع الناس، يجعلني أتجرد من كل هذه القضايا، وأنظر إلى الكلام مجرداً عن كل الأوهام والتحليلات التي عندي، ثم أحاكم هذا الكلام إلى ما يقوله هو في مناسبة أخرى، وإلى أعماله الأخرى، فسأصل إلى نتيجة سليمة قطعاً.
أما عندما يكون عندي صورة متخيلة في الذهن عن فلان أنه يقصد كذا ويريد كذا، فلا بد أن أصل إلى هذه النتيجة السيئة، ولهذا كان الظن أكذب الحديث، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث).
كيف يكون الظن أكذب الحديث؟ يكون الظن أكذب الحديث لأنك تتوهم أن هذا صدق لا شك فيه ولا نقاش، وهو كذب، ويتجاوز الكذب إلى إخبار عن النوايا، فصار أكذب الحديث فعلاً.(54/8)
وجود خلفية سابقة
السبب الثالث: وجود خلفية سابقة سواء كانت حقيقية أو متوهمة: فمثلاً: أنت تأتي تريد أن تصلي الجمعة مع شخص، أو شخص يأتي إلى المجلس، أو مدرس يأتي إلى الفصل، أو إنسان يتحدث مع مجموعة في مناسبة، فيأتيك شخص قبل ذلك يقول: إن هذا عنده كذا وكذا وكذا، ويعطيك خلفية معينة عنه، فإنك عندما تسمع تنتظر الشواهد لهذه الخلفية التي وجدت عندك، فعندما يقول كلاماً، تقول: نعم، هذا أولاً ثانياً ثالثاً، إذاً صدق، وتصبح القضية مجزوماً بها، وهي مجرد خلفية كانت عندك، وقد تصل الخلفية عندك إلى حد اليقين، وليس لها أصل ولا مصدر في الواقع.
عندك نظرة عن فلان من الناس مثلاً أنه إنسان سيئ، أو إنسان مغرض، فعندما يتكلم، أو عندما تقرأ له، ستسمع وتقرأ بروح النقد.
أنا أجزم أني الآن لو آخذ كتاباً واحداً فيه أخطاء، وأعطيه لاثنين متساويين في الفهم والإدراك والتربية، فأعطيه للشخص الأول فأقول: خذ هذا الكتاب واقرأه، وأعطيه للشخص الثاني وأقول له: اقرأ هذا الكتاب لكن احذر، فالكاتب عليه ملاحظات؛ فأنا أجزم أن الشخص الثاني سيصل إلى نتائج وأخطاء لا يصل إليها الأول الذي أتى بدون خلفية مسبقة.
ثم إن الثاني قد يتكلف أخطاء ليست أخطاء في الحقيقة، ويصل إلى نتائج متوهمة أصلاً، لأنه كان عنده خلفية سابقة مبنية على أوهام.
إذاً: فيجب أن أتعامل مع الناس تعاملاً مجرداً، فأزيل هذه الخلفية، لأن الأوهام تتطور أحياناً حتى تصل إلى يقين لا نناقش فيه، وهو أصلاً ليس عنده استعداد أن يناقش في هذه الخلفية المسبقة أن هذا الكاتب -مثلاً- ينتمي إلى جماعة معينة، ويتبنى فكر هذه الجماعة وما تدعو إليه، وأن هذه الجماعة من الجماعات تقصد كذا، وأن هذا الرجل عنده كذا، وأن هذا الرجل له هذا الاتجاه الفكري، أو هذا الاتجاه العلمي، أو المذهبي، وإلى غير ذلك.
فلماذا هذه الخلفية تعشعش في ذهني، وتكون قاعدة انطلق منها في الحكم على الآخرين؟(54/9)
إهمال الظروف المتعلقة بالشخص
السبب الرابع: إهمال الظروف المتعلقة بالشخص: فبعض الناس حاد الطبع، ولهذا قد يقول كلاماً لا يعبر عن حقيقة ما في نفسه، ما في قلبه يخرج على لسانه، وقد يغضب فيغلظ عليك الكلام، وحتى كأن الأرض لن تحملك بعد ذلك، وليس في قلبه أي شيء.
أنا أذكر أستاذاً لنا لا أدري ما أخباره غفر الله له وجزاه عنا خيراً، وهو رجل فاضل، لكن كان شديد الغضب بشكل عجيب، وأحياناً يغضب عليك حتى تضيق عليك الأرض بما رحبت، وتتخيل أنه سيهم بالبطش بك، وفي نفس المحاضرة تخرج معه وتسلم عليه، فيحدثك ويبتسم لك، وما في القلب أي شيء، وتذهب أنت وهو إلى القسم وليس في قلبه أي شيء إطلاقاً.
نحن ما عندنا مشكلة عندما يتكلم معنا، وعندما يقول لنا هذا الكلام، لأننا نعرف أن طبيعة الشخص حادة، والإنسان الحاد يقول كلاماً غير مدروس ولا موزون، فطبيعته أنه يتعجل، ويغضب، والمهم أننا يجب أن نعرف شخصيته؛ حتى نزن كلامه.
الشخص الآخر: إنسان بارد، وهادئ الانفعال، هذا الآخر أيضاً قد يكون في خاطره شيء، لكنه لن يقوله لي؛ لأن الرجل غير صريح، فطبائع الناس تختلف.
وهنا لا بد أن أضع في الذهن أن طبيعة الشخص نفسه تؤثر على كلامه، وعلى حديثه، وعلى أعماله، وعلى قراراته، وعلى مواقفه، وعلى نظراته، فالحكم المتزن هو الذي يأخذ في الذهن طبيعة الشخص.
أيضاً ظروف الزمان والمكان: فمثلاً قد يقول كلاماً في مكان معين فيه ملابسات معينة، وفيه أوضاع معينة، فيدعوه إلى أن يتحمس لهذه القضية أكثر، أو العكس، فقد يتجنب بعض الأمور مراعاة لعامل المكان، أو عامل زمان معين.
المهم أنه يجب ألا تأخذ الكلام مجرداً عن هذه الظروف التي قد تؤثر على كلام الرجل، وعلى ما يريده.
كذلك نقطة ثالثة وهي الموضوع الذي يتحدث عنه، فمثلاً: الآن أنا لو أتحدث معكم عن القراءة، وأهمية القراءة لطالب العلم، فسأتحدث بالتفصيل عن أهمية القراءة، وأنك يجب أن تقضي وقتاً طويلاً في القراءة، وسيدور الكلام كله حول هذا الموضوع.
أنا أجزم أنه في نهاية المحاضرة سيأتيني سؤال يقول: نفهم من كلامك أنك تقلل من شأن مجالس العلم، وماذا عن دروس العلماء؟ يا أخي! أنا لا أتكلم عن منهج طالب العلم، أنا أتكلم عن موضوع معين.
مثلاً: عندما أتحدث عن الدعوة إلى الله، وأهمية الدعوة، والحاجة إليها، وأحث الناس عليها، ويجب أن نوظف طاقاتنا وجهدنا في الدعوة، إلى غير ذلك.
أجزم أنه سيأتيني سؤال آخر، هذا السؤال الذي يأتيني عبر عن فهمه، لكن يوجد ناس ما عبروا عن فهمهم، وهو أن معنى المحاضرة أنك تقلل من العلم الشرعي.
أنا لم أتحدث الآن عما يجب على الشاب أن يعمله، ولم أتحدث عما يجب على المسلم، فأنا أتحدث عن موضوع وعن جزئية من الجزئيات.
عندما أتحدث مثلاً عن أهمية طلب العلم والحرص عليه، فيأتيني شخص آخر يقول: أين الحقوق الخاصة للإنسان؟ هل نفهم من كلامك أن الإنسان يعطل مصالح أهله لأجل طلب العلم؟ ونفهم من كلامك أن الإنسان يترك الدعوة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليتفرغ للعلم؟ إلى غير ذلك.
قد أتكلم عن أهمية رعاية الموهوبين والتركيز عليهم، وأن الطلبة الأذكياء الذي يجب أن نعتني بهم، وننظم لهم برامج خاصة، وأتكلم كل كلامي حول الموضوع هذا، فيمكن أن يأتيني سؤال يقول: وهل يعني هذا أن الناس الذين هم أقل كفاءة غير مكلفين شرعاً؟ وهل يعني أن الدعوة خاصة بهؤلاء، فالإسلام عام للجميع، والدعوة عامة للجميع؟ يا أخي أنا لم أتكلم عن الدعوة أصلاً، أنا أتكلم عن جزئية وعن قضية من القضايا، فيجب أن تفهم بالضبط ما أريد، وهذه كثيراً ما نقع فيها.
ومن الطبيعي أن الذي يتكلم عن موضع يبالغ فيه نوعاً ما.
فمثلاً: نفترض أنني أتحدث عن موضوع رعاية الموهوبين، والعناية بالأذكياء، والحرص على استصلاحهم وتربيتهم، فأنا أنزل بثقلي حول هذا الموضوع؛ لأجل أن أقنعكم بالقضية.
فقد يكون عندي مبالغة في الألفاظ، وقد أعطي الموضوع زخماً؛ لأجل أن أقنعك به؛ لكن عندما أجلس معك ونتناقش بهدوء، أقول لك: أنا لا أقصد هذا، ولا أريد هذا، فأنت يجب أن تضع في الذهن أنني أتحدث عن موضوع معين.
إذاً: الحديث عن موضوع معين لا يعني بالضرورة أنني أهمل ما سواه، أو أنني أخطئ ما سواه، ثم أيضاً طبيعي جداً أن الإنسان الذي يتحدث عن موضوع معين ينزل فيه بزخم، ويتحدث فيه بقوة، وقد يأتي أحياناً بعبارات فيها مبالغة، أو يأتي بكلام فيه نوع من المبالغة التي لا ينجو منها بشر، فالبشر من الطبيعي أن يقعوا في الخطأ.(54/10)
تنزيل الكلام على معين
السبب الخامس: تنزيل الكلام على معين: فأنا أتحدث عن قضية من القضايا فأقول: إن بعض الكتاب، أو بعض الدعاة، أو بعض الخطباء -فأتكلم كلاماً عاماً- يريد كذا، أو يفعل كذا، ويقول كذا، ويقع في هذا الخطأ، والخطأ الفلاني، فمباشرة بعض الناس يبدأ يقول: يقصد فلاناً، أو فلاناً، أو فلاناً، أو فلاناً.
وقد قلت لكم: إني بذلت جهداً حتى أقنع شخصاً أني لا أقصد أناساً بعينهم، فقلت له: ليس عندي أشخاص، فأنا أتحدث عن ظاهرة من الظواهر، فقال: لا، الناس الذين تقصدهم فيهم كذا، ولا يقعون في هذا الخطأ، فقلت له: يا أخي! أنا ليس عندي أشخاص أقصدهم، وقلت له: يا أخي الكريم! مشكلتك معي مشكلة واحدة أنك تنزل الكلام الذي أقوله على أشخاص معينين، فلو أزلت هذه القضية لما صارت بيني وبينك مشكلة، فالنتائج نحن متفقون عليها كلنا، لكن المشكلة هي أنك نزلت هذا الكلام على شخص معين، أو على جهة معينة.
فأنت حين يكون عندك شعور بهذه القضية، فعندما آتي أتكلم تقول: إذاً من يقصد هو الآن؟ احتمال أنه يقصد رقم (أ) ننظر هو وارد أو غير وارد؟ احتمال أنه يقصد (ب)، واحتمال أنه يقصد (ج)، وأخيراً بعد البحث والتحليل والمناقشة وصلنا إلى نتيجة أنه يقصد فلاناً رقم (ج) مثلاً، ومن ثم خذ ما يترتب على ذلك.
فعندما ننزل الكلام على معين لابد أن نسيء الفهم، أما عندما نأخذ الكلام ككلام عام ولا ننزله فإن الأمر يكون سهلاً.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، فكان كثيراً ما يقول: (ما بال أقوام نستعمل أحدهم على عمل، فيقول: هذا لكم، وهذا أهدي إلي)، وكان صلى الله عليه وسلم يقصد شخصاً معيناً ومعروفاً.
ولما قال صلى الله عليه وسلم: (ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله) كان يقصد أقواماً معينين.
لكن هذا شيء، وأن تكون القاعدة عندنا أن ننزل الكلام على معينين، وبناءً عليه نسيء الفهم؛ فهذا شيء آخر لا يصح.(54/11)
القول باللازم
السبب السادس: القول باللازم: يعني أن أقول: يلزم من كلامك كذا وكذا، فعندما أقول مثلاً: إن الأساتذة في المدارس هم البوابة لهذا المجتمع، وهم الذين يصنعون الجيل، ويتحملون المسئولية عن صياغة الجيل، وإلى غير ذلك، فيأتيني إنسان يقول: يلزم من كلامك أن العلماء ليس لهم قيمة، وأن خطباء الجوامع ليس لهم قيمة، وأن القضاة ليس لهم قيمة، وهكذا يرتب على كلامك لوازم معينة.
وتعرفون أنتم القاعدة الشرعية عند أهل العلم في التعامل مع اللازم، فيقولون: لازم الكتاب والسنة حق، أما لازم المذهب فمسألة يبحثها العلماء، فلازم المذهب هل هو مذهب أم لا؟ يعني: لازم قولي أنا هل هو قول لي أم لا، حتى أفترض أنه فعلاً يلزمني.
فباختصار: ليس هذا وقت تقرير هذه المسألة، لكن نقول: هذا اللازم له ثلاث حالات: الحالة الأولى: أن تلزمني به فألتزم، أي: أن تقول لي مثلاً: إنه يلزم من كلامك كذا وكذا، أقول: نعم، أنا أعتقد كذا وكذا، الآن صار هذا قولاً لي بلا إشكال.
الحالة الثانية: أن تلزمني به فلا ألتزم، بأن تقول مثلاً: إن كلامك يلزم منه كذا وكذا، فأقول لك: لا يلزم من كلامي كذا وكذا، أو أنا لا أقصد كذا، فالآن لا إشكال أنه ليس قولاً لي.
لكن هناك شخص ليس عنده قاعدة، تقول له: أنا لا أريد كذا، أنا أعتقد كذا، فيقول لك: بل أنت تعتقد كذا، وتريد كذا، فهؤلاء ليس لنا معهم حديث، هذا إنسان سيئ النية، أو إنسان مغرض، أو عنده مشكلة ثقة، وأزمة ثقة، وليست القضية قضية فهم.
الحالة الثالثة: وهي التي يقع فيها النقاش الآن، وهي أن يفتي فلان بفتوى، أو يذكر في كتاب رأياً أو قولاً فيلزم منه كذا، فهل يمكن أن نقول: إنه يعتقد كذا، أو يرى كذا، فأفتى في مسألة فقهية معينة، كأن قال مثلاً: من فعل كذا فإن طهارته باطلة، فنقول: إنه يلزم منه مثلاً أن صلاته باطلة، ويلزم منه كذا وكذا، فهل نلزمه بهذه الفتوى؟ فنقول مثلاً: عندما يفتي الإمام أحمد بفتوى، فيلزم منها فتوى أخرى أو رأي آخر، هل نقول: إن الإمام أحمد يرى هذا اللازم فنجعله مذهباً له أم لا، وذلك بدون أن يلتزمه أو ينفيه؟ الصحيح أن لازم القول ولازم المذهب ليس مذهباً؛ لأن الإنسان بشر، قد تقول: إن كلامك يلزم منه كذا، فأقول: أنا أعترف لك أن كلامي يلزم منه كذا، لكني لا أعتقد هذا، فنتيجة حماس إنسان، أو نتيجة موقف مناظرة، أو نقاش مثلاً قد يقول كلاماً غير موزون، فيغيب عنه اللازم؛ لأن الإنسان بشر، أو قد لا يسلم لك، فيقول: لا أسلم لك أصلاً أن هذا يلزم منه كذا وكذا.
على كل حال ليس هذا مجال تقرير هذه المسألة الأصولية، المقصود منها: أن لازم المذهب ليس مذهباً، وأن لازم القول ليس قولاً، خاصة أننا نفرط في اللوازم.(54/12)
عدم إدراك أطراف الموضوع
السبب السابع: عدم إدراك أطراف الموضوع: إنسان يتكلم في موضوع لم يدرك أطرافه إدراكاً كاملاً، فمثلاً: شخص كتب كتاباً عن مشكلة من المشاكل، فأتيت أنت وقرأت مقطعاً منه، وانتزعت المقطع، ففصلته عما قبله وما بعده فتعطيني إياه، فأقول لك: نعم، ما في شك أن هذا يحتمل كذا وكذا، لكن لو كنت أعرف الموضوع الذي يتحدث عنه، وأدركت أطراف الموضوع كله، سأفهم القضية فهماً آخر.
دعونا نضرب مثالاً في هذه المحاضرة: واحد ما حضر معنا الجزء الأول، عندما يأتي يقول: أنت الآن تشن حملة على من يسيء الفهم، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقعوا في خطأ في الفهم، وكلامك يلزم منه أنك تنتقص أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا أنك سيئ المعتقد لأن قلبك ليس سليماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
فهذا لو أدرك أطراف الموضوع كله؛ لعلم أني تحدثت عن هذه القضية، وإذا كان يلزم من كلامي هذا فأنا لا ألتزم، فهو أحياناً لا يعرف ما هي المشكلة، فكم يثار نقاش حول قضية من القضايا بين عالمين فيدخل فيها أفواج لا يعرفون ما هي القضية أصلاً، ولا يستطيع الواحد منهم أن يستوعب القضية موضع الخلاف.(54/13)
الربط المتكلف
السبب الثامن: الربط المتكلف: أن يقول كلاماً هنا وكلاماً هناك، فيربط بينها برابط، فيقول مثلاً: أنا عندما آخذ كلامك في هذه المحاضرة، وكلامك الآخر الذي قلته في خطبة الجمعة، والكلام الذي قلته في الفصل، والكلام الذي قلته في المجلس، سأحصل على نتيجة معينة.
أو أنت قلت كلاماً، وفلان قال هذا الكلام، إذاً: هذا دليل على أن بينكما ارتباطاً وتنسيقاً، وهذا يعني أنك توافق فلاناً على هذا الاتجاه.
بعض الناس عنده استعداد أنه يربط مباشرة افترض أني أقول: قال فلان من الناس، فعندما تقول: قال فلان، فهذا يعني أنك لك به علاقة، أو أنك تقول بأخطائه، ففلان يقول كذا وكذا، وحين تستشهد بكلامه فهذا يعني أنك تقره، أو أن بينك وبينه علاقة.
وكم نرى أحياناً من اتهامات ليس لها أساس، مثل أن فلاناً له علاقة مع فلان، أو أن فلاناً ينتمي إلى مدرسة فكرية أو مذهبية، أو إلى توجه معين، وفي النهاية كلها أوهام مع أوهام حتى تصل إلى قناعة عندنا.(54/14)
التصحيف وركاكة الفهم
السبب التاسع والأخير: التصحيف، وركاكة الفهم: فالتصحيف مثلاً أن يقرأ كلمة قراءة خاطئة، أو يسمعها سماعاً خاطئاً، وهو مشهور عند أهل الحديث، فمثلاً: النبي صلى الله عليه وسلم احتجر موضعاً في المسجد، فرواه أحد الرواة: (احتجم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد) فجعل بدل الراء ميماً.
ومن التصحيف في اللفظ قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان وأتبعه ستاً من شوال)، رواه أحد الرواة فصحفت عليه فرواه: وأتبعه شيئاً من شوال.
وهذا مبحث مشهور عند المحدثين.
ومن التصحيف التصحيف في المعنى، فمثلاً: أبو موسى العنزي قال: صلى إلينا النبي صلى الله عليه وسلم، وهو من قبيلة عنز، وذكر الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى عنزة، فتوهم أنه صلى إلى قبيلة عنزة، بينما العنزة معروفة وهي العصا، فهذا الآن ما تصحف عنده اللفظ، لكن تصحف عنده الفهم والمعنى، وهذا مشهور في كتب مصطلح الحديث.
بل هناك كتب خاصة في التصحيف وأغلاط المحدثين، تجد فيها نماذج وأمثلة حول هذا، ومنها أمثلة طريفة، وأنا أذكر مثلاً أننا كنا مرة في مناسبة فقرأ واحد في مجلس ورقة فيها خبر، وفي النهاية قال: حرر في بيت فلان وفلان، فأدخل الورقة، وجلسنا نتناقش، فقال واحد: إن بيت فلان حرق، فتناقشنا كيف حرق؟! ونحن جازمين بالنتيجة، قال: قرأها الأخ في الورقة، سمع (حرر)، فرأى أنها (حرق).
وأحياناً ركاكة الفهم، بعض الناس كما يقال: تقول له زيد فيكتب خالداً ويقرؤه عمراً ويفهمه بكراً وفهمه ثقيل، وهذا ليس له حل، لكن نقول له: إذا كان فهمك ثقيلاً، فلا تحاكم الآخرين إلى فهمك.
فبعض الناس بليد لا يفهم؛ ولهذا يلزم الآخرين بفهمه، وهو حسن النية، وليس عنده أصلاً سوء ظن، ولا تصحيف ولا تحريف، لكن فهمه لا يمكن أن يصل به إلا إلى هذا الحد.
ولهذا أيضاً ينهون عن أن يحدث الناس بما لا يعرفون: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله)؟! ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم، إلا كان لبعضهم فتنة).
فهناك طبقات من الفهم والاستيعاب، فيجب أن نراعي هذه القضية، فأنا عندما أتحدث مع عامة، أو طلاب صغار، قد يكون الكلام حقاً، لكن قد لا يسوغ أن أقوله أمام العامة؛ لأن عقولهم لا تبلغه، فهناك من عقله لا يبلغ فهم هذا الأمر، فيفهم فهماً سيئاً.(54/15)
مقترحات للعلاج
بعد ذكر هذه الأسباب ننتقل إلى بعض المقترحات للعلاج، ونحن عندما ندرك الأسباب سندرك العلاج مباشرة، لكنني سأشير إشارة عاجلة إلى بعض الأسباب المهمة التي يمكن أن تعيننا على التخلص من نتائج سوء الفهم:(54/16)
حسن الظن بالمسلمين
أولها: حسن الظن بالمسلمين: أي: أن تكون القاعدة عندنا حسن الظن بإخواننا، وكم ترى ممن يتشبه بهدي الخوارج الذين يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، فالمجرمون والطغاة والمفسدون في الأرض يجد لهم ألف تأويل، أما إخوانه فلا يمكن أن يجدوا تأويلاً لديه، فضلاً عن أن يكون الأصل عنده حسن الظن.
فأين القواعد الشرعية يا إخوة؟! فكم تغيب عنا هذه المعاني، فالأصل أن يحسن المرء الظن بإخوانه المسلمين، فعندما يقول المسلم كلاماً يحتمل (أ) ويحتمل (ب) فيجب أن أحمله على أحسن محمل، فأقول مثلاً: فلان قال هذا، لكن هذا القول لا يليق به، فلا أتصور أنه يقصد كذا، أو لا أتصور أنه يريد كذا، إنما أتصور أنه يريد الأمر الآخر.
وأحياناً يكون الاحتمال (أ) بنسبة (80%)، لكن الاحتمال (ب) بنسبة (20%)، ويكون الاحتمال (ب) هو الأولى ظناً؛ فينبغي أن أحمله على هذا المحمل.
ثم ما المشكلة عندما أحسن الظن بفلان، وأكتشف أنه على خلاف ذلك؟! لا توجد مشكلة.
وكم نرى ممن يقيم معارك داخل الصف لأجل قضايا تافهة كلها كانت ناتجة عن إهماله لهذا الأدب الشرعي، ألا وهو حسن الظن بإخوانه المسلمين.
فنحن يجب أن نحسن الظن بالمسلمين ابتداءً، فضلاً عن طلبة العلم، فضلاً عن أهل العلم والدعاة، والناس الذين يتصدون لخدمة دين الله عز وجل، ولا يسوغ أن يقرأ المسلم الخير العادي في الصحف، أو يسمع تقارير سياسية عن الدعاة، فيحملهم على هذا المحمل وهو قد جرب على هذه الصحف كذباً، فكم نقرأ في صحف أو وسائل إعلام نعرف أنها سيئة عن بعض المشاكل التي تحصل في الخارج، فنحكم على إخواننا من خلال ما قاله هؤلاء، ولا نحسن الظن بإخواننا.
فأقول: يجب أن تكون عندنا قاعدة أن نحسن الظن بإخواننا المسلمين عموماً، فضلاً عن الناس الذين يتصدون للخير، والذين ظاهرهم الخير والصلاح.
نعم، هناك من يتستر، وهناك أناس سيئون، لكن لا يمكن أن تقودنا الغيرة على الدين والإسلام إلى أن نفتش عن الأخطاء والعيوب.(54/17)
عدم تتبع الزلات
خطوة أخرى أيضاً: ألا نعمد إلى تتبع عورات الناس وزلاتهم، ومن تتبع عورات إخوانه المسلمين تتبع الله عورته؛ حتى يكشفه ولو في جوف بيته، وتتبع الزلات والعورات والأخطاء وتصيدها مظهر من مظاهر مرض القلب، عافانا الله وإياكم.
والبشر لابد أن يقعوا في الخطأ أياً كان، لكن حين لا نسأل إلا عن الزلات، ولا نبحث إلا عن الأخطاء، فلابد أن نصل إلى مثل هذه النتائج، وهب أن فلاناً أخطأ، أو قال ما لا يليق، أو فعل ما لا يليق، فإن هذا لا يصح أن يكون مدعاة إلى أن تبحث عن مرادف لهذا الخطأ، ثم تبحث عن ثالث، ثم عن رابع؛ حتى تصل إلى نتيجة وقناعة تريدها نفسك.(54/18)
الدقة في النقل
ثالثاً: الدقة في النقل: فأنت عندما تنقل يجب أن تنقل الكلام بلفظه وحروفه، ثم بعد ذلك من حقك أن تذكر فهمك، لكن يجب أن يعلم الجميع أن هذا فهمك، وليس هذا هو ما يقصده.
وأيضاً يجب أن نفرق، فقد يحدثني شخص صالح موثوق، لكنه يحدث عن فهمه هو، وعن تقييمه هو للقضية.
فمثلاً: رجل صالح لا أشك فيه، ولا يمكن أن يتعمد الكذب، لكنه ينخدع بالظواهر، فجاء إلى بلد والتقى بمجموعة من الناس، فحدثوه عن فلان، فجاءنا فقال: رأيت أهل البلد يقولون كذا وكذا، أو جاء فرأى موقفاً وحكم عليه هو، فأنا عندما يقول لي: قال فلان كذا وكذا، لا أتهمه، لكن عندما يأتيني بفهمه هو، ففهمه ليس ثقة، فيبقى مجال للنقاش، عندما يروي لي رواية للحدث فيقيم هذا الحدث، يجب أن نفرق بين روايته هو وبين حكمه وتقييمه للنتيجة التي وصل إليها.(54/19)
الجمع بين المتفرق
رابعاً: الجمع بين المتفرق: من العجب أن تجد شخصاً يلزم بمسألة وهو قد صرح بنفيها في موضع آخر، أضرب لكم مثالاً عن سيد قطب رحمه الله فقد كان أديباً، والأديب يستطرد، فقال في سورة (قل هو الله أحد): إن المسلم يشعر بأن هذا الوجود صادر عن واحد، فلا يرى إلا الله سبحانه وتعالى.
فهذه عبارة توهم منها أنه يرى وحدة الوجود، فجاء البعض وقال: إنه يرى وحدة الوجود، بينما هو قد صرح في موطن آخر أنه لا يرى وحدة الوجود، وصرح بانتقاد أصحاب وحدة الوجود بالاسم، وانتقد ما هم عليه، فهذا الكلام يعطيك قناعة أن الرجل ما يعتقد هذا، وإلا لما صرح به.
الرجل كان له مواقف مع جمال عبد الناصر ومع حمزة البسيوني، ومع غيرهما من الطغاة؛ فهل كان يعتقد أن جمال عبد الناصر هو الله مثلاً؟ لأن أصحاب وحدة الوجود يرون أن كل شيء هو الله، لو كان يعتقد أنه الله لما حدثت بينهما مشكلة.
عندما نكون منصفين فسنصل بداهة إلى هذه النتيجة.
صورة أخرى أيضاً من الشخص نفسه، عندما تحدث عن الكون وخلق الله عز وجل، يقول: إن المسلم يرى أن هذا الكون من خلق الله عز وجل، فهو يحب كل ما في هذا الكون؛ لأنه يرى أن هذا الكون صادر عن الله عز وجل، هذه عبارة شخص أديب، فجاء رجل فاضل، فقال: هذا يترتب عليه أنه يحب الشياطين، ويحب الكفار! مع أن له مواقف واضحة من اليهود والنصارى والكفار إلى غير ذلك.
شخص يقول كلاماً فيفهم منه أنه يرى رأياً ما، بينما تراه قد ألف كتاباً كاملاً في تفنيد هذا الرأي ومناقشته، فهل يمكن أن نتهمه بعد ذلك بأنه يقول هذا الرأي؟! هذا منطق غير مقبول، ولهذا يجب أن ندرك شخصية الإنسان عندما نريد أن نحكم عليه، فننظر ما عنده، وما هي منطلقاته، فأنا مثلاً أقول هذا الكلام عن سيد قطب رحمه الله، فيأتيني شخص ويقول: إنه ما وقع في خطأ؟ فأقول له: بل وقع في خطأ، فهو يخطئ مثلما يخطئ غيره، لكن لا يدعونا هذا إلى أن يكون الخطأ عندنا هو القاعدة، وأن نحاكم الرجل على كل موقف قاله، فنبدأ نقيم ونراجع، وأنه يقصد كذا ويقصد كذا، وكذا غيره من علماء الإسلام السابقين، الذين ألزموا بلوازم لا يقولون بها أصلاً.
هذه خواطر عاجلة حول هذا الموضوع، وأرجو ألا أكون أنا وقعت في سوء الفهم حين تحدثت عن سوء الفهم، وأيضاً ألا يساء فهم ما قلته وأنا أتحدث عن سوء الفهم.
وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجنبنا وإياكم الزلل في القول والعمل، ونترك بقية الوقت للإجابة على أسئلة الإخوة.(54/20)
الأسئلة(54/21)
الحكم على شخص بأنه سيئ الظن
السؤال
كيف أرد على من يسيء الظن أو الفهم بحجة مقنعة، مراعياً في ذلك أصناف الناس من سمح ومتكبر ومعاند؟
الجواب
أولاً: هذا حكمك على الناس، أنت عندما تقول: فلان متكبر، وفلان معاند، هذا حكم، وليس بالضرورة أن أقبله، فهو حكمك أنت، ونتيجة وصلت إليها أنت، قد لا نوافق عليه.
ثم سوء الظن قد نهى عنه الشرع، وقلت لكم قاعدة: سيئ الظن لا يعترف لك أنه سيئ الظن، يقول: أنا لا أسيئ الظن، ولو اعترف أنه سيئ الظن لانتهينا.
فمثلاً: الرجل المسرف لا يعترف لك أنه مسرف، يقول: هذا وضع طبيعي، البخيل لا يعترف أنه بخيل، كل صاحب مشكلة لا يعترف، لأن هذه ألفاظ مباشرة مرفوضة يتعلق بها المدح أو الذم، فسيئ الظن لا يعترف لك أصلاً بأنه سيئ الظن، حتى تقول له: اجتنب هذا السوء.(54/22)
الفرق بين سوء الفهم وسوء الظن
السؤال
هل هناك فرق بين سوء الفهم وسوء الظن؟
الجواب
نعم، سوء الظن قد ينتج عنه سوء الفهم، فسوء الظن شيء في القلب، فأنا عندي عدم ثقة بالناس عموماً، أو بشخص معين لسبب أو لآخر، فسوء الظن قضية داخلية، وسوء الفهم هو فهمي لتصرف أو لعمل، أو لكلام.
وقد يكون بينهما ارتباط وثيق، لكن هذا لا يعني أنهما شيء واحد، فقد يكون هناك سوء ظن وليس سوء فهم، وقد يكون سوء فهم ناتجاً عن عدم سوء الظن.
يعني: أنا أحسن الظن بفلان، لكن أسأت الفهم لأن فهمي غير دقيق، أو ما تصورت أطراف الموضوع، وقد يكون سوء الفهم من رجل خير، فلا يعني هذا أن سوء الفهم دلالة على سوء الإنسان، وسوء قصده، وسوء ظنه.(54/23)
إساءة الفهم في الدعاة
السؤال
قضية من يسيئون الفهم في الدعاة، وفيما يقولون وما يكتبون، ويتخذون هذا مجالاً للتكلم في أعراضهم، والوقوع في نياتهم ومقاصدهم.
الجواب
أولاً: هؤلاء لا يستحقون أن نجعل منهم قضية ومشكلة نتحدث عنها، لكني فقط ألفت أنظاركم إلى قضية لتتأملوا فيها، وهي واقع هؤلاء، ماذا يعملون؟ وماذا يقدم مثل هذا الرجل؟ لا يعمل شيئاً؛ هناك ارتباط عكسي بين كثرة الانتقاد وبين العمل، فأكثر الناس انتقاداً لهؤلاء الدعاة والعلماء لا يعمل شيئاً.
أنت ترى بعض الدعاة والعلماء وقته كله مليء، وتحتاج منه موعداً فلا تستطيع أن تحصل منه على وقت، لأنه رجل عامل يجاهد، وهذا إنسان فارغ، مرة في بيت فلان، ومرة في بيت فلان، ومرة في المناسبة الفلانية، فأنا أقول: يكفيك من شؤم هذا المسلك أن أصحابه غير عاملين، لا يقدمون شيئاً، ولا يعملون شيئاً، العمل الوحيد الذي يقدمونه هو تفكيك الصف.
نحن بحاجة إلى عمل، أنا أسألكم: نحن الآن في مجتمعاتنا الإسلامية جملة نعاني من أزمات، ومن الحكم بغير ما أنزل الله، ومن تنصير وتغريب للأمة، وانتشار للفساد الأخلاقي، وحرب على الإسلام، وحرب على الصحوة الإسلامية، وجهل بالعقيدة، وخطأ في الأخلاق والسلوك، وجهل بالعبادة، وأمراض كثيرة، فماذا قدمت أنت تجاه هذه القضايا؟ إنه لا يقدم شيئاً، فجهده كله مصروف لهذه القضايا.
أما الشباب الذين يسهرون على الفساد والسوء، فلا يمكن أن يذهب ولينصحهم، وليس عنده استعداد، لا يمكن أن يخطو خطوة واحدة في مواجهة المنصرين ودعاة التغريب، بل ربما تراه يدافع عن هؤلاء، وربما ينفذ مخططات لهم من حيث يشعر أو من حيث لا يشعر.
فأنا أقول: القضية لا تستحق أن نتحدث عنها، لكن عندما تنظر إلى هذا الجانب الوحيد ترى أن هؤلاء أقل الناس عملاً، وهذا طبيعي، فالرجل الجاد لا تشغله هذه القضايا، ثم هذا لا شك أنه ناتج عن سوء ظن، أو عن سوء قصد.
أنا أعرف كثيراً منهم خيرين ليسوا سيئي النية أصلاً، وبعضهم يرى أن هذا من الدين، لكن هذا مبلغه من العلم، وهناك من يدفعه الحسد، وهناك من يدفعه أمر آخر، وهناك من له مقاصد أخرى.(54/24)
سوء الفهم وثواب الاجتهاد
السؤال
هل هناك حالات لسوء الفهم يثاب عليه، وإذا لم يكن فالصحابة الذين اختلفوا في القصة المعروفة في قصة بني قريظة، هل بعضهم يثاب وبعضهم يعاقب؟
الجواب
سبق أن أشرت في البداية إلى أنه قد يحصل، ويجب أن نتأدب مع الصحابة ولا نقول: سوء فهم، نقول: خطأ في الفهم، أو خطأ في الاجتهاد، فقلت: إن هناك قدراً طبيعياً لابد أن يقع فيه الإنسان، والأخ نبهنا إلى أنه قد يأتي مجتهد إلى نص من النصوص فيخطئ في الفهم فيه، فيثاب ثواباً واحداً على الاجتهاد، لكنه لو أصاب فسيثاب ثوابين على الاجتهاد والصواب، لكن نحن لا نتحدث أصلاً عن سوء الفهم كله جملة، إنما نتحدث عن جانب من الجوانب التي ينتج عنها سلوكيات خاطئة، ومواقف خاطئة.(54/25)
كيفية تربية الشباب مع اختلاف استعداداتهم
السؤال
قد يكون هناك مجموعة من الشباب فيهم الجديد على الالتزام، وفيهم من قطع شوطاً في هذا الطريق، فلو وضع برنامجاً مكثفاً فسوف ينفر الجديد، ولو وضع برنامجاً خفيفاً فلن تتحقق التربية الجادة القديمة، فكيف نجمع بين هذا وذاك؟
الجواب
يمكن ألا نسير الناس في وتيرة واحدة، وأن نضع مثلاً خطاً عاماً يسير عليه الجميع، ثم نضع نقاطاً أخرى، ومجالات أخرى، وبرامج أخرى لمن هو طموح ومتطلع.
فأضرب لكم مثلاً: أنا عندي مجموعة من الطلاب في حلقة قرآن يحفظون، فعندما أقول: كل يوم تحفظون صفحة، وهم خمسة عشر طالباً، فالنتيجة أن اثنين أو ثلاثة ليس عندهم قدرة على أن يحفظوا صفحة كاملة أصلاً، واثنين أو ثلاثة عندهم قدرة أكثر، فعندما نضع خطاً واحداً وبرنامجاً واحداً للجميع، سنقع في هذه الإشكالية.
فكذلك البرامج يجب أن يكون فيها تنويع، بحيث تخدم الجميع، فهذه المشكلة تحصل كثيراً في المراكز الصيفية؛ لأن المركز يكون فيه عدد كبير من الشباب، فيهم طلبة علم، وفيهم ناس حديثو عهد بالالتزام، وفيهم مستويات مختلفة، فعندما أضع برنامجاً واحداً للجميع يحصل إشكال، إذا راعيت هؤلاء نزل البرنامج، وإذا راعيت هؤلاء تأثر أولئك، لكن عندما أضع خطاً عاماً، ثم أضع مجالات أخرى لغيرهم، أظن أنه بهذه الصورة أستطيع أن أوازن بين الشريحتين.(54/26)
متى تجوز إساءة الظن
السؤال
إذا كان هناك إنسان موضع لسوء الظن، فرأيته في موطن ريبة، فوقع في نفسي بعض الشيء، وأخبرت بعض الناس، فهل علي ذنب في ظني فيه؟ وهل علي ذنب في الإخبار بما وقع؟
الجواب
أنا أفهم من سؤال الأخ أنه يتحدث عن حالة لإنسان سيئ أصلاً، صاحب فجور، ورأيته في السوق، أو رأيته يدور حول بيت، أو رأيته مع شخص من الناس، فأسأت به الظن، فهل ينبغي له أن يخبر أم لا؟ هذه هي القضايا المتقررة عند العقلاء، يعني رجل مشهور بالفحش والسوء، ثم أراه مع شخص صغير مثلاً، فمن حقي أني أخبر والده، ومن حقي أن أنهاه، فهذا مجال لسوء الظن، لكن عندما تكون القاعدة أنك كلما رأيت شخصاً كبيراً مع شخص صغير أسأت الظن، فهاتان صورتان يجب أن نفرق بينهما.
إنسان شاب مثلاً أراه يدور في السوق، ويذهب ويأتي، فأنا أعرف الآن من خلال رصد الموقف وشخصيته فسأصل إلى نتيجة أن هذا الرجل صاحب نية سيئة مثلاً، أو شخص واقف عند مدرسة بنات بطريقة معينة، فالنظرة العامة أدت إلى نتيجة، قد تكون نتيجة خاطئة أحياناً، وقد تكون مصيبة، لكنها غالب الظن، فلا يمنع من أن أتخذ موقفاً معه، لكني أيضاً لن أعاقب هذا الشخص وأتخذ معه موقفاً حاسماً وعقوبة، لكن قد يناقش، وقد يعاقب؛ لأنه أوقع نفسه في موطن التهمة، وحتى يؤدب غيره ولا يجترئ، فهذه صورة غير التي تحدثنا عنها في قضية سوء الظن.(54/27)
حد الغيبة
السؤال
هناك موضوع درسناه وحفظناه منذ الصغر في المساجد والمدارس وفي البيوت ألا وهو موضوع الغيبة، يعرفها الصغار والكبار، إلا أنه في هذا الزمان توسع الموضوع حتى ضاقت حدوده، حتى عند أهل الخير والصلاح، فما هي هذه الحدود التي نلتزم بها؟
الجواب
الحدود التي نلتزم بها أن الغيبة حرام كلها حرام، إلا ما ترتب عليه مصلحة شرعية مثل: التظلم، أو الاستفتاء، أو التحذير من رجل ضال ومبتدع، أو استشارة في زواج أو غيره، فأنا أريد أن أشارك شخصاً، فأستشير شخصاً يعرفه، فيقول لي: لا، يعرف أنه خائن مثلاً، الآن استشرته وهو مؤتمن، فيجب أن يشير عليك، أو إنسان يريد أن يخطب مني، فسألت عنه، فيجب أن أقول كل ما أعرف عنه، ولا يعتبر هذا غيبة.
فقد جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسأله، خطبها فلان وفلان، فقال: (أما فلان فصعلوك لا مال له، وأما فلان فلا يضع العصا عن عاتقه، وانكحي فلانً).
فالحدود واضحة، أنا أتصور أن ليس عندنا مشكلة مع الحدود، لكن أن نستهين بالأمر ونتساهل، ثم إذا وقعنا نحاول أن ندخلها في الحدود، أو نوسع الحدود قليلاً من أجل أن تدخل هي، فلا.(54/28)
علاج الخوف من النقد
السؤال
أنا شخص أخاف النقد بدرجة كبيرة، مما أثر ذلك على شخصيتي، وأصبحت أبتعد عن المناقشات والاختلاط، وأجلس وحيداً، وأخشى على نفسي من ذلك، فما رأيكم وما هو العلاج؟
الجواب
أولاً: نحن عندنا مشكلة أننا نقرن بين الخطأ والفشل، فالإنسان الذي يخطئ في تجربه هذا رجل فاشل، وبين الخطأ والانحراف، فإنسان وقع في خطأ علمي فهذا منحرف، وهذا سيئ.
وهذا ليس بصحيح، فالرجل الناجح قد يفشل، فالتاجر الناجح قد يدخل في صفقة ويفشل فيها، وأي شخص بارع في أي ميدان يمكن أن يدخل فيه ويفشل، في أي تجربة، ففشلي في التجربة أصلاً لا يعني أنني إنسان فاشل.
ثم هب أنك إنسان فاشل، فيمكن من خلال النقد مرة ومرتين أن تنجح في المرة الأولى، والمرة الثانية؛ حتى تزيد حالات النجاح، ثم تصل بعد ذلك إلى نتيجة نهائية.
وكل إنسان عنده هدف جاد يريد أن يحققه يصل إليه، مادام هذا الهدف موضوعياً يستطيعه، ويجب أن يعرف الإنسان أن عنده قدرات، حتى الحيوان عندما تعوده على شيء يتقنه، فكيف بالإنسان؟! مثلاً: الكلب يدرب على قضايا معينة -كلب حراسة أو كلب بوليس- ويتقنها، والببغاء يردد عليه الصوت ومن ثم يحفظه ويردده، وخذ أمثلة كثيرة، فأنت لن تكون أسوأ حالاً من هذه الكائنات الحية، ولست أغبى الناس، ولا أكثر الناس فشلاً، فينبغي ألا يصير لدينا إحباط، فمثلاً: فشلت هذه المرة أو أخطأت، فيمكن أن تنجح مرة أخرى، ولا إشكال، فعندما أفشل فهناك غيري فشل، وعندما أخطأت فهناك غيري أخطأ.(54/29)
خطأ الحكم على الملتزمين من خلال أشخاص
السؤال
بعض الشباب يسيئون الفهم في الالتزام بصفة عامة؛ بسبب سوء فهمهم لشاب ملتزم، نرجو من فضيلتكم إيضاح ذلك؟
الجواب
أنا أقول: افترض أنك تسمع عن بلد ولتكن نيجيريا مثلاً، وقابلت واحداً أو خمسة من نيجيريا، ووجدتهم بخلاء، فهل تحكم على أهل البلد كلهم بأنهم بخلاء؟ أو شخص مثلاً مر من عند مدرسة وطفل من أطفال المدرسة ألقى عليه حجارة، فحكم بأن طلاب المدرسة كلهم أشقياء، هل القاعدة عندك أن الإنسان يحكم من خلال شخص واحد؟ فلا يسوغ لي أن أحكم على الشباب الملتزمين من خلال شخص، أو شخصين، أو ثلاثة، أو مجموعة، أو حتى أهل هذه البلد، فمثلاً: افترض أننا نعيش في هذه البلاد، فلا يسوغ لي أن أحكم على الملتزمين كلهم.
وأنا أذكر أن شخصاً أرسل لي رسالة أنه يعاني من مشكلة، ثم قال لي: لا تقل لي: صاحب الأخيار، فإني جربتهم، فهم منافقون، وغير جادين، وغير صادقين، فقلت له: قد أوافقك أن الأخيار الذين قابلتهم غير جادين، ومنافقين، وغير صادقين، لكن هل قابلت كل الأخيار؟ هذا ليس بصحيح.
مع أنه أحياناً يكون عنده وهم مفترض، فلا يسوغ أن تحكم على الناس من خلال شخص واحد، فأنت لو أتينا إليك وقلنا لك إن هناك واحداً من أقاربك مثلاً أمسكوا به في قضية مخدرات، إذاً: فهل عائلتك كلها أصحاب مخدرات؟ أو تقول: أنا قابلت قريباً لك بخيلاً، إذاً: أنت بخيل، هذا كلام ليس بصحيح، حتى أخي الشقيق لا تلزمني أنت بما هو عليه، فكيف تلزم الآخرين بشخصية فلان؟! فالملتزمون شريحة من المجتمع فيهم الذكي والغبي، وفيهم البخيل والكريم، وفيهم الجبان والشجاع، فهو رجل من الناس هداه الله عز وجل، والناس معادن، هداه الله عز وجل، فستبقى عنده قضايا في نفسه قد لا تزول مع الالتزام، فلماذا أطالب أن يكون هو كل شيء؟!(54/30)
كلمة للنساء
السؤال
بعض الإخوة يطلبون كلمة للنساء.
الجواب
في الواقع أن النساء لهن حق علينا، فهن أمهاتنا، ونشعر أنهن راعيات الأجيال، فأنا أقول أولاً: إن الأصل في الخطاب الذي يوجه للرجال أن تدخل فيه النساء، وجاءتني طلبات كثيرة تطالب بالحديث عن قضايا تخص المرأة، وأنك كثيراً ما تتحدث عن الرجال والشباب، والمرأة لها حق، وأشعر فعلاً بأن لها حقاً، وقد وعدت أن أتحدث عن هذا الموضوع وعداً مفتوحاً، وإن شاء الله قد عزمت الآن على الإعداد لهذا الموضوع والحديث عنه، فسألقي محاضرة بعنوان: رسالة إلى فتاة، ولا أستغني عن مشاركة الإخوة وجهودهم، وقد تلقيت بعض الرسائل من بعض الفتيات عن طريق أقاربهن، أو عن طريق البريد، أفادتني كثيراً حول هذا الموضوع.
فأقول: المرأة لها حق علينا، وأن نتحدث لها مع الرجال هذا جانب، والجانب الثاني أن نخصها بحديث خاص، لكن السبب الذي يجعلنا لا نشير إليها؛ أننا لا نرى أمامنا إلا الرجال، فالمتحدث لا يتحدث إلا مع من أمامه، وينسى أن هناك من يسمع صوته ولا يراه.
فأقول باختصار: إن المرأة الآن تواجه حملة شنيعة، والأعداء يستعملون المرأة للتغرير، وإفساد الشباب، وجعل المرأة مجرد وسيلة لإثارة الشهوات والغرائز، وتحولت المرأة عند هؤلاء إلى تجارة، فما معنى أن يقوم تاجر بدعاية لسلعة معينة، فيضع عليها صورة المرأة؟! أنا أعتبر أن المرأة العاقلة ولو كانت فاجرة أو كافرة لا ترضى بهذا الأسلوب؛ لأن هذا يعني أنها صارت وسيلة للمال وللابتزاز، وللدعوة إلى تحصيل المال فقط لا غير.
فإلى هذا الحد تصل المرأة! هل هذا تكريم للمرأة مثلاً؟! عندما تنتخب المرأة ملكة جمال، وتؤخذ صورتها، وعندما يأتي محرر مجلة فيضع صورة فتاة على الغلاف؛ لأجل أن تروج المجلة لا غير، فهذه تجارة بالمرأة.
أسأل الله أن يكتب لبناتنا وأخواتنا الخير والصلاح والعفاف والستر والفضيلة، وأن ينفعنا وإياكم جميعاً بما نسمع.(54/31)
علم لا ينفع
العلم فضيلة عظيمة جاء الثناء عليها في الكتاب والسنة، وأجمع على ذلك العقلاء، ولكن هذا العلم لا يكون فضيلة إلا إذا كان علماً نافعاً، أما العلم الذي لا ينفع فهو مشغلة عما ينفع وقاطع من القواطع التي تصد عن الخير، وهو أنواع ينبغي معرفتها حتى تجتنب.(55/1)
فضل العلم والتعلم
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد.
فهذه فرصة طيبة أن يتم هذا اللقاء، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا جميعاً ممن يستمع القول ويتبع أحسنه إنه سميع مجيب، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.
ولعله من المناسب أن يكون مثل هذا الحديث في مثل هذا الوقت بالذات، مع بداية العام الدراسي، فهو بداية عام للعلم والتعلم سواء ما كان منه على مقاعد الدراسة ممن كان يدرس علوماً تنفع الأمة، أو ما كان حتى خارج هذا الوقت، فإن الغالب أن يكون وقت الإجازة وقت انشغال وسفر وذهاب وإياب، والأنشطة العلمية التي يسلكها الشباب غالباً يبتدئ بها الأخ مع بداية العام الدراسي.
ولهذا أحببنا أن نقول: كما أننا نحتاج إلى الحث على طلب العلم، والتعرف على فضله وثمرته وقيمته، نحتاج أيضاً إلى أن نتساءل كثيراً حول هذا العلم الذي نطلبه ونسعى إليه.
وقضية فضل العلم والدعوة إليه مثلكم ليس بحاجة إلى أن يُذكَّر بها، لكن يكفي أن نعلم دائماً أنه ما نُسب أحد إلى العلم إلا فرح بهذه النسبة، وما نُسب أحد إلى الجهل إلا واعتبر ذلك ذماً، حتى الجاهل الذي لا يفقه شيئاً حينما تقول له إنك جاهل، يعتبر هذه النسبة ذماً له وعيباً له، وهذا يكفي في الدلالة على أن العقلاء كلهم أجمعوا على قيمة العلم ومكانته، فلم يعد مجالاً للنقاش.
والنبي صلى الله عليه وسلم قد رغّبنا فيه بفضائل عدة يكفينا منها قوله صلى الله عليه وسلم: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهّل الله له به طريقاً إلى الجنة) هنا يأتي هذا الوعد النبوي أن من سلك طريقاً، و (طريقاً) نكرة فأي طريق يلتمس به الإنسان علماً سيسهل الله عز وجل له به طريقاً إلى الجنة، ما دام هذا الطريق مشروعاً، فالذي يحضر حلقات العلم في المساجد يلتمس العلم بذلك يسهّل الله به طريقاً إلى الجنة، والذي يلتحق بدراسة نظامية يلتمس بذلك علماً يسهّل الله له بذلك طريقاً إلى الجنة، والذي يشتري كتاباً من كتب العلم ليقرأ فيها أو يذهب إلى المكتبة ليقلب الكتب ويبحث عن كتاب يقتنيه، والذي يقرأ ويتناقش مع أحد زملائه، حتى ما قد يأتي به العلم المعاصر مما قد لا يكون في أذهاننا الآن مما يأتي في المستقبل من وسائل، فما دام هذا الطريق ليس فيه محذور شرعي؛ فكل من التمس طريقاً من هذه الطرق يلتمس به علماً سهّل الله عز وجل له به طريقاً إلى الجنة وعلى هذا فالعلم بطرقه وأبوابه ووسائله طريق إلى الجنة.(55/2)
العلم الذي لا ينفع
لا أريد أن أتحدث عن فضل طلب العلم كما قلت لكم، وليس أمثالكم بحاجة إلى أن يُحدثوا عن ذلك، لكن من باب الإشارة والتذكير، أما موضوعنا فهو الحديث عن العلم الذي لا ينفع، وذلك قد جاء بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وجاء في كتاب الله عز وجل الإشارة إلى أنواع من هذا العلم الذي لا ينفع.
ثبت في صحيح مسلم من حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه أنه قال: (لا أقول إلا كما كان صلى الله عليه وسلم يقوله: اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) ثم قال: (وأعوذ بك من علم لا ينفع).
وورد هذا المعنى أيضاً في أحاديث أخرى، كحديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وورد من حديث أنس، وورد من حديث أبي هريرة وكل هذه النصوص يستعيذ فيها النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع.
وفي حديث جابر (سلوا الله علماً نافعاً واستعيذوا به من علم لا ينفع).
وقد ورد أيضاً الاستعاذة من العلم الذي لا ينفع في حديث عبد الله بن أبي أوفى.
هذه النصوص في المسند والسنن تعطينا دلالة على أن هناك من العلم ما يصبح شراً يُستعاذ بالله منه، وأن تحصيل العلم بأي وسيلة، مما ينطبق عليه أنه العلم الذي يسهل الله عز وجل به للعبد طريقاً إلى الجنة، وهذا يجعل الإنسان يتفاءل حينما يرى أن النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من هذا العلم الذي لا ينفع، ويحذر ويعرف أن العلم قد يكون أحياناً غير نافع لصاحبه، بل قد يكون أحياناً وبالاً وشراً على صاحبه عافانا الله وإياكم.
وهذا أيضاً يعطينا دلالة على أن طلب العلم وجمع المعلومات ليست غاية في حد ذاتها، نعم الإنسان يستهدف العلم ويسعى في تحصيل العلم وتحصيل العلم عبادة، لكن مجرد تحصيل العلم للعلم في حد ذاته ليس غاية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله من العلم الذي لا ينفع، وهذا يعني أن هناك علماً ينفع وعلماً لا ينفع؛ ولهذا فالعلم وسيلة إلى تحقيق خيري الدنيا والآخرة، وما لم يترتب عليه هذا النفع فإنه شر يستعاذ بالله عز وجل منه، والنبي صلى الله عليه وسلم استعاذ بالله مراراً من العلم الذي لا ينفع، ولم يبين لنا صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث ما هو العلم الذي لا ينفع، لكنه جاء بعبارة واضحة محددة يفهمها كل الناس: أنه علم لكنه لا ينفع، فلا يعود بالنفع على صاحبه، والنفع ما كان نفعاً للمرء في دينه وآخرته، ثم ما كان ينفع الناس في دنياهم مما لا يكون على حساب الآخرة لأن الآخرة هي الأصل، فقد يحصل الإنسان علماً ينفعه في الدنيا لكنه يضره في آخرته، أرأيت مثلاً الساحر الذي يتعلم السحر، والسحر علم لكن الله عز وجل يقول: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ} [البقرة:102]، والذي يتعلم السحر ينتفع بذلك في دنياه، وأهل الشعوذة والسحر والكهانة من أكثر الناس ثراء وتحصيلاً للمال، فهو ينتفع بذلك في دنياه لكن هذا النفع على حساب آخرته، ويجر عليها الوبال وخسران الآخرة فأصبح في النهاية علماً لا ينفع، بل هو من أشد العلوم ضرراً على صاحبه.
إذاً: فنحن أمام عبارة واضحة، أي علم لا يترتب فيه نفع في الآخرة، أو في دنيا العبد فإن هذا العلم من العلم الذي يستعاذ بالله عز وجل منه، وقد تتفاوت مراتب هذا العلم، فقد يُصبح وبالاً على الإنسان، ويُصبح هذا العلم شراً بذاته، ويجلب الشر والفساد كما في تعلم العلوم التي تصد الإنسان عن دين الله أصلاً، أن يتعلم الإنسان علوماً فيها شبه وفيها إشكالات، فيكون العلم سبباً لصرفه عن الهداية إلى الضلال، فهذا في قمة ما يستعاذ بالله منه، وقد يكون العلم الذي يتعلمه الإنسان من الفضول فقد لا يترتب عليه ضرر مباشر وشر مباشر، لكنه من فضول العلم، ولا شك أن هذا لا ينفع، بل مآله إلى أن يضر الإنسان؛ لأنه أنفق فيه جزءاً نفيساً من وقته كان ينبغي أن ينفقه فيما ينفع فصرفه عن العلم النافع.
ثم أيضاً هذا العلم الذي تعلمه أخذ جزءاً من تطلع الإنسان للعلم، فالإنسان عنده تطلع للعلم وعنده رغبة في المعرفة والتعلم، فحينما يحصّل هذا العلم فإنه يسد هذه الرغبة، فتنصرف رغبته في العلم النافع.
على كل حال العلم الذي لا ينفع يتفاوت فقد يجلب ضرراً للإنسان، وقد يصل به إلى حرمان الفلاح في الآخرة كما قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة:102] أي أنه ليس له في الآخرة من نصيب، وهذا الجزء من الآية يستدل به على أن السحر كفر صراح؛ لأنه حينما يكون ليس له أي نصيب في الآخرة فهذا معناه أنه لن يدخل الجنة، ومعناه أنه سيخلد في النار وهذا ليس إلا للكفار، فهذا العلم تسبب في حرمانه كل نصيب من الثواب والخير في الآخرة، وتسبب لخروجه من دائرة الإسلام ودخوله في الكفر، وقد يكون دون ذلك كما في شأن الذي يتعلم بعض(55/3)
أصناف العلم الذي لا ينفع
العلم الذي لا ينفع ليس بالضرورة شيئاً واحداً، إنما هو أصناف كثيرة:(55/4)
العلم الخالي عن الإخلاص لله
من أول مجالات العلم الذي لا ينفع: العلم الذي لا يُخلص فيه العبد لله عز وجل: حينما لا يخلص النية لله تبارك وتعالى فإنه سيفقد نفع هذا العلم، وهذا الأمر واضح بأن العلم عبادة شرعية يتعبد بها الإنسان لله تبارك وتعالى، والعبادات لا يثاب عليها الإنسان ولا تحمد إلا حين يبتغي بها وجه الله عز وجل، بل حقيقة العبادة أصلاً هي التقرب إلى الله وابتغاء وجه الله عز وجل، هذه العبادة أن يتقرب الإنسان إلى الله في أي عمل، سواء كان عملاً قلبياً، أو بلسانه، أو بجوارحه العمل الخالص الذي يرضى الله تبارك وتعالى أن يتقرب العبد به إليه، فإذا كان هذا الإنسان لا يخلص فمعناه أنه لا يتقرب إلى الله قط، فقد بطل أصلاً مقصود العبادة.
والله تبارك وتعالى أغنى الشركاء عن الشرك، فهو القائل عز وجل: (من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه) كما حدثنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم.
بل قد نص النبي صلى الله عليه وسلم على وعيد لأولئك الذين يفتقدون الإخلاص في طلبهم للعلم، فمن تعلم علماً مما يُبتغى به وجه الله عز وجل لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عرف الجنة، فمن تعلم العلم الشرعي لغير الله فإنه متوعد بهذا الوعيد الشديد، وهو ألا يجد ريح الجنة عافانا الله وإياكم.
إذاً: فهذا الرجل الذي لم يخلص النية في طلب العلم متوعد على تعلمه، بل هو يوم القيامة من أول من تسعر بهم النار، كما أخبر صلى الله عليه وسلم أن أول من تسعر بهم النار ثلاثة: (قارئ تعلم العلم فيأتي به الله عز وجل فيعرّفه نعمه فيعرفها فيقول: ما عملت؟ قال: تعلمت وقرأت، فيقال: كذبت تعلمت ليقال عالم وقرأت ليقال قارئ، ثم يؤمر به فيسحب إلى النار) عافانا الله وإياكم.
إن الله عز وجل قد أعطاه نعمة؛ ولهذا عرّفه بهذه النعمة فعرفها وتعرّف عليها وأدركها لكنه تعلم ليقال عالم، وقرأ ليقال قارئ، ولهذا صار من أول من تسعر بهم النار، ولا شك أن هذا أعظم فوات لنفع العلم؛ لأن أهم مطلوب وأعلى مطلوب الإنسان في حياته هو نجاته من هذه النار.
ولهذا نحن أحوج ما نكون إلى استحضار النية والإخلاص في أي وسيلة، أي باب، أي طريق من طرق العلم، واستحضار النية يجعل الإنسان يشعر أن عمله عبادة.
يخرج من أول النهار، ويذهب إلى المدرسة أو إلى الجامعة، ويبقى فيها إلى ما بعد صلاة الظهر ثم يعود، وقد يبذل جهداً خارقاً وقت الدراسة لمتابعة بعض التكاليف، هذا الإنسان حينما تكون نيته خالصة لله عز وجل يكون هذا الوقت والجهد الذي صرفه عبادة لله تبارك وتعالى، فيثاب عليه عند الله عز وجل لأنه قد صرفه لله تبارك وتعالى، وقل مثل ذلك في سائر أبواب وطرق تحصيل العلم الأخرى.
ثم أيضاً تحقق الإخلاص أمان بإذن الله وضمانة من الانحراف والزيغ إلى مقاصد أخرى، فإن طالب العلم كلما تذكر أنه يطلب العلم لله عز وجل، ويتعلم العلم لله تبارك وتعالى، دعاه ذلك إلى أن يراجع نفسه ويتفاءل دائماً؛ لأن طالب العلم عرضة للهوى، وعرضة للانحراف، وعرضة لأن يكون العلم نفسه سبباً في انحرافه وضلاله كما سيأتي في بعض أنواع العلم الذي لا ينفع.
يمكن أن أضيف هنا نقطة مهمة حول قضية الإخلاص، وهي أن هذا الأمر واضح بالنسبة لمن يتعلم العلوم الشرعية، لكن من يتعلم علوماً غير شرعية، أي لا تتعلق بأحكام الشرع، وليس مصدرها النقل، إنما هي من علوم الناس في دنياهم، كمن يدرس الطب أو الهندسة أو الإدارة، فهذا أيضاً يصدق عليه هذا الأمر، ولكن كيف يخلص نيته؟ حينما يكون قصده أن ينفع المسلمين بما يتعلم، وأن يسد ثغرة يحتاجها المسلمون، فحينما يكون فعلاً صادق النية، يثاب على ذلك، أي أن القضية ليست قضية وجاهة اجتماعية، فإن بعض العلوم تعطي الإنسان وجاهة اجتماعية وقيمة اجتماعية، فهو يتعلم لأجل الوصول إلى هذه القيمة الاجتماعية، أو إلى النفع المادي، ثم إذا دار بينك وبينه حديث قال: إنك لم تنفع المسلمين، صحيح لكن أنت هل أنت تتعلم هذا الأمر لتنفع به المسلمين أو لا؟ فحينما يكون قصد المسلم في تعلم هذه العلوم أن ينفع المسلمين، وأن تتخلص الأمة من الاعتماد على أعدائها، فلا شك أن هذا الأمر الذي يقوم به عبادة لله تبارك وتعالى، أليس قضاء حوائج الناس والإحسان إليهم والإصلاح بينهم في أمور دنياهم أمراً مطلوباً؟ فحينما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أعمال الخير قال: (يصبح على كل سلامى من الناس صدقة) أي أن كل عضو ينبغي أن يقوم الإنسان بحقه ونعمته فيتصدق، فقيل له: (ليس كلنا يجد ما يتصدق به، قال: كل تسبيحة صدقة) ثم قال صلى الله عليه وسلم: (وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، وتعين الرجل على دابته تحمله أو ترفع له عليها متاعه صدق).
إذاً: أنت إذا وجدت إنساناً تعثّر في الطريق ووقفت وساعدته، فعملك هذا صدقة، فلو أن إنساناً اخترع آلة وطورها للمسلمين وتنفعهم في ذلك، فلا شك أن هذا الأمر صدقة.
وإماطة الأذى عن الطريق صدقة، الآن حينما تقود السيارة وتنزل وتزيل الأذ(55/5)
العلم الذي لا يعمل به الإنسان
النوع الثاني من العلم الذي لا ينفع: الذي لا يعمل به الإنسان: وليس المقصود العلماء ولا حتى طلاب العلم فحسب، بل المقصود به أي مسلم يعلم علماً لا يعمل به فإن هذا العلم لا ينفعه، فمن علم مثلاً أن شرب الخمر حرام ولم ينته ولم يرتدع عن ذلك فهو لم ينتفع بعلمه، من علم أن الكذب حرام، وأن الغيبة حرام، وإسبال الثياب، وأن إيذاء المسلمين إلى آخره، فمن لم يعمل بهذه الأمور فهو داخل تحت من لم يعمل بعلمه.
إذاً: قضية العمل بالعلم ليس أمراً خاصاً بالعلماء، وليس أمراً خاصاً بطلاب العلم، بل كل من علم علماً في دين الله عز وجل ولم يعمل به فهو داخل تحت هذه الدائرة.
ولهذا قال أحد السلف: والعلم ليس بنافع أربابه ما لم يفد عملاً وحسن تبصر سيان عندي علم من لم ينتفع في علمه وصلاة من لم يطهر يقول: إنه يستوي عندي من تعلم العلم فلم يعمل به، ومن صلى صلاة بغير طهارة؛ ولهذا جاء الوعيد في كتاب الله عز وجل لأولئك الذين لا يعملون بما يتعلمون: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ * إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:2 - 4] فالعبرة والجزاء إنما هو بالعمل الذي يقوم به صاحبه.
وقد اختلف أهل التأويل في هذه الآية، هل نزلت في أولئك الذين يقولون: وددنا لو علمنا أفضل الأعمال فنعمله، أو في أولئك الذين يقولون فعلنا ولم يفعلوا؟ المقصود أن هذه الآية جاء فيها الدعوة إلى العمل، وأن المخالفة بين القول والعمل مما يوجب المقت، ثم أتبعها الله تبارك وتعالى بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] فهو تبارك وتعالى يحب العاملين بما علموا.(55/6)
العلم الذي لا يظهر أثره على صاحبه
الأمر الثالث من العلم الذي لا ينفع، وإن كان هذا قريب من النوع السابق، ولكن ننص عليه لأهميته وإلا فهو جزء مما سبق، العلم الذي لا يظهر أثره على صاحبه في خشوعه وهديه وسمته: واليوم تجد عزلة بين التقوى والورع والخشوع والسمت وبين العلم، وما عرفت الأمة هذه العزلة من قبل، بل هما أمران يجب أن يتلازما: فحين يكون عند المرء علم لا يقوده إلى ذلك، فقد أوتي علماً لا ينفعه، وحين يكون عنده خشوع وتخشّع وخشية بعيدة عن العلم فهو أشبه بحال الضالين من النصارى وأهل التصوف {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية:3 - 4].
ولهذا جاء وصف أهل العلم في كتاب الله تبارك وتعالى، كما قال عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9].
فالله عز وجل هنا قد وصف الذين يعلمون بأنهم قانتون ساجدون، يحذرون الآخرة ويرجون رحمة ربهم، إذاً فالعلم كان مدعاة لأن يتحقق لديهم ذلك رجاء رحمة الله ورغبته، والخشية من عذابه والقنوت والعبادة والخشوع لله سبحانه وتعالى.
وفي سورة الإسراء قوله تبارك وتعالى: {قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109].
ولهذا قال أحد السلف: من أوتي من العلم ما لم يبكيه فحري ألا يكون أوتي علماً، ثم قرأ هذه الآيات.
نعم لأن الله عز وجل قال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء:107 - 109] فهذه حالهم، وهذا أثر العلم عليهم وما جلبه لهم؛ ولهذا كان الشأن في عهد سلف الأمة ألا يلبث الرجل يطلب العلم حتى يُرى أثر ذلك في تخشعه وصلاته وعبادته.
وكانوا كما قال جندب رضي الله عنه: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم غلماناً حزاورة فتعلمنا الإيمان ثم تعلمنا القرآن فازددنا به علماً).
وفي وصف النبي صلى الله عليه وسلم لشأن مجالس الذكر التي تشهدها الملائكة كما أخبر صلى الله عليه وسلم: (أن لله ملائكة سيارة يتبّعون حلق الذكر، فإذا جاءوا إلى هذا المسجد قالوا: هلمّوا إلى حاجتكم، ثم يصعدون إلى ربهم تبارك وتعالى فيسألهم عز وجل فيقول: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يسبّحونك ويحمدونك ويهللونك ويكبرونك، قال: فماذا يسألوني؟ قالوا: يسألونك الجنة، قال: فمم يستجيرون؟ قالوا: من النار، قال: أشهدكم أني قد أعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا، قالوا: فيهم فلان عبد خطاء، ليس منهم إنما جاء لحاجة فجلس، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
وهذا الحديث من أعظم الأدلة على هذا الأمر؛ لأنه وصف هؤلاء بأنهم يسبحون الله ويحمدونه ويهللونه ويكبرونه، فهذا شأن طلبة العلم، وهذا شأن الذين يحضرون مجالس العلم، ثم هم يسألون الله الجنة ويستعيذون به من النار، حتى حينما قال الله: قد أعطيتهم ما سألوا وأجرتهم مما استجاروا به كأنهم تساءلوا فقالوا: فيهم فلان خطاء، يعني أن الأصل في هؤلاء أنهم بعيدون عن المعصية والخطيئة، ولهذا لما رأوا ذاك الرجل جلس معهم كأنهم رأوا أن هذا ليس متصفاً بصفاتهم وليس مثلهم، فكأنهم رأوا أنه لا يستحق هذا الجزاء الذي وُعد به هؤلاء، وهذا الرجل ما استحق هذا الأمر إلا بصحبته هؤلاء: (هم القوم لا يشقى بهم جليسهم)، فإذا كان هذا الجليس قد غُفر له لأنه جالسهم وصاحبهم، فما بالكم بحالهم هم؟ فأنت لا تطمع وتطمح أن تكون مثل هذا الرجل لأن هذا الرجل كما جاء في هذا الحديث قد غُفر له، لأنه صاحبهم ولأنه جالسهم، وهذا يعني أن منزلة هؤلاء وأن ثواب هؤلاء أعظم مما يصل إليه هذا الإنسان الذي ما غُفر له إلا لأنه جالسهم، فكيف إذا كان مثلهم وعمل مثل عملهم؟ إذاً يجب علينا أيها الإخوة أن نتفقد أنفسنا، وأن نتساءل: أين أثر العلم على هدينا وعلى سلوكنا وسمتنا وخشوعنا؟ ولماذا نرى أن قضية الورع وقضية الهدي والخشوع والعبادة باب آخر غير باب العلم؟ لا.
فهما قرينان لا يفترقان؛ ولهذا حين قيل للحسن وهو من أورع الناس: يا عالم، قال: هل رأيت عالماً قط؟ إنما العالم من يخشى الله عز وجل.
وكما كان قول السلف:(55/7)
العلوم التي لا تنفع في أصلها
الأمر الرابع: العلوم التي في أصلها لا تنفع: هناك علوم قد يشتغل بها الإنسان فلا تنفعه، وقد يهتم الإنسان أحياناً بمطالعات وقراءات وتعلم علوم، وتراه فقيهاً في هذه العلوم وهي لا تجلب له مصلحة لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7] نفى عنهم العلم فقال: {لا يَعْلَمُونَ} [الروم:6] ثم قال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] أثبت لهم العلم بعد أن نفاه عنهم، فهو هنا قد نفى عنهم العلم المعتبر في اصطلاح الشرع، أو أنهم لا يتعلمون علماً ينفعهم، فبركة هذا العلم وأثره قد نفيت عنهم، ثم أثبت لهم العلم فقال: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:7] وأي علم لا ينفع الإنسان في دينه ولا في دنياه هو داخل تحت هذه الدائرة وهذا الصنف، وما أكثر الناس اليوم ممن يتعلمون ويقرءون، ويبذلون جهوداً ومع ذلك لا ينتفعون بما تعلموا، بل قد ينتفع الناس بما تعلموا من هؤلاء وعلموهم به وهم حطب جهنم عافانا الله وإياكم.
أضرب لكم مثالاً حتى تعرفوا الفرق بين قضية تصحيح وسلامة نية الإنسان ودينه وبين ظلامه.
مثلاً: الذي اخترع الكهرباء كم ينتفع به الناس اليوم، فماذا حقق هؤلاء؟ تاه الأنام بقولهم فاليوم صاحي القوم عربد والله لا موسى ولا عيسى الكليم ولا محمد عرفوا ولا جبريل وهو إلى مقام القدس يصعد من كنه ذاتك غير أنك واحد في الذات سرمد فليخسأ الحكماء عن ذات له الأفلاك سجد من أنت يا رسطو ومن أفلاط مثلك يا مبلد؟ ومن ابن سينا حين قرر ما هذيت به وشيد؟ أي محمد صلى الله عليه وسلم وموسى وجبريل وغيرهم لم يعرفوا عن الله تبارك وتعالى إلا أنه واحد تبارك وتعالى في الذات فقط، فهل أنتم يا أفلاطون وابن سيناء وفلان وفلان علمتم علماً لم يعلمه هؤلاء؟ فما قيمة ما تعلمه هؤلاء؟ وكما يقول أحدهم حين يحكي عن نفسه: لقد طفت في تلك المعاهد كلها وجولت طرفي بين تلك المعالم فلم أر إلا واضعاً كف حائر على ذقن أو قارعاً سن نادم يعني طاف وذهب وفعل وتعلم، ثم بعد ذلك لم ير علماً ولهذا أبو المعالي الجويني والرازي وغيرهم، أوصوا من بعدهم ألا يخوضوا في هذا العلم ولا يتعلمونه؛ لأنه علم عرف هؤلاء أنه لا ينفع كما قال الرازي: ومن جرب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي، وتعلم مثل ما تعلمت.(55/8)
استخدام العلم للصد عن حدود الله
النوع السادس وهو من أخطرها: حينما يستخدم الإنسان هذا العلم للصد عن حدود الله: وما أخطر ذلك أيها الإخوة، ما أخطر أن يوظف العلم للصد عن سبيل الله، والقمة في ذلك هم ضُلّال أهل الكتاب، حكى الله تبارك وتعالى عنهم فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا * أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا * أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا} [النساء:51 - 54].
جاء كفار قريش إلى أهل الكتاب فسألوهم أهم خير وأهدى أم محمد صلى الله عليه وسلم؟ فقالوا: أنتم فنزلت هذه الآيات.
مع أن أهل الكتاب يعلمون تمام العلم أن النبي صلى الله عليه وسلم على الحق، فكانوا قد جعلوا هذا العلم الذي تعلموه مجرد صد، {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ} [آل عمران:99] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [آل عمران:71] فهؤلاء قد جعلوا هذا العلم وسيلة للبس الحق بالباطل، والصد عن سبيل الله، فيأتي الإنسان وقد أوتي بياناً وحجة، وأوتي علماً، وحفظ من المتون والأقوال والمسائل، فيأتي ينزل هذه النصوص وينزل هذه الأقوال، وينزل هذا العلم على وقائع ليست على ما جاءت عليه، فيكون سبباً للصد عن سبيل الله، وسبباً لفتنة الناس عن دين الله عز وجل، وما أكثر هذا الصنف!(55/9)
كتم العلم
سابعاً من العلم الذي لا ينفع: حينما يكتم المرء العلم: قد لا يلبس الحق بالباطل، وقد لا يصد عن سبيل الله، لكنه قد يكتم العلم الذي يجب عليه بيانه كما قال تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:159 - 160].
حينما يجب على الإنسان أن يبين العلم فيكتمه يتعرض لهذا الوعيد، فيصبح هذا العلم غير نافع لصاحبه، ما قيمة العلم الذي تعلمه؟ وهب أنه حصّل ما حصّل لقد كان هذا العلم سبباً لأن تحيق عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين عافانا الله وإياكم، ولهذا يخبرنا تبارك وتعالى أنه أخذ الميثاق {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [آل عمران:187 - 188].
ولهذا من سئل عن علم فكتمه أُلجم يوم القيامة بلجام من نار عافانا الله وإياكم.
إذاً فحين يكتم المرء العلم في موقف يجب عليه أن يبينه فإنه لا ينتفع بعلمه، وأشد من ذلك الصنف الذي قبله الذين يلبسون الحق بالباطل ويشترون بآيات الله ثمناً قليلاً، ولا شك أن الذي يوظف العلم للفتنة والصد عن سبيل الله ويأخذ مقابل ذلك أجراً أنه ممن يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة:174].
صورة أخرى نراها كثيراً في واقعنا، وهي من صور العلم الذي لا ينفع، هذه الصورة تتمثل في نماذج من الناس، ممن تعلم العلم الشرعي، وحصل على شهادات وعلى مناصب، كم هم الآن في العالم الإسلامي خريجو الكليات الشرعية والدراسات الشرعية؟ ثم بعد ذلك بقي هذا الإنسان في عمل لأجل أن يأخذ على ذلك أجراً ومرتباً ولم تستفد الأمة ولم يستفد أحد من هذا العلم الذي تعلمه، بل صار من أبعد الناس عنه، فهذه صورة من العلم الذي لا ينفع، والذي استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم.
هذه بعض الصور أيها الإخوة من العلم الذي لا ينفع، ولا نستطيع أن نحصره في دائرة واحدة فكل علم لم يحقق للمرء مصلحة في الآخرة وهي المقصود الأعلى والأهم من تحصيل العلم، أو مصلحة في دنياه فهو داخل تحت هذا العلم الذي يستعيذ النبي صلى الله عليه وسلم بالله منه في دعاءه.
فنسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، ونستعيذ به تبارك وتعالى من العلم الذي لا ينفع، إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(55/10)
الأسئلة(55/11)
استخدام الآخرين للعلم النافع استخداماً سيئاً
السؤال
إنسان تعلم علماً ينفع الناس، ولكن هناك من استغل هذا العلم لمضرة الناس، فهل يلحق صاحبه إثم إذا كان هو مخلصاً لله، أي أن مخترع الكهرباء لو كان مخلصاً لله وهناك من استعمل الكهرباء للسينما فهل يناله إثم؟
الجواب
المسلم عليه أن يخلص لله دائماً وليس مسئولاً عن سوء استخدام الناس لثمرة علمه، يا أخي حتى العلم فبعض المرجفين إذا أراد أن يضع فتنة ويثير فتنة ذهب ليراجع ويقرأ القرآن ويقرأ صحيح البخاري ويقرأ المغني وكتب السلف وفي إعلام الموقعين، ويأخذ نصوصاً يستدل بها! هذه صورة من صور الاستخدام السيئ للعلم، حتى العلم الشرعي قد يستخدم أحياناً استخداماً سيئاً، وليست مسئولية هؤلاء الذين علّموا هذا العلم ونشروه للناس.(55/12)
مجالسة أصحاب الشر
السؤال
ما رأيك بالذي يجالس أصحاب الشر من غير داعي ممن يكثرون من الضحك والغيبة.
الجواب
هذا ليس بعلم ولا ينفع، إذا كان العلم الذي لا ينفع مذموماً فما بالك بما هو وراء ذلك من مجالس اللهو، والله تبارك وتعالى وصف عباده وأضافهم إلى عبوديته فقال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63] {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان:72] فمجالس الزور لا ينبغي للمسلمين أن يشهدوها ولا يحضروها، وإذا مروا بهذه المجالس أن يمروا بها كراماً.(55/13)
الامتناع عن الخطابة خوف الخطأ
السؤال
أنا أريد أن أتكلم وأريد أن يكون عندي القدرة على الخطابة، لكني أخاف من الخطأ فأسكت، فهل هذا يعتبر من كتمان العلم؟
الجواب
يختلف الخطأ يا أخي، فهناك خطأ في حديث الإنسان وإلقائه، يعني أن يتحدث الإنسان فيرتبك أو يتردد، وهذا أمر طبيعي لا بد منه، ولا يصل الإنسان إلى الإتقان إلا على قنطرة وجسر هذه الأخطاء، أو الخطأ من النوع الآخر الذي يكون في العلم الذي يبلغه، فالأول الحل في المران والتدرب وتحمل أن يقع في الأخطاء حتى تقل ثم تضمحل.
أما النوع الثاني فالحل ألا يتكلم الإنسان إلا بما يعرف، وإذا كان الإنسان يشك في أمر فلا يتكلم فيه بغير علم، أو يقول: ما أعلمه هو هذا وقد يكون الأمر بخلاف ذلك.
المهم ألا يتكلم الإنسان إلا عما يعرف، ويضبط ألفاظه حين يتكلم به، هذا هو الحل للسلامة من الخطأ، لكن لو اجتهد الإنسان وتكلم بأمر يظنه حقاً ولم يكن كذلك، فإذا اجتهد وبذل وسعه وأخطأ، فإنه يؤجر على ذلك أجراً واحداً.(55/14)
معنى آية: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو)
السؤال
ما معنى {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]؟
الجواب
هذا فيه إخبار من الله تبارك وتعالى عن حال أهل الصداقة والخلة يوم القيامة، وهذه الآية جاءت في سورة الزخرف، فقوله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38] وهذه في نفس السورة التي ذكر الله عز وجل فيها هذه الآية الأولى.
فالذي أعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى يقيض الله له شيطاناً فهو له قرين، والشيطان قد يكون من شياطين الإنس أو الجن، {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف:38] أي: ليتك كنت في المشرق وأنا في المغرب حتى لم نلتق ولم نصل إلى هذه المدينة.
والطائفة الأخرى هم الذين حكى الله عز وجل عنهم بأنهم {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] فهذا حال أولئك، وهذا حال هؤلاء، وحال هؤلاء يتمنى أحدهم أن يكون بينه وبين صاحبه بعد المشرقين، ويتبرأ لله عز وجل منه يقول: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:28 - 29].
بل يقولون لله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] يسألون الله أن يزيد أصحابهم من العذاب، وأن يضاعف عليهم العذاب لأنهم كانوا سبباً في إضلالهم.
أما هؤلاء فلهم شأن آخر، حتى حين يدخلون الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (والله ما أحد أشد مبالغة منهم حين يسألون الله فيقولون: يا رب إخواننا كانوا يصلون معنا ويقومون معنا، فيقول الله عز وجل لهم: اذهبوا فأخرجوا من عرفتم منهم من النار وقد حرم الله عز وجل صورهم على النار؛ لأنهم يسجدون لله تبارك وتعالى، فيخرجون من النار ثم يدخلونهم الجنة) يعني حتى الذين كانوا يصلون معهم ويقومون معهم من أهل المعاصي، بعد أن دخل هؤلاء الجنة وأرضاهم الله تبارك وتعالى، لم ينسوا أولئك وصاروا يطالبون الله تبارك وتعالى أن يخلّص إخوانهم من النار، أما أولئك فيقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38] عافانا الله وإياكم.(55/15)
معاودة الغيبة والعلم النافع
السؤال
أعلم علماً يقيناً بتحريم الغيبة والكذب وبعض الأمور، ولكن كثيراً ما أرتكبها ثم أستغفر الله، ثم أمسك، فهل يكون علماً لا ينفع، وما الحل للبعد عنها جزاك الله خير؟
الجواب
النفع ليست قضية واحدة، يعني إما أن توجد أو لا توجد! بل هي درجات، لو أخذنا ثلاثة أشخاص وأعطينا كل واحد مبلغاً من المال قدره مائة ريال، فالأول أحرقها بالنار، والثاني استفاد منها فتصدق بها جميعها، والثالث تصدق بشيء منها وصرف جزءاً في بعض حاجاته، فالأول لم ينتفع بها إطلاقاً، والثاني انتفع بها كلها، والثالث حصّل بعض النفع منها، فهكذا شأن العلم، فبعض الناس قد يتعلم علماً فيعمل به في نفسه ويكتفي بذلك، وبعض الناس يعمل به ويدعو الناس إليه ويعلم غيره، وبعض الناس يتعلم هذا العلم فيعمل به لكنه يقصر، والبعض لا يعمل به، فهناك من لم ينتفع به أصلاً، وهناك من انتفع به بعض الانتفاع، فأفضل الناس الذي تعلم هذا العلم وعمل به وعلمه ودعا الناس إليه، فالانتفاع يتفاوت بقدر ما تعمل بهذا العلم الذي تعلمته تكون انتفعت به، فليست كتلة واحدة إما أن توجد أو لا توجد.(55/16)
السؤال عن الأمور التي لا تقع
السؤال
ذكرت حديث اختيار الجليس، هل العكس ينطبق على الإنسان الملتزم الذي يجلس مع الفسقة، بمعنى أنه يفتن دون الرفقاء والأصحاب؟
الجواب
الشق الثاني ينبغي ألا يرد أصلاً؛ لأن قضية الاستجابة إلى الفسقة هذه قضية غير واردة، ولا بد دائماً أن يكون الرائد في العلم الذي ينفع، ولهذا من الصور التي لا تنفع وما أشرنا إليها اختصاراً، أن كثيراً من السلف كان إذا سأله أحد عن مسألة قال: وقعت أم لا؟ قال: لا، قال: انتظر حتى تقع، نحن نعلم علماً نحفظه يترتب عليه يقين، التفريع في المسائل التي ليس وراءها عمل مذموم، أحياناً الذي يطالع في التفريعات التي لا يترتب عليها عمل ولا فيها فائدة في الدنيا ولا في الآخرة، فهذه صورة من الصور التي لا تنتفع بها، الأصل أنه غير وارد أن يجالس الشاب المسلم الفسقة وهو ملتزم ويبقى معهم، ولهذا فهذا السؤال غير عملي، افترض أنا نقول إنه ينطبق عليه أو لا ينطبق، لكن المفترض ألا تجالسهم أصلاً؛ لأنك قد نُهيت عن صحبة هؤلاء وعن مجالستهم سواء كان ينطبق هذا أو لا ينطبق، ولا يترتب عليه شيء عملي بالنسبة لك.
لكن إذا كان الإنسان يحب أهل الفسق ويرتاح إليهم فليراجع نفسه وليراجع إيمانه فإن في إيمانه ضعفاً، وإلا فالإنسان الذي عنده قوة إيمان وتقوى ينفر من أهل الفسق والفجور، ويحب أهل الصلاح والتقوى.(55/17)
دراسة المواد العلمية كالرياضيات هل هي من العلم النافع
السؤال
ما رأيك في المواد العلمية كالرياضيات والكيمياء وغيرها، هل تعتبر علماً لا ينفع، خاصة وأن حصصها أكثر من حصص القرآن؟
الجواب
نحن لسنا في مجال نقاش، ما هي المناهج التي ينبغي أن نعلمها، وكيف، والمقدار، وكم؟ ليس هذا مجال نقاش، لكن أنت لا بد أن تتعلم هذه شئت أم أبيت اقتنعت أم لا، فدع القضية فيما ينفع، واضبط هذا العلم الذي تتعلمه فيما ينفع، حتى القضية التي قلتها، فالعلم علمان: علم شرعي لدين الله عز وجل، وأحكام الحلال والحرام، فهذا العلم لا إشكال في أنه علم نافع يرضي الله ورسوله ويجب أن تخلص به النية لله تبارك وتعالى، والعلوم الأخرى تنفع إن أردت بها نفع المسلمين وتحقيق الخير لهم وإفادتهم، ولا شك أن الأمة تحتاج إليها فأصبح ذلك علماً نافعاً، وإن أردت بها مجرد وجاهة اجتماعية أو مجرد تحصيل وظيفة فقط صار بالنسبة لك علماً غير نافع.(55/18)
المخلص لا يحب المدح
السؤال
حينما يعمل عملاً وهو مخلص لله، ولكن يحب أن يمدحه الناس؟
الجواب
هذا غير مخلص، فالمخلص لا يحب أن يمدحه الناس، لكن إذا شابته شائبة من شوائب الرياء على حسب هذه الشائبة، وقد فصّل أهل العلم في ذلك، فإذا كان أصل العمل لغير الله فهذا خطير، لكن إذا كان عملاً لله ثم دخلته شائبة! والإخلاص درجات ويتفاوت الناس فيها.(55/19)
أثر المعاصي على الطلب والتحصيل
السؤال
ما هو أثر المعاصي على الطلب والتحصيل، وما هي أفضل الوسائل لحفظ القرآن الكريم وإتقانه؟
الجواب
المعاصي قد تكون سبباً لحرمان العلم أصلاً، فيقع الإنسان في النسيان أو قد تشغله عن العلم وتصرفه عن العلم، وقد تكون سبباً لحرمان بركة العلم؛ لأنه قد يحصّل الإنسان العلم لكن يُحرم البركة فيصبح علماً لا ينفع.(55/20)
الحلف بالطلاق
السؤال
في يوم من الأيام في العطلة قلت لأبي: سوف أذهب إلى مدينة كذا وقت صلاة المغرب والعشاء، أو إلى الساعة الثانية عشرة ليلاً، ولكن أبي رفض قال: لن تذهب إلا بعد الفجر، فقلت له: عليّ الطلاق إني سوف أذهب قبل الساعة الثانية عشرة، ولكنني أطعت والدي وذهبت في الوقت الذي حدده لي، فهل يقع عليّ الطلاق إذا تزوجت أو أكفّر أم ماذا أفعل؟
الجواب
هذا الذي بدأ من الآن يطلق عنده مشكلة، أصلاً حلفه بالطلاق أمر غير مشروع أصلاً، وإذا حلف الإنسان فليحلف بالله عز وجل، وهذه اليمين شاعت عند الناس لقلة تعظيمهم لله تبارك وتعالى، ولماذا صار الحلف باباً من أبواب التوحيد؟ لأنه يرتبط بتعظيم الله، وهذا حلف بالطلاق لأن الطلاق أصعب شيء عنده، حيث يجعله يفارق أهله ويهدم أسرة، وهذا من قلة تعظيم الله تبارك وتعالى، وهو من اتخاذ آيات الله هزواً؛ لأن الطلاق حكم شرعي شُرع لحل المشكلات.
ثم إن من الدليل على سخافة عقل الإنسان أن يحلف بالطلاق! فعندما يدعو الناس للغداء يؤكد ذلك بالطلاق وهكذا! فما هي علاقة الزوجة بفلان؟ سواء استجبت لدعوتك أو ما استجبت فما علاقة هذه القضية بمسألة الطلاق؟ فهذه عادة يعملها أحياناً السفهاء والناس الذين لا يقومون بالواجب؛ لا برعاية الأهل ولا بمراعاة الحياة الاجتماعية، بل هذا من هوان قيمة المرأة شريكة الإنسان في حياته، والله عز وجل أخبر أنه أخذ بذلك ميثاقاً غليظاً، أي في هذا العقد والنكاح.
أنا ذهبت إلى مجال أبعد من القضية فأقول: إن هذا دليل على مشكلة في تعظيمنا لله أصلاً؛ لأننا نعدل عن الحلف بالله إلى هذا الأمر، ودليل على تفكك العرى وقيمة الحياة الاجتماعية، ولهذا نشأت مشكلات الطلاق ونشأت مشكلات كثيرة في مجتمعات المسلمين بسبب عدله في الحلف، وأقول للسائل أن يرجع لأقوال الفقهاء في الطلاق، وأنه إذا طلق ولم يتزوج إذا قال إذا تزوجت فأنت طالق، أو كل من تزوجت فزوجتي طالق! إلى آخر التفريعات.(55/21)
لا يعذر بالجهل من يقدر على التعلم
السؤال
هل يعذر الإنسان بجهله إذا كان بإمكانه التعلم ولكنه شُغل بالدنيا؟
الجواب
لا، إذا كان يستطيع أن يتعلم وانشغل فلا يُعذر.(55/22)
عدم التبكير لصلاة الفجر خوف الحسد
السؤال
أنا أريد الإخلاص ولكن كيف تفسر لي هذه الحالة: الذي يريد أن يصلي الفجر ولكن يقول إذا ذهبت إلى المسجد أول مرة أخاف أن يحسدوني من التبكير للمسجد؟
الجواب
لن يحسدك أحد إن شاء الله، هذا من المسابقة في الخيرات، وما يشرع للإنسان أن يتأخر عن العمل الصالح لأجل هذا أبداً.(55/23)
العلم الذي لا ينفع لا يورث الخشية
السؤال
الله سبحانه وتعالى بين في كتابه أن الذين يخشونه من عباده هم العلماء، ولكن نجد علماء اليهود والنصارى وأهل الفسق والعلمانيين لا يخشون الله، فكيف توجه هذه الآية؟
الجواب
نعم هؤلاء عندهم علم لكنه لن ينفعهم: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:175 - 176].(55/24)
تعلم العلم بنية الفساد
السؤال
إنسان كانت نيته وتخطيطه من بداية علمه أن يفسد في الأرض، وبعد تخرجه غيّر نهجه وبدأ بالتعليم، فهل المدة التي كانت نيته فيها فاسدة يتحمل عليها الإثم؟
الجواب
لا تشغل نفسك بما مضى، العلم هو كما قال بعض السلف: تعلم العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله، مثلاً إنسان يتعلم لأجل تحصيل الدنيا، ثم تحسن نيته فيبقى العلم الذي تعلمه موجوداً عنده فيستفيد منه، فأنت إذا صلحت نيتك وخلصت فلا تربط نفسك بما مضى من دهرك، والزم الذي بقي عليك، وقضية النية التي نويتها والعمل الذي عملته فتب إلى الله عز وجل وكفّر عن ذلك بنشر الخير والعلم.(55/25)
الدراسة النظامية وتأثيرها على الإخلاص
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يقول: إن الدراسة النظامية تنقص قدراً من الإخلاص؟
الجواب
هذا غير صحيح، صحيح أنه تُفتح للإنسان فرص قد تؤثر على الإخلاص، لكن الإنسان إذا أخلص نيته واتقى الله وراجع نيته دائماً تصبح خيراً وكم من المسلمين اليوم من استفاد من هذه الفرص، وسلك مجال الكتابة فيما ينفع المسلمين سواء في علوم الدين أو علوم الدنيا.(55/26)
صلاة الاستخارة
السؤال
أرجو أن تبين لنا كيفية أداء صلاة الاستخارة، وهل تكون صلاة الاستخارة في الأمور الخيرية مثل الجهاد وغيره؟
الجواب
صلاة الاستخارة ركعتان من غير الفريضة، ثم يدعو بالدعاء الذي أخبرنا به النبي صلى الله عليه وسلم.(55/27)
إماطة الخبز ونحوه عن الطريق
السؤال
ذكرت أن إماطة الأذى عن الطريق صدقة، فهل إماطة ما كان من نعم الله كالخبز وغيرها تدخل في هذا وتعتبر أذى؟
الجواب
الفرق بين أن يكون العمل عملاً مشروعاً، وبين أن يكون داخلاً ضمن هذا النوع مما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا كانت تؤذي الناس في طريقهم فإزالتها تعتبر من إماطة الأذى، لكن قد يزيلها الإنسان تقديراً لنعم الله عز وجل فيؤجر على ذلك، مثلما لو وجدت أوراقاً فيها اسم الله تبارك وتعالى مرمية وأزلتها، أنت أزلت هذه الأوراق عن الطريق لكن احتراماً وتعظيماً لاسم الله عز وجل فعلت ذلك.(55/28)
ما يبدأ به من العلم
السؤال
لقد ذكرت في كتاب الشباب والصحابة أن أول علم يتعلمونه بعد القرآن هو العقيدة والتوحيد، فما رأيك بمن بدأ بالحديث قبل العقيدة، وهل من اللازم ما ذكرته؟
الجواب
العلوم متلازمة، فالقرآن يتعلم منه الإنسان مسائل الإيمان ومسائل الأحكام التي هي العقيدة والفقه، وسنة النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يتعلم منها هذا وذاك، فالقضية متلازمة لا نفصل بينها، وما لم يكن أحد العلوم ليؤدي إلى هذه الثمرة فلا خير فيه، إذا كان الإنسان يتعلم ويحفظ لمجرد أن يتسلى، ويقرأ حديث النبي صلى الله عليه وسلم لأنه يحفظ فقط؟ لا، إذا قرأها فهي داخلة تحت هذا الأمر، إما أمر من أمور الإيمان والاعتقاد، أو أمر من أمور الأحكام والسلوك يلتزم به ويعمل به في حياته.(55/29)
معنى الفقه في الدين
السؤال
قال صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين) هل المراد هنا بالعلم علم الفقه؟
الجواب
من الأخطاء الربط بين اصطلاحات الفقهاء والاصطلاحات الشرعية، فالفقهاء قد يصطلحون على مصطلح لكنه ليس هو المصطلح الذي جاء في الكتاب والسنة فيقع خلط، فمثلاً كتب الرجعة، عند الفقهاء هي الرجوع للزوجة بعد الطلاق، لكن في الشرع قد لا يكون كذلك، القضاء والأداء مصطلحات كثيرة قد يصطلح عليها الفقهاء وهي تعني عندهم اصطلاحاً معيناً لكنها في لفظ الكتاب والسنة ليست كذلك، ولهذا يقع الإنسان في لبس، فيقصر المصطلح الشرعي على هذا المصطلح الفقهي، والفقه في الدين جاء في آيات كثيرة بغير هذا المعنى {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:7] هل المقصود بها أنهم لا يعرفون أحكام الفقه والحلال والحرام، أم أنهم لا يعرفون العزة لله ولرسوله، فجعل الله في ذلك فقهاً، هذا جاء بنص القرآن، فالفقه المقصود به إذا جاءت بنصوص الكتاب، والسنة المقصود به العلم بدين الله عز وجل أياً كان.(55/30)
الدعاء على أعداء الدين بالموت
السؤال
هل يجوز في دعاء النوازل أن يدعو على اليهود والنصارى وغيرهم من أعداء الدين؟
الجواب
عند دخول المنزل لا يُشرع للإنسان أن يدعو على اليهود والنصارى، أما إذا كان في دعاء النوازل فهذا مشروع للمسلمين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم منزل الكتاب هازم الأحزاب اهزمهم وانصرنا عليهم.(55/31)
الذنوب تمنع العلم
السؤال
ما رأيكم بمن يجعل الذنوب التي يرتكبها مانعاً وحاجزاً عن التوبة، كذلك يجعلها مانعاً له عن تعلم العلم الشرعي؟
الجواب
من عقوبة الإنسان على ذنبه أن يحول بينه وبين ذلك، لكن المفترض للمسلم ألا تحول الذنوب بينه وبين التوبة، وحتى لو وقع في ذنب فلا يمنع ذلك عن تعلم العلم ولا يمنع ذلك عن التوبة والالتزام ومجالسة الأخيار، بل ذلك يكون بإذن الله سبباً لتخليه عن هذه الذنوب وتراجعه عنها.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه وسلم.(55/32)
ماذا بعد الالتزام؟
الإنسان عرضة للغفلة والعصيان، والانهماك في مستنقعات الشهوة ورعونات النفس، خاصة الشباب، ثم يمن الله تعالى بالتوبة على من يشاء من عباده، فإذا تاب الإنسان والتزم فعليه أن يأخذ نفسه بالمجاهدة والابتعاد عن دواعي الشهوات، والحذر من الانتكاس بعد الهدى.(56/1)
الهداية عودة إلى الأصل
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فهي فرصة طيبة أن نلتقي بإخواننا الشباب هذا اللقاء المبارك في هذه البلدة التي تشرفنا بزيارتها، فنسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون وإياكم من المتحابين بجلاله، وأن يظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
معشر الشباب! عنوان هذه المحاضرة كما سمعتم: ماذا بعد الهداية؟ ظاهرة نشهدها كثيراً ونراها، وربما نكون نحن أيضاً من نتاج هذه الظاهرة، ترى صورة ذاك الشاب الذي عاش فترة من الغفلة والإعراض والجرأة على ما حرم الله سبحانه وتعالى، وعاش مرحلة من التيه والضياع، ثم من الله سبحانه وتعالى عليه بالهداية، فهداه الله عز وجل، وسلك طريق الخير والاستقامة.
أو ذاك الشاب الذي قد لا يكون كصاحبنا، قد لا تكون له تجربة في الفساد والإغراق فيه والانحراف، لكنه هو الآخر له تجربة قريبة من هذه التجربة، قد يكون عاش شخصاً عادياً لا اهتمام له، وغاية ما يشكل عنده أهمية فوز فريق رياضي أو تقدمه، أو قضية صغيرة أو كبيرة، أما قضية الاستقامة وقضية الدين فلا تقدم عنده ولا تؤخر كثيراً، ثم من الله سبحانه وتعالى عليه هو الآخر بالهداية، ونعتبرها في الواقع نقلة مهمة، فسلك مع الشباب الأخيار طريق الخير والاستقامة، فصار مع هذا الرأي.
ومن ثم كان لابد لهؤلاء وأولئك ولجميع الذين سلكوا هذا الطريق من حديث خاص حول هذه المرحلة التي انتقلوا إليها وسلكوها، ولئن كان الحديث فيما قد يبدو لنا خاصاً بأولئك الذين هم حدثاء عهد بهذه المرحلة إلا أني أتصور أنه قد يعنينا جميعاً، وسنجد جوانب من هذا الحديث تعنينا ونشترك فيها جميعاً.
الجانب الأول: هذه الهداية إنما هي عودة إلى الأصل: فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الروم:30 - 31].
أي: أن الله سبحانه وتعالى فطر الناس منيبين إليه، ومسلمين له، ومتوجهين له، فالبعض قد يتصور أنه ما دام هو قد تحول إلى هذا الطريق، أو ما دام فلان من الناس أياً كان هذا الشخص قد تحول إلى هذا الطريق، فإن هذا يعني أنه قد سلك طريقاً آخر، ومسلكاً آخر، ودرباً آخر.
ولكن نحن نقول: إن هذا الشخص إنما عاد إلى الأصل، وعاد إلى المسار الطبيعي الذي كان ينبغي أن يسير فيه، والذي كان هو عليه أصلاً، فإن الله سبحانه وتعالى قد أخبر أنه فطر الناس منيبين إليه، ومتوجهين له، ومسلمين له.
ونلمس هذا المعنى أيضاً واضحاً، بل قد يكون بصورة أدل وأقوى في الدلالة من قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه يقول: (خلقت عبادي حنفاء، فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن ذكر الله عز وجل، فحرمت عليهم ما أحللت لهم).
إذاً: الجميع خلق أصلاً على هذا الطريق، وخلق في هذا المسار، ثم جاءته الشياطين فاجتالته، فأخذ المسار الآخر، فعندما يهتدي فإنه يعود إلى الأصل الذي كان هو عليه وخلق عليه.
وكما قال صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا على الفطرة، حتى يعجم عنه لسانه، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه).
هذا جانب من الجوانب التي تعطينا دلالة على أن هذا الشاب الذي سلك هذا الطريق لم يسلك طريقاً جديداً أصلاً، ولم يسلك مساراً مبتدعاً، إنما عاد إلى الأصل وإلى الوضع الطبيعي والمسار الذي كان عليه.
جانب آخر أيضاً: اخرج خارج المدينة وتأمل فيما أمامك تجد الجبال والأشجار، ومظاهر هذا الكون، وارفع نظرك إلى السماء تر السماء والنجوم وتر ما فيها، وحينئذٍ ستتذكر قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج:18].
إذاً: فترى هذا الكون أمامك بكل ما فيه يسجد لله سبحانه وتعالى، يسجد له عز وجل من في السماوات ومن في الأرض، والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب، وكثير من الناس، وكثير حق عليه العذاب، حتى كثير ممن حق عليه العذاب هو في حقيقة أمره في بعض جوانب حياته يخضع ويسجد ويسلم لله سبحانه وتعالى.
{وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15]، لعلك تبحث عن الظل لتجلس تحته، أو لتوقف سيارتك في مكان تستظل به، ثم تتذكر فعلاً هذا الظل الذي يمتد ويعود مرة أخرى ويرجع، فتراه في الصباح يبدأ يتناقص، ثم ف(56/2)
الفضل لله وحده
ثانياً: الفضل لله وحده: قد تتساءل بعد فترة فتقول: وفقت لسلوك هذا الطريق نتيجة قدراتي العقلية، لأني إنسان عاقل ومتزن، أملك قدرة على التفكير، و، و، وغير ذلك، فتبدأ تحلل بعض الأسباب التي أدت بك إلى العودة إلى الطريق الصحيح، وتنسى السبب الأساس والأهم وهو فضل الله سبحانه وتعالى وحده.
وهي قضية يجب أن تتصورها، وألا تغيب عن بالك، فهي من باب الاعتراف بالفضل لأهله، فالله سبحانه وتعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113].
إذاً: النبي صلى الله عليه وسلم كان محتاجاً إلى فضل الله، وإلى رحمة الله، وإلى توفيق الله؛ ليصرف الله سبحانه وتعالى عنه كيد أولئك الذين هموا أن يضلوه.
وأبونا إبراهيم الذي سمانا المسلمين كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه، يقول وهو يدعو ربه: {فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ} [الأنعام:77]، فإبراهيم غير مستغن عن هداية الله سبحانه وتعالى، وتوفيق الله عز وجل له.
والله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي: (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم).
إذاً: فأنت ما لم تستمد الهداية والتوفيق من الله سبحانه وتعالى فأنت في ضلال وفي خسران.
والنبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يصور لنا حقيقة هذا الإنسان، ومدى قدرته على التحكم في نفسه، أو مدى قدرته على الاستغناء عن مولاه سبحانه وتعالى، فيقول: (إن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء)، ومفهوم تقليبها ليس مفهوماً ضيقاً، فنحن نفهم مثلاً أن هذا الحديث خطاب لمن كان مستقيماً على الخير والطاعة أنه قد ينحرف.
لكن أيضاً حتى الإنسان الفاجر العاصي يمكن أن يقلب الله سبحانه وتعالى قلبه ليتحول إلى خير رجالات هذا الدين، بعد أن كان من أفسق الناس وأشقاهم.
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: (لقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانا).
إذاً: الذي يقلب هو الله سبحانه وتعالى.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
فالشاهد إذاً: أننا يجب أن ننسب الفضل لأهله، وأن نعرف أن المتفضل الأول والأخير هو الله سبحانه وتعالى، بدءاً بالهداية الأولى حين بين لنا هذا الحق، فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أرسل للناس الرسل، وأنزل لهم الكتب هداية، فقد قال سبحانه وتعالى عن ثمود: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت:17]، مع أن ثمود لم يسلموا كما تعلمون، ولكن هذه الهداية التي هدى الله بها ثمود هي أن أرسل إليها الرسول.
فنحن يجب أن نعترف لله سبحانه وتعالى بالفضل أولاً: أن أرسل إلينا الرسل، وأنزل إلينا الكتب، وأبلغنا هذا الدين وهذه الدعوة.
لقد كان يمكن أن تكون أنت يهودياً، أو نصرانياً، أو وثنياً تعكف على وثن، أو تكون من الطوائف الضالة البعيدة عن الإسلام، فتكون رافضياً تتعبد إلى الله عز وجل بالخرافات والخزعبلات، أو تكون قاديانياً تدين بنبوة ذلك الطاغوت، أو تكون صاحب نحلة أياً كانت.
فلقد منَّ الله عليك بأن اتضح لك الطريق، بالهداية والدلالة والبيان والإرشاد، فكم من إنسان يلتبس عليه الحق بالباطل، ثم الفضل الآخر أن وفقك الله لسلوك هذا الطريق، ولو شاء الله عز وجل لكنت ممن قال: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا عندما قال هذه الأبيات ومات وهو يردد هذه الأبيات؛ مات على ملة عبد المطلب، وقائل هذه الأبيات هو أبو طالب، عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان عنده قناعة تامة، وأيقن بهذا الحق، لكنه لم يسلك هذا الحق، مع كل ما بذله من جهد في حماية النبي صلى الله عليه وسلم والذب عنه، صحيح أنه خفف عنه عذاب الله عز وجل، لكنه بقي في النار خالداً، ولا يمكن لأمثال هؤلاء أن يدخلوا الجنة حتى يسلموا لله سبحانه وتعالى.
أقول: حتى مع وضوح الحق يبقى التوفيق في سلوك الحق -أيضاً- هي منة أخرى لله سبحانه وتعالى.
فيجب أن نستحضر هذه القضية دائماً، وأن تستحضر أنك إذا وفقت لأداء عبادة من العبادات، أو وفقت لتوبة صادقة، أو وفقت لعمل صالح، أن تعرف أن صاحب الفضل أولاً وأخيراً هو الله سبح(56/3)
الهداية بداية حياة جديدة
الجانب الثالث: هذه المرحلة بداية حياة جديدة: صحيح أنك عدت إلى الطريق، لكنك عدت بعد أن تشعبت بك الطرق والوديان، ومن ثم ستبدأ حياة جديدة بكل ما تعنيه هذه الحياة، فتجد الشاب تغير عندما هداه الله سبحانه وتعالى، وأول ما تبدو مظاهر التغير في مظهره، فأزال المخالفات التي كانت موجودة عليه في المظهر، ولهذا عندما ترى مظهر الإنسان تأخذ انطباعاً معيناً عن هذا الشخص.
ثم الأمور والمظاهر العامة في عبادته وفي قضاياه أصبح القريب والبعيد من حوله يعرف أن فلاناً هداه الله سبحانه وتعالى وأنه قد تغير.
هذا صحيح، لكن يجب ألا نقف عند هذا الحد، وأن نتصور أنها نقلة بعيدة، وإذا أحسست أنك ما انتقلت إلى هذه النقلة فلابد أن تعيد حساباتك مرة أخرى، فقد تبقى عندك بقايا، فيجب أن تبدأ حياة جديدة، أولاً: في المظهر، وهذه قضية واضحة، والدليل على هذا أنك مجرد أن ترى الإنسان يمكن أن تأخذ تصوراً عنه، تقول: هذا فلان مستقيم أو هذا فلان لا أرتاح له من خلال المظهر، صحيح أن المظهر ليس كل شيء، لكنه يعطي دلالة واضحة نلمسها جميعاً، ونجدها في أنفسنا ضرورة.
لكن أيضاً مع ذلك هناك تغيرات يجب أن تحصل لديك، وإذا لم تحصل لابد أن تعيد النظر فيها: فأولاً: يجب أن تتغير اهتماماتك، فأنت في السابق مثلاً كنت إنساناً ساذجاً، تعيش اهتمامات تافهة، فأهم قضية عندك قضية الكرة والرياضة، قضايا تافهة إذا تطورت في الأمر صارت قضايا دنيوية بحتة، يعني: إذا صرت جاداً إلى آخر حد تكون أهم شيء عندك دراستك، أن تنجح وتتفوق وتتخرج، هذه هي قضية القضايا عندك، وهي كل شيء، وهي التي تسيطر على تفكيرك.
وقد تكون الاهتمامات بجوانب هي مخالفة لأمر الله سبحانه وتعالى، فقد تكون تسيطر عليك الشهوة، وقد يسيطر عليك أمر محرم فصار هو بؤرة اهتماماتك.
المهم: أياً كانت اهتماماتك ستبقى في محيط تافه، أما الآن فلا، فعندما هداك الله يجب أن تتغير اهتماماتك، وتفكيرك وخواطرك، فلا يليق بك الآن أن تهتم بالرياضة واللهو واللعب، صحيح أنك ستستمر في ممارسة هذه الأمور باعتبار أنها قضايا ليس فيها محذور شرعي، وقضايا لا يستغني عنها الشاب في مجال للترويح، لكن هناك فرق بين من يمارس ذلك، ومن تشكل هذه القضية في ذهنه قضية أساسية، فيمكن أن تجد اثنين من الشباب هذا الشاب رقم (أ) يمارس الرياضة بنسبة كبيرة، والآخر يمارسها بنسبة أقل، لكنك تجد الشخص الآخر قد استولت عليه، وصارت هي تفكيره.
وكما يقال: من كانت الدنيا في قلبه، ومن كانت الدنيا في يده، فقد تجد صعلوك ومع ذلك الدنيا هي عنده كل شيء، وهي حساباته، وقد تجد إنساناً قد وسع الله عليه، ومع ذلك الدنيا لا تساوي عنده شيء.
إذاً: فيجب أن تتغير اهتماماتك، وتصوراتك للحياة وتصوراتك للناس، ومقاييسك للناس، فأنت كنت في السابق تقيس الناس بمقاييس معينة وموازين معينة، يجب أن تكون الصورة تختلف، فأنت في السابق مثلاً كنت ترى شاباً يمر عليك وأنت واقف عند البيت فأخذت نظرة معينة عنه وصورة معينة تنظر إليه من خلالها، أو تراه في الفصل عندك، أو في المدرسة، وقد تكون هذه النظرة هذه سيئة مربوطة بالخطيئة، وتتحكم أحياناً في هذه القضية بنظراتك للناس، وقياسك لهم، لكنك الآن، أصبحت لك نظرة أخرى، وقياس آخر لهذا الإنسان.
في السابق كنت ترتاح لفلان من الناس؛ لأنه إنسان طريف، وإنسان واسع الصدر، عنده طرافة وعنده متعة الحديث، أما الآن فأصبحت تحب في الله وتبغض في الله، وأصبح المعيار الذي يجعلك تختار فلاناً وتجلس معه وتتخذه خلاً لك وصديقاً مصافياً هو طاعة لله سبحانه وتعالى، وعبادته لله عز وجل، وتقواه لله سبحانه وتعالى، والمعيار الذي يجعلك تضع على فلان علامة استفهام هو كون فلان عاصياً لله سبحانه وتعالى.
إذاً: تغيرت مقاييسك التي من خلالها تحكم على الناس وتتعامل معهم على أساسها.
أيضاً من التغيرات: تغيرك في النظرة إلى وقتك، فأنت مثلاً في السابق كنت تعتبر أن هذا وقت فراغ تريد أن تتخلص منه بأي صورة، وتريد أن تعطل وقت الفراغ الذي عندك في أي مجال، في محاضرة أمس أرسل لي أحد الشباب سؤالاً، وكانت المحاضرة عن الاهتمامات، فيقول: كيف تطلب منا هذا الأمر ونحن الآن نعيش في عطلة وفراغ، ونعاني من فراغ، فلابد لنا من الانشغال بالرياضة والانشغال بمثل هذه القضايا التي تراها اهتمامات غير لائقة بنا.
أنا أقول: يجب أن تصبح لك نظرة أخرى للوقت، فالرجل الجاد يبحث عن فراغ، ولا يشتكي من فراغ! ففي السابق كنت تقول هذه اللغة التي يقولها: كيف تطالبني ألا أتابع الرياضة، أو لا أتابع القضايا التي تسميها قضايا تافهة، وأنا أشتكي من الفراغ، وأعاني من الفراغ خاصة في هذه الإجازة، فلابد لي من مثل هذه الأساليب.
بينما الآن، أصبحت تفكر تفكيراً آخر، تقول: أنا أبحث عن الفراغ لأحفظ كلام الله عز وجل، أبحث عن الفراغ لأعبد الله سبحانه وتعالى، أبحث عن الفراغ لأستغل وقتي في بناء نفسي علمياً، وبناء نفسي تربوياً.
المهم أن أستغل هذا الفراغ في طاعة الله عز وجل، وأعتبر أن أثمن ما أملكه في(56/4)
لا بد من التربية
الجانب الرابع: لابد من التربية: فليست القضية الآن قراراً اتخذته وانتهيت، الآن هي بداية لمراحل أخرى، فالبعض يتصور أنه ألقى العبء الآن بعدما تاب، وأقبل على الله عز وجل، وترك الماضي، صحيح أنه خطا الخطوة التي تسهل عليه ما بعده، لكن أيضاً سيبقى يحتاج إلى التربية؛ ليزيل عنه رواسب الماضي، فستبقى رواسب عالقة من الماضي.
وأضرب لك مثالاً بسيطاً: تجد الشاب الذي في الشارع يتكلم الكلام البذيء الساقط وغير اللائق، ثم هداه الله، وصار مع الناس الطيبين، فهو متعود أن يلعب الكرة في الشارع، وميدان الكرة ميدان يبعث على الحماس، ويستنفر منا حماساً أكثر من اللازم، فمع الحماس يتفاعل الإنسان فلا يملك نفسه، فتجده تبدو منه أحياناً بعض العبارات التي يزل فيها وهو لا زال حديث عهد بالالتزام.
وهذا وضع طبيعي، يقول أبو واقد الليثي: (خرجنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن حدثاء عهد بكفر)، يعني: أنهم مسلمون جدد، وبناءً عليه بقيت عندهم رواسب، قال: (وللمشركين شجرة ينوطون بها أسلحتهم ويعلقونها عليها، فتنادينا من جنبات الوادي، فقلنا: يا رسول الله! اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط)، لا يزال عندهم هذا الراسب.
يأتي مثل هذا الشاب الذي هو حديث عهد بالهداية فتبدو منه فلتات في اللسان، وعندما يغضب يبدو منه ذلك؛ لأنه لا تزال عنده بعض الرواسب لم يتخلص منها، ثم هذه القضايا قد يتخلص منها سريعاً، لكن تبقى قضايا في الداخل تحتاج إلى مرحلة.
يعني: في السابق مثلاً قد يكون يتابع أفلام الفيديو، أو يتابع برامج التلفاز، أو صور المجلات، المهم أنه يتابع هذه القضايا لتؤجج عنده نار الشهوة في قلبه، وعندما يتوب وأقبل على الله عز وجل، وسلك هذا الطريق ستبقى بعض رواسب الماضي وصور الماضي تتحرك أمامه، ومن ثم يحتاج إلى التربية ليزيل كل هذه الرواسب التي جاء بها من خلال الطريق السابق أو المسار الذي كان قد انحرف إليه.
وأيضاً تحتاج إلى التربية لتكون معينة لك -بعد توفيق الله عز وجل- على الثبات على هذا الطريق، فإن القضية -كما قلنا في البداية- فضل وهداية من الله سبحانه وتعالى، فكما أنها توفيق من الله عز وجل يمكن أن يسلب عنك هذا التوفيق، فقد تضل عافانا الله وإياك.
ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سافر يدعو بدعاء يدل على هذا المعنى، فكان يقول: (اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر، وكآبة المنظر، وسوء المنقلب، ومن الحور بعد الكور)، ومعنى (الحور بعد الكور) الضلالة بعد الهدى، والتحول من الإيمان إلى الكفر، أو من الطاعة إلى المعصية، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور، ومن الضلالة بعد الهدى.
إذاً: عنايتك بالتربية تكون -بعد توفيق الله عز وجل- وسيلة لأن تجعلك تستمر وتثبت، وسنأتي لهذه القضية بمزيد من التوضيح في نقطة لاحقة.
ثالثاً: أنت تحتاج إلى التربية لترتقي ويزيد إيمانك، وترتقي في مراتب الخير والصلاح، فتحتاج إلى التربية لتزيد إيمانك بالله عز وجل، فالإيمان يزيد وينقص كما تعلمون، وتحتاج إلى التربية -أيضاً- لتعطيك رصيداً علمياً جديداً فيزيد علمك وتحصيلك، وتحتاج إلى التربية -أيضاً- لتضبط سلوكك وأخلاقك مع الناس، وتحتاج إلى التربية لتتخلص من أخلاق وجوانب القصور التي كانت في نفسك.
المهم أنك تحتاج إلى التربية لترتقي بنفسك، ولا يزال المرء محتاجاً إلى التربية حتى ولو تحول إلى أنه هو الذي يؤدي دور المربي.
إذاً باختصار: لابد من التربية، وسلوكك هذا الطريق يعني أنك ستبدأ -أيضاً- قضية أخرى وهمّاً آخر هو هم التربية؛ حتى تعلو وترتفع، وستستمر وتربي نفسك حتى تنتهي من هذه الحياة.(56/5)
كيف أتعامل مع الماضي
الجانب الخامس: سؤال يطرح كثيراً: كيف أتعامل مع الماضي؟ كان لك ماض سابق، فكيف تتعامل مع هذا الماضي؟ هناك عدة نقاط حول الماضي:(56/6)
عدم الحديث عن المعاصي السابقة
أولاً: أن بعض الشباب تكون له تجارب سيئة، كان يفعل معاصي وخطايا، فيتحدث بها مع زملائه ومع الناس، وهذا مخالف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل فيستره الله سبحانه وتعالى، فيصبح فيقول: يا فلان! عملت كذا وكذا، بات يستره الله عز وجل ويكشف ستر الله عليه).
فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يخبر أن الأمة معافاة إلا المجاهرين؛ لأن الإنسان الذي لا يجاهر أدعى للتوبة أصلاً، والناس لا يدرون ما عنده، فيتوب ويقبل على الله عز وجل، لكن الإنسان الذي يجاهر بالمعصية يعتبر مستخفاً بها، فقد يعاقبه الله فيصرفه عن التوبة، ثم -أيضاً- هذا الإنسان المجاهر صار تاريخه مكشوفاً أمام الناس، فصعب عليه أن يتخذ قرار التوبة والعودة إلى الله عز وجل.
فأقول: بعض الشباب يتحدث عن الماضي بما فيه أنه كان يفعل كذا وكان يفعل كذا، وفعل كذا، وهذه لها أخطاء أولها: أنها مجاهرة بالمعصية، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن المجاهرة ليست إعلان المعصية، وإن كانت هي مجاهرة فعلاً، ومن أكبر وأشنع صور المجاهرة أن الإنسان يفعل المعصية أمام الناس، لكن قال: (وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل فيستره الله عز وجل، فيكشف ستر الله عليه، فيقول: يا فلان! فعلت كذا وكذا) أنه وقع في معصية في الليل أو في النهار المهم أنه لا يعلم عنها الناس، وقد سترها الله عز وجل عليه، فيبدأ يتحدث بها عند الناس.
أيضاً المجاهرة بالمعصية، أو الحديث عن الماضي يهون عليك أمر المعصية؛ لأن الإنسان الذي فعل المعصية وبقيت في داخله، تبقى تعتلج في داخله وتشكل عليه ضغطاً، وتدفعه للتوبة، والإكثار من الاستغفار والدعاء والرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، فتشكل عليه ضغطاً هو يحتاج إليه، لكنه عندما يتحدث بها ويعلنها أمام الناس تصبح القضية عنده سهلة.
مثلاً: أحياناً تجد الشاب عنده مخالفة لا يعلم بها والده، فيعيش في رهبة من والده يخشى أن يعلم بهذه القضية، ودائماً يقول: كيف لو علم عني والدي وإلى غير ذلك، قد يحصل أنه يطلع عليه والده وهو يمارس المعصية، فيكتشف الخطأ والخلل، فتنتهي القضية عند الابن، ويحس أنه مكشوف فصار من الممكن أن يجاهر بعد ذلك.
مثلاً: واحد يدخن ووالده لا يعلم أنه يدخن، وبعد فترة اكتشف والده أنه يدخن، فبعد ذلك صار عنده استعداد أن يشرب الدخان أمام والده لأن القضية صارت معروفة.
فكذلك هذا الإنسان الذي تكون المعصية بينه وبين الله عز وجل لا يعلم عنها أحد، تصبح تعتلج في نفسه وتشكل عليه ضغطاً، هذا الضغط يصب في مصلحته؛ لأنه يدعوه إلى التوبة والإقبال على ربه، لكن عندما يتحدث بها أمام الناس تهون عنده.
وأيضاً من نتائج الحديث عن المعصية: تهوينها على الناس؛ لأنك حين تجلس مع زميلك وتقول: أنا كنت أفعل كذا وكذا، ومن الله علي بالهداية، ومرة فعلت كذا وكذا، هونت عليه المعصية، وصارت -أحياناً- دعوة غير مباشرة للوقوع في المعصية.
إذاً: فالقضية الأولى التي تعنيك في علاقتك مع الماضي ألا تتحدث عن الماضي بكل ما في الماضي، فتتحدث عن معاصيك التي كنت تفعلها، اللهم إلا إذا كان لذلك حاجة، فتسأل عن قضية شرعية، هل هذه القضية عليها كفارة أم ليس عليها كفارة؟ أو لها توبة معينة أم ليس لها توبة؟ ففي هذه الحالة يمكن أن تسأل، أما ما سوى ذلك فلا ينبغي أن تتحدث هذا الحديث بما فيه من السلبيات التي أشرنا إليها.(56/7)
عدم التفكير بالماضي
ثانياً: يعيش بعض الشباب أزمة وهمّاً يفكر فيه بالماضي، فيشغله كثيراً، قد يكون فعل أخطاء ومعاصي وكبائر فتشكل عليه ضغطاً، فيبدأ يفكر فيها كثيراً، وتصبح هماً يشغله ويؤرقه ليلاً ونهاراً.
أيضاً: قد يكون هذا عائقاً من حيث لا يشعر، ولذا فلا داعي للانشغال بالماضي، أنت تبت إلى الله عز وجل، وأقبلت على الله، والتوبة تجب ما قبلها، فدع عنك التفكير في الماضي.
ثم -أيضاً- هذا التفكير لا ينفع أصلاً، هب أنك ستؤاخذ بما عملت، وأن توبتك أصبحت قاصرة، فإن التفكير الآن لن ينفعك، بل التفكير سيشغلك عما تحتاج إليه.
إذاً: فلا تنشغل بالماضي وليكن تاريخك ما كان، ولست أهون عليك شأن المعصية، لكن أنت الآن أمام مرحلة جديدة، أنت تماماً مثل إنسان يسير في الطريق، وكمية الوقود عنده قليلة، فأضاء عنده المؤشر ولم يهتم، بل يتجاوز محطات الوقود حتى نفد ما عنده من الوقود، فجلس يفكر ويقول: أنا إنسان مهمل؟! كيف فرطت؟! نعم أنت مهمل، لكن هذه المرحلة قد انتهت ففكر تفكير واقعياً عملياً في المرحلة الجديدة ماذا ستفعل فيها، أنت أمام مشكلة فحل هذه المشكلة.
أنا أقول: إن واقع هذا الإنسان الذي ينشغل بالتفكير في الماضي مثل هذا الشخص، وقع في خطأ، لكن أنت الآن أمام مرحلة جديدة، فلا تشغل نفسك بما مضى، ففكر بالمرحلة الجديدة، ودعك من التفكير فيما مضى.
صحيح أن هذه المعاصي التي فعلتها، أو هذا التقصير أو هذا الإهمال يجب أن يدعوك إلى مزيد من التوبة والاستغفار والطاعة، والخوف من الماضي، لكن هذا شيء، وأن يستولي على تفكيرك، ويصير هماً دائماً يسيطر عليك، ودائماً تفكر: أنا كنت أفعل كذا وكنت أفعل كذا، هذا يعوقك عن العمل الذي تحتاج إليه.(56/8)
مداومة الاستغفار والتوبة إلى الله
ثالثاً: لابد من مداومة الاستغفار والتوبة إلى الله عز وجل، والشعور بخطر الماضي: وأظن أنك تفرق بين القضيتين: بين التفكير المزعج الذي تفكر فيه في الماضي، وبين التوبة والإقبال، والخوف من شؤم الذنب، هذه قضية وتلك قضية أخرى، هذه قضية واجبة، وينبغي أن تكون همّاً يؤرقك، أعني: تتوب وتستغفر وتخاف من ذنوبك.
لكن الآن أنت تتذكر الماضي، فتتذكر أنك فعلت كذا وكذا، ومررت في الطريق ورأيت هذا المكان الذي فعلت فيه هذه المعصية، وهذا المكان الذي ذكرك بفلان، وذكرك بكذا وكذا، هذا لا يدعو إلى أن يصير هماً تفكر فيه، فاجعل هذا الموقف يدعوك إلى عمل صالح، يدعوك إلى الاستغفار، وإلى التوبة، بدلاً من أن يكون مجرد تفكير وهم يزعجك أكثر مما يكون عملاً منتجاً.(56/9)
التخلص من متعلقات الماضي
رابعاً -وهي نقطة مهمة-: يجب أن تتخلص من متعلقات الماضي كان في الماضي عندك أشياء تدعوك إلى هذا من صور، أو أفلام، أو مواقف معينة، وقضايا كانت تشدك وتجذبك إلى المعصية، وتجذبك إلى الماضي، يجب أن تتخلص منها، وتكون حازماً مع نفسك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إياكم والجلوس في الطرقات، قالوا: يا رسول الله! ما لنا بد من مجالسنا، قال: فأعطوا الطريق حقه، قالوا: وما حق الطريق؟ قال: غض البصر).
الآن لاحظ هنا النبي صلى الله عليه وسلم ما أمر بغض البصر ابتداءً، بل أمر بألا يجلس الإنسان في الطريق أصلاً، حتى يقطع الإنسان على نفسه كل طريق إلى المعصية، إذا جلست في الطريق لا محالة فغض البصر، مع أن هذا الخطاب كان موجهاً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في ذاك المجتمع النظيف، ذاك المجتمع الذي كانت المرأة تلتصق بفي الحائط، حتى تؤثر في الحائط كما ورد في الحديث.
إذاًَ: تخلص من القضايا التي تشدك إلى الماضي؛ لأنها يمكن أن تعيدك يوماً من الأيام، فتكون أنت في حالة ضعف، فيقوى عندك هذا الدافع فتهوي، والكثير من الشباب الذي يصاب بالحور بعد الكور، أو بالانتكاسة والضلال، السبب هو هذه القضية، هو بعض رواسب الماضي.(56/10)
أصدقاء الماضي
خامساً: أصدقاء الماضي: أصدقاء الماضي يجب أن تتعامل معهم بصورة أخرى، فأحياناً الشخص له صداقات أيام غفلته وأيام إعراضه، وهؤلاء الأصدقاء يعرفون تاريخه، ويعرفون تفاصيل حياته، ويعرفون عنه كل شيء، هذا جانب.
والجانب الثاني أنهم يعرفون نقاط الضعف لديه، المهم أنه من أكبر نقاط الضعف عند الشاب أصدقاء الماضي الذين يشدونه ويجرونه إلى المعصية، إما أنه إذا رآهم تذكر المعصية، وقد يشتاق إليها، أو إذا رآهم حن إلى الماضي بما فيه، أو أن هؤلاء يضغطون عليه، فهم يعرفون تاريخه ويعرفون نقاط الضعف عنده، فيمكن أن يضغطوا عليه من خلالها، فيعرفون كيف يفكر، ويعرفون متى يرجو، ومتى يرغب، ومتى يرهب، ومتى يخاف، إلى غير ذلك.
الشاهد: أن من أكبر العوائق أصدقاء الماضي، ومن ثم لابد من التخلص -أيضاً- من أصدقاء الماضي، ويجب أن تحذر من أصدقاءك في الماضي أكثر من غيرهم، لأن الآخرين الذين يمكن أن يكونوا أكثر فساداً، هم أقل تأثيراً عليك من أصدقاء الماضي؛ لأن أصدقاء الماضي يعرفونك ويعرفون ما عندك.
وسؤال هنا كثيراً ما يطرحه الشاب يقول: هل أدعو مثلاً أصدقائي؟ فيرتبط معهم بحجة أنه يريد أن يدعو، وهذا شعور طيب، أن الإنسان لما منَّ الله عليه بالهداية يشعر أن أولى الناس ببره وإحسانه ودعوته هم الناس الذين كانوا من قبل أصدقاء الغفلة.
لكن هناك قضية أخرى، وهي أن هذه الدعوة قد تتسبب لك في أن تنجذب إليهم؛ لأنهم -كما قلت- يعرفون أسرارك وعلاقاتك السابقة، ويعرفون منك نقاط الضعف، فقد يكون وسيلة إلى جرك لهم؛ ولهذا فأنا أرى أنك لا تدعو أصدقاء الماضي، وينشغل بهم غيرك، ثم أنا لا أتصور أننا وصلنا إلى المرحلة التي ما عاد بقي أناس يحتاجون الدعوة إلا العشرة أو الخمسة عشر هؤلاء الذين كانوا أصدقاء لك في الماضي، فالمجتمع الذي حولك مليء بالناس الذي يمكن أن يستهلكوا كل جهدك وطاقاتك، وبرامج الدعوة والخير كثيرة، ستستهلك كثيراً من طاقتك ووقتك، فلم تعد ضرورة قاصرة عليك أنت حتى تدعوهم.
ثم نحن ما قلنا إن هؤلاء محرومون من الدعوة فليدعهم غيرك؛ لأن ارتباط الشاب بهؤلاء قد يكون سبباً في عودته إلى ما كان عليه.
إذاً: يجب أن تقطع علاقتك بالتفكير المغرق في الماضي وما كنت عليه، وإذا أتاك تفكير تحوله إلى عمل صالح أو توبة أو استغفار، أما مجرد التفكير والهم فإنه لا يقدم ولا يؤخر.
الانقطاع عن الماضي ورواسب الماضي بما فيه، الانقطاع عن الماضي وأصدقاء الماضي، الجوانب التي تجذبك وتشدك إلى أن تحن إلى الماضي وتعود إليه.(56/11)
الحذر من الضلالة بعد الهدى
سادساً: كن على حذر من الضلالة بعد الهدى، والحور بعد الكور -التي أشرنا إليها قبل قليل-: وهي نقطة يجب أن تكون هاجساً للجميع، فدائماً يسأل الله سبحانه وتعالى الثبات، ودائماً يخشى من هذه القضية، ويخشى أن يحال بينه وبين هذا الطريق، ويخشى أن يختم على قلبه، أليس النبي صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وكان يقول: (اللهم رحمتك أرجو فلا تكلني إلى نفسي طرفة عين)، (اللهم أرني الحق حقاً وارزقني اتباعه، وأرني الباطل باطلاً وارزقني اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علي).
وكان يدعو في سفره، لأن الإنسان عندما يسافر يتغير من حال الإقامة إلى حال السفر، بكل ما في حياة السفر من متغيرات، فيذكره هذا بالقضية الأساس والأهم هو أنه كان مستقيماً على هذا الطريق، فيخشى أن يحال بينه وبينه.
يا أخي! إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الله أن يثبته، ويخشى من الحور بعد الكور، ويقول له ربه سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، فغيره من باب أولى.
الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه الوحي، ويعبد الله عبادة حقه تعينه وتثبته على طاعة الله عز وجل، وهو أعلم الناس بالله، أما نحن فلنا شأن آخر، وحياة أخرى، ولنا جوانب كثيرة تشدنا إلى طريق الضلال والشهوات عافانا الله وإياكم.
ومن ثم فنحن أولى أن نخشع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (فوالذي نفسي بيده إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يبقى بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليه الكتاب، فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها).
فأقول: يجب أن يكون هذا هاجساً لنا يقودنا مرة أخرى إلى عمل، لا يكون مجرد تفكير، فنكون دائماً على حذر من هذه القضية، وهذا يقودنا إلى دعاء الله دائماً، وسؤال الله السلامة، والنبي صلى الله عليه وسلم قد علمنا أن ندعو الله عند السفر، وقد علمنا أن ندعو الله عز وجل: (يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك)، وقد علمنا أن نستهديه دائماً، وقد علمنا أن نسأل الله ألا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، فإنه سبحانه وتعالى لو وكلنا إلى أنفسنا فإن هذا يعني الضلال والخسارة.
إذاً: هذه الخطوة نتيجة للخوف الداخلي الذي قادنا إلى الدعاء، والدعاء من أفضل الأعمال، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدعاء هو العبادة)؟ جانب ثان أيضاً: أن يستزيد الإنسان من الأعمال الصالحة؛ لأنه يعرف أن الأعمال الصالحة تزيده تثبيتاً، {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68].
فلو استجابوا لأمر الله سبحانه وتعالى، وفعلوا ما يوعظون به لكان خيراً وأشد تثبيتاً لهم، ولهدوا صراطاً مستقيما، {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
فالأعمال الصالحة بعد توفيق الله عز وجل تكون عوناً للمرء على الثبات، وعلى سلوك طريق الاستقامة.
إذاً: هذه خطوة ثانية كانت نتيجة هذا التفكير، ونتيجة هذا الهاجس.
خطوة ثالثة: الحذر من أسباب الضلال، ومن أهمها المعاصي، فإن المعصية تقول: أختي أختي، فتجر أختها، وتجر أختها، حتى تصبح عادة، فيعتادها الإنسان فينتقل إلى ما هو أكبر منها، حتى يضل عافانا الله وإياكم، وكم من الناس من كانت معصية واحدة سبباً في ضلالة وغوايته.
إذاً: فيجب أن نحرص على هذه النعمة وأن نحافظ عليها، وقديماً كان يقال: المحافظة على النصر أصعب من الحصول عليه.
وهذه القضية ليست عبارة كروية كما نستعملها ويتبادر إلى الذهن، هذه يقصدون بها النصر العسكري، فالإنسان يمكن أن يحقق النصر وينتصر في معركة، لكن المحافظة على هذا النصر قضية صعبة، أنا ممكن أن أستجمع قواي وطاقتي كلها وأحقق انتصاراً حاسماً، لكن أن أحافظ على هذا النصر وعلى هذا الموقع الذي حققته هذه قضية صعبة.
فكذلك يجب ألا يقف تفكيرك عند هذا الحد، فتقول: أنا الآن استقمت وتجاوزت المرحلة! بل يجب أن تشعر أنك محتاج إلى الثبات، وإلى البحث عن أسباب عوامل الثبات حتى تسلكها لعل الله أن يوفقك إليها، وأن تكون على حذر باستمرار من الخلل أو أي انحراف يمكن أن يقودك إلى ذلك.
وقلنا أيضاً: إن هذه القضية يجب ألا تكون مجرد هاجس فقط، فإذا صارت هاجساً صارت مرضاً، فصارت القضية مجرد تفكير لا تقدم ولا تؤخر، بل مع هذا الهم وهذا الهاجس تتحول إلى عمل، هذا العمل يتمثل في الدعاء، وبفعل أسباب الثبات وعوامل الثبات وتجنب عوامل الانحراف والضلال.(56/12)
الشعور بالفتور بعد الحماس
سابعاً: سؤال كثيراً ما يطرحه بعض الشباب أو شكوى يشتكي منها يقول: أشعر أني بعد الاستقامة وبداية مرحلة الالتزام والاستقامة أشعر بحماس، وحب للخير، وإقبال على الطاعة، ثم بعد فترة أشعر بأني فقدت هذا الشيء الذي كنت أجده سابقاً، ويعتبر أن هذا مرض وقضية خطرة.
وتفكير الإنسان في نفسه قضية مهمة، وشعوره بالمرض والخطأ قضية مهمة، لكن أيضاً يجب -على الأقل- أن نعطي نظرة حول هذه المشكلة التي يشتكي منها الشاب.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم وهو من أعلم الناس بأدواء النفوس والقلوب، لما جاءه عبد الله بن عمرو بن العاص وكان يصوم النهار ويقوم الليل، ويختم القرآن في كل يوم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت شرته إلى سنتي فقد أفلح، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك) الحديث رواه أحمد، وصححه أحمد شاكر.
هذا الإنسان عنده اندفاع، وكل عمل له شرة وحماس، ثم لكل شرة فترة، وكل حماس لابد أن يخفت، فمن كانت شرته إلى سنة فقد أفلح، وهذا الحماس والاندفاع يجب ألا يخرجه إلى حد ابتداع غير السنة، ومن كانت فترته إلى أن تجرأ فوقع في المعصية وقصر في الطاعة، فهذا نذير هلاكه.
إذاًَ: لابد من الشرة والفترة، لابد من أن يكون الإنسان عنده في البداية إقبال وحماس، وشعور بالحرص على الطاعة والخير، ثم بعد فترة يشعر بالفتور.
فنقول: هذا الفتور إذا تحول إلى أنه يجعل الإنسان يتجرأ على المعاصي ويقع فيها، وتحول إلى إنسان يقصر عن الطاعة والفرائض، فهذا فعلاً معيار الهلاك، وهذا ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك).
أما إذا كانت هذه الفترة ضعفاً في مشاعره الداخلية، وضعف الحماس لبعض السنن وبعض أفعال الخير المندوبة، فالقضية لا مناص منها، فإنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (لكل عمل شرة، ولكل شرة فترة)، فلابد من الفترة، فيحرص الإنسان على أن يعالج نفسه ويستزيد، لكن لا يجب أن تؤدي بنا إلى القلق، وأن نتصور معها أنها مرض.
وتكون مرضاً إذا تحولت إلى التجرؤ على المعصية، وإلى التفريط في الفرائض، فحينئذٍ يجب أن نحاسب أنفسنا حساباً عسيراً، ونشعر أننا تجاوزنا الخط الأحمر، ودخلنا مرحلة الخطر.(56/13)
شكر نعمة الهداية
أخيراً: أد شكر هذه النعمة: هذه نعمة منَّ الله بها عليك فأد شكرها، من خلال: أولاً: ما ذكرناه من الاعتراف بالفضل للمنعم، فإنه من أكبر النكران لأي معروف وأي نعمة ألا تعترف بالفضل له، فأنت -مثلاً- قد تقدم خيراً لإنسان ثم يقول: أنت لم تفعل شيئاً، وما قدمت لي شيئاً، فتشعر أن هذا أكبر نكران يمكن أن يقوم به، قد لا تطلب منه أحياناً جزاءً ولا شكوراً، لكن عندما تشعر أنه قد أنكر جميلك فأنت تشعر أن هذا من عدم الوفاء.
ولله المثل الأعلى، فإنه لا أحد أحب إليه الثناء من الله عز وجل، فيجب أن تعترف اعترافاً داخلياً بقلبك وبلسانك أن صاحب الفضل والنعمة والمنة هو الله سبحانه وتعالى.
ثم الحمد والثناء باللسان، بأن تحمد الله بلسانك، وتثني عليه، فالله يحب الثناء، ولهذا أثنى على نفسه، ولا أحد أحب إليه الثناء من الله سبحانه وتعالى.
ثم بعد الاعتراف، وبعد الحمد والثناء، الخطوة الثالثة: أن تسعى في نقل هذه النعمة للآخرين، بالدعوة والنصح والتوجيه، وأن تقول للآخرين: ها أنا الآن عشت تلك التجربة، وها أنا سلكت هذا الطريق، ومن الله علي بسلوك هذا الطريق والعودة إليه، فهلم إلي، فأنا قد جربت ما أنتم عليه، وجربت هذا الطريق بكل ما فيه، واقتنعت قناعة تامة أن الحق هنا، فهلم إلي.
الشاهد: أنه من شكر الله عز وجل لنعمة الهداية أن يسعى الإنسان لنقلها للآخرين، من خلال النصيحة، والدعوة، ومن خلال استخدام تجربته السابقة، فيقول: أنا كنت على مثلما أنت عليه، وما وجدت والله اللذة، ولا وجدت الطمأنينة، ولا السكون، ولا الراحة، إلا في هذا الطريق الذي سلكته.
نكتفي بهذا القدر، ونترك بقية الوقت للإجابة على بعض الأسئلة.(56/14)
الأسئلة(56/15)
نصيحة لمن يحلق اللحية ويسبل الثوب مدعياً أن الدين ليس بالمظهر
السؤال
بعض الشباب سواء في المركز أو في الخارج يلاحظ عليهم ملاحظات من إسبال الثوب أو حلق اللحية، وإذا نصحتهم قالوا: الدين ليس في الثوب أو في حلق اللحية، نرجو توجيه نصيحة لهم، مع أنك قلت: أول ما نبدأ به المظهر؟
الجواب
بعض الناس عنده عبارة يقول: الدين ليس في المظهر، أو المظاهر ليست كل شيء، هذه عبارة فيها إجمال، صحيح أنك لا تحكم على الإنسان من خلال المظهر وحده.
لكن أنا أسألكم سؤالاً: نحن الآن في مجلس فدخل علينا شخص ونحن نشاهد التلفاز فقفز واحد وأغلق التلفاز، لماذا؟ لأنه عارف أن مظهره مظهر إنسان مستقيم، فهل أعطاك المظهر دلالة أم لا؟ أب رأى ابنه مع واحد من الشباب، فانزعج جداً لما رآه مع فلان، وهو لا يعرفه، ولا يعرف تاريخه، لكن ساءه مظهره، فغير صحيح إطلاقاً أن المظهر لا يدل على شيء.
صحيح أنه لا يعطيك تصوراً كاملاً عن الإنسان؛ لكنك تأخذ دلالة عن هذا الإنسان، وهذا الإنسان الذي عصى الله في المظهر أمام الناس قد يكون أكثر جرأة على ما سوى ذلك.
فهذه قضية غير صحيحة أنه لا عبرة بالمظهر، فنحن نجد في أنفسنا أننا نأخذ دلالات، فأنت ترى إنساناً فتأخذ قناعة وتصوراً عنه من مظهره، يمكن أن يعطيك دلالة أن هذا الإنسان خفيف العقل، هذا الإنسان ما عنده مروءة، هذا إنسان متزن، وهو ما تكلم بكلمة واحدة.
هذا شيء.
والشيء الثاني: أن هذه واجبات شرعية لا مجال للنقاش فيها، فما دام هذا محرماً شرعاً فلا يجوز لك أنك ترتكبه، وما دام أنه هذا واجب شرعاً فيجب أن تعمله، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36].(56/16)
الأمن من الفتنة في الدين
السؤال
أنا شاب لا أخشى ولا أخاف أن أنتكس بعد هداية، وحين أدعو بالدعاء الوارد لا أستشعر أنني من الممكن أن أعود وأرجع إلى طريق الضلال، فما رأيكم؟
الجواب
هذا خطأ لا شك، وهذا دليل على الإعجاب بالنفس والغرور، يا أخي! الرسول صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى التثبيت، فكيف بك؟! هل تتصور أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو عبثاً عندما يقول: (أعوذ بك من الحور بعد الكور)، أم أنه كان يرى أنه بحاجة إلى هذا الدعاء؟ ولعلكم تذكرون جميعاً عبارة السلف في النفاق: ما خافه إلا مؤمن، ولا أمنه إلا منافق.
فنعوذ بالله من أن نأمن من مكر الله، ونعوذ بالله من أن يصل بنا الإعجاب بالنفس إلى هذا الحد، إلى أن يتصور الإنسان أنه قد جاز القنطرة.
وأقول: إذا وجدنا هذا في أنفسنا فيجب أن نشعر أن هذا مرض نعاني منه، أرأيت أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أليسوا كانوا يخافون من النفاق؟ وكما يقول ابن أبي مليكة: كل الذين أدركهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يخاف النفاق على نفسه، ما فيهم أحد يقول: إيماني كإيمان أبي بكر وعمر.
فما بالنا نحن لا نخشى على أنفسنا؟(56/17)
كيفية تحاشي الوقوع في المعاصي
السؤال
أنا شاب مستقيم أعمل بعض الصالحات والحمد لله كحفظ القرآن وغيره، لكن -كما لا يخفى عليكم- إنني كشاب لا أصبر عن بعض المعاصي، فبماذا تنصحونني؟
الجواب
لابد أن تجاهد نفسك، أحياناً يريد الشاب أن يصل إلى مرحلة أنه لا يكون عنده داع للمعصية، وأن شهواته كلها تنقطع، وهذا غير صحيح.
هذه حكمة، فالله عز وجل ركب الشهوات فينا لحكمة، والشاب في هذه المرحلة أقوى من غيره؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله قال: وشاب نشأ في طاعة الله)؛ لأن الشهوات عنده أقوى، ودواعي المعصية أقوى، والغفلة أقوى؛ ولهذا إذا نشأ في طاعة الله كان يستحق أن يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
فأقول: أنك تتصور أن تصل إلى مرحلة لا تدعوك فيها الشهوة إطلاقاً هذا مستحيل، فلابد من ذلك، ولابد من مجاهدة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حفت الجنة بالمكاره، وحفت النار بالشهوات)، ولما خلق الله الجنة قال لجبريل: (اذهب فانظر فيها، فنظر فيها فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم أمر بها فحفت بالمكاره، فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا لم يدخلها، ثم خلق النار، فقال: اذهب فانظر فيها، فنظر فيها فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا لن يدخلها، فأمر بها فحفت بالشهوات، فقال: يوشك ألا يسمع بها أحد إلا دخلها).
الشاهد: أنك لن تصل إلى هذه المرحلة التي لا تخشى فيها من المعاصي، ولن تصل إلى المرحلة التي تستغني فيها عن الجهاد، لابد أن تجاهد نفسك، ولابد أن تعيش في صراع مرير مع الشهوات.
ثم جاهد نفسك، وحاول ألا تترك المعصية فقط، بل تتخلص من أسباب المعصية، والعوامل التي تدعوك إلى الوقوع في المعصية، وأنت أعلم بنفسك، وأيضاً لو وقعت في المعصية فتب إلى الله سبحانه وتعالى وأقبل إليه.(56/18)
الانتكاس في الدين وأسبابه
السؤال
بعض الشباب هداهم الله يتضايقون من ظاهرة انتكاس بعض الشباب الذين يلتزمون بالدين ثم ينتكسون، فما توجيهكم لهؤلاء الشباب؟ ثم ما هي أبرز أسباب الانتكاسة التي ترونها؟
الجواب
سبق أن تحدثت عن هذا الموضوع بالتفصيل في محاضرة بعنوان: (الحور بعد الكور) فيمكن للأخ أن يرجع إليها.(56/19)
كيف ننصح من ضل بعد هدى
السؤال
إذا كنت أعرف بعض الأصحاب قد ضل بعد أن كان مع الصالحين، فماذا أنصحه وأذكره به، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
تنصحه كما تنصح أي إنسان، فتذكره وتقول: إن هذه المعصية خطر عليك، وأنت لابد أن تطيع الله سبحانه وتعالى، ولابد أن تقبل على الله عز وجل، وقد تكون المعصية بوابة للكفر والخروج من دين الله عز وجل، وقد يختم للإنسان على غير ملة الإسلام ودين الإسلام.
فهذا الكلام الذي تقوله لأي إنسان يمكن أن تقوله لهذا الإنسان، ولا فرق بينه وبين الآخرين؛ لكن يمكن أن تضيف على ذلك أن تذكره بماضيه: أنت كنت تفعل كذا، وكنت تفعل كذا، وتفعل كذا، وكنت يوماً من الأيام تحدثني عن كذا، ويوم اجتمعنا قلت كذا وكذا، وأنت الذي كنت تنصحني وتدعوني؛ فهذا يجعله يحن إلى الماضي، ويفكر في الماضي.
أقول: إن التركيز على هذه القضية قد ينفع مع أمثال هؤلاء.(56/20)
ما يفعل التائب إلى الله إذا هدده أصدقاؤه السابقون بكشف أسراره
السؤال
أنا شاب رجعت إلى الله ولي أصدقاء ليسوا صالحين، وهؤلاء يعرفون أسراري وأحوالي، ويستهزئون بي، ويهددونني إن رجعت إلى الله أن سوف يكشفون أسراري، فكيف أعود إلى الله وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: أسرارك لازم تكشف، فأنت أمام خيارين الآن، افترض فعلاً أنهم لا يجرءون على كشف هذه الأسرار؛ لأنهم ليس لهم مصلحة، وكشف الأسرار فضح لهم، لكن افترض أنك وصلت إلى نقطة أن أسرارك ستكشف، فليس الحل أن تتراجع، لأنك إذا رجعت فستكشف أسرارك مرة أخرى، لكن في موقف آخر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
فيا أخي! بالله عليك قارن بين أن أسرارك تكشف في محيط مهما كان فهو ضيق، وبين أن تكشف أمام الله عز وجل وأمام الخلائق يوم القيامة، هذا جانب.
الجانب الثاني: أن هذا الأمر تهديد ومحاولة ضغط؛ ولهذا أنا قلت: ينبغي أن تبتعد عن أصدقائك السابقين، وللأسف بعض الشباب ينهار مع هذا الضغط، ثم ولو كشفت هذه الأسرار فما هي إلا معاص وكبائر كنت تفعلها، وافترض أنها كانت فواحش، فغايتها أن تقول: يا أخي! أنا فعلت هذا وتبت إلى الله عز وجل، وانتهينا.
يا أخي! أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقعون في الشرك، وليس الفواحش فقط، وأكثر ما تتصوره في هذا الشاب أنه وقع في بعض الفواحش، فليقل ما يقال، أنا تبت إلى الله ورجعت، فلا تلتفت إلى مثل هذا الكلام.
وليس أيضاً من المصلحة أن تقول: نعم أنا كنت أفعل كذا وتبت، وإن كان هذا الكلام لو قلته فلن يلومك الناس، لكن يمكن أن تقوله بصورة أخرى، تقول: من يثبت هذا الشيء؟ تقول: كل إنسان قادر على أن يتكلم ويقول هذا الكلام.
فأنت لم تقل أمراً تؤاخذ به شرعاً، وأيضاً نفيت ما تتهم به، وهؤلاء الناس الذين يتجرءون على الكبائر يمكن أن يتجرءوا على الكذب.
وأقول: أبشر بطول سلامة، فالكثير من أمثالك يعانون، والمشكلة أن كثيراً من الشباب يمنعه من التوبة هذه القضية.
يا أخي! ضع نفسك أمام خيارين: إما أن تتوب وتستمر، أو ترجع مرة أخرى إلى الذي خفت أن يكشف عنك، ثم تكون عرضة لأن تكشف أسرارك أمام الخلائق يوم القيامة، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18]، تكون عرضة لأن تعيش أنت وأصدقاؤك هؤلاء في موقف الحساب فيتبرأ كل واحد منكم من الآخر: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
افترض أنك حوصرت وما بقي أمامك إلا هذا الخيار، فسيبقى خيار كشف الأسرار أهون عليك بكثير من أن تكشف يوم القيامة أمام الله سبحانه وتعالى.
لكن أقول: استعن بالله سبحانه وتعالى، وادع الله عز وجل، وثق إن شاء الله أن الله سبحانه وتعالى سيعينك.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم إلى طاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه، وأن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلاله، ويظلنا في ظله يوم لا ظل إلا ظله.
وأشكر الإخوة الذين شرفوني بحضور هذا اللقاء، والحديث مع إخواني الشباب، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرزقنا العمل بما علمنا، وصدق النية والإخلاص.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
ع(56/21)
ماذا نريد من المرأة؟
الهجمة الغربية الشرسة على المرأة المسلمة تتطلب منا جهداً عظيماً في التوجيه والتربية والسلوك، حتى نقي فتياتنا وبالتالي أمتنا من الانحراف والانجرار وراء الدعوات الهدامة.(57/1)
حضور المرأة في تاريخ الإسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فعنوان حديثنا في هذا اللقاء: ماذا نريد من المرأة؟ هُنئ أحدهم بالبنت فقال: أهلاً وسهلاً بعقيلة النساء، وأم الأبناء، وجالبة الأصهار والأولاد الأطهار، والمبشرة بإخوة يتناسقون، ونجباء يتلاحقون.
فلو كان النساء كمن ذكرنا لفضلت النساء على الرجال وما التأنيث لاسم الشمس عيب وما التذكير فخر للهلال والله تعالى يعرفك البركة في مطلعها، والسعادة بموقعها، فادرع اغتباطاً، واستأنس نشاطاً، فالدنيا مؤنثة، والرجال يخدمونها، والذكور يعبدونها، والأرض مؤنثة ومنها خلقت البرية، وفيها كثرت الذرية، والسماء مؤنثة وقد زينت بالكواكب، وحليت بالنجم الثاقب، والنفس مؤنثة وهي قوام الأبدان وملاك الحيوان، والحياة مؤنثة ولولاها لم تتصرف الأجسام، ولا عرف الأنام، والجنة مؤنثة وبها وعد المتقون، وفيها ينعم المرسلون، فهنيئاً لك هنيئاً بما أوتيت، وأوزعك الله شكر ما أعطيت.
إن المرأة المسلمة لها دور -ولا شك- تحتاجه الأمة في كل عصر ووقت، وفي هذا العصر -عصر هذه الصحوة المباركة- نحن أحوج ما نكون إلى دور المرأة، ذلك أن أمام الصحوة تحديات كبيرة، وأهدافاً طموحة، وتطلعات عالية، لا يمكن أن تتم بجهد الرجال وحدهم، ولا يمكن أبداً أن نستغني عن دور المرأة وجهدها.
ثم إن الصحوة الإسلامية تواجه تحدياً شرساً من أعدائها وكيداً وتآمراً، لهذا فهي أحوج ما تكون إلى أن تستنفر قواها، وأن تستثمر طاقاتها أجمع، والمرأة المسلمة جزء -ولاشك- من طاقة هذه الأمة، فنحن أحوج ما نكون إليه.
وإنما الآخر كالأول، لقد قرأتِ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ورأيت أنه على مدى صفحات تاريخ سيرته صلى الله عليه وسلم لا تخطئك المرأة أبداً، فهناك في الفترة المكية، مرحلة الاستضعاف والتعذيب والإيذاء والمضايقة، مرحلة بداية الدعوة، قرأنا للمرأة دوراً بارزاً.
ويبدو أمامك اسم خديجة رضي الله عنها التي صحبت النبي صلى الله عليه وسلم زوجة وفية، وكانت معه كخير ما تكون المرأة مع الرجال، حتى بشرها الله سبحانه وتعالى ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب، فهي لم ترفع صوتها على النبي صلى الله عليه وسلم، وحازت قصب السبق في اتباعه، ولذلك استحقت هذا الوعد وهذه البشارة منه سبحانه وتعالى، يحملها جبريل، ويبلغها محمد صلى الله عليه وسلم.
وتقرئين أيضاً سيرة سمية رضي الله عنها أول شهيدة في الإسلام، وأسماء ذات النطاقين، وغيرهن من النساء المؤمنات اللاتي كان لهن دور بارز في تلك المرحلة الحرجة من مراحل الدعوة، وهي مرحلة الدعوة المكية.
وأما في المدينة بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فإنك ترين أيضاً نماذج من ذلك، ترين أم سليم بنت ملحان وأم سلمة وصفية وعائشة وحفصة، وسائر زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، وترين أم عمارة نسيبة بنت كعب وسائر المؤمنات من الصحابيات.
إن هذا يعطينا شعوراً وقناعة بأننا نحتاج إلى دور المرأة، والآخر كالأول، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، فما دام للمرأة دور هناك فلها دور أيضاً هنا.(57/2)
المرأة أم(57/3)
صفية بنت عبد المطلب وأسماء بنت أبي بكر
وحديثنا في هذا اللقاء -معشر الأخوات الكريمات- يدور حول محاور ثلاثة: أولها: المرأة أم: إنك على مدى التاريخ القريب والبعيد لابد أن تري أسماء لامعة كتبت في صفحات بيضاء ناصعة في تاريخ أمتها، وتلك الأسماء -القائدة والمجاهدة والعالمة والمصلحة- أياً كان موقعها لابد أنه كان وراء كل منهما امرأة صالحة أعدت هؤلاء حتى صاروا إلى ما صاروا إليه، وهذا الأمر ليس حكراً على المسلمين، بل حتى سائر الأمم -الصادقون منهم- يعترفون بدور المرأة في ذلك.
حين هنئ لنكولن أحد الزعماء الأمريكان قال: لا تهنئوني وهنئوا أمي؛ فهي التي رفعتني إلى مقامي هذا.
ولسنا بحاجة إلى أن نستعرض سيرة هذا الرجل وأشباهه؛ فأمامنا صفحات واسعة قد لا نستطيع أن نأتي على جزء يسير منها في هذا اللقاء، أمامنا صفحات واسعة من تاريخ أمتنا، من أولئك النساء اللاتي كان لهن دور في إعداد الرجال على مدى تاريخ هذه الأمة الطويل.
فها هي صفية بنت عبد المطلب رضي الله عنها تقبل حين استشهد حمزة رضي الله عنه؛ لتنظر ما فعل القوم بأخيها، فيقول صلى الله عليه وسلم لابنها الزبير: (دونك أمك فامنعها)، وأكبر همه صلى الله عليه وسلم ألا يجد بها الجزع لما ترى، فلما وقف ابنها يعترضها قالت: دونك لا أم لك.
فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرها بذلك، فقال: (خل سبيلها)، فأتت إلى صفوف الناس، حتى أتت إلى أخيها، فنظرت إليه، فصلت عليه واسترجعت واستغفرت له، وقالت لابنها: قل لرسول الله: ما أرضانا بما كان في سبيل الله، لأحتسبن ولأصبرن إن شاء الله! وحين كان لـ عبد الله بن الزبير ما كان دخل على أمه، فقال: يا أمه! خذلني الناس حتى أهلي وولدي، ولم يبق معي إلا اليسير، ومن لا دفع له أكثر من صبر ساعة من نهار، وقد أعطاني القوم ما أردت من الدنيا فما رأيك؟ فقالت: الله الله يا بني! إن كنت تعلم أنك على حق تدعو إليه فامض عليه، ولا تمكن من رقبتك غلمان بني أمية، فيلعبوا بك، وإن كنت أردت الدنيا فبئس العبد أنت أهلكت نفسك ومن معك، وإن قلت: إني كنت على حق، فلما وهن أصحابي ضعفت نيتي فليس هذا فعل الأحرار، ولا من فيه خير، كم خلودك في الدنيا؟! القتل أحسن ما يقع بك يا ابن الزبير! والله لضربة بالسيف في عز أحب إلي من ضربة بالسوط في ذل! فقال: يا أماه! أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي ويصلبوني، قالت: يا بني! إن الشاة لا يضرها السلخ بعد الذبح، فامض على بصيرتك، واستعن بالله.
وحين قتل رضي الله عنه دخل ابن عمر المسجد فأبصره مطروحاً قبل أن يصلب، فقيل له: هذه أسماء فمال إليها وعزاها، وقال: إن هذه الجثث ليست بشيء، وإن الأرواح عند الله عز وجل، فقالت له أسماء رضي الله عنها: وما يمنعني وقد أهدي رأس يحيى بن زكريا إلى بغي من بغايا بني إسرائيل.
واسمعي إلى ما قالته للحجاج حين قتل ابن الزبير، دخل عليها فقال لها: يا أمه! إن أمير المؤمنين وصاني بك، فهل لك من حاجة؟ قالت: لست لك بأم، ولكني أم المصلوب على رأس الثنية، وما لي من حاجة، ولكني أحدثك أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرج في ثقيف كذاب ومبير)، فأما الكذاب فقد رأيناه -تعني المختار - وأما المبير فأنت.
فقال لها: مبير المنافقين.
وفي رواية عن يعلى التيمي قال: دخلت مكة بعد قتل ابن الزبير بثلاث، وهو مصلوب، فجاءت أمه عجوز طويلة عمياء، فقالت للحجاج: أما آن للراكب أن ينزل؟ فقال: المنافق؟! قالت: والله ما كان منافقاً، كان صواماً قواماً براً، قال: انصرفي يا عجوز فقد خرفت! قالت: لا والله ما خرفت منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (في ثقيف كذاب ومبير) الحديث.
إن تلك الروح العالية التي كانت لدى أسماء رضي الله عنها هي التي صنعت الاستبسال والشجاعة في ابن الزبير رضي الله عنه.
ويحتاج المصلحون الذين يدفعون أرواحهم وحياتهم وما لديهم ثمناً لدعوتهم وعقيدتهم، وترخص عندهم الأمور في سبيل الله سبحانه وتعالى، يحتاجون إلى مثل هذه الأم التي تدفعهم إلى ميدان البطولة، تدفعهم إلى ميدان الاستشهاد، تدفعهم إلى ميدان تحمل ضريبة كلمة الحق، وضريبة الموقف الحق حين يشعر صاحبه أنه إنما عمل لله، وأنه إنما قام لله، فنحن أحوج ما نكون إلى مثل هذه الأم.
بعيداً عن تلك الأم التي تخدر، والتي تخاف على ابنها من مصائب الدنيا، وها هي هند بنت عتبة رضي الله عنها أم معاوية بن أبي سفيان كان يفتخر بها إذا افتخر فيقول: أنا ابن أمي هند.(57/4)
أم عمارة وأم عاصم
وأيضاً من النساء اللاتي سطر لهن التاريخ صفحة سامقة عالية في ميدان الأمومة لأولئك الرجال الصادقين أم عمارة نسيبة بنت كعب الأنصارية رضي الله عنها، هي أم عبد الله بن زيد الأنصاري الذي وصف حديث وضوء النبي صلى الله عليه وسلم وروي أنه قتل مسيلمة، وأم حبيب بن زيد الذي قابل مسيلمة في القصة المشهورة حين قطع مسيلمة -عليه من الله ما يستحق- أعضاءه قطعة قطعة، وهو يرفض أن يجيبه إلى ما يدعو.
ولها مواقف مشهورة مشهودة في التاريخ ليس هذا وقت الحديث عنها، إنما نحن نحكي عن أم عمارة نسيبة رضي الله عنها جانب الأمومة، وكيف خرجت أولئك الأبناء.
وأم عاصم بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنه هي أم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، وكان لها دور في تربيته وإصلاحه.
وأمير المؤمنين في الأندلس عبد الرحمن الناصر حكم خمسين سنة وستة أشهر، ووطئت أقدام جيوشه بلاد فرنسا وأسبانيا وإيطاليا، الذي أزعج أوروبا، قتل أبوه وعمره واحد وعشرون يوماً فانفردت أمه بتربيته، فكان هذا الرجل من نتاجها.(57/5)
نماذج من أمهات العلماء
وفي ميدان العلم والفقه نرى أيضاً أن الأمهات كان لهن دور بارز في إعداد الرجال، سفيان الثوري الإمام الفقيه المحدث الذي قال فيه الأوزاعي: لم يبق من تجتمع عليه الأمة بالرضا إلا سفيان.
سفيان رحمه الله كان ثمرة أم صالحة، روى الإمام أحمد بسنده عن وكيع قال: قالت أم سفيان لـ سفيان: يا بني! اطلب العلم وأنا أكفيك بمغزلي.
أي: تكفيه نفقته وشئون حياته حتى يتفرغ للعلم.
وقالت له توصيه: يا بني! إذا كتبت عشرة أحرف فانظر هل ترى في نفسك زيادة في خشيتك وحلمك ووقارك، فإن لم تر ذلك فاعلم أنها تضرك ولا تنفعك.
والإمام الفقيه الثبت إمام أهل الشام وفقيههم أبو عمرو الأوزاعي الذي قال فيه بقية: إنا لنمتحن الناس بـ الأوزاعي، فمن ذكره بخير عرفنا أنه صاحب سنة.
كان يتيماً فقيراً في حجر أمه، فنقلته من بلد إلى بلد، حتى تعلم وبلغ مرتبة الإمامة والفقه.
والإمام ربيعة بن أبي عبد الرحمن قصته مع أبيه مشهورة رواها ابن خلكان، وذلك أن أباه فروخ فارق أمه وهي حامل به، وترك عندها ثلاثين ألف ديناراً، وأوصاها بحملها خيراً، ففارقها إلى ميدان الجهاد، وغاب هناك سنوات طويلة، فعاد بعد أكثر من ثلاثين سنة، عاد ليطرق بيته فخرج إليه ابنه ربيعة، فقال له: كيف تهجم على بيتي وأهلي؟! فقال له: كيف أنت تدخل بيتي؟ فعلت أصواتهما، وارتفعت خصومتهما، حتى جاء الإمام مالك واللجج والخصومة بينهما، فقال: أنا صاحب هذا البيت أنا فروخ، فسمعت أم ربيعة صوته وسمعت كلامه فعرفت أنه زوجها، فنادته وقالت: هذا ولدك فتعانقا.
ثم سألها عن المال الذي أودعها إياه، فقالت: إني دفنته واختبأته، ونام ثم لما استيقظ قالت له: اذهب واشهد صلاة الفجر في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب ورأى رجلاً قد اجتمع حوله أفواج من الناس يستمعون إليه فسأل وهو مطرق رأسه خجلاً منه، فإذا هو ابنه ربيعة، فعاد إلى زوجه فوصف لها ما وصف، فقالت: أيسرك هذا أم الدنانير؟ قال: والله! هذا أحب إلي، فأخبرته أنها أنفقتها في تعليمه.
لقد كان وراء الإمام ربيعة رحمه الله تلك الأم التي ربته وتعاهدته حتى بلغ ما بلغ.
والإمام مالك أيضاً الذي درس على ربيعة قال لأمه: أذهب فأكتب العلم.
فقالت: تعال فالبس ثياب العلم، قال: فألبستني وعممتني، ثم قالت: اذهب فاكتب الآن، وكانت تقول: اذهب إلى ربيعة فتعلم من أدبه قبل علمه.
والإمام الشافعي الإمام الفقيه المجدد، مات أبوه وهو جنين أو رضيع، فتولته أمه بعنايتها، وتنقلت به من غزة مهبطه إلى مكة مستقر أخواله، وكانت من العابدات القانتات، ومن أزكى الخلق فطرة.
وحصلت لها قصة مشهورة عند أحد قضاة مكة، ذلك أنها شهدت هي وأم بشر فأجاز شهادتهما فذكرته بقول الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282].
والمهدي الخليفة العباسي الذي كان يلقب بقصاب الزنادقة وعدو الزنادقة أجمع المؤرخون أنه نتاج تربية أمه الخيزران التي أخذت الفقه عن الإمام الأوزاعي.
ولله در القائل: وليس النبت ينبت في جنان كمثل النبت ينبت في الفلاة وهل يرجى لأطفال كمال إذا ارتضعوا ثدي الناقصات(57/6)
موضي بنت أبي وهطان
ومن النماذج القريبة زوجة الأمير محمد بن سعود رحمه الله موضي بنت أبي وهطان كان لها دور كبير في إقناعه بمناصرة الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد أتاها أخوا الإمام محمد بن سعود وطلبا منها أن تقوم بهذا الدور في إقناعه أن يتبنى الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ودعوته، فما زالت به حتى أقنعته بذلك، وأمرته أن يذهب إليه ويقابله، وتم ما تم حتى كتب الله النصر والتمكين لدعوة هذا الإمام المجدد بتوفيق الله سبحانه وتعالى بعد أن ناصره هذا الإمام الصادق، وهي أم الإمام عبد العزيز بن الإمام محمد بن سعود رحمه الله الذي بلغ الغاية في العدل والعلم والورع، ولقب بمهدي زمانه.
وهي نماذج طويلة -أختي الفاضلة- من الأمهات اللاتي صنعن القادة وأصحاب المواقف، واللاتي صنعن الفقهاء والعلماء، واللاتي صنعن المصلحين، لقد كان وراء كل واحد من أولئك أم صالحة، تعاهدته بالرعاية والتربية والإحسان حتى أبلغته ما بلغ.
أتظنين أن تلك الأم التي تربي ابنها على أن يخاف حتى من ظله، التي تربي ابنها على أن يخاف من أي هاجس، وتخلق القلق والجزع والخوف والجبن لديه، أترين هذه قادرة أن تنتج ابناً يقول كلمة الحق حين يحتاج إلى ذلك؟ أترينها تنتج ابناً يحمل السلاح والجهاد في سبيل الله حين تفتقر الأمة إلى أمثاله؟ أم ترينها تنتج مصلحاً يدع الدنيا ويطلقها وراء ظهره؛ ليحمل على عاتقه أمانة الدعوة والإصلاح؟ أم ترين أن تلك المرأة التي تربي ابنها على حب الدنيا والتعلق بها وبمتاعها الزائل، أو تربي ابنها على أن يلبي داعي شهواته ورغباته، فلا ترى أن يكدر نومه، ولا أن يقلق راحته، ولا أن يهب عليه الهواء، أترين هذه الأم قادرة أن تنتج طالباً للعلم حاملاً لرسالته، متحملاً المشقة واللأواء والنصب في سبيل تحصيل العلم الذي ينفعه الله سبحانه وتعالى ويهديه به، ومن ثم يحمله بعد ذلك إلى أمته؟ إن أولئك الذين يتحدث عنهم التاريخ من القادة والمصلحين والحكماء والعلماء والدعاة، إن أولئك وغيرهم إما أن تكون وراء كل واحد منهم أم صالحة تعاهدته بالرعاية والتنشئة، أو أن يكون يتيماً، أو يكون قد خلف وصايا أمه المخذلة وراء ظهره، أما أولئك الذين يرضعون الجبن ويتربون في كنف المذلة والعار فلا يرتجى منهم أن يصلوا إلى هذه المنازل ولا أن يبلغوها.
والأمة -أخواتي الفاضلات- أحوج ما تكون في هذه المرحلة إلى هؤلاء المصلحين والعلماء والدعاة والقائلين بالحق والقادة والمجاهدين، هي أحوج ما تكون إلى هذا الصنف الفريد من الناس، ولاشك أن كل واحد من هؤلاء لابد أن تكون له أم، فهلا أخذت على عاتقك أن تدعي ابنك ليكون من هؤلاء؟ هلا أخذت على عاتقك وأنت تداعبين ابنك وهو صغير أن يبلغ مبلغ الرجال، وأن تعديه لذلك، وتربيه على هذه المهمة، وأن تنشئيه من صغره وهو يحمل قضية الإسلام، وقضية الدين، وقضية هذه الأمة، ألا يعيش لنفسه، إنما يعيش لدين الله سبحانه وتعالى، أن يشعر بأن الدنيا لا قيمة لها، ولا تعدل جناح بعوضة، وأنت حين تقومين بهذا الجهد فإنك تقدمين خيراً عظيماً لهذه الأمة، وتؤدين دوراً لن يؤديه إلا أنت، فهل أنت فاعلة ذلك؟(57/7)
المرأة زوجة
أختي الفاضلة! هذا دور المرأة الأم، والحديث عن ذلك يطول، فنتجاوزه إلى دور المرأة زوجة، إن أولئك الذين كانت لهم أمهات في الصغر تعاهدتهم وعنيت بهم وربتهم، كان لهم بعد ذلك زوجات يعيشون معهن ليلهم ونهارهم، وكما أن للأم دوراً في تربية ولدها، وفي دفعه إلى ميادين العزة والكرامة، فالزوجة كذلك لها دور في إعانة زوجها ودفعه، أو في تثبيطه والقعود به.
ولهذا حذر الله سبحانه وتعالى عباده فقال: {إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن:14] ذلك أن المرء قد تقعد به زوجه، أو يقعد به أولاده عن ميادين العزة والفداء والتضحية، فيحذر الله سبحانه وتعالى عباده من أن يجبنوا، ومن أن يسيروا وراء أهواء أهليهم.
إن أولئك كان لهن أزواج، وماذا ترين حال زوجات أولئك؟! إن زوجات أولئك لو كن كحال بعض زوجات زماننا، تخذله، وتزعجه، وتقلق ليله، فهو في نهاره مشغول بهم التعلم والتعليم، والدعوة والصبر على لأوائها، ويعود بعد ذلك إلى منزله ليحمل هماً آخر، ويعيش قلقاً آخر، فتزعجه في تأخره عنها، وفقدها له، وتضييعه لمصالحها، فلو كان حال الواحدة منهن مع زوجها بهذا المنطق وهذه اللغة لكان له شأن آخر، وحديث آخر، أما إذا أخذت هذه الزوجة على عاتقها أن تقف مع زوجها معينة له، ومؤيدة له، ومثبتة له، وأن تسد فراغه إذا غاب عن بيتها، وأن تسدد ما تراه عليه من خير، وأن تأخذ بيده إلى ما قد ترى أنه تجاوز أو قصر فيه؛ فلها أسوة حسنة في خديجة رضي الله عنها حينما كان لها القدح المعلى في نصرة النبي صلى الله عليه وسلم، والوقوف معه حتى بشرت ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب.
حين أتاها صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده بعد الوحي قالت له مطمئنة مثبتة: والله لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق، ثم ذهبت إلى ورقة وكان قد تنصر، فحدثته بما صار من محمد صلى الله عليه وسلم، حتى طمأنها أن هذا هو الناموس الذي جاء على عيسى وموسى، وأنه يرجو أن يكون زوجها نبي هذه الأمة، وفعلاً تم ذلك، وطمأنها ورقة بأن زوجها محمد صلى الله عليه وسلم هو نبي هذه الأمة.
من خير ما يتخذ الإنسان في دنياه كيما يستقيم دينه قلب شكور ولسان ذاكر وزوجة صالحة تعينه(57/8)
المرأة الداعية(57/9)
الهجمة التغريبية على المرأة المسلمة
الصفحة الثالثة من تاريخ المرأة: المرأة الداعية: المرأة أم للدعاة والمصلحين، والمرأة زوجة للدعاة والمصلحين، والمرأة أيضاً داعية هي في موقعها ومع بني جنسها، ولاشك أن هذا الدور يتأكد ويتزايد في هذه المرحلة التي نعيشها، وليست الأدوار الأولى من هذا الدور ولا أولى منه.
إن الكثير من فتيات المسلمين في مراحل التعليم، واللاتي يعانين ما يعانين من نتاج الحملة الشرسة التي تشن على المرأة المسلمة في عفافها، وفي دينها، وفي حيائها، وفي أمور حياتها، إن الكثير من هؤلاء الفتيات لابد أنهن يقابلن كل صباح من تدرسهن، ومن تربيهن في المدرسة، ولن تعدم مدارس المسلمين وجامعاتهم من مدرسة صالحة وفية، ومن امرأة داعية مخلصة صادقة ناصحة، لن تعدم هذه المدارس -بإذن الله وحمده وتوفيقه- من هذا الصنف من الأخوات الفاضلات.
ولو قام هؤلاء الأخوات بدورهن وواجبهن؛ لأبلغن هذه الكلمة، وأسمعن هذا الصوت كل فتاة في بلاد المسلمين في سن التعليم ومرحلة التعليم، وكانت مدارس المسلمين وجامعاتهم ميداناً للتربية والتنشئة والإصلاح والتطوير.
فهل تدرك الأخت الفاضلة وهي تتحمل أمانة التدريس وعبء التربية أن دورها يتجاوز بكثير تلك الأسطر التي تقرؤها في الكتاب المدرسي، ثم تعيد بعد ذلك إلقاءها على فتياتنا وعلى بناتنا؟ أظن أننا ننتظر من أخواتنا دوراً أكبر من ذلك، وجهداً أعظم من هذا، ولا يسوغ بحال أن يقف دور المرأة على أن تلقن التلميذات، وأن تلقن الطالبات معلومات جافة، وعلى أن تستظهر هذه المعلومات التي تقرؤها في الكتاب، ثم تعيد بعد ذلك تسميعها وإلقاءها جافة على الطالبات، وهي تعلم أنهن يعانين ما يعانين، وهي تعلم أنهن يواجهن ما يواجهن.
إن الفتاة المسلمة في عرض العالم الإسلامي وطوله قد أصبحت ضحية المجلة الهابطة، وضحية الفلم الساقط، وضحية تلك المؤامرة الشنيعة التي تشن على المرأة المسلمة؛ لتلحق بنساء الغرب، وتسير وفق طريقهن؛ لتأخذ طريق الهاوية والدمار والهلاك.
وفي بلادنا يرد إليها أكثر من خمسين مجلة تهتم بالمرأة والأسرة، وهي مجلات كلها تنحى المنحى الغربي الساقط، وقد لا يمنعها من الإسفاف والوقاحة إلا رغبتها في مزيد من الانتشار وإسماع صوتها، هذه المجلات والصحف التي تتاجر بالغرائز، ويثرى أصحابها على حساب الفضيلة والعفة ممن يقرؤها ويقتنيها؟ تلك الأفلام من ينظر إليها ويستمع ما فيها؟ وتلك الأصوات النشاز التي تتحدث إلى المرأة عن قضيتها، تتحدث باسمها دون وكالة شرعية، تتحدث نيابة عنها، وهي لا تملك أدنى مؤهل يؤهلها لذلك، تلك الأصوات من يسمعها إلا الفتاة المسلمة هنا وهناك.
وحين تعيش الفتاة في هذا المجتمع، وهي تقرأ هذه الأحداث، وتسمع هذه الأصوات، وترى تلك المشاهد، وتعيش في المقابل حين تعيش هذا الجو، فهي تبحث عمن يوجهها، عمن يأخذ بيدها، عمن ينقذها من هذا الطريق المظلم الذي تقاد إليه.
فممن تريدين أن تسمع الصوت الناصح؟ وممن تريدين أن تتلقى التوجيه؟ إن لم تكن منك أنت التي تعلمينها، أنت التي تلقين عليها الدرس صباح مساء، إن المدرسة والمربية حين تريد أن تصل إلى أداء دور فعال في التربية والتنشئة والإصلاح والتقويم، إنها بحاجة إلى أن ترتقي أكثر في أسلوب الخطاب، ولغة التوجيه والحديث.(57/10)
الخطاب الذي ينبغي أن يوجه للفتاة
وإننا -معشر الأخوات الفاضلات- ينبغي أن نتجاوز تلك اللغة، والتي لم تعد تعرف المرأة فيها إلا الحديث عن بعض القضايا التي تخص الفتاة، أو الحديث عن المخالفات التي تقع فيها النساء، فهي حين تتبع حديثاً يخصها تنتظر أن تسمع حديثاً عن الحجاب، والتحذير من السفور، وعن قوامة الرجل، وعن اختلاطها بالأجانب، وعن اللبس المحرم، والسماع المحرم، والكلام المحرم، إلى غير ذلك.
وهو حديث لابد أن تسمعه، ولابد أن نقوله، ولا يجوز أبداً أن نقلل من شأنه وقيمته، لكن أليس هناك منطق آخر ينبغي أن نتحدث فيه مع المرأة؟ أليست الفتاة بحاجة إلى أسلوب آخر وصوت آخر يحدثها؟ لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى النساء؛ ليعظهن ويعلمهن، فكان مما قال لهن: (ما منكن امرأة تقدم ثلاثة من الولد إلا كانوا لها حجاباً من النار، قالت امرأة: واثنين، قال: واثنين).
إن النبي صلى الله عليه وسلم هنا فتح لهن باباً في الرجاء، وحدثهن عن دور وأمر ينبغي أن يحتسبنه وتحتاج إليه المرأة، وفي موطن آخر أمرهن صلى الله عليه وسلم بالصدقة، وأخبر أنهن أكثر أهل النار -عافانا الله وإياكن جميعاً من عذاب النار- وأمرهن أن يتصدقن ولو من حليهن.
والمقصود أنه لا ينبغي أن نقتصر على هذا اللون من الخطاب، ولا ينبغي ألا يعرف الناس من قضية المرأة إلا لزوم الحجاب، والمنع من النقاب، والمنع من اللباس الفاضح، والاختلاط بالرجال، والحديث عن الأخطاء التي تقع فيها المرأة.
أقول وأؤكد: لاشك أن هذا ينبغي أن نقوله، وينبغي أن نكرره ونخاطب المرأة به، لكن أيضاً ينبغي أن نتحدث حديثاً آخر، إن تلك الفتاة التي نعاني منها الآن وهي تتهاون بأمر الله سبحانه وتعالى، فتتهاون في الحجاب، ويزعجنا هذا المنظر، ويؤلمنا هذا الموقف، إن الكثير منهن تعلم تمام العلم، وتوقن تمام اليقين أن هذا السلوك مخالفة لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأنه لا يرضي الله سبحانه وتعالى.
فلو خاطبناها بلغة أخرى، وسعينا إلى أن نغرس الإيمان عند فتياتنا، وأن نعنى بهذه القضايا ونركز عليها، أن تعنى المدرسة والمربية والموجهة بتربية الإيمان في نفوس الفتيات، وتذكيرهن بالله سبحانه وتعالى، واليوم الآخر؛ حتى تصبح الفتاة فتاة تخشى الله سبحانه وتعالى، وتخافه عز وجل، وتؤثر مرضاة الله سبحانه وتعالى على ما سواه، حينها يتعلق قلبها بالله سبحانه وتعالى، وتدرك تماماً العبودية والخضوع لله عز وجل، وترى أن الحجاب والعفاف أنه لباس عز وشرف؛ لأنه استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، وعبودية له عز وجل.
ومما زادني شرفاً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا فتفتخر الفتاة وتعتز بأن ترتدي هذا الحجاب، بأن تمتنع من هذا اللباس، بأن تمتنع من هذا السلوك، وتتجنب ذاك الموقف، وأن تقف هذا الموقف، وتلبس هذا اللباس، إنها تعتز بمثل هذه المواقف، وترى أنها تمثل عبودية لله سبحانه وتعالى، وأن هذا يزيدها رفعة وشرفاً وفخراً.
إن المرأة تتعلق بالمظاهر، وتفتن بالزينة، وتسعى إليها، {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف:18]، فحين تربى الفتاة أن لباس التقوى خير، {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].
حين ترى أن زينة الإيمان هي أعلى زينة وأتم زينة، فنغرس هذا المعنى في نفسها، ونربيه لديها بالكلمة المؤثرة، والقدوة، وسائر وسائل التربية وأساليبها، حين نغرس هذه المعاني في نفوس فتياتنا وبناتنا؛ فإننا حينئذٍ نتجاوز هذه العقبات، وتنطلق هذه الفتاة لتلتزم أمر الله سبحانه وتعالى، راغبة راضية متوجهة إليه لا أن تتجه له، وهي ترى أنه أمر تؤطر عليه أطراً، وتدفع إليه دفعاً.
أقول: لو تحدثنا مع فتياتنا وبناتنا بهذه الصورة، وسعينا إلى التركيز على هذه الجوانب؛ على تحقيق العبودية لله سبحانه وتعالى، وتوحيد الله عز وجل، وتعظيمه سبحانه وتعالى، حتى لا يصبح في قلوبهن محبة فوق محبة الله سبحانه وتعالى، ولا يخفن غير الله عز وجل، ولا يتجهن لسواه سبحانه وتعالى، فإننا حينئذٍ نختصر على أنفسنا مراحل كثيرة من الطريق، ربما كانت تستوجب علينا قائمة طويلة من المناقشات والمجادلات؛ لإقناع هذه الفتاة بأن تترك هذا السلوك، أو تسلك هذا المسلك وتسير في هذا الطريق أو ذاك.(57/11)
حاجة الشباب والفتيات إلى الحديث الدعوي ممن يعرف واقعهم
جانب آخر له أهميته أخواتي الفاضلات: وهو أن فتياتنا وشبابنا يعيشون في هذا العصر أزمات هي جزء من نتاج هذه الهجمة الموجهة على هذه الأمة، ويعيشون واقعاً مؤلماً، فهم جميعاً شيباً وشباناً رجالاً ونساءً يحتاجون إلى من يحدثهم عن واقعهم، خاصة في مرحلة الشباب.
فالفتاة بحاجة إلى أن تسمع من تلك المعلمة التي ترى أنها تعرف واقعها، وتدرك مشكلاتها، وتعي حقيقة معاناتها، أن تحدثها بلغة واقعية، وبلغة العارفة المدركة لواقعها، وتطرح عليها الحلول العملية، ليست تلك الحلول المثالية والمغرقة في الخيال، ولا تلك الحلول التي تراها تتناسب معها هي، أي: المتحدثة، إنما تخاطب الفتاة التي تستمع إليها بما ترى أنها تعاني منه، وتتحدث معها بكل صراحة ووضوح عن مشكلاتها ومعاناتها، ثم أيضاً تطرح لها الحلول العملية التي ترى أنها تطيق أن تسلكها.
والفتاة حين تسمع مثل هذه اللغة، وتنصت إلى مثل هذا الخطاب، فإنها حينئذٍ تدرك أنها تستمع لصوت يجمع بين النصح والشفقة والعلم والوعي والمعرفة بالواقع، فهذا أدعى للاستجابة، وأدعى لأن تؤتي هذه الجهود بإذن الله عز وجل ثمرتها وبركتها.
أخواتي الفاضلات! في قطاع التعليم أو غيره -مدرسة كنت أو مديرة أو موجهة- وفي أي ميدان كنت نحتاج إلى جهد ودور عظيم منك لا يمكن أن يؤديه غيرك، إن الرجل قد يكتب كتاباً، وقد يتحدث حديثاً يسجل، لكنه لا يستطيع أن يوصل هذه الكلمة المكتوبة، أو يسمع تلك الكلمة المسجلة إلى كل فتاة، لا يستطيع أن يسمع تلك الفتاة المعرضة الغافلة البعيدة.
إن تلك الفتاة لا بد أن تكون تلميذة لمدرسة صالحة متدينة، لا بد أن تكون أختاً أو بنتاً لأم صالحة، أو قريبة لها، أو جارة لها، لا بد أن تعيش في واقعها القريب والبعيد، وأن ترى زميلةً لها أو أستاذةً أو أماً أو قريبةً أو جارة، أياً كان موقعها منها، لا بد أن ترى من أولئك النساء الخيرات الداعيات إلى الله سبحانه وتعالى.
وحين تقوم المرأة بتحمل أمانتها ودورها ومسئوليتها، فإنها تبلغ كلمة لا يستطيع الرجال أن يبلغوها، وتخاطب من لا يستطيع الرجال أن يخاطبوه، وتشافه أولئك اللاتي لا يمكن أن يسمعن ولا يعين إلا منهن، فهل تدركين -أختي الفاضلة- عظم الأمانة والمسئولية التي حملك الله إياها؟! إن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه).
والله سبحانه وتعالى قد وصف الأمة بأنها أمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وأخبر أن هذا هو معيار ومناط خيريتها: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
وخطاب الشرع يعم الرجال والنساء، فنحن أمة أمارة بالمعروف ناهية عن المنكر، أمة قائلة بالحق، أمة داعية إلى الله سبحانه وتعالى.
الله الله -أخواتي الفاضلات- في تحمل هذه الأمانة، والقيام بدورها، وإبلاغ الكلمة لزميلتك إن كنت طالبة ودارسة، وإبلاغ الكلمة لتلميذاتك إن كنت مدرسة، وإبلاغ الكلمة لقريباتك، ولكل من تلقين، ولا تيأسي ولا تضجري من أن تبلغي كلمة، أو تبذلي جهداً، أو تأمري بخير، أو تنهي عن منكر، فنحن أحوج ما نكون إلى دورك، وإلى أن يتكاتف المسلمون جميعاً، وأن يحملوا الأمانة جميعاً، ويدركوا أنها أمانة لا تخص طائفة دون طائفة، ولا فئة دون فئة.
أسأل الله سبحانه وتعالى لأخواتي الفاضلات الستر والعفاف والحياء، وأن يرزقهن الله الأزوج الصالحين الناصحين، والذرية الصالحة، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.
وأكتفي بهذا الحديث؛ لأجيب على أسئلة الأخوات الفاضلات.(57/12)
الأسئلة(57/13)
نصيحة في طريقة التحصيل العلمي والكتب المناسبة في ذلك
السؤال
ما هي الكتب التي تنصح بها كل من تود زيادة الحصيلة العلمية والدينية لديها، وتود طلب العلم بها، وهل تستطيع أن تخصص يوماً للنساء تقوم بتعليمهن أمور دينهن من فقه وعقيدة؟
الجواب
نجيب على الشق الثاني من السؤال فأقول: لست أنا من أهل هذه البلد، وإنما أنا زائر وراحل هذه الليلة.
أما بالنسبة للشق الأول فالكتب لاشك أنها كثيرة بحمد الله في كل فن وفي كل علم، وعلى كل مستوى من المستويات، ولا أظن أن مشكلتنا تكمن في عدم معرفة الكتاب المناسب للقراءة، فمثلاً لو سألت الأخت السائلة أو غيرها أن تذكر لي بعض الكتب المناسبة في الحديث، وفي التفسير والفقه لعدت لي قائمة من ذلك، ولو وجهت لها السؤال بعد ذلك هل قرأت شيئاً من هذه الكتب؟ ربما تكون الإجابة غير مشجعة.
فأقول: إن المشكلة لا تكمن في عدم معرفة الكتاب المناسب بقدر ما هي كامنة في وجود إرادة وعزيمة على القراءة والتحصيل.
أما تحديد كتب معينة للمرأة فهذا يختلف على حسب سن المرأة، ومستوى تحصيلها وتعليمها، وعلى المرأة أن تستشير من هو قريب منها من أجل أن يعرف مستواها، فمثلاً الكتب التي تناسب الطالبة ليست من الكتب التي تناسب المدرسة، وكذلك التي تناسب المرأة التي قطعت مرحلة في التعلم ليست كالتي تناسب المرأة التي هي دون ذلك.
وعموماً الكتب التي تناسب الرجال هي أيضاً مناسبة للنساء، قد كتب أهل العلم كتباً في منهج التعلم والتفقه وطرقه ووسائله وآدابه ومنهجيته، ينبغي للفتاة طالبة العلم أن يكون لها نصيب من قراءة مثل هذه الكتب.(57/14)
طريقة ترقيق القلوب
السؤال
كيف يمكن لنا أن نرقق قلوبنا، ونبعد عنها شبح الفتور؟
الجواب
الله سبحانه وتعالى شرع لنا أن نستعين به في كل أمورنا، فنحن نقرأ في سورة الفاتحة كل يوم مرات عدة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]، ونحن نستعين بالله سبحانه وتعالى في أمور ديننا وفي أمور دنيانا، فكما أننا نستعين بالله سبحانه وتعالى على قضاء حوائجنا في دار الدنيا، فكذلك نحن نستعين بالله سبحانه وتعالى على أمور ديننا، كما كان صلى الله عليه وسلم يدعو: (اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه)، فهو يستعين بالله سبحانه وتعالى على أن يعينه على اتباع الحق وعلى اجتناب الباطل.
فلاشك أنه لا أرق للقلوب، ولا أنجع لعلاجها من ذكر الله سبحانه وتعالى، وتلاوة كتابه، والتوجه له عز وجل، وعبادته، والإقبال على الله سبحانه وتعالى بالذكر والدعاء والتلاوة والعبادة، وسائر هذه الأبواب مدعاة لعلاج القلوب ورقتها.
والله سبحانه وتعالى خلقنا ويعلم ما نحن فيه، ويعلم ما نعاني سبحانه وتعالى، ولم يتركنا سدى، بل أنزل علينا هذا الكتاب العظيم الذي ما من خير إلا ودلنا عليه، ولا شر إلا حذرنا منه.(57/15)
حكم الاستخارة في الأمور الواجبة
السؤال
هل تكون الاستخارة في الأمور الواجبة كالحج والعمرة وغيرها؟
الجواب
لا، هذه الأمور الواجبة يجب على الإنسان أن يعملها ولا تتوقف على الاستخارة، والاستخارة أن يتردد الإنسان في أمر لا يدري أهو خير له أم غير ذلك، فيستخير الله.(57/16)
حكم حج المرأة مع الرفقة الصالحة دون محرم
السؤال
ما حكم حج المرأة مع رفقة صالحة بدون محرم؟
الجواب
لا يجوز أن تسافر المرأة بدون محرم، سواء كانت مع رفقة صالحة أو ليسوا كذلك.(57/17)
التحقق من الحب في الله
السؤال
كثيراً ما نسمع أن فلانة تحب أختاً لها في الله، وقد يدخل فيه شيء للدنيا، كيف يتحقق الإنسان أن حبه حقيقة لله؟
الجواب
هذا المعنى أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله)، وفرق بين قوله: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وبين قوله: أن يحب المرء في الله؛ لأن قوله: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله نفي لكل أسباب ووسائل المحبة غير هذه المحبة.
وقالوا: إن من علامات المحبة الخالصة لله أنها إذا زادت طاعة لله سبحانه وتعالى زادت محبة لها، وإذا رأت منها تقصيراً وضعفاً قلت محبتها لها.(57/18)
حكم المسح على الجوارب
السؤال
حكم المسح على الجوارب سواء على طهارة أو غير طهارة؟
الجواب
يشترط في المسح على الجورب أن تلبسها المرأة أو يلبسها الرجل على طهارة، فإن لبستها على غير طهارة لا يجوز لها أن تمسح عليها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعهما فإني أدخلتهما طاهرتين).(57/19)
عمل اليوم والليلة
السؤال
إن في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم منهجاً ودستوراً لنا، نريد منك أن تذكر لنا أعظم وأفضل ما يقوم به الرسول صلى الله عليه وسلم من أعمال صالحة وأخلاق في يومه الواحد من الصباح إلى المساء؟
الجواب
أعظم وأفضل الأعمال هي الأعمال الواجبة، وأعظمها الصلاة، المحافظة على الصلاة في وقتها، وأداؤها كما ينبغي من أعظم الأعمال، ثم من الأعمال التي شرعت لنا في اليوم والليلة أن نبتدئ اليوم بذكر وقراءة أوراد وأدعية الصباح، وهي معروفة وقد دون أهل العلم كتباً صغيرة وكبيرة مطولة ومختصرة في هذه الأذكار، ثم أيضاً السنن الرواتب التي هي اثنتا عشرة ركعة أو عشر ركعات، قد أخبر صلى الله عليه وسلم (أن من صلى لله كل يوم ثنتي عشرة ركعة بنى الله له بيتاً في الجنة)، والوتر، وسائر الأعمال بعد ذلك من تلاوة القرآن، والإحسان إلى الناس، والصدقة، إلى غير ذلك.(57/20)
حكم ارتداء المرأة للباس القصير
السؤال
حكم ارتداء المرأة لبس قصير؟
الجواب
لا يجوز للمرأة أن تلبس القصير الفاتن أمام الرجال الأجانب، لكن إنما يجوز لها ذلك أمام زوجها فقط.(57/21)
حكم كشف المرأة وجهها في بلاد الغربة
السؤال
ما حكم سفر المرأة إلى بلاد أجنبية ولا تغطي وجهها، مع العلم أن معها محرماً، وترتدي الطويل الساتر؟
الجواب
أحكام الله عز وجل لا تختص بهذه البلاد دون غيرها، فالذي أمرها بالحجاب في هذه البلاد أمرها سبحانه وتعالى بالحجاب في غير هذه البلاد.(57/22)
حكم مس الحائض المصحف
السؤال
ما حكم مس الحائض للمصحف؟
الجواب
لا يجوز للحائض أن تمس المصحف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب عمرو بن حزم: (لا يمس القرآن إلا طاهر).(57/23)
حكم الصلاة في الحافلة
السؤال
نذهب إلى المدرسة في وقت مبكر حتى يؤذن الفجر ونحن في الطريق، ونصلي صلاة الصبح ونحن في الحافلة، فهل نقضي هذه الصلاة أم لا؟
الجواب
لا يجوز أن تصلي في الحافلة؛ لأن المرأة يجب أن تصلي وهي واقفة، وتستقبل القبلة، ولا يجوز أن يصلى على الراحلة إلا النافلة في السفر، فتنتظر حتى تصل إلى المدرسة إذا كانت تصل قبل خروج الوقت وتصلي، وإذا كانت لا تصل إلا بعد خروج الوقت ينبغي أن يرتب النساء لهن حلاً في الأمر، إما أن تذهب مع أذان الفجر أصلاً وتصلي، أو يتوقفن لأداء الصلاة، لكن لا يجوز ولا يعتبر هذا عذراً لهن أن يصلين في مثل هذه الحالة.(57/24)
طلاق الحامل
السؤال
هل يقع طلاق المرأة الحامل؟
الجواب
نعم يقع طلاق المرأة الحامل، وتنتهي عدتها بوضع الحمل.(57/25)
حكم قطع الطواف لصلاة النافلة
السؤال
ما حكم قطع الطواف لصلاة نافلة بين الحجر والكعبة، وذلك عند رؤية المكان خالي، وهل يعاد الطواف الذي لم يكمل؟
الجواب
المرأة أولاً المفروض أن تبتعد عن هذه الأماكن للرجال، وتصلي في مكان بعيد وفي الأماكن الخاصة بالنساء، لكن عموماً الطواف لو أراد أن يقطعه المرء جاز له، وإن كان ينبغي له أن لا يقطعه إلا لحاجة، لكن المرأة ينبغي أن تبتعد عن هذه الأماكن، وتصلي في الأماكن المخصصة للنساء.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم جميعاً بما سمعنا، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.
هذا والله أعلم.(57/26)
منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله
الأنبياء قدوة الأنام لأنهم مؤيدون بالعصمة مصطفون من الله تعالى لتبليغ دينه والدعوة إلى عبادته وتوحيده، وقد ذكر الله قصصهم ومنهجم في الدعوة إلى الله في القرآن الكريم، فيجب على كل داعية الاهتداء بهديهم والاقتداء بسيرهم.(58/1)
أهمية الحديث عن منهج الأنبياء
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: ففي هذه الليلة الطيبة المباركة ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر جمادى الأولى عام 1415 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم نتحدث حول منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل، ولا أظن أن مثلي وفي هذه العجالة يمكن أن يأتي على منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله عز وجل بفروعه ومعالمه، لكنها إضاءات وخواطر أملاها الواقع الذي نعيشه.
ثمة ثوابت -معشر الإخوة الكرام- اتفق عليها أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، وهي قضايا ليست جديدة، وكيف تكون جديدة وهي قضايا المنهج؟! وقضايا المنهج ينبغي أن تكون معالم واضحة معالم لا يجهلها أحد معالم لا يزيغ عنها إلا من ضل وانحرف، وكيف تكون جديدة وهي حديث عن منهج الأنبياء الذي نقرؤه في كتاب الله سبحانه وتعالى؟! كلنا يقرأ القرآن، وكلنا يقرأ ويتلو آيات الله عز وجل التي فيها الحديث عن قصص الأنبياء، وعن منهج الأنبياء، وعن دعوتهم، ومن ثم فالحديث معشر الإخوة الكرام مع أمثالكم عن منهج الأنبياء لن يكون حديثاً جديداً إنما هو تذكير بحقائق نعرفها وندركها جميعاً إنما هو إعادة لأفراد المسائل والمواقف التي نقفها في الدعوة إلى الله عز وجل إلى أصولها وجذورها.
ولعل أول تساؤل يطرح: لماذا الحديث عن منهج الأنبياء؟.
يدعونا معشر الإخوة الكرام للحديث عن منهج الأنبياء أمور عدة(58/2)
كثرة الحديث عن مناهج التغيير
أولها: أن الحديث كثير عن المنهج فيتحدث الكثير اليوم عن التغيير ومناهجه، وتتنوع الأطروحات الإسلامية وتتنافس في طرح برامج التغيير ومناهج الإصلاح، وتنوع الاجتهادات واختلاف المواقف أمر لا غبار عليه، لكن المرفوض أن تتحول الجزئيات والاجتهادات إلى ثوابت، وأن تتحول القناعات الشخصية إلى قضايا منهجية عند البعض يوالي ويعادي من أجلها، وينطلق من اقتناعات شخصية أو اجتهادات ليرسم من خلالها منهجاً يرفض الدعوة إلا من خلاله، ويسفه الآراء التي تنطلق من سواه ويوالي ويعادي عليها ويستنبط من خلال ذلك معايير لتقييم الناس والبرامج الدعوية.
إن قضية المنهج قضية تهتم بالثوابت والإطار العام، ومع تأكيدنا على ضرورة انضباط المسائل الاجتهادية بضوابط الشرع، ومع رفضنا لتلك القسمة الضيزى لشرع الله عز وجل إلى لب وقشور؛ لكن مع ذلك كله لا يسوغ أن تتحول المسائل الاجتهادية إلى قضايا يؤثم فيها الناس ويخطئون ويضللون، أو أن تدعى الأمة إلى أن تجتمع على رأي فلان أو اجتهاد علان، ولا يجوز أن تتحول هذه القضايا إلى معيار للولاء والبراء.
إن البعض من الناس يرسم ثوابت ومنطلقات يمليها عليه اجتهاده وربما تقليده لفلان من الناس، وربما كانت انعكاساً لوضع معين، فيرسم هذه الثوابت ثم يسعى بعد ذلك لتحويلها إلى منهج من خلال البحث عن نصوص شرعية تؤيد ذلك ولو أدى إلى أن يلوي أعناقها لياً، أو من خلال اجتهادات هي لآحاد من السلف تتحول هذه الاقتناعات عند صاحبنا إلى منهج من خالفه فهو منحرف ضال أفاك أثيم.
وثمة طوائف لا تزال تعيش في عزلة عن النص الشرعي وغربة عن منهج الطائفة المنصورة، فلا تعدو مصادر المنهج أن تكون حسابات مرحلية، أو قضايا استراتيجية؛ ولهذا قد لا تكاد تفرق أحياناً بين حسابات بعض هؤلاء الدعاة وحسابات الساسة وأصحاب الأيدلوجيات الأرضية.
لأجل هذا وذاك كان لا بد من الحديث عن منهج الأنبياء حتى لا تتحول القضية إلى فوضى وتسيب وانحراف عن النص الشرعي والثوابت الشرعية، وحتى أيضاً لا نشطط ونغلو فنحول اجتهاداتنا الشخصية التي لم ينص عليها نص واضح وصريح تتعبد الأمة به وربما كانت لا تعدو أن تكون مقولة لفلان، أو أن تكون وضعاً عشناه وألفناه، حتى لا تتحول هذه الاجتهادات إلى منهج وثوابت، ننصر الدعوة من خلالها ونقيم آمال الناس ونزنها من خلال هذا الميزان، إن هذا وذاك مرفوض؛ لهذا كان لا بد من الحديث عن منهج الأنبياء.(58/3)
العصمة
من مزايا منهج الأنبياء أن الله سبحانه وتعالى قد عصمهم من الانحراف والخطأ والخلل وعصمهم سبحانه وتعالى من الأهواء، ومن ثم فاتباع سبيلهم ضمان بإذن الله عز وجل في الاستقامة على الطريق والسلوك على الجادة، والأمن من الخلل وبنيات الطريق؛ لذا فمن رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده أن لم يتركهم لاجتهادات البشر أو يعبدهم لآراء فكرهم، واقرأ في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل تجد دليلاً واحداً يأمر الناس بالتقليد ويحثهم عليه، إنك لن تجد الحديث عن التقليد في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا في مقام الذم والعيب لأولئك الذين عطلوا عقولهم، وعطلوا منطق البرهان والحجة، وساروا وراء وعي فلان وفلان من الناس.
إنه مما لا يليق شرعاً وعقلاً أن يعبد الناس أحداً من البشر فتكون آراؤه حجة ملزمة للناس وديناً لا يسعهم الخروج عليه، فهؤلاء البشر قد يكونون أئمة، وقد يكونون دعاة، وقد يكونون موجهين، وقد يكونون أعلاماً للأمة تستفتيهم الأمة، وتصدر عن رأيهم وتستضيء بقولهم، لكن ذلك لا يمكن أن يحولهم إلى معصومين إلى حجة بين الله عز وجل وخلقه ينبغي عليهم أن يتبعوهم فمن خالف قولهم واجتهادهم صار ضالاً منحرفاً زائغاً.
إن هذا معشر الإخوة الكرام خرق لإجماع السلف، وهو خلل في المنهج أترى في الأمة خيراً من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقد قالا للناس جميعاً: إن أصبنا فأعينونا وإن أخطأنا فقومونا.
ويرسم ابن عباس رضي الله عنه للأمة معالم هذا المنهج فيقول: أقول لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر، يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء! معشر الإخوة الكرام! إن مما أجمع عليه أهل السنة وسلف الأمة قديماً وأتباعهم أنه لا عصمة لبشر بعد الأنبياء، ومما أجمعوا عليه أنه ليس هناك أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم حجة بين الله وخلقه، دع عنك أولئك الذين يرسمون أئمة بعدد شهور العام ويرون أن سواهم ضالون منحرفون إن لم يعطلوا عقولهم ويصموا آذانهم ويغمضوا أعينهم ويسيروا وراءهم؛ ولهذا تراهم ينادون ويدعون الإمام الغائب قائلين: عجل الله فرجه.
أما الطائفة الناجية -أهل السنة والجماعة- فقد عصمهم الله عز وجل من ذلك، نعم لهم أئمة وأعلام وعلماء تصدر الأمة عن رأيهم وقادة يوجهون الأمة ويسيرونها؛ لكنهم مع ذلك يبقون بشراً لا يمكن أن يرتفعوا إلى درجة العصمة، ومن هنا كانت الحاجة ماسة وملحة للحديث عن منهج الأنبياء.
البديل عن منهج الأنبياء هو أن يتعبد الناس لآراء البشر أمثالهم، والبشر أياً كانوا لا يمكن أبداً أن يكونوا محجة بيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، إنها طريق واحدة وسبيل واحدة هي سبيل المعصوم صلى الله عليه وسلم وما عداه فهو عرضة للخطأ والخلل والزيغ والانحراف إلا من عصم الله عز وجل.(58/4)
أمر الله بالاقتداء بهدي الأنبياء
ثالثاً: يقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90] فيأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بمنهج الأنبياء، وأن يقتفي أثرهم، وأن يسير على سنتهم، والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم خطاب لأمته من بعده إلى قيام الساعة.
ونتساءل معشر الإخوة الكرام: لماذا يبدئ القرآن ويعيد في الحديث عن منهج الأنبياء، والحديث عن قصص الأنبياء، ويتكرر في الآيات والسور الحديث عن هذا المنهج إشارة وإيماء أحياناً، وتفصيلاً واستفاضة أحياناً، فما تكاد تقرأ في جزء من القرآن الكريم إلا وترى قصة دعوة نبي من الأنبياء أو ترى إشارة إليه وإلى ما جرى بينه وبين قومه أليست هذه دعوة لأولئك الذين يقرءون هذا الكتاب ويتعبدون الله بتلاوته إلى أن يسيروا وفق هذا المنهج وأن يرتسموا معالمه ويسلكوا خطاه.(58/5)
الأنبياء هم أمة النجاح والإنجاز البشري
اعتاد الناس أياً كانت اتجاهاتهم ومذاهبهم وطرقهم على أن يثنوا على أولئك الذين ينجحون على أولئك الذين ينجزون على أولئك الذين يبدعون ولا يزال الناس يتحدثون كثيراً عن عوامل نجاح فلان، وعن سر إبداع فلان فهاأنت ترى الأدباء يتغنون كثيراً في الحديث عن سيرة فلان وفلان من الأدباء الذين قد تحولوا إلى رفات يتحدثون عن سيرهم ونجاحهم وإنجازهم، ويتحدث المؤرخون والساسة أيضاً عن أولئك الناجحين ويقرءون سيرهم ويأخذون منها معالم يقتفونها ويسيرون في إثرها، ولا يزال المصلحون والمجددون والدعاة يحظون بعناية أهل العلم وأهل الفكر والتوجيه دراسةً لأسباب النجاح وتحليلاً لعوامل النهوض والارتقاء لا يزال أولئك يتحدث عنهم الكثير وهم قد يستحقون ذلك.
لكن قمة النجاح وغاية الإبداع والإنجاز هو ما حققه أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، إن الله سبحانه وتعالى قد اختار الأنبياء للقيام بهذه الدعوة {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} [يس:81] {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14] {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [القصص:68] أفليس الدعاة إلى الله عز وجل أحوج إلى دارسة سير الأنبياء وكيف حققوا مقاصدهم ونجحوا فيما يسعون إليه؟! بلى والله، فإنهم أولى قبل أن يكونوا معصومين وقبل أن يؤمر بالاقتداء بهم؛ لأنهم في قمة النجاح والإبداع والإنجاز، فكيف وهم مع ذلك معصومون وكيف ونحن مأمورون بالاقتداء بهم والسير على طريقهم.
معشر الإخوة الكرام! هذه عوامل وأسباب تؤكد لنا ضرورة العناية بدارسة منهج الأنبياء، ونحن حين ندرس منهج الأنبياء فإننا ينبغي أن نأخذه جملة بكل تفاصيله وكل معالمه لا يسوغ أن نقتطع أجزاء من هدي الأنبياء فنحتج بها ونتحدث عنها ونخاصم من أجلها وندع ما سواها.
ولا يسوغ أن نرسم منهجاً ونقرر ثوابت ثم نبحث لما قررناه عما يعززه ويعضده من منهج الأنبياء، فينبغي أن نتجرد من الأهواء والتبعية والتقليد إلا لكتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وحينها نستطيع أن نترسم معالم هذا المنهج واضحاً جلياً مشرقاً بعيداً عن الزلل والانحراف؛ ولهذا فليس كل من تحدث عن منهج الأنبياء وعن دعوة الأنبياء قد تحدث حديثاً شاملاً كافياً وليس مبرأً عن الهوى وعن الخلفية السابقة التي يأتي إليها فيبحث لها عما يؤيدها.
وأنا حين أقول ذلك لست أدعي العصمة فيما أقول، فأنا لا أعدو أن أكون قد رصدت نقاطاً ظهرت لي من خلال تلاوة آيات الله عز وجل فيما قصه الله سبحانه وتعالى عن أنبيائه، فسعيت أن أشير إلى بعض المعاني التي اتفق عليها الأنبياء عامتهم أو معظمهم وأرى أنها ينبغي أن تكون معالم وثوابت لمنهج الدعوة إلى الله عز وجل.
وقد يكون في بعض ما أراه خطأ أو شطط، وهذا دليل على سلامة منهج الأنبياء أصلاً؛ لأن البشر أياً كانوا لا يمكن أن يتجردوا عن الأهواء والأخطاء.(58/6)
التوحيد
إن أول قضية من قضايا المنهج عند الأنبياء: هي قضية التوحيد.
فهي قضية القضايا في دعوة الأنبياء، وهي الأساس الذي دعا إليه أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36] ففي كل أمة خلت ومضت بعث الله عز وجل نبياً يدعو إلى عبادته والكفر بالطاغوت وينفي سبحانه وتعالى -وهو أعلم برسله- أن يكون أرسل رسولاً بغير شهادة التوحيد: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:25].
وفي قصص الأنبياء المتعاقبة يذكر الله سبحانه وتعالى أن كل نبي قد قال لقومه أول ما قال لهم: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] فما دام كل نبي بعث من أجل التوحيد وأرسل من أجل شهادة أن لا إله إلا الله، فمن يسير على منهجهم ويتبع خطاهم ما لم تكن قضية التوحيد هي القضية الأساس لديه، والأول في سلم اهتماماته فليعد النظر في منهجه، وهانحن نرى في عصرنا الحاضر صوراً صارخة من العدوان على التوحيد وركوب الشرك والطاغوت: أليس من المناقضة لأصل التوحيد ما نراه من أولئك الذين يمرغون جباههم أمام الأضرحة ساجدين أو متبركين بتربة ضريح ولي أو إمام؟! أو أولئك الذين يتوجهون لهم بالدعاء من دون الله عز وجل معتقدين فيهم قضاء الحاجات، وتنفيس الكربات؟! كم في بلاد الإسلام من طواغيت تشد إليها الرحال وتعقد عليها الخناصر، أفيسوغ أن تقوم دعوة من الدعوات وتجعل هذه الصورة الصارخة من الشرك المناقض للتوحيد قضية هامشية أو جزئية من جزئيات الدعوة.
ومن صور العدوان على التوحيد: ما يعتقده أهل الخرافة أن النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن أوليائه يعلم أحد منهم الغيب أو يملك ضراً ونفعاً، أو أولئك الذين يفضلون كلام البشر وما ابتدعوه على كلام الله عز وجل، أتكون تلك الدعوة التي تحمل بين صفوفها بعض هؤلاء، أو تلتقي معهم أو تهادنهم وتجاملهم أتكون دعوة تسير على منهج الأنبياء؟! ومن صور العدوان على التوحيد والولوغ في الشرك: ما يعتقده الرافضة من تكفير أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أبر هذه الأمة قلوباً، وأصدقها لهجة، وما يتعبدون فيه لله بزعمهم من سب خيرة الخلق والتنقص لهم، واعتقاد أن أئمة لا يجاوز عددهم عدد شهور العام هم المعصومون الذين يعلمون الغيب والناس بهائم لا عقول لهم وليس عليهم إلا أن يسيروا ورائهم، وكم يفعل هؤلاء عند البقيع أو عند أضرحة أئمتهم مما يتفطر له قلب كل مخلص أفتكون تلك الدعوة التي تصور الخلاف هؤلاء خلافاً جزئياً أو تلك التي تداريهم أو تسكت عن شركهم وضلالهم أتكون دعوة على منهاج النبوة؟! ومن صور العدوان على التوحيد والجرأة على الشرك: اتخاذ طائفة من البشر أنداداً من دون الله يشرعون ويحلون ويحرمون فيصدرون قانوناً يبيح ما حرم الله عز وجل ويحرم ما أباح الله، ويبدل شرع الله سبحان وتعالى ويصبح هذا القانون شرعاً مطاعاً عند الناس متبعاً يقاد الناس إليه ويخضعون له ويجرمون ويبرئون على أساسه، فهل عرفت البشرية شركاً ومناقضة للتوحيد ومضاهاة لله سبحانه وتعالى في ربوبيته وأمره جل وعز أكبر وأشنع من هذا الشرك والعدوان على مقام الربوبية؟! لقد قال الله عز وجل عن أولئك الذين أطاعوا أحبارهم ورهبانهم في إباحة بعض ما حرم وتحريم ما أباح: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:31].
وقال مخاطباً للمؤمنين أنهم لو أطاعوا المشركين في إباحة مسألة من المسائل -أكل الميتة- أنهم مشركون: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] فكيف بمن شرع وأحل وحرم وبدل شرع الله عز وجل وصير ذلك شرعاً يقاد الناس إليه ويخضع الناس له أليس هذا أصرخ عدواناً وجرأة على مقام الربوبية وعلى مقام الله سبحانه وتعالى؟! إن الدعوة التي تسعى للالتقاء مع هؤلاء في منتصف الطريق، أو ترى لها مسوغاً في السكوت عن شركهم وضلالهم دعوة بعيدة كل البعد عن منهج الأنبياء.
إن الذي يدين الله سبحانه وتعالى بالعقيدة الإسلامية ويتخذها منهجاً ونبراساً له ما لم يتخذ موقفاً واضحاً محدداً من أعداء العقيدة سواءًَ أكانوا عباد قبور وأضرحة، أو كانوا سبابة لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كانوا باطنيين يظهرون الإسلام ويبطنون الكفر المحض، أو كانوا من المغضوب عليه والضالين إخوان القردة وعباد الصليب؛ إن الذي لا يتخذ من أولئك موقفاً واضحاً محدداً ليس إلا جاهلاً ببدهيات العقيدة مما لا يعذر مسلم بجهله، أو متاجراً بدعوى اتباع العقيدة والدعوة إليها أليس الأنبياء كلهم جميعاً قد بعثوا لعبادة الله واجتناب الطواغيت فأين اجتناب الطوا(58/7)
المقصد الأعلى تعبيد الناس لله
المعلم الثاني من معالم منهج الأنبياء: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65].
ومقولة الأنبياء المتكررة: (اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) مع ما فيها من دلالة على التوحيد فهي دليل على قضية أساسة أخرى: ألا وهي أن دعوة الأنبياء دعوة لتعبيد الناس لله سبحانه وتعالى وحده، فالهدف الأساس والمقصد الأعلى هو تعبيد الناس لله رب العالمين.
ومن ثم الداعية السائر على خطا الأنبياء المقتفي آثارهم جدير بأن يتذكر كل حين ويستشعر كل آن أن غاية دعوته ومنتهى مقصده هو تعبيد الناس لله رب العالمين، وأن يعطي سائر أهدافه مكانها الطبيعي وحجمها المعقول، حينها لن يصبح داعية إلى نفسه لن يصبح داعياً لتجميع الناس حول شخصه أو حتى اجتهاداته أو حول اقتناعاته أو حول ما يرى أنه حق وقد يرى غيره أنه خلاف ذلك.
إن غاية الدعوة ينبغي أن تكون: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:65] أن تكون تأليه الناس وتعبيدهم لله سبحانه وتعالى.(58/8)
لا أسألكم عليه أجراً
ثالثاً: {لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:90].
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:105 - 109].
{كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ} [الشعراء:123 - 124] إلى آخر الآيات، وكل نبي يقول هذه المقولة: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:109] ويأمر الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يقولها واضحة صريحة: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86].
ومن ثم فإن السائر على منهج الأنبياء ينبغي أن يقولها صريحة للناس بلسان المقال: ما أسألكم عليه أجراً أنا لست أخاصم للدنيا إياكم ليست ترضيني أملي هدف أسمى أعلى نفسي لا ترضى بالدون.
إنني أدعو إلى قضية واحدة إلى عبادة الله {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:59] عبادة الله بمعناها الشامل ومفهومها الواسع ولست أريد أي عجلة، وهذا المنهج ينبغي أن يكون منطق كل داعية لله سبحانه وتعالى بلسان مقاله، وأن يكون منطقه بلسان حاله.
معشر الإخوة الكرام! أترون أولئك الذين يتاجرون بالكلمة فيقولون كلمة أو يصوغون أخرى ويرجون من ورائها أجراً أترى أولئك يفقهون حق الفقه منهج الأنبياء؟ أم هم منافقون أم هم متاجرون أم هم متزلفون؟ لست أدري.
إن من الناس من يقول أحدهم كلمة ويشهد الله على ما في قلبه وهي كلمة يريد من ورائها أجراً، قد يكون هذا الأجر مالاً محدداً يقبضه ويتلقاه وقد يكون شهرة بين الناس وقد يكون جاهاً فالأجر في قوله: ((وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ)) نكرة في سياق النفي قد دخلت عليها (من) الزائدة فهي من أعلى صور العموم، إن أي أجر أي ثمرة عاجلة يريدها صاحبها في الدنيا كفيلة بأن تبعثر عليه الأوراق كفيلة بأن تكون هذه الكلمة التي يقولها، أو تلك التي يسطرها أن تكون وثيقة اتهام عليه لبراءته من منهج الأنبياء وانحرافه عن منهجهم، أما الدعاة الصادقون الذين يقتفون هدي النبوة ويسيرون على منهجها فهم أولئك الذين يقولون ما يعتقدون يقولون ما يعتقدون أنه الحق، ويدينون الله عز وجل به دون أن يرجوا من وراء ذلك أجراً دون أن يرجوا من وراء ذلك أجراً في دار الدنيا أياً كان هذا الأجر مالاً أو جاهاً أو ثراء.(58/9)
الأمة الواحدة
القضية الرابعة حول منهج الأنبياء: الأمة الواحدة.
وتبدو قضية الأمة الواحدة قضيةً واضحة المعالم وصورةً محددة يدركها قارئ كتاب الله عز وجل حين يتأمل أي سياق ورد في قصص الأنبياء، بل قد نص الله عز وجل على ذلك تعقيباً على قصص الأنبياء قائلاً: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء:92].
والأمة والواحدة لا ينتهي مداها في دار الدنيا بل يمتد إلى الدار الآخرة حين يقف الناس للحساب والجزاء والمساءلة، فيقف أنبياء الله عز وجل، إذ جاءوا لنوح عليه السلام فيقول الله سبحانه وتعالى له: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقولون: ما جاءنا من نذير وما أتانا من أحد، فيقال له: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته، فيشهد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وتشهد هذه الأمة.
معشر الإخوة الكرام! إن هذا يجعل المسلم يتخطى حاجز الزمن ويلغي فوارق الزمن فيرى أنه ينتمي إلى جيل واحد وإلى أمة واحدة وحزب واحد هو حزب الله: {أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22] فهو يرى أن تاريخه لا يقف عند حدود ستين عاماً ولا عند حدود آبائه وأجداده أو حدود فلان وفلان بل ليس عند حدود هذه الأمة، فهو ضارب في أطناب وجذور التاريخ منذ أن هبط آدم عليه السلام فهو يرى أنه ينتمي إلى أمة واحدة.
وتجنى هذه الثمرة وتتم وحدة هذه الأمة يوم القيامة حين تشهد هذه الأمة لأنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم هناك المحاكمة والمقاضاة، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا} [الفرقان:27 - 28].
هناك يوم يقول الله عز وجل عن الظالمين: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ * وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ * يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ * سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} [إبراهيم:42 - 50].
حينها يتصل هذا الوثاق وهذا الرباط فتأتي هذه الأمة لتشهد في هذا المقام بأن نوحاً قد بلغ الرسالة، وأن هوداً قد أدى الأمانة، وأن صالحاً قد بلغ ما اؤتمن عليه، وتشهد لسائر أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم.
إن من نتاج وحدة الأمة وحدة أمة الأنبياء إن اتحدت مواقف أعدائهم منهم، واقرءوا كتاب الله عز وجل لتروها صورة واحدة كل نبي يعيش صراعاً مع طغاة قومه: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} [الأعراف:75] الملأ الذين كفروا من قومه، وهكذا يتزعم الملأ قضية المواجهة من أنبياء الله عز وجل مع كل نبي ورسول يرسله الله إلى خلقه.
ومن العجيب أن تتحد الأساليب والطرق ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات:53] فكأن هؤلاء قد تواصوا واتفقوا على أسلوب واحد يواجهون به رسل الله والدعاة إلى منهجه لكنهم قوم طاغون.
لا ينبغي العدوان بالسخرية والاستهزاء، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود:27].
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91].
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62].
وقالوا لهود: {إِنْ نَقُو(58/10)
دعوة الناس باللسان التي يفهمون
القضية الخامسة من معالم منهج الأنبياء: بلسان قومه.
يقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] {نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [يونس:71] {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف:65] {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [الأعراف:73] {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ} [النمل:54] {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [الأعراف:85] وهكذا فقد كان الأنبياء من أقوامهم، ويتكلمون بألسنتهم وهذا يحقق مقاصد ومكاسب أولها: حتى يفقه قومه ما يقول ويعون ما يدعوهم إليه، وإلى هذا أشار القرآن في قول الله عز وجل: (لِيُبَيِّنَ لَهُمْ)، ومن ثم الخطاب الدعوي الموجه للناس ينبغي أن يكون واضحاً لا لبس فيه ولا غموض، ولا يسوغ أن تتجاوز الرغبة في جمال العبارة وحسن الأسلوب لتحول الحديث إلى ألغاز تحتاج في إدراكها إلى خبرات لحل رموزه والبحث عن كوامنه؛ ولهذا كان صلى الله عليه وسلم وهو أفصح الناس يتكلم بكلام فصل لو عده العاد لأحصاه، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يسرد لسائر الناس بل كان يكرر الكلمة ثلاثاً.
ولئن دعت الداعية ضرورة أو وضع لا يمكنه من الإفصاح فليجأ إلى التلميح والإيماء، فإنه لا ينبغي أن يغلو فيحول القضية إلى قضية مبالغة فلا يدركها إلا هو، فيصبح المعنى في بطن الشاعر وحينها لا يعود لدعوته قيمة.
ثانياً: كان النبي بلسان قومه، يعني: أنه منهم يعرفهم ويعرفونه، يعرف طباعهم وما هم عليه، ومن ثم فالداعية إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يعرف واقعه ويعي حال الناس وحال المخاطبون ولهذا اختار الله عز وجل الأنبياء من أقوامهم.
ثالثاً: كون النبي بلسان قومه ومنهم يعني أنهم يعرفونه فليس غريباً عنهم وليس مهزلة فيهم؛ ولهذا قالوا لصالح: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا} [هود:62] أي كنا نعرفك قبل هذا ونؤمل فيك الخير، وكان صلى الله عليه وسلم معروفاً بين قومه بالصادق الأمين، وكان يحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، كان يأتيه الضعيف فيعينه والمحتاج فيسد حاجته.
ولهذا فالدعاة إلى الله عز وجل السائرون على منهج الأنبياء حري بهم أن يكونوا أعلاماً شامخة في أقوامهم يعرفهم القاصي والداني، وقد كانت قريش وقبلهم الأمم المكذبة لأقوامهم يصفون أنبياءهم بصفات النقص ويلصقون بهم التهم الباطلة وهم يعلمون أنهم مكذبون مفترون ولكنه الهوى والمكابرة أما لو كان أولئك الأنبياء نكرات لا يعرفهم إلا أزواجهم وذرياتهم لاستطاع أولئك أن يقولوا فيهم ما يقولون.(58/11)
ما من نبي إلا ورعى الغنم
سادساً: ما من نبي إلا ورعى الغنم.
حين سئل صلى الله عليه وسلم عن رعيه للغنم أجاب بأن هذا شأن الأنبياء، وأن هذا أمر اختاره الله سبحانه وتعالى لأنبيائه فما من نبي إلا ورعى الغنم، والسكينة والوقار كما قال صلى الله عليه وسلم في أهل الغنم ورعاة الغنم.
لقد كان الأنبياء قادة ورعاة للبشرية، ومن ثم كان رعي الغنم تهيئة وتربية وإعداداً لهم؛ ولهذا نرى أسلوب الرفق والحكمة أمراً يغلب على منهج أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، فيقول الله عز وجل لموسى وهارون: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] أي: إلى فرعون الطاغية الجبار الذي يضرب به المثل {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
وإبراهيم عليه السلام يقول مخاطباً لأبيه: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} [مريم:43 - 44] بلغة الهدوء والمنطق والحوار والإشفاق والنصيحة.
وأما محمد صلى الله عليه وسلم فما عرفت البشرية أرحم منه صلى الله عليه وسلم: وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء وإذا غضبت فإنما هي غضبة لله لا حقد ولا شحناء فما عرفت البشرية أرحم ولا أرق فؤاداً منه صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فالدعاة إلى الله عز وجل ينبغي أن يكون الرفق ديدنهم، ورائدهم قوله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الرفق بشيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه).(58/12)
المواجهة الصريحة للانحراف
المعلم السابع من معالم منهج الأنبياء: أن الأنبياء ومع ما أوتوا من رفق وحكمة فقد واجهوا قومهم بانحرافاتهم مواجهة صريحة واضحة لا لبس فيها ولا غموض، فلوط عليه السلام يقول لقومه: {أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:80].
وشعيب عليه السلام يقول الله عز وجل عنه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود:84 - 85] وفي آية أخرى: {وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف:86].
وإبراهيم عليه السلام الذي كان رحيماً رقيقاً مع أبيه يعمد إلى أصنامهم فيكسرها ويحطمها ويعقد له مجلس المناظرة والمحاكمة فيقولون له: {أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:62] فيقول ساخراً متهكماً: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء:63 - 65] قال يخاطب قومه: {أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ * أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء:66 - 67].
ويقول محاجاً لطاغية عصره: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258].
وموسى عليه السلام الذي أرسله الله إلى فرعون وأمره أن يقول له قولاً ليناً قال له عندما أعرض واستكبر: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102].
{قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إنْ كُنتُمْ مُوقِنِينَ * قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء:23 - 28].
وقال لـ فرعون: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22].
نعم، إنه موسى الذي أمره الله بالقول اللين، ولو قلنا إن الرفق والقول اللين مع أنه منهج لا يجوز تخطيه ولا المساومة عليه لكنه لا يعني السكوت عن قضايا الدعوة لا يعني السكوت عن مواجهة الناس بأخطائهم وانحرافاتهم وضلالهم، فهاهم أنبياء الله يعلنونها صريحة ويواجهون قومهم بشركهم وضلالهم مواجهة صريحة، أولئك الذي يعانون الفساد الأخلاقي يواجههم لوط بانحرافهم وضلالهم وأولئك يعانون الفساد الاقتصادي والاجتماعي وقطع الطريق يواجههم شعيب بذلك، وإبراهيم وموسى وهكذا فهي دعوة واحدة ومنهج واحد وأمة واحدة ومن ثم فالدعوة التي تقوم على منهج الأنبياء ينبغي أن تشعر أن قضايا الدعوة لا مجال فيها للمجاملة ولا مجال فيها للمداهنة، وأن الرفق والحكمة ليست ملازمة للصمت والإغضاء عن كلمة الحق حيث أرسل الله رسله وأخذ الله الأمانة والميثاق على من آتاهم الكتاب أن يبلغوه.(58/13)
الاهتمام بقضايا العصر
المعلم الثامن: أن الأنبياء كانوا قضية عصرهم: فلوط عليه السلام دعا إلى التوحيد ثم ندد بالفساد الأخلاقي الذي كان عليه قومه، وشعيب عليه السلام دعا إلى التوحيد وندد بالفساد الاقتصادي والظلم الذي كان عليه قومه، وموسى دعا إلى التوحيد والإيمان وندد بالاستعباد والإهانة للناس: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:22] وهكذا فالدعوة التي تسير على منهج الأنبياء ينبغي أن تقتفي معالم هذا المنهج وأن تسير على هذا الطريق فتعيش قضية عصرها.
إنه لا يسوغ أن يعيش امرؤ في بلد يعج بدعاء غير الله وتقديس الأضرحة والاطراح بين يديها، ولا يعرف حينها من يعيش هذا العصر من قضية العقيدة إلا قضية الأسماء والصفات وأن القرآن منزل غير مخلوق، نعم هي قضايا من قضايا العقيدة، لكن قضية العصر ينبغي أن يعيشها.
وحين يعيش المرء في موطن يحكم فيه بغير شرع الله فمعايشة العصر تعني أن تكون قضية الحكم بشرع الله عز وجل وتوحيده وإفراده قضية من أسس دعوته ونهجه، وهكذا في أي عصر ومصر ينبغي أن يعيش الداعية قضية عصره ومنهجه، بل حتى أولئك الأنبياء مع أن قومهم لم يستجيبوا بعد لقضية التوحيد إلا أنهم تحدثوا عن الفساد والضلال والانحراف الذي كان في عصرهم ونددوا به، فلا ترى سورة يذكر فيها لوط عليه السلام إلا ويذكر فيها تنديده بالفساد والشذوذ الذي كان عليه قومه، أو سورة يذكر فيها شعيب إلا وترى الحديث عن الفساد الاقتصادي وعن بخس الناس أموالهم وحقوقهم.(58/14)
الولاء على أساس الحق وحده
المعلم التاسع من معالم منهج الأنبياء: الولاء على أساس الحق وحده، لقد ضرب الله عز وجل لنا في القرآن مثلاً: {اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم:10] ونوح حين وعده الله عز وجل أن ينجيه وأهله، وكان ابنه يرى أنه من أهله وكان في معزل ناداه نوح: {يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ * قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود:42 - 43] حين دعا نوح ربه قال الله عز وجل له: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود:46].
وإبراهيم حين شاقه أبوه وعانده قال له ولقومه: {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
إنها قضية الولاء والبراء فهي تلك التي يقولها صلى الله عليه وسلم: (إن آل بني فلان ليسوا بأولياء إن أوليائي إلا المتقون)، فقضية الولاء والبراء قضية من أسس قضايا العقيدة لا يجوز الإخلال بها والمساومة عليها وخدشها، فهي قضية من قضايا الأمة الواحدة مما اتفق عليها الأنبياء إلى قيام الساعة؛ ولهذا توعد الله أولئك فقال: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} [النساء:138 - 139].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ} [المائدة:51 - 52].
فمن يسير على منهج الأنبياء ينبغي أن يكون ولاؤه على أساس الإيمان وعلى أساس كلمة التوحيد وحدها لا غير.(58/15)
الاستعانة بالله واللجوء إليه
المعلم العاشر من معالم منهج الأنبياء منهج الأمة الواحدة: الاستعانة بالله سبحانه وتعالى واللجوء إليه: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} [الأنبياء:89]، ثم قال عز وجل: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90] فقد كان أنبياء الله يلجئون إلى الله سبحانه وتعالى في السراء والضراء يلجئون إليه عبادةً وخضوعاً وتذللاً له سبحانه وتعالى، ويلجئون إليه استعانة واستنصاراً به سبحانه وتعالى؛ ولهذا كان الجواب سريعاً عاجلاً: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر:10 - 14].
وجدير بمن يكون على هذا المنهج ويقتفي أثره أن تكون له صلة بالله سبحانه وتعالى، دعاءً ورغبة ورهبة ولجوءاً إليه سبحانه وتعالى، واستعانة به عز وجل، واستمداداً للعون والثبات والتوفيق منه سبحانه وتعالى.(58/16)
قضية النصر وحقيقته
المعلم الحادي عشر من معالم منهج الأنبياء ومعالم الأمة والواحدة وهو حول قضية النصر وحقيقته: لقد وعد الله عز وجل ووعده صادق: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173] {فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ} [إبراهيم:47].
وقد نصر الله عز وجل طائفة من أنبيائه وأهلك أقوامهم وجعلهم سبحانه وتعالى عبرة وعظة للمكذبين من بعدهم، لكن هناك من أنبياء الله من يأتي يوم القيامة وليس معه إلا الرجل والرجلان، ومن يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، ومنهم أولئك الذين تجرأ عليهم إخوان القردة والخنازير المغضوب عليهم فقتلوهم، وقد عاب الله عز وجل في كتابه على أولئك الذين قتلوا الأنبياء {وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:112] {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عمران:21].
أترى أن أولئك الأنبياء الذين كتب الله لهم أن يقتلوا لم يتحقق فيهم وعد الله سبحانه وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173]؟ بلى والله، لقد تحقق فيهم هذا الوعد، لكن مفهوم النصر مفهوم أشمل.
إنه ليس بالضرورة التمكين في دار الدنيا فقد يقتل أنبياء الله، وقد يمضون ولما يتبعهم أحد، لكن الله لن يخلف وعده رسله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ} [إبراهيم:48] حينها يحقق الله عز وجل الوعد لأولئك، فحقيقة النصر والتمكين ليست قاصرة أو منتهية بهذه الدار.
معشر الإخوة الكرام! هذه بعض معالم منهج الأنبياء، ومعالم الأمة الواحدة علنا أن نقتفي أثرهم وأن نترسم من خلالها منهجاً واضحاً محدداً نسير عليه في دعوتنا، فوالله إن منهج أنبياء الله خير وأزكى وأبر من اجتهادات البشر بأنفسهم التي هي ليست معصومة من الهوى أو الضلال أو الانحراف.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم إلى الاقتداء بأنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وأن يحشرنا تحت لوائهم وفي زمرتهم.(58/17)
الأسئلة(58/18)
علاج الفتور الدعوي عند الدعاة
السؤال
الكثير من معاشر الدعاة يدعو إلى الله عز وجل ويجعل همه الأول: هو هداية الناس وتعبيدهم لله عز وعلا، ولكن إذا فتح الله عليه من زهرة الدنيا تقهقر عن طريقه وبدأ يتراجع عن الكثير من الهموم التي كان يحملها، ويحتج بكثير من الحجج والأسباب التي يعلق عليها؛ فضيلة الشيخ! هل من علاج لهذا الأمر وهذه الظاهرة في ضوء منهج الأنبياء؟
الجواب
نعم، فالعلاج في إدمان تلاوة كتاب الله عز وجل وتدبر معانيه ومراجعته فإنه قد ينسى وقد يغفل وقد يأخذه الهوى وتأخذه دواعي الغفلة والخطأ والاجتهاد، لكن مداومته لتلاوة كتاب عز وجل وتدبره كفيلة بإذن الله بإعادته إلى جادة الصواب.(58/19)
منهج الأنبياء في الدعوة توقيفي ووسائله اجتهادية
السؤال
هل منهج الأنبياء في الدعوة توقيفي أم هو اجتهادي؟
الجواب
فرق بين المنهج وبين وسائله، فالمنهج من جنس ما ذكرنا لا شك أنه توقيفي ولا بد من السير وفق ما كانوا عليه، لكن الوسائل لا تعدو أن تكون قوالب لإبلاغ المنهج وأدائه، فهي ليست توقيفية، فما دام استخدام الوسيلة جائزاً شرعاً فلا حرج من استخدامها في مجال الدعوة إلى الله عز وجل؛ لأننا لم نتعبد بوسائل محددة لا يجوز الخروج عليها، وإلا فهذا يترتب عليه أن نلغي كل الوسائل المعاصرة الآن مثل وسائل الاتصال وأن لا نستخدمها؛ لأن هذه الوسائل لم تكن مستخدمة من قبل.(58/20)
الصبر على البلاء في الدعوة
السؤال
القارئ لكتاب الله والمتأمل لقصص الأنبياء ودعوتهم يجد مدى ما واجه الأنبياء من التبعات والمشاق وصعوبة الطريق وثبتوا عليه عليهم الصلاة والتسليم، لكن الكثير منا إذا واجه أقل القليل مما واجه الأنبياء والمرسلون نكص على عقبيه وارتد عن طريقه نسأل الله الثبات، فهل من توجيه حفظكم الله فالأمر خطب وجلل؟
الجواب
هؤلاء من الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ} [العنكبوت:10]، فالمرء ينبغي أن يعلم أن القضية قضية دين وعبودية لله سبحانه وتعالى، وأن الأمور بيد الله عز وجل أولاً وآخراً، وأن يلجأ إلى الله سبحانه وتعالى ويسأله الثبات، ويستعين به، وأن لا يسأل الله البلاء ولقاء العدو، فإذا واجه الابتلاء فعليه أن يثبت ويصبر.
وقد يكون مبتلى ولا يعلم؛ لأن الابتلاء قد يكون في السراء وقد يكون في الضراء، ومن أشد صور الابتلاء أن يبتلى المرء وهو لا يعلم أنه مبتلى فيقع في الفتنة والابتلاء ويركب الغواية من حيث لا يشعر.(58/21)
عصمة الرسل
السؤال
هل الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم من الخطأ؟
الجواب
هنا كلام طويل حول قضية العصمة، لكنهم معصومون من الكبائر ومعصومون من الخطأ في مقام التبليغ والوحي، حتى لو اجتهد أحدهم وخالف اجتهاده النص والوحي فإنه لا يقر على اجتهاده؛ ولهذا فهو كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] فالأنبياء معصومون عن الكبائر ومعصومون أيضاً في مقام التبليغ والوحي، والنبي صلى الله عليه وسلم صلى على عبد الله بن أبي فلم يقره الله عز وجل على ذلك، وقصته مثلاً مع ابن أم مكتوم وإذنه للمنافقين إلى غير ذلك.(58/22)
حكم السكوت عن الشرك
السؤال
يقول: هل على طالب العلم شيء عندما يرى بعض المناظر الشركية ولا يدعوهم إلى الإسلام مثل الشرك الحاصل الآن في البقيع؟
الجواب
لا شك أن الشرك يحصل في كل مكان، لكن لا شك أن عليه إثماً ووزراً، والمسلم العادي لا يسوغ له أن يسكت على منكر يراه فكيف إذا كان طالب علم، فكيف إذا كان المنكر هو من باب الشرك بالله عز وجل.(58/23)
البدء في الدعوة بما يحتاجه المدعوين
السؤال
بم تنصح طالب العلم الذي يريد الذهاب إلى الدعوة في الأمصار والقرى، بماذا يبدأ؟
الجواب
يبدأ الناس بما يحتاجون إليه، وأن قد تذهب إلى مناطق تنتشر فيها الخرافة والجهل والاعتقاد بالجن والسحرة، فينبغي أن تركز على هذا الأمر وقد تذهب إلى منطقة فيها أناس يجهلون الوضوء والصلاة ونحوها فتركز على هذه القضية، وقد تذهب إلى منطقة فيها فساد اجتماعي وسفور فتركز على هذه القضية، فتبدأ وتركز في الحديث ودعوة الناس على ما تراهم محتاجون إليه، وأن ترفق بالناس ولا تتصور أن الناس سيتركون المنكر سريعاً، فقد يرث هذه الأمور كابر عن كابر فتنقله منها بين عشية وضحاها، فأوصي بأن يتحدث مع الناس بما يحتاجون إليه، وأن يسأل ويعرف ما هم عليه، ثم أيضاً يرفق بالناس ويكون واقعياً فيما يطلبه ويريده من الناس.(58/24)
حلاوة الإيمان
السؤال
كيف أستطيع أن أذوق حلاوة الإيمان؟
الجواب
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار) ويقول: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم نبياً).(58/25)
أسباب تعين على قيام الليل
السؤال
أوضح لنا بعض الأمور المعينة على قيام الليل؟
الجواب
من أهم ذلك: العزيمة الصادقة والبعد عن المعاصي واجتنابها، وسلوك الأسباب التي تعين الإنسان مثل التبكير في النوم والقيلولة وغيرها، لكن أهم سبب هو وجود العزيمة، فحين يكون عند الإنسان عزيمة وهمة يستطيع أن يفعل ما يريد، وحين تنقص العزيمة فمهما فعل من أسباب قد لا يستطيع ذلك.(58/26)
أحسن كتب السير
السؤال
ما أحسن كتاب في هذه السير مثل سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم ويعقوب إلى آخره؟
الجواب
قصص الأنبياء وردت في كتاب الله عز وجل، ومن أفضل شيء أن نقرأها في القرآن فتدبر ونعيد ونراجع، ثم نقرأ في كتب التفسير فإنها توضح الغامض وتجمع المتفرق وتستنبط ما كان خافياً.(58/27)
نصيحة لمن يتأثر من النقد
السؤال
ما رأيكم في الشاب الحساس الذي يتأثر من النقد وغيره؟ وبماذا تنصحونه تجاه هذه الحساسية؟
الجواب
الله عز وجل قد نهى عن الظن، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
فقد أمر باجتناب كثير من الظن حتى لا يقع في بعض الظن، بحيث يجعل المرء بينه وبين الظن من حوله سترة فيجتنب الكثير حتى لا يقع في القليل، والمسلم عليه أولاً أن يحسن الظن بإخوانه المسلمين ثم لا يشغل نفسه بما لا طائل وراءه، فالذي يشغل نفسه بأعمال الناس وأقوالهم وسلوكهم، لا يجني من وراء ذلك شيئاً، وقد يجني من وراء ذلك العقوبة العاجلة فيصاب بالهم والغم والتألم بأنه ظن بالناس ما ليسوا عليه.(58/28)
معنى النصيحة في الدين
السؤال
حديث: (الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم) هل المقصود بالنصيحة في هذا الحديث الطاعة أم الوعظ والإرشاد والدعوة؟
الجواب
النصيحة: تعني قول كلمة الحق، والإعانة على الحق، والرد على الباطل، وتعني: الطاعة في غير معصية الله عز وجل.(58/29)
الدعوة والعوائق التي تعترضها
السؤال
هل الاقتداء بالأنبياء في الدعوة يزيل العوائق التي تعيق الدعوة إلى الله ويخلص الداعية من كثير من العوائق؟
الجواب
لا، وهذه مشكلة، ومن المشكلات التي كنت أريد أن أشير إليها أن من أخطائنا أحياناً في تقويم المنهج أن تعرض الدعوة لعوائق وصعوبات يجعل هذا دليلاً على الخطأ والانحراف فيها، وهذا ليس بصحيح، بل هذا الأمر سنة الأنبياء فالأنبياء تعرضوا لعوائق وتعرضوا لصعوبات، بل العكس: قد يتهم الإنسان أحياناً إذا لم ير شيئاً من ذلك؛ لأن من طبيعة الدعوة الابتلاء والعقبات والصعوبات.
لا شك أن المسلم يتحاشى ذلك ويبتعد عنه؛ لكن أيضاً لا يسوغ أن يكون هدفنا الابتعاد عن كل عائق وعن كل صعوبة لأجل أن تسلم دعوته، لقد كان إبراهيم عليه السلام حريصاً على أن تبلغ القاصي والداني ومع ذلك قال ما قال لقومه وفعل ما فعل معهم، ونوح ولوط وشعيب وغيرهم من أنبياء الله، ومحمد صلى الله عليه وسلم واجه قومه وسفه أحلامهم وفعل ما فعل وواجه العقبات والصعوبات، فليست العقبات والصعوبات التي يواجهها الدعاة إلى الله عز وجل دليلاً على انحراف منهجهم، وأيضاً ليس مسئولاً عما يصيب المسلمين مما جرى، وإلا فإن ياسر وسمية قتلا لأنهما اتبعا النبي صلى الله عليه وسلم، أكان النبي صلى الله عليه وسلم هو المسئول عن ذلك؟! أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لما أخرجوا من ديارهم وأموالهم أكان صلى الله عليه وسلم هو السبب ودعوته ومنهجه هو السبب في ذلك؟! لا يمكن أن يقال ذلك.
فأقول: أنه بالعكس لا بد من العوائق ولا بد من الصعوبات والعقبات وهكذا شأن الدعوة وشأن منهج الحق.(58/30)
الدعوة إلى الله من غير حب مع المجتمع
السؤال
إذا كان النقد والمواجهة يستلزم العداوة والأذى، كيف ترون إمكانية إصلاح المجتمع والأخطاء الصغيرة فيه دون أن يتحول المجتمع إلى ساحة قتال؟
الجواب
لا أحد يدعو إلى القتال، وإلى الصراع، لكن أيضاً لا بد منه، ولا يمكن أبداً أن نصحح الأخطاء بدونه، وها هو منهج الأنبياء إذا أردت غيره فابحث لك عن بديل فإبراهيم عليه السلام عاش صراعاً مع قومه، وموسى عاش صراعاً مع فرعون وقومه، ولوط وشعيب وغيرهم صرحوا بنقدهم لأقوامهم والمنكرات التي كانت شائعة في عصرهم ووقتهم، نعم الإنسان قد يرتب أموره قد يسقط بعض الأساليب قد يؤخر ويقدم لكن هذا كله لا ينبغي أن يكون على حساب المنهج لا ينبغي أن يكون على حساب مضمون الدعوة لا ينبغي أن يكون على حساب السكوت عن الأخطاء والتربيت على الأكتاف.
أسال الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يجعلنا وإياكم من أتباع أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم، وأن يحشرنا تحت لوائهم وفي زمرتهم إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(58/31)
هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين
الحجة والبرهان نور يضيء الطريق فيتضح الصواب من الخطأ، وإنما أرسل الله الرسل وأيدهم بالحجج الباهرات والأدلة النيرات حتى يعذر إلى الخلق ويقطع ألسنة المعاندين، ولذا ينبغي أن يتخذ المسلم في منهج حياته ألا يصدر ولا يرد إلا عن دليل.(59/1)
مطالبة أصحاب الدعاوى بالبراهين والأدلة(59/2)
مطالبة الذين اتخذوا من دون الله آلهة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فموضوع حديثنا هذه الليلة: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين.
ولعلنا نقف وقفات قد تطول حول آيات طويلة من كتاب الله عز وجل تؤيد هذا المعنى، وهي تطالب الناس جميعاً بأن يكون منطق الحجة والبرهان ولغة الدليل هي السائدة في الدعوى، فلا سيدعي أحد دعوى إلا بدليل وبرهان وحجة، وفي النقاش والحوار يكون النقاش والحوار أيضاً للحجة والبرهان، وحين حاولت أن أورد بعض الآيات في كتاب الله عز وجل رأيت آيات كثيرة جداً تشير إلى هذا المعنى، وهذا لعمق هذه القضية، ولكونها قضية مرتبطة بالمنهج، بالتلقي والحوار، والدعوة والإقناع كل هذه القضايا ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمنطق البرهان والدليل والحجة.
وسبق أن تحدثنا حول المنهج وأهميته، وحول بعض جوانب الخلل في المنهج، وأننا بحاجة إلى أن نترسم ضوابط ومعالم للمنهج.
إن وقوعنا في خطأ في قضية جزئية واحدة أمر قد يتجاوز، ثم هو أمر قد تكون تبعته ليست ذات بأس، أما أن يكون الخلل والخطأ في المنهج فإن هذا مدعاة لتوالد الأخطاء، ومدعاة لتكاثرها وتعاظمها، ومن هنا كان لا بد من الحديث عن المنهج، والحديث عن المنهج أيضاً ينبغي أن يكون مربوطاً بما سبق أن قلناه سابقاً، فليس ما نعيشه ونتوهمه ونتلقاه هو بالضرورة المنهج الذي نرسم من خلاله ما نراه من اقتناعات ومناهج، والذي نقيس من خلاله الناس ونجعله كالمسطرة التي نقيس بها بعد الناس ودنوهم من المنهج.
القرآن يطالب بالبرهان ويطالب بالدليل، وأن يكون منطق الناس ورائدهم هو البرهان والدليل، وهذا الأمر نراه في كتاب الله عز وجل كثير، يتمثل من خلال أمور وجوانب عدة: الأمر الأول: المطالبة بالحجة والبرهان عند الدعوى.
وهذا نجده في كتاب الله عز وجل كثيراً، بل مع فئات لا يشك أحد في بطلان دعواهم وأنها لا تعدو أن تكون دعوى صادرة عن الهوى والتشهي، وعارية عن الدليل والحجة، ومع ذلك يطالبهم الله سبحانه وتعالى بالبرهان.
أولاً: قد طلب الذين اتخذوا من دونه سبحانه وتعالى آلهة -وهل يشك عاقل في بطلان هذه الدعوى- طالبهم سبحانه وتعالى بالبرهان: {أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَءِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [النمل:64].
وفي سورة المؤمنون يقول سبحانه وتعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [المؤمنون:117] ومن يشك في بطلان ألوهية غير الله؟ ومن قد يختلج لديه شك في أن الله سبحانه وتعالى الرزاق الخالق هو الواحد الأحد المستحق للعبادة؟ لكن من ادعى خلاف ذلك فليأت بالبرهان والدليل والحجة، والذي معه الحق ويملك الحق لا يخشى بحال من مطالبة الناس بالدليل، ولا يخشى مطالبة الناس بالبرهان.
إنك تستطيع أن تطرح أي قضية على بساط البحث بكل وضوح وكل صراحة، وتستطيع أن تتحدى كل من يعارضك ويناقشك في هذه القضية التي تدعو الناس إليها، ولو كانت قضية بدهية، ولو كانت أكبر قضية من القضايا، هل هناك قضية أوضح وأجلى من قضية تفرد الله سبحانه وتعالى بالألوهية، ومع ذلك يطالب الله عز وجل أولئك الذين تنكبوا الطريق وعارضوا بالبرهان.
وهكذا شأن من يحمل الحق، إن من يحمل الحق لا يخشى من الحوار، لا يخشى من النقاش، لا يخشى من الجدل؛ لأنه يملك الحق الذي لا لبس فيه ولا غموض، فما دام لديه برهان فليطالب الناس بالبرهان والحجة.(59/3)
مطالبة الذين ادعوا لله الولد
ثانياً: طالب الله الذين اتخذوا الولد معه سبحانه وتعالى، مع شناعة هذه القضية: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} [مريم:88 - 94] ومع ذلك يقول الله سبحانه وتعالى في سورة يونس: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [يونس:68].
وفي سورة الصافات: {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَفَلا تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ * فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات:151 - 157].
وفي سورة الكهف يقول سبحانه وتعالى: {وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} [الكهف:4 - 5].(59/4)
مطالبة الذين جعلوا الملائكة إناثاً
ثالثاً: طالب الله عز وجل بالدليل والبرهان أولئك الذين جعلوا الملائكة إناثاً، يقول سبحانه وتعالى في سورة الزخرف: {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ * وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف:19 - 21].(59/5)
مطالبة الذين جادلوا في آيات الله
رابعاً: أيضاً طالب الله عز وجل بالبرهان والحجة والدليل أولئك الذين جادلوا في آيات الله عز وجل، ففي سورة غافر: {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} [غافر:35] {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56].
وفي سورة الحج: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8].
وفي سورة لقمان يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [لقمان:20]، ولفظة العلم ترادف في كتاب الله عز وجل البرهان والحجة والدليل، إن العلم في شريعتنا ليست قضية لا يدركها إلا خاصة من الناس، قد يسوغ هذا الأمر عند النصارى الذين يرون أن رهبانهم لهم الحق وحدهم في فهم الكتاب المقدس، وفي تفسيره، وبيان مراد الله عز وجل، وقد يكون هذا الأمر سائغاً عند أولئك الذين يجعلون لهم أئمة عدد شهور العام هم وحدهم المؤهلون لمعرفة الدين، وهم وحدهم الذين يفهمون مراد الله عز وجل، وقد يكون هذا سائغاً عند أهل الخرافة الذين يرون أن التلميذ ينبغي أن يكون عند شيخه كالميت عند مغسله يقلبه كيف شاء، أما المسلمون فهم يقرءون في كتاب الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24]، {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ} [ص:29]، ومن يقول إن هذه الآيات يخاطب بها اثنا عشر إماماً، أو تخاطب بها فئة خاصة من الناس، فليأت بالبرهان والحجة والدليل.
إذاً: فقضية العلم ونفي العلم ونفي البرهان كلها تدور حول قضية الدليل، ولهذا قال أهل العلم: إن المقلد الذي يأخذ الحكم دون دليل ليس طالب علم.
والعلم معرفة الهدى بدليله ما ذاك والتقليد مستويان(59/6)
مطالبة الذين ساووا بين المسلمين والمجرمين
خامساً: أولئك الذين ادعوا المساواة بين المجرمين والمؤمنين، بين المسلمين والكافرين طالبهم الله سبحانه وتعالى أيضاً بالحجة والبرهان: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ * سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم:35 - 40].(59/7)
مطالبة اليهود والنصارى فيما ادعوا على الله
سادساً: طالب الله عز وجل بالبرهان إخوان القردة اليهود والنصارى، وقد اعتاد الناس جميعاً مسلمهم وكافرهم أن أولئك لا يعرفون منطق الدليل ولا البرهان والحجة، أولئك لا يحسبون لكلماتهم أي حساب، فهم إما قوم مغضوب عليهم قد لعنهم الله عز وجل وطبع على قلوبهم، أو قوم ضالون، فاليهود قوم قد غضب الله عز وجل عليهم وطبع على قلوبهم، وصاروا لا يحسبون لكلمتهم حساباً، أليسوا هم القائلون: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181]؟ تعالى الله عما يقولون، أليسوا هم القائلون أخزاهم الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64]؟ {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] يلعنهم الله عز وجل في كتابه لعنات متتابعة إلى يوم القيامة، ومع سخف مقالتهم وشناعتها وسخف مقالة إخوانهم من الضالين النصارى الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم، هم أولئك الذين أعاروا عقولهم لطغاة الرهبنة والقساوسة حتى يفكروا بالنيابة عنهم، وحتى يفهموا الكتاب المقدس بالنيابة عنهم، وحتى يمسخوا عقولهم ويقولون: ليس لكم حق في فهم كتاب الله عز وجل، مع ذلك يدعي اليهود والنصارى دعوى عريضة مضحكة: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} [البقرة:111]، فيجادلهم الله بالقرآن، يجادلهم بالحجة والبرهان والدليل، يقول الله سبحانه وتعالى حاكياً مقالتهم: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
نعم إن كان لديكم دليل أو حجة أو برهان فهاتوا برهانكم، وهاتوا دليلكم.
وكل ما سبق من المطالبة بالدليل والبرهان، من مطالبة الذين اتخذوا مع الله عز وجل إلهاً آخر، ومن مطالبة الذين اتخذوا الولد مع الله سبحانه وتعالى ونسبوا إليه الولد، ومن مطالبة الذين جعلوا الملائكة وهم عباد الرحمن إناثاً، ومن مطالبة المجادلين في آيات الله سبحانه وتعالى بغير علم، ومن مطالبة أولئك الذين ادّعوا التسوية في الدار الآخرة بين المؤمنين والكفار، وأخيراً مطالبة اليهود والنصارى بالدليل والبرهان على دعواهم أنهم وحدهم الذين يدخلون الجنة إن كل ما سبق يعطينا دلالة أنه لا يحق لأحد أن يدّعي دعوى إلا ببرهان وحجة وسلطان مبين، وأيضاً أنه لا يحق لامرئ أن يجادل أو يناقش، أو يُبطل دعوى أخرى إلا بالبرهان والحجة والسلطان.
ويتنوع الحديث عن الدليل في القرآن، فتارة يأتي بالبرهان، وتارة بالحجة، وتارة بالسلطان، وتارة بالعلم، وكلها معان لها أثر ولها وقع في بيان مصدر التلقي، والحجة، والدليل، والجدل، والحوار، كله إنما ينبغي أن يكون بلغة الدليل والحجة والبرهان، والكتاب، والعلم، والسلطان وهي كلها معان تدور حول معنى الحجة وبعيداً عن العاطفة، بعيداً عن الأحكام المسبقة، بعيداً عما سماه الله عز وجل أماني ودعاوى كاذبة.(59/8)
عيب القرآن ونعيه على المقلدين من غير دليل
الأمر الثاني: يؤيد هذا المعنى عيب القرآن ونعيه على أولئك الذين يقلدون غيرهم، فقد عاب الله سبحانه وتعالى على أولئك الذين يقلدون الآباء والأجداد، يقول عز وجل في سورة الزخرف: {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ * وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:22 - 23].
إن لكل أمة تراثاً ورثوه من آبائهم وأجدادهم، ويعتزون به، وينافحون عنه، أما وقد وصلت القضية إلى مبدأ الاعتقاد والدين فينبغي أن يطّرح ما عليه الآباء والأجداد، وأن يكون الدليل والبرهان والحجة هو السائد في التلقي، هو السائد في التعبد لله عز وجل، وهو السائد في منطق الحجة والبرهان، وعليه فإن من ينعى عليك أنك قد خالفت أمراً ألفه الآباء والأجداد، أو أنك أتيته بأمر لم يعهده فإن هذا قد سلك منطق أولئك الذين قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:23] ولو كان يملك دليلاً وبرهاناً وحجة على ما يقول لصاغه، ولهذا صار يُضرب في وجه كل من يدعو إلى إحياء سنة قد أُميتت، أو إلى إنكار منكر ألفه الناس بأن هذا أمر لم نعهده، وهذا أمر جديد، ولو أحسنوا لقالوا: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24].(59/9)
عيب من قلدوا الأحبار والرهبان
ثانياً: ينعى الله عز وجل على أولئك الذين قلدوا الأحبار والرهبان، يقول سبحانه وتعالى في سورة التوبة: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة:31] وتأمل في هذه الآية الكريمة، كيف ربط الله سبحانه وتعالى الأمر بعبادته والخضوع له: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} [التوبة:31].
فمقتضى العبودية لله سبحانه وتعالى تعني أن يسلّم المرء أمره لله عز وجل، بعيداً عما ورثه عن آبائه وأجداده، بعيداً عمّا تلقاه من فلان وفلان من الناس، فيسلم الأمر لله سبحانه وتعالى، فلا يتعبد الله عز وجل إلا بما جاء في كتابه سبحانه وتعالى، وعن سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(59/10)
عيب الذين قلدوا السادة والكبراء
ثالثاً: ينعى عز وجل على أولئك الذين يقلدون السادة والكبراء كما نعى على الذين قلدوا آباءهم وأجدادهم، وعلى الذين قلدوا الأحبار والرهبان، يقول الله عز وجل في آيات كثيرة في كتاب الله سبحانه وتعالى تحكي لنا ذاك الحوار الذي يجري يوم القيامة بين أهل النار، يقول سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا * رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب:67 - 68].
إن من يسير وراء سادته وكبرائه مغمضاً عينيه ينبغي أن يضع نصب عينيه هذه الآية الكريمة حتى لا يكون من أولئك الذين يقولون هذا الكلام: {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:67].
وفي سورة غافر يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:47 - 48] نعم لقد حكم الله سبحانه وتعالى بينهم بالعدل والقسط، وما كان الله سبحانه وتعالى ليظلم أحداً، لقد كان على أولئك الذين استُضعفوا أن يحكّموا عقولهم وأن يفكروا ملياً فيما ورثوه عن أولئك الذين استكبروا، وأن لا يغمضوا عيونهم ويسيروا وراء أولئك ويتبعوهم دون حجة أو برهان، ألم يخلق الله لهم عقولاً؟ ألم ينزل الله سبحانه وتعالى كتباً متلوة؟ ألم يرسل الله سبحانه وتعالى رسلاً يدعون الناس لكلمة الحق؟ فلماذا يغمضوا أولئك عيونهم؟ ولماذا يعطلون عقولهم ليسيروا وراء كبراءهم ويتبعوهم وتكون النهاية أن يتبرءوا منهم يوم لا تنفع البراءة! ومع مشهد آخر في كتاب الله يحكي أيضاً هذا الجدل والتعاتب في سورة إبراهيم، يقول سبحانه وتعالى: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ} [إبراهيم:21].
وفي سورة سبأ يقول الله سبحانه وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ} [سبأ:31 - 32] لقد سموه هدى وأتاهم الهدى {أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:32 - 33].
نعم هذا عملهم، لقد كان باستطاعتهم أن يفكروا، كان باستطاعتهم أن يتبعوا الهدى الذي آتاهم الله إياه، الذي يقرءونه في كتاب الله عز وجل ويسمعونه من أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم، والله عز وجل يقول: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص:59].
إذاً فتقليدهم لكبرائهم، تقليدهم لأسيادهم، تقليدهم لطغاتهم الذين دعوهم إلى أن يمرّغوا جباههم أمام أضرحة يرجون منها التبرك، تقليدهم لكبرائهم الذين أفتوهم أن الصلاة قد تسقط عنهم، وأن الصيام لا يعدو أن يكون كتم أسرار، تقليدهم لكبرائهم وطغاتهم الذين أصبحوا يفسرون لهم كلام الله عز وجل على ما لا يحتمل فيسيرون وراءه، أو تقليدهم لكبرائهم الذين يدعونهم إلى الشهوات وإلى أن يسيروا وراءهم قادهم إلى هذه النهاية المؤلمة عافانا الله وإياكم، وهي أن يتخاصموا ويتجادلوا يوم القيامة في النار لكن حين لا ينفع الجدل، ولا تنفع الخصومة، ولن يجزيهم الله عز وجل إلا بما كانوا يعملون وما كان الله سبحانه وتعالى ليظلم أحداً.
حينها يسدل الستار بعد أن يقول الشي(59/11)
قصص الأنبياء ومطالبتهم بالحجة والبرهان
لقد ساق الله عز وجل قصص أنبيائه في كتابه الكريم حتى تكون عبرة وعظة وقدوة، وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
ومن جوانب الاقتداء بالأنبياء الاقتداء بهم في منهج الدعوة ومخاطبة الناس، وها هي بعض الأمثلة التي تبيّن أن الأنبياء أيضاً كانوا في دعوتهم لأقوامهم وخطابهم معهم يطالبونهم بالحجة والبرهان.
هود عليه السلام يقول الله عز وجل عنه في سورة الأعراف: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنتَظِرِينَ} [الأعراف:71] فهو يرى أن من عوامل بطلان آلهة قومه أن الله لم ينزل بها من سلطان، فلو كان لديهم سلطان فليأتوا به وليذكروه له.
ويوسف عليه السلام يقول الله عز وجل عنه في سورة يوسف: {مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].
وإبراهيم يقول الله عز وجل عنه: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:80 - 81].
ومحمد صلى الله عليه وسلم يأمره الله عز وجل أن يطلب الحجة والبرهان: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف:4].
ولو استطردنا في ذكر قصص الأنبياء في مطالبتهم بالحجة والبرهان لأقوامهم لطال المقام، والمقصود أيضاً كما أن الله سبحانه وتعالى طالب المكذبين والمعرضين والمعاندين بالحجة والبرهان والدليل، فكذلك أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم كانوا يطالبون أقوامهم بالحجة والبرهان والدليل، مع أن دعواهم كانت دعوى فاسدة، وقضيتهم كانت قضية تافهة، فهم يطالبون الذين يتخذون آلهة من دون الله بالبرهان والدليل، ويطالبون الذين يسمونها آلهة من تلقاء أنفسهم، فما بالكم بمن هو دون ذلك مما قد يكون فيه مجال للخلاف والنقاش والأخذ والعطاء؟(59/12)
الحديث عن الجوارح في القرآن(59/13)
امتنان الله على الخلق بالجوارح
الأمر الرابع أيضاً الحديث في القرآن عن الجوارح، وهو حديث كثيف، فالحديث عن الجوارح في القرآن فيه الإشارة إلى قضية الدليل والبرهان والحجة.
أولاً يمتن الله سبحانه وتعالى على عباده بأن سخّر لهم هذه الجوارح، يقول في سورة النحل: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} [النحل:78] وفي سورة الملك: {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [المؤمنون:78] وفي سورة السجدة: {ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [السجدة:9] وفي سورة الملك: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك:23] ماذا يعني امتنان الله عز وجل بأن جعل لهم السمع والبصر والعقل؟ حين يمتن الله سبحانه وتعالى على عباده بالسمع والبصر والعقل، فهذا يعني بالضرورة أنها نعمة يمتن بها سبحانه وتعالى علينا، يعني أن تعطيلها من تعطيل خلق الله ومن تغيير خلق الله، ولا يجوز تغيير خلق الله بل هذا من تلبيس الشيطان، يقول الله عز وجل حاكياً سبيله وحجته: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ} [النساء:119].
فلماذا يخلق الله للناس السمع والأبصار والأفئدة والعقل؟ وإذا كانت سنة الله في الناس أن يتبعوا غيرهم وأن يسيروا وراءهم، فلم لم يخلق الله سبحانه وتعالى لنخبة خاصة من الناس عقولاً وسمعاً وأبصاراً، ويترك البقية كالذي ينعق بما لا يسمع، أما وقد خلق الله للناس سمعاً وأبصاراً وأفئدة وامتن بها عليهم، فهذا يعني أن يحكّموها وأن يستخدموها في البحث والوصول إلى الحق.(59/14)
أمر الله عباده باستخدام هذه الجوارح
ثانياً: أمر الله عز وجل خلقه باستخدام هذه الجوارح فيقول في سورة الحج: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] أرأيت الذي يتلقف ما يسمع من فلان أو فلان دون أن يفكر ودون أن يتأمل ودون أن يسمع أو يبصر، أرأيت هذا قد أتى بأمر الله عز وجل فعلاً، وأتى بما أمره الله به؟ أرأيت الذي تُرفع له راية ويُعلى بصوت ويرى أمراً فيسير وراءه دون أن يسأل ويستخدم جوارحه، أترى هذا وذاك قد التزموا أمر الله سبحانه وتعالى أم تراهم ممن عابهم الله سبحانه وتعالى؟(59/15)
العقوبة بالطبع على الجوارح
ثالثاً: أخبر الله عز وجل أن الطبع على هذه الجوارح عقوبة يعاقبهم الله بها، يقول الله عز وجل في سورة البقرة: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة:7].
ويقول أيضاً: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23] عجباً! يخبر الله سبحانه وتعالى أن الطمس على هذه الجوارح عقوبة يعاقب الله بها عباده، فكيف يطمس العبد جوارحه كيف يطمس قلبه ويطمس سمعه ويطمس بصره ليُصبح بعد ذلك إمّعة يقوده الناس فينقاد!(59/16)
الحساب على الجوارح
رابعاً: أخبر الله عز وجل أنه سيحاسب الناس على هذه الجوارح: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} [الإسراء:36].
الذي أمره الله أن يسمع، وأمره أن يبصر، وأمره أن يتفكر ويفكر، ولم يلتزم أمر الله عز وجل، أليس سيسأل عن هذا؟ سيسأله الله عن سمعه وبصره وفؤاده حين سمع ما حرّم الله، ونظر إلى ما حرّم الله، لكنه أيضاً سيسأل إذ عطّل هذا السمع والبصر والفؤاد وقد أمره الله بأن يسمع، وأمره الله بأن يُبصر، وأمره الله سبحانه وتعالى بأن يعقل بفؤاده.(59/17)
عيب الذين لم ينتفعوا بجوارحهم
خامساً: لقد عاب الله عز وجل في القرآن على أولئك الذين لم ينتفعوا بهذه الجوارح ولم يستفيدوا منها، يقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة:18]، ويقول: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة:171] وهذه الآية فيها جانبان: الأمر الأول: بأن الله عابهم بأنهم صم بكم.
الأمر الثاني: أن الله شبههم بالذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، وهي الماشية والبهيمة، فهم مثل رجل يدعو بهيمته فينعق بها، فالبهيمة لا تسمع إلا دعاء ونداء، لكنها لا تفقه ما يقوله الراعي، تفهم أن هذه الكلمة كلمة زجر، تفهم أن هذه الكلمة دعوة للطعام، أن هذه الكلمة دعوة للشراب، أن هذه الكلمة دعوة للمراح والمبيت وحين يكون الناس كذلك فهم كالأنعام بل هم أضل سبيلاً، فلقد عاب الله على الذين أصبحوا صماً بكماً وشبههم بالراعي الذي يقود القطيع، فينعق بما لا يسمع، حينها يأتي هذا القطيع يوم القيامة فيقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، ويقول عز وجل: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166].
إن هؤلاء الذين اتبعوا هم أولئك الذين كان يُنعق بهم، وكانوا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء.
وفي سورة الأنعام أيضاً يقول الله عز وجل: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39] إذاً فالذي يُعطّل جوارحه عن سماع الحق وعن سماع الحجة والبرهان لا يسوغ أن يُمتدح بأنه يسير على الجادة، بل هو ممن قال الله عز وجل فيهم: {صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:39].
والإفاضة في الحديث عن آيات القرآن الكريم يطول، وأظن أن فيما تحدثنا عنه كفاية في دعوة الناس إلى أن يتعبدوا لله عز وجل بما في كتابه سبحانه وتعالى، وبما أتاهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم، بعيداً عمّا ورثوه من آبائهم وأجدادهم، بعيداً عن تلك التقاليد والرسوم التي عهدوها وألفوها، بعيداً عمّا يسمعونه من رأي فلان وفلان من الناس، سواء كان عالماً متبوعاً أو كان سيداً مطاعاً.
إن هذا كله أيضاً دليل على أن أولئك الذين يسيرون ويعطلون عقولهم ليسوا أهلاً للمدح والثناء بل هم أشبه بأولئك الذين ذمهم الله عز وجل وعابهم وأخبر أنهم ضالون.(59/18)
معاناة السلف من المقلدة وذمهم للتقليد
والسلف لهم مقالات طويلة في العيب على المقلّدة، وذمهم ونقدهم، ليس هذا وقت حصرها، لكني أورد أبياتاً لإمام المغرب ابن عبد البر رحمه الله يقول: يا سائلي عن موضع التقليد خذ عني الجواب بفهم لب حاضر وأصخ إلى قولي ودن بنصيحتي واحفظ عليّ بوادري ونوادري لا فرق بين مقلد وبهيمة تنقاد بين جنادل ودعاثر تباً لقاض أو لمفت لا يرى عللاً ومعنى للمقال السائر فإذا اقتديت فبالكتاب وسنة ال مبعوث بالدين الحنيف الطاهر ثم الصحابة عند عدمك سنة فأولاك أهل نهى وأهل بصائر ولا يزال المصلحون يعانون من هذا الصنف من الناس الذي يحتج دائماً بما ورثه عن آبائه وأجداده، أو بما قلده عن فلان وفلان، وهي معاناة لا تعدو أن تكون كمعاناة الأنبياء حين يأتيهم قومهم يقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24].
المنذر بن سعيد رحمه الله كان مصلحاً، وكان يدعو للإصلاح، ولهذا يحكي معاناته مع قومه فيما رواه عنه ابن عبد البر يقول: عذيري من قومي يقولون كلما طلبت دليلاً هكذا قال مالك فإن عدت قالوا هكذا قال أشهب وقد كان لا تخفى عليه المسالك فإن زدت قالوا قال سحنون قبلهم ومن لم يقل ما قاله فهو آفك فإن قلت قال الله ضجوا وأكثروا وقالوا جميعاً أنت قرن مماحك وإن قلت قد قال الرسول فقولهم أتت مالكاً في ترك ذاك المسالك نعم كان يعاني من أولئك الذين يحتجون عليه بقول الرجال، فإن قلت قال الله عز وجل ضجوا وصيحوا، وإن قلت قال النبي صلى الله عليه وسلم قالوا إن فلاناً أعلم بحديث النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يترك ذاك إلا وقد أتته الحجة والبرهان في هذا.(59/19)
لا اعتقاد ولا عبادة إلا بحجة وبرهان
وبعد هذا السرد الطويل لهذه الآيات في كتاب الله عز وجل ولبعض ما روي عن سلف الأمة من عيبهم لأولئك لا بد من الحجة والبرهان في اعتقادنا وعبادتنا، فلا يسوغ أن نعتقد أمراً في ذات الله سبحانه وتعالى إلا وعندنا فيه حجة وبيّنة وبرهان، وإلا كنا مثل أولئك الذين حينما يأتيهم نبي يقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} [ص:7] {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24] {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22].
وفي عبادتنا أيضاً لا يسوغ حين يدعونا فلان من الناس ومعه حجة من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعونا إلى أن نترك أمراً مبتدعاً في دين الله، فنحتج عليه بأنه أمر ورثناه واعتدنا عليه، ولم نشهد له نكيراً، فهذا هو منطق أولئك الذين يقولون: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24].
ولا يسوغ حين يُنكر علينا منكر، أو حين نؤمر بمعروف أو أمر لم نعهده، لا يسوغ حين نُدعى لذلك بدليل وبرهان من كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن نقابل الحجة والبرهان بما تلقيناه وورثناه من آبائنا وأجدادنا، أو ما سمعناه من فلان وفلان من الناس.
وفي دعوتنا حين ندعو الناس ينبغي أن ندعو بالحجة والبرهان والدليل، وهكذا كان أنبياء الله.
وفي المحاجة والمخاصمة حين نجادل وحين نخاصم الناس لا بد أن نُحاج بالدليل والبرهان والحجة، أليس الله عز وجل قد حاج الذين اتخذوا من دونه آلهة وطالبهم بالبرهان؟ أليس قد طلب السلطان من الذين جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً؟ أليس الله سبحانه وتعالى قد طلب من الذين ادعوا أنهم وحدهم هم الذين يدخلون الجنة يهوداً كانوا أو نصارى، قد طلب منهم البرهان؟ فأن يُطلب البرهان من غيرهم من باب أولى.
ومن هنا فلا مقام في ميدان الحجة والجدل إلا بالدليل والبرهان مهما كنا نفترض بطلان حجة من نجادله ونُحاجه.
صاحب البرهان هو الذي ينجح ويقنع الناس؛ لأن البرهان والحجة والدليل لا يقف أمامها أحد، ويخضع لها الناس الصادقون الذين ليس لديهم هوى وميل إلى حظوظ النفس.
صاحب البرهان والحجة هو وحده الذي لا يتناقض، أما الذي تحكمه العواطف فهو يقول قولاً اليوم ثم تأتيه عاطفة أخرى فيقول بخلافه، ويوماً يقول القول وينقضه غداً، أما الذي دافعه ورائده الحجة والبرهان فإنه لا يتناقض، ولو رأى الدليل في غير ما قاله بالأمس فإنه يستطيع أن يقول وبكل ثقة وطمأنينة: قد كنت قلت هذا القول فبدا لي خلافه، والحق ضالة المؤمن، والرجل الشجاع الصادق هو الذي يرجع إلى الحق حين يستبين له.
صاحب البرهان هو الذي يستطيع أن يطرح رأيه بوضوح بعيداً عن الضجيج والصخب والاتهام، والإرهاب الفكري، إن الذين يجنحون إلى الألقاب الواسعة والفضفاضة، الذين يعمدون إلى لغة الصخب والضجيج ورفع الأصوات، الذين يعمدون إلى مصادرة أصوات الخصوم هم أولئك الذين لا يملكون حجة ولا برهاناً، أما الذين يملكون الحجة والبرهان فهم يطرحون رأيهم بوضوح وهدوء، ويحملون أتم الاستعداد على أن يدافعوا عن قولهم، وينافحوا عنه بعيداً عن الاتهام والصخب والضجيج، والحديث عن النوايا والألفاظ المنمقة.
وأخيراً: صاحب الحجة والبرهان والدليل هو الذي ينجو يوم القيامة ولو أخطأ نعم ولو أخطأ؛ لأن الله عز وجل سيسأل يوم القيامة: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65].
فالناس جميعاً سيسألون: ماذا أجبتم المرسلين فيما أتوكم به من كتاب الله سبحانه وتعالى؟ وفيما أتوكم به مما قالوه لكم وهم لا ينطقون عن الهوى؟ فلئن اجتهد المرء في أمر واتبع نصاً من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يوفق لاتباع الحق فهو مأجور على اجتهاده، أما الذين يتبعون البشر فيا ويلهم حين يسألون هذا
السؤال
ماذا أجبتم المرسلين؟ فماذا عساهم أن يقولوا؟ ولهذا يقول ابن القيم رحمه الله في خصامه مع أهل البدع: لا بد أن نلقاه نحن وأنتم في موقف العرض العظيم الشان وهناك يسألنا جميعاً ربنا ولديه حقاً نحن مختصمان فنقول: قلت كذا وقال نبينا أيضاً كذا فإمامنا الوحيان فافعل بنا ما أنت أهل له نحن العبيد وأنت ذو الغفران أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم اتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وأن يجنبنا وإياكم الأهواء ومضلات الفتن إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(59/20)
يا فتاة
الفتاة أمل الأمة، فهي مربية الأجيال، وسند الأبطال، ولذا اعتنى الإسلام بها فشرع لها ما يحفظ كرامتها ويصون حشمتها ويحوط عفتها وحياءها بالرعاية؛ لكن كثرت في هذا العصر الفتن وانتشرت وسائل الإثارة والانحراف، مما جعل كثيراً من الفتيات يهوين في منزلقات الرذيلة ويغفلن عما أنيط بهن من المسئولية وكأنهن لا يعرفن أنهن من بنات الإسلام.(60/1)
لماذا الحديث إلى الفتاة(60/2)
لأنها الأم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فعنوان هذا الدرس: (يا فتاة)، وهو حديث خاص من نوع خاص، وله لغة خاصة، إنه حديث نخاطب فيه الفتاة، نخاطب فيه الأم المسلمة أياً كان موقعها ومكانها، وهي وإن كانت فتاة يافعة الآن فهي في المستقبل الأم، وهي البانية لهذا المجتمع، وهي أساس المجتمع، فما أن ترى رجلاً إلا ووراءه أم أو زوجة، وراءه أم رعته وربته وقادته إلى ما صار إليه، أو وراءه زوجة إما أن تكون معينة له ومناصرة له ومؤيدة، أو أن تكون خلاف ذلك وتكون عقبة في طريقه.
وهناك سؤال يفرض نفسه: لماذا الحديث إلى الفتاة؟ ولماذا نخصها بالخطاب؟ إنني أعرف أن الإجابة موجودة لدى أختنا، ولكني أقول: إننا نخاطب الفتاة لأنها أمنا، وهل خرج أحدنا للدنيا دون أم، وهل تنفس الصعداء قبل أن يعيش في بطن أمه أشهراً وبين أحضانها ثنيات من عمره وهي ترعاه وتعاهده، وحين يشب طوقه ويصلب عوده يعود به الحنين فطرة فُطر عليها، يعود به الحنين ليلتصق بشريكة حياته فالمرأة والرجل لصيقان، يبدأ حياته وتاريخه من خلالها، ويودع الدنيا كذلك.(60/3)
لأن الكثير قد تحدثوا عنها فأساءوا
ثانياً: نتحدث إلى الفتاة لأن الكثير يتحدثون عنها، ويرفعون شعار نصرة قضيتها، فالأديب قد سطر شعره ونثره، والكاتب قد وظّف قلمه، والصحفي قد استنفر قواه فالجميع أجلبوا بخيلهم ورجلهم ما بين مفكر وعامل، ما بين متحدث وكاتب، الجميع نزلوا بثقلهم ليتحدثوا عنكِ يا فتاة، ليتحدثوا عن قضية المرأة وحقوق المرأة، ويعلو ضجيج وصخب الأصوات المأجورة ليذيب الصوت الصادق والناصح الذي لم تعد تسمعه الفتاة إلا خافتاً، لقد سمعت يا فتاة ذاك الصوت النشاز الذي كان يفخر بقضيتكِ وبكرامتكِ وبشرع الله حين يقول: حينما كنا صغاراً في الكتاتيب علمونا أن وجه المرأة عورة علمونا أن صوت المرأة عورة حقنونا بسخيف القول.
علمونا أن صوت المرأة من خلف ثقب الباب عورة.
وسمعت أيضاً هذا الشاعر وهو يتهكم بأعلى ما تملكين وما تعتزين به بالحجاب: مزقيه ذات البرقع لا تخافي مزقيه مزقيه لا تبالي بأمر الدين فيه مزقيه واسأليه واسألي الآيات مزقيه أي عار أنتِ فيه وسمعت الآخر وهو ابن بلدك يقول ساخراً: محجبة تريك سفور جهل ومسفرة تريك حجاب علم ومغضية تنوء من الخطايا وشاخصة إليك بغير جرم أرى كلتيهما فيذوب قلبي لآفات الهوى ويفور عزمي لقد يحيا العفاف بلا حجاب ولا يحيا بلا خلق وعزم إنها أصوات لا أشك أنكِ تسمعينها، وتقرأينها هنا وهناك، ويعلو ضجيجها، ويرتفع صخبها، وكلها تدعو إلى دعوة واحدة، وكلها تتحدث عن قضية واحدة هي قضيتكِ.
لقد زعموا أنكِ مظلومة، لقد زعموا أنكِ مهانة، زعموا أنهم يتحدثون باسمكِ، ونقلوا وكالة من دون موافقة صاحبة الشأن، ودون موافقة الوكيل، فصار الجميع يتحدث ويبدئ ويعيد في قضية المرأة.
يا فتاة يعلو ضجيج هذه الأصوات المأجورة ليذيب الصوت الصادق والناصح، الذي لم تعد تسمعه الفتاة إلا خافتاً، ألا يحق بعد ذلك للناصحين أن يرفعوا عقيرتهم، وينادوا بصوت مسموع رافعين الراية ليقولوا: ها هنا الطريق يا فتاة، وإياكِ وبنيات الطريق وأزقة الغفلة.(60/4)
لأن الإسلام أولاها العناية والاهتمام
ثالثاً: نتحدث عن الفتاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوليها العناية والاهتمام اللائق بمقامها، ففي كل عيد يخطب فيه كان يتحدث مع الرجال ثم ينصرف إلى النساء فيحدثهن ويعظهن، وتستغل النسوة هذا الأمر، وتتطلع إلى المزيد، فتبعث إحداهن لتقول له صلى الله عليه وسلم: ذهب الرجال بحديثك فاجعل لنا منك يوماً، فيواعدهن صلى الله عليه وسلم ويلقاهن يوماً يخصهن بحديث خاص لا شأن للرجال به.
وحين نتصفح دواوين السنة، ونقرأ ما سُطّر فيها نرى الكثير من النصوص التي توصي بحقكِ ورعايتكِ والعناية بك، ولقد كان صلى الله عليه وسلم في مجمع عظيم في حجة الوداع يجعل قضية المرأة من أهم القضايا، فيقول صلى الله عليه وسلم: (الله الله في النساء، اتقوا الله في النساء).
ويجعل صلى الله عليه وسلم المرأة معياراً تقاس من خلاله خيرية الرجل، فيقول صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) بل إن الأمر يتجاوز مجرد هذا التوجيه لنرى هديه صلى الله عليه وسلم العملي، ونرى تلك المكانة التي يوليها المرأة فيحبس صلى الله عليه وسلم جيشه ويؤخرهم لأن عقداً لزوجه عائشة قد انقطع، فيأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه إلى عائشة فينتهرها ويقول: حبستِ رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.
ثم حين أقاموا الجمل وجدوا العقد تحته وقد فقدوا الماء، ونزلت آية التيمم فقال أسيد بن حضير رضي الله عنه: ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر.
إن آية التيمم يا فتاة والتي بعد ذلك أصبحت باباً من أبواب الفقه يتعلمه الصغير والكبير، المرأة والرجل، يتعلمه الجميع؛ كان بركة من بركة تلك المرأة الصالحة، أليس في هذا علو لشأن المرأة ورفعة لمكانتها؟ ويرتفع شأن المرأة عند النبي صلى الله عليه وسلم منزلة أعظم من ذلك كله، فتأتي أم هانئ رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فتقول له: (زعم ابن أمي أنه قاتل رجلاً قد أجرته، فيقول صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرتِ يا أم هانئ).
نعم يا فتاة هكذا كان صلى الله عليه وسلم يرفع شأن المرأة، إن كلمة هذه المرأة أصبحت نافذة على المسلمين كلهم جميعاً، فلا يجوز لهم أن يخفروا جوار هذه المرأة أو ذمتها، ويصدِّق النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الحكم وعلى هذا الأمان الذي تمنحه هذه المرأة أفبعد ذلك كله يحق لامرئ أن يهمل شأن المرأة ومكانتها؟ رابعاً: نتحدث عن الفتاة لأنها أم المصلحين والدعاة، أسمعتِ يا فتاة عن المصلحين والمجددين؟ أقرأتِ سير المجاهدين الصادقين؟ وهل خفيت عليكِ صفحات العلماء العاملين؟ تأملي في التاريخ وارفعي الرأس وانظري إلى سماء أمتكِ لتري هناك نجوماً تلوح في الأفق ساهمت في صياغة تاريخ الأمة وصناعة مجدها، وخطّت صفحاته البيضاء، فليس يغيب عن ناظريكِ أبداً اسم عمر بن عبد العزيز والشافعي والإمام أحمد وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم، ممن حاز قصب التجديد وأخذ منه بنصيب وافر، ولن تنسي سير نور الدين الشهيد أو صلاح الدين أو الغزنوي أو غيرهم ممن حمل روحه على كفه وسار في ميدان الوغى وشعاره: أذا العرش إن حانت وفاتي فلا تكن على شرجع يعلى بخضر المطارف ولكن أحن يومي سعيداً بفتية يُمسون في فج من الأرض خائف يتغنى بها صادقاً من قلبه، وقد صفا قلبه لإخوانه أهل الإسلام، وغلا مرجله على أهل الأوثان، وها هي صفحات سيرة أبي حنيفة ومالك وأحمد والعز بن عبد السلام، وغيرهم كثير ممن أراد الله بهم خيراً، ففقههم في الدين فساروا ينشرون ميراث محمد صلى الله عليه وسلم، وقبل أولئك كلهم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يا فتاة كم تهزكِ هذه الأسماء هزاً، وكم تطرب أذنكِ ويتشنف سمعكِ حين تسمعين بها، لكن لا تنسي أن أولئك وغيرهم كان لكل منهم أم برة صادقة طالما دعت الله عز وجل أن يجعل ابنها قرة عين لها، وكان له شريكة حياته يسكن إليها ويطمئن إليها، وهي تقول له كل صباح: والله لا يخزيك الله أبداً، وتحتمل اللأواء معه فتصبر وتصابر وتكون خير زاد له ومعين، فإذا كنتِ أنتِ أم الدعاة وأم المصلحين، وأنتِ بعد ذلك الزوجة الوفية لهم، فيحق لنا يا فتاة أن نخاطبكِ ونخصكِ بالحديث.(60/5)
من أخاطب؟
يا فتاة من أخاطب في هذه الرسالة؟ ولمن أتحدث؟ إني أخاطب الفتاة الحصان الرزان، الطاهرة العفيفة، فتاة ولدت من أبوين فاضلين، وعاشت في بيت محافظ تستيقظ وتنام وتغدو وتروح وهي تسمع الدعاء لها بالستر والعافية، ولكنها مع فتن العصر وصوارفه، ومع الغربة الحالكة بدأت تنظر ذات اليمين وذات الشمال، وتلتفت إلى الوراء فترفع سماعة الهاتف لتخاطب شاباً لم تعرفه إلا من كلامه، وتسهر أحياناً على فيلم ينسخ من ذاكرتها كل صور البراءة والعفة لتتراءى أمام ناظريها مظاهر السفور والعلاقة المحرمة، فتعيش في دوامة الصراع، فتسمع تارة هذا الصوت النشاز الذي يدعوها إلى الارتكاس في الحمئة والتخلي عن كل معاني الفضيلة والعفة، وتسمع أحياناً أخرى الصوت الصادق يهزها من داخلها هزاً عنيفاً يقول لها: رويدكِ فهو طريق الغواية وبوابة الهلاك.
وتتصارع هذه الأصوات أمام سمعها، وتتموج هذه الأفكار في خاطرها، ولكن لمن الغلبة والنهاية؟ قد تكون الغلبة للصوت الناصح، والصوت الصادق، وقد تكون الأخرى فتزل بها القدم، وتهوي تحت ثقل داعي الشهوة والهوى، إنها تؤمن بالله واليوم الآخر حق الإيمان، وتعرف الجنة والنار، وتؤمن بالحلال والحرام، لكن الصراع مع الشهوة قد رجح لغير كفتها، ومع ذلك كله فقد رُزقت أباً غافلاً قد شُغل بتجارته وعلاقاته مع أصدقائه وزملائه، وأماً بعيدة كل البعد عنها، لا يعنيها شأنها، ولا تشغلها قضيتها، ولم تعتد أن تتلقى منهم الابتسامة الصادقة، والكلمة الوادة، ولم تر منهم القلب الحنون، ولم تر منهم من يفتح ذراعيه لها، وحينئذ وجدت بغيتها وضالتها في صاحبتها صاحبة السوء التي تلقاها في المدرسة، وربما كانت الضالة في شاب تائه غاو ضال يغويها بمعسول الكلام.
يا فتاة إن كنتِ كذلك فما أجدركِ أن نخاطبكِ، وما أجدركِ أن تقدري موقفي، فأصغي لصوتي وحكّمي عقلكِ، فإن سمعتِ خيراً فحي هلا، وإن كان غير ذلك فأنتِ وما تريدين، أما إن كنتِ من أهل الصلاح والاستقامة فاسمعي ما أقول، وكوني رسول خير وترجمان صدق لمن وراءكِ إنني يا فتاة حين أتحدث عن هذه الظواهر فإني لستُ أخاطب كل فتاة تستمع لحديثي، سواء كانت حاضرة معي هذا المجلس، أو كانت تستمع من خلال جهاز التسجيل إني لا أخاطب كل فتاة على أنها على هذه الحال وهذه الصورة، فإن كانت كذلك فعلاً فإن الخطاب يعنيها بالدرجة الأولى، وإن كانت غير ذلك فلعلها أن تكون رسولة خير، ولعلها أن تساهم معنا في إبلاغ هذا الصوت والذي أصبح وللأسف صوتاً نشازاً، وقد اختفى تحت ركام الأصوات الهائلة التي تدعو الفتاة إلى الغواية، التي تدعو الفتاة إلى الضلال والانحراف، والتي صارت تتاجر بقضية المرأة وحياتها وعفتها، عفواً بل صارت تتاجر بحياء الأمة كلها وعفتها وشباب الأمة، أقول: لقد اختفت تلك الأصوات الناصحة الصادقة، لقد خفت صوتها وصارت حبيسة هذا الركام من المجلات الوافدة والمسلسلات الساقطة والأصوات التي تعلو هنا وهناك، تدعو الفتاة والشباب جميعاً إلى هذا الطريق، وتقول لهم بلسان الحال أو بلسان المقال: هيت لكم.
يا فتاة اعتدت أن تسمعي الكثير من خلال الخطبة والمحاضرة والفصل الدراسي اعتدت أن تسمعي الوعظ والترغيب والترهيب، وهو مسلك مطلوب ومنهج سليم، كيف لا وهو منهج النبي صلى الله عليه وسلم ومنهج القرآن الكريم، لكني هنا سأخاطبكِ بلغة أخرى، بلغة العقل ومنطق الحوار الهادئ لا رغبة عن الوعظ والترغيب والترهيب، ولا تفضيلاً لهذه اللغة، ولكن كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أن ينوع أسلوبه وخطابه، بل قبل ذلك كله كان هذا من هدي ومنهج القرآن الكريم في خطابه للأمة.
يا فتاة إنني حين أتحدث عن قضية الفتاة فلست أتحدث من فراغ، ولا أبني قصوراً في الرمال، أتحدث عن واقع رأيته ولمسته، وحدثني عنه الثقات، فقد قرأت بعيني تلك الرسالة التي سطّرتها فتاة لصديق لم يستقبلها بالأحضان واعتذر عن مبادلة القبلات، فعاشت جحيماً لا يُطاق لتكدر خاطر من كان لا يزول عنها الهم إلا بسماع صوته.
نعم قرأت تلك الرسالة التي سطّرتها أناملها لصديق السوء.
والرسالة الأخرى، والتي كانت من شاب تائه لم يدرك الأمانة ولا مسئولية العمل فيأخذ ورقة رسمية ويطبع عليها رسالة غرام بالآلة الكاتبة ليرسلها إلى صديقته.
وسمعت الرواية بسند متصل رجاله ثقات عن تلك المكالمة والتي كانت تفيض عاطفة وقد علا نشيج الفتاة، وارتفع بكاؤها وهي تسمع التهديد بالقطيعة واختيار البديل، فصاحبها يعرف عشرين فتاة غيرها، وسيختار أوفاهن له وما أبعده عن الوفاء! إنها صور كثيرة يا فتاة، لا أظن أني مهما بلغت من الإحاطة وحفظت من النماذج لا أظن أني سأدرك ما تدركين، وأحيط بما تحيطين، فأنتِ تعيشين هذا العالم، ولن أثير بعد ذلك في كشف الأسرار والحديث عمّا وراء ذلك، لكني أردت أن أقول لكِ: إني لا أتحدث من فراغ.(60/6)
معذرة على المصارحة
يا فتاة ها أنا أتحدث عن قضايا ربما كانت فترة من الزمن في طي الخفاء، وتحت ستار الكتمان، لكنهما خياران لا ثالث لهما، أن نسدل الستار على النار وهي تدب وتشتعل، أو أن نقول الحقيقة وهي مُرة إلا أنها الخطوة الأولى للإصلاح.
يا فتاة إن مبدأ المبالغة واتهام الناس أن عهودهم قد مرجت، وأن خيريتهم قد ولّت، مبدأ مرفوض، ولكن أيضاً في المقابل مع هذا الواقع لا يزال هناك في الزوايا خبايا، لا يزال في الناس بقايا من خير، وإن الحديث عن الأخطاء ينبغي أن لا ينسينا هذا الواقع، وإن الحديث حين يكون حديثاً ناصحاً ينبغي أن لا يكون حديثاً عن خطأ فلان أو فلانة، فإن هذا خرق لسياج العفة في المجتمع، وإشاعة للفاحشة، ولكن مع ذلك كله أيضاً فالتغافل والتعامي وإسدال الستار على هذه الحقائق لا أظن أنه يخدم إلا الأعداء، ولا أظن أنه يهيئ إلا لذاك الجو الذي بعد ذلك يتسع فيه الخرق على الراقع، ويهول الأمر فيه على الناصح.
يا فتاة فلنكن صرحاء صراحة منضبطة بضوابط الشرع، وواضحين وضوحاً محاطاً بسياج الحياء والعفّة لتكون خطوة للتصحيح ونقلة للإصلاح، وهاهنا لن أتحدث عن الأسباب وتحليل الظاهرة، لكنها دعوة عاجلة للمراجعة وإعادة الحساب.
إن غاية ما أريد أن أقوله في هذا المجلس هي الدعوة هي دعوة أرفع بها صوتي، وأشجو بها لكل فتاة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تعود إلى طريق الاستقامة والصلاح، وأن تسلك الطريق التي خلقها الله عز وجل من أجله، واختارها سبحانه لتكون سائرة عليه، ولتكون أماً للأجيال.(60/7)
ماذا يريدون منكِ؟
يا فتاة لقد رأيته في السوق، وعند بوابة المدرسة، وسمعت صوته عبر جهاز الهاتف، وربما التقيت معه وسمعتِ الألفاظ المعسولة، والكلمات التي تسيل رقة وعاطفة مصحوبة بالأيمان المغلظة على صدق المحبة وعمق المودة، وربما كانت يده قد خطت رسالة لكِ تفيض بمعاني العشق والغرام، وربما دار في خاطركِ أن هذا زوج المستقبل.
يا فتاة بعيداً عن العاطفة وعن سرابها الغادر، كوني منطقية مع نفسكِ واطرحي هذا السؤال ماذا يريد؟ ما الذي يدفعه لهذه العلاقة؟ إن الصراحة خير من دفع الثمن الباهظ في المستقبل، ماذا يقول لزملائه حين يلتقي بهم؟ وبأي لغة يتحدث عنكِ؟ إنني أجزم يا فتاة أنكِ حين تزيحين وهم العاطفة عن تفكيركِ فستقولين وبملء صوتكِ: إن مراده هو الشهوة، والشهوة الحرام ليس إلا.
يا فتاة ألا تخشين الخيانة؟ أترين هذا أهلاً للثقة؟ شاب خاطر لأجل بناء علاقة محرمة، شاب لا يحميه دين أو خُلق أو وفاء، شاب لا يدفعه إلا الشهوة أولاً وآخراً، أتأمنينه على نفسكِ بعد ذلك؟ لقد خان ربه ودينه وأمه، وأنتِ يا فتاة لن تكوني أعز الناس لديه، أنتِ لن تكوني إلا طعماً سرعان ما يحقق مقصوده لتبقي بعد ذلك لا سمح الله صريعة الأسى والحزن والندم.
يا فتاة هبي أنكِ قد بنيت علاقة مع فلان من الناس، وزادت المودة، وقويت العلاقة حتى صار خليلاً تبثينه الأشجان وتخشين لفراقه وتحزنين لوداعه، ولكن ألم تحدثي نفسكِ يوماً من الأيام بالمستقبل؟ ألم تسمعي أن هناك من ندم أشد الندم، وتمنى أنه لم يعرف فلاناً أو لم يعرف فلانة؟ ألم تسمعي أن هناك من تمنت أن فلاناً لم يمر طيفه بخاطرها وخيالها؟ من تمنت أنها لم تسمع صوته، أنها لم تخرج إلى تلك الدنيا كلها، والتي كانت سبباً في معرفته؟ وحين لا ينفع الندم في هذه الدار فقد يأتي يوماً تقولين فيه: {لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:28 - 29].(60/8)
لماذا إهدار العاطفة؟
يا فتاة إن الله عز وجل حكيم عليم، ما خلق شيئاً إلا لحكمة، ولا قضى قضاء إلا وفيه الخير علم ابن آدم أو جهل.
لقد شاء الله عز وجل بحكمته أن تكون المرأة ذات عاطفة جياشة تتجاوب مع ما يثيرها لتنفجر رصيداً هائلاً من المشاعر والتي تصنع سلوكها أو توجهه، وحين تصاب الفتاة بالتعلق بفلان من الناس قرب أو بعد، فأيُّ هيام سيبلغ بها؟ فتاة تعشق رجلاً فتقبِّل شاشة التلفاز حين ترى صورته، أو أخرى تعشق صوته فتنتظره على أحر من الجمر لتشنف سمعها بحديثه، وحين تغيب عن ناظرها صورته، أو تفقد أذنها صوته يرتفع مؤشر القلق لديها، ويتعالى انزعاجها فقد غدا هو البلسم الشافي.
يا فتاة بعيداً عن تحريم ذلك وعمّا فيه من مخالفة شرعية، ماذا بقي في قلب الفتاة من حب لله ورسوله، ومن حب للصالحين بحب الله؟ ماذا بقي لتلاوة كلام الله عز وجل والتلذذ به؟ أين تلك التي تنتظر موعد المكالمة على أحر من الجمر، ومتى؟ في ثلث الليل الآخر وقت النزول الإلهي، فأين هي من التلذذ بمناجاة الله عز وجل والانطراح بين يديه؟ بل أين هي من مصالح دنياها، فهي على أتم الاستعداد أن تتخلف عن الدراسة من أجل أمر واحد، هو اللقاء به، إنها على أتم الاستعداد أن تُهمل شئون منزلها من أجل مطلب تافه، هو مطلب الإفاضة في سماع صوته والحديث معه، بل وما بالها تعيش هذا الجحيم والأسى فيبقى قلبها نهباً للعواطف المتناقضة والمشاعر المتضاربة.
فما في الأرض أشقى من محب وإن وجد الهوى حلو المذاق تراه باكياً في كل حال مخافة فرقة أو لاشتياق فيبكي إن نأوا شوقاً إليهم ويبكي إن دنوا حذر الفراق إن هذا الركام الهائل من العواطف المهدرة ليتدفق فيغرق كل مشاعر الخير والحب والوفاء للوالدين، إن هذه المشاعر والتي تهدر لفلان من الناس لا بد أن تكون حتماً على حساب ما يحتاجه أبناؤها، فحين تُرزق الأبناء فلن تجد بعد ذلك رصيداً من العواطف تصرفه لهم فينشئون نشأة شاذة ويتربون تربية نشازاً.
يا فتاة العاقل حين يملك المال فإنه يكون رشيداً في التصرف فيه حتى لا يفقده حين يحتاجه، فما بالكِ تهدرين هذه العواطف والمشاعر فتصرفيها في غير مصرفها وهي لا تقارن بالمال، ولا تقاس بالدنيا؟ يا فتاة لقد خصك الله سبحانه بهذه العاطفة وهذا الحنان وهذه الرقة وهذا التجاوب مع هذه المشاعر لحكمة يريدها سبحانه وتعالى، ليبقى هذا رصيداً يمد الحياة الزوجية بعد ذلك بماء الحياة والاستقرار والأنس، ليبقى رصيداً يدر على الأبناء الصالحين حتى ينشئوا نشأة صالحة، فما بالكِ تهدرين هذه العواطف لتجنين أنتِ وحدكِ الشقاء في الدنيا؟ فتارة تشتاقين إلى اللقاء، وأخرى تبكين خوف الفراق والأسى، وأخيراً تضعين يدكِ على قلبكِ خوف النهاية والفضيحة، خوف هذه النهاية المؤلمة التي أهدرتِ عواطفكِ، وأهدرتِ أعز ما تملكين من أجل أن تصلي إليها، أعرفتِ الثمن الباهض، الذي تدفعينه حين تصرفين هذه العاطفة في غير مصرفها الشرعي؟(60/9)
إلى هذا الحد ترخص المرأة!
يا فتاة مظهر لا أشك أنكِ ترفضينه غاية الرفض، وتمقتينه غاية المقت، إنه يمثل إهداراً لشخصيتكِ وإهانة لكرامتكِ ومقومات أنوثتك، إنه تحويل للمرأة التي كرمها الله عز وجل، وجعل لها حقاً ومنزلة وأوصى ببرها وحسن صحابتها، وربط ذلك برضاه سبحانه وتعالى، وقرن عقوقها بالشرك به وعده من أكبر الكبائر.
أي إهدار رخيص لقيمة المرأة حين تُجعل وسيلة للدعاية والإعلان لترويج السلع والمنتجات.
فهل تصل قيمة المرأة والفتاة عند هؤلاء أن توضع صورتها على علبة الصابون أو المناديل؟ أو تزين بها أغلفة المجلات؟ أليس هذا وسيلة للإثارة والإغراء وترويج المطبوعة؟! ألا ترين يا فتاة أن في هذا إهانة وتحويلاً لكِ إلى مصدر للثراء ولجمع المال أيًّا كان مصدره.
لقد بدأت يا فتاة حتى أفجر الممثلات في الغرب يشعرن بسقوط المرأة أمام قدمي الرجل ونفسيته الجشعة، فقد نشرت إحدى الصحف أن ممثلة فرنسية بينما كانت تمثل مشهداً عارياً أمام الكاميرا ثارت ثورة عارمة، وصاحت في وجه الممثل والمخرج قائلة: أيها الكلاب، أنتم الرجال لا تريدون منا نحن النساء إلا أجسادنا؛ حتى تصبحوا من أصحاب الملايين على حسابنا، ثم انفجرت باكية لقد استيقظت فطرة هذه المرأة في لحظة واحدة على الرغم من الحياة الفاسدة التي تغرق فيها، استيقظت لتقدم الدليل القاطع على عمق المأساة التي تعيشها تلك المرأة التي قالوا عنها إنها متقدمة.(60/10)
قارني بين الصورتين
الصورة الأولى: شاب مستقيم محافظ على طاعة مولاه، قد سخَّر وقته وجهده لعبادة ربه، وأفنى شبابه في طاعته.
والثاني: شاب تائه زائغ تقيمه شهوته وتقعده.
فالأول: تعرض له الفتنة، وتبدو أمام ناظريه فيغض بصره ويعرض عنها، بل وينأى عن مواقعها، إنه كالآخرين يدعوه داعي الشهوة وتحركه العاطفة، لكنه يشعر أن عاطفته وشهوته مأسورة بإطار الشرع ومحاطة بسياجه.
تحادثه الفتاة وتنبري أمامه وتسعى لإيقاعه، لكن لسان حاله يقول: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23].
والثاني: ينهار أمام شهوته وينهزم أمامها؛ فيقضي سحابة نهاره وليله في التسكع في الأسواق، أو أمام بوابات المدارس، أو واقفاً تحت سماعة الهاتف، وربما كان يتحدث من خلال هاتف العملة فيبقى طويلاً طويلاً يحادث هذه الفتاة وتلك، يبحث هنا وهناك، يبحث عن الصورة الفاتنة والمجلة الساقطة.
يا فتاة كوني واقعية، ومنطقية واحكمي بعيداً عن العاطفة، أيهما أكثر رجولة، ومن أحق بالثناء والإعجاب، الشاب الذي ينتصر على شهوته ويستعلي على رغبته استجابة لمرضاة الله عز وجل؟ أم الآخر الذي ينهار أمام داعي الشهوة ويسعى لتحقيقها على أشلاء كل خُلق وفضيلة؟(60/11)
من أولى بالقدوة؟
يا فتاة لكل أمة تاريخ تفخر به، ولكل امرئ مجد ينافح عنه ويتطلع إليه، وتتحكم ثقافة المرء وخلفيته في اختيار المحتوى التاريخي الذي يفتخر به وينتمي إليه.
فهناك من غاية التاريخ عنده موروثات قديمة، ومقتنيات الآباء والأجداد من الأدوات والأواني والأثاث، وهناك من يشعر أن المنهج، والفكر، والمبدأ أثمن من هذا كله، فيعتبر أن هذا هو تراثه الحقيقي.
يا فتاة حين نطبق هذه القاعدة على الفتيات فسنجد الصورة نفسها، فمنهن من لا تذكر من التاريخ إلا حكايات جدتها قبل النوم، وهناك من ترى التراث في إناء أو موروث قديم، وهناك من تمتد في التاريخ امتداداً أفقيًّا مع الجيل الحاضر والأمم المعاصرة؛ فترى قدوتها في عارضة أزياء ساقطة، أو ممثلة كافرة، أو مغنية فاجرة، ومنهن من تمتد امتداداً رأسيًّا لترى قدوتها في أم عمارة نسيبة بنت كعب، أو ذات النطاقين أسماء بنت أبي بكر، أو في اللواتي أثنى عليهن الله: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب:33] واللاتي قال الله عز وجل عنهن: {قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم:5] ويتجاوز نظرها هذا المدى ليدرج ضمن هذه القائمة امرأة فرعون: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
يا فتاة أدعوكِ مرة أخرى لتحكمي وبمنطق العقل والموضوعية، من أولى بالقدوة؟ ومن الأحق بالأسوة؟ يا فتاة لو وضع لك الخيار أن تكوني كإحدى الطائفتين، فأين أراكِ تختارين؟ حزب عائشة وزينب وأسماء وآسية؟ أم حزب عارضات الأزياء والممثلات؟ يا فتاة حين يهديكِ عقلكِ الراشد إلى اختيار أحد الحزبين، وخير الطائفتين، فسوف تسعين حتماً للاقتداء بمن تختارين، والسير في ركابه، وإن لم تصلي النهاية التي وصلن إليها، إلا أنك في الطريق.
وإليك النهاية التي تصل إليها الساقطات: إحدى الممثلات الساقطات، وأعتذر عن ذكر هذه الأسماء في مثل هذا المكان المبارك، فقد ذكر الله عز وجل في كتابه اسم فرعون وقارون وهامان.
الممثلة الراحلة كما يقال مارلين مونرو نالت المال الذي تستطيع أن تحصل به على كل شيء، والشهرة التي جعلت اسمها وصورتها تملأ صحف العالم، والجمال الذي يشد أنظار الرجال إليها ويجذبهم نحوها، نالت كما يقال ثالوث السعادة: المال والشهرة والجمال، لقد وجد المحقق الذي درس قضية انتحار هذه الممثلة الشهيرة رسالة محفوظة في صندوق الأمانات في بنك مانهاتن في نيويورك، حين فتح المحقق الرسالة وجدها مكتوبة بخطها نفسها وهي موجهة إلى فتاة تطلب نصيحتها عن الطريق إلى التمثيل فتقول في رسالتها: احذري المجد، احذري كل من يخدعك بالأضواء، إنني أتعس امرأة على هذه الأرض لم أستطع أن أكون أمًّا.
إني امرأة أفضِّل البيت، أفضِّل الحياة العائلية على كل شيء، إن سعادة المرأة الحقيقية في الحياة العائلية الشريفة الطاهرة بل إن هذه الحياة لهي رمز سعادة المرأة بل الإنسانية.
انتهى كلامها.
إنه شاهد على تلك المأساة التي تعيشها أمثال هذه النسوة، والتي تراها بعض الفتيات قدوة لها وأسوة لها.
وصرح بعض النقاد بأن الجاني هو كل فرد في المجتمع الغربي.
قال أحدهم في إيطاليا: إنها لم تنتحر، نحن الذين قتلناها، نحن الذين نشاهد الأفلام ونقرأ المجلات.
بل اعتبرها أديب آخر إنسانة لم تطق استمرار العيش في قاذورات تلك الحضارة، ولم تجد مفراً من موتها اليومي إلا بالموت النهائي.
نعم لقد وجدت هذه الممثلة في الانتحار خلاصاً من شقائها، وتحرراً من واقعها، ونجاة من مستغليها والمثرين على حساب أنوثتها.
قارني يا فتاة بين هذه الصورة وبين صورة تلك المرأة التي تقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].(60/12)
ألم تدخلي المصلى؟
يا فتاة ألم تنقلك قدماك إلى المصلى؟ تفضلي علينا بدقائق من وقتكِ، وادلفي خطوات إلى مصلى الكلية، إلى هنا حيث يجتمع ثلة من الصالحات القانتات العابدات، فإحداهن تقرأ القرآن، والأخرى تركع ركعتي الضحى، والأخرى في مجلس علم وذكر.
في حين يتحلق غيرهن على موائد من اللحوم البشرية، واحتفظي بهذه الصورة في الذاكرة.
وحين تعودين إلى المنزل وتستلقين على الفراش تفضلي على نفسك بدقائق فاسترجعي تلك الصورة، وقارني بينها وبين فتاة تقف عند بوابة المدرسة، أو أمام محل تجاري وهي تسارع خطاها وأنظارها في كل اتجاه، هل جاء صاحبها أم لا؟ ثم هل يراكم من أحد؟ أو بين تلك التي تتصفح مجلة ساقطة، أو تحملق أمام الشاشة، أو تمسك بسماعة الهاتف؟ بالله عليكِ أيهما أهنأ عيشاً، وأكثر استقراراً؟ أيهما أولى بصفات المدح والثناء تلك التي تنتصر على نفسها ورغبتها، وتستعلي على شهوتها، وهي تعاني من الفراغ كما تعانين، وتشكو من تأجج الشهوة كما تشكين، أم الأخرى التي تنهار أمام شهوتها؟ يا فتاة تساؤل يطرح نفسه ويفرضه الواقع: لماذا هذه الفتاة تنجح ولا أنجح أنا؟ لماذا تجتاز هذه العقبة وأنهزم أمامها؟ إنها صورة تشخص أمام ناظريكِ يا فتاة، فأنتِ ترينها كل صباح في المدرسة، ترينها كل مساء في مناسبة عائلية، أو لقاء الأفراح، ترين هذه الصورة وأجزم وأنكِ وأنت تواجهينها بالسخرية اللاذعة والكلمة الجارحة؛ أنكِ تقولين من الداخل كلاماً آخر غير هذا كله.
فلماذا لا تكونين صريحة؟ لماذا لا تعلني هذا الكلام الذي بداخلك؟ لماذا لا تفكرين مرة أخرى بمنطق العقل: كيف تنجح هذه وأفشل أنا؟(60/13)
قبل أن تذبل الزهرة
يا فتاة ها أنتِ تتطلعين إلى المرآة فترين صورة وجه وضيء يتدفق حيوية وشباباً، ها أنتِ تغدين وتروحين وأنتِ تتمتعين بوافر الصحة وقوة الشباب.
ولكن ألم تزوري جدتك يوماً؟ أو تري عجوزاً قد رق عظمها وخارت قواها؟ لقد كانت يوماً من الدهر شابة مثلك، وزهرة كزهرتك، ولكن سرعان ما مضت السنون وانقضت الأيام فاندفنت زهرة الشباب تحت ركام الشيخوخة، ومضت أيام الصبوة لتبقى صورة منقوشة في الذاكرة؟ وها أنت يا فتاة على الطريق، وما ترينه من صورة شاحبة وشيخوخة إنما هي مرآة لما ستكونين إليه في المستقبل بعد سنوات.
إذاً فكيف تهدرين وقت الشباب وزهرته، وتضيعين الحيوية فيما لا يعود عليكِ إلا بالندم وسوء العاقبة؟ يا فتاة لقد وعد صلى الله عليه وسلم بأن من السبعة الذين يظلهم الله يوم لا ظل إلا ظله شاباً نشأ في طاعة الله عز وجل، والخطاب للرجال تدخل فيه النساء، في يوم تدنو الشمس فيه من الخلائق حتى تكون منهم على قدر ميل، حتى يذهب عرقهم في الأرض سبعون ذراعاً فمنهم من يبلغ العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغ إلى حقويه، ومنهم من يبلغ إلى أذنيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً فهلا فكرت أن تكوني من اللواتي في ظل عرش الرحمن يوم لا ظل إلا ظله؟(60/14)
ما للفتاة والرياضة؟
يا فتاة هل صحيح ما سمعنا عنكِ، أنكِ تهتمين بمتابعة أخبار الرياضة، وأنكِ ربما لا تذكرين الدراسة، حين يكون هناك مباراة هامة، وأحياناً تستأذنين من المحاضرة لتتصلي بالهاتف فتسألي عن أخبار المباراة، ومن الفريق المنتصر؟ أصحيح أنكِ تُعجبين برياضي ماهر، وتتطلعين إلى صورته، وتتمنين أن تري منجزاته؟ يا فتاة اللهو المباح المنضبط أمر يقره الشرع، لكن هذا شأن وما تعيشه الفتاة مع الرياضة شأن آخر، أيليق بمربية الأجيال وأم الدعاة ومنجبة القادة أن تكون هذه نهاية اهتماماتها؟ وغاية طموحاتها؟ فاز الفريق وانتصر، وحصل على كذا وكذا من النقاط، فماذا حصل؟ وأي أمر كان؟ أليس للفتاة مهمة ووظيفة أعلى من هذا كله تستوجب عليها أن تحتفظ بوقتها وبعواطفها وبمشاعرها وبحماسها لما هو أسمى من هذا كله؟ معذرة يا فتاة أشعر أن الوقت يلاحقني، وأراني مضطراً للاختصار.(60/15)
بم يُعاب الرجل؟
إن أكبر عيب يوجّه للرجل أن يقال له: إنه امرأة، وحين يعيّر الرجل بالأنوثة فهذا غاية السب والشتم، إذاً ما بالكِ بالمرأة المسترجلة، ما بالكِ بالمرأة التي تتشبه بالرجال، أليست مدعاة بأن تقيم شاهداً على نفسها من واقعها، -والفعل أبلغ من القول- أنها امرأة مسترجلة أنها تدعو الآخرين إلى عيبها.(60/16)
العذراء في خدرها
يا فتاة يُمتدح الرجال بالشجاعة والكرم والنخوة، ولكن أتدرين بم تُمتدح الفتاة؟ إنها تُمتدح بالحياء، وحين يوصف الرجل بالحياء يشبّه بالعذراء ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أشد حياءً من العذراء في خدرها، أتظنين يا فتاة أنكِ حين تطيلين اللسان وترفعين اللهجة، وحين تزيلين عنك غشاوة الحياء، أتظنين أنك تبلغين مبلغاً عالياً سامياً؟ أم أنكِ تضحين بشيء من أغلى ما تمدحين وتوصفين به؟(60/17)
لا مجال للمخاطرة
قد يقود الفراغ -وربما الفضول- الفتاة لمكالمة هاتفية خاطفة قد تكون بداية المأساة لهذه الفتاة، فإما أن يعرف ذلك أحد الوالدين، فتقع الفتاة في دوامة من الحيرة والقلق لا نهاية لها، أو أن يتم اللقاء والفضيحة فتدمر مستقبلها وحياتها، أو أن يكون ذلك مدعاة لقتل عفافها، واسمعي لهذه الرواية في مجلة الأمة الصادرة بتاريخ 22/ 7/1987م نقرأ هذه المأساة أنا فتاة أبلغ من العمر التاسعة عشرة، في السنة الأولى في الجامعة اعتدت أن أراه في ذهابي وعند عودتي من الجامعة، في كل مرة يبادلني التحية، وتصادف أن التقينا في مكان عام، وشعرت معه بمعنى الحياة، تعاهدنا على الزواج، ثم تقدم لخطبتي، وعشت أياماً سعيدة، وفي ذات يوم حدث بيني وبينه لقاء فقدت فيه عذريتي، ووعدني أن يسرع بالزواج، وبعد عدة شهور من لقائنا اختفى من حياتي وأرسل والدته لتنهي الخطوبة، ولتنهي معها حياتي كلها، فالحزن لا يفارق عيني، أعيش في سجن مظلم مليء بالحسرة واللوعة والأسى، ولا تقولي لي: إن الأيام كفيلة بأن تداويني بنعمة النسيان.
فكيف أنسى ما أصابني من الذي أعطيته كل شيء، وجعلني لا أساوي شيئاً؟ إنها نهاية يا فتاة قد تكون هي النهاية التي تصل إليها كل فتاة تسلك هذا المسلك، وقد تكون أول خطوة في هذا الطريق وهذه النهاية، هي مكالمة خاطفة، فهل يستحق الأمر هذه المخاطرة؟(60/18)
صور من حياة المرأة الغربية
يا فتاة لقد قص الله عز وجل علينا في القرآن قصص الأمم الكافرة والأمم الغابرة لنتعظ بها ونعتبر، فإليك هذه الصفحات العاجلة مما تعيشه المرأة في عالم الغرب، ذاك العالم الذي يراد لكِ أن تكوني مثلهم،(60/19)
أولاً هكذا تهان المرأة
في دراسة أمريكية أُجريت عام 1407هـ، أشارت إلى أن 79% من الرجال يقومون بضرب النساء، وبخاصة إذا كانوا متزوجين منهن.
وفي دراسةٍ فُحص فيها 1360 سجلاًّ للنساء في المستشفيات، تقول: إن ضرب النساء في أمريكا ربما كان أكثر الأسباب شيوعاً للجروح التي تُصاب بها النساء، وأنها تفوق ما يلحق بهن من أذى نتيجة حوادث السيارات والسرقة والاغتصاب مجتمعة.
وفي فرنسا تتعرض حوالي مليون امرأة للضرب، وأمام هذه الظاهرة التي تقول الشرطة إنها تمثل حوالي 10% من العائلات الفرنسية، أعلنت الحكومة أنها ستبدأ حملة لمنع أن تبدو أعمال العنف هذه كأنها ظاهرة طبيعية.
وقالت أمينة سر الدولة لحقوق المرأة: إن الحيوانات تُعامل أحياناً أحسن منهن، فلو أن رجلاً ضرب كلباً في الشارع فسيتقدم شخص ما بالشكوى إلى جمعية الرفق بالحيوان، ولكن إذا ضرب رجل زوجته في الشارع فلن يتحرك أحد، وتقول صحيفة فرانسر عن الشرطة إن 60% من الدعوات الهاتفية التي تتلقاها شرطة الخدمة في باريس أثناء الليل هي نداءات استغاثة من نساء يسيء أزواجهن معاملتهن.(60/20)
العلاقات غير الشرعية
دلت الدراسات على أن في الولايات المتحدة نفسها أكثر من 35 مليون متزوج يقيم علاقات غير شرعية خارج عش الزوجية، أي نسبة تصل إلى 70% من الرجال المتزوجين.
وبعبارة أخرى فإن 70% من الزوجات الأمريكيات مأسورات بقيد الخيانة، خيانة أزواجهن لهن.
ويقول المحللون إن 90% من حوادث الاغتصاب لا تصل إلى سجلات البوليس، وفي المقابل تقول إحدى الإحصائيات: إن حادثة اختطاف تسجل كل 6 دقائق، هذه الحادثة لا تشكل إلا 10 % من صور حوادث الاغتصاب.
وفي لوس إنجلوس التي أصبحت تشتهر بأنها عاصمة حوادث الاغتصاب في العالم واحدة من ثلاث فتيات فوق سن 14 عامًا معرضة للاغتصاب.
وأما في فرنسا، فقد أذاع الراديو الفرنسي في يوم الأحد 25/ 9/1977م إحصائية ذكر فيها: أن في فرنسا 5 ملايين امرأة متزوجة على علاقة جنسية بغير أزواجهن.
وأذاع التلفزيون الفرنسي في القناة الأولى أن المحكمة الفرنسية ردت الدعوى التي قدمها الزوج بحق زوجته التي تخونه، وبعد تقديم الدليل قالت المحكمة: ليس من حق الزوج أن يتدخل في الشؤون الخاصة بزوجته.(60/21)
الدمار في الحياة العائلية
وصورة أخرى من صور الدمار في الغرب: الدمار في الحياة العائلية.
أنقذوا العائلة من الموت أنقذوا العائلة من الموت، هذا نداء أطلقه العالم الاجتماعي الفرنسي جيرند أوريل وهو النداء الثالث الذي يُطلقه خلال 30 سنة الماضية.
وقد قام الباحث الغربي على امتداد سنتين ماضيتين بمسح ميداني للعائلة الغربية، تنقل فيه بين مختلف البلاد الأوروبية وعبر الأطلسي إلى الولايات المتحدة وكندا ليعود بجعبة مليئة بالأصوات التي تحذر من اتجاه العائلة الغربية نحو الهلاك.
هذه الأصوات مع تحليل واف لها جمعها في كتاب أطلق عليه عنوان: أنقذونا، والأصوات تلك هي عبارة عن الحوارات القصيرة التي أجراها المؤلف مع نساء وأطفال وآباء وأجداد حول طبيعة علاقة كل واحد منهم بأفراد العائلة الآخرين، والأصوات البعيدة كانت نادرة جداً بل هي استثنائية.
وها هي المرأة الغربية تنادي: أريد العودة إلى منزلي.
وهذا عنوان كتاب ألفته إحدى المفكرات الفرنسيات.
وفي إحصائية في السويد تقول: إن المرأة السويدية فجأة اكتشفت أنها اشترت وهماً هائلاً -تقصد الحرية التي أعطيت لها- بثمن مفزع؛ وهو سعادتها الحقيقية.
هذه هي حال المرأة في الغرب، هذا هو الحال الذي جنته تلك المرأة التي سارت على هذا الطريق، وهي الخطوة التي يراد لكِ يا فتاة أن تسيري إليها، وهي النهاية التي يُراد لكِ يا فتاة أن تصلي إليها، فهلا اختصرتِ الطريق من الآن؟ وهلا قطعتِ الطريق قبل أن تصلي إلى هذه النهاية.(60/22)
أنت صاحبة القرار
إن الاقتناع بخطأ طريق الغفلة، والممارسة الشاذة، والسلوك المنحرف أمر يشترك فيه الكثير من الشباب والفتيات ممن هم كذلك.
بل أكثرهم يقتنع بحاجته إلى الالتزام والاستقامة، ولكن هذا القرار الشجاع، الحاسم يقف المرء معه متردداً متهيباً.
لست أدري ما مصدر هذا التردد ما دام الاقتناع قد تكون لدى الفتاة بخطأ طريقها، وسلامة الطريق الآخر فماذا تنتظر؟ إنه التخوف من المستقبل الذي لا مبرر له.
القضية باختصار يا فتاة: قرار جريء وشجاع تتخذينه، وبعد ذلك يتغير مجرى حياتكِ تلقائياً، ويهون ما بعده، فهل تعجزين عن اتخاذ هذا القرار؟ لا أخالكِ كذلك وقد عهدناكِ الجريئة، وقد عهدناكِ التي لا يقف دون رغبتكِ شيء، فأنتِ التي استطعتِ أن تسلكي خطاً ومساراً غير ما كانت عليه أمُكِ وأجدادكِ، أنتِ التي استطعتِ أن تتمردي على تلك التوجيهات التي سمعتها من أبيكِ وأمكِ، أنتِ التي استطعتِ أن تخرقي هذا السياج كله، فأين هذه الجرأة والشجاعة؟ إننا نريد أن تتضافر هذه الجرأة وهذه الشجاعة لتكوّن عندكِ دفعة لاتخاذ هذا القرار، واسألي من كُن شركاء لكِ في الماضي فاتخذن هذا القرار وسلكن طريق الهداية.(60/23)
رسالة من فتاة
أخيراً وردت إليّ رسائل كثيرة من بعض الفتيات، حول هذا الموضوع، وهي رسائل من حقهن أن نذكر بعضها، لكني أعتذر لكم وأعتذر لهن سلفاً أن أختصر بعضاً من رسالة طويلة وردت إليّ من إحدى الفتيات، إنها تصور هذا الواقع التي تعيشه هذه الفتاة.
تقول: كيف يسهل لقلم مسلم أو مسلمة أن يكتب واقعاً مريراً مؤلماً لفتاة مسلمة؟ كيف يسهل لأقلامنا أن تكتب واقعاً هي متسببة فيه؟ اللهم ارزقنا الأقلام السيالة المجاهدة الداعية إليك بالحكمة والموعظة الحسنة.
أولاً: واقعها في المدرسة.
هي حائرة شاردة الذهن دائماً، من الطبيعي أن المسلمة كذلك وخاصة في هذا العصر الذي لا تجد فيه ما يبهج النفس، فهي لا تلام على حيرتها، ولكن الأمر الذي نلومها عليه والأدهى من ذلك هو في ماذا تفكّر؟ ولماذا الحيرة؟ من أجل أمتها؟ أم لها مكانة اجتماعية شغلت ذهنها؟ أم أنها تتأمل في ملكوت الله، أم ماذا؟ يا فتاة الإسلام للأسف لا هذا ولا ذاك، أخشى أن تُصعق يا أخي حينما تعلم الأمر الذي شغل فكر ابنة الإسلام، قبل أن تقرأه احمد الله تعالى على كل حال، وكأني بك وأنت تتخيلها وهي حائرة تفكر في عشيقها الذي كلمته البارحة، قد أتعبها وآلمها وحيّر عقلها غضبه منها.
وإليك هذه الواقعة التي حدثت معي شخصياً، والتي ربما لو سمعتها من غيري لما صدقت أن تصل فتاة الإسلام وأمل الأمة إلى هذه المرحلة من الانحطاط بينما نحن في حصة فراغ وإذا بي أرغب زميلاتي وكل واحدة منهن في واد لا تعلمه الأخرى، فهذه تسرّح شعرها، والأخرى تكتب واجبها، والثالثة قد تحلّق حولها معظم البنات وكأنهن قد جمعن على مائدة! نعم مائدة من اللحوم البشرية، وأختنا المفقودة لا مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، هي في واد آخر اقتربت منها فسلمت عليها فردت السلام باختصار شديد، وبدأنا نتجاذب أطراف الحديث حتى وصلت إلى السؤال المقصود: ما سبب حيرتها؟ أجابت بالحرف الواحد: حرف
الجواب
! قلت: لماذا إنه سهل الكتابة؟ فضحكت ضحكة اتضح لي منها معنى السخرية وكأنها تقول: إنكِ جاهلة ولا تعرفين شيئاً ولستِ كالبنات، فقلت: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] وهنا تناديني زميلة أخرى من المقربات إلى صحابتنا لتسألني عن أمر ما، فقلت لها: ما بال فلانة؟ وأخبرتها الخبر فقالت: إنها تحب شاباً يسمى عبد الرحمن وقد حدث بينهما سوء تفاهم هذه الأيام، وهي على هذه الحالة من أسبوع.
لا أدري ما أسطّر وماذا أدع؟ واقع تعيشه فتاة الإسلام يكاد ينطق الصخور، ربما تتهمني بالمبالغة، لا تلام يا أخي، فكيف لك يا ابن الإسلام أن تصدّق واقعاً كهذا لمسلمة؟ لا ألومك فأنت لم ترهن وهن يتحدثن بكل بجاحة وسوء أدب وكأن أمراً لم يحدث، صدقني يا ابن الإسلام أن كلماتي تكاد تنطق من حرارتها حزناً لواقعنا الأليم، وكثيراً ما أرى وأسمع وأُعاصر حوادث ووقائع تؤيد ما أقول.
وأعتذر لكم لقراءة رسالتي كما وردت، أو لقراءة بعض العبارات كما وردت باللهجة العامية.
تنتقل أختنا لتصور صوراً من حوارها مع بعض الفتيات، وتحدثها إحداهن عن برنامجها تقول: أصل إلى البيت الساعة الواحدة ظهراً ثم أصلي الظهر.
كم تستغرقين؟ خمس دقائق.
ثم ماذا تفعلين؟ بصراحة أكلم خالد.
كم تستغرقين؟ نصف ساعة.
سؤال آخر: متى تنامين؟ والله أنوم الساعة الواحدة أو الثانية عشرة.
وتقومين الفجر؟ لا، سامحكِ الله أقوم متى كلمت محمداً.
من محمد؟ محمد عمرها حياتها يكفي.
الساعة كم؟ متى كلم الساعة الثانية أو الساعة الثالثة أستيقظ.
وتستيقظين ولا تتعبين؟ نعم أقوم، وإذا ما قمت له فلمن أقوم؟ وكم تستمرون في المكالمة؟ والله متى ما رغب أغلقت السماعة، وأغلب الأحيان على رغبتي ساعة بعد الفجر.
أين أهلكِ من هذا كله؟ ماذا تقولين؟ بعد أن أطلقت ضحكت عالية لفتت أنظار الجميع أهلي! أمي بعد العصر في زيارة، والوالد في العمل، وإخواني مع المعذرة لهذه العبارة وإخواني ألعن مني، وفي الليل نائمين.
وبعد ذلك انتهى بنا المطاف، وهنا قفزت أسئلة كثيرة إلى ذهني، ووددت لو سألتها ولكن أين هي؟ لقد ذهبت مع صاحبتها.
لا حول ولا قوة إلا بالله، أيعقل يا فتاة الإسلام أن يكون هذا يومكِ؟ وهكذا دوماً تسير حياتكِ؟ أين كتاب الله في قاموس حياتكِ؟ أين الأذكار النبوية؟ أين الدعاء والإلحاح على الله؟ أين المحافظة على الصلاة في وقتها والخشوع فيها؟ أين معاني الوحدة التي تربطنا بإخواننا؟ أين أين وأين يا فتاة الإسلام؟ آسفة يا أخي لقد أزعجتك وسمعك بهذا الواقع، ولكن هي الحقيقة، ولا بد أنك الآن شاخص العينين، مشدود الفكر في واقع أختنا والذي يعد واحداً من المئات، لا أدري ما شعورك الآن بعد قراءة هذه الكلمات من أفواه المسلمات؟ أما أنا فلم يعد في مقدوري المواصلة، وهنا يقف قلمي ليعلن استسلامه، وما بقي أكثر مما ذُكر ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وهنا انتهت هذه الرسالة.
هذه(60/24)
لماذا لا نعمل؟
كثير من الناس يؤمن بضرورة العمل للدين والدعوة إلى الله، ويعتقد أن ذلك من الواجبات، لكن حين يجيء التطبيق تفاجأ بالتقاعس والتقصير، وذلك له أسبابه ومشكلاته، ولها حلول يمكن العمل بها لتفادي هذا القصور.(61/1)
مشكلة عدم العمل
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.
فلماذا لا نعمل؟ يُقال: إن عقارب الساعة لا ترجع إلى الوراء، ونحن أحوج ما نكون في تفكيرنا إلى أن ننظر إلى الأمام دائماً، وهناك قضايا قد استقرت في أذهاننا وأذهان الناس، إعادة مناقشتها وتقريرها والتأكيد عليها أظن أنه رجوع إلى الوراء، اللهم إلا إذا كانت وصايا للتذكير وإعادة الحافز فهذا أمر نراه في كتاب الله سبحانه وتعالى كثيراً.
مشكلة تُطرح كثيراً ونُعاني منها في أوساط جيل الصحوة وشباب الصحوة، ذلكم أن قضية الدعوة إلى الله عز وجل أظن أنها أصبحت قضية مُدركة عند الجميع، فالجميع يدرك وجوب الدعوة إلى الله عز وجل في حقهم، ولا شك أن الدعوة إلى الله عز وجل في حق شباب الصحوة وجيل الصحوة قد غدت فرض عين، وأننا يجب أن نبحث عن الأساليب والوسائل ويجب أن ندعو ونعمل، وهي قضية لا يجادل فيها شخص ولا يناقش، لكن حينما نقارن بين هذه القناعة الموجودة عند الشباب وبين أثرها الواقعي -أي: بين القناعة وبين العمل- سنجد المفارقة، سنجد أن المسافة شاسعة جداً بين أولئك الذين يقتنعون بضرورة الدعوة والعمل والمشاركة، وبين أولئك الذين يعملون، وحتى تدرك صدق هذه الدعوى فانظر إلى أي تجمع في أي مكان، كمدرسة فيها ثمانمائة طالب أو يزيدون ستجد فيها مثلاً عدداً من الشباب المتدينين الذين يشاركونك هذا الشعور، وكل واحد منهم يشعر بأن الدعوة إلى الله عز وجل واجبة عليه، وأنه ينبغي أن يساهم فيها، لكن كم هم الذين يعملون من هؤلاء؟ ولو كان هؤلاء يعملون لرأيت أثرهم واضحاً ظاهراً في هذا التجمع الذي يعيشون فيه.
تجمع مثلاً في حي سكني، لو فتشت فيه عن أولئك الذين يقتنعون تمام الاقتناع ولا يخالجهم أي شك أو تردد في وجوب الدعوة إلى الله عز وجل وضرورة المشاركة والعمل ثم قارنت بين حجم هؤلاء وبين عملهم ونتاجهم لوجدت أن المسافة شاسعة جداً.
من الطبيعي مثلاً أن تجد أناساً لا يعملون وهم يقتنعون، وقد لا تحصل مشكلة كبيرة عندما نجد اثنين أو ثلاثة بهذه الصفة، لكن حينما نجد أن المسافة واسعة إلى هذا الحد نشعر بهذه المشكلة، وأظن أننا جميعاً نشعر بهذه المشكلة، بدليل أننا نتساءل عن ذلك، وأنا أتوقع أنني سأجد اليوم من الأسئلة التي ترد إلي: أني شاب مقتنع بأني في الدعوة لكني لا أعمل، ما هو الحل في نظرك؟ فنحن نتساءل كثيراً، إذاً: نحن مقتنعون تماماً بهذه المشكلة، ويدفعنا شعور بضرورة حل هذه القضية، وبضرورة تحطيم هذه الحواجز التي تحول بيننا وبين العمل، فنتصور أن هذا الحل إنما يتم بإقناع الناس فيه بالدعوة، بإقناع الشباب بأهمية الدعوة، بإقناعهم بوجوب الدعوة إلى الله عز وجل، أنا أظن أن هذا رجوع إلى الوراء في التفكير.
يا أخي هؤلاء مقتنعون تماماً بأن الدعوة إلى الله عز وجل في حقهم قد غدت واجبة، بأن المشاركة في حقهم قضية ينبغي أن لا يناقشوا فيها، لكن لا يعملون؟ إذاً: هناك مشكلة أخرى غير هذه القضية، فيجب أن نفكر لماذا نحن لا نعمل؟ لماذا الناس لا يعملون؟ تذكير الناس بأهمية الدعوة، تذكير الناس بوجوبها، تذكير الناس بالقضايا البدهية المستقرة عندهم أمر لا شك فيه والنفس تحتاج إليه، ولهذا يأتي التكرار كثيراً في القرآن والسنة، لكن حينما نتصور نحن أن مكمن الداء هنا ومكمن المشكلة هنا! فهذا يعني أننا كما قلت نرجع بالتفكير إلى الوراء يا أخي هذه قضية تجاوزناها، ويجب أن نقول للناس إننا تجاوزناها، وأنا أقول بصراحة لمن يحتاج إلى أنه تقنعه بضرورة الدعوة والمشاركة: أنا أقترح أن ندعه جانباً ونتجاوزه، والوقت لا يحتمل، ويجب أن يشعر أنا نقول له: إننا قد اتجهنا إلى الأمام والقضية التي تريد أن نخاطبك فيها قضية قد تجاوزناها نحن، ونحن الآن همنا ومشكلتنا في البحث عن الوسائل، في البحث عن المشكلات، في البحث عن قضية: لماذا هؤلاء لا يعملون؟ أما أن نقنعك بأن هذه قضية مطلوبة! فهذه قد صارت قضية الناس كلهم، ربما من مرحلة سابقة كانت قضية الدعوة والدعاة مصطلحاً للنخبة كما يُقال، يعني: كانت قضية تهم جيل الصحوة، أما الآن فحينما تقول: فلان داعية فهذه كلمة لا تحتاج إلى توضيح، ولا تحتاج إلى شرح عند عامة الناس، عند الجميع، ولم تعد قضية خاصة بجيل الصحوة.
إذاً أقول: إننا ونحن نريد من جيل الصحوة أن يعمل يجب أن نبحث عن مكمن الداء، وما هو أساس هذه المشكلة، وأنا أتصور أنه ليس أساس المشكلة هو أن هؤلاء يحتاجون إلى أن نقنعهم بالدعوة وضرورتها وفضائلها هذه قضية يمكن أن نذكرها من باب التذكير، من باب الحث مثلاً، عندما نشعر أن الهمم قد ضعفت وفترت، وهذا لا بد منه بين آونة وأخرى، أما أن نتصور أن هذه مكمن الداء وهذه المشكلة أنا أظن أنه رجوع بتفكير الناس إلى الوراء.
يجب أن نشعر أن هناك قضايا كثيرة نحن بحاجة أن نتطلع إليها، وأن نتحدث(61/2)
العوائق عن العمل(61/3)
العجز والكسل
من أول العوائق: العجز والكسل.
ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم كان يستعيذ بالله عز وجل منهما يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال).
ومرجع بلاء الإنسان أصلاً كله إلى العجز والكسل فإن الإنسان الذي يمتنع عن إتيان عمل إما أن يكون غير قادر على أداء هذا العمل، وهذا هو العجز، أو أن يكون قادراً لكنه لا يريد أن يعمل وهذا هو الكسل.
والعجز والكسل هما مصدرا الهم والحزن أيضاً، فإن الهم والحزن قرينان، فالإنسان إن كان مصدر قلقه وألمه عن أمر مضى فهذا حزن، وإن كان مصدر قلقه عن أمر سيأتي فهذا هم، ومصدر الهم والحزن أصلاً يعود إلى العجز والكسل؛ لأن الإنسان مثلاً عندما يشعر بأن هناك شيئاً أمامه يمكن أن يواجهه ويعيش هماً وألماً وقلقاً فهذا في الواقع نتيجة عجز وكسل.
يا أخي هذا الذي سيأتي وتتوقعه إن كنت قادراً عليه فتخلص من همه واعمل، وإن كنت غير قادر فعلاً فسلم أمرك لله وفكر كيف تتعامل مع هذا الأمر الواقع؛ لأن هذا أمر واقع فرض نفسه فكيف تتعامل معه؟ والحزن كذلك، هذا أمر مضى فهل تستطيع أن تعالج آثاره، وتتخفف منه فاعمل وبادر، وإذا كنت لا تستطيع فسلم الأمر لله عز وجل وفكّر فيما ينفعك، فالانشغال بالهم والحزن إنما هو صورة من صور العجز والكسل، ونتيجة للعجز والكسل.
والمقصود أن العجز والكسل هو الذي يعوق الإنسان عن مصالح دينه ومصالح دنياه، وكم يرى الإنسان أن هناك فرصاً كثيرة يمكن أن تتاح في أي ميدان من الميادين.
على كل حال لا أريد أن أطيل في هذه النقطة؛ لأن هذا الأمر ندركه في أنفسنا، وستأتي قضايا لها ارتباط بهذا الأمر.(61/4)
خوف الفشل
عائق ثان: خوف الفشل.
وهذه مشكلة خاصة في بداية الطريق عند أولئك الذين لا يعملون، هناك فئة من الناس يجيد أن يتصور الفشل، يا أخي أنت إذا أردت أن تعمل فلماذا تنظر نظرة سلبية؟ إذا كنت تريد أن تعمل فإن أمامك احتمالين: احتمال أن تنجح، واحتمال أن تفشل فلماذا تغلب احتمال أن تفشل؟ لماذا لا تفترض أنك ستنجح في العمل؟ والإنسان الذي يتصور الفشل في أي مشروع وأي عمل لا يمكن أن يعمل، وأعطيك نماذج من حياتك التي مرت عليك، فمثلاً: جميع الشباب الذي أمامي يدرسون وكثير منهم قد تجاوز المرحلة الثانوية، وعدد من الإخوان تجاوز المرحلة الجامعية، وربما يدرس دراسات ما بعد المرحلة الجامعية، كل واحد منكم وهو يسجّل في المرحلة الثانوية، أو وهو يدرس عنده احتمال واحتمال قوي أن يفشل، فلماذا لم يسيطر عليك هذا الاحتمال؟ ولم تتردد إطلاقاً في الدخول في هذا الميدان مثلاً حتى لا تفشل؟ وعندما تدخل الامتحان في أي مادة من المواد الصعبة يكون عندك احتمال كبير أن تفشل، فهل تغيب شخص يوماً من الأيام عن الامتحان، والسبب أنه خائف أن يفشل، وربما بعض الطلاب عنده احتمال النجاح بنسبة (1%)، يقول: يا أخي أنت ويش خسران، ادخل الامتحان ويمكن تفشل لكن افرض أنك فشلت فلا يضرك شيئاً، كثير من الطلاب قبل الامتحان يتخوفون كثيراً، ونسبة منهم عندما يرى الأسئلة يبدأ مؤشر النجاح يزيد عنده ومؤشر الفشل ينخفض، والبعض بالعكس، لكن ستجد نسبة كبيرة من هؤلاء عنده احتمال أن يفشل فعلاً، وبعد أن يطّلع على الأسئلة عنده احتمال فشل، وقبل النتيجة وهم في انتظار النتائج لا يزال عنده احتمال الفشل، والطلاب المتفوقون هم أكثر الناس خوفاً من الفشل؛ لأنه إذا كان الفشل بمقياسك هو الرسوب! فهو إذا حصل في هذه المادة على أقل من تقدير ممتاز فإنه يعتبر هذا فشلاً بالنسبة له، وهو من أكثر الناس هواجس، أنت ربما تعودت أن تأخذ بعض المواد في الدور الثاني أو تحملها معك إذا كنت في مرحلة جامعية وصارت القضية عندك سهلة، لكن هذا الطالب المتفوق من أكثر الناس خوفاً من الفشل المقصود أن هذه الآن تجربة مرت علينا جميعاً ولم تكن عائقاً لنا عن هذا العمل، مع أنه ربما يصل عندنا نسبة احتمال الفشل إلى نسبة كبيرة، ومر معنا مواقف في حياتنا الدراسية كنا نخاف فيها من الفشل ونجحنا واستطعنا أن نتجاوز هذه العقبة، وخذ كل الناس الذي يعملون في الحياة، أحياناً يأتي إعلان عن وظيفة، يقول لك: ليس عندنا إلا فرصة واحدة من خمسين واحد، أو مائة واحد، أو ثلاثمائة واحد! وما عنده مشكلة، فيتقدم ويدخل مقابلة شخصية ويقدم مؤهلاته ولو كان يشعر أن في هؤلاء كثيراً ممن يتفوقون عليه بالمؤهلات، لكن قدم واعمل ولن تخسر شيئاً.
وفي سنة من السنوات في مرحلة من المراحل كانت الفرص قليلة عندنا، وكنت أقول لكل طالب يأتي في المقابلة: إن نسبة قبولك واحد إلى عشرة، يعني: من كل عشرة متقدمين سوف نقبل واحداً، فيجب أن تضع هذا في ذهنك، ويدخل المقابلة وهو بهذا الشعور مع أنه يعرف كل شيء، أنت الآن معدلاتك أقل من معدلات غيرك، مؤهلاتك قدراتك؟ يقول لك: أنا أدخل مقابلة ولن أخسر شيئاً، يا أخي أنا مستغرب صراحة من الروح التي عند هؤلاء، فكل واحد من هؤلاء يدخل وهو يعرف أنه لن يُقبل إلا بنسبة عشرة بالمائة! ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه سينحسر الفرات على جبل من ذهب سيقتتل الناس عليه وما يبقى إلا واحد، وكل واحد يقول: يمكن أن أكون أنا الواحد.
على كل حال أنا لو ضربت لكم أمثلة من حياتكم اليومية لطال بنا الوقت، لكن أظن أن الأمثلة التي ضربتها كافية، وكل واحد منا مرت عليه مواقف ولم يكن يوم من الأيام هاجس خوف الفشل عائقاً عن هذا العمل، خذ الناجحين في أي ميدان من الميادين في الحياة، مثلاً رجل تاجر، هل تتصور أن التجارة عامل مربح مائة بالمائة؟ لا يا أخي، هو عرضة لأن يفشل، ويمكن أن يفلس، وعرضة أن يدخل السجن لأجل مشكلة مالية، وقد يدخل صفقة كبيرة ممكن أن ينجح فيها ويحصل على أرباح طائلة وممكن أن يخسر فيها كل ما أنفق، ومع ذلك لا يعيقه هذا الاحتمال عن الدخول في الصفقة.
خذ أي إنسان ناجح في الحياة، فالكاتب قد يكتب كتاباً ويفشل، متحدث، خطيب، شاعر، أي شخصية تعجبك ضعها في ذهنك، واعلم أنها كانت عرضة للفشل، ولو كان يفكر بالعقلية التي تفكر بها لما أقدم على هذا العمل أبداً إذاً يا أخي هذه طبيعة الحياة كلها، والفشل احتمال لكل من يعمل، فلماذا يسيطر علينا وحدنا هاجس الفشل، بينما أصحاب المطامع الدنيوية ليس عندهم مشكلة، ولا يخافون الفشل، حتى المجرمين واللصوص عنده احتمال فشل بنسبة عالية، ومع ذلك لا يعوقهم هذا الأمر عن مواصلة مسيرتهم.
هذا مع أن قضية الفشل غير واردة عندنا أعني في الأمور الدعوية، افترض أنك قمت بأي عمل دعوي كأن تلقي موعظة، فأكبر مصيبة يمكن أن تحل عليك هي أن تقوم أمام الناس ثم يُغمى عليك، فافترض أن هذا قد حصل، فهل تعتبر هذا فشلاً؟ لا، ليس هو بفشل.
ويمكن أن تتكلم وتتلعثم وتخطئ لكنك ستقول شيئاً(61/5)
الخوف من تبعة الأخطاء
أمر ثالث: الخوف من تبعة الأخطاء: الشخص الأول يخاف أن يفشل والشخص الثاني يخاف من تبعة الأخطاء، يقول: إني أخاف أن أقع في خطأ فأتحمل تبعة هذا الخطأ، فهو مثلاً يخاف أن يتحدث مع الناس ويقول كلمة يزل بها فيأثم، أو يخاف أن ينكر على شخص بطريقة معينة فيتسبب في كرهه للمعروف، وصده عن الخير.
تعالوا مثلاً إلى الناس الذين كانوا في قمة النجاح بعد الأنبياء، وهم أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد مرت عليهم مواقف وقعوا فيها في أخطاء، ومع ذلك لم تكن عائقاً، مثلاً أسامة رضي الله عنه عندما أراد أن يقتل رجلاً فلاذ منه ثم قال: لا إله إلا الله، ثم قتله، وأتى أسامة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أقتلته بعد أن قال لا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله إنما قالها تعوذاً، قال: أشققت عن قلبه؟) حتى ضاق الأمر على أسامة وقال: (وددت أني أسلمت يومئذ) من ثقل الأمر عليه.
الآن أسامة وقع في خطأ بسبب الجهاد، فهل توقف أسامة عن الجهاد بعد ذلك؟ كلنا نعرف أنه لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم كان قد جهّز جيشاً يقوده أسامة مع أنه وقع في الخطأ، لو كان يفكّر بنفس العقلية التي نفكّر فيها كان على الأقل يقول: يا أخي أنا أعيش مع الناس لكن عندما أقود الجيش أي مسئولية كبيرة سأتحملها؟ لكن كان يشعر أن هذا خطأ وقع فيه، وانتهى والله عز وجل يغفره، وفعلاً ما كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصعدوا المنازل العالية وليرتقوا وهم يفكرون هذه الأفكار، أو يعيشون هذه الأوهام التي نعيشها.
خذ على سبيل المثال أيضاً: سرية أرسلها النبي صلى الله عليه وسلم فقتلوا في الشهر الحرام، وأنزل الله عز وجل فيهم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217] ومع ذلك ما صدهم هذا ولا عرف أن واحداً من هؤلاء الذين قاتلوا في هذه السرية تخلف عن الجهاد حتى لا يقع في الخطأ نفسه، وهي مواقف كثيرة نراها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، نرى بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقعون في الخطأ بحكم الطبيعة البشرية؛ ومع ذلك لم يكن هذا الخطأ صاداً لهم عن أمرهم.(61/6)
تهويل الأمر أو تهوينه
أمر آخر: تهويل الأمر أو تهوينه.
هما نقيضان، أحياناً يهول إنسان أمراً فيصور أنه قضية صعبة جداً، وهذه قضية لا يطيقها إلا الناس الكبار، فمثلاً: عندما تذكر الدعوة يقول: الله المستعان! الدعوة تحتاج إلى إنسان يحمل العلم الشرعي، يجب أن يكون إنساناً حليماً، يجب أن يكون إنساناً شجاعاً، يجب أن يكون إنساناً وقوراً، يجب أن يكون له قيمته وكلمته عند الناس، يجب يجب يجب، ويذكر قائمة طويلة جداً من الأمور التي أجزم لك أنها لا يمكن أن توجد في أحد، لأن الناس بشر، فيمكن أن تجد إنساناً عنده علم لكنه إنسان سريع الغضب، أو تجد رجلاً حليماً لكن عنده قصور في العلم، أو عنده قصور في قدرته على الإقناع.
وأنت لو قرأت في تراجم السابقين لوجدت أن منهم من كان يغضب، ومنهم من كان فيه صفة أخرى وما كانت تنقص من قدره، وبقي إماماً ورجلاً مشهوراً، لا تزال الأمة تتغنى به وبما فعل.
أقول: أحياناً يصور للناس أن الدعوة قضية صعبة جداً لا يقوم بها إلا أناس يحملون مواصفات معينة، أو أنه يهوّن لك القضية ويعتبرها قضية تافهة، وكلاهما مما يعوق عن العمل.(61/7)
أوهام المستقبل
من العوائق أوهام المستقبل: بعض الناس يجيد تصور الأوهام، ويجيد وضع احتمالات السوء، فيقول: محتمل أن يقع كذا، وكذا، والإنسان الذي يعيش هذه الاحتمالات لا يمكن أن يصنع شيئاً، وربما كان هذا جزءاً من القضية التي أشرنا إليها قبل قليل وهي قضية الفشل، لكن هذا قد يطرح لك قضايا أخرى، ويبدأ الإنسان يتخوف من أي عامل، ومن أي مؤثر، ويبدأ يخلق أمام نفسه حواجز وأوهاماً عجيبة جداً، وأنت تجد هذا عندما تطرح أي مشروع على شخص، يقول لك: يا أخي يمكن أن يحدث كذا، ويمكن أن يقال لك كذا، ويمكن أن يفهمك الناس خطأ، ويمكن كذا إلى آخره.
نحن نقرأ كل يوم سير الأنبياء والمصلحين، فهل تتصور أنهم يعيشون على الأوهام التي نعيشها؟ فأنتم تقرءون في القرآن مثلاً مواقف إبراهيم وكيف بذل؟ وكيف دعا؟ وكيف تحمل؟ وكان يعرف هو أن الموقف الذي كان يقفه سيجد من ورائه تبعات.
وكذلك تقرأ قصة موسى في القرآن، وتقرأ قصة هود، وصالح، وغيرهم من الأنبياء دعنا من الأنبياء وانظر في قصة مؤمن آل فرعون، فلا شك أنه كان يتوقع أشياء كثيرة لكن مع ذلك قام بهذا الدور حتى قص الله علينا قصته في القرآن فصارت عبرة لمن جاء بعده.
تقرأ في القرآن مثلاً قصة أصحاب القرية إذ جاءها المرسلون، وحين سمع رجل بهذه القضية جاء وقام بدوره وقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:20 - 22] وحصل له مشكلة حتى قتل، وأظن أن هذا لو كان يفكّر بالعقلية التي نفكّر فيها ما كان يمكن أن يقوم بأي دور ولا أي عمل.(61/8)
الورع الزائد
من العوائق الورع الزائد: أحياناً تقول: يا أخي قل كلمة، افعل هذا الأمر، فيقول لك: يا أخي الله المستعان، ما أنا بأهله، وهذا منطق عجيب! فهو جاد يرى أن من الورع أن لا يقول هذه الكلمة.
ذات مرة كان هناك طالب علم ورجل خيّر فقلت له: يا أخي أريدك أن تلقي كلمة أو محاضرة، فقال: لسنا أهلاً لهذا الأمر والله المستعان، قلت له: أنت الآن تدرس وتعلم طلاب العلم، وتقول كلاماً وتأخذ عليه أجراً فهل تورعت في يوم من الأيام وأنت تعلم العلم وتوقع عن رب العالمين وتدرس الناس العقيدة، أو تدرس الناس تفسير كلام الله عز وجل! إنك لم تفكر أبداً أنك تكون ممن قال في القرآن بما لا يعلم، ولا فكّرت يوماً من الأيام أنك تخشى أن تقول على الله عز وجل بغير علم في العقيدة أو الفقه لأنك تأخذ أجراً على هذا العمل، لكن حين تلقي موعظة على الناس تحسب ألف حساب وتتخيل أن هذا من الورع، إنها المفارقات عجيبة! ومنطق عجيب جداً! دعنا من هذا، فيمكن أن أعطيك سؤالاً آخر: أنت الآن تورعت عن أن تتكلم لكن أليس هناك باباً آخر في الورع؟ ألا تتورع عن السكوت؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت) فبدأ بقول الخير، إذاً فأنت قل خيراً أو اصمت، لكن حينما تشعر أنك قادر أن تقول الخير فإنك يجب أن تقوله.
أنت تتصور الآن أن من الورع أن تسكت، وأن لا تتكلم لكن يا أخي أليس من الورع أن تتكلم؟ وما فكّرت يوماً من الأيام أنك حين تهم بالسكوت، أو تهم بالقعود عن العمل أن الورع يدفعك إلى العمل، وأنك ترى أن من ورعك أن تعمل، لأنك عندما تفكر تجد أن هذا كلام لا بد منه، لأني عندما أعرف ما عند الناس من فساد، وأعرف حاجة الناس إلى ما عندي، وترددت بين أمرين: إما أن أسكت ولا أعمل شيئاً ورعاً، وإما أن أجتهد وأبذل السبب وأعمل ولو وقعت في خطأ ووقفت بين يدي الله عز وجل أقول له: يا ربي {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] فقد أتيت بما في وسعي واجتهدت، والله عز وجل يغفر للإنسان: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران).
وهذي ليست قضية خاصة بالحاكم، فكل إنسان اجتهد في ميدان بذل وسعه وخطا خطوة وكانت خطوة غير صائبة فهو مثاب على ذلك، وإن أصاب فله أجران! الأنبياء هم أئمة الورع وهم الذين قص الله عز وجل قصصهم في القرآن، هل تورع واحد منهم في يوم من الأيام عن النصح، وأخبرنا الله تبارك وتعالى في كتابه أنه أخذ الميثاق على الذين آتاهم الكتاب: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران:187] وأنتم كلكم أوتيتم الكتاب، فأنتم تقرءون القرآن، وعدد منكم يحفظ القرآن أو يحفظ أجزاء من القرآن، أو على الأقل القضية الذي نريد القيام قد أوتيها من الكتاب، فهو يعلمها ويعلم حكمها، إذاً فقد أُخذ عليك الميثاق أن تبين للناس، وأن لا تكتم ما عندك، فلا مجال للورع في هذا الأمر.
أفلا تشعر أنه قد أُخذ عليك ميثاق غليظ؟ ألا تشعر أن من الورع أن تتورع عن كتم هذا الأمر، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كتم علماً أوتيه أُلجم يوم القيامة لجاماً من نار)؟ أم تتصور أن هذا الخطاب خاص بالعلماء؟ لماذا أنت تتورع أن تقول ما لا تعلم، أو تخشى أن تكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (كنت آمركم بالخير ولا آتيه) لكن لم تفكر في يوم من الأيام أنه يمكن أن ينطبق عليك: (أُلجم يوم القيامة لجاماً من نار)، والله عز وجل يقول في كتابه {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
وهذه الآية ليست خطاباً لفئة خاصة من الناس، بل كل إنسان يعلم شيئاً أنزله الله عز وجل للناس ثم كتمه مستحق لهذا الوعيد، فلماذا لا تتورع عن أن تنزل عليك لعنة الله، وأن يلعنك اللاعنون؟ فالذي يتصور أن من تمام الورع أن لا يقول كلمة، من تمام الورع أن لا يأمر بمعروف، من تمام الورع أن لا ينهى عن المنكر، من تمام الورع أن يغلق عليه بابه، وأن يعيش لوحده ويقول: أشغل نفسي بالعبادة والدعوة سيقوم بها غيري نقول له: لا يا أخي! الورع الحقيقي أن تتورع عن السكوت، أن تتورع عن عدم العمل ولا شك أننا لا ندعو الناس إلى أن يتهوروا، ولا ندعو الإنسان أن يقول ما لا يعلم، وأن يتصدى لما لم يتأهل له، لكن على الأقل الورع له ضوابط معينة، وكما يكون في الفعل فهو أيضاً في الترك، فكما أنك تتورع عن فعل شيء يجب أن تتورع عن ترك أمر هو واجب عليك.(61/9)
الانشغال بالأمور المفضولة
من المعوقات الانشغال بالأمور المفضولة: أحياناً يشغل الإنسان نفسه بأمور خيّرة وهي أمور مشروعة، لكنها أمور مفضولة، وقضية التفاضل قضية نسبية بين الناس، وأضرب لكم مثالاً تقيسون عليه: كلكم سمعتم وتسمعون لعدد من العلماء والدعاة والمتحدثين وقرأتم وتقرءون لكثير من المتحدثين وتدينون بالفضل لكثير من هؤلاء، وتعرفون أنكم استفدتم فائدة كبيرة من هؤلاء، أفلا تتصورون أن هذا العالم الذي سمعتم منه أو الكاتب الذي قرأتم له كان يود لو تفرغ للقراءة حتى يستفيد أكثر وهو من أكثر الناس شعوراً بالحاجة للعلم لأن الإنسان كلما ازداد علماً ازداد علماً بحاجته للعلم، وازداد علماً بجهله، فلو كان العالم يفكر هذا التفكير لقال: أنا سأجلس وأتفرغ للتعلم فهذا خير لي.
فنقول: نعم التعلم أمر فاضل، لكن حينما تنشغل بتحصيلك الذاتي عن تعليمك للناس، عن الإفتاء، عن القضاء بين الناس، عن التدريس، عن التأليف فقد انشغلت بمفضول عن فاضل، وهكذا قس على ذلك أموراً كثيرة، فبعض الناس مشتغل بأعمال من أعمال الخير عن هذه القضايا، وعندما تخاطبه يقول لك: أنا منشغل بكذا وكذا! وهذا صحيح لكن -يا أخي- هناك ميادين هي أولى من ذلك! دعني أضرب لك مثالاً افترض شخصاً من الناس تقتدي به الأمة ولو ذهبت إلى أي ميدان من الميادين ستجد اسم هذا الشخص معروفاً وخيره قد عم الجميع، فلو تصورت أنه تفرغ لأن يتتبع أحوال اليتامى وينفق عليهم، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين) فأيهما أولى وأيهما أفضل بالنسبة لهذا الشخص: أن ينفق على الأيتام أم أن يخرج حتى يعلم الناس فيهتدي الكثير بسبب دعوته؟ إنه لو تفرغ للإنفاق على الأيتام عن الدعوة والتعليم لكان قد انشغل بعمل مفضول عن عمل فاضل.
والقضية قضية نسبية، فقد يكون الأفضل لك أن تنفق على الأيتام، والأفضل لفلان أن يفعل كذا، والأفضل لفلان أن يفعل كذا المقصود أننا يجب أن نفقه مراتب الأعمال، والشيطان من وسائله في إضلال الناس أن يُشغل الإنسان بالعمل المفضول عن العمل الفاضل، فلابد أن نفقه مراتب الأعمال، وألا يتصور كل واحد منا أنه مجرد أن يعمل عملاً مفيداً أن هذا كاف بل يجب أن يفكر: هل هذا هو أفضل عمل يمكن أن يعمله أو لا؟(61/10)
عدم الاقتناع بإمكانية التغيير
من المعوقات عدم الاقتناع بإمكانية التغيير: بعض الناس غير مقتنعين بضرورة التغيير، فدع هؤلاء جانباً، لأن الانشغال بهم من إضاعة الوقت، ومن الانشغال بمفضول عن عمل فاضل، لكن قد تكون مشكلتنا مع إنسان مقتنع أن المجتمعات الإسلامية فيها فساد، بل ربما يكون متشبعاً بهذه القناعة حتى صار عنده يأس من التغيير، وصار يشعر أنه لا يمكن التغيير مطلقاً.
نحن طريقنا طيب يا أخي طريقنا طريق الأنبياء، والرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن بني إسرائيل كانت تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي أرسل الله إليهم نبياً، لكن هذه الأمة ليس فيها إلا النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه أن الأمة مؤهلة أن تقوم بدور الدعوة وحمل الرسالة، ولو لم تكن مؤهلة لأرسل الله فيها أنبياء.
فلنأخذ سير الأنبياء، كان يرسل الله نبياً والناس مطبقون على الشرك، وكان يغير الله حالهم به، فهذا النبي صلى الله عليه وسلم بعث وليس في مكة من يقول لا إله إلا الله، وإنما فيها ستة أو أربعة من الحنفاء كانوا يعتزلون الناس، وبقية الناس في شرك مطلق، فكانت البلاد كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله نظر إلى الناس عربهم وعجمهم فمقتهم إلا بقايا من أهل الكتاب) فلما جاء صلى الله عليه وسلم غيّر الله به الأمة.
قد تقول لي: إن هذا نبي ورسول مؤيد من الله، فأقول: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان الإسلام لم يتجاوز الجزيرة، ولما جاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم استلموا الأمر وهم على مصيبة كبيرة حصلت بعد النبي صلى الله عليه وسلم وهي الردة، حيث لم يبق إلا المدينة ومكة والطائف ومن حولها، ولو فكّروا هذا التفكير لقالوا: إن الناس أسلموا واهتدوا فكيف يرجعون مرة ثانية؟ لكن جاهدوا حتى أعادوها إلى الإسلام ولم تنقض خلافة أبي بكر حتى كانت الفتوحات قد بدأت تطرق أبواب فارس والروم.
وبلاد العراق وخراسان ومصر والشام كانت مطبقة على الشرك، ومع ذلك وصل عبد الله بن عمر رضي الله عنه إلى أذربيجان فاتحاً، ودفن أبو أيوب عند أسوار القسطنطينية، وهكذا ولو كان هؤلاء يفكرون هذا التفكير لقالوا: هؤلاء الناس لا يعرفون لغة العرب، وليس فيهم مسلم، ومع ذلك كانوا يشعرون أنهم يمكن أن يغيروا، واستطاعوا أن يغيروا.
يا أخي الأمة مر بها حالات كثيرة، كيف كانت هذه البلاد قبل أن يأتي الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله؟ والله لو كان الشيخ محمد بن عبد الوهاب يفكر بهذه العقلية الذي نفكر بها لما عمل شيئاً.
ويمكن أن أعكس عليك الصورة، فقد كانت مجتمعات المسلمين مجتمعات محافظة وتغيرت نحو الفساد، فما الذي غيرها؟ وأياً كان السبب فكما أنها كانت صالحة وتغيرت نحو الفساد فيمكن أن تكون فاسدة وتتغير نحو الصلاح، والمجتمعات كلها تتغير عندما يكون عندها إرادة فهذه أوروبا اليوم بلاد العلم والتقدم وقد كانت يوماً من الأيام بلاد الظلمات وكان أهلها لا يفقهون شيئاً، بل كانوا في قمة التخلف في كل مجالات الحياة، ثم بدءوا يتعلمون وتغيرت حياتهم.
نحن نعرف أن هذا تغير فيه انحراف، لكن المقصود أن المجتمعات إذا أرادت تستطيع أن تغير ويمكن أن تغير، والله عز وجل أرسل هذه الرسالة الخاتمة، وأرسل هذا الدين وتعبد الناس به لأنهم قادرون أن يغيروا.(61/11)
الانشغال بالنقد
ومن المعوقات الانشغال بالنقد: ولا شك أن النقد ضروري ومطلوب، ونحن لا يجوز أن نسكت الناقدين، ولا نعترض على أي إنسان ناقد، ولا يسوغ أبداً أن نتصور أن حسن النية ونبل القصد وسلامة الأهداف تجعلنا نستعصي على النقد فإنه يمكن أن نخطئ وتوجد أخطاء، لكن أحياناً يتحول النقد إلى صورة أخرى مثبطة عن العمل، وتوجد نماذج كثيرة من الناس تجيد النقد والتفكير بالنقد على حساب العمل، فهو مثلاً يقول لك: رجال الهيئات عندهم كذا وكذا وكذا! الدعاة يقعون في أخطاء، ويفعلون كذا وكذا! والشباب فيهم كذا وكذا، وهناك أناس يفعلون كذا وكذا ويبدأ يعطيك قائمة طويلة من هذه الأخطاء، وعندما تقول له: لماذا لا تعمل في أي ميدان من الميادين؟ يعدد هذه الأخطاء، فنقول له: هذا الكلام صحيح لكن لماذا لا تعمل أنت؟ ولماذا لا ترينا العمل السليم من هذه الأخطاء، ونحن نتمنى أن نجد عملاً سليماً من الأخطاء.
هذا النوع من النقد أحياناً تشعر أن صاحبه جاد، وفيه خير، وربما يعطيك أشياء صحيحة وواقعة، لكن أحياناً يكون هذا النقد حيلة نفسية، حيث يكون الإنسان مثلاً متخوفاً من العمل لأي سبب، أو لا يريد أن يعمل، أو لا يستطيع أن يعمل، فيشعر بالفشل، ويتصور أن الذين يعملون في حلقات تحفيظ القرآن مثلاً أناس ناجحون فيلجأ إلى النقد هروباً من الواقع.
وأسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الدعاة لدينه، والعاملين للدعوة، وأن يوفقنا وإياكم لطاعته إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(61/12)
الأسئلة(61/13)
التوفيق بين الانشغال بالنفس والدعوة إلى الله
السؤال
أحب العمل لله تبارك وتعالى، ولكن يغلب علي الانشغال بالاهتمام بنفسي، فكيف أوفّق بين العمل للناس ودعوتهم والاهتمام بنفسي ورفع مستواي من طلب العلم وغيره؟
الجواب
هذا السؤال يرد كثيراً، ولكن لماذا نفترض أن هناك مشكلة؟ ونفترض أن الاهتمام بالنفس وتعلم العلم يعني أن لا أدعو، وأن الدعوة تعني ألا أتعلم ولا أهتم بنفسي، مع أني أستطيع أن أعمل الأمرين كليهما.
يعني دعني مثلاً أضرب لك مثالاً: كل واحد منا لا بد أن يعيش في مجتمع شاء أم أبى، سواء في ذلك الطالب، والمدرس، والموظف، والتاجر وغيرهم، ولابد أن يتعامل مع المجتمع، وهذه قضية لا ينفك عنها أحد، فهل فكرت أن تترك الدراسة حتى تتفرغ للعلم، أو فكرت أن تترك الوظيفة حتى تتفرغ للعلم، أو فكّرت أن تترك التجارة، أو تترك أي عمل.
نحن نريد منك أن تسيطر عليك الدعوة وأنت في ميدانك في دراستك، في تدريسك، في عملك، في اختلاطك مع الناس أن تقوم بالدعوة فتقول كلمة هنا وكلمة هناك وتنصح فلاناً، والإنسان الداعية يشعر أن الدعوة قضية لا تفارقه في كل ميدان من الميادين، هذه أول قضية.
قضية ثانية: هناك قدر مطلوب من الاهتمام بتربية النفس وتعلم العلم، لكن إلى متى؟ أعني هل تتصور أنه سيأتيك وقت تشعر أنك انتهيت؟ لا يمكن، فكلما تعلمت تشعر أنك بحاجة إلى مزيد من العلم والتعلم، أنا مثلاً عندما أتيت وقلت لك هذه الكلمة ووجهت أنت السؤال، أنا أجزم أني لو جلست في البيت أقرأ أو أتعلم سأستفيد، وأجزم أن مجيئي كان على حساب نوع الاهتمام بنفسي في أي جانب من الجوانب، لكن لما قارنت اقتنعت أنه ينبغي أن آتي، ولو فكّر الناس هذا التفكير لما عمل أحد ولا دعا، وكل إنسان سيقف.
وليس هذا دعوة إلى إهمال النفس، لكن عندنا أوقات كثيرة، فأنت الآن في إجازة وعندك أوقات كثيرة تستطيع أن تقرأ فيها وتتعلم وتحضر دروس أهل العلم، وتستطيع أن تنشغل ببرامج دعوية، وتجمع بين كل هذه الأمور، والوقت في سعة إذا نظم الإنسان وقته وصار جاداً.
ونحن الآن نجد ونرى من الناس من يحفظ القرآن وهو يدعو إلى الله عز وجل، ومن يتعلم العلم ويصل إلى مراتب عالية وهو قد قطع خطوات وله أدوار كبيرة.(61/14)
الخوف من إنكار المنكر
السؤال
عندما أذهب إلى المسجد أرى بعض الشباب يقفون على الرصيف ولا يصلون وأنا لا أستطيع الإنكار عليهم باللسان ولكن أدعو لهم بالهداية، فما هو الحل في نظرك؟
الجواب
لماذا لا تستطيع؟ إن أكثر شيء يردون به هو أن يسخروا منك، وهذا لا ضرر فيه، {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38].
{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين:29 - 31].
{إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} [المؤمنون:109 - 110].
فأكثر شيء يمكن أن يحصل لك هو السخرية، أما الدعاء لهم بالهداية، فهل تتصور أنك مجاب الدعوة، إذا كنت غير قادر على الإنكار عليهم باللسان، فكيف تتصور أنك بلغت القمة في الإيمان والصلاح والتقوى حتى صرت مجاب الدعوة وشعرت أن ذلك يكفي الأمة إذاً فادع للأمة حتى تحل مشكلاتها، ولا أظن أن هذا يسقط عنك الواجب أبداً.(61/15)
الخطوات العملية لعلاج غض البصر
السؤال
الأخ يشكو من غض البصر ويقول: أنه كثيراً ما يُطلق النظر إلى الحرام ويُبتلى بذلك، فما هي الخطوات العملية لغض البصر؟
الجواب
لماذا تعقد المشكلة، وهل تتصور أن هناك وصفة طبية تنجيك؟ يا أخي أمر حرّمه الله عز وجل وحذّرنا منه ومن آثاره ونتائجه فتخلص أنت منه، وجاهد نفسك، فالقضية تحتاج إلى جهاد كل هذه القضايا تحتاج إلى مجاهدة للنفس، وهذه هي الخطوات العملية: مجاهدة النفس وصبر وتحمل، ولجوء إلى الله بالدعاء.
نحن أحياناً نعقد القضية أو نوهم أنفسنا أنه توجد خطوات معينة تساعدنا على حل المشكلة، بعض القضايا أشار إليها النبي صلى الله عليه وسلم، مثل أن يبتعد الإنسان عن المواطن التي تكون مدعاة لإطلاق البصر، فلا يذهب للأسواق مثلاً، لا يذهب إلى مكان فيه مجال للتبرج والإثارة، يسعى قدر الإمكان إلى أن يبتعد عن المواطن التي يمكن أن يُطلق فيها البصر، وحينها يستعين بالله عز وجل ويتوكل على الله عز وجل ويسأل الله ويدعوه ويتوجه إليه.
فإذا ابتعدت عن مواطن السوء التي هي مجال للنظر المحرم فإنك تكون قد أغلقت الأبواب ولم يبق إلا أبواب يسيرة يسهل أن تجاهد نفسك وأن تتخلص منها.
أيضاً: أنا أتصور أن جزءاً من منشأ المشكلة هو نسبة التفكير، وأن قضية الشهوات مسيطرة علينا، لكن لو أن الإنسان شُغل بهموم، أو شغل بعبادة الله، وبطاعة الله وإصلاح نفسه، وتعلم العلم الشرعي والدعوة إلى الله لما وجد وقتاً للانشغال بكل هذه القضايا، وشعر أنه مشغول بهم أكبر من كل هذا الهم، ولم يجد في ذهنه مجالاً للتفكير بهذه الأمور.(61/16)
كيفية التمييز بين الفاضل والمفضول من الأعمال
السؤال
كيف نميّز بين الفاضل والمفضول من الأعمال في مجال الدعوة؟
الجواب
هناك أعمال معروفة في الشرع أن بعضها أفضل من بعض، ثم إن هناك اعتبارات أخرى للتفاضل، فقد يكون هذا العمل أفضل باعتبار المكان، أو باعتبار الزمان، فالأفضل تعليم العلم في زمن الجهل مثلاً، وفي وقت تسلط الأعداء فالأفضل الجهاد، وقد يكون الفضل باعتبار الشخص نفسه، فيكون هذا الشخص أفضل لهذا العمل، والآخر أفضل لهذا العمل ومن علم القواعد الشرعية، والأدلة الشرعية ورزقه الله البصيرة في هذا استطاع أن يميز بين المفضول والفاضل، مع ملاحظة قضية الاختلاف بالنسبة للأشخاص، والاختلاف بالنسبة للزمان، والاختلاف بالنسبة للمكان.(61/17)
تجديد الوسائل الدعوية
السؤال
مجالات الدعوة المقدمة غير الفرص المتاحة الآن حلقات القرآن، والمراكز الصيفية والمكتبات، أم هي محصورة في هذه المجالات فقط؟
الجواب
لا هو أحياناً من المشكلات التي تسيطر علينا أنا نحصر أنفسنا بأنماط معينة من التفكير، ونتصور أنه لا يمكن أداء هذه الأعمال إلا من خلال هذا الأسلوب فقط، وأن غيره لا يمكن أبداً، مع أننا لو فكّرنا لوجدنا مجالات وميادين كثيرة، ووجود ميدان من الميادين نجح وظهر أكثره لا يعني أنه ليس إلا هذا الميدان.
مثلاً تجد الآن ميادين دعوية اكتشفت واتجه إليها الناس، ولو كنا نفكّر بهذه العقلية ما وصلتنا هذه الميادين، فدعنا نستمر ونفكر بهذا التفكير حتى نجد ميادين ووسائل أخرى تخدم الدعوة، هذا جانب.
الجانب الثاني: نحن الآن نملك طاقات كثيرة من الشباب، وطاقات من طلاب العلم، والبعض مثلاً لا يصلح له هذا الميدان، ويصلح لغيره، أعني أن بعض الناس لا يستطيع أن يتفرغ كل يوم لأجل أن يدرس في حلقة قرآن، والبعض لا يستطيع أن يتفرغ للعمل هنا، والبعض ليس عنده علم شرعي فلا يستطيع أن يلقي دروساً فعندنا طاقات كثيرة ومتفاوتة، ولهذا نحن أحوج ما نكون إلى أن نفتح ميادين وفرصاً حتى نشغل هذه الطاقات.
جانب آخر أيضاً: أن الناس المدعوين طبقات وفئات مختلفة، فهم أيضاً بحاجة إلى أن ننوع؛ لأنه كلما نوعنا المجالات والميادين استطعنا أن نخاطب ونتعامل مع فئات أوسع.
أيضاً: أحياناً نحن نخسر بعض الميادين لسبب أو لآخر، فعندما نحصر أنفسنا في الميادين الأخرى قد نصل إلى مرحلة الإفلاس، لكن أطلقوا أفكاركم لا تضعوا أية حواجز أبداً، فقد تأتون بأفكار جديدة تخدم الدعوة، يمكن أن يأتي واحد بفكرة والثاني كذلك والثالث والرابع، وقد آتي بفكرة فتطورها أنت، وهكذا حتى نحقق نجاحاً أكبر.(61/18)
عد التثبيط من العوائق عن العمل
السؤال
هل يجوز عد طبقة المثبطين في أوساط الشباب من العوائق في العمل؟
الجواب
أنا أتصور أن هذه لا تعوق، أعني أن الذي عنده استعداد وهو جاد ليس عنده مشكلة، وأنا أضرب لكم مثالاً لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يذهب والمسلمون إلى غزوة تبوك كان بعض المنافقين يقول: {لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، وبعضهم يقول: {ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] وهكذا، ولكن هذا التثبيط ما صدهم.
وهكذا في غزوة الأحزاب.
وعلى العموم فإن التثبيط موجود، وهو يصد الناس الضعاف، كمن عنده بذرة من الفشل وليس عنده إرادة.(61/19)