وسطية الأمة وشهادتها على الناس لباس لا يقتصر على النخبة
لقد أخبر الله عز وجل أن هذه الأمة أمة وسط فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143]، أليس هذا للأمة أجمع؟! أليست الأمة كلها موصوفة بأنها شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة؟! إذاً: فلماذا نتأخر؟ ولماذا نتقهقر؟ ولماذا نختزل كل هذه النصوص ونحصرها في زاوية ضيقة لنقول بعد ذلك: إنها تعني النخبة، وإنها تعني فئة خاصة من الناس، أما نحن فدورنا كدور الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاء ونداء، دورنا أن نسير وراء القطيع، أما هذه النصوص، وأما هذه المهمة، وإبلاغ هذا الدين، وحماية مجتمعات المسلمين، والقيام بأمر الله عز وجل؛ فهي مهمة النخبة؟! لست أدري كيف وصل الحال بهذه الأمة إلى هذا الفهم؟! وكيف تلقي عن نفسها هذا اللباس، وهذا العز، وهذا التكريم والتشريف، حيث كرمها الله سبحانه وتعالى بأن تحمل الرسالة، وبأن تحمل الدين؟! وأي قيمة أشرف وأعلى من دين الله سبحانه وتعالى؟! إذاً: فمن منطلق عموم النصوص في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ندرك أن الجميع مخاطبون بحمل الأمانة، وأن الجميع ما داموا ضمن إطار هذه الأمة، وما داموا منا، فواجب عليهم جميعاً أن يكونوا شركاء في الأمانة.(23/5)
مواقف عظيمة من الشعور بالمسئولية(23/6)
موقف الربيين أتباع الأنبياء
إننا حين نقف مع قصص أنبياء الله صلوات الله وسلامه عليهم نلمس هذا الأمر واضحاً جليا، يقول سبحانه وتعالى مخاطباً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم داعياً لهم إلى التأسي بأولئك السلف الذين سبقوهم: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147].
لقد كان هؤلاء الربيون يشعرون أن الأمانة لا تخص هذا النبي وحده، بل لابد أن يقوموا معه، ولابد أن يقاتلوا معه ويتحملوا، {فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147].(23/7)
موقف مؤمن آل فرعون وصاحب أصحاب القرية
ويسمع رجل من آحاد الناس مؤامرة تحاك في الظلام لأحد أنبياء الله عز وجل، وهو موسى عليه السلام، فيسمع أن الملأ يأتمرون به ليقتلوه، فيشعر أن من واجبه أن يؤدي دوره، ومن واجبه أن يساهم في كشف هذه المؤامرة لموسى عليه السلام، قال تعالى: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} [القصص:20].
ورجل آخر يسمع بأنبياء الله عز وجل وقد واجهوا ما واجهوا، فيتحمل النصب والتعب واللأواء، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:13 - 14].
ثم جاء هذا الرجل كما يقول الله عز وجل عنه: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس:20 - 25].
لقد شعر هذا الرجل أن القضية ليست قضية الأنبياء وحدهم، فحين يكذبون وحين لا يسمع لهم أقوامهم لا يرى أن عليه أن يسترجع، وأن يحوقل، وأن يندب ويبكي على هذا الدين وهذه العقيدة كيف تضيع ويأفل نجمها فحسب، بل يشعر أن عليه أن يقوم بدوره، فيأتي من أقصى المدينة، ويأتي يسعى ويمشي.
قال ابن هبيرة: تأملت حال هذا الرجل، فرأيته قد جاء من أقصى المدينة، ورأيته قد جاء يسعى على قدميه، ليأتي وهو لا يقول إلا كلمة واحدة، يقول: إن ما يدعوكم إليه هؤلاء حق وصدق، فاتبعوا المرسلين، فالقضية هم يسيطر عليه، فكانت عاقبته أن يعتدي عليه أولئك لأنه خاطبهم بهذا الخطاب، أو لأنه -بمنطق أولئك المتجبرين المتكبرين- تدخل فيما لا يعنيه، فيقتل ويدخل الجنة، وحين قتل ودخل الجنة كان هم قومه يختلج في صدره، {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27].
إنه يتمنى أن يعلم قومه منزلته؛ حتى يؤمنوا ويلحقوا به بعد ذلك كله، وأنى لمثل هذه الحقائق المستقرة في قلب هذا الرجل أن يقتلعها الطغيان، وأن يقتلعها الإيذاء، وأن يقتلعها حتى القتل؟! فبعد أن أراقوا دمه لم يزل يختلج في صدره هذا الهم، ولم يزل يبكي على حال قومه، ويتمنى أن يعلموا ما صار إليه؛ علهم أن يلحقوا به، وأن يغفر الله لهم.
ونعود مرة أخرى إلى موسى، فحين جاء موسى، وواجه قومه بدعوتهم، قام رجل مؤمن، {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر:28].
ويعيش في جدل مع قومه وهو يكتم إيمانه، حتى إذا رأى أن الأمر لم يعد فيه مجال للمداراة مع هؤلاء؛ أظهر ما هو عليه فقال: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ * يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر:38 - 39].(23/8)
موقف الصديق الأكبر رضي الله عنه
ولقد تمثل بنصيحة هذا المؤمن أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه حين كان يدفع أذى المشركين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولذا بلغ علي بن أبي طالب أن بعض الجهلة يفضلونه على أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فكان يقول: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟! ثم يذكر قصة أبي بكر الصديق رضي الله عنه مع نبي الله صلى الله عليه وسلم حين جاء عقبة بن أبي معيط وخنقه بردائه، فجاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه يدفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟! فكان علي رضي الله عنه ييقول: بالله ربكم: أهو خير أم مؤمن آل فرعون؟! فيسكتون، فيقول: والله! هو خير من مؤمن آل فرعون، هو يعلن إيمانه، وذاك رجل يكتم إيمانه.(23/9)
أنموذج التخلي عن تحمل المسئولية
ومع موسى مرة أخرى، فقد وعد الله عز وجل قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة، فيذكرهم موسى بوعد الله، ويعدهم بأن يتحقق لهم النصر بشرط أن يدخلوا الباب، {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} [المائدة:23]، فيمتنع القوم، ويستكبرون عن الدخول، وحين لم تجد هذه المحاولات مع أولئك الجبناء، ومع أولئك الذين قالوا لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، قال موسى: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25].
نعم، حين يتخلى الناس عن الأمانة، وحين يتخلى الناس عن القيام بهذا الدور، ماذا يصنع موسى؟ لقد شكا إلى ربه فقال: ((إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي)).
أما هؤلاء فقد شعروا أن القضية لا تعنيهم، وإنما تعني موسى وربه، فقالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24]، وقالوا: {إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} [المائدة:22].(23/10)
للانتماء ضريبة يجب أداؤها
المسلمون جميعاً يشعرون أنهم ينتمون لهذا الدين، ويتشرفون بالانتساب إلى هذا الدين، ولو سألت أحدهم في مقام الإنكار عليه والجدل والخصومة، فقلت له: ألست بمسلم؟ لاستنكر منك هذا السؤال قائلاً: ومن يناقش في انتمائي لهذا الدين؟! لكن مَنْ مِنَ المسلمين يسأل نفسه السؤال بجد وصدق: وماذا يعني انتمائي لهذا الدين؟! وماذا يعني انتمائي لهذه الأمة؟! أليس يفرض علي الولاء لهذا الدين القيام بنصرة هذا الدين والذب عن حياضه والدعوة إليه، وإلا فما معنى أن أنتمي لهذا الدين؟! إن الناس يشعرون بأن للانتماء ضريبة، أرأيتم أصحاب الطوائف الضالة المنحرفة، أليسوا يشعرون أن عليهم بانتمائهم لهذه الطائفة أو تلك ثمناً لابد أن يدفعوه، ومن ثم يتعصبون لطائفتهم، ويدعون إلى معتقدهم، ويسعون إلى نشره بكل غال ورخيص، ويذبون عنه، ويدافعون عنه؟! أرأيتم أولئك الذين سيطرت عليهم اللغة الوطنية، فصار الواحد منهم لا يشعر بالانتماء إلا للتراب والوطن، أليس يشعر أن عليه أن يعمق ولاءه وانتماءه لوطنه، وأن يذب عنه بالحق والباطل، وأن يتعصب له؟! إذاً: ما بالنا -معشر الإخوة والأخوات- وقد شرفنا الله بأعظم انتماء -أن ننتمي لهذا الدين- ما بالنا لا ندرك ما يفرضه علينا انتماؤنا لهذا الدين؟ وماذا يعني كوننا مسلمين مؤمنين؟(23/11)
عموم العقوبة بالمخالفة يوجب عموم حمل الأمانة
لقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن الناس حين يعرضون عن شرع الله عز وجل، وحين يرتكبون ما يخالف أمره سبحانه وتعالى، يعمهم الله عز وجل بالعقوبة، فقال تعالى: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25]، وقال تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف:55]، وقال تعالى: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} [الأعراف:100].
فمن سنة الله عز وجل أن يعاقب الناس، وأن يهلكهم، وأن تعمهم العقوبة حين يتنكبون شرع الله عز وجل، فهذه العقوبة من يعاقب بها؟ أهي عقوبة للنخبة؟! أهي عقوبة لفئة خاصة من الناس؟! أم هي عقوبة للمجتمع كله قد تأتي عليه وتبيد الأخضر واليابس، وتهلك الصغير والكبير؟ نعم، إنها عقوبة للجميع.
إذاً: فلنعي -أيها الإخوة- جميعاً أن مجتمعات المسلمين حين تعرض عن شرع الله عز وجل، وحين يظهر فيها الخلل، ويعلوا فيها الفساد، تكون مهددة بعقاب من الله سبحانه وتعالى، ووعيد من الله عز وجل، هذا العقاب يعم الجميع، يعم الصغير والكبير، ويعم العالم ومن دونه.
إذاً: إذا كانت العقوبة تعم الجميع، وإذا كانت العقوبة مهدداً بها الجميع، فالدور -إذاً- منوط بالجميع، والمسئولية والأمانة يجب أن يحملها الجميع سعياً في دفع عقوبة الله سبحانه وتعالى وغضب الله حين يعمل في الناس بالمعاصي وهم يقدرون على أن يغيروا ثم لا يغيروا.(23/12)
حمل الأمانة نجاة من غرق عام
يضرب صلى الله عليه وسلم مثلاً بليغاً للناس في مجتمعاتهم فيقول: (مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً فلم نؤذ من فوقنا.
فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً).
فنحن جميعاً راكبون في هذه السفينة، ونحن جميعاً مطلوب منا أن نأخذ على أيدي أولئك الذين يريدون الفساد، ويريدون الفتنة، ويريدون الغرق، وإن الفتنة كل الفتنة هي الصد عن سبيل الله عز وجل، وإن الفتنة كل الفتنة تجهيل الناس بدينهم، وتجهيل الناس بأمر الله عز وجل.
إذاً: أيسوغ لواحد منا وهو يشعر أنه يركب هذه السفينة، وهو يشعر أن الخطر يعم الجميع، أيسوغ له أن يتخلى عن حمل الأمانة؟! فالجميع ما داموا راكبين في هذه السفينة يجب عليهم أن يحملوا الأمانة.(23/13)
صور ونتائج للتنصل من القيام بواجب الأمانة
يعرض الله عز وجل علينا في كتابه الكريم صوراً من أولئك الذين تخلوا عن حمل الأمانة، ورأوا أنها موكولة إلى فئة خاصة، فعاقبهم الله سبحانه وتعالى، وهم بنو إسرائيل، وقد ذكرنا موقفهم مع موسى حين ظنوا أن القضية إنما تعني موسى وهارون، فحين سلكوا هذا السبيل عاقبهم الله سبحانه وتعالى، فتاهوا في الأرض أربعين سنة، فحين تخلوا عن الأمانة، وعن تحرير الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم -وهي أمانة لا تخص موسى وهارون عليهما السلام، إنما هي أمانة في أعناقهم جميعاً- حين تخلوا عنها عاقبهم الله سبحانه وتعالى بأن تاهوا في الأرض أربعين سنة.
وكذلك أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ} [الأعراف:163 - 164] وكانت النهاية ما أخبر تعالى به في قوله: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف:165].
ويخبر الله سبحانه وتعالى أن بني إسرائيل قد حقت عليهم لعنة الله، فيقول تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ} [المائدة:78 - 79].
معشر الإخوة الكرام! تلك نماذج تساق في مساق الذم، وفي مساق القدوة السيئة التي يراد لهذه الأمة أن تتجنبها، وألا تسير على طريقها، تساق تحذيراً لهذه الأمة، فما بالنا نقول بلسان حالنا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} [الأعراف:164]؟! ولماذا نفترض أن القضية تعني فلاناً وغيره، وإن لم يكونا على اسم موسى وهارون، فالمنطق هو المنطق، والسبيل هو السبيل، إنه سبيل أولئك الجبناء الذين كتب الله لهم الأرض المقدسة فاختاروا التيه والضلال، فتاهوا أربعين سنة عقوبة لهم على تخليهم عن حمل هذه الأمانة.(23/14)
تفريط السابقين عظة لجيلنا
ماذا نقول عن الأجيال السابقة؟ إننا جميعاً نتفق على ذم ذاك الجيل الذي كان على يديه إضاعة بلاد الأندلس بوابة المسلمين إلى أوروبا، ولا يزال الصغار والكبار يقرءون في التاريخ ذم أولئك الذين خانوا المسلمين وخانوا الأمة كلها، فتحولت تلك البلاد.
حيث المساجد قد صارت كنائس ما فيهن إلا نواقيس وصلبان حتى المحاريب تبكي وهي جامدة حتى المنابر ترثي وهي عيدان فماذا نقول نحن عن أولئك الذين ضاعت على أيديهم تلك البلاد التي وطئتها أقدام أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! يقول ابن عمر رضي الله عنهما: أرتج علينا الثلج ونحن بأذربيجان.
لقد جاب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تلك البقاع التي نسمع عن مؤامرة بها تحاك ضد إخواننا المسلمين هناك.
فماذا نقول عن الذين أضاعوا ذلك المجد؟! وماذا نقول عن أولئك الذين ساهموا بقصد أو بغير قصد في حياكة ونسج أكفان الخلافة الإسلامية حتى تفرقت الأمة الإسلامية شذر مذر، وتفرقت إلى شيع وأحزاب يلعن بعضها بعضا، ويقتل بعضها بعضا؟! ماذا نقول عن أولئك؟! وماذا نقول عن أولئك الذين أضاعوا أولى القبلتين وثالث الثلاثة المساجد التي لا تشد الرحال إلا إليها؟! إذاً: ما دمنا ننعى على من كانوا وراءنا، وما دمنا نرى أنهم يتحملون تلك المسئولية، فيا ترى! ماذا سيقول الجيل الذي يلينا عنا؟! ألا يحق له أن يتحدث عنا باللغة نفسها؟! ألا يحق له أن يصفنا بما نصف به نحن أولئك؟! وما الذي يميزنا عن غيرنا؟!(23/15)
رحابة ميدان نفع الأمة
إننا نرى أن ثمة مجالات عدة في حياة المسلمين يمكن أن تسهم في خدمة الأمة، ويمكن أن تسهم في نصر هذا الدين والذب عنه، فالأمة تحتاج لكل الوظائف والتخصصات والأدوار، وما من أحد يجيد فناً من فنون الدنيا، أو علماً من علومها، أو ينبغ في ميدان من ميادينها إلا ويرى أن ساحة الأمة الواسعة الفسيحة سيجد فيها مكاناً رحباً يمكن أن يؤدي من خلاله دورا، ويمكن أن يسهم من خلاله في أداء الأمانة وحملها.
فإذا كان الأمر كذلك فلماذا -إذاً- يخص الأمر نخبة خاصة من الناس؟! فالأمة تحتاج لكل الطاقات، وكل التخصصات، وكل المواهب، والأمراض التي حلت بهذه الأمة هي أوسع وأشمل من أن يحيط بها فئة محدودة من الناس، أو نوع معين من الناس من أصحاب القدرات الخاصة، فإذا كان ذلك كذلك فالأمانة -إذاً- يحملها الجميع.
معشر الإخوة الكرام! أشعر أن عقارب الساعة يدفع بعضها بعضا، وأرى أنني مضطر إلى الوقوف عند هذه النقطة، والاكتفاء بهذه المقدمات الثمان التي توصلنا إلى النتيجة التي نريد أن نصل إليها، وهي التي توصلنا إلى الإجابة عن هذا السؤال الذي طرحناه أول الحديث: (من يحمل الأمانة)؟(23/16)
صور من الأمانة يجب على المسلمين حملها(23/17)
حفظ المجتمع وحمايته من الفساد
ننتقل بعد ذلك للإشارة إلى صور من الأمانة التي يجدر بالأمة أن تحملها، وأن تتواصى الأمة كلها بأن تحملها، وأن تقوم بها وبأدائها، وهي صور على سبيل المثال لا الحصر، فالمقام لا يتسع لأكثر مما نورد، والمقام يدعونا إلى الإشارة، والحر تكفيه الإشارة.
من الأمانات المهمة التي ينبغي أن يتحملها المجتمع كله وأن تتحملها الأمة كلها: المحافظة على المجتمع وحمايته من الفساد.
أسألكم جميعاً معشر الإخوة الكرام، وأوجه سؤالي للأخوات والإخوة جميعاً: أفيكم أحد مرت به ساعة شك فيها، أو أحتاج إلى من يثبت له أن مجتمعات المسلمين مستهدفة؟! أيشك أحدنا أن هذه المجتمعات يراد لها أن تغوص في أوحال الرذيلة والفساد، وأن تتخلى عن دينها؟! كيف نشك في ذلك ونحن نقرأ قول الله سبحانه وتعالى الذي لا يبدل القول لديه -وكتاب الله عز وجل ما فيه إلا صدق وحق، ولا مجال فيه للمناقشة والمراجعة-: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، وقول الله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
فإذا كان هناك يهود ونصارى فلن يرضوا عن هذه الأمة حتى تتبع ملتهم، فارتماء الأمة في أوحال الفساد والرذيلة، وتخليها عن دينها، واختيارها للشعارات الأرضية الباطلة، كل هذا لا يكفي ولا يرضيهم، فلا بد أن يسوقوا الأمة إلى أن تتنصر أو تتهود.
وها نحن نرى صور الفساد وتيارات الهدم والفتن تتوارد على مجتمعات المسلمين، ولستم بحاجة إلى أن أثير أشجانكم بذكر الأمثلة والصور والتناقضات، ويكفي أحدنا دلالة على ذلك أن يخرج إلى شارع من شوارع المسلمين، وإلى سوق من أسواقهم، وإلى مجتمع من مجتمعاتهم؛ ليرى نتاج هذا الغزو، ونتاج هذا التدمير الذي يراد بهذه الأمة.
فهذه المجتمعات المسلمة مستهدفة، ومجتمعاتنا يراد لها أن تتنكب الطريق، إذاً: فمن المسئول عن الحفاظ على المجتمع؟! ومن المسئول عن الدفاع عن المجتمع؟! ومن الذي ينبغي عليه أن يقف في خندق الدفاع عن هذا المجتمع، وعن عقيدته ودينه وخلقه وسلوكه؟! ومن المخاطب بذلك؟! أليس أبناء المجتمع كلهم؟! أليس المسلمون كلهم ينبغي عليهم أن يقفوا صفاً واحداً في الميدان؟! إذاً: فالأمانة الأولى -معشر الإخوة الكرام- أمانة نتحملها جميعاً، وهي أن نقف جميعاً في خندق الحماية والذب والدفاع عن حرمات هذا المجتمع، وعن دينه، وعن عقائده، وعن خلقه، وأن نقف في وجه هذه الحملة الغاشمة الظالمة التي تسعى لاقتلاع مجتمعات المسلمين، ولو أن المسلمين جميعاً أدركوا الأمانة والدور والمسئولية لما استطاع أولئك أن يصنعوا شيئاً، ولارتدت سهام أولئك في وجوههم، ولارتدت إلى نحورهم.(23/18)
نشر العلم والدين
ثانياً: نشر العلم والدين وتعليمه مسئولية الجميع: فمسئوليتنا جميعاً أن نساهم في نشر هذا العلم، ولئن كان هذا الأمر يخص أهل العلم بصفة أخص، فنحن جميعاً لا نعفى من المسئولية، فبعضنا لا يملك علماً ولكنه يملك المال الذي يستطيع من خلاله أن يطبع، ويستطيع من خلاله أن يوظف من يعمل على نشر هذا العلم.
فنحن نملك الخدمات التي يمكن أن نقدمها لتسهيل مهمة أولئك الذين ينشرون العلم، ويقدمونه للناس جميعاً، ونحن بحاجة إلى أن نعلم الناس أحكام دينهم، وأن نعلم الناس معتقداتهم، وأن نعلم الناس أن يعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى واحد لا شريك له عز وجل ولا رب سواه، وأن يعتقدوا أن الله سبحانه وتعالى متصف بالأسماء الحسنى والصفات العلى، وأن يعتقدوا أن أنبياء الله عز وجل ورسله صلوات الله وسلامه عليهم هم أفضل الناس وخير الناس وأبر الناس، وأن يعتقدوا أن أبر الناس وأطهر الناس بعد رسل الله هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، أبر هذه الأمة قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، قوماً اختارهم الله لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وأن نعلم الناس أحكام العبادة، وأحكام الطهارة والصلاة، وأن نعلم الناس ما يحل وما يحرم عليهم في معاملاتهم، وفي بيعهم وشرائهم، وفي حديثهم ومنطقهم، وفي أخلاقهم وسلوكهم، وأن نعلم الناس دين الله عز وجل، وهو دور يمكن أن يقوم به الجميع، وأن يساهم به الجميع، من خلال نشر العلم، ومن خلال عقد حلق العلم ودروسه ومجالسه وإحلالها، ومن خلال المساهمة بالمال، والمساهمة بالرأي، والمساهمة بالتشجيع والتأييد.
إنني أجزم -مشعر الإخوة الكرام- بأننا كلنا جميعاً نستطيع أن نساهم بأداء هذا الدور، نعم نستطيع أن نساهم في نشر هذا العلم، وتعليم الناس دين الله سبحانه وتعالى، في وقت يراد للأمة فيه أن تجهل دينها، ويراد للأمة فيه أن يتحول الدين إلى قضايا هامشية، وإلى قشور كما يدعي أولئك أخزاهم الله عز وجل.(23/19)
بيان الحق والدين
الأمانة الثالثة: بيان الحق والدين: إن من حق الأمة أن تسمع كلمة الحق واضحة، وإن من حق الأمة أن تعلم دينها؛ فلقد أخذ الله الميثاق على الذين أوتوا العلم {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187]، وعاب الله عز وجل على أولئك الذين لم يفوا بهذا الميثاق، فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
لقد عاب الله عز وجل على أولئك الذين يكتمون ما أنزل الله فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا} [البقرة:159 - 160]، فلا تقبل توبتهم إلا إذا بينوا، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ} [آل عمران:77].
إذاً: مع هذا الوعيد الشديد -معشر الإخوة الكرام- على كتمان ما أنزل الله عز وجل، ومع هذا الذم لأولئك الذين أخذ عليهم الميثاق أن يبينوا للناس دين الله ولا يكتمونه، مع ذلك كله لا يبقى لأحد من هذه الأمة عذر في أن يعلم أمراً مما أنزله الله عز وجل فيكتمه.
فلماذا أنزل الله عز وجل هذا الدين؟! ولماذا أنزل الله سبحانه وتعالى هذه النصوص التي تأمر الناس بالخضوع لله عز وجل وحده دون سواه؟! أليس من حق الناس أن يعلموا ما أنزل الله إليهم؟! لماذا أنزل الله عز وجل هذه النصوص التي تأمر بالاحتكام إلى شرع الله سبحانه وتعالى، ونبذ التحاكم إلى ما سواه؟! أليس من حق الناس أن يعلموا هذا؟! أليس مما أنزل الله عز وجل على المسلمين جميعاً أن يتبرءوا من كل كافر؟! فلماذا لا يعلم الناس ما أنزل الله عز وجل إليهم؟! أليس مما أنزل الله سبحانه وتعالى على الناس ألا يأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة؟! أليس من واجب من آتاه الله علماً أن يبين للناس ما نزل إليهم؟! أليس مما أنزل الله عز وجل على الناس أن تحتشم المرأة، وأن تتحجب، وأن تبتعد عن أعين الرجال؟! أليس من واجب من آتاه الله علماً أن يبين للناس ما نزل إليهم؟! وقل مثل ذلك في كل ما أنزله الله عز وجل.
إذاً: فكل ما أنزله الله سبحانه وتعالى في كتابه، وجاءت به سنة رسوله صلى الله عليه وسلم هو حق يجب أن يعلمه الناس كل الناس، ولولا ذلك لما أنزله الله في آيات تتلى إلى يوم القيامة، وحين نكتم عن الناس هذا الأمر نستحق لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
يقول تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
أيحق بعد ذلك لأحد من هذه الأمة صغيراً كان أو كبيراً أن يكتم أمراً مما أنزله الله؟! وأن يكتم أمراً من دين الله عز وجل؟! فتبليغ دين الله سبحانه وتعالى فرض على الأمة كلها، وإن من حق الأمة كلها أن تسمع لما أنزل الله عز وجل.(23/20)
نقل الدين إلى المجتمعات الضالة
ومن صور الأمانة التي تتحملها الأمة كلها: نقل هذا الدين إلى سائر المجتمعات: فكم يموت من الناس -معشر الإخوة الكرام- في العالم بأسره كل يوم على الشرك والكفر! وكم يموت كل يوم ممن لا يعلمون شيئاً عن دين الله عز وجل! وكم يموت كل يوم من أولئك الذين يعتقدون أن نبيهم هو المرزا غلام أحمد، أو الذين يعتقدون أن معبودهم هو بهاء الله، أو الذين يمرغون جباههم عند قبر الحسين وعند مراقد الأئمة! وكم يموت كل يوم من أولئك الذين يطوفون على قبور من يزعمون أنهم أولياء! وكم من الناس من يموت على النصرانية، أو على البوذية، أو على الإلحاد في العالم بأسره ممن لم يسمع كلمة الحق واضحة، وممن لم يدع إلى دين الله عز وجل! فتبليغ هؤلاء مسئولية من؟! ودعوة هؤلاء واجب من؟! أهي واجب فئة خاصة وطائفة خاصة، أم هي واجب هذه الأمة أجمع؟! وفي هذا العصر عصر الانفجار الهائل لوسائل الاتصال، ونقل المعلومات، والذي أصبح العالم فيه قرية واحدة كما يقال، تخلينا -معشر المسلمين- لتبقى قنوات الفضاء، ووسائل الاتصال، والأجهزة الحديثة حكراً على دعاة الفاحشة والرذيلة، أو على دعاة التنصير أو التضليل والدعاية، أما أهل المنهج الحق الذين حملهم الله عز وجل تبليغ هذا الدين للأمة كلها فقد غفلوا عن قول قائلهم وقد وقف بفرسه على المحيط: والله! لو أعلم أن خلف هذا البحر قوماً لخضته إليهم؛ لأدعوهم إلى دين الله عز وجل.
فمسئولية من -معشر الإخوة الكرام- وأمانة من دعوة هذا العالم بأسره إلى دين الله سبحانه وتعالى؟! أليست مسئولية المسلمين أجمعين؟! أليست أمانة في أعناق المسلمين أجمعين صغيرهم وكبيرهم؟!(23/21)
عوائق في طريق القيام بأمر الله تعالى(23/22)
اعتقاد اختصاص العلماء بالدعوة والبلاغ
بعد أن تحدثنا عن الإجابة على السؤال الأول (من يحمل الأمانة؟) ثم ذكرنا صوراً من الأمانة التي يجب على المسلمين أن يساهموا في حملها، نطوف سريعاً حول بعض المفاهيم الخاطئة، والعوائق التي تعيق الناس عن القيام بأمر الله سبحانه وتعالى: فمن ذلك اتكاؤهم على أهل العلم وحدهم، فما إن تثار قضية من القضايا حتى يقول الناس: إن هذه مسئولية العلماء، فأين العلماء، وأين الدعاة؟ وإني أسألكم الآن وقد ملأتم هذا المسجد: هذا الحضور كم فيه من متخرج من كليات شرعية ودراسات شرعية؟! وكم فيه ممن يدرك مسئولية الدعوة؟! وكم فيه من أستاذ ومن موظف ومن مسئول؟! لو قام هؤلاء الذين حضروا معنا في هذا المسجد، والذين يضيق بهم هذا المكان بدورهم؛ لرأينا أن هذه الرسالة تبلغ إلى كل مدرسة، وتبلغ الأستاذ والطالب، ولرأينا هذه الرسالة تبلغ كل مؤسسة، وكل حي، وكل مكان.
أقول -معشر الإخوة الكرام-: إن إحالة الدور على أهل العلم والدعاة وحدهم ليس إلا صورة من صور التخلي عن الأمانة والمسئولية، أفلا يستطيع أحدنا أن يقول كلمة صادقة يريد بها وجه الله عز وجل؟! أو ينفق مالاً يريد به نصرة دين الله سبحانه وتعالى؟! أو يقف عاضداً ومعيناً لمن يدعو إلى الله سبحانه وتعالى؟! أليس فينا مثل ذاك الذي قال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر:28]؟! أليس فينا مثل ذاك الذي جاء من أقصى المدينة يقول: {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21]؟(23/23)
الاكتفاء بنصرة الله لدينه دون العمل
وهناك مقولة ثانية لا أجد لها شبهاً إلا مقولة عبد المطلب حين جاء أبرهة ليهدم البيت، حيث جاء عبد المطلب إلى أبرهة وقد أخذ أبرهة إبله، فظن أبرهة أن هذا الرجل سيناقشه في قضية البيت، وإذا به يثير قضية الإبل، يثير القضية الخاصة والهم الخاص، فاستغرب أبرهة هذا الموقف، فقال له: كنت أظن أن تحدثني عن البيت! فقال: أنا رب هذه الإبل، وللبيت رب يحميه.
إن هذا المنطق هو المنطق السائد عند كثير من المسلمين الذين لا يهم أحدهم إلا مصالحه الخاصة، وقضاياه الخاصة، أما الدين فهو دين الله عز وجل ينصره الله سبحانه وتعالى، وليس عليه إلا الدعاء إن كان ثمة دعاء، أما العمل والجهد والبذل فليس إلا في مصالحه وحوائجه الخاصة.(23/24)
السلامة في آلام الدعوة إلى الله
قد يشعر المرء بتبعة عظيمة حين يساهم في حمل الأمانة، فمن يعمل لابد أن يقع في الخطأ، ولابد أن يتعرض للخطأ؛ لأنه بشر، ولابد أن يصيبه ما يصيب من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر من الأذى ونحو ذلك، فالمقصود أن هذا طريق له تبعات، وحينها يقول: السلامة لا يعدلها شيء.
فيؤثر السلامة من ذلك كله، ويرى أن عدم دخوله هذا الميدان يريحه من هذه الأعباء، ووالله! ما سلم، بل السلامة في الدخول في هذا الميدان، أويظن أن تنكبه هذا الطريق يعني السلامة؟! ومتى كان التخلي والنكوص عن القيام بالأمانة سلامة؟! نعم قد يسلم الإنسان من التبعة في الدنيا، وقد يسلم من أن يصمه الناس بالخطأ، وقد يسلم من أن يتحمل مضاضة ونتيجة عمل عمله يريد به وجه الله عز وجل، لكنه لن يسلم حين يسأل يوم القيامة: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟! فيقول: يا رب! خشية الناس.(23/25)
دين الله لا يناط بأشخاص
إذاً: معشر الإخوة الكرام! هذا الدين دين الله سبحانه وتعالى، ونحن جميعاً ننتمي لهذه الأمة، وننتمي لهذا الدين، فالأمانة أمانتنا جميعاً، والمسئولية مسئوليتنا جميعاً، فينبغي أن نساهم فيها، وألا نعلق القضية على شخص بعينه، أو فرد محدد، فالأمة لا تتعلق بالأشخاص حتى النبي صلى الله عليه وسلم، فحين ظن الناس يوم أحد أنه مات كان مصعب بن عمير يقرأ قول الله عز وجل: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].
وقال أنس بن النضر رضي الله عنه: وماذا تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا وموتوا على ما مات عليه.
وتلا أبو بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية يوم موت رسول الله وقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
فلئن كانت القضية غير متعلقة بشخص محمد صلى الله عليه وسلم نبي هذه الأمة، الذي يجب على المسلم أن يكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين؛ فما بالكم بغيره؟! إذاً: فلا يسوغ أن تعلق الأمة قضيتها بفرد أو فردين، ولا يسوغ أن تعلق الأمة قضيتها بنخبة من النخب، بل هي قضية الأمة كلها، وأمانة الأمة كلها، وهل تجد الأمة أزكى من موسى وهارون؟! ومع ذلك حين تخلى قومهما عن الأمانة والمسئولية لم يستطع موسى عليه السلام إلا أن يقول: {رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [المائدة:25].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأترك بقية الوقت للإجابة على بعض ما ورد من أسئلة الإخوة.(23/26)
الأسئلة(23/27)
تعدد ميادين الدعوة وفق قدرات الدعاة
السؤال
نرجو من فضيلتكم توجيه كلمة إلى من قد أصيب بفتور وإحباط تجاه حمل هذه الأمانة بمجرد أن حدث له أمر أصاب شخصيته بين فئة من الناس، واعتقد في نفسه أنه لا يصلح لحمل هذه الأمانة؟
الجواب
الأمانة ليست قضية محددة واحدة إما أن يطيقها الإنسان أو لا يطيقها، بل هي مراتب ودرجات.
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع فحين يعجز الإنسان عن القيام بدور وعمل ومهمة؛ فإن هذا لا يعني أنه أصبح امرأً فاشلاً لا يطيق غير ذلك، فأمامه ميادين أخرى وفرص أخرى يمكن أن يؤدي الأمانة والعمل من خلالها، وليس أداء الأمانة والعمل لنصرة هذا الدين حكراً على أسلوب معين، أو طريقة بعينها.(23/28)
توجيه لطالب العلم في الدعوة إلى الله
السؤال
هل من كلمة -حفظكم الله- لطلبة العلم الذين لا يخرجون زكاة علمهم، معللين ذلك بانشغالهم في التحصيل والطلب، وجزيتم خيرا؟
الجواب
لا يمكن أن يصل الإنسان أبداً إلى مرحلة يشعر من خلالها أنه قد أتم التحصيل والطلب، فالإنسان لا يزال يرى أنه بحاجة للمزيد، وكلما ازداد علماً رأى أنه بحاجة إلى أن يزداد أكثر، إذاً: فلن يصل الإنسان إلى تلك المرحلة التي يرضى فيها عن نفسه، والأمة تنحط، ومجتمعات المسلمين تعاني، وحين ندعو جيل الصحوة إلى أن يتفرغ كلياً، وينقطع عن القيام بهذه الأدوار المحمودة، حينها من سيتصدى للناس، فيدعوهم ويأمرهم، ويقضي حوائجهم، وينكر المنكرات، ويعين على نشر الدين والحق؟! لا شك أنك لن تجد أحداً أبداً في هذه الأمة يزعم أو يدعي أو يرى أنه قد اكتفى من العلم، مهما بلغ علمه وعلا شأنه.
والمقصود أن الإنسان يمكن أن يعمل ويجمع بين هذين الأمرين، فيجمع بين التحصيل وتعلم العلم والقيام بهذا الدور، بل إن الإنسان عندما ينعزل كلياً، ويوقف وقته وجهده على مجرد التحصيل، لا يلبث أن يتبلد إحساسه بعد ذلك، ولا يلبث أن يصيبه الخمول والفتور، فتراه يحمل علماً غزيراً، لكنه لا يمكن أن يجد في نفسه الحماس للقيام به، ونشره، ودعوة الناس إليه.(23/29)
بيان ما يمكن للمسلم فعله من دعوة غيره في حال كثرة شواغله
السؤال
قد يشتغل الإنسان بعمله أو دراسته عن أن يكون نشيطاً في مجال الدعوة، وهو يشعر أنه مقصر، ولكنه لا يستطيع الجمع بين عمله أو دراسته، وبين أن يكون نشيطاً في الدعوة، فنرجو من فضيلتكم أن ترشدونا إلى حد أدنى يستطيع الإنسان أن يقوم به مع اختلاف عمله وشواغله؟
الجواب
أولاً: الإنسان يمكنه أن يدعو ويخدم هذا الدين في بيته أولاً، في تربيته لأهله، وإعدادهم، وفي مجال عمله إن كان موظفاً، أو طالباً، أو مدرساً، أياً كان فهو يمكن أن يعمل في مجال عمله وميدان عمله، ولماذا نرى الدعوة ميداناً آخر غير الميدان الذي نحن فيه؟! وبعد ذلك لابد أن تبقى له فضول أوقات، فعليه أن يستثمر جزءاً من فضل وقته مما يفضل عن عمله يقوم فيه بجهد لخدمة دين الله سبحانه وتعالى.
ولو أن كل إنسان قام بالدعوة في ميدان عمله لغطينا المجتمع كله؛ لأن الناس في المجتمع إما أن يكونوا طلاباً، أو موظفين، أو عاملين في قطاعات معينة، فلو أن التاجر -مثلاً- في سوقه قام بالدعوة في ميدانه، وكذلك المدرس، والطالب، والموظف، والمرأة في مدرستها، وفي حيها، وفي أسرتها؛ لبلغت الدعوة الجميع.(23/30)
الموقف المطلوب عند هلاك قادة الأمة
السؤال
هناك أناس قد نافحوا عن الإسلام وتصدروا لهذه الصحوة، ثم أتت عليهم رياح فاقتلعتهم، ثم أصيب بعض المسلمين بإحباط بسبب هذا، فهل فعلهم صحيح؟
الجواب
لا شك أن هذا دليل على مرض في الأمة أشار إليه مالك بن نبي رحمه الله بقوله: إن الأمة تتعلق بالأشخاص.
فالمسلمون دائماً يندبون فيقولون: قم يا صلاح الدين.
ويتمنون أن يرزق الله هذه الأمة قائداً مثل صلاح الدين؛ حتى يعيد لها مجدها، ولكن لم تفكر الأمة يوماً من الأيام أنه يمكن أن يكون بين يديها صلاح الدين، فإذا كان هناك ناس اقتلعتهم الرياح، فماتوا، أو مضوا، أو أصابهم ما أصابهم، فهل الأمة عاجزة عن أن تخرج من يقوم بهذا الدور؟! ما عقمت نساء المسلمين، وما توقف الأمر، ولكن مشكلة الأمة أن تعلق قضيتها بشخص أو بشخصين أو بأشخاص، كما قال صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من قلوب العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا).
لكن حين نقوم، وننشر العلم، ونتعلمه، وندعو إليه، ونسعى إلى تحصيله؛ فإننا لا نلبث حتى نسد هذا الفراغ الذي تركه أولئك.
ألم يكن في الأمة مثل الإمام أحمد ويزيد بن هارون وغيرهم ممن كان لهم دور فماتوا، فأوجدت الأمة بعدهم من قام بالأمانة؟! ألم يكن فيها مثل شيخ الإسلام والعز بن عبد السلام ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم؟! وما تلبث الأمة حتى تخرج لنا في كل عصر ووقت ومصر أفذاذاً من هؤلاء، فلئن مضى أولئك، وتوسدوا الثرى، وطوتهم الأحداث والسنون، فإن الأيام كفيلة بأن يأتي غيرهم، وحين نعلق القضية بأشخاص فأننا لا يمكن أن نصنع شيئاً.(23/31)
توجيه للمرأة في القيام بدورها
السؤال
نريد كلمة للنساء تحثهن فيها على الاهتمام بالأمانة، ولزوم الطاعة؟
الجواب
لا شك أن المرأة تقوم بدور مهم، والمرأة تقف على بوابة خطيرة من بوابات الأمة، وعلى ثغر من ثغور الأمة، فهي أم الأسرة، وهي مربية الأجيال، إن كل فتاة تخرج إلى هذا المجتمع لها أم، وإن كل شاب يخرج إلى هذا المجتمع له أم، فحين تقوم هذه الأم بدورها، وتشعر بمسئوليتها أولاً في بيتها في إعداد هذا الجيل وهذا النشء، وفي إصلاح أبنائها وبناتها وتربيتهم، وفي إصلاح زوجها ودعوته، وإعانته على طريق الخير والحق، ثم في دعوة بني جنسها، ونشر الدين والخير بينهن، فإنها تقوم بدور مهم لا يمكن أن تستغني عنه الأمة.(23/32)
دور الكتاب الموجه لحمل الأمانة
السؤال
هناك بعض الكتب الخاصة بإلقاء بعض الدروس في مناسبات خاصة، مثل دروس شهر رمضان، وكتب أخرى في الخطب، فهلا وضعت وصنفت لنا كتاباً ليقرأ في اجتماعات الأحياء المنتشرة، ولله وحده الحمد والثناء، ففي هذه المنطقة وغيرها يهتم الناس بالأمور التربوية، بارك الله فيكم وفي علمكم وجهودكم؟
الجواب
هناك كتب كثيرة موجودة من كتب السلف، والكتب المعاصرة، كتب كثيرة تخدم، ويمكن أن تفيد الناس، وما أظن -والله- أن القضية توقفت عند وجود كتاب مناسب يقرأ فيه، لكن لو تصدى أحد لهذا الأمر؛ فذلك أمر حسن، والحمد لله فالناس فيهم خير كثير، ويمكن أن نجد من يقوم بهذا العمل، ولماذا تكون هذه القضية وقفاً على فلان أو غيره من الناس؟! فهذا الأمر حسن، ولكن ينبغي ألا ننتظر مثل هذه الأمور، فالكتب كثيرة -سواء من كتب السلف والكتب المعاصرة- مما لو قرئ على الناس؛ لأفادهم كثيراً في أي باب من الأبواب التي تريد أن تخاطب الناس بها.(23/33)
نجاة المصلحين
السؤال
هل العقوبة تكون عامة حتى للمصلحين، وقد قال الله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117]، وقال تعالى: {نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [هود:58]؟
الجواب
لا، المصلحون ينجيهم الله سبحانه وتعالى، كما في الآية التي استشهد بها السائل، لكن الذين كانوا صالحين في أنفسهم، ولم ينكروا، ولم يقوموا بدورهم معرضون للهلاك مع أولئك.(23/34)
بيان ما ينبغي للطالب الجامعي فعله للقيام بدوره
السؤال
أنا طالب جامعي، فما هو الدور الملقى علي في حمل هذه الأمانة، وما هي حدود هذا الدور؟
الجواب
أولاً: أن تحرص وتجتهد في دراستك، وتحتسب النية لله عز وجل، فإن كنت في تخصص شرعي ودراسة شرعية فأنت تتعلم علماً شرعياً تحتاج الأمة إليه، وإن كنت على غير ذلك؛ فالأمة -أيضاً- لا تستغني عن طاقتك، فالمطلوب أن يحرص الأخ على أن يتقن تخصصه، ويبدع فيه؛ حتى ينفع الأمة من خلاله، ثم بعدما يتخرج من هذه المرحلة وهذه الدراسة يمكن أن يقدم خيراً، وينفع هذه الأمة أياً كان دوره، وأياً كان تخصصه.
ثم يأتي دوره مع زملائه داخل الجامعة، ودوره مع الناس جميعاً، فيمكن أن يقول كلمة طيبة، أو يأمر بمعروف، أو ينهى عن منكر، أو يسعى إلى نشر علم أو بيان حق في حيه، وفي منزله، وفي أسوار الجامعة بين زملائه، ولكن أؤكد على القضية الأولى: أن يحرص على إعداد نفسه، واغتنام هذه الفرصة وهذه الدراسة، بأن يبدع في تخصصه ودراسته أياً كانت؛ حتى ينفع الله عز وجل به الأمة.(23/35)
دواء مرض الخوف من آثار حمل الأمانة
السؤال
إن هاجس الخوف الذي يدب في كثير من النفوس يقف حاجزاً أمام تطبيق هذه التوجيهات القرآنية والنبوية، فكيف الخلاص من هذا الهاجس؟
الجواب
الخلاص من هذا الهاجس يكون باستحضار قول الله عز وجل: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة:44].(23/36)
حاجة الأمة إلى تصحيح المسار في كل شئونها
السؤال
أترون أن هذه الصحوة تحتاج إلى أن تتربى عقدياً قبل أن تنطلق في سبيل الدعوة، وما هو تعليقكم حول هذا؟
الجواب
أمراض الأمة كثيرة في كل الجوانب، ولا نهمش الأمة في قضية واحدة، فالأمة بحاجة إلى عناية بالعقيدة، وبحاجة إلى العناية بالخلق والسلوك، وبحاجة إلى تصحيح العبادة، وبحاجة إلى تصحيح كل هذه الأمور.
أسأل الله سبحانه وتعالى في هذا المقام الكريم المبارك أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يجعل مجلسنا هذا الكريم المبارك من المجالس التي يباهي بها ملائكته سبحانه وتعالى، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، وأسأله سبحانه وتعالى في هذا المقام الكريم المبارك وهذا الجمع المبارك أن يكتب النصر والعز والتمكين لأمة المسلمين.
اللهم إنا نسألك ونتوجه إليك وقد اجتمعنا في انتظار فريضة من فرائضك، وقد اجتمعنا على مجلس نتذاكر فيه وعدك ووعيدك وأمرك ونهيك، نسألك اللهم بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تكشف هذه الغمة عن المسلمين.
اللهم لا تدع من المسلمين جائعاً إلا أطعمته، ولا خائفاً إلا أمنته، ولا ضالاً إلا هديته، ولا أسيراً إلا أطلقته وفككت وثاقه يا أرحم الراحمين، ولا عدواً ومنافقاً إلا أهلكته وفضحته وهتكت ستره يا رب العالمين.
اللهم برحمتك يا أرحم الراحمين، وعزك الذي لا يرام، اللهم ارحم الأمهات الباكيات، اللهم ارحم الأسر الثكالى، أولئك الذين أصيبوا بأبنائهم وفلذات أكبادهم، ما بين قتيل وأسير ومصاب، اللهم اكتب النصر والعز والتمكين لهذه الأمة، وارفع عنها الظلمة والغشاوة، اللهم عليك بأعدائك الذين يصدون عن سبيلك، ويعادون أولياءك، اللهم عليك بهم، اللهم افضح سترهم واخزهم أمام الناس يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه يغفر لكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(23/37)
آفات الأخوة
الأخوة في الله مبدأ عظيم من مبادئ الإسلام، يقوم عليه الولاء والبراء والحب والبغض، وهذا المبدأ قد حيي بإذن الله مع وجود جيل الصحوة بعد أن كادت تطغى الروابط القبلية والحزبية وغيرها من روابط الجاهلية، لكن هذه الأخوة لها آفات كثيرة تجعلها قاصرة لا تؤتي ثمارها، بل قد تعود عليها بالإبطال، ولذا يجب التنبه لها والحذر منها.(24/1)
طلب الكمال والمثالية
الآفة الثانية: طلب الكمال والمثالية: إن البعض حين يسمع عن حقوق الأخوة في الله، وعن ثمراتها في الدنيا، ويسمع عن أخلاق المتحابين في الله، يوهم نفسه أنه سيعيش في جنة من الحب والود والرخاء، سيعيش مع رفقة لا يمكن بحال أن يسمع من أحدهم كلمة جارحة، أو يرى من أحدهم زلة أو يدرك منه هفوة، فهو يطمح إلى أن يكونوا إخواناً على سرر متقابلين، ويفاجأ فيما بعد بخلاف ما كان يحلم به، فيحتمل الأولى، ويصبر على الثانية، ويقبل الثالثة على مضض، وتأتي الرابعة بعد ذلك، فتقول له: إن أولئك ليسوا جادين، إن أولئك لا يعرفون حق الأخوة، ولا معاني الأخوة، إن هذه الأخوة طلاء خارجي، إنها تزويق ومخادعة أكثر من أن تكون محبة صادقة، ولو كان واقعياً مع نفسه لرأى أن السبب في ذلك أنه كان يتطلع إلا ما لا يمكن أن يحصل في دار الدنيا، ولو كان واقعياً لقال لنفسه: إن البشر يبقون بشراً مهما بلغوا من التقوى والصلاح والإيمان، ومحبة الخير للناس، فلا يمكن أن يبلغ أحد منهم درجة العصمة والسلامة من الخطأ.
فهذه الأخوة وإن كانت أخوة في الله، ومحبة من أجله، فهي بنيان بشري، وهي عمل بشري، وهي جهد بشري لا بد أن يصيبها جهد البشر، ولا بد أن يرى من إخوانه الأسخياء الورعين الصالحين الهفوة والزلة والخطأ في أنهم بشر.
ثانياً: يقول الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، لو فكرنا -معشر الإخوة الكرام- في هذه الآية لرأينا أنها تدعونا إلى أن نكون واقعيين في تلك البحبوحة التي نتصورها من هذه الأخوة، فإن الله عز وجل حكى أنه نزع ما في صدور أهل الجنة من غل، وهذا يعني أنه كان في النفوس ما فيها، وكان بينهم ما كان، والجنة دار طيبة لا يدخلها إلا ما كان طيباً محضاً، فيحبسون حينئذٍ فينزع الغل منهم، حتى يتأهلوا لأن يدخلوا هذه الدار الطيبة المحضة، ثم هذا نعيم يمتن الله به على أهل الجنة، أفترون أن أحداً في دار الدنيا يمكن أن يدرك نعيم الجنة قبل أن يموت؟! إذاً: فنحن نكون مثاليين حين نطلب من إخواننا أن لا يصدر منهم زلة ولا هفوة، حين نتطلع إلى هذه الصورة المشرقة المبالغة في الخيال فنطلب نعيم الجنة، ولن يدخل أحد الجنة في دار الدنيا.
ثالثاً: نقرأ في سيرة خير القرون الرعيل الأول، فرط هذه الأمة، أولئك الذين امتن الله عليهم فألف بين قلوبهم فأصبحوا بنعمة الله عز وجل إخواناً، أولئك الذين امتن الله سبحانه وتعالى على محمد صلى الله عليه وسلم بأن ألف بين قلوبهم، وأنه صلى الله عليه وسلم لو أنفق ما في الأرض جميعاً ما ألف بينهم، فمع تلك الصورة المشرقة التي رسمها هذا الرعيل في وسط تلك الجاهلية الظلماء إلا أننا نقرأ فيها بعض ما قد كان يعكر هذه الصورة ويخدش في هذه الأخوة.
رأى أحدهم أبا ذر رضي الله عنه ومعه غلام وعليه حلة، وعلى غلامه حلة مثلها، فسأله كيف يلبس رقيقه كما يلبس، فقال: إني ساببت رجلاً فعيرته بأمه، فقال لي صلى الله عليه وسلم: (عيرته بأمه؛ إنك امرؤ فيك جاهلية، إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس).
إن أبا ذر رضي الله عنه من خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ومن السابقين إلى الإسلام، ومع ذلك تأتيه حالة من حالات الضعف البشري فيعير رجلاً بأمه، يعيره بمقاييس الجاهلية، لكنه رضي الله عنه ما يلبث أن يستفيق ويستيقظ مع هذا التوجيه النبوي فيتجاوز تلك الهفوة ليعطينا صورة مشرقة يعجز عنها الكثير من المسلمين الآن يلبس خادمه كما يلبس، ويطعمه كما يطعم، ويعتبره أخاً له! وفوق هذه الصورة، أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وعمر بن الخطاب كثيراً ما كان صلى الله عليه وسلم يقول: (خرجت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر)، كانا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول أحدهم: أمر فلاناً؛ فيقول صاحبه: أمر فلاناً، فيرد عليه: ما أردت إلا خلافي، فيقول: ما أردت خلافك، فترتفع أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم، وينزل قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات:2]، ومع ذلك تبقى حدثاً عارضاً ثم تزول، لكن أولئك كانوا يدركون تماماً أن هذه الأخوة مع عمق بنيانها وقوة أركانها تبقى أخوة بشرية قد يأتيها ما يعكرها، قد يأتيها ما يهزها لكنها كالعاصفة التي تهب ثم تزول، ولا تزيدهم إلا ثباتاً ورسوخاً، فالذي يحصل أن المرء يتطلع إلى صورة مثالية، فيعتبر هذه العواصف والخوادش شهادة إدانة على عدم صدق الأخوة والمحبة، ولئن كانت شهادة إدانة أفيحق أن تدين بها الرعيل الأول، فإن كان يحدث ما يحدث بين ذلك الجيل فلأن يحدث مع غيرهم(24/2)
الأثرة وحب النفس
الآفة الثالثة من آفات الأخوة: الأثرة وحب النفس.
إن من نتاج الأخوة أن يحب المرء لأخيه ما يحب لنفسه، بل لا يتم إيمانه إلا حين يرقى إلى هذه المنزلة، ويصل إلى هذه الدرجة، حين يحب لأخيه ما يحب لنفسه (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفس)، أما حين يرقى درجة أعلى من ذلك فهو يكون ممن أثنى الله عليهم في كتابه في آيات تتلى إلى يوم القيامة: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9]، فحين نطمع في الوصول إلى منزلة الأخوة، وإلى أن نجني ثمراتها في الدنيا والآخرة، فلنعلم أن غلاء الثمرة وصفاءها يفرض علينا أن ندفع ثمناً باهضاً، أوله أن نتخلى عن محبة ذواتنا وعن رغبات أنفسنا، أما حين يكون المرء لا يحب الخير إلا لنفسه، أما حين يفوز منطق الأثرة والأنانية، وتعلو وترتفع لغة (أنا) فهو أول وخز في بنيان هذه الأخوة، وأول دليل على أننا لسنا مؤهلين لأن نجني هذه الثمرة اليانعة، وأن نصل إلى هذه المنزلة العالية.(24/3)
رابطة الجاهلية
الآفة الرابعة: رابطة الجاهلية.
إن الأخوة في الله تعني أن تكون أخوة في الله، من أجل الله حقاً، تعني أن نكون كما قال صلى الله عليه وسلم: (أن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
قد يحب المرء أخاه لله، لكن مع ذلك قد يكون من وطنه، أو قد تكون ثمة رابطة حزبية أو قبلية أو عنصرية أو جاهلية، قد تأتى هذه الرابطة فتزيد الأخوة أخوة والمحبة محبة، فتبقى حينئذ رابطة الجاهلية، وحين تزداد محبتك لفلان وتنقص لفلان، والدافع لذلك انتماء وطني أو فكري أو حزبي أو قبلي فاعلم أن محبتك مدخولة، وأن أخوتك مخدوشة.
فالأخوة في الله -معشر الإخوة الكرام- تعني أن نتجاوز كل هذه الحواجز تعني أن نتجاوز كل هذه النظرات، فالذي يحب في الله ويؤاخي في الله، لا فرق عنده بين من كان من هذه البلاد ومن كان من تلك البلاد، لا فرق ولا ميزان ولا معيار على أساس الانتماء، ولا أساس الأصل ولا غيرها من تلك الموازين الهشة، قد يستطيع المرء أن يجمع خليطاً متناثراً من هذه الموازين، فتقوم صلته على أساس إقليمي وحزبي وفكري وقبلي، أما الأخوة في الله، فهي بنيان متفرد لا يقبل غيره، وحين يدخل عامل آخر فالنقيضان لا يجتمعان، فهي لا تعيش إلا وحدها، ولا تنمو إلا بعيدة عن سواها من الروابط، فحين نريد الأخوة حقاً في الله فلنخلصها من كل رابطة من روابط الجاهلية! وعجباً لهذه الأمة التي أكرمها الله بعد أن كان يقتل بعضها بعضاً، ويسبي بعضها بعضاً، وبعد أن كان منطق الجاهلية هو المنطق السائد، وقانونها هو المحكم، وأعرافها هي تلك الأسوار التي لا يقبل أحد أن يتسورها، عجباً لهذه الأمة بعد أن انتشلت من هذا الحضيض أن يخرج فيها من يريد أن يعيدها جذعة مرة أخرى، فبعد أن ارتقت هذا المرتقى، وصعدت إلى هذه المنزلة تعود مرة أخرى لتشد إلى خيوط الجاهلية وجواذبها.
ولهذا حين كسع غلام لرجل من المهاجرين غلاماً آخر من الأنصار فتنادوا: يا للمهاجرين! ويا للأنصار! غضب صلى الله عليه وسلم وقال: (أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم)! متى عرف أولئك مصطلح المهاجرين ومتى عرفوا مصطلح الأنصار؟ إنه مصطلح شرعي لم يعرفه أولئك إلا بعد أن جاء الإسلام، لم يعرف أولئك إلا قريشاً وبني مخزوم والأوس والخزرج وغطفان، هي تلك المصطلحات التي كانت سائدة عند أولئك، أما مصطلح المهاجرين فلم يعرف إلا حين فر أولئك بدينهم، والأنصار لم يعرف إلا حين تبوأ أولئك الدار والإيمان فآثروا إخوانهم، فإنه إذاً مع أنه مصطلح شرعي لم يعرفه أولئك إلا تحت دائرة الإسلام، يرفض صلى الله عليه وسلم أن يتعصب أولئك لهذا الاسم، وأن يتحزبوا هذا التحزب.
مع أن هذا الاسم اسم شرعي بحت لم يعرفوه إلا بعد أن دخلوا هذا الدين، فكيف بعد ذلك بالأسماء التي خير حالها أن تكون عليه مصطلحات تواضع الناس عليها، أفيسوغ بعد ذلك أن تكون مقاييس يتنادى عليها، ويوالى ويعادى من أجلها، إنها بحق دعوى الجاهلية، ومن دعا بدعوى الجاهلية وتعزى بعزاء الجاهلية فهو جدير بأن يعير بتعيير الجاهلية، كما قال صلى الله عليه وسلم: (من تعزى بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه، ولا تكنوا).(24/4)
دخول الأغراض الدنيوية
الآفة الخامسة: أن تدخل أغراض دنيوية غير شرعية: كما أن الروابط الجاهلية قد تخدش بنيان هذه الأخوة، فقد تأتي أيضاً الروابط الدنيوية، قد يأتي جانب المال والمنفعة، وقد يأتي أيضاً جانب آخر، الذي هو إفراز لهذا الانحراف والشذوذ الذي أصبحت تعاني منه وللأسف تجمعات شباب هذه الأمة، فقد يحب الشاب أخاه لله، لكن تدخل مع ذلك شهوة محرمة، فقد يكون هذا الشاب مع طاعته وصلاحه وضيئاً، فيتسلل الشيطان إلى قلب صاحبه، فتدخل الشهوة المحرمة.
ولئن كانت رابطة الأخوة في الله والمحبة من أجله رابطة لا تعيش إلا وحدها، ولا تقوم إلا متفردة فهي ترفض أي شريك، ومن أشرك مع الله غيره تركه الله وشركه، فهي إن كانت ترفض الروابط الجاهلية وترفض رابط المال والمصلحة فهي أشد رفضاً ومقتاً لهذا الرابط، وحين يدخل مع داعي المحبة والأخوة داعي الشهوة المحرمة، فهي بداية للانحراف والخلل.(24/5)
الإفراط في المتابعة
سادساً: من آفات الأخوة الإفراط في المعاتبة، قد يعتاد الناس أموراً يرون أنها من مكملات الأخوة ومن حقوقها، فمثلاً: قد يشعر البعض منكم أنه حين يأتي عليه ضيف في هذه البلاد فإن من حقه عليه أن لا ينصرف قبل أن يتناول طعام العشاء، رغبة في إكرامه وأداء الحق له، وقد يكون في هذا إثقالاً على صاحبه وإحراجاً له، والأخ لا يريد أن يبالغ في الاعتذار، فيستجيب محرجاً ويشعر أن أخاه قد أحرجه وضايقه.
وأحياناً يسود منطق العتاب على التقصير والمقاطعة، فحين يلقى صاحبه يعاتبه فهو منذ شهر لم يره، فلماذا القطيعة، أين الاتصال؟ لم نرك من سنة أو سنوات، وكما تعرفون مع تغير الحياة وتعقدها قد يكون الإخوان في مدينة واحدة فيمر على الأخ سنوات لا يرى أخاه فيها، وحين يلتقون يبادر بالمعاتبة، فيبادر الآخر بالاعتذار ولو كان سريع البديهة حصيفاً لكال له الصاع صاعين، وكما يقول أهل الصحافة: لقذف الكرة في مرماه، فقال: لئن كنت لا أزورك فلم لا تزورني أنت، لئن كنت قاطعاً فلم تكون قاطعاً أنت، ولو عاد الجميع إلى واقعيتهم ورشدهم لرأوا أن عدم زيارة هذا الأخ لأخيه وعدم لقائه به، ليس دليلاً بالضرورة على عدم محبته، وعلى عدم أخوته.
وهذا المعنى الذي يشير إليه الإمام أحمد رحمه الله حين قال له أحد أصحابه: يا أبا عبد الله، لو كنت آتيك على نحو ما تستحق لكنت آتيك كل يوم، فقال الإمام أحمد رحمه الله: لا تقل ذلك، إن لي إخوة لا أراهم في العام إلا مرة، أنا أوثق بمودتهم ممن ألقاهم كل يوم.
فعدم كثرة اللقاء لا تعني بالضرورة ولا تستلزم عدم المحبة والمودة! أقول: أحياناً نفرط في العتاب واللوم على إخواننا ونتصور أن هذا مما يزيد بنيان الأخوة، فلا شك أنه حين يبالغ فيه الأخ قد يهدمها وقد يشعر الأخ أنه محرج، فقد يضطر أحياناً للكذب، قد يضطر لعدم مقابلة أخيه، قد يضطر لأمور لأنه يشعر أنه سيفرط في عتابه ولومه.(24/6)
تصيد الأخطاء
سابعاً: من آفات الأخوة تصيد الأخطاء، ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم: (يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه؛ لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم، ولا تتبعوا عوراتهم، فإن من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله)، والحديث رواه الترمذي عن ابن عمر، ورواه أحمد وأبو داود عن أبي برزة، ورواه أهل السنن عن البراء رضي الله عنه، فهو حديث مشهور في كتب السنة.
إن من يبحث عن العورات والأخطاء ويتصيدها يجازيه الله، والجزاء من جنس العمل.
وشتان بين من يتتبع عورته ويتصيد كلماته وعباراته بشر من البشر، وبين من يتتبع الله عز وجل عورته، فإن الله عليم بالنوايا وما تخفي الصدور، والبشر قد يتزين لهم في لحن القول، وقد يقال لهم قول ظاهره الرحمة وباطنه العذاب كما يقال، أما الله عز وجل فهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، فالبحث عن الزلات والأخطاء من صفات أهل النفاق عافانا الله وإياكم.
يقول ابن المبارك: المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العثرات.
فالمؤمن حين يرى هفوة على أخيه أو خطأً يبحث له عن العذر، أما المنافق فهو يبحث عن الزلة ويبحث عن الهفوة.(24/7)
سوء الظن
الآفة الثامنة: سوء الظن: في سورة الحجرات يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10]، ثم يعقبها الله عز وجل بوصايا تعين على إتمام بنيان الأخوة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات:11]، ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12].
وسوء الظن هو تلك الأرض التي تنبت التصيد والبحث عن الأخطاء، سوء الظن هي تلك الشرارة التي توقد هذه العداوات والإحن، والتي تبدأ من شعور في الداخل، ومن ظن سيء، فحينئذٍ يظل الأخ يبحث عن برهان يؤيد ما يختلج في صدره من ظن سيء، فيحول الشك إلى يقين والوهم إلى حقيقة لا تقبل الجدل، ويبني من هذه الأوهام بنياناً شامخاً على رأس دبوس كما يقال.
ولو كان المرء واقعياً لرأى أن الناس تمر بهم ظروف ومواقف وأحوال يراها الإنسان من نفسه، فمثلاً قد يقابل الأخ أحد أخوانه فلا يبش له، ولا يرحب به ذاك الترحيب الذي اعتاده، فيبدأ يفسر ويتساءل عن السبب، ويحمل في نفسه علي شيء، كره مقابلتي إلى آخره، ويبدأ يقرأ في وجهه أوهاماً لو عاد إلى الحقيقة لعرف أن هذا الشخص كان مريضاً، هذا الشخص كان يعاني من مشكلة، هذا الشخص على الأقل كان يفكر، كان شارد التفكير.
أحياناً يتصل على أخيه في الهاتف، ويشعر بعدم الترحيب، ويشعر أن صاحبه يرغب أن ينهي المكالمة في أسرع وقت، وهو لا يعرف ظروفه، أنت اتكأت على أريكتك وأردت أن تنتظر الترحيب ولا تدري أن صاحبك قد يكون على طعام الغداء، قد يكون ينتظره صاحبه عند الباب، قد يكون يقرأ، قد يكون منشغلاً، فهو يريد أن ينهي المكالمة على أحر من الجمر، وقد يكون استيقظ من نومه وينتظر أن تنهي المكالمة حتى يدعو بدعاء الاستيقاظ، فمشاعر الناس لا تعرف ما وراءها.
وبعض الناس طبيعته أنه لا يرحب، وبعض الناس قليل الابتسامة، هكذا طبعه، وهو يكن المحبة والتقدير، وتراه يعني أغلى فرصة هي تلك الفرصة التي تقابله فيها.
فلو كان الإنسان واقعياً لاستطاع أن يجد ألف تفسير وتفسير لمثل هذه الظواهر، لكن حينما يكون حساساً يبدأ يقرأ ما وراء السطور، ويقرأ أوهاماً ليس لها حقيقة، ويقصد كذا ويريد كذا، ثم يعاقبه الله فيبدأ يعيش في جحيم، فعندما يخرج للشارع ويقابل فلاناً ويسلم عليه، يرى ردود الفعل والقضية كلها أوهام.
وافترض يا أخي الكريم أنك أحسنت الظن بعشرة من الناس، واكتشفت منهم تسعة ليسوا أهلاً لحسن الظن، فقال واحد كلمة في مجلس يقصد الإساءة إليك، وأنت حملتها على المحمل الخير، فالنتيجة أنك استرحت منه واستراح خاطرك، وبدأ هذا الشخص يغتاظ، وأنت خرجت سليماً معافى، وماذا عليك مثلاً لو قال رجل كلمة يقصدك بها، أو أخفى ابتسامة وبخل بها عنك ماذا تخسر، لكن حين تحسن الظن ولو أخطأت أحياناً فمنحت حسن الظن لغير من لا يستحق، ستجني راحة البال والطمأنينة.
ويضرب لنا الإمام الشافعي مثلاً في ذلك، جاءه الربيع بن سليمان وهو مريض، فقال له يدعو له: قوى الله ضعفك، قال الإمام الشافعي: لو قوى الله ضعفي لقتلني، يعني لو قوى الله المرض لقتلني، قال: فاعتذر الربيع بن سليمان، وقال: والله ما أردت إلا الخير، فقال الشافعي: إني والله أعلم أنك لو شتمتني لم ترد إلا الخير، لكن الإمام الشافعي أراد أن يداعبه، وأن يصحح له هذا الخطأ، فيقول له: لو شتمتني أعلم أنك لا تريد إلا الخير.
ومتى يسود بيننا هذا المنطق، للأسف أننا نحسن الظن بالأعداء، نحسن الظن بأهل النفاق، الذين يتربصون بالدعوة الدوائر، يجتهد الإنسان فيفتش لهم عن ألف عذر، ربما إذا أعوزته المعاذير قال: لعل لهم عذراً وأنت لا تعلم، أما أخوه الذي معه على الطريق، فإنه يتهمه ويقول: هذا يخادع، أنت لا تعرف عواقب الأمور، ولا تعرف ما يريد! يا أخي! هذا على الأقل معك على خط واحد.
ذاك صاحب فجور وفسق لا يحضر الصلاة في جماعة المسلمين وهو يجاهر بالمعصية، فيقول: لا يا أخي الكريم، إنه يريد الخير، يريد المصلحة، أحسن الظن بالناس، اتق الله، هل فتشت عن قلبه، لكن تجاه الأخ الناصح يقول: هذا فيه مشكلة، وإذا لم يكتشف الخطأ يقول: هناك خطأ لكن نتيجة دهائه وخبثه ومكره استطاع أن ينطلي عليك.
فهذا أحياناً منطق نسمعه بين الإخوان وبين الدعاة، نعم قد يكون أخطأ، لكن متى يأتي الحال الذي يعامل الإخوة بعضهم بعضاً بذاك المنطق الذي يعاملون به أعداءهم، وتلك المجاملات التي يعاملون بها أ(24/8)
كثرة المخالطة
الآفة التاسعة: كثرة المخالطة: لا شك أن من الأخوة في الله أن يجلس الأخ مع إخوانه وقتاً ربما كان أكثره معموراً بذكر الله، وطاعة الله والمحبة فيه، لكن إذا طال الأمر فإنه يتحول إلى داء، ويلفت الإمام ابن القيم رحمه الله إلى ذلك فيقول: الاجتماع بالإخوان قسمان: أحدهما: اجتماع على مؤانسة الطبع وشغل الوقت.
يعني: أناس يرتاح بعضهم لبعض، يريدون أن يقضوا الوقت فقط، كحال أكثر مجالس الناس.
قال: فهذا مضرته أرجح من منفعته، وأقل ما فيه، أنه يفسد القلب ويضيع الوقت.
الثاني: الاجتماع بهم على أسباب النجاة والتواصي بالحق والصبر، فهذا من أعظم الغنيمة وأنفعها، ولكن فيه ثلاث آفات، يعني ينبغي أن نحذر من هذه الآفات الثلاث: إحداها: تزين بعضهم لبعض.
يعني: وجود نوع من المجاملة والمراءاة أحياناً.
الثاني: الكلام والخلطة أكثر من الحاجة.
الثالثة: أن يصير ذلك شهوة وعادة ينقطع بها عن المقصود.
هو في البداية أخ له في الله ويحبه في الله، ويتعاون معه على الخير، ثم إنهم لا يفترقون، يسهرون مع بعض ويذهبون مع بعض، ويأتون، والقضية تحولت إلى مؤانسة على الطبع، ولو فتشنا كم هي المجالس التي يقضيها الإخوة الصالحون، والناس الأخيار المتحابون في الله، وهي من هذا الصنف وهذا النوع التي تتحول إلى مؤانسة الطبع واللقاء فيه، فهذا من آفات الأخوة، يبدأ يجامل صاحبه، وتبدأ هذه الأخوة تفتقد ثمراتها الحقة.(24/9)
الإفراط في المحبة والتجاوز فيها
عاشراً: الإفراط في المحبة والتجاوز فيها: قد يفرط المرء في محبة بعض إخوانه، قد يكون للأخ ثلة من إخوانه يلتقي بهم، ويراهم ويحبهم في الله، لكنه يحب فلاناً من الناس محبة زائدة، هو طبيعي أن يشعر أخ بارتياح لفلان أكثر من غيره، لكن داخل إطار معين، إذا تجاوزه يتحول إلى غلو، فينشأ عن ذلك نتائج سلبية، منها أنه ينقص في نظر الآخرين.
هؤلاء عشرة كلهم إخوة في الله ويحبهم في الله، وربما فيهم من هو أتقى من صاحبه، لكن هذا صاحبه الذي لا يبيع ولا يشتري من أجله كما يقول العامة، هو الذي إذا فقده فقد الناس، فيبخس حقوق الآخرين من أجل حق فلان من الناس، وعنده استعداد ألا يأتي إذا فقد فلاناً، ويأتي إذا أتى فلان، فترتب على هذه المبالغة في هذه المحبة بخس حقوق الآخرين.
يترتب عليها أيضاً أن يقلع عن خطئه، ويترك النصيحة التي هي من أهم ثمرات الأخوة، كما أشرنا في مبدأ الحديث أنه مع الإفراط في المحبة وكثرة الصلة وطولها حتى تجد اثنين من الشباب يصبحون كما يقال: روحان حللنا بدنا، فإذا رأيت محمداً ترى علياً، خرج علي يخرج محمد، دخل علي معناه سيدخل محمد بعده، يعني فصار لا يفقد أحدهما بعد الآخر، وهو طبيعي أن يكون بين شخصين ارتياح أكثر، لكن بقدر معين إذا تجاوزت فيه حتى صرت أجامله وأترك نصيحته وربما أبرر له أخطاءه، فهذه ثمرة ثالثة قد تكون وسيلة لموافقته على باطله، أو مشاركته فيه، وهذه حالات كثيرة، والذي ابتلي بها يشتكي منها، ويشعر أنه بدأ يضعف وبدأ يجامل صاحبه، لزيادة الغلو في هذه المحبة التي ما استطاع يتخلى عنها، وصار يشعر أنه لا بد أن يصاحب أخاه ويوافقه، فصار يوافقه على الباطل.
وآفة رابعة: أن تتحول إلى محبة عاطفية، وقد تنتقل إلى صورة لا تليق إلا بأهل الشذوذ، يعني كل واحد يعطيه الشريط كما يقال، فيحكي له سيرته، قد يكون الإنسان مع الصالحين وهو صالح، ففي حال خلوته قد تدعوه نفسه الأمارة بالسوء فيقع في معصية من المعاصي ويستره الله عز وجل، فحين يلقى صاحبه يكشف له ما ستر الله عليه، فيصبح ممن قال فيهم صلى الله عليه وسلم: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل العمل بالليل فيستره الله، فيصبح فيقول: يا فلان عملت البارحة كذا وكذا، بات يستره الله ويكشف ستر الله عليه).
يا أخي! ما هو المبرر أنك عندما تلقى فلاناً تقول له: أنا والله وقعت في كذا؟ هو يقولها من باب الشكوى والشعور بالتقصير، لكن ما الحاجة إليها؟ يا أخي سترك الله فتب إلى الله واستتر بستر الله، وهذه مجاهرة: (كل أمتي معافى إلى المجاهرين)، فأنت الآن تدعو إلى التخلص من العافية، ألا تطمع أن تكون ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: (وأما المؤمن فيدعوه ربه فيضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول: وأنا سترتها عليك في الدنيا، وأنا أسترها لك اليوم)؟ قد ستر الله عليك المعصية فكيف تكشف هذا الستر وهذا الحجاب، وكيف تصل محبتك وصلتك بفلان من الناس إلى أن تكشف له عن أسرارك، إنك ترتكب معصية أخرى.
ثانياً: هذه وسيلة للإعانة على المعصية فإنك تكون قدوة سيئة له، فهو عندما يرى صاحبه الذي يتواصى معه على الخير، ويحبه في الله، عندما يراه يقع في المعصية صار قدوة سيئة أمامه، قد يكون هو وقع في نفس المعصية، فعندما يراك وقعت في نفس المعصية، صرت قدوة سيئة، وسننت سنة سيئة، ودعوته بسلوكك من حيث لا تشعر إلى ضلالة.
وقد تنتقل إلى صورة أخرى ونتيجة ثالثة وخاصة مع استمرائها؛ وهو أنه حين يعرف كل منهما ما في داخل صاحبه تتحول القضية إلى أن ينتقلا إلى حال يعين بعضهم بعضاً على المعصية، ويشعر أنه يعرف أنه يقع في ارتكابها، ويعرفه أنه كان فعل كذا، فتبقى الأمور مشوبة، وتكون مدعاة إلى تعاونهم على المعصية، وقد تكون سبب في انحرافهما جميعاً، والسبب يكمن في البداية في الإخلال بالأدبين الشرعيين، أولاً: في قضية الإفراط في الصلة والأخوة التي تكون على حساب الآخرين، والأمر الثاني: تجاوز الأدب الشرعي في الاستتار بستر الله.
معشر الإخوة الكرام! هذه بعض الآفات التي أشرت إليها آنفاً، والتي فيها من التصريح، وفيها من التلميح ما قد يمنع المقام عن الاستمراء فيه، والحر تكفيه الإشارة، هي عبارات وإشارات، وهي لا تعني بحال الطعن في هذه الأخوة، والطعن في هذا الجيل المبارك، بل إن الذي يدفعنا إلى الحديث عن هذه الآفات هو شعورنا بثمرات هذه الأخوة، وحرصنا عليها يدفعنا إلى التحذير من هذه الآفات، ومحاولة الحديث عنها حتى نتجنبها، وإلا فنحن والله نشعر بهذه الصلة، ونرى -والمسلمون شهداء الله في أرضه- أن هذا الجيل وهذه الصحوة سنت هذه السنة الحسنة، لقد نسيت هذه الأمة هذا المفهوم، نسيت إني أحبك في الله، نسيت الأخوة في الله، وأصبحت مجرد أمور مدونة في الكتب، ليس لها رصيد على أرض الواقع، فجاء هذا الجيل وجاءت هذه الصحوة لتتجاوز كل تلك الروابط، ولتقضي على كل تلك الصفات الجاهلية.
وطبيعي أن يكون هذا الجيل الذي هو إفراز لهذا المجتمع(24/10)
الأسئلة(24/11)
زيادة المحبة في الله بسبب اتحاد النسبة والانتماء
السؤال
أحب فلاناً من الناس في الله، ولكن حين أعلم أنه من قبيلتي يزداد حبي تلقائياً، ولكن دون أن ينقص حبي للآخر الذي ليس منها، فهل في ذلك شيء؟
الجواب
هذه القضية تحصل في قضايا غير قضية القبيلة كقضية البلد، العنصر، الانتماءات الفكرية أياً كانت، وهذه من المداخل الصعبة، ومحك يختبر المسلم نفسه عليه، قد يحصل أن يصل الإنسان إلى درجة الكمال هذا صعب، لا بد أن يحصل ما يحصل؛ لكن الواحد يحاول أن يجاهد نفسه، والمقياس هو أنه عندما يكون فلان أتقى لله من فلان أحبه، وفلان عندما يعصي الله أكثر أبغضه، وقد تدخل مثل هذه الاعتبارات؛ لكن يحاول الإنسان أن يتخلص منها، يحاول أنه يراجع نفسه، لأن كلمة أحبك في الله، والأخوة في الله، هذه كلمة فيها إجمال؛ لكن المحك عندما تأتي إلى قضية القبيلة أو الانتماء فهنا يكمن المحك في مدى صدق الأخوة والمحبة.(24/12)
قوة الأخوة بعامل الجوار والقرابة ونحوها
السؤال
الأخوة وحدة قائمة بذاتها لا تجتمع مع غيرها من الروابط هكذا قلت في المحاضرة، ألا ترى أن بعض الروابط تزيد من الأخوة في الله مثل الجوار والقرابة ورفقة السفر؟
الجواب
أنا قلت هذا الكلام، لكن هل تشاركون أنتم السائل في هذا الفهم؟ أنا قلت إن الأخوة قضية لا تعيش إلا متفردة وحدها في مقابل الروابط الجاهلية، مثل الإخاء في القبيلة، والإخاء لأجل الوطن، أما أن يكون هذا قريباً لي فهذا له حق شرعي، وكذلك الجار، فهذه قضية غير القضية التي نتحدث عنها، وهي قضية الروابط الجاهلية.(24/13)
نصيحة لمن يتعود التأخر عن الجماعة حتى تفوت بعض الركعات
السؤال
لنا أخ في الله ملتزم ظاهراً ونحسبه على خير والله حسيبه، ولكن يتعمد هذا الأخ عدم حضور صلاة الجماعة إلا بعد انقضاء ركعة أو ركعتين، وأصبحت هذه عادة لديه، وربما أثر على إخوته، مع العلم أنه جار للمسجد، وخريج إحدى الجامعات الإسلامية، ونوقش في الموضوع ونصح مراراً، ولكنه لا يرد علينا عن الأسباب التي تدعوه لذلك، هلا وجهت له نصيحة ولأمثاله لعل الله أن يأخذ بيده.
الجواب
لا شك أن النصيحة له ولإخوانه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أول ما يحاسب عليه المرء من عمله يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت فقد أفلح وأنجح، وإن فسدت فقد خاب وخسر، وإن انتقص شيء من صلاته قال الله عز وجل: انظروا هل لعبدي من تطوع فيتم بها ما انتقص من صلاته)، وكلنا أولئك والله المستعان، لكن أول عمل نحاسب عليه الصلاة فإذا لم نعتن بالصلاة فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.(24/14)
الفرق بين الحب في الله والحب لله
السؤال
قال عليه الصلاة والسلام: (من أحب لله وأبغض لله فقد استكمل الإيمان)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وقال عليه الصلاة والسلام: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان، ومنها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله)؛ فما هو الفرق بين الحب في الله وبين الحب لله؟ أثابكم الله.
الجواب
الحب في الله والأخوة في الله درجات، هناك أمر الإخلال به كفر، فعندما يأتي واحد ويعين الكافر على أخيه المسلم فذلك من نواقض الإسلام مظاهرة المشركين وإعانتهم على المسلمين، فعندما تأتي إلى شيوعي أحمر أو اشتراكي أو نصراني أو بوذي وتعينه على أخيك المسلم فهذا الإخلال قد يبلغ إلى درجة الكفر، أو مظاهرة المشرك ومؤاخاته هذه المؤاخاة كفر، ومحبته لأجل دينه كفر، ثم تنتقل إلى محبة واجبة دونها.
يعني يجب عليك للمسلم: رد السلام، وقضاء الحوائج، وكف الأذى، والإخلال بها معصية، لكن الإخلال بها لا يصل إلى حد الكفر، وهكذا حتى تصل إلى درجات النوافل، وهي درجات للمقربين آخرها أن يحب المرء لا يحبه إلا لله، فمنها قدر لا يتم الإسلام إلا به جملة، وهو حب المسلمين جملة وبغض الكفار، ثم تصل إلى حد فيه معصية، تصل إلى حد من الطاعات هو من باب التسابق في الخير، شأنها شأن سائر الأعمال الصالحة، وهكذا الدين من عند حكيم عليم يجعل حداً هو خط أحمر لا يتجاوزه أحد، ثم بعد ذلك يفتح مجالات لأولئك الذين سما إيمانهم وعلت تقواهم ودرجتهم حتى يصعدوا في مثل هذا الميدان، ومن خلاله ندرك الفرق بين أن يحبه في الله، وأن يحبه لله، وأن يحبه لا يحبه إلا لله.(24/15)
حب الرجل الوضيء الوجه في الله
السؤال
نود -حفظكم الله- أن تلقوا مزيداً من الضوء حول دخول أمور أخرى على المحبة في الله، خصوصاً إذا كان أحدهما حسن الوجه، والله يعينكم؟
الجواب
أشرت إلى هذا إشارة، والحر تكفيه الإشارة، أحياناً شاب يحب شاباً في الله وكلاهما مطيع لله وصالح وخير، لكن قد يكون وضيء الوجه فتدخل شهوة من الشهوات المحرمة التي سيطرت على الكثير من أبناء المسلمين، فتبدأ تدخل أغراض غير شرعية، وتبدأ تزداد الصلة به واللقاء به إلى أن تتجاوز أحياناً إلى أنه قد يقع في بعض الهفوات وبعض الأمور التي هي نتيجة مثل هذه القضية، وهذا داء ينبغي أن يحسم ابتداء، من أول ما يشعر الإنسان بهذا الأمر يحسم الداء ويخلص نفسه من هذه الأمراض وهذه القضايا ويشعر أنه هذه أمارة انحراف وشذوذ.
لقد فطر الله الرجل على الميل إلى المرأة، والمرأة تميل إلى الرجل، فحين تنعكس القضية فهذه أمارة شذوذ الله يعافينا وإياكم، وحين يدرك المرء هذا من نفسه عليه أن يبادر بعلاج نفسه.
لو كان عند الإنسان فرس تريد أن تدخل مكاناً ضيقاً، فأول ما تدخل يستطيع أن يعيدها، لكن كلما دخلت صار صعباً عليه أن يسحبها من ذيلها، حتى إذا استحكمت صار أمراً لا يستطيعه، فحين يستحكم الأمر في قلبه يدرك أنه خطأ، ويدرك المشكلة لكن لا يستطيع علاجه.(24/16)
الأرواح جنود مجندة
السؤال
هل المحبة في الله بصفة عامة تدخل في الحديث الذي رواه النبي صلى الله عليه وسلم: (الأرواح جنود مجندة ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)؟
الجواب
نعم، هي جزء من ذلك، أنت أحياناً مسافر تركب طائرة، وتجد شخصاً ملتحياً، فتشعر تلقائياً أنك تتمنى أن يركب إلى جنبك وتدعوه للجلوس بجوارك، تسلم عليه سلاماً خاصاً فيه شعور بمودة، فكما أن الناس يألف بعضهم بعضاً لاتفاق الطبع، فكذلك اتفاق الدين ولهذا نهى الشرع عن التشبه بالكفار، ومن الحكم أن الشبه يورث المحبة؛ والأرواح جنود مجندة، فحين يتجانسان في الظاهر يتآلفان في الباطن.(24/17)
فضل إفشاء السلام
السؤال
لقد شاع بين أوساط الشباب اليوم قلة إفشاء السلام، فأصبح السلام على من تعرف فقط، نرجو منك الحث على إفشاء السلام بين الشباب وعامة الناس!
الجواب
هذا الأمر لا يخص الشباب، السلام على من تعرف صار سنة مهجورة، أضرب لكم مثالاً نراه في الحياة اليومية، حتى نعرف أن عدم السلام ينبغي أن نراجع أنفسنا فيه، أحياناً مثلاً عندك ضيف المجلس رحبت به ولقيته، طبيعي أن تدخل البيت أكثر من مرة وتأتي، حينما تعود إلى المجلس لا تعيد السلام مرة ثانية، والسنة إذا فصل بينك وبينه حجر أو شجر أن تعيد السلام، لا المصافحة والعناق، لكن قل: السلام عليكم، ولو تعودنا عليه لصار لهجة دارجة على ألسنتنا؛ لأن الإنسان يلقى أخاه في الشارع، المدرس يلاقي الطالب، الضابط يلاقي الجندي، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام، لكن المدرس يلاقي الطالب فيقول لنفسه: عيب أن تسلم عليه لأن ذلك يهز من شخصيتك وقيمتك، والطالب يستحي ولا يجرؤ أن يسلم على الأستاذ.
وهكذا الضابط الجندي، وقد قالوا: من الحكمة أن الراكب يسلم على الماشي، لأن الراكب عنده نوع من الرفعة دون الماشي فيسلم عليه حتى يشعره بالتواضع، لهذا فالأولى أن تسلم على من دونك، حتى نشعر بالتآخي.
والسلام يشعر بالمودة، وفاعله مأجور، فإذا قال: السلام عليكم يؤجر عشر حسنات، وإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله كتبت له عشرون حسنة، فإذا قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أعطي ثلاثين حسنة.(24/18)
معنى المجاهرة بالذنب
السؤال
ذكرتم أن من يذكر ذنبه لصاحبه يدخل في حديث من جاهر بالذنب، والذي يظهر أن المقصود بالحديث من يذكره على سبيل التفاخر، بخلاف من يذكره على سبيل الندم، وإن كان خطأً، لكن لا يعد من المجاهرين؟
الجواب
هذا الذي يظهر للآخر، لكن قد يظهر لغيرك خلاف ذلك، وهي ثلاث صور يجب أن نفرق بينها: الصورة الأولى: أن يذكره على سبيل الفخر.
الصورة الثانية: أن يذكره ليستفتي ولم يجد حلاً إلا أن يصرح لفلان فيشكو له المشكلة.
الصورة الثالثة: أن يذكره على سبيل الندم.
فيسوغ له إذا كان سيستفتي وعنده مشكلة وما وجد حلاً لها إلا أن يصرح لصاحبه، مع أنه يمكن أن يبحث عن وسائل أخرى.
لكن ذكره على سبيل الندم ما الداعي إليه، إذا ندمت يا أخي فدعها بينك وبين الله، واستتر بستر الله، والنبي صلى الله عليه وسلم حين بايع أصحابه قال: (فمن أصاب منكم شيئاً فعوقب به فهو كفارة له في الدنيا، ومن ستر الله عليه فهو تحت مشيئة الله، إن شاء الله غفر له، وإن شاء عفا عنه)، وفي حديث النجوى إيماء إلى ذلك، بل البخاري رحمه الله بوب على حديث النجوى في كتاب الأدب: باب ستر المسلم على نفسه، وبوب على حديث: (كل أمتي معافى).
وحين جاء رجل يشكو للنبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا رسول الله أصبت من امرأة قبلة، قال عمر: ألا سترت على نفسك)؛ ومعناه أن المتقرر عند الصحابة أنه كان الأولى أن يستر على نفسه، مع أنه جاء مستفتياً يسأل هل عليه كفارة أم لا؟ وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم، وأن يجمعنا وإياكم في دار كرامته ورحمته إنه سميع مجيب، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(24/19)
دعوة للمصارحة
لقد خلق الله الإنسان مجبولاً على الخطأ والنقص، وكل عمل بشري معرض للخطأ سواء كان عملاً فردياً أو جماعياً؛ لكن الجنس البشري كثيراً ما يتهرب من تحمل مسئولية الخطأ ومصارحة النفس بعثراتها بطريقة أو بأخرى، وهذا يؤدي مع المدى إلى أضرار جسيمة كان يمكن تداركها لو كان المرء شجاعاً يصارح نفسه ويدعوها لمعالجة الأخطاء.(25/1)
معنى المصارحة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فهي فرصة طيبة أن نلتقي بالإخوة الكرام في هذا البلد الحرام الذي جعله الله عز وجل مثابة للناس وأمناً، والذي جعل الله سبحانه وتعالى الناس يؤمونه ويقصدونه ويسعون إليه من كل فج عميق.
موضوعنا أيها الإخوة الكرام لهذه الليلة بعنوان: دعوة للمصارحة، ولعلنا نقف قليلاً حول المعنى اللغوي لهذه الكلمة قبل أن نبدأ في الموضوع: يقول الأزهري: صرح الشيء وصرحه وأصرحه إذا بينه وأظهره، ويقال: صرح فلان ما في نفسه تصريحاً إذا أبداه، والتصريح: خلاف التعريض، ومن أمثال العرب: صرحت بجدان وجلدان إذا أبدى أقصى ما يريده.
وفي اللسان: انصرح الحق أي: بان، وكذب صرحان أي: خالص، ولقيته مصارحةً ومقارحةً وصراحاً وكفاحاً بمعنىً واحد إذا لقيته مواجهةً، وصرح فلان بما في نفسه، وصارح: أبداه وأظهره.
أي أن هذا المعنى الذي نستعمله معنىً صحيح لغة، وذلك أن بعض الكلمات قد تستعمل في غير موضعها، فمن ثم كان لا بد من تحقيق مثل هذا المعنى وصحة استعماله لغةً.(25/2)
المصارحة نوع من الصدق وعدمها ضرب من الكذب المذموم
معشر الإخوة الكرام! الصدق: خلق محمود، ومطلوب شرعاً، يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119] ويعد الله سبحانه وتعالى الصدق ضمن صفات عباد الله عز وجل الصالحين: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} [الأحزاب:35] إلى آخر الآية وفيها قول الله عز وجل: {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} [الأحزاب:35] ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (إن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار) وفي الحديث الآخر: (الصدق مع البر وهما في الجنة، والكذب مع الفجور وهما في النار).
وفي المقابل: فالكذب خصلة شنيعة، وصفة مرذولة يحق على صاحبها لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ألا لعنة الله على الكاذبين، وهو سلم وطريق للفجور الذي يؤدي هو الآخر إلى النار: (وإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار) وفي الحديث الآخر: (الكذب مع الفجور وهما في النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
وحين يكون المؤمن جباناً أو بخيلاً فإنه لا يمكن أن يكون كذاباً أبداً، وكما أن الصدق صفة مطلوبة شرعاً، وصفة يستحق صاحبها الثناء، وكما أن الكذب مذموم بالشرع مغموص صاحبه بصفة من صفات المنافقين حتى يدعها؛ فهما كذلك في الخلق المستقيم والفطرة السليمة، فما زال الناس برهم وفاجرهم يدركون أن هناك تناسباً بين الكذب وبين السب والانتقاص؛ لذا لا يطيق أحدهم أن يوصف بأنه كذاب.
إن غاية السب والشتم لأي امرئ من الناس كائناً من كان أن تتهمه بأنه كذاب، وحتى أكذب الناس الذي يتخذ الكذب حرفة ويأخذ على ذلك أجراً ويجعله صنعته، هو الآخر لا يرضى أن يوصف بالكذب؛ لأن الكذب صفة مرذولة مذمومة في فطر الناس السوية قبل أن تأتي الأديان باستحسان رفضها وتركها ودعوة الناس إلى الصدق، فما بالكم حين يكون الصدق بعد ذلك بنص الشرع طريقاً إلى البر والبر طريقاً إلى الجنة، وحين يكون الصدق قريناً للبر وهما في الجنة، وحين يكون الصدق صفةً يوصف بها المسلمون والمسلمات وتكون سلماً ووسيلة لأن يعدهم الله عز وجل بعد ذلك بالأجر العظيم.
لئن كانت هذه شناعة الكذب على الناس وممارسته على الناس لئن كان بهذا القدر من الشناعة والرفض، فما بالكم بمن يمارس الكذب على نفسه، إن القضية أكبر شناعة وأكبر خطأً واستخفافاً بالنفس أن يمارس المرء الكذب على نفسه.
نعم معشر الإخوة الكرام! إننا أحياناً نمارس الكذب على أنفسنا أحياناً أفراداً وأحياناً جماعات وبصورة تفرض سحباً من الأوهام المفتعلة وتضع سياجاً يحول دون الرؤية الصادقة الواضحة، فكم نفتعل العمش والعشى بل والعمى والتعامي نفتعل ذلك ونحن نستطيع أن نبصر الحقيقة بأم أعيننا! ومن حقنا أن نتساءل: من المستفيد والخاسر من حجب الحقائق وافتعال الضبابية حول الواقع؟ لئن كان الكذب على الناس مرفوضاً.
بالفطرة السليمة والشرع القويم، وكان من خلق الرجل الجاد فضلاً عن الرجل الملتزم بالشرع أن يكون صادقاً أن يكون صريحاً أن يكون واضحاً في حديثه مع الناس فأحرى به أن يكون صادقاً وواضحاً وصريحاً مع نفسه!(25/3)
أهمية المصارحة الفردية للنفس
إن مرحلة العواطف والحماسة مرحلة يجب أن نتجاوزها، ومرحلة ستر العيوب وإخفاء الأخطاء سلوك يجب أن نتخلى عنه، ومن ثم كان لا بد من دعوة للمصارحة، فهي دعوة للمصارحة على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي: أما على المستوى الفردي: فمن سجية النفس وطبيعتها التي فطرها الله عز وجل عليها أنها ترهب الخطأ وتهاب الانحراف وترفض تأنيب الضمير واللوم الداخلي، وتلك صفة يكفي في استحقاقها كون المرء إنساناً، فالناس كل الناس مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم أياً كانوا تلومهم أنفسهم حين يقعون في الخطأ، ويواجهون سياطاً من اللوم والعتاب من تلقاء أنفسهم حين يرون أنهم وقعوا في الخطأ أياً كان هذا الخطأ ومهما كان مصدره ومهما كانت مقاييسه وموازينه.
وقد يكون الخطأ عند زيد من الناس هو الصواب بعينه عند عمرو، وقد يكون الحق عن طائفة هو الباطل عند طائفة، لكن الناس يشتركون في أنهم يرفضون الخطأ ويهابونه وتلومهم أنفسهم لوماً عنيفاً عندما يقعون في الخطأ، فهم يشتركون في هذا الأصل وإن اختلفوا في مقياس الخطأ والصواب، وهذا أمر لا يعنينا، إنما الذي يعنينا هو أن تأنيب النفس ولومها أمر مشترك عند الناس جميعاً.
أما المسلم الذي يدرك قيمة الحياة وغايتها ويعلم أن الدنيا دار ممر، وأن الدنيا وسيلة للدار الآخرة فهو أشد لوماً لنفسه وأشد عتاباً ومحاسبة لنفسه، ومن ثم فإنه تواجهه نفسه بسياط مؤلمة من اللوم والتأنيب والمحاسبة على الخطأ الذي يقع فيه، وحين تثقل على النفس تبعة الخطأ وتنوء بحمل نتائج التقصير فإن الإنسان حينئذ يمارس حيلاً لا شعورية مع نفسه لينفي عنها الخطأ أو يهون من حدوده، أو يخفف تبعاته، كل ذلك يعمله مع نفسه حتى يسلم من اللوم والعتاب الداخلي، وتارةً يحاسب نفسه ويراجعها؛ لكن هذه الحيل تساهم في إخفاء الحقيقة وفي تكوين ركام من الأوهام تحجب عنه الرؤية الصادقة تحجب عنه الحقيقة فحينئذ يخادع نفسه ويكذب على نفسه ومن ثم كان لا بد له من دعوة للمصارحة حتى يكون صريحاً مع نفسه.(25/4)
وسائل التخلص من مسئولية الخطأ(25/5)
تحميل الآخرين مسئولية الخطأ
معشر الإخوة الكرام! إننا نمارس الكذب كثيراً على أنفسنا نمارس الكذب أفراداً، ونمارس الكذب جماعات، أما على المستوى الفردي فإن المرء حين يقع في الخطأ -كما قلنا- تلومه نفسه، وتؤنبه، فهو يحاول أن يتخلص من هذا اللوم، ويحاول أن يتخلص من هذا التأنيب فيفتعل حيلاً نفسية لا شعورية يحاول أن يدفع بها عن نفسه تبعة الخطأ ومرارة تحمل المسئولية، فيمارس الكذب على نفسه، ويحق على هذا السلوك كل شناعة تحق على الكذب.
فلئن كان الكذب فجوراً وشناعةً حين يمارسه المرء على الآخرين، فهو كذلك حين يمارسه على نفسه، بل هو يزيد على ذلك استغفالاً لنفسه وسلوك مسلك النعامة التي تخفي رأسها وتظن أن العدو لا يراها كما يقال في المثل.
إن الفرد يمارس أحياناً أسلوب الإسقاط وتحميل المسئولية على الآخرين، فالطالب الذي يفشل في الامتحان مثلاً لم يكن ذنبه أنه كان مهملاً، بل هو كان جاداً وقد بذل كل الجهد لكن الأستاذ كان فاشلاً، فالأستاذ كان لا يجيد شرح المادة، أو أن أعمال السنة كانت هي السبب ولو كانت نسبتها ضئيلة؟ نعم هي السبب في رسوبه.
وربما لم يكن هذا وذاك ولكن أسئلة الامتحان كان مفاجئة وكانت غامضة، أو كان التصحيح غير دقيق، أو كانت نفسيته يوم الامتحان غير مستقرة فلم يوفق للإجابة، وهكذا يفتعل هذا الطالب ألواناً من الحجج والمعاذير ليقنع نفسه ويخدع نفسه أنه لا يتحمل المسئولية.
أما لو كان جاداً وبعبارة أخرى: لو كان صادقاً مع نفسه لاعترف بأنه يتحمل المسئولية أياً كان، فالطالب مثلاً يعرف أستاذه طوال العام، فلئن كان الأستاذ جدلاً لا يجيد شرح المادة فكان بإمكان الطالب أن يعطي هذه المادة جهداً مضاعفاً حتى يعوض القصور الذي يأتي من أستاذه.
والطالب ليست هذه أول مرة يدخل فيها قاعة الامتحان فهو يتوقع أن تأتيه الأسئلة على أي صورة وعلى أي احتمال، المهم: أنه لو كان جاداً وصادقاً وصريحاً مع نفسه لاعترف أنه سبب الفشل ولاعترف أنه يتحمل المسئولية.
فهكذا يحمل الآخرين المسئولية، وهذا الكلام يقوله لنفسه ولا يقوله للآخرين.
وهكذا نجد الحجة أيضاً نفسها تتبدى عندما يسلك الشاب سلوكاً غير مستقيم، فيواجه بالمناصحة فيحتج بأن والده لم يحسن تربيته أو أنه نشأ في بيت غير محافظ، بل حين ترى أنت مثلاً شاباً مستقيماً صالحاً خيراً وترى فيه عيباً فتناقشه فيه، كأن يكون هذا الشاب ليس جاداً ليس حريصاً على طلب العلم الشرعي فيه جانب من جوانب القصور أياً كان هذا الجانب، فتناقشه وتصارحه فماذا سيقول لك؟ سيقول لك: إني تربيت مع مجموعة غير جادة إني كنت مع رفقة كانوا غير حريصين على العلم حتى مضى زهرة عمري وريعان شبابي ولم أستفد، والسبب هو فلان فهو الذي يتحمل المسئولية السبب هو أستاذي إنه يجيد أن يحمل المسئولية لأي شخص كان ولو لم يكن له علاقة بالأمر من قريب أو بعيد، أما أن يكون شجاعاً صادقاً فيحمل نفسه المسئولية فيقول: أنا وإن تربيت في بيت يعج بالفساد والفتنة فإني مكلف شرعاً أن أسمع كلام الله عز وجل وأحضر إلى صلاة الجمعة مع الناس فأسمع ما يقوله خطيب الجمعة أدرس في المدرسة وأقرأ وأسمع من الأستاذ وأسمع من هنا وهناك؛ فقد كان هذا كله جديراً بأن يوقظني إن كان في قلبي حياة لكنه لا يملك الشجاعة التي تؤهله أن يقول هذا الكلام.(25/6)
الاعتذار بسوء التربية والوسط الذي يعيش فيه
والآخر الذي يحتج مثلاً بالتربية والوسط الذي عاشه يحتج بهذه التربية على كونه عاش هزيلاً على كونه عاش مفرطاً في جانب العلم أو الدعوة، هو الآخر غير جاد مع نفسه، وإلا فهو يسمع كما يسمع الآخرون ويقرأ كما يقرأ الآخرون.
معشر الإخوة الكرام! في غزوة بني قريظة حين حكم فيهم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم: بأن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم كان كل من بلغ الحلم قتل، ومع ذلك كان هذا الشاب صغير السن ربما يبلغ الرابعة عشرة أو الثالثة عشرة أو أكثر أو دون ذلك، وقد عاش في بيت يهودي، فأبوه يهودي وأمه يهودية، وعاش في وسط أحياء اليهود، وهو من الصغر يرضع الحقد على هذا الدين ويسمع من والده ومن عمه ومن أقاربه ومن أمه ومن الوسط الذي هو فيه؛ يسمع ذم هذا الرجل وأنه كذاب غير صادق، ومع ذلك قتل، فهل قتل ظلماً؟
الجواب
لم يقتل ظلماً فهذا حكم الله من فوق سبع سماوات وسيلقى الله عز وجل ويحاسبه.
فلئن كان أحد -معشر الإخوة الكرام- يعذر بسوء التربية فهؤلاء أولى بالعذر من غيرهم ممن عاش في بيئة مسلمة يسمع الكلمة صباح مساء، فلماذا نتهرب من المسئولية ونحملها الآخرين، ونسقط تبعاتنا على غيرنا، تارة على الأب تارة على الأستاذ تارة على فلان أو فلان من الناس تارة على الوسط الذي نعيش فيه، ونتفنن في ارتفاع الرقم الذي يصل إليه الذين يتحملون المسئولية وننسى أشخاصنا وننسى أنفسنا؟(25/7)
أسلوب التبرير
وهناك أسلوب ثالث: أسلوب التبرير، أن نلتمس الأعذار فنرى أنه ليس هناك شخص بعينه يمكن أن نحمله المسئولية لكن ثمة أعذار كانت هي السبب وراء وقوعنا في ذلك، ففلان الذي وقع في المعصية والانحراف! يرى أنه مسئول عن نفسه، ويرى أن والده أو قريبه أو مربيه لا يتحمل المسئولية، ولكن من جهة أخرى: يرى أنه عاش في عصر بدت أمامه الفتن لا يستطيع دفعها يرى أنه عاش في مرحلة أو فترة لم يستطع فيها أن ينتصر على تلك الفتن التي واجهته فهو معذور! أو فلان الذي لا يستيقظ للصلاة مثلاً: يرى أنه ثقيل النوم يرى أن هناك سبباً من الأسباب يمنعه من الاستيقاظ للصلاة! والآخر الذي يمتنع عن مجال من مجالات الدعوة هو الآخر يفترض ويفتعل أمامه مفاتن يخشى أن تترتب على عمله، ويرى أنه لا ينبغي أن ينزل إلى الواقع لا ينبغي أن ينزل إلى الميدان وهكذا يفتعل أعذاراً وأوهاماً يرى أنها عذراً له عن قعوده وتخليه، والعذر الأول والأخير لو كان صريحاً وصادقاً مع نفسه هو الكسل، وليس غير الكسل.
وحين يفشل الفرد في الإسقاط فلا يجد من يحمله المسئولية ويفشل في التبرير لعمله يسلك أسلوباً ثالثاً: أن يتهرب من التفكير في المشكلة أصلاً: فهو حين يبدأ جلسة صريحة يحاسب فيها نفسه، فحينئذ يكتشف أنه يتحمل المسئولية بنسبة (100%) كما يقال، ولم يجد من يحمله المسئولية، ولم يجد عذراً لنفسه يكتشف بعد فترة أنه صار يفكر في موضوع آخر وانساق به التفكير إلى موضوع آخر ونسي القضية الأساس، فما السبب؟ هو دون شعور يتهرب من التفكير في مشكلته وإذا أردت أن تتأكد فأمسك بأي إنسان تراه في الشارع من الناس المعرضين، بل دون ذلك أمسك بإنسان من الصالحين الأخيار الذي تراهم يقعون في أي خطأ من الأخطاء وقل له: أسألك بالله أن تجلس نصف ساعة فتفكر في نفسك، تجده لا يطيق ذلك فلا يطيق أن يفكر في نفسه، بل يتهرب من التفكير.
وحتى حين يجلس عازماً على التفكير في نفسه يتهرب فتصده نفسه، لأنه لو فكر في نفسه تفكيراً صادقاً صريحاً لتوصل إلى نتيجة لا مجال للمجادلة فيها أنه هو يتحمل المسئولية فحينئذ تؤنبه نفسه، ويلومه ضميره، وهو لا يستطيع أن يتحمل هذا التأنيب وهذا اللوم، فيختصر الطريق من أوله وينصرف عن التفكير في نفسه وفي مشكلاتها أصلاً.(25/8)
عقدة البحث عن الحل والعلاج
رابعاً: حين يفشل في ذلك كله تبدو له عقدة البحث عن الحل والعلاج: فحين يفشل المرء في الحيل السابقة ويتكرر إخفاقه مع نفسه يعمد إلى أسلوب يتصور من خلاله أنه يبحث عن الحل، بل إنه يمارس العلاج وهو يزيد الأمر تعقيداً، فهناك من يقصر في طاعة من الطاعات أو يقع في معصية من المعاصي ويفشل في مجاهدة نفسه واستنقاذها، فيعمد بعد ذلك للبحث عن العلاج، والعبارة: أنا شاب أشكو من كذا وكذا فما الحل؟ هذه العبارة كثيراً ما نراها ضمن أسئلة المحاضرات أو نقرؤها في زاوية الفتاوى والمشكلات التي تعرض في الصحف، أو نقرؤها في رسالة يحملها البريد.
إن هذا لا يعني الاعتراض على السؤال أو طرح المشكلات؛ لكن الواقع أوسع من ذلك، إنك ترى هذا الشاب يطرح السؤال في كل مناسبة ويلقيه في أكثر من لقاء، ويبقى مع ذلك في تطلع إلى الحل يبقى يثير السؤال نفسه ويطرحه؛ ولهذا ترى السؤال الذي يطرح في هذا اللقاء هو السؤال الذي يطرح في لقاء الغد وربما من الشخص نفسه وبنفس اللغة: أنا شاب أشكو من هذه المشكلة فما الحل وما العلاج وما الوسيلة؟! ومكمن الداء هنا: انصراف الشاب عن الحل الحقيقي والعمل على البحث عما وراء ذلك، فالمعصية طريقها واضح لا خفاء فيه، وما نهى الله عز وجل الإنسان إلا عما يطيق، والطاعة طريقها أبلج لا يختلف إلا على من اعوج عن الطريق، فلا يزيغ عن طريق الله عز وجل إلا هالك: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
ومع تكرار السؤال والإلحاح فيه دون جدوى يغيب عن بال الشاب أن الحل بيده وأن العلاج ببساطة هو أن يترك ما كان يفعل أو يفعل ما كان يترك وأن يجاهد نفسه على ذلك، وحين يفشل في هذا فلا يعني أن هناك عشرين خطوة نسي هو الخطوة العشرين وهي العقدة وهي السبب في عدم الوصول إلى الحل، إن مكمن الداء وأساس المشكلة هو ضعف الإيمان وضعف العزيمة والإرادة.(25/9)
نماذج من المشكلات المتكررة مع وضوح العلاج
ولنعرض أيها الإخوة نماذج من الأسئلة التي كثيراً ما تصلنا حتى لا نحلق في الخيال سؤال وصلني في أحد الدروس: شاب يقول: إنني أعق والدي فما الحل؟ أجيبوني بالله عليكم كيف تجدون الحل لمثل هذه السؤال؟! إني لا أجد أن أقول لهذا الشاب إلا ما قلته له: الحل أن لا تعق والديك، فهل هناك حل آخر غير هذا الحل؟! سؤال آخر يتكرر أيضاً: إنني أسمع الغناء وأريد أن أتخلص من الغناء فما الحل؟ إنني شاب لي صحبة فاسدة وأريد أن أتخلى عنهم، فكيف أتخلى عنهم؟ الحل: أن تترك سماع الغناء الحل: أن تترك الصحبة الفاسدة فالحل في يدك، حين تفشل فالمشكلة ليست في أن هناك عشرين خطوة أو ثلاثين خطوة لم نذكرها لك، أو أننا ذكرنا لك هذه الخطوات كلها ونسيت أنت الخطوة الأخيرة وصارت هي العقدة في الحل.
لا أستيقظ لصلاة الفجر فما الوسيلة لذلك؟ مشكلتي أنني أقع في العادة السرية وأجاهد نفسي لكني لا أستطيع، فما الحل؟ وهي قائمة طويلة معشر الإخوة الكرام من الأسئلة تتكرر كثيراً، فيجاب عن السؤال ثم ترى السائل نفسه يعرض السؤال مرة أخرى وبنفس اللغة وعلى الشخص نفسه مرة أخرى، وهكذا يبقى في حلقة مفرغة.
معشر الشباب! إننا لا نرفض أبداً أن يطرح الشاب مشكلاته لا نرفض أن يسأل أن يبحث عن الحل، وأيضاً لا نعترض على المتحدث حين يجيب وحين يذكر خطوات للحل، لكننا نخشى أن تتحول القضية إلى عقدة يتصور الشاب بعد ذلك أنه معذور؛ لأنه لم يصل إلى الحل.
شاب اتصل علي بالهاتف فجلس معي قرابة الساعة يشكو مشكلته وأعرض له الحل، ثم قال: إني ذهبت إلى فلان من طلبة العلم سبع مرات، وفلان كذا وكذا مرة، وفلان، قلت له: هل أنت مقتنع بعد ذلك مما عرضت لك أنه هو الحل؟ قال: لا، قلت: أتريد حلاً لم تأت به الشريعة الإسلامية، لست أدري؟! المشكلة هي منك أنت وحدك المشكلة أنك إنسان ضعيف الشخصية ضعيف الإيمان ضعيف العزيمة والإرادة، فلا داعي أن تضيع أوقات الناس وتشغل الناس بهذا
السؤال
هذه مشكلتي! إذا لم تستطع فكن صريحاً واقعياً مع نفسك وقل: إنني ضعيف! وجاهد نفسك ولا داعي لإضاعة الوقت؛ لأنك حين تبحث عن الحلول فإن هذا يهون عليك بشاعة الخطأ الذي وقعت فيه ويخفف عليك من لوم النفس وتأنيبها؛ لأنك تتصور أن هناك حلاً لا يملكه إلا رجل رأيته في المنام ولما تراه إلى الآن في اليقظة، فأنت تسأل بكل مناسبة وكل لقاء علك أن تجد من رأيته في المنام، ولعلك ترى ملك الموت قبل أن ترى هذا الذي رأيته في المنام والذي يملك الحل السحري الذي تتوهمه أنت.
معشر الإخوة الكرام! إنها مخادعة وحيلة نفسية نتخلص بها من عيوبنا، وخير لنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا أن نكون واضحين فنحدد أسباب المشكلة ونعرف أن مكمن الداء هو تقصيرنا هو ضعف إيماننا هو ضعف همتنا، وحينئذ نستطيع أن نحل المشكلة أو على الأقل أن نعترف بالمشكلة، وأن نعترف بمسئوليتنا خير لنا من المخادعة والمراوغة.
شاب أرسل لي رسالة يشتكي فيها مشكلته، ويذكر لي أنه أرسل إلى عدد ممن لم يتجاوبوا معه، فأرسلت له رسالة مطولة من ثلاث صفحات وتفاعلت مع مشكلته، وظننت أن هذه الرسالة ستكون الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي، فرد علي بالشكر والترحيب بالاهتمام برسالته وأخبرني أنه استفاد مما أعطيته، ثم بعد ثلاثة أشهر أتسلم رسالةً وأقرأ الرسالة فأرى أن الخط ليس غريباً علي، والقلم ليس غريباً علي، وإذا بالاسم نفسه لكن العنوان يختلف، ثم أنظر إلى ظرف الرسالة فأرى أنها أرسلت من مكتب البريد الذي أرسلت منه الرسالة السابقة، فأعود إلى المنزل وأقارنها بالرسالة السابقة وإذا هي هي، فإذا هو الشاب نفسه يرسل لي الرسالة بنفس اللغة وبنفس المشكلة: أنني شاب أشتكي من هذه المشكلة ثم حكى لي قصته، فما الحل؟ فرددت عليه قلت له: الآن اقتنعت أن الحل السابق هو ما قلت لك إنك باختصار ضعيف الإرادة ضعيف العزيمة فأرجو أن لا تشغل نفسك بالبحث عن الحل أو البحث عن تلك الخطوات السحرية التي تنتظرها من فلان وفلان، الحل تملكه أنت وحدك، وخير لك أن تكون صريحاً مع نفسك من أن تشغلها بالبحث عن حل ليس هو الحل الناجح والنافع.
مرة أخرى معشر الإخوة الكرام! لسنا نعترض على السؤال وعلى طرح المشكلات وعلى الحديث عنها؛ لكن حين نطرحها يجب أن نطرحها باقتصاد، ويجب أيضاً أن نتصور مكمن الداء وأساس المشكلة، وحين نجيب أيضاً عن السؤال وعن المشكلة فيجب أن نوقف السائل على أن الحل بيده.
وأن الحل ليس هذه الخطوات المرقمة التي أعطيناها إياه.(25/10)
الورع البارد
وخطوة وأسلوب خامس: هو أسلوب الورع البارد في مقابل تلك الحجج السابقة هناك من يدرك تبعات العمل الجاد وتكاليفه على النفس، فلا يطيق الصبر ولا يستطيع المداومة فيصعب عليه أن يصارح نفسه بالكتم ويفاتحها بالخمول، فيتعلل حينئذ بأنه يتورع عن تحمل المسئولية ويخاف من الأمانة.
وكم نرى نماذج ممن يملك القدرة والعلم والوقت فيضيع عمره سدى وأوقاته هدراً، وحين يدعى إلى العمل والمشاركة يعتذر بأنه ليس أهلاً، وأن الأمانة أكبر والمسئولية أشق مع أنه يعلم أن الكثير ممن هم في الميدان دونه بمراحل، ولولا ثقتنا بحسن نوايا هؤلاء وطيب قلوبهم وصدق إيمانهم لقسنا حالهم بحال من قال: {ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49].(25/11)
التهرب من المسئولية بنقد الآخرين
وأحياناً يسلك صاحبنا مسلكاً آخر: فينتقد العاملين ويتحدث عن زلاتهم وأخطائهم ويرى أن هذا الميدان من العمل فيه من الأخطاء هذا الخطأ والثاني والثالث والرابع والميدان الآخر: فيه من الخطأ كذا وكذا، ومن يحاضرون يخطئون في كذا وكذا، ومن يتصدرون لحلق القرآن يخطئون في كذا وكذا، ومن يربون الشباب يخطئون في كذا وكذا فيعطيك قائمة من الأخطاء للناس جميعاً، هذه الأخطاء والزلات لم تصدر فعلاً عن قناعة تامة، إنما صدرت من حيلة نفسية من رجل كسول لا يستطيع العلم ولا يطيق الصبر على تحمل لأواء الطريق ومشقته، فحينئذ لا مناص له من خيارين لا ثالث لهما: الخيار الأول: أن يقول: إن أولئك عاملون جادون ناصحون صادقون وأنا رجل كسول فاشل لا أستطيع العمل، وهذا خيار صعب على النفس أن تقوله، فحينئذ يلجأ إلى الخيار الثاني: إنه لا يطيق أن يتحمل لا يطيق أن يضحي لا يطيق أن يهدر تلك الأوقات التي يقضيها مع أقرانه في انبساطة وأحاديث جانبية ويسافر هنا وهناك حيثما أراد فحينئذ يعمد إلى حيلة نفسية فينتقد العاملين ويتحدث عن أخطائهم، وقد يتحدث عن أخطاء واقعة فعلاً لكنه هو لا يعمل مثقال ذرة مما يعمله أولئك، والباعث إلى الحديث عن هذه الأخطاء كلها هو أوهام يفترضها أمام نفسه حتى لا يرى أنه مقصر ومهمل ويصارح نفسه بالحقيقة المرة.(25/12)
معوقات المصارحة على المستوى الجماعي(25/13)
خوف البلبلة وتفريق الصف
كل ما سبق على المستوى الفردي.
أما على المستوى الجماعي فنمارس ذلك كثيراً، فمع هذه الصحوة المباركة واليقظة الخيرة لا بد من أخطاء وتجاوزات، والآن وقد اتسع نطاق الصحوة وامتد رواقها فكان لا بد من أن تكون الأخطاء مكشوفة والعيوب ظاهرة، وفي المقابل فالتصحيح لا مناص ولا سبيل له إلا أن يكون تحت ضوء الشمس وبمستوى وضوح الأخطاء.
ولست أدري متى نتجاوز تلك المرحلة التي نمارس فيها دفن الأخطاء ومواراة العيوب والتستر على الحقائق باسم المصلحة، ومتى ننتهي من إشهار سلاح إثارة الفتنة والبلبلة في وجه الناصح والمنتقد، ويصبح هذا السلاح عصاً يلوح بها بين حين وآخر، فنمارس ألوان الإرهاب الفكري في وجه من يدعو إلى التقويم ومن يدعو إلى التصحيح ويسعى للإصلاح.
إن هذا هو المعوق الأول للمصارحة، أعني: خوف الفتنة والبلبلة وتفريق الصف، فنمارس دفن الأخطاء والعيوب والتستر عليها حتى لا يكون هناك فتنة وحتى لا يكون هناك بلبلة في وسط الصحوة، حتى تأتي الطامة الكبرى والبلبلة الكبرى بعد ذلك.(25/14)
عقدة القنوات الخاصة
والمعوق الثاني: عقدة القنوات الخاصة، هنا من ينادي وبصدق أن نقد المربين يسمعه المتربون ونقد الأساتذة يقرؤه الطلاب، ونقد الآباء صار بمحضر الأبناء، ومن ثم يدعو أولئك إلى أن يكون النقد من خلال قنوات وزوايا خاصة، هذه القنوات ليس لها وجود إلا في أذهان أصحابها، نعم يستطيع الأب أن يوجه اللوم للأم بلقاء خاص ويستطيع مدير المدرسة أن ينتقد الأساتذة وحدهم، لكن قطاعات الصحوة أكبر من ذلك كله، والحديث عن أخطائها لا يمكن إلا من خلال كلمة تسجل وتسمع في الآفاق من الجميع، أو مقالة تطبع وتقرأ من الكافة، وحين يسمع الجميع عن الخطأ كان ماذا؟ أليس هذا مدعاة أن يعلموا أن قضيتهم في أيد أمينة أليس هذا مدعاة أن يعلموا أن هناك من يتحدث بالنيابة عنهم.
معشر الإخوة الكرام! إن أخطاءنا لم تعد سراً ولم تعد خافية، فنحن مثلاً حين نتحدث أن أخطاء المربين فسيسمع بها المتربون حتماً ويقرئونها؛ لأنه لا مجال للحديث إلا تحت ضوء الشمس، فأي الطريقين خير لنا: أن يعيش أولئك المتربون وهم يرون الأخطاء بأم أعينهم أو يسمعونها حينئذ من الناصحين فيدركون أن هناك من يتحدث بالنيابة عنهم، وهنا من يحامي عن أخطائهم، وهناك من يطالب بحقوقهم ويصححها؟ إن مشكلتنا -معشر الإخوة الكرام- من عقدة التلازم بين الخطأ والانحراف، فنتصور أن من وقع في الخطأ فهو منحرف أن من أخطأ مرة فهو فاشل، وتهربنا من هذه العقدة التي نفترضها يريحنا كثيراً من هاجس التخوف من المصارحة، فنريد أن نتحدث وبوضوح ونقول: هذه أخطاؤنا ونحن مع ذلك ناجحون هذه أخطاؤنا ومع ذلك لم نفشل، فهل نصل معاشر الإخوة الكرام إلى هذا المستوى من النضج والتفكير؟ فنتحدث عن الأخطاء والزلات ونحن نشعر أن تجاربنا ليست فاشلة، وهذا هو النتاج الذي نراه الآن بأم أعيننا، إنه نتاج النجاح الذي لا يستطيع أحد أن يتصور أنه نتيجته وحده وأنه ثمرة جهده وحده، فهو نتاج جهد الجميع.
إن هذا النتاج الذي نراه ليس إلا دليلاً واضحاً على النجاح ولكن فشلنا في تجربة لا يعني أننا فاشلون، وخطؤنا مرة لا يعني أننا قد فقدنا الصواب حتى النهاية.(25/15)
خوف استثمار الأعداء
والمعوق الثالث: استثمار الأعداء مما يعيق المصارحة عند البعض: التخوف من استثمار أعداء الصحوة لهذه الأخطاء والاتكاء عليه، مع أن هذه الأخطاء لم تعد سراً وأمراً لا يدركه إلا الخاصة، وسيأتي مزيد حديث عن هذا الجانب عند الحديث عن المنهج القرآني.(25/16)
التبرير بأن الخطأ حتم لا ينفك عنه البشر
المعوق الرابع: لا ينجو أحد من الخطأ: إن البشر من طبيعتهم الخطأ والقصور فهو ملازم لأعمالهم وجهودهم، لكن أيسوغ أن يكون ذلك عذراً لارتكاب الخطأ والتهاون والإهمال، فحين تنتقد وتطلب الإجابة عن خطأ يرتكب يقال لك: إن الخطأ من صفات البشر والقصور ملازم لأعمالنا، فكيف يسوغ لنا أن نحتج دائماً على أخطائنا وتقصيرنا وإهمالنا بأن الخطأ ملازم للبشر، ولا يسوغ لمن يقع في الكبائر أن يحتج هو الآخر بأن كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون.
إن العصمة لغير الأنبياء مطلب مستحيل ولا شك، بل واعتقاد ذلك خلل في المنهج وانحراف في المعتقد، فلا بد من الخطأ والتقصير، لكن هذا شيء وكون هذا يعتبر سلاحاً يشهر في وجه الناصح، ووسيلة للدفاع عن الأخطاء شيء آخر.
إنه لا يسوغ لنا أن نستر عيوبنا وأخطائنا وندافع عنها بحجة أن البشر يقعون في الخطأ ويقعون في القصور ولا بد.(25/17)
وقفات مع المنهج القرآني في المصارحة
أخيراً: بعد هذه المعوقات للمصارحة سواء كانت على مستوىً فردي، أو على مستوىً جماعي، وبعد تلك الأعذار والأساليب والحجج التي نفتعلها لتكون عائقاً لنا وحاجزاً عن الوصول إلى الحقيقة، بل نسلكها لتكون وسيلة لممارسة الكذب على أنفسنا؛ نقف وقفات مع المنهج القرآني:(25/18)
القرآن الكريم يعاتب رسول الله وهو بين المشركين في مكة
إننا نقرأ القرآن معشر الإخوة الكرام، فنقرأ فيه عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، يقول الله عز وجل وفي سورة مكية: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ} [عبس:1 - 11].
فيعاتب الله سبحانه وتعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم في آيات تتلى ويقرؤها المسلمون جمعياً، بل ويسمعها كفار مكة، ويجهر بها صلى الله عليه وسلم ويقرأ بها في الصلاة أمام الناس، ومع ذلك لم يكن هذا العتاب منقصاً لشخصية محمد صلى الله عليه وسلم.
كان بالإمكان أن يكون هذا العتاب رؤيا يراها صلى الله عليه وسلم ورؤيا الأنبياء وحي، أو كلمة يقولها له جبريل، أو أي نوع من أنواع الوحي يوحيه الله عز وجل، لكن لحكمة بالغة يأتي هذا العتاب قرآناً يقرؤه الناس إلى يوم القيامة عتاباً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القدوة المثلى ليكون ذلك قدوة ومنهجاً يسلكه الناس.(25/19)
مصارحة الصحابة وعتابهم في مكة
ونقرأ كثيراً عتاباً صريحاً، بل أحياناً قاسياً ووعيداً للجماعة المسلمة ولأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على شتى مراحل الدعوة، فنقرأ في القرآن المكي قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].(25/20)
مصارحة المسلمين بعد غزوة بدر
ويهاجر صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ويستقر هناك، ويعيش المسلمون ويخوضون أول معركة كانت فرقاناً بين الحق والباطل -وهي معركة بدر- وصارت تلك المعركة شهادة لكل من خاضها وعاش فيها: (اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) ومع ذلك يواجه أولئك بعتاب يقول الله عز وجل فيه: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:67 - 68] إنه عتاب يأتي لأهل بدر.(25/21)
مصارحة المسلمين بعد غزوة أحد
ثم تدور الأيام وتأتي بعدها غزوة أحد، ويعاتب أولئك أيضاً في عتاب صريح وإيقاف لهم على مكمن الداء وأساس المشكلة: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165].
ثم يقول الله عز وجل بعد ذلك: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا مَا أَصَابَكُمْ} [آل عمران:152 - 153].
{وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ} [آل عمران:154].
{إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122].
ولهذا قال أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنت أعلم أن منا من يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.(25/22)
مصارحة المسلمين بعد حادثة الإفك
ولا يتوقف العتاب، فيتكرر في حادثة الإفك حين أشاع أحد المنافقين فرية ماجت في صف المجتمع المسلم، فجاء ذاك العتاب والوعيد الشديد، يقول الله عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [النور:14 - 17].(25/23)
مصارحة المسلمين بعد غزوة حنين
وفي غزوة حنين وهي من آخر المشاهد، يقول الله عز وجل: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].(25/24)
المصارحة بالخطأ لا تمنع من الفضيلة وعلو المنزلة
وهكذا نقرأ في القرآن الكريم آيات عظيمة كثيرة يواجه فيها المسلمون ويواجه فيها أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعتاب يسمعه المنافقون أعداء الله ورسوله ويسمعه اليهود أهل الكتاب ويسمعه كفار قريش والمشركون الذين يتربصون الدوائر، ويبقى هذا القرآن يتلى إلى قيام الساعة، ومع ذلك كله لم يكن مانعاً من أن يكون أولئك خير القرون، كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
ولم يكن ذلك كله مانعاً من أن يكون أولئك أمنة لهذه الأمة، يقول صلى الله عليه وسلم: (النجوم أمنة للسماء فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون).
ولم يكن ذلك مانعاً من أن يكون أولئك كلهم ممن قال الله عز وجل فيهم: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء:95].
ولم يكن ذلك مانعاً من أن يكون أساس النجاة ومعيار النجاة إلى يوم القيامة هو اقتفاء أثر ذلك الجيل.
أخبر صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هي يا رسول الله! قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
معشر الإخوة الكرام! كان ذلك النقد تواجه به الأمة ويواجه به المجتمع صريحاً واضحاً تحت ضوء الشمس، وفي وضح النهار، وفي آيات تتلى ويقرؤها الجميع، ويسمعها الأعداء والمنافقون وأهل الكتاب والمشركون، كان ذلك النقد ضرورة للتربية ضرورة للبناء ومع ذلك لم يكن هذا النقد كله معوقاً لذلك الجيل ولتلك النخبة أن تصل إلى تلك المنزلة، فما بالنا نريد أبراجاً عاجية! وما بالنا نفرض حول أنفسنا أسواراً من الأسلاك الشائكة! لخوف النقد الذي نتصور أنه يعني الفشل نتصور أنه يعني إثارة الفتنة أنه يعني إثارة القلاقل أنه يعني استثمار الأعداء لهذه الفرص إلى غير ذلك من الأوهام التي نفتعلها لنخادع أنفسنا، ولنمارس نحن حجب الحقائق عن أنفسنا ولنمارس صنع الركام وصنع العشا على أعيننا حتى لا نرى الحقيقة، وخير لنا أن نرى الحقيقة!(25/25)
النتائج المرة لعدم المصارحة
أيها الإخوة! هل بقي بعد ذلك من حاجة إلى أن نقتنع بأننا بحاجة بل بضرورة إلى المصارحة، وحين تتخلف هذه المصارحة فما النتائج المرة لتخلفها؟(25/26)
تراكم الأخطاء حتى الوقوع في الهاوية
أقول أولاً: إن المصارحة ولو دون تصحيح الخطأ خير لنا على كل حال، إننا حين نكون صرحاء سواءً كنا أفراداً أو جماعات نكون واضحين، فنقرر أننا نحن مخطئون وأننا نتحمل المسئولية كاملة وهذا خير لنا ولو فشلنا في علاج الخطأ، أو لم نكن نملك الحل، فأن نعرف الواقع خير من أن نخادع أنفسنا ونتصور أننا على طريق سليم، وأننا على الجادة، ولا نكتشف ذلك إلا حين تقع القاضية.(25/27)
استفحال الأخطاء واستمراؤها
ثانياً: إن ممارسة حجب الحقائق على أنفسنا سواءً كنا أفراداً أو جماعات مدعاة إلى استفحال الأخطاء واستمرارها واستمرائها حتى تحول الأخطاء إلى جزء من تفكيرنا أصلاً، فنصبح نحن نتفكر بمنظار هذه الأخطاء، وبعد ذلك نستنكر على كل ناصح ومنتقد.(25/28)
فتح باب النقد للمرتزقة والوصوليين
ثالثاً: إن عدم المصارحة مجال لفتح الباب على مصراعيه أمام من ينتقد وهو لا يريد الإصلاح، هناك من يرتزق ويكتسب من نقد الصحوة والطعن في رموزها وبرامجها ووسائلها، وهي قضية لم تعد خافية على أحد.
أتدرون معشر الإخوة الكرام! أننا حين نمارس حجب الحقائق وحين نسكت الأصوات الناصحة الصادقة فإننا نفتح المجال لأولئك المرتزقة، لأن أولئك الذين يتاجرون لا بد أن ينطلقوا من أخطاء تقع فعلاً فيضخمونها ويستعملون كل أنواع المضاعفات العددية فيضرب العدد في أضعافه ثم يربعه بعد ذلك حتى يجعل من الجزء اليسير خطأ شنيعاً ظاهراً أمام الناس، فيتحدث مع أولئك الذين لم يعتادوا أن يسمعوا إلا الثناء ولم يعتادوا أن يسمعوا النقد فيرون فعلاً أن هناك خطأ وأن أولئك يتحدثون عن واقع فيجتمعون ويستجيبون لأولئك المنتقدين.
لكن لو بنينا منهجاً من النقد الذاتي الصريح وكنا صرحاء واضحين، وسمحنا للصوت الناصح الذي يتحدث بحكمة فينتقد الأخطاء ويضعها في موضعها الشرعي لما وجد أولئك مجالاً، ولكان أقلنا تفكيراً وأضعفنا إدراكاً يستطيع أن يقول وبأعلى صوته لأولئك: نعم، إن ما تقوله فيه جزء من الحقيقة ولكن هذا لا يعني الفشل ولا يعني أن كل ما تقوله هو الحق ولا يعني سلامة نيتك ومقصدك وإرادتك.
إنه لا سبيل لتجاوز هذه العقبة، ولا سبيل لإسكات تلك الأصوات إلا ببناء منهج للنقد واضح صريح نتحدث به عن أخطائنا تحت ضوء الشمس وفي وضح النهار، وإلا فلنعلم أن هذا سينشئ أولئك الذين لا يجيدون النقد سواءً كانوا عن حسن نية أو كانوا عن سوء نية، ولا يهمنا نيتهم، المهم: أن إسكات الأصوات الصادقة التي تجيد النقد والنصح مدعاة لإظهار وبروز تلك الأصوات النشاز الأصوات الشاذة التي لا تعرف المنهج السليم، فتدعو إلى إسقاط كل هذا العمل وذاك الجهد بحجة هذا الخطأ أو ذاك.(25/29)
السقوط في النهاية
رابعاً: من نتائج حجب الحقائق: السقوط في النهاية؛ لأن الحواجز التي نفترضها تبقى حواجز مؤقتة فلا بد أن يكتشف الناس الخطأ بعد ذلك، ولأضرب لكم مثلاً واقعياً: الجهاد الأفغاني: بدأ الجهاد في وقت نسيت فيه الأمة الجهاد حتى صار من يدرس في الفقه يترك باب الجهاد؛ لأنه يشعر أنه يتحدث عن غير الواقع، فقام هذا الجهاد وأحيا هذه الفريضة في الأمة، وكان طبيعياً أن يكون هذا الجهاد فيه خطأ وفيه قصور وفيه تجاوزات والجهاد الأفغاني والأمة الأفغانية جزء من الأمة لا يمكن أن نفصل أمراض الأمة عن أمراضها، فكان طبيعياً أن تمتد العدوى بأمراض الأمة إلى الجهاد الأفغاني ومن باب أولى أن تمتد أمراض العمل الإسلامي والصحوة إلى الجهاد الأفغاني، فكان في الصف منافقون كان في الصف وصوليون كان في الصف من يريد السلطة كان في الصف فرقة وفتنة كان في الصف أخطاء، ومع ذلك كله لم تكن تلك الأخطاء مخرجة للجهاد عن كونه جهاداً شرعياً قام بواجب شرعي يجب على الأمة أن تدعمه وأن تقف معه، ولكن ما الذي كان يدور؟ كنا نتحدث في ذاك الوقت وبعاطفة جياشة عن أولئك المجاهدين وكأنهم صحابة أو تابعون، ونبالغ في سوق الكرامات والقصص والتي كثير منها لا أصل له، وكثير منها ربما كان مصدره ممن تعرفونهم من أصحاب الطرق وغيرهم ممن يتاجرون بمثل ذلك، ونساهم في إخفاء الحقائق أمام الناس، وحين يقع خطأ ظاهر نسارع في البحث عن تزويقه وتزيين الصورة، فهذا الخطأ يفتعله الأعداء الأعداء هم الذين يسعون إلى تفريق المجاهدين الأعداء هم الذين يفعلون الأعداء هم الذين يحيكون المؤامرات.
وحين يدخل رجل منافق في الصف فيقال: ليس صحيحاً هذا الأمر لقد تاب لقد رجع إلى الله عز وجل إلى غير ذلك، وحين بدت أصوات ناصحة تحذر المجاهدين فتقول لهم: إن في الصف منافقين لا بد من تنقية الصف لا بد من المراجعة لا بد من المحاسبة، ووجهت تلك الأصوات الناصحة في أن مرادها الطعن في الجهاد وأن هذا يعني الوقوع مع الأعداء في خندق واحد ويعني الوقوف ضد الجهاد إلى غير ذلك، وصارت تمارس ألوان الإرهاب الفكري ضد هؤلاء بأنهم ضد الجهاد بأنهم يثبطون بأنهم بأنهم إلى غير ذلك.
وحين تواجه هذا المتحدث في لقاء خاص وحديث صريح يقول لك: أعترف بأن هناك أخطاء ولكن حين نقول هذه الأخطاء أمام العامة ماذا يصنع العامة؟ لن يدعموا الجهاد فمن المصلحة أن نستر هذه الأخطاء والعيوب، وحين تقوم الدولة الإسلامية بإذن الله ستتجاوز هذه الأخطاء والعيوب.
وكان ما كان وحان قطف الثمرة، وصارت النتيجة التي سمعتم عنها، فتخلى الكثير من الناس عن الجهاد حتى سمعنا ممن ذهب ابنه شهيداً بإذن الله في تلك البقاع من يتندم ويبكي يقول: كيف ذهب ابني شهيداً في هذه الصفوف، وسمعنا العامة يقولون: إن أولئك دجالون كذابون أخذوا أموالنا إلى غير ذلك، وصاروا يتهمون الدعاة بأنهم خدعوهم، أو أنهم مغفلون خدعوا إلى غير ذلك.
أرأيتم ما النتيجة التي جنيناها؟ فما رأيكم لو كنا صرحاء من البداية؟ وقلنا للناس: معشر المسلمين! إن هذا جهاد فيه أخطاء فيه كذا وكذا، ولكن هذه الأخطاء لا تمنع من التصحيح.
ولو كنا نقول وبوضوح للمجاهدين: إن لديكم أخطاء فصححوا كذا افعلوا كذا اصنعوا كذا، لكان هذا مدعاة أن يعي الناس وأن يستعدوا حتى ولو لم يصحح الخطأ لقبول النتيجة المؤلمة التي صار إليها الواقع والتي صار الجميع يتندمون فيها على تلك الأموال التي يظنون أنهم أضاعوها هدراً وذهبت هدراً.
إننا نحن المسئولون عن هذه النتيجة؛ لأننا مارسنا حجب الحقيقة.
ولنتجاوز هذا الحدث ولا داعي لإثارة الماضي، والرجل الجاد ينظر إلى ما أمامه، فلنعتبر بتلك الأحداث ولنكن في المستقبل صرحاء مع أنفسنا صرحاء مع الناس ولنعرف أننا مهما مارسنا حجب الحقائق، ومهما مارسنا افتعال الأسوار الشائكة، فإن الناس لا بد أن يعرفوا الحقائق.
فخير لنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا أفراداً وجماعات مع الناس ومع أنفسنا حتى لا نحصد تلك الثمرة والمرارة المؤلمة.(25/30)
آداب المناصحة والمصارحة
وأخيراً: فمع الدعوة للمصارحة لا بد من الاعتدال والتوازن، فلا يفرط الفرد ويبالغ في النظر إلى أخطائه فيحمل نفسه أخطاء لا يتحملها بحجة المصارحة، أو يبالغ فلا ينظر إلى نفسه إلا من زاوية واحدة وهي زاوية الخطأ، فحينئذ يصل إلى نهاية مفادها أنه لا يحمل إلا الأخطاء.
وعلى مستوى الجماعة أيضاً فليس كل ما يعلم يقال، ولكل مقام مقال، ونحن حين نطالب بالنقد الواضح والصريح فإن هذا لا يعني أن نتحدث عن كل خطأ نعلمه في كل مناسبة وكل لقاء.
وحين ندعو إلى المصارحة فإن هذا لا يعني أن يغيب عن بالنا أيضاً المنهج الشرعي في النقد والنصح وهذا أمر معروف للجميع، وليس هذا وقت التفصيل في الحديث عنه، ولكن أقصد أننا حين نتحدث عن الدعوة للمصارحة سواءً على مستوى الفرد أو الجماعة فإننا مع ذلك يجب أن نعلم أن هذا ينبغي أن يبقى في دائرة التوسط والاعتدال، فلا نفرط نحن معشر الأفراد في النظر إلى أخطائنا وعيوبنا فنحمل أنفسنا أخطاء لا نتحملها، ولا أيضاً نفرط في الحديث عن أخطاء الصحوة بمناسبة أو غير مناسبة مما يكون مدعاة إلى الخلل بالمنهج الشرعي ونشوء مفاسد تترتب على ذلك.(25/31)
الأسئلة(25/32)
تنبيه على لفظ حديث الإخبار عن خيرية القرون الثلاثة
السؤال
ذكرت حديث (خير القرون) ولكن لفظه في الصحيحة: (خير الناس قرني) هذا ما قاله الإمام ناصر الدين الألباني.
الجواب
نشكر الأخ على تنبيهه، فالإنسان مع الحديث والاستمرار فيه قد لا يستحضر النص كاملاً، وقد يخطئ في الآية وهو يحفظها، فهذا أمر طبيعي، ونشكر الأخ على تنبيهه، وطيب أن يكون بيننا مثل هذا التواصل والتنبيه، فقد يكون الخطأ ناشئاً عن سهو أو سبق لسان، وقد يكون الخطأ ناشئاً عن كون المرء حفظ الحديث خطأً أو أنه وقع في مثل هذا الخطأ، فنشكر الأخ على تنبيهه ونأمل أن يستمر مثل هذا السلوك عند الإخوان جميعاً.(25/33)
التفريق بين النصيحة والفضيحة
السؤال
إن مما يفهم من خلال حديثك أنك ما فرقت بين المناصحة على انفراد والفضيحة بين البشر، مع العلم أن منهج تصويب الخطأ هو منهج قرآني، ومع أنه تصويب لكنه تصويب يظهر في أحسن كلام وأجمل عبارة إلى آخر السؤال
الجواب
يعني: أظن أننا أشرنا إلى هذا في آخر التنبيه، والأخ معذور؛ لأنه كتب السؤال مبكراً.(25/34)
تدارك الخطأ في المستقبل
السؤال
قد يستطيع الشخص أن ينتقد ويعرف أن هذا تصرف خطأ لكنه إذا صار في مكان ذلك الشخص المخطئ يقع فيه وهو لا يدرك ذلك؛ هذا لأنه إذا صار في مكان المواجهة يرتبك بينما إذا زال عنه يفكر بهدوء ويعرف ذلك فما رأيك؟
الجواب
نعم، هذا وضع طبيعي، أنت الآن مثلاً عندما تقيم كلاماً تستطيع أن تستخرج عليه أخطاء كلحن في الكلام أو خطأ استشهاد أنا لو أخذت الشريط واستمعت إليه بهدوء بعد ذلك أستطيع أن أكتشف الأخطاء، لكن وأنا أقوم في العمل لا أستطيع ذلك، وهذا لا يمنع من أن نتواصل بالمناصحة واكتشاف الأخطاء، وأن الإنسان إذا اكتشف أخطاءه يكون هذا مدعاة إلى أن يتداركها فيما بعد.(25/35)
استمرار ظهور الأخطاء
السؤال
بعد أن صارحت نفسي وجدت الأخطاء فاستطعت أن أعالج كثيراً من الأخطاء، ولكن
السؤال
ظهرت أخطاء كثيرة غير الأولى فأحسست أني أغرق في الأخطاء، فأنا أعالج من هنا وتظهر أخطاء من هنا، فما الحل وإلى متى؟
الجواب
الحل أن تستمر، أولاً: أنت تتصور أن يأتيك وقت لا تستطيع أن تكتشف الأخطاء؟ وهذا لن يأتيك إلا إذا انغلق التفكير، وإلا فالإنسان لا بد أن يقع في الخطأ، فاكتشافك الخطأ لا يعني أن يكون مدعاة للشعور بالفشل.
ثم أنت عادة تنظر إلى الخطأ وتنسى جوانب الصواب وجواب الإبداع التي في نفسك؛ لأنك دائماً لا تنظر إلا إلى الخلف، الآن المسجد الذي عندنا لو نظرنا إليه مثلاً مع ما فيه من الزينة -وإن كان الأولى اجتناب ذلك- فإذا كانت سلمية ليس فيها مشكلة فإنها لا تلفت انتباهنا، لكن لو كان فيها خلل فإن كل واحد يدركها واضحة الإضاءة التي في المسجد لو كان فيها مصباح واحد لا يضيء فإن كل واحد منا يراه.
فالخطأ يرى بوضوح، أما الصواب فلا يرى؛ ولهذا فأنت عندما تركز على الأخطاء وحدها تتضخم عندك فتتصور أنك أصبحت -كما تقول- غارقاً في الأخطاء، ومهما كان فاكتشافك للأخطاء دليل على نجاحك، ودليل على أنك بدأت تسير في الطريق الصحيح، فاستمر في علاج الأخطاء.(25/36)
اعتذار المربي عن التقصير والخطأ
السؤال
ما رأي فضيلتكم في المربي الذي يعتذر عن بعض التقصير فيه بسبب وجود هذا التقصير في المربين؟
الجواب
قد يكون هذا سبباً لكنه ليس عذراً، وفرق بين الأمرين، أضرب مثالاً: إنسان خرج للسوق يريد أن يشتري كتاباً فرأى امرأة متبرجة ففتنته ثم استمر معه الأمر حتى وقع في المعصية، فتبرج هذه المرأة هو السبب في وقوعه في المعصية لكن هل هذا عذر له أمام الله؟ ليس عذراً.
وإذا فرقنا بين الأمرين عرفنا، فأنت إنسان مكلف تتحمل المسئولية ويجب أن تعرف أن المربي لك أياً كان مستواه وإدراكه لا بد أن يكون عنده قصور لا بد أن يكون عنده خطأ، فيجب أن تكون على مستوى أنك ترتفع إلى مستوى إدراك أخطاء المربي وتجاوزها، وكل مرب فيه سلبيات وأخطاء لا يعني أن ترفضه، بل لا بد أن يكون فيمن يربيك والدك وأستاذك أو شيخك أياً كان لا بد أن يكون فيه أخطاء وسلبيات، وقد تدركها أنت واضحة بأم عينك لكن هذا لا يعني فشله بحال، فأنت يجب أن تتجاوز السلبيات والأخطاء وتستفيد مما عنده.
وإذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه(25/37)
النقد الشرعي المنضبط
السؤال
عندما ينتقد بعض المربين أو المشايخ تقوم بعض الأنشطة بنشر هذا النقد على شكل خلاف بين الطرفين، ما يثير الشك في ضعاف الإيمان ويقيم ثغرة الأعداء ومرضى القلوب، هذا كله يمنع من النقد فما الحل؟
الجواب
مرة أخرى أقول: نحن حينما ندعو إلى النقد المنضبط ندعو إلى النقد الشرعي، كوني أنا مثلاً أنتقد واحد من الناس المشهورين بالخير والصلاح والدعوة في محضر من الناس هذا أمر غير لائق وأمر غير شرعي، وبإمكاني أن أصحح الخطأ بصورة وأخرى، فدعوتي للنقد لا تحملني مسئولية أي نقد آخر غير منضبط، فأنا لا أدعو إلى النقد المفتوح على مصراعيه وإنما إلى النقد والمصارحة المنضبطة بالضابط الشرعي.(25/38)
التبرير للتقصير بعدم صلاح المجتمع
السؤال
يوجد معي شاب في العمل يريد الهداية ويقول: إن المانع أنه لا يوجد شباب صالحون في الحي الذي يسكنه، فما الحل؟ وجزاك الله خيراً، أرجوا الدعاء ولإخواني الموجودين من المسلمين الثبات على دين الله عز وجل.
الجواب
هذا من أساليب التبرير افرض أنك أنت موجود في مجتمع كلهم كفار فهل هذا عذر لك؟! وإذا كان جاداً يعرف أنه سيلقى الله، وليست القضية أن ينظر طريق الخير إن استطاعه وإلا فلا شيء عليه، فليعلم أنه طريق واحد وليس أمامه خيار في سلوكه، وأن البديل هو الخسارة؛ ولهذا فهو يخادع نفسه.
أضرب لك مثالاً هذا في العمل، هل العمل مثل إنسان تخرج الآن من الجامعة ويريد أن يتوظف فقالوا له: لا يوجد وظيفة إلا في قرية بعيدة أو في مكان بعيد يحتاج أن تسكن بعيداً وإلا فلن تتوظف، هل ممكن أن يقول: لن أتوظف لم أجد وظيفة؟ لا، بل سيكون عنده استعداد أن يمشي ستين كيلو على التراب حتى يعمل ويتحمل من أجل الوظيفة؛ لأنه يعرف أنه ليس له إلا هذا الخيار.
واحد لم يجد قبول في الجامعة فإنه يذهب إلى جامعة أخرى منطقة أخرى لأنه يبحث عن الدراسة ولأنه مصر على الهدف، فإذا كان هذا الإنسان جاداً استطاع أن يجد الناس الصالحين وإذا بحث عنهم وجدهم ولو في غير حيه.
يا أخي! إذا كنت جاداً ومشكلتك أنك نذرت لله يميناً ألا تصاحب إلا من في حيك فلك مجال غير الكفارة وهو أن تنتقل إلى حي آخر غير هذا الحي، وأظن الهداية وطريق الخير يستحق أن تبذل هذا الثمن، مع أنك لو كنت جاداً لوجدت طريقاً بسهولة وأنت ساكن في حيك وبين عشيرتك.(25/39)
المنهج المنحرف في النقد
السؤال
ألا تعتقد أن العنف في معالجة الأخطاء من الآخرين والخوف من قسوة العقاب، من أسباب الهروب من المصارحة؟
الجواب
من ضمن الأسباب المنهج المنحرف في النقد والمصارحة أعني أن هناك مناهج منحرفة في النقد موجودة في الساحة الآن، وهي مدعاة لأن نرفض النقد لأننا أصبحنا نرفض ونتصور عن كل من ينتقد صورة أخرى، لكن أنا أقول: إن السبب في البداية أننا روجنا لهؤلاء بأننا لم نقم منهجاً للنقد، لكن لو كان هناك منهج واضح للنقد تربينا عليه لما كان هناك مجال لأولئك أصلاً أن يكون لهم وجود وثقل في الساحة.(25/40)
حكم إسبال الثوب لغير خيلاء
السؤال
هذا الأخ يسأل عن حكم إسبال الثوب إذا كان لغير خيلاء ولا كبر؟
الجواب
إسبال الثوب محرم سواء كان لخيلاء أو لغير خيلاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من جز إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، وفي الحديث الآخر: (ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي لنار) فالحديث الأول مقيد، والثاني مطلق، فاختلف الحكم فالحكم في الحديث الأول: أن الله لا ينظر إليه يوم القيامة، والحكم الثاني أنه في النار، فلا يجوز أن نحمل المطلق على المقيد إلا إذا اتحد الحكم.
ثم في حديث آخر صريح يزيل عنك الإشكال، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أزرة المؤمن إلى نصف ساقه، فإن أبى فإلى الكعبين، ومن جر إزاره خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة، وما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار) فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الأقسام ثلاثة: قسم يجعل إزاره إلى نصف ساقه أو إلى الكعبين.
وقسم يجر إزاره خيلاء، هذا لا ينظر الله إليه.
وقسم أسفل من الكعبين يعني: ليس عن خيلاء، فدل هذا الحديث على أن التحريم ليس قاصراً على الخيلاء.
نعم، إذا جره خيلاء فهو معصية أخرى وعقوبة أشد؛ لأن عدم نظر الله إليه أشد من مجرد توعده بالنار، ثم إن هناك أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ينكر فيها على المسبل دون أن يسأله عن قصده، ولو كان الإسبال خاصاً بالخيلاء لسأله: هل أنت تفعل ذلك خيلاء ولم تفعله خيلاء.
بل في حديث آخر يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة) يعني: إسبال الإزار سبب أصل للمخيلة.(25/41)
كيفية المحافظة على الإجازة باستغلالها في الخير
السؤال
هذا يسأل عن بعض الوصايا خلال الإجازة أو على الأقل بعض المقترحات المعينة على الحفاظ على الإجازة
الجواب
نحن اليوم نودع الأسبوع الأول من الإجازة، لكن أقول: إننا يجب دائماً أن لا نتوقف، أحد الشباب في الحرم يسألني: أنا جاد وبدأت أستغل وقتي وأقرأ، لكن لا أجد الكتب المناسبة للقراءة! قلت: هل تعرف كتاب رياض الصالحين، قال: نعم.
قلت: ما رأيك هل هو مناسب للقراءة؟ قال: نعم، قرأته؟ قال: لا.
هل تعرف كتاب جامع الأصول؟ نعم، هل هو مناسب للقراءة؟ نعم، قرأته؟ لا، تعرف تفسير ابن كثير مناسب للقراءة؟ نعم، قرأته؟ لا.
قلت إذاً: ليست مشكلتك أنك لا تعرف الكتب التي تناسب للقراءة لكن هذا أسلوب من أساليب عدم المصارحة مع النفس، ومشكلتك أنك ليس عندك عزيمة على القراءة.
فأقول: الناس يختلفون في مستوياتهم وقدراتهم وطاقاتهم، فكل يحفظ وقته بما يرى أنه بحاجة إليه، فمثلاً: بعض الشباب يرى أنه ينبغي أن يوفر وقتاً لحفظ القرآن في الإجازة البعض مثلاً في حفظ أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في حفظ بعض المتون في قراءة في دعوة البعض في برنامج هنا أو هناك فالناس يختلفون على حسب مواقعهم، المهم أن الهاجس عندنا هو أن نحفظ وقتنا.
وأصلاً كونك تضع برنامجاً للناس كلهم فهذا خطأ؛ لأني عندما أقول لك مثلاً: اجتهد في حفظ القرآن قد تكون أنت حفظت القرآن عندما أقول لك: احفظ السنة أو جزءاً من السنة قد تكون لم تحفظ القرآن والأولى أن تبدأ بحفظ القرآن، فأهم شيء أنك تعرف ما الشيء الذي تحتاج إليه، ثم تجتهد في أن ترسم برنامجاً يعينك على حفظ إجازتك أو على حفظ وقتك فيما أنت بحاجة إليه.
ثم أيضاً مع هذا نتخلص من عقدة الإجازة، أعني أن هناك أوقاتاً نهدرها غير الإجازة.(25/42)
اقتراح محاضرة
السؤال
نشكركم على شريط: يا أبت! وأنا أول من استفدت منه، وأهديته لوالدي فكان لهذا أكبر أثر عليه، وليتنا أن نرى شريطاً بعنوان: يا بني! على غرار: يا أبت! أولاً وإخواني ثانياً.
الجواب
هناك فكرة، لكن ذلك قد يطول ولا يأخذ وقتاً، وهذا أدعى أن تكون المحاضرة ناضجة وتجتمع فيها الأفكار، وهو اقتراح وجيه، وأتمنى أن الأخ عندما يقترح موضوعاً يقترح بعض العناصر وبعض الأفكار وإذا كان يعرف مراجع تكلمت عن الموضوع فليفدنا بها حتى يكون الموضوع متكاملاً، فأحب أن يكون هناك تواصل ومراسلة مثلاً، سواء في اقتراح موضوعات أو عناوين أو ملاحظات أو انتقادات أو غيرها.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم متحابين بجلاله، وأن يجعلنا وإياكم ممن اجتمعوا لأجله سبحانه وتعالى، وأن يمن علينا وعليكم في هذا المجلس العظيم المبارك بالتوبة الصادقة النصوح، وأن يكفر عنا سيئاتنا وذنوبنا، وأن يرزقنا سبحانه وتعالى العلم النافع والعمل الصالح.
وأكرر شكري في نهاية هذا اللقاء للإخوة في مركز الدعوة في مكة على هذا البرنامج الحافل الذي نظموه، والذي هذه المحاضرة ليست إلا جزءاً يسيراً منه، وأيضاً نكرر شكرنا لهم على حسن ظنهم ودعوتهم لنا، ونسأل الله عز وجل أن نكون عند حسن ظنهم، وأن يجعلنا خيراً مما يظنون بنا، وأن يغفر لنا ما لا يعلمون.
هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(25/43)
لبيك اللهم لبيك
الحج شعيرة من شعائر الإسلام، والقيام به هو استجابة لأمر الله عز وجل، وإن الناظر ليجد الحجيج من المسلمين يستجيبون لأمر الله عز وجل ويلبون نداءه ويعملون بما أمر في الحج وينتهون عما نهى رغم انطواء الحكمة من وراء ذلك؛ لكنهم ما أن ينتهوا من النسك ويعودوا إلى بلدانهم حتى ينهمكوا في المحرمات ويرتكبوا المناهي بكافة صورها ومراتبها، فكان من المهم أن يتعلم المرء من الحج الدروس والعبر التي تنفعه في سائر حياته.(26/1)
وقفات حول التلبية(26/2)
الاستجابة لله ينبغي ألا تعقبها مخالفة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.
فهذه هي أول ليلة من هذا الشهر الحرام شهر ذي القعدة، ونحن نستقبل جميعاً وإياكم موسماً عظيماً، وأياماً فاضلة من أيام الله سبحانه وتعالى، تلك الأيام التي فضلها الله عز وجل على سائر الأيام، فما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام، أي عشر ذي الحجة، وأفضل عمل صالح يؤدى في هذه الأيام هو الحج إلى بيت الله الحرام، ومن ثم أحببنا أن نقف في هذه الأمسية وفي هذا الدرس حول بعض المعاني المتعلقة بهذه الشعيرة العظيمة، ولهذا أقترح أن يكون عنوان هذا الدرس: لبيك اللهم لبيك، وهو لا يخرج عن العنوان المعلن فهي وصايا هامة.
في هذا الدرس -معشر الإخوة الكرام- لن أتحدث عن أحكام الحج، ولن أتحدث عن آدابه، ولا عما ينبغي أن يفعله الحاج، أو عن الأخطاء التي يقع فيها الحجاج، وهي جوانب مهمة ولا شك ونحتاج إلى الحديث عنها كثيراً، وحين أختار ألا أتحدث عنها فإن هذا لا يعني بحال أني أرى أن ما أقوله هو أولى من ذلك، ولكني أردت أن أطوف وإياكم في هذه الأمسية حول واقع المسلمين الذين يفدون إلى بيت الله الحرام لنأخذ بعض الدروس وبعض الوقفات التي نتأمل فيها واقعنا جميعاً وخاصة واقع أولئك الحجاج الذين يلبون نداء الله عز وجل، ويأتون إلى هذا البيت ملبين مهلين، وأول قضية نقف عندها هي وقفات حول التلبية.
الوقفة الأولى: ما إن يخلع الحاج ملابسه ويرتدي ملابس الإحرام حتى يجهر بهذا النداء وهذا الذكر: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك.
إنه يعلن استجابته لله عز وجل استجابة بعد استجابة، يعلن استجابته لنداء الله سبحانه وتعالى ولأمره، ويكرر هذا ويصدح به على رءوس الملأ، ويتعبد إلى الله عز وجل بهذا الذكر، لكنك حين ترقب هذا الذي يلبي في سائر حياته ترى له شأناً آخر مع حدود الله عز وجل، إنه يتجرأ على أن يتجاوز حدود الله عز وجل، ويتجرأ على أن يخالف أوامر الله سبحانه وتعالى، إنه يرى الأمر واضحاً أمامه مما أمر الله عز وجل به وافترضه عليه، ومع ذلك يترك هذا العمل عن عمد وسبق إصرار، وهو أيضاً يرى الأمر مما نهاه الله عز وجل عنه وحذره منه وتوعده عليه بأليم العقاب، ومع ذلك يتجرأ على مخالفة أمر الله عز وجل وعلى انتهاك حدوده، فأين تلك الاستجابة التي كان يعلنها وهو يقول: لبيك اللهم لبيك؟ أين ذاك الخضوع الذي لم يكتف بأن يكون سراً في نفسه حتى جهر به وأعلنه على رءوس الملأ استجابة لله عز وجل بعد استجابة، وخضوعاً لله سبحانه وتعالى بعد خضوع؟ إنه لو تأمل هذا المعنى لعاد به ذلك كثيراً ولفكر ملياً وهو يجهر بهذا الدعاء وهذا الذكر، ولعادت به الذاكرة إلى حياته تلك التي يسطرها بالصفحات المخالفة لأمر الله عز وجل، إن هذا الدافع الذي يدعوه إلى إعلان الاستجابة لأمر الله عز وجل على رءوس الخلائق ينبغي أن يدفعه للاستجابة لأوامر الله عز وجل ونواهيه في سائر حياته.(26/3)
التلبية يجب ألا يعقبها الشرك
الوقفة الثانية حول التلبية: لقد كان أهل الجاهلية يعلنون الشرك الصراح وهم يلبون ويجاهرون به، فيقولون في تلبيتهم: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك! فجاء الإسلام بتلبية التوحيد والإخلاص، إنه إعلان للبراءة من الشرك بكل صوره وأبوابه، من الشرك في ربوبية الله عز وجل، فالله سبحانه وتعالى هو وحده المتصف بصفات الجلال والتعظيم فاعتقاد أن أحداً من البشر يشاركه سبحانه وتعالى الخلق أو الرزق أو أنه يملك الضر والنفع هو إشراك مع الله عز وجل المتفرد بالربوبية، وكم يتجرأ أولئك الذين يعلنون هذا الدعاء صباح مساء: لبيك لا شريك لك كم يتجرأ هؤلاء على الشرك بالله عز وجل في مقام ربوبيته، فيعطون تفويضاً لمن يسمونهم بمشايخ الطرق أو الأئمة أو غيرهم، يعطونهم تفويضاً في التصرف في الكون فيعتقدون أن فلاناً ينفع، أو أن فلاناً يضر، أو أن فلاناً بيده هذا الأمر أو ذاك.
واعتقاد أن هناك من يملك التشريع للناس والتحليل والتحريم هو أيضاً خرق لسياج التوحيد، واستخفاف بالله عز وجل وعظمته، وهو القائل: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21] {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام:121] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة:44] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [المائدة:45] {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [المائدة:47].
إنها قضية واضحة كل الوضوح لا لبس فيها ولا غموض ولا مجال فيها للمجادلة والمراء، إن إعطاء حق التشريع والإباحة والتحريم لأحد غير الله عز وجل خرق لسياج التوحيد وإشراك بالله عز وجل في ربوبيته، ويصدق على أولئك قول الله عز وجل: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة:31] فما بال هذا الرجل الذي يُعلن التلبية ويصدح بها نافياً للشرك عن الله عز وجل، يتجرأ في الإشراك بالله عز وجل ومنازعة الله سبحانه وتعالى في ربوبيته وأمره: {أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54]، وقد قرن الله عز وجل الحكم بشرعه بعبادته: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [يوسف:40].
والتوجه لغيره سبحانه وتعالى بالدعاء وطلب الحاجة إعلان ممن فعل ذلك أنه يجهل قدر الله عز وجل، وأنه لا يعظّم الله عز وجل حق التعظيم، وهو القائل: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن:18] وهو القائل: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} [فاطر:13 - 14] فما بال البعض ممن يعلن البراءة من الشرك هاهنا ويكررها، حين يعود إلى بلاده يتوجه إلى غير الله عز وجل فيدعو غير الله عز وجل، ويرغب إلى غير الله سبحانه وتعالى، ويتوجه إلى غيره عز وجل.(26/4)
الجهر بالتلبية
الوقفة الثالثة حول التلبية: يسن الجهر بالتلبية، فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أفضل الحج العج والثج) والمقصود به رفع الصوت بالتلبية وإراقة الدم في سبيل الله عز وجل، وحين أحرم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا يلبون رفعوا أصواتهم فما بلغوا الروحاء حتى بحت أصواتهم.
إنه مشهد جميل ورائع وصوت شجي وندي يملأ الميادين والأزقة والطرقات معلناً التوحيد لله عز وجل: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك! لكنك ترى المسلم الذي يجهر بالتلبية ويعلنها ويكررها ويرفع بها صوته، تراه حين يعود بعد ذلك إلى بلده يستحي أن يجهر بما ينبغي أن يجهر به، فهو يستحي أن يعلن انتماءه الحقيقي وولاءه لدينه، يستحي أن يصلي النافلة وربما صلاة الجماعة، يستحي أن يترك معاقرة الخمرة، يستحي أن يفعل ذلك أمام الناس وهو الذي كان يجهر بالتلبية لله عز وجل.
إن هذا الشعور الذي يدفع المسلم للجهر بالتلبية ينبغي أن يدفعه إلى أن يجهر بانتمائه وبدينه وأن يعلنها صريحة واضحة أمام الناس: ها أنا مسلم أدعو الله عز وجل وأدعو إليه وأنتمي لدينه، ها أنا مسلم أتعبد لله عز وجل بفعل ما أمر واجتناب ما نهى ولو خالف ما عليه الناس.(26/5)
الحج وإبراهيم
النقطة الثانية: الحج وإبراهيم.(26/6)
الولاء لله ولدين الإسلام وأهله
الحج يربط المسلم ويذكره بنبيه إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم التسليم، فهو الذي بنى البيت، وهو الذي أذن في الناس بالحج فجاءوا رجالاً وركباناً على كل ضامر من كل فج عميق يستجيبون لهذا النداء، وهو الذي نبع ماء زمزم لابنه إسماعيل حين تركه وودعه وأمه، فنادته أمه قائلة: إلى من تتركنا إلى من تتركنا؟ فلا يجيب إبراهيم النداء ولا يلتفت إليها، ثم تسأله فتقول: آلله أمرك بهذا؟ فيقول: نعم فتقول: إنه لن يضيعنا.
وتبقى تلك المرأة مع ولدها إسماعيل في واد غير ذي زرع، وحين يفارقهم إبراهيم يرفع يديه إلى السماء ويدعو الله عز وجل: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:35 - 37] وتأتي حين يجوع ولدها ويبكي، تذهب ذات اليمين وذات الشمال، فتصعد الصفا وتصعد المروة وتتردد هنا وهناك حتى يمن الله عز وجل عليه بهذا الماء.
إن المسلم هناك وهو يطوف بالبيت، ويصلي خلف المقام، ويسعى بين الصفا والمروة، ويشرب ماء زمزم، وهو يتنقل بين هذه المناسك إنه يشعر بأنه يرتبط ارتباطاً وثيقاً بإبراهيم عليه السلام، وهذا يعني أولاً: أن هذا يشعره بالانتماء والولاء لإبراهيم عليه السلام، وللحنيفية التي جاء بها، إن إبراهيم هو الذي دعا الله عز وجل: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} [البقرة:129] إن إبراهيم هو الذي سمانا المسلمين من قبل، هو الذي أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم وأمر أمته من بعده أن تتأسى به وأن تنتمي إليه.
ما بالنا نرى هذا المسلم الذي يأتي إلى البيت والذي يشعره بالولاء لإبراهيم، نراه حين يعود إلى بلاده يوزع ولاءه ذات اليمين وذات الشمال، فهو تارة ينتمي لاتجاه قومي، وتارة لاتجاه وطني، تارة يتبنى منهجاً علمانياً، تارة يتبنى منهجاً يعارض الملة الحنيفية التي جاء بها إبراهيم عليه السلام.
إنه هو الذي كان يطوف بالبيت وكان يصلي خلف المقام، وكان يطوف بين الصفا والمروة، هو الذي لا يستحي بعد ذلك أن يُعلن أمام الناس أنه قومي أو وطني أو علماني، إنه هو الذي يستقبل القبلة البيت الذي بناه إبراهيم كل يوم خمس مرات ويردد في صلاته: كما صليت على إبراهيم وعلى آله إبراهيم كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنه هو هو الذي يوزع ولاءه وانتماءه، ولهذا يأمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم أن تجهر بها صريحة وتعلنها واضحة في وجه من يدعوها لمنهج منحرف: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135].
ولئن كان الله عز وجل قد أمر المخاطبين بها لأول مرة أن يقولوها في وجه من يدعوهم لليهودية، أو من يدعوهم للنصرانية، فهو أمر لمن يدعوهم بعد ذلك لنحلة أرضية أو مذهب مادي، إن أمة الإسلام حزب واحد، وجماعة واحدة، وأمة واحدة لا يعرف فيها المسلم الولاء إلا لمنهج واضح المعالم، ذاك المنهج الذي اختصه إبراهيم عليه السلام: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [البقرة:135].(26/7)
عدم صرف العبادة لغير الله تعالى
ثانياً: إن منهج إبراهيم وملة إبراهيم لها معلم بارز وشعار ظاهر بيّنه الله لورثة إبراهيم، فقد اختصم اليهود والنصارى وكل منهم يدّعي أنه سائر على منهج إبراهيم، فجاء الوحي: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] إن مجرد نزاع أولئك على الانتماء له والادعاء بالسير وراءه لأعظم دليل على سمو الانتماء لهذا النبي الكريم، إن ملة إبراهيم هي كما حكى الله عز وجل: {كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67] وفي سورة الأنعام يقول حين أعلن بطلان إلوهية ما سوى الله: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:79].
وفي سورة النحل يصفه الله عز وجل بذلك: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:120] ثم يأمر الله عز وجل نبيه، والأمر له أمر لأمته من بعده: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل:123].
أترى أخي المسلم وأختي المسلمة بعد ذلك أولئك الذين يصرفون العبادة لغير الله في شتى أنحاء بلاد المسلمين يحق لهم أن ينتسبوا وينتموا لإبراهيم؟ ومع هذا التأكيد على ملة إبراهيم فيوحي الله إليه محذراً إياه من الشرك ومبيناً له أن من أهم ما يقتضيه حج بيت الله الحرام إعلان البراءة من الشرك والخلوص منه: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] ثم يخاطب الله عز وجل أمة الإسلام في ثنايا آيات الحج: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:30 - 31].
وقد أخبر الله عز وجل في كتابه وهو العليم الحكيم أن الكثير ممن يدعي الإيمان يقع في الشرك فقال: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106] فما بال البعض ممن يحج إلى البيت وينتسب لإبراهيم يقعون في الشرك ويتوجهون لغير الله عز وجل؟ أيظن أولئك أن مجرد الانتساب للإسلام كاف لخلاصهم من الشرك وقد قال الله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف:106]، أم يظنون أن مجرد إقرارهم بالإيمان والدين كاف وقد أخبر الله عز وجل أن أنبياءه لو أشركوا لحبطت أعمالهم: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65].
لقد حكى الله عز وجل عن المشركين أنهم وهم يتوجهون لأوثانهم بالعبادة ما كانوا يقصدون عبادة تلك الأوثان، بل كانوا يتخذونها وسيلة وزلفى إلى الله عز وجل: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر:3].
فبالله عليكم ما الفرق بين أعرابي كان في ذلك العصر البائد يتوجه إلى حجارة يركع لها ويسجد ويرى أنها تقربه إلى الله زلفى، وبين رجل في القرن العشرين في عصر العلم والوعي أصبح يطوف على رفات قد مضت عليها السنون، ويعتقد أن صاحب هذا الضريح يقربه إلى الله زلفى ومنزلة إلى الله عز وجل؟ إنها صورة واضحة، إنه الشرك بالله عز وجل إنه الشرك الذي جاء هذا الدين لمحوه، هو الذي أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم لإبطاله والقضاء عليه، فما أجدر المسلم وقد أجاب نداء إبراهيم فجاء ملبياً أن يحرص على أن يتعلم ملة إبراهيم، أن يحرص على أن يعرف هذا الطريق وهذه الملة ليبتعد عن موجبات الشرك صغيره وكبيره.(26/8)
عقيدة البراءة من المشركين
ثالثاً: لقد ورثت الأمة الإسلامية من أبيها إبراهيم عقيدة البراءة من المشركين وعداوتهم؛ {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4].
فقد أعلنها إبراهيم صريحة واضحة: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ} [الممتحنة:4] ولحكمة عظيمة تنزل آية براءة في موسى الحج، ويرسل النبي صلى الله عليه وسلم من يقرأ بها في الموسم: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ} [التوبة:1 - 2].
فهل يُدرك المسلم وهو يلبي نداء إبراهيم أن عليه أن يقطع الولاء لكل مشرك وكافر، ولو كان أقرب قريب؟ وألا يوالي إلا من كان حنيفاً مسلماً؟ هل يدرك المسلم وهو يلبي، وهو يستجيب لنداء إبراهيم، وهو يستقبل البيت الذي بناه إبراهيم خمس مرات، هل يدرك أن ملة إبراهيم قائمة على البراءة من كل كافر بالله عز وجل، ومن كل مشرك أياً كان كفره وشركه، سواء كان يهودياً أو نصرانياً، أو كان وثنياْ أو مرتداً ما دام كافراً بالله عز وجل فملة إبراهيم تقتضي إعلان البراءة واضحة، وقد أعلنها الله عز وجل، ونزلت هذه الآيات في موسم الحج وقُرئت على الناس في ذاك العام أن لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان، فما أجدر المسلم وهو يقضي هذه المناسك أن يتذكر هذه المعاني العظيمة.
إن قوماً من الزائغين رأوا أن الحج موطن إعلان البراءة من المشركين، والبراءة عندهم من المشركين تعني البراءة من أبي بكر وعمر وممن يحبهما ويترضى عنهم، وإن استعمال أولئك الضالين الزائغين لهذا المصطلح الشرعي لا يعني أن نتخلى عنه، فهو مصطلح جاء في كتاب الله عز وجل، وأمر الله سبحانه وتعالى به، ونودي بهذه الآيات في يوم الحج الأكبر في يوم النحر، فاستخدام أولئك لها استخداماً خاطئاً لا يعني بحال أن ينسى المسلم أنه مُتعبد بذلك، لكن البراءة التي يعرفها المنتمي حقاً لملة إبراهيم غير تلك البراءة.(26/9)
وقفات حول النحر
النقطة الثالثة: وقفات حول النحر.(26/10)
النحر يذكر بإبراهيم وهو يستجيب لأمر الله
من أعظم ما شرعه الله عز وجل في الحج النحر له سبحانه وتعالى، {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:34].
فالنحر عبادة عظيمة لله سبحانه وتعالى، ولهذا سمى الله عز وجل هذا اليوم بيوم النحر، وهو أفضل أيام الحج، بل هو أفضل أيام العام وهو يوم الحج الأكبر، وهو الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأيام يوم النحر ثم يوم القر) فتسميته بالنحر دليل على عظم هذه العبادة وعلو شأنها.
ولنا مع النحر وقفات: الوقفة الأولى: النحر يذكر المسلم بإبراهيم عليه الصلاة والسلام حين أمره الله عز وجل بذبح ابنه الذي رزقه الله إياه على حين كبر، وكانت امرأته عاقراً فرزقه الله عز وجل إياه بعد أن يئس من الولد، وحين بلغ معه السعي وبلغ تلك السن التي يفرح فيها الوالد بولده، ويستبشر به أمره الله عز وجل، وكيف جاءه الوحي؟ جاءه الوحي رؤيا في المنام، ولم يأته الوحي مباشرة كلاماً من الله عز وجل أو من الملك، وهذا لحكمة عظيمة، ثم أُمر إبراهيم عليه السلام أن يقوم هو بذبحه، ولو أمر أن يوصله إلى معركة يقتل فيها أو أن يوصي من يقتله فقد يهون الأمر عليه، أما أن يمارس هو ذبحه فالأمر صعب.
ثم هو يمارس الذبح بيده فهو يرى وجهه وروحه تقعقع يراه ويذبحه استجابة لأمر الله عز وجل، ولا يتردد ويتلكأ، ومع ذلك أيضاً يسعى إبراهيم إلى أن يشرك إسماعيل في الابتلاء فيعرض عليه الأمر في صورة عرض وأخذ رأيه: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102].
إنه وهو يسأله هذا السؤال لم يكن ليوقف استجابته لأمر الله عز وجل على موافقة إسماعيل حاشا وكلا، لكنه كان يريد أن يشاركه إسماعيل في الابتلاء، وما كان من ابنه إسماعيل إلا أن قال: {يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
وحين استسلم لله عز وجل وانقاد لم يكن بعد ذلك من حاجة أن يراق دم هذه النفس البريئة، والذي شاء الله عز وجل أن يكون من ذريتها هذه الأمة التي تحج إلى بيت الله عز وجل وتحمل رسالة الله عز وجل ويخصها الله بخاتمة الأديان: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة:124].
فيشرع الله عز وجل النحر للمسلمين ليذكروا اسم الله عز وجل، ويشرعه لهم في الحج ومن لم يحج فإنه تشرع له الفدية، لكن أين واقع ذلك المسلم الذي ينحر الدم لله عز وجل من واقع إبراهيم في الاستسلام والخضوع لله عز وجل؟ إنك ترى هذا المسلم الذي يتقرب إلى الله بنحر الدم قرباناً لله عز وجل يتردد ويتلكأ عن الاستجابة لأمر الله عز وجل، تراه يبذل العلم والحجج الواهية ويناقش ويبدئ ويعيد في تسليمه لأمر الله عز وجل.(26/11)
الاستعداد لبذل النفس وتقديمها قرباناً إلى الله
الوقفة الثانية حول النحر: المسلم الذي يقدم القربان لله عز وجل ويتعبد إليه بالنحر يحمل الاستعداد لبذل نفسه وتقديمها قرباناً لله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].
وكم حفظ لنا التاريخ من النماذج من أولئك الذين يحمل أحدهم روحه على كفه ويسير في ميدان الوغى والجهاد يتمنى أن يصاب ويقتل، فهذا أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم حين يصيبه السهم وتخرج أمعاؤه يضع الدم على وجهه ويستبشر ويقول: (فزت ورب الكعبة).
ولا غرو وقد سمعوا نبيهم محمداً صلى الله عليه وسلم يقول: (وددت أن أقتل في سبيل الله، ثم أُحيا ثم أُقتل، ثم أُحيا ثم أُقتل) إن المسلم الذي ينحر الدم قرباناً لله عز وجل ينبغي أن يكون على أتم الاستعداد أن يقدم رقبته رخيصة لله عز وجل حين يدعو داعي الجهاد في ساحة الوغى.(26/12)
النحر عبادة لا تصرف لغير الله
الوقفة الثالثة حول النحر: إذا كان النحر من أفضل أعمال الحج، بل هو مما شُرعت المناسك من أجله، وأفضل أيام الحج بل أيام العام هو يوم النحر؛ إذا كان النحر بهذه المنزلة فهو عبادة عظيمة من أجل العبادات، وصرفه لغير الله عز وجل يعني بكل بساطة أن هذه عبادة لغير الله وشرك به، ولهذا أمر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يخلص هذه العبادة: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، وأمره أن يجهر بها للناس: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ} [الأنعام:162 - 163] وهذا يعني بكل بساطة أن صرف ذلك لغير الله عز وجل إشراك به.
ويحذر صلى الله عليه وسلم أمته من صرف هذه العبادة لغيره سبحانه، ففي صحيح مسلم عن علي رضي الله عنه قال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات: (لعن الله من ذبح لغير الله، لعن الله من لعن والديه، لعن الله من آوى محدثاً)، بل ويسد النبي صلى الله عليه وسلم أبواب الذبح لغير الله عز وجل وطرقه، فحين يأتيه رجل يستأذنه في الوفاء بنذره وقد نذر أن ينحر إبلاً ببوانة، فسأله صلى الله عليه وسلم: (أكان فيها عيد من أعياد الجاهلية؟ أو كان فيها وثن من أوثانهم؟) إن هذا كله إقامة للسياج حول هذه العقيدة، حول هذا التقرب إلى الله عز وجل حتى لا يخرق هذا السياج ويتجاوز، فما بالنا نرى المسلم الذي ينحر لله في هذا الموسم ويتقرب له يريق الدماء وينحر القرابين لغير الله، فتارة يستجيب لأمر مشعوذ أو ساحر، فيذبح طائراً أو حيواناً يهل به لغير الله، وتارة أخرى يذبح للجن، وأخرى يذبح أمام حجارة أو رفاة قبر! إن هذا المشهد مع ما فيه من خرق لسياج التوحيد، وتسور لحدود الشرك فهو يحكي نفسية ضعيفة، تخاف من الجن وتخشى بطشهم، تشعر أن كل ما في هذا الكون عدو يكيد لها ويريدها بسوء، ويحكي صورة من صور الجهل والتخلف الجهل بالأسباب والمقدمات، فهل نحره لحجارة أو رفاة سيدفع عنه ضراً أو يجلب له نفعاً؟ إنك لتأسى على واقع هذه الأمة التي حمّلها الله الرسالة وجعلها خير أمة واستشهدها على الناس، ومع ذلك ترى البعض من المسلمين يعلقون آمالهم بحجارة صماء أو رفاة قبر عفا عليه الزمان.(26/13)
الاعتناء بالحقيقة والمضمون دون المظاهر
الوقفة الرابعة حول النحر: يقول الله عز وجل تعقيباً على آيات النحر: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37].
إن القضية ليست بالمظهر ولا بالمظاهر، إنما هي بالمضمون والمقصود، إن هذه اللحوم والدماء لن ينال الله عز وجل منها خيراً وهو سبحانه المستغني عن خلقه، وهو سبحانه وتعالى أغنى عن الشرك وأغنى عن خلقه، وأنى له سبحانه وتعالى أن يحتاج أو يفتقر إلى غيره، هذا إشعار للمسلمين أن يعتنوا بالحقيقة والمضمون دون المظاهر، وإنك حين تتأمل في واقع المسلمين ترى أن المظهرية قد سيطرت على حياتهم، إنك تراه يصلي ويعتني بأداء الركوع والخشوع، لكن جوهر الصلاة وحقيقتها في واد آخر، فهو في واد وهذا في واد آخر، إنك ترى المظاهر قد أصبحت تخدع المسلمين وتسيّرهم، وهكذا صارت تسيطر على حياتهم، فأنت ترى الأستاذ في ميدان التعليم يُرى أن نجاحه في أن يُكمل هذا الكتاب كله دون أن يترك منه سطراً، أن يكتب كتابة واضحة على السبورة، أن يستعمل وسائل الإيضاح، أن يُعنى بكراسة التحضير ورصد الدرجات، أما ما وراء ذلك وأهم منه بناء الجيل وإعداده وتعليمه فهو شأن آخر، أليس هذا مظهراً من مظاهر عناية الأمة بالمظهرية وغياب المضمون عنها؟ وهو تراه سلوكاً يسيطر على المسلمين في حياتهم كلها وفي عبادتهم، إن في هذا إثارة وإلماحاً لهذه الأمة أن تُعنى بالحقائق وأن لا تكون أمة تُخدع بالمظاهر.(26/14)
وقفات حول محظورات الإحرام
النقطة الخامسة: وقفات حول محظورات الإحرام.(26/15)
ترك المحظورات
الوقفة الأولى حين يلبس المحرم ويلبي نداء الله عز وجل يلتزم بالامتناع التام عن محظورات الإحرام، فيتجرد عن المخيط، ويترك الطيب، ويمتنع عن حلق شعره، ويتخلى عن الرفث ومقدمات النكاح، إنه يستجيب لذلك كله دون تردد، ولا يمكن أن تحدثه نفسه أن يتجاوز هذا المحظور، لكن ما باله في سائر حياته يتجاوز ما حرّم الله عليه؟ فالذي حرم على المحرم الطيب هو الذي حرم على المسلم أكل الربا، والذي حرم الرفث ومقدمات الجماع هو الذي حرم النظر الحرام على المسلم في كل حين، والذي نهاه عن لبس المخيط هو الذي نهاه عن لبس الذهب والحرير إنك لتبحث عن مبرر أو مسوغ لهذا التناقض الذي يعيشه المسلم في سلوكه فلا ترى غير التناقض.(26/16)
إحرام المرأة
الوقفة الثانية حول المحظورات اعتدت أن ترى في أسواق المسلمين وأزقتهم وفي مدارسهم وجامعاتهم أن ترى المرأة المسلمة متبرجة متعطرة قد فُتنت بتقليد أعداء الله عز وجل، بل تحول الأمر إلى أن أصبحت تُعاب حين تنتقب أو ترتدي الحجاب، لكنك ترى المسلمة نفسها والتي رأيتها بالأمس في السوق كذلك تراها متحجبة حال إحرامها، لا يبدو منها إلا ظاهر لباسها أو وجهها وكفاها، وهنا يقفز إلى ذهنك سؤال يفرض نفسه، ماذا تغير في واقع هذه المرأة؟ ولماذا تحجّبت الآن وتركت الزينة؟ هل أكرهها أحد أو ألزمها به؟ لقد تحجبت استجابة لأمر الله، ولأن هذا لباس المحرمة، إذاً أليس الحجاب هو لباس المسلمة في كل حين وفي كل وقت؟ أليس الذي أمرها بهذا اللباس حال إحرامها هو الذي أمرها بالحجاب في سائر أحوالها فأي مبرر لهذا التناقض؟ وأي مسوغ لهذه الازدواجية.(26/17)
قتل الصيد
الوقفة الثالثة حول المحظورات يمتنع المسلم في الحرم عموماً وحال إحرامه أياً كان عن قتل الصيد، بل عن تنفيره وإثارته، ولا تكاد ترى من يتجرأ على خرق هذا السياج، وهو انضباط محمود ولا شك، لكن ما بالك ترى المسلم الذي يتورع عن قتل الصيد بل عن تنفيره وإثارته، يريق دم أخيه المسلم أو يتسبب في ذلك، كم هي الأنهار جارية من دماء المسلمين في عرض العالم الإسلامي وطوله؟ والبعض منها يسيل بأيد مسلمة فيقتل المسلم أخاه، ويسعى لذلك دون رادع أو وازع، وهو هو الذي كان يتورع في الحرم عن تنفير الصيد وإثارته، إنه يمتنع هنا لأن الله عز وجل قد حرّم عليه تنفير الصيد وقتله، ولكن الله سبحانه الذي حرم عليه ذلك هو الذي حرم عليه دم أخيه المسلم، فما باله يسترخص دم أخيه ويستعظم تنفير طائر أو حمامة؟ وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذا المعنى وألمح إليه فسأل أصحابه: أي يوم هذا؟ أي شهر هذا؟ أي بلد هذا؟ وحين قرر لهم صلى الله عليه وسلم حُرمت اليوم والشهر والبلد قال: (إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا).
كم ترى ممن يتجرأ على انتهاك حرمات المسلمين في عرض العالم الإسلامي وطوله في إراقة دم المسلم، أو السعي إلى ذلك، أو انتهاك عرضه، أو ظلمه في ماله، يتجرأ على ذلك وحين يأتي إلى بيت الله الحرام يتورع عن إثارة طائر أو حمامة، بل تراه يتقرب ويشتري بماله الطعام إلى هذا الطائر أو ذاك يتقرب إلى الله بإطعام هذا الطائر، وينسى أن حرمة دم المسلم أعظم من ذلك كله، ينسى أنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل امرئ مسلم).(26/18)
وقفات حول الدعاء
النقطة السادسة: وقفات حول الدعاء.
في الحج هناك ترى المسلمين من كان منهم براً ومن كان دون ذلك، من كان تقياً ومن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، ترى الجميع شيباً وشباناً، رجالاً ونساء، قد رفعوا أكف الضراعة إلى الله عز وجل يدعونه ويبتهلون إليه عز وجل عشية عرفة، وعلى الصفا والمروة، وعند الجمرات، فهم ما بين مستغفر تائب وعائد إلى الله عز وجل نادم، وصاحب حاجة سائل لمولاه، تراهم قد قطعوا العلائق إلا إلى الله عز وجل، وقد انقطعت آمالهم إلا به سبحانه وتعالى، لكن هذا المسلم الذي يتوجه إلى الله عز وجل ويخلص له ويدعوه، ويقطع حبل الرجاء إلا به سبحانه وتعالى، تراه وقد علّق أمله بالمخلوق خوفاً ورجاء، تراه ينطرح ذليلاً بين يدي مخلوق، يشعر أن حاجته بيده، وأن مخرجه مرهون به، فكيف يستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟ أليس خيراً للمسلم أن يعتز، وأن لا تكون له حاجة إلا لله سبحانه وتعالى، وأن يترفع عن استجداء المخلوقين، وشعوره أن مصيره بيد فلان أو فلان من الناس.(26/19)
وقفات حول الحجر الأسود
النقطة السابعة: وقفات حول الحجر الأسود.
عبارة يعرفها الجميع ويرددونها حين جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبّل الحجر قال: (والله إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبّلك ما قبّلتك) إننا مع تلك الشهادة من عمر رضي الله عنه وهو أفضل الأمة بعد خليفة نبيها أبي بكر الصديق رضي الله عنه، يقر أن الحجر الأسود لا يضر ولا ينفع، فما بالنا نرى المسلمين بعد ذلك يعتقدون أن هذا الحجر أو ذاك قد تعلّق مصيرهم به، وقد تعلّقوا بحديث باطل لا يصح أن يُنسب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفعه الله به) فإذا كان هذا الحجر وهو في بيت الله لا يضر ولا ينفع، فما بالك بغيره من الحجارة؟ تلك التي صار للأسف الكثير من هذه الأمة يتبرك بها ويتمسّح بها.
ثانياً: إن عمر رضي الله عنه يبيّن أن الدافع الأول والأخير لتقبيله لهذا الحجر هو أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، وهذا يخط لنا منهجاً في اتباع سنته صلى الله عليه وسلم والسير وراءه والحرص على التعرف على معالم هديه صلى الله عليه وسلم، وأن نتّبع سنته ونقتدي بهديه عليه أفضل الصلاة والتسليم سواء أعلمنا الحكمة أم لم نعلم، ظهر لنا المقصود أم لم يظهر، فنحن نتعبد لله عز وجل باتباعنا لسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.(26/20)
وقفات عامة
ثامناً وأخيراً وقفات عامة.(26/21)
دقة المواعيد
ثمة وقفات علنا أن نأتي بما يسمح به الوقت منها.
الوقفة الأولى: إنك حين تتأمل في المناسك ترى فيها دقة عجيبة، فأنت ترى المسلم يقف عند هذا المكان من حدود عرفة فلو وقف هنا كان داخل عرفة، ولو تأخر متراً واحداً كان خارج عرفة فلو وقف هنا نائماً وقف صامتاً لصح حجه، ولو وقف هنا وصار يدعو ويتضرع لم يصح حجه، ما الفرق بين هذا المكان وذاك؟ تراه يرمي الجمرة الأولى قبل الثانية وبعدها العقبة ولو رمى تلك قبل هذه لم يصح، تراه يبدأ من الصفا وينتهي بالمروة ولو عكس لم يصح له الأمر، هذا اليوم يقف في عرفة وفي الليل يبيت بمزدلفة وفي أيام التشريق يكون في منى، إنك ترى فيها انضباطاً عجيباً لا ترى له حكمة ظاهرة في نفسك.
لو رمى قبل الزوال بدقائق لكان رميه غير صحيح وكانت عبادته غير صحيحة، ولو رمى بعد الزوال لكان موافقاً للسنة، وهكذا في دفعه من عرفة، وفي سائر المناسك تراها منضبطة بمكان أو وقت أو زمن أو هيئة معينة لا تكاد ترى لها تعليلاً وتفسيراً، فما الفرق بين من يتقدم دقيقة أو أخرى؟ لا تكاد تجد لها إلا الاستسلام والخضوع لله عز وجل، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المسلم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
إن معنى الإسلام أيها الأخوة هو الاستسلام لله عز وجل، والتسليم له، والانقياد لأوامره، والانتهاء عن نواهيه، سواء أدرك المسلم حكمة ذلك أو لم يدركها، وهو يقطع أنه ما شرع الله من أمر إلا له حكمة، لكن هذا شيء وكونه يجعل استجابته لهذا الأمر موقوفة على إدراك الحكمة شيء آخر.(26/22)
الانضباط في الوقت
أيضاً: مما في ذلك الانضباط الدقيق في الوقت في المناسك، ولا شك أن هذا يربي المسلم على أن يُعنى بوقته، وينضبط فيه فأنت ترى أن دقيقة واحدة تقديماً أو تأخيراً قد يتوقف عليها صحة العبادة وبطلانها، أو يتوقف عليها اتباع السنة أو مخالفتها، إن هذا يربي في المسلم أن يكون منضباً في أوقاته وفي مواعيده، وتتأسف حين تتأمل واقع المسلمين فتراهم نموذجاً لإهدار الأوقات وإضاعتها، والتفريط في المواعيد وعدم الانضباط بها، كيف لا وهم يعلمون أن الأوقات هي عمرهم، فالوقت هو الحياة: (ابن آدم إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم فقد ذهب بعضك) كيف به وهو يعلم أنه سيسأل يوم القيامة عن عمره فيما أفناه؟ وعن شبابه فيما أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه، وفيما أنفقه؟(26/23)
العمل بفتوى العلماء
الوقفة الثالثة من الوقفات العامة.
ترى الناس في الحج يفدون إلى مراكز الإفتاء، فترى أحدهم يسأل ويستفتي، ويتورع عن مسائل دقيقة، وهو على أتم الاستعداد أن يستجيب لما يقال له، فلو أُفتي بأن عليه أن ينحر دماً لكان على أتم الاستعداد، لو أُفتي أن عليه أن يعيد الطواف لأعاده، لو أُفتي أن عليه كذا وكذا لفعل، بل لو أُفتي أن عليه أن يعيد الحج من العام القادم لكان على أتم الاستعداد لأن يفعل ذلك لكن ما بال هذا المسلم الذي تراه وهو يسأل هنا بدقة وربما بتكلف تراه في حياته بعد ذلك لا يسأل عن أمور دينه، وتراه يضرب خبط عشواء في عبادته وفي معاملته وفي سلوكه، فإنه لا يرى دافعاً في نفسه إلى أن يسأل عن صلاته وأحكامها، إلى أن يسأل عن هذه المعاملة أهي جائزة أم محرمة؟ يسأل عن هذا العمل أهو جائز أم لا؟ وحين يُنكر عليه يعتذر بالجهل، وشفاء العي السؤال، ولو كان جاداً في التزامه بأمر الله عز وجل لسأل ولبحث عمّن يرشده إلى دينه.(26/24)
التخلف الحضاري عند المسلمين
وقفة رابعة: حين ترى واقع المسلمين في الحج، ترى مظاهر مؤلمة ومؤذية، ترى مظاهر تدل مع ما سبق الإشارة إليه من الوقوع في الشرك والجهل في العبادة، ترى أيضاً مظاهر من صور التخلف الحضاري عند هذه الأمة، إنك ترى من لا يتردد في أن يرمي زجاجة الماء في طريق الناس، من لا يتردد في أن يقضي حاجته هنا وهناك، وترى الطرق والأزقة قد علتها القاذورات، وترى الفوضى بين الناس ففي مرورهم، في ذهابهم، في إيابهم، في رمي الجمرات، في الطواف ترى ازدحام الناس وخصومتهم وعدم انضباطهم مما يوحي بأن الأمة أيضاً مع أنها تعاني من مظاهر الشرك، تعاني من الجهل في العبادة، من التجرؤ على حرمات الله إلا أنها مع ذلك تعاني تخلفاً حضارياً، فهي تعاني تخلفاً بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان، وهو مشهد يؤذينا جميعاً.
ما أجدر أن تكون هذه الأمة قدوة للناس في كل شئونها وحياتها، في توحيدها لله عز وجل، في عبادتها، في أخلاقها، في سلوكها، ومع ذلك أيضاً في مظاهر النظافة والانتظام والانضباط! إنك ترى انعدام مشاعر الأخوة والقضاء عليها، فترى المسلم يخاصم أخاه لا لشيء إلا لأنه دخل قبله في الطريق، لا لشيء إلا لأنه لم يمكنه من هذا المكان أو ذاك، وكم ترى الخصام واللجج ورفع الأصوات بين المسلمين الذين جاءوا خاضعين لله عز وجل، أليس في هذا دليل على أن مشاعر الأخوة بين المسلمين بحاجة إلى من يعيد بناءها؟ بحاجة إلى من يركّز عليها ويعتني بها؟(26/25)
الطمع والتسفل
صورة أخرى أيضاً تراها من واقع المسلمين مما يحكي تخلفهم كثيراً ما تشاهد هناك في مواقف الحج وقد ازدحموا وأصبح بعضهم يدفع البعض، ولا تكتشف مبرراً لذلك إلا حين ترى من يوزع على الناس زجاجات الماء، أو علب المرطبات، وترى الناس يزدحمون على هذا الذي يوزع بالمجان، ولو أخذت حجارة من أحد جبال مكة ووقفت وأعلنت للحجاج: سبيل لله لازدحم الناس عليك! يحق للإنسان ولا شك أن يأخذ، وهذا ما وزّع إلا ليؤخذ، ولكن أليس في هذا دليل على أن هذه الأمة أصبحت يدها سُفلى، أصبح المسلمون دائماً يستفلون، لا يعملون، لا يبادرون إنهم على أتم الاستعداد أن يأخذوا، أن يزدحموا، على أن يأخذوا أي شيئاً يوزَّع، ربما تراه أمياً لا يقرأ ولا يكتب، قد يأخذ كتاباً بأي لغة لا يفهمها وتراه يزاحم لأجل أن يأخذ كوباً من الماء، أو يأخذ علبة من المرطبات، ثم مع ذلك لا يراعي مشاعر إخوانه فهو يأخذ كمية كبيرة على حساب ما يحتاج إليه الناس.
لقد رأيت مرة سائلاً عند المسجد النبوي، ورأى رجلاً قد مر معه زجاجة فأوقفه وقال: هذا من ماء زمزم؟ يريد أن يعطيه إياه، لقد بلغ به الكسل واستجداء الناس إلى أن يتكلف أن يخطو خطوات والماء قريب منه حتى يأخذ من الماء، فهو ينظر إلى المارين فإذا رأى رجلاً ماراً سأله أن يعطيه من هذا الماء الذي معه، أهذه هي العمرة؟ بل إننا نعاني من اليد السفلى حتى عند الصالحين والأخيار، وإليك المثال إنك تجد الكثير من الشباب على أتم الاستعداد أن يستفيد وأن يحضر الدروس والمحاضرات، وهو لا شك أمر طيب ومطلوب لكن أن يقرأ هو، أن يحصّل هو، أن يبذل هو! هذا أمر صعب، إنك لا تتهمه بعدم الحرص، فما الذي يأتي بهذه الجموع إلا الحرص، والرغبة ولا شك، لكن أين هذا الحرص، لِم لم يدفعه إلى القراءة، إلى الاطّلاع، إلى البذل؟ أليس هذا دليلاً على أنا تعودنا على اليد السفلى؟ واليد العليا خير من اليد السفلى.
إن المسلمين بحاجة إلى أن يربوا في أنفسهم هذه المعاني، فتكون أيديهم عليا فيكونون هم المعطين وليسوا هم الآخذين، يكونون هم المنفقين يبذلون لأنفسهم، يعملون في كل أحوالهم ولا ينتظرون الناس ويستجدونهم، بل حتى نحن نمارس اليد السفلى أيضاً في دعوتنا فنحن حين نسلك أسلوباً من أساليب الدعوة ننتظر أن يُقدم إلينا جاهزاً، وبعبارة أخرى: نتسول في أساليب الدعوة، فلا نملك الاستعداد أن نفكر أو نبتكر أو نبذل جهداً في اكتشاف هذه الطريقة أو تلك، حتى الكسل واليد السفلى قد سيطرت علينا في حياتنا الدعوية وفي حياتنا العلمية إن المسلم ما أجدره أن ينظر دائماً إلى الأعلى، وأن يكون هو الأعلى دائماً، وأن لا يكون هو الآخر.(26/26)
التعب والنصب والبذل للدين
وقفة من الوقفات أيضاً حول هذا الحج.
ترى الناس في الحج يبذلون جهداً مضنياً، ويتحملون مشقة عظيمة، والله عز وجل قد امتن على عباده بأن سخّر لهم هذه الدواب والأنعام التي تنقلهم وتحملهم إلى بلد قال الله عز وجل: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7] {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28].
قبل سنوات معدودة كان المسلم يأتي من خراسان ومن أقصى أفريقيا على دابته، وربما يأتي على قدميه أحدهم جاء من إحدى بلدان أفريقيا على قدميه وبدأ مسيره من شهر ذي الحجة، كلما دخل بلداً عمل فيها واكتسب شيئاً من المال، ثم سافر حتى وصل إلى مكة من العام القادم، وقضى حجه وعاد بنفس الطريقة ووصل إلى أهله وقد هل هلال ذي الحجة من العام الذي يليه، ومع ذلك يتعب ويتحمل النصب! وهذا الوقت الذي تيسرت فيه الأسباب والوسائل ترى المسلم كذلك يوفر من قوته وقوت عياله حتى يوفّر قيمة السفر وتكاليفه، ثم يقف طوابير طويلة ويتعب وينصب حتى يحصل على تصريح بالسفر، ويعطّل عمله وأهله وقتاً ويأتي إلى هذه البلاد، ثم يأتي وتراه يسعى في الشمس والحر وفي كل الأحوال يتحمل ذلك لله عز وجل، لكن أين المسلمون بعد ذلك عن سائر أمور عبادتهم؟ إنهم هم الذين ينصبون ويتعبون وينفقون المال لأجل أن يبذلوا هذا، فأين هم بعد ذلك من بذلهم لله عز وجل في سائر أمورهم؟ من تعبهم في خدمة دين الله عز وجل، وبذلهم لله سبحانه وتعالى؟(26/27)
قابلية الاستجابة للأمر الشرعي
أخيراً: ترى الناس في هذا الموسم، وترى عجباً، ترى ذاك الذي كان يعاقر الخمرة ويتغنى بها يبكي متضرعاً مقبلاً على الله عز وجل في عرفات! تراه قد تجرد من ثيابه وتخلى عنها لله عز وجل، ترى تلك المرأة السافرة الفاتنة، ترى تلك المرأة المتبرجة والتي كانت في هذا البلد أو ذاك تعرض مفاتنها وتتاجر بها؛ تراها وقد ارتدت الحجاب، وأقبلت على الله عز وجل في هذا الموسم، إن هذا مع أنه يحمل مظهراً من مظاهر التناقض والازدواجية كما أشرنا إليها قبل قليل، لكنه أيضاً يحمل جانباً آخر، وهو أن هؤلاء المسلمين يحملون استعداداً للاستجابة، يحملون استعداداً للتسليم لله عز وجل، إن تلك المرأة التي هي تتاجر بالسفور وتسعى إليه ها هي تلتزم الحجاب، مع أنها تعيش تناقضاً صارخاً إلا أن عندها استجابة لأمر الله عز وجل، ذاك الذي كان يجتهد في الصد عن سبيل الله صار يتعب وينصب ليحج إلى بيت الله عز وجل.
أليس في هذا دليل -معشر الإخوة الكرام- أن النفوس مع ما فيها من أمراض تحمل قابلية للخير لو وظّفت واستثمرت لحققت خيراً كثيراً؟ إنك ترى مظاهر في الحج تدل على الجهل، لكنها مع ذلك تحمل في طياتها بذرة خير، ترى ذاك الذي يأتي وصحن البيت قد امتلأ بالطائفين فصار يزاحم الناس ليقبّل الحجر وهو على استعداد أن تُزهق روحه أن يُقتل دون الحجر، أن يُقبّلها ويُقتل دونها، والآخر في وهج الشمس يصعد على جبل عرفات وهو يظن أن الصعود عليه سنة، وهو على أتم الاستعداد أن يتحمل النتائج التي تترتب على ذلك في سبيل أن يصعد إلى هذا الجبل.
إن هذه المظاهر وغيرها مع ما تحمل من الجهل والإيذاء للناس إلا أنها تدل على أن هذا الرجل يحمل نفساً تتطلع للتضحية تتطلع للبذل، فماذا لو أقنعنا هذا المسلم الذي يزاحم ويتعب وينصب ليقبّل الحجر ماذا لو أقنعناه أن جهده في الدعوة لدين الله وخدمة دين الله وفي بلده خير وأبقى له من هذا الأمر الذي قد يأثم به؟ إننا نجزم أن هذا المسلم لو كان يحمل الاقتناع بأن بذله هذا العمل أو ذاك خير له من هذه البدعة في صعوده إلى هذا الجبل أو ذاك، ومن تعريضه لنفسه للضر والمرض، لو أقنعناه بذلك تمام الاقتناع لكان على أتم الاستعداد أن يبذل ولو جزءاً يسيراً من ذلك.
وتخيلوا -معشر الإخوة الكرام- هذه الملايين من الرجال والنساء الذين يفدون إلى بيت الله عز وجل يعلنون الاستجابة لله والتوحيد، يخضعون لأمر الله، يسيرون في هذه الليلة وفي تلك يسيرون إلى هذا المكان وإلى ذاك استجابة لأمر الله عز وجل، ماذا لو غُرس عند هذه الأمة حقيقة الإسلام، وحقيقة الانتماء للإسلام، وأن هذا الدين الذي يدعوهم إلى أن يفد إلى هذه الأماكن، وإلى أن يبذلوا هذا العمل أو ذاك يدعوهم إلى أن يستجيبوا لأمر الله وأن يبذلوا لدين الله عز وجل؟ إنني أجزم أن هؤلاء لو اقتنعوا تمام الاقتناع لوجدنا على الأقل منهم ألوفاً يحملون الكلمة الصادقة يغيّرون بها وجه الأرض.
معشر الأخوة الكرام إنها خواطر عاجلة لا يجمعها جامع إلا أنها تدور حول الحج إلى بيت الله.
مرة أخرى: إن هذا ليس حديثاً عن أحكام المناسك ولا عن آدابها ولا استقصاء لأخطاء الناس في ذلك، وليس هجري للحديث عن هذا رغبة عنه، لكني أردت أن ألمح إلى هذه المعاني التي نفتقدها، والتي هي بحاجة إلى أن نتذكرها وأن نكتشف أمراضنا وأمراض الأمة من خلال هذه المواسم التي يجتمع فيها المسلمون.
أسأل الله عز وجل أن ييسر لحجاج بيت الله أمورهم، وأن يرزقهم الإخلاص لله عز وجل، والتوحيد له، والبراءة من التوجه إلى ما سواه، والاستسلام له، والخضوع له سبحانه وتعالى.(26/28)
الدعاة الصامتون
من الأمور اللازمة لنجاح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون الداعية قدوة في نفسه، وأن يتخلق بالأخلاق الفاضلة، وأن يظهر عليه أثر العلم الذي يحمله، فالقدوة العملية تؤثر في الناس أبلغ تأثير، وهي من أقوى الوسائل لإقناع المدعوين بصدق الداعية في دعوته.(27/1)
من هم الدعاة الصامتون؟
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فعنوان حديثنا هذه الليلة: الدعاة الصامتون، وحديثنا يتضمن النقاط الآتية: أولاً: وقفة حول العنوان.
ثانياً: وقفة مع نصوص القرآن الكريم.
ثالثاً: الداعية الأول، والدعوة الصامتة.
رابعاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده يترسمون معالم المنهج.
خامساً: مزايا الدعوة الصامتة.
سادساً وأخيراً: من مجالات الدعوة الصامتة.
إن البعض قد يظن أننا نعني بالحديث عن الدعاة الصامتين، أولئك الذين صمتوا عن بيان كلمة الحق، وأولئك الذين قعدوا عن سبيل الدعوة إلى الله عز وجل، هذا الفهم ربما يتبادر إلى ذهن من يسمع العنوان، لكن هؤلاء إنما هم شياطين خرس ليسوا جديرين بوصف الدعوة، لهذا فلا يسوغ أن يوصف هؤلاء بأنهم دعاة صامتون، بل هم شياطين خرس، إن الذين يسكتون عن الحق حيث يجب بيانه، والذين يقعدون عن القيام بنصرة هذا الدين خاصة في هذا العصر الذي تكالب فيه الأعداء على هذه الأمة، وكشروا عن أنيابهم، وأعلنوها حرباً ضروساً شاملة على الإسلام وأهله، وعلى كل من دعا لدين الله عز وجل، إن أولئك الذين يقفون على الحياد في هذه المعركة التي تعيشها الأمة، ليسوا جديرين بأن يوصفوا بأنهم دعاة صامتون، إنما هم شياطين خرس، فالساكت عن الحق شيطان أخرس.
إنما نعني بالدعاة الصامتين: أولئك الذين يدعون إلى الله عز وجل بأحوالهم، أولئك الذين تبلغ أحوالهم عن دعوتهم، فهم يدعون الناس بأفعالهم وسيرهم وأحوالهم، إنهم لم يتكلموا ولم ينطقوا، لكن أحوالهم وأمورهم ناطقة بما يدعون إليه، بل ربما كانت هذه الأحوال أبلغ من أي كلمة وأي بيان.(27/2)
ذكر القدوة والأسوة في كتاب الله
أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالتأسي بمن سبقه من الأنبياء والاقتداء بهديهم، يقول تبارك وتعالى عن إبراهيم: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام:84 - 90].
إن الله تبارك وتعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي أولئك الذين قص عليه سيرهم وأنباءهم في هذا الكتاب، وهذا الخطاب ليس للنبي صلى الله عليه وسلم وحده، بل هو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولأمته من بعده، إنها دعوة للنبي صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بهدي من سبقه من الأنبياء، وهي دعوة أيضاً لمن يقرأ القرآن بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن يسير على نفس المنهج، ويسلك السبيل نفسها.
ثانياً: أمر الله نبيه وأمته من بعده بالتأسي بإبراهيم عليه السلام ومن معه: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة:4]، ثم قال تبارك وتعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الممتحنة:6].
ثالثاً: أمر الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بالتأسي به: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
رابعاً: نهى تبارك وتعالى عن التناقض بين القول والعمل، وذم ذلك المسلك وعابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3]، وعاب تبارك وتعالى على بني إسرائيل أنهم ينسون أنفسهم إذ يأمرون بالبر غيرهم، فقال: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وتتوالى الآيات في كتاب الله التي تدعو المؤمنين إلى أن يكون العمل مصداقاً للقول وما يدعو إليه الإنسان، يقول تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33]، وقد استنبط بعض المفسرين من هذه الآية أن فيها الأمر بأن يعمل الداعية بما يقول ويدعو إليه.
خامساً: قص القرآن قصص بعض الصالحين والسابقين فيما مضى، يقول تبارك وتعالى: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ} [الكهف:10] الآيات، وهي آيات يقرؤها المسلم كل أسبوع في يوم الجمعة، يقرأ فيها قصة هؤلاء الفتية من أهل الكهف، ويقرأ في القرآن الكريم أيضاً قصة أصحاب الأخدود، ويقرأ في القرآن الكريم قصة سحرة فرعون حينما آمنوا بموسى وقالوا لفرعون: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [طه:72].
وهي آيات كثيرة يقصها الله عز وجل علينا في كتابه عن السابقين أتباع الأنبياء الذين ساروا على سننهم وطريقتهم.
أيضاً: يذكر الله تبارك وتعالى في القرآن أحوال بعض الذين عاصروا التنزيل فأثنى على مواقفهم، فبقيت خالدة تتجاوز حدود الزمان والمكان الذي كانت فيه؛ لتبقى منارة للأجيال من بعدهم: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23]، {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ م(27/3)
السنة النبوية زاخرة بالنماذج والقدوات
ويقص علينا النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً قصصاً أخرى من مواقف أولئك الصادقين الصابرين، الذين دعوا لدين الله عز وجل، وبذلوا أرواحهم وأنفسهم وأموالهم ومهجهم في سبيل الله عز وجل، إننا نقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم قصة شاب آمن بالله ودعا قومه وضحى بنفسه في سبيل الله حتى آمن أهل قرية حين رأوا موقف هذا الشاب وقد جاد بنفسه في سبيل الله، فتنادى الناس جميعاً: آمنا بالله رب الغلام؛ لتنطلق هذه الكلمة سهماً آخر يتجه إلى صدور أولئك الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات، بعد أن أحرقهم وقطع أحشاءهم ذاك السهم الذي انطلق من قلب هذا الغلام الصادق الذي ضحى بنفسه في سبيل الله عز وجل، وظن أولئك المفسدون المجرمون أنهم حين يقتلون هذا الغلام أنهم سيقتلون هذه الدعوة التي دعا إليها، وأنهم سيدفنون هذا الدين الذي آمن به ودعا إليه، فإذا بهم يسمعون الناس يتنادون: آمنا بالله رب الغلام، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه القصة، أو حين قص علينا قصة نفر آواهم المبيت إلى غار، فدعوا الله عز وجل بصالح أعمالهم، أو حين قص علينا قصة تمثل نموذج الشاكر لنعمة الله عز وجل، ونموذج المعرض عن شكر هذه النعمة في قصة الأعمى والأقرع والأبرص وغيرها من القصص التي تملأ دواوين السنة، إن النبي صلى الله عليه وسلم حين قص علينا هذه النماذج إنما أراد لها أن تكون قدوة لمن يقرأ هذه الأخبار، لتكون قدوة لمن جاء بعدهم، ويصبح أولئك الماضون دعاة صامتين لدين الله عز وجل.
سابعاً: أمر الله تبارك وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يتلو على المؤمنين سيرة ابني آدم بالحق إذ قتل أحدهما أخاه ظلماً وعدواناً، فصار من الدعاة الصامتين للجريمة والقتل، فما من نفس تقتل ظلماً إلا صار على ابن آدم الأول كفل منها، إذ هو أول من سن القتل، كل ذلك تأصيل للقدوة والأسوة الحسنة، ودعوة للدعاة إلى الله على منهاج النبوة أن يترسموا معالمها، وهو أيضاً تأصيل لمبدأ التأثير بالسلوك والعمل، وامتداد لميدان الدعوة والمخاطبة لتتجاوز الكلمة المجردة فتمتد عبر ميدان فسيح لتصبح الكلمة وسيلة من الوسائل وأسلوباً من الأساليب، لا أن تحصر الدعوة في الكلمة وحدها.(27/4)
النبي صلى الله عليه وسلم القدوة الأولى والإمام الأوحد
إن الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى مهما علا شأن قضية الدعوة لديهم، ومهما ابتكروا من الأساليب والوسائل فهم رهن بمنهج الداعية الأول والإمام الأوحد صلى الله عليه وسلم، والتحرر من ذلك يعني التحرر من المنهج، والعدوان على السنة المتبعة، وولوج الطريق المبتدعة، لذا فنحن حين ندعو إلى أن تأخذ الدعوة بعداً شمولياً لدى أصحابها فتتجاوز الجمود على الأساليب التقليدية التي يرثونها، ندعو في ذات الوقت إلى أن تحاط الدعوة إلى الله عز وجل بسياج الاتباع للنبي صلى الله عليه وسلم، وألا يكون تخطي الأساليب التقليدية لتجاوز هديه، لهذا كان كل داع إلى الله عز وجل أحوج ما يكون إلى أن يحشد النصوص ويحشد الآثار التي تؤيد هذا المنهج الذي يدعو إليه، والتي تعلن للناس أنه لم يأت ببدعة من القول.
ومن صور الاقتداء الواردة في السنة ما كان صلح الحديبية، حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا هديهم وأن يحلقوا رءوسهم فلم يستجب له أحد حيث أصاب الناس ما أصابهم من الإحباط؛ ذلك أنهم جاءوا إلى هذا المكان، وكانوا قد سمعوا الوعد من النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخلوا البيت الحرام، وأن يطوفوا به آمنين محلقين رءوسهم ومقصرين لا يخافون، فحين رأوا ما رأوا من مصالحة النبي صلى الله عليه وسلم لقريش، وآلمهم الموقف وهم يرون أبا جندل يرسف في قيوده، ولا يملك الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن يعيده إلى المشركين، فلم يطق أولئك المؤمنون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن يستجيبوا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، فما كان منه إلا أن أتى أم سلمة رضي الله عنها يشكو إليها عدم امتثال أصحابه لأمره، فأشارت عليه أن يخرج ولا يكلم أحداً، فيدعو بالحلاق فيحلق رأسه، ثم ينحر بدنه، فخرج صلى الله عليه وسلم وفعل ذلك، فما كان من الناس حين رأوا ذلك إلا أن اجتمعوا يحلق بعضهم لبعض حتى كاد يقتل بعضهم بعضاً من الغم.
وكان صدق حاله صلى الله عليه وسلم من أعظم ما استدل به البعض على صدق رسالته صلى الله عليه وسلم حتى دخلوا في الإسلام، ومن هؤلاء عبد الله بن سلام رضي الله عنه إذ قال بعد أن رآه: فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.
لقد كانت حال النبي صلى الله عليه وسلم ناطقة بصدقه، وأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وأنه كان يأتي بالوحي من الله تبارك وتعالى، وأنه إنما كان يأتيهم بخبر السماء؛ لذلك كانت حاله وحدها كافية في دعوة الكثير من الناس للإسلام، فمن رآه صلى الله عليه وسلم عرف الصدق في وجهه.
ومن الناس من دخل في الإسلام وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم لموقف أبصره أو مشهد رآه، والسيرة تزخر بالكثير من هذه المواقف التي دخل فيها فئام من الناس الإسلام، وأعلنوا متابعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم لما رأوه من المواقف.
واختار الله عز وجل له أن يكون في مبدأ حياته أميناً صادقاً ليكون ذلك مرآة على صدقه، وليقرأ في سيرته وهديه -من سمع بدعوته- الصدق وسمو المنهج، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يلقب بالصادق الأمين، حيث عاش مع بني قومه أربعين سنة عرفوا منه خلالها الصدق والإحسان للناس، والأمانة وحسن الخلق، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يجاريهم في مجونهم ولهوهم، إن تلك الحال التي كان يعيشها صلى الله عليه وسلم كانت دعوة صامتة، وكانت إشارة إلى أولئك الجادين في معرفة الحق أن هذا الرجل الذي عرفوا مدخله ومخرجه، وعرفوا سيرته لم يكن ليتحاشى الكذب على الناس، ثم يتجرأ على الكذب على الله تبارك وتعالى، وهو أمر لم يختص به النبي صلى الله عليه وسلم دون غيره من الأنبياء، بل يحكي الله تبارك وتعالى عن قوم صالح أنهم قالوا: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} [هود:62]، نعم لقد كانت سيرة صالح في قومه كسيرة محمد صلى الله عليه وسلم وكسيرة سائر الأنبياء، لقد كانوا يرجون فيه الخير، ويؤملون فيه الخير، فلما دعاهم إلى الله تبارك وتعالى وإلى أن يفارقوا ما كانوا عليه خاب ظن أولئك الضالين بنبيهم صالح، وقد كانوا يؤملون فيه الخير، وأي خير أعظم من أن يدعوهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى وحده.
إذاًَ: ها هي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وها هي حياته تزخر بالعديد من المواقف التي تظهر أنه لم يكن داعية بمقاله فقط، بل كان صلى الله عليه وسلم داعية إلى الناس بحاله ومواقفه، وها نحن نرى الناس الصادقين، نرى الناس المتعبدين لله تبارك وتعالى، لا يخطئهم هدي النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، نراهم يسعون إلى أن يعرفوا كيف كان صلى الله عليه وسلم يصلي، وكيف كان صلى الله عليه وسلم يصوم، وكيف كان صلى الله عليه وسلم ينام ويستيقظ، وكيف كان يضحك صلى الله عليه وسلم، وكيف كان في سفره وإقامته، وفي سلمه وحربه، وفي أحواله كلها صلى الله عليه وسلم.(27/5)
اقتداء الصحابة بالنبي جعلهم قدوات لمن بعدهم
رابعاً: أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعده هم حملة الدعوة، فكانوا هم أيضاً رضوان الله عليهم دعاة صامتين لمن جاء بعدهم، فقد كانوا رضوان الله عليهم يترسمون معالم منهج اختطه لهم صلى الله عليه وسلم، فتعيش الدعوة حية في قلوبهم وضمائرهم، يقرأ ذلك من يطلع على سيرهم قبل أن يسمع أقوالهم، حين دعا صلى الله عليه وسلم الناس للصدقة، وقد جاء قوم مجتابي النمار فرق صلى الله عليه وسلم -وهو صاحب القلب الرحيم- لحالهم، وتألم صلى الله عليه وسلم لمنظرهم فخطب في الناس ودعاهم لأن يتصدقوا مما يملكون من درهمهم من دنانيرهم من صاع برهم من صاع تمرهم من ثيابهم، فلم يتصدق أحد، فجاء رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم معه صرة كادت يده أن تعجز عنها بل قد عجزت، فألقاها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فتتابع الناس بعد ذلك، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم، فصار هذا الرجل داعية صامتاً، صار هذا الرجل داعية بحاله لأولئك الذين كانوا يشهدون هذا المشهد حتى تتابعوا في بذل صدقاتهم، حتى رئي عند النبي صلى الله عليه وسلم كومين من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة).
وحين استنفر النبي صلى الله عليه وسلم الناس ليغزوا الروم ولم يعذر أحداً في ذلك، جاء أقوام لا يجدون ما يحملهم يسألون النبي صلى الله عليه وسلم أن يحملهم، فلم يجد صلى الله عليه وسلم ما يحملهم، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزناً ألا يجدوا ما ينفقون، تولى هؤلاء وهم يبكون أن لم يفتح لهم الميدان ليشاركوا في الجهاد في سبيل الله، فخلد القرآن ذكرهم وسيرتهم، ليكون هذا الموقف دعوة لمن جاء بعدهم أن يعيش كما كان يعيش أولئك: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92].
إن من لم يفتح له الميدان للجهاد في سبيل الله، إن من لم يطق أن يشارك مع المجاهدين الصادقين الصابرين، ولم يجد مالاً ينقله إلى ساحة الجهاد، أو لم يجد سلاحاً يقاتل به، أو لم يجد ميداناً يفتح له ليجاهد في سبيل الله، إن ذلك لا يمكن أن يعذره بحال في ألا يحدث نفسه بالجهاد في سبيل الله، والنصح لله ورسوله، إن الذي لم يجد ميداناً يشارك فيه، ولم يجد ميداناً يعيش فيه مع الصادقين الصابرين المخلصين لا يعذر أبداً في ألا يعيش معهم بقلبه، وأن يعيش معهم بحاله، وأن ينصح لله ورسوله.
وهاهم جمهور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يبعثون إلى أهل مكة برسالة مع عروة بن مسعود فيرجع مشدوهاً إلى أصحابه يحدثهم بما رأى، وقد أدرك أنه أمام جيل آخر دون أن يكون منهم تعبير باللسان، يرجع إلى أصحابه يقول: لقد وفدت على الملوك، وفدت على كسرى وقيصر والنجاشي، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف واحد منهم فدلك بها وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له.
نعم أيها الأخوة، لقد رجع عروة بغير الوجه الذي ذهب به، لقد رجع وقد رأى هذا الموقف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، رأى هذا الموقف الذي يعبر عن الحب الصادق، الذي يعبر عن الود البعيد عن أبهة الملوك التي كان يعيشها قيصر وكسرى والنجاشي، وقد سبق له أن وفد عليهم فعلم هذا الرجل أن للنبي صلى الله عليه وسلم شأناً آخر غير شأن أولئك الملوك، وعلم أن هؤلاء أتباع صادقون جادون غير أتباع أولئك الملوك: أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع أولئك أصحاب النبي وحزبه ولولاهم ما كان في الأرض مسلم ولولاهم كادت تميد بأهلها ولكن رواسيها وأوتادها هم ولولاهم كانت ظلاماً بأهلها ولكن همُ فيها بدور وأنجم فيا لائمي في حبهم وولائهم تأمل هداك الله من هو ألوم بأي كتاب أم بأية حجة ترى حبهم عار علي وتنقم وها هي سيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى صورة ناطقة للأجيال، ما إن يتحدث متحدث وما إن يتكلم متكلم إلا ويجد نفسه مضطراً لأن يزين مقالته ويدبجها بمواقف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل في الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى، وفي تعلم العلم، وفي الإحسان إلى الناس، وفي عبادة الله عز وجل، وفي كل ميدان من الميادين ما إن يتحدث متحدث أو يخطب خطيب إلا وهو يرى أمام عينيه مواقف لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تبقى منارة للأجيال من بعدهم، ذكر ذلك الجيل الذي اختاره الله عز وجل ليكون فرط هذه الأمة، الذي اختاره الله تبارك وتعالى ليتشرف بصحبة النبي صلى الله عليه وسلم وحمل هذا الدين، يبقى ذلك الجيل داعية لسائر الأ(27/6)
مزايا الدعوة الصامتة
إننا حين ندعو إلى أن نكون دعاة صامتين إلى دين الله تبارك وتعالى بأحوالنا ومواقفنا وسيرنا، ونستشهد على ذلك بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، ومواقف أصحابه من بعده، ومواقف سلف الأمة من بعدهم، إننا أيضاً نضيف إلى ذلك مزايا تمتاز بها هذه الدعوة الصامتة، والتي تعنى بالأحوال قبل الأقوال، ومن هذه المزايا:(27/7)
أحوال الداعية أبلغ من أقواله
أن الدعوة بالأحوال قبل الأقوال، وأن الدعوة الصامتة أبلغ من القول، فإن المرء يستطيع أن يدبج المقال، ويستطيع أن يحسن الحديث، ويستطيع أن يتفوه بما لا يعتقد، يستطيع المرء أن يزخرف القول ويزينه، لكن أن يكون ذلك المقال مصداقه حال هذا الرجل وفعله فهي صورة أخرى وحالة أخرى.
لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن يحلقوا رءوسهم، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس أن ينحروا بدنهم كما مر معنا، وما كان أولئك الذين أمرهم صلى الله عليه وسلم بالذين هم يتلكئون عن الاستجابة لأمره، وهم أسرع الناس مبادرة للاستجابة لأمره صلى الله عليه وسلم وطاعته، لكن لم يكن ذلك الأمر أبلغ من حاله صلى الله عليه وسلم حين خرج وحلق شعره صلى الله عليه وسلم، ونحر بُدنه أمام الناس، فكان ذلك الفعل منه صلى الله عليه وسلم رسالة للناس للاستجابة له صلى الله عليه وسلم.
ولهذا حين سئلت إحدى زوجاته صلى الله عليه وسلم: أكان صائماً يوم عرفة؟ أرسل له صلى الله عليه وسلم بقدح لبن فشربه صلى الله عليه وسلم أمام الناس، فكان ذلك أبلغ دلالة لكل من حضر الموقف أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن صائماً.(27/8)
أحوال الداعية يستوعبها سائر طبقات الناس
ثانياً: تمتاز الدعوة الصامتة أنها تدرك من جميع الطبقات، إن الكلمة المسموعة أو المكتوبة تعيش أزمة اختلاف مستويات ومدارك الناس، والذي يتحدث أمام من ينصت له أو يكتب لمن يقرأ له يجد نفسه بين طبقتين ممن يستمع ويقرأ، فإن حسن المقال وارتفعت لغته شعر أن هناك من لا يدرك هذا الكلام أو من لا يفهمه حق فهمه، وإن كان مقاله دون ذلك شعر أن هذا نزولاً بالكلمة عما يليق بها، وأن هذا نزولاً بالسامعين والقراء الذين ينبغي له أن يحترم أسماعهم ويحترم أفهامهم، أما الذي يدعو الناس بحاله فهو يدعو بدعوة يدركها الجميع، ويفهمون مغزاها، يدركها من يقرأ ومن لا يقرأ، يدركها الذي قد بلغ الغاية في إدراك فصيح الكلام وبليغه، ومن كان دون ذلك.(27/9)
المواقف الحية تبقى في الأذهان أكثر من الكلمات
الميزة الثالثة للدعوة الصاتمة: إن الكلام ولا شك له أثر عظيم على النفوس، وكم تترك الكلمة الصادقة من أثر، بل كم تصنع الكلمة الصادق من مواقف، لكن الكلمة الصادق مهما كانت تبقى بعد ذلك عرضة للنسيان، فهي تبقى في الذاكرة فترة ثم تزول ويأتيها ما يغمرها ويمحوها.
أما الموقف والمشهد فإنه يبقى في الذاكرة لا يزول أبداً، إن النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم كان مع أصحابه، فرأى جارية من السبي تأتي لرضيعها وتضمه وترضعه، فاستوقفه الموقف صلى الله عليه وسلم وهو الرجل الذي كانت قضية الدعوة وقضية التعليم قضية حية في ضميره صلى الله عليه وسلم، فخاطب أصحابه قائلاً لهم: (أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ فيقول أصحابه: لا، فيقول صلى الله عليه وسلم: لله أرحم بعبده من هذه بولدها)، ويمضي هذا الموقف ويزول، لكن أولئك الذين سمعوا هذه الكلمة من النبي صلى الله عليه وسلم ربما ينسون حديثاً كثيراً سمعوه منه صلى الله عليه وسلم، أما إذا رأوا امرأة ترضع طفلها فإنهم سيتذكرون ذلك الموقف الذي سمعوا فيه تلك الكلمة منه صلى الله عليه وسلم.(27/10)
المواقف الحية تثبت للمدعو إمكانية تحقيق ما يدعى إليه
رابعاً: إن الكلمة أيضاً تترك أثراً على الناس وتدعوهم إلى العمل والسلوك، لكن ربما يظن البعض من الناس أن هذه الصورة التي يتحدث عنها المتحدث صورة مثالية يصعب تطبيقها، وإذا أمكن تطبيقها فهي في هذا الزمان الذي مرجت فيه العهود وفسد فيه الناس صورة تستعصي على التطبيق، أما حين تكون دعوة بالحال وموقفاً يراه الناس فإنها تكون دعوة لكل من يرى هذا الموقف أن هذه الصورة يمكن أن تحدث، وأن هذا الموقف يمكن أن يكون، إن الذي يسمع عن مواقف الاستشهاد في سبيل الله والجهاد في سبيل الله ربما يهزه هذا الموقف، لكنه قد يشعر أن النفوس البشرية قد لا تطيق هذا البذل وهذه التضحية، لكنه حين يرى هذه النماذج أمام عينيه يدرك أن هذه القضية ترقى إلى ميدان الواقع، وتتجاوز الحيز النظري، إنه حين يسمع عن الإنفاق في سبيل الله، فيرى بعينه من يجود بماله، وحين يسمع عن الاجتهاد في عبادة الله تبارك وتعالى وطاعة الله عز وجل، وحين يسمع عن الصبر عما حرم الله تبارك وتعالى، وعن مجاهدة النفس ومقاومة الفتن ثم يرى النموذج أمام عينيه، سواء كان نموذجاً حياً يراه أمام عينيه، أو كان نموذجاً يقرؤه، فتتخيل تلك الصورة في ذهنه، إنه حين يعيش هذا الموقف لا شك أن ذلك يترك في نفسه أثراً أعظم بكثير من أثر الكلمة مهما عظمت فصاحتها وبلاغتها.
إنه يشعر أن هذه القضية التي يدعو إليها أصحابه يمكن أن يطبقها البشر، ويمكن أن يعملها البشر، ولهذا اختار الله تبارك وتعالى أن يكون أنبياؤه صلوات الله وسلامه عليهم بشراً يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق، ليكونوا قدوة وأسوة للناس.(27/11)
مواقف الدعاة وأفعالهم تدل المدعوين على صدق ما يدعون إليه
أخيراً: من مزايا الدعوة الصامتة أنها أعظم إجابة على شبه المضلين والمفسدين، إن الصراع لا يمكن أبداً أن يتوقف بين أهل الحق وأهل الباطل، فال يزال أهل الباطل يثيرون الشبه أمام دعاة الحق، فيتهمونهم بأبشع التهم، وهي تهم ورثوها من فرعون حين قال عن موسى: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26]، وقال عن السحرة الذين آمنوا لموسى: {إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف:123]، ورثوه من أولئك الذين ما أتاهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون، لقد كان أولئك يتهمون الأنبياء بأنهم سحرة، وبأنهم مجانين، وبأن أتباع الأنبياء ضعفاء بادي الرأي، وأن أولئك إنما كان إيمانهم واتباعهم لموسى إنما كان عن مؤامرة خفية كان يستهدف منها عرش فرعون ومجده وملكه، لكن صبر أولئك السحرة على ما واجههم، وسيرة موسى عليه السلام الذي كان قد عاش مع بني إسرائيل، وكانوا يعرفونه صلى الله عليه وسلم ويعرفون سيرته؛ كانت تلك المواقف أعظم إجابة على تلك التهمة والفرية التي أطلقها فرعون على أولئك المصلحين.
وهي أيضاً أعظم إجابة كانت على تلك الفرية التي أطلقها كفار قريش على النبي صلى الله عليه وسلم، فاتهموه بأنه صابئ وأنه ساحر يفرق بين المرء وزوجه، واتهموه بما اتهموه به صلى الله عليه وسلم، وما يزال المفسدون الأفاكون الظالمون يثيرون الشبه والتهم على من يتبع سنة الأنبياء ويسير على طريقتهم، فحين تكون حال هؤلاء حالاً صادقة للناس، وحالاً واضحة للناس تكون هذه أعظم إجابة على كذب أولئك وإفكهم.(27/12)
مجالات الدعوة الصامتة
أخيراً: ما هي مجالات الدعوة الصامتة؟(27/13)
القدوة الحسنة
أول مجال من مجالات الدعوة الصامتة: القدوة والأسوة الحسنة، وقد مر معنا نماذج كثيرة من ذلك أظن أننا لسنا بحاجة إلى إعادتها.(27/14)
التفوق في مناحي الحياة
المجال الثاني من مجالات الدعوة الصامتة: التفوق في مجالات الحياة المختلفة: حين يكون المتدينون والدعاة إلى الله عز وجل هم المتفوقون في مجالات الحياة المختلفة، هم المتفوقون في دراستهم، وهم المتفوقون في ميادين العمل، وهم العاملون الصادقون المخلصون، ويرى الناس أنهم حين يدخلون ميداناً من الميادين فهم المتفوقون فيه، وهم البارزون فيه، إن هذا يعطي الناس دلالة على صدق هؤلاء، وأن حال هؤلاء وإخلاصهم وصدقهم ليس قاصراً على ميدان من الميادين، بل هاهم يثبتون للناس أنهم ومع انشغالهم بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى، ومع انشغالهم بتعلم العلم الشرعي، مع انشغالهم بواجبات شرعية لم يشغل بها غيرهم، فهم مع ذلك كله قد تفوقوا في سائر ميادين الحياة.
إن الأعداء اليوم يحاولون أن يفسروا هذه الصحوة بأنها إفراز لمشكلات اقتصادية أو عقد نفسية واجتماعية يعاني منها أولئك المتدينون، أما حين يكون هؤلاء المتدينون هم المتفوقون في ميادين الحياة ومجالاتها، وحين تمتد هذه الصحوة لتشمل طبقات الأثرياء والمثقفين ثقافة حديثة معاصرة كما يقول البعض فإن هذا يمثل أعظم رد للمتدينين يبين كذب ما يدعيه أولئك الأعداء.(27/15)
الإحسان إلى الناس وتبني قضاياهم
المجال الثالث من مجالات الدعوة الصامتة: الإحسان إلى الناس وتقديم الخير لهم وتبني قضاياهم، لقد كان صلى الله عليه وسلم -كما حكت عنه زوجه خديجة رضي الله عنها- يقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، وكان صلى الله عليه وسلم يكسب المعدوم، ويشفع للناس ويحسن لهم.
أنه صلى الله عليه وسلم جاء إلى بريرة يسألها أن تعود إلى زوجها، فتسأله صلى الله عليه وسلم: أهو آمر صلى الله عليه وسلم أم شافع؟ فيقول صلى الله عليه وسلم: إنه شافع، فتقول: لا حاجة لي فيه.
لقد اتسع هذا القلب الرحيم صلى الله عليه وسلم ليشفع في هذه القضية الزوجية وليشفع لهذا الرجل الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله الشفاعة فيشفع صلى الله عليه وسلم لدى امرأة كانت أمة من الإماء أن تعود إلى زوجها.
بل يتجاوز صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى الحيوان فيدخل صلى الله عليه وسلم حائطاً من حوائط الأنصار فيرى جملاً قد احدودب ظهره، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه، وكأنه رأى في قلب النبي صلى الله عليه وسلم الرحمة والإحسان، فيأتي إليه النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسأل فيقول: (أين صاحب هذا الجمل؟ فيقول رجل: أنا، فيقول صلى الله عليه وسلم: اتق الله، فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه).
إن النبي صلى الله عليه وسلم وهو الأسوة الحسنة للناس من بعده يرسم لنا هذه القدوة والأسوة أن نحسن إلى الناس وأن نسعى في تبني قضايا الناس أياً كانت هذه القضايا، وهذا الهدي لم يكن خاصاً بالنبي صلى الله عليه وسلم، بل كان هدياً للأنبياء من قبله، فها هو يوسف عليه السلام يقول له صاحباه في السجن: {نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف:36]، فقد رأيا فيه صلى الله عليه وسلم الإحسان إليهما.
إن تبني الصالحين والدعاة إلى الله عز وجل الإحسان إلى الناس، وتقديم الخير لهم هو تأسٍ بالأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وهو أيضاً باب من أعظم أبواب الخير، وهو أيضاً تعرف إلى الناس، فيعرف الناس أن هؤلاء جادون صادقون مخلصون، وأن هؤلاء خير لهم من أولئك الذين يتاجرون بقضاياهم، وحين نعرف هذا نعرف سر ذلك الحرص الشديد من أعداء هذه الدعوة على إغلاق منافذ الخير لهؤلاء حتى لا يحسنوا إلى الناس، ولو كانت نتيجة ذلك أن تشرد الأسر، وأن يموت الجائعون، وأن يهلك الأيتام، لو كانت نتيجة ذلك ما كانت، المهم ألا يعرف الناس عن هؤلاء أنهم صادقون، وألا يعرف الناس عن هؤلاء أنهم يحسنون للناس.(27/16)
العفو والتنازل عن حظ النفس
رابعاً: من مجالات الدعوة الصامتة كظم الغيظ، والتنازل عن الحظوظ والحقوق الشخصية، يقول تبارك وتعالى: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34]، ويقول تبارك وتعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} [المؤمنون:96]، ويقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى:39 - 40]، ثم يقول تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43]، ويقول تبارك وتعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133]، ثم يقول تبارك وتعالى في أوصافهم: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134].
حين يعرف الناس عنا أنا نتنازل عن حقوقنا الشخصية، حين يعرف الناس عنا أنا نعفو عمن ظلمنا، بل ونحسن إليه، فلا شك أن الناس سيعرفون منا حسن الخلق، وسيعرفون منا أخلاق الأنبياء، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم أخاً كريماً حين فتح صلى الله عليه وسلم مكة وتمكن من أعدائه الذين فعلوا ما فعلوا معه صلى الله عليه وسلم، وآذوه وأخرجوه، وفي الوقت الذي ظنوا أن هذا الموقف سيكون فيه حتفهم أطلقهم صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم، فكان ذلك من أعظم الأسباب في دخول أولئك في دين الله أفواجاً؛ لأنهم عرفوا منه صلى الله عليه وسلم الصدق والأمانة والعفو والإحسان قبل أن ينبأ، وعرفوا منه ذلك بعد أن نبئ وأرسل، وعرفوا منه ذلك بعد أن عادوه وآذوه وفعلوا ما فعلوا معه صلى الله عليه وسلم، وها هو أحد أصحابه صلى الله عليه وسلم يقول: (كأني أنظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم يحكي نبياً من الأنبياء آذاه قومه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون).(27/17)
الصدق ورفع راية الخير والصلاح
خامساً: من مجالات الدعوة الصامتة: الصدق في الدعوة ورفع شعار الخير والصلاح.
في صلح الحديبية جاء رجل من بني كنانة موفداً من قريش، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له، فبعثت له واستقبله الناس يلبون، فلما رأى ذلك قال: سبحان الله ما ينبغي لهؤلاء أن يصدوا عن البيت).
نعم حين رأى هؤلاء يلبون ورأى البدن شعر أن هؤلاء إنما جاءوا عماراً لبيت الله تبارك وتعالى، وأنهم لم يأتوا محاربين لقريش فرجع من فوره دون أن يسمع كلمة واحدة من النبي صلى الله عليه وسلم.(27/18)
صدق العاطفة من قبل الداعي
المجال السادس من مجالات الدعوة الصامتة: العاطفة الصادقة المتوقدة في نفس الداعية، وهي إفراز لمشاعر صادقة تكمن في نفسه ما تلبث أن تبدو على أرض الواقع في سلوكه وفي قسمات وجهه، فيقرؤها كل من يراه لتترك في نفسه أثراً يفوق ألف خطبة وألف محاضرة، ويشعر الناس وهم يتعاملون مع هذا الصنف من الناس بما يحركهم ويدفعهم من الداخل، وما نزال نسمع الكثير ممن يتحدث عن العاطفة حديث الذم والنقد، حتى صار من مراتب الجرح والتنقص للمرء أن يقال فيه: إنه عاطفي أو متحمس، وربما صار ذم هذا النوع من الناس مهرباً للبعض الذي قد تبلد حسه تجاه المنكرات، وتجاه مصائب الأمة، فصار حين يطلب منه التفاعل أو يشكى إليه الحال يتنهد قائلاً: إن الأمور لا تعالج بالعواطف، ولا تعالج بالحماس.
نعم إن الإغراق في العواطف مرفوض والانطلاق وراء الحماس وحده تهور، لكن الدعوة إلى إلغاء ذلك كله تطرف هو الآخر.
ولعل سائلاً يتساءل: هل خلق الله تبارك وتعالى هذه العواطف الجياشة عند الناس عبثاً؟ لم يعد يقبل أهل الطب والعلم اليوم أن يكون هناك عضو من أعضاء الإنسان لا يؤدي دوراً، فكيف يقبل أن تكون هذه المشاعر المشتركة لدى عامة الناس، والتي تمثل وقوداً لأعمال ومواقف شتى يقوم بها المرء، كيف يكون ذلك كله عبثاً لا فائدة منه، ويذم المرء حين يتصف به؟ إننا حين نذم أولئك الذين يتهورون فيعملون أعمالاً لم يحسبوا لها حساباً، والذين لا يدفعهم إلا الحماس غير المنضبط، فإننا لا نعذر أولئك المثبطين القاعدين الذين قد تبلد حسهم، وماتت أرواحهم، وهم يرون الأمة تنحر، ويرون الكفر يعلن صراحاً في هذه الأمة، ويرون الأمة يسعى إلى إخراجها من دين الله كما كانت تدخل في دين الله أفواجاً، إن أولئك الذين يرضون بالسكوت والقعود، ولا يزيدون على الحوقلة، أولئك أيضاً قد ارتكبوا منكراً آخر لا يقل عن منكر أولئك: ألا وهو منكر السكوت والقعود عن الحق.
إن الصادق أيها الإخوة الذي يغضب لله عز وجل، والذي يغار على حرمات الله تبارك وتعالى، والذي تكون حاله كحال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يتناشدون الشعر فإذا أردت أحدهم على دينه دارت حماليق عينيه، فكانت حالهم كحال النبي صلى الله عليه وسلم الذي لم يكن يغضب لنفسه قط، إلا أن تنتهك حرمات الله، فإذا انتهكت حرمات الله لم يقم لغضبه صلى الله عليه وسلم شيء.
إن هذه الأحوال أيها الإخوة أعظم قدوة وأسوة لنا لأن نتأسى بها فنملك العاطفة المنضبطة، والحماس لدين الله تبارك وتعالى، وتلك العاطفة أيضاً التي يملكها أولئك الذين ترق أفئدتهم ويحزنون حينما يرون فقيراً معوزاً يتيماً، أو أولئك الذين يرون مسلماً يظلم، أو يموت جوعاً أو يقتله البرد ولم يجد ما يكفيه، إن أولئك الذي يتفاعلون مع هذه العاطفة أو تلك، ويرى الناس هذا الواقع على أحوالهم وعلى قسمات أوجههم، إنهم يتركون أثراً أعظم بكثير من أثر أولئك الخطباء.(27/19)
المواقف المتميزة التي يقفها الداعية
سابعاً: من مجالات الدعوة الصامتة: المواقف المتميزة التي تشكل صدى لدى معاصريها ومعايشيها، وتمتد بعد ذلك عبر أفق الزمن لتخترق حواجزه وتصبح منارة وضياء للأجيال، إنك لو تصفحت سير الصحابة فستجد عبارات الأمر بالصبر والوصية به، والأمر بالثبات على المبدأ وعلو شأن القضية عند أصحابها، لكن ذلك لن يكون مثل المواقف التي سطروها رضوان الله عليهم في الصبر على البلاء ومواجهة الأذى والمضايقة، فلا يزال في ذاكرة المسلمين أجمعين ما يردده الخطباء والمتحدثون من صور صبر بلال وعمار، وتضحية ياسر وسمية، وتحمل خباب وصهيب، لا يزال هؤلاء يتذكرون تلك الصور لأولئك الذين صبروا على الفتنة والمحنة، إنك تجد أقوالاً لأولئك في الأمر بالعبادة والاجتهاد في طاعة الله تبارك وتعالى، لكن هذه الأقوال لن تترك في نفسك أثراً أعظم من أثر سير القوم حين تقرؤها وتتمعنها، وهكذا تبقى المواقف الصادقة منارة للجيل يقرؤها المعاصرون، فيكون هؤلاء الذين وقفوا هذه المواقف دعاة للأمة بمواقفهم، ثم يبقون بعد ذلك دعاة للجيل من بعدهم.
هذه بعض مجالات الدعوة الصامتة، وجوانبها، أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الدعاة لدينه إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(27/20)
الأسئلة(27/21)
كيفية التوفيق بين القدوة العملية وكون العمل خالصاً لله سليماً من الرياء
السؤال
كثيراً ما يتردد الإنسان في إظهار بعض الأعمال؛ لأنه يريد أن يكون داعية صامتاً، ولكنه يخاف أن يكون داعية مرائياً، فما الموقف الصحيح هنا؟ ويقول: إذا كان الشاب يحاول أن يكون قدوة لغيره، خاصة لمن هو دونه في أمور الخير، لكن نفسه ضعيفة لا تلبث أن ترائي بعملها، وتتزين للناس؛ فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
هذه من القضايا الدقيقة التي ينبغي أن نراقب أنفسنا فيها، وهي ما يتعلق بقضايا الإخلاص والرياء التي يعيش فيها الشاب في تردد بين أن يعمل العمل فيخشى أن يكون هذا العمل رياءً، وألا يكون خالصاً لله تبارك وتعالى، وبين أن يعمل هذا العمل، وربما أدى هذا بالشاب إلى أن يترك أعمالاً كثيرة خوفاً على نفسه من الرياء، ولا شك أن الذي خشي من الرياء يملك قدراً من الإخلاص لله تبارك وتعالى، وأن خشيته من الرياء دليل على إخلاصه، فلا ينبغي له أن يترك العمل خشية مراءاة الناس ابتداءً.
ثانياً: قد تكون بعض الأعمال إعلانها أفضل من إسرارها، وإن كان الأصل في الأعمال أن الإسرار أفضل، أرأيت هذا الذي جاء بصرة فألقاها أمام النبي صلى الله عليه وسلم أتظن أن عمل هذا خير، أم لو كان قد أتى بذلك سراً؟ إذاً: الأصل أن يخفي الإنسان أعماله إذا استطاع ذلك، فإن هذا أعظم لإخلاصه وأصدق لنيته وأبرأ، لكن حينما يكون الإعلان أفضل وأولى ويكون قدوة للناس فلا شك أن ذلك يجعله ضمن من قال عنهم صلى الله عليه وسلم: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة)، ثم إنه لا ينبغي للإنسان أن يتكلف فعل الأمر أو تركه على خلاف حاله، فينبغي للإنسان أن يسير على حاله المعتادة، أن إنساناً اعتاد أن يصوم قدراً من النفل، أو يصلي قدراً من الليل، أو يقرأ شيئاً من القرآن، أو اعتاد عمل أي باب من أبواب الخير فلا ينبغي له أن يترك هذا الباب وهذا العمل، ويتكلف تركه إذا كان مع الناس، وكذلك لا ينبغي له أن يتكلف فعله ليقتدي الناس به إذا كانت نفسه أصلاً لا تدفعه إلى هذا العمل، وهي قضايا دقيقة ينبغي أن نراقب أنفسنا فيها، فقضايا الإخلاص من أصعب القضايا على النفس.(27/22)
وجود الداعية الصامت مقترن بكون الدعوة محور حياة الإنسان
السؤال
كيف يمكن تأهيل الدعاة الصامتين باختصار؟
الجواب
يتم ذلك حينما تكون قضية الدعوة قضية مهمة عندنا، وليست قضية هامشية، يعني: حينما تسيطر قضية الدعوة على حياتنا كلها، فتصبح حياتنا كلها دعوة إلى الله تبارك وتعالى، ونصبح نشعر أننا نرفض أنفسنا دائماً، فيشعر الإنسان أنه في البيت وفي مقر الدراسة وفي مقر العمل وهنا وهناك وفي أي ميدان يشعر أنه داعية إلى الله تبارك وتعالى.(27/23)
حكم الساكت عن الحق عند خوف الضرر على نفسه
السؤال
هل يعد الساكت عن الحق الخائف على نفسه شيطاناً أخرس؟
الجواب
إذا سكت الإنسان عن إنكار المنكر، أو عن بيان حق يجب أن يقوله؛ فإن كان يخاف على نفسه من أذىً سوف يغلب على ظنه أنه يلحقه، فهو بين خيارين: إن اختار تحمل هذا الأذى كما تحمل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الأذى في سبيل الله فله ذلك، وهذه من مقامات أولي العزم، وإن لم يختر ذلك فإنه يجوز له حينئذٍ أن يسكت لأنه أصبح في حكم المكره.(27/24)
التعامل السيئ من قبل الداعية مع الآخرين يمثل نقضاً لمفهوم القدوة الحسنة
السؤال
كثير من الشباب منا صغاراً كانوا أو كباراً يعطون صورة سيئة عن الالتزام، وذلك من خلال معاملتهم لأهلهم ولوالديهم بالأخص، مما يؤدي إلى نتائج سيئة؛ فما نصيحتك لهم؟
الجواب
لا شك أن هذا نقض للدعوة، يعني: أن هذا الشاب الذي يعطي أهله أو يعطي الناس من حوله صورة سيئة عن واقعه لا شك أن هذا يعطي الناس رسالة بأنه غير صادق في تدينه، غير صادق في دعوته، ولهذا تجد مثلاً الآباء أحياناً أو الأمهات يخاطبون هؤلاء وينتقدونهم بعبارات مفادها: أين أثر أصحابك عليك؟ أين أثر هذا الدين الذي تدين به؟ أين أثر ما تدعو الناس إليه على نفسك؟ فقد يكون الشاب مثلاً ينكر على أهله منكرات، وقد يكون يشارك مثلاً إخوانه الصالحين في مثل هذه اللقاءات ومثل هذه التجمعات فيرى أهله منه صورة مخالفة لما هو عليه، فيقصر في حقوقهم ويسيء معاملتهم، وربما يقصر في الواجبات الشرعية فيرون أن الفعل ينطق بخلاف القول، فيشكون في صدق هذه الحال التي هو عليها، وقل مثل ذلك مثلاً في واقعه مع الناس، مع زملائه في المدرسة، مع أقاربه هنا وهناك، حينما تكون سيرته لا تمثل ما يدعو إليه الناس فإن هذا يكون أعظم تنفير وصد عن طريق الالتزام.(27/25)
حسن الخلق من أهم مجالات الدعوة الصامتة
السؤال
أليس الالتزام بالأخلاق الكريمة هو من الدعوة الصامتة؟
الجواب
سبق الإشارة إلى هذا، ولا شك أن حسن الخلق من أعظم الدعوة الصامتة، بل إننا نجد مثلاً في السيرة أن هناك من أسلم لأنه رأى من النبي صلى الله عليه وسلم موقفاً من المواقف، وهناك الكثير ممن دخل الإسلام ممن جاء بعد النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان دخوله في الإسلام لما رأى من خلق بعض المسلمين.(27/26)
الدعوة الصامتة سلاح بيد الدعاة إلى الضلال
السؤال
هل تعتقد أن من أسباب المذاهب الهدامة الدعاة الصامتين لهذه المذاهب، أم هناك أسباب أخرى؟
الجواب
نعم، لا شك أن ما يبذله أولئك عامل من عوامل نجاحهم في دعوتهم، وسبق أن تحدثت عن هذا في محاضرة بعنوان: إنهم يعلمون، وذكرت نماذج مما يبذله هؤلاء، وكيف أنهم يحسنون للناس وينفقون عليهم، ويسهرون في خدمتهم، انظروا مثلاً ما يفعله المنصرون، فهم يدخلون على الناس من باب تقديم العلاج والإغاثة وإنقاذ الناس، وهكذا حتى تكون هذه الوسائل مدخلاً لإضلال الناس، فيشعر الناس أن هؤلاء صادقون وجادون فيما يدعون إليه، ويتساءلون بلسان حالهم، وربما بلسان مقالهم: أين المسلمون عنا؟(27/27)
وجود جوانب سيئة في الرجل القدوة لا يلزم منه ترك الاقتداء به في جوانبه الحسنة
السؤال
يقال: ينظر كثير من الناس في هذا الزمان إلى العيوب والمساوئ عند بعض الأشخاص، ولا ينظر ما عنده من المحاسن فيقتدي بها؛ فهل من توضيح لذلك؟
الجواب
المسلم دائماً يجب أن يكون ضالته الحق حيثما وجده، فإذا افترضت أن هناك إنساناً سيئاً أو حتى إنساناً غير متدين، ووجدت عنده جانباً إيجابياً فيجب أن تقتدي بهذا الجانب، وليس هذا بالضرورة تزكية لهذا الشخص، فالله تبارك وتعالى خاطب المؤمنين بقوله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ} [النساء:104]، يعني: الله عز وجل يقول للمؤمنين: إذا كنتم تألمون وكان الجهاد يصيبكم فيه ما يصيبكم، فإن أعداءكم يصيبهم ما يصيبهم، فإذا كان أولئك يصبرون على ما أصابهم وهم أهل باطل وفساد، فأنتم أولى أن تصبروا، يقول تبارك وتعالى: {وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
إذاً: أنت قد ترى مثلاً من إنسان اجتهاداً في عمله وإخلاصاً وبذلاً، وقد ترى منه محافظة على وقته، وقد ترى منه أي جانب من الجوانب الإيجابية، وهو إنسان سيئ، فقد تجعل من هذا الجانب قدوة لك، لا أن فلاناً قدوة لك، لكن أنت تقتدي به في هذا الجانب، فكيف إذا كان إنساناً صالحاً وعنده بعض الأخطاء وعنده بعض العيوب، فإنك ينبغي أن تقتدي بما تراه فيه من سلوك حسن، وما تراه فيه من خير، وأن تدع ما تراه فيه مما هو خلاف ذلك، وهذه طبيعة البشر، لا أحد يقتدى به في كل ما يفعل ويدعو إليه إلا النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الناس مهما علت حاله، ومهما سمت نفسه، ومهما كان سيبقى بشراً يؤخذ من قوله ويرد.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب معصيته وسخطه إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(27/28)
مشكلات وحلول
مشكلتنا في الواقع ليست مشكلة حديث وتوجيه، وليست مشكلة علم ومعرفة، إنما تتمثل مشكلة كثير من المسلمين اليوم أنهم لا يستطيعون أن يحولوا هذا الرصيد العلمي لديهم إلى واقع وتطبيق وسلوك.(28/1)
سر وجودنا في هذه الحياة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب.
وبعد: فكثيراً ما نشعر أن مشكلتنا في الواقع ليست مشكلة حديث وتوجيه، وليست مشكلة علم ومعرفة، إنما تتمثل مشكلة كثير من المسلمين اليوم أنهم لا يستطيعون أن يحولوا هذا الرصيد العلمي لديهم إلى واقع وتطبيق وسلوك.
عنوان هذا الحديث: (مشكلات وحلول).
والحديث موجه لكم، ولهذا فأرى أنه مما يفرض نفسه أن تكون هذه المشكلات نابعة منكم أنتم، فيكون حديثاً عن مشكلاتكم، ويكون حديثي صدى لهمومكم وخواطركم وما تعانون منه.
ولهذا حين اقترح علي الإخوة هذا الموضوع فضلت أن أختصر في الحديث، فتكون الكلمة مختصرة بحيث يكون معظم الوقت للأسئلة والتساؤلات، على أن تصبح هذه التساؤلات جزءاً من الموضوع؛ لأنني أستطيع أن أدون قائمة من المشكلات، ثم أتحدث معكم عنها، وربما تشعرون أن هذه المشكلات تعنيكم، لكن لاشك أن هذا يختلف عما إذا كانت المشكلات صادرة منكم أنتم، وحينما يكون الحديث إجابة عن تساؤلاتكم، فتشعرون أن هذا الحديث صدى لما تفكرون فيه، ولما تعانون منه؛ ولهذا فقد اخترت أن يكون معظم الوقت للإجابة على الأسئلة التي تدور داخل هذا الإطار، وإجابة على تساؤلات معينة واستفسارات بقدر ما هو محاولة لحل بعض المشكلات التي نعاني منها أو التي نشعر أننا نعاني منها جميعاً.
ولعل ما سأتحدث عنه في بداية الحديث يشكل قاعدة لنا تحل جزءاً من كثير من المشكلات التي نعاني منها.
أول مثلاً سؤال يتبادر إلى الذهن عند أي شخص غريب مثلي أنا مثلاً يدخل الدار، قد يدخل مثلاً يتساءل، ينظر ذات الشمال يقول: هذا المبنى لمن؟ وأشعر أن المبنى الذي على يساري صالة، فسأفكر أن هذا ليس مكتباً إدارياً في الدار قطعاً، لأنه وجدت صالة واسعة معنى هذا الكلام أن هذه الصالة لابد أن تستخدم لعمل معين.
الساحة التي نجلس فيها الآن جميعاً سيعرف أي شخص يدخل أن هذه الساحة صممت لأجل أن تستخدم لأغراض معينة، يبدو لي أنا مثلاً أنها تستخدم لأنشطة رياضية، تستخدم لمثل هذه الأنشطة المسائية التي يمكن أن تجتمعوا فيها.
ولهذا يشعر كل إنسان يعيش في الحياة أن أي شيء موجود فهو موجود لحكمة، وله غرض معين، يعني لو أتانا إنسان غريب عن حياة الحاضرة، ولا يعرف أي شيء من صور الحضارة، ووجدني أتحدث أمامكم وأمامي لاقطات قد لا يستطيع أن يعرف لماذا هذه الأجهزة موجودة أمامي، لكن هو سيقول على كل حال إن هذه الأجهزة ما وجدت عبثاً، وما وجدت لأجل أن تكون حاجزاً للرؤية بين المتحدث وبعض الحضور، فلابد أنها وضعت لغرض ولحاجة معينة، ولاستخدام معين تستخدم فيه.
وهذا التساؤل دائماً نجده يأتي إلى أذهاننا في أي شيء، فالإنسان عندما يرى أمامه جهازاً جديداً، ويجد فيه أزراراً ومؤشرات، تجد أنه يتساءل لماذا هذه؟ وما هي الحاجة أن يوضع مثل هذا الشيء؟ هذا تساؤل كما قلت يقفز إلى أذهاننا دائماً في حياتنا اليومية التي نعيشها.
لكن يجب أن نطرحه نحن بشكل أكبر في قضية مهمة جداً، وهي سر وجودنا في هذه الحياة، أعني أن الإنسان يتساءل لماذا وجدت في هذه الحياة؟ لماذا وجد هذا الكون كله بما فيه من السموات السبع، والأرض والأشجار والحيوانات والكواكب والعالم الفسيح الذي نراه، لماذا وجد هذا الكون؟ ولماذا وجدت أنت؟ وما هو موقعي من هذا الكون؟ هذا تساؤل يجب أن نطرحه ونفكر فيه ونصل منه إلى نتيجة معينة.
قد تكون الإجابة بدهية، فكل إنسان حينما تسأله يقول لك: أنا وجدت وخلقت لعبادة الله عز وجل، وهذا أبسط سؤال يجب أن يجيب عليه أي مسلم، والذي لا يعرف الإجابة على هذا التساؤل سنضع علامة استفهام على دخوله في الإسلام، وعلى اعتباره من المسلمين.
هذا فيما يتعلق بخلق الإنسان، لكن بقية الكائنات المخلوقة في هذا الكون كله، لماذا وجدت ولماذا خلقت؟
الجواب
خلقت وسخرت ووجدت من أجل الإنسان نفسه: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29]، {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية:13].
فكل ما في السماوات وما في الأرض من كائنات ومن هذا العالم الذي لا نستطيع أن ندرك أسراره، خلق وسخر من أجل هذا الإنسان، وهذا الإنسان خلق من أجل عبادة الله تبارك وتعالى.(28/2)
قيمة الإنسان في عبوديته لله عز وجل
أول قضية في التوحيد يجب أن يعيها المسلم: ما هو سر وجوده؟ لماذا خلق؟ خلق الإنسان من أجل عبادة الله تبارك وتعالى، من أجل توحيد الله عز وجل.
وماذا يعني هذا الأمر؟ هناك نتائج مهمة تترتب على هذا التساؤل، أولها: ما قيمة عبادة الله في حياتنا؟ فعندما نعرف أن الإنسان ما خلق ولا وجد ولم يسخر له كل ما في الكون إلا لعبادة الله، فهذا معناه أن هذا الإنسان لا يساوي شيئاً بدون عبادة الله عز وجل، بل يصبح كائناً آخر، يصبح صفراً على الشمال.
وأصدق وصف لهؤلاء ما وصفهم الله تبارك وتعالى به في قوله تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]، يعني: هم في حقيقة حياتهم وسلوكهم يعيشون كما تعيش الأنعام، فالإنسان الذي يعيش لشهواته، ولما تدعوه إليه نفسه فقط، وهذه القضية الأولى والأخيرة عنده في الحياة، هو يعيش كما تعيش الأنعام.
ثم جاء الاستدراك: (بَلْ هُمْ أَضَلُّ) لماذا صاروا أضل من الأنعام؟ أضل من الأنعام لأن الأنعام خلقت هكذا، وما كلفت هذا التكليف، وما جعل عندها الاستعداد لتحمل هذا التكليف، أما أنت فقد جعل الله عندك عقلاً، وفطرك على الخير، وخاطبك بالأوامر والنواهي، وأرسل إليك الرسل؛ كل هذا لكي تعيش حياة أخرى، فحينما تكون عندك كل هذه الفرص وتعيش عيشة الأنعام فأنت في الواقع أضل من الأنعام، لأن الأنعام هذا منتهى ما هي عليه.
وهذا يعني أيضاً أن أعلى شرف يمكن أن يصل إليه الإنسان، وأعلى عز وأعلى قيمة للإنسان في الدنيا هي في مدى تحقيقه لعبودية الله تبارك وتعالى.
فأنت لو سألت الناس في كل المجتمعات: ما هي المعايير والموازين والمقاييس التي يقيسون الناس من حولهم بها؟ مثلاً أنت تعتبر هذا الرجل رجلاً ناجحاً في الحياة، أو رجلاً سعيداً في الحياة، من هو الرجل السعيد في الحياة في نظرك؟ لو طرحت هذا السؤال على مجموعة من الناس قطعاً ستجد الإجابة متفاوتة، وكل إنسان يجيب بما عنده، فإجابات الناس تعكس ثقافتهم وتعكس خلفياتهم وتعكس ما عندهم من تفكير.
فلو سألت أي إنسان من هو أسعد الناس في الحياة؟ ومن هو أفضل الناس في الحياة في نظرك؟ ستجد إجابات تختلف، فبعض الناس يقول: الإنسان الثري هو أسعد الناس في الحياة، وبعضهم: الإنسان الذي عنده جاه، وبعضهم: الذي عنده سلطان، فإجابات الناس تختلف.
لكن ما هي الإجابة الحقيقية فعلاً؟ نعود إلى القضية التي قلناها أول شيء وهي مسألة لماذا وجد الإنسان؟ وجد الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى، ولتحقيق هذا الأمر، إذاً: أسعد الناس في الحياة، وأعلى الناس قيمة في الحياة هو الإنسان الذي يحقق القضية تحقيقاً تاماً، فكلما كان الإنسان أكثر عبودية لله عز وجل، وأكثر خضوعاً لله تبارك وتعالى صار أعلى قيمة في الحياة.
إذاً: قيمتك في الدنيا كلها تكمن في تحقيق هذه القضية.
أما الاعتبارات التي يضعها الناس ومقاييسهم وموازينهم حتى يقيسوا بها الإنسان الذي له قيمة في الحياة، فكلها يمكن أن تزول، ولنفترض أن عندنا إنساناً ثرياً يملك مبالغ طائلة، ويعيش حياة الأباطرة، قد نتصور أن هذا الإنسان هو الإنسان الذي بلغ القمة، بينما هذا الإنسان يمكن تأتيه كارثة أو مشكلة مالية فينهار ويتحول إلى إنسان مفلس تماماً.
هذا الإنسان يمكن يسير بسيارته ويصير عليه حادث فيفقد حواسه ويجلس مقعداً في المستشفى، فماذا تنفعه الملايين التي عنده، أو ماذا تنفعه قيمته أو مكانته عند الناس؟ ممكن بسهولة يأتيه مرض من الأمراض فيقضي على حياته كلها، وممكن في النهاية يموت وسيموت قطعاً، وعندما يموت يمشي وراءه أناس في جنازته، والناس تعزي في الجرائد والصحف، لكن خلاص انتهى.
دفن في قبره، مجرد من شهاداته، مجرد من الألقاب التي تعود أن يأخذها في الدنيا، مجرد من الاحترام الذي يلقاه عند الناس في الدنيا.
فأي شخص يدخل الحفرة يستوي فيها هو والفقير والغني والصعلوك، فالذي مات من الجوع ودفن وكان سبب موته هو الجوع يستوي تماماً مع الذي مات من التخمة، ومع الذي مات من أي أمر آخر، وتنتهي الستين والسبعين سنة.
ما هو الرصيد الحقيقي الذي يجعل لك قيمة في الحياة؟ الإنسان الذي أقام عبودية الله تبارك وتعالى، وحقق هذا الجانب، وتحققت القضية عنده بوضوح، سيبقى له عمر ممتد، وستبقى الحياة الدنيا الذي عاشها مجرد مرحلة من المراحل، فهو يعيش في الدنيا ستين أو سبعين أو ثمانين سنة، لكن في النهاية سينتقل إلى الدار الآخرة.
إذاً: فقيمتك في الحياة وحياتك الحقيقية هي بمقدار ما تحقق في نفسك عبودية الله تبارك وتعالى.(28/3)
حقيقة العبودية
وهذا يقودنا إلى تساؤل آخر: الله عز وجل الإنسان وجعل له الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي، والدورة الدموية، وخلق له حواساً، وسمعاً وبصراً، ومشاعر ونفسيات، وحباً وكرهاً.
كل هذه القضايا التي خلقها الله لم يخلقها عبثاً، بل هي مخلوقة كلها لوظيفة، فهل كل هذه الأشياء لكي تحصر قضية العبادة في صلاة خمس مرات في اليوم فقط، وتصوم إذا جاء شهر رمضان؟! عندما نقول: أنت ما خلقت إلا للعبادة ليس المعنى أنه يجب أن تحصر نفسك في المسجد مثلاً، دائماً تقرأ القرآن، أو دائماً تصلي، لكن المعنى أن تكون حياتك كلها مربوطة بشرع الله تبارك وتعالى، وبما يرضي الله عز وجل.(28/4)
لا يكلف الله نفساً إلا وسعها
أيضاً هذه تقودنا إلى قضية أخرى مهمة: من القضايا الكثيرة التي نجد الشباب يطرحونها، مثلاً عندما تنصح أحد الشباب تقول له: اترك هذا العمل؛ فإنه لا يرضي الله ورسوله، يقول لك: أنا أعرف أن هذا العمل حرام، وأعرف أنه لا يرضي الله ورسوله، وأعرف أن نتيجته نتيجة مزعجة في الدنيا قبل الآخرة، لكن لا أستطيع.
فأقول: قبل أن ندخل نحن وإياك في جدل ونقاش تستطيع أو لا تستطيع، نعود إلى القضية التي قلناها سابقاً، أنت لماذا خلقك الله؟ خلقك الله عز وجل لعبادته، والذي خلقك هو الله تبارك وتعالى، وخلق جوارحك، وخلق حواسك، وخلق ما في الكون هذا كله، وقد خلقك تبارك وتعالى بهذه الطبيعة التي فيك، وبهذه الغرائز، وبهذه الجوانب كلها؛ لأجل عبادة الله تبارك وتعالى.
إذاً: معنى هذا الكلام باختصار أنه ما دام الله هو الذي خلقك، وخلقك بهذه الطبيعة، وبهذه الخصائص، وبهذه الصفات، وأمرك بالعبادة، إذاً: معناها أنك قادر أن تؤدي هذه الوظيفة وهذا الدور، فإن من صفات الله عز وجل العلم، ومن صفاته عز وجل الحكمة.
فهل تتصورن لو اعتنى شخص خبير -مثلاً- وصمم لنا اللاقط الصوتي، على أساس أن يلتقط لمسافة عشرة أمتار، ثم جاءنا فني بسيط وكشف عليه وقال: هذا لا يمكن أصلاً، وهو غير مؤهل أن يقوم بهذا الدور.
سنقول: الذي صنع هذا إنسان خبير، وقد جهزه بطريقة معينة تجعله يعمل في هذا الظرف وهذا الوضع.
فالذي خلقك أنت هو الله تبارك وتعالى، وهو يعلم أن البشر يمكن تقع عنده مشكلات، يمكن ينسى، يمكن يجهل، لكن الله تبارك وتعالى لا يمكن أن يجهل شيئاً، ولا يمكن أن تخفى عليه خافية تبارك وتعالى، فالله هو الذي خلقك، ولما خلقك الله لعبادته معنى هذا الكلام تلقائياً أنك قادر أن تقوم بهذا الدور، حينما خلقك الله عز وجل وأمرك بأوامر، ونهاك تبارك وتعالى عن معاص، هذا معناه أنك تستطيع أن تجتنب هذه المعاصي، وهذا معناه أنك تستطيع أن تأتي بهذه الأوامر.
لا يمكن أبداً أن يكون الله عز وجل الذي خلقك، وهو تبارك وتعالى يعرف نوازعك، ويعرف طبيعتك، ويعرف قدراتك، ويعرف مشكلاتك، ويعرف كل الواقع الذي يحيط بك، لا يمكن أبداً أنه تبارك وتعالى يأمرك بأشياء أنت لا تستطيع أن تعملها، ولا يمكن أنه تبارك وتعالى ينهاك عن أشياء لا تستطيع أن تتركها.
أضف إلى ذلك أنك تعرف أنه تبارك وتعالى مع ما يتصف به تبارك وتعالى من علم ومن حكمة، فالله تبارك وتعالى عليم خبير حكيم عز وجل، أيضاً هو عدل تبارك وتعالى، لا يظلم الناس مثقال ذرة، هو رحيم بعباده، رءوف بعباده تبارك وتعالى، لا يمكن أن يظلم الناس، هل تتصور أن الله عز وجل يخلق إنساناً غير قادر أن يترك المعصية، ثم يقول له: أنا حرمت عليك هذه المعصية، وإذا وقع فيها حاسبه وعاقبه تبارك وتعالى، لا يمكن أبداً أن يتصور هذا؛ لأن هذا الإنسان أصلاً ما خلق إلا لعبادة الله تبارك وتعالى، وعبادة الله عز وجل تتمثل في فعل الطاعات واجتناب النواهي.
إذاً: هذه الحقيقة البدهية وهي أننا ما خلقنا إلا لعبادة الله تبارك وتعالى، يترتب عليها تلقائياً أن كل شيء نهانا الله عز وجل عنه، فنحن نستطيع أن نتركه، ونستطيع أن نتجنبه.
والقضية ليس فيها مجال للمخادعة، فأنت تستطيع أن تخادع البشر، وتستطيع أن تلف وتدور، وتستطيع أن تتصنع أشياء كثيرة، لكن أمام الله عز وجل لا، يختم الله تبارك وتعالى على لسان هذا العبد، ثم تنطق عليه جوارحه، يده ورجله وساقه وسائر أعضائه كلها سوف تنطق عليه أمام الله عز وجل، فلا يوجد مجال للمخادعة.
إذاً: لنكن واقعيين مع أنفسنا، حينما خلقنا الله تبارك وتعالى لعبادته، فهذا يعني أن الوظيفة الأساسية لنا في الكون كله هو تحقيق هذه القضية، وهذا يعني أن قيمتك الحقيقية بقدر ما تكون عبداً لله تبارك وتعالى، وأنك كلما ابتعدت عن هذا الطريق أصبحت إنساناً يعيش على الهامش، وهذا يعني القضية التي تهمنا كثيراً ويجب أن نضعها قاعدة لنا في حل مشكلاتنا والتعامل مع حياتنا أنه ما دام الله عز وجل حرم علينا أمراً، فنحن قطعاً نستطيع أن نتركه؛ لأن الله خلق الناس وهو يعرفهم تبارك وتعالى، يعرف الله أن فيهم ذكياً وفيهم غبياً، أن فيهم إنساناً قوي الشخصية وفيهم ضعيف الشخصية، يعرف كل هذه القضايا، والتكليف الشرعي ما جاء لطبقة معينة، جاء للناس كلهم، هذا يعني تلقائياً أن كل إنسان كلف بهذه التكاليف، فهو قادر على أن يمتثل بها، وقادر على أن يسير عليها.
هذه القضية يجب أن نعيها، ويجب أن نربطها بالقضية الأساس والأولى التي بدأت بها الحديث، وهي أننا ما خلقنا إلا لعبادة الله تبارك وتعالى، والله هو الذي خلقنا بهذه الطبيعة وبهذه النوازع، وبهذه الظروف، خلقنا تبارك وتعالى بطبيعة معينة، وبكيفية معينة، تعيننا على تحقيق هذه القضية، تعيننا على أن نكون عبيداً لله عز وجل حقاً، تعيننا على أن نمتثل أمر الله تبارك وتعالى ونجتنب نهيه.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يمتثل أوامره، ويجتنب زواجره ونواهيه، إنه تبارك وتعالى سميع مجيب.(28/5)
الأسئلة(28/6)
عبودية المخلوقات كلها لله عز وجل
السؤال
إن السماوات والأرض وما فيها خلق من أجل الإنسان، هل هذه الكائنات لا تعبد الله؟
الجواب
يقول الله تبارك وتعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44].
ويقول تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18]، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:49 - 50].
آيات كثيرة في القرآن تدل على هذه الحقيقة، وهي أن الكون كله خاضع لله عز وجل، يعني: ما من شيء في هذا الكون إلا يسبح لله تبارك وتعالى، {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44]، كيف يسبح؟ قال الله: (لا تفقهون تسبيحهم)، فهذا لا يعنينا، لكن هذا الكون كله يسبح لله عز وجل، ويسجد لله عز وجل، السماوات والشمس والقمر والنجوم تسجد لله تبارك وتعالى، الظل الذي نراه كل صباح ومساء يسجد لله عز وجل، {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [الرعد:15]، ثم قال تبارك وتعالى في آخر الآية: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد:15]، فالظل في أول النهار وآخره يسجد لله عز وجل.
إذاً: هذا يفيدك في قضية مهمة وهي أن الإنسان العابد لله والمطيع لله يعيش متناسقاً مع حركة الكون كله، يعيش عيشة طبيعية، أما الإنسان العاصي لله فهو يعيش في اتجاه مضاد، يشعر أنه يعيش في وادٍ والكون كله بأفلاكه ونجومه وكائناته وما فيه يعيش في اتجاه آخر.(28/7)
مشكلة صديق السوء
السؤال
هناك مشكلة يعاني منها الشباب وهي مشكلة صديق السوء الذي قد جعل كثيراً من الشباب ينحرفون عن الطريق السوي، تكلم حفظك الله عن هذه المشكلة؟
الجواب
هذه القضية من أكبر المشكلات التي يعاني منها الشاب، ومن أكبر الأمور التي تشكل ضغطاً عليه، فهي مشكلة له، وربما جزء من الشباب يشعر أن سبب دخوله في الدار أصلاً هي هذه المشكلة، ثم قد توجد معه المشكلة وهو هنا، ثم إذا خرج، يعني بعض الشباب قد يتوب وتتحسن أحواله، ويشعر فعلاً بالخطيئة والذنب، ويقرر أنه إذا خرج من الدار يعود إلى حياة أخرى، فإذا خرج عاد إلى أصدقائه ورفاقه السيئين، ثم عاد إلى ما كان عليه.
أول قضية يجب أن نشعر بها أن كل مشكلة نقع فيها لها حل، ولا يوجد مشكلة ليس لها حل، لكن أيضاً لا يعني هذا أن الحل سهل، فيجب أن نفرق بين قضيتين: بين شيء صعب وشيء مستحيل، فحينما أقول لك: المشكلة لها حل لا يعني هذا أنه حل سهل، بل هو حل صعب.
ومن الطبيعي عندما تقع في مشكلة كبيرة تحتاج أن تدفع ثمناً باهظاً لها، وطبيعي عندما تريد هدفاً كبيراً أن تدفع له ثمناً، فمثلاً إنسان صار له مشكلة وتحمل ديوناً، وصار عليه مبلغ كبير، وشعر أنه لابد أن يسدد هذا الدين، ودخل في أعمال تجارية وصار يعمل ويشتغل، يشعر هو أنه لكي يحل هذه المشكلة الكبيرة لابد أن يعمل عملاً مضاعفاً، ويبذل جهداً كثيراً، وكلما صارت لك مشكلة أكبر صرت تشعر أنت أن الجهد المطلوب منك لحل هذه المشكلة أكثر.
يعني أنت لا تتصور أن هناك حلولاً سهلة للمشكلة، وإذا كنت تريد حلولاً سهلة، فدع عنك التفكير في مشكلاتك، وتحمل أعباء المشكلات، وبعدين تحمل الثمن الباهظ لتدفعه في المستقبل.
وأنا سأقول لك حقيقة واحدة أتصور أنها من أفضل ما يعينك على التخلص من هذه المشكلة تماماً: أخبرنا الله تبارك وتعالى أن في يوم القيامة إذا جاء الناس وعاينوا ما عملوا، ورأوا ما قدموا، ورأوا حقيقة الحياة الدنيا، يبدأ كل إنسان يتبرأ ممن اتبعه، كما قال تبارك وتعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة:166 - 167].
وكما قال تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ يَعَظُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ} [الفرقان:27]، فالإنسان عندما يصيبه شيء يعض على أصبعه، لكن هنا يعض على يديه كلها {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29].
هذه حقيقة لابد أن تحصل يوم القيامة، أن يتبرأ الصديق الحميم، وتتقطع الأوصال بينهم، بل حتى يقولون لربهم تبارك وتعالى: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ} [الأعراف:38]، يعني: الصديق الذي كان وإياه، والخليل الذي كان وإياه، يسأل الله عز وجل أن يزيده عذاباً؛ لأنه يرى أنه كان هو السبب في ضلاله.
إذاً: المقاطعة لابد أن تحصل، ولابد أن تتم، وستعلن على الملأ واضحة مكشوفة، وأنت لا بد أن تصل إلى هذه المرحلة، عرفت أنك لابد أن تصل إلى هذه النتيجة، لابد أن تعلن المقاطعة في الدنيا؛ فهي في الدنيا أهون عليك أولاً، ثم تؤدي ثمرتها وقيمتها، تقول: يا رب! إنني لأجل رضاك قاطعت أصدقائي، وتخليت عن جلسائي، وتخليت عن أولئك الذين أحبهم ويحبونني، وآلفهم ويألفونني، لكن إذا لم تعلن هذه في الدنيا والله ستعلنها يوم القيامة، وتعلنها حيث لا ينفع، يعني مجرد حسرة ومجرد ندم.
فإذا كانت قضية إنقاذ نفسك مهمة عليك، وإذا كنت تشعر فعلاً أنك تريد أن تتوب، وأنك تريد أن تجتنب طريق الضلالة، يا أخي! ادفع الثمن، أما إذا كنت تريد المطالب العالية بثمن سهل فلا يمكن أن تأخذها أبداً ولا تستطيع.
وأسهل لك أنك تتحمل الصعوبة التي تواجهها الآن من أن تتحمل عذاب الله عز وجل، الذي سيعيش فيه الإنسان خلوداً لا ينتهي أبداً، يا أخي! أيها أسهل عليك أن تتحمل قليلاً من الصعاب الآن، وتتحمل مشقات التخلي عن أهوائك، أو أن تكون يوم القيامة ممن {إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ} [الكهف:29]، ممن يعيش يتمنى أن يموت ولا يستطيع أن يموت، يأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت، يتمنى أن يخفف عنه يوم واحد من العذاب ولا يخفف عنه.
فأنت لو فكرت في هذه القضية ووضعت الميزانين، شعرت فعلاً أن القضية لا تساوي شيئاً في الدنيا، وأنك تستطيع أن تتخلى عن كل الاعتبارات والعوائق، إذا شعرت أنك لابد أن(28/8)
عراقيل موهومة في طريق طلب العلم
السؤال
بدأت حفظ القرآن الكريم وحفظت بعض الأجزاء ولله الحمد، ولكني توقفت فجأة عن الحفظ، فحاولت إكمال حفظه، لكني لم أستطع حتى قراءة القرآن، أو الكتب الأخرى لا أستطيع قراءتها، لا أدري ماذا حل بي، فأطلب منك أن تجد لي حلاً؟
الجواب
هذا السؤال الشخص الوحيد الذي يجيب عليه هو أنت، أنت تقول: أني بدأت أحفظ، وبدأت أقرأ، ومن ثم انصرفت ولا أدري ماذا حل بي.
لكن هناك قضية نفسية مهمة أحياناً يجري عليها الإنسان، الإنسان إذا صعب عليه عمل، أو شق عليه عمل، لأن الحفظ والقراءة تحتاج جهداً، وتحتاج أن الإنسان يتخلى عن جلسات السواليف، وعن الاسترخاء، ويجلس يحفظ ويقرأ، وأحياناً لا نستطيع أن نتحمل هذا الجهد، فالإنسان كسول يحب أن يرتاح وأن يطمئن.
فيذهب يوهم نفسه أنه لا يستطيع، وأن هناك مشكلة، وأحياناً يكون الإنسان كسولاً قليلاً وغير حافظ فيقول: أنا أتوقع أن عيناً أصابتني، أو أنا أتوقع أن فيَّ شيئاً، وهذه أساليب مخادعة للنفس يلجأ إليها الإنسان أحياناً حتى يخلص نفسه من تحمل تبعات الخطأ.
وأنا أتصور أن كثيراً من هذه القضايا هي حيل لا شعورية نخادع بها أنفسنا، وإذا كان الإنسان جاداً وحازماً مع نفسه سيستطيع، ويجب أن نشعر أن المطالبة العالية يجب أن ندفع لها ثمناً، يعني أنا أريد أن أحفظ القرآن، ما هي قضية كلام فقط، أو أنا سأجلس وأوسع صدري في الكلام مع الزملاء، وأسترخي وأقرأ المجلات وأنام وأرتاح، وأريد أن أحفظ القرآن، هذا مثلما يقول الأول: من لي بمثل سيرها المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول يقول: أريد راحلة تمشي ببطء وتصل أول واحدة، هذا مطلب لا يمكن أن يتحقق، إذا كنت تطلب مطالب عالية اجعل نفسك عند مستوى طموحاتك، أو دع الطموحات لأهلها.(28/9)
اتخاذ العبادة وسيلة للتقرب من أناس من أبواب النفاق
السؤال
اتخاذ العبادة وسيلة للتقرب من أناس محددين، ما حكم ذلك جزاك الله خيراً؟
الجواب
هذا باب من أبواب النفاق وهذه لا تحتاج إلى من يفتي فيها، أي إنسان يجتهد في العبادة، يجتهد في الفرائض والنوافل ويتصنع، يريد التقرب من إنسان لأي هدف، هذه صورة من صور النفاق، وصورة من صور الرياء، وأنت لا تضر إلا نفسك.
وهذا أعظم دليل أنا إذا أردنا فعلاً أن نستقيم استطعنا، فهذا الإنسان الذي يشعر أنه إذا اجتهد في العبادة والطاعة أن هذا سيعطيه سمعة حسنة، ويمكن يساعد في تخفيف الحكم عليه، ويجتهد في نفسه، فتجده يتظاهر بمظهر الصلاح والاستقامة، هذا يدل على أنك تستطيع لو أردت فعلاً أن تفعل هذا، وأن القضية ليست صعبة، والقضية ليست مستحيلة.
فإذا استطعت من أجل أن تختصر ستة أشهر من الحكم، أو تختصر سنة، استطعت أن تغير حياتك كلها، وتظهر بمظهر معين، وتصوم وتجتهد في النوافل، وغيرت برنامجك وظهرت بمظهر الخير، إذا استطعت أنك تصنع هذا من أجل تكسب ستة أشهر من الحرية، فأظن أنك قادر على ما هو أكبر من هذا.
واعلم يا أخي! أن الناس لن ينفعوك، ستلقى الله عز وجل، وستكون القضية أضعافاً مضاعفة، فهذا الإنسان -عافانا الله وإياكم- الذي يتظاهر بالعبادة، ويتظاهر بالبعد عن الفساد والسوء لأجل الناس أسوأ الناس، ولهذا يكون في الدرك الأسفل من النار، لأنه إنسان قادر على نفسه، وفعل العبادة، لكن لا لله عز وجل بل للناس.
ماذا ينفعك الناس؟ انفع نفسك أنت أولى وأهم، وإذا فعلت العبادة فافعلها وأخلص لله وسينفعك الله عز وجل، لو أنت أخلصت لله، وقلت: أنا أجعلها فرصة، وسأتوب إلى الله فعلاً بحق وألتزم طاعة الله عز وجل بحق، سوف تحقق لك المقصد الذي تريد، وسيحبك الناس حقاً، وسيحبك الله عز وجل، وستشعر أنك حققت السعادة في الدنيا والآخرة.
لكن حينما لا تريد إلا الدنيا {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى:20].(28/10)
مشكلات الحب
السؤال
أنا شاب واقع في حب فتاة منذ فترة طويلة، وعانيت من حبها الويلات والحسرات، وحاولت أن أنساها فلم أستطع، علماً أني أحبها حب شرف؟
الجواب
ما معنى حب الشرف هذا؟ أهو حب لأجل طاعة الله عز وجل؟! أول شيء أنت تحس أن عندك مشكلة وإلا ما سألت هذا السؤال، لماذا سألت هذا السؤال ما دام حبك حب شرف؟! أنت تعلم أن عملك هذا فيه مشكلة، لكن نتيجة أنه سيطر عليك هذا العمل وصعب عليك التخلص منه حاولت أن تجد مبرراً له، فكونك تسأل هذا السؤال هذا بحد ذاته دليل أنك تشعر أن هناك مشكلة أصلاً في هذا العمل، والبر ما اطمأنت إليه النفس، والإثم ما حاك في الصدر وتردد في النفس، وكرهت أن يطلع عليه الناس، ولو أفتاك الناس وأفتوك.
فسؤالك وأنت تعاني من هذه الويلات دليل أن القضية ما هي حب شرف، وأن القضية مشكلة أخرى، وعلى الأقل الإنسان إذا ابتلاه الله عز وجل بمعصية أو مشكلة يكون واقعياً مع نفسه، ولن ينفعك أنك تخادع نفسك، كأن تقول: لا، أنا ما عندي مشكلة، كن واقعياً مع نفسك وصريحاً أفضل لك، وقل: أنا إنسان مقصر، وإنا إنسان ضعيف، وأنا إنسان غير قادر على السيطرة على نفسي، هذه حقيقتي، وما في داعي أن تقول هذا الكلام للناس، لكن كن صريحاً مع نفسك، ولا تخادع نفسك، فإن المخادعة لن تنفعك، ولن تعينك.
على كل حال الله عز وجل خلق العواطف عند الناس ولم يخلقها عبثاً، الله عز وجل جعل الناس يحبون، وجعل الناس يبغضون، وجعل الناس يكرهون، وخلق الله عز وجل عند الإنسان شهوات، وأول قضية عندما تقول لي: لا أقدر، أقول لك: هذا الكلام غير صحيح، لماذا لا تقدر؟ لأن الله عز وجل نهاك عن هذه الأشياء وحرمها عليك، ثم إن الله هو الذي خلق فيك هذه الغريزة، ولا يمكن أبداً أن الله عز وجل يأمرك بشيء لا تستطيعه.
فإذا كنت تتصور أنك ما تستطيع فهذه مخادعة للنفس، وحينما تستسلم لما تدعوه نفسك، فتستسلم للنظر الحرام والتفكير والهواجس، ستبقى عندك مشكلات، تبقى تشتد وتزيد ضراوتها، لكن يجب أن تحزم على نفسك، وتقطع الطريق من البداية.
وهذا الحب الذي جعله الله في نفوس الناس سجية وطبيعة لم يخلقه الله عبثاً، لكن هذه العاطفة إذا لم توجهها الوجهة السليمة سوف تنحرف، ولو شغلت قلبك بحب الله تبارك وتعالى، وحب ما يحبه الله عز وجل، والله ستعيش في عالم آخر، وتشعر أن هذه القضايا تافهة، وهذه قضايا لا تستحق أن تشغل تفكيرك بها وذهنك.
حينما تعمر قلبك بالإيمان ومحبة الله عز وجل، وتصبح كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار).
فحينما تعمر قلبك بمحبة الله عز وجل، والإيمان بالله تبارك وتعالى، وتعيش هذه القضية من قلبك فعلاً، وهي تحتاج إلى مجاهدة وجهد حتى تستقر في النفس، وإذا اجتهدت وغرست هذه القضية في نفسك ستجد أن كل هذه المشكلات تنحت جانباً، وصارت هذه القضايا ما تشغلك ولا تعاني منها.
لكن حينما تعيش بعيداً عن الإيمان، وبعيداً عن هذه القضايا ستعاني منها، وأنا أقول لك: لا يوجد حل إلا هذا الحل، وهو الحل الأساس والأول، وبقية الحلول تبقى حلولاً جزئية، أما هذا فهو الحل الأساس، وهو تعمير قلوبنا بالإيمان ومحبة الله عز وجل، الصلة بالله تبارك وتعالى، بالصلاة والدعاء، وتلاوة القرآن والتدبر.
وتحتاج القضية إلى تعويد وترويض ومجاهدة، فهذا الأمر لا يأتي مباشرة، مثلما أن الإنسان لكي يتعلم أي صنعة في الدنيا يحتاج له إلى فترة.
وأما إذا ابتعدت وصار قلبك خاوياً من هذه المعاني فسوف تتعلق بمثل هذه التفاهات.
وهذه القضية جاء فيها أسئلة كثيرة حول قضية السعادة ومن هو أسعد الناس، حينما تصل إلى هذه الدرجة ستكون كما قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان)، ما معنى حلاوة الإيمان؟ يعني سيجد لذة وحلاوة للإيمان لا يجدها في أي عمل آخر، ويشعر بالعبادات التي يقوم بها، ويشعر بالطاعات والأعمال الصالحة التي يقوم بها وسيجد فيها أنساً لنفسه، وسيجد أن نفسه تدفعه إلى العمل، وتؤزه إلى العمل.
ولا تتصور أن هؤلاء الأتقياء الواحد منهم يجاهد نفسه ويدفع نفسه دفعاً، لا، فقد تحولت هذه القضايا إلى أنه كما أنك أنت تعيش الويلات مع هذا الحب الذي تسميه حب شرف تماماً هو أشد حباً لله تبارك وتعالى، وحباً لطاعة الله، وقلبه أشد تعلقاً بالله من تعلق هذا الإنسان بمثل هذه الفتاة أو بمثل هذه الصور التي نشاهدها ونراها.(28/11)
كيفية إدخال السرور على الوالدين
السؤال
تعلمون أن دخولنا هذه الدار سبب لنا ولأهلنا المتاعب والأحزان، أريد أن أدخل السرور على والدي وأن أضحكهما كما أبكيتهما، كيف أستطيع ذلك؟
الجواب
لا شك أن أكبر مشكلة تواجه الوالد هي أن يشعر أن ابنه سلك طريقاً من طرق الانحراف والغواية، ويتمنى أنه يبذل المستحيل ويبذل كل ما يملك حتى يعيد ابنه إلى الطريق الذي يتمنى أن يكون عليه.
فالقضية باختصار إذا منَّ الله عليك بالخروج، والقضية هي عمر قصير، فمهما طالت السنوات، فأنت ستخرج إن شاء الله قريباً أو بعيداً، فقرر أن تغير واقعك، وهذا ليس شيئاً صعباً ولا مستحيلاً، وبهذا بإذن الله أولاً ترضي ربك تبارك وتعالى، وتشعر أنك أنقذت نفسك، ثم هذا أغلى ما تقدمه لوالديك، بل ربما يشعر الوالد أحياناً أنه قد كان به خير في دخولك في هذه الدار؛ لأنها كانت سبباً في توبتك، أسأل الله عز وجل أن يمن علينا وعليك بالتوبة.(28/12)
الإخبار عن المعاصي التي سترها الله
السؤال
اقترفت كثيراً من المعاصي خارج الدار ولا أستطيع إخبار والدي عنها، فهل أخبر والدي عنها؟ وكيف يكون ذلك؟
الجواب
أنا لا أنصحك بإخباره، يعني إذا وقعت في معاصي بينك وبين نفسك لا أنصحك أن تخبر الناس عنها، لا والدك ولا غيره، لكن تب إلى الله عز وجل، وارجع إلى الله عز وجل، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كل أمتي معافى إلا المجاهرين، وإن من المجاهرة أن يعمل الرجل عملاً بالليل، فيستره الله تبارك وتعالى، فيصبح فيقول: يا فلان! عملت البارحة كذا وكذا، بات يستره الله ويكشف ستر الله عليه).
فليس هناك داع لكي تحدث الناس بما عملت، إلا في حالة واحدة، وهي حينما تشعر أنك في مشكلة وتحتاج أن تحلها، وحينما تشعر أن هناك قضية مرتبطة بهذا العمل، أو تساؤلاً تحتاج إلى إجابة عليه، أو مشكلة تحتاج إلى أن تعان عليها، أما ما سوى ذلك فلا توجد حاجة ولا داع، والأولى أن تستتر بستر الله عز وجل، بل هذا يسهل عليك طريق التوبة، والله عز وجل إذا ستر عليك في الدنيا، لعله يستر عليك في الآخرة.(28/13)
التوبة من المعاصي
السؤال
أنا شاب وقعت في المعاصي وتبت إلى الله، فهل لي من توبة، أفيدوني أفادكم الله؟
الجواب
أنت تقرأ القرآن يا أخي! الله تبارك وتعالى بعد أن ذكر حال المنافقين قال: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، وقال: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ} [النساء:146].
لما ذكر حال من هم أشد منهم اليهود الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، سبوا الله تبارك وتعالى، قال تبارك وتعالى عنهم: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المائدة:74].
ويقول تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا} [الفرقان:68 - 71].
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
هذه قضايا ما يحتاج أن أحدثك عنها، أنت تقرأ القرآن، وتقرأ السنة، وتقرأ كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن ربه تبارك وتعالى أنه ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: (هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فأعطيه سؤاله)، (وأنه تبارك وتعالى يبسط يده بالليل؛ ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار؛ ليتوب مسيء الليل).
بل النبي صلى الله عليه وسلم يخبرنا بما هو أكبر من ذلك كله يخبرنا بأن الله عز وجل يفرح إذا تاب عبده، أشد من رجل كانت معه دابته وراحلته في الصحراء، فأضاعها وعليها طعامه وشرابه، ثم أيس منها -أيس أنه سيجدها- فنام تحت الشجرة ينتظر الموت، فلما استيقظ إذا بها عند رأسه، ففرح بها أشد الفرح، فالله عز وجل أشد فرحاً بتوبة عبده من هذا الرجل الذي فرح بدابته.(28/14)
كيفية الخشوع في الصلاة
السؤال
أنا أشاب أريد أن أخشع في صلاتي، ولكن الشيطان يوسوس لي؟
الجواب
لا شك أن الشيطان يحرص على إفساد صلاة الإنسان، فإذا سمع الأذان أدبر ثم يأتي، حتى يثبط الإنسان، فإذا سمع الإقامة أدبر، ثم إذا جاء الإنسان يصلي جاء وأصبح يحول بينه وبين صلاته، ويذكره أشياء كثيرة، حتى أننا نجد في حياتنا أن الإنسان ينسى أشياء لا يتصور أن يتذكرها، فإذا جاءت الصلاة تذكرها، والسبب أن الشيطان يستعيد شريط الذكريات عند الإنسان، فيشغله عن مثل هذه الأمور.
فلابد أن تجاهد نفسك، وتجتهد في أن تجتنب ما يشغلك عن الصلاة، وهناك وسائل كثيرة من أهمها: أنك تتفكر بالآيات التي تقرأها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى: (إذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، قال الله عز وجل: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، قال: أثنى علي عبدي، وإذا قال: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4]، قال: مجدني عبدي).
إذا عرفت أن الله يخاطبك ويقول لك هذا الكلام لا يمكن أبداً أن تنصرف عن صلاتك، إذا ركعت وإذا سجدت، تأتي إلى الصلاة مبكراً، تبتعد عن الشواغل، ثم تجاهد نفسك، والمسألة في المجاهدة والتعود، تعود نفسك وستجد أنك أول مرة تخشع في جزء من الصلاة، ثم جزء، ثم تشعر بعد ذلك أنك أصبحت لا تسهو بإذن الله في الصلاة.(28/15)
الصبر على البلوى والمصيبة
السؤال
أنا دائم الشعور بالضيق بسبب وجودي هنا في الدار، ودائماً أتمنى الخروج، فكيف أصبر على بلواي ومصيبتي؟
الجواب
يجب أن تكون واقعياً مع نفسك، فهذا الموقف ثمن تدفعه لخطأ ارتكبته، فأول قضية أن لا تشغل بالك متى تخرج، فهذا التفكير لن ينفعك في الخروج، يعني: مثلاً واحد باقي عليه سنتان ويخرج وإذا به جالس متكئ على رأسه يفكر متى يخرج، هذا التفكير لن يفيدك، فكر في شيء عملي، يعني: فكر كيف تتدارك نفسك، وكيف تتجاوز الكبوة والخطأ الذي وقعت فيه، فكان سبباً في مجيئك إلى هذه الدار، فكر كيف تستثمر وقت الفراغ الذي أنت فيه، مثلاً: تجعله فرصة لتحفظ شيئاً من القرآن، أو تقرأ وتستفيد، المهم أن تستثمر وقتك بشكل أنفع، ثم فكر كيف تغير من طريقك.
أنا أتصور أن هذا هو الحل، وإذا تاب الإنسان واحتسب يكون هذا بإذن الله تكفيراً للخطيئة التي وقع فيها وكانت سبباً لذلك.
أسأل الله تبارك وتعالى أن ييسر أمورنا وأموركم إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(28/16)
أرحم الخلق بالخلق
أرسل الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين، فهو أرحم الخلق بالخلق، وتبدو مظاهر رحمته في جوانب معاملاته المختلفة، وذلك في التخفيف على أمته وتعامله مع النساء والصبيان والبهائم.(29/1)
منهج أهل السنة والرحمة بالخلق
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فعن أرحم الخلق بالخلق حديثنا هذه الليلة ليلة 13 من شهر ذي القعدة عام 1415 للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.
أيها الإخوة الكرام! في وسط هذا العالم الذي يموج بالبعد عن الله سبحانه وتعالى وعن شرعه، ويموج بالبدعة والإعراض عن الله سبحانه وتعالى، تتعالى صيحات الإنقاذ ودعوات النهوض بهذه الأمة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها، ولن يقوم بهذا الدين إلا تلك الطائفة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب لها النجاة حين هلكت سائر الفرق والطوائف وكتب لها النصرة: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم).
وكان لابد من الحديث والمناداة بإحياء منهج خير القرون، منهج أهل السنة والجماعة وسلف الأمة، ولا شك أن منهج أهل السنة ومنهج خير القرون أوسع دلالة وأعمق دائرة من أن يكون مجرد مقررات معرفية دون أن يكون لها رصيد من العمل والسلوك، إنه منهج أشمل من ذلك بكثير، فهو ليس ذاك المنهج الذي يعرف جانباً واحداً من جوانب التوحيد لله سبحانه وتعالى، أو لا يتحدث إلا في إطار المعرفة والجدل والإثبات النظري والنفي وحده فقط، بل هو أشمل من ذلك كله.
ومن الجوانب المهمة عند أهل السنة الجانب الخلقي والسلوكي، وما فتئ من صنف في معتقدهم مختصراً أو مفصلاً أن يشير إلى هذا البعد الأخلاقي والسلوكي ويصفهم بما هم أهل له من جوانب في الرقائق والسلوك أو الأخلاق أو المعتقد، ومن ذلك أن أهل السنة كما وصفوا أرحم الخلق بالخلق، وهذه محاولة متواضعة للحديث حول هذا الجانب.
إن العلم الأول والقائد الأوحد لأهل السنة هو محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فإن أولئك الذين يرغبون سلوك هذا المنهج ويدعون إليه لابد أن يكون لهم نسب وثيق من المحبة والتوقير له صلى الله عليه وسلم وإنزاله المنزلة التي أنزله الله إياها، ومن الاتباع له صلى الله عليه وسلم والبحث عن هديه وعن سنته وسلوكه لتقتفى آثارها، ولا يجوز بحال أن يطغى علم من أعلام أهل السنة على جلالته وقدره، ولا أن يطغى صوته على صوت النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أن نحتكم إلى قوله أكثر مما نحتكم إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم وهديه.
ونحن جدير بنا في كل حال وآن أن نعود إلى هديه صلى الله عليه وسلم بقراءة متأنية دقيقة فاحصة لنلتمس من هديه صلى الله عليه وسلم وسنته معالم طريق النجاة التي أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لن ينجو إلا من كان على ما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه.(29/2)
رحمة النبي صلى الله عليه وسلم بأمته
ومن الصفات التي اتصف بها نبينا صلى الله عليه وسلم صفة الرحمة، وهي التي وصف بها أهل السنة والجماعة، أنهم أرحم الخلق بالخلق، فلقد وصفه الله سبحانه وتعالى بذلك.(29/3)
ترك بعض الأعمال حتى لا تفرض على أمته
وصفه سبحانه وتعالى بالرحمة على الخلق والعطف عليهم، {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159].
ويمتن الله سبحانه وتعالى على المسلمين أن بعث لهم هذا الرسول صاحب القلب الكبير الرحيم صلى الله عليه وسلم، {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
وتلمس رحمته صلى الله عليه وسلم بالخلق في كل أحواله وأموره، كان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يترك بعض الأعمال شفقة على أمته حتى لا تفرض عليهم فيعجزوا عن القيام بها، ألم تقرءوا كثيراً في سنته صلى الله عليه وسلم قوله: (لولا أن أشق على أمتي)، إن هذا مصداق الوصف الذي وصفه به ربه سبحانه وتعالى، وهو عز وجل أعلم به: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
فهو صلى الله عليه وسلم يقول: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة)، (لولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل).
ويصلي صلى الله عليه وسلم فيصلي الناس بصلاته ثم يعتذر لهم خشية أن تفرض عليهم هذه الصلاة فلا يطيقوها، ويفرض الله عليه خمسين صلاة فما يزال يراجع ربه حتى تخفف هذه الصلاة رغبة في التخفيف على أمته.
ويأمره جبريل أن يقرئ أمته القرآن على حرف فيقول: إن أمتي لا تطيق ذلك، فيقول: أقرئهم على حرفين حتى أوصله إلى سبعة أحرف، ما يزال رحيماً صلى الله عليه وسلم بهذه الأمة يخشى أن تكلف ما لا طاقة لها به.(29/4)
رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع أزواجه
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله سبحانه وتعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8]، نعم لقد يسر صلى الله عليه وسلم لليسرى في كل أموره وحياته صلى الله عليه وسلم، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فنعيش مع جانب آخر من سيرته صلى الله عليه وسلم، وهي سيرته مع أزواجه، ففي حجة الوداع أصاب عائشة رضي الله عنها الحيض مما منعها من أن تعتمر كما اعتمر الناس، فتقول للنبي صلى الله عليه وسلم: يذهب الناس بحج وبعمرة وأذهب بحجة، فيقول الراوي: وكان صلى الله عليه وسلم هيناً ليناً إذا هوت أمراً تابعها عليه.
ومن تأمل سيرته وهديه صلى الله عليه وسلم في تعامله مع زوجاته يلمس ذلك واضحاً.
إذاً: فقد وصفه الله سبحانه وتعالى بأنه رءوف رحيم بأمته، وكان صلى الله عليه وسلم في أمور التشريع والعبادة يخشى أن يشق على أمته، ويسعى إلى أن يخفف عنهم وأن يبعد عنهم العنت والمشقة، وكان ثالثاً صاحب القلب الرحيم اللين مع أزواجه صلى الله عليه وسلم، وهو رابعاً مع الأولاد والأطفال صلى الله عليه وسلم.
جاء أعرابي كما تروي عائشة رضي الله عنها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فرأى أمراً لم يعهده، رآه صلى الله عليه وسلم يقبل الصبيان فقال: تقبلون الصبيان؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: إنا لا نقبلهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك).(29/5)
رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الصبيان
إذاً: فهذا الأعرابي الذي ما اعتاد أن يقبل الصبيان وأن يداعبهم جاء إلى ذاك الرجل العظيم الذي يسمع عنه الحديث، ذاك الرجل الذي يهابه الناس ويتحدثون عنه، ويحث الناس سيرهم إليه لتكتحل أعينهم برؤيته صلى الله عليه وسلم، وحق لهم ذلك، فمن رآه صلى الله عليه وسلم وآمن به ثبت له فضل لا يثبت لأحد من البشر، فيستغرب هذا الأعرابي أن يرى هذا الرجل العظيم يتعامل مع الصبيان هذه المعاملة.
وأيضاً في الصحيحين من حديث أبي هريرة (أنه صلى الله عليه وسلم قبل الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس رضي الله عنه، فاستنكر هذا السلوك ولم يألفه قال: إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم.
فنظر إليه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: من لا يرحم لا يرحم).
ويصلي النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه كما روى ذلك عبد الله بن شداد رضي الله عنه وهو عند الإمام النسائي (فيسجد صلى الله عليه وسلم فيأتي الحسن أو الحسين فيرقى على ظهره صلى الله عليه وسلم، فيطيل السجود حتى ظنوا أنه قد نسي صلى الله عليه وسلم، فلما فرغ من صلاته قال: إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم قبل أن يقضي حاجته).
الله أكبر، إن هذا القلب الرحيم العظيم ليأبى أن يزعج هذا الطفل الصغير ويقلقه، فيطيل صلى الله عليه وسلم سجوده والناس وراءه ينتظر أن يقضي هذا الصبي حاجته فيقوم من نفسه.
ويسمع صلى الله عليه وسلم بكاء الصبي وهو يصلي وقد نوى أن يطيل الصلاة فيوجز فيها صلى الله عليه وسلم حتى لا يزعجهم.(29/6)
رحمته صلى الله عليه وسلم في تعامله مع البهائم
وتتجاوز رحمته صلى الله عليه وسلم ذلك كله إلى الحيوان البهيم، فيروي عبد الله بن جعفر رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطاً لرجل من الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فمسح ذفراه فسكت، فقال صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: لي يا رسول الله.
فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؛ فإنه شكا إلي أنك تجيعه وتدئبه)، رواه أبو داود.
الله أكبر ما أعظم هذا القلب الرحيم، وهذا مع ما يحمل صلى الله عليه وسلم من عبء الرسالة لا لأصحابه بل للبشرية أجمع، بل للثقلين الإنس والجن، ومع ما يحمله صلى الله عليه وسلم من هم وجهد وما يقوم به، ومع ذلك كله يجد هذا الحيوان البهيم مكاناً رحباً واسعاً في قلب هذا الرجل العظيم صلى الله عليه وسلم، فيأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد عرف عنه الرحمة فيشتكي إليه، فيجيب الشكوى، ويسأل عن صاحبه ليخبره بشكوى هذه البهيمة، أفلا يتقي الله أولئك الذين حملهم الله أمانة المسلمين وأمانة الجيل، فلئن كان من يتولى هذه البهيمية عرضة للمسألة والإنكار من محمد صلى الله عليه وسلم، فكيف بأولئك الذين دعا عليهم صلى الله عليه وسلم؟ فتتجاوز رحمة النبي صلى الله عليه وسلم ورافقه بأمته ذاك العصر الذي عاشه، وذاك الجيل الذي عاشره؛ ليضع صلى الله عليه وسلم هذه الضمانة لمن بعده فيدعو ربه تبارك وتعالى: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)، فيضع صلى الله عليه وسلم هذا نبراساً وهدياً لكل من يتحمل أمانة ومسئولية في هذه الأمة إلى أن تقوم الساعة، ويدعو ربه تبارك وتعالى وتقدس أن يرفق بمن يرفق بأمته، وأن يرحم من يرحم أمته، وأن يشق على من يشق عليها.
وأيضاً: يروي الإمام أبو داود في سننه من حديث سهل بن الحنظلية رضي الله عنه (أنه صلى الله عليه وسلم مر ببعير قد لحق ظهره ببطنه فقال: اتقوا الله في هذه البهائم المعجمة فاركبوها صالحة وكلوها صالحة).
وفي صحيح الإمام مسلم: (أن عائشة رضي الله عنها ركبت بعيراً وكانت فيه صعوبة فجعلت تردده فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: عليك بالرفق).
وكان صلى الله عليه وسلم في سفر كما روى ذلك أبو داود عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فانطلق لحاجته فرأينا حمرة معها فرخان فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها).
والحديث معشر الإخوة الكرام! ليس حديثاً عن رحمته صلى الله عليه وسلم بالبهائم المعجمة والدواب والحيوان، إنما هي إشارة إلى أن ذلك القلب العظيم الرحيم الذي وسع برحمته هذه الدواب لابد أن يكون أرحم وأرفق بأولئك الذين خلقهم الله سبحانه وتعالى لعبادته، وخلق كل ما في هذه الأرض لهم: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا} [البقرة:29].
وقد أخبر سبحانه وتعالى أن رسالته صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فرسالته صلى الله عليه وسلم وبعثته صلى الله عليه وسلم رحمة للجن والإنس.
هذه معشر الإخوة الكرام بعض المعالم من هدي أرحم البشر عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهو مع ذلك صلى الله عليه وسلم لم يحلنا على هذا الهدي وحده وهو كاف، بل أمرنا صلى الله عليه وسلم وحثنا على الرحمة وأعلى لنا شأنها، فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الراحمين هم أولى الناس برحمة الله.(29/7)
فضل الراحمين وما يستحقون من ثواب
ففي الترمذي وأبي داود من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله).
والراحمون يستحقون مغفرة الله سبحانه وتعالى، والمغفرة أخص من الرحمة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه في الصحيحين: (أن رجلاً كان يمشي في الطريق فاشتد عليه العطش فنزل بئراً فشرب، فلما خرج رأى كلباً يتلوى من العطش؛ فنزل البئر وسقاه، فلما سقاه غفر الله عز وجل له).
وفي رواية أنها بغي من بغايا بني إسرائيل، أرأيتم أولئك الذين رحمهم الله وغفر لهم وقد رحموا دابة من الدواب؟ فما بالكم بمن يرحم عباد الله الصالحين الأتقياء؟ وكما أعلى النبي صلى الله عليه وسلم منزلة الراحمين وأخبر أن الراحمين أولى الناس برحمة الله عز وجل ومغفرته، كذلك توعد صلى الله عليه وسلم أولئك الذين لا يرحمون، فأخبر صلى الله عليه وسلم أنهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى، كما في حديث جرير بن عبد الله في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا يرحم الله من لا يرحم الناس).
ومضى معنا في حديث الأقرع بن حابس أنه صلى الله عليه وسلم قال: (من لا يرحم لا يُرحم).
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذين لا يرحمون أشقياء قد كتبت عليهم الشقاوة، ففي حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أبي داود أنه قال: سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي).
وأيضاً مضى معنا قوله صلى الله عليه وسلم للرجل الأعرابي: (أو أملك أن نزع الله من قلبك الرحمة).
إذاً: فالراحمون يرحمهم الله سبحانه وتعالى ويغفر لهم، وأولئك الذين نزعت الرحمة من قلوبهم أشقياء قد عوقبوا بنزع هذه الرحمة، وهم أبعد الناس عن رحمة الله سبحانه وتعالى، فالله لا يرحم من لا يرحم عباده، والجزاء من جنس العمل فالذي يرحم الناس يستحق رحمة الله سبحانه وتعالى، والذي يكتم غيظه ويعفو عن الناس يستحق أن يغفر الله سبحانه وتعالى له ويعفو عنه.
إذاً: هذه وقفة سريعة مع إمام أهل السنة وقائدهم وفرطهم على الحوض صلى الله عليه وسلم، هذه وقفة مع هديه العملي وهديه القولي، وكيف أنه صلى الله عليه وسلم كان أرحم الناس: وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء فلم تعرف البشرية أرحم ولا أرفق ولا أعظم خلقاً وهدياً وسمتاً منه صلى الله عليه وسلم.
أقول: هذا هو إمام أهل السنة، وهذا هو قائدهم، وهو فرطهم على الحوض، فما أحرى بهم أن يجعلوا هديه نبراساً له وأن يتصفوا بهذه الرحمة العظيمة التي وسع بها صلى الله عليه وسلم خلق الله تبارك وتعالى، فصار صلى الله عليه وسلم رحيماً بخلق الله عز وجل حتى البهائم المعجمة كان لها نصيب من رحمته.
أقول: بهذا كان أهل السنة هم أهل الرحمة بالخلق، فكانوا خير الناس للناس، وكانوا أرحم الخلق بالخلق، وكانوا يعرفون الحق ويرحمون الخلق، كما نص على ذلك جمع ممن صنف في معتقدهم.
وأكرر ما قلته أول حديثي من أن معتقد أهل السنة وأن منهج أهل السنة لا يقف عند مجرد المقررات المعرفية وحدها، ولا عند باب من أبواب العلم والاعتقاد، بل هو منهج وسلوك يطبع حياة المسلم كلها في اعتقاده في ذات الله سبحانه وتعالى وفي أسمائه وصفاته، وفيما يجب له وما يستحقه تبارك وتعالى من العبادة والتأله والخضوع والاحتكام إلى شرعه تعالى وتقدس، وفي التلقي من الوحيين دون غيرهما، وفي تعظيم أمر الله سبحانه وتعالى وشرعه، وفي عبادته تبارك وتعالى والاجتهاد في ذلك، وفي باب الخلق والسلوك والتعامل مع الناس.(29/8)
أهل السنة أرحم الناس
ولهذا كان أهل السنة كما قلنا ينصون على هذا الجانب ويؤكدون ما قالوه، هذا هو الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله يقول عن أهل السنة: ويتواصون بقيام الليل للصلاة بعد المنام، وبصلة الأرحام، وإفشاء السلام، وإطعام الطعام، والرحمة على الفقراء والمساكين والأيتام، والاهتمام بأمور المسلمين.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأهل السنة والجماعة يتبعون الكتاب والسنة، ويطيعون الله ورسوله، فيتبعون الحق ويرحمون الخلق.
ويقول أيضاً في موضع آخر: وأهل السنة فيهم العلم والعدل والرحمة، فيعلمون الحق الذي يكونون به موافقين للسنة سالمين من البدعة، ويعدلون على من خرج منها ولو ظلمهم، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8]، ويرحمون الخلق، ويريدون لهم الخير والهدى والعلم، لا يقصدون الشر لهم ابتداء، بل إذا عاقبوهم وبينوا خطأهم وجهلهم وظلمهم، كان قصدهم بذلك بيان الحق ورحمة الخلق.
والنقول عن سلف الأمة تطول في ذلك، وانظر في أي كتاب صنفه إمام من أئمة أهل السنة من المتقدمين والمتأخرين لتراه ينص على أن أهل السنة والسلف يرحمون الخلق، وأنهم يأمرون بإطعام الطعام وإفشاء السلام، ويتحدث عن الجوانب الأخلاقية والسلوكية.
فهذا الأمر له أهميته، ولاشك أن الخلل في أمور الاعتقاد بالله سبحانه وتعالى أو في أسمائه وصفاته أو عبادته كسر لا ينجبر وخلل لا يرأب، لكن لا ينبغي أن نهمل ذاك الجانب الذي يتصدر بدعوة الناس ويعلن للناس أنه يسير وفق ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنه من الطائفة الناجية المنصورة، وأنه يحمل الحق الواضح للناس، ينبغي أن يكون سلوكه وهديه وسمته خير دليل للناس على صدق مقاله، وعلى صدق ما يدعوهم إليه، فيتمثل هذا السلوك وهذا الجانب في حياته كلها وفي سلوكه.(29/9)
صور الرحمة بالخلق عند أهل السنة(29/10)
الرحمة بالفقراء والمساكين وأهل الحاجة
وصور بالخلق عند أهل السنة في جوانب كثيرة منها: الرحمة بالفقراء والمساكين وأهل الحاجة وقضاء حوائج الناس، ولهم في ذلك أسوة بنبيهم صلى الله عليه وسلم الذي كان يعطف على الأرملة والمسكين، وكان صلى الله عليه وسلم قبل النبوة والرسالة كان يطعم الطعام، ويحمل الكل، ويكسب المعدوم، ويعين على نوائب الحق، كما وصفته بذلك زوجه خديجة رضي الله عنها، فكيف يكون الأمر بعد النبوة وبعد الرسالة؟ لاشك أنه صلى الله عليه وسلم سيزداد رحمة وعطفاً! إذاً، فأهل السنة والدعاة إلى الله سبحانه وتعالى والدعاة إلى منهج أهل السنة ينبغي أن يشعر أهل الحاجات ومن ضاقت بهم السبل أن هؤلاء هم أقرب الناس إليهم، فيمسحون دمعة المسكين، ويسدون خلة المحتاج ويحسنون إلى من يحتاج إلى أن يحسن إليه.(29/11)
الحرص على هداية الناس وإنقاذهم
الأمر الآخر: الحرص على هداية الناس وإنقاذهم: فلاشك أن من أعظم الرحمة بالناس أن يسعى المرء إلى إنقاذهم من عذاب الله سبحانه وتعالى، فإن كان المرء الذي يسعى إلى أن ينقذ فقيراً من جوع ومسغبة، أو ينقذ يتيماً من بؤس اليتم فإنه أولى أن ينقذه من نار وقودها الناس والحجارة وأن يدله على جنة عرضها السموات والأرض، جنة ينسى حين يدخلها ويغمس فيها غمسة واحدة كل شقاء الدنيا وبؤسها.
ولهذا يخبر الله عز وجل عنه صلى الله عليه وسلم أنه أرسل رحمة للعالمين، وأعظم رحمة للناس أن أنقذهم الله به صلى الله عليه وسلم من الضلال ومن الشرك والكفر به سبحانه وتعالى، وأنقذهم من نار تلظى وقودها الناس والحجارة، لهذا كان صلى الله عليه وسلم هو الرحمة المهداة، وكانت حاله صلى الله عليه وسلم كما قال عن نفسه: (وأنا آخذ بحجزكم عن النار).
يضرب صلى الله عليه وسلم لنفسه مثلاً برجل أوقد ناراً فجعل الفراش يتهافت فيها، وهو يذبها عنها، إذاً: من تمام الرحمة وكمالها أن يدعونا إلى جنة عرضها السموات والأرض، وأن يسعى إلى إنقاذنا من عذاب النار عافانا الله وإياكم منها، ولا يمكن أن يكون رحيماً ذاك الذي يحسن إلى الناس في دنياهم ويهمل عليهم أمر دينهم.(29/12)
الرفق بمن تحت يدك من الخلق
ومن صور الرحمة بالخلق: الرفق بهم في من ولاه الله مسئولية وأمراً وقد دعا صلى الله عليه وسلم فقال: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه).
فكل من ولاه الله أمانة ومسئولية من أب أو زوج أو أستاذ أو مدير أو مسئول صغير أو كبير فينبغي أن يرفق بالمسلمين، وأيضاً أن يرفق بالناس في نصحهم وفي تصحيح أخطائهم، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم كما وصفه معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه وقصته مشهورة معروفة، (حين عطس رجل في الصلاة فقال: يرحمك الله ثم رمقه الناس بأبصارهم، فقال: ويل أمي ما بالكم ترمقوني بأبصاركم؟ فيقول رضي الله عنه: فبأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً منه، فوالله ما كهرني ولا ضربني ولا شتمني، وإنما دعاني وقال: إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو الذكر والتسبيح والدعاء وقراءة القرآن).
والحديث المشهور: حين جاء الأعرابي وبال في طائفة المسجد وانتهره الناس، فأدركه صلى الله عليه وسلم بقلبه الرحيم وأعلمه بحق وواجب هذه الأماكن وصيانتها، فقال هذا الرجل: اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً، وذلك أنه رأى وعرف الرحمة في قلب النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يفسر لنا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
إذاً: فمن رحمة أهل السنة بالخلق أن يرفقوا بمن يقع في الخطأ والمنكر، خاصة الذي يقع فيه عن جهل والذي لم يجد من يذكره ويعلمه، فينبغي أن يحسن إليه، وأن يرفق به، وأن ندعوه بعملنا وسلوكنا ورحمتنا قبل أن ندعوه بقولنا وإنكارنا، وأن يعلم هذا الرجل أننا حينما ندعوه وننكر عليه أننا ندعوه ونحن أهل الرحمة والعطف والشفقة والرفق ويرى هذا في سلوكنا، مما يشعره بصدق مقالتنا ودعوتنا، ويدعوه إلى أن يستجيب لما نرجوه ونطلبه منه.(29/13)
عدم الحكم على الناس بالخروج عن السنة بدافع الغيرة
كذلك من الأمور المهمة في الرفق بالناس والرحمة بهم ألا يسعى الإنسان إلى الحكم على الناس ويكون هذا همه، إن البعض من الناس يؤتى من غيرته وحرصه على حماية العقيدة فيتصور أنه بقدر ما يخرج الناس من العقيدة ومن دائرة أهل السنة والتوحيد، بقدر ذلك يكون أكثر غيرة على عقيدة أهل السنة وأكثر حماية لها.
وقد يسري وهم خاطئ عند البعض من الناس أن الذين تطول قائمة من يجرحونهم ويخرجونهم من دائرة أهل السنة أن أولئك هم أكثر الناس غيرة على منهج أهل السنة، وأن أولئك هم أصدق الناس توحيداً، فهم أولئك الذين لم ينج منهم أحد، ولن يستطيع أن يفلتهم أحد.
نعم، لا شك معشر الإخوة الكرام أن المنتمي إلى هذه العقيدة العظيمة يعز عليه أن تخالف هذه العقيدة، وأن تتسلق أسوارها، ولاشك أن حبه لهذه العقيدة وتمكنها في قلبه تدعوه إلى أن يتجاوز مجاملة الخلق ومداهنتهم على حساب الإخلال بها، لكن هذا أيضاً لا يدعو الإنسان إلى أن يكون همه البحث عن أخطاء الناس والتفتيش عنها ويرى أن هذا من تمام الغيرة على العقيدة، أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول لأصحابه: (ما أحب أن يبلغني أحد عن أحد شيئاً)، وحين قتل أسامة رضي الله عنه رجلاً قال لا إله إلا الله، والموقف يوحي ويشعر لكل من يقرؤه أن هذا الرجل قالها تقية، كما قال أسامة إنه رجل كان يقتل المسلمين فما ترك أحداً إلا وقتله، فحين أدركه أسامة ورفع عليه السيف قال: أشهد أن لا إله إلا الله؛ فأي إنسان لاشك أنه يتصور أن هذا الرجل إنما قال هذه الكلمة فراراً من القتل، وإلا فأين تصديقه بهذه الشهادة وأين إقراره بها قبل ذلك؟ ومع ذلك لما أنكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم رد أسامة بأنه إنما قالها فراراً من القتل، فقال: (أفلا شققت عن قلبه) يعني: هلا شققت عن قلبه حتى تعرف أقالها صدقاً أم لا؟ يا أخي، ما دام هذا قد أظهر الشهادة وأظهر كلمة الحق فلماذا تفتش عما وراء ذلك، ولماذا تبحث عن قرائن؟ فأغلظ النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة حتى تمنى أنه لم يسلم إلا هذا اليوم حتى ينجو من هذا الموقف، مع أن القرائن كانت قوية عند أسامة، وهي التي دفعته إلى قتله.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (هلا فتشت عن قلبه) الخطاب ليس لـ أسامة رضي الله عنه وحده، بل هو خطاب للأمة أجمع، أنه ما كلفنا بالتفتيش عن قلوب الناس.
يا أخي هذا إنسان يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله، بل يقول لك: أنا على عقيدة التوحيد، وأنا على هذا المنهج وأنا أسير عليه، وتقول له: لا، إنك لست على ذلك، وتنكر عليه ادعاءه وتذهب تفتش عما يقوله وتبحث عن كلمة تحتمل تأويلاً حتى تخرجه من هذه الدائرة! هل مقتضى الغيرة على عقيدة أهل السنة يقتضي منا هذا المسلك؟ أم يقتضي منا أن نأخذ الناس على ظاهرهم وعلى ما يبدون، فمن أظهر خيراً وصدقاً ونصيحة واتباعاً للسنة قبلنا منه وحسابه على الله عز وجل، ومن أظهر خلاف ذلك عاملناه بما يظهر منه.
أما أن يأتينا مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويظهر الصدق والإقبال على الله عز وجل، وينتسب إلى أهل السنة وهي الطائفة الناجية ويسلك سبيلها، ونذهب نكابر ونجادل ويكون الأصل عندنا أن نشك في عقائد الناس حتى يثبت خلاف ذلك، ويكون الأصل عندنا إذا ترددنا في الشخص أن نحكم عليه بخلاف ذلك؛ فلا أظن أن هذه غيرة على عقيدة أهل السنة، ولا أظن أن هذه غيرة على عقيدة التوحيد، وليس من الخدمة لمنهجك أن تسعى إلى إخراج الناس منه، وأن تسعى إلى أن تبعد الناس عنه.
لاشك أن الرحمة بالناس والخلق لا يمكن أن تدعونا إلى أن نتستر عن الأخطاء والأمور الظاهرة، لكن شرع الله لنا التعامل مع ما يظهر من الناس ومع ما يبدو منهم، وسرائرهم إلى الله سبحانه وتعالى.(29/14)
عدم البغي على المخالف
أيضاً من الرحمة بالخلق التعامل مع المخالف: والمخالفون أصناف منهم: المجتهد المخطئ: فقد يجتهد الإنسان ويبذل وسعه في تحري الحق والبحث عن الدليل ثم يقع في خطأ، فيتأول نصاً من كتاب الله أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف تأويله، أو تبدو له شبهة أو عارض من العوارض فيصل إلى نتيجة خاطئة، فهذا قد قال عنه صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن اجتهد وأخطأ فله أجر واحد).
والمجتهد الذي بذل وسعه معذور سواء في الأمور العملية أو الأمور الخبرية، وغالب هؤلاء إنما يقع خطؤه في أمور ليست معلومة من الدين بالضرورة عنده، وقد يخالف أمراً أجمع عليه غيره لكنه قد تعرض له شبهة أو تأويل وله من الخير والفضل والحسنات ما يمحو ذلك، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث.
ومنهم الجاهل المعذور الذي قلد من يثق في علمه وورعه ودينه، أو وقع في أمر جهلاً منه عن حسن نية.
ومنهم متعد ظالم ومبتدع آثم.
ومنهم منافق زنديق.
ومنهم مشرك ظالم.
فالمخالفون والمخطئون لنا ليسوا على طائفة واحدة، وليسوا على درجة واحدة، ولا يجوز أن نحشرهم كلهم في واد واحد.
وقد تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وغيره من أئمة أهل السنة حديثاً طويلاً مستفيضاً عن الموقف من هؤلاء المخالفين والتعامل معهم، ولهذا فالتعامل مع هؤلاء كل على حسب منزلته، فمنهم من يعذر ويحسن إليه، ومنهم من يغلظ عليه، ومنهم من يهجر، ومنهم من يؤدب على حسب ما هو عليه.
المقصود أيضاً أن أهل السنة لا يبغون على المخالف كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، ويرفقون بمن خالفهم على التفصيل الذي أشرنا إليه.
وأيضاً يجب أن نلحظ هنا في مسألة وصف أهل السنة أنهم يعرفون الحق ويرحمون الخلق، وأن الرحمة بالخلق لا تكون على حساب المنهج، وأن تؤدي هذه الرحمة إلى المساومة على المنهج الإغضاء عن الابتداع والضلال والخطأ.
ومواقف شيخ الإسلام رحمه الله العملية تؤيد هذا المعنى الذي قاله، فهاهي مواقفه مع أعدائه الذين امتحن رحمه الله بسببهم وأدخل السجن وأوذي وصار له ما صار بسببهم، يقول ابن القيم رحمه الله: جئت يوماً مبشراً له بموت أكثر أعدائه وأشدهم عداوة وأذى له، فنهرني وتنكر لي واسترجع، ثم قام من فوره إلى بيت أهله فعزاهم ثم قال: إني لكم مكانه، ولا يكون لكم أمر تحتاجون فيه إلى مساعدة إلا وساعدتكم فيه، فسروا به ودعوا له! ولما مرض مرض الوفاة رحمه الله دخل عليه أحد أولئك الذين عادوه وآذوه واعتذر له، فقال: إني قد عذرت وحللت كل أولئك الذين آذوني وخالفوني، ولهذا قال عنه أحد خصومه وهو ابن مخلوف: ما رأينا مثل ابن تيمية حرضنا عليه فلم نقدر عليه، فقدر علينا فصفح عنا وحاج عنا.
والمقصود من ذلك كله أننا ينبغي أن نقتدي بإمام أهل السنة وفرطهم صلى الله عليه وسلم في هذا الخلق العظيم وهو الرحمة، وأن نرى أنه من تمام انتسابنا إلى منهج أهل السنة أن ننظر إلى سلوكهم وهديهم وورعهم وسمتهم، وأن نقتفي أثرهم عليهم رحمة الله ورضوانه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم ممن نجاه الله سبحانه وتعالى فكان على مثلما كان عليه صلى الله عليه وسلم وأصحابه إنه سميع قريب مجيب.
ونترك بقية الوقت للإجابة على ما يتيسر من أسئلة.(29/15)
الأسئلة(29/16)
رحمة الكفار والفاسقين
السؤال
هل كان الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يرحم الكفار والفاسقين؟
الجواب
هم يرحمون باعتبار الخوف على ما هم عليه؛ لكن أيضاً ينبغي أن يغلظ عليهم وأن يبغضوا كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، وأشار إلى هذا المعنى ابن القيم رحمه الله قال: واجعل لقلبك مقلتين كلاهما إلى الخلق ناظرتان فانظر بعين الحق وارحمهم بها إذ لا ترد مشيئة الديان لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن وانظر بعين الحكم واحملهم على أحكامه فهما إذاً نظران فهو يشفق عليهم ويخشى أن يكون مثلهم لكنه أيضاً بعين الحكم ليقيم عليهم حكم الله من البغض في قلبه وإظهار العداوة لهم والبراءة منهم وجهادهم والغلظة عليهم.(29/17)
الرحمة في إقامة الحدود
السؤال
كثير من الناس يخلطون بين الرحمة والشفقة على الخلق وبين إقامة حدود الله والأخذ على يد الظالم وغير ذلك، نرجو توضيح ذلك؟
الجواب
هو من تمام الرحمة بهم أن تقام عليهم الحدود؛ لأن الحدود كفارة لأهلها، وقد نهى الله سبحانه وتعالى أن تقف هذه الرحمة دون عقوبتهم وإعطائهم ما يستحقون فقال: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور:2].(29/18)
ضرب الأطفال على المخالفات
السؤال
ما حكم ضرب الأطفال على أخطاء بسيطة يرتكبونها في المنزل، وما توجيهكم حفظكم الله لمن يستعمل الشدة مع أبنائه ويرى أنها الأسلوب الأمثل في التربية؟
الجواب
أظن أننا قد أشرنا إلى ذلك في درس دور المرأة في التربية، وأحياناً نكون مثاليين في تعاملنا مع أطفالنا، ونريد من الطفل ألا يرفع صوته، وألا يكسر إناءً، وألا يكتب على حائط، وألا يحرك ساكناً ولا يسكن متحركاً، نريد منه أن يكون كالجماد فعلاً، وهذه صورة مثالية لا يمكن أن ندركها، فهناك أمور طبيعية تكون من طبيعة الطفل، فيجب أن نكون واقعيين في التعامل مع الأطفال، وهذا أيضاً لا يعني أن يربى الطفل على الفوضى والعبث، فينبغي أن يشعر الطفل أنه توجد خطوط حمراء لا يتجاوزها، وأنه يمكن يحاسب على خطئه، والحساب ليس بالضرورة بالضرب والقسوة، وقد يلجأ إلى الضرب حين يحتاج إليه، لكن ينبغي أن يكون آخر شيء.(29/19)
التشديد على الطلاب بالضرب والواجبات
السؤال
أنا مدرس وكثيراً ما يقع مني أن أشدد على تلاميذي مرة بالضرب أو بأداء التمارين الرياضية أو الإكثار من الواجبات المنزلية، فهل هذا خارج عن الرحمة؟ مع أني أرى أن هذا جزء من مصلحتهم وجزاك الله خيراً.
الجواب
كونك ترى أن هذا جزء من مصلحتهم هذا ما هو أولاً: معيار لصحة سلوكك وعدم رب مجتهد للخير لم يبلغه، وافرض أنك رأيت أن من مصلحتهم أن تخرجهم من المدرسة إلى الشارع، فهل تكون هذه مصلحتهم.
على كل حال يجب أن يكون أمامنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به)، فلنستعمل الرفق بالناس والإحسان إليهم، وهذا لا يعني طبعاً أن نهملهم وأن تضيع أمورهم، لكن الحزم الذي نرى أنه نتخذه في مسئوليتنا وإمارتنا سواء كنا آباءنا أو أساتذة أو مسئولين في أي جهة ينبغي ألا يخرجنا عن هذا الإطار وهذه الدائرة.
ثم الأخ يذكر أنه يعاقبهم بالإكثار من الواجبات، وأنا أظن أن الغرض من الواجبات هو إعانة الطالب على فهم المادة واستيعابها وربطه بالمادة المقررة، وليس في الواجبات عقوبة، فهذا يجعل الطالب يكره مثل هذا الأسلوب، والمدرس ليس في ميدان صراع مع عدو يتمنى أن يجهز عليه، لكن القضية قضية تعليم وتربية وتوجيه.(29/20)
الإعانة على المعصية
السؤال
هل أسمح للمستأجر عندي بوضع الدش على بيتي؟
الجواب
القاعدة: لا يجوز للمسلم أن يعين على المعصية بحال من الأحوال أياً كانت المعصية، وقد لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، ولعن في الخمر شاربها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه.(29/21)
أسلوب التعامل مع الطفل وتربيته
السؤال
ذكرت أنه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم كان يشفق على الأطفال ويحبهم ويلاعبهم، فكيف نتعامل مع الأطفال فإني إذا لاعبته ودلعته جعل يتدلع ويتميع، فهل أسلوب الشدة هو الحل أم ماذا؟
الجواب
الحل هو أسلوب الوسط، وينبغي دائماً أن تكون عادة المسلم الرفق واللين، وأحياناً تأتي مواقف تحتاج إلى الحزم، فالقسوة المزعجة خلل، وترك الحزم في موضع الحزم يحول الأطفال إلى حياة وأسلوب غير صالح.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من الراحمين الرحماء، وأن يجعلنا وإياكم ممن رحم الخلق فرحمهم سبحانه وتعالى وغفر لهم، وألا يجعلنا وإياكم ممن نزعت منه الرحمة، إنه سبحانه وتعالى سميع قريب مجيب.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(29/22)
فن التهرب من المسئولية
الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مسئولية كل مسلم، ولو قام كل واحد بجهد يسير في ذلك لانتشرت الدعوة إلى الله وعم خيرها؛ لكن الكثير منا يتهرب من مسئوليتها بأعذار غير مقبولة في كثير من الأحيان.(30/1)
التهرب من مسئولية الدعوة إلى الله وأسبابه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد: فإن واقع المسلمين اليوم لا يخفى على الجميع، ولعل أصدق وصف ينطبق عليه قوله صلى الله عليه وسلم: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) ولا شك أن القيام بهذه الأمة ورفع الغربة وإزالتها، وإعادة الأمة إلى ما كانت عليه من المكانة الشرعية التي اختارها الله سبحانه وتعالى لتتبوأها لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون أمة شاهدة على الناس مسئولية الأمة جمعاء لا تخص أحداً دون أحد، ولا طبقة دون طبقة مهما تفاوتت المراتب ومهما تنوعت أعباء المسئولية، فإن النصوص التي خاطب الله هذه الأمة أن تعمل بها لتكون خير أمة أخرجت للناس عامة، وقد جعل شرط تلك الخيرية أن تتصف بصفة الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110] فهذا النص وغيره من النصوص الأخرى التي تدل على مضمونه هل تخاطب فئة معينة من الناس؟ هل هي موجهة إلى أولي الأمر؟ أم موجهة إلى العلماء أو طلبة العلم؟ أم إلى شريحة معينة من المجتمع؟ أم أنها موجهة إلى كل مسلم يقرأ القرآن؟! ومما يدل على مضمونه قول الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] هذه الأمة أخرجها الله لتحمل الهداية للبشرية جمعاء، وهذه النصوص التي خاطب الله بها هذه الأمة -كما قلت- ليست خاصة بفئة دون فئة، ولا بطبقة معينة من الناس، بل هي عامة لكل مسلم مكلّف يقرأ القرآن أو يسمعه.
وكذلك النصوص الواردة في السنة النبوية والتي توجب على الناس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان) هذا الخطاب خطاب للأمة جميعاً، فكل مسلم يرى منكراً مخاطب بهذا النص الشرعي، ومخاطب بقوله صلى الله عليه وسلم: (ما بعث الله من نبي إلا كان له حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بهديه، ثم إنه تخلف بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، ليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل).
بالله عليكم عندما تقرءون هذه النصوص ماذا تفهمون منها؟! كل مسلم -مهما كان مستواه العلمي والثقافي، بل مهما كان مستوى إيمانه، حتى المسلم الفاسق المقصر، والمسلم الذي يرتكب الكبائر- داخل تحت هذه النصوص.
وهذا إذا كان يصدق على واقعة من الوقائع فيها منكر وأمر مخالف لأمر الله ورسوله، فكيف إذا كان الواقع كله يحتاج إلى تغيير؟! لا شك أن المسئولية تكون آكد، وكما كان الخطاب عاماً في الصورة الأولى لكل من رأى منكراً -سواء كان عالماً أو جاهلاً أو تقياً أو فاسقاً- فكذلك هذه النصوص مخاطب بها المسلمون جميعاً، ولا تخص أحداً دون أحد.
نعم تتفاوت المسئولية تبعاً لما عند الإنسان من علم، وتبعاً لموقعه وولايته، وتبعاً لعدة أمور يختلف فيها الناس ولكن تبقى بعد ذلك المسئولية مشتركة، فالمسلمون كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (المسلمون تتكافأ دماؤهم، يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم) فكل واحد من أبناء هذه الأمة يتكلم باسم الأمة، فهو عندما يجير رجلاً يُقبل جواره، وعندما يسعى بذمة المسلمين فهو أيضاً يتكلم باسم المسلمين، فهم يد واحدة على من سواهم.
وهذه معان أظن أنها بدهية، ولكن -أيضاً- مما نعاني منه غربة مثل هذه المفاهيم، والتي هي أحوج ما تكون الأمة إليها حتى تنهض من سباتها.
ولكننا عندما نخاطب الناس -سواء خطاباً عاماً أو خطاباً خاصاً- على اختلاف طبقاتهم نجد التهرب من المسئولية والتخلي عن هذه المسئولية وإلقاء المسئولية على الآخرين، ومحاولة اكتشاف أعذار ومبررات تخلص المرء من أن يتحمل هذه المسئولية ليلقيها على غيره، وهذا التهرب له أسباب، فما الذي يدعو المرء إلى أن يتهرب من المسئولية ويحاول أن يلقي بها على غيره؟ أحياناً يكون المرء لديه شبهة، فيرى أنه لا ينبغي له أن يأمر وينهى لقلة علمه، أو لأنه وقع في معصية أو لغير ذلك، فهو يعتقد أصلاً أنه غير مخاطب بهذا الأمر وأن واقع المسلمين واقع مؤلم وأنه يجب إعادة الأمة إلى مكانها الطبيعي، ولكن يرى أن الأمر يُخاطب به غيره، وأنه غير مخاطب.
وأحياناً يعلم ويدرك أن المسئولية مناطة به ولكنه يحاول أن يتنصل؛ لأنه لا يتحمل تبعات هذه المسئولية، والقضية ليست قضية يسيرة، أعني عندما نطالب بإعادة صيا(30/2)
أساليب التهرب من المسئولية
بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الأساسية في هذه المحاضرة، وهي أساليب التهرب من المسئولية.
وقد تكون متداخلة، وهذه قضية لا تهمنا، الذي يهمنا أن أمامي فكرة أريد أن أنقلها إليكم بأي صورة، وأن أحملكم هذه الأمانة؛ لأننا مأمورون أن نتواصى بالحق وأن نتواصى بالصبر جميعاً.(30/3)
الدفاع عن واقع المجتمع
أول أسلوب نمارسه للتخلص من المسئولية هو الدفاع عن واقع المجتمع.
نحن عندما نطالب الناس بأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر، وأن يتحملوا المسئولية تجاه هذا المجتمع فإن هذا فرع عن مقدمة أخرى اتفقنا عليها قبل، وهي أن واقع المجتمع واقع مخالف، فكيف تطالب الناس بالدعوة وواقع المجتمع واقع سليم؟ فالبعض يبدأ يناقشك في المقدمة أصلاً، يقول لك: يا أخي! واقع مجتمعنا واقع سليم، فلا داعي لهذا الحديث والمبالغة عن المشاكل التي يواجهها المجتمع، ولا داعي للمبالغة في الحديث عن الانحراف الموجود في صفوف المجتمع، وهي قضايا إما أنها قضايا تبالغون فيها أنتم أصلاً، أو أنها قضايا يمكن أن تحصل في أي مجتمع وقد وقعت في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، أليس في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم -مثلاً- من وقع في الزنا؟! أليس في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم من شرب الخمر؟ وهكذا يعطيك قائمة من تلك الحوادث التي كانت حوادث فردية وقعت في مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، أو في مجتمع الخلفاء الراشدين، حتى يقول لك: إنها الصورة نفسها، قد يكون حجم هذه الحوادث وحجم هذه المخالفات في مجتمعنا أكثر، لكن هذا لا يُخرج مجتمعاً عن كونه مجتمعاً واقعاً في وضع سليم.
قضية لا يمكن أن نتفق عليها، يعني أنت تقول: إن واقع المجتمع واقع سليم، وأنا أقول: واقع غير سليم! لا يمكن أن نصل إلى نتيجة بمثل هذا الأسلوب، لكن نريد أن نطرح السؤال، نتأمل في واقع المجتمع قليلاً.
أولاً: قد أكون أنا أتحدث عن هذا الجانب باعتبار أنني أتعامل معه من خلال عملي في ميدان التعليم، أو من خلال عنايتي نوعاً ما بهذا الموضوع.
جانب الفساد الأخلاقي في أوساط الشباب، وانتشار الشذوذ والفساد قضية مزعجة، وأظن أن هذه وحدها كافية أن تعطينا صورة عن مدى الانحراف الموجود في المجتمع.
صورة عن بعد المجتمع عن الواقع الشرعي، وفي الواقع أنني أملك معلومات وقضايا موثقة لكنني أتردد كثيراً في عرضها؛ لأنني أعرف أنها مزعجة، وأعرف أن أثرها قد يكون على الكثير هو ردة الفعل، فالكثير عندما يُصدم بمثل هذه المعلومات، ييأس ويتصور أن القضية انتهت.
ونحن لا نتحدث من فراغ، ولا نتحدث من مبالغة، ولكني قادر أن أذكر لكم صورة واحدة من النماذج المتكررة والمزعجة من هذا الواقع إلا أنني لا أرى أن أذكر مثل هذه المعلومات التي قد يكون لها آثار سلبية، لكن يكفي أن أقول: إن هذا الواقع سيئ وواقع مؤلم، والذي لا يعلم ذلك فهو قد يكون بعيداً عنه، لكن الذي يعمل في قطاعات أمنية، يعمل في قطاعات لها علاقة بمخالفات الشباب وما يتعلق بها يدرك مصداق ما أقول.
الجانب الاقتصادي في حياتنا: والجانب الاقتصادي جزء أساسي من كيان الأمة، من كيان مجتمعنا، نحن نتحدث عن مجتمعنا الذي نجد الناس يدافعون عنه، أليست حياتنا الاقتصادية قائمة على الربا من أولها إلى آخرها على المستوى الفردي، وعلى المستوى الرسمي، وعلى المستوى العام في كافة الأمور، وأصدق دليل على ذلك أنك تذهب إلى أي قرية من القرى لا تجدها تخلو من بنك ربوي.
وليست المشكلة وجود بنك ربوي، أو بنوك تمارس الربا أو أن الربا أصبح أمراً له شرعية، لكن المشكلة أن الربا دخل في الحياة الاقتصادية فحياتنا الاقتصادية بكافة جوانبها قل أن تخلو من الربا، وحتى تعرف مصداق ذلك يمكن أن تتحدث مع كبار التجار لترى ذلك، فإنك عندما تذهب إلى أي محل تجاري لتشتري علبة ألبان، أو علبة مياه صحية، أو أي منتج صناعي، تشتريه وأنت لا يدور في بالك شيء، لكن هذا غالباً يكون قد دخله الربا، أما شركة الألبان مثلاً أو شركة المياه الصحية أو غيرها، فسيكون عندها فائض أموال ستودعه في البنك بفائدة.
وعندما تحتاج أحياناً سيولة ستقترض بفائدة.
وإذا سلمت مثلاً شركة الألبان من التعامل بالربا فشركة التغليف الذي تصنع العلب كذلك، وإذا سلمت هذه فالموزع، وهكذا قل ما تجد منتجاً أو سلعة إلا وقد دخلها الربا بصورة أو بأخرى.
أظن أنكم جميعاً تعرفون أن هذا لا يعني أننا نحرم مثل هذه الأمور، ولا أن الإنسان الذي يتعامل مع مثل هذه السلعة أو مع مثل هذه الشركة يتعامل بالربا، لكن حتى أصور لك أنه ليست القضية قضية وجود الربا! بل إن الربا أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا الاقتصادية، بل أصبحت وللأسف مجتمعاتنا تعتبر منافسة في القضايا الربوية، ولعل الفضائح الذي تخرج وما يتعلق بالبنوك العالمية، وتقرءون عنها كثيراً وتسمعون عنها.
خذ جانباً آخر كجانب المرأة وما فيه، وعلى كل حال فنحن لا نريد أن نسهب في الحديث عن الصور المؤلمة في مجتمعنا والتي يكفي جانب واحد منها ليعطينا قناعة أن مجتمعنا بحاجة إلى أن تتضافر الجهود لإعادته إلى الواقع الشرعي.
مرة أخرى نطرح هذا السؤال المحدد الذي نريد من كل رجل يدافع عن المجتمع أن يجيب عليه إجابة سيسأل عنها أمام الله سبحانه وتعالى: هل واقع المجتمع الآن يرضي الله أم لا؟ هل هذا هو الواقع الشرعي أم لا؟ ونحن لا نبالغ فنقول: نعم مجتمعنا مسلم، وفيه جوانب خيّرة، ولك(30/4)
الاعتراف بالخلل مع اعتباره أحسن الموجود
أن يعترف لك بأن المجتمع فيه مخالفات، وأن المجتمع فيه خلل، ولكن يقول لك: مجتمعنا أحسن المجتمعات يا أخي نحن أحسن دولة في العالم، عندنا أجهزة رسمية غير موجودة في العالم، كجهاز هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، وعندنا رئاسة تعليم البنات، وعندنا تقام الحدود، والأمور الشرعية ظاهرة، وهكذا يُعطيك قائمة من المزايا التي يمتاز به هذا المجتمع عن غيره من المجتمعات، وهي قضية نسلّم بها ابتداء فنسلّم نحن أن مجتمعنا خير المجتمعات الموجودة في الجملة، ولكن إذا استعملنا هذا المنطق مثلاً ورتبنا المجتمعات الإسلامية الآن وحصل مجتمعنا على ترتيب رقم واحد مثلاً، فسنجد مجتمعاً بترتيب رقم اثنين، ولا بد أن فيه خللاً ومخالفات جعلته يتأخر فيحصل على المرتبة الثانية، فسيقول المجتمع رقم اثنين: أنا أفضل من سائر المجتمعات، وأيضاً سيأتينا مجتمع رقم ثلاثة ويقول: أنا أفضل أيضاً من سائر المجتمعات، حتى يأتينا آخر مجتمع في القائمة فيقول: أنا على الأقل موجود في دستور الدولة أن دين الدولة الرسمي الإسلام، فهو أفضل على الأقل من دولة دينها الإلحاد.
فلماذا نحتج نحن بأننا خير من غيرنا، ولا يحتج الآخرون بأنهم خير من غيرهم، سيقول الآخرون: نعم نحن يفوقنا مثلاً أربعة مجتمعات أو خمسة مجتمعات لكننا على الأقل أفضل من غيرنا، فلماذا لا تذهب إلى الدول الأخرى التي ينص دستور الدولة على أنها علمانية وعلى أنها دولة إلحادية، فهذا هو المنطق نفسه وإن اختلفت الصورة، أو اختلف حجم المقارنة لكن النتيجة التي يؤدينا إليها استخدام هذا المنطق هي النتيجة.
ثم مرة أخرى نطرح السؤال نفسه: هل واقع المجتمع واقع يرضي الله ورسوله أم لا؟ هل هذا الواقع هو الذي اختار الله هذه الأمة لتكون عليه أم لا؟ هب أننا اتفقنا على أن مجتمعنا من أفضل المجتمعات، وأن الظواهر السرية في المجتمع لا تستبعد إثارة الناس وحثهم على الدعوة والمشاركة وأن يتحمل كل منهم مسئوليته، فما مدى تحمل مجتمعنا لمسئوليته في هذا الدين ما دمنا الآن خير المجتمعات، وما دمنا وصلنا إلى المستوى فعلاً المطلوب؟ فالدين ليس خاص بجزيرة العرب، وليس خاصاً بهذه البلاد، بل هذا الدين للبشرية جمعاء، فما مدى قيام مجتمعنا بهذا الدور؟ فالواجب أن تكون سفاراتنا كلها مراكز دعوة لهذا الدين، وتحمل هذا الدين وتمثل هذا الدين، وبعوثنا الرسمية كلها تمثل هذا الدين، ومنتخباتنا الرياضية تمثل هذا الدين؛ لأنها تمثل هذا المجتمع، وكل إنسان يخرج من مجتمعنا يدعو إلى هذا الدين.
نترك هذه القضية ونقول: الآن يتوافد إلى مجتمعنا آلاف الناس من أقطار العالم، سواء من غير المسلمين أو من المسلمين.
فما مدى قيامنا بالواجب الدعوي تجاه هؤلاء؟ يأتينا غير المسلمين، فهل ندعوهم للإسلام؟ وما هي البرامج المنظمة لدعوة هؤلاء للإسلام؟ إنها جهود محدودة قائمة على جهود أفراد، ومهما كانت فهي لا تساوي حجم هذا العدد الهائل من العمالات الوافدة علينا من كافة أنحاء العالم، فهل نحن ننظم برامج لدعوة هؤلاء للإسلام؟ كذلك العمالة المسلمة التي تفد إلى هذه البلاد، نحن كثيراً ما نقول للناس: إننا أهل التوحيد وبلد التوحيد، ونحن الأوصياء على التوحيد وأولئك يقعون في الشرك، وما ينبغي الصلاة خلف رجل لا تدري أهو من أهل التوحيد أم لا؟ لكن ماذا فعل أهل التوحيد لأولئك الذين يفدون.
يأتينا أناس عبّاد قبور، ويبقى في مجتمعنا عشرين سنة، خمسة وعشرين سنة ويذهب إلى بلاده لم يسمع كلمة واحدة، ولم يقدم له دعوة من التاجر الذي يعمل عنده، أو قريبه، أو الذي يصلي معه في المسجد فإذا كنا نوافق هذا الرجل الذي يقول إن مجتمعنا ليس فيه حاجة إلى إعادة الدعوة فيه، فنقول: يا أخي لا نريدك أن تذهب للعالم وإن كان هذا من واجبنا، لكن نريد أن تؤدي دورك تجاه الذين يفدون إلى هذا المجتمع؛ لأن هذا المجتمع ما دام خير المجتمعات وما دام هو بلد التوحيد وهو بلد الحرمين، فيجب أن يكون هو الرائد في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يكون المجتمع بكل ما يمثّله داعياً إلى الله سبحانه وتعالى.(30/5)
تضخيم الفساد والانحراف وتقليل ثمار الدعوة
الأسلوب الثالث: هو الأسلوب المعاكس، تضخيم الفساد والانحراف: فعندما تتحدث مع بعض الناس سيذكر لك ألواناً من الفساد والانحراف الواقع في المجتمع، ثم يقرن هذا بضآلة الجهود المبذولة للدعوة، وهي جهود محدودة، ماذا تصنع أنت؟ تأتي مثلاً تلقي محاضرة، أو خطبة، أو تتكلم مع الطلاب في الفصل وتلقي عليهم كلمة وموعظة وقد يتأثر الجميع، ولكن هذا يذهب إلى المنزل فيرى التلفاز، يرى الفيديو ويهدم في دقائق كل ما بنيته، يذهب مع زملائه في الحي، أو مع زملائه في المدرسة أو حتى مع بعض أقاربه فيُهدم كل ما بنيته، واتسع الخرق على الراقع، والقضية لن يحلها إلا أمر بقدر الله سبحانه وتعالى، فيبدأ يتحدث لك عن ألوان الفساد، والانحراف، الفساد الموجود، والفساد القادم بصورة تجعله يائساً من أن يقدم أي عمل، ويرى أن أي عمل نتائجه محدودة، وحتى لو فرضنا أننا قدمنا عملاً وعملنا جهوداً وأنتجت فسرعان ما تزول هذه النتائج ويُقضى عليها.(30/6)
الاستسلام للأمر الواقع
الأسلوب الرابع: الاستسلام للأمر والواقع: يقول لك هذا الواقع فماذا تصنع؟ ويعطيك بعض الأمثال العامية التي كثيراً ما نسمعها، والتي هي رد لأمر لله ورسوله، مثل قولهم: هل تريد أن تسد السيل بعباءتك؟ كما يقول المثل العامي، أو هل أنت وكيل آدم على ذريته؟ أو غيرها من العبارات التي غاية ما فيها أنها مخالفة لأمر الله ورسوله.
أنا ما أريد أن أسد السيل بعباءتي، ولست وكيلاً على الناس، لكن أنا مكلف شرعاً أن أُنكر أي منكر أراه، مكلف أن أساهم في رفع هذه الغربة عن الأمة.
فتتحدث عن منكر أو فساد، أو عن قضية معينة يقول لك: هذا الواقع، وماذا نصنع؟ ونحن في آخر الزمان، وإلى آخره، ويسرد لك من مآسي الواقع ما يشعرك بأن الرجل قد أصابه اليأس والإحباط ويرى أن هذا الواقع قد أصبح يفرض نفسه.
ونحن نقول: من الذي صنع هذا الواقع؟ ألم تكن مجتمعات المسلمين قبل وقت قريب وقبل قرون قريبة مجتمعات محافظة تحكم بشرع الله سبحانه وتعالى؟ فما الذي غير الواقع؟ أليس الذي غيره هم الناس؟ فالناس الذين غيّروا الواقع أظن أنهم قادرون، بل هم أقدر على أن يغيروه للأصلح، فإهمال الناس وتخليهم عن دين الله لم يكن كله مقصوداً، أعني أن كل هؤلاء الذين ساهموا بصورة مباشرة أو غير مباشرة ما كان مقصودهم تدمير الأمة، فإن الذين يسعون في تدمير الأمة قلة إذا نسبتهم إلى حجم الأمة، لكن بقية الأمة شاركت في هذا الواقع بصورة غير مباشرة بالتخلي، فعندما تهب الأمة لتغيير الواقع فالذي جعلها تغير الواقع من حسن إلى سيئ يجعلها قادرة وبصورة أكثر على أن تغيره من سيئ إلى حسن، ولماذا لا يتغير هذا الواقع؟ ولماذا لا تتبدل الصورة؟ ما الذي يمنع؟ الآن لو جاء وبعث أحد الذين ماتوا في الجيل الذي سبقنا لدهش مما رآه الآن من الفساد الموجود في المجتمع الذي لم يكن يألفه، هذا التغير السريع يمكن أن يحصل بنصف الوقت الذي حصل فيه بدون مبالغة؛ لأن الناس هم الناس، وهم الذين غيّروا الواقع، ولكن عندما يسعون للتغير الأصلح فعندهم دافع قوي، وعندهم قبل ذلك كله تأييد الله سبحانه وتعالى وإعانة الله عز وجل وتوفيقه، وعندهم رصيد الفطرة الموجود الذي جعلهم يوقنون أن هذا الفساد سيوصلهم إلى طريق مسدود.(30/7)
الانشغال بالمصالح الخاصة
الأسلوب الخامس: الانشغال بالمصالح الخاصة.
يعني عندما تطلب من أي إنسان أن يشارك في أي أمر كأحد طلبة العلم: نريدك أن تسافر إلى منطقة قريبة لتلقي محاضرة أو تعطي كلمة أو أي جهد دعوي تقوم به، فتطلب منه أي عمل يحتاج إلى أن يفرغ له جزءاً من وقته، وحينئذ سيعطيك قائمة من الأعذار: أنا عندي المنزل، والأولاد، والزوجة، أو أعمال خاصة وارتباطات خاصة، وأنا إنسان لي ظروفي الخاصة.
فنقول: هل أنت كائن آخر غير البشر يا أخي؟ كل الناس عندهم زوجات وعندهم أبناء، بل النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول: (لولا أن أشق على أمتي ما تخلفت خلاف سرية تغزو في سبيل الله) كان عنده تسع زوجات وكم غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم؟ ناهيك عما يقضيه النبي صلى الله عليه وسلم من وقته لخدمة دين الله سبحانه وتعالى وهو في المدينة، وهو في حجر أزواجه، وهو في مسجده، في كل حياته كان النبي صلى الله عليه وسلم يعيش لهذا الدين ولهذه الأمة، وكان يمنعه صلى الله عليه وسلم من أن يشارك في كل غزوة وكل سرية ما كان يمنعه زوجاته وأهله، ومهما كنت لن تكون خيراً منه صلى الله عليه وسلم يقول: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منهم من دفنوا في الهند، وتحت أسوار القسطنطينية، وفي أفريقيا هنا وهناك، أين كانت قبور أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ ألم يكن لهم أزواج؟ ألم يكن لهم أبناء؟ ألم يكن لهم ضيعات وبساتين؟ بل كانت ظروف أولئك غير ظروفنا، الآن يستطيع أحدنا أن يسافر إلى منطقة ثم يعود في نفس اليوم وبكل راحة أحياناً أحد مشاغله في نفس المدينة قد يأخذ عليه أكثر مما يأخذه عليه السفر إلى تلك المدينة وغيرها، وهكذا قائمة بمثل هذه المشاغل وهذه الظروف التي يبديها لك الإنسان حتى يتخلص من المسئولية.
وإذا أتيت إلى طالب العلم قال: أنا عندي بحث، أنا عندي رسالة ماجستير، عندي رسالة دكتوراه، عندي مشاغل، عندي كذا وكذا حتى تطلب منه أن يلقي محاضرة لا تحتاج منه إلى تحضير وقد تكون جزءاً من بحثه فيعتذر، أو تريده أن يشارك في مشروع أياً كان فيعتذر لك بمثل هذه الأعذار الطويلة، لكن عندما تدعوه إلى وليمة تجد عنده استعداداً لأن يأتي، أو تدعوه إلى مناسبة فتجد عنده استعداداً فأقول: يجب أن نعيد النظر في كثير من هذه الأعذار والمشاغل الخاصة التي ننشغل بها، أنا لا أدعو الإنسان إلى أن يترك أهله ويترك أزواجه ويعطّل مصالحه الخاصة جملة وتفصيلاً؛ لكن أريد أن نكون واقعيين، وأريد أن أضرب لكم مثالاً آخر: لو أن الإنسان أتيح له فرصة عمل خارج الدوام الرسمي، أو أتيح له فرصة انتداب لمدة شهر أو شهرين، فالكثير من طلبة العلم نلح عليه أحياناً ونطلب منه أن يشارك في محاضرة أو كلمة نعرف أن مادتها موجودة عنده فيعتذر بأن عنده رسالة ماجستير، أو رسالة دكتوراه، ويأتيه أحياناً انتداب لمدة شهر فيذهب ولا يهم رسالة الماجستير أو الدكتوراه، ولا يهم زوجة، ولا أبناء فكل المشاغل هذه لا أدري كيف انتهت؟ ثم من القضايا المعروفة لدينا جميعاً أن الأحكام تختلف باختلاف الزمان والمكان، فهناك فرق بين عصرٍ الأمةُ فيه ممكنة، يبقى واجب المسلم أن يعبد الله سبحانه وتعالى، وأن يخدم الأمة بما تحتاج، وينكر المنكر بما يراه، فرق بين هذا العصر وبين العصر الذي تعيش فيه الأمة أسوأ أحوالها.(30/8)
الاحتجاج بعدم القدرة
الأسلوب السادس: الاحتجاج بعدم القدرة.
يقول لك: أنا معك لكن أنا لا أستطيع، أنا إنسان ضعيف في العلم أنا إنسان! لا شك أن هناك واجبات وأن هناك أموراً من أمور الدعوة قد لا يطيقها، ولا يقوم بها إلا أناس يملكون العلم ويملكون الخبرة، لكن هناك ما سوى ذلك، وسأعطيكم مثالاً تقيسون عليه ما وراءه.
الرجل كبير السن الذي يتوكأ على عصاه، والمرأة العجوز التي لا تعرف أن تقرأ وتكتب قادرة على أن تخدم الأمة، وذلك أنه عندما يعلن في أي منطقة من المناطق عن محاضرة ويأتي هذا الرجل كبير السن يتوكأ على عصاه ويجلس في المسجد، فمجرد حضوره هذا يعتبر تشجيعاً لإقامة هذا النشاط؛ لأنه كلما كثر الحضور في مثل هذه المحاضرات كان ذلك أكثر دافعاً للمحاضر ولغيره أن يزيد منها، وبالتالي فهي رسالة غير مباشرة تبعث إلى المفسدين يقال فيها: هذه الأمة تريد هذا الخير، الأمة لم تعد وراءكم، والناس لم يعودوا وراءكم فهم يسيرون وراء الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى.
قد يحضر الرجل كبير السن محاضرة ولا يستوعب منها إلا القليل ولا يدرك إلا القليل، لكن عندما تنتهي المحاضرة يدعو لهذا المحاضر فيقول: جزاك الله خيراً وزادك علماً، ونفعنا وإياك، وحماك الله من شياطين الإنس والجن وغيرها من الدعوات التي نسمعها كثيراً من أولئك، فمجرد هذه الدعوة مطلوبة ويعتبر هذا الرجل قد قدّم خدمة، لأنه لا يدعو لزيد من الناس، وإنما يدعو لإنسان تصدى للدعوة، وتصدى لخدمة هذا الدين، فعندما يدعو له أن يزيده الله علماً، أن يزيده ثباتاً، أن يغفر الله له، قد يكون هذا صاحب تقصير ومهمل في حق نفسه، وذاك رجل صاحب عبادة ومجاب الدعوة فيجيب الله دعوته فينفع الله الأمة بدعوة مثل هذا، ونعتقد نحن أيها الأخوة أننا ما نُسقى ولا يأتينا الغيث إلا بدعوات أولئك الضعفاء أولئك العبّاد، البعيدون عن كل شهوة وعن كل هوى يخالف أمر الله ورسوله، فمثلاً إذا كانت هذه المرأة تستمع الشريط وتدعو لهذا الرجل الذي تسمع كلماته، وهذا الرجل أيضاً كبير السن كذلك فإنه يقدّم خدمة للأمة، ما بالك بعد ذلك بمن وراءه، أظن أن أقل الناس قدرة قادر على أن ينقل مثل هذه الأفكار التي يسمعها في خطبة جمعة أو يسمعها في محاضرة ينقلها بصورة أو بأخرى بتعبيره الخاص بلغته الركيكة الضعيفة إلى الآخرين، قادر مثلاً أنه يأخذ شريطاً ويعطيه الآخرين، قادر أن يصنع شيئاً كثيراً.
لأضرب مثالاً آخر من واقع الطلاب، أو واقع الشباب باعتبار أنهم أقل الطبقات سناً نأتي إلى واقع المدرسة، ونجد صورة تتكرر كثيراً في الجو الدراسي، فنأخذ صورتين ونعرف أن الطالب وحده قادر على أن يعالج مثل هذه المشكلة، ويعالج مثل هذه الصورة، لكنه هو يتوهم أنه غير قادر.
فمثلاً: المخالفات اللاأخلاقية من كلام، أو حركات، أو ممارسات، فيراها في الفصل، يراها في الممرات، يراها عند المقصف في كل مكان في المدرسة، فماذا يصنع الطالب؟ أعرف أن الكثير من هؤلاء الشباب يتألم عندما يرى مثل هذا المنكر، لكنه يعتقد أن القضية مسئولية الإدارة أو مسئولية الأستاذ فلان أو مسئولية فلان وفلان، وأنه غير قادر على أداء هذه المسئولية، فإذا كان عندنا فصل دراسي فيه خمسة من الشباب الأخيار، وكان كل واحد يرى أن الإنكار عليه واجب، فإن هذا يأتي إلى فلان ويقول له: اتق الله، لا يجوز لك أن تفعل هذا الأمر، أو يقول له باللغة الدارجة: عيب عليك تفعل هذا الكلام! وكل إنسان قادر أن يقول هذه الكلمة، ولا تحتاج إلى علم، ولا إلى فصاحة ولا إلى بلاغة.
وإذا لم ينفع هذا الأسلوب فإنك ترتفع إلى لغة التهديد، فتقول له: إذا لم ترتدع فأنا سأخبر الإدارة، أو سأخبر الأستاذ فلاناً، فهنا قد يرتدع، فيرتدع جزء منهم عندما ينصح، ويرتدع جزء عندما يهدد، فإذا لم ينفع التهديد فإنك تخبر الإدارة فعلاً، وهذا من وسائل إنكار المنكر فيقضى على هذا المنكر.
فإذا كانت هذه الصورة سائدة عند كل الشباب الذين يمقتون هذا المنكر، وكان كل واحد منهم يقوم بهذا الواجب الذي أجزم أن كل الشباب قادرون عليه، فما النتيجة؟ النتيجة أن الذي يريد أن يهم بمثل هذا الأمر سيتلفت يميناً وشمالاً، فإذا رأى واحد فقط من هؤلاء الأخيار كف عن هذه المعصية.
فبتعاون هؤلاء الشباب نستطيع أن نقضي على المنكرات الظاهرة في المدارس، مع العلم أن هناك عدداً كبيراً من الطلاب لا يتعلم هذه الأمور إلا في جو المدرسة، لأن والده محافظ عليه حتى لا يحتك بالآخرين، وقد يكون بعضهم لا يتصل بالعالم الخارجي إلا من خلال جو الدراسة، فلا يتعلم هذه الأمور إلا في المدرسة، فعندما نقضي عليها في المدرسة ونقضي عليها في الشارع، ونقضي عليها في المناسبات العامة، وتنتهي عن إعلانها أمام الناس سنجد أن فئة كبيرة من الشباب لن يقع في مثل هذه الممارسات.
الصورة الثانية: يأتي شاب محافظ، شاب مستقيم، شاب خيّر، فيتعرف على صحبة سيئة وخلال أيام أو أسابيع سرعان ما يهوي، ويكون بغير الوجه الذي كنت تعرفه عليه، صورة متكررة يراها الأساتذة ويراها الطلاب جميع(30/9)
تحميل المسئولية على طبقة معينة
الأسلوب السابع: تحمل المسئولية على طبقة معينة، كطبقة الحكام أو المسئولين.
حين تحصل مخالفات يقول: والله المسئول عنها هم الحكام أو المسئول عنها المسئول الفلاني.
تحصل مخالفات مثلاً داخل الحي، فيقول: هيئة الأمر المعروف والنهي عن المنكر هي المسئولة عنها، والمفروض أن تقوم بهذا، أو المسئول إمام المسجد، أو المسئول فلان وفلان من الناس، ونوزع هذه المسئوليات على الناس.
وهناك كلمة تسمعها كثيراً في المجالس عندما يثار الكلام عن أي مشكلة موجودة في الواقع، خذ مثلاً قضية البث المباشر والصحون التي أصبحنا نراها في كل مكان، فعندما تثار القضية في أي مجلس يكون
السؤال
ما دور العلماء؟ ويبدأ الجميع ينتظرون العلماء أن يقوموا بواجبهم، وكأن الكتاب والسنة إنما هو خطاب للعلماء وحدهم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راع ومسئول عن رعيته) أعلى طبقة في المجتمع الإمام الأعظم، ثم حتى آخر فئة (والعبد راع في مال سيده ومسئول عن رعيته) العبد الذي لا تجب عليه الجمعة ولا تجب عليه كثير من التكاليف التي تجب على الحر هو راع أيضاً ومسئول عن رعيته، فكل الأمة مسئولة، وكل الناس مخاطبون بالنصوص الشرعية لا يستثنى منها أحد.
نعم أيها الأخوة المسئوليات تختلف، والأمانة تختلف تبعاً لموقع الإنسان، فالمسئولية التي على الطالب ليست كالتي على الأستاذ، والمسئولية التي على العامي ليست كالتي على طالب العلم، والمسئولية التي طالب العلم ليست مثل المسئولية التي تجب على العالِم، ولكن المسئولية في الجملة مشتركة في حق الجميع.(30/10)
نقد الجهود الدعوية
الأسلوب الثامن: نقد الجهود الدعوية: كثيراً ما نسمع نقد الجماعات الإسلامية، والأعمال الموجودة في العالم الإسلامي.
الآن هناك جهود ولله الحمد نراها في كل مكان مراكز إسلامية، جمعيات إسلامية، تجمعات تقوم بخدمة هذا الدين والدعوة إليه، وقد يحصل منها مخالفات فعلاً، فنجد أحياناً بعض الناس حتى يدافع عن نفسه بصورة غير مباشرة يمارس النقد لمثل هذه التجمعات، فالجماعة الفلانية لا تعتني بالعلم الشرعي، والجماعة الفلانية عندها مخالفات، والجماعة الفلانية عندها بدع، والجماعة الفلانية عندها كذا وكذا حتى نقضي على كل تلك الجهود.
يأتي هنا يقول لك: والله هؤلاء الشباب يجمعون الشباب على قضايا فارغة لعب كرة، وإضاعة وقت، وقضايا ليس فيها فائدة، أولئك يقصرون في العلم، أولئك يقصرون في العبادة، وأولئك ويعطيك قائمة من الانتقادات الشباب أصحاب الهيئات يقومون بجهد لكنهم ما عندهم عناية بالعلم الشرعي ولا يفقهون هؤلاء أصحاب المراكز الصيفية عندهم كذا وكذا هؤلاء عندهم كذا وكذا ويعطيك قائمة من الانتقادات لكل من يقوم بجهد دعوي، فلماذا ينتقد الجهود الدعوية؟ لأنه عندما يشيد الجهود الدعوية سيقال له: أين دورك أنت؟ وأين موقعك في الساحة؟ لكنه عندما ينتقد يبقى هو على الأقل سالماً من الأخطاء التي وقع فيها الآخرون.
وللأسف أنه أصبح الآن يكفي لتسقط فلاناً من الناس أنك تنجح في إثبات أنه ينتمي إلى جماعة معينة أو أنه له علاقة بجماعة معينة حتى تقضي عليه في أعين الناس، ومتى كانت هذه تهمة؟ نقول: نعم، هناك خلل موجود ولا شك سواء في الأنشطة الإسلامية، أو الجماعات الإسلامية الموجودة على الساحة، ولا زلنا ندعو إلى تصحيح الخلل، لكن هذا شيء والأسلوب الذي نمارسه للتهرب من المسئولية شيء آخر، أن نقضي على هذه الجهود ونلغيها كلها، وهي جهود لا تساوي شيئاً عند الكثير من الناس، وهو لا يصنع شيئاً، ماذا يصنع هو؟ يجتمع في المجالس مع فلان وفلان من الناس، طيب ماذا قدّمت؟ لنفترض أن كلامك سليم مائة بالمائة، وهؤلاء يضيعون أوقاتهم، وهؤلاء لا يقدمون شيئاً، وأنت ماذا قدّمت للأمة؟ لا يعرف إلا ترداد مثل هذه الكلمات، فيجب أن نحذر ونعرف أنه ليس من الفقه ولا من العلم، وليس من علو قدرة الإنسان أن يستطيع أن ينقد الأوضاع فالنقد سهل فهذا المكان لو طلبنا من كل واحد منا أن ينقد، فإنه يستطيع أن يجد فيه أخطاء فنية في تصميمه، كل إنسان يستطيع أن يكتشف لنا أكثر من خطأ، لكن لو يقوم هو بالعمل لم يستطع.
لو طلبنا الآن من أحد الشباب أن يقوم فيلقي كلمة، فكل واحد منا يستطيع أن يجد عليه خطأ في اللغة، أو يجد أنه استشهد بحديث ضعيف، أو ترك هذه النقطة ما بيّنها، فكل إنسان يستطيع أن يجد عليه أكثر من ملاحظة، لكن لو يقوم قد لا يستطيع أن يأتي بنصف ما أتى به.
فالنقد أمر يجيده الجميع لكن العمل شيء آخر، ونحن لا نمانع من النقد بل نطالب بالنقد والتصحيح، وبيان الأخطاء بالأسلوب الشرعي، لكن هذا شيء كما قلت وأن يكون هذا وسيلة غير مباشرة للتهرب من المسئولية كما يمارس الكثير شيء آخر.(30/11)
دعوى التفرغ لتحصيل العلم
الأسلوب التاسع: دعوى التفرغ لتحصيل العلم.
نقول ابتداءً: العلم الشرعي مطلوب، ويجب أن تقوم الصحوة على العلم، ويجب أن نعتني جميعاً بالعلم الشرعي، وليس أن نصرف جزءاً من أوقات الفراغ، بل أن نفرغ جزءاً من أوقاتنا لتعلم العلم الشرعي والعناية به، ويجب أن نوجه الشباب لهذا العلم والعناية به وتعليمه، لكن هنا منطق آخر، وهو أن بعض الناس يقول: أنا أريد أن أتفرغ لتحصيل العلم، فنقول: هب أن كل إنسان عنده رغبة في العلم، وأظن الناس الأخيار جميعاً يشتركون في وجود قدر من الرغبة في التفرغ للعم وإن كانت متفاوتة، لكن ما النتيجة؟ لن يبقى بعد ذلك عندنا من يقوم برعاية هؤلاء الشباب.
أضرب لكم مثالاً واقعياً: الآن من أكثر الناس الذين لا يُتاح لهم فرصة لطلب العلم الشباب العاملون في هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، يسهر طويلاً ثم ينام في الصباح ثم يرتاح قليلاً، ويقابل أهله، ثم يعود بعد ذلك ليعيد الدوام مرة أخرى، الآن هذا المركز مثلاً عندنا فيه عشرة من الشباب لو قالوا: نريد أن نتفرغ للعلم فسيتعطل هذا العمل، فمن سيقوم به؟ سيقوم به إنسان يريد مجرد الوظيفة، وتخيل المنكرات التي ستوجد عندما يزول أمثال هؤلاء، فهؤلاء مجرد وجودهم يحجز كثيراً من المنكرات.
وهكذا كل العاملين في الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى الذين يرعون الشباب ويفرغون جزءاً من أوقاتهم مع هؤلاء الشباب، عندما يتفرغون للعلم ستكون النتيجة أنه يتوجه الشباب للشوارع، أن يتوجهوا إلى تلك التجمعات التي لا تصدهم عن العلم وعن الطاعة فحسب، بل توقعهم في مساوئ الانحراف.
أيضاً: جزء من هذا قد يكون مقبولاً عندما تأتينا شخصيات على مستوى من النبوغ وعندها قدرات فذة فيمكن فعلاً أن يُفرغ هؤلاء، بل يجب أن يُفرغ قدر من هؤلاء الشباب الذين عندهم نبوغ وقدرات علمية جيدة، فيجب أن يُفرغ هؤلاء ولو حتى من كثير من أمور الدعوة، حتى ينفعوا الأمة ويخدموا الأمة، والبقية يشتركون في العلم والعناية به وطلبه وإنفاق نفيس أوقاتهم فيه؛ لكن هذا شيء وأن يكون عائقاً عن أداء الواجب الشرعي شيء آخر، أرجو أن يفهم ما أقوله، ولا يُساء الفهم.(30/12)
الاعتذار بالوقوع في المعاصي
الأسلوب العاشر: وهو من جنس ما أشرت إليه في المقدمة وهو مما يُساء فهمه، وهو الاعتذار بالوقوع في المعاصي.
البعض من الناس يعتذر بأنه يقع في معاص، إما أنه مثلاً يقع في معاص معينة، أو أن مظهره لا يؤهله، حيث إن مظهره تظهر فيه المخالفات الشرعية فهذا لا يؤهله لأن يقوم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي قضية قديمة وليست قضية جديدة، ولذلك يقول سعيد بن جبير رضي الله عنه: (لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر) فقال الإمام مالك رحمه الله تعليقاً على هذه العبارة قال: (وصدق! من ذا الذي ليس فيه شيء).
والحسن وهو معروف بأنه من أشد السلف ورعاً في قضية العمل بما يقول، كان يقول لـ مطرف بن عبد الله: (عظ أصحابك، قال: أخاف أن أقول مالا أفعل، فقال له: يرحمك الله، وأينا يفعل ما يقول؟ يود الشيطان أنه قد ظفر بهذا فلم يأمر أحد بمعروف ولم ينه عن منكر).
فهذه قضية كما قلت يعتذر بها الكثير، وهو يرى فعلاً أن هذا عذر شرعي، يرى أنه يقع في معصية من المعاصي وهذا بالتالي لا يجيز له أن يتحدث أمام الناس، وأن يعظ الناس؛ لأنه عندما يعظ الناس ويذكرهم ويدعوهم كأنه يظهر أمام الناس بغير مظهره الحقيقي وكأن هذا نفاق، وكأنه داخل تحت قول الله سبحانه وتعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2].
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) فلا يمكن أبداً أن يوجد أحد يسلم من الذنوب حتى العلماء، وحتى الدعاة، فأي إنسان لا بد أن يقع في الذنب ولا بد أن يقع في التقصير، وهل تتخيل أن الذين يتصدرون للدعوة أو لتربية الشباب، أو للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أو لتعليم العلم، أو غيرها من أبواب الدعوة، هل تتصور أن هؤلاء مقتنعون بما هم عليه وراضون عن حالهم مع الله سبحانه وتعالى؟ الكثير منهم ترى ذلك في مقاله وتراه في لسانه حاله، حيث يعترف بالتقصير والخطأ لكن تقصيرك في هذا الواجب لا يعني أن تقصر في الواجب الآخر، وهي قضية كثيراً ما ترد عند الشباب ويرد عنها التساؤل، ومن قبيل المصادفة اليوم أنه وصلتني رسالة من أحد الشباب من منطقة بعيدة وقد ذكر فيها أنه يقع في معصية ثم يقول: إنني كنت أنصح الناس ولكني لم أعد أتكلم مع بعض الشباب؛ لأني أخاف من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار ومن يوم يعظ الظالم على يديه، وأحفظ قوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
يقول: كنت أعظ الناس وأوجه الشباب لكني أخشى من يوم تتقلب فيه القلوب والأبصار، لاحظ كيف يصنع الشيطان فعلاً فيوقعنا في مثل هذا الفهم الخاطئ، يعني يترك هذا الأمر خوفاً من الله عز وجل! يا أخي خوفك من الله وورعك يجب أن يدفعك إلى العكس، الخوف من الله والورع يجب أن يدفعك إلى الأمر والنهي، وموعظة الناس ولو كنت حتى مقصراً في هذا الأمر الذي تدعو الناس إليه، والسلف أورع منا، وأكثر منا إدراكاً لنصوص كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما تركوا هذه الأمور خوفاً مما نحتج به.(30/13)
انتظار مجيء القادة
الأسلوب الحادي عشر: انتظار لبعض الأوقات.
مشكلة الأمة أنها تتعلق بالأشخاص فينتظر كثير من الناس أن يأتي خليفة راشد مثل عمر بن عبد العزيز أو قائد مثل صلاح الدين أو أحد مثل ابن تيمية أو غيره من المجددين فيقلب الأمور رأساً على عقب.
وبين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال وهذا الوهم لا يزال يسيطر علينا، نحن نقول: حتى لو وجد هذا القائد فنحن لا ندري هل يبقى سليماً أو لا؟ فما موقف الذين يحاربون الدعاة إلى الله عز وجل، يجابهونهم بألوان السجن والاضطهاد بل والقتل أحياناً، وحتى لو سلم من هؤلاء فلن يسلم وللأسف من بعض الصالحين، سيتهم بأنه إنسان مقصر بالعلم، أو أنه وقع في بدعة، أو أنه من دعاة التهييج، أو غيرها من العبارات التي تُمارس ضد هؤلاء، فحتى لو وجد المؤهل فأجزم أنه لن تسير الأمة كلها وراءه، بل هناك من سيواجهه ويقف وراءه، والمؤهل والقائد لا يمكن أن يسير وحده إذا لم تسر الأمة وراءه.
ولذلك بعض الناس يحلو له أن يقرأ مثلاً نصوص المهدي المنتظر أو غيرها من النصوص، أو ينتظر أن يأتي رجل آخر غيره، ولم لا يكون واحداً من بيننا؟ لا يكون ابني أو ابنك مثلاً هو هذا الرجل؟ وما الذي يمنع؟ صلاح الدين وفلان وفلان أليسوا بشراً؟ ليسوا أناساً يحملون مواصفات خاصة أبداً، ولا جاءوا من السماء.(30/14)
الفهم الخاطئ لبعض النصوص
الأسلوب الثاني عشر: الفهم الخاطئ لبعض النصوص الشرعية.
وقد أشرنا إلى جزء منه؛ لكن هناك نصوص أخرى مثل قول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [المائدة:105]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوىً متّبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك أمر العامة).
وهذه قضية أظن أنها معروفة لدى الجميع، وأن مثل هذه النصوص يقابلها نصوص أخرى متضافرة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ووجوب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فلم نحتج بهذه النصوص ونترك غيرها؟(30/15)
الاكتفاء بالاعتراف بالتقصير
كذلك من الأساليب الاكتفاء بالاعتراف بالتقصير.
بعض الناس عندما تخاطبه يقول لك: أنا مقصر والله المستعان، ونسأل الله أن يتوب علينا، وتنتهي القضية هنا! وهذا لا يكفي.
نعم الاعتراف بالتقصير عندما أناقشك في أمر سابق، أو أناقشك عن فترة سابقة وأقول لك: كنت مقصراً، كنت تفعل كذا وكذا؟ فيحق لك أن تقول: نعم أنا كنت مقصّراً، وأسأل الله أن يتوب عليّ، لكن لا يصح أن تكون قاعدة! يا أخي! إذا عرفت أنك مقصّر، فما الواجب عليك؟ وللأسف أن هذا المنطق أحياناً يستعمله بعض الأخيار، وبعض الناس من طلاب العلم، ألا تدري يا أخي أن تقصيرك هذا يُعتبر معصية لله؟ فلم أنت تتورع عندما تفوتك صلاة الجماعة؟ وتتورع أن تقع في أي معصية من المعاصي ولا تتورع عن إخلالك بهذا الواجب الشرعي، ما الفرق بينهما؟ أليست واجبات شرعية؟ قد يتفاوت مثلاً قدر وجوبها لكنها تشترك بأنها واجبات شرعية، فالذي أوجب عليك صلاة الجماعة أوجب عليك هذا الواجب، والذي أوجب عليك بر الوالدين وأوجب عليك كل التكاليف الشرعية أوجب عليك ذلك، فلم نراك تعتني بالنوافل أحياناً وتحاسب نفسك عليها حساباً عسيراً وعندما نخاطبك بأمور الدعوة وأمور خدمة الدين لا تزيد على أن تقول: إنني مقصر وأسأل الله أن يتوب عليّ؟ إذا كنت مقصّر فهذا يعني أنه تقصير ستحاسب عليه أمام الله عز وجل كما تُحاسب على غيره من الأعمال، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله ليسأل العبد المؤمن حتى ليسأله يقول: ما منعك إذ رأيت المنكر أن تنكره؟ فيقول: يا ربي خشية الناس فيقول: إياي كنت أحق أن تخشى).(30/16)
انتظار فتح المجال
أسلوب آخر: انتظار فتح المجال.
بعض الناس يريد أن يُفتح له مجال رسمي، أو أنه مثلاً يُعطى توجيهاً معيناً أو تكليفاً معيناً، وليس عنده استعداد بعد ذلك أن يعمل ولا أن يقدم خدمة لدين الله سبحانه وتعالى، والإجابة نقرأها في قصة لـ عبد الحميد بن باديس رحمه الله حين قال له الحاكم الفرنسي: إما أن تقلع عن تعليم تلاميذك هذه الأفكار وإلا أرسلت لك الجنود ليغلقوا المسجد، فقال عبد الحميد بن باديس: لا تستطيع ذلك، قال: كيف؟ قال: إذا أتيت إلى عرس ذكّرت الناس المحتفلين، وإذا أتيت إلى مجلس عزاء وعظتهم، وإذا ركبت في حافلة ذكّرت المسافرين، وإذا سجنتموني وعظت المسجونين، وإذا قتلتموني التهبت مشاعر المواطنين، وخير لك أيها الحاكم أن لا تواجه الأمة في دينها.
أي: فافعل بي ما تشاء فأنا لا زلت أحمل هذه الدعوة معي إلى أي مكان وأنقل هذه الدعوة حتى تقتلني، وحينئذ ستلتهب مشاعر الناس وسيكون قتلي شهادة، وبعد ذلك يعرف الناس أنك رجل مواجه للأمة في دينها وهذا يدعوهم إلى أن يتمسكوا بدينهم فنريد مثل هذا المنطق، نريد أن يكون عندنا مثل هذه الروح التي كانت موجودة عند عبد الحميد رحمه الله أنه لا ينتظر فتح المجال، بل هو نفسه يستغل هذه المجالات ويسعى لفتح المجالات، ثم هبوا أنها أُغلقت أمامنا الأبواب، هل يعني هذا أن نتخلى عن الدعوة؟ هل يعني هذا أن نتخلى عن تبليغ دين الله سبحانه وتعالى، وعن إعداد الأمة؟ لا يمكن أبداً.
كذلك انتظار التكليف والتوجيه، فبعض الناس ينتظر تكليفاً مباشراً وعنده استعداد لما يُكلف به من جهة رسمية أو من أستاذ له أو من شخص يثق به فعندما يحدد له واجباً يقوم به خير قيام، لكن ليس عنده مبادرة فردية.
يا أخي عندك تكليف قبل هذا كله من الله سبحانه وتعالى وتكليف من الرسول صلى الله عليه وسلم، والذي كلّف من يكلّفك هو الله سبحانه وتعالى وقد أمرك بالأمر والنهي، أمرك بالدعوة، هذا تكليف فوق تكليف البشر.(30/17)
عدم وجود الثمرة
كذلك أحياناً من الأساليب عدم وجود الثمرة: بعض الناس يرى أنه لم يثمر، يرى أنه عمل ولم ينتج، أو يرى أن هذا العمل أصلاً غير منتج، إما أنه يفترض أنه غير منتج وهو ما دخل فيه إلى الآن، أو أنه قد عمل عملاً ولم ير له نتيجة، فنقول: أولاً: هذا ليس صحيحاً أبداً وهي قضية يدركها الجميع، فإن كل مجال من مجالات الدعوة نتائجه -ولله الحمد- ظاهرة وبارزة، يدركها الجميع.
ثانياً: هب أنك لم تنتج، هب أنه لم يحصل ثمرة، هل أنت مكلف بهذه النتيجة؟ هل أنت مكلف بهداية الناس، ومحاسب عند الله كم يهتدي على يديك من إنسان، وكم يترك المعصية لأجلك من إنسان؟ أم أنك محاسب على القيام بهذا الواجب؟ فالتكليف ليس عائداً على أن يهتدي على يديك فلان أو فلان من الناس؟ وهل أنقذت فلاناً أو فلاناً من الناس؟ بل التكليف عائد على: هل قمت بهذا الواجب أم لا فقط؟ ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي يوم القيامة النبي وليس معه أحد، والنبي ومعه الرجل والرجلان).
إذاً هذا النبي لم يكن لدعوته ثمرة ظاهرة أمامه في الدنيا، ولكن هل يعني هذا نقصاً من حقه؟ بل هذا النبي أفضل من الدعاة الذين يهتدي على يديهم الآلاف؛ لأن هذا نبي رسول وأولئك من عامة الناس، فليست العبرة فيما أنتجت، وكم اهتدى على يديك؟ بل العبرة: هل قمت بالواجب الشرعي أم لا؟ مع أنه لا يوجد عمل يقوم به أي إنسان إلا ويرى ثمرته ظاهرة، وهذا من عاجل بشرى المؤمن، ومن رحمة الله بنا أن نرى الثمرة أمامنا عاجلة، وإلا فإن الثمرة الحقة هي ما نراه عند الله سبحانه وتعالى، ونحن لا نقول لأي إنسان: طهّر المجتمع من المنكرات، أو اهد فلاناً أو فلاناً نقول فقط لكل إنسان: قم بواجبك فقط، ولا يهمك بعد ذلك أن تنجح الدعوة أو لا تنجح، أو أن يزول المنكر أو لا يزول، هذا أمر بيد الله سبحانه وتعالى، ثم بعد ذلك أنت إذا رأيت نتيجة عملك محدودة فبإمكانك أن تعيد النظر، قد يكون أسلوبك خاطئاً، قد يكون عملك غير دقيق، قد يكون هناك طريقة أخرى أفضل من تلك الطريقة التي سلكتها.(30/18)
المبالغة في الإشادة بإنجازات الصحوة
وأخيراً من الأساليب: المبالغة في الإشادة بإنجازات الصحوة: لا شك أن الصحوة الآن ولله الحمد موجودة وظاهرة وعامة يدركها الجميع، لكن نحن أحياناً نتعامل مع مثل هذا الواقع، يعني أنت مثلاً تحضر في المركز الصيفي هنا وترى عدداً من هؤلاء الشباب الأخيار، تذهب إلى محاضرة في المسجد ترى مثل هؤلاء الشباب، تذهب تصلي الجمعة فتراهم، تذهب إلى مكة مثلاً في العشر الأواخر فتراهم، ويخيّل لك أن هذه السمة السائدة في المجتمع، لكن يا أخي في الوقت الذي أنتم فيه في هذه المحاضرة هناك الآلاف من الشباب موجودون على الأرصفة، والآلاف موجودون في الأسواق، والآلاف في أمكنة الله أعلم بها العشر الأواخر الذي تسافر فيها أنت إلى مكة هناك عدد يكاد يكون مثل هؤلاء الشباب بل أضعافهم يسافر إلى الخارج ليتمتع بالشهوات المحرمة، لكنها صورة لا ترى، في الوجه الآخر من المجتمع.
حين يسافر الإنسان إلى أي منطقة يقابل هؤلاء الشباب، وهذا التوجه فيتخيل أن المجتمع كله بهذه الصورة! فأحياناً نبالغ فنقول: الحمد لله الأمور بخير، ما فيه حاجة لي أنا إذاً هذه النتيجة، يعني في كل مكان هناك من هو قائم بهذا الأمر، في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، في تربية الشباب، في أبواب الجهاد، في خدمة المسلمين في الداخل والخارج كل الأبواب أبواب ولله الحمد عاملة وأبواب مليئة بالناس فلا حاجة إذاً لنا! ليس صحيحاً أبداً، بل لا تزال الساحة تحتاج إلى أضعاف الأضعاف الذين يعملون بها، وأنا لا أقلل من إنجازات الصحوة بل هي إنجازات يدركها الجميع والذي يقلل منها يتغافل، أو يغفل، لكن أقول: يجب أيضاً أن لا تخدعنا هذه النظرة ونتخيل أننا قطعنا مسافة لم نقطعها بعد.(30/19)
نماذج قرآنية لتحمل مسئولية الدعوة إلى الله
أخيراً لعلي أن أشير باختصار إلى بعض النماذج التي ذكرها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم من الناس الذين كانوا يدركون مسئوليتهم من آحاد الناس، فمثلاً في قصة موسى لما تآمر عليه فرعون وملؤه قام رجل مؤمن ذكر الله قصته في سورة غافر: {وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر:28] إلى آخر الآيات وحواره الطويل معهم.
رجل مؤمن كان يكتم إيمانه، ما كان من العلماء ولا من المشهورين لكنه رأى أن من واجبه أن يدافع عن موسى، وأن يدافع هذه الدعوة.
نموذج آخر في قصة أصحاب القرية {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ * إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس:13 - 14] إلى آخر الآيات وفيها بعد ذلك: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21].
لاحظ معي هنا هذا الرجل الذي لا يظهر لنا من خلال السياق أنه صاحب علم، فالدور الذي قام به يستطيع أن يقوم به كل إنسان، قال: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20 - 21] يعني غاية ما يقوله للناس: اتبعوا هؤلاء الذين يدعونكم إلى الله سبحانه وتعالى، وإلى دين الله، فلما قُتل هذا الرجل ودخل الجنة {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26 - 27] لا يزال يحمل هاجس الدعوة حتى بعد أن مات وبعد أن دخل الجنة يتمنى أن قومه الذين قتلوه يعلمون بما غفر الله له، حتى يسلموا، وحتى يتوبوا ويدخلوا الطريق انظر فعلاً إلى ما كان يحمله هذا الرجل من هم، ولذلك يقول ابن هبيرة: تأملت حال هذا الرجل فرأيت عجباً، يقول: جاء من أقصى المدينة ولم يأت من وسطها، وجاء يسعى ولم يأت راكباً نموذج آخر في قصة سليمان لما تفقد الطير وفقد الهدهد: {فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [النمل:20 - 21] فلما جاء الهدهد قال: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ} [النمل:22 - 24] يعني الهدهد يرى أن مسئوليته على الأقل أن يبلّغ عن هذا المنكر الذي رآه، أن يبلّغ عن أمر أحاط به ولم يحط به سليمان، وماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أنه نظراً لأن هذا الهدهد قام بهذا الدور دخلت هذه الأمة في الإسلام {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل:44] ومن كان وراء إسلامهم؟ البداية كانت من هذا الهدهد.
نريد أن يكون عندنا على الأقل ولو من يحمل روح وعقلية ذاك الهدهد مع أنه غير مكلف، وهي جهود يستطيع أن يقوم بها آحاد الناس وأفراد الناس.
عندما تخاطب أحياناً بعض طلبة العلم وبعض الناس الذين هم على مستويات عالية، بل هم أحياناً أفضل منك يعتذر لك بأنه لا يستطيع، ويذكر لك قائمة من هذه الأعذار التي سبق أن أشرنا إليها، الآن استخرج لي إحصائية سنوية كم يتخرج من الكليات الشرعية عندنا في هذا المجتمع؟ احذف نصفهم، ثم احذف نصف النصف يبقى الربع فقط، فلو أن ربع الخريجين جعل لنفسه في السنة أسبوعاً فقط يذهب إلى منطقة من المناطق المحتاجة، ويحضر له موضوع خلال السنة كلها، ويأتي إلى هذه القرية ويلقي هذه المحاضرة، ثم يلقيها في القرية الأخرى، ويعيدها ويكررها في أكثر من موطن، وآخر جاء وألقى نفس المحاضرة في أكثر من مدرسة مثلاً، والآخر كذا وكذا، لحصل خير كثير.
بل لو أن نسبة عشرة بالمائة فقط منهم من حملة العلم الشرعي لحصل ذلك، لكن أين حملة الرسائل الأعلى رسائل الماجستير والدكتوراه في التخصصات الشرعية؟ وما نتيجة هذا العلم الذي حصّلوه؟ إنه كما قلت الأسلوب الذي نمارسه لنتهرب من المسئولية، ونحن نحتاج من كل إنسان مهما كان تخصصه، ومهما كانت قدراته ومهما كان مستواه إلى أن يقوم بدور(30/20)
الأسئلة(30/21)
الاعتذار عن الدعوة بأن المجتمع لا يخلو من المنكرات مهما استمرت الدعوة
السؤال
كيف نرد على من يقول: من أحد المستحيلات أن نجد مجتمعاً نقياً من المعاصي الظاهرة، والمنكرات المنتشرة، فإذا دعونا إلى الله ونهينا عن المنكر فلن نتوقف عن ذلك إلى أن تقوم الساعة؛ لأننا لم نجد ما نسعى إليه كجعل المجتمع كمجتمع الصحابة رضي الله عنهم، أو مقارباً له على الأقل، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً ليس هناك مشكلة لو استمرت الدعوة إلى قيام الساعة، وهل أنتم تتطلعون إلى وقت تنتهي فيه الدعوة؟ لا تنتهي الدعوة، وستبقى حتى داخل المجتمع الإسلامي، لا بد أن تقع المنكرات.
ونحن عندما نتحدث عن واقع المجتمع وما فيه من المنكرات، وعندما نطالب الناس بالدعوة لا نطالب بأن يكون المجتمع مجتمعاً مثالياً خالياً من المنكرات، فهذا أمر مستحيل، ولكن حتى قضية المثالية والواقعية ما نحددها نحن وإنما يحددها المفهوم الشرعي، فيعود السؤال الذي طرحناه في البداية: هل هذا الواقع يرضي الله ورسوله أم لا؟ فعندما نقول إن المجتمع لا يمكن أن يخلو من المنكرات، يمكن أن يأتينا الناس الذين لا تقام في بلادهم الحدود، ويباح ما حرّم الله، ودستور الدولة يُعارض الإسلام معارضة صريحة ويقول لك: المجتمع لا يخلو من المنكرات، وتأتي في مكان تباح الفواحش علانية وتظهر ويقال لك: المجتمع لا يمكن أن يخلو من المنكرات، فليست هذه حجة شرعية، فوجود أي منكر يطلب منا أن نسعى لإنكار المنكر حتى لو وجد مجتمع يُرضى عنه ويبقى فيه منكرات فيجب علينا أن نساهم في تغيير هذه المنكرات.(30/22)
استغلال الوقت في طلب العلم أو المشاركة في المراكز العلمية
السؤال
يقول: إنني محتار لأني أحس أن عليّ واجباً بل واجبات كثيرة، ولكني أجد من نفسي التأنيب بأني لا أفعل شيئاً مثل انتمائي للمركز الصيفي للدعوة إلى الله، ولكني أحس من نفسي بأني محتاج إلى طلب العلم، وحفظ القرآن، وغيرها فأجد في نفسي حيرة شديدة جداً أرشدني جزاك الله خيراً.
والسؤال الآخر قريب منه يقول: ما نصيحتك لبعض أصناف الشباب الذين يثبّطونا عن المشاركة في مثل هذه المراكز بحجة أن طلب العلم هو أنفع وأصلح من ذلك؟
الجواب
ليست القضية الآن أيهما أصلح وأنفع، فهذه المراكز لو لم يأت فيها إلا أنها بديل لبقاء الشباب في الشوارع لكانت خيراً، فأنا أقول وبدون مبالغة: لو كانت هذه المراكز فقط يمارس فيها الشباب الرياضة ويجتمعون فقط ويتحدثون مع بعضهم في جو محافظ لكان هذا وحده كافياً، لأن فيه حماية الشباب عن أماكن المنكرات، مع أنها لا تخلو سواء من البرامج العلمية أو من المواعظ التي يسمعها الشباب، أو من غيرها مما ينفعهم ويفيدهم.
وقد لا تستفيد من هذا المركز فوائد علمية لتقصيرك وإهمالك، وإلا فالمركز فيه مجالات وفيه دروس وفيه برامج، والإخوان -أحسبهم والله حسيبهم- من الحريصين على مثل هذا الأمر فما فرغوا أوقاتهم إلا لإفادة الشباب، هذا شيء.
الشيء الآخر: بقية الوقت ماذا تصنع به؟ فالمركز لا يأخذ جميع وقتك؟ وقت الصباح الآن سبع ساعات ونصف، فماذا تصنع فيه؟ جزء كبير منه في النوم، وجزء يضيع هنا وهناك! فإذا كنت حريصاً على وقتك فاغتنم الوقت الآخر، فإذا اغتنمت كل الأوقات في العلم والدعوة وما بقي إلا وقت المركز فيمكن أن نناقش حينئذ مثل هذه القضية.(30/23)
إشكال عن إنكار المنكر ممن هو واقع فيه
السؤال
كيف نوفق بين قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده) إلى آخر الحديث، وهذا الشخص مقصر وعنده تفريط، وبين قول الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]؟
الجواب
سبق أن أجبنا عليها، ومن أراد المزيد من هذه فليرجع إلى تفسير ابن كثير وغيره من التفاسير حول هذه الآية، وإلى الكتب التي كتبت في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي كثيرة، لكن نقول باختصار: الله سبحانه وتعالى أنكر على بني إسرائيل مخالفتهم ما هم أولى الناس باتباعه؟ فالإنكار هنا ليس لأجل أنهم أمروا، إنما الإنكار لأنهم كانوا أولى أن يجتنبوا ما وقعوا فيه مما ينهون الناس عنه، وأولى أن يفعلوا ما تركوه مما كانوا يأمرون الناس به.
ثم إن عليّ واجبين: الواجب الأول ترك المنكر، والواجب الثاني نهي الناس عن المنكر، فإذا تركت الواجب الأول، فهل يسقط عني الواجب الثاني؟ هذا مثل من يقع في الزنا مثلاً أو في المعصية ثم يقول: كيف آتي أصلي وقد وقعت في الزنا؟ فهذا واجب وذاك وجب آخر.
ثم لو طبّقنا هذا المفهوم أصلاً ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر؛ لأنه لا يمكن أن يوجد إنسان لا يذنب، ولو فرضنا أنه وجد أحد لا يذنب لذهب الله به وجاء بقوم يذنبون هذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبقت عبارة سعيد بن جبير والحسن وغيره أثناء المحاضرة.
لعلنا نكتفي بهذا القدر من الأسئلة فقد أثقلنا عليكم كثيراً وأطلنا عليكم.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع، والعمل الصالح، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(30/24)
من حق إخوتنا علينا
الدعوة إلى الله تعالى والسعي في هداية الناس أمر مطلوب من المستقيمين على أمر الله تعالى، ويعين على القيام بهذا الأمر النظر في ثمرات هذا الجهد المبارك، والاطلاع على الجوانب المضيئة في حياة المنحرفين المدعوين، والتزود بحسن الخلق في جملة من الأمور المطلوبة من الداعية، ليصل بذلك إلى نيل رضا الله في دعوته وكسب قلوب العباد.(31/1)
بيان ما يلزم الشباب المستقيمين تجاه إخوانهم المقصرين
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فكنا قد انتهينا في الدرس الماضي من الحديث عن هديه صلى الله عليه وسلم في مواقيت الصلاة، واتفقنا على أن نؤخر الحديث عن هديه العملي صلى الله عليه وسلم في الصلاة، ولذا سيكون موضوعنا هذه الليلة بمشيئة الله تعالى بعنوان: (من حق إخواننا علينا).
وهو امتداد للمحاضرة التي ألقيت يوم الأحد الماضي وكانت بعنوان: (عوائق الاستقامة)، فهي الجزء الثاني لهذه المحاضرة، والجزء الثالث سيكون بمشيئة الله يوم الأحد القادم بعنوان: (رسالة إلى شاب).
وكنا قد تحدثنا في المحاضرة الماضية عن الدراسة التي تم إجراؤها على مجموعة من الشباب غير الملتزمين، أو الذين لم يسلكوا طريق الاستقامة، وتحدثنا عن بعض نتائج تلك الدراسة، ووعدنا باستكمال عرض النتائج في هذا الدرس والمحاضرة التي تليها.
وسيكون موضوع هذا الدرس مختصاً بالحديث عن واجب الشباب الملتزمين والأخيار تجاه إخوانهم أولئك الذين لم يسلكوا طريق الاستقامة، وسيكون الموضوع وفق العناصر الآتية: أولاً: من ثمرات اهتدائهم على يديك.
ثانياً: جوانب مضيئة من سيرتهم.
ثالثاً: قبل الدعوة.
رابعاً: وبعد ذلك.(31/2)
ثمار الدعوة إلى الله تعالى(31/3)
للداعي مثل أجور المهتدين على يديه
أولاً: من ثمرات اهتدائهم على يديك: عندما يهدي الله سبحانه وتعالى على يديك أحد هؤلاء، فما الثمرة التي تجنيها من وراء ذلك؟ ولا شك أن هذا الأمر من الدواعي للشاب إلى أن يهتم بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يهتم بدعوة هؤلاء والتأثير عليهم.
الثمرة الأولى من ثمرات اهتداء هؤلاء على يديك: أن لك مثل أجورهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من تبعه لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا) والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم وأصحاب السنن الأربعة من حديث أبي هريرة.
فهذا الشاب عندما يهديه الله على يديك لابد أن يكون له نصيب من الصلاة والصيام والصدقة والزكاة والاجتهاد في النوافل، وغير ذلك من أبواب الطاعة والتقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فلك حينئذٍ مثل أجره، وقد تكون أنت مقصراً في العمل، وقد يكون لديك بعض الكسل والفتور، فلا تكون صاحب همة في الاجتهاد في الطاعة والنوافل، فيهدي الله على يديك من يكون أكثر منك همة، وأكثر منك تقوى لله سبحانه وتعالى، وورعاً وطاعة لله عز وجل، فيكتب الله عز وجل لك بذلك أجره.(31/4)
هداية رجل خير من حمر النعم
الجانب الثاني والثمرة الثانية: أن هذا الأمر خير من حمر النعم: فقد أعطى صلى الله عليه وسلم الراية لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما أرسله لقتال اليهود في خيبر بعد أن قال: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله)، فأعطاها علياً رضي الله عنه، وقال له من ضمن من أوصى به: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، والحديث رواه الإمام أحمد والشيخان من حديث سهل رضي الله عنه.
هذا الحديث يخبر فيه النبي صلى الله عليه وسلم أن هداية أحد على يدي علي رضي الله عنه -والخطاب ليس خاصاً به، والحكم ليس خاصاً به- خير له من حمر النعم.
وماذا تعني حمر النعم؟ إنها تعني أنفس ما كان يملكه العرب في ذلك الوقت، الإبل تلك الرواحل التي كانوا يمتطونها، فهداية رجل واحد خير له من حمر النعم أنفس تلك الرواحل التي يحرص العرب على اقتنائها، بل لقد كان من قيمة الإبل عندهم أنهم كانوا يقدرون بها الدية، فدية الرجل عندهم مائة من الإبل، وكذلك دية الجروح والشجاج وسائر الديات إنما تقدر بالإبل؛ نظراً لقيمة الإبل عندهم.
الكثير من الشباب في هذه المرحلة المبكرة يتمنى أن يحصل على سيارة، وتزداد الأمنية عندما تكون السيارة جديدة، ولم يستعملها أحد قبله، وكم يفرح ويسر بذلك عندما يتيسر له هذا الأمر، فكيف لو قيل له: إنا سنعطيك أنفس ما يمتطيه الناس من الرواحل، أنفس السيارات التي يقتنيها الناس ويفاخرون بها، فلا شك أن هذا الأمر خير لك من ذلك كله، هذا إذا كان رجلاً واحداً، فكيف إذا كان أكثر من ذلك؟!(31/5)
دعوة المهتدي لمن تسبب في هدايته
الثمرة الثالثة: أنك لن تحرم دعوة صالحة يدعو لك بها من أنقذه الله على يديك من الظلمات إلى النور: فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن دعوة الأخ لأخيه بظهر الغيب مجابة، عند رأسه ملك يقول له: آمين، ولك بمثله.
فإذا منَّ الله سبحانه وتعالى على يديك بهداية أحدهم، فسيعرف لك هذا الفضل، وسيعرف لك ما قدمت له، ولن يبخل عليك بدعوة صالحة، بل قد تكون أنت متوسداً على فراشك، نائماً في فراشك، وهذا قائم بين يدي الله سبحانه وتعالى في ثلث الليل الأخير حين يقول الله عز وجل: (من يدعوني فأستجيب له؟) فيدعو لك بدعوة صالحة من صميم قلبه، يكتب الله لك بها الخير إلى يوم تلقاه.(31/6)
الجزاء من جنس العمل
الأمر الرابع والثمرة الرابعة: الجزاء من جنس العمل: قاعدة شرعية معروفة لسنا بحاجة إلى الاستدلال عليها والتمثيل لها، ولكن شاهدها عندنا هنا أنك لابد أن يكون لك بعد ذلك ذرية وأبناء بمشيئة الله عز وجل، والقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن، ومهما أوتيت من قدرات تربوية، ومهما كان عندك من الحرص والعناية والاهتمام، فإن الأمر يبقى بعد ذلك ليس إليك، التوفيق بيد الله سبحانه وتعالى.
وكم نرى من الأبناء الذين يعتني بهم آباؤهم، ويحرصون عليهم، ويبذلون الغالي والنفيس لحمايتهم، ومع ذلك لا يوفقون، ونرى في المقابل من الآباء المعرضين الغافلين من كان لهم أبناء صالحون، متبعون لأمر الله سبحانه وتعالى.
فلا شك أن التربية لها دور مهم، لا شك أن المناصحة والعناية والاهتمام له دور في صلاح الابن ورعايته، لكن يبقى بعد ذلك توفيق الله سبحانه وتعالى.
فإذا كنت -يا أخي- تحمل هم أبناء الناس، وتسعى إلى إصلاحهم، ويؤرقك هذا الأمر، وتجتهد غاية الاجتهاد في استنقاذ هؤلاء من الضلال والانحراف، فلعل مما يكافئك الله سبحانه وتعالى به، ويجزيك الله عز وجل به، أن يجزيك من جنس عملك، فيصلح لك ذريتك وأولادك، وهي أعلى نعمة يجدها العبد في الحياة الدنيا، ولا تقدر بثمن أبدا {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
إن هذا الأمر يمثل امتداداً لعملك الصالح، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له).
فأقول: نتفاءل ونحسن ظننا بالله سبحانه وتعالى، والله عز وجل قد أخبر أنه عند حسن ظن عبده به، فحينما نجتهد في استنقاذ هؤلاء من الفساد في دعوتهم، ونبذل في ذلك نفيس أوقاتنا؛ سيقيض الله سبحانه وتعالى بعد ذلك لأبنائنا -ولو بعد وفاتنا- من يدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى ويستنقذهم.
وقد تموت أنت وابنك لا يزال في المهد، وابنك لا يزال صغيراً، حينئذٍ من له بعد الله سبحانه وتعالى؟ ولذلك أخبر الله عز وجل في قصة موسى والخضر لما أتيا المدينة واستطعما أهلها قال: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف:77]، ثم لما سأله عن تأويل ما لم يستطع عليه صبرا؛ أخبره عن هذا الجدار {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف:82].
فهذان الغلامان كان أبوهما صالحا، وهما يتيمان قد مات أبوهما ولا شك، فحفظهما الله سبحانه وتعالى في مالهما لصلاح أبيهما، ولا شك أن الذي حفظهما في مالهما يعلم سبحانه وتعالى أنهما أحوج إلى أن يحفظا في دينهما.
أقول: لعلك حينما تجتهد في هذا الأمر أن تجزى هذا الجزاء، أن يحفظ الله لك ذريتك، ويقيض الله لأبنائك وذريتك من ينظر إليهم بتلك النظرة التي تنظر بها إلى الناس، فالجزاء من جنس العمل.(31/7)
الدعوة إلى الله دليل شكر نعمة الهداية
ثمرة خامسة أيضاً: أن ذلك من شكر النعمة: فلقد منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بالهداية، والتوفيق إلى سلوك طريق الخير، ولا شك أن الفضل أولاً وأخيراً له سبحانه وتعالى، اسمع إلى أهل الجنة ماذا يقولون: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43].
فهؤلاء يحمدون الله سبحانه وتعالى على أن منَّ الله عليهم بالهداية، التي لم يكونوا -ولن يكونوا أبداً- ليحصلوا عليها دون توفيق الله عز وجل (يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم).
فأنت سلكت طريق الهداية الآن، منَّ الله سبحانه وتعالى عليك بطريق الهداية، وأنعم الله عليك بهذه النعمة، ولا شك أن هذه النعمة شأنها شأن سائر النعم الأخرى لها حق عليك، ومن حقها أن تشكرها، وأعظم شكر لهذه النعمة أن تنقل هذه النعمة إلى غيرك الذي قد حرمها، وأن تجتهد في دعوة هؤلاء إلى سلوك هذا الطريق الذي منَّ الله عليك بسلوكه، ولو شاء ربك لكنت مثل هؤلاء، والقلوب بين أصابع الرحمن يقلبها كيف شاء، وقلب ابن آدم أشد تقلباً من القدر إذا استجمعت غليانا كما ثبت ذلك عنه صلى الله عليه وسلم.
فهذا الأمر فيه شكر للنعمة، وهو أحرى بأن يكون سبباً لتوفيق الله سبحانه وتعالى لك في الثبات على هذا الطريق طريق الهداية.
ابن القيم رحمه الله له أبيات جميلة في نونيته في ذلك، يقول: واجعل لقلبك مقلتين كلاهما بالحق في ذا الخلق ناظرتان فانظر بعين الحكم وارحمهم بها إذ لا ترد مشيئة الديان وانظر بعين الأمر واحملهم على أحكامه فهما إذاً نظران واجعل لوجهك مقلتين كلاهما من خشية الرحمن باكيتان لو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم فالقلب بين أصابع الرحمن(31/8)
للداعية مثل أجر الداعية المهتدي على يديه
الأمر السادس: وماذا لو كان داعية؟ هدى الله على يديك شاباً معرضاً غافلاً، كان همه الأمور الساقطة، كان همه المعاصي، ثم بعد أن من الله عليه بالهداية أصبح شخصاً آخر، قد يكون خطيباً مفوهاً، يقول كلمة الحق ويستمع الناس إليه، قد يكون واعظاً يبكي القلوب، قد يكون داعية ينفع الله به الأمة، بل -ولا تستبعد هذا يا أخي- قد يكون مجدداً، أليس النبي صلى الله عليه وسلم أخبر (أن الله عز وجل يبعث على رأس كل مائة سنة لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينه)؟ فلماذا تستبعد ذلك يا أخي؟ قد تقول: أنا غير مؤهل للتجديد، لكن قد يكون هذا الذي يهديه الله على يديك مجدداً لهذه الأمة.
ونعود مرة أخرى إلى ابن القيم رحمه الله ليسمعنا أبياتاً جميلة، يثني فيها على شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، لما منَّ الله عليه بالهداية على يديه، فقال بعد أن تحدث عن ضلال أولئك الضالين، وما في كتبهم: يا قوم والله العظيم نصيحة من مشفق وأخ لكم معوان جربت هذا كله ووقعت في تلك الشباك وكنت ذا طيران حتى أتاح لي الإله بفضله من ليس تجزيه يدي ولساني حبر أتى من أرض حران فيا أهلاً بمن قد جاء من حران أخذت يداه يدي وسار فلم يرم حتى أراني مطلع الإيمان ورأيت أعلام المدينة حولها نزل الهدى وعساكر القرآن ووردت كأس الماء أبيض صافياً حصباؤه كلآلئ التيجان ورأيت حوض الكوثر الصافي الذي ما زال يشخب فيه ميزابان ميزاب سنته وقول إلهه وهما مدى الأيام لا ينيان ثم قال: فالله يجزيه الذي هو أهله من جنة المأوى مع الرضوان وقال أيضاً في موضع آخر لما أثنى عليه: فاقرأ تصانيف الإمام حقيقة شيخ الوجود العالم الرباني أعني أبا العباس أحمد ذلك البحر المحيط بسائر الخلجان ثم قال بعد ذلك: هذا ولو حدثت نفسي أنه قبلي يموت لكان غير هذا الشان مع ما كان للإمام ابن تيمية رحمه الله من دور بارز في تجديد العقيدة، مع ما له من أيدٍ بيضاء سطرها ابن القيم رحمه الله في ثنائه عليه، لكن انظر إلى ابن القيم رحمه الله الذي له مواقف وصولات مع المبتدعة أيضاً، وله مواقف أيضاً في نصرة دين الله سبحانه وتعالى، وله مصنفات ما زال الجميع يعض عليها بالنواجذ، وها نحن في درسنا هذا نقرأ ونتفيأ كتاباً من كتبه التي كتبها في هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ابن القيم رحمه الله في جهوده كلها ما هو إلا ثمرة من ثمرات توفيق الله سبحانه وتعالى لشيخ الإسلام ابن تيمية.
فتخيل يا أخي -وهذا ليس بعيداً أبداً- أن الله عز وجل هدى على يديك شخصاً كان له دور في خدمة دين الله سبحانه وتعالى، في خدمة الإسلام، قد يكون من الدعاة، بل قد يكون من المجددين ممن ينفع الله عز وجل بهم.
قد تكون أنت طاقاتك محدودة، قدراتك العقلية محدودة، قدراتك العلمية محدودة، بل همتك محدودة، لكن يهدي الله عز وجل على يديك رجلاً صاحب همة، صاحب طاقة، رجلاً أعطاه الله عقلاً وقدرة، فيسخر طاقته لدين الله سبحانه وتعالى، لتعليم العلم، لطلب العلم، للدعوة إلى الله عز وجل.
فكيف يكون سرورك وفرحك وأنت ترى في الحياة الدنيا عاجل ثمرة دعوتك؟! وأما ما عند الله سبحانه وتعالى فهو خير وأبقى.
أقول: هذه بعض الثمرات التي يجنيها من رزقه الله هذه النعمة، ومن منَّ الله سبحانه وتعالى عليه فأنقذ عز وجل على يديه هؤلاء من الضلالة.(31/9)
إنقاذ الضلال من الهلاك
وهناك ثمرة أخرى أيضاً لا تقل أهمية عن هذه، أنه قد أنقذ الله على يديك أحد أمة محمد صلى الله عليه وسلم كان في الطريق إلى الهاوية، كان في الطريق إلى الضلالة، بل قد يكون -عافانا الله وإياكم- في الطريق إلى الخلود من النار، فأنقذه الله عز وجل على يديك، هذه بحد ذاتها ثمرة تهون دونها تلك الثمار التي يجنيها من يضيعون أوقاتهم ويصرفونها هنا وهناك.(31/10)
جوانب مضيئة من سيرة الشباب المنحرفين
ننتقل بعد ذلك إلى النقطة الثانية، وهي: جوانب مضيئة من سيرتهم: لا شك أنه ظهر لنا من خلال الدراسة التي أجريناها -سواء الاستبيانات التي أجاب عليها الشباب، أو الدراسة الميدانية التي قمنا بإجرائها، والمقابلات الشفوية التي أجريناها معهم- ظهر لنا فعلاً أن هؤلاء يعيشون في عالم آخر، عالم آخر من الضياع والانحراف والغفلة لا نتصوره، مع إدراكنا لخطورة ما هم عليه، لكن كلما ازداد الأخ اطلاعاً على واقع هؤلاء عرف ذاك العالم الذي نغفل عنه وننساه.
ننحن مثلاً لا نقابل في مثل هذه الدروس وفي هذه المحاضرات وفي لقاءاتنا إلا أولئك الذين منَّ الله عليهم بالهداية، أما تلك الأفواج التائهة الضائعة فلا نعرف عن حالهم شيئاً.
أقول -أيها الإخوة-: مع تلك الجوانب السيئة التي برزت لنا، والتي ظهر لنا منها أمور خافية قد كانت غائبة عنا، أو -على الأقل- كنا لا نعطيها حق قدرها، مع ذلك كله هناك جوانب إيجابية عند هؤلاء، ولا أريد أن أتحدث عن عاطفة، بل عن أرقام وأمور وصلنا إليها من خلال الدراسة:(31/11)
عدم رضاهم عن حالهم
فالجانب الأول من الجوانب المضيئة: عدم رضاهم عن حالهم: أكثر هؤلاء -مع أنه يتمتع بالشهوات، مع أنه يرخي لنفسه العنان- غير راضٍ عن حالته التي هو عليها، وجه لهم سؤال: ما مدى رضاك عن حالك الآن من الناحية الشرعية؟ فـ (6%) فقط من طلاب المرحلة الثانوية قالوا: إنهم راضون تماماً عن حالهم، و (14%) من طلبة المرحلة المتوسطة قالوا: إنهم راضون تماماً.
وأما البقية (94%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (86%) من طلاب المرحلة المتوسطة هؤلاء كلهم عندهم قدر من عدم الرضا يتفاوت.
فـ (14%) من المرحلة الثانوية يقول: إنه متضايق جداً من حالته التي هو عليها، و (15%) من الفئة الثانية الذين منَّ الله عليهم بالاستقامة بعد أن كانوا في طريق الانحراف وجه لهم هذا
السؤال
هل كنت راضياً -في وقت انحرافك- عن حالك؟ فـ (15%) منهم أجاب بأنه كان متضايق جداً، و (30%) من طلاب المرحلة الثانوية أجابوا بأنهم غير راضين عن حالهم، و (32%) من الفئة الثانية أجابوا بأنهم غير راضين، و (22%) من المرحلة المتوسطة أجابوا أنهم غير راضين، و (51%).
من المرحلة الثانوية أيضاً قالوا: إنهم غير راضين عن حالهم نوعاً ما، و (64%) من المرحلة المتوسطة أجابوا نفس الإجابة.
الخلاصة: أن أكثر هؤلاء عنده قدر من عدم الرضا والقناعة بحاله التي هو عليها، ويتفاوت هذا الأمر، فبعضهم متضايق جداً، وبعضهم غير راضٍ، وبعضهم الأمر عنده دون ذلك، لكن غالبهم وعامتهم يشتركون في أنهم غير راضين بحالتهم التي هم عليها، ولا شك أن هذا الجانب إيجابي، يخدمنا أيضاً في دعوتهم، ويشعرنا أن هؤلاء لديهم قرب من الحق وطريق الاستقامة.(31/12)
رغبتهم في تغيير حالهم
الجانب الثاني من الجوانب المضيئة في سيرتهم: رغبتهم في تغيير حالهم: عندما سئل: هل ترغب في تغيير حالك؟ كانت النتيجة أن (3%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (7%) من طلاب المرحلة المتوسطة فقط هم الذين قالوا: إنهم لا يرغبون في تغيير حالهم، أي: أن البقية يرغبون في تغيير حالهم، والنسبة تتفاوت فـ (46%) من طلاب المرحلة الثانوية رغبتهم أكيدة في تغيير حالهم، و (37%) من طلاب المرحلة المتوسطة رغبتهم أكيدة.
نلاحظ تفاوت النسب بشكل واضح بين المرحلة المتوسطة والمرحلة الثانوية، يعني: كلما تقدم الشاب في السن ازداد تعقلاً، وازداد إدراكاً لسوء الحال التي هو عليها، ومن ثم ازداد رغبة في تغيير واقعه.
إذاً: فعامتهم وأكثرهم عندهم رغبة في تغيير حالهم، بل إن النصف من طلاب المرحلة الثانوية تقريباً لديه رغبة أكيدة في تغيير حاله التي هو عليها.(31/13)
تفكيرهم في الالتزام
وهناك جانب ثالث -وهو قريب من هذا الجانب-: تفكيرهم في الالتزام: فـ (93%) من طلاب المرحلة الثانوية فكروا في الالتزام، و (92%) من طلاب المرحلة المتوسطة فكروا في الالتزام.
إذاً: فأكثر هؤلاء ليست القضية تقف عند عدم قناعته ولا عند رغبته، بل قد فكر فعلاً في الالتزام، هؤلاء الذين فكروا في الالتزام (32%) منهم فكروا تفكيراً جاداً في الالتزام، و (71%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (74%) من طلاب المرحلة المتوسطة فكروا ثلاث مرات فأكثر، يعني: ليست القضية مجرد مرة واحدة ولا مرتين، بل قد فكروا أكثر من مرة بأن يسلكوا طريق الالتزام.
و (49%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (34%) من طلاب المرحلة المتوسطة صنعوا خطوات عملية، يعني: تقدموا، ما توقفت القضية عند التفكير فقط، بل قد صنعوا خطوات عملية، وأجابوا بتلك الخطوات التي صنعوها، فمنهم من قال: أصبحت أحافظ على الصلاة، ومنهم من يقول: أصبحت أجلس في المسجد بعد الفجر في الإجازة، ومنهم من يقول: التحقت بأناس صالحين، يعني: ذكروا عدة خطوات سلكها هؤلاء، ومنهم من يقول: مزقت الصور، أحرقت الأفلام والأشرطة التي عندي، لكن لم يستطيعوا الثبات على ذاك الطريق الذي بدءوا في سلوكه.
وفي دراسة أجراها الشيخ سلمان العودة أفادت الدراسة أن (99.
5 %) من شباب الأرصفة يحب أن يكون متديناً.
إذاً: فعامة هؤلاء عندهم رغبة في الالتزام، عنده وفي الاستقامة، وإن أبدى أحدهم لك ما أبدى، فداخله يعبر عن ذلك، هذه إجابتهم الصريحة كما أجابوا هم بها.(31/14)
شعورهم بأن الالتزام طريق السعادة
ومن الجوانب المضيئة في حياتهم: أن أكثر هؤلاء يشعر بأن الالتزام طريق السعادة: فقد وجه لهم
السؤال
هل تشعر بأن الالتزام طريق السعادة؟ والخيارات متاحة أمامهم: (نعم)، (لا أدري)، (لا).
فالذين أجابوا بـ (نعم) (79%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (81%) من طلاب المرحلة المتوسطة قالوا: إنهم يشعرون بأن الالتزام طريق السعادة.
أما الذين أجابوا بقولهم: (لا أدري)، فهم (21%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (18%) من طلاب المرحلة المتوسطة قالوا: لا إنهم لا يدرون هل الالتزام طريق السعادة أم لا.
أما الذين أجابوا بـ (لا) فهم (1%) من طلاب المرحلة المتوسطة، ونصف في المائة من طلاب المرحلة الثانوية، شخص واحد فقط من العينة في المرحلة المتوسطة، وشخص واحد فقط من العينة في المرحلة الثانوية يقول: إنني لا أشعر بأن الالتزام طريق السعادة.
إذاً: أكثر هؤلاء عنده شعور بأن الالتزام طريق السعادة، ولا شك أيضاً أن هذا من الجوانب المضيئة، ومن الجوانب التي تخدم في دعوتهم، فلست بحاجة إلى مزيد من الجهد لإقناعه بأن هذا طريق السعادة، هو يشعر بذلك، لكن أن تحدثه عن السعادة التي وجدتها بعد استقامتك، أن تحدثه عن جوانب من تلك السعادة التي لا شك أنه مع إدراكه -يعني: مع أنه يدرك أن الالتزام طريق السعادة- لا يدرك ذلك تمام الإدراك.
وسنتحدث عن هذا الجانب -إن شاء الله- في محاضرة الأحد عندما نتحدث عن الأجوبة التي وردت إلينا من الذين هداهم الله سبحانه وتعالى بعد أن كانوا على طريق الانحراف، سنشير إلى نماذج من ذلك.(31/15)
استجابتهم للنصيحة
الجانب الخامس: استجابتهم للنصيحة: وجه لهم
السؤال
هل وجه لك نصيحة شخصية؟ فـ (88%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (85%) من طلاب المرحلة المتوسطة أفادوا بأنهم قد تلقوا نصيحة شخصية.
ثم وجه لهم سؤال آخر: ما أثر هذه النصيحة عليك؟ هذه النصيحة التي وجهت لك ماذا كان أثرها عليك؟ فـ (31%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (34%) من طلاب المرحلة المتوسطة -أي: عدد قريب من الثلث- أجابوا بأنهم استقاموا مدة محدودة.
يعني: ما قبِلَ النصيحة ولا تأثر بها فقط، بل استقام فعلاً، لكنها مدة محدودة لم يستمر عليها.
و (36%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (40%) من طلاب المرحلة المتوسطة أفادوا أنهم تأثروا تأثراً وقتياً، يعني: تأثر وقت توجيه النصيحة إليه.
إذاً: فـ (67%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (74%) من طلاب المرحلة المتوسطة كان أثر النصيحة أثراً إيجابياً عليهم، إما أنه استقام مدة محددة، وإما أنه تأثر تأثراً وقتياً، وهي قضية نشاهدها -مثلاً- عندما نتحدث في الفصل مع الطلاب، ونوجه لهم نصيحة وموعظة، نشاهد في وجوه الكثير من هؤلاء التأثر، وتشعر فعلاً بالندم في وجهه، فكيف إذا كانت النصيحة نصيحة شخصية؟! وكلكم قد يكون مرت عليه تجربة، قد وجه نصيحة شخصية لأمثال هؤلاء، أظن أننا قد لمسنا هذا بأنفسنا، أنك عندما تناصحه نصيحة شخصية ومؤثرة؛ تجد فعلاً أن الرجل متأثر وتعرف ذلك في وجهه، مما يدل على أن استجابته لهذه النصيحة إيجابية.
فـ (23%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (25%) من طلاب المرحلة المتوسطة يقول: شكرته ولم أستجب له.
يعني: على أقل الأحوال عنده شكر وعرفان لهذه النصيحة وإن لم يستجب، هذا لا شك يعتبر جانباً إيجابياً، فأنت لما تنصح إنساناً ويثني ويشكر ويقدر، وتعرف أنه لم يستجب، تشعر على الأقل بأن جهدك لم يذهب سدى.
أما الذين سخروا ممن نصحهم فأفاد (2%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (1%) من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم سخروا ممن وجه لهم النصيحة، وعندما تكون نصيحة جادة أخوية لا شك من النادر أن تجد من يسخر منك.
إذاً: فهؤلاء يستجيبون للنصيحة، هؤلاء يسمعون النصيحة، تؤثر فيهم كما عرضنا، وكما نشاهده، وتعرفونه جميعاً من تجربتكم الشخصية، بل إنا عندما جلسنا مع بعض الشباب على الرصيف ووقفنا عندهم كانوا مؤدبين، كانوا يدخنون فأطفئوا الدخان، ورحبوا بنا، وجلسنا معهم، فعرضنا عليهم الموضوع، قلنا: نريد أن نتناقش معكم حول عوائق الاستقامة، ما الذي يمنعكم من سلوك طريق الاستقامة؟ ودخلنا معهم في النقاش، وأبدوا لنا الترحيب.
بعد ذلك استأذنا منهم، فقال أحدهم: إنك قد جعلت هذه المحاضرة وهذا الموضوع عائقاً بينك وبين النصيحة، فكنا ننتظر منك أن توجه لنا نصيحة شخصية بعد ذلك، فلماذا لم توجه لنا هذه النصيحة؟ وكان حديثه محرجاً فعلاً، وطلبه محرجاً لنا.
هذه دليل على أن هؤلاء عندهم رغبة وحرص، يتمنون أن يسلكوا طريق الاستقامة، بل يرحبون بالنصيحة، وأسوأهم حالاً من يرحب بك ترحيب مجاملة، ولا شك أن هذا يعطيك دافعاً أكثر.
ونلاحظ من خلال النسب التي عرضنا أن استجابة طلاب المرحلة المتوسطة للنصيحة وتأثرهم بها أكثر من السابقين، مع أنهم أكثر جدية، لكن هؤلاء يسهل التأثير عليهم؛ لأنهم لم يغوصوا بعد في أعماق الفساد والشهوات.(31/16)
سماعهم الشريط الإسلامي
الجانب السادس من الجوانب الإيجابية من حياة هؤلاء: سماع هؤلاء للشريط الإسلامي: وجه لهم
السؤال
هل تسمع الشريط الإسلامي؟ فأجاب (6%) من طلاب المرحلة الثانوية، و (5%) من طلاب المرحلة المتوسطة أنهم لا يسمعون الشريط الإسلامي إطلاقاً، والبقية يسمعون سماعاً متفاوتاً، منهم من يسمع دائماً، ومنهم من يسمع كثيراً، ومنهم من يسمع نادراً، لكن يشترك هؤلاء جميعاً في أنهم يسمعون الشريط الإسلامي، بل أفاد أكثر هؤلاء أن أكثر الوسائل -التي يرونها- تأثيراً على الشباب هو الشريط الإسلامي.
ولا شك أن هذا الجانب إيجابي يجب أن نعتني به، فإذا كان هؤلاء عندهم استعداد لأن يسمعوا الشريط الإسلامي؛ فهذا يعطينا فرصة ابتداءً لأن يخصص لهم حديث خاص، محاضرات خاصة لهؤلاء، خطب خاصة لهؤلاء، إصدارات خاصة موجهة لهؤلاء.
ثم -أيضاً- نسلك معهم وسيلة أخرى، وهي نقل الشريط الإسلامي، إهداء الشريط الإسلامي، توزيع الشريط الإسلامي على هؤلاء، فالكثير من هؤلاء يسمع الشريط الإسلامي، ولا شك أنه سيتأثر به كما أفاد أكثر من (60%) أنهم يتأثرون عندما يسمعون الشريط الإسلامي.
وهذه رسالة نوجهها إلى أصحاب التسجيلات: أن يعتنوا بهذا الجانب، وأن يعتنوا بهذه النوعية من الشباب، وكذلك نوجهها إلى مشايخنا وأساتذتنا من العلماء والدعاة: أن يعتنوا بهؤلاء، ويقدموا لهم مادة تستحق التقديم، فإذا كان هؤلاء عندهم استعداد لأن يسمعوا الشريط الإسلامي، فما نسبة المادة الموجهة لهم من المواد المعروضة في التسجيلات؟ لا شك أن المحاضرات والخطب التي تأخذ الجانب الوعظي تناسب هؤلاء، لكن هل يجد هؤلاء حديثاً واقعياً؟! حديثاً فيه نقاش عقلي لمشاكلهم، ومحاولة في الحديث عن مشاكلهم الخاصة، وعما يواجهونه من عقبات، والاهتمام بهم، فمجرد شعورهم بالاهتمام بهم كافٍ بحد ذاته، وقد أبدى لنا الكثير من هؤلاء الشباب شكره على اهتمامنا به، وأبدى لنا شكره على توجيه مثل هذه الأسئلة والاستبانة التي تشعر بالاهتمام والعناية بشأنهم.(31/17)
موقفهم الإيجابي تجاه الشباب الملتزمين
الجانب الإيجابي السابع من مواقف هؤلاء: موقفهم من الشباب الملتزم: لقد فوجئنا فعلاً بنتيجة ما كنا نتوقعها من موقف هؤلاء من الشباب الملتزمين، ولعلي أشرككم في شيء مما لمسته من ذلك، فقبل ذلك نشير إلى دراسة الشيخ سلمان العودة التي وصل فيها إلى أن (10%) فقط من أفراد العينة لا يحب الشباب المتدينين، أما (70%) فهو يحبهم، و (20%) يقول: إنه يحب المعتدلين من هؤلاء فقط.
كان من الأسئلة الموجهة لهم: كلمة توجهها إلى كل من: الأب، الأستاذ، الداعية، الشاب الملتزم؟ وسأقرأ عليكم بعض الكلمات التي وجهها هؤلاء للشباب الملتزمين، وفي الواقع لا أستطيع أن أقرأ كل ما ورد علي، لكن سأقرأ بعض ما اخترته من عباراتهم التي هي نموذج للشعور الذي يملكونه تجاه الشباب الملتزمين.
يقول أحدهم: أن يحمدوا الله على الهداية.
يقول الآخر: تقديم النصيحة لغير الملتزمين مرة ومرة.
والكثير من هؤلاء رسالته للملتزمين: أن ينصحوا إخوانهم غير الملتزمين، وأنا بدوري أنقل هذه الرسالة لكم.
ومن ذلك أيضاً: ترك العزلة، والأنانية، وكسر الحواجز بينهم وبين غير الملتزمين، فهو يرى أنك عندما تستأثر بهذا الخير لوحدك وتبتعد عن هؤلاء، أنك تملك قدراً من الأنانية، فينبغي أن تشركهم في هذا الخير الذي بين يديك.
والآخر يقول: أن يكونوا قدوة صالحة، ويدركوا أهميتهم.
وآخر -أيضاً- يقول: أن ينظر أمامه، ولا يبالي بمن يسخر منه، فهو أفضل منه.
والآخر يقول: أن يتحملوا كل ما يقال لهم، ويصمدوا، ويكونوا خير مثل.
وآخر يقول: جزاهم الله خيراً، لا أقترح عليهم شيئاً؛ لأنهم قائمون بواجبهم التام.
والآخر يقول: أتمنى أن أكون مثلهم.
والآخر يقول: هم قدوتنا نحو الصلاح.
وآخر يقول: أشكركم على ما فعلتم بي.
وآخر يقول: محاولة أن يكون لهم كيان، ويؤثروا على غيرهم.
وآخر يقول: نسأل الله أن يثبتهم، وأن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر.
وآخر يقول: إن العيون موجهة إليكم، عيون أهل الشر، وعيون أهل الخير، فكونوا على أهبة الاستعداد.
وآخر يقول: زوروا الشباب غير الملتزمين، ووجهوا إليهم النصيحة.
وهذه الكلمة تكررت أكثر من مرة.
وآخر يقول: كونوا على جانب كبير من الأخلاق والتعامل للتأثير في غيركم.
وآخر يقول: عدم التفكير في الرجوع إلى ما كانوا عليه.
وآخر يقول: الإصرار والعزيمة، وأن يعرفوا أنهم على حق، ولا يهتموا بكلام الناس.
وآخر يقول: كم أسر عند رؤيتكم يا أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي! هذا بعض ما وصلنا من مشاعر لهم تجاه الملتزمين، صحيح أن بعضهم انتقد، صحيح أن بعضهم ذكر جوانب سلبية، لكن أكثر هؤلاء ذكروا عبارات مثل هذه، والوقت لا يتسع للاستطراد في ذكر جميع العبارات التي حكاها هؤلاء.
المهم أن هذه العبارات على اختلاف مجالاتها واتجاهاتها يجمعها أمر واحد، وهو أنهم يحبون الشاب الملتزم، يثقون به، لهم شعور تجاه هذا الشاب إيجابي، ولا شك أن هذا الأمر يخدمك كثيراً عندما تشعر بأن هؤلاء يحبونك، وإن أبدوا ما أبدوا من السخرية والاستهزاء، فهذه وسيلة للاعتذار؛ لأنه يشعر بالتقصير، يشعر بالإهمال، فيحاول أن يعبر أو يدافع عن نفسه بالسخرية والاستهزاء، وغالباً لا يسلك منطق السخرية والاستهزاء إلا الشخص الذي ليس عنده قناعة بالطريق الذي هو عليه، أما صاحب القناعة فلا يمكن أن يسلك هذا الطريق.(31/18)
أمور مطلوبة قبل الدعوة(31/19)
حسن الخلق أثقل ما في الميزان
ثم بعد ذلك نصل إلى النقطة الأخيرة -وأظنها من أهم ما نتحدث عنه-، وهي: قبل الدعوة: الجانب الأول: حسن الخلق أثقل ما في ميزانك: فالنبي صلى الله عليه وسلم قد عظم حسن الخلق، وأخبر أنه ما من عمل أثقل في ميزان العبد يوم القيامة من حسن الخلق، وأخبر صلى الله عليه وسلم أيضاً فقال: (إن العبد ليبلغ بحسن خلقه درجة الصائم القائم)، وأخبر صلى الله عليه وسلم بأن أحب الناس إليه أحاسنهم أخلاقاً.
والحديث عن فضل حسن الخلق حديث يطول، لكن لا شك أن لحسن الخلق والتعامل والبشاشة وطلاقة الوجه مع هؤلاء وغيرهم أثراً كبيراً في دعوتهم واستجابتهم وتأثرهم بك، بل قد يكون سبب تأثرهم ليس دعوتك وحدها، بل حسن خلقك، قد يكون حسن خلقك فقط داعياً لأن يتأثر هؤلاء ويستجيبوا.
وكم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أسلم بسبب حسن خلقه صلى الله عليه وسلم، بسبب موقف واحد حين رأى منه صلى الله عليه وسلم حسن الخلق، وهذه قضية سنتحدث عنها -بمشيئة الله- فيما نستقبل من الدروس عندما نتحدث عن هديه صلى الله عليه وسلم في حسن الخلق، وعن شمائله.(31/20)
حمل الكل وإكساب المعدوم هدي رسول الله
الجانب الثاني: حمل الكل وإكساب المعدوم من خلق نبيك صلى الله عليه وسلم: تقول خديجة رضي الله عنها لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إليها يشتكي فزعاً بعد شدة الوحي: والله! لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق.
لقد كانت هذه أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقري الضيف، وكان يكسب المعدوم، وكان يعين على نوائب الحق، ولنا قدوة فيه صلى الله عليه وسلم وأسوة حسنة، فهو قدوتنا صلى الله عليه وسلم وأسوتنا.
ولقد كان لهذه الأخلاق -كما قلت- عظيم الأثر وبليغ الأثر في استجابة الكثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم له.(31/21)
أهمية استغلال مواقف السير بالسيارة
الجانب الثالث: وأنت في السيارة: قد تحصل لك مواقف كثيرة وأنت في السيارة تستطيع من خلالها أن تشعر الناس بأنك تتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم بحسن الخلق.
فهناك موقف يحصل كثيراً عند التقاطعات، أو في طرق ذات أفضلية، عندما تفسح الطريق لأحد المارة لا شك أنك تراه مباشرة يلوح لك ويشير لك بيده يعبر لك عن الشكر والثناء والتقدير، أما ما في قلبه فهذا أمر لا تعلم عنه شيئاً.
فماذا لو كان خلقنا هكذا؟! وماذا لو كان هؤلاء يعرفون أننا نقدمهم، ونفسح لهم في الطريق، ويعرفون منا حسن الخلق والمعاشرة؟! وهناك موقف آخر قد يحصل: تسير بسيارتك فترى شخصاً قد تعطلت سيارته، قد يكون عطلاً يسيراً، قد يكون عطلاً في إطار السيارة، وقد يكون عند خزان الوقود، المهم أن يكون عنده عطل يسير، فعندما تقف وتسلم عليه وترحب به، ثم تعرض عليه مساعدتك وخدمتك، قد يطلب منك المساعدة والخدمة فعلاً، وقد يشكرك ويفيدك بأنه لا يحتاج لذلك، فهو بانتظار من سيأتيه، أو قد أصلح هذا العطل الذي حصل له، أو قد تكون أنت لا تستطيع هذا الأمر فتعتذر منه.
فما أثر ذلك على هؤلاء؟! أليس هذا -أيضاً- من خلق النبي صلى الله عليه وسلم؟ أليس النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (وتعين الرجل على دابته فتحمله عليها، أو تحمل له عليها متاعه صدقة)؟! هذا من الصدقة، ومن الأمر الذي تؤجر عليه.
ولو كان هؤلاء قد اعتادوا أننا دائماً الذين نقف لهم، ودائماً نعينهم، ودائماً نشعر بشعورهم، لأثر ذلك عليهم، يعني: قد يكون هو يسخر منك، وقد يكون يهزأ بك، فإذا بك تقف وتعرض عليه المساعدة فعلاً، وتساعده مساعدة جادة، لا شك أن مثل هذه المواقف وحدها كفيلة بأن تعطيه صورة أخرى، بل قد يكون هذا الموقف وحده سبباً في هدايته، أن يعلم أنك إنسان تحمل منهجاً، وأنك إنسان رباك هذا الأمر.
وكم يكسب الناس بخلقهم؟! أحياناً قد يخطئ عليك إنسان، فيسيء إليك، فتهم بشتمه أو سبه أو عقوبته، فيعتذر منك اعتذاراً حاراً، فتصدم ولا تستطيع بعد ذلك أن تقول كلمة واحدة، فكيف إذا لم يرتكب ضدك أي خطأ؟!(31/22)
أثر الطالب في فصله الدراسي
الجانب الرابع: وأنت في الفصل الدراسي: في الفصل لا شك أنه يكون لك زملاء من أمثال هؤلاء، وتحصل مواقف كثيرة أيضاً من المواقف الشبيهة بما أشرنا إليها، فمثلاً: قد يحتاج إلى أي مساعدة معينة، يعني: مساعدة مشروعة، وقد يكون عنده مشكلة، وقد يكون عنده مسألة -مثلاً- في المنهج ما فهمها، والغالب أن أمثال هؤلاء يكون مهملاً في الدراسة، وقد تكسبه بحسن خلقك، وقد تؤثره على نفسك عندما تأتي وتجده قد جلس في مقعدك.
فعندما تتخلق بهذا الخلق وأنت في فصلك الدراسي، فما أثر ذلك على زملائك في الفصل؟! ما أثر ذلك عندما يشعر جميع طلاب الفصل بأنك أنت الإنسان المتميز بحسن الخلق، والمتميز بقضاء حوائجهم، والمتميز بالنصح لهم، والمتميز بالعفو عن زلاتهم، والمتميز بكل ذلك؟! لا شك أنك تعطي صورة مضيئة فعلاً، وكأنك تقول بلسان حالك -ولو لم تقل لهم شيئاً-: هذا هو الطريق الذي أريدكم أن تسلكوه.
ومهما اختلفت أفكار الناس واتجاهاتهم فإنهم يجمعون جميعاً على محبة صاحب الخلق، ويجمعون جميعاً على أن يجدوا في قلوبهم المنة لمن أحسن إليهم، حتى الناس أصحاب الأخلاق السيئة، وحتى الناس أصحاب الشراسة، يتفقون جميعاً على تقدير صاحب الخلق الحسن، ولا يجرؤ أحد منهم على أن يسيء إلى صاحب الخلق الحسن أبداً، فإذا كان الشاب متميزاً في فصله، يعرفه طلاب الفصل جميعاً، ويعرفه الأساتذة، وتعرفه إدارة المدرسة بأنه صاحب الخلق الحسن، وصاحب المواقف الحميدة، وصاحب الاعتذار قبل أن يخطئ، عندما يعرف عنه ذلك هؤلاء، فإنه قبل أن ينصح هؤلاء سيكون له دور، فما بالك إذا وجه نصيحة أو وجه كلمة؟! كيف سيكون أثرها؟!(31/23)
لا تنتظر ثمرة إحسانك
الجانب الخامس: -وهو مهم ومرتبط بما قلناه-: لا تنتظر ثمرة إحسانك: عندما تقدم إحساناً لهؤلاء من حسن خلق، أو عفو، أو صفح أو غير ذلك؛ لا تنتظر ثمناً لذلك، بل ليس من الضرورة أن تربطه بالنصيحة، يعني: عندما آتي -مثلاً- وأجد شاباً عليه آثار انحراف، وأجده قد تعطل في الطريق وأقف له وأعينه، ليس بالضرورة أن أوجه له النصيحة، فعندما يجد مني أني عندما أقدم له خدمة لابد أن أقابلها بالنصيحة قد يشعر بأن هذا ثمن للنصيحة، وإن كان في الواقع لن يتضايق من النصيحة، لكن يجب أن يشعر بأني أتخلق بحسن خلقي لذاتي؛ لأن هذا حسن خلق أمرنا به الإسلام، وهذا خلق نبينا صلى الله عليه وسلم الذي وصفه الله عز وجل فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، الذي ما رئي أحسن منه صلى الله عليه وسلم خلقاً، الذي يقول عنه حسان رضي الله عنه: وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هم الرحماء وإذا غضبت فإنما هي غضبة لله لا حقد ولا شحناء هذه هي أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وما عرفت الدنيا أبر وأطهر وأحسن خلقاً منه صلى الله عليه وسلم بآبائنا هو وأمهاتنا.
فأقول: يجب أن يعرف الناس عنك أنك تتخلق بحسن الخلق لا لأجل أنك تكسب الناس فقط، بل تتخلق بحسن الخلق؛ لأنك تعلم أن هذا هدي نبيك صلى الله عليه وسلم، ولأنك تعلم أن حسن الخلق يبلغ به العبد ما لا يبلغ الصائم القائم، ولأنك تعلم أن أقرب الناس وأحبهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأقربهم منه مجلساً يوم القيامة وأحبهم إليه أحاسنهم أخلاقا، ولأنك تعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم زعيم لك ببيت في أعلى الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
أقصد من ذلك كله أنه مع هذه الآثار التي تحصل لحسن الخلق من محبة الناس، وهي آثار تجدها في الدنيا قبل أن تجدها في الآخرة، ومع هذه الآثار وهذه النتائج التي تجدها في دعوتك لا يكون همك في حسن الخلق هو هذه الآثار والنتائج فقط، لا، بل أنت تتعبد لله بحسن الخلق الذي طبع عليه نبيك صلى الله عليه وسلم، وأمرك به، ورتب على ذلك الأجر العظيم، بل النبي صلى الله عليه وسلم يأمر الإنسان بأن يعود نفسه فيقول: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحر الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه).(31/24)
تنازل عن بعض حقوقك
الجانب السادس: تنازل عن بعض حقك: تحكي لنا عائشة رضي الله عنها صورة من هديه صلى الله عليه وسلم فتقول: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم منتصراً في مظلمة ظلمها قط ما لم ينتهك من محارم الله شيء، فإذا انتهك من محارم الله شيء كان من أشدهم على ذلك غضبا، وما خير صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن مأثماً) الحديث رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والترمذي في الشمائل.
فهو صلى الله عليه وسلم لم ينتصر في مظلمة لنفسه ظلمها قط، إنما ينتصر عندما تنتهك محارم الله عز وجل.
وتقول أيضاً في وصف آخر له صلى الله عليه وسلم: (لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشاً، ولا متفحشاً، ولا صخاباً في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة، ولكن يعفو ويصفح)، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد والترمذي في سننه، ورواه الترمذي -أيضاً- في الشمائل المحمدية والطيالسي.
وكلنا يحفظ تلك الصورة المثلى من خلقه صلى الله عليه وسلم التي يحكيها أنس رضي الله عنه، يقول: (كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فجاءه أعرابي، فجبذه بردائه؛ حتى أثر الرداء في صحفة عنقه، فقال: أعطني من مال الله الذي عندك.
فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إليه وابتسم، ثم أعطاه حتى رضي).
أقول -يا إخوان-: قد يساء إليك، وما أكثر ما يسيء إليك هؤلاء، ولا شك أن الذي أساء الأدب مع الله عز وجل، وأن الذي يتجرأ على محارم الله، لابد أن يسيء الأدب مع خلق الله عز وجل.
أقول: لابد أن يأتيك من ذلك إساءات، ولابد أن يأتيك تجاوزات من هؤلاء، قد يسخر منك، وقد يظلمك، وقد يأخذ بعض حقك.
المهم أنه قد تحصل لك إساءة، فتنازل -يا أخي- عن بعض حقك، ويجب أن تتميز بأنك الرجل الذي تتنازل عن حقك، تحلم، وتعفو، وتكظم الغيظ، وتصفح، تلك الأخلاق التي تعلمتها وأنت تقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى، {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:133 - 134].
بل إن عفوك وصفحك وتنازلك عن حقك الغالب أنه يعيد إليك الحق، فلو سخر منك وقابلت ذلك بالإحسان؛ فإنه لابد أن يعرف أن هذه يد لابد أن يجزيك بها، ولو أساء إليك بأي إساءة أخرى وقابلت هذه الإساءة بالصفح والإحسان والعفو؛ لحفظ هذا الجميل لك، وستلقاه بعد ذلك عاجلاً، وأنت لا تبحث عن الجزاء العاجل، إنما تسلك ذلك استجابة لأمر الله سبحانه وتعالى، واقتداءً بهدي نبيك صلى الله عليه وسلم الذي كان كثيراً ما يعفو صلى الله عليه وسلم، بل تحكي عنه زوجه أقرب الناس إليه أنه لم يكن صلى الله عليه وسلم ينتصر لمظلمة ظلمها قط عليه أفضل الصلاة والسلام، وما يكسب الناس مثل الحلم، وما يكسب الناس مثل الصفح والعفو والتنازل عن الحقوق.(31/25)
أمور يلزم التنبه لها(31/26)
الحذر من قياس الأمور بمقياس واحد
وبعد ذلك ننبه على بعض الأمور: أولها: احذر من القياس على رأس الديك: هذا مثل طريف يحكونه، وهو أن أحد الناس غير المبصرين عاد إليه بصره، فرأى رأس الديك، ثم بعد ذلك فقد بصره، يعني: ما رأى في الدنيا إلا رأس الديك، فصار كلما قيل له شيء، فقيل له عن الجبل، قال: وماذا يكون من رأس الديك؟! قيل له عن الفيل، قال: وماذا يكون من رأس الديك؟! يعني: كل شيء يقارنه برأس الديك، ما عنده إلا نظرة واحدة.
وأقول: يجب أن يكون عندنا سعة أفق، وألا نعرف الأسلوب الواحد فقط، أحياناً يجرب أسلوب فينجح، أو طريقة معينة فتنجح، فنسلك نحن جميعاً هذا الأسلوب، فيجب أن يكون عندنا تنويع في أساليب الدعوة، وتنويع في الخطاب، وابتكار.
اقرأ القرآن -يا أخي- تجد القرآن ينوع الموعظة، مرة يذكر ما يحصل لأهل النار من عذاب، ومرة يذكر نعيم أهل الجنة، ومرة يذكر مخلوقات الله سبحانه وتعالى والتفكر فيها، ومرة قصص الأولين والسابقين، وهكذا تجد الموعظة في كتاب الله سبحانه وتعالى قد جاءت متنوعة على أنحاء شتى.
والنبي صلى الله عليه وسلم انظر إلى دعوته صلى الله عليه وسلم، فهو -مثلاً- لما أتاه الوليد بن المغيرة ماذا قال له؟ قال: اسمع، فقرأ عليه القرآن.
ولما أتاه أعرابي أعطاه مالاً، فأسلم لأجل المال، كما قال أنس: فلقد كان الرجل من الأعراب يسلم ما به إلا حب الدنيا، ثم ما يلبث أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
لما جاء إليه ضماد وكان رجلاً كاهناً قال له صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له).
ولما جاء عدي بن حاتم وهو ملك قال: (أترى الحيرة؟ قال: نعم.
سمعت عنها ولم أرها، قال: يوشك أن تسير الظعينة من الحيرة فتطوف بالبيت لا تخاف إلا الله، قال: أتعرف كسرى بن هرمز؟ قال: نعم.
قال: يوشك أن تنفق كنوزه في سبيل الله، ثم قال: ويوشك أن يعطى المال فلا يقبله أحد، فيقول عدي رضي الله عنه: فلقد رأيت اثنتين وأنا انتظر الثالثة).
المهم أن عدياً رضي الله عنه كان ملكاً، ولذلك خاطبه النبي صلى الله عليه وسلم بما يناسبه، وهكذا تأمل في السيرة، اقرأ في أحداث السيرة، وانظر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو الناس، أحدهم يقرأ عليه القرآن، والآخر يعظه، والآخر يناقشه نقاشاً عقلياً، والآخر يعطيه مالاً، ينوع الأساليب صلى الله عليه وسلم التي تتناسب مع الناس.
فأقول: نحن بحاجة أيضاً إلى أن نسلك نفس الهدي الذي سلكه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أشرنا إلى هذه القضية بالتفصيل عندما تحدثنا عن هديه صلى الله عليه وسلم في الدعوة.
فأقول: نحن بحاجة إلى أن ننوع الأساليب، ونبتكر الوسائل والأساليب التي تؤثر على أمثال هؤلاء.(31/27)
الحذر من اليأس من المدعوين
ثانياً: اليأس داء قاتل: قد توجه النصيحة، وقد تبذل الجهد، ثم لا يستجاب لك؛ فتيأس، نحن نريد منك أن تكون كما كان نوح عليه السلام، يقول في دعائه لما دعا على قومه: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27].
إنه لما يئس يأساً تاماً من قومه أصبح يؤمل في أولادهم، حتى يئس من أولادهم، فقال: {وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:27]، وقد ظل يدعو قومه عليه السلام خمسين وتسعمائة سنة.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما استأذنه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين قال: (لا؛ لعل الله عز وجل أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله).
فأقول: لا تيأس أبداً، فلمجرد كلمة، أو كلمتين، أو نصيحة، أو جهد محدود تيأس وتقول: لم يستجب؟! يجب أن تأخذ من أنبياء الله ومن الدعاء السابقين العزيمة والإصرار والهدي الذي كانوا عليه، وهب أنه لم يستجب لك، وهب أنه لم يسمع لك، فلا تظن أبداً أن هذه الكلمة التي قلتها لله عز وجل ستذهب سدىً، فإن العبد قد يتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله له بها رضوانه إلى يوم يلقاه، أو يرفعه الله بها درجات.(31/28)
مهد الطريق لغيرك
ثالثاً: قد تمهد الطريق لغيرك: يعني: قد تنصحه ولا يستجيب، وقد تسلك معه أسلوباً ولا ينجح هذا الأسلوب، لكن لا يعني هذا أن القضية ذهبت سدىً، لا، فقد تكون أنت بهذا الأسلوب وبهذا النصيحة وبهذه الدعوة قد مهدت الطريق لمن يليك، يعني: أوجدت عنده إحساساً وشعوراً، فيجيء الذي بعدك فيوجد عنده نفس الشعور، حتى تتكامل الجهود، وليس بالضرورة أن يستجيب لنصيحة واحدة، فلما تتكرر عليه النصائح، ولما تتكرر عليه الأساليب، فيجمع هذا مع رصيده السابق، حتى يكون ذلك سبباً في هدايته، فيكون لك أنت دور في هدايته وإن لم تكن أنت السبب المباشر في هدايته، فإنك قد صنعت خطوة على الأقل ولو خطوة محدودة في ذلك.(31/29)
بين حسن الخلق ومجالسة المنحرفين
بقيت نقطة أخيرة أرجو الانتباه لها؛ لأنها أحياناً تكون عائقاً عما قلناه قبل قليل من ضرورة حسن الخلق والبشاشة والطلاقة مع هؤلاء، وأيضاً قد يفهم ما قلناه فهماً سلبياً، فيتجاوز بعض الشباب في ذلك، وهي: بين ترك الجليس وحسن المعاملة: نعلم جميعاً أثر الجليس السيئ، وأن الشاب يجب أن يجتنب هذا الجليس، وأن يحذر منه ولا يجالسه، وندرك جميعاً خطر هذا علينا خاصة في مرحلة الشباب ونحن في مقتبل العمر، وأن الكثير من الشباب الذي ينحرف بعد أن هداه الله قد يكون سبب ذلك أمثال هؤلاء الجلساء.
فحينئذٍ يتساءل بعض الشباب فيقول: هل تريدني أن أجلس مع هؤلاء وأعاشرهم حتى يهديهم الله سبحانه وتعالى، أم غير ذلك؟ أنا أقول: يجب أن نفرق بين قضيتين: بين قضية البشاشة وحسن الخلق والتقدير، وبين قضية الجلوس معهم، فمثلاً: ما الذي يمنع أن تبدأ بالسلام وتبتسم، ثم بعد ذلك تودعه وتنصرف؟ ليس بالضرورة عندما نقول: كن حسن الخلق معه أن تقضي الوقت معه، فهذا زميلك في الفصل أو في المدرسة من هؤلاء وغيرهم عندما تلقاه تبدأه بالسلام وتبش له وتبتسم له وتصافحه، ثم بعد ذلك تودعه.
فلا يعني بالضرورة عندما نطالبك بحسن الخلق أن تقضي وقتك معهم، بل أنا لا أدعو الشباب إلى ذلك، خاصة في هذه المراحل الأولية، فلا أدعو الشاب إلى أن يقضي وقتاً طويلاً مع أمثال هؤلاء، فإنه قد يتأثر من حيث يريد أن يؤثر، يعني: يمكن أن تناصحه، وأن تدعوه مع إخوانك الطيبين إلى مجالات الخير، لكن لا تقضي وقتك معهم، أو لا تذهب وحدك مع هؤلاء فتكون وحيداً، فإنك قد تتأثر بما عند هؤلاء، وقد يستجرك الشيطان بحجة الدعوة والتأثير عليهم خطوة خطوة حتى تقع في فخ هؤلاء، فتصبح بعد ذلك تجالسهم حباً لما عندهم، بل قد ينتقل الأمر بعد ذلك إلى أن تجالسهم حباً لممارسة الشهوات التي يمارسونها.
لذا أرجو أن تفهم هذه القضية جيداً، ففرق بين حسن الخلق والطلاقة والبشاشة، وبين ترك مجالستهم، وأظن أن قضية ترك مجالستهم ومعاشرتهم لا تعني أن تكون مكفهر الوجه، لا تؤدي عليهم السلام، ولا تحسن الخلق معهم، فإن هؤلاء مسلمون، عندهم جوانب خير وجوانب طاعة، ولهم من الولاء -على الأقل- بقدر ما عندهم من الإسلام.
وقد جاء رجل فاستأذن على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: (ائذنوا له بئس أخو العشيرة) فلما دخل هش له صلى الله عليه وسلم وبش، فلما خرج الرجل سألت عائشة رضي الله عنها الرسول صلى الله عليه وسلم عن سبب هذا التغير، فقال صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! شر الناس من ودعه الناس اتقاء فحشه)، والحديث رواه البخاري وغيره.
فهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بئس أخو العشيرة)، ومع ذلك يحسن معاملته والبشاشة له، ففرق بين الأمرين، يحسن معاملته اتقاء فحشه، فمن يحسن معاملة صاحبه رجاء هدايته ورجاء أن يهديه الله على يديه أولى من ذلك، أو -على الأقل- أظن أن هذا الحديث يدلنا على مشروعية حسن الخلق، وحسن معاملة هؤلاء، وإن كان عندهم ما عندهم من الفسوق والعصيان، فنحسن معاملتهم، ونشعرهم بأننا نحبهم، ونحب جوانب الخير فيهم، وإن كنا نكره ما عندهم من المعصية، وإن كان عندنا -لا شك- شعور بقدر من الكره والبراءة مما هم فيه من العصيان، ومع ذلك تبقى قضية الولاء، فهو يقول: لا إله إلا الله، فهو يصلي، ويحب أهل الخير، وعنده جوانب من الخير يجب أن يمنح الحب لأجلها، ومع ذلك قضية حسن المعاملة وحسن الخلق أمر آخر، فأرجو أن يفهم ما قلته حتى لا يلتبس على الإخوة.(31/30)
الأسئلة(31/31)
اقتراح بإضافة درس
السؤال
هذا طلب من أحد الطلاب المحافظين على الدرس يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، اقترح عليك -أيها الشيخ حفظك الله، وأنا مصر على هذا الاقتراح- أن تضيف درساً على درسك يوم الثلاثاء في هديه صلى الله عليه وسلم، وأظن أن يوم السبت مناسب لهذا الدرس إنني مصر على هذا الاقتراح، وأرجو رجاءً حاراً أن تلبيه، وأرجو من المحاضرين أن يوافقوا، ولا أنسى أن أحرضهم على طلب العلم، وهم أعلم مني بذلك، ضع الاقتراح اليوم، وفي الدرس القادم خذ ما يقترحون بعد أن يكتبوه على أوراق، أرجو رجاءً حاراً أن تلبي طلبي، أرجو ذلك؟
الجواب
على كل حال لا شك أن الأخ وغيره من الشباب الذين يحضرون هذا الدرس لهم قدر ومكانة في قلوبنا، وما يطلبه له قيمته، لكن قد لا نستطيع هذا الأمر، فكفانا مئونة أن نقوم بهذا الدرس، ولنفترض أنني أقمت درساً آخر، فأظن أنكم قد تخسرون، فإني عندما يكون لي درسان في الأسبوع قد يقل حضوركم، فلما يكون هناك درس في الأسبوع يكون ذلك أسهل، هذا أمر.
الأمر الثاني: أنه عندما يكون درس واحد يستطيع الأخ أن يتفرغ له، ويعتني بالتحضير والأعداد، بخلاف ما لو كان هناك درسان في الأسبوع، وعلى كل حال -مع تقديري للأخ الكريم- فالاقتراح غير قابل للتنفيذ في هذا الوقت.(31/32)
توجيه لاحتواء من لا يحمل جنسية بلاد الداعية
السؤال
هناك بعض الأجانب يلتزم، ولكن يبحث عن رفقة صالحة فلا يجد أحداً، فما الحل -يا ترى- في ثباتهم على هذا الدين؟
الجواب
هذا المصطلح يجب أن نزيله، حيث يقصد بالأجانب الذين هم ليسوا من هذه البلاد؛ لأن الحدود الجغرافية هذه أمور وضعها الاستعمار، ولا ينبغي أن تؤثر علينا في تقييمنا، وفي موازيننا، وفي محبتنا وكراهيتنا.
أقول: الحل واضح: أن ينظم إلى رفقة صالحة، ولا يجوز أبداً أن نتخلى عن فلان من الناس بحجة أنه ليس من أهل هذه البلاد، فهذا الدين ليس لهم وحدهم، وليسوا هم المكلفين بالدعوة، بل العرب والعجم كلهم سواسية، لا فضل لأحد منهم على آخر إلا بالتقوى.(31/33)
تذكير للشباب الملتزمين بنعمة الهداية
السؤال
سرنا ما ذكرته من إحصائيات عن محبة الشباب المنحرفين الالتزام، وشعورهم بأنه طريق للسعادة، فهل من كلمة لنا نحن -الشباب- بألا نفرط فيما نحن فيه من خير؟
الجواب
نعم، لا شك أنك عندما تعلم أن هؤلاء الذين يعيشون الانحراف منغمسين في الشهوات ضائقون ذرعاً مما هم عليه، وأنهم قد فقدوا السعادة، وأنهم يشعرون ويتمنون أن يسلكوا طريق الالتزام والسعادة، لا شك أن هذا يزيدك ثباتاً، بل قرأت عليكم بعض رسائلهم، فأحدهم يقول: لا تفكر في أن تعود إلى ما كنت عليه سابقاً.
أثبت على ما أنت عليه.
نسأل الله لك الثبات.
فهذا يزيدك -ولا شك- ثباتاً، ويزيدك قناعة بالطريق الذي أنت عليه، وإن كان لا ينقصك القناعة، لكن لماذا تريد أن تتمتع بالشهوات؟! هؤلاء قد متعوا أنفسهم بما شاءوا من الشهوات، وتيسرت لهم أمور قد لا تتيسر لك أنت، ومع ذلك هاهم يندبون حظهم، وهاهم يتمنون أن يسلكوا طريق الاستقامة، بل إن بعضهم يقول: إنني أريد أن أستقيم، وأريد أن التزم، فما الحل؟ يتمنى من كل قلبه أن يسلك طريق الاستقامة، لكن يبحث عن الحل، يعني: عنده شعور بأنه غير قادر على سلوك هذا الطريق، ويتمنى أن يتيسر له أن يسلك طريق الاستقامة وطريق الخير.
فإذا كان هؤلاء -يا أخي- الذين انغمسوا في الشهوات وذاقوا لذتها قد عرفوا مرارة الطريق؛ فهذا -أيضاً- يزيدك ثباتاً، ويزيدك شعوراً بأن ما أنت عليه خير، يجب أن تعض عليه بالنواجذ، ولا تفرط فيه.(31/34)
حال من اهتدى ثم عاد إلى الانحراف
السؤال
هل هذه النقاط والجوانب المضيئة تنطبق على من التزم وضل الطريق؟
الجواب
يقصد: هل الذين انحرفوا بعد أن هداهم الله عز وجل يشعرون بهذه المشاعر؟ هذه القضية ما عندي بها نتائج دقيقة؛ لأننا لا نفرق، فنحن وزعنا الاستمارات على أشخاص غير مستقيمين أو غير ملتزمين، وعندما جاءتنا الإجابة استبعدنا الاستمارات التي اكتشفنا أن الذين أجابوا عليها عندهم قدر من الاستقامة؛ حتى تكون النتائج دقيقة أكثر.
قد يكون غير الملتزم فعلاً قد مرت عليه تجربة، بل إن بعضهم قد أشار إلى ذلك، يعني: قد يكون سلك طريق الهداية، ثم انحرف، وقد لا يكون كذلك، لكن -على كل حال- لا شك أيضاً أن غالب هؤلاء يتمنى أن يعود إلى ما كان عليه، بل إن الكثير ممن تحدثت معهم ممن منَّ الله عليه بسلوك طريق الاستقامة، ثم انحرف بعد ذلك، عندما أوجه له هذا
السؤال
كيف ترى حالك الآن، وحالك قبل؟ هل تتمنى أن تعود إلى ما كنت عليه؟ هل أنت راضٍ عن حالك الآن؟ أجد أن الإجابات جميعاً تؤيد ما نقوله.(31/35)
طريق الوصول إلى قلوب المنحرفين لدعوتهم
السؤال
عرفنا كل ذلك، ولكن كيف نبدأ معهم، وكيف نصل إلى قلوبهم؟
الجواب
لا شك أن ما أشرنا إليه من حسن الخلق، والتأسي بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، لا شك أنه مما يوصلنا إلى قلوب هؤلاء، أن نشعر هؤلاء بأنا نريد الخير لهم، ونحب الخير لهم، وأيضاً أساليب الهدية، والتقدير والتوقيع وغيرها، فتشعر هؤلاء بالمحبة والتقدير، ثم بعد ذلك الدور الأساس والمهم: النصيحة والموعظة، ودعوتهم إلى اجتماعات الأخيار، ودعوتهم إلى مجالس الناس الخيرين، لا شك أن لذلك دوراً كبيراً في هدايتهم وجلبهم إلى طريق الخير والاستقامة.(31/36)
توجيه للشباب المتكبرين عن مجال المنحرفين
السؤال
بعض الشباب الملتزمين لا يكلم هؤلاء الشباب، ولا يضحك معهم، فما رأيك -يا شيخ- في هؤلاء، هل هم على الصواب أم على الخطأ، ثم ما نصيحتك لهؤلاء الملتزمين؟
الجواب
قضية الضحك معهم شيء آخر، فرق بين الابتسامة وحسن الخلق، وبين المضاحكة، فعندما ندعو الشاب المستقيم إلى أن يبتسم لهؤلاء، وأن يحسن الخلق، لا ندعوه بعد ذلك إلى أن ينزل عن الوقار الذي منحه الله إياه، فيصبح إنساناً هازلاً، إنساناً يشارك هؤلاء في هزلهم، بل هذا يسقط قيمتك، يجب أن تكون متميزاً عندهم، فمع حسن الخلق والابتسامة واللطافة تشعرهم بأنك رجل جاد، عندك قدر من الجدية ليس عندهم، لا يسوغ أن تشاركهم في كل ما هم عليه ولو لم يكن محرماً، ولا أن تشاركهم في أحاديثهم، أو أن تنزل إلى القدر الذي ينزلون إليه؛ لأن هذا يزيل وقارك، ويزيل هيبتك، هذه قضية.
القضية الثانية: بعض الذين أجابوا بتلك الإجابات أفادوا أن بعض الملتزمين ينظرون نظرة استكبار إلى هؤلاء، وبعضهم أفادوا أن بعض الملتزمين عنده سوء خلق، المهم أنه تنوعت -أيضاً- الإجابات التي تدل على تضايقهم من هذا السلوك وهذا الأمر.
وبعضهم يعتذر عندما نقول له: لم لا تسلك طريق الاستقامة؟ يقول: إنني لا أجد في الملتزمين حسن الخلق، ولا أجد فيهم القدوة، وعلى كل حال ليس الأكثر هؤلاء، وإن كان عددهم كثيراً، لكنهم بالنسبة إلى أولئك الذين أبدوا المشاعر الطيبة يعتبرون قلة ولا شك.
ولكن مع ذلك ينطلقون من بعض السلبيات التي نقع فيها: من النظرة السيئة، فبعض الشباب الذي عنده استقامة وخير ينظر إلى هؤلاء من علو، وينظر إلى هؤلاء وكأنه أعلى منهم منزلة، فيا أخي! أعرف نعمة الله سبحانه وتعالى عليك بالهداية، واعلم أن هذه الهداية التي أنت عليها وهذه الاستقامة ليست من كدك، ولا من كد أبيك، ولا من جهدك، بل هي توفيق الله سبحانه وتعالى، فلو شاء ربك كنت أيضاً مثلهم، فالقلب بين أصابع الرحمن.(31/37)
دور التبرعات لشراء وسائل الهداية
السؤال
اقترح أن يكون هناك جمع تبرعات نقوم بها لعدد من المشاريع كتوزيع شريط، وتوزيع بعض الكتيبات المناسبة للشباب؟
الجواب
هذا اقتراح وجيه، وأدعو الشباب إلى أن يستعملوا هذه الأساليب فيما بينهم، مثلاً: الشباب في الحي، في مدرسة، في جمعية، أي جامع يجمعهم ما الذي يمنع أن يدفع أحدهم كل شهر عشرة ريالات أو أكثر أو أقل، ويشتروا به كتيبات وأشرطة، ثم يقوموا بتوزيعها على أمثال هؤلاء، فعندما يكون الجهد منظماً ومستمراً -ولو كان قليلاً- لا شك أنه يثمر ثمرة كبيرة، فأحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل.
فأنا أؤيد أيضاً، وأضم صوتي إلى صوت الأخ صاحب هذا الاقتراح، فأقول: هذا اقتراح وجيه وطيب، ويجب أن نتعاون جميعاً، ولو كان الأمر يسيراً لا تحتقره، بعض الناس يقول: إما أن أتبرع بخمسين ريالاً أو مائة ريال وإما لا أتبرع، لا، هذا غير صحيح.
فلو كنا عشرين شاباً -مثلاً- عندنا مناسبة نلتقي بها كل أسبوع أو كل شهر، فاتفقنا على أن كل واحد منا -مثلاً- يدفع عشرين ريالاً في الشهر، فكم سنجمع؟ سنجمع في الشهر أربعمائة ريال، وإذا اتفقنا مع أحد أصحاب التسجيلات، أو الناس الذين ينسخون أشرطة، فينسخ لنا الشريط بريالين، أو بثلاثة ريالات، أو بأقل أو أكثر، فنستطيع أن ننسخ كمية من هذه الأشرطة، أو نشتري بعض الكتيبات، ونساهم في توزيعها على هؤلاء أو غيرهم؛ فيكتب الله لنا بها الخير الكثير، خاصة عندما نضع برنامجاً مستمراً، فالأشياء الوقتية تنقطع، لكن لو وضعنا برنامجاً مستمراً -ولو كان يسير- سيثمر بعد ذلك، ويكون له آثار كثيرة لا نتصورها، يعني: لو كنت -مثلاً- تدفع كل شهر عشرين ريالاً، ستجد أنك دفعت في السنة مائتين وأربعين ريالاً، ولو قلنا لك في سنة واحدة: ادفع مائتين وأربعين فقد تشعر بأن هذا المبلغ كثير، أو قد لا تطيق أصلاً أن تدفع هذا المبلغ جملة واحدة.(31/38)
الموقف من أذية المنحرفين
السؤال
بعض الشباب المنحرفين يسبوا الملتزمين، فما نصيحتنا لهم، أفيدونا بارك الله فيكم، وأثابكم الله؟
الجواب
لابد أن تجد نوعيات شاذة، الغالب أن من يجد حسن خلق منهم وعفواً لا يمارس السخرية، لكن ستجد من يمارس السوقيات، وستجد من يسب، كما وجد ذلك الأنبياء قبلك، {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود:91]، {كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات:52]، {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، واقرءوا كتاب الله سبحانه وتعالى، واقرءوا قصص الأنبياء؛ لتجدوا فيها الكثير من تلك المواقف من مواقف السخرية والاستهزاء التي ووجه بها أنبياء الله عليهم أفضل الصلاة والسلام، فأنتم لستم خيراً من أنبياء الله، فماذا تنتظرون بعد ذلك؟ فأقول: يجب أن نتحمل ما نواجه به من سخرية واستهزاء وسب ومضايقة وأذى، بل إن الله سبحانه وتعالى يقول: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
فمجرد الإيمان يعرض الإنسان لأن يفتن، فكيف بعد ذلك بما هو بعد الإيمان من الدعوة، وتسخير الجهد لله عز وجل؟! فهل تريد أن تكون داعية ينفع الله على يديك، ويهدي الله سبحانه وتعالى على يديك الناس دون أن تواجه أذى ومضايقة؟ كثيراً ما نردد ونتمثل بأبيات أو بعبارات تدل على أن لدينا استعداداً للتضحية، ولدينا استعداداً لبذل أموالنا، ولبذل نفوسنا، فما بالنا الآن لا نتحمل مثل هذه الكلمات اليسيرة، أو المضايقات اليسيرة؟! يجب أن نصبر، ونحسن الخلق، ولا نجزي السيئة بالسيئة، فقد كان هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يجزي السيئة بالسيئة، ولو أنك عندما يوجه لك سخرية واستهزاء تقابلها بابتسامة وإعراض، فحينئذٍ لابد أن يتغير موقف هذا الشخص على أقل الأحوال، أو ينتهي الأمر.
افترض أنه سبك وسخر منك، ثم أنت سببته، فازداد الغضب عنده وسبك، ثم أنت أيضاً كذلك، ما النتيجة؟ ماذا حصل؟ ما حصل شيء، سببته وسببت والديه، وسببت قبيلته، وسببت كل الناس من حوله، فما النتيجة التي تجنيها؟ ما حصلت على شيء، هذا عمل السفهاء، السب والسخرية عمل السفهاء، والرجل يمدح بالحلم، وكان العرب في الجاهلية قبل الإسلام يمتدحون بالحلم.
حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت حبى الشيب للنفس اللجوج غلوب المهم أن العرب السابقين قبل الإسلام، وقبل أخلاق النبوة، وقبل القرآن كانوا يمتدحون بالحلم وبالصبر، وأنهم لا يجزون السيئة بالسيئة، فكيف بعد ذلك بمن منَّ الله عليهم بالقرآن، وبأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم؟! لا شك أنهم أولى بأن يكونوا أكثر حلماً وصبراً.(31/39)
تفاوت درجات أجر الدعاة
السؤال
من المعلوم أن من يهتدي على يديك فلك أجره وأجر من تبعه، فهل إذا اهتدى على يديك شخص في قاع الانحطاط في الفساد يختلف أجره عن شخص آخر فساده أقل؟
الجواب
قضية الأجر والحسنات الأمر فيها نسبي، والأمر فيها لله سبحانه وتعالى، فقد يستوي العمل ويختلف الأجر، فالرجل ينصرف من صلاته ما كتب له إلا نصفها، ربعها، سدسها، فمثلاً: رجلان يصليان متجاورين، فهذا صلاته قد كتبت له تامة كاملة، وهذا صلاته لم يكتب له إلا عشرها، وهذا صلاته قد ردت عليه وضرب بها وجهه، بل الإنسان نفسه قد يصلي هذه الصلاة، ثم يصلي صلاة أخرى وبينهما كما بين الشمس والمغرب.
فهناك فرق بين شخص جاء ووجد إنساناً منحرفاً وأعطاه شريطاً وسمعه وهداه الله على يديه، وبين إنسان بذل معه كثيراً، ونصحه، وجاهد معه، وبذل حتى هداه الله على يديه، فكلاهما وصل إلى نتيجة واحدة، لكن فرق بين هذا العمل وبين ذاك، وفرق بين من جاء بالعمل هكذا دون مبالاة، وبين من دفعه الإخلاص والحرص، وطلب مرضاة الله سبحانه وتعالى.
فأقول: أمر الأجور والحسنات هذا أمر عام، إذا هدى الله على يديك إنساناً فلك مثل أجره، لكن بعد ذلك تبقى القضايا الجزئية أمرها عند الله عز وجل، ما أحد يستطيع أن يعرف أبداً كم أخذ من الحسنات؟ وكم ناله من السيئات؟ بل -يا أخي- قد تبذل جهداً مع شخص ويهديه الله سبحانه وتعالى، وتبذل جهوداً أخرى أكثر مع شخص ولا يهديه الله عز وجل، فهل يعني هذا أن جهدك يضيع سدى؟ وافترض أن إنساناً -مثلاً- بذل جهوداً كثيرة ولم يوفق أبداً، ولم يهد الله على يديه أحداً، كحال ذاك النبي الذي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد، فهل يذهب جهده سدى؟ هل يذهب أجره سدى؟(31/40)
بيان نتائج واقعية من اللقاء بالشباب المنحرفين وتوجيه لدعوتهم
السؤال
علمنا أنك قد خرجت في الأسبوع الماضي إلى الأرصفة؛ لتلتقي بالشباب، فنرجو منكم -يا فضيلة الشيخ- أن تعطينا نتائج هذا الخروج، وهل لقيتم ما يسركم أم لا، وهل تنصح بالخروج إلى شباب الأرصفة للشباب الذين هم في بداية طريق الالتزام أم لا؟
الجواب
كان لقاؤنا معهم خاصاً حول هذا الموضوع، ما كان لأجل مناصحة وتوجيه، إنما كان لنقاشهم هل هم مقتنعون بما هم عليه؟ وما الذي يمنعهم من سلوك طريق الاستقامة والالتزام؟ وأشرت إلى بعض نتائج هذه الحوارات الشفوية التي أجريناها معهم في محاضرة لاحقة.
ولا شك أنا لقينا ما يسرنا ترحيب وتقدير وشكر، بل لقينا تجاوباً، وألحوا علينا، قالوا: اسألوا ما عندكم، وما تريدون، ووجدنا أن الأكثر منهم يجيبنا بصراحة تامة، وعرفنا الكثير من واقعهم، وما يدور فيهم، أما النصح بالذهاب إليهم فلا شك أننا ننصح الشباب بأن يذهبوا إلى هؤلاء ويناصحوهم، ويحسنوا معاملتهم، ويعطوهم كلمة طيبة، فكثيراً ما يهتدي أحد هؤلاء بمجرد سماع النصيحة.
أما الشاب الذي في بداية الالتزام، أو هو حديث عهد بالالتزام؛ فله مجال آخر، لا أنصح أمثال هؤلاء قبل أن يثبت ويستقر بأن يبادر بالذهاب إلى أمثال هؤلاء، فقد يتأثر، وقد يحن إلى الماضي الذي كان عليه، فبإمكانك -مثلاً- أن تلقي عليهم السلام، وتجلس معهم قليلاً بالكلمة الطيبة، ثم توجه لهم كلمة في خمس دقائق أو عشر دقائق، وأن تعطي لهم شريطاً وكتاباً.
بل إن هؤلاء اعتادوا، فقالوا لنا: إنا كثيراً ما يأتينا بعض الشباب وينصحنا، ونقدر نحن هذه النصيحة، وهذا هو الشعور عند هؤلاء الشباب، ويجب أن نتعاون جميعاً ونركز جهودنا، لكن القضية التي أؤكد عليها للأخوة: هي زميلك في الدراسة؛ لأنه يجلس معك دائماً، وبصفة دائمة تقابله وتلقاه، وتستطيع أن تتابع بعد ذلك معه المناصحة والجهد، وهذا لا يعني إهمال هؤلاء.(31/41)
تعليق على خبر منشور
السؤال
هذا خبر منشور في جريدة الشرق الأوسط يقول: بيبسي كولا تلغي حملة إعلانية بضغط من المتشددين اليهود: اضطرت شركة بيبسي كولا إلى وقف حملة إعلانية كبيرة؛ بسبب احتجاج المتشددين اليهود على استخدام الإعلان لنظرية داروين في التطور، وتهديد محكمة دينية بالدعوة إلى مقاطعة المشروب في حال الاستمرار في عرض الإعلان، وجاءت هذه النكسة الإعلانية بعد أيام من عودة الشركة الأمريكية العملاقة إلى السوق الإسرائيلية؛ لتتحدى منافستها الرئيسية شركة كوكا كولا، وكانت بيبسي قد خرجت من السوق الإسرائيلية في الستينات بخطوة اعتبرتها الأوساط الإسرائيلية رضوخاً لأحكام المقاطعة العربية، أما كوكا كولا التي رفضت تنفيذ قرارات المقاطعة؛ فقد وضعت يومها على اللائحة السوداء، إلا أن الدول العربية عادت ورفعت الحظر عنها بصورة تدريجية في السنوات الثلاث الماضية؟
الجواب
هذا الخبر الطويل لا يعنينا، لكن هذا موقف اليهود، إذا كان اليهود يقفون هذا الموقف من شركة أساءت إليهم، فما موقفنا نحن من هذه الشركة نفسها التي أساءت إلينا بمثل هذه الأكاديمية الرياضية؟! وقد قرأنا في محاضرة الأحد فتوى لفضيلة الشيخ ابن عثيمين حفظه الله بتحريم المشاركة في مثل هذا اللقاء، فيعجبني ما سمعت أن بعض المدارس أعلنت مقاطعة الشركة، وقالوا: لا نريد منكم شيئاً من منتجاتكم، لا هذا العام، ولا الأعوام التي تليه، وسلموا لهم الثلاجات التي اعتادت الشركة أن تضعها عند هؤلاء، وقالوا: خذوا ثلاجاتكم ولسنا بحاجة إليها.
أظن أننا لن تصيبنا الأمراض، ولن نصاب بقلق عندما نستغني عن شرب المشروبات التي تنتجها هذه الشركة وغيرها، ولو استعملنا هذا الأسلوب لنجحنا أكثر، فما قدرة اليهود على التأثير على سوق البيبسي كولا؟! كم عدد اليهود الذين في إسرائيل؟! بل إن منطقة الخليج ومنطقتنا من أكثر المناطق استهلاكاً لمثل هذه المنتجات، فلو وجدوا مقاطعة من أصحاب المحلات ومنا نحن؛ لرضخوا لما نريد بعد ذلك، وما استطاعوا أن يتجرءوا على مثل هذه المخالفات.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يجنبنا وإياكم أسباب سخطه.(31/42)
آفات النجباء
إن كل أمة على وجه الأرض لا تقاد إلا بنجبائها، ولا تتقدم إلا بالموهوبين من أبنائها، فمتى ما وجد الرجل النجيب في بيئة معينة أو وسط ما فإنه لا يقول قولاً -سواء كان حقاً أو باطلاً- إلا ويهب الآلاف من البشر للعمل بقوله، واتخاذه منهجاً لحياتهم.
وكما أن لكل خصلة آفات ولكل صفة سلبيات، فإن النجابة لا تخلو من هذا وذاك.(32/1)
دعوة إلى التواضع والإخلاص في العمل الدعوي
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: ففي بداية هذا اللقاء أشكر الإخوة في المكتب التعاوني للدعوة وتوعية الجاليات بشقراء على إتاحة هذه الفرصة، وعلى حسن ظنهم ودعوتهم لي، ولكني أعتب كثيراً على أخي الذي قدم فأثنى علي ثناء أعلم من نفسي دون مبالغة ودون تواضع أني لا أستحق جزءاً منه.
ونحن في الحقيقة أيها الإخوة -وأقولها بكل صراحة- أحوج إلى أن نوصى بالتواضع، ونحن أحوج إلى أن ننهى ونحذر كثيراً من العجب والرياء عافانا الله وإياكم، فإن تصدر المرء لهذه المنابر مدعاة لأن يدخل الإعجاب إلى نفسه، وأن يعجب بعلمه، وهو لا يحصل ولا يدرك إلا أقل من القليل، ويعلم الله عز وجل أنه لولا شعورنا بالحاجة والأمانة لكان هذا الأمر -أعني خوف العجب والظهور عند الناس بمظهر لا نستحقه- عائقاً لنا، ولكنا نعلم أن هذا ليس عائقاً شرعياً، وأنه لا يجوز للمرء أن يتأخر أو يتوانى في أن يقول علماً علمه، أو ينشر خيراً رآه، أو يساهم في دفع مسيرة الصحوة بحجة أنه يخشى من الإعجاب والرياء، فإن أملنا بالله سبحانه وتعالى، وظننا بالله عز وجل -نسأل الله سبحانه وتعالى أن نكون ممن يحسن الظن به- أن يعيننا على أنفسنا.
إنني أقول أيها الإخوة: إننا أحوج إلى أن نوصى بأن نعرف قدر أنفسنا أكثر من حاجتنا إلى الثناء، وخاصة أيضاً الحديث عن الإخلاص وعن المساهمة في أمور الدعوة، فهي أمور أظن أنها من قضايا الغيب مما لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولكني لا أملك إلا أن أقول: نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما أعمل خالصاً لوجهه، وأن يجعلني خيراً مما يظن أخي، وأن يكتب لي ما لا يعلم.
بين يدي هذا الموضوع مدخل، ثم بعد ذلك العنصر الثاني: حاجتنا إلى النجباء، ثم آفات النجباء، وأخيراً: حتى لا نظلم النجباء.(32/2)
من هم النجباء وما واجبنا تجاههم؟
نحن حينما نتكلم عن النجباء فإننا نعني بهم الذين يملكون قدرات خاصة، وطاقات خاصة من النبوغ والذكاء، أو قوة الشخصية، أو تحمل المسئولية، أو هو ما يسمى في مصطلح علم النفس المعاصر بالموهوب والمتفوق، ونحن نعيش ولله الحمد صحوة مباركة، ونعيش بداية شعور الأمة بانتمائها للإسلام وولائها للإسلام، وقد سارت هذه الصحوة ولن تتوقف بمشيئة الله تعالى، ولكننا بحاجة إلى بذل الجهد، وبذل العمل والوقت، وبالإضافة إلى ذلك نحن بحاجة إلى أن ندرس قضايانا، وأن نربي هذا الجيل الذي ينتمي إلى الصحوة تربية ناضجة، وأن نحرص قدر الإمكان أن نستغل الطاقات والمواهب ونوجهها الوجهة التي تجعلها بإذن الله قائدة ورائدة لهذه الصحوة، وأحسب أن هذا من تقوى الله سبحانه وتعالى، فإن الله عز وجل قال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فنحن نستطيع أن نخطط، ونستطيع أن ننظر إلى المستقبل بنظرة فاحصة، ونستطيع أن نتجاوز السطحية ونتجاوز العجلة والتخبط الذي كثيراً ما تتسم به أعمالنا وللأسف، فنستطيع أن نملك قدراً من العمق والبعد في عملنا وفي نظرتنا للمستقبل وفي اكتشافنا لأخطائنا وفي معالجتنا لها، وفي نظرنا إلى قضايا الصحوة جملة، والله سبحانه وتعالى قد أمرنا أن نتقيه بما نستطيع، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)، ونحسب أيضاً أن هذا من إتقان العمل.
إننا أيها الإخوة نتحمل مسئولية عظيمة تجاه الجيل اللاحق، وهؤلاء الشباب الذين أصبحوا يسيرون في هذا التيار لم تعد القضية مسئولية تربيتهم وحدهم، وليست القضية حمايتهم وحدهم، بل إن إعداد هؤلاء الشباب والعناية بهم إنما هو في الحقيقة إعداد للجيل اللاحق، هؤلاء الشباب هم في المستقبل قادة الجيل، منهم المفكرون منهم العلماء منهم قادة الأمة، فنحن حين ندعو إلى تحمل المسئولية التربوية، وحين ندعو إلى العمق في التربية، إلى إدراك المسئولية تجاه هؤلاء الشباب فإننا لا ندعو إلى تحمل المسئولية تجاه هؤلاء الشباب لذواتهم -وإن كانوا يستحقون، وإن كان الفرد المسلم يستحق حتى ينهى عن منكر، وحتى ينقل للهداية أن يبذل له الجهد الكثير- ولكن القضية أبعد من هذا كله، إنها مسئولية إعادة صياغة الجيل، ومسئولية إعادة بناء المجتمعات الإسلامية التي تعاني من الخلل، فنحن عندما نعد هذا الجيل ونربيه التربية الصحيحة السليمة فإننا حينئذ نساهم بطريقة مباشرة في إعداد وتصحيح الجيل اللاحق.
إن أي جيل لا بد أن يكون له قادة، ولا بد أن يكون له موجهون، وهؤلاء القادة إما أن يكونوا من العلماء المخلصين والدعاة والمفكرين الناضجين، وإما أن يكونوا من علماء السوء وعلماء السلطة، وإما أن يكونوا من المنافقين، وإما أن يكونوا من الأدباء الساقطين، وإما أن يكونوا من أي طبقة تعتلي عرش الشهرة وتتبوأ مراكز التوجيه وهي لا تستحقها، فلا بد أن يكون للمجتمع قادة، ولا بد أن يكون للمجتمع موجهون، ونحن الآن نستطيع أن نملك زمام المبادرة، فنعد هذا الجيل الذي نؤمل أن يقود المجتمع في المستقبل بإذن الله وهو قادر على ذلك، ونحن وحدنا معشر جيل الصحوة القادرون على صنع القادة؛ لأننا نملك الرصيد، ونملك ما تحتاج إليه المجتمعات الإسلامية وتفتقر إليه، فالشعارات العلمانية، والشعارات الأرضية قد أفلست، والأمة الإسلامية قد تجرعت الهزائم والويلات من هؤلاء، وأصبحت تتطلع إلى الإسلام ليقودها، وليحل لها مشاكلها، وليعيدها إلى مكانها الطبيعي.
ونحن هنا نملك المنهج، ونملك ما تتطلع إليه الأمة، ولكن هذا كله مربوط بإعداد الجيل الذي يكون عند مستوى تحمل المسئولية، إن مجرد التزام الإنسان بالإسلام، ووجود قدر من العاطفة مع ذلك، يضاف إليه قدر من الفصاحة والبلاغة يصدره المنابر ليس وحده هو المؤهل للقيادة، وليس وحده هو المؤهل لتحمل أمانة ومسئولية المجتمع.
ونحن حين نتحدث عن موضوع النجباء والعناية بهم، فلسنا نتحدث حديث المختصين في علم النفس، وحين يتحدث المرء في غير فنه -كما يقال- يأتي بالعجائب، فلست من المختصين بل لست من العارفين بهذا العلم وما يعنيه، فحينئذ لست أعني في حديثي ما يعنيه علماء النفس بالموهوبين بمعنى أوسع، إنما أعني فئة خاصة، أعني أولئك الشباب المستجيبين لتيار الصحوة، والذين يملكون قدراً من النبوغ، والذين يملكون قدراً من قوة الشخصية، والذين يملكون مؤهلات -أياً كانت هذه المؤهلات- تؤهلهم أن يساهموا في قيادة المجتمع ويساهموا في بناء الأمة، فإننا في واقعنا نظلم هؤلاء كثيراً، ونعطل هذه الطاقات كثيراً، ومن هنا كنا بحاجة إلى أن ندرس حالنا مع هؤلاء حتى نستفيد منهم.(32/3)
حاجتنا إلى النجباء(32/4)
تمايز الناس واختلاف إمكاناتهم ومؤهلاتهم
أولاً: من سنة الله سبحانه وتعالى أن تختلف معادن الناس، فالله عز وجل جعلنا خلائف الأرض، ورفع بعضنا فوق بعض درجات: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [الأنعام:165]، رفع الله سبحانه وتعالى الناس فوق بعض درجات في التقوى في العلم في الصلاح في المؤهلات الدنيوية: في العقل في الذكاء في قوة الشخصية في القدرة على القيادة في كافة ما يتميز به الإنسان عن أخيه الإنسان، بل إن حياة الناس لا تستقيم أصلاً إلا بهذا الأمر، ولهذا أخبر الله سبحانه وتعالى أن من حكمة رفعه بعضنا على بعض درجات أن يتخذ بعضهم بعضاً سخرياً، أن يسخر بعضهم لبعض.
ويصور لنا النبي صلى الله عليه وسلم اختلاف الناس في تمثيل بليغ رائع، قيل له: (من خير الناس؟ قال: أتقاهم، قيل: ليس عن هذا نسألك، قال: نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله -يعني: يوسف عليه السلام- قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: فعن معادن العرب تسألونني؟ الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا).
إذاً: فيشبه النبي صلى الله عليه وسلم الناس بالمعادن، بعضهم كالذهب، وبعضهم كالفضة، وبعضهم كالمعادن التي هي دون ذلك، ولكن أيضاً المعادن الأخرى التي دون الذهب والفضة لها دور لا بد أن تؤديه ولا يمكن أن يستغني الناس عنه، ومهما بلغنا في التربية، ومهما ارتفع مستوى التربية التي يتلقاها الإنسان فإنها لا يمكن أن تصل إلى أن تحول المعدن من حديد إلى ذهب، ولا يمكن أيضاً أن تحول الحديد إلى فضة، ولا يمكن أن تحول الفضة إلى ذهب، فيبقى بعد ذلك معدن الإنسان؛ ولهذا يقول صلى الله عليه وسلم في الجملة الثانية من الحديث: (خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، أي: أولئك الذين كانوا يملكون مقومات عالية في الجاهلية إذا هداهم الله عز وجل ووفقهم للإسلام سيكونون خيار الناس؛ نظراً لأنهم يملكون مقومات فهم، ويملكون قدراً من الذكاء، ويملكون قدراً من قوة الشخصية، ويملكون قدراً من قيادة المجتمعات وتوجيهها، ولكن هؤلاء إن بقوا في الجاهلية فسيبقون شراراً لا خير فيهم ما لم يدخلوا في دين الله سبحانه وتعالى.
إذاً: فمن القضايا التي يتفق عليها ويدركها العقلاء أن الناس يتفاوتون، فمنهم النابغ ومنهم الذكي ومنهم دون ذلك، ومنهم من هو كما قال الأول: والناس ألف منهم كواحد وواحد كالألف إن أمر عنى الذين يقودون البشرية ويقودون المجتمعات هم بشر صحيح، ولكنهم على الأقل يملكون مؤهلات خاصة تؤهلهم لهذا الأمر، وهذه قضية -كما قلت- يدركها العقلاء، وهي قضية جاءت في كتاب الله سبحانه وتعالى وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: (مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا، وكان منها أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به).
وأيضاً دل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: {أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} [الرعد:17]، الماء الذي نزل من السماء واحد، ولكن الأودية تحتمل من الماء وتحتمل من هذا السيل بقدر ما تتسع إليه، فهذا واد يحتمل الشيء الكثير، وهذا لا يحتمل إلا القليل، ومثل ذلك ينطبق على الناس فتظهر فيهم الاستفادة على حسب ما في القلوب من استعداد وتوجه وإخلاص وتجرد من الشوائب، ولهذا يقول أيضاً صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه).
على كل حال لا أريد أن أطيل في هذه القضية التي -كما قلنا- يتفق عليها الجميع، لكن أقول: إذا كان من طبيعة الناس أنهم يتفاوتون وأن فيهم أصحاب القدرات العالية وفيهم من هم دون ذلك، فلا بد أن نعتني نحن بأولئك الذين ما خلقهم الله يملكون قدرات عالية إلا لحكمة يريدها سبحانه وتعالى، حتى يتأهلوا لقيادة البشرية، فإما أن يقودوا البشرية إلى الدمار والهلاك، وإما أن يقودوا البشرية إلى الصلاح والخير والاستقامة.(32/5)
النبي كان يصنف أصحابه حسب مؤهلاتهم وإمكاناتهم
ثانياً: عندما نقرأ في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نجده يولي الأمر عناية فائقة، بدءاً بقوله صلى الله عليه وسلم: (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا)، وحينما نتأمل سيرته صلى الله عليه وسلم نجده أنه صلى الله عليه وسلم كان حريصاً على أن يدعو أقواماً إلى الإسلام، ويسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام برجل مثل عمر بن الخطاب أو من في طبقته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم أن مثل عمر رضي الله عنه يحمل مؤهلات عالية لو هداه الله عز وجل للإسلام لنفع الله سبحانه وتعالى به، ولكان فيه الخير الكثير، وفعلاً ذاك الرجل الذي كان جباراً في الجاهلية، ذاك الرجل الذي كان يخشى المسلمون ويفرقون من بطشه وكيده، ذاك الرجل الذي كان يعيش في الجاهلية مرحلة من التخلف والضلال كما حكى عن نفسه، بعد أن مَنَّ الله سبحانه وتعالى عليه بالهداية ونوَّر الله بهذا الإيمان قلبه وبصيرته، أصبح لا يراه الشيطان سالكاً فجاً إلا سلك فجاً آخر، وأصبح فاروقاً يفرق بين الحق والباطل، وقاد هذه الأمة، وهو الذي أطفأ الله على يديه نار المجوسية ووثنيتها وقضى عليها، هو الذي خلف صاحب وخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكثيراً ما كان يقول صلى الله عليه وسلم: (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر).
ومصعب بن عمير رضي الله عنه يذهب إلى المدينة فيكون مع أسيد بن حضير، فيأتيه سعد بن معاذ رضي الله عنه وهو لما يسلم بعد، فيقول له أسيد: اتق الله فيه، فهذا رجل إن تبعك لم يتخلف من قومه أحد، فيتقي مصعب الله سبحانه وتعالى ويدخل سعد رضي الله عنه في الإسلام على يد مصعب بن عمير، فماذا كان من سعد بن معاذ؟ كم كان عمر سعد بن معاذ في الإسلام؟ إن سعد بن معاذ قتل بعد غزوة الأحزاب في بني قريظة، فعمره لم يتجاوز ست سنوات في هذا الدين، ومع ذلك كانت له المواقف المحمودة، لقد أطار الله بحكمه رءوس كثير من صناديد الكفر، {أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا} [المائدة:82]، سعد بن معاذ هو الذي حكم ذلك الحكم الجليل الذي قال فيه صلى الله عليه وسلم: (حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات)، سعد بن معاذ رضي الله عنه هو الذي قاد قومه وكانت له المواقف المشهودة في السيرة، حتى لما مات اهتز له عرش الرحمن، وهنا فعلاً كان ما قاله أسيد حق: هذا رجل إن تبعك لم يتخلف من قومه أحد، وعندما دخل في الإسلام فعلاً دخل قومه جميعاً في الإسلام، فهو رجل يملك مؤهلات خاصة، رجل من خيار معادن الناس، وكم من رجل دخل في الإسلام ولكنه لم يبل فيه مثل بلاء سعد بن معاذ رضي الله عنه.
على كل حال لسنا بحاجة إلى الاستطراد في ذكر أحداث السيرة، ولكنا عندما نعود بالذاكرة إلى ما نحفظه من أحداث سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد هذا أمراً واضحاً في سيرته صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتني بأمثال هؤلاء؛ لأنه يعرف صلى الله عليه وسلم أن هؤلاء هم الذين ستقوم بهم الأمة.
فهل من قبيل المصادفة مثلاً أن يكون أبو بكر رضي الله عنه هو جليس رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي يقول صلى الله عليه وسلم فيه: (لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن)، وهو الذي كان كثيراً ما يقول صلى الله عليه وسلم فيه: (ذهبت أنا وأبو بكر وعمر، وأتيت أنا وأبو بكر وعمر)، هل كان من قبيل المصادفة أن يكون هؤلاء هم جلساء النبي صلى الله عليه وسلم، أم أن أولئك كانوا قوماً اختارهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم، وهم يملكون مؤهلات خاصة تؤهلهم لأن يقوم الإسلام بعد ذلك على أيديهم؟ وعندما توفي النبي صلى الله عليه وسلم وارتدت قبائل العرب ظهر أثر هذه التربية، وظهر أثر معادن الناس في موقف أبي بكر، ومن ثم بعد ذلك في موقف عمر رضي الله عنه الذي ساهم في نشر الإسلام وتثبيت قواعده، ثم سائر الخلفاء الراشدين وكبار الصحابة رضوان الله عليهم.(32/6)
النجباء والموهوبون هم أقل القليل في أي مجتمع
ثالثاً: أنهم نوادر في كل مجتمع، فليس الجميع كذلك، فتقول مثلاً بعض الدراسات النفسية: أن نسبة الموهوبين لا تتجاوز (1%) من المجتمع، على كل حال لا تعنينا هذه النسبة صحت أو لم تصح، قلَّت أو كثرت، ولكننا ندرك جميعاً أن هؤلاء النجباء هم قلة في المجتمع أصلاً، ثم المنتمي منهم إلى جيل الصحوة سيكونون أيضاً قلة، فوجودهم في المجتمع أصلاً قلة، وإذا لم نكسبهم لينظموا إلى جيل الصحوة -مع قلتهم- فقد تتحول قدرتهم وموهبتهم للإجرام، فيصير الرجل منهم قائد عصابة تفتك وتقطع الطريق، ويسخر عقله وطاقته لحرب الله ورسوله، وقد يكون الرجل منهم صاحب فكر منحرف فيسخر فكره وطاقته وقدرته لمواجهة دين الله سبحانه وتعالى، وقد يكون صاحب شهوة وصاحب هوى فيسخر ما عنده لأن يحقق الشهرة لنفسه، أو أن يساهم في تحقيق الشهرة لفلان أو فلان من الناس.
فإذا كان هؤلاء قلة في المجتمع أصلاً، فالذي يستجيب منهم لنداء الصحوة وسير الصحوة هم أيضاً قلة، ومن هنا فإنهم معدن نادر ونفيس ينبغي أن نعض عليه بالنواجذ وأن نعتني به؛ لأن هؤلاء عندما يوفقهم الله سبحانه وتعالى ويسيروا في طريق الهداية يكتب الله عز وجل على يديهم الخير الكثير.(32/7)
كسب ولاء أفراد المجتمع للنجباء من قادته سبب في قبولهم لتوجيهاتهم
رابعاً: نحن نحتاج إلى قادة يقودون المجتمع، فهل نتصور مثلاً أن الصحوة ستصل إلى درجة أنها تعم المجتمعات كلها فيصبح جميع المجتمع على قلب رجل واحد، أظن أن هذا مطلب بعيد، بل وحتى مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم وجد فيه المنافقون، ووجد فيه ضعفاء الإيمان، أليس دين الإسلام في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم قد عم هذه الجزيرة، ثم لما مات النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت فئام من العرب؟ هؤلاء كانوا قد دخلوا في الإسلام واستجابوا لهذه الدعوة، لكنهم لم يكونوا الخلص الذين تربوا تلك التربية الناضجة.
حينئذ فقد لا نصل إلى تلك الدرجة العالية، حتى لو استقام عامة أفراد المجتمع، فإن قطاعاً كبيراً من هؤلاء سيبقى على شفا جرف هار، وسيبقى جزء منهم ممن قال الله فيهم: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَة} [الحج:11].
إذاً: فنحتاج نحن إلى قادة يقودون المجتمع، وكل الناس يمكن أن يمنحوا ولاءهم للدعاة إلى الله عز وجل، وأن يمنحوا ولاءهم للمصلحين ولحملة الدعوة وحملة الرسالة، وقد يكون في الناس الفاسق، وقد يكون فيهم المقصر، وقد يكون فيهم ضعيف الإيمان، ولكن القدر الذي ينبغي أن نصل إليه -ونحن قادرون أن نصل إليه- هو أن نكسب ولاء المجتمع، وأن يمنح المجتمع ولاءه للدعاة إلى الله عز وجل، وللذين يقولون كلمة الحق، على ما في المجتمع من تقصير، وإن كنا نسعى إلى الوضع الأفضل والوضع الأعلى، حينئذ فنحن بحاجة إلى قادة للمجتمع، فمن سيقود المجتمع؟ إن الذين يقدرون على كسب ولاء الناس ويقدرون على توجيه الناس، وعلى تغيير أفكار الناس وقناعاتهم، ويقدرون على التأثير على الناس، هم أولئك النجباء الذين نعنيهم، فهم القادرون على تبوؤ المكانة، ومنهم الخطيب الناجح الذي يحدثك وكأنه يحدثك عما في نفسك، ومنهم العالم الذي يستطيع أن ينزل حكم الله عز وجل على الوقائع المستجدة، والذي يقول كلمة الحق لا يخشى في الله لومة لائم، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على ذلك: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، وعلى أن نقول الحق حيث كنا لا نخشى في الله لومة لائم)، ومنهم الدعاة إلى الله عز وجل، ومنهم المفكرون، ومنهم القادة الذين تسير الأمة وراءهم، هؤلاء لا بد أن يملكوا مؤهلات تؤهلهم للقيادة وتجعل الناس يثقون بهم فيسمعون كلمتهم، وتجعل الناس يثقون بهم فيمنحونهم الولاء، ولن يكون هؤلاء الذين يعطيهم المجتمع الولاء والذين يسمع لهم المجتمع كلماتهم إلا أولئك الذين يملكون هذه القدرات وأولئك النجباء.
وهؤلاء القادة منهم أيضاً العلماء الذين سيفتون في القضايا المصيرية التي تحدد مستقبل ومصير الدعوة، فهم القادة الذين يتخذون القرارات التي قد تكون سبباً في النجاح والانتصار للدعوة، وقد تكون أيضاً سبباً في الانحراف وانجراف مصير الدعوة، هم وجه هذه الصحوة، إذاً فلا بد أن نعتني بهم، فحينما نعتني بهم فإننا لا نعتني بفلان أو فلان من الناس إنما نعتني بالمجتمع كله، ونعتني بالصحوة، ونعتني بالدعوة؛ لأن هؤلاء هم قادتها، وهم موجهوها، وهم مفكروها، وهم أعمدتها التي لا تقوم إلا عليهم.(32/8)
آفات النجباء
بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الثالثة وهي: آفات النجباء.
كثيراً ما يشتكي المربون من آفات يقع فيها أمثال هؤلاء الشباب الذين يملكون قدراً من النجابة ويملكون النبوغ والذكاء، فيشتكون كثيراً من أمراض يعاني منها هؤلاء، فإما أنه لا يستمر أصلاً في طريق الاستقامة نتيجة لهذه الأمراض التي تتصارع، أو أن يستمر ولكن مع كثير من الأمراض التي تعوقه عن أن يتبوأ المكانة التي تنبغي له.(32/9)
الغرور والإعجاب بالنفس
من أخطر الأمراض التي تصيب النجباء الغرور والإعجاب بالنفس، فإن النجيب يكون بارعاً متفوقاً على أقرانه بالذكاء والاستيعاب، فهو يفهم عندما يتحدث الأستاذ أو يسمع الخطبة أو المحاضرة أو الدرس، وعندما يسمع أي كلام يفهم ما لا يفهمه الآخرون، ويدرك هو أنه أكثر استيعاباً من الآخرين وأكثر فهماً وإدراكاً، ويدرك الآخرون جميعاً أنه يفوقهم، فيحصل على مراكز متقدمة في الدراسة، ويتفوق على أقرانه، في حين أنه يبذل جهداً يسيراً، فهو إذاً يملك أصلاً البيئة التي تؤهله للغرور والإعجاب بالنفس، وحين يعجب بنفسه وحين يقع في الغرور فإنه يكون وقع في أول معصية عصي الله بها، وصار كالشيطان الذي استكبر عن السجود لآدم فعصى الله عز وجل، وإنما أوقعه في ذلك غروره وإعجابه بنفسه، فاعترض على أمر الله سبحانه وتعالى: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف:12]، والمشكلة أن الإنسان المغرور المعجب بنفسه لا يشعر بذلك أصلاً، فلا يمكن أن تجد إنساناً مغروراً ومعجباً بنفسه يوافقك على أنه بهذا يضع نفسه فوق المنزلة التي يستحقها، فهو يرى أن هذه هي منزلته الطبيعية، وهذا هو مكانه، وإلا لو استطعت أن تقنعه أنه يضع نفسه فوق منزلته، ولو استطعت أن تقنعه أن عنده قدراً من الغرور والإعجاب بالنفس لانتهت المشكلة ابتداء.
وهكذا كل أصحاب هذه الظواهر المرضية لا يشعرون بذلك، فالإنسان الذي عنده غلو؛ غلو في التفكير غلو في العبادة غلو في المعتقد لا يوافقك على أن عنده غلواً، بل لا تجد أحداً من أهل الغلو إلا ويدعي أنه مقصر، وأنه من أهل التوسط، فعندما تناقشه في غلوه، يقول: يا أخي أنا مقصر أصلاً في ذلك، ولو استطعت أن تقنعه فقط أنه قد تجاوز الطريق الوسط وأنه قد غلا حينئذ لانتهت المشكلة، فكذلك لا نفترض من هذا الآن أن يتصور وأن يوافقنا على أنه مغرور، أو على أنه معجب بنفسه، لا نتصور ذلك؛ لأنه لو وافق وأحس فعلاً بأنه عنده غرور وعنده إعجاب بالنفس، ولو أحس أنه وضع نفسه في منزلة فوق المنزلة الطبيعية، حيئنذ فلا بد أن يعود ويضع نفسه في حجمها وموقعها الطبيعي، فأنت يا أخي عندما تفوق أقرانك وتتفوق وتملك موهبة لا يملكها الآخرون، فما الذي يدعوك إلى الغرور؟ أنت يجب أن تعلم أولاً أن هذه الموهبة التي تملكها ليست منك، وما لك فيها أي جهد، يعني: أنت لما تكون إنساناً ذكياً تفهم أكثر مما يفهم الآخرون، وتحفظ أكثر مما يحفظ الآخرون، وتكون فصيحاً أكثر من الآخرين، المهم أنك تملك موهبة متميزة عن الآخرين، فهل حصلت هذه بجهدك أو بكدك أو كد أبيك؟ أبداً، إنها موهبة من الله سبحانه وتعالى، تماماً كما أنك لا تستطيع أن تتصرف في مظهرك، وفي جسمك؛ في طولك وقصرك، وفي تقاطيع وجهك، وكما أنك لا يمكن أن تغير هذه الصورة التي خلقك الله عليها، فكذلك هذا العقل إنما أعطاك الله إياه.
ولو جاءنا مثلاً إنسان يفتخر أن له جاراً ذكياً، وأن له جاراً نابغة لسخر الناس منه، ولقالوا: كيف تفتخر بما ليس لك؟ وكيف تفتخر بما لا تملك؟ فعلى هذا يا أخي حتى لو كنت ذكياً، وحتى لو كنت نابغة متفوقاً هل من حقك أن تفتخر بهذا الشيء الذي ما هو من تحصيلك أصلاً؟ يعني: هذا الذكاء ليس من تحصيلك، وهذا النبوغ ليس من تحصيلك إنما هي نعمة منَّ الله بها عليك، فليس لجهدك ولا لخير فيك إنما هو ابتلاء من الله سبحانه وتعالى، وأنت حينئذ تفاخر بما ليس لك.
كذلك هذه النعمة الله سبحانه وتعالى قادر على أن يسلبها منك، أنت لما تكون ذكياً فالله عز وجل قادر على أن يجعلك معتوهاً أبلهاً، وعندما تكون فصيحاً تهز المنابر فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يجعلك أخرس لا تستطيع أن تفصح عما في قلبك، ولا تستطيع أن تتفوه بكلمة واحدة، إذاً فكما أن الله سبحانه وتعالى قد يسلب من الإنسان نعمة البصر، وقد يسلب من الإنسان نعمة السمع، يمكن أن يسلبك هذه الموهبة، بل يمكن أن تبتلى فتتوجه هذه الموهبة إلى معصية الله عز وجل، فماذا تجني عليك بالله عليك؟! الإنسان الذي يسلك طريق الانحراف؛ سواء كان انحراف شهوة، أو انحراف شبهة أو انحرافاً فكرياً، ماذا يفيده عقله وماذا يجنيه عليه؟ إنه يجني عليه الويل والثبور، وهاهم أساتذة الإلحاد والفساد والمنظرين للضلال والشرك، أتدري ماذا جنى هؤلاء؟ إنهم جنوا وبالاً أكثر، فهذا المنظر لهذه الأفكار الإلحادية يحمل وزره ووزر من أضله إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئاً، فكان عقله وذكاؤه وموهبته وبالاً عليه، وأنت كذلك يمكن أن تعاقب بأن تبقى هذه الموهبة عندك لكنها تكون حينئذ وبالاً عليك، تجني ويلها وثبورها.
الأمر الآخر: أن الله سبحانه وتعالى يحاسب الناس على قدر ما أعطاهم، وعلى قدر ما عندهم من العلم، وعلى قدر ما عندهم من القدرات، كل إنسان سيأتي الله سبحانه وتعالى وحده: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا *(32/10)
روح النقد عند النجباء
الآفة الثانية: روح النقد، إن هؤلاء النجباء كثيراً ما يكونون ناقدين، وقضية النقد ابتداء ظاهره صحية، أن ينتقد الإنسان نفسه، وأن ينتقد مجتمعه، وأن ينتقد حتى البرامج التي تقدم له، فيكون النقد ظاهرة صحية إذا كان بقدر معين، أما أن يتحول الإنسان ناقداً صرفاً فهذه هي المشكلة، فعندما يكون النجيب إنساناً عنده قدر من النجابة فهو يستطيع أن يفهم دقائق الأمور أكثر مما يفهمها الآخرون، وحينئذ يستطيع أن يدرك الأخطاء أكثر من غيره، فينتقد فلاناً وينتقد فلاناً حتى تنمو عنده روح النقد فيصبح بعد ذلك يسمع لينتقد، فكثيراً ما تراه يصنف أساتذته وينتقدهم، وقد يستطيع فعلاً أن يدرك جانباً من القصور والخطأ على أستاذه، أو جانباً من الخطأ والقصور على من يتولى تربيته، ولكن الخطأ والمشكلة هي أن يتحول إلى شخص ناقد فيصبح لا يستمع إلى الدرس إلا لأجل أن ينتقد، وإنما ينظر لجهد فلان حتى ينتقده، فمتى ما أصبح الإنسان ناقداً أصبح إنساناً عاطلاً لا يعمل؛ لأنه مشغول بالنقد.
مرة أخرى أقول: النقد ظاهرة صحية، بل نحن نعاني أحياناً من أننا نسير دون أن نفكر في أن ننقد أنفسنا، أو ننقد مجتمعاتنا، أو ننقد الأوضاع التي نعاني منها، ونتردد كثيراً ونتهيب من هذا النقد نظراً لأنه يحملنا المسئولية، فنحن لا ندعو إلى إلغاء النقد، لكن المشكلة التي نعاني منها أحياناً من بعض النجباء أنه تنمو عنده روح النقد فيصبح هذا الشاب ناقداً ينتقد كل ما أمامه: ينتقد المربي، ينتقد الأستاذ، ينتقد هذا البرنامج، ينتقد ذاك.(32/11)
احتقار الآخرين نتيجة القدرة على رؤية ما لا يرونه
الآفة الثالثة: احتقار الآخرين نتيجة لأنه أصبح يستطيع النقد، وأصبح يستطيع اكتشاف الأخطاء، فيرى مثلاً: أن هذا الأستاذ عنده ضعف في الجانب العلمي، وذاكرة هذا الأستاذ غير مركزة، وهذا الأستاذ يخطئ في كذا وكذا، والمربي الفلاني عنده كذا وكذا، وهذا البرنامج عنده كذا وكذا، حينئذ نتيجة لنمو روح النقد عنده وانتقاده للآخرين يصبح يحتقر الآخرين، فيحتقر الأساتذة يحتقر المربين يحتقر الذين ينبغي أن يستفيد منهم، وحينما يبدأ بتقييم الآخرين واحتقارهم فلن يستفيد منهم، لن يستفيد من هذا المربي؛ لأنه يشعر أن هذه المربي عنده قصور، وأن هذا المربي لا يملك المقومات التي تؤهله للتربية أصلاً، فينمو عنده احتقار الآخرين، ومن هنا يجب أن نحرص على أن نربي مثل هذا النجيب على أن يتواضع، وعلى أن يستفيد ممن هو دونه، وعلى أن يستفيد من الآخرين، وعلى أن يعلم أنه لو أدرك ما لم يدركه غيره فهذا لا يعني أنه أصبح أفضل منه.
تقرءون مثلاً في القرآن قصة سليمان عليه السلام لما جاء الهدهد وسأله سليمان فقال له: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} [النمل:22]، هذا الهدهد الآن أحاط بما لم يحط به سليمان، وعلم مسألة لم يعلمها سليمان، فهل يعني هذا أن الهدهد أصبح أعلم من سليمان عليه السلام؟! أبداً.
إذاً: فقد تستطيع أن تنتقد الآخرين وتكتشف عليهم أخطاء لكن هذا لا ينبغي بحال أن يقودك إلى احتقار الآخرين.
فيجب أن نحرص على أن يتربى هذا النجيب على أن يحترم الآخرين، وأن يوقر الآخرين، خاصة من يتربى على يديه ومن يتعلم منه، حتى ولو شعر بأن عنده قصوراً، أو ضعفاً، لكن هذا القصور وهذا الضعف لا يجعله إنساناً غير مؤهل بأن يستفيد منه، لا يمكن أبداً، فلا ينبغي للشاب النجيب أن يقول: هذا إنسان غير مؤهل أصلاً لنستفيد منه، وغير مؤهل أن نتلقى منه التربية، بل عليه أن يحدث نفسه: إنني مهما بلغت من الذكاء والإدراك فإنه يبقى بعد ذلك يملك قدراً من الخبرة والرصيد يستطيع أن يفيدني به.(32/12)
عدم الانضباط عند النجباء
الآفة الرابعة: عدم الانضباط.
أحياناً يصعب انضباط هؤلاء النجباء واستجابتهم؛ لأن الواحد منهم يشعر أن فلاناً لا يستحق أن يتولى عليه، وأن فلاناً لا يستحق أن يأتمر بأمره، وأن فلاناً كذا، ومن هنا كان النبي صلى الله عليه وسلم أحياناً يولي فلاناً صغير السن، حتى يتربى أصحابه صلى الله عليه وسلم على التسليم والانضباط، ما دام أن فلاناً تولى فله السمع والطاعة، ولو كنت خيراً منه، ولو كنت أفضل منه.
وعندما تتأمل في كيفية تأمير النبي صلى الله عليه وسلم للناس، فستجد أنه ما كان يؤمر الأفضل، فنحن نعلم أن أفضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هم الأربعة الخلفاء، ثم العشرة، ثم أصحاب الشجرة، ثم أصحاب بدر، ثم الذين أسلموا قبل الفتح، فتجد أحياناً النبي صلى الله عليه وسلم قد يولي من هو دون هؤلاء عليهم وهم كبار الصحابة، ومع ذلك لا يجدون غضاضة في ذلك أبداً.
إذاً: فمن آفات النجيب أحياناً ألا ينضبط وألا يستجيب حينما يولى عليه غيره؛ لأنه يشعر أنه هو نفسه يملك مؤهلات تؤهله لأن يتولى المسئوليات ولأن يكون فوق الجميع، ويشعر أن فلاناً من الناس لا يستحق أن يتولى عليه أو يطلب منه الانضباط والاستجابة لأنه يشعر أنه لا يملك هذه القدرات، وأنه أولى منه بهذا المكان، وأحياناً تلمس هذه الظاهرة مثلاً في الفصول الدراسية عند بعض الطلاب، فعندما يولى الطالب على الفصل كعريف للفصل يقوم بضبط الفصل، فإن بعض الطلبة لا يستجيب ولا ينضبط؛ لأنه يشعر أنه هو أولى بهذا المكان من ذاك فهو أذكى منه وأنبغ منه وأقدر منه.(32/13)
إهمال الشاب النجيب في تطوير نفسه وتحسين مستواه العلمي
الآفة الخامسة: عدم العناية بنفسه؛ لأنه يشعر أنه لا يحتاج للتربية، ولا يحتاج لأن يزيد تحصليه العلمي لأنه ما شاء الله يفوق الآخرين، وهو في الواقع عنده قدر من العلم والذكاء والنبوغ يؤهله لأن يكون مستوى استيعابه أكثر، فيستوعب مثلاً ما لا يستوعب الآخرون، قد تكون ذاكرته أقدر على الاحتفاظ بكم هائل من المعلومات لا يحتفظ به الآخرون، فذاكرته أقوى، وحفظه أقوى، وقدرته على حل المشكلات أقوى، المهم أنه يملك مؤهلات لا يملكها الآخرون، فحينما يقارن بينه وبين أقرانه يتصور أنه قطع مرحلة جيدة في العلم، وقطع مرحلة جيدة في شتى الجوانب فيكون بذلك غير محتاج إلى أن يربي نفسه، ولا إلى أن يعتني بنفسه، بينما هو في واقع الحال يكون أحوج ما يكون إلى ذلك؛ لأن مثل هذا الشخص هو بحاجة إلى أن يكون أكثر تحصيلاً أصلاً من أولئك؛ لأنه سيصل إلى منزلة لن يصلها أولئك، وسيتحمل مسئولية لن يتحملها أولئك، فهو بحاجة إلى أن يكون فوق تحصيلهم بمراحل، وفوق إدراكهم بمراحل، لا يمكن له أن يقيس نفسه بأقرانه؛ لأنه سيصبح بعد ذلك مؤهلاً لأن يوجه أقرانه ويربيهم، وسيصبح مؤهلاً لأن يوجه الأمة ويربي الأمة، وحينئذ فالمطلوب منه تحصيلاً أكثر، والمطلوب منه تفوقاً أكثر، فهو أحوج ما يكون إلى مزيد من التحصيل ومزيد من العناية بالنفس.
أقول: هو أحوج ما يكون إلى ذلك، ومن هنا يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم حين ننظر في الدين أن ننظر إلى من هو فوقنا، فإذا نظر أحدنا في مسائل الدين والخلق عليه أن ينظر إلى من هو فوقه، وإذا نظر في الدنيا ومتاعها فعليه أن ينظر إلى من هو دونه، ولعل من حلول هذه المشكلة: أن يربط مثل هذا الشاب بالنماذج العالية، فمثلاً: يطلب منه أن يقرأ ترجمة أحد العلماء أو أحد المتقدمين أو أحد كبار الصحابة ليرى أن هذا في سنه وبلغ منزلة عالية، فحينئذ نرسم أمامه نموذجاً عالياً؛ لأنه الآن ينظر إلى أقرانه على أنهم نماذج أمامه، وليس فيهم مثل أعلى، فعندما نرفعه فنقول له: اقرأ التاريخ، واقرأ سير العلماء، واقرأ سير السابقين الذين بلغوا منزلة في كل شيء: في الجهاد في التقوى في العبادة في العلم في قيادة المجتمعات، فإذا قدمنا له مثل هذه النماذج يصبح أمامه مثل أعلى بعيد يشعر أن المسافة بعيدة بينه وبينه، وحينئذ يشعر بالقصور والضعف؛ ولهذا يأمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن ننظر دائماً إلى من هو فوقنا في العلم والخلق؛ حتى نشعر بتقصيرنا وإهمالنا، فإذا نظر الإنسان إلى من هو دونه سيبقى ينزل وينزل؛ لأنه سيقول: أنا على الأقل لا أفعل لكبائر، وعندها سيأتي صاحب الكبائر فيقول: أنا أفعل الكبائر بصورة لكن أقل من فلان الذي يفعل أكبر الكبائر والموبقات، وسيأتي صاحب الموبقات فيقول: أنا أفضل من فلان لأني لا أقع في الشرك ولا زلت على الإسلام، وهكذا يتدرج الإنسان في النظر إلى من هو دونه حتى لا يصبح المنافس الوحيد له إلا الشيطان، أما إذا كان ينظر إلى من هو فوقه فهذا أحرى أن لا يزدري نعمة الله عز وجل عليه، وأحرى أن يعلم تقصيره وإهماله، فهذا الشاب بحاجة ماسة إلى أن يربط بالنماذج: شباب الصحابة، سير السابقين، النماذج الرائعة في العلم في الجهاد في التقوى في الصلاح في كافة جوانب النبوغ، وهذا أدعى له إلى أن يحتقر نفسه، وأدعى له إلى أن يشعر أنه بقي درجات ما وصل إليها إلى الآن.(32/14)
حتى لا نظلم النجباء
وبعد ذلك ننتقل إلى العنصر الأخير لهذه المحاضرة وهو: حتى لا نظلم النجباء.
نحن أحياناً نمارس أخطاء في تربيتنا لهؤلاء النجباء، والمشكلة أنهم نوادر كما قلنا، والمستجيبون للصحوة والاستقامة هم أيضاً نوادر من هؤلاء، فالقضية لا تحتمل المخاطرة، ولا تحتمل أن يكون هؤلاء مجالاً لتجاربنا التربوية عليهم، وإنما نحن بحاجة إلى أن نتعلم كيف نتعامل معهم، وكيف نكتشف مواهبهم، فكما أن هؤلاء عندهم مزايا كثيرة، فإن من مزاياهم أنهم أسرع استجابة للتربية والاستفادة، وأكثر إدراكاً للأخطاء التربوية، فالأخطاء التي نرتكبها تؤثر فيهم أكثر من غيرهم؛ لأنهم أكثر استجابة سلباً وإيجاباً، ومن هنا فلا بد أن نحذر في التعامل معهم.(32/15)
ظلم النجباء بتحطيم مواهبهم
نحن أحياناً نتخيل أن تربية النجيب أسهل، وأن هذا الشاب الذكي النابغ الذي يستجيب لما يقال له أنه أسهل، لكن في الواقع هو أصعب من غيره بكثير، ونحن يسيطر علينا أحياناً وهم مفاده: أنه ما دام أن هذا الشخص يمشي مع الأخيار وما دام أنه مستمر في طريق الخير والصلاح فهو إنسان ناجح، لا، ليس هذا هو النجاح الذي نريده، فمرحلة الصلاة والاستقامة تطلب من عامة المسلمين، بينما الموهوب نحتاج إلى أن ننجح في أن نوظف طاقته، وأن نجعله في مستوى أعلى، فإذا كنا قد وقعنا في أخطاء تجاه هذا الشاب وهو يمثل طاقة جيدة وفعالة ثم مع ذلك بقي مستقيماً وصالحاً فهذا لا يعني أننا نجحنا، وإنما الحقيقة أننا ساهمنا في حرمان الأمة من طاقة كانت هي بحاجة إليها.
قبل أن نتحدث عن الأخطاء لا بد أن نعرف هذا المعيار من النجاح، فنجاحنا مع النجيب والموهوب لا يعني أن ننجح فقط في أن يكون مستقيماً وصالحاً، هذا لا شك أنه خير، ولكنا أحياناً بل كثيراً ما نجعله يسير في طريق الاستقامة والصلاح بعد أن نقضي على مواهبه ونحطمها، فحينئذ نحرم الأمة من هذه الطاقة الفعالة التي كانت يمكن أن تساهم في الخير، وكم تتألم لما ترى بعض الشباب مستقيماً وصالحاً وخيراً وقد أتاح الله له من يربيه، ولكنك ترى عنده مواهب وطاقات قد قضي عليها قضاء مبرماً نتيجة للتربية السيئة التي تلقاها، وهذا الأخ الذي يتولى تربيته يرى أنه قد نجح في تربيته؛ لأنه لا زال يسير في طريق الاستقامة والصلاح، فإذاً ليس المعيار مجرد استمراره في طريق الصلاح والاستقامة، بل المعيار هو وصوله إلى المنزلة التي يستحقها باعتبار ما يملكه من طاقات ومواهب.(32/16)
ظلم النجباء بترسيخ صفة الغرور فيهم
من أخطائنا تجاه هؤلاء ومما يقع فيه الآباء والأساتذة والمربون: أن نساهم في جلب الغرور لهم، فمثلاً: الأب يكون عنده ابن متميز وفيه ذكاء واضح، ولهذا يعامله والده معاملة متميزة، وأعمامه وأقاربه لما يأتون يحتفون به أكثر من غيره من إخوانه ومن غيره من الأطفال، فيتربى من الصغر على الشعور وبأنه كائن آخر، بأنه إنسان متميز، فنساهم نحن في غرس الغرور عنده، وكذلك الأستاذ والمربي أحياناً يضعه في مواقع لا يستحقها، أو يبالغ في الثناء عليه ووضعه في هذه المواقع مما يساهم في زيادة الغرور الذي قلنا أنه من أكبر آفات هؤلاء النجباء.(32/17)
ظلم النجباء بعدم الاعتماد عليهم وترسيخ هاجس الخوف من الغرور والإعجاب بالنفس عندهم
ومن الأخطاء التي نقع فيها تجاههم -وهو الخطأ المعاكس- تنمية هاجس خوف الإعجاب عندهم، فأحياناً نقضي على الشاب ونحطمه بحجة حمايته من أن يعجب بنفسه، وهي مشكلة أيضاً أخرى، فمثلاً: الأب لما يأتيه ابن عنده قدر من الذكاء فيعطي ملاحظات على ما يشاهده، ويبدأ ينتقد أشياء معينة، فيخشى الأب أن يعجب الابن بنفسه فيحاول أن يقضي عليه، ويقتل هذا الطموح عنده، ويربيه على الاتكالية وعدم الاعتماد على النفس، حتى أنك تجد أحياناً الشاب يكون عمره عشرين سنة ووالده لا يثق فيه ليرتب لوليمة أو مناسبة عائلية، بل أحياناً وللأسف لا يحصل الشاب على منزلة عند والده من الثقة إلا بالقدر الذي يؤهله لأن يشتري الخبز لأهله، فنقول لمثل هذا الأب: يا أخي إن هذا الابن لما بلغ سن التكليف أصبح مؤهلاً لأن يتحمل المسئوليات فأتمنه الله على الطهارة والغسل والصلاة والزكاة والحج وعلى سائر العبادات، ففرض عليه الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
أحياناً يتخرج الشاب من الجامعة وهو غير مستقل في اتخاذ قرار، ولا يستطيع أن يعبر عن رأيه، ولا يمكن أن يشارك أبداً، فإذا نظرنا إلى كيفية تعاملنا مع أبنائنا لوجدنا أن الخلل فينا، مثلاً: عندما يكون عند الإنسان مناسبة فهل يثق في ابنه كي يتحمل مسئولية الإعداد للوليمة بدءاً من شراء الذبيحة والفاكهة وإعدادها ودعوة الأقارب والتنظيم والتنسيق مع المطبخ إلى غير ذلك، أبداً لا يمكن أن يثق فيه؛ لأنه لا يعرف كيف يشتري، ولا يعرف كيف يصرف إلى غير ذلك، فيبدأ الابن يتحطم، وحينما يطلب منه أستاذه أو من يربيه أدواراً هي أصلاً دونه يشعر أنها أعلى منه لأنه ما تعود على مثل هذه المسئولية، فنحن نساهم إذاً في تحطيم هذا الشاب، فالأب أو حتى الأستاذ أو أحياناً المربي يساهم في تحطيم هذا الشاب وقتل موهبته حتى لا يصاب بالغرور والإعجاب.
يذكر لي أحد الأساتذة أن عنده طالباً موهوباً وعنده قدرة جيدة في الفصاحة والإلقاء، فيقول: إني لا أمكنه من أن يلقي كلمة في المدرسة أبداً، فقلت: لماذا يا أخي؟ قال: أخاف عليه من الإعجاب بنفسه، فقلت: طيب يا أخي متى سيتأهل بعد ذلك؟! ولننظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لنرى مواقف عجيبة: فمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من أمَّ قومه وهو دون العاشرة، طيب هذا ليس عرضة لأن يصاب بالإعجاب؟! علي بن أبي طالب وهو لم يصل إلى سن العشرين وثق فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأتمنه على سر من أخطر أسرار الدعوة في مكة، حيث كان علي يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، وما كان كل المسلمين يعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، ونعرف فائدة هذه الثقة من قصته مع أبي ذر، فلما جاء أبو ذر ليسلم تعرف عليه علي بن أبي طالب ثم قاده إلى دار الأرقم بطريقة محكمة فعلاً، نفهم منها لماذا ائتمن علي رضي الله عنه على هذا السر، وهذه المعلومات التي أعطيها علي ليست خطيرة في حق المجتمع، ولا في حقه هو، ولا في حق الرسول صلى الله عليه وسلم حتى، بل هي خطيرة في حق الدعوة؛ لأن هذا المنزل بمن فيه يمثلون نواة الدعوة: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لن تعبد في الأرض)، ومع ذلك يتحمل المسئولية.
في حادثة الهجرة يبيت علي يبيت على فراش النبي صلى الله عليه وسلم ويبقيه النبي صلى الله عليه وسلم ويسلمه الودائع ليسلمها لأعدائه الذين أخرجوه.
نموذج آخر: أسامة بن زيد رضي الله عنه يثق فيه النبي صلى الله عليه وسلم فيشاوره كثيراً في أمور أهله، ويوليه النبي صلى الله عليه وسلم الجيش الذي يذهب إلى الروم وهو لما يبلغ العشرين من عمره، رغم أن هذه تكاد تكون أول مواجهة للمسلمين مع الروم، لأنه في غزوة تبوك ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من الروم كيداً، والمواجهة الفعلية ستكون هذه المواجهة التي سيذهب فيها فيوطئ الخيل تخوم البلقاء، فيوليه النبي صلى الله عليه وسلم الإمارة، وحين طعن بعض الناس في هذه الإمارة واستغربوا أن يتولى شاب هذا الأمر غضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (فإن كانوا طعنوا في إمارته لقد طعنوا في إمارة أبيه وإن كان لخليقاً للإمارة)، وهذا الجيش فيه كبار الصحابة، وفعلاً يقوم أسامة بن زيد بهذه المهمة وينجح فيها.
فهذا هو حال النبي صلى الله عليه وسلم الذي ما عرفت البشرية أفضل تربية منه، وكما قال معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه: (بأبي وأمي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيت معلماً أحسن تعليماً ولا تأديباً منه).
وأحسن منك لم تر قط عيني وأجمل منك لم تلد النساء خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء كما قال حسان رضي الله عنه في ثنائه على النبي صلى الله عليه وسلم.
فلا يمكن أن نقول: إن ا(32/18)
إهمال النجباء وعدم العناية بهم
من الآفات التي نرتكبها تجاههم أو من مجالات ظلمهم: هو الإهمال وعدم العناية، وأننا لا نلتفت لهم، بل أحياناً لا نكتشف أن فلاناً يملك هذه الموهبة، فإن من مسئولية المربي أياً كان أستاذاً أو أباً أن يحرص على أن يكتشف المواهب والطاقات؛ حتى يستطيع أن يوجه الشاب ويوجه هذه المتربي الوجهة الصحيحة، وينمي هذه الطاقة والموهبة ويضعها في مكانها الطبيعي حتى تساهم في خدمة الأمة وخدمة الدعوة، فكثيراً ما نهملهم ولا نعتني بهم.
وننظر الآن مثلاً في قضية رعاية الموهوبين فنجد أن الغرب يعتنون بهم كثيراً، حيث يعتنون بهؤلاء الموهوبين من الصغر، بل إنه في نيويورك يقام معرض سنوي للمخترعين الصغار ممن هم دون الخامسة عشرة، وتختار من بين هذه المخترعات خمسون عينة وتعرض جنباً إلى جنب مع ما يقدمه المخترعون الكبار، أمة تحرص على أن تربي الطاقات، وتحرص على أن تربي هؤلاء النجباء، بالله عليكم هل أولئك خلقهم الله من طينة خاصة؟! هل أولئك الغربيون هم فقط الأذكياء وحدهم؟! هل هم وحدهم الذين يملكون القدرة؟! نحن نتيجة للمرض والتخلف الذي أصابنا صار عندنا وهم أن الذكاء خلق لهم وحدهم، وأن التقدم المادي خلق لهم وحدهم، هم بشر ونحن بشر، فما الذي يميز هؤلاء حتى يقودوا البشرية الآن؟! ما الذي يميزهم حتى يحققوا التقدم الاقتصادي والتقدم المادي والتقدم الصناعي؟! هل يجري فيهم دم زكي؟! هل خلقوا من طينة خاصة؟! بل نحن نرى أن هذه الأمة تملك طاقات أكثر؛ لأنها أمة خاصة، أمة اختارها الله لتكون خير أمة أخرجت للناس، ولتكون شهيدة على الناس في الدنيا والآخرة، فلا بد أن تملك الأمة أفضل الطاقات وأفضل المواهب، ولكننا نمارس أحياناً -بقصد أو بغير قصد- قتلاً ووأداً للطاقات، حتى إذا نبغت مواهب لا يفتح لها المجال للإبداع، ولا يفتح لها المجال للعمل، ولا يفتح لها المجال لئن تساهم في تصحيح المجتمعات، فإن مراكز الفكر والتوجيه أحياناً تصبح وقفاً على فئة خاصة من الناس، وأحياناً تصبح وقفاً على الذين حجروا عقولهم وصاروا يقولون: سمعاً وطاعة لكل أمر، أما الإنسان صاحب الإبداع الذي عنده روح الإصلاح للمجتمع، والذي يحمل غيرة على المجتمع، وهو مع ذلك كله يملك كافة المقومات التي يملكها الآخرون، لا يمكن أن يفسح له المجال حتى يؤدي ما عنده، أليس هذا وأداً وإهمالاً لهذه الطاقات؟ لا نريد أن نتحدث عن واقع الموهوبين والعناية بهم في بلادنا الإسلامية، وحتى لو اعتني بهم فنحن نريد أن يعتنى بهم ويوجهوا الوجهة الشرعية التي تخدم الأمة في مرحلتها الراهنة، فالأمة اليوم تعيش في ذيل القائمة، وهي أمة لا تملك قرارها ولا مصيرها، حتى المشاكل التي تثور بين الأمة الإسلامية لا تملك الأمة الرأي فيها، فهي بحاجة إلى أن تستنفر الطاقات، فكيف نساهم في وأد هذه الطاقات، سواء بقصد أو بغير قصد، سيان الأمر هي جناية وجريمة في حق هذه الأمة! فلا نريد نقع نحن أيضاًَ في نفس الخطأ الذي يمارسه أولئك، فنكرر نفس الخطأ ونساهم في وأد الطاقات الصاعدة التي نأمل إن شاء الله أن تكون قائدة لجيل الصحوة.(32/19)
توجيه النجباء توجيهاً خاطئاً لا يوافق مواهبهم
وأخيراً وهو الأمر الرابع: أن يوجه النجيب توجيهاً خاطئاً، فهو يملك مواهب وطاقات تؤهله لمنزلة معينة ومكانة معينة وقيادة معينة، فنوجهه لما لا يحسن، وقديماً قيل: إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع والإنسان فضله وطاقته فيما يحسن، وإذا تحدث في غير فنه وفي غير ما يحسن -كما يقال- أتى بالعجائب، فنحن عندنا طريق وأحياناً طريق واحد نرى أنه لا بد أن يسلك، فإذا أتانا شخص نجيب يملك قدرات جيدة فإننا نتصور أنه أن يتوجه إلى هذا الطريق.
أتاني مرة أحد الطلبة -وهو يملك قدراً من النبوغ- ليستشيرني حول دراسته في المعهد العلمي فقال: إن أهلي يشيرون عليَّ أن أترك المعهد العلمي وأتوجه إلى الثانوية العامة، قلت: لماذا؟ قال: لأجل أن أكون مثل والدي -وكان والده مهندساً- فقلت له: يا أخي الكريم، أنت تملك قدراً من الذكاء والنبوغ قد يفوق أقرانك، ولكن عندما تتوجه للعلم الشرعي، وتسخر علمك في خدمة دين الله سبحانه وتعالى، فستكون عالماً شرعياً وستملك مكانة أكثر مما يمتلكه أبوك الآن، فأبوك يملك منزلة وشهرة ومكانة اجتماعية، وهي التي لا تسعى إليها أنت، ونحن أحوج منك أن نوجه هذه الطاقات إلى العلم الشرعي؛ لأنا نريد إنساناً مخلصاً يقول كلمة الحق، ونريد إنساناً جريئاً، يضحي بوقته ومع ذلك يحمل العلم الشرعي، حتى يقود الأمة قيادة صحيحة وسليمة.
فأحياناً يتصور أن الشاب الذكي النابغ ما ينبغي أن يتوجه للعلم الشرعي، وإنما ينبغي أن يتوجه للطب أو الهندسة وأنه لو لم يفعل ذلك فإنه يكون من الإهمال للطاقات والإهدار للطاقات.
فنقول: ثم ماذا؟ يتوجه للطب ويكون طبيباً ثم تقتل موهبته ويوضع في مكان آخر ويتولى عليه رجل نصراني وانتهينا، أو يكون مهندساً أو غير ذلك، لأنه حتى لو نبغ في علمه فلن يتاح له المجال الذي ينتج فيه، صحيح نحن لا نقلل من شأن هذه العلوم، ولكننا بحاجة إلى أن ندفع فئات من هؤلاء أصحاب الشجاعة، وأصحاب الجرأة على اتخاذ القرار، وأصحاب العمق في التفكير وأصحاب الذكاء، نحتاج لأن ندفع فئات من هؤلاء للعلم الشرعي حتى يقودوا الأمة، فإنه من غير المعقول أن التخصصات الشرعية لا يتوجه إليها إلا الأغبياء والمغفلون.
هذه بعض الخواطر حول هذا الموضوع، وهو موضوع له أهميته كما قلت، وهذا الموضوع وغيره لا يمكن أن نقتصر فيه على مثل هذه الأحاديث، بل لعل ما أطرحه يكون على الأقل مساهماً في إثارة الاهتمام بهذا الموضوع، وأن يشعر الآباء والمربون والأساتذة أنهم يجب أن يعتنوا بهؤلاء النجباء، وأنهم عندما يعتنون بهم فإنهم يعتنون بالجيل اللاحق ويعتنون بقادة الأمة.
لعلي أقف عند هذا الحد لأجيب على بعض ما ورد من أسئلة الإخوة.(32/20)
الأسئلة(32/21)
الدعوة إلى الاهتمام بالنجباء لا يعني إهمال من هم دونهم
السؤال
تعلمون حفظكم الله كما أن لأهل السنة والجماعة أصولاً اعتقادية فإن لهم أصولاً سلوكية ومنهجية دعوية، ومن هذه الأصول: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52]، وقوله: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا} [هود:29]، ولقد أكثرت حفظك الله من الإشارة إلى وجوب الاهتمام بالنجباء، ولكني أخشى أن يفهم من هذا تقليل الاهتمام بغير النجباء، وإن كانوا أقوياء الإيمان، وهذا يخالف الأصل السابق؟
الجواب
نحن أحياناً عندنا مشكلة، وهي أننا لما نسمع إنساناً يتحدث عن قضية معينة فنفترض أنه يتحدث عن كل ما يتعلق بالدعوة إلى الله عز وجل، فأنا الآن لم أتحدث عن الدعوة إلى الله أصلاً، وإنما تحدثت عن جزئية واحدة وهي النجباء، وكيف نتعامل مع النجباء، فهل يفهم أحد من كلامي أني أدعو إلى إهمال الناس الآخرين؟ وهل يفهم من كلامي أني أدعو إلى العناية بالنجباء وحدهم؟ لا أبداً، فدعوة الله سبحانه وتعالى عامة إلى الناس جميعاً، للمتعلم وغير المتعلم، للصغير والكبير، ولكن هذا النجيب يحتاج إلى قدر من التربية وقدر من العناية والرعاية؛ لأنه سيتبوأ منزلة وسيؤهل لقيادة لم يتبوأ لها غيره، وهذه القضية لا نقاش فيها، فدعوة الله عامة للصغير والكبير، وقد قلت في ثنايا المحاضرة: أننا بحاجة إلى أن نستنفر كل الطاقات حتى الشيخ الطاعن في السن، وحتى العجوز في منزلها بحاجة إلى تسخر هذه الطاقة للدعوة إلى الله عز وجل ولخدمة الأمة، هذه قضية ما نخالف فيها، وأن الدعوة إلى الله مخاطب بها الجميع.
وقبل أن أتحدث أمامكم اليوم كنت أتحدث مع السجناء، وإذا كان السائل يفهم أني أنطلق من هذا المنطلق، فماذا عساي أرجو من وراء أولئك السجناء، وأنا هنا لا أحتقرهم، لكن أولئك طبقة نعتبر أننا حققنا قدراً من النجاح معها عندما يستقيم الواحد منهم على طاعة الله عز وجل ويترك ما هو عليه من الفساد والسوء، فلا أدعو بحال إلى إهمال هذا القطاع، ولا يمكن أن يفهم ذلك مما أقوله، لكن الذي أدعو إليه أن نعتدل في الفهم، فعندما يتكلم إنسان عن موضوع معين جزئي فلا يعني ذلك أن هذا هو أهم الموضوعات، فمثلاً: الآن عندما أتحدث عن هذا الموضوع هل يعني هذا أن هذه أكبر مشكلة تواجه الدعاة؟ وهل يعني أن هذه القضية أهم قضايا الدعوة؟ لا ليس بالضرورة، فأنا أجزم أن هناك موضوعات أهم، وأن هناك جوانب أخرى، لكني أتحدث عن قضية جزئية معينة بحاجة إلى أن نلقي عليها الضوء ونعتني بها.(32/22)
ضرورة سعي الإنسان إلى تطوير نفسه في مجاله الذي يتخصص فيه
السؤال
نحن شباب لسنا بالنجباء ولكن نعد من الملتزمين، ولكننا لا نرى في التزامنا زيادة بل نحن باقون على حد معين لا نزيد ولا نقص، فما الحل في مثل حالنا؟
الجواب
الإنسان -كما قلنا- مسئول مسئولية فردية، والإنسان لا يبقى عند مستوى واحد، فكل إنسان يملك قدراً من الاستمرار، حتى الرجل الطاعن في السن عندما يهديه الله عز وجل يستطيع أن يغير الكثير، والنبي صلى الله عليه وسلم عندما جاء بهذا الدين دخل في الإسلام كبار السن والعجائز، وكان منهم نماذج رائعة، فكان منهم: المرأة العجوز التي تقدم بها السن وفي ثقافتها على أن هذا الطفل الذي تربيه تخشى عليه الموت وتخاف عليه النوائب وترى أنه ذخر لها في قادم أيامها، ولكنها بعد ذلك أصبحت ترمي به في المعارك، وتتمنى أن يقتل، وتتمنى أن يشرفها الله باستشهاده، وهي ما تربت هذه التربية إلا في سن متأخرة، فكل إنسان قابل للتربية، والذي يملك القرار الوحيد هو أنت.
بل حتى أنت افترض أن الله رزقك بمرب قدير يملك قدرات ومؤهلات عالية، فإذا لم يكن عندك تفاعل أنت أصلاً فإنك لن تستفيد من هذه التربية، وغاية ما يستطيعه المربي هو أن يقدم لك فقط الفرصة، وأن يتيح لك المجال، أما التفاعل والاستجابة للتربية فهو قرار لا يتخذه إلا أنت، حينئذ يجب أن تساهم أنت بزيادة التزامك والحرص على الإيمان وزيادة العلم، وتقوى الله سبحانه وتعالى، وزيادة الخبرات والطاقات التي ترى أنك تحتاج إليها.(32/23)
الأساليب التي يلجأ إليها المربي لتحريك الطاقات وتوظيفها عند تلاميذه
السؤال
من كان قائماً ومربياً على جيل يعد للدعوة ولحمل هذا الدين فكيف يحرك ما به من طاقات ويوظفها التوظيف الصحيح؟
الجواب
هناك عدة أساليب لعلنا نشير إلى بعضها باختصار، منها: أن نربي عند الناس أن يحملوا في قلوبهم الغيرة على دين الله سبحانه وتعالى، وأن تكون الدعوة إلى الله عز وجل هماً لهم، وأن تصبح هي الهاجس الوحيد والهدف الذي يتطلع إليه، وهي قضية القضايا عنده، وهذا شعور يجب أن نحاول وأن نجتهد في أن نغرسه عند كل مسلم، أن يشعر بأن الأمر الذي ينبغي أن يسعى إليه هو هذا الدين ونصرته، وأن يتيقن أننا الآن لسنا في مرحلة أن الإنسان يبدأ يباري غيره في الشهرة أو في المال أو في الثراء أو في تحقيق الشهوات، فالأمة الإسلامية تعيش في مرحلة حرجة -بل وأسوأ من الحرجة- وهي بحاجة إلى أن تستنفر الطاقات، فنربي عندهم هذا الشعور؛ أن يشعر بالغيرة، وأن يشعر بالواقع المر، وأن يشعر بأنه هو وغيره هم أداة التغيير، وأن هذا الواقع لن يغيره إلا الناس.
ثم بعد ذلك أيضاً من الوسائل: ذكر النماذج التاريخية السابقة كأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الشباب وغيرهم من الجيل السابق.
كذلك أيضاً من الوسائل: التربية العملية، وذلك بأن يدفعه ويعطيه خطوات عملية، مثلاً: هذا إنسان عنده قدرة على الخطابة والإلقاء فعلي أن أبدأ بتعويده على إلقاء كلمات أمام زملائه في الفصل، أو أمام زملائه في أي لقاء آخر، حتى يتقوى ويبدأ في إلقاء كلمات في مساجد نائية، وإذا وجد إنسان أشعر أن عنده قدرة على القيادة والمسئولية فأبدأ أحمله مسئوليات بسيطة في البداية، ثم أتدرج به حتى يكون مؤهلاً، فهذه هي التربية العملية، ثم التربية العملية هي من أفضل وسائل الإقناع، فقد يكون الشاب عنده قدرات مدفونة لكنه لا يشعر بها، وعندما أضعه في الموقع المناسب وينجح في أداء الدور المناط به يقتنع حينئذ أنه قادر.(32/24)
التربية العملية علاج للنجباء من الشعور باحتقار النفس
السؤال
يعاني كثير من المربين والعاملين مع النجباء مشكلة احتقارهم لأنفسهم أو ما يسمى بالتواضع؟
الجواب
لا هو ليس بالتواضع، التواضع أمر مشروع، لكن نحن وهماً نسميه بالتواضع، فالإنسان لا يتصدر، ولا يقول كلمة، ولا يعض الناس، ولا يدعو بحجة أنه يتواضع، ولأنه يرى أن من تقوى الله ألا يتصدر، هذه مغالطة، نعم نحن لا ندعو الإنسان إلى أن يتصدر إلى ما ليس له بأهل، ولكن أيضاً من علم علماً فلا يسوغ له أن يسكت عنه، ومن رأى منكراً فلا يسوغ له أن يمتنع عن إنكاره؛ لأن من أعطاه الله خيراً فسيسأل عنه يوم القيامة، فأقول: أفضل الوسائل لهؤلاء التربية العملية، وذلك بأن يوضع في ميدان حتى يرى النجاح بنفسه ويلمس النجاح ويوقف هو على النجاح، أحياناً: الإنسان قد يقوم بعمل فينجح فيه لكنه لا يلمس النجاح بنفسه، فيأتي مثلاً يلقي كلمة على زملائه ولا يستطيع أن يلمس أثر هذه الكلمة، لكن عندما أقول له: كلمة رائعة وجيدة وفلان تأثر بها، فإنني بذلك أوقفه على نجاح فعلاً، وحينئذ أعطيه دفعة وشعوراً بالنجاح؛ لأنه ما من شيء يقنع الإنسان إلا النتائج المباشرة له.
فأنا أتصور أن أفضل وسيلة تقنع هؤلاء الذين يحتقرون أنفسهم هي أن يوضعوا في الميدان، وحينئذ سيلمسون النجاح بأنفسهم.(32/25)
بعض الوسائل المعينة على التغلب على صفة الغرور والعجب عند الداعية
السؤال
المرأة الداعية إلى الله كيف تواجه مشكلة الغرور والإعجاب بالنفس، خاصة إذا كان من حولها هم الذين يوحون إليها بأنها ذات منزلة ومكانة عالية في مجتمعها، ونحن نعلم أثر المجتمع المحيط على الفرد؟
الجواب
هي مشكلة تعاني منها المرأة كما يعاني منها الرجل، أولاً: نحن نفرح ولله الحمد أن يوجد من النساء من تؤدي هذا الدور، والإنسان حين يشعر أنه يؤدي دوراً ما ثم يدعوه ذلك إلى الغرور أو الإعجاب بالنفس، فلا يصح أن يتخذ قراراً معاكساً ويترك هذا الدور، لا بل يستمر في هذا الدور، ولكن يبدأ يعالج المرض ولا يعالجه بخطأ آخر.
ومن وسائل العلاج: أن يتذكر الإنسان ذنوبه وتقصيره، وأن يذكر أن هذه نعمة أعطاه الله إياها، وسيحاسب على قدر هذه النعمة، وأن هذه منة من الله وليست من تحصيله.
وكذلك من وسائل العلاج، ومن أفضلها: أن يقرأ في سير السلف؛ لأنه سيجد نماذج عالية لا يمكن أن يقيس نفسه بهم إطلاقاً، وإذا فعل فإنه سيحتقر نفسه وسيرى أنه لن يصل إلى شيء.
ومن الوسائل أيضاً: أن يعلم أن الناس لا يعلمون حقيقته، ولا يعلمون ما في داخله، ولا يعلمون قدراته، وإنما الناس لما يجدون عند أي إنسان شيئاً ليس عندهم فإنهم يعطونه مكانة عالية، ويتصورون أن هذا عالم وأن هذا صاحب قدرات، فقط لكونه يملك شيئاً لا يملكونه، فينبغي له أن يعرف أن تقييم الناس له لا يساوي شيئاً ولن ينفعه أمام الله عز وجل، وحينما يتذكر هذه الأمور ويستعين بالله ويدعو الله عز وجل ويتذكر ذنوبه فلعل هذا مما يساهم في دفع هذا الغرور.(32/26)
شعور الداعية بالتقصير في نفسه يدفعه إلى تربيتها لا إلى ترك ما يدعو إليه
السؤال
إنني إنسان قد أعطاني الله قدرة على إقناع الشباب المبتدئين في العلم والحفظ ورحل مشاكل الشباب، ولكني أجد في نفسي أنني أريد أن أكون أنا الأعلى، فإذا فتشت في نفسي وحاسبتها وجدت أني مقصر في كل ما أحث عليه، فأرجو أن توجهوني إلى حل هذه المشكلة، فإني أعاني منها منذ زمن طويل، علماً أن كثيراً من الشباب يعتبرونني قدوة لهم، ويرجعون إلي في كثير من مشاكلهم، وجزاكم الله خيراً.
الجواب
نقول: هذه منزلة طيبة فلا تفرط فيها؛ لأنك حين تكون مرجعاً للشباب، وتساعد في حل مشاكلهم، وقدوة لهم، ولكن كما قلت سابقاً ليس الحل أن تترك هذا الأمر، بل الحل أن تساهم في تربية نفسك.
ثم أنت هل تتصور أن الآخرين أيضاً لا يعانون من هذه المشكلة؟ الجميع يعاني من هذه المشكلة، ويرى أنه من أكثر الناس تقصيراً وذنوباً وإهمالاً، أنا الآن الذي تعرض علي السؤال أشعر بأني أكثر منك تقصيراً وإهمالاً، بل أشعر أن الكثير ممن يستمع إلي هو أتقى لله وأخشى لله مني، وما لي من رجاء أكثر من أن ينفعني الله بدعوة من رجل صالح سمع مني خيراً فنفعه الله به، هذا العمل الذي أرجوه، أما ما أقدمه فأنا أعلم بنفسي، وأعرف أن عندي تقصيراً، وأعرف أن عندي إهمالاً وذنوباً، لكن لو كان كل إنسان يرى عنده ذنوباً وتقصيراً فلن يعمل أحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم لا يذنبون).
فالبشر لا بد أن يقعوا في الذنب والتقصير، ثم الذنوب شيء وواجب الدعوة شيء آخر، يعني: وقوعك في الذنب لا يعني أبداً أن تترك الدعوة، وتعال قارن لي بين شخصين: شخص مذنب ومقصر ويساهم في الدعوة، وشخص آخر مذنب ومقصر ولا يساهم في الدعوة، أيهما أسوأ حالاً؟ فهل الحل أن تترك الواجب الشرعي بحجة أنك مذنب؟! لا أدري من أين جاء هذا الوهم، عند بعض الناس شعور أنه لا يصلح لأن يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر ولا ينصح ولا يقول كلمة الحق إلا الإنسان المتقي الكامل، أبداً، إذا صار عندنا هذا الشعور فلن يصل الإنسان إلى المنزلة التي يقتنع فيها بنفسه، وإذا وصل الإنسان إلى منزلة يقتنع فيها ويرضى فيها عن حاله فهو مغرور ومعجب بنفسه.(32/27)
كما يوجد النجباء الصالحون يوجد النجباء المنحرفون
السؤال
ذكرت أثابك الله بعض النجباء من الصحابة رضي الله عنهم وكيف اعتنى رسول صلى الله عليه وسلم بهم، فهلا ذكرت أمثلة حية من الجيل المعاصر؛ حتى لا يقول البعض: إن جيل الصحابة لن يتكرر لتتحقق القدوة الحية بهم، وحتى يقتنع البعض بتكرر أولئك النجباء في كل مجتمع، كما أن هناك بعض النجباء الذين انحرفوا، فلو ذكروا للعبرة والحذر، خصوصاً أن بعضهم لم يهتدوا إلى هذا الدين أو ارتدوا عنه نسأل الله السلامة، خصوصاً أن مدينة شقراء ولله الحمد تزخر بالكثير من النجباء نفع الله بهم الإسلام والمسلمين.
الجواب
هذه شهادة ونحن لا ننكر هذه الشهادة لكن على الأقل أنت متهم؛ لأنك تشهد لبني قومك، ونحن لا ننفي عن بني قومك هذه الصفة، ونعرف منهم إن شاء الله الأفاضل والنجباء، ونؤمل فيهم الخير الكثير، لكن الإنسان يتعود أنه ما يشهد لبني قومه؛ لأنه قد يكون متهماً.
على كل حال النماذج المعاصرة نحن نراها ولا نحتاج إلى أن نمثل، فالقادة من الناس الذين يقول أحدهم الكلمة فيسير الناس وراءه، والذين يغيرون كثيراً في المجتمعات هم كثر ولا نريد أن نمثل بهم.
لكن سنتكلم عن الشق الثاني وهم النجباء المنحرفون وهو فعلاً سؤال وجيه، وسبق أن أشرت إليه، فانظروا مثلاً إلى فرويد صاحب النظرية الإباحية في علم النفس، وكم سار وراءه من البشر، فهو رجل نابغ قطعاً، وأيضاً ماركس وغيره من الناس النوابغ، صاحب الفكر الوجودي، وكل أصحاب المبادئ المنحرفة المعاصرة هم ناس نوابغ ولا شك، كذلك قادة الأمم الكافرة نوابغ، ولكن كم يتحملون من أوزار الذين يضلونهم بغير علم، وبعض قطاع الطريق وبعض المجرمين هم من النوابغ، فتجده يحترف في الإجرام لكن ماذا جنى من قدراته؟ إذاً: كما قلنا: إن قدرتك إذا لم تسخرها في الخير فقد تقودك إلى الشر، عافانا الله وإياك.
ولعلنا نكتفي بهذا القدر من الأسئلة حتى لا نثقل على الإخوة، وفي الختام نشكر الإخوة القائمين على الدعوة على حسن ظنهم ودعوتهم، والإخوة الحضور على استجابتهم وعلى حضورهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل لقاءنا لقاء خير وبركة، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، ونعوذ بالله من فتنة القول كما نعوذ به من فتنة العمل، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العمل بما علمنا، وأن يوفق هذه الأمة وشبابها الصاعد، هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(32/28)
الحور بعد الكور
الإقبال على السنن والالتزام بالدين في ازدياد وتوسع كل يوم، وفي الجانب الآخر نجد الفتور في الالتزام، والانتكاس الذي يصيب بعض الشباب، وهي ظاهرة خطيرة تحتاج منا مبادرة إلى دراسة أسبابها والعمل على علاجها.(33/1)
استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من الحور بعد الكور
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: ففي بداية هذا اللقاء أشكر الإخوة القائمين على هذا المركز على حسن ظنهم ودعوتهم لأتشرف باللقاء بإخواني وأحبابي الشباب، وقد سرني كثيراً أن أرى مثل هذا العدد في مثل هذه المدينة يجتمع في مثل هذه المراكز الصيفية.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثيب القائمين عليها، وأن يجعل ذلك في موازين حسناتهم يوم يلقونه.
موضوع محاضرتنا -أيها الإخوة- هو: الحور بعد الكور.
ولعل الكثير يتساءل عن العنوان ومدلوله، وقد وقع اختياري على هذا العنوان؛ نظراً لأنه كان دعاءً يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم، فعن عبد الله بن سرجس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سافر يتعوذ من وعثاء السفر وكآبة المنقلب، والحور بعد الكور، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال)، والحديث رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي والترمذي وابن ماجه.
وفي رواية أخرى: (الحور بعد الكون).
إذاً: فالحور بعد الكور أمر كان يستعيذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، ما معنى الحور بعد الكور؟ الحور: يقول صاحب لسان العرب: يقال: حار إلى الشيء وحار عنه، أي: رجع إليه ورجع عنه، فالحور إذاً هو الرجوع إلى الشيء أو الرجوع عن الشيء.
أما المقصود بهذا الدعاء في الحديث فيفسره الإمام الترمذي رحمه الله وهو أحد الذين خرجوا هذا الحديث: بأنه الرجوع من الإيمان إلى الكفر، ومن الطاعة إلى المعصية.(33/2)
ظاهرة الصحوة والإقبال على الدين
وأستأذن الإخوة الأكارم الأساتذة والآباء أن أبسط قليلاً في الحديث؛ نظراً لأن الموضوع يعني بدرجة كبيرة الشباب حتى يكون الموضوع مدركاً للجميع، سواءً الإخوة الحاضرون معنا أو من كان يسمعه من خلال التسجيل.
أيها الشباب! ظاهرة ولا شك تدركونها جميعاً وتسركم، وهي ظاهرة الإقبال الطيب من الشباب على طريق الاستقامة وطريق الخير، فنرى الكثير من الشباب يتوافدون الآن -ولله الحمد- على المساجد، يتوافدون على مثل هذه المراكز، على مثل هذه اللقاءات، قد تغيرت الصورة، أولئك الشباب الذين كانوا في السابق يتزاحمون إلى ملاعب الكرة، أولئك الشباب الذين كان هم أحدهم شهوته ودنياه العاجلة، أصبح يحمل في طياته همة عالية، فلم تعد مشكلة هذا الشاب أنه لا يستيقظ لصلاة الفجر، إنما هو الآن يسعى ويسأل عن الوسائل التي تعينه على قيام الليل، ونراه يحرص ويجتهد على أن يكون له حظ من صيام النوافل.
هذا الشاب قد أصبحت همته عالية، أصبح يتطلع إلى أن يخدم أمته، أصبح يتطلع إلى أن يفتح له باب الجهاد في سبيل الله سبحانه وتعالى، ولعلنا قد رأينا النماذج الكثيرة من هؤلاء، ورأينا النماذج من إخواننا وأحبابنا الذين قضوا نحبهم في أرض الجهاد هناك، هذه الظاهرة ولله الحمد ظاهرة طيبة وتبشر بالخير.
ولكنا نرى أيضاً في أثناء هذه الظاهرة، أن هناك عدداً يحور ويتنكب الطريق بعد أن هداه الله سبحانه وتعالى، فهذا الأمر يتطلب منا وقفة لدراسة مثل هذه الظاهرة والبحث عن أسبابها حتى نقي أنفسنا أولاً، فإن الله سبحانه وتعالى جعل للهداية أسباباً، وجعل للضلالة أسباباً.
فالله سبحانه وتعالى يقول مثلاً: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]، فالله سبحانه وتعالى يخبرنا أن الجهاد في سبيل الله من الأمور التي تجلب الهداية للعبد، وأن الإنسان إذا جاهد في الله سبحانه وتعالى استحق أن يكافئه الله بالهداية إلى طريقه؛ هذا المجاهد يستحق أن يهديه الله لأنه يريق دمه في سبيل الله حتى ينقذ الناس من الضلال، فيجزيه الله سبحانه وتعالى من جنس عمله.
ويقول الله عز وجل أيضاً في آية أخرى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [النساء:66 - 68].(33/3)
الهداية والضلال بيد الله تعالى
وفي الجانب الآخر أيضاً -جانب الضلال- يقول الله سبحانه وتعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا} [الأعراف:146]، ويقول في آية أخرى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
إذاً: -معشر الشباب- الضلالة والهداية بيد الله سبحانه وتعالى ولا شك، ولكن هناك أسباب من سلكها سهّل الله له طريق الهداية، ومن سلك أسباب الضلالة قاده ذلك -عافانا الله وإياكم- إلى الضلالة وإلى خاتمة السوء.
أنتم تعلمون جميعاً وتدركون أن الله سبحانه وتعالى من صفاته العدل، فلا يمكن أن يظلم أحداً سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يظلم الله عز وجل عبداً مثقال ذرة: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:40]، فهل تتصورون معي أن شاباً يقبل على الله سبحانه وتعالى ويتوجه إلى الله عز وجل بقلبه وقالبه، ثم بعد ذلك يضله الله ويصرفه الله دون سبب أو تقصير منه؟ لقد أخبر الله سبحانه وتعالى أخبر أنه لا يظلم مثقال ذرة، وعندما يسلك العبد طريق الضلالة، لا شك أن إرادة الله فوق كل شيء، لكن الله عز وجل قد جعل للهداية أسباباً وجعل للضلالة أسباباً.(33/4)
أهمية الحديث عن الحور بعد الكور
معشر الشباب! النبي صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله من الحور بعد الكور، إذاً: فهي قضية جدير بنا أن نحرص على معرفتها أشد الحرص، وما حالنا وحال الصالحين فضلاً عن حال أنبياء الله فضلاً عن حال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين.
معشر الشباب: الفتن والصوارف عن طريق الخير في هذا العصر أكثر، فأنت هنا تسمع الكلمة الناصحة، تسمع ما يرقق قلبك، أو تسمع ذلك في خطبة الجمعة، أو في اللقاءات الطيبة مع إخوانك الأخيار، ولكنك عندما تذهب إلى المنزل سترى في أجهزة اللهو ما يهدم كل ما بنيته، عندما تذهب إلى محل تجاري تقابلك المجلات التي تحمل تلك الصور الفاتنة، عندما تجلس مع فلان وفلان من زملائك في الدراسة أو الفصل أو الحي ماذا يتحدث هؤلاء؟ وعم يتحدثون؟ الكثير من الشباب حديثهم وهمهم هو الشهوات المحرمة وتحصيلها، ففي خضم هذا الواقع الذي هو مليء بما يفتن الشاب ويصده عن دينه، يكون جديراً بالشاب وواجباً عليه أن يحرص على أن يتعرف على أسباب الهداية، وأن يتعرف أيضاً على أسباب الحور، عله أن يجتنبها حتى يوفقه الله سبحانه وتعالى إلى سلوك الطريق المستقيم، وقبل ذلك كله وبعده هو توفيق الله سبحانه وتعالى وهدايته.
وهنا سؤال مهم: عندما نتحدث مثلاً عن هذه المشكلة فهل يعني أنها أصبحت مشكلة سائدة؟ أصبحت مشكلة عامة؟ ما مدى حجم هذه المشكلة وانتشارها؟ فلابد أن نضع الأمور في نصابها، ولابد أن نتعرف على حجم هذه المشكلة ولا نعطيها أكثر من حجمها، بحيث يتخيل كل من يسمعنا أن الفئة الكثيرة من الشباب الذين سلكوا طريق الاستقامة ينحرف عن الطريق المستقيم، وأيضاً لا نبالغ في الطرف الآخر وندس رءوسنا في التراب، ونقول: إن هذه حالات أصلاً غير موجودة أو حالات نادرة جداً، نحن يبدو لنا بادئ ذي بدء أن المشكلة كبيرة.
نعم يا إخوة! المشكلة ضخمة عندما نخسر واحداً، لا شك أن ذاك الشاب الذي رأيناه قد سلك طريق الاستقامة نتمنى أن نبذل كل ما نملك ويستمر على هذا الطريق، ولا شك والله إنه ليسوؤنا أن يتنكب واحد من هؤلاء الشباب الطريق، والأمة أحوج ما تكون إلى مثل هذه الطاقات، ومن هنا تبدو ضخامة المشكلة، لكن
السؤال
ما نسبة هذه المشكلة؟ ما حجم هؤلاء الذين ينحرفون بالنسبة إلى أولئك الذين يستمرون على طريق الاستقامة؟ نحن يخيل لنا في البداية -كما قلت- أنها مشكلة منتشرة، ومشكلة عامة وقضية خطيرة كما يثير الكثير من الشباب.
فأولاً: سأضرب لكم مثالاً: أنت الآن -مثلاً- عندما تذهب من هنا إلى مدينة عنيزة وترى ثلاثة حوادث في الطريق، تتخيل أن الحوادث كثيرة جداً، تتخيل أنه ليس هناك من أحد يسير من هذا الطريق إلا وهو معرض لأن يقع عليه الحادث، تتجاوز -مثلاً- مدينة عنيزة إلى مدينة بريدة وترى أيضاً أربعة حوادث، فتشعر بأن هذه المشكلة مشكلة عامة، تشعر بأن كل من سار في هذا الطريق معرض للحادث، لأن السيارات التي تسير في الطريق السليم ولا تتعرض للحادث لا تلفت انتباهك، لا يلفت انتباهك إلا الحالة الشاذة، حتى تصل إلى النسبة الحقيقية لحجم هذه الحوادث، خذ عدد السيارات التي أصابها حوادث وانسبها إلى عدد السيارات التي سارت ولم يصبها الحادث.
فكذلك نأتي إلى هذه الظاهرة، أنت مثلاً عندما تعرف أحد الشباب كان مستقيماً ثم قابلته بعد فترة ورأيته قد انحرف، ثم يمر عليك نموذج آخر، وثالث ورابع وخامس، تتخيل أن المشكلة عامة، لكن الآخر الذي كنت تعرفه مستقيماً، ثم قابلته بعد سنوات وهو لا زال على طريق الاستقامة لا يلفت انتباهك؛ لأن هذا سائر على الأصل.
على كل حال أنا لا أريد أن أطيل في هذه النقطة، لكن أقول: إنه مع عنايتنا بهذا الأمر يجب ألا نضخمه، وأن نخيل للناس ونتخيل أن أكثر وعامة من يسلك هذا الطريق يتنكب الطريق، ولكن المشكلة تبقى مشكلة خطيرة، لأن القضية ليست مجرد خسارة مادية بل كون الإنسان يتنكب هذا الطريق معناه أن يخسر دنياه وآخرته، فهي قضية لا تقبل التنازل، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن الأمة الإسلامية تحتاج إلى هذه الطاقات، فلا شك أن سقوط واحد يعني أننا تأخرنا قليلاً، ونحن نحتاج إلى أن نبحث عما يدفعنا إلى الأمام.(33/5)
أسباب ظاهرة الانتكاس(33/6)
ضعف الإيمان
الأسباب لهذه الظاهرة أسباب كثيرة ومتنوعة، وقد يكون بعضها داخلاً في بعض، فأول سبب وأهم هذه الأسباب هو ضعف الإيمان.
قد يكون الشاب مستقيماً يسلك طريق الاستقامة ويجالس الأخيار، لكن إيمانه ضعيف، لذلك مثل هذا الإنسان الذي لا يملك قدراً من الإيمان يعينه على الثبات على هذا الطريق عندما تعرض له شهوة أو شبهة أو له فتنة يمكن أن ينصرف عن الطريق.
عندما نأتي بعود مثلاً ونحفر له في الأرض بحيث تكون قاعدته غير صلبة قد يثبت، لكن عندما يأتي أدنى هواء يسقطه، السبب ليس في مجيء الهواء والرياح، إنما السبب أن القاعدة غير ثابتة، لكن عندما أحفر له في الأرض وأثبته بقوة لا يمكن أن يسقط اللهم إلا إذا أتت العواصف التي تهوي بكل شيء، فهذا أمر آخر، فالسبب هنا والعامل الرئيسي والأساس هو الإيمان.
ولذلك لما ذهب أبو سفيان إلى هرقل وسأله، قال: هل يرتد أحد من أصحابه؟ قال: لا، قال: وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب لا تفارقه أبداً.
وانظروا في أحداث الردة، لما مات الرسول صلى الله عليه وسلم ارتدت فئام من العرب وقبائل بأكملها، بل لم يبق على الإسلام إلا عدد محدود بالنسبة إلى المناطق التي دخلها الإسلام في ذاك الوقت، لكن من الذي ثبت على الإسلام، هل ارتد أحد من أهل بدر، هل ارتد أحد من الذين بايعوا تحت الشجرة، هل ارتد أحد من المهاجرين والأنصار، من الذين عاشوا الجهاد مع الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عامة الذين ارتدوا هم من الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات:14]، فعامة الذين ارتدوا هم من حديثي عهد بالإسلام، لم يدخل الإيمان بعد في قلوبهم، لم يعمر الإيمان قلوبهم، أما أهل مكة والمدينة ومن حولهم من الأعراب الذين قال الله عز وجل عنهم: {مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ} [التوبة:120]، أولئك ثبتوا وصمدوا، بل حتى ترى هذا النموذج في أحدهم لما كان في غزوة أحد لما قيل له إن النبي صلى الله عليه وسلم قتل في المعركة قال: وماذا تصنعون بالحياة بعده؟ اذهبوا فموتوا على ما مات عليه.
إذاً: هذا يعطينا درساً أنه كلما كان المرء أقوى إيماناً وأقوى صلة بالله سبحانه وتعالى كان أكثر ثباتاً، فقد دخلت جزيرة العرب في الإسلام، لكن حصلت الهزة بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن موته أمر ليس يسيراً على المسلمين، فأهل المدينة أصابتهم هزة، وبعضهم لم يصدق الخبر، لكن قرأ عليهم أبو بكر الآية، وانتهت الصدمة فاطمئنوا ووثقوا، وصلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ودفنوه، لكن قبائل أخرى ارتدوا من أول صدمة وأول فتنة واجهتهم وخرجوا عن دين الإسلام.
إذاً: يا شباب! الإيمان هو الأساس، ولذا يجب أن نعنى بإيماننا وأنتم تدرسون في العقيدة أن من عقيدة أهل السنة والجماعة أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فعليك أن تحرص على أن تسلك أسباب زيادة الإيمان، وتنمي هذا الإيمان في قلبك، وأن تتجنب وتحذر كل الحذر من الأمور التي تنقص من إيمانك، فإنك قد لا تواجه بعد ذلك أي فتنة وأي شهوة تواجهك، أو أي شبهة تصدك عن دين الله سبحانه وتعالى.(33/7)
السير وراء الشهوات
السبب الثاني: وهو أيضاً لا يقل خطورة عن هذا السبب وخاصة في مرحلة الشباب فإنه يعتبر عاملاً أساسياً، بل الكثير من الحالات التي مرت علي، ومنذ فترة وأنا أنزعج وأظن كل واحد منكم ينزعج حين يرى مثل هذه الظاهرة، وعندما أكتشف مثل هذه المشكلة أحاول أن أعرف السبب؛ لأنها قضية تعنينا جميعاً، أولاً حتى نتجنبها وحتى نتناصح فيما بيننا وننصح إخواننا.
فالسبب الثاني هو: السير وراء الشهوة.
وخاصة في مرحلة الشباب، وخاصة في هذا العصر، حيث تفتحت الأبواب أمام الشباب بالشهوات، وتفنن الأعداء في صد الشباب عن دينهم وفي إثارة الغرائز، واستعملوا كل ما تفتقت عنه المدنية الحديثة وكل ما تفتق عنه العلم الحديث لإثارة هذه الغرائز.
الآن يا شباب هؤلاء الذين يصنعون الأفلام، والذين يجلبون لكم هذه الأفلام الساقطة التي يراها الكثير من الشباب، هل تتخيلون أنهم أناس يريدون المادة فقط، أم أن هناك أيادي ًتريد أن تفتك بهؤلاء الشباب؟ المجلات التي ترونها وللأسف حتى في محلات التموينات، هذه المجلة التي تراها مزينة بصورة المرأة الفاتنة؛ أتدري لم يصنع هؤلاء ذلك؟ الإعلانات التي تشاهد أحياناً في المجلات وفي التلفاز، عندما يراد الإعلان يؤتى بامرأة جميلة فاتنة لتقوم بالإعلان عن هذه السلعة.
فمن وراء ذلك؟ قد يكون فئة من المغفلين النفعيين الماديين الذين يريدون المال على حساب الأخلاق والقيم، ولكن أجزم أن هناك فئة كبيرة جداً يهمها دمار الشباب، يهمها إثارة الفتن وإثارة الغرائز.
فأقول: الشاب حين يكون حديث عهد بهذه المرحلة، والشهوة تتوقد لديه، ولم يتيسر أمامه الطريق الشرعي لصرف الشهوة فيما أحل الله عز وجل من الزواج، فالذي يحصل أن الشاب يقتنع بطريق الاستقامة ويسلك طريق الاستقامة ويذهب مع الناس الأخيار ويأتي معهم، ولكنه قد يأتي إلى البيت في يوم من الأيام فيجلس أمام التلفاز فيرى تلك الصورة الفاتنة، تلك المرأة فتفتنه تلك الصورة ويتعلق بها، ثم يتدرج به الأمر حتى يهوي عافانا الله وإياكم، وحتى يوقعه الشيطان في معصية وكبيرة من الكبائر، حينئذٍ يقول له الشيطان: لا أمل لك بعد ذلك في التوبة والرجوع أبداً، ويقوده بمجرد نظرة واحدة، أو بمجرد تعلق بشهوة محرمة واحدة، يقوده بعد ذلك إلى طريق الانحراف وطريق الضلال، وهي قضية خطيرة عندما يسترسل فيها أحد.
أي معصية قد يفعلها الإنسان وينتهي أثرها، لكن النظرة الحرام لا ينتهي أثرها، ليست القضية أنك عندما تنظر إلى تلك الفتاة أو إلى ذاك الغلام تكتب عليك سيئة وتنتهي، نعم هي سيئة تكتب عليك وستحاسب عليها، فإن شاء الله عفا عنك أو عاقبك، لكن لا تقف القضية عند هذا الحد، فإن هذه النظرة يعقبها ما بعدها، أنت تنظر النظرة ويزول أمامك هذا الذي نظرت إليه، ثم بعد فترة عندما تذهب للمنزل يبدأ الشيطان يحرك هذه الصورة في ذهنك، وتبدأ تتدرج القضية إلى تفكير، ثم يطول التفكير حتى يستولي على الشاب حتى يفكر في هذه الشهوة في صلاته وهو بين يدي الله عز وجل! ماذا بقي لله سبحانه وتعالى؟ تستولي عليه هذه الشهوة حتى يبدأ يفكر في تفريغ هذه الشهوة فيما حرم الله، فقد يقع أحياناً في العادة السرية، ثم وقوعه في هذه المعصية يسهل له ما بعدها، حتى تقوده إلى التهاون بالنظرة الأخرى، ثم بعد ذلك يتدرج به الأمر حتى يهوي عافانا الله وإياكم.
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يحذر من النظر، ويوصي صاحبه وصهره علياً رضي الله عنه يقول: (لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الثانية)، {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:30 - 31].
وإذا تبدت أمامك تلك الصورة التي قد تنال من قلبك شيئاً، فتذكر تلك الصورة التي لا يمكن أن تقارن أبداً بهذه الصورة، تذكر تلك التي لو اطلعت على أهل الأرض لأضاءت ما بينهما، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت على أهل الأرض لملأت ما بينهما، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها).
وفي الحديث الآخر أيضاً: يقول صلى الله عليه وسلم: (أول زمرة يدخلون الجنة على هيئة القمر ليلة البدر ثم الذين يلونهم إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: لكل امرئ منهم زوجان من الحور العين يرى مخ ساقهما من وراء اللحم، وما في الجنة أعزب)، اختر أحد البديلين، واعلم أنك عندما تفتح أمامك أبواب الشهوات وأبواب النظرة الحرام، وتصرف نظرك لله سبحانه وتعالى، أن ذلك مهر تقدمه بعد ذلك للحور العين، ذاك النعيم الذي لا يمكن أن يزول ولا يمكن أن يحول أبداً.(33/8)
التهاون بالمعاصي
السبب الثالث: التهاون بالمعاصي.
الله سبحانه وتعالى حكى عن طائفة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، هؤلاء فروا من الزحف، والفرار من الزحف ليس من الكبائر فحسب بل هو من السبع الموبقات، هؤلاء بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين فروا من الزحف في غزوة أحد، فما السبب؟ قال تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، فبسبب بعض ذنوبهم وبعض سيئاتهم استزلهم الشيطان حتى أوقعهم في تلك الكبيرة، وماذا عسى أن تكون سيئات أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ في غزوة أحد قبل أن يعز الإسلام ما كان يدخل في الإسلام إلا الصادقون، ولا شك أن السابقين في الدخول للإسلام ليسوا مثل غيرهم، ومع ذلك لما فعلوا بعض السيئات تسلط عليهم الشيطان وأوقعهم في الفرار من الزحف، ولكن الله سبحانه وتعالى عفا عنهم كما في آخر الآية، فأنت عندما تتهاون بالمعصية الصغيرة تفعلها مرة أخرى، فيزول استقباح المعصية من نفسك، فتصبح تتجرأ على المعصية التي هي أكبر منها حتى تتجرأ على الكبائر، وتتجرأ على الفواحش، ثم تعرض بعد ذلك وتسير في طريق الغافلين.
ولذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إياكم ومحقرات الذنوب، فإن مثل ما تحقرون من أعمالكم كمثل قوم نزلوا بطن واد فجاء هذا بعود وذا بعود حتى أشعلوا نارهم وأنضجوا عشاءهم، وإن محقرات الذنوب متى ما يؤخذ بها المرء تهلكه)، يضرب لنا النبي صلى الله عليه وسلم مثلاً بليغاً، مثل قوم جاءوا في واد وأرادوا أن ينضجوا عشاءهم، فما وجدوا حطباً، فجاء كل واحد بعود، ووضعوا هذه الأعواد فأشعلوا تلك النار، فتخيل تلك النار التي ستنتج نتيجة هذه الأعواد، ومن هذا المعنى يعظك أحد السلف قائلاً: خل الذنوب صغيرها وكبيرها ذاك التقى واصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى لا تحقرن صغيرة إن الجبال من الحصى فالجبل عبارة عن حصيات صغيرة، لو جئنا الآن إلى جبل عظيم وفجرناه لتفتت إلى حجارة صغيرة جداً، فإذا جمعت هذه الحجارة فستكون كوماً هائلاً لا يمكن أن تتصوره.
ويخاطب النبي صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة فيقول: (يا عائشة! إياك ومحقرات الأعمال، فإن لها من الله طالباً)، فالحذر الحذر معشر الشباب من المعاصي! وقلنا لكم في السبب الأول: إن من أهم الأسباب ضعف الإيمان، وقلنا لكم: إن هناك أموراً يزيد بها الإيمان وأموراً ينقص بها الإيمان، ومما ينقص الإيمان المعصية، وعندما يفعل الإنسان معصية يتجرأ على التي تليها، ثم يتجرأ على التي تليها حتى يتجرأ بعد ذلك على الكبائر والفواحش كما أسلفنا، ثم بعد ذلك يقول: إنني لا أستحق أصلاً أن أسير في طريق الصالحين، وأنا إنسان ملوث سيئ، وأنا إنسان منافق أظهر ما لا أبطن، ثم بعد ذلك ينحرف ويسير في طريق الضلال، عافانا الله وإياكم.(33/9)
عدم العناية بتربية النفس والصلة بالله
السبب الرابع: عدم عناية الشاب بتربية نفسه وصلته بالله سبحانه وتعالى.
يكون الشاب مثلاً قد وفقه الله لصحبة صالحة يذهب هو وإياهم ويأتي هو وإياهم، يذهبون مثلاً إلى مثل هذه المراكز الصيفية، أو إلى حلقة من حلق القرآن، أو إلى أي مكان يجتمع فيه الشباب الأخيار، قد يسافرون، يقرءون القرآن، يصلون، يسمع المواعظ معهم، وهو يذهب بدافع من نفسه، ويشعر فعلاً بالارتياح، لكنه عندما يرجع إلى المنزل لا يهتم بنفسه، ولا يعتني بنفسه، ويعتبر أن القضية تنتهي عندما يسير مع الأخيار.
ولا شك يا إخوة أن مجرد مسايرة الأخيار لا تكفي، لكن يجب أن ننتقل إلى الخطوة الثانية، فكل إنسان سيقدم إلى الله وحده: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95].
(ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان).
الذي يحصل أن الشاب يذهب مع الأخيار ويأتي، وهو صاحب نية صادقة، ويشارك معهم في أعمال الخير والطاعة، لكنه لا يعتني بنفسه عندما يكون في المنزل، فلا يحرص على العبادة، وليس له نصيب من قراءة القرآن، ولا من قيام الليل ولا من غيرها من العبادات التي تقربه إلى الله سبحانه وتعالى، وخاصة أعمال السر، لابد أن يكون لنا منها نصيب؛ لأن لها أثراً في إصلاح النفس، وأثراً في صلة النفس بالله سبحانه وتعالى، فليس بالضرورة أن تقوم ثلث الليل كله، ولكن ربع ساعة أو نصف ساعة، بل لو لم تستطع أن تقوم الليل فصل قبل أن تنام ركعتين واطمئن فيهما، أمسك المصحف واقرأ كتاب الله سبحانه وتعالى بتدبر وتمعن، قف مع نفسك وتفكر في الدار الآخرة، تفكر في حياة البرزخ، ليكن لنفسك حظ من العبادة، اعتن بنفسك، لا يمكن ولا يليق أبداً أن يعطي أحد الآخرين وكالة عن نفسه، فهذه أمور أنت فيها مسئول عن نفسك: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164]، ولن ينفعك مجرد كونك تسير مع فلان أو فلان أو فلان من الناس.
لا شك أن هذه الخطوة مطلوبة وندعو كل شاب أن يحرص عليها، وهي خطوة مجالسة الأخيار، لكن يجب أن ننتقل إلى الخطوة الثانية وهي أن نعتني بأنفسنا بعد ذلك، وأن نحرص على أن يكون لنا نصيب من تلاوة كتاب الله سبحانه وتعالى، ونصيب من الصلاة، ونصيب من الصيام، ومن أعمال السر بيننا وبين الله عز وجل، فإن لذلك أثراً عظيماً في إصلاح النفس.(33/10)
الغثائية وعدم القناعة
السبب الخامس: الغثائية وعدم القناعة.
الأمة الإسلامية تشكو من الغثائية، كم من الناس من يشهد أن لا إله إلا الله، لكنهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (غثاء كغثاء السيل)، بعد انتشار الصحوة أصبح يوجد نوع من الغثائية، يكون الشاب مثلاً له أخ مستقيم أو ابن عم أو قريب، أو نشأ في بيت محافظ، ويؤتى به إلى مثل هذا المركز ويرى العدد الكبير من الشباب الطيبين، وعندما يذهب ليصلي في الجامع يرى ذلك، وعندما يذهب إلى الحرم المكي أو إلى المحاضرات يرى عدداً كبيراً من الشباب الطيبين، فأصبح جواً عاماً، وسار مع الناس وليس عنده قناعة تامة، يعني ليس عنده تلك الرغبة القوية بحيث يشعر أن هذا الطريق لابد أن يسلكه، يشعر أن هذا هو ما أمره الله سبحانه وتعالى، ويشعر أن الطريق الآخر طريق ضلال وانحراف، وأن هذا لا خيار له فيه أصلاً، وهو لا يسلك هذا الطريق لأنه جالس مع فلان وفلان من الناس.
فعندما يكون مستوى القناعة عنده ضعيفاً وإنما يأتي عن عاطفة واستجابة لدعوة فلان أن يكون مع الأخيار، يكون عنده استعداد لأن يتخلى عن الطريق لأي مشكلة تعرض له.
وهنا لابد أن يكون عندنا قناعة، وأن نعرف أن القضية مستقبل، أنتم الآن اعتدتم أن تسمعوا من آبائكم ومن أساتذتكم وممن حولكم: يا بني أنت لابد أن تعتني بمستقبلك، فهو يدرس ويجتهد في الدراسة حتى يعتني بمستقبله، يريد أن يحصل على تقدير عال حتى يؤمن مستقبله، وهكذا يصبح هذا المستقبل هاجساً، بل يصبح أحياناً وللأسف وثناً، فهو يسترخص كل شيء لأجل هذا المستقبل، وما هو المستقبل الذي يتجه إليه الجميع؟ فعندما يقال: أمِّن مستقبلك ماذا تفهم من هذه الكلمة؟ تفهم من هذه الكلمة أنه يلزمك أن تحصل على مركز وظيفي أو مركز اجتماعي مرموق، وفي النهاية ستموت وترحل، الرجل الذي حصل على مركز اجتماعي عال مثل الرجل الفقير الصعلوك الذي لا مال له، سيرحلون جميعاً ولا فرق، فما هو المستقبل الحقيقي إذاً؟ المستقبل الحقيقي: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، هذا هو المستقبل الذي يجب أن نتطلع إليه، والذي يجب أن نرتب أمورنا وحياتنا على أساسه، يؤتى بالموت على هيئة كبش، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، الموت.
ويقال: يا أهل النار أتعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، الموت، فيذبح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت.
نعم لا شك أن الشاب سيحرص على أن يؤمن له وظيفة، وأن يكون له مركز اجتماعي مناسب، ولكن المستقبل الحقيقي الذي يجب أن نسعى إليه، ونربط أمورنا كلها به هو هذا المستقبل.
إذاً: فأنت يجب أن تعرف أن طريق الاستقامة وطريق الالتزام ومعاشرة الأخيار ليست مجرد عواطف، ولكن القضية مستقبل، فتسلك هذا الطريق وأنت تعرف نهايته، وتسلك الطريق الآخر وتعرف نهايته.(33/11)
عدم الجدية
السبب السادس: عدم الجدية: بعض الناس عنده استعداد أن يخرج مع الأخيار في رحلة قد يكون فيها فوائد طيبة، وفيها مجال للانبساط وحظ النفس، ممكن أن يأتي ويشارك في المركز الصيفي وما فيه من البرامج الجادة، لكنه سيجد فيه برامج رياضية، وسيجد فيه ما يزيل السأم عن النفس، ولا شك أن النفس تميل إلى مثل هذا الأمر، لكن عندما تأتينا أشياء جادة، كأن يقال: هناك درس علمي فمن يريد أن يبقى فليبق، والذي يريد أن ينصرف فلينصرف، ستجد أن هذا الدرس لا يقبل عليه إلا عدد أقل، عندما يكون هناك برامج جادة كأن يقال للشاب: نريدك أن تقرأ هذا الكتاب، وحجمه 300 صفحة أو 400 صفحة، أو عندما يقال له في أمر من باب الجهاد في سبيل الله عز وجل.
نحن نمني أنفسنا بالجهاد، ويحدث الواحد نفسه فيقول: الآن أتمنى إن شاء الله أن يتاح لي المجال للجهاد والشهادة، لكن هذه أماني، وعندما تأتي الحقيقة تتغير الصورة، وأظن أنه قد مرت بكم تجربة وكانت الأحداث بعيدة عنكم، ومع ذلك أصبحت القلوب ترجف، وأصبح الإنسان يريد أن يبذل كل شيء ليسلم فقط من هذا الخطر الداهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} [النساء:77].
نحن لا نريد مظهراً خارجياً في شاب يلتزم بالأمور المظهرية فيقصر ثيابه ويعفي لحيته ويحافظ على السنن الرواتب وغيرها من الأمور، وهذه أمور مطلوبة، لكن أقول: العبرة بالصبر على التكاليف الجادة مثل أن يصبر الإنسان على الفتن، أن يصبر على المصائب، أن يعد نفسه للجهاد في سبيل الله.
هل تتخيلون أن يزيد عدد الشباب الأخيار ثم يصبحوا آباء ومسئولين، وبعد فترة تقوم عندنا دولة إسلامية وخلافة إسلامية؟ لا، فلابد أن تحصل فتن ولابد أن تراق دماء: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، فأقول: الطريق الذي تسلكونه طريق سجن، طريق مصائب، طريق يحتاج إلى أن يضحي الإنسان بماله وبراحته، بل أحياناً يضحي بنفسه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].
إذاً: نعود إلى ما أشرنا إليه، فنقول: إن بعض الشباب قد يكون شخصية غير جادة، يسلك طريق الاستقامة وقت الراحة، لكن عندما تأتي قضايا جادة تتطلب الصبر والتضحية يحس أنه مهدد أن يصيبه ما يصيبه، وسرعان ما يهلك، ولذلك تصبح الفتن هي المحك؛ لأن أكثر ما يكون التساقط عند الفتن، وسميت فتناً لأنها تصفي الناس وتميز سالصادقين: {فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:3].
فأقول: يجب أن نربي أنفسنا على الجدية، ولا حرج أن يكون لنا حظ من اللهو المباح في لقاءاتنا مع زملائنا وإخواننا، يكون لنا حظ مثلاً من الرياضة المباحة، لكن بشرط أن نتطلع إلى أمور أعلى، ونكون جادين، ولا نكون شخصيات هازلة.(33/12)
ضعف الشخصية
ننتقل بعد ذلك إلى السبب السابع: ضعف الشخصية: بعض الناس عندما يكون مع الأخيار سرعان ما يتحول زاهداً ورعاً تقياً صالحاً، لكنه ليس عنده ثبات، فبعد يوم أو يومين يعاشر فلاناً من الناس فسرعان ما ينصرف وينحرف.
وهناك قضية تحصل كثيراً وهي أن الشاب يكون له زملاء أخيار يذهب معهم ويأتي معهم، فيسافر مثلاً إلى بلدة أخرى أو هم يسافرون مثلاً ولا يذهب معهم، فينقطع عنهم مدة أسبوعين أو ثلاثة أسابيع، فأحياناً تجده قد رجع بغير الوجه الذي ذهب به كما يقال، تغير وجهه جملة وتفصيلاً، لماذا؟ لأن الرجل -كما قلنا سابقاً- ما كان يعتني بنفسه، فلم لكن له حظ من عبادة الله وطاعة الله عز وجل، وأيضاً هو رجل ضعيف الشخصية سرعان ما يتأثر، وأي إنسان يستطيع أن يقوده، وأن يؤثر عليه.(33/13)
الإعجاب بالنفس والغرور
السبب الثامن: الإعجاب بالنفس والغرور: والذي أوقع الشيطان فيما أوقعه فيه هو إعجابه بنفسه وغروره، ومهما كان عليه الإنسان من الإيمان والتقوى والصلاح فبدون تثبيت الله وتوفيق الله عز وجل لن يستطيع الثبات أبداً.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان كثيراً ما يقول: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، وكان يقول في قيام الليل: (اللهم رب جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)، وكان يستعيذ بالله من الحور بعد الكور، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو بهذا الدعاء عبثاً، بل إن الله يقول له: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، فالنبي صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى تثبيت الله، فغيره من باب أولى.
المشكلة أن بعض الشباب يحس بأنه قد وصل إلى مرحلة استقرار، وأصبح عارفاً لكل شيء، وأنه إنسان ليس عنده أي قصور، وقد أصبح الآن بحاجة إلى أن يعطي، وليس بحاجة إلى ما يزيد إيمانه وطاعته، وعندما يشعر الإنسان بأنه اكتمل فقد بدأ النقص، وهذا ما يريده الشيطان.
فالحذر الحذر -يا شباب- من الإعجاب بالنفس، وعندما تتخيل أنك صاحب عبادة، فتذكر سيرة العباد واقرأ سير العباد لترى المسافة الشاسعة بينك وبينهم.
وعندما ترى نفسك وصلت منزلة من الورع والزهد فاقرأ سير الزهاد وأهل الورع.
وعندما تتخيل أنك بذلت جهداً في الدعوة فاقرأ سير الأنبياء، واقرأ سير السابقين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم لترى المسافة الشاسعة بينك وبين أولئك، ومع ذلك كان أولئك يبكون ويتضرعون إلى الله عز وجل أن يثبتهم على هذا الطريق وأن يهديهم إلى الطريق المستقيم؛ فهل أنت خير منهم؟!(33/14)
الغلو
السبب التاسع: الغلو.
وهذا أحياناً ما يسلكه الشيطان، فعندما يجد الإنسان عنده حماس أكثر يصعب أن يأتيه من طريق التقصير؛ فيأتيه من طريق الغلو، كيف يكون،
و
السؤال
كيف يكون الغلو سبباً للانحراف؟ يكون سبباً للانحراف إما أن يبتدع أصلاً، ويصبح مثل المبتدعة الخوارج وغيرهم، فيبتدع في دين الله ما لم يأذن به الله، أو العكس الذي يحصل كثيراً مثلاً عندما يأتي الشاب وقد يكون صاحب معاص وتقصير على نفسه فيتوب ويلتزم، فيقول: أنا الآن صاحب تقصير وإهمال، ولا يغسل عني هذه الذنوب إلا أن أقبل إقبالاً صادقاً على الله عز وجل، فيكلف نفسه من الأعمال ما لا يطيق ويتعب نفسه ويرهقها، ثم النتيجة أنه يتحمل شهراً، أو شهرين، لكن بعد ذلك لا يستطيع أن يتحمل، فإذا لم يتحمل لا يعود إلى الاعتدال، ولو كان سيعود إلى الاعتدال فلا إشكال، لكن يعود إلى الطريق السابق، وإلى الاتجاه الآخر.
فحذار حذار من الغلو، وعندما نحذر من الغلو، لا يعني ذلك أنا ندعو إلى التساهل، فمعنى الغلو إنما نفهمه من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ألا تكلف نفسك من الأعمال ما لا تطيق، ولكن أيضاً لا تستلم للكسل حذراً من أن تقع في الغلو، فالاعتدال والتوسط هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ولذلك يحذر النبي صلى الله عليه وسلم من الغلو فيقول: (إياكم والغلو في الدين).(33/15)
عدم القدرة على استغلال الوقت
السبب العاشر: عدم قدرة الشاب على استغلال وقته: كيف يكون هذا السبب؟ نعم سبق أن أشرت إليه، مثلاً عندما يكون الشاب له زملاء أخيار يجلس معهم، ويحفظون عليه وقته، لكن انقطع عنهم لسبب أو لآخر، يبقى في المنزل يوم يومين أو ثلاثة أيام أو أربعة أيام وما اعتاد أن يستغل وقته استغلالاً جيداً، فينصرف إلى اللهو والشهوات، ويكون معرضاً لأن يذهب مع فلان أو فلان من الناس، والشيطان يتمنى هذه اللحظة، ولو كان قد تعود على أن يستغل وقته لكان سيستغل جزءاً من وقته في حفظ القرآن، وجزءاً منه في القراءة، وجزءاً في سماع أشرطة إسلامية، وجزءاً في صلة رحمه، المهم أنه سيستغل وقته فيما ينفعه، وجزءاً يصرفه في اللهو المباح الذي لا يأخذ عليه عامة وقته، ومهما كان عليه الإنسان من العبادة والطاعة إذا لم يتعود على أن يستغل وقته فإنه إذا بقي لوحده فارغاً في البيت فلن يستطيع وسيفشل ويتعب، ولذا يجب أن نعود أنفسنا على استغلال أوقاتنا في طاعة الله سبحانه وتعالى، ولا يكون ذلك مؤدياً إلى الانحراف عافانا الله وإياكم.(33/16)
الفتن والمحن
السبب الحادي عشر: الفتن والمحن: ولذلك بعدما أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم ارتد ناس، كما روى ذلك الحاكم والبيهقي؛ لأنها قضية مفاجأة لا يتحملها كل إنسان، النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة واحدة يسرى به من مكة إلى المسجد الأقصى ثم يعرج به إلى السماء، ويعود في نفس الليلة! قضية لا يصدقها إلا إنسان يؤمن بالغيب فعلاً، ولذلك ارتد بعض من كانوا أسلموا عندما سمعوا بهذا الأمر، والردة العظمى حصلت كما أشرنا في بداية المحاضرة لما مات النبي صلى الله عليه وسلم، لكن أذكركم بما قلته في أول المحاضرة أن هذه الفتن إنما تفتن وتصد من كان ضعيف الإيمان، أما من كان قوي الإيمان، فإن الله سبحانه وتعالى يثبته ويعينه.(33/17)
ضغط الدنيا
السبب الثاني عشر: ضغط الدنيا: أحياناً يكون الشاب في بيت غير محافظ، بيت سيئ فيه فتن، فيقاوم ويقاوم وبعد ذلك لا يستطيع الثبات، وأحياناً يكون له أبناء عم أو أبناء خالة أو غيرهم من الأقارب، فيصبح يقضي وقته معهم، فعندما تأتي مناسبة زواج مثلاً يجلس معهم، وقد لا يكونون بلغوا الغاية من الانحراف، لكن على الأقل عندهم ما عند غيرهم من الشهوات، فعندما يجلس معهم يسخرون منه، ولا يستطيع أن يظهر بالمظاهر التي اعتاد عليها، فيبدأ يترك السنة الراتبة مجاملة، يأخذ معهم في الحديث في أمور لا ترضي الله ورسوله، وهكذا يتنازل تدريجياً، حتى سرعان ما يهوي ولا يستطيع أن يتحمل مثل هذا الضغط الذي يواجه مرة بالسخرية ومرة باللمز ومرة بصورة أو بأخرى.
الإنسان الذي عنده قوة إيمان وثبات وصلة بالله سبحانه وتعالى يستطيع أن يواجه ويقاوم كل هذه الفتن وهذه الصوارف.(33/18)
وجود بعض الرواسب
السبب الثالث عشر: وجود بعض الرواسب: قد يتوب الشاب مثلاً ويلتزم، لكن يبقى عنده قضايا لم يتخلص منها كمعصية أو شهوة معينة، أو قضية تبقى معه ويأتي ما ينميها ويثيرها فتقضي عليه وتعيده إلى ما كان عليه.(33/19)
الجليس والصحبة
السبب الرابع عشر والأخير: وتعمدت أن أؤخره لأهميته؛ فالشيء إنما يقدم لأهميته ويؤخر أيضاً لأهميته؛ لأن ما يؤخر يكون غالباً آخر ما يبقى في الذهن.
والسبب الرابع عشر هو الجليس والصحبة: فالصحبة قد تكون صحبة عامة وقد تكون خاصة، فمثلاً أي شاب عنده مجموعة من الأقران والزملاء، هم جلساؤه، هذه القضية نتفق عليها، وما أظنكم بحاجة إلى أن أتحدث معكم عن أثر الجليس، لكن النقطة التي أشير إليها الآن لأهميتها هو الجليس الخاص، فيأتي الشاب مع مجموعة طيبة ومع أناس أخيار يعتبرهم صحبة له، ثم يصطفي داخل هذه المجموعة اثنين أو ثلاثة تجده يذهب معهم ويأتي معهم دائماً، وعندما تقابلهم تستطيع أن تكتشف هذه العلاقات الخاصة، فتجده لا يذهب إلا مع فلان ولا يأتي إلا مع فلان، فهنا يحصل الخلل، فقد يكون المجموعة خيرة ومع ناس أخيار ومستقيمين، ولكن قد يكون مع أحدهم ممن التحق بهم حديثاً أو ليس على مستوى أولئك، فيكون عنده ضعف وعنده بعض الشهوات، فعندما ضعيف مع ضعيف يكونان ضعيفين، وقد يجتمع الثالث فيكونون ثلاثة ضعفاء، فيجر بعضهم بعضاً ويهوي بعضهم ببعض.
فيجب -يا شباب- أن نختار لأنفسنا الجليس وخاصة الجليس الخالص، ولا يكفي مجرد الانتماء إلى مجموعة خيرة، لكن حتى داخل هذه المجموعة الخيرة يجب أن تصطفي من ترى أنه أقوى منك إيماناً وأكثر منك طاعة لله سبحانه وتعالى، ولا تختر أضعف المجموعة وأقلها، فيهوي بك وتهوي به، ويأخذ بعضكم بيد بعض حتى تخرجون خارج هذه الدائرة.(33/20)
العلاج الفردي لظاهرة الانتكاس(33/21)
معرفة الأسباب والحذر منها
ننتقل بعد الحديث عن الأسباب إلى العلاج.
العلاج لا شك أنه مهم لكن أظن أن معرفة الأسباب وما سبق يغنينا عن الإسهاب في العلاج، وإذا عرفنا الأسباب عرفنا (75%) من خطوات العلاج، فلعلي أذكر بعض الخطوات باختصار شديد.
هذه الأمور أولاً: العلاج يمكن أن نقسمه إلى شقين: الشق الأول: أمور فردية يفعلها الإنسان من نفسه.
والشق الثاني: أمور تتعلق بالمربي الذي يتولى تربية الشباب وتوجيههم، فيجب أيضاً أن يمارس أنواعاً من العلاج مع أمثال هؤلاء الشباب، فأول قضية بالنسبة للقضايا الفردية، أول قضية كما قلنا هي معرفة تلك الأسباب والحذر من الوقوع فيها.(33/22)
الخوف من الانتكاس
الأمر الثاني: الخوف، أن يخاف الإنسان على نفسه من الوقوع في هذا الأمر، وعندما تقرأ قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا} [الإسراء:74]، {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ} [النساء:113].
يوسف عليه السلام ويثبت ويواجه الفتنة ثم يقول: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [يوسف:33]، إبراهيم عليه السلام يحطم الأصنام بيده ويواجه قومه ثم يقول: {وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الأَصْنَامَ} [إبراهيم:35]، أنت تخاف من سلوك هذا الطريق، وأن تعرف أنك لن تضمن نفسك إلا عندما ترى الملائكة يقبضون روحك، إذا أمنت فهذه بداية للوقوع في الطريق، ولذلك كان السلف يقولون عن النفاق: ما أمنه إلا منافق ولا خافه إلا مؤمن، أن تخاف ولا يكون الخوف مجرد هاجس، بل يكون خوفاً يدعوك إلى العمل بعد ذلك.(33/23)
تقوية الإيمان والصلة بالله سبحانه وتعالى
الأمر الثالث: تقوية الإيمان والصلة بالله سبحانه وتعالى، وسبق أن أشرنا إلى هذه القضية.(33/24)
المبادرة بتصحيح أي تقصير أو خلل
الأمر الرابع: المبادرة بتصحيح أي تقصير أو خلل: حين تكتشف أنك بدأت تتراجع فبادر إلى علاج نفسك ولا تنتظر الآخر.
يحصل عند الإنسان مد وجزر، فعندما تجد نفسك نزلت قليلاً بادر إلى علاج نفسك والرقي بإيمانك، لكن عندما تهمل تبدأ تنزل تدريجياً حتى تصل إلى مرحلة لا تستطيع بعد ذلك أن تعالج نفسك، فعندما تكتشف من نفسك ضعف إيمان أو تقصير أو خلل فبادر ولا تتأخر في التوبة والإقبال على الله سبحانه وتعالى وعلاج هذا الخلل.(33/25)
الدعاء
الأمر الخامس وهو أمر مهم جداً معشر الشباب: الدعاء: قال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62].
تخيل معي شاباً يسلك طريق الاستقامة ويتخلى عن الشهوات والفتن ويقبل على الله ويحرص على العبادة، ثم يظل يبكي بين يدي الله سبحانه وتعالى ويسأل الله ويتضرع إليه، ويسلم نفسه لله سبحانه وتعالى ويسأله أن يثبته على هذا الطريق، وأن يهديه إلى الصراط المستقيم، فهل تتصور بعد ذلك أن يتخلى الله عنه، فالله سبحانه وتعالى أرحم بعباده من الأم بولدها، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما على وجه الأرض من مسلم يدعو الله بدعوة إلا آتاه الله إياها، وصرف عنه من السوء مثلها).
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو في قيام الليل الدعاء الذي أشرت إليه: (اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
فاحرص يا أخي على أن تسأل الله الثبات، على أن تسأل الله الهداية دائماً، حتى ولو كنت ترى أنك قد سلكت طريق الهداية، فالنبي صلى الله عليه وسلم أهدى الناس وكان يسأل الله عز وجل أن يهديه وأن يثبته، ولا تمل من الدعاء والإلحاح على الله عز وجل، واعلم أنك مهما ازددت إلحاحاً على الله عز وجل بالدعاء فإن ذلك أحظى لك وأقرب لك منزلة عند الله سبحانه وتعالى.(33/26)
العلاج الجماعي لظاهرة الانتكاس
النقطة الثانية: وهي الأمور الجماعية التي يجب على المربي أن يعتني بها، وتتلخص في أمور:(33/27)
الارتقاء بالمستوى التربوي
الأمر الأول: الارتقاء بالمستوى التربوي، من ناحية العناية بالإيمان والعناية بالجدية، نريد أن نربي شباباً أصحاب ورع وعبادة وطاعة لله سبحانه وتعالى، ولا نريد مظاهر، نريد شباباً جادين، عندهم استعداد أن يستجيبوا لله ويقدمون مرضاته على حظوظ النفس.
وأخاطب الإخوة الأساتذة والمربين فأقول: إن الشباب مهما كانوا فهم قادرون على أن يصلوا إلى مستويات عالية من التربية، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ألم يكونوا بشراً؟ الشباب الذين رأينا نماذج كثيرة منهم في أرض الجهاد في أفغانستان، يترك أحدهم أهله وماله ويذهب هناك ويسلم نحره للعدو، هم شبابنا ومن مجتمعاتنا، بل قد يكون بعضهم عاش في فتن أكثر مما عاشه أولئك الشباب، فالشباب مهما كانوا فهم قادرون على أن يصلوا إلى مستويات عالية من التربية، لكننا نظراً لأننا نمارس تربية دون المستوى المطلوب نتخيل أن هذا هو القدر الذي يمكن أن يصل الشباب إليه.
فلابد من الارتقاء بتربية الشباب من ناحية الإيمان، والجدية والعلم النافع، فالعلم هو الذي يعين الإنسان على الثبات، ويجعل الإنسان يعرف الحق من الباطل، عندما يغرم الإنسان بالعلم يعرف أنه سلك طريقاً لن ينتهي به، أما عندما تكون القضية مجرد عواطف، ومجرد ذهاب فلان مع فلان وفلان من الناس فسرعان ما يمل هذا الطريق.(33/28)
المتابعة الدقيقة
الأمر الثاني: المتابعة الدقيقة، فهؤلاء الشباب أمانة في أعناقكم، وتسألون عنهم يوم القيامة، وكل راع مسئول عن رعيته.(33/29)
الحرص على الاستدراك في المراحل الأولى
الأمر الثالث: الحرص على الاستدراك في المراحل الأولى: عندما ترى تقصيراً على أحد هؤلاء الشباب وخللاً يجب أن تبادر في البداية؛ لأنه عندما يهوي يصعب بعد ذلك استدراكه.(33/30)
المناصحة
وأخيراً: المناصحة: فعندما ترى أحداً قد أعرض يجب أن تناصحه، وتبذل كل ما تستطيع، وليس عليك إلا المناصحة والبلاغ، والتوفيق والهداية بيد الله سبحانه وتعالى.
أكتفي بهذا القدر، وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لطاعته، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.(33/31)
الأسئلة(33/32)
معنى الحور بعد الكور
السؤال
إني أريد معنى واضح وصورة مبسطة لهذه الكلمات: الحور بعد الكور؟
الجواب
إن معنى الحور بعد الكور هو الانحراف بعد الاستقامة؛ إما الكفر بعد الإيمان، أو الانحراف بعد الاستقامة، يعني: بدلاً من أن كان مطيعاً تحول إلى عاص.(33/33)
سماع الأناشيد والتعلق بالأشخاص
السؤال
بعض الشباب لا يسمعون غالباً إلا الأناشيد، فهل عليهم خطر الانحراف؟ والسؤال الثاني: بعض الشباب قد يلتزم بسبب شخص معين، فيصبح هذا الشخص هو قدوته، فيعلق التزامه عليه، فإذا حدث أي خلل من ذلك القدوة تأثر التزام ذلك الشاب، ألا يكون هذا من أسباب الحور؟ نرجو التحدث عن هذه النقطة.
الجواب
القضية الأولى لا شك أنها قضية سلبية، ومن الخطأ ألا يسمع إلا الأناشيد، بل بقدر ما يتقلل منها يكون أولى، لأنك لا تستفيد منها علماً ولا قربةً ولا طاعة لله سبحانه وتعالى، وإذا كان الإنسان يحتاج إلى إجمام النفس فلا بأس، لكن لا نبالغ أحياناً ونقول إن تحثنا على الجهاد فإن الجهاد يحتاج إلى رجال، لا إلى نشيد.
فأقول: سماعها لا حرج فيه، لكن علينا أن نتقلل قدر الإمكان، ونحرص على سماع القرآن وعلى سماع المحاضرات والدروس العلمية التي تفيدنا، وبعد أن تعود نفسك لا تصبر على مثل هذه الأشرطة، يعني في البداية أنت تحتاج إلى أن ترغم نفسك على سماع المحاضرات والدروس العلمية التي يكون فيها نوع من الجفاف، لكن بعد ذلك تصبح أمنية لك، وتصبح تبحث عن الشريط بأي وسيلة.
الشق الثاني من السؤال وهو قضية التعلق بالأشخاص، لا شك أن له دوراً كبيراً، والدليل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما مات ارتد الكثير من الناس، ولذلك ينهانا الله سبحانه وتعالى حتى أن نعلق أنفسنا بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ} [آل عمران:144].
ثم افترض مثلاً أن هذا الذي دعاك إلى طريق الاستقامة انحرف، فهل يعني هذا أن تنحرف؟ لا، هذا طريق واضح، مستقبلك الحقيقي هو معلق بسلوكك لهذا الطريق، وليس ذلك لأجل فلان من الناس، وفلان من الناس جزاه الله خيراً كان سبباً في هدايتك وله دور في تعليمك ودعوتك، لكن لا يعني هذا أن تقلده في كل صغيرة وكبيرة، لكن تستفيد مما عنده من الخير، ولا يمنع أن تستفيد ممن سواه.(33/34)
كيفية ترك الأصدقاء السيئين
السؤال
إنني أسير مع أصدقاء سيئين، وأسير مع أصدقاء صالحين، وأريد أن أترك السيئين، فما هو الطريق الذي أسلكه لكي أتجنبهم؟
الجواب
كثيراً ما يأتي مثل هذا السؤال وغيره، وأحياناً تأتيني رسائل في البريد من بعض الشباب يقول: إنني أعاني من هذه المعصية، وفعلت وفعلت ولم أستطع التخلص منها، وأحدهم يقول: أنا أسير مع السيئين وأحاول أن أتخلص منهم وعجزت، حتى سألني أحدهم مرة سؤالاً يقول: إنني أعق والدي، وعجزت أن أتخلص من عقوق الوالدين! يا أخي أنت تعرف أن هذه معصية، والحل هو ترك المعصية باختصار.
تعرف أن هذه طاعة فجاهد نفسك على الطاعة، إذا لم تستطع فأنت إنسان ضعيف الإرادة ضعيف الشخصية.
أحياناً يخيل لأنفسنا أن هذه مشاكل، فإذا تخيلنا أنها مشاكل أخذنا نبحث عن حل، والقضية أنك على طريق معصية فاتركها، أو طاعة فافعلها، ويجب أن تعرف أنك لابد أن تتبرأ من الأصدقاء السيئين، إما الآن وإما يوم القيامة، فاختر أحد الأمرين، إما أن تتبرأ منهم الآن، أو أن تقول يوم القيامة: {يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:28 - 29].
ويجب -يا شباب- أن نعتني بأن نربي الإرادة في أنفسنا، فعندما تقتنع أن هذا الطريق خاطئ ما الذي يجبرك على البقاء فيه!(33/35)
كيفية علاج ضعف الحماس عند الصديق
السؤال
بماذا تنصح المسلم عندما يرى صديقاً له ضعف إيمانه بعد أن كان قوياً؟ وما هو الأسلوب الحقيقي لإرجاعه؟
الجواب
أولاً: بالنسبة لضعف الإيمان بعد قوته، له حالتان: هناك حالة فتور عادية تحصل لكل إنسان، وهو ما أشار إليه النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث، خاصة الشاب أول ما يلتزم ويستقيم يكون عنده حماس فتجده يشعر بالإقبال على العبادة والطاعة، وبعد فترة يفتر قليلاً، لكنه لا يعني هذا أنه يقصر، وهذه قضية عادية يجب سألا نقلق منها، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو: (إن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى)، يعني: كل إنسان يكون عنده فترة فيها إقبال وحماس، ثم بعد ذلك يفتر، هذه الفترة هل تؤدي بك إلى التهاون بالمعاصي وتتهاون بالفرائض؟ إذا كان كذلك فهي خلل وليست فترة.
أما إذا كانت مجرد أن يفقد بعض الحماس وبعض الإقبال على الطاعة، فهو أمر يصيب كل الناس، لكن اعتن بنفسك.
فأقول: يجب أن نفرق بين الحالتين، وعندما ترى على أخيك مثل هذا الأمر فمن حقه عليك أن تناصحه وتعظه.(33/36)
التأثر بغير الملتزمين
السؤال
إني أحبك في الله، أنا شاب في مركز، فحينما أخرج من المركز أذهب إلى أصدقاء آخرين، ونشاهد الكرة، فهل علي إثم في ذلك؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتنا فيه، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المتحابين بجلال الله سبحانه وتعالى.
هنا يختلف الوضع، عندما تذهب مع الناس الذين يشاهدون الكرة، فإذا كانوا أخياراً صالحين يعملون مثل هذه الأمور لأجل إجمام النفس، فهذه صورة.
وإذا كنت تذهب مع الذين يلعبون في الشوارع أو في الأحياء فهم فئة غير مرغوب فيها في الغالب، ولو كان ابن عمك أو ابن خالك، أو كان أحد أقاربك أو جيرانك فاحذر منه، وما يؤتى الشر إلا من هؤلاء، وأنا أذكر لكم موقفاً مؤلماً.
مرة اتصلت علي امرأة في المعهد، استغربت للاتصال، قالوا: امرأة تريدك، قالت: أنت الأستاذ فلان؟ قلت: نعم، قالت: ابني فلان كان صالحاً ومستقيماً ويذهب مع الناس الأخيار، ثم بعد ذلك انحرف، كان يقوم الليل، وكان يؤذن إذا لم يأت المؤذن، وكان يصوم، وأنا أتشجع عندما أراه، وبعد ذلك انحرف وأصبح يسمع أغاني، فأريد منك أن تناصحه بأسلوبك المناسب؛ لأنه يتحدث عنك، أي: باعتبار أني أنا مدرسة، وقد يكون شارك معي في بعض الأنشطة، فقد يرد الاسم عند هذه المرأة.
فهذه المرأة المسكينة أصيبت بولدها، فتريد أن تبحث عمن ينقذه، فلما استدعيته عندي وتحدثت معه اكتشفت أن السبب ما أشرت إليه، أنه سافر إلى منطقة مع أقاربه وأصبح يجلس مع أبناء عمه، فأنا أحاول أن أقنعه أن يتخلى عن أبناء عمه، وأبناء عمه قد لا يكونون سيئين إلى آخر درجة، لكنهم على الأقل أناس غير مستقيمين، فهنا عندما يجلس معهم الشاب يذهب معهم ويأتي معهم، فقد يصاب، فأنا أحذر الشباب من ذلك؛ لأن بعض الشباب يقول لك: هذا من الحارة، أو هذا ابن عمي أو ابن خالي، فأقول: ما دام غير مستقيم فيجب أن تتخلى عنه.(33/37)
رواسب الماضي والتلذذ بأصوات الفتيات
السؤال
أنا شاب حديث عهد بالتزام، وكان لي مع التلفون مرحلة كبرى، حيث أنني أكلم الفتيات، وبعد التزامي تركت المكالمات، ولكن في قلبي منها شيء، وصرت أتلذذ بسماع أصواتهن وأتذكر ذلك؛ فما العلاج لذلك؟
الجواب
أولاً: نحمد الله سبحانه وتعالى على أن هداك، واسأل الله عز وجل الثبات والهداية، وأكثر من دعاء الله سبحانه وتعالى، ثم حاول قدر الإمكان أن تتخلص من التفكير؛ لأن التفكير في حد ذاته قد لا يكون معصية، لكنه قد يقودك حتى تستولي الشهوة على قلبك، فتخلص من التفكير إطلاقاً، وعندما يأتي إلى ذهنك مثل هذه الأفكار فانصرف إلى التفكير بما ينفعك، فكر في البرزخ، في القبر وما فيه من العذاب والنعيم، فكر في الدار الآخرة، في الجنة والنار، فكر بالحور العين، واقرأ في كتب الرقائق، اقرأ مثلاً في الترغيب والترهيب، في نعيم الجنة، وترى أوصاف الحور العين التي أعدها الله لمن أطاعه، واقرأ في كتاب الله سبحانه وتعالى وتمعن، وألح على الله في الدعاء في جميع صلواتك وفي كل وقتك أن يخلصك من هذه الفتنة، وادع الله عز وجل أن يعينك وأن يثبتك، واعلم أنه لا يرد القدر إلا الدعاء، واعلم أن الله سبحانه وتعالى لا يرد العبد الصادق إذا أقبل عليه، وتخلص من كل الأمور التي تذكرك بالمعصية، إذا كنت تستطيع الزواج فلا شك أن هذا أمر طيب، وإذا لم تستطع فليكن لنفسك حظ من الصيام، تصوم بعض الأيام الفاضلة، فالنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: (يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوجـ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء)، ونسأل الله سبحانه وتعالى في هذا المكان أن يثبتك وأن يعينك أنت وإخوانك الصالحين، وأن يعصم إخواني الشباب من هذه الفتن.(33/38)
أثر الازدواجية في الصداقة وعلاجها
السؤال
كثير من الشباب يقع في ازدواجية بين الطيبين وغيرهم، فهو متذبذب، فما أثر ذلك وما علاجه؟
الجواب
أثر ذلك أنه لابد أن يصير إلى أحد الطريقين، ولا يمكن أن يستمر؛ عندما تسير مع الطيبين هناك مواصفات يجب أن تتصف بها، يجب أن تحافظ على الصلاة، يجب أن تكون إنساناً مستقيماً ورعاً عن المعاصي، وعندما تكون مع السيئين هناك مواصفات أخرى يجب أن تتصف بها، فتقع في تناقض، فإما أن تكون شخصاً متناقضاً، تأتي مع هؤلاء بوجه وأولئك بوجه، وهذه مشكلة، أو أن تكون إنساناً ضعيفاً، المهم أنك لن تستمر فاختر أحد الطريقين، بأن تتبرأ من الطيبين وتكون مع السيئين فتأخذ كل الشهوات، لكن النتيجة أنك تتبرأ منهم يوم القيامة، أو تتبرأ من السيئين وتعاشر الطيبين الأخيار، والنتيجة أن تكون ممن قال الله فيهم: {الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67]، (أين المتحابون بجلالي، اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي).
والله يا شباب إنها لفرصة أن يمن الله عليكم بالصحبة الصالحة، فرصة أن ييسر الله لك أن ترى صحبة صالحة تعينك على الخير، وغيركم قد لا يطيق هذا الأمر وقد لا يجده، فماذا يصنع؟ لا يستطيع أن يثبت وحده.
فأقول: يجب أن نعض على هؤلاء بالنواجذ، ولو كان عندهم سلبيات أحياناً، ولو أخطئوا أو قصروا، فقد يكون في النفوس ما بها، وقد يكون بينك وبين أخيك بعض ما يكون بين الناس، قد تكون هناك حزازات ومشاكل، لكن النهاية: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47]، يوم القيامة بعد أن يظلهم الله في ظله، بعد أن يكونوا على منابر من نور، بعد أن يتبرأ الأب من ابنه والزوجة من زوجها، هؤلاء يبقون أخلاء؛ لأن علاقتهم لله ومحبتهم له، ثم بعد ذلك قبل أن يدخلوا الجنة يتم الله عليهم النعيم، فينزع كل شيء في قلوبهم، تصبح القلوب صافية مائة في المائة، على سرر متقابلين، فقرر مصيرك من الآن.(33/39)
المقصود بالجهاد في آخر العنكبوت
السؤال
ما المقصود بالجهاد في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69]؟
الجواب
الجهاد عام، لكن إذا أطلق الجهاد فهو ينصرف إلى الجهاد في سبيل الله بقتال الكفار، فالجهاد معنى عام يعني: جهاد الدعوة وجهاد النفس في طاعة الله سبحانه وتعالى، لكن الأصل أنه إذا أطلق الجهاد فإنه ينصرف إلى القتال في سبيل الله.(33/40)
كتب ينصح بقراءتها
السؤال
ما الكتب التي تنصح بقراءتها، وخاصة في هذا الباب؟
الجواب
بعد كتاب الله سبحانه وتعالى كتاب: الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي لـ ابن القيم، ولا أنصح بقراءته فقط، بل بإكثار قراءته، فهو كتاب قيم ورائع، وبداية الكتاب هو سؤال سأله شخص قال: ما تقول السادة العلماء في رجل أصيب ببلية ويرى أنها إن استمرت عليه أفسدت دنياه وآخرته، أفتونا مأجورين، والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه؟ وكذلك كتاب: العفة ومنهج الاستعفاف للعقيلي، وكتاب وسائل الثبات على دين الله للشيخ محمد المنجد.
على كل حال الكتب كثيرة، وبإمكانكم أيضاً أن تسألوا أساتذتكم في مثل هذا المركز، فسيفيدونكم كثيراً.(33/41)
مواجهة الشهوة
السؤال
كيف نواجه الشهوة؟
الجواب
هذا يحتاج إلى محاضرة كاملة، لكن نستطيع أن نقول باختصار: بالإيمان بالله سبحانه وتعالى والاتجاه إلى الله عز وجل، غض البصر والإعراض عن مثيرات الشهوة ودواعيها، ترك التفكير في مثل هذه الأمور، التخلي عن الجلساء السيئين، دعاء الله سبحانه وتعالى، في بعض ما أشرت إليه، وسبق أن أشرت إلى جزء من هذه الأمور، ولعلكم تجدون في كتاب الجواب الكافي وكتاب العفة ومنهج الاستعفاف كثيراً من علاج مثل هذه القضية.(33/42)
الالتزام الشكلي وعدم العمل للدين
السؤال
مشكلة تظهر في الشباب، ألا وهي كثرة الشباب الملتزمين شكلاً، ولكنهم باردون، بل الأكثر لا يختلفون عمن سواهم في العمل للإسلام والحماس له إلا القليل، فضيلة الشيخ! أرجو توضيح السبب في ذلك، مع العلاج، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذه الذي سبق أن أشرت إليها هي قضية الغثائية، يعني أن فئة من الشباب يلتزم التزاماً ظاهرياً، وليس هو منافقاً، لكنه غير جاد، لا يقدم للإسلام شيئاً، ولا يشعر بقيمة التزامه.
ومن الأسباب لذلك، أولاً: عدم القناعة، فليس عنده قناعة بأن هذا طريق لابد أن يسلكه، وليس عنده معرفة تامة بطريق الهداية وطريق الضلال.
أيضاً: ضعف الإيمان الذي يدعو الإنسان إلى مثل هذه الأعمال.
كذلك التربية: أحياناً يكون مع بعض الشباب الذين يضيعون الوقت كثيراً ويربون على مثل هذا الأمر، يذهبون ويأتون في لقاءات، وعندهم كثرة هزل وكثرة عبث ولهو، فهذه الأمور لا تربي أناساً جادين، وإنما تخرج أمثال هؤلاء.
وهناك عامل آخر، وهو انتشار الصحوة، فإنه يساعد على وجود مثل هذه النوعيات، فإذا كان الملتزمون قلة يصبح الملتزم غريباً نادراً، ولذلك لا يلتزم إلا عن قناعة، لكن عندما ينتشر الأمر يسلك هذا الطريق كل إنسان، ولذلك تجد الذين دخلوا في الإسلام أول الأمر كانوا أناساً أقوياء وثبتوا وما ارتدوا، أما بعد ذلك فقد ارتد الكثير ممن دخلوا في الإسلام.
العلاج لذلك باختصار: هو أن نشعر بأهمية هذا الطريق وحاجتنا إليه، وأن القضية قضية مستقبل، وقضية إيمان، وأن نرى واقع الأمة الآن، وأنه لا يسمح لنا بأن نقضي أوقاتنا في العبث واللهو وإضاعة الأوقات، بعض الشباب الطيبين يقضون ليلة كاملة، بل ليالي عديدة، مرة عند فلان ومرة عند فلان، ومرة يذهبون هنا وهناك يضيعون أوقاتهم، والوقت لا يحتمل، وواقع الأمة كلها لا يحتمل، وتخيل هذه الساعة نضيعها على فلان، ونضيعها على فلان، اجمع هذه الساعات كلها وتخيل الأوقات الهائلة التي تضيع على الأمة في مرحلة هي أحوج ما تكون إلى أبنائها، فعندما ندرك واقع الأمة ودورنا جميعاً في إنقاذ الأمة أظن أننا ننظر إلى حياتنا وتربيتنا نظرة أخرى تختلف عما نحن عليه.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا وإياكم جميعاً بما نسمع، وأن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، كما أسأل الله سبحانه وتعالى أن يثبتنا وإياكم، وشباب المسلمين، وأن يصد عنهم الفتن.
هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(33/43)
ولله الأسماء الحسنى
الإيمان بالأسماء الحسنى والصفات العلى لله تعالى من أهم الأمور العقدية التي ضلت فيها كثير من الفرق والطوائف، ولذا ينبغي الاهتمام بها ومعرفة معانيها والعمل بمقتضاها.(34/1)
أهمية الحديث عن الأسماء والصفات(34/2)
تعلقها بالله سبحانه وتعالى
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فموضوعنا في هذا اللقاء هو: (ولله الأسماء الحسنى)، ولا شك أن الحديث يأخذ قيمته وشأنه ومكانته مما نتحدث عنه، وحين نتحدث عن الأسماء الحسنى فإننا نتحدث عن أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.
وهو حديث يأخذ بالقلوب، وينقل المرء من عالم المحسوسات إلى عالم آخر ليتعرف على أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته، وحينها يشعر بعظمة الله سبحانه وتعالى وسلطانه وملكه وكبريائه، ويتعرف في المقابل على فقره وذله وخضوعه لله سبحانه وتعالى.
الأسماء والصفات تأخذ جانباً كبيراً وباباً واسعاً من أبواب العقيدة، بل صارت في مرحلة من المراحل هي المعلم البارز في اعتقاد أهل السنة، فمن صنف من أهل السنة والجماعة لابد أن يبدأ في الحديث عن الأسماء والصفات، وكما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأمة ستفترق، وأن هذه الفرق كلها في النار إلا طائفة واحدة ناجية وهي أهل السنة والجماعة.(34/3)
أنه من أعظم الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق
وباب الأسماء والصفات كما تعلمون من أوسع الأبواب التي ضلت فيها الطوائف والفرق، ودار جدل طويل وصراع طويل بين هؤلاء وبين أهل السنة؛ صراع علمي وعقدي وفكري حول هذه القضية.
ولا شك أن علماء أهل السنة والذين كانوا يذبون عنها ويسعون لبيانها للناس كان يعنيهم أن يستقر المعتقد السليم والصحيح عند الناس، وأن يدفعوا تلك الشبه التي كان يثيرها أولئك الضالون زعماً منهم أنهم يريدون تنزيه الله سبحانه وتعالى وتعظيمه، وهذا بلا شك ترك أثره البارز على منهج عرض الأسماء والصفات والحديث عنها، فصار أهل السنة حينما يتحدثون عن الأسماء والصفات في مرحلة من المراحل كانوا يعنون بدرجة كبيرة بقضية الإثبات، وقضية الجدل مع المخالفين، ودفع شبه أولئك الذين يثيرون هذه الشبه حول أسماء الله عز وجل وصفاته، وحينها يتوقفون عند هذا القدر؛ وذلك أن الأمة كانت تقرأ القرآن، وكان الناس يتدبرون القرآن، وكانوا يعون هذه المعاني، وكان القدر الذي يحتاجون إليه حينها هو أن يتضح لهم ما يجب لله سبحانه وتعالى، وما يجوز على الله عز وجل وما لا يجوز عليه، وهي قضايا بدهية.
القضايا الأساسية دائماً في العقيدة قضايا واضحة يدركها كل مسلم متعلم أو طالب علم؛ فكل مسلم يشعر بتعظيم الله سبحانه وتعالى، ويشعر أنه لا يمكن أن يقاس الله سبحانه وتعالى بخلقه، ويشعر أنه ليس له الحق أن يعتدي على أسماء الله عز وجل وصفاته فيفهمها من خلال عقله القاصر وقياسه العقلي، فهو يدرك أن الله سبحانه وتعالى أكبر وأعظم وأعلى وأجل من أن تحيط به هذه الأفهام القاصرة، ومن أن يتصوره هو في ذهنه ويتخيله.(34/4)
اعتقاد ما يليق بالله تعالى من الأوصاف
وأيضاً: يعرف المسلم أن الله سبحانه وتعالى حينما يصف نفسه بأنه الرزاق ذو القوة المتين، وأنه سبحانه وتعالى على العرش استوى، وأن يديه سبحانه وتعالى مبسوطتان، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر؛ يدرك من هذه النصوص كلها معنى يليق بجلال الله سبحانه وتعالى وعظمته.
ولعلك ترى أحد كبار السن الصالحين العابدين لله عز وجل من العامة عندما يسمع هذه الآيات من كتاب الله عز وجل، أو يسمع متحدثاً يتحدث عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وعن أسمائه وعن صفاته لا يلبث أن يلهج لسانه بالتسبيح والتمجيد والتنزيه لله سبحانه وتعالى، ولو قدر أن ترى وجهه لرأيت وقرأت فيه علامة التعظيم والخضوع لله سبحانه وتعالى، واستشعار النقص والفقر أمام ذات الله عز وجل.
إن هذه القضايا قضايا متقررة وبدهية، لكن نظراً لوجود هذا التيار الجارف من الشبه والضلال الذي حاول أن يحرف هذا المعتقد فيؤول أسماء الله عز وجل وصفاته، ويشبه الله عز وجل بخلقه، ويسلط عقله البشري على ذات الله سبحانه وتعالى، وعلى أسمائه وصفاته، فيجعل من عقله القاصر مقياساً وحكماً على أسماء الله وصفاته، حكماً على ما يجب لله سبحانه وتعالى وما لا يجب، لا شك أن هذا التيار الجارف كان يفترض من أهل الإسلام مواجهته ويفترض منهم رد الشبه، والحديث عن هذا، وهو واجب لا شك متحتم، وعامة المسلمين من حقهم أن يوضح لهم المعتقد السليم وأن تدفع عنهم هذه الشبه.
لكن تلك الفترة التي بدأ الحديث فيها عن الأسماء والصفات كانت القضية واضحة عند الناس، وكان الناس يتدبرون القرآن ويعون هذه المعاني التي أشرنا إليها، لكن طال الزمان وطال العهد بالناس، وبعدوا عن مشكاة النبوة، وبعدوا عن كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن هنا انحرفت نظرتهم لهذا المعنى أو صار الناس حينما يسمعون الحديث عن الأسماء والصفات يقفز إلى أذهانهم مباشرة الجدل الطويل مع الأشاعرة والمعتزلة والجهمية ومع سائر الطوائف الكلامية التي انحرف فهمها لهذه العقيدة، وانحرفوا في فهمهم لأسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.
ثم يغيب عن بالهم معنى آخر له أهميته حول هذا الجانب، ويتزامن هذا مع الفصام النكد الذي يعيشه المسلمون بين قضية التوحيد وقضية السلوك، وقضية الواقع الذي يعيشه المسلمون.
لقد صار البعض من المسلمين يتصور أن قضية التوحيد قضية جدلية فلسفية بحتة لا تعدو أن تكون مجرد قضايا معرفية بحتة يعتقدها ويصارع حولها، ثم تقف وتنتهي عند هذا الحد.
وأضرب لكم أمثلة سريعة حول هذا، ثم أعود إلى موضوعنا الأساسي: من أسس عقيدة التوحيد أن لا إله إلا الله، وهذا يعني: أنه لا أحد يستحق العبادة ولا الخضوع غير الله سبحانه وتعالى، والتشريع والتعظيم إنما هو حق لله سبحانه وتعالى.
إن قضية لا إله إلا الله، وقضية ألوهية الله عز وجل وعبودية المخلوق حينما تضعها على بساط معرفي جدلي بحت تراها قضية واضحة مقررة عند المسلمين، لكنك ترى البعض قد يخضع لغير الله سبحانه وتعالى ويتوجه بقلبه لغير الله سبحانه وتعالى.
إن الذي يخاف من المخلوق ويحسب له ألف حساب هو نفسه الذي يقر بعقيدة التوحيد، ويقر بأن الله سبحانه وتعالى هو الذي ينبغي أن يخاف وينبغي أن يخشى وينبغي أن يرجى عز وجل.
خذ على سبيل المثال عقيدة الولاء والبراء وهي من أسس اعتقاد المسلم، بل الخلل بها باب من أبواب الكفر، فمن نواقض الإسلام موالاة الكفار ومظاهرتهم على المسلمين.
كم يقع الموحدون والمسلمون في هذا، بل يرون الفصل التام بين هذه القضية وقضية التوحيد، فيرون أن قضية العقيدة التوحيد إنما هي قضايا معرفية بحتة بعيدة عن السلوك والواقع الذي يعيشونه، ولعل ما يأتي من الحديث بمشيئة الله حول الأسماء والصفات سيجيب على جزء من هذا التساؤل الذي طرحناه: ما مدى العلاقة بين واقع المسلمين سلوكاً وحياة، وبين التوحيد والمعتقد؟ وقضية التوحيد ليست قضية جدلية فلسفية، وليست قضايا معرفية بحتة، إنما هي قضايا ما لم ينطبع أثرها على السلوك فإنها لا فائدة منها ولا أثر، وما قيمة أن يقتصر المرء على قضايا معرفية مجردة، بل هو منشأ الضلال الذي نشأ عند أهل الفلسفة والجدل؛ أن حولوا القضية إلى قضية جدل وفلسفة ومعرفة فقط بعيدة عن واقع العمل والسلوك.(34/5)
شرف العلم بشرف المعلوم
الأسماء والصفات تتعلق بالله سبحانه وتعالى، وهذا يزيدها شرفاً، وهذا يجعل علم الأسماء والصفات أشرف العلوم؛ لأنه يتعلق بالله سبحانه وتعالى، كما قال ابن العربي رحمه الله: شرف العلم بشرف المعلوم، والباري أشرف المعلومات فالعلم بأسمائه أشرف العلوم.
وابن القيم رحمه الله يقول: وكما أن كل موجود سواه فبإيجاده، فوجود سواه تابع لوجوده تبع المفعول المخلوق لخالقه، فكذلك العلم به أصل للعلم بكل ما سواه، فالعلم بأسمائه وإحصاؤها أصل لسائر العلوم، فمن أحصى أسماءه كما ينبغي للمخلوق أحصى جميع العلوم، إذ إحصاء أسمائه أصل لإحصاء كل معلوم؛ لأن المعلومات هي من مقتضاها ومرتبطة بها، وتأمل صدور الخلق والأمر عن علمه وحكمته تعالى؛ ولهذا لا تجد فيها خللاً ولا تفاوتاً؛ لأن الخلل الواقع فيما يأمر به العبد أو يفعله، إما أن يكون لجهل به أو لعدم حكمته، أما الرب تعالى فهو العليم الحكيم فلا يلحق فعله ولا أمره خلل ولا تفاوت ولا تناقض.
أنتم جميعاً أحسبكم من حفاظ كتاب الله عز وجل، ومن لم يكمل منكم حفظ كتاب الله فهو في الطريق، وتقرءون كتاب الله عز وجل كثيراً، فما هو حجم الحديث عن الأسماء والصفات في القرآن الكريم؟ إنك حين تتأمل كتاب الله عز وجل لا تكاد تخطئك هذه الأسماء والصفات فتجد أحياناً حديثاً سرداً لأسماء الله عز وجل وصفاته وحديثاً عن عظمة الله سبحانه وتعالى، وأحياناً تجدها تعقيباًَ على آية من الآيات في وعد أو وعيد أو حكم شرعي، أو حديث عن المكذبين والضالين، أو عن أنبياء الله ورسله.
وحينها نطرح سؤالاً مهم: لماذا هذا الحديث المستفيض في القرآن الكريم عن الأسماء والصفات؟ لو أننا وقفنا عند النقطة المعرفية البحتة وقلنا: إن واجبنا تجاه أسماء الله عز وجل وصفاته أن نثبتها حقاً كما هي لله سبحانه وتعالى فقط فهل يجوز ذلك؟ إن المعرفة قضية لا يجوز أن نهمشها، بل الخلل فيها انحراف ومدعاة لأن يكون المسلم خارج دائرة الفرقة الناجية، وضمن الفرق الهالكة المتوعدة بالنار عافانا الله وإياكم، لكن هذا الحديث المستفيض عن علو الله على خلقه، وأن الله هو الرزاق، وأن الله هو العليم الحكيم السميع البصير، فهل يمكن أن نقف فقط هنا ونقول: هذا إثبات اسم والاسم يتضمن صفة وننتهي فقط عند هذا القضية، أم أن هناك معنى آخر.
لماذا يحدثنا الله في القرآن عن الأسماء والصفات؟ بل لماذا يكون أكثر الحديث في كتاب الله عز وجل.
أليس هذا موحياً بأهمية الأمر، ثم أليس هذا موحياً بأن هناك واجباً آخر وأن هناك أثراً آخر لقضية الإيمان بالأسماء والصفات ينبغي أن نعيه؟(34/6)
الإيمان بالأسماء والصفات يتضمن إثبات معناها
ثانياً: الإيمان بالأسماء والصفات عند أهل السنة يتضمن إثبات معناها، وهي معلومة المعنى لكنها مجهولة الكيفية، ولهذا حكموا بالضلال على أهل التفويض الذين يقولون إن المعنى مجهول أو إن ظاهرها غير مراد.
فمثلاً حتى نقرب لكم الصورة: خذ مسلماً عامياً لا يعرف القراءة وقل له مثلاً: إن الله سبحانه وتعالى غفور حليم تواب رحيم، تجد أنه يعرف من هذه الكلمة معنى، وقل له: إن الله عز وجل شديد العقاب، {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج:12 - 13]، هنا الآن ذكرت له صفات من صفات الله، وهنا ذكرت له صفات من صفات الله، ألا يفهم من هذا فهماً؟ ألا يترك هذا أثراً على نفسه؟ بغض النظر عن قدرته على التعبير الدقيق عما فهمه، لكن هذه تترك معنى في نفسه.
حينما تسمع قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) ألا يفهم المسلم من هذا معنى، يترك أثراً في نفسه؟ جرب واذهب إلى جدك أو إلى أحد أعمامك أو أقاربك كبار السن أو جدتك الكبيرة في السن واقرأ عليها هذا الحديث وانظر ماذا تقول، وانظر أثر هذا النص عليها.
إذاً: فالمسلمون يفهمون معنى الأسماء والصفات في الجملة، وإن كانت الكيفية وما وراء ذلك قضية لا يدركونها.
إذاً: حينما تكون قضية الإيمان بالمعنى وإثبات معاني هذه الأسماء والصفات على ما يليق بجلال الله عز وجل من واجبات المسلم ضمن قضية اعتقاد أهل السنة، حينها يكون المعنى له أثر، وإلا فما الفائدة من ذلك؟(34/7)
ختم الآيات بما يناسبها من الأسماء والصفات
ثالثاً: نحن نجد أن الآيات كثيراً ما تختم بالأسماء والصفات، وهي تختم غالباً ختماً مناسباً لمعنى ما دلت عليه الآية.
من الأمثلة على ذلك: يحكون أن أعرابياً جاء فسمع رجلاً يقرأ قول الله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ} [المائدة:38] غفور رحيم، فقال هذا الأعرابي: لست قارئاً للقرآن؛ لأنه لو غفر ورحم لما قطع، ولكنه عز فحكم فقطع.
وفعلاً: تنبه الرجل وعرف أن الآية كما قال، ولهذا تجد ختم الآية مناسباً، خذ مثلاً قول الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1] بقية الآية ما هي؟ {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1].
وفي آية الزكاة مثلاً يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [التوبة:60] بقية الآية: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60].
وفي آية الفرائض لما ذكر الله عز وجل: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء:11] ختمها بقوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء:11].
فختمت بنفس المعنى، إذاً: وصف الله عز وجل بالعلم والحكمة بعد آية الصدقة أو آية الفرائض فيها معنى، وفيها إشارة للذي يقرأ الحكم بأن هذا التوزيع للزكاة أو التركة صادر من عليم حكيم.
فإذا سأل: لماذا تأخذ البنت النصف؟ يسمع: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء:11] فيشعر أن الله عز وجل اتصف بصفة العلم والحكمة فهو يضع الأشياء في مواضعها.
يقول الله عز وجل مثلاً لنبيه: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128] وذلك حينما دعا على أولئك الذين شجوا رأسه صلى الله عليه وسلم: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ * وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:128 - 129]، بينما تقرأ في سورة المائدة نفس الآية: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:40]، هنا السياق يختلف عن ذاك السياق؛ ولهذا ختمت الآية بهذا الاسم، وهناك ختمت بذاك.
إذاً: ختم الآيات بالأسماء والصفات يعطينا دلالة أن هناك ارتباطاً بين الاسم والصفة وبين ما سبق من الآية، وهذا يعني أن قضية الأسماء والصفات ليست قضية جافة، وأن هناك علاقة بين هذه الأحكام وبين أن الله عز وجل عليم حكيم، وعلاقة بين تلك القضية وبين كون الله عز وجل سميعاً بصيراً، وقل مثل ذلك في سائر الأحكام.
ثم تجد عجباً حينما تتأمل، فهناك معان قد يبدو لنا أنها مترادفة، لكنها ليست مترادفة، فمثلاً قد يأتي أحياناً غفور رحيم، وقد يأتي: غفور حليم، هناك فرق هنا الرحمة والحلم، قد يأتي مثلاً عليم حكيم، وقد يأتي عليم حليم، قد يأتي خبير بما تصنعون، وقد يأتي لطيف خبير، كل هذه المعاني لها أثر، ولها دلالة، ولا يوجد في لغة العرب كلمتان مترادفتان ترادفاً تاماً، بل كل كلمة لها دلالة، حتى مثلاً أسماء الأسد كما يقولون: الأسد والهزبر والليث، كل كلمة لها دلالة معينة، ولو ساغ هذا في كلام العرب لما ساغ في كلام الله عز وجل، فمجيء الآية هنا له معنى وله أثر غير مجيئها هناك، فغفور رحيم غير غفور حليم، ولو قرأت في كتب التفسير وتأملت لوجدت عجباً في ذلك.
إذاً: ختم الآيات بهذه الأسماء والصفات دليل على أن هناك ارتباطاً بين هذا المعنى الذي دلت عليه الآية وبين الاسم والصفة، ودلت على أن قضية الاسم والصفة ليست قضية معرفية جافة.(34/8)
الأسماء والصفات من القضايا الأساسية في العقيدة
أيضاً: مكان الأسماء والصفات في العقيدة، فلو سألت أي شخص عن أنواع التوحيد، لقال لك: توحيد الربوبية والألوهية والأسماء والصفات، أو تقسيم آخر: توحيد المعرفة والإثبات والطلب والقصد، لكن المقصود أنها تأخذ حيزاً كبيراً وقسماً مستقلاً من أقسام التوحيد.
ثم في كتب العقيدة لو تصفحت فهارس كتب العقيدة لوجدت أن الأسماء والصفات تأخذ حديثاً واسعاً عند أهل السنة، بل إنك تجد طوائف المشكلة بينها وبين أهل السنة هي في قضية الصفات وسبب الخلاف معهم هو قضية الصفات.
إذاً: فهي تمثل قضية أساسية في العقيدة، وقضية لها أهمية، ونوعاً مستقلاً من أنواع التوحيد، فلماذا نهمش القضية ونجعلها قضية معرفية، لا أظن أن هذا هو التعامل الصحيح اللائق بالله سبحانه وتعالى وأسمائه وصفاته.(34/9)
الدعاء بالأسماء والصفات
أيضاً: من الأمور التي ينبغي أن نطرحها بين يدي الحديث عن الأسماء والصفات والتي تقودنا إلى مثل هذا الفهم الأوسع الأمر بالدعاء بها، فإن الله عز وجل قال: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف:180]، وأنتم تقرءون في القرآن الكريم عن جمع من أنبياء الله أنهم يدعونه عز وجل بأسمائه وصفاته.
وفي السنة النبوية فيما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من أدعية سواء مما دعا به صلى الله عليه وسلم أو أمرنا صلى الله عليه وسلم بالدعاء به نجد كثيراً من هذه النصوص فيها الدعاء بالأسماء والصفات، فمن ذلك قوله تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83] وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87]، وقوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} [آل عمران:38] وقوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، وقوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:38]، وقوله: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201] هذه فيها دعاء بالأسماء والصفات؛ فالرب من أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته.
وأما الأدعية في السنة النبوية فهي كثيرة، منها مثلاً قوله: (اللهم إني أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك).
وقوله: (فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
نكتفي بهذه الأمثلة والأمثلة كثيرة.(34/10)
أنواع الدعاء بالأسماء والصفات
الدعاء نوعان: دعاء ثناء، ودعاء مسألة، فحينما يقول المسلم: أمسينا وأمسى الملك لله، والحمد لله، لا إله إلا الله وحده لا شريك له، فهذا دعاء لكنه دعاء ثناء على الله سبحانه وتعالى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الدعاء دعاء عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، فجعلها النبي صلى الله عليه وسلم دعاء، لكنه دعاء ثناء وليس دعاء مسألة، فدعاء الثناء ثناء على الله سبحانه وتعالى، ودعاء المسألة نعرفه جميعاً وهو الذي ينصرف إليه الذهن حينما نقول: الدعاء.
الدعاء بأسماء الله وصفاته ينبغي أن يتناسب مع ما يدعو به المسلم، فكما قال ابن العربي: يطلب بكل اسم ما يليق به، تقول: يا رحيم ارحمني، يا حكيم احكم لي، يا رزاق ارزقني، يا هاد اهدني.
وقال ابن القيم: يسأل في كل مطلوب باسم يكون مقتضياً لذلك المطلوب، فيكون السائل متوسلاً بذلك الاسم، ومن تأمل أدعية الرسل وجدها مطابقة لهذا.
هناك عدة معان حول قضية دعاء الله بأسمائه وصفاته تترك آثاراً على النفس، منها أن يتقدم المسلم بين يدي الدعاء بالثناء على الله عز وجل، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أحب إليه الثناء من الله عز وجل، ولا أحد أغير من الله سبحانه وتعالى)، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمد الله عز وجل في كل خطبة، ويثني عليه في كل مناسبة حينما يبدأ حديثه، فهو حينما يدعو الله بأسمائه وصفاته يثني على الله عز وجل ويتوسل بين يدي الدعاء بعمل صالح يقربه لله عز وجل، هذا جانب.
جانب ثان له أهميته وقد نغفل عنه، وهو الأثر النفسي على الإنسان عندما يدعو بهذا الاسم، وذلك أنه يدعوه إلى اليقين بالإجابة، واليقين بالإجابة سبب من أسباب إجابة الدعاء، تأمل معي مثلاً حديث دعاء الاستخارة: (اللهم إني أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم وأنت علام الغيوب، اللهم إن كان هذا الأمر خيراً لي).
حينما يتأمل الإنسان هذا المعنى سينخلع من كل حول وقوة، ويشعر أنه سلم نفسه بين يدي الله عز وجل، وحينها سيشعر أنه محتاج إلى الله ليختار، محتاج إلى الله عز وجل أن يوفقه؛ لأن الله يقدر وهو لا يقدر ويعلم وهو لا يعلم، وهو صاحب الفضل العظيم سبحانه وتعالى، وعندما يعيش هذا المعنى يكون على يقين ويكون عنده شعور بالحاجة ويقين بالإجابة، وحينها يصدق عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء غافل لاه).
إذاً: فالدعاء بالأسماء والصفات مع ما فيه من الثناء على الله عز وجل والتوسل بين يدي هذا الدعاء؛ فيه معنى آخر مهم، وهو أنه يترك عند الداعي شعوراً يجعله يعظم الله سبحانه وتعالى، ويسلم لله عز وجل، ويجعله يوقن بإجابة الدعاء؛ لأنه حين يقول مثلاً: رب إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم، ويتأمل هذه المعاني تترك أثراً وتعطيه أملاً ورجاء يجعله يوقن بالإجابة، فيساهم هذا بأن يتحقق لديه أدب من آداب الدعاء، وهو اليقين بالإجابة، علاوة على الأثر والشعور بالعبودية والخضوع لله والافتقار بين يديه سبحانه وتعالى، وذلك حين يعيش آثار هذه الأسماء والصفات ومعانيها؛ ولهذا كان الدعاء عبادة كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدعاء هو العبادة)، لأن فيه الفقر والذل والخضوع بين يدي الله سبحانه وتعالى.(34/11)
الأسماء الحسنى ليست محصورة في تسعة وتسعين اسماً
أخيراً: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة) وفي رواية: (من حفظها دخل الجنة)، واختلف العلماء في معنى: (من أحصاها).
وهذا الحديث ثابت لكن الحديث الذي ورد فيه تعداد الأسماء والصفات لا يصح باتفاق أهل المعرفة بالحديث.
بقيت قضية أخرى: هل هذه الأسماء محصورة في تسعة وتسعين؟ الصحيح والمقطوع به أنها لا تنحصر في تسعة وتسعين، وفي هذا الحديث قال: (إن لله)، ولم يقل: إن أسماء الله تسعة وتسعون.
وفي الحديث الآخر قال: (أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك؛ أن تجعل القرآن) إلى آخر الحديث وهو دليل على أن لله عز وجل أسماء غير معلومة، مما استأثر سبحانه وتعالى بعلمها أو مما علمها أحداً من خلقه ممن اختصهم بذلك.
لكن هذه التسعة والتسعين لابد أن تكون مما علمنا الله في كتابه، لأن الله رتب عليها ثواب دخول الجنة، فلا يمكن أن يكون من هذه التسعة وتسعين اسم مما استأثر الله بعلمه؛ لأنه لا فائدة إذاًَ في أن يدعى إلى إحصائها وحفظها وأن يرتب على ذلك ثواب، والثواب إنما يترتب على عمل يمكن أن يقوم به الناس، لكن حينما تكون هذه التسعة والتسعون من ضمن ما استأثر الله بعلمه لا يمكن الناس أن يعملوا بهذا الحديث، ولا يمكن أن يحصوها، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم منزه عن أن يكون عبثاً وأن يعلق الأمة بثواب لا يمكن أن تصل إليه أصلاً ولا تطيقه.
المقصود: أن العلماء اختلفوا في معنى: (من أحصاها)، فمنهم من ربطها مع قوله عز وجل: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل:20] أي: لن تطيقوه، فقال: أن إحصاءها هنا إطاقتها.
ومنهم من قال: من قام بحقها، وتأمل معانيها، وقام بآثارها.
ومنهم من قال: المقصود عدها.
ومنهم من قال: أن يدعو الله بها كلها.
ومنهم من قال: قراءة القرآن؛ لأنها في القرآن، فإذا قرأ القرآن يكون قد أحصاها.
ومنهم من قال: إحصاؤها حفظها، وهي رواية في الحديث: (من حفظها)، وهذا لكن هناك رأي آخر ومنحى آخر أشار إليه ابن القيم رحمه الله: هو أن الإحصاء مراتب: مرتبة الإطاقة، ومرتبة الحفظ، ومرتبة الدعاء كل هذه مراتب.
ويوضح هذا أنه لو قررنا أن المعنى هو حفظها لترتب عليه شيء آخر، فإن ثواب حفظ القرآن الكريم معروف كما قال صلى الله عليه وسلم: (الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران)، فلو فرضنا أن شخصاً منافقاً حفظ القرآن، أو شخصاً يختم القرآن كل يوم، لكنه لا يحل حلالاً ولا يحرم حراماً، فهل ينفعه حفظه للقرآن؟ وهل تنفعه تلاوته القرآن؟ (القرآن حجة لك أو عليك)، ربما كان خصماً له هذا القرآن، فكذلك هذه الأسماء حين يكون إحصاؤها مجرد حفظ فقط لا ينفعه ذلك، لكن يحفظها ويتأمل معانيها ويلزم نفسه بمقتضياتها.(34/12)
آثار الأسماء والصفات على المسلم
من خلال كل ما سبق نصل إلى نتيجة أن هذه الأسماء والصفات لابد أن تترك آثاراً على نفس المسلم، وهي آثار عظيمة نشير إلى جزء يسير منها:(34/13)
تعظيم الله سبحانه وتعالى
من هذه الآثار: تعظيم الله سبحانه وتعالى: المسلم الذي يعلم أن الله عز وجل حليم وأن الله عز وجل غفور رحيم كريم، وفي المقابل شديد العقاب وأنه يبطش ويمكر بمن يمكر، وأنه يكيد الكافرين، ولا يعجزه شيء، فإذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، وحين يعرف أيضاً أن الله سبحانه وتعالى يسمع ولا يغيب عن سمعه شيء، ويبصر سبحانه ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور؛ حين يعلم هذه الأسماء والصفات فإنه يزداد تعظيماً لله سبحانه وتعالى، ويزداد خضوعاً له عز وجل.
ولله المثل الأعلى والله سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه: فلو رأيت إنساناً حليماً لا يغضب، فإنك تزداد إعجاباً به، وسرداً لتلك القصص التي تحكي حلمه وتحكي صبره على من يجفونه وعلى من يغلظون عليه ويسيئون إليه.
والله سبحانه وتعالى أعلى وأجل وأعظم من أن يقاس بخلقه، وله المثل الأعلى سبحانه وتعالى، فالله سبحانه وتعالى حليم، لكن حلم المخلوقين مهما كان لا يمكن أن يكون كحلم الله عز وجل، وهو عز وجل كريم، لكن لا يمكن أن يقاس كرم المخلوقين به، وأيضاً حلمه سبحانه وتعالى وكرمه وعفوه ومغفرته وتوبته لا يمكن أن يطمع بها كافر ومعرض، بل هو سبحانه وتعالى كما قال: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:49 - 50].
وأخبر سبحانه وتعالى أنه قال: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج:12 - 16]، فحينما يتأمل المسلم هذه المعاني يزداد تعظيماً لله سبحانه وتعالى، وكلما ازداد المرء تعظيماً لله عز وجل ازداد عبودية وخضوعاً له سبحانه وتعالى.(34/14)
احتقار المخلوق
من آثارها أيضاً: احتقار المخلوق: فعندما يعرف المسلم أسماء الله وصفاته يحتقر المخلوق، ويشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً.
العز بن عبد السلام لما جاء السلطان في يوم العيد وخرج بأبهته وجنوده وكبريائه قام إليه وقال له: الحانة الفلانية يباع فيها الخمر، المكان الفلاني فيه كذا وكذا، قال: هذا من عهد أبي، قال: إذاً أنت ممن قال الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، فأمر بإزالة هذه المنكرات.
الشاهد معنا: أنه بعد هذا سأله أحد تلامذته، قال: أما خفت السلطان لما رأيته؟ قال: تذكرت عظمة الله عز وجل، فصار السلطان أمامي كالنملة.
ولاحظ أثر هذا الأمر عند هود عليه السلام، حينما عاداه قومه: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود:53 - 54] أحس هود أن هؤلاء القوم لا يعرفون إلا منطق التحدي، ولا يعرفون منطق الحوار ولا ينفع فيهم هذا الأسلوب: {قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ} [هود:54 - 55]، يقول لقومه وهم عاد: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ * الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلادِ} [الفجر:7 - 8]، يقول لهم: ((فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ))، كيدوني كلكم ولا تمهلون، وافعلوا ما بدا لكم: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
والذي جعل هوداً يسلك سبيل التحدي والمواجهة حتى يقولها أمام قومه صريحة: كيدوني وتآمروا علي واصنعوا ما بدا لكم لأنه يعلم أن ما من دابة إلا ربه آخذ بناصيتها.
المسلم عندما يتصور أن نواصي العباد بيد الله عز وجل، وأن قلبه بيد الله عز وجل الذي إذا أراد شيئاً قال له: كن فيكون، حينها يشعر أن المخلوق لا يساوي شيئاً، فيحتقر المخلوق، ولا يمكن أن يتوجه إلى المخلوق، ولا أن يرجو منه نفعاً ولا نوالاً ولا عطاء ولا حفظاً، ولا يمكن أن يرهبه أو يخافه.(34/15)
التوبة
من آثارها أيضاً: التوبة، حينما يعرف المسلم أن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، ويعرف أن الله سبحانه وتعالى ينزل إلى سماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه سؤاله؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه حينها يقبل على الله عز وجل ويتوب إليه، كما قال الله سبحانه وتعالى: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54].
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53]، حينما يتأمل المسلم هذه المعاني فإنه سرعان ما يتوب إلى الله ويقبل ويشعر أن الله رحيم رءوف، وأن الله سبحانه وتعالى تواب سيقبل توبته.(34/16)
الدعوة إلى الله ومواجهة الأعداء
أيضاً: الدعوة إلى الله عز وجل ومواجهة الأعداء، حينما قال موسى وهارون: {رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45] قال تعالى: {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46].
أيضاً: من آثارها مراقبة الله سبحانه وتعالى، تقول عائشة: (سبحان الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كانت المجادلة تجادل النبي صلى الله عليه وسلم وهي في طائفة الحجرة وأنا لا أسمع منها شيئاً)، أي أن هذه المرأة كانت تخاطب النبي صلى الله عليه وسلم وتجادل وعائشة لا تسمع ما يقولون، ثم ينزل قول الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة:1]، ثم تجد في نفس السورة: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7].
حينما يعرف المسلم أن الله سميع يعرف أن أي كلمة يتفوه بها أو يقولها فإن الله عز وجل سيسمعه، حينما يعرف أن الله لا تخفى عليه خافية: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد:10] لا يتجرأ على المعصية؛ لأنه قد يخلو، ويغلق الباب على نفسه ولا يراه أحد، لكنه يعلم أن الله سبحانه وتعالى سيراه.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني فحين يستحضر المسلم هذه المعاني سيراقب الله عز وجل، وسيعلم أن الله يسمعه، وأنه سبحانه وتعالى يراه وأنه عز وجل لا تخفى عليه خافية سبحانه وتعالى.(34/17)
أمور الاعتقاد تدور على الأسماء والصفات
أيضاً: أمور الاعتقاد كلها مدارها على قضية الأسماء والصفات، مثلاً مسألة الدعاء وأنه عبادة كما قلنا مداره على قضية الأسماء والصفات، فالذي سيسأل الله أن يغفر له لو لم يكن يعلم أن الله غفور رحيم لما دعا الله عز وجل.
الذي تلم به حاجة وتدلهم الخطوب أمامه فيستعين بالله في حاجته لو لم يكن عالماً أن الله سبحانه وتعالى يسمع ويجيب لما توجه إلى الله عز وجل بالدعاء، لو لم يكن عالماً أن الله قادر، وأن نواصي العباد بيده سبحانه وتعالى لما دعا الله عز وجل، وقل مثل ذلك في الاستغاثة والرجاء والتوكل، والقدر، والحاكمية، حيث يخضع المسلم لحكم الله سبحانه وتعالى؛ لأنه يعلم أن الله عز وجل هو الحكم سبحانه وتعالى يحكم ما يريد، وأن له الخلق والأمر، وحينئذ لا يمكن أن يخضع لغير الله عز وجل، وهكذا لو تأملت في اعتقاد المسلم وفي سلوكه وفي حياته لرأيت أن أموراً كثيرة إنما تصدر عن قضية معرفته بأسماء الله عز وجل وصفاته.(34/18)
كلام ابن القيم عن آثار معرفة الأسماء والصفات
أختم هذا الحديث بكلام طويل لـ ابن القيم رحمه الله حول هذا المعنى: يقول بعد أن تحدث عن أولية الله عز وجل وما في ذلك الشهود من الغنى التام: وليس هذا مختصاً بأوليته تعالى فقط، بل جميع ما يبدو للقلوب من صفات الرب سبحانه يستغني العبد بها بقدر حظه وقسمه من معرفتها وقيامه بعبوديتها، فمن شهد مشهد علو الله تعالى على خلقه وفوقيته لعباده واستوائه على عرشه كما أخبر بها أعرف الخلق وأعلمهم به الصادق المصدوق، وتعبد بمقتضى هذه الصفة بحيث يصير لقلبه صمد يعرج إليه مناجياً له مطرقاً واقفاً بين يديه وقوف العبد الذليل بين يدي الملك العزيز، فيشعر بأن كلمه وعمله صاعد إليه معروض عليه مع أوفى خاصته وأوليائه فيستحي أن يصعد إليه من كلمه ما يخزيه ويفضحه هناك، ويشهد نزول الأمر والمراسيم الإلهية إلى أقطار العوالم كل وقت، بأنواع التدبير والتصرف من الإماتة والإحياء والتولية والعزل والخفض والرفع والعطاء والمنع وكشف البلاء وإرساله وتقلب الدول ومداولة الأيام بين الناس، إلى غير ذلك من التصرفات في المملكة التي لا يتصرف فيها سواه فمراسيمه نافذة فيها كما يشاء: {يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة:5].
فمن أعطى هذا المشهد حقه معرفة وعبودية استغنى به، وكذلك من شهد مشهد العلم المحيط الذي لا يعزب عنه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماوات، ولا في قرار البحار ولا تحت أطباق الجبال، بل أحاط بذلك علمه علماً تفصيلياً، ثم تعبد بمقتضى هذا الشهود من حراسة خواطره وإرادته وجميع أحواله وعزماته وجوارحه علم أن حركاته الظاهرة والباطنة وخواطره وإراداته وجميع أحواله ظاهرة مكشوفة لديه علانية له بادية، لا يخفى عليه منها شيء.
وكذلك إذا أشعر قلبه صفة سمعه سبحانه لأصوات عباده على اختلافها وجهرها وخفائها، سواء عنده من أسر القول ومن جهر به، لا يشغله جهر من جهر عن سمعه صوت من أسر، ولا يشغله سمع عن سمع ولا تغلطه الأصوات على كثرتها واختلافها واجتماعها، بل هي عنده كلها كصوت واحد، كما أن خلق الخلق جميعهم وبعثهم عنده بمنزلة نفس واحدة.
وكذلك إذا شهد معنى اسمه البصير جل جلاله الذي يرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في حندس الظلماء، ويرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة ومخها وعروقها ولحمها وحركتها، ويرى مد البعوضة جناحها في ظلمة الليل، وأعطى هذا المشهد حقه من العبودية بحرس حركاته وسكناته تيقن أنه بمرأى منه سبحانه، ومشاهدة لا يغيب عنه منها شيء.
وكذلك إذا شهد مشهد القيومية الجامع لصفات الأفعال، وأنه قائم على كل شيء وقائم على كل نفس بما كسبت، وأنه تعالى هو القائم بنفسه المقيم لغيره القائم عليه بتدبيره وربوبيته وقهره وإيصال جزاء المحسن وجزاء المسيء إليه، وأنه بكمال قيوميته لا ينام ولا ينبغي له أن ينام يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار وعمل النهار قبل عمل الليل، لا تأخذه سنة ولا نوم، لا يضل ولا ينسى إلى آخر كلامه رحمه الله.
والمقصود: أن هذه الأسماء الحسنى والصفات العلى لله سبحانه وتعالى ينبغي أن تترك أثراً في نفوسنا وفي أعمالنا وفي سلوكنا، وأن نشعر أن من كمال التعبد لله سبحانه وتعالى بهذه الأسماء والصفات أن نصف الله سبحانه وتعالى بها كما يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى، وأن ننزهه عن مشابهة خلقه ومساواة خلقه، ومع ذلك أيضاً أن نتعبد لله سبحانه وتعالى بمقتضى هذه الأسماء والصفات.
فالذي يعرف أن الله هو الرزاق ذو القوة المتين لا يمكن أن يتطلع إلى ما حرم الله، أو إلى أن يخشى من غير الله أن يقطع رزقه، أو يمنع عنه رزقه فيشعر أن الأمور بيده سبحانه وتعالى، ومن يعرف أن الله سميع بصير عليم لا تخفى عليه خافية لا يمكن إلا أن يراقب الله سبحانه وتعالى، وأن يخشى الله عز وجل وأن يعبد الله كأنه يراه.
هذا ما تيسر أن نقوله بين يدي هذا الأمر، والأمر أوسع وأعظم وأجل من أن تحيط به لغة العبد الفقير المذنب المسيء، لكن هذه محاولة لأن نتأمل بعض ما يجب علينا تجاه أسماء الله سبحانه وتعالى وصفاته عز وجل.(34/19)
دعوة للعمل
العمل عمود الحياة، فلا تقوم حياة الناس من غير عمل، ومن كان أكثر عملاً وأتقن فعلاً فهو الأسعد بالنجاح والفلاح.
وقد أولى الإسلام العمل أهمية كبيرة في مصادره التشريعية، وتمثل ذلك في واقع أتباعه على مر العصور.(35/1)
نعي لأخوين توفيا في حادث سيارة
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
أما بعد: فبعون الله وتوفيقه نستأنف هذه الدروس المباركة مع بداية هذا العام الدراسي الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون عام خير وبركة، وأن يرزقنا فيه العلم النافع والعمل الصالح.
ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على إتمام هذه الدروس، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل إنه سميع مجيب.
عنوان هذا الدرس أيها الإخوة كما تعلمون جميعاً: (دعوة للعمل).
وقبل أن نبدأ الحديث عن الدرس لعلكم تذكرون أنه في آخر الدروس في العام الماضي وعدنا بإكمال هذه الدروس أثناء الإجازة مفرقة، فلعلي أذكر لكم عناوين تلك الدروس التي ألقيت في الإجازة حتى يتيسر لمن أراد أن يرجع إليها.
كان آخر هذه الدروس في العام الماضي هو الدرس السابع والذي كان بعنوان: (التربية الجادة ضرورة).
وكان الدرس الثامن بعنوان: (كلانا على خير)، وألقي في الرياض في كلية إعداد المعلمين في التاسع والعشرين من شهر محرم.
والدرس التاسع كان بعنوان: (التربية الذاتية)، وألقي في جدة في الثامن من شهر صفر.
والدرس العاشر كان بعنوان: (عناية الشريعة بسد ذرائع الفاحشة)، وألقي أيضاً في جدة في التاسع من شهر صفر.
والدرس الحادي عشر كان بعنوان: (الشباب والاهتمامات)، وألقي في عنيزة في الثاني والعشرين من شهر صفر.
والدرس الثاني عشر كان بعنوان: (ماذا بعد الهداية)؟ وألقي في البكيرية بتاريخ الثالث والعشرين من شهر صفر.
وآخرها الدرس الثالث عشر وكان بعنوان: (سوء الفهم آفة)، وألقي في الخرج في الثاني من شهر ربيع الأول.
وهذا هو الدرس الأول في هذا العام وهو يمثل الرقم الرابع عشر من هذه الدروس المباركة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعيننا على إتمامها.
وقبل أن أبدأ هذا الدرس لعلي أن أبث لكم خبراً لتشاركوني أحزاني ولتعذروني أيضاً عما يبدر من خلل في أداء هذا الدرس، فقد تلقيت عصر هذا اليوم نبأ وفاة أخوين من إخوانكم الذين كانوا يحضرون معنا هذه الدروس، وقد أصيبوا في حادث سيارة فتوفي منهم شابان وبقي بعضهم في المستشفى، منهم من هو في العناية المركزة، ومنهم من هو بصحة جيدة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمهم ويتجاوز عنهم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يشفي مرضاهم.
وحق على كل من حضر مثل هذا المجلس المبارك أو سمع هذا الكلام أن يدعو لإخوانه المسلمين، ونحن إذ يصيبنا الحزن والأسى ونحن نفقد أخوين من إخواننا نشعر أيضاً بالغبطة لهم على هذه الميتة التي نسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون خاتمة حسنة، حيث كانوا في سفر -نحسبهم والله حسيبهم- يبتغون به وجه الله وطلب العلم في صحبة صالحة، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا وإياكم حسن الخاتمة، وقد صلي عليهم هذا اليوم بعد المغرب، ولقد فكرت في أن أذهب لأشهد الصلاة عليهم لكني كرهت أن أخلفكم الموعد، ولعل في الأمر خيراً أن ندعو لهم جميعاً، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمن عليهم بواسع رحمته وعفوه وأن يتجاوز عنهم ويرفع درجاتهم، ونسأله سبحانه وتعالى أن يشفي سائر إخواننا المرضى والمصابين، وأن يجعل ذلك تكفيراً لسيئاتهم وذنوبهم، وأن يجعل ما يصيبنا من حزن وأسى لفقد إخواننا في تكفير سيئاتنا ورفعة درجاتنا إنه سميع مجيب.
ويحق لي أن أحزن وقد فقدت أناساً من أعز طلابي وتلامذتي الذين كنت أراهم لثلاث سنواتٍ خلت يحضرون معي هذه الدروس، ويحضرون معي بعد الفجر، ويسألونني وأتحدث معهم، ولعل أحدهم الذي كان في غرفة العناية المركزة نسأل الله أن يمن عليه بالعافية كان من أكثرهم مداومة على هذه الدروس سواء هذا الدرس أو درس الثلاثاء، أو دروس ما بعد الفجر.
ولا أنسى وقد حدثني بعد ثاني درس من هذه الدروس عن جهد وعمل قام به في مدرسته بعد محاضرتي على مقاعد الدراسة، إنني لا أتصور أني أنسى تلك الوجوه أو أن أنسى هذا الحزن والأسى الذي يصيبنا، لكنا نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا الصبر، وأن يغفر لهم ويتجاوز عنهم، وهكذا الدنيا أيها الإخوة لا تدوم على حال، والبقاء إنما هو في دار القرار، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياهم جميعاً في مستقر رحمته.(35/2)
الجد في العمل عنوان النجاح
هذا الموضوع يشمل مدخلاً للموضوع وتمهيداً، ثم في القرآن دعوة للعمل، وفي السنة دعوة للعمل، وأهل العلم على الجادة يدعون للعمل، وصور من الإخلال بالعمل، وصور مشرقة، وأخيراً: لم نتجاوز هذه المراحل بعد؟ سنة الله في الحياة أن لا يعيش فيها ولا يفلح إلا الرجل العامل، بل ولا يأكل رزقه إلا الرجل العامل، وحتى أصحاب الشهوات والمبادئ الأرضية لا بد لهم من عمل يحصلون من خلاله على ما يريدون، فكيف بالمسلم العابد لله عز وجل.
إن صاحب المؤسسة الخاصة والعمل الشخصي لا يريد أن يوظف لديه إلا الرجل العامل المنتج، والتقارير ومعايير الكفاية لديه مرتبطة بالعمل الذي يقدمه والإنتاج الذي يحققه، ومدير الدائرة الرسمية هو الآخر لا يريد إلا الموظف العامل، ومعايير التقويم الرسمية وغير الرسمية لديه أيضاً مرتبطة بعمل الموظف وما يقدمه.
ولا نزال نسمع أن فلاناً المسئول أو فلاناً المدير حين انتقل من دائرته أو شركته اختار بعض الموظفين في مكتبه لينقلهم معه؛ والجميع يتحدثون أنه أدرك منهم أنهم أناس عاملون جادون فهو يريد رجلاً عاملاً يعينه ويعتمد عليه.
إذاً: فالعمل هو مطلب الجميع ومعيار التقويم، بل حتى في تاريخ الأمم أيضاً فالأمم إنما تنمو وتفلح بالعمل والإنتاج، وأي أمة لها تاريخ كان سواءً كانت حضارة مرتبطة بدين سماوي قامت به على هداية الناس، أو كانت حضارةً مادية ارتفعت على الناس في دنياهم، لم تدخل التاريخ إلا من بوابة العمل.
وفتش في صفحات التاريخ فإنك لن تجد فيه مكاناً لأمة من الكسالى أو أمة من غير العاملين اللهم إلا أن تجد لها صفحات من الذم والحديث أنها كانت ضحيةً للمتآمرين والطامعين.
إن الحياة كلها لا تقوم إلا على العمل، فالرجل الذي يحقق أهدافه خيرةً كانت أو سيئة مرتبطة بالدار الآخرة أو بالدار الدنيا، هو الرجل العامل، والرجل الذي يلقى التقدير والإكرام هو الرجل العامل، والأمة التي تدخل التاريخ من باب واسع إنما هي الأمة التي تملك رصيداً من العمل ومن الرجال العاملين.
ولعلنا نرى التقهقر الذي أصاب هذه الأمة في شتى جوانب الحياة فندرك أن من أسباب هذا التخلف وهذا التقهقر أننا أمة رضعنا الكسل والهوان والذل فأصبحنا نعتمد على غيرنا.(35/3)
القرآن يدعو إلى العمل(35/4)
تلازم الإيمان مع العمل
حين نقرأ القرآن الكريم نجد أنه قد أولى هذا الأمر عنايةً وجعله مطلباً أساساً، فالإيمان لا بد من اقترانه بالعمل الصالح، نقرأ في أكثر من خمسين موضعاً من القرآن أن العمل الصالح يعطف على الإيمان: {الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [البقرة:25] ولا شك أن ذكر الإيمان مجرداً يدخل فيه العمل الصالح، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وستون شعبة: فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، والله عز وجل قال في شأن الذين ماتوا وقد صلوا إلى بيت المقدس: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة:143] أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.
فالعمل إيمان والإيمان لا يتم مطلقاً ولا يصح إلا مع العمل، ومع أن الإيمان عندما يطلق لا يعني إلا ذاك الإيمان المرتبط بالعمل، فإننا نجد أن العمل الصالح يعطف على الإيمان في أكثر من خمسين موضعاً في كتاب الله سبحانه وتعالى، وما ذلك إلا تأكيدٌ على هذا الأصل الأصيل، ألا وهو العمل، فالإيمان أول واجب على المكلف، وهو لا يمكن أن يكون مجرد شعور قلبي يتوجه المرء فيه بقلبه فقط، ولا يمكن أن يكون مجرد كلمة تقال باللسان فما لم يصحبه العمل فإنه ناقص مصاب بالخلل.(35/5)
الإيمان الخالي عن العمل دعوى فارغة
ثانياً: الإيمان في القرآن حين لا يصاحبه عمل يصبح دعوى فارغة لا يحق لصاحبها أن يدعيه: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:14]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] إنه لا يحق لكم أن تدعوا الإيمان ولا يحق لكم أن تقولوا آمنا لأنكم لما تصلوا إلى مرحلة الإيمان بعد، فالمؤمنون الذين يحق لهم أن يتسموا بالإيمان والذي يحق لهم أن يدعوا الإيمان هم: {الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات:15] إيماناً يقينياً لا شك فيه، ثم مع ذلك: {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15] أي: إن الذين يحق لهم أن يدعوا الإيمان حقاً هم العاملون الذي قدموا أنفس ما يملكون من الأنفس والأموال لله عز وجل: {أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].(35/6)
تعليق الجزاء في الدنيا على العمل
ثالثاً: يعلق القرآن الجزاء في دار الدنيا على العمل: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [العنكبوت:55] إننا نقرأ في القرآن الكريم كثيراً من المصارع التي آلت إليها الأمم المكذبة والأمم الضالة، ونقرأ التعقيب في آيات القرآن الكريم أن هذا الجزاء الوخيم الذي صار إليه أولئك المكذبون إنما كان في مقابل عملهم السيئ، إذاً: فالعمل هو الذي قادهم إلى هذا المصير المحتوم.
والعمل الصالح يلقى المرء جزاءه في الدنيا بركةً وسعةً في الرزق: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [الأعراف:96] إذاً: فالجزاء بالإحسان أو بالعقوبة في دار الدنيا مرتبط بالعمل إن خيراً فخير وإن شراً فشر، وشواهد هذا الأصل في كتاب الله سبحانه وتعالى أكثر من أن تحصى وأشهر من أن تذكر.(35/7)
السؤال يوم القيامة عن العمل
رابعاً: السؤال يوم القيامة والحساب إنما هو على العمل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:93] {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية:28] فحين يسأل المرء يوم القيامة، وحين يحاسب، وحين يجازى فهو إنما يحاسب ويجازى على ما قدم من عمل خيراً كان أو شراً، فالعمل إذاً هو مناط الحساب، وهو مناط المساءلة، وهو مناط الجزاء بعد ذلك.(35/8)
الثواب الأخروي على العمل
خامساً: الثواب الأخروي وهو الأساس الذي شمر إليه المشمرون، والذي تسابق إليه العاملون، وتنافس فيه الصالحون، مرتبط أيضاً بالعمل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43]، ويقال لهم هناك: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات:43] فما فاز من فاز وأفلح من أفلح في دار القرار ودار النعيم المقيم إلا بالعمل، والرصيد الوحيد الذي يؤهله لهذا التكريم ولتلك المكانة إنما هو عمله الصالح.(35/9)
العقاب الأخروي على العمل
سادساً: العقاب الأخروي في نار الجحيم مرتبط أيضاً بالعمل: {وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل:90]، ويقال لهم تبكيتاً وتوبيخاً: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة:14]، وحين يطالبون بالعودة إلى دار الدنيا -وأنى لهم ذلك حتى تشيب مفارق الغربان- فهم إنما يطلبونها لأجل أن يمكنوا من العمل، فقد أدركوا الآن قيمة العمل.
إن تلك الدنيا التي كانوا يعيشون فيها من أجل الشهوات الفانية من أجل المال من أجل الجاه، إن كل تلك المعاني التي كانت عندهم تستحق التضحية بالمبادئ تستحق التضحية بكل ما يملكه الإنسان؛ كل تلك المعاني قد زالت وانمحت من ذاكرتهم، فهم يريدون العودة للدنيا لأجل أن يعملوا: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} [فاطر:37] {فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [الأعراف:53].(35/10)
التفكر في آيات الله لا بد أن يثمر العمل
سابعاً: التفكر في آيات الله عز وجل وما يتبعه من مشاعر لا بد أن يتحول إلى رصيد عملي، يقول الله عز وجل: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ * فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [آل عمران:190 - 195].
مع هذا التفكير في مخلوقات الله عز وجل، ومع هذا الدعاء، ومع ذكر الله عز وجل قياماً وقعوداً وعلى الجنوب مع ذلك كله الجزاء مرتبط بالعمل هذا التفكير وهذا الدعاء دعاهم إلى العمل: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى} [آل عمران:195] وما هو هذا العمل؟ {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا} [آل عمران:195] إن الهجرة والإيذاء في سبيل الله عز وجل وما يتبعها إنما هي نتيجة مباشرة لذاك العمل الذي كانوا يقدمونه حين تصدوا لحمل دين الله عز وجل ودعوة الناس إليه، حتى واجهوا ما واجهوا من قومهم فأوذوا وقاتلوا وقتلوا وأخرجوا من ديارهم لأجل أن يفروا بدينهم من تلك الفتنة التي تعرضوا لها.
إن هذه الهجرة مع أنها عمل، وهذا الإيذاء الذي تعرضوا له مع أنه عمل إلا أنهما أيضاً ناشئان عن عمل وجهد، لن يتعرض للإيذاء ولن يضطر للهجرة إلا ذاك الذي واجه الأعداء بما يكرهون، والذي أعلنها صريحة مدوية في وجه الأعداء، فاضطر لأن يتحمل الأذى والضيم في سبيل الله عز وجل، ويتبع ذلك بالخروج من تلك الديار وتلك البلاد يفر بدينه من الفتن.(35/11)
الخوف من الله يقود إلى العمل
ثامناً: وفي القرآن الكريم أيضاً الوعظ والتأثر به والخوف من الله سبحانه وتعالى لابد أن يقود إلى العمل فينتج رصيداً عمليا: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:7 - 11].
لقد كانوا يخافون من هذا اليوم العبوس القمطرير فماذا كان أثر هذا الخوف وماذا كانت نتيجته؟ لقد دعاهم هذا الخوف وهذا التأثر الذي لمسوه في قلوبهم إلى أن: {يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:8 - 10] أي: إن الذي دعانا إلى هذا الإنفاق الذي دعانا إلى هذا البذل وهذا العمل إنما هو الخوف من الله سبحانه وتعالى، فالخوف والشعور بخشية الله عز وجل لا بد أن ينتج أيضاً رصيداً عملياً: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:49 - 50].
وقل هذا أيضاً في سائر المشاعر القلبية، فالحب الذي هو شعور من المشاعر القلبية لا بد أن يدفع إلى العمل، فمن يحب الله سبحانه وتعالى لا بد أن تؤثر هذه المحبة فتتحول إلى محبة لما يحبه الله عز وجل من الأعمال، وبغض لما لا يحبه الله عز وجل من الأعمال، ومحبة لمن يحبه الله سبحانه وتعالى ومن يحب الله، اللهم إني أسألك حبك وحب من يحبك وحب عمل يقرب إلى حبك.
والرجاء: إن رجاء رحمة الله عز وجل ومغفرته ورضوانه لا بد أن يدفع صاحبه إلى العمل وإلا كان أمناً من مكر الله سبحانه وتعالى.
وهكذا سائر المشاعر، وسائر ما يجده الإنسان في قلبه من تأثر بما يسمعه من موعظة، أو ما يقرؤه في كتاب الله سبحانه وتعالى لا بد أن يتحول إلى رصيد عملي، وإلا فهي مشاعر غير صادقة، أو قل: إنها مشاعر مرت على الخاطر عاجلة لم تؤت ثمارها.(35/12)
مقت القول من غير عمل
تاسعاً: لقد مقت الله عز وجل في القرآن الكريم القول بغير عمل وذمه وعابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3] وأتبعت هذه الآيات بقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] فالله سبحانه وتعالى إنما يحب العاملين إنما يحب المجاهدين الذين يقاتلون في سبيل الله عز وجل الذين يعملون ولا يشغلهم القول عن العمل.
إذاً: أيها الإخوة! هذه شواهد متضافرة من كتاب الله سبحانه وتعالى الذي نتلوه جميعاً صباح مساء كلها تدعونا إلى العمل، وكلها تجعل القضية مرتبطة أصلاً بالعمل.(35/13)
الدعوة إلى العمل في السنة النبوية(35/14)
العلم بلا عمل شر يستعاذ منه
وفي السنة النبوية دعوة إلى العمل، فالعلم الذي هو من أشرف العبادات العلم الذي هو أفضل من النوافل ما لم يقد صاحبه إلى عمل يصبح شراً يستعاذ بالله عز وجل منه، لقد دعا صلى الله عليه وسلم وعلمنا أن ندعو: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن دعاء لا يسمع، ومن نفس لا تشبع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع) فقد كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله عز وجل من العلم الذي لا ينفع.(35/15)
وظيفة المسلم في الحياة العمل
ووظيفة المسلم في الحياة هي أيضاً العمل، فقد علمنا صلى الله عليه وسلم أن ندعو للمريض إذا عدناه بأن نقول: اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدوا، أو يمشي إلى صلاة، فأمرنا صلى الله عليه وسلم بهذا الدعاء للمريض، أي: أن وظيفة المسلم أصلاً ووظيفة الإنسان في هذه الحياة أن يعمل فينكأ العدو بجهاده بسنانه ينكأ العدو بأن يغيظ قلوبهم بالكلمة الصادقة بالدعوة لدين الله عز وجل بقول كلمة الحق غير وجل ولا هياب أن ينكأ العدو ويغيظه، فهذا عمل متعد نفعه إلى سائر المسلمين.
وأعلى صور العمل المتعدي النفع هو الجهاد، ثم ذكر الصورة الأخرى من العمل الذي يقصر نفعه على الإنسان نفسه: وهي الصلاة، فذكر أعلى أعمال العبد القاصرة على نفسه وهي الصلاة، وأعلى أعمال العبد التي يتعدى نفعها إلى الآخرين ألا وهو الجهاد.(35/16)
النبي صلى الله عليه وسلم قدوة في العمل
وأما الواقع العملي للنبي صلى الله عليه وسلم فهو خير شاهد على ذلك، من منا لم يقرأ سيرة النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقرأ فيها سيرة ذاك الرجل الداعي إلى الله عز وجل الذي يضحي بأوقاته، ويضحي براحته، وبكل ما يملك صلى الله عليه وسلم في العمل والخدمة لهذا الدين، وتراه صلى الله عليه وسلم وأنت تتمعن في كتب السيرة تراه في أوائل صفوف المجاهدين، وأول من يفزع إذا سمع وجفه أو صيحة، وأول من يرق قلبه حين يرى بعض أصحابه قد أصابتهم فاقة، وأول من ينفق على محتاج أو يحن على مسكين، تراه صلى الله عليه وسلم سباقاً في كل ميدان من ميادين العمل.
أليس لنا فيه قدوة صلى الله عليه وسلم وأسوة حسنة؟ إننا حين ندعو إلى اتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وإلى التأسي بسنته صلى الله عليه وسلم، وحين نقول: إن من علامة محبة المرء للنبي صلى الله عليه وسلم اتباعه لسنته، فإنه لا يجوز أن نقصر هذه السنة على جزء يسير من حياته صلى الله عليه وسلم من أعمال أو مظهر أو هيئة كان عليها صلى الله عليه وسلم، فسنة النبي صلى الله عليه وسلم هي أداء الصلاة في وقتها مع الجماعة هي قيام الليل هي صيام النفل هي تشمير الثياب هي إعفاء اللحية هي الدعوة إلى الله عز وجل هي الجهاد في سبيل الله عز وجل هي الرحمة بالخلق هي الإحسان إلى الناس هي العمل بكل هذه الشريعة وبكل ما تحمله هذه الكلمة من معنى.
إن تمام التأسي بسنة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعها أن ننظر إلى سيرته صلى الله عليه وسلم في كل أحواله وسائر أيامه صلى الله عليه وسلم ونسير ورائها.
وقد كان صلى الله عليه وسلم أيضاً يربي أصحابه على العمل، وعلى أن يحملوا هم العمل، جاءه رجل فقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ فقال له صلى الله عليه وسلم: ماذا أعددت لها؟)، إن الذي ينبغي أن يشغلك ليس الحديث عن وقت الساعة متى تكون فهذا أمر علمه عند الله سبحانه وتعالى، إنما الذي ينبغي أن يشغلك وينبغي أن تسأل عنه هو العمل، ينبغي أن يكون همك هو العمل فأنت عرضة لأن يتخطفك الأجل في أي ساعة من ليل أو نهار، فهمك المرتبط بالساعة والذي يعنيك من الساعة هو أن تسأل ماذا عملت، وماذا قدمت، وماذا أعددت لهذه الساعة؟(35/17)
أهل العلم يدعون إلى العمل(35/18)
سير العلماء ومؤلفاتهم تحتفل بالعمل
أهل العلم على الجادة يدعون إلى العمل، فحين نقرأ في سير العلماء من سلف هذه الأمة بدءاً بأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومروراً بتاريخ هذه الأمة الطويل نجد أن أهل العلم الذين كانوا على هذا المنهج يدعون إلى العمل بالعلم، فهم حين يدعون طالب العلم إلى التعلم يدعونه إلى أن يقرن العلم بالعمل، ولهذا تراهم تتابعوا على أن يوصوا طالب العلم بالعمل، وتوارثوا على أن يعقدوا فصولاً فيما يكتبون من آداب العالم والمتعلم للحديث عن العمل بالعلم.
وللخطيب البغدادي رحمه الله جزء مشهور: اقتضاء العلم العمل، وأقوالهم مشهورة مشهودة في ذلك، فـ أبو الدرداء رضي الله عنه يقول: إن أخوف ما أخاف إذا وقفت للحساب أن يقال: قد علمت فماذا عملت فيما علمت؟ ويقول أيضاً: لا تكون عالماً حتى تكون بالعلم عاملاً.
وكان نقش خاتم الحسين بن علي رضي الله عنه: علمت فاعمل.
وقال الحسن: الذي يفوق الناس في العلم جدير بأن يفوقهم في العمل.(35/19)
الفقهيات التي لا يترتب عليها عمل ترف فكري
ثانياً: المسائل الفقهية التي لا يترتب عليها عمل تعتبر من لهو الحديث وتعتبر ترفاً فكرياً عند علمائنا؛ ولهذا فإنهم يوصون طالب العلم أن يعتني بقراءة وبحث المسائل التي يترتب عليها ثمرة عملية؛ ولهذا ترى مثلاً علماء الأصول وعلماء الفقه يعقبون أحياناً بحث كل مسألة أن يقولوا: والثمرة العملية لهذه المسألة كذا وكذا، أي: ما يترتب عليها من عمل.(35/20)
الاستفتاء لا يكون إلا عما يعقبه عمل
ثالثاً: السائل حين يسأل وحين يستفتي لابد أن يسأل عن مسألة يعقبها عمل وإلا كان مجادلاً مماحكاً لا يستحق الإجابة على سؤاله.(35/21)
واقع العلماء يشهد بأهمية العمل عندهم
وأما واقعهم العملي وتاريخهم فخير شاهد على ذلك: لقد كانوا يتصدرون لتعليم الناس، ويقضون نفيس أوقاتهم في ذلك، وهذا لا شك من العمل، ومن خير العمل الذي يقدمونه للأمة، وما هذا التراث الذي نراه بين أيدينا من التصنيف والتأليف والتعليم إلا جزء من نتيجة هذا العمل الذي كان يبذله سلف الأمة ويتواصون به.
كانوا أيضاً قائمين بالحق محتسبين على العامة والخاصة منكرين لمنكرات العامة، والمنكرات الخاصة، ونحفظ جميعاً مواقف خالدة لأهل العلم في إنكار المنكرات وقول الحق والوقوف في وجوه الفجرة والظالمين، نرى ونقرأ أيضاً في التاريخ أنهم كانوا في الصفوف الأولى من المعارك.
فلعلنا مثلاً نقرأ في سيرة صلاح الدين الذي حرر الله عز وجل على يديه بيت المقدس من الصليبين أنه كان في مقدمة صفوفه الفقهاء والمحدثون والعلماء حتى أمر أحد المحدث أن يحدث ويقرأ وهو بين الصفين ثم قال: هل سمع أحد في هذا الموطن؟ قال: لا، فصار يفتخر صلاح الدين رحمه الله أنه أول من سمع الحديث وهو بين الصفين وقد التحمت السيوف.
إذاً: كان أهل العلم عاملين فكانوا سباقين في تعليم العلم في التصدي للناس ونفعهم والإحسان إليهم في قول كلمة الحق في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في التجديد لهذا الدين، وكم صفحة مرت على هذه الأمة احتاجت إلى مجدد ليرفع الغشاوة عن هذه الأمة، فقام أهل العلم بالعمل وتحملوا ما تحملوا من مضايقة الناس ونقدهم وعيبهم والتشكيك في نواياهم، والطعن فيهم، فقد واجه عبد الغني المقدسي رحمه الله ما واجه، وواجه شيخ الإسلام ابن تيمية ما واجه، وواجه محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ما واجه، وكل المصلحين الذي مروا على تاريخ هذه الأمة واجهوا ما واجهوا من الطعن والتشكيك في نواياهم، وتآمر أهل السوء وأهل البدعة وأهل الهوى عليهم، ومع ذلك ما ضرهم شيئاً، وتحملوا ذلك كله في ذات الله سبحانه وتعالى، فقد كان همهم وداعيهم هو العمل.(35/22)
من صور الإخلال بالعمل(35/23)
الانشغال بحديث المكاسب عن العمل
لعل ما ذكرنا من الآيات القرآنية، والشواهد من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن مواقف أهل العلم يعطينا بعد ذلك قناعةً تامة أن العمل يجب أن يكون همنا دائماً أن العمل يجب أن يكون هو الهاجس الوحيد لنا، وأن نتساءل دائماً: ماذا عملنا وماذا قدمنا؟ وأن نفكر دائماً في حياتنا، وفي أعمالنا، وفي أوقاتنا: ماذا عملنا؟ ثمة صور من الإخلال بالعمل صور قد تبدو لنا نحن أحياناً أنها مفيدة وأنها من مجالس الخير ومن جوانب الخير، لكنها صور شاذة صور لا يقع فيها إلا الناس الذين تخلوا عن العمل، فلنشر إلى بعض هذه الصور: أولاً: من الإخلال بالعمل الانشغال بالحديث عن المكاسب والإنجازات والأعمال والبرامج التي قدمت لخدمة دين الله عز وجل حديثاً تسوده المبالغة فيدرك القريب والبعيد أن ثمة هوة ساحقة بين هذا الحديث وبين الواقع العملي، ويدرك أن الرصيد من العمل يعجز عن الوفاء ببعض ما يقال، وقد امتدت العدوى وللأسف إلى بعض المناشط الإسلامية فأصبحنا كثيراً ما نتحدث عن بعض الأعمال وبعض الجهود حديثاً فيه مبالغة، وحديثاً فيه لغة الأرقام التي أصابتنا العدوى فيها.
إنه يحق لأهل الدنيا يحق لمن لا يريدون وجه الله أن يتحدثوا بهذه اللغة وهذا المنطق، أما الدعاة إلى الله عز وجل فيجب أن يحسبوا للأمر حساباً، يجب أن يكون همهم هو العمل، نعم أيها الإخوة! إن نشر بعض الأعمال، ونشر بعض التقارير، ونشر بعض الجهود لا شك أنه يدفع إلى العمل، ولا شك أنه يقنع الناس بجدوى هذه الجهود، فالناس مثلاً الذين يتبرعون بأموالهم يريدون أن يجدوا أثراً لما قدموا من أموال فيطلبون تقارير عن تلك الأعمال وتلك الجهود الناس الذين يؤيدون بعض البرامج ويقفون وراءها بحاجة إلى أن يقفوا على بعض النجاح الذي حققته هذه البرامج بحاجة إلى أن يعرفوا شيئاً من تلك المنجزات، فالحديث عنها من هذا الباب لا إشكال فيه، أما أن نبالغ وأن نتحدث حديثاً يدرك القريب والبعيد أنه حديث لا يملك رصيداً من الواقع يؤهله فهذا انشغال عن العمل.
إن هذا يشغلنا عن الحاجة إلى العمل، وعن أن نشعر بأن أمامنا مواقع لا تزال هائلة ومواقع شاغرة بحاجة إلى أن نتقدم إليها؛ ولهذا فإن أخشى ما نخشاه أن نبدأ الحديث الآن عن المنجزات التي حققتها الصحوة، وعن المكاسب التي حققتها، والأوراق التي ربحتها وننسى أن ثمة مراحل أمامنا شاسعة وخطوات هائلة لما نتقدم إليها بعد، فيشغلنا حديث الإنجازات والمكاسب عن العمل الحقيقي الذي يجب أن نتصدى له.(35/24)
لغة النقد
ثانياً: من الإخلال بالعمل لغة النقد التي يحترفها البعض وتملأ مجالسنا، فينتقد الأفراد والجماعات والدعاة والعلماء والكتاب والبرامج والمؤسسات الدعوية نقداً صارخاً يأتي على الأخضر واليابس، بل ويكون النقد حدثاً يقرأ من أجله، ويسمع له؛ أليس هناك من وظف نفسه لهذه المهمة الدنيئة وتطوع لخدمة أعداء الدين وأعداء الدعوة بالمجان، فقضى سحابة نهاره وأشرف لياليه في الطعن والنقد والتصنيف والإثارة؟! إنك حين تتساءل عن حال هذا الرجل ماذا قدم؟ هل هدى الله عز وجل على يديه شاباً ضالاً، أو أنقذ فتاة من الغواية، أو دعا رجلاً غير مسلم إلى الإسلام، أو أنكر منكراً ظاهراً، أو تصدى لتعليم علم؟ لا تكاد تجد رصيداً يذكر من هذه الأعمال.
مساكين أولئك الذين يقضون أوقاتهم في هذه الأحاديث مساكين أولئك الذين أصبح همهم الطعن في الآخرين والنقد والتقويم والتصنيف، فأنت ترى من اشتغل بالعمل لخدمة دين الله عز وجل، طلباً للعلم، أو تعليماً ونشراً له، أو تحفيظاً لكتاب الله عز وجل، أو دعوة إلى الله عز وجل، دعوة للمسلمين المقصرين، دعوة لغير المسلمين، جهد هنا وجهد هناك، فترى هذا التيار المتدفق من هذه الجهود المبذولة، وترى أولئك قد أفلسوا من هذا الرصيد كله، وانشغلوا بالغيبة والنميمة والتصنيف، وهذه أيها الإخوة عقوبة عاجلة لأولئك.
إن أشد عقوبة وأقسى عقوبة يعاقب بها المرء أن يحرم العمل، حين ينشغل الآخرون فيستغلون أوقاتهم بالعمل المنتج والمثمر الذي يكون رصيداً له عند الله عز وجل.
أيها الإخوة! حين يشغل المرء نفسه بمثل هذه الأعمال فماذا عساه يلقى عند مولاه حين ينطقه فيسأله: ماذا فعلت وأنت ترى المنكرات العامة التي أصبحت تعج بها المجتمعات ماذا فعلت وأنت ترى الأمة تقاد إلى الهاوية وأنت ترى الأعداء قد تآمروا على الإسلام من الشرق والغرب من النصارى واليهود والمنافقون والوثنيون، وقد اتفقت راية العالم كله في هذه الظروف الكئيبة على حرب هذا الدين، وعلى حرب الدعاة إلى الله عز وجل، ومع ذلك تجد من وظف نفسه في أن يقف في صف الأعداء، وأن يقدم لهم الخدمات بالمجان، ويحسب أنه يحسن صنعاً.
إننا لا نرفض مبدأ النقد، ولا نرفض مبدأ الحديث عن الأخطاء، لكن هذا شيء، وما يدور عند واقع البعض شيء آخر، وحتى تدرك سوء هذه الهاوية التي ينحدر إليها هذا الصنف من الناس تأمل في واقعهم وماذا قدموا وماذا عملوا، لا تكاد ترى لهم عملاً ولا تكاد ترى لهم جهداً، بل تكاد ترى ارتباطاً عكسياً كما يقول الرياضيون بين العمل الذي يقدمونه وبين اشتغالهم بالنقد والتصنيف والإثارة.
لا أريد الحديث عن هذه القضية لكنها صورة من صور الإخلال بالعمل، وأحيل الإخوة إلى كتاب قيم صدر حديثاً لفضيلة الشيخ بكر أبو زيد بعنوان: تصنيف الناس بين الظن واليقين.(35/25)
كثرة الشكوى من مشاكل الواقع
ثالثاً: من صور الإخلال بالعمل كثرة الشكوى من مشاكل الواقع، ومشاكل العمل الإسلامي، ومشاكل الشباب والدعوة إلى آخر هذه القائمة الطويلة، وهي غالباً ما تكون شكوى صادقة لكنها تحتل مساحة من التفكير فينطبع أثرها على السلوك والعمل فيصبح صاحبها محطم الآمال سريع اليأس.
إنك ترى بعض الشباب قد شغل بمشكلة خاصة به، وقد تكون في قضية شرعية، فتراه يشتكي أنه يقع في هذه المعصية أو تلك تراه يشتكي أنه يقصر في تلك الطاعة أو تلك تراه يشتكي من مشكلة أياً كانت هذه المشكلة، فتسيطر هذه المشكلة على تفكيره وتستولي عليه فتصبح هاجساً أمامه حتى يتحول هذا الرجل إلى شاب محطم الآمال، ليس لديه قدرة أن يعمل وأن يقدم أو ينتج فتتحول وبالاً عليه.
أو ذلك الذي شغل بمشاكل الدعوة، ومشاكل العمل الإسلامي، ومشاكل الأمة فأصبح الرجل محطم الآمال محطم التفكير لا يتحدث معك إلا عن المشاكل لا يتحدث معك إلا عن الخلافات إلا عن الإحباط الذي حصل له من جراء ثقته بهذا العمل فبان على خلاف ما يظن ثقته بفلان فبان على خلاف ما يظن، إلى غير ذلك، وكان ماذا؟ إن هذا الذي استولت عليه هذه المشاكل جدير بأن يقف مع نفسه فيخصص لحظات ودقائق من وقته ليفكر تفكيراً جاداً ماذا يغني هذا التفكير، وماذا يغني هذا الانشغال بهذه المشاكل، والتفكير فيها، والحديث عنها، وماذا عساه أن يقدم له؟! إننا نوافقك على أن هذه مشاكل موجودة سواء كانت في شخصك، أو كانت في أوساط الشباب والناشئة، أو كانت في أوساط العمل الإسلامي، وهي مشاكل يعاني منها الجميع، ولا شك أنها تؤرق ليل المخلص تؤرق ليل الصادق ليل من يحمل هم هذا الدين وهذه الدعوة الصادقة؛ ولكن السؤال الذي يفرض نفسه: ماذا قدمنا من عمل، وماذا يغني الانشغال بالمشاكل والتفكير فيها؟ إنه لا يعدو أن يكون فيروساً يقتل العمل المنتج فيروساً يقضي على الإبداع فيروساً يحطم كل همة يمكن أن تتولد عند صاحبها حينما يرى منكراً حينما يرى سوء واقع الأمة حين يسمع كلاماً يحضه على العمل فتتحطم الآمال فيعود صاحبنا لا يستطيع أن يتخذ قراراً لا يستطيع أن يعمل عملاً، سيطرت عليه هذه المشاكل وهذه الهموم.
لقد نهى الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينشغل بهذه الهموم نهى نبيه صلى الله عليه وسلم الذي تحمل ما تحمل في سبيل الدعوة لدين الله عز وجل، والجهاد لإعلاء كلمته، عن أن يهلك نفسه وأن ينشغل بالهم على أولئك المعرضين: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ * إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء:3 - 4].
{وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [الأنعام:35] فما بالنا بعد ذلك ننشغل بالحديث عن المشاكل فتسيطر علينا حتى تؤدي بنا إلى الإحباط؟!(35/26)
كثرة التساؤل
رابعاً: من صور الإخلال بالعمل: كثرة التساؤل ماذا أريد ماذا أصنع كيف أطلب العلم كيف أحفظ كيف أدعو؟ إلى آخر تلك القائمة الطويلة من الأسئلة التي ترد ولا يعقبها خطوات عملية جادة، إن التساؤل ابتداءً مطلب ملح لا جدال فيه؛ لكنه مطلب سليم حين يكون مصحوباً بإرادة العمل بالهمة التي تدفع إلى العمل، أما حين يكون سؤالاً يكرره الشاب في كل مناسبة، فلعلك تعود بالذهن إلى سنة أو سنتين مضت من تاريخك فتتذكر أنك كنت تطرح هذا السؤال وأنت جاد: كيف أطلب العلم كيف أحفظ كيف أدعو ماذا أصنع ما دوري في الحي ما دوري في المدرسة؟ قف الآن وتفكر في نفسك: ماذا قدمت وأنت على مدى سنتين تطرح هذه الأسئلة؟ أليس هذا من القول بغير عمل، إنها أسئلة لا شك جادة لكن لا بد أن تكون أسئلة مصحوبة بالعمل بإرادة العمل بالنية الجادة العازمة، ونتفكر في واقعنا في تلك الأسئلة التي كنا نطرحها، والمشاكل التي كنا نطلب الحل لها، والأدوار التي كنا نطلب ونتساءل أن تعطى لنا ماذا قدمنا منها؟ إذا شعرنا أننا لم نتقدم خطوات جادة فإننا مع الاعتذار الشديد غير عاملين.(35/27)
الانهزام أمام العوائق
خامساً: من صور الإخلال بالعمل: الانهزام أمام أي مشكلة أو تعويق أو مضايقة والتخلي بحجة عدم فتح المجال وعدم التأييد إلى غير ذلك من الأعذار، شاب يدرس في مدرسة أو يعمل في مؤسسة أو يدرس في جامعة في أي مكان على عرض هذا العالم الإسلامي وطوله، فيحاصر نشاطه وتوصد الأبواب أمامه فيقف مكتوف الأيدي بانتظار فتح الأبواب أو طلب الانتقال إلى مجال آخر يمكن أن يعمل فيه، وهي لغة كثيراً ما نسمعها.
أي منطق يسيطر على تفكير هذا الصنف من الناس؟ هل كان أنبياء الله عز وجل كذلك؟! الدعاة والمصلحون هل كانوا كذلك؟! دعاة الفتنة وأصحاب الطوائف والمبادئ الأرضية هل كانوا كذلك؟! ألم يكونوا يضحون ويبذلون سنوات طويلة وهم يضايقون ويتعرضون للسجن والمضايقة والملاحقة والمتابعة ومع ذلك يدعون ويتحملون.
واقرأ في تاريخ الطوائف الباطنية بدءاً بالعصور المتقدمة من تاريخ الإسلام كيف كان القرامطة والإسماعيلية والدروز والنصيرية والرافضة وغيرهم على مدى التاريخ إلى الطوائف المعاصرة من أصحاب الأفكار الضالة المعاصرة؛ كيف يعملون ويتحملون مع المضايقة ومع مصادرة حرياتهم والتضييق على جهودهم، فما بالنا نحن يسيطر علينا هذا المنطق؟ أنا عندي استعداد أن أعمل لكن عندما يفتح المجال أمامي عندما تبارك جهودي عندما أدعى إلى العمل، أما حين يكون الإنسان في موقع فيضايق حينئذ يقف مكتوف الأيدي، ويشعر أنه لا مجال أمامه، ولينتقل إلى ميدان آخر.
وتعال معي مثلاً فافترض إنساناً يدرس في جامعة من جامعات العالم الإسلامي المترامي الأطراف، جامعة فيها ثمانمائة طالب وحين يضايق ولا يكون له مجال ينتقل إلى ميدان آخر، فيأتي الثاني يفكر بنفس العقلية فينتقل وهكذا فما ذنب هؤلاء الطلاب أن يحرموا من هذا الخير وهذه الدعوة؟! نعم قد يكون انتقالك إلى هذا الميدان يعطيك مجالاً من العمل أكثر وهذا صحيح لكن أيضاً هذا الثغر وهذا الميدان ينبغي أن لا يترك.
والقضية ليست قضية مادية تجارية بحتة: ماذا قدم فلان وماذا قدمت أنا كم اهتدى على يدي شخص وكم اهتدى على يده؟ لا، فالقضية أن يعمل كل إنسان في موقعه، وأن يشعر كل امرئ أنه على ثغر.
أحياناً يعمل الإنسان بعمل فتأتيه مشاكل فينهار عمله وتتحطم الكثير من نتائج عمله فلماذا ينهار؟ لماذا لا تستمر في عملك ولو كانت النتيجة قليلة؟ ولو كانت النتيجة يسيرة ولو كانت تلك المواقف محطمة لك.
لقد من الله عز وجل على المسلمين بانتصار الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجاً فعم الإسلام أرجاء هذه الجزيرة المعمورة، وفوجئ المسلمون ورزئوا بموت النبي صلى الله عليه وسلم فماذا كان بعد ذلك؟ ارتدت فئام وطوائف من العرب، وتآمروا حتى أصبح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كالغنم في الليلة الشاتية المطيرة، ومع ذلك مع هذا الانهيار، ومع هذه المشكلة، ومع هذا الوضع الذي صار إليه واقع المجتمع آنذاك لم يقف المسلمون مكتوفي الأيدي، بل جاهدوا وتحملوا حتى استطاعوا خلال سنتين ونصف أن يتحولوا إلى فاتحين، فيفتحون العراق والشام ومصر.
أيها الإخوة! نحتاج إلى هذه الإرادة التي تتجاوز كل العقبات، وتتجاوز كل المشاكل، والتي تجعل الإنسان يعمل في أي موقع كان وهو يشعر أنه يعمل من خلال ما يستطيع من خلال ما يقدم مهما كانت النتائج التي يحققها.(35/28)
الاكتفاء بحمل المشاعر المؤيدة للإسلام وأهله
سابعاً: من صور الإخلال بالعمل: الاكتفاء بحمل المشاعر المؤيدة للخير وأهله، والمشاركة في المنتديات والدروس العامة دون أدنى خطوة إيجابية أو مشاركة فعالة، ولعلنا نجد قطاعاً كبيراً من الناس يرى أن دوره يقف عند هذا الحد.
فيتصور الشاب أن هذا غاية ما يمكن تقديمه، وأن الذهاب والإياب واللقاء مع الأخيار ومشاركتهم الأعمال والمنتديات كافٍ في أن يجعله منسلكاً في قطار الدعاة إلى الله عز وجل، إن هذا لا شك خطوة مطلوبة أن يختار الشاب رفقة صالحة له يصحبهم في حلهم وترحالهم في إقامتهم وسفرهم، وأن يشاركهم مناشطهم لكن هذا وحده لا يكفي أن يجعله منخرطاً في سلك العاملين والدعاة إلى الله عز وجل، فلا بد من أن يقدم عملاً لا بد من أن يقدم مبادرة ومشاركة في أي مجال يمكن أن يساهم فيه.(35/29)
الحديث المستفيض عن الدعوة
الصورة الثامنة من صور الإخلال بالعمل: ما يدور في مجالس المثقفين خاصة وأنصاف المتعلمين من الحديث المستفيض عن الدعوة، وعن جهود الدعاة، يقولون: ليت الدعاة يصنعون كذا، ولعلهم يقولون كذا، أو يتحفظون من هذا القول ويتجنبون ذاك، وهي مقترحات لا شك جادة، وانتقادات منضبطة، لكنها تدار في هذه المجالس والمتحدث يعبث بمسبحته، أو يهز يده، والأمر يتوقف عند هذا الحد، فيتحدثون كثيراً في مجالسهم ومنتدياتهم عن الدعوة وعن همومها، ولو فعل الدعاة ولو صنعوا ولو تجنبوا ولو صار كذا وكذا؛ لكن هذا الحديث لا يعدو أن يكون حديثاً مجرداً في مثل هذه المجالس وهذه المنتديات لا تكاد ترى له أثراً عملياً أو مشاركة فعالة من أولئك.
إنها طبقة من الناس المؤيدين للخير والمحبين له لكنها طبقة تعاني من البطالة تعاني من الفراغ وانهيار الرصيد العملي، ويظن أحدهم أنه حين يملأ مجالسه بمثل هذا الحديث أنه قد قدم خيراً كثيراً للأمة.(35/30)
شغل النفس بنقد المجتمع وذكر صور الانحراف وقصص الفساد
تاسعاً: من صور الإخلال بالعمل: الحديث المستفيض عن واقع المجتمع نقداً، وذكراً لصور الانحراف وقصص الفساد، فيأخذ الحديث ساعات طوالاً مع النماذج والأمثلة، يجتمع الناس والخيرون منهم خاصة في مجلس من المجالس فيتحدثون مثلاً عن انتشار الفواحش عافانا الله وإياكم، فهذا يذكر قصة، والآخر يذكر حادثة، والثالث قضية، والرابع إحصائية، وهكذا يستمرون في حديث طويل لا يقطعه عليهم إلا شغل آخر من ذكر هذه النماذج وهذه القصص، فيظنون أن هذا حديث خير، وأن هذا من باب إشغال المجلس بما يفيد فيقضون ساعات طويلة ويتمخض المجلس بعد ساعتين أو ثلاث ساعات دون أي نتيجة عملية.
إن هذا الحديث ولو كان مصحوباً بالبكاء مصحوباً بالنشيج مصحوباً بالتألم على واقع المجتمع لا يسمن ولا يغني من جوع، ولا يمكن أن يدفع الأمة ولو خطوة واحدة، لقد تجاوزنا جميعاً ويجب أن نتجاوز مرحلة الشعور بواقع المجتمع مرحلة فسد الناس مرحلة: إنا لله وإنا إليه راجعون، والحوقلة والاسترجاع، إنها مرحلة يجب أن نتجاوزها إلى العمل إلى المشاركة الفعالة، ولا يجزئ عنا شيخ يتوكأ على عصاه، أو شاب يتوقد همة وحيوية يملأ مجالسه من البكاء والتألم على واقع المجتمع والأمة، والإفاضة في الحديث عن ذكر الصور المؤلمة من ألوان الانحراف والفساد التي تعج بها مجتمعات المسلمين دون أن يتبع ذلك بأي رصيد عملي أو خطوة عملية.
ولو ألزمنا أنفسنا أننا بعد نهاية كل مجلس من هذه المجالس نخصص ونقتطع جزءاً من هذا الوقت ولو كان لا يزيد على ربع ساعة أو نصف ساعة للسؤال عن الدور العملي الذي يجب أن نقوم به في مواجهة هذه المشكلة أو تلك لتحول حديثنا إلى لغة أخرى، ولتحولت مجالسنا إلى مجالس منتجة للعمل ومقدمة للخير للأمة جمعاء.(35/31)
الحديث المتشائم عما يحاك ضد الإسلام
الصورة العاشرة من صور الإخلال بالعمل: الحديث عن المؤامرات التي تحاك ضد الإسلام والصحوة من الأعداء في الداخل والخارج حديث المتشائم، حديث من يقول لسان حاله: رويداً فالسيل لا ترده بعباءتك، ولست وكيلاً لآدم على ذريته، منطق من يقول: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:6] إلى آخر هذه القائمة الطويلة التي يقول صاحبها لقد فسد الناس ومرجت عهودهم ولا مجال للإصلاح، فالدعوة تحاصر، والمنكر محمى ويدعى إليه، وماذا عساك أن تقدم؟ فلا يزيد صاحبنا على الحوقلة والاسترجاع.
إن الحديث أيها الإخوة عن الأعداء وعن تآمرهم مطلب مهم، بل مطلب ملح ولا شك، فلا بد أن نكون واعين لما يحيك أعداؤنا من مؤامرات، ولا بد أن نتحدث عن الأعداء وخططهم ومؤامراتهم التي تحاك في الداخل والخارج من القريب والبعيد، لكن هذه الأحاديث يجب أن تدعونا إلى العمل إلى أن يكون رصيداً عمليا، أما أن تسيطر هذه الأحاديث علينا فتصبح هماً يشغلنا عن العمل هماً يحولنا إلى أناس محطمين، ويبدد الأعمال فهذا من الانشغال بالقول عن العمل.(35/32)
تدافع الأدوار والمسئوليات
الصورة الحادية عشرة من الإخلال بالعمل: تدافع الأدوار والمسئوليات، وإلقاء التبعات على الآخرين، وهي صورة يكثر الحديث عنها ولا أريد الإفاضة فيها، لكني أقول في هذه العجالة: يحق لموظف يعمل لأجل أن يتسلم الراتب أن يقول: إن إنجاز هذا العمل من مهمة فلان يحق له أن يقول: إن هذا ليس شأني بل هو من اختصاص فلان يحق لعامل بناء مثلاً أو عامل في شركة أن يتحدث بهذا المنطق، أما الدعاة إلى الله عز وجل أما الذين يسابقون إلى الخيرات أما الذين يعملون لله فيجب أن يكون لهم منطق آخر ولغة أخرى.
كم نحتاج أيها الإخوة إلى ذلك الصنف من الناس الذي همه العمل، إن كان في الساقة كان في الساقة، وإن كان في الحراسة كان في الحراسة، ذاك الصنف الذي يعمل على كل الأحوال في السراء والضراء ذاك الصنف الذي يعمل مع المشاكل مع العقبات، يعمل بهدوء وصمت ويتكيف مع الظروف أياً كانت كما يقول المثل العامي: يمد رجله على قدر لحافه.(35/33)
صور مشرقة
حتى لا يكون حديثنا متشائماً، وحتى نضع الأمل المشرق أمام الراغبين في الاستجابة في الدعوة للعمل، فلنعرج في هذه العجالة للإشارة لبعض العناصر الفعالة والنماذج الجادة العاملة: ذلك الشاب الذي ثنى ركبته في بيت من بيوت الله ليعلم أبناء المسلمين كتاب الله عز وجل، في حين يعيش أقرانه جلسات الانبساط والحديث المتبادل صورة مشرقة من صور العمل الفعال.
وذاك الذي أخذ على عاتقه تربية النشء ومصاحبتهم والتوجه لكل مؤامرات الأعداء التي تسعى إلى غمس الشباب في مستنقع الرذيلة، إنها أيضاً هي الأخرى صورة مشرقة من صور العمل.
والآخر الذي تصدى لإنكار المنكرات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فصار ليله في الأسواق أو في مراكز الاحتفال متحملاً الأذى والمضايقة والمؤامرات، بل حتى والامتناع عن حضور هذه المجالس حيث لا تتيسر له، وقبل يومين كنت أتحدث مع أحدهم فصار يحدثني عن موضوع هذه المحاضرة ويقول: إنه لن يتيسر لي حضورها؛ لأني منشغل بهذا العمل وهذا الميدان، فقلت: لا يعنينا حضورك فأنت من العاملين ولست بحاجة إلى أن ندعوك إلى العمل.
والرابع: الذي رق قلبه للأكباد الجائعة والبطون الخاوية فصار ينفق على المحتاجين فيقوم على شئونهم ورعايتهم في المبرات الخيرية أو الجمعيات الاجتماعية التي تسهر على رعاية حال أولئك، أو الذي يجعل نفسه رهن الإشارة أمام الدعاة والعلماء والمصلحين ولسان حاله أو قاله: أنتظر الأمر والتوجيه فأنا في الطوع وفي السمع والتنفيذ.
ولا ننسى بعد ذلك الشاب الذي اختار الغربة والبعد عن العشيرة والأهل ليعمل في منطقة نائية محتسباً لله عز وجل، فلله دره كلما رأيناه تذكرنا التضحية تذكرنا الصدق تذكرنا العزيمة الجادة تذكرنا مصعب بن عمير ومعاذ بن جبل وغيرهم من أولئك الذين كانوا يغتربون في الدعوة إلى دين الله سبحانه وتعالى.
إنها أيها الإخوة! صور كثيرة مشرقة من صور أولئك العاملين، فهاهو الميدان أمامك وإن شئت فاقرأ تاريخ الأنبياء والدعاة والمصلحين تاريخ سلف هذه الأمة، وإن شئت فانظر إلى هذه النماذج التي تراها بعينيك فترى هذه النماذج الفعالة العاملة إنها كلها تقول بلسان حالها: هيت لك إلى الميدان إلى العمل كلها تدعوك بلسان الحال والقال إلى العمل الجاد والمنتج.(35/34)
ألم نتجاوز هذه المراحل
وأخيراً: ألم نتجاوز هذه المراحل بعد؟ هل بعد ذلك كله؛ بعد هذه النصوص الشرعية، وبعد هذه الجهود المتضافرة والنداءات المتعالية هنا وهناك في ضرورة العمل والمشاركة والمساهمة؛ هل بقي أحد يفكر بهذه العقلية التي تقول: إن المهمة مهمة الدعاة مهمة العلماء، إن الواقع أكبر من أن يغيره أنا وأمثالي إنني مقصر لا أملك القدرة ولا العلم ولا التقوى! أم هل بقي من يقول: إن مجتمعنا بخير وإن الخطأ لم يسلم منه مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، والكمال لا يمكن أن يصل إليه بشر؟ أم لا يزال هناك من يفكر في جيبه لا غير في الأرض والمسكن والوظيفة والعلاوة والشهادة، ولسان حاله لسان عبد المطلب الذي يرى الهجوم الكاسح على بيت الله عز وجل من الطاغية أبرهة فيقول: أنا رب هذه الإبل وللبيت رب يحميه.
إننا نجد الكثير ممن يتكلم بلسان عبد المطلب وإن كان ليس على دينه فيقول: مالي شهادتي وظيفتي حياتي الفانية والدعوة لها الله ينصرها لها من يتصدى لها، ألم نتجاوز هذه المراحل بعد؟ وهل بقي أيها الإخوة! فينا بعد كل هذه الجهود بعد هذه النداءات المتوالية، وبعد هذه الحرب على هذا الدين وعلى هذه الدعوة؛ هل بقي فينا من يفكر بهذه العقلية؟ أسأل الله سبحانه وتعالى أن يكتب لنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح.(35/35)
الأسئلة(35/36)
وضع جدول يمشي عليه الشاب
السؤال
هل من الجدية في العمل وضع جدول يمشي عليه الشاب، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الرجل العامل ليس بحاجة إلى أن يوضع له برنامج معين يسير عليه، صحيح أنه يحتاج إلى إضاءات يحتاج إلى إرشادات يحتاج إلى توجيه يحتاج إلى أن يقال له: هذا الميدان منتج، وهذا جربه فلان فأنتج، وهذا الميدان نافع، لكن أن ينتظر فقط مجرد التوجيه فهذا شيء آخر، فهذا التوجيه أو هذه البرامج أو هذه المقترحات إنما تنتج وتنمو مع الإنسان الذي هو جاد أصلاً الذي هو عامل أصلاً لكنه بحاجة إلى من يفتح أمامه مزيداً من الأبواب ومزيداً من المجالات.
فنحن يجب أن نتربى أيها الإخوة على العمل وعلى المبادرة، وأن يكون العمل هماً لنا، وهاجساً لنا نسعى إليه ونشعر أنه هو الهدف الوحيد الذي نتطلع إليه ولا ننتظر من الآخرين أن يقدموا لنا برامج أو مقترحات، بعد ذلك حين نعمل يمكن أن نستفيد من البرامج والجداول والمقترحات وما أكثر الاقتراحات وأكثر البرامج التي تطرح لكن ما أقل العمل.(35/37)
العلاقة بين العمل وغزارة العلم
السؤال
نرجو من فضيلتكم ضرب الأمثلة عن أقل العمل والتعرض لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (بلغوا عني ولو آية) حيث إن العمل لا يحتاج إلى غزارة العلم، بل الجميع مطالب بالعمل قل أم كثر علمه!
الجواب
تحدثنا أو أشرنا إلى هذه القضية في درس سابق كان بعنوان: كلانا على خير! فجميع الناس يمكن أن يعمل ويمكن أن يساهم، صحيح أن التصدي للدعوة العامة للناس لا يمكن أن تكون إلا لمن يملك قدراً من العلم يؤهله لذلك، الذي يتصدى لقيادة دعوة وتوجيهها هم أهل العلم، أما ما سوى ذلك فالميدان مفتوح أمام الجميع مفتوح أمام كل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله أن يشارك بكل ما يملك، وما أظن أحداً يعجز أن يقول كلمة طيبة أو نصيحة أو أن يهدي شريطاً أو كتاباً، أو أن يؤيد داعية من الدعاة إلى الله عز وجل، أو أن يذب عن عرضه، إنها أعمال كثيرة وقائمة طويلة من الجهود والأعمال تنتظر أولئك الذين لا يملكون قدراً من العلم، والذين لا يملكون فصاحةً وبياناً وبلاغةً لكنها بحاجة إلى رجل يحمل إرادة العمل وهم العمل.(35/38)
بقاء المدرس في مدرسته مع المضايقة أفضل من الانتقال
السؤال
ماذا يفعل المدرس في مدرسة ما وهو يواجه تضييقاً من إدارة المدرسة حول ما يقوم به من أعمال لخدمة الدين، أليس من الأفضل أن ينتقل إلى مدرسة أخرى بحيث يقيض الله لهذه المدرسة مدرساً آخر يكون مفتاح قلوبهم على يده؟
الجواب
المفروض أن يبقى ويلزم هذا الميدان، صحيح أنه قد ينتج إنتاجاً ضعيفاً؛ لكن من لهؤلاء البقية في هذا الميدان، وليس بالضرورة أن يكون إنتاج الإنسان في مدرسة مرتبطاً بنشاط مدرسي، هذا لا شك جزء من الأعمال المنتجة والمهمة؛ لكن المدرس يدخل الفصل ويتحدث مع الطلاب ولا يملك أحد أبداً أن يحاصر حديثه، ولسنا بحاجة إلى مدرس يوقع نفسه والآخرين في إحراجات، نحن بحاجة إلى إنسان يخوف الناس بالله عز وجل أن يعظهم ويذكرهم بالدار الآخرة أن يعالج المشاكل التي يعانون منها مشاكل الشهوات الصارخة أمامهم مشاكل عدم وضوح الطريق، أقول: يمكن أن يؤدي من خلال فصله التوجيه في الفصل مع الطلاب من خلال المنهج الدراسي وغيره أن يوجه الطلاب بالكلمة الصادقة أن يدعوهم إلى حسن الخلق أن يذكرهم بالله عز وجل ويخوفهم منه، هذا جزء لا يتجزأ من الدعوة التي نريد.
وعندما نتحدث عن الدعوة فليس بالضرورة أن تكون الدعوة تلك المواقف التي فيها مواجهة، أو فيها إنكار لمنكرات ظاهرة أو غيرها، قد تكون هذه جزءاً من الدعوة وهي تطلب من أشخاص معينين، أو في مواقف معينة فيما يحقق المصلحة ولا يترتب عليه مفاسد، أما الخط العام في الدعوة إلى دين الله عز وجل فهي دعوة إلى دين الله بكل ما يحمله هذا الدين، فهل يعجز المدرس عن أداء مثل هذه الأدوار؟ لا يمكن، حتى ولو حوصر في فصله أو ضويق، فيجب أن ندعو ونعمل على قدر الموقع الذي نحن فيه.
وإذا كنت أنت ستنسحب والثاني والثالث فمن يبقى لهؤلاء؟ وأنا بصراحة أقول: إن الرجل الذي ينتظر الأدوار أن تفتح له الأبواب قد يكون رجلاً مستوى الجدية عنده منخفض، ومستوى العزيمة والإصرار عنده منخفض.
يا أخي! أنبياء الله عز وجل كانوا يواجهون ما واجهوا من المضايقة والمحاصرة، والمحاصرة الإعلامية، والمحاصرة الجسدية، ومحاصرة كل ما يقول من كلمة والمضايقة والأذى، ومع ذلك واجهوا وعملوا، ولم يقولوا: قد قطعنا الإياس في شأن أقوامنا.(35/39)
مراجع درس التربية الجادة
السؤال
طرحت في إحدى دروسك المفيدة درس: التربية الجادة؛ ولأهمية الموضوع ولبعض زملائي أود أن تدلني على المراجع التي تفيد عن ذلك الموضوع.
الجواب
في النية إن شاء الله نشر هذا الموضوع وبعض الموضوعات الأخرى، فلعله يتيسر، لكن يمكن أن أحيل للأخ إلى قراءة سير الدعاة والمصلحين، فهي نموذج من السير التي تشعر الإنسان بالنماذج الجادة التي تساهم في إفادته، ولعل من المراجع القيمة في ذلك كتاب: صفحات من صبر العلماء على شدائد العلم والتحصيل لـ عبد الفتاح أبو غدة؛ لكن يجب أن يحذر القارئ لأن فيه بعض الهنات الخلفية، فهو يثني أحياناً على بعض المتصوفة، أو على بعض من ترك الزواج لأجل العلم، إلى غير ذلك من الهفوات التي لا تخفى على اللبيب، وإذا كان الشاب مبتدئاً في طلب العلم فالأنسب أن لا يقرأه، لكن إذا كان قد قطع مرحلة فيقرأ ويستطيع أن يدرك ما فيه من هنات أو أخطاء، وإن قرأه على من يبين له ما فيه من أخطاء فلا بأس؛ لأن الكتاب جمع فيه مواقف جيدة ونماذج من صبر العلماء على التحصيل والشدائد.
وأيضاً الكتب التي تحدثت عن إنكار العلماء للمنكرات ودعوتهم سواء كانت كتباً فردية عن دعوة عالم بعينه أو كانت عامة، والسير والتراجم التي ترجمت العلماء أيضاً حافلة بذلك.(35/40)
صحبة الشاب للأخيار خير له ولو لم يتأثر بهم
السؤال
لي أخ يذهب مع بعض الأخيار وله أكثر من سنة ولكني لم أجد عليه أي تأثر بهم، فهو يمشي معهم أو مع بعض أقاربه أو مع أبناء الجيران وإن كان لديهم لعب أو لهو، وحاولنا أن يقتصر على الأخيار فقط ولكن دون فائدة، فما توجيهكم؟
الجواب
أن يستمر ولا حرج، نفترض أنه الآن يصاحب الأخيار أو يصاحب غيرهم، صحيح أنه لا يستفيد لكن استمراره معهم فيه خير كبير فإنه سيحافظ على الأقل على مستوى معين من الالتزام لو كان لم يجلس مع هؤلاء الأخيار فلن يبقى، ولو وضعنا أمامه خياراً إما أن تختار هؤلاء وحدهم أو أولئك وحدهم فقد ينحرف وينجرف إلى أصحاب السوء جملة واحدة، فمهما كان فهو على خير، ولعل الله عز وجل أن يفتح على قلبه فيجب أن يواصل معهم ولو كنا لا ندرك عليه أثراً واستفادة فلعله أن يستفيد فيما يستقبل من الأمر ولا نستعجل النتائج.(35/41)
إقناع الناس بالعمل وأهميته في الدين
السؤال
إن لي صديقاً أقضي معظم وقتي معه ولا يخلو وقتي معه من فائدة، ولكن عندما أعرض عليه المشاركة في أنشطة مع مجموعة من الشباب لا أجد منه حماساً مثلي، وربما كان أفضل مني، فما السبيل في محاولة إشراكه في مثل هذه الأنشطة الخيرة؟
الجواب
السبيل أن نقنع الناس بأنهم يحتاجون إلى العمل حتى تبرأ ذممهم من هذا الواجب الشرعي الذي فرضه الله عز وجل على الناس من الدعوة لدين الله سبحانه وتعالى ونشر الخير ونشر الدين.
أيضاً: أن أمتهم ومجتمعهم بحاجة إلى مثل هذه المشاركة، ثم أيضاً إقناعه بالأجر العظيم الذي يترتب على المشاركة في مثل هذه الأعمال الخيرة وهذه الجهود الدعوية المثمرة، وأيضاً إقناعه بشؤم التخلي عن هذه الأدوار وما يجنيه من تخلى عنها وأعرض عنها إلى غير ذلك من وسائل الإقناع والمناصحة فلعلها أن تجد في قلبه مكاناً ولعلها أن تجد في قلبه أثراً.
في ختام هذا المجلس المبارك نسأل الله سبحانه وتعالى ونتوجه إليه ونحن في بيت من بيوت الله عز وجل قد اجتمعنا على مجلس من مجالس العلم ومجالس الذكر، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يكون من المجالس التي تحفها الملائكة، نسأله سبحانه وتعالى ونتوجه إليه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن ينصر الإسلام والمسلمين وأن يكتب العز والتمكين لهذه الدعوة المباركة ولأولياء الله عز وجل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يرحم إخواننا الذين كانوا يشاركوننا وتخطفتهم المنية ولم نعد نراهم في هذه المجالس، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرحمهم وأن يتجاوز عن سيئاتهم، وأن يرفع حسناتهم، نسأله سبحانه وتعالى أن يغفر لهم، وأن يرفع درجاتهم في المهديين، وأن يخلفهم في عقبهم في الغابرين إنه سميع مجيب، وأن يمن على المرضى منهم بالشفاء العاجل، ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا وإياهم في مستقر رحمته ودار كرامته كما اجتمعنا جميعاً في هذه الدنيا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(35/42)
يا أبت
تربية الأبناء أمر مهم حثنا عليه الشرع الحنيف، وتحثنا عليه الفطرة السليمة، وتحثنا عليه عاطفة الأبوة؛ حتى لا يضيع الأبناء، وحتى لا يقعوا في شرك إبليس.
وأساليب التربية كثيرة، لكن كثير من الناس يظن أن التربية هي حمل العصا، والضرب المبرح فقط، وهذا غير صحيح، فالأبناء تختلف طباعهم؛ فمنهم من ينفع معه الضرب والمؤدِّب، ومنهم من تنفع معه المجادلة والمناقشة، ومنهم من تنفع معه العاطفة واللين.
فعلى الآباء أن يكونوا فطناء للتنبه لما ينفع أبناءهم.(36/1)
أساليب تربية الأبناء
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فعنوان هذا الدرس: يا أبت، وهو الدرس السادس عشر من هذه الدروس التربوية، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الخير والبركة.
اعتدنا أن نسمع كثيراً -معشر الإخوة- في مجالسنا أن أبناء هذا الزمان قد تغيروا، وأن أبناء هذا الزمان يختلفون عن سابقيهم، وقد كان الأبناء سابقاً كذا وكانوا كذا، لكننا لم نسمع يوماً من الأيام أن آباء هذا الزمان قد تغيروا، ولست أريد أن أستبق الأحداث فأصدر حكماً: من الذي يتحمل المسئولية الكبرى والأساس، ولكن لا أشك أنه من الظلم ومن المجازفة ومجانبة العدل: أن نتحدث عن الأبناء، وعن تغير الأبناء، وعن تغير شباب هذا الزمان، الذين تغيرت أخلاقهم وعباداتهم، ولم يستطيعوا أن يتعاملوا مع الناس، وصاروا يميلون إلى اللهو واللعب إلى غير ذلك من هذا الكلام الذي يردد كثيراً في المجالس، لكننا نحتاج -ومعذرة- إلى أن نقول: آباء هذا الزمان قد تغيروا أيضاً.
وها هنا وقفات قبل أن نبدأ هذا الحديث: أولاً: إن الحديث عن الآباء لا يعني أن نضعهم في قفص الاتهام أو قاعة المحاكمة، أو أن نواجه الأب بقائمة طويلة من التهم والأخطاء التربوية، إنما القضية ابتداءً وانتهاءً محاولة للوصول إلى وضع أفضل، ومستوىً أعلى في التربية.
ثانياً: لن نتحدث في هذه الدقائق عن نظرية تربوية شاملة، ولا عن أسس تربية الابن؛ لأن هذا قد يضيق عنه هذا الوقت، ولن نتحدث عن أهمية تربية الأبناء فهي مرحلة أحسب أنا قد تجاوزناها، أو أن الكثير قد تجاوزها، وصارت الحاجة إلى معالجة أساليب التربية والغوص فيها، فقد أدرك الجميع من جراء أخطائهم أو من جراء ما يسمعون ضرورة التربية وأهمية تربية الأبناء، إنما المقصود في هذه المحاضرة هو إلقاء الضوء على بعض التصرفات الخاطئة التي تقع من الآباء تجاه أبنائهم.
ثالثاً: الكثير من الآباء يدرك مسئولية التربية، وخطورة إهمال الابن، ومصطلح تربية الأبناء مصطلح واضح له دلالة محددة عند الجميع، وإن كانوا يختلفون في فهمها، وإن كانوا يختلفون في تفسيرها، وإن ما ينبغي أن نعيده هنا أن مجرد إدراك أهمية تربية الأبناء، أو ضرورة تربية الأبناء لا يعني بالضرورة الوصول إلى الطريق الصحيح، ولا حتى إلى جزء من الطريق الصحيح، فكم نرى ممن يمارس قتل المعاني التربوية في ابنه، ويقتل شخصية ابنه بكل ما فيها، بل نراه يكون سبباً مباشراً في انحراف ابنه وغوايته، كل هذا بحجة التربية، وأن التربية تقتضي ذلك.
رابعاً: إن هذا الحديث لا يعني أن الأب هو وحده المسئول الأول والأخير، ولا يعني كذلك أن نقف موقف المحامي عن الابن، وإنما الأب بدون شك يتحمل جزءاً من المسئولية، ولا يعني أيضاً كونه لا يعنينا من الذي يتحمل الجزء الأكبر من المسئولية: أهو الأب أم هو الابن؟ وهي قضية أحسب أنها قضية جدلية فلسفية أكثر من أن تكون قضية عملية.
ونحن ينبغي أن نكون عمليين، وأن نطرح ما نحتاج إليه، فالنقاش الطويل فيمن الذي يتحمل الجزء الأكبر من المسئولية أهو الأب أم الابن؟ أتصور أنه نقاش جدلي فلسفي لن يترتب عليه كثير عمل، وإنما السؤال الذي يجب أن نطرحه ونطرحه بجد ووضوح هو: ما الأخطاء التي يقع فيها الآباء؟ وما الأخطاء التي يقع فيها الأبناء؟ وما الدور المرتقب من الآباء والدور المرتقب من الأبناء؟ أتصور أن مثل هذا الطرح لهذا السؤال هو الذي قد يوصلنا إلى نتيجة عملية، وخطوة إيجابية.
خامساً: إن حديثنا هنا لا يعني أن هذا شأن الجميع، وأسلوب الكافة، بل هناك من يجيد التربية، ويحسن التوجيه، وهو مثال للأب الواعي.
سادساً: سرد هذه الأخطاء لا يعني أيضاً أن كل أب يحوي هذه الأخطاء جميعاً، فالأول له نصيب من هذا الخطأ، والثاني له نصيب آخر، والثالث كذلك، وهم بين مستقل ومستكثر، بل لعل هذه الأخطاء قد لا تجتمع في أب واحد، ومن ثم فإنك أخي الأب حين تعرض هذه القائمة على نفسك، فتفتقد منها عناصر كثيرة، لا يعني بالضرورة أنك قد بلغت الغاية في التربية، فافتقاد عنصر أو آخر أو ثالث أو رابع غاية ما فيه أنها عقبة اجتزتها وتجاوزتها، وبقيت أمامك عقبات عدة.
وكمحاولة للتجديد في صياغة الموضوع أردت أن أصوغ الموضوع على شكل رسالة يبعثها ابن إلى أبيه، ويحدثه عن بعض الأخطاء التربوية التي يرى أن والده كان يقع فيها تجاهه، ويبدأ الابن رسالته كالتالي، وأقول قبل أن أبدأ الرسالة: إنني عندما أتحدث هذا الحديث فإنها ليست رسالة أوجهها إلى أبي رحمه الله؛ فقد فقدته صغيراً، ولو رأيته لما عرفته، فلا يعني هذا الحديث أني أوجه الرسالة إلى أبي، أسأل الله أن يغفر له ويرحمه، ويعينني على ما بقي من بره، إنما أتخيل ابناً من الأبناء، أو شاباً من الشباب يريد أن يبعث رسالة إلى والده يحدثه فيها عن بعض الأخطاء التربوية:(36/2)
نصح الابن لأبيه لا يعد عقوقاً ولا تعدياً
يا أبت! السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أدام الله علينا وعليكم نعمة الإسلام والصحة والعافية، أحييك يا أبت! بتحية أهل الإسلام، تحية المحبة والمودة، تحية من لهج قلبه بالتوقير والحب لك، ولسانه بالثناء عليك، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
يا أبت! أذكرك مع إشراقة كل شمس وغروبها، أذكرك مع إقبال الليل وإدبار النهار، حين أسافر وحين أقيم، حين أحل وحين أرتحل، فمحياك لا يفارق ناظري، وذكراك لا تزول عن خاطري.
يا أبت! كم هي عظيمة آلاؤك علي، وكم هو جميل إحسانك إلي، ولن أستطيع إحصاء أفضالك، أو عد محاسنك، فأنت الذي تفتحت عيني على رؤياك، وتحملت المشاق من أجلي.
يا أبت! لقد قرأت في كتاب الله عز وجل حواراً بين إبراهيم وأبيه، وفي كل كلمة يقولها لأبيه يصدرها بقوله: يا أبت! فأحببت أن يكون هذا عنوان رسالتي إليك: يا أبت! {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا * وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا} [مريم:41 - 48].
ومعاذ الله يا أبت! أن أضع نفسي موضع إبراهيم، وأضعك موضع أبيه، أو أن أتحول إلى موجه لك ومعلم.
يا أبت! لقد عشت مرحلة من العمر مضت بما فيها، مرحلة غفوة وصبوة، ثم منّ الله علي بالهداية، وجلست طويلاً أفكر تفكيراً طويلاً فيما مضى وأعانيه؛ فقررت بعد طول تفكير، وجزمت بعد طول تردد، أن أسطر لك هذه الرسالة؛ لأتحدث معك بكل صراحة، وأخاطبك بكل وضوح، فأصارحك ببعض ما أرى أنه كان لا ينبغي تجاهي من أساليب تربوية، وأنا أجزم بإذن الله أنك قادر على تجاوز هذه الأخطاء تجاهي أولاً، وتجاه إخوتي ثانياً.
إن المصارحة ضرورة يا أبت! والتهرب من الواقع لن يجني ثماره غيرنا.
يا أبت! لا يَدُرْ في بالك أبداً أن ما أذكره هو عنوان نقص قدرك لدي، أو دليل ضعف محبتك عندي، أو مبادئ عقوق حاشا لله! وإني وحين أسطر هذه السطور لازلت أدعو لك في صلاتي، وما تركت موطناً أتحين فيه الإجابة، وأظن أنه من مواطن الإجابة إلا خصصتك فيه بدعوة خالصة صادقة، ولا زال لساني يفيض بالثناء عليك، والاعتراف بالجميل، أسأل الله أن يعينني على برك وأداء حقك.
وقد تطول فصول هذه الرسالة يا أبت! لكن ذلك خير من أن تطول فصول المعاناة، وسيكثر سرد الأخطاء، لكن ذلك أولى بحال من أن يكثر الندم والتحسر على الإهمال.(36/3)
أهمية تربية الأبناء، وخطورة إهمالهم
هكذا شأن التربية: يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
فيخاطبنا الله يا أبت! أن نساهم في وقاية أنفسنا ووقاية أهلينا من عذاب الله عز وجل، ويقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: (كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ ومسئول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسئول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسئول عن رعيته، فكلكم راعٍ ومسئول عن رعيته).
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: حافظوا على أبنائكم بالصلاة، وعودوهم الخير؛ فإن الخير عادة.
يقول ابن القيم رحمه الله: قال بعض أهل العلم: إن الله سبحانه يسأل الوالد عن ولده يوم القيامة قبل أن يسأل الولد عن والده، فإنه كما أن للأب على ابنه حقاً، فللابن على أبيه حق، فكما قال الله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت:8] قال تعالى: {قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6].
قال علي بن أبي طالب: علموهم وأدبوهم.
فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدىً؛ فقد أساء غاية الإساءة، وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم لهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسننه، فأضاعوهم صغاراً، فلم ينتفعوا بأنفسهم، ولم ينفعوا آباءهم كباراً.
كما عاتب بعضهم على العقوق فقال: يا أبت! عققتني صغيراً، فعققتك كبيراً، وأضعتني وليداً، فأضعتك شيخاً.
انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.
وقال الغزالي: الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة ساذجة خالية من كل نقش وصورة، وهو قابل لكل ما نقش، ومائل إلى كل ما يمال به إليه، فإن عود الخير وعلمه نشأ عليه، وسعد في الدنيا والآخرة أبواه، وكل معلم له ومؤدب، وإن عود الشر وأهمل إهمال البهائم شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيم والوالي عليه، وإلى هذا أشار أبو العلاء في قوله: وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوهُ وما دان الفتى بحجىً ولكن يعلمه التدين أقربوهُ وها هو ابن باديس يا أبت! يقول: إن الفضل يرجع أولاً إلى والدي الذي رباني تربية صالحة، ووجهني وجهة صالحة، ورضي لي العلم طريقة أتبعها، ومشرباً أرده، وقاتني وأعاشني، وبراني كالسهم، وحماني من المكاره صغيراً وكبيراً.
فهكذا نشأ الرجال، وهكذا خرج المصلحون يا أبت!(36/4)
تربية الأبناء على معرفة الأهداف الأساسية في الحياة
هدف الحياة: كثيراً ما تحدثني يا أبت! حديثاً مستفيضاً عن المستقبل، حديثاً ألمس منه الحرص وحرارة العاطفة: ابني! اجتهد في دراستك؛ لتتفوق بإذن الله، فتحصل على الشهادة العالية، والوظيفة المناسبة لقد كنت تحدثني عن النجاح، وعن بناء المنزل، وعن الزواج، وعن الأولاد، وعن الوظيفة، حتى اختزلت أهداف الحياة لتصبح هذا الهدف الوحيد والمراد الأهم والأساس، لكني يا أبت! لم أسمع منك يوماً من الأيام حديثاً عن دوري في الحياة، ولم أسمع منك يا أبت! هذه الكلمة: يا بني! اجتهد؛ لتكون أهلاً لأن تخدم أمتك، وتساهم في نصرة دينك، يا بني! لقد ابتعد الناس عن شرع الله، وأعرضوا عن معينه الصافي، فالأمل فيك يا بني! أن تعد نفسك، وتبني ذاتك؛ لتكون أهلاً للمشاركة في إنقاذ الأمة.
لطالما تمنيت يا أبت! أن أسمع منك هذه الكلمة، لكني لم أسمعها منك ولو مرة واحدة، ألا ترى يا أبت! أن هدف الحياة أعلى وأسمى من مجرد حطام الدنيا الفاني، ويؤسفني يا أبت! أن أقول: إني نشأت وترعرعت والدنيا أكبر همي، فلأجلها أدرس وأتعلم وأعمل، وحتى طلب العلم الذي أسلكه غرست في نفسي أنه وسيلة لتحصيل الحياة الدنيا.
لقد حفظت يا أبت! مما حفظته في (عمدة الأحكام) حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان بن داود عليه السلام: لأطوفن الليلة على مائة امرأة أو تسع وتسعين كلهن يأتي بفارس يجاهد في سبيل الله)، لقد كان الهدف عند نبينا سليمان عليه وعلى نبينا محمد أفضل الصلاة والتسليم أن يخرج شباباً وأبناءً يجاهدون في سبيل الله عز وجل.(36/5)
خطورة إهمال تربية الأبناء
الإهمال: ألا تشعر يا أبت! أن واجب التربية يفرض على المربي المتابعة لابنه، ومعرفة مدخله ومخرجه، فما نصيبك أنت يا أبت من ذلك؟ إنك لا تعرف أحداً من أصدقائي اللهم إلا عن طريق الصدفة، وأما أين أذهب؟ وكيف نقضي أوقاتنا؟ وماذا نمارس؟ فهذا ما لا تعلم عنه شيئاً.
إن هذا السلوك التربوي والذي يكون دافعه الإهمال، أو الثقة المفرطة أحياناً، إن هذا السلوك يريح الابن، ويفتح له الباب على مصراعيه، ولكن نهايته يا أبت! لن تكون محمودة العاقبة، ولا مطمئنة النهاية، إنني حين أدعوك يا أبت! إلى المتابعة والملاحظة فلست أدعوك إلى أن تكون كوالد زميلي في الفصل، والذي يحدثني عن نفسه يا أبت! أن والده يفرض عليه رقابة صارمة، فلا يسمح له بالخروج من المنزل، ويشك في تصرفاته، ولابد أن يراه في المسجد وإلا فهذا يعني أنه لم يؤد الصلاة، ويقوم بتفتيش غرفته الخاصة، وأحياناً يتنصت على مكالماته الهاتفية، وتصور يا أبت! أنه قد قام بقياس المسافة بين منزله وبين المدرسة؛ ليعرف هل سار بسيارته إلى شيء آخر.
إن هذا الأسلوب يا أبت! يخرج ابناً محطماً لا يثق بنفسه، ولا يتعامل مع الآخرين، وحين تتاح له الفرصة فسينطلق دون قيد أو وازع، فحين ينتقل إلى الجامعة ويجاوز القرية فسينفتح على عالم لن يجيد التعامل معه، بل افترض أن والده قد مات، فماذا ستكون حاله بعد ذلك؟ فالتوسط هو سنة الله في الحياة يا أبت! فالإهمال أمر مرفوض، والرقابة الصارمة والقسوة هي الأخرى مرفوضة كذلك.(36/6)
الاهتمام بمعرفة من يصاحب الابن
مفهوم الصداقة: جليس السوء كنافخ الكير كما شبهه صلى الله عليه وسلم، وليس من وصف أبلغ من هذا الوصف، لقد كنت يا أبت! تنهاني فعلاً عن جليس السوء، لكني اكتشفت فيما بعد أن مفهوم جليس السوء يحتاج إلى تحرير وتحديد، لقد سألتني عن صديقي محمد، فقلت لك: إنه ابن فلان، فقلت: نعم الرجل والده! فقد كان صاحباً لي وخيِّراً، وكأني يا أبت! سوف أصاحب والده، ومحمد يا أبت! من أسوأ الشباب الذين صحبتهم، وأبناء خالي كانوا لا يقلون عنه سوءاً، فقد كان لهم عظيم الأثر علي في مقتبل حياتي، ومع ذلك فقد كانت قرابتهم هي المؤهل الوحيد لديك لتزكيتهم، إن القرابة يا أبت! ومعرفة والد الصديق ليست معياراً في صلاحه، ولا مؤهلاً في أن ترضاه صديقاً وجليساً لي.(36/7)
عدم الإتيان للأولاد بما يضرهم بدون قيد ولا متابعة
السيارة: يا أبت! لا أنسى ذلك اليوم الذي سلمتني فيه مفتاح السيارة، ومعه بعض الوصايا العاجلة، لقد فرحت بها، وقدرت لك الموقف في حينه، وكنت أقدم لك ما يرضيك للحصول على هذا المطلب، وبعد أن تقدم بي العمر اكتشفت يا أبت! أنه كان الأولى أن يتأخر هذا القرار، معذرة يا أبت! إن قلت لك: إنك اشتريت السيارة استجابة لضغط أمي وإلحاحها أولاً، وثانياً: لأكفيك أمور المنزل وحاجة الأهل.
إن من حقك يا أبت! أن تبحث عما يرضي ابنك، ومن حقك تجاه ابنك وواجبه نحوك أن يكفيك مؤنة المنزل وأعباءه، ولكن ذلك كله يا أبت! ينبغي ألا يكون على حساب التربية.
نعم، أقولها يا أبت! وبكل أسف: لقد كنت قبل أن يهديني الله أذهب بسيارتي إلى حيث ما لا يرضي الله دون أن يعلم أبي أين أذهب، أو حتى والدتي، ومع اعترافي يا أبت! بأني أتحمل الجزء الأكبر من المسئولية، إلا أني اعتقد أن من أعطاني السيارة في ذلك الوقت يتحمل جزءاً لا يقل عما أتحمله أنا.(36/8)
التحذير من وسائل اللهو المضرة
وسائل اللهو: يا أبت! من الذي أحضر جهاز التلفاز في البيت، وبعده جهاز الفيديو، وأخيراً صحن الاستقبال؟ ومن الذي سمح لي باقتناء المجلات الهابطة والأغاني الساقطة، أليس أبي؟ ويطالبني بعد ذلك بالاتزان، وبالجد في الدراسة والتفرغ لها، وقد تاه قلبي في أودية وشعاب أخرى لا تخفى عليك يا أبت! ألا ترى أن الأولى يا أبت! هو ذكر مساوئ هذه الأجهزة، والتحذير منها، والنهي عنها، بدلاً من تأمينها، أو السماح باقتنائها؟(36/9)
الاهتمام بالصلوات وخصوصاً صلاة الفجر
الدراسة وصلاة الفجر: لقد حفظت يا أبت! من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء والفجر)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يتخلف عنها إلا منافق)، وأبي يوقظني لصلاة الفجر أحياناً، ولكنه لا يزيد على أن يوقظني بكلمة واحدة ثم ينصرف، وكم من مرة تخلفت عن الصلاة فلم أسمع منه كلمة عتاب، وأما الإجازة فأنت تعلم متى كنت أصلي صلاة الفجر فيها، وأما حين تخلفت يا أبت! عن الدراسة فتعلم ماذا صنعت معي، أترضى يا أبت! أن يقول الناس عنك: إن الصلاة أقل شأناً وأهون قدراً لديك من الدراسة وأمور الدنيا؟ اسمح لي يا أبت! إن قلتُ: إن صنيعك يشعر الناس بذلك، وكم كنت أتمنى أن تصنع كما يصنع والد جارنا محمد، فهو يحدثني عن والده حيث كان يوقظه ويصطحبه معه للمسجد سوياً، وذات يوم لم يستيقظ فدعاه والده وقال له: أي بني! لقد تخلفت عن الصلاة وأنت تعلم شؤم ذلك وخطورته، وجدير بك يا بني! أن تسأل نفسك ما الذي دعاك لهذا العمل، فإن كان تأخرك في النوم، فلعلك من الغد أن تنام مبكراً، فإن أدركت السبب استطعت أن تصل إلى الحل والعلاج، أرجو أن تفكر ملياً يا أبت! في هذه التربية العالية التي أتمنى أن أكون قد تلقيتها.(36/10)
ضرورة الجلوس مع الأبناء وحل مشاكلهم بحكمة ولين ولطف
حين اكتشفت الشرارة: لا زال في خاطري وهاجسي يا أبت! موقفك حين اكتشفت أول مظهر من مظاهر الانحراف عند أخي، وكان ذلك بالطبع عن طريق الصدفة، وبعد وقت طويل، وأتذكر يا أبت كيف كان موقفك: كلمات لاذعة كالعادة، وتأنيب قاتل، وما هي إلا أيام وكأن شيئاً لم يكن، حتى استمرأ أخي ما هو عليه وألف الفساد.
ما رأيك يا أبت! لو كان البديل أن جلست معه جلسة خاصة، وفتحت له قلبك، وسألته المصارحة: ما السبب؟ ومتى؟ ولماذا؟ أتعرف عواقب هذا الطريق؟ وماذا أستطيع أن أعينك به؟ وهذا كله مع قدر من الحزم والجدية، ألا ترى أن هذا البديل قد يكون أنجع، وأن هذا الحل قد يكون أولى؟ التعليق: أعتقد يا أبت! أن التربية أبعد مدى من مجرد الأمر بالصلاة، والنهي عن المنكرات، والتي حتى لا نسمعها إلا بلغة أعلى في المقاطعة التامة مع الرفق والحكمة، أليس من حقي يا أبت! عليك أن تأخذ بيدي في وصية بالغة، أو موعظة مفيدة، أو تعليم مسألة من مسائل العلم مما أحتاج إليه؟ لقد قرأت يا أبت! في كتاب الله عن لقمان الذي آتاه الله الحكمة، ووصيته الجامعة الفذة لابنه، {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ * وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:13 - 19].
وكم كنت أتمنى أن أتلقى منك مثل هذه الوصية.
يا أبت! أخرج أبو داود والترمذي والنسائي عن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: (علمني رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمات أقولهن في الوتر: اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت) الحديث.
وقال مصعب بن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: كان سعد يعلمنا خمساً يذكرهن عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من البخل، وأعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك من أن أرد إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر)، رواه أبو يعلى في مسنده بإسناد صحيح.
وهاهو محمد بن سعد رضي الله عنه قد ورث هذا المعنى من والده سعد، يقول إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص: كان أبي يعلمنا المغازي والسرايا، ويقول: يا بني! إنها شرف آبائكم، فلا تضيعوا ذكرها.
لا ترى يا أبت! ذكر ابن سحنون في كتابه (آداب المعلمين) عن القاضي الورع عيسى بن مسكين: أنه كان يقرئ بناته وحفيداته، قال عياض: فإذا كان بعد العصر دعا ابنتيه وبنات أخيه؛ ليعلمهن القرآن والعلم.
وكذلك كان يفعل قبله أسد بن الفرات بابنته أسماء التي نالت من العلم درجة كبيرة.
لقد كان السلف يا أبت! يعنون بتعليم أبنائهم وتوجيههم، ومن ثم حفظ لنا التاريخ الوصايا الكثيرة التي تلقوها من آبائهم، روى الخطيب البغدادي في (الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع): أن إبراهيم بن الحبيب بن الشهيد قال: قال لي أبي: ائت الفقهاء وتعلم منهم، وخذ من أدبهم وأخلاقهم وهديهم، فإن ذاك أحب إلي من كثير من الحديث.
وحين سافرت يا أبت! في رحلة مدرسية مع أستاذي عشت فيها جواً أستذكر طيفه، وأستعيد خياله كل يوم، فكنت أسمع التوجيه، والموعظة، والتأديب، والفائدة، والوصية من أستاذي، بلغة التعليم والتربية، مما كنت لا أسمعه من أبي وللأسف، ومما حفظته في المدرسة يا أبت! عود بنيك على الآداب في الصغر كي ما تقر بهم عيناك في الكبر فإنما مثل الآداب تجمعها في عنفوان الصبا كالنقش في الحجر(36/11)
ضرورة الاهتمام بتربية الأبناء، وترك أوهام أن ذلك يكون في الكبر
يصلح حين يكبر: حين كنت أقدم الشاي يوماً للضيوف، وأسمع بالطبع ما يدور بينكم من نقاش، كان يهمني بدرجة كبيرة؛ لأنه كان حديثاً يدور حولنا معشر الأبناء، وصدمت بتعليقك: يكبر حين يطفي، هكذا الشباب، قد كنا هكذا في الصغر حتى هدانا الله، وقلت في نفسي: نعم تقول: كنا كذلك؛ لأنك للأسف يا أبت! لا تعلم ماذا نصنع، ولا تدري ماذا نمارس، ولو علمت بذلك لكان لك منطق آخر ولغة أخرى.
وقد تساءلت بمرارة يا أبت! عن هذا المنطق: يكبر حين يطفي، فمن يضمن لك ذاك؟ ولما لا يكون البديل أنه يزداد إيغالاً في السوء والانحراف حين يكبر؟ ثم هل تضمن له أن يكبر يا أبت؟ أتذكر قبل شهرين حين توفي اثنان من زملائي تغمدهم الله برحمته؟ وبعدهم بأسابيع توفي اثنان كذلك، فلم تتصور أن ابنك لن يكون كهؤلاء، فيتخطفه الأجل قبل الموعد الموهوم الذي تنتظر أن يتوب فيه؟(36/12)
زرع الثقة المحمودة في الأبناء
أزمة الثقة: أجد يا أبت! فرقاً شاسعاً بين ما ألقاه منك من تعامل حين أكون مع الناس، وبين ما في الصحيحين من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بشراب وعن يمينه غلام، وعن يساره الأشياخ، فقال للغلام: أتأذن لي أن أعطي هؤلاء؟ فقال الغلام: لا يا رسول الله! لا أؤثر بنصيبي منك أحداً، فتله، أي: وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده).
وروى الشيخان يا أبت! أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه: (من الشجر شجرة لا يسقط ورقها، ومثلها مثل المسلم، فحدثوني ما هي؟ فوقع في نفس ابن عمر -يا أبت- أنها النخلة، وكان أصغر القوم، فاستحيا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنها النخلة)، فحين خرج مع أبيه قال له ما كان في نفسه، فقال له أبوه: لئن كنت قلتها أحب إلي من كذا وكذا.
لقد تجرأ ابن عمر يا أبت! أن يحدث أباه بما دار في نفسه، ولو كنت مكانه لما تجرأت على ذلك، وشجعه أبوه أن يقول هذا الكلمة، وفي الوقت نفسه لم يعاتبه على ألا يكون قالها.
وكنت أقرأ في التاريخ يا أبت! عن سيرة أسامة بن زيد رضي الله عنه، وعبد الله بن عمر، والأرقم بن أبي الأرقم، وعلي بن أبي طالب وغيرهم من شباب الصحابة الذين كانت لهم أدوار محمودة في تاريخ أمتهم، وفكرت يوماً من الأيام أن أتطلع لأكون مثلهم وأقتدي بهم؛ لكني وجدت أن أبي قد رباني على أني لست مؤهلاً إلا لإيصال الأهل إلى السوق، وإحضار الخبز إلى المنزل، وحتى الفاكهة لست مؤهلاً لشرائها من السوق فضلاً عن الذبيحة وما فوق ذلك، ومع ذلك لست مؤهلاً لاستقبال الضيوف، أو الجلوس معهم إلا حين أقدم القهوة والشاي فقط، وعلي حين ذلك أن أعلن الصمت المطبق إلا ما يكون استفساراً عن أمر يصدر لي من والدي.
ألا ترى يا أبت! أن هذا قد أدى إلى طمس الثقة بنفسي حتى أصبحت أشعر أني لست مؤهلاً لأي دور في الحياة؟!(36/13)
الاعتناء بمشاعر الأبناء
مشاعري غالية: أتذكر يا أبت! حين كان الضيوف لديك فأحضرت الشاي وتعثرت في الطريق؛ أتذكر كلمات التأنيب أمام أعمامي وأقاربي؟ إن كنت نسيتها فإن الصافع ينسى ما لا ينساه المصفوع، وهل تتصور يا أبت! أنني أنسى حين قدمت إليك وقد أخفقت في امتحان الدور الأول في حين نجح إخوتي، وفي مجلس قريب من المجلس نفسه؛ فلقيت من الانتقاد والسخرية منك ما لاقيته؟ وهل تريدني أن أنسى ذلك التأنيب القاسي الذي وجهته لي أمام زملائي وأصحابي؟ بل أحياناً يا أبت! تحملني ما لا أحتمل، ففي ذات مساء أمرتني أن أحضر الطيب للضيوف، فذهبت إلى أمي فوجدته لم ينته بعد، وعدت إليك، ألم يكن البديل يا أبت! عن التأنيب لي ولأمي الذي واجهته منك حينذاك، ألم يكن لك بديل عن هذا الأسلوب؟ أوليس الأولى أن تقدر في نفسك أنه لم ينته بعد، وهب أنه تأخر لدقائق معدودة فماذا في الأمر؟ أعتذر لك يا أبت! عن الاستطراد في هذه الأمثلة لأقول لك بعد ذلك: ألا تتصور أنني إنسان أحمل مشاعر، وأحتاج كغيري للاحترام والاعتراف بشخصيتي؟ لقد حفظت يا أبت! مما حفظته في (عمدة الأحكام): أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتذر لأحد أصحابه حين أهدى له صيداً وهو محرم، فلما رأى ما في وجهه دعاه واعتذر له، وقال: (لم نرده عليك إلا لأنا حرم)، فقد كنا يا أبت! نحتاج منك إلى مثل هذه المراعاة لمشاعرنا.(36/14)
ضرورة إعطاء الأهل والأبناء جزءاً من الوقت لتربيتهم، والنظر في أمورهم
أعطني جزءاً من وقتك: كم هما شخصيتان مختلفتان: شخصية أبي حين يكون مع أصحابه وزملائه، يتحدث وإياهم بكل انبساطة وسعة بال، وقد علته ابتسامة مشرقة.
والشخصية الثانية لأبي نفسه حين يجلس معنا، فلا نراه إلا على وجبة الطعام، والسكوت قد خيم على الجميع، ولا يقطعه إلا الأوامر التي ترد منه تارة وتارة، وأما أن يصحبنا في نزهة، أو يباسطنا الحديث، أو يسأل عن أحوالنا فهذا ما لا يمكن.
إنني حين أراك يا أبت! مع أقرانك يؤسفني أني أقول: إني أحدق النظر فيك وأعيده مرة أخرى: أهذا هو أبي فعلاً؟ لقد كنت أشعر يا أبت! أني يتيم حين حفظت في المدرسة قول الشاعر: ليس اليتيم من انتهى أبواه من هم الحياة وخلفاه ذليلا إن اليتيم هو الذي تلقى له أماً تخلت أو أباً مشغولا يا أبت! اُقترح عليك أن تمسك ورقة وقلم وتسجل فيها كم ساعة تقضيها في العمل الرسمي من وقتك؟ ثم كم ساعة للراحة؟ وكم ساعة للزملاء؟ وكم ساعة لمشاغلك الخاصة؟ وأخيراً كم ساعة لتربية أبنائك؟ أخشى أن تجد إجابة مزعجة يا أبت! أخبرك عنها سلفاً؛ لأني أعرفك جيداً، ستجد أن وقت التربية إن استطعت أن تحسبه لا يمثل إلا نسبة تافهة من وقتك لا تستحق الذكر، أهكذا قدر التربية عندك يا أبت؟ ثم هل فكرت يا أبت! أن تقرأ كتاباً عن التربية وأسسها، أو تسمع شريطاً كذلك؟ أهكذا قدر أبنائك وقيمتهم لديك؟! يا أبت! لقد دعاني هذا الأسلوب إلى أن أمنح زملائي الثقة المفرطة، وأن استأمنهم على مشكلاتي، وأستشيرهم في أموري، وأستأمرهم في قراراتي، مع أنني أدرك أن أبي أكثر خبرة، وأصدق لهجة، وأعمق نصحاً من زملائي، ولكني لا أجد الوقت المناسب له لأفاتحه الحديث، ولو وجدت الوقت المناسب لكانت أمامي العقبة الآتية:(36/15)
مصارحة الأبناء في حل مشاكلهم ومطالبهم
المصارحة: لقد حدثتني نفسي أن أصارحك مرة يا أبت! ببعض مشكلاتي ومعاناتي حين كنت وإياك على مائدة الطعام، وقد سيطر عليك الصمت المطبق كالعادة، ولكني لم أستطع؛ لأني أعرف أن الجواب سيأتي قبل أن أكمل حديثي؛ لأني أعرف أني لن أعطى الفرصة للحديث، ناهيك عن أن تناقش مشكلتي بهدوء وتجرد، وبموضوعية بعيدة عن التشنج والغضب.
يا أبت! ألا توافقني أن الابن يحتاج إلى أن يفتح الأب له صدره؛ حتى يفضي له بما يريد، ويشكو له مما يعاني، وأن لغة النقد والتشنج تقضي على كل حماسة من ابنه للمصارحة قد يدفعه إليها حرارة المشكلة؟(36/16)
على الأب أن يكون واقعياً مع أبنائه
الواقعية: كم مرة يا أبت! دعوتني وأنا خارج من المنزل لتكلفني بإيصال أهلي، أو إحضار طلب معين لك، فأخبرك أني على موعد مع أصحابي، فأطلب منك فرصة للاعتذار منهم على الأقل، أو أطلب تأخير طلبك لوقت آخر وهو قابل للتأخير، فلا ألقى منك إلا الزجر والتأنيب؟ يا أبت! لا شك أن من حقك ألا أتردد في تلبية أمرك، وألا أقدم عليك أحداً، لكن ألا توافقني يا أبت! أن لو كنت تعاملني بمرونة أكثر؛ فتخبرني بطلبك قبل وقت كافٍ، وتسألني عن الوقت المناسب لي، وتؤخر لي أحياناً ما يحتمل التأخير، ويبقى بعد ذلك قدر لا يتسع له هذا المجال يمكن أن أضحي فيه، وأما أن يكون هذا هو القاعدة فقديماً قيل: إذا أردت أن تطاع؛ فأمر بما يستطاع.
ألا ترى يا أبت! أن هذا الأسلوب يشعرني بالتقدير والاحترام والثقة بالنفس، ويدعوني إلى أداء ما تطلبه بنفس راضية مطمئنة؟(36/17)
تربية الأبناء على الخوف من الله وحده، وعلى الشجاعة لا الجبن
الخوف والجبن: إننا يا أبت! أمة رسالة، أمة جهاد في سبيل الله، والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، (ومن لم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق).
لقد كان من حقي يا أبت! عليك أن تربي في الخوف من الله وحده، والانخلاع من خوف المخلوقين وخشيتهم، أترى يا أبت! أن أسلوب التخويف في الصغر من الهر، من اللص، من العفاريت، وربما من عامل النظافة، ولم يتغير هذا الأسلوب حين تقدم بي السن إلا في الأسلوب فقط، أترى يا أبت أن هذا الأسلوب يخرج شاباً مؤهلاً لحمل الرسالة، والجهاد في سبيل الله، والتضحية لأجله سبحانه؟ وهل تظن يا أبت! أنت وأمي أن مثل هذا سيخرج أمثال: خالد بن الوليد أو نور الدين، أو صلاح الدين؟ لقد كانت الشجاعة يا أبت! مضرب المثل عند العرب الأوائل، ويلقنونها لأبنائهم، ويعيرون بها من فقدها، فنحن يا أبت! ونحن أصحاب الرسالة أولى أن نتربى على الشجاعة، وعدم الخوف من المخلوقين.(36/18)
كيفية معالجة أخطاء الأبناء
كيف يعالج الخطأ: الخطأ يا أبت! لا يخلو منه بشر، فهو صفة ملازمة للإنسان، فكيف بالشاب الصغير! ومن واجب الأب ولا شك أن يقوم بتصحيح أخطاء ابنه، والجميع ينتظر منه هذا الدور، ولكن ألا تشعر يا أبت! أن أسلوبك في معالجة الخطأ يحتاج إلى بعض المراجعة؟ فهل يسوغ ألا تترك صغيرة أو كبيرة، شاردة أو واردة، إلا واجهتني بها؟ ثم لماذا تعالج الأخطاء بالقسوة دائماً؟ كثيرة هي المرات يا أبت! التي أتلقى فيها ضرباً مبرحاً، أو لوماً عنيفاً، أو صداً وإعراضاً، والسبب خطأ تافه لا يستحق الوقوف عنده، بل يا أبت! إن بعض المواقف لا أكتشف خطئي فيها، أو لا أقتنع أن ما فعلته خطأ فضلاً عن أن يصل إلى حد العقوبة.
ما رأيك يا أبت! لو تم علاج الخطأ من خلال المناقشة الهادئة، والإشارة، والتلميح، والتغاضي عن بعض الأخطاء أحياناً، ألا تتصور يا أبت! أن هذا أولى؟ وبعد ذلك يمكن أن يبقى مجال لا ينفع فيه إلا التأنيب والتأديب.
وأود أن تطرح على نفسك هذا التساؤل: ما المقصود من معالجة الخطأ: أهو الانتقام من الابن، أم هو إقناعه بترك الخطأ؟ ثم راجع بعد ذلك إسلوبك.
أترى أن الأسلوب يخدم الهدف الأول أم الهدف الثاني؟ يؤسفني يا أبت! إن قلت لك: إنني مع يقيني أن مقصودك هو علاج الخطأ إلا أن أسلوبك يشعرني أن المقصود هو القصد الأول.(36/19)
ليست القسوة دائماً حلاً لتربية الأولاد، ولا التدليل والإهمال، وإنما التوسط
القسوة: تصور يا أبت! أن بعض الآباء يسجن ابنه في دورة المياه أعزك الله، والآخر قد جهز غرفة في المنزل لسجن ابنه الذي يقع في الخطأ، والثالث قد أعد سلسلة من الحديد يربط بها ابنه حين يقع في الخطأ، إنها يا أبت! وقائع حق، وليست من نسج الخيال، وأما الضرب المبرح والقاسي فهو لا يخفى عليك، فهو سنة يمارسها الكثير من الآباء.
إنك توافقني يا أبت! أن هذا السلوك ينتج ابناً عدوانياً متبلد الإحساس، ينظر إلى والده بنظرة الكراهية والاشمئزاز، ويتمنى فراقه بأي وسيلة ولو كانت الوفاة يا أبت! وليس البديل يا أبت! هو التدليل والإهمال، ولكن البديل لا يخفى عليك.(36/20)
ضرورة رحمة الأولاد والحنان عليهم
الرحمة والحنان: لست أدري يا أبت! أين يذهب هؤلاء عن قول معلم البشرية ومربي الأمة: (من لا يرحم لا يرحم)، (الراحمون يرحمهم الرحمن)، (اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه)؟! حفظت يا أبت! في (عمدة الأحكام): (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالناس وهو حامل أمامة بنت زينب رضي الله عنها)، (وجاء الحسن وهو يتعثر في ثوبه والنبي صلى الله عليه وسلم يخطب، فترك خطبته صلى الله عليه وسلم ونزل من المنبر فحمله، ثم قال: إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين من المسلمين).
كم هو عظيم يا أبت! ذلك القلب الرحيم الذي يرعى حق الذرية ويحسن إليهم، حتى وهو يحمل أعباء الرسالة، ومسئولية الأمة، حتى وهو يصلي بالناس، أو يخطب فيهم! أقول لك يا أبت! مع إنني -مع الاعتذار الشديد- كنت أحتاج إلى هذه المعاني، فهلا استدركتها في حق إخوتي الصغار؟(36/21)
مكافأة الأبناء إذا أحسنوا
المكافأة: قرأت يا أبت! في (مستدرك الحاكم): أن ابن عباس رضي الله عنه وضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل).
وأورد الخطيب البغدادي في (شرف أصحاب الحديث) عن النضر بن الحارث قال: سمعت إبراهيم بن أدهم يقول: قال لي أبي: يا بني! اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثاً وحفظته فلك درهم، فطلبت الحديث على هذا.
وليس بالضرورة يا أبت! أن يكون الثواب مالاً، بل يكون أيضاً الثناء الحسن، بل إن السؤال وحده كافٍ ليمنح التشجيع والحث.
كم مرة يا أبت! استخدمت هذا الأسلوب مع ابنك؟ وكم مرة سمع منك الثناء والتقدير فضلاً عن المكافأة؟ وهل يمكن يا أبت! أن أضع ثوابك وعقابك في كفتين؟(36/22)
تنبّه الآباء لفتن العصر التي تواجه الشباب
الفجوة الحضارية: لقد عشت يا أبت! في جيل وعصر له ظروف وملابسات، وقد تبدلت الأحوال وتقلبت الأمور بعده، فها نحن في عصر جديد تختلف موازينه وقيمه، لقد عشت يا أبت! في قريتنا العامرة حرسها الله، عشت وبصرك لا يتجاوز أسوار القرية، وغاية ما تتعرض له من فتنة يا أبت! أن ترى امرأة قد ارتدت عباءتها، والتصقت بالحائط حتى أثر الحائط في جنبها.
وأما أنا يا أبت فحين أخرج من المنزل تقابلني وهي يفوح العطر منها، وقد أبدت مفاتنها، وأخرج بعد ذلك إلى المدرسة فأسمع من زملائي من الأحاديث ما يثير الغافل، ويوقظ الساهي، وأعود إلى المنزل فأراها أمامي على الشاشة فاتنة ساحرة تتكسر وتتغنج، وحين أذهب إلى المحل التجاري أرى المجلات وقد زينت أغلفتها بهذه الصور، وأما جهاز الفيديو فلا يخفى عليك با أبت! ما فيه، ويجهز بعد ذلك على ما بقي جهاز الاستقبال، الذي أصبح يعرض أمام ناظري قنوات العالم بأسره.
هذا ما أواجهه يا أبت! وما أعاني منه، فهل لازلت بعد ذلك يا أبت! تعاملني بعقلية العصر الذي عشت فيه؟! سارق العمر: وبعيداً عما قلته يا أبت! في الصفحة السابقة فأنت قد بلغت أشدك، وأنا لا زلت شاباً مراهقاً، وأنت متزوج من اثنتين، وأنا لازلت أعزب، فتجلس معي أمام شاشة التلفاز، فيثيرني ما لا يثيرك، ويحرك مشاعري ما لا يحرك لديك ساكناً، فهلا فكرت يا أبت! وأنت ترى ما أنا عليه، بل وحتى وأنت تقيِّم أعمالي وأخطائي هل فكرت في سني ومبلغي من العمر؟!(36/23)
الاهتمام بزواج الأبناء
الزواج: ومع ما سردته لك يا أبت! من معاناتي مع الشهوات والفتن ألست بحاجة إلى أن أذكرك بوصية النبي صلى الله عليه وسلم: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج)؟ أتخشى ألا أقوم بأعباء الزواج وقد قال الله عز وجل: {وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [النور:32]؟ تعتذر يا أبت! بعدم القدرة، لكنك بعد ذلك تزوجت الزوجة الثانية، وهذا أمر من حقك ولا أتدخل فيه، لكني أتصور يا أبت! أن حاجتي أكثر إلحاحاً من حاجتك للزوجة الثانية، وأظن أنك قادر على تزويجي بأقل من نصف ما دفعته أنت في زواجك الثاني، وبعد ذلك اشتريت لي السيارة بمبلغ كان يكفي أقل منه، فيوفر جزء من ذلك لما أنا أحوج إليه وهو الزواج.(36/24)
الأبناء أصناف وأنواع من حيث الذكاء والفهم والحفظ
الناس معادن: لقد منَّ الله يا أبت! على أخي محمد بذكاء وفطنة وشخصية جادة تتعلق بمعالي الأمور، وصبر وجلد ليس لغيره من إخوته، وأنا كذلك شأني شأن إخوتي، لكن يا أبي! ما لك تريدنا دائماً أن نكون مثل محمد حتى في الذكاء والحفظ والفطنة مما لا نملكه؟ ودائماً تذكرنا به، وتعيرنا أنت بأنا لم نكن مثله، مما أوغر صدورنا، وجعله يتكبر علينا، لقد اكتشفت يا أبت! بعدما تقدم بي العمر أن الناس مواهب وطاقات، وأن الله قسم العقول كما قسم الأرزاق، فهلا أخذت هذا في حسبانك يا أبت! وأنت تعامل أبناءك؟(36/25)
على الآباء أن يكونوا قدوة لأبنائهم في الخير
القدوة: كم مرة أوصيتني بأن أقول لمن يطلبك في الهاتف: إن والدي غير موجود، وحين أوصلتني للمدرسة قبل أن تشتري لي السيارة أمرتني أن أعتذر بأعذارٍ غير صادقة، في حين سمعت الإمام بعد صلاة العصر مراراً يقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار)، وسمعته يقرأ قوله صلى الله عليه وسلم: (أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف) الحديث.
وسمعت من أستاذي ومن خطيب الجمعة النهي عن الكذب، والتغليظ على من فعله، ألا ترى يا أبت! أني تعلمت الكذب وبكل أسف ممن كان يوصيني بذلك، وممن كان الأولى أن يكون القدوة الحسنة، من أكبر رجل في المنزل، وقل مثل ذلك في استماع الحرام، والنظر إلى الحرام، والتهاون بالصلاة، أليست التربية بالقدوة يا أبت! من أهم جوانب التربية؟(36/26)
على الأب أن يكون قدوة في مجالسه وكلامه
مجالس الآباء: حين تجلس يا أبت! مع أصحابك وأقدم لكم الشاي -دون أن أقول كلمة كالعادة- أسمع ما يجري بينكم مما أرى أنه كان ينبغي الترفع عنه ولو أمامي، يا أبت! لا أفهم كيف تفيضون في الحديث عن أمور النساء، وغالب حديثكم لا يجاوز ما بين السرة والركبة، وأمامكم شاب مراهق لديه من الشهوة ما لا يفتقر إلى ما يثيره، فيسمع مثل هذا الحديث، فهلا سألت نفسك يا أبت! عن أثر هذا الحديث على أمثالي؟ أليس مدعاة لأن تثور الشهوة لدي، وأنت تعلم أني لا أجد المصرف الشرعي؟ أليس مدعاة إلى قدوة سيئة واستمرائي لمثل هذا الحديث في مجالسي مع أصحابي؟ وهناك حيث لا يضبطها ضابط أو يمنعها وازع، فقد تتطور إلى ما لا يخفى عليك.(36/27)
إعانة الأب لابنه في الالتزام بشرع الله، وتشجيعه
مرحلة الالتزام: لقد عشت يا أبت! مرحلة من الغفلة والصبوة كما قلت لك في بداية الرسالة، ثم من الله علي بالهداية، وانتقلت إلى مرحلة أستأذنك أن أحدثك عنها قليلاً: أولاً: هل كان لك دور؟ كم كنت أتمنى أن يكون صاحب الفضل في التزامي واستقامتي بعد الله هو أحب الناس وأقربهم إلي، هو أنت يا أبت! ولكن كم يؤسفني أن هذا الرجل لم يكن له أي دور، بل وحين هداني الله كنت أنتظر التشجيع، وأن أرى تغيراً، ولكن للأسف لم أجد شيئاً يذكر.
ثانياً: لماذا تكون عائقاً يا أبت؟! وحيث لم أجد ذلك يا أبت! فهل وقفت موقف الحياد، أم أن الأمر تغير في الاتجاه المعاكس؟ كم أعاني يا أبت! حين أريد أن أسافر للعمرة، أو أشارك مع طلاب الحلقة، في حين لا يعاني أخي الذي يسافر إلى ما لا يخفى عليك، ولست أدري يا أبت! ما أقول ها هنا، كم مرة ودعت أصحابي ودموعي تذرف؛ لأني لم أصحبهم؛ لا لشيء إلا لأن أبي لم يوافق، وكم ورقة أحضرتها من المدرسة تطلب الموافقة على المشاركة في برامج الجمعية المدرسية وكان رضاك دائماً في زاوية: لا أوافق.
أتدري كم حفظت من القرآن؟ لقد التحقت بعد أن هداني الله يا أبت! بحلقة لتحفيظ القرآن الكريم، ومضيت في حفظ كتاب الله بجد وعزيمة، وها أنا الآن قد أنهيت حفظ كتاب الله بحمده عز وجل، وابتدأت بعد ذلك في حفظ (عمدة الأحكام) من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن يؤسفني يا أبت! أني لم أسمع منك هذا السؤال ولو مرة واحدة: كم حفظت يا بني! من القرآن؟ أي درس حضرت؟ ما أخبار الحلقة؟ ما أخبار الدرس الأسبوعي في المسجد؟ أي أثر يتركه يا أبت! مثل هذا السؤال، وخصوصاً حين يصحب ذلك بالتشجيع والثناء والحث والدعاء: اللهم فقهه في الدين، وزده علماً وعملا؟! أتعرف أصحابي؟ كم مرة تقابلهم يا أبت! لدى الباب فلا يحظون منك بالسلام، فضلاً عن الترحيب والتقدير، أو الجلوس معهم والتعرف عليهم، ومعرفة أحوالهم، ألا ترى يا أبت! أن ذلك يشعرني بالتقدير والاهتمام والثقة؟ هل أنا متشدد فعلاً؟ كم سمعت منك هذا الوصف يا أبت! ولست أدري هل انتقلت إليك العدوى من وسائل الإعلام، فما أن أفوه بكلمة، وما إن تراني على عمل حتى تنهاني عن التشدد، وحتى صيام النوافل مدرج في القائمة لديك ضمن التشدد، فضلاً عن قيام الليل، وحتى إنكار المنكر وآلة اللهو يعتبر هو الآخر تشدداً.
لا أنكر يا أبت! أني قد أقع في الخطأ، وأني شاب قد أبالغ أحياناً، ولكن ما هكذا تورد الإبل، وما هكذا تؤخذ الأمور.(36/28)
المحافظة على البنات من الفتن، والتعجيل بتزويجهن
أختي يا أبت! أخيراً: والوقت يلاحقنا يا أبت! أستأذنك أن أحدثك عن معاناة أختي، والتي شأنها شأني لم تجد وقتاً للحديث، أو مجالاً للمصارحة معك، يا أبت! تعلم ما يخططه الأعداء للمرأة المسلمة، وما يعملون لجرها إلى الرذيلة والفساد، وأختي واحدة من هؤلاء، فهل تستطيع أن تشتكي لك مشكلة، أو تصارحك بهمٍّ يا أبت؟ بل هل تستطيع أن تجلس معك ولو دقائق؟ يا أبت! ألا ترى أن خلافك مع والدتي ينبغي أن يؤجل ليكون خاصاً؟ هل ترى مما يخدم المصلحة وبالذات مع أختي أن تؤنب والدتي أمام الجميع، وعلى أمور تافهة: ربما زيادة أو نقص كمية الملح أو السكر في الطعام؟ يا أبت! أليس من حق أختي أن تعجل موضوع زواجها، بل أن تبحث لها أنت عن الزوج الصالح؟ ولنا سلف يا أبت! في عمر حين عرض ابنته على الصديق رضي الله عنه.
يا أبت! أليس من حق أختي أن تأخذ رأيها في الزواج، وألا تكون ضحية معرفتك وصداقتك لوالد زوجها، والذي معيار تزكيته لديك معرفتك لوالده وأخواله؟ أليست أجهزة اللهو مما يدمر أختي يا أبت؟! أتدري يا أبت! أن أختي تعلمت مصطلحات الحب العشق الغرام العلاقة العاطفية؟ ومن أين؟ مما أمنه لها والدها، الذي أمنه لها ليسليها، ويقضي وقت فراغها، الذي وفرته لها الخادمة النصرانية؟ يا أبت! هذا حصاد الخاطر المكتوب، وهذه نتاج العزيمة التي تحاملت فيها على نفسي حتى سطرت لك فيها هذه السطور، ومعذرة يا أبت! إن كانت فيها قسوة أو غلظة، ولكنها يا أبت! رغبة في الوصول إلى مستوىً أفضل في التربية، فهذا وضع يا أبت! ينبغي ألا نسكت عليه، وأنا بعد ذلك وقبله لازلت أقول: إني عاقد العزم على برك، وإن خطأك تجاهي مهما كان لا ينبغي أن يسوغ لي التقصير في حقك، فأنت أولاً وأخيراً وقبلاً وبعداً أنت والدي، أنت الذي رعيتني، وأحسنت إلي، وأنت الذي أوصاني الله عز وجل بك، وقرن حقك بحقه سبحانه وتعالى.
وأنا أعلم يا أبت! وأجزم أن الكثير من تلك الأخطاء التي سردتها لك كنت أنت يا أبت! تمارسها بحجة التربية، كنت تمارسها بحجة أنها وسائل للتربية والإصلاح، ويدفعك لها محبتك لي، وشوقك وعطفك علي.
وإلى هنا انتهت هذه الرسالة.(36/29)
أحوال بعض الأبناء مع آبائهم
مع الرسائل: كنت قد تلقيت بعض المشاركات من بعض أبنائي الطلاب، والتي تمثل رسائل من معاناتهم هم فعلاً مع آبائهم، وأستأذنكم أن اقرأ لكم نماذج من ذلك، وقد تحيرت كثيراً فكان أمامي أكثر من خمسين رسالة حتى أختار منها ما أقرأه أو أقرأ جزءاً منه، ولهذا سأقرأ لكم رسالتين، واقرأ لكم أجزاءً من بعض الرسائل، مع شكري وتقديري لأبنائي الذين شاركوني وأعانوني، واعتذاري لمن لم يسمح الوقت لإبداء مشاركته.
رسالة من الصميم إلى أبي: إليك أبي الحبيب، إليك يا من سهرت عيناك لمرضي، وتعبت قدماك لأجلي، إليك أنت أيها الحنون المشفق! أبعث هذه الرسالة، وفؤادي قد سكب أشواقه فيها.
أبي! لا يتبادر إلى عقلك النير أنها على سبيل العتاب، لا يا أبي! إنها وربي كلمات من صميم قلب يفديك بدمه وماله وروحه، ومستعد أن يخسر كل شيء لأجلك، إذاً: فما بالك تعرضه على لفح الجمر، بل وتكويه بها، لا لا تنكر مهلاً مهلاً، تراهم والمؤذن يؤذن ولا تأمرهم بالصلاة، فكيف سمح لك عقلك النير أن تضع ابنك في قعر الجحيم؟! أنت تعلم عقوبة تارك الصلاة أنه كافر، أترضى أن يكون لك ابن كافر؟! أجب ما بالك صامتاً، أنا أعلم أن إجابتك ستكون بالنفي.
إذاً: ما بالك تجلب دواعي الشر، وكأنك تحب له الشر والفساد، ابنك فلذة كبدك تراه حبيس الشهوة، وأسير المعصية، فلا تحرك ساكناً، ولا تأمره بمعروف أو تنهه عن منكر؟ أنت قد جلبت له السعادة المزعومة، وتركت السعادة الحقيقية، إن الحياة الحقيقية هي في الإسلام والإيمان، ومحبة الرحمن، والابتعاد عن العصيان.
أبي! لا يضيق صدرك من حدة الصراحة، ولا تحزن فإن المجاملة تدفن نار الدمار برماد الفساد، وإن الجنة يا أبي! أفضل بكثير من الدنيا، فالدنيا مزرعة، وللعاصي نكد وهم وغم، والمؤمن مع تعبه فيها فهو في سعادة.
جمعني الله وإياك في طريق الفلاح.
ابنك المحب.
هذه رسالة من طالب في المرحلة الثانوية.
ورسالة أخرى يقول فيها كاتبها: والدي! عندما ينزف القلب دماً، وتقطر العيون دمعاً، ونظرات الناس تكوي جلدي كأنها السياط، وهمزاتهم تحرق قلبي كأنها الإبر؛ لتكتب لك يا أبي! مأساة شاب راقت له حياة الانحراف، ولكن قبل أن تسألني، ولابد أن تسألني: ما سبب انحرافك؟ تهتز صورتك بعقلي؛ لكي تسطر لك حكايتي، تقول: ابتليت أنت بنقمة المال، فحولت قلبك إلى آلة حاسبة، تتعامل معها بلغة الأرقام، ولم تنظر إلى فلذة كبدك، وإلى ما يحتاجه، ولم تشعر بقدر المسئولية التي يشعر بها أي أب آخر، كان همك الوحيد هو جلب المال فقط، ولم تعلمني كيف حكم الدنيا عمر، ولم تعلمني كيف كان يقاتل خالد بن الوليد، ولم تعلمني كيف حفظ القرآن ابن عباس، ولم تعلمني كيف يسرد الشعر حسان بن ثابت وغير ذلك.
ملعونة هي الدنيا التي صدتك عني، وملعونة هي الأموال التي أبعدتك عن ابنك، حين سلمتني الأقدار إلى تيارات الحياة، وسيرتني كالكرة أتدحرج هنا وهناك، آه وألف آه حتى جمعتني حياتي مع جماعة هم كالبهيمة يأكلون ويشربون لا هم لهم ولا هم عليهم، وقد يكونون أشباهي جمعتنا ظلمة سجن الدنيا، فكم تمنيت أن أموت ولا أحيا مثل هذه الحياة، فقد أصبحت كالقيثارة يعزف عليها البائس والسعيد، وأصبحت جرثومة يتحاشاني كل من رآني.
وبعد ذلك نعتني أبناء جنسي بالفاشل، نعم، أنا لا أرفض ذلك اللقب، فشلت في دراستي، وفشلت في حياتي، وسبب ذلك كله يعزى إليك، أصبحت مسلوب الإرادة لا حول لي ولا قوة، فقد جردتني حياتي من حياة سعيدة بالحنان والعطف والوئام في ضل أسرة كريمة، أفرادها متفاهمون.
أنا فاشل بمعنى الكلمة، فأين أنا من طالب مجد؟ وأين أنا من طبيب مخلص؟ وأين أنا من مهندس ناجح؟ كل أولئك جعلهم المجتمع في القمة، وأما أنا فأدس رأسي في التراب؛ خجلاً وغضباً.
أحضرت إلى منزلنا كل آلات اللهو والفجور، حتى أصبحت هي القاسم المشترك في انحرافي، فكلما رأيت الناجحين أحس بنفسي أني لا أساوي جناح بعوضة، نعم، أعطيتني المال فأصبح سلاحاً يطعنني في نحري، أعطيتني لكي أكون غنياً ابن غني، نعم الكنية هي لفاشل مثلي! ومنعت عني النصيحة وأنت تعرف أنها مفيدة لشاب مثلي، وحرمتني من نعمة الجلوس معك والتحدث إليك، كل ذلك وكأنك تنتقم مني لذنب لم أقترفه سوى أني ابنك.
الآن وحين يتجدد الندم أسأل المولى أن يلهمني الخطى السديدة، والعلم النافع، والعادة هي أن يقتدي الولد بوالده، لكن سوف أكسر تلك الديدنة، وسوف أعلم أبنائي وأحسن تعليمهم؛ حتى يصبحوا أفراداً ناجحين يرفعون رأس أبيهم، والسلام خير ختام، ابنك خيران.
ملحوظة: العنوان كالتالي: الندم، شارع الانحراف، سجن الفساد.
وهذه بعض الرسائل التي قد يضيق الوقت عن قراءتها، فأجتزئ بعض المقاطع منها: يقول أحدهم: وعندما كبرت أصبحت يا أبت! تراقبني حتى في غرفة نومي، وتلاحظني كل وقت، حيث إنك تفتش غرفتي بين الآونة والأخرى، وأصبح عندي شعور بأنك وضعت أجهزة تصنت في سيارتي، وعندما اشتريت لي السيارة أخذت كلما ذهبت وجئت تنظر إلى العداد،(36/30)
الأسئلة(36/31)
زرع الثقة المحمودة في نفوس الأبناء
السؤال
والدي العزيز أشعر دائماً أنه لا يثق بي في أمور كثيرة، فكيف أقنعه بمقدرتي على القيام بأمور كثيرة مما يظن أنني غير قادر على القيام بها، مع ملاحظة أنه لا يعطيني فرصة أبداً، وجزيتم خيراً؟
الجواب
الثقة لابد أن تصدر من الأب ابتداءً، ولابد أن يشعر الأب أن ابنه إنسان على الأقل، وأن ابنه قادر أن يصنع كما يصنع الآخرون حين يغرس فيه الثقة، فغرس الثقة من مسئولية الأب ودور الأب، والابن كذلك عليه أن يثبت لوالده أنه أهل للثقة من خلال النجاح الذي يحققه في كافة أمور حياته.(36/32)
استخدام الضرب الموجع في التربية
السؤال
هل ترى أن الضرب الموجع من أساليب التربية؟
الجواب
الضرب لا شك أنه أسلوب تربوي، فإن الله عز وجل قال: {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا} [النساء:34].
وقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أولادكم بالصلاة لسبع، واضربوهم عليها لعشر).
وقال أيضاً: (لا يجلد فوق عشرة أسواط إلا في حد من حدود الله).
لكن هذا الضرب إنما يكون بعد استيفاء الوسائل التربوية: من المناقشة والإقناع والموعظة، ثم حين يتم الضرب فإن الأب والمربي يجب أن يشعر أن الضرب ليس وسيلة للانتقام، فالضرب المبرح لا شك أنه ليس أسلوباً تربوياً، وليس مما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم، ولا مما دعا إليه، والنبي صلى الله عليه وسلم لم يقل لخادمه قط يوماً من الأيام لشيء لم يفعله: ألا فعلته، أو لشيء فعله: لما فعلته؟(36/33)
حكم التأديب للولد أمام الناس
السؤال
هل التأديب والتأنيب للفرد عند الجماعة أمر سلبي دائماً، وإذا كان الجواب بلا، فمتى يكون التأنيب أمام الناس محموداً؟
الجواب
الأصل أن يكون التأديب والتأنيب أولاً بلغة هادئة، وبعيداً عن التشنج والانفعال، ثم يكون بين الابن وأبيه؛ حتى يشعر الابن أن الأب يحترم مشاعره ويقدرها، وما أكثر ما يتلقى الأبناء من الإهانات من آبائهم أمام الناس، أو في محضر الأطفال: الابن فاشل في الدراسة، الابن غير مؤدب شقي إلى غير ذلك من الأمور، حتى يستمرئ الابن مثل هذا الكلام، وقد يضطر أحياناً إلى نوع من التأنيب أمام الناس لكن هذه حالات شاذة واستثنائية، فلا ينبغي أن تكون القاعدة عندنا.(36/34)
متابعة الأبناء حتى ولو كانوا صالحين
السؤال
ما رأيك في أب اجتهد مع ابنه في التربية حتى خرج شاباً صالحاً، وبعد ذلك أهمل الأب ابنه فأصيب بالانتكاسة؛ وذلك لثقته الزائدة بابنه؟
الجواب
هذه لفتة جيدة ذكرنا الأخ بها، وهي أن بعض الآباء عندما يستقيم ابنه ويصير مع الأخيار، يتصور أن القضية انتهت، ويسلم بعد ذلك، ولا يقوم بأي دور، بل يجب أن تشعر أن ابنك مادام على ظهر الحياة فهو عرضة لأن ينحرف، أو يزيغ، أو يضل، فينبغي أن تتابعه، وتعينه، وتؤيده، وتقف معه، حتى ولو صار مع الناس الصالحين، فمع اطمئنانك وثقتك لا ينبغي أن تعتمد على ذلك وحده.(36/35)
ضياع الأبناء يتحمله الآباء والأبناء أنفسهم
السؤال
بأسلوبك وبكلامك كأنك تعتب على الآباء، فلماذا لا يكون النقص والضعف في الأبناء؟
الجواب
لقد قلت في المقدمة: إننا نسمع الكلام الكثير عن أبناء هذا الزمان، لكننا لم نسمع عن آباء هذا الزمان، وأرجو يا إخوة! أن يرتفع مستوانا في الفهم والإدراك، فنحن نتحدث عن موضوع معين، نحن الآن لم نتحدث عن أسباب الانحراف، وأسباب الضلال، ولم نحلل أسباب فساد الأبناء فنجعله وحده يعود حول الآباء، إنما حديثنا عن نقطة محددة وهي عن إهمال الآباء لأبنائهم.
إن هذا الحديث لا يعني بحال أن إهمال الآباء هو السبب الأكبر، ولا هو السبب الوحيد، ولا يعني أيضاً أنه هو السب الأقل، هذا شأن آخر، فنحن نتحدث عن قضية جزئية يجب أن نفهم ما يقال من خلال هذا الموضوع الذي نتحدث عنه، وحينما نقيس هذا المقياس، ونفهم هذا الفهم أظن أن إشكالات كثيرة ترد علينا ليس في مثل هذا الدرس بل في دروس كثيرة، ويمكن أن تزول هذه الإشكالات، فلا شك أن الأبناء يتحملون مسئولية لكن ليس هذا هو وقت الحديث عن مسئولية الأبناء.(36/36)
التوسط في السماح للنساء بالخروج، وعدم منعهن مطلقاً
السؤال
هناك من الآباء من يمنع ابنته وزوجته من الخروج من البيت ألبتة، فلا تخرج البنت إلا إلى المدرسة فقط، ولا تخرج الزوجة إلا إلى المستشفى إن مرضت، بل حتى منعهن من النزهة والخروج للبر منذ سبع سنوات، فعندما تتزوج البنت تنفتح على الدنيا انفتاحاً كلياً، وأما المرأة فتعيش الهموم، بل حتى جيرانها يمنعهم من زيارتها، فما توجيهكم حفظكم الله؟
الجواب
يجب أن يكون هناك توازن، فالسماح للمرأة بالخروج إلى أي مكان وفي أي وقت وفي أي فرصة أمر غير لائق، والمرأة لها ظروف خاصة غير البنت، ولا شك أن للمرأة ظروفها التي تتطلب أن تبقى في البيت أكثر، لكن نحن نمارس أحياناً جلب الفراغ للمرأة من خلال توفير الخادمة التي توفر الوقت والفراغ للبنات، وتوفير أجهزة اللهو التي تعلم البنات العلاقة الحرام والحب والعشق، ثم تبحث بعد ذلك عنها؟! وحتى الأب الذي يمنع عن بناته أجهزة اللهو وغيرها، لا يسوغ له أن يبقي بناته وأهل بيته في البيت، فليصحبهم في رحلة طويلة، وليكن هناك رحلة كل أسبوع أو كل أسبوعين، المهم أن تكون هناك بدائل تقنع فعلاً أهل البيت أن ما يفعله الأب لمصلحتهم، وأما حين يكون لا يراهم إلا قليلاً، ولا يسمح لهم بالخروج من المنزل، فإذا أردت أن تطاع فأمر بما يستطاع.(36/37)
دور الأم في التربية
السؤال
أليس العتب قد يكون كذلك على الأم؛ لأنها هي المربية، أرجو منك التنبيه على ذلك لوجود نساء هنا؟
الجواب
( النساء شقائق الرجال)، وكل خطاب في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم يوجه للرجال فهو موجه للنساء، ولا شك أن المرأة لها دور مهم في التربية، ولكن الوقت يطول، ولعلنا إن شاء الله أن نخصص حديثاً خاصاً عن المرأة ودورها في التربية؛ لأن المرأة يغلب عليها جوانب معينة فطرها الله عليها؛ لتؤدي أدواراً لا يمكن أن يؤديها الأب، فكما أن الأب يؤدي ما لا تؤديه الأم، فالأم كذلك تؤدي ما لا يؤديه الأب، وكل ما نقوله يشمل الأم، لكن الأم لها حديث خاص، أسأل الله عز وجل أن ييسر الوقت المناسب لحديثي عنه.(36/38)
المفهوم الصحيح للتربية
السؤال
ليس العتب على الأب فقط، بل على كل شيء، فقد تجد أباً يتبع نفسه، ويعمل بالأسباب، ولا يستطيع ذلك، أليس كذلك؟
الجواب
لا، المشكلة يا إخوة! أن مفهومنا للتربية غير صحيح في بعض الأمور، فالكثير من الآباء يتصور أن التربية مرادفة تامة لرفع العصا الغليظة، وأن التربية تعني القسوة، وأن التربية تعني أن يغلق على الابن في البيت، وحين يفعل ذلك ويجتهد في إيجاد الأقفال، وفي جلب العصي، وتوفير وسائل الإهانة لابنه، يتخيل أنه قد اجتهد في التربية، وهذا اجتهاد خاطئ، فإن مجرد شعور الأب بأهمية التربية، ومجرد قسوته، ومجرد حرصه الشديد ليس هو المؤهل الوحيد ليكون أسلوبه أسلوباً تربوياً ناجحاً.
نعم قد يبذل الأب الأسباب، ويكون أسلوبه التربوي أسلوباً ناجحاً، ويبذل كل ما يستطيع ولا ينجح، لكن هذه الحالات قليلة، بل أقول يا إخوة: إنها حالات نادرة، فالغالب أن يكون هناك تقصير من الأب، وقد لا يكون بالضرورة تقصير ناشئ عن إهمال، وسبب وجود هذا الإشكال عندنا أننا نتصور أن التربية مرادفة للقسوة، وأن التربية مرادفة لصورة معينة تعودنا عليها، فتعود الأب من أبيه تربية معينة، وتعود الأب من والده أسلوباً معيناً يمارسه معه، فيتصور أن هذه هي التربية، وأن هذا هو الأسلوب، وليس بالضرورة أن يكون أسلوبه هذا هو التربية، ثم هب أنه كان ناجحاً في وقت، فهذا لا يعني أنه سينجح في وقت آخر، لقد تغيرت الأمور، وتغير الأبناء، وتغيرت الظروف، ولهذا لابد أن نضع هذا الاعتبار في الذهن ونحن نجيب على مثل هذا التساؤل، مع أيضاً كما ذكرنا أن هناك من قد يبذل الجهد لكنه قد لا ينجح، لكن هذه نسبة نادرة، ويبقى بعد ذلك التوفيق بيدي الله سبحانه وتعالى.(36/39)
حكم تفضيل الأب بين ابنه الملتزم وغير الملتزم
السؤال
يقول: هل يفضل الأب بين ابنه الملتزم وغير الملتزم؟
الجواب
التفضيل بين الأولاد -أمر كان ينبغي أن أتحدث عنه؛ لكن لم يتسع الوقت له- مما نهى عنه النبي صلى الله عليه وسلم، ففيما يتعلق بالمال والامتيازات والحقوق لا يجوز للأب أن يفضل أحد أبنائه على الآخر، لكن لا شك أن هناك أموراً معينة من التعامل والتقدير قد يراعي فيها ابنه الملتزم دون ابنه الآخر، وهذه تكون رسالة غير مباشرة للشاب الآخر، لكن أيضاً ينبغي على الأب إذا كان له ابن عليه مظاهر الانحراف والإعراض ألا يهمله، وألا يجعل الأصل هو القسوة معه، بل يرفق به، ويحسن صحبته، فلعل الله عز وجل أن يمن عليه بالهداية والتوفيق.
أسأل الله عز وجل في ختام هذا الدرس أن يمن علينا وعليكم جميعاً بأن يصلح أزواجنا وذرياتنا، {رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا} [الفرقان:74].
واجعلنا للمتقين إماماً، اللهم أصلح لنا أزواجنا وذرياتنا، اللهم أعنا على تربيتهم، ولا تكلنا إلى أنفسنا يا أرحم الرحمين! هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(36/40)
حصاد الأفلام
مما أصيبت به الأمة الإسلامية ظاهرة انتشار الأفلام وأجهزة الفيديو التي دخلت معظم البيوت، والتي خلفت الكثير من الآثار السيئة ونشرت الوباء الأخلاقي العربي إلى تلك المجتمعات المسلمة حتى صارت خراباً، فانتشرت الفاحشة والفساد الأخلاقي والتسكع والضياع.(37/1)
نشأة الأفلام
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فهذا هو الدرس السادس من هذه الدروس التربوية، وموضوعه كما قرأتم جميعاً: حصاد الأفلام.
وكان في نيتي أن يكون هذا الموضوع هو أول هذه السلسلة، أي: بداية هذا العام، وقد بدأت فكرته أثناء الإجازة ولكن تزاحمت الموضوعات حتى تأخر إلى هذا الوقت، وعسى أن يكون في الأمر خير! قبل أن نبدأ في الحديث نحتاج إلى أن نوضح مقصودنا بالأفلام التي نتحدث عنها؛ لأن الكثير من الإخوة وجهوا انتقاداً لموضوع المحاضرة وبالذات في هذا التوقيت، فنحن نعني بالفيلم: ذاك الفيلم التلفزيوني الذي يسجل، سواء كان يعرض من خلال أجهزة فديوتيب، وهو الاصطلاح الذي ينصرف إليه ذهن السامع عندما يقرأ مثل هذا الإعلان، أو من خلال شاشة التلفاز، سواء من خلال البث المحلي، أو من خلال استقبال البث المباشر، والكثير من الإخوة انتقد الحديث عن الأفلام في هذه الفترة التي أصبح يواجهنا فيها خطر أوسع وأشد من هذه الأفلام ألا وهو البث المباشر.
لكن أقول: إن الحديث عن الأفلام جزء من الحديث عن حمى البث المباشر؛ لأن البث المباشر عبارة عن أفلام لكنها تبث بصورة أخرى، فهي غير خاضعة لما يسمى بالرقابة، وكذلك تكون أكثر تركيزاً، ويستطيع أن يشاهدها المستمع والمشاهد ولو لم يكن عنده جهاز الفيديو.
وها نحن نرى الثمار السيئة لهذا البث تترى حتى استطاع المشاهد أن يشاهد أي قناة تلفزيونية دون أي صحن استقبال أو فضائي.
وسنلقي هنا نبذة سريعة عن نشأة الأفلام وكيف اخترعت: ففي البداية كان البث التلفزيوني مباشراً من خلال الأستوديو مباشرة، وتجرى التمثيليات والمسرحيات وغيرها من برامج التلفزيون فتذاع مباشرة من خلال الأستوديو، ثم في عام (1956م) اخترعت الأفلام التي تسجل البرنامج التلفزيوني قبل أن يعرض، وقد مرت بمراحل حتى وصلت إلى هذا التطور الملحوظ فساهمت في كساد سوق السينما العامة؛ نظراً لأن الأفلام تتمتع بمزايا أكثر من خلال وضوحها وسهولة الاستخدام الشخصي.
فجهاز الفيديو يخاطب العين والأذن معاً، فهو يخاطب القارئ والأمي، ويخاطب الجميع، ويأسر مشاعر الإنسان، وينقل للإنسان صورة حية واضحة تشد انتباهه، ومن هنا فلا تستغرب إذا كان يجلس المشاهد أحياناً أربع ساعات أو خمس ساعات تجاه التلفاز أو شاشة الفيديو؛ نظراً لأن هذه الأفلام تخاطب الإنسان وتنقله نقلة أخرى إلى عالم آخر، بخلاف القراءة أو السماع المجرد.(37/2)
كيف وفدت ظاهرة الأفلام إلى مجتمعنا
بدأ ورود الأفلام إلى مجتمعنا في عام (1397هـ)، أي: أنها مرحلة متأخرة نسبياً، وفي تحقيق نشر في جريدة الرياض بتاريخ (16 شوال عام 1403هـ) يقول التحقيق: كانت البداية عام (1397هـ)، وصرح مدير المطبوعات في ذلك الوقت بأنه يوجد في السعودية حوالي (700) محل بيع وتأجير أشرطة فيديو منها (220) محلاً في الرياض، و (195) في جدة و (90) في الشرقية و (35) في المدينة و (40) في مكة، والباقي (120) محلاً موزعاً على سائر المناطق.
وهكذا ترى أنه في خلال هذه الفترة القصيرة جداً انتشر هذا الانتشار الواسع النطاق، وبعده وقفت التصريحات الجديدة بالسماح لمحلات الفيديو، ولكن تحصل حالات استثنائية، المهم: أنك تستطيع أن تقول الآن: إن محلات بيع الأفلام وتأجيرها في مدينة الرياض تكاد تكون ضعف محلات التسجيلات الإسلامية.
وحتى نأخذ تصوراً عن حجم متابعة ومشاهدة هذه الأفلام يمكن أن نشير إلى بعض الدراسات التي أجريت في مجتمعنا عن متابعة الشباب للأفلام: ففي بحث بعنوان: (وقت الفراغ وشغله) من جامعة الإمام محمد بن سعود توصل الباحث إلى أن (67%) من أفراد العينة -والدراسة مطبقة على مرحلة ثانوية- يملكون أجهزة فيديو، والذي لا يملك جهاز فيديو لا يعني ذلك بالضرورة أنه لا يشاهد الأفلام، فهناك نسبة كبيرة ممن لا يملكون جهاز الفيديو يشاهدون الأفلام عند أصدقائهم، وهي قضية أخطر، وإن كان كلا الأمرين فيهما خطر، لكن جلوسه مع أصدقائه يعني: أن الأصدقاء يتحكمون في نوعية الأفلام التي تشاهد وتختار، وقد يقصد باختيار أفلام معينة تحقيق أغراض ومقاصد سيئة بهؤلاء الأصدقاء كما لا يخفى على الجميع.
وكذلك أفاد أن (45.
7%) من أفراد العينة يقضون أوقاتهم في مشاهدة الفيديو، يعني: أنه يقضي معظم وقته في مشاهدة الفيديو، أي أن نصف أفراد العينة تقريباً يقضون أوقاتهم في مشاهدة أفلام الفيديو.
وفي دراسة أجراها طالبان في المعهد العالي أو كلية الدعوة في جامعة الإمام بعنوان: (أثر الفيديو على متابعة برامج التلفاز بين طلاب المرحلة الثانوية في مدينة الرياض) ظهر أن الذين لا يوجد لديهم أجهزة فيديو هم (19.
5%) فقط، والذين لا يشاهدون أفلام الفيديو هم (10%) فقط من أفراد هذه العينة.
على كل حال نكاد نقول: إنه في أوساط الشباب يكاد يبلغ الرقم النصف ممن يتابع ويشاهد أفلام الفيديو، وهو رقم هائل جداً، وتصور أن كل الآثار والنتائج التي سنعرضها بعد قليل -إن شاء الله- ستنطبق بصورة أو بأخرى على هؤلاء الشباب الذين يشاهدون هذه الأفلام.
لا تنزعجوا من هذه الأرقام، فقد جاء الآن البث العالمي وصار الكثير من الناس يستقبل باستخدام الهوائيات، وكم تتصورون عدد الهوائيات أو الصحون أو ما يسمى بالدشوش الموجودة الآن لاستقبال البث العالمي؟ نشرت جريدة الحياة أنه يوجد في الخليج (97000) هوائي، منها في السعودية (60000)، و (20000) في الإمارات و (10000) في الكويت و (3000) في البحرين و (2000) في عمان و (2000) في قطر، حتى إنك تجد أحياناً بيوتاً من الطين توجد عليها هذه الدشوش، وبعض الناس من محدودي الدخل وأصحاب الموارد المحدودة يقتنون هذه الدشوش، حتى إنها أصبحت توجد في كثير من المناطق والقرى النائية وللأسف.(37/3)
حجم وجود أجهزة الفيديو في الخليج
حجم وجود أجهزة الفيديو في الخليج ونسبة وجودها أيضاً في بلادنا: كان يوجد في الخليج عام (1403هـ) خمسة ملايين جهاز فيديو، وهذا العدد يفوق الأجهزة الموجودة في أمريكا، وأيضاً يفوق الأجهزة الموجودة في فرنسا وبريطانيا وبلجيكا مجتمعة.
أما في بلادنا فتؤكد الأرقام أن أجهزة الفيديو نسبة إلى عدد السكان تعتبر من أعلى النسب في العالم، إن لم تكن أعلاها على الإطلاق، ففي أمريكا يوجد ثلاثة ملايين جهاز، أي: بواقع جهاز واحد لكل مائة شخص، أما هنا فإن عدد الأجهزة مقارناً بعدد السكان يصل إلى نسبة واحد إلى عشرين، أي أن النسبة تزيد خمسة أضعاف عن مثيلاتها في أمريكا، وتزيد ثلاثين ضعفاً عن بلد متقدم مثل إنجلترا.
وهذا منقول عن تصريح رسمي لأحد المسئولين في وزارة الإعلام نشر في عام (1403هـ).
هذه الأرقام أرقام مزعجة جداً، وهي تصور لنا انتشار هذه الحمى الوافدة في مجتمعاتنا، والمشكلة في التعامل مع هذه الظاهرة وغيرها حين نكون أسرى لبيئتنا المحدودة ومجتمعنا المحدود، فقد يكون الإنسان ينتمي إلى أسرة محافظة ونزيهة وعلاقته عادة في محيط العائلة وأقربائه والناس القريبين منه، ولا يحتك بالآخرين، فهو يتعامل مع عينة متحيزة بالمصطلح الإحصائي في المجتمع، أي: يتعامل مع عينة تمثل توجهاً معيناً، ويحكم على المجتمع من خلال هذه العينة ومن خلال هذا النموذج الذي يتعامل معه، وينسى أن هناك طبقات أخرى وفئات كثيرة تعيش واقعاً آخر وعالماً آخر، بل إن هناك العديد من الأسر التي تملك في البيت أكثر من جهاز.
وفي دراسة أجراها المجلس الأعلى للإعلام في عام (1403هـ) يصرح الدكتور عبد الرحمن الشبيلي فيقول: وجدت الدراسة أن حمى الفيديو تنتشر وتتفاعل وتتصاعد بازدياد بنسبة لا تقل عن (30%) كل عام، كما بينت الدراسة أنه يصل إلى المملكة كل شهر ما يزيد على (10000) شريط، وعلى كل حال فإن فكرة الدراسة لم تقم أصلاً على أساس الحد من هذه الظاهرة أو إيقافها أو منعها، ولكن للعمل على تنظيمها وتوجيهها الوجهة الصالحة المفيدة للمجتمع.
انتهى هذا التصريح.
وأيضاً حتى تعرف صورة عن انتشار الأفلام الممنوعة والتي لا تجيزها الرقابة، مع العلم أن كثيراً من المراقبين يجيزون -مثلاً- بعض صور النساء التي تكشف فيها العورة إلى نصف الفخذ أحياناً، وأحياناً تجاز بعض الأفلام إلى حد ما يسمى بالمايوه إذا لم يتكرر هذا المشهد في الصورة أكثر من مرة أو مرتين، وتستغرب فعلاً عندما تجد مثل هذه الأفلام المفسوحة، مع العلم بأن لائحة متابعة أو تنظيم أجهزة الفيديو تنص على أنه لا يجوز أن يعرض أي فيلم يتعارض مع أحكام وآداب الشريعة الإسلامية، ولو طبقت هذه اللائحة لأغلقت جميع المحلات.
أقول: حتى تأخذ صورة واضحة عن حجم انتشار الأفلام الممنوعة -مع أن الأفلام المسموحة أيضاً هي الأخرى لها آثار سيئة جداً- فإنه قد نشرت فيريدز جزيرة في تاريخ (3/ 6/1413هـ) في صفحة الرسالة -وهي صفحة تصدرها الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- قصة في كيفية قبض رجال الهيئة بمدينة الرياض على محل يوجد به (2000) شريط ممنوع، وأحد الزبائن يحمل في يده الأولى شريطاً والثانية عقاراً للتنشيط الجنسي، إلى هذا الحد هذه الأفلام تساهم في زيادة الرغبة والشهوة الجنسية، فلا يستطيع مثل هذا الشخص الذي يتابع ويشاهد هذه الأفلام أن يقضي شهوته فيحتاج إلى عقار آخر يزيد من تنشيط أدائه الجنسي، ويساهم أيضاً مثل هذا المحل في ترويج مثل هذا العقار.
لا أريد أن أتحدث عن بعض الأرقام والإحصائيات المذهلة عن كمية الأفلام الممنوعة التي يقبض عليها، فهي أرقام مزعجة، ولك أن تتصور أنه يمكن لأي شاب مراهق أن يحصل على هذه الأفلام بصورة أو بأخرى، وهذه الأفلام الممنوعة تتمثل بصورة أكثر في الأفلام الجنسية المكشوفة كما يقال، والتي تعرض فيها الفاحشة بصورها وألوانها ويرى الناس فيها كما ولدتهم أمهاتهم، فضلاً عن الأفلام التي تدعو إلى الشرك والإلحاد والوثنية كما سيأتي عرض نماذج من ذلك.
إذاً: هذه المقدمة تعطينا صورة عن هذا الخطر الداهم وانتشاره، فإذا كان انتشار الأفلام وانتشار الفيديو بمثل هذه الصورة فكيف يكون الأمر بعد وفود البث المباشر واستطاعة الناس استقبال محطات فضائية لدول غربية، بل هناك محطات خاصة لبث أفلام جنسية ومحطات خاصة لبث التنصير والطعن في العقائد.
أقول: كيف تكون الصورة حينما لا يكون هناك مجال للرقابة، وذكرت لكم رقم وعدد هذه الصحون، ولا يزال العدد يتضاعف باستمرار، والقضية أخطر من ذلك، فبعد فترة سيكون بإمكان المشاهد من خلال جهازه العادي أن يستقبل أي محطة بدون أي جهاز استقبال.(37/4)
الآثار الخبيثة للأفلام
بعد ذلك ننتقل إلى النقطة الأساسية والمهمة في هذا الموضوع ألا وهي: حصاد الأفلام، أو ثمارها الخبيثة وآثارها، وهي آثار كثيرة ومتنوعة، آثرت الاقتصار على بعضها؛ لأن الوقت لا يتسع لعرض مثل هذه الآثار ولا حتى عرض النماذج والصور أيضاً من مدى انتشار هذه الآثار وخطورتها:(37/5)
الدعوة إلى الشرك والكفر
من أخطر -بل أخطر- هذه الآثار: الدعوة للشرك والكفر، ويتمثل ذلك في عدة جوانب منها: الدعوة لعبادة الأوثان والأصنام.
وجانب ثان: تعليم العبادات الوثنية.
جانب ثالث: الدعوة لعبادة القبور وشد الرحال إليها.
جانب رابع: تشويه سير الأنبياء، وتنتشر أفلام تعرض سيرة موسى وعيسى بصورة وقحة.
وأيضاً: نشر عقيدة تناسخ الأرواح.
وحتى لا أتهم بالمبالغة؛ فأمامي الآن قائمة فيها (49 فيلماً) من الأفلام المقبوضة والتي فيها مخالفات تتعلق بالعقيدة وأكثرها أشياء شركية، منها مثلاً: فلم هندي بعنوان: (كرشم كالي كا) وكالي: اسم لصنم معبود عند الهندوس، وقصة الفيلم مبنية على ألوهية: كالي.
كذلك فلم هندي أيضاً بعنوان: (منتالي) وهي قصة عن العشق وتحث على شد الرحال إلى مقبرة شاه الحميس.
كذلك فلم هندي أيضاً بعنوان: (رات سوريا ويشي) ويدور حول قصة مبنية على أن الأرواح تنتقل من شخص إلى شخص بواسطة الكهنة والسحرة عندما يفعل بعض العبادات.
كذلك فلم: (من مول فيستيل) وهذا فلم تنصيري من إنتاج نصارى الكاثوليك، وهو يزود المشاهد بمعلومات كاملة عن كنيستهم المقدسة في الفاتيكان وما يقام فيها.
فلم بعنوان: (ماديوتا) وهي قصة مبنية على حب ومذهب تناسخ الأرواح.
أشرطة وخطب نصرانية وهي تشتمل على إثبات التثليث والدعاء والاستغاثة بالمسيح عيسى بن مريم عليه السلام.
على كل حال لا أريد أن أطيل في عرض هذه النماذج.
منها أيضاً: أشرطة تقوم حول عبادة الصليب وعيسى أشرطة حول عبادة الأفاعي كذلك من الوقاحة أيضاً: فلم يعرض قصة موسى عليه السلام، وعلى غلاف الفيلم صورة يدعون أنها صورة موسى وبيده التوراة -وهذه هي الصورة- ويعرض في هذا الفيلم باستخدام الأشعة كيف أن الوحي جاء من الله عز وجل إلى موسى.
صورة أخرى أيضاً وقحة وهو فلم يقبض عليه كثيراً يحكي قصة عيسى عليه السلام، وهو فلم جنسي ساقط داعر يمارس فيه الجنس بصورة مكشوفة، وتعرض فيه صورة عيسى عليه السلام، وناهيك عن الأفلام التي فيها صلب المسيح عليه السلام.
كل هذا الحديث عن أفلام موجودة ومقبوضة هنا وليس حديثاً عن أفلام في الخارج، فكيف إذا كنا بعد ذلك نستقبل بدون أي رقابة وبدون أي متابعة كل ما يعرض في محطات العالم، فلك أن تتصور بعد ذلك خلفية هذا الشخص الذي يعتمد على التلقي من هذا الجهاز وحده، ولا يكاد يتلقى تربوياً من غير هذا الجهاز وثقافته وقدراته مرتبطة بهذا الجهاز وحده، وسنشير إلى نماذج من آثار متابعة هذه الأفلام على الثقافة والتفكير وآثارها التربوية.(37/6)
إضعاف عقيدة الولاء والبراء
الأثر الثاني، وهو أيضاً أثر عقدي: إضعاف عقيدة الولاء والبراء، إن الكثير من هذه الأفلام يمثلها أبطال كفار، ويعرض هذا الرجل بصورة البطل الذي حقق البطولة، وقد تكون هذه البطولة: تحقيق شهوة جنسية وقد تكون القدرة على التغرير بفتاة، أو القدرة على القيام بعملية جنسية وقد تكون بطولة عسكرية، وأياً كانت هذه البطولة، فالكثير من هؤلاء الأبطال هم من الكفار.
عندما يشاهد الطفل والمراهق، بل حتى الرجل الكبير والمرأة عندما تشاهد مثل هذه الأفلام والتي يعرض فيها صورة هذا الرجل على أنه بطل تخيل أثر هذا الفيلم وهذه المشاهدة على القضاء على عقيدة الولاء والبراء التي هي أوثق عرى الإيمان ومن أهم جوانب العقيدة، والتي انطمست عند الكثير من المسلمين نظراً لإهمالها وإهمال الحديث عنها والعناية بها.
أيضاً ما ينشأ من التقليد والمحاكاة والتي تورث المحبة للكفار وسنأتي إلى هذه النقطة بعد قليل إن شاء الله.
وسأستشهد كثيراً بكتابات بعض الغربيين أو كتابات بعض المسلمين الذين لا نوافقهم على منهجهم؛ لأن الجميع يجمعون على خطورة مثل هذه الأفلام، وقرأت كثيراً مما كتب في الدوريات والصحف والرسائل الجامعية والكتب تجد أن الجميع بدءاً بالغرب والكفار وحتى العلمانيين في المجتمعات الإسلامية يتحدث عن خطر الأفلام وخطر السينما والتلفاز، وعندما تبحث في أي مركز من مراكز المعلومات عن المقالات والدراسات التي أجريت حول هذه الظاهرة تخرج أمامك أرقام هائلة من البحوث والدراسات، حتى أنهم أعطوا الوقت الذي قضيته في الإعداد والقراءة فيما تيسر لم أستطع أن أقرأ كل ما حصلت عليه مما كتب حول الموضوع؛ ولهذا فليس بالضرورة أن يكون معنى استشهادي نستشهد بقوله أني أوافقه.
تقول الدكتورة كافية رمضان في مقال لها في مجلة البيان الكويتية: بل إن المساهمة في تزييف الوعي تتضح في أفلام السوبرمان على سبيل المثال، وعلى الرغم مما قد يكون فيها من فائدة -هذا بناءً على رأي الكاتبة- فالرجل الأمريكي -يعني: في هذا الفيلم- قادر على ما لا يقدر عليه غيره من البشر، وهو يعرف ما لا يعرفون، ولديه من القدرات ما لا يملكون، وهو عادل وكريم ومدافع عن الحقيقة -ممكن أن نضيف نحن: ومدافع عن حقوق الإنسان- ولا شك أن مثل هذه الصورة عندما تنطبع في ذهن الطفل يصعب عليه تغييرها أو التخلص من أسرها.(37/7)
تشويه المعاني الشرعية
الأثر الثالث لهذه الأفلام: تشويه المعاني الشرعية، من خلال جوانب كثيرة مما يعرض في هذه الأفلام، ولعل منها مثلاً: الطلاق، وتعدد الزوجات، وغيرها من القضايا الشرعية التي تدور كثيراً في الأفلام، لا نقول: الأفلام الغربية بل الأفلام العربية، بل كثير من الأفلام التي تعرض الآن والتمثيليات التي تعرض حتى في الإذاعة المسموعة تدور كلها حول مشكلة تعدد الزوجات والطلاق وغيرها مما يشوه مثل هذه المعاني الشرعية، فينطبع في ذهن المستمع والمشاهد أن الإسلام ظلم المرأة وأهانها، وأن الطلاق يعتبر ظلماً وإهانة للمرأة.
وهذا الأثر لا يقتصر على مجرد قضية الطلاق أو تعدد الزوجات وإن كانت قضية شرعية لها احترامها ولها قيمتها، بل يتجاوز ذلك إلى المناقشة أصلاً في الشرائع والمناقشة في هذا الدين.(37/8)
تشويه سير العلماء والصالحين
جانب رابع: تشويه سير الصالحين والعلماء، ولعل ما عرضناه قبل قليل من ما يعرض من مشاهد الأنبياء وتصوير الأنبياء في مثل هذه الأفلام يعتبر خير دليل على ذلك.
تقول الدكتورة كافية رمضان في المقال المشار إليه آنفاً: وأما الموقف من رجل الدين -طبعاً هذا المصطلح غير سليم- فيكفي أن نتابع كيف تظهر شخصية المأذون في معظم الأفلام العربية، فهو شخص غبي شره يسهل خداعه، وهو لا يهمه سوى البحث عن معدته أو جيوبه.
ويجد -مثلاً- من يتابع الأفلام الكرتونية أو غيرها، أنه كثيراً ما يصور ذلك الرجل الملتحي كرجل إرهابي يطلق النار ليقتل الناس أو رجل يسرق إلى غير ذلك من الصور التي يقصد من خلالها تشويه الملتزم بالإسلام وربط هذه الشعيرة بمثل هذا السلوك الذي يراه الطفل ويراه المشاهد.(37/9)
التأخر عن الصلاة وتركها
أثر خامس: التأخر عن الصلاة وتركها، من خلال انهماك المشاهد بمتابعة مثل هذا الفيلم، ويذكر لي أحد الطلبة الذي كان يشاهد هذه الأفلام، يقول: كثيراً ما أكون منهمكاً في مشاهدة الفيلم فلا أشعر أصلاً بوقت الصلاة وأتأخر حتى أصلي الصلاة بعد خروج وقتها، وأحياناً أترك الصلاة بالكلية.
والكثير ممن يشاهد هذه الأفلام لا يستطيع أن يترك مثل هذا الفيلم، إذا كان الناس في أي مجلس عادي تتبادل فيه الأحاديث يثقل على الجالسين أن ينصرفوا إلى الصلاة إلا مع وقت الإقامة تقريباً فكيف إذا كان مشدوداً بكل حواسه وجوارحه لمشاهدة مثل هذا الفيلم الذي تمارس كل أنواع ووسائل إثارة الغرائز وشد انتباه المشاهد، وكيف إذا كان مثل هذا الإنسان لا يقيم للصلاة وزناً ولا قيمة، وليس عنده أي شعور بأهمية الصلاة، لا شك أن مشاهدته لمثل هذه الأفلام ستشغله قطعاً عن الصلاة وستؤدي به إلى تأخير الصلاة عن وقتها فضلاً عن صلاة الجماعة.
وأيضاً يتمثل ذلك في السهر، فعندما يجلس أمام الفيلم أو أمام مسلسل يعرض في التلفاز سيتأخر عن النوم ولن يستطيع الاستيقاظ لصلاة الفجر.(37/10)
انحراف الشباب
أثر سادس: أن هذه الأفلام مسئولة مسئولية كبيرة عن كثير من حالات انحراف وفساد الشباب، وأظن أن هذه صورة معروفة ومشاهدة لدى الجميع، لكن يمكن أن أذكر بعض الأمثلة: في أحد أعداد مجلة دار الملاحظة، يذكر أحد الموقوفين في الدار: أن سبب مشكلته أصلاً تبدأ من خلال فيلم شاهده، وبعد ذلك قاده إلى أن يقع في الجريمة ويكون أحد نزلاء الدار.
وفي تحقيق أجرته جريدة الأنباء الكويتية أيضاً حول بعض هذه المظاهر: يذكر أحد هؤلاء الشباب أنه كان مع مجموعة من رفاقه فقام أحدهم بتشغيل الفيلم وبدأ بعد ذلك مسلسل الانحراف والفساد.
أحد الشباب كان طالباً يدرس عندي وهداه الله سبحانه وتعالى واستقام، وبعد فترة لاحظت عليه أثر التغير وانحرف عافانا الله وإياكم، فوجهت له هذا السؤال، قلت له: أريد أن أعرف السبب المباشر لتغيرك وانحرافك، فذكر لي أنه كان يجلس مع بعض الشباب الصالحين الأخيار وانشغل عنهم أو انقطع عنهم فترة معينة ويقول: كنت أجلس عند الباب فدعاني أحد الشباب في الحي -من أصدقائه القدامى- فدخلت عنده فشاهدت أحد الأفلام وبعد ذلك بدأ مسلسل الفساد والانحراف.
طبيعي جداً أن يكون فيلم واحد مسئولاً عن تدمير هذا الشاب، بل مسئول عن تدمير أسرة بكاملها، وسيأتي عرض نماذج من ذلك.
أقول: طبيعي جداً أن يكون ذلك؛ نظراً لأن هذا الشاب يعيش شهوة متوقدة وعارمة ويعاني من وسائل الإثارة والإغراء، وتفتح أمامه أبواب قضاء الشهوة، وإضافة إلى افتقاد التوجيه، وافتقاد النصح، ويفتقد هذا الشاب إلى من يعرف دوافعه ومن يعرف حقيقته، وأستطيع أن أقول: إن الرجل الذي يعرف حقيقة هذا الشاب وواقعه ودوافعه هو ذاك الذي قام بتسجيل هذا الفيلم له، أما الكثير من الناصحين، فتجد أن كثيراً من الأساتذة والآباء والكثير من أصحاب التوجيه يعيشون في بعد وغيبوبة عن مثل هذا الواقع، فهو يسمع عن شيء اسمه الأفلام يسمع عن شيء اسمه البث المباشر؛ لكنه لا يدري ماذا يدور وراء هذه الكواليس ولا يدري ماذا يشاهد أمثال هؤلاء الشباب، وعندما تحكي له قصة أو صورة من ذلك يضع يده على رأسه ويستغرب كيف يحصل مثل هذا، فكيف إذا شاهد مثل هذا الواقع بنفسه؟ ولا يعرف الإسلام من لا يعرف الجاهلية.
وأقول أيها الإخوة، وأكرر ما قلته قبل قليل: لا يسوغ أبداً أن نحكم على ظواهر المجتمع، ونحكم على المجتمع من خلال زوايا محددة نتعامل معها فقط، أو من خلال الواقع الذي يتعامل معه الإنسان أو الجو الذي يعيشه، فالواقع والمجتمع جو وفيه متغيرات أكبر بكثير من تلك التي تراها وتدركها.(37/11)
الفساد الأخلاقي
الأثر السابع: الفساد الأخلاقي، يقول الأستاذ عبد الله الجعيثن في مقال في المجلة العربية: إن السينما التي حشرت في علب الفيديو لا تكرر الحب الجسدي في كل فيلم فقط، بل ترسم الطريق الملتوية لتحقيق الرغبات.
إن قضية مساهمة هذه الأفلام في إشاعة الفساد الأخلاقي تتصور أنها من البدهيات ولا تحتاج إلى إثبات، فأنت ترى مثلاً على رأس القائمة الأفلام الجنسية الساقطة المكشوفة، أو ما يسمى بالمصطلح المعاصر: أفلام السكس، هذه الأفلام التي تعرض الجنس بكل وقاحة أمام هذا الشاب المراهق، والذي قد لا يكون بلغ سن التكليف، وترى الكثير من هؤلاء الشباب قد اعتاد مشاهدة ألوان وأصناف كثيرة منها من خلال أفلام الفيديو أو من خلال ما يعرض من البث المباشر، حتى يصل الأمر إلى أنه إحدى قنوات إفريقيا تلك القارة السوداء تعرض بعض الأفلام الجنسية الهابطة من هذا النوع.
كذلك أيضاً: الأفلام العاطفية وهي تؤدي إلى نتيجة أخطر من الأفلام الجنسية من وجهة نظر الكثير ممن يتحدث عن هذه الأفلام.
والأفلام العاطفية هي تلك التي تتحدث عن الحب والغرام واللقاء وتعرض للمشاهد صورة العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة، ويعيش الشاب خلال ساعة ونصف خلال أربع ساعات أو أقل أو أكثر مشدوداً مع مثل هذه المشاهد التي تتحكم بغريزته وعاطفته.
كذلك أيضاً: الأفلام الفكاهية والبوليسية لا تخلو من بعض المشاهد والإيحاءات الجنسية.
تقول الدكتورة كافية رمضان عن المشاهد الفكاهية: هذه لا تخلو من مشاهد الجنس أو الإيحاءات الجنسية، بل قد تدور أحداث الفيلم كلها حول محاولة الرجل دفع المرأة إلى الموافقة على ممارسة الجنس معها، هذه الأفلام الفكاهية، أما الأفلام الجنسية والأفلام العاطفية فهي أصلاً تدور حول هذه القضية.
ويكفي في استثارة الشاب فقط أن يرى صورة تلك الفتاة أو يسمع ذاك الصوت المتغنج المتكسر الذي تتحدث به الفتاة أو يتحدث به الرجل، ناهيك أيضاً عما يمارس من استخدام بعض وسائل الإغراء: استخدام المكاييج والعرض أحياناً من خلال غرف النوم، أو من خلال مشاهد مؤثرة تنقل ذاك الطفل البريء أو ذاك المراهق إلى واقع وعالم آخر قد لا يكون والده يعلم عنه أو يراه.(37/12)
تعليم العلاقات المحرمة
من النتائج والآثار وهي نتيجة أيضاً خطيرة: تعليم العلاقات المحرمة.
إن الكثير من قصص هذه الأفلام تدور حول الحب بين شاب وفتاة، وكيف بدأت قصة هذا الحب وتطورت؛ ولهذا لا تستغرب إذا كنت تجد الكثير من الشباب يكتب على كتبه، أو على دفتر الكشكول تعذيبه وغرامه من حب فلان أو فلانة، ويتمثل بأبيات من الشعر -إذا لم يكن شاعراً- والتي تحكي معاناته من هذا الحب، هذه هي من إفراز في الواقع لأثر مثل هذه الأفلام.
هذه العلاقات التي لم يكن يعرفها مجتمعه كيف وفدت؟ أعرض عليكم نماذج من هذه الصور التي قد تكون مؤلمة ومزرية، ولكنه واقع لا يسوغ أن نتهرب عنه، ولا يجوز أن ندس رءوسنا في الرمال ونبدأ نتحدث عن جوانب إيجابية ومنجزات ونترك تلك الصور الموجودة في مجتمعاتنا بكثرة بحجة عدم الإثارة وعدم الحديث عن هذه المظاهر، وقد آثرت أن أختصر جداً، وأن أقتضب بالذات في المشاهد التي أعرضها من واقع هذا المجتمع بأنها مشاهد مزعجة لكنها لا بد من عرضها: في رمضان هذا الشهر: فتاة يقبض عليها مع أحد الشباب في خلوة محرمة وتكون النتيجة كالآتي: هذه الفتاة شاهدت أحد الأفلام فأخذت جهاز الهاتف واتصلت على أحد الشباب وواعدته، وكيف كان الموعد؟ ستخرج مع والدتها في صلاة التراويح في أحد المساجد المزدحمة، ثم تخرج أثناء صلاة التراويح وتلتقي مع الشاب، وتكون المصيبة أكثر عندما يأتي الأب لمركز الهيئة فيكتشف أن الأب لم يكن يعلم أن في البيت جهاز فيديو، هذه صورة! وهي صور ومآس تتكرر كثيراً، أكتفي بعرض هذا النموذج وحده لتعرف كيف أن هذه الأفلام تساهم في تربية وتركيز العلاقات المحرمة بين الفتاة والشاب، وتصور للفتاة أو للشاب أن تلك العلاقة المحرمة أمر يجب أن يكون بين الشاب والفتاة، وخرج ما يسمى بالحب النظيف والعلاقة النزيهة إلى غير ذلك من المصطلحات.
ويصور أن ذاك الشاب الذي لا يملك علاقة محرمة إنما هو يعاني من عقدة نفسية معينة أو يعاني من حالة شاذة، وكذلك تلك الفتاة.(37/13)
وأد العفاف وتدنيس الأعراض
الأثر التاسع: هذه الأفلام لوئد العفاف وتدنيس الأعراض.
مرة أخرى قد أعرض لكم صوراً مزعجة، ولكن لا بد من عرضها: أب يشاهد أحد الأفلام الجنسية وليس بجواره إلا ابنته فيمارس مع ابنته بعض الصور التي يراها في ذاك الفيلم، حتى تتقدم تلك البنت بشكوى وتصل القضية إلى المحكمة الشرعية.
هذه قضايا تظهر أما ما لا يظهر فهي قضية أخرى.
صورة أخرى من أب أيضاً يقوم بانتهاك عرض أم زوجته بسبب مشاهدته لمثل هذه الأفلام.
نموذج آخر من تأثير الأفلام أيضاً وقيادتها إلى مثل هذه النتيجة المؤلمة وتدنيس الأعراض: فتاة بعد أن قبض عليها واعترفت بأن هذا الشاب الذي معها قام بتدنيس عرضها، تقول وهي تبكي: اذهبوا وانظروا إلى الأفلام التي عند أخي، بعد ذلك تعذروني.
فتاة بريئة عفيفة ومغفلة تلتقي مع أحد الشباب ثم يقوم بتشغيل أحد الأفلام الجنسية، فتنهار تلك الفتاة وتكون النتيجة أن يتناوب مجموعة من الشباب على تدنيس عرض هذه الفتاة.
نماذج أيها الإخوة مؤلمة ومفزعة، وهي عرضة لأن تصيب كل منزل يتهاون في مثل هذه الأمور، سواء هذا الجهاز الخبيث أو جهاز استقبال القنوات العالمية.
ويحدثني أحد الإخوة أن أحد السائقين سائق لرجل لا تفوته صلاة الفجر مع الجماعة ويوجد في بيته دش، يقول: إنه في ساعة معينة من الليل في يوم معين من أيام الأسبوع يعرض أفلام جنسية ساقطة، وأيضاً موجود أفلام جنسية أو أفلام عارية مسجلة من هذه القنوات يقوم بعض ضعاف النفوس بترويجها، وهناك عينات موجودة منها لمن أراد إثبات ذلك من أهل الاختصاص وممن يعنيه الأمر.
ولهذا يأتي هذا الأب المسكين المغفل ويضع مثل هذا الهوائي ليستقبل الأخبار ويتلقى الأخبار، أو ليتباهى بين زملائه والناس حوله، وينام مثل هذا الرجل الساعة العاشرة أو الحادية عشرة ليستيقظ إلى الصلاة أو ليذهب إلى عمله، وقد يجهل أن ابنته تسهر أمام هذا الجهاز الذي يعرض لها صوراً ساقطة قد لا يكون هذا الأب رآها، وماذا تتصور من أثر ونتيجة هذه الأفلام على هذه الفتاة أو على ذاك الشاب الذي يعيش في جو مشحون بوسائل الإثارة والإغراء، ويعيش في فترة تتوقد فيها الشهوة، إضافة إلى افتقاد التوجيه.
ولهذا لا نلوم من يتحدث عن مثل هذه الأجهزة ويطالب بحل حاسم للقضاء عليها وعلى خطورتها.(37/14)
القضاء على مفهوم المنكر
أثر عاشر من آثار هذه الأفلام: القضاء على مفهوم المنكر.
يعتاد المشاهد في هذه الأفلام مشاهدة المنكر فتتكرر مشاهدته لمشاهد التبرج، حتى يصير أمراً عادياً جداً أن يرى امرأة متبرجة الاختلاط الموسيقى الغناء التدخين الخمور فاعتياد المشاهد لمثل هذه المشاهد يزيل من قلبه استقباح المنكر ومن ثم لا يستنكر هذا المنكر، بل قد يوجد عنده نفسية تطالب بتطبيق هذه الأمور في مجتمعه، فيقول في نفسه: لماذا تحصل هذه الأمور في المجتمعات الأخرى ونحن محرومون ونعاني من الكبت وتقييد الحريات؟ لماذا لا يتاح لنا فرصة التعرف واللقاء بالفتيات لماذا لا يكون هناك فرص الاختلاط لماذا لماذا هذه القيود كلها؟ هذه نتيجة وإفراز لمشاهدة ومتابعة هذه الأفلام.
وأياً كان هذا الإنسان الذي يتجرأ ويشاهد أفلام الفيديو أو التلفاز فيسمع فيها الموسيقى أو يشاهد فيها الصور المحرمة، أو الاختلاط، أو التبرج، أو أياً كانت تلك المنكرات؛ فلا بد أن يزول استقباح المنكر من قلبه، ولولا زوال استقباح المنكر من قلبه أصلاً لما تجرأ على مشاهدة مثل هذه الأفلام، وتخيل عندما يتربى المجتمع على فقد الغيرة وفقد الغضب للمنكر ولانتهاك حرمات الله عز وجل؛ حينئذ يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً كما قال صلى الله عليه وسلم.(37/15)
القضاء على الآداب الشرعية
الأثر الحادي عشر: القضاء على الآداب الشرعية.
سأشير إلى نموذج واحد: من الآداب الشرعية أن يستأذن الطفل عندما يدخل على والديه: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور:59] فهناك أحكام خاصة بالاستئذان للطفل الذي لم يبلغ الحلم وأحكام خاصة بالاستئذان للطفل الذي بلغ الحلم.
أما من خلال أفلام الفيديو أو التلفاز فلا مجال لهذا الاستئذان؛ لأنه سيرى في هذا الفيلم غرفة النوم، ويرى كل ما يدور فيها، ويرى كل ما يحصل، فحينئذ يقضى على هذا الأدب الشرعي، ناهيك عن كثير من الآداب والأخلاق الشرعية التي تقضي عليها مثل هذه الأفلام وهذه البرامج.(37/16)
المعاصي المتراكبة
الأثر الثاني عشر: المعاصي المتراكبة.
المشاهد لهذا الفيلم لا يخلو من النظر المحرم، وتخيل معي كم نظرة حرام سينظر إليها عندما يشاهد فيلماً واحداً، فكيف عندما يشاهد أكثر من فيلم، تخيل أثر هذه المعاصي على قلبه والطبع على قلبه، وتخيل عقوبة هذه المعاصي التي تعم المجتمع كله: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [الأعراف:100].
ومن هنا فإنك لا تستغرب أن تجد القسوة التي رانت على قلوبهم؛ لأننا بين رجل يتجرأ على المنكر، ورجل يشاهد ويعمل المنكر فتخيل معي كم نظرة حرام سينظر إليها هذا الشخص، وكم سيئة ستصيبه نتيجة هذه النظرة، ناهيك عن الأثر الذي ستبقيه في قلبه!(37/17)
هدم الصلة الزوجية
الأثر الثالث عشر لمشاهدة هذه الأفلام: هدم الصلة الزوجية، من عدة جوانب، فالزوج سينظر إلى امرأة أجمل من زوجته، وحينئذ سيذهب لزوجته، والزوجة هي الأخرى ستنظر إلى شاب أجمل من زوجها؛ خاصة أن من يظهر على هذه الشاشات يحرض على إبراز نفسه باستخدام المكاييج ووسائل التجميل بصورة تثير المشاهد، وهذا لا شك أن له أثراً كبيراً على هدم الصلة والعلاقة بين الزوجين.
كذلك أيضاً: الوقت، فحينما يسمر الزوجان أو أحدهما عينيه أمام التلفاز فإنه لا يبقى وقت لتبادل الحديث بينهما، مما يزيد من الجفوة والفجوة بين هذين الزوجين فيصبحان يقضيان الوقت في صمت مطبق يشاهدان بعض هذه الأفلام أو هذه المشاهد، ولك أن تتصور غاية الوقاحة عندما يقوم الكثير من الأزواج بمشاهدة الأفلام الجنسية مشتركين.
كذلك أيضاً: قتل الغيرة، فهذا الزوج الذي يشاهد هذه المشاهد ستموت الغيرة في قلبه مما يساهم في ضعف وتوتر هذه العلاقة بين الزوجين، مما يؤدي إلى مشاكل اجتماعية كثيرة قد تصل أحياناً إلى الطلاق وتفكك الأسرة.(37/18)
غرس القيم الوافدة
الأثر الرابع عشر: القيم الوافدة.
إن الكثير من هذه الأفلام التي تعرض هي مستوردة من بلاد ومناطق سواء كانت كافرة أو كانت مسلمة لكنها تحمل قيماً غريبة عن مجتمعاتنا، وتعرض أمام المشاهد وتتكرر، بل قد يشاهد مثل هذه الصور نتيجةً لطول مشاهدته لهذه الأفلام أكثر مما يشاهدها في المجتمع، فتؤدي إلى وجود أنماط من السلوك والقيم لم تكن موجودة في المجتمع، ولعل المتجول والناظر المتأمل في واقع الكثير من الشباب والفتيات يجد هذه الصورة واضحة.
وفي الرسالة التي أشرنا إليها سابقاً (أثر أفلام الفيديو على متابعة برامج التلفاز بين طلاب المرحلة الثانوية في مدينة الرياض)، أفاد (81%) من أفراد العينة أنهم يشاهدون أفلاماً أجنبية، ولك أن تتصور كيف ستساهم هذه الأفلام في غرس القيم وأنماط السلوك الشاذة عند هؤلاء المشاهدين لهذه الأفلام.(37/19)
التقليد والمحاكاة
الأثر الخامس عشر: التقليد والمحاكاة، ولعل الصورة الظاهرة لذلك قصات الشعر التي تتنوع على حسب القصة التي يقوم بها البطل الفلاني أو البطلة الفلانية أو غيرها، وأحياناً تجد أنها تنتشر هنا أكثر مما تنتشر هناك، فعندما يخرج نوع من أنواع قصات الشعر أو موديلات الملابس، تجد مباشرة أن كثيراً من الفتيات أو الشباب يساهم في تطبيق ما رآه مباشرة، وقد يكون انتشارها هنا في مجتمعاتنا أسرع من انتشارها في تلك المجتمعات التي ولدت ووجدت فيها.
في دراسة أجريت في الكويت بعنوان: (الآثار النفسية والتربوية للتلفاز والفيديو على الأطفال)، اتضح أن (84%) من الأبناء في مرحلة الطفولة يحبون تقليد الأبطال، وكانت هذه النسبة (75%) لدى الأبناء في مرحلة المراهقة، ويرى معظم الآباء والأمهات بنسبة (95%) أن الطفل يحاول تقليد الأبطال الذين يعجب بهم في مسلسلات التلفاز.
وعلى كل حال فكل نتائج الدراسات التي تجرى في الخارج لا بد أن يكون لها أثر في مجتمعاتنا؛ نظراً لأننا سنصبح نستقبل كل المحطات التي يرسلها العالم القريب والبعيد.
وجه سؤال لبعض الأطفال: من يعرف شخصية تاريخية كانت مثالاً للبطولة والشجاعة؟ فأجاب أحدهم: إنه جرانديزر، وهو أحد هؤلاء الأبطال.
هل هذه الأفلام تركز عند الشاب أن البطل هو خالد بن الوليد أو صلاح الدين الأيوبي أو ابن تيمية أو محمد بن عبد الوهاب أو غيره من المصلحين والمجددين، أم تغرس عندهم أن البطل هو ذاك الرياضي، أو الممثل، أو الداعر، أو الساقط، أو فلان وفلان، وكثيراً ما يكون هؤلاء الأبطال من الكفار، ولعل الكثير منكم يتذكر تلك النتائج التي جنيت من عرض الفيلم الذي كان يدور حول بطولة رجل يسمى: ستيف، وكان كثير من الأطفال يقلد مثل هذا البطل الأسطورة الذي يقفز من السقف ولا يتأثر، وحصلت حالات وفيات وحالات كسور؛ بسبب ما قام به بعض الأطفال من تقليد مثل هذا البطل.
وتبرز هذه الصورة في الأفلام الكرتونية، وفي الواقع كنت أريد أن أتحدث عن الأفلام الكرتونية كعنصر من عناصر هذا الموضوع ولكن الوقت لا يتسع، ولذلك آثرت تركها وعدم الحديث عنها، فالصورة التي تعرض فيها قد تكون أشد من مثل هذه الصور.(37/20)
الاهتمامات الدائرة حول الحب والغرام
الأثر السادس عشر: الاهتمامات، فإن هذا الشاب الذي يعيش طول وقته أمام هذه الشاشة، لا شك أنها ستشكل اهتمامات هذا الشاب أو اهتمامات تلك الفتاة والتي ستدور حول الحب والغرام والعشق والعلاقات المحرمة، أو حول الرياضة والفن، أو أفلام المطاردات والأفلام البوليسية الكوبي وغيرها من الأفلام، المهم أنها ستشكل لنا جيلاً من الشباب والفتيات لا يمكن أبداً أن يكون عنده اهتمام بالعلم الشرعي، أو حفظ القرآن الكريم، أو الدعوة إلى الله عز وجل، أو الاهتمام بقضايا أمته.
يقول الأستاذ عبد الله الجعيثن في مقال في المجلة العربية: وإن المسألة هنا تتعدى في خطورتها معرفة أسماء الممثلين أكثر من معرفة أسماء الصحابة إلى التفريغ الداخلي الذي يسقط في الحماسة المتوجهة نحو الجهاد والمجد الإسلامي، ليحل محلها الهوى الساذج وأحلام اليقظة في الأموال والترف والسفر وربما العبث وكأن الحياة لعب في لعب، ومعروف أن الحياة أبعد ما تكون عن ذلك، وأن البقاء نفسه يقتضي قوة في العقل والثقافة والتزاماً بالدين وتوهجاً واستعداداً للجهاد والجلاد، فالأعداء يتربصون بنا من كل صوب، وهذه الأفلام أبعد ما تكون عن هذه التأثيرات.(37/21)
التعثر الدراسي
الأثر السابع عشر: التعثر الدراسي، ويتمثل ذلك من خلال وقت المشاهدة الذي يقضيه بعض الشباب في مشاهدة هذه الشاشة، أو الهم والتفكير الذي يستولي عليه، فهو يدخل الفصل وذهنه هناك يفكر في تلك الصورة التي رآها ويفكر في ذاك الفيلم أو البطولة التي شاهدها، فيعيش في عالم آخر غير عالم الدراسة.
في دراسة قام بها بعض طلبة جامعة الملك سعود حول بعض الطلبة في المرحلة الثانوية في مدينة الرياض: يرى (58%) من أفراد العينة أن مشاهدة الفيديو تؤدي إلى ضعف التحصيل الدراسي، ويرى (58%) أيضاً أن مشاهدة الفيديو تؤدي إلى عدم وجود وقت كاف للمذاكرة.
وفي دراسة أجراها الدكتور عبد الرحمن الشاعر على بعض الطلبة أيضاً في مدينة الرياض: يرى (42%) من أفراد العينة أنها تعوق عن التقدم الدراسي، ويرى (42%) أنها تؤدي إلى إهمال الدراسة.
أيضاً: يجب أن تعلم أن هذه الآراء من خلال هؤلاء أنفسهم، فقد يكون البعض تعوقه عن الدراسة لكنه لا يرى أنها تعوقه أو تؤثر عليه، فهذه اعترافات من شاهدوا هذه الأفلام.
وفي دراسة أجريت في الكويت: اتفق معظم الآباء والأمهات بنسبة (74%) على أن التلفاز يشغل الطفل عن أداء واجباته المدرسية.(37/22)
الدعوة للسفر إلى الخارج
الأثر الثامن عشر: الدعوة للسفر للخارج من خلال عرض المناظر في هذه الأفلام، سواء المناظر الطبيعية أو مشاهد الإثارة والإغراء والتي تدعو الطالب أو الشاب بل الفتاة إلى أن يفكر في السفر للخارج.
في الدراسة التي أجراها الدكتور عبد الرحمن الشاعر أفاد (53.
08%) من هؤلاء الشباب أن مشاهدة الأفلام تؤدي إلى زيادة الشوق للسفر للخارج.(37/23)
الهم والتفكير
الأثر التاسع عشر: الهم والتفكير.
يحدثني أحد الشباب الذين كانوا يشاهدون هذه الأفلام، يقول: إنك تبدأ التفكير بهذا الفيلم منذ أن تبدأ في مشاهدته وحتى تنتهي ويستمر معك هذا التفكير ولا ينتهي هذا التفكير إلا من الغد عندما تبدأ في مشاهدة الفيلم الآخر، فيعيش مشاهد هذا الفيلم وهذه الشاشة طول وقته في هم وتفكير مع ما شاهده في هذا الفيلم.(37/24)
إضاعة الوقت
الأثر العشرون: إضاعة الوقت، وكثير من الشباب يقضي ساعات طويلة، منهم من يقضي أربع ساعات إلى خمس ساعات يومياً في مشاهدة الأفلام بل ذكر لي بعض الشباب أن أحد الشباب يجلس من صلاة الظهر إلى قريب من آخر الليل وهو يشاهد هذه الأفلام، وتخيل هذا الوقت الذي سيضيع على هذا الشاب أو تلك الفتاة من خلال مشاهدة هذه الأفلام.(37/25)
الانصراف عن القراءة والمطالعة
الأثر الحادي والعشرون: أن هذه الأفلام تصرف عن القراءة والمطالعة التي يحتاج إليها الشاب وتحتاج إليها الفتاة لتنمية شخصيتها.
في دراسة للدكتور عبد الرحمن العيسوي على عينة من مشاهدي هذه الأفلام، أفاد (64%) من أفراد العينة أن التلفاز يشغل المشاهد عن القراءة.(37/26)
اعتياد السهر
الأثر الثاني والعشرون: اعتياد السهر، حتى أصبح الإنسان الذي ينام مبكراً ويوافق هدي النبي صلى الله عليه وسلم يذم على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يكره النوم قبل صلاة العشاء والحديث بعدها، والناس يقولون في المثل العامي: إنه لا ينام بعد العشاء إلا دجاج! ولا شك أن من أهم أسباب هذا السهر مشاهدة برامج التلفاز والفيديو، ناهيك عما يحدثه هذا السهر من التأخر عن الصلاة وإنهاك الإنسان وإشغاله في وقته فيأتيك الطالب في الفصل فتحتاج إلى أن تبذل جهداً مضنياً لإيقاظه من النوم، وعندما يستيقظ يبدأ يعيش في عالم آخر فيسترجع تلك الصور التي كان يراها على شاشة التلفاز.(37/27)
تضييع الأموال
الأثر الثالث والعشرون: الأثر الاقتصادي، في إحصائية لمصلحة الإحصاءات العامة تقول: في عام (1982م) هنا: بلغت قيمة أجهزة الفيديو المستوردة في ذاك العام (475.
362.
000 ريال) وقيمة الأشرطة المستوردة (102.
505.
000 ريال) أي أن المجموع (577.
867.
000 ريال) يعني: ما يزيد على نصف مليار هذا في عام واحد قيمة أجهزة الفيديو والأشرطة، ناهيك عن الصيانة والاشتراك والتسجيل وغيرها من الأمور.
أليس من إهدار طاقة الأمة أن يصرف في مجتمع مثل هذا المجتمع المحافظ يصرف نصف مليار في عام واحد على هذه الأفلام؟! والمسلمون يموتون جوعاً ويتضورون جوعاً، ويحتاج أحدهم إلى رغيف الخبز، ويحتاج أحدهم إلى رصاصة واحدة أو طلقة واحدة يقاتل بها عدوه.
في تحقيق أجرته مجلة الدعوة: أفاد أحد المستهلكين أنه يصرف (70%) من راتبه على شراء الأشرطة، وأفاد أحد أصحاب محلات الفيديو أن بعض الزبائن يسجل على حسابه آخر الشهر.(37/28)
تعليم فن الجريمة
الأثر الرابع والعشرون والأخير: تعليم فن الجريمة، وتساهم هذه الشاشة في تعليم أساليب وفن الجريمة مساهمة فعالة، ويتنادى الآن عقلاء الغرب -وليس فيهم عاقل- والمفكرون والكتاب إلى ضرورة الحد مما يعرض على شاشة التلفاز من تلك البرامج التي تعلم الجريمة، فقد عقد مجلس العموم البريطاني جلسة في عام (1984م) لمناقشة كيفية بيع وتنظيم الأفلام؛ وذلك أن الإحصاءات البريطانية أثبتت أن معدل العنف والجريمة ارتفع بشكل ملحوظ نتيجة انتشار أفلام الفيديو.
وفي دراسة في الكويت اتفق معظم الآباء والأمهات (72%) على أن التلفاز خلق لدى الكثيرين الاعتقاد بأن العنف أسلوب من أساليب التعامل مع الآخرين.
في دراسة أجريت في سوريا حول بعض الأحداث الجانحين أفادت الدراسة أن (81%) من هؤلاء كانوا يرتادون السينما، وقد اعترف (83%) من أولياء الجانحين بأنهم يعتقدون بأن الأفلام السينمائية تركت أثراً سيئاً على سلوك أبنائهم كما نشرت ذلك مجلة الأمن والحياة.
وفي تونس قام طفل بشنق نفسه ليطبق ما رآه في أحد الأفلام كما ذكرت ذلك مجلة الأمن والحياة.
في مدينة بوسطن الأمريكية طفل عمره تسع سنوات رسب في جميع المواد فاقترح على والده أن يرسل علبة مسمومة من الحلوى للمدرسة، فسأله عن السبب وكيف تعلم ذلك؟ فقال: إنه أخذ هذه الفكرة من فيلم سينمائي.
في فرنسا طفل عمره خمس سنوات قام بإطلاق الرصاص على جاره وأصابه بجروح خطيرة، وأفاد بعد ذلك أنه تعلم حشو البندقية وإطلاق الرصاص من أحد الأفلام.
على كل حال هناك صور مزعجة جداً من الجرائم التي كانت تحصل نتيجة مشاهدة هذه الأفلام منها: عصابة من الأحداث من طلاب المرحلة الإعدادية في مصر قاموا بتخريب سبع مدارس، وكانت لغزاً محيراً لرجال الأمن حتى استطاعوا أن يقبضوا عليهم، وكان هؤلاء بعدما يقومون بالتخريب في المدرسة يكتبون على السبورة عبارة: البرادعي وإلى اللقاء في مدرسة أخرى، وأخيراً بعد القبض اعترفوا بأنهم قاموا بذلك تقليداً لأحد المسلسلات التي شاهدوها.
بل هناك جرائم على مستوى أكبر فـ براون المختلس المعروف خطط لجريمته عقب مشاهدة أحد الأفلام، وخلال أربع وعشرين ساعة من عرض ذاك الفيلم، تلقى البوليس خمس تهديدات بتفجير رحلات ومكاتب خطوط جوية.
إن هذه البرامج تقدم العنف والجريمة وتشرح كيفية ارتكابها، وكيف يخطط البطل اللص للضحية، وكيف يستخدم التهديد ويحصل على الفدية؛ ولهذا يقول استيفن بانا وهو أحد علماء النفس الغربيين: إذا كان السجن هو جامعة الجريمة فإن التلفزيون هو المدرسة الإعدادية لانحراف الأحداث.
وعندما نعود الآن بعد عرض هذه النماذج المذهلة إلى مجتمعنا نرى انتشار ما يسمى بالأفلام البوليسية، أو أفلام المطاردات، أو أفلام الكوبوي، وكل هذه الأفلام تساهم مساهمة فعالة في تعليم أساليب الجريمة والقتل والاحتيال وهي تحظى بالنسبة العظمى من المشاهدة.
ففي الدراسة التي أشرنا إليها قبل قليل بعنوان: (أثر الفيديو على مشاهدة التلفاز في مدينة الرياض)، أفاد (79%) من الشباب أنهم يشاهدون الأفلام البوليسية، وفي دراسة أجراها مجموعة من طلاب كلية الآداب بجامعة الملك سعود وأشرنا إليها آنفاً: حصلت الأفلام البوليسية على الترتيب الأول في المشاهدة.
وفي تحقيق أشارت إليه مجلة الدعوة: ذكر أحد أصحاب الأفلام أن أكثر الأفلام انتشاراً أفلام الكوبوي والمطاردات البوليسية والمباريات.
ولا بد أن تترك هذه الأفلام أثراً بصورة أو بأخرى، إنها تعلم المجتمع وتعلم هذا الشاب ألواناً من أساليب الجريمة والاحتيال لم يكن متعلماً لها، وقد لا يكون بالضرورة أن يتحول كل هؤلاء المشاهدين لهذه الأفلام إلى مجرمين، ولكن يكفينا عندما تخرج هذه الأفلام مجموعة من هؤلاء المجرمين، يكفي أثراً ودافعاً إلى ضرورة منع هذه الأفلام والحد منها.(37/29)
الأثر الأمني والسياسي
وأخيراً: الأثر الخامس والعشرون: الأثر الأمني والسياسي؛ حيث إنه تعرض في هذه الأفلام مشاهد لأعمال ما يسمى بأعمال العنف والتخريب والمظاهرات والمشاهد السياسية التي لم يعتد عليها المجتمع، وتعرض كوسيلة للتنفيس عما يجده المرء من مضايقة، ولا شك أن استمرار المجتمع على مشاهدة هذه الأفلام وهذه المشاهد لا بد أن تترك عنده أثراً سلبياً في تقليد هذه الأساليب مما يهدد المجتمع ببروز مخاطر أمنية لم يكن يألفها ولم يكن يعتد عليها.(37/30)
كيفية التخلص من الأفلام السيئة
بعد ذلك سؤال يطرح نفسه: ما الحل؟! إنه يكفي أن أثير القضية أمامكم، ويكفي أن أصور لكم حجم هذه المشكلة التي أشعر أن الكثير ممن يدرك خطورتها لا يعطيها حجمها الأمثل؛ ولهذا سأشير باختصار شديد إلى الحل الذي يمكن أن نقوم به نحن أنفسنا، فأنا أخاطب الإخوة المستمعين والجمهور والذي أعرف أن كل فرد منهم لا يتجاوز أن يكون فرداً محدوداً من أفراد المجتمع.(37/31)
التفكير الجاد في الاستغناء عن التلفاز
أولاً: لا بد من التفكير الجاد في الاستغناء عن جهاز التلفاز؛ لأنه سيقود في المستقبل إلى أن يكون بوابة لأن يستقبل كل ما يعرض في المحطات العالمية، وهو خطر على ما فيه فكيف إذا كان يستقبل كل المحطات العالمية، علماً بأنه الآن يوجد بعض الأجهزة التي يكون فيها جهاز الاستقبال داخل جهاز التلفاز نفسه، وقد لا يكتشف هذا الأسلوب قد لا يكتشفه الأب ولا يكتشفه الجيران، فيكون هذا الجهاز موجوداً داخل جهاز التلفاز نفسه، وبعد مرحلة -كما قلنا- سيستطيع المشاهد أن يشاهد من خلال جهاز التلفاز العادي كل محطات العالم.(37/32)
تربية نوازع الرفض للأفلام عند الشباب
الأمر الثاني: لا بد من العناية بتربية الشباب والفتيات حتى يتكون عندهم الرفض لذلك من الداخل.
نريد أن يتربى الشاب والفتاة على أنه لو وجد عنده التلفاز لو وجد عنده الفيديو لو وجد عنده الدش والهوائي؛ فإنه يرفض مشاهدة مثل هذه المشاهد والصور، وحينئذ نوجد الحصانة لهؤلاء، وهي مسئولية ضخمة تناط بالآباء والأمهات والخطباء والأساتذة وأهل التوجيه والرأي، فلا بد أن يدرك كل فرد مسئوليته ولا بد أن نقوم بجهد مكثف وواسع لتربية هؤلاء وغرس الرفض من الداخل، وتربية الإيمان الذي يدعوهم إلى أن يرفضوا مثل هذه المظاهر ويحميهم حتى لو تيسرت أمامه هذه المظاهر والفتن فيقول الواحد منهم: إني أخاف الله.(37/33)
تقديم البدائل المفيدة عن الأفلام
الأمر الثالث: لا بد من تقديم البدائل المفيدة وعلى رأسها الشريط الإسلامي، فلا بد أن يوجد في البيت مكتبة متكاملة من الأشرطة الإسلامية، سواءًَ الأشرطة التي تعالج قضايا اجتماعية، أو قضايا المرأة، أو الأشرطة الموجهة للأطفال، فلا بد من العناية بهذه الأشرطة وتوفيرها في البيت لتكون بديلاً عن هذا الوقت الذي يقضيه هؤلاء في مشاهدة تلك الأفلام.
كذلك أيضاً توفير أجهزة الحاسب الآلي للشباب أو الفتيات، مما يؤدي إلى إشغال وقتهم بشيء على الأقل لا يكون أثره سلبياً، أو على الأقل لا يكون له أثر إن لم يكن له أثر إيجابي لتعليم الشاب والفتاة علوماً ومعارف معينة يمكن أن يستفيد منها، وحتى لو تصورنا أن أثر هذا الجهاز كان محدوداً وأنه لم يستفد منه فيكفي أن هذا الجهاز يكون وسيلة لإشغال وقت الشاب ووقت الفتاة عن مشاهدة مثل هذه الأفلام.
كذلك أيضاً الرحلات والنزهات المفيدة، أعني أن يعتني الأب بواقع بيته زوجته وأبنائه فيأخذهم إلى رحلات إلى مناسبات أن يصرف جزءاً من وقته لهؤلاء حتى لا يعيشون وهم يعانون من الفراغ الذي يدعوهم إلى المطالبة بمثل هذه الأجهزة.(37/34)
ملء أذهان الشباب بالاهتمامات الجادة
الأمر الرابع: وهو ضرورة ملء أذهان الشباب والفتيات بالاهتمامات الجادة وحين ينشغل الشاب والفتاة باهتمامات جادة كحفظ القرآن وتعلم العلم الشرعي والدعوة إلى الله والانشغال بقضايا الأمة فإنه لن يجد في قلبه مكاناً لمثل هذه التفاهات وهذه الصور والمشاهد الساقطة.(37/35)
اشغل أوقات الفتيات بأعمال المنزل
الأمر الخامس: إشغال وقت الفتاة بالذات في المنزل بالعمل الذي يملأ فراغها وقتاً وذهناً، والعجب من أولئك الآباء الذين يحضرون الخادمات للمنزل حتى تبقى تلك الفتاة فارغة وحينئذ لا يكون أمامها إلا مشاهدة أفلام الفيديو وبرامج التلفاز فتكبر تلك الفتاة وتبلغ سن الزواج وقد لا تجيد إعداد الشاي أو إعداد أبسط أنواع الأطعمة؛ نظراً لأن هذا العمل تقوم به الخادمة، ولا تستطيع ترتيب أي أمر من أمور البيت، فلماذا لا تشغل هذه الفتاة بالقيام بأمور البيت من الطهي وإعداد البيت والقيام به فلا تجد بعد ذلك وقتاً لمشاهدة ومتابعة هذه الأفلام، ثم أيضاً يكون هذا وسيلة لإعداد الفتاة المؤهلة لحمل مسئولية المنزل.(37/36)
توسيع التوعية بأضرار الأفلام
الأمر السادس: ضرورة توسيع الدعوة العامة والتوعية خاصة الحديث عن هذه القضايا والمشاكل في كل المناسبات، في المناسبات العائلية في الخطب في المحاضرات الكتب دروس المساجد في المدارس أن نستعمل كافة القنوات والوسائل للدعوة لمثل هذه التوعية وإبراز الجوانب الضارة والدعوة إلى التخلي عنها.(37/37)
تبني برامج توزيع الشريط الإسلامي
الأمر السابع: تبني برامج في الأحياء لتوزيع الشريط الإسلامي بقوة، كأن يتفق أهل كل حي أو مدرسة أو جهة معينة على أن يقوموا بتنظيم برنامج لتوزيع الشريط الإسلامي، سواءًَ ما يعالج هذه القضايا أو غيرها، كي يمثل غزواً إعلامياً -إن صحت العبارة- من الداخل، ويمكن أن يشتري هؤلاء جهاز نسخ والذي لا يتجاوز ثمنه ثمن الدش الذي يشتريه الكثير من أصحاب الدخل المحدود حتى أصحاب الأحياء الفقيرة جداً، بل أصحاب البيوت الطينية كما ذكرنا من قبل، لماذا هؤلاء يشترون هذا الجهاز بالثمن الباهظ، فلو اجتمع عشرة أو ثمانية لا ستطاعوا أن يوفروا مبلغاً يمكن أن يؤمنوا به جهاز نسخ وتسجيل لهذه الأشرطة، ويستطيعون أن يقوموا بتوزيع كميات من هذه الأشرطة في المناسبات العائلية وفي المساجد والمدارس، لا بد أن يكون لنا مساهمة فعالة، أما الحديث العاطفي والتألم فإنه لا يجدي شيئاً.(37/38)
ميزان الرجولة
الرجولة معنى يفرق بين الذكور والإناث، كما أنه يحمل معنى يميز بعض الرجال عن غيرهم بالصفات النبيلة التي تتحقق بها مقاصد الدين ومصالح الدنيا، وهي أمر ينبغي أن نتربى عليه وننشئ عليه أبناءنا باتباع الأساليب المعينة على ذلك.(38/1)
أهمية الحديث عن الرجولة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد.
أيها الإخوة الكرام! لم يكن أحد يحسب أن نكون بحاجة إلى أن نحدث الناس عن الرجولة وأن نذكر بصفات الرجال وسماتهم.
فالرجولة وصف اتفق العقلاء على مدحه والثناء عليه، ويكفي حين تمدح إنساناً أن تصفه بالرجولة، وحين تذمه وتعيبه أن تنفي عنه الرجولة، أليس الأب والمعلم يعاتب ولده بنفي الرجولة قائلاً: ألست رجلاً؟ أليس يذكره بالرجولة قائلاً له: لقد أصبحت الآن رجلاً؟ أليس يعيبه ويذمه حين يقول: إنك طفل ولست من الرجال؟ يتطلع الصغير والصبي إلى ذلك اليوم الذي يوصف فيه بالرجولة ويحدث من حوله من الصغار والكبار عما سيفعل حين يكون رجلاً، إنه يتشبه بالرجال في حديثهم وفي مشيتهم وفي لباسهم، وحين تعود إلى دنيا الناس ترى العجب من أخلاقهم وطباعهم وترى ما لا يخطر لك على بال لكنك مع ذلك كله لا ترى فيهم من يرضى بأن تنفى عنه الرجولة، إنه أمر يتفق عليه الجميع مؤمنهم وكافرهم برهم وفاجرهم عاقلهم وسفيههم بل أنت ترى كثيراً من الحمقى والسفهاء يبررون حماقتهم بأنها مقتضى الرجولة، ومع هذا كله فالمسافة بين واقع الناس وبين الرجولة ليست مسافة قريبة فالبون بين الواقع والدعوى شاسع، وواقع الناس يكذب ادعاءهم.
فيما مضى في عصر العرب الأوائل كانت الرجولة إرثاً كانت مفخرة وممدحة، وبغض النظر عما انحط فيه أولئك من السفاسف والرذائل فقد كان لديهم سمو في الأخلاق ونبل في المعدن، ولذا فقد بعث النبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه بعث في خير الناس.
لقد خلق الله عز وجل الخلق عرباً وعجماً وجعل المصطفى صلى الله عليه وسلم من العرب فهم خير فرقة من الناس، وهو صلى الله عليه وسلم خيرهم وأبرهم وأتقاهم وأكملهم رجولة.
وفي عصر الحضارة والمدنية المعاصرة في عصر غزو الفضاء وحرب النجوم في عصر التقنية والاتصال؛ تحول العالم إلى قرية صغيرة فارتقى الناس في عالم المادة وانحطوا في عالم الأخلاق والقيم صعدوا إلى الفضاء وأقدامهم في الحضيض تطلعوا إلى الإنجاز المادي وهمهم شهواتهم وأهوائهم: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} [الفرقان:44] وورث المسلمون وذرية العرب الأوائل ورثوا من هؤلاء العفن والفساد ورثوا منهم مساوئ الأخلاق، وساروا وراءهم في لهث وسعار، فلا المدينة والحضارة أدركوا ولا أخلاقهم ورجولتهم أبقوا، فاندثرت الأخلاق والشيم مع عالم المادة.
وصرت بحاجة إلى أن تذكر الرجال بسمات الرجولة وتطالب الشباب بأن يكونوا رجالاً لا صغاراً.
إن هذا يدعونا إلى أن نتحدث عن الرجولة إن هذا يدعونا إلى أن نذكر الرجال بسمات الرجولة وصفات أهلها.
وذكر هذا الحديث ليس عيباً لهؤلاء الذين تحلقوا في هذا المكان، فهم من خير الرجال وأبرهم، لكننا جزء من هذا المجتمع والكيان المتكامل نتأثر بما فيه ونؤثر فيه، ونحن الذين ينتظر منا أن نحمل لواء الإصلاح والتغيير والبناء في المجتمع، فنحن بحاجة إلى أن نذكر أنفسنا بسمات الرجال وصفاتهم؛ لأن من مهمتنا جمعياً أن نسعى في بناء الرجولة في مجتمعاتنا، ولئن كان أمراً استفدناه وتربينا عليه فهذا لا يعني بالضرورة أننا لا نحتاج إلى أن نذكر به خاصة حين نريد أن نحمله إلى الآخرين، وحين يراد أن نربي أبنائنا وجيلنا على هذا المعنى.(38/2)
تعريف الرجولة
الرجل في اللغة: يطلق على الذكر من بني الإنسان، وهو ضد المرأة.
قال في اللسان: الرجل معروف، الذكر من نوع الإنسان خلاف المرأة.
وعلى هذا المعنى فكل من لم يكن امرأة من بني البشر فهو رجل، لكن الرجولة في عرف الناس اليوم تعني معنىً زائداً عن مجرد الذكورة، فهل لهذا العرف أصل في لغة العرب أم أنه أمر تعارف الناس عليه، ولا حرج في ذلك حيث لا مشاحة في الاصطلاح.
حديثنا ليس عن المصطلح لكن عن المضمون، حديثنا عن المعنى الذي يتحدث الناس حوله ويطالب به الآباء أبناءهم والمعلمون تلامذتهم يطالبونهم أن يكونوا رجالاً وأن يعيشوا في مصاف الرجال.
فحديثنا عن المعنى والمضمون، والأمر لا يعني بقليل أو كثير مدى صحة هذا المعنى في استعمال العرب الأوائل، لكننا حين نفتش في معادن اللغة ونبحث فيها فإننا نجد ما يوحي بذلك نجد أن العرب وإن أطلقوا الرجولة على الذكورة فإنها قد تأتي ويراد بها معنىً زائد قد يتحقق في بعض الرجال دون غيرهم.
وها هي بعض الأمثلة مما ذكره أهل اللسان في ذلك: قال في لسان العرب: قال ابن سيده: وقد يكون الرجل صفة -أي: تكون صفة وليست لمجرد الذكورة فقط- يعني بذلك الشدة والكمال، وعلى ذلك أجاز سيبويه الجر في قولهم: مررت برجل رجل أبوه.
وقال في موضع آخر: إذا قلت: هذا الرجل فقد يجوز أن تعني كماله وأن تريد كل رجل تكلم ومشى على رجلين فهو رجل لا تريد غير ذلك، وفي معنىً تقول: هذا رجل كامل، وهذا رجل أي: فوق الغلام، ويقال: رجل به بالرجلة ورجل بين الرجولة والرجلة والرجلية والرجولية، وهذا أرجل الرجلين، أي: أشدهما، أو فيه رجلية ليست في الآخر، والرجيل: القوي على المشي الصبور، والرجيل أيضاً من الرجال: الصلب.
إن هذه المعاني توحي بأن لهذا الاستخدام العرفي لدى الناس أصلاً، فكما أن الرجل يراد به الذكر من بني الإنسان فهو يعني وصفاً زائداً، ومن ثم فقد تنفى الرجولة عن طائفة من الناس وإن كانوا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق وينجبون البنين والأحفاد.
ويطلق الرجل على البالغ فيقال: هذا غلام وذاك رجل، فالبلوغ يتأهل به المرء للمسئولية ويدرك منزلة الرجال، وينزل منازلهم، كيف لا وقد أمره من خلقه تبارك وتعالى وهو أعلم به من نفسه ومن الناس؛ أمره عز وجل ونهاه وحمله أعظم مسئولة.
إذاً: فالرجولة: هي اتصاف المرء بما يتصف به الرجال عادةً؛ ولهذا فالجلد والصبر والقوة والتحمل هي من معاني الرجولة، وفي القرآن الكريم جاء وصف الرجولة في مواضع ومنها: تحمل الرسل عليهم صلوات الله وسلامه لأعباء الرسالة، قال عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف:109].
ومما جاء في التنزيل: صدق الرجل فيما عاهد الله عليه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
ومن صفات الرجال في كتاب الله عز وجل: عدم الانشغال بالعوارض عن الذكر والآخرة: {رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور:37 - 38].
ومن سمات الرجال في كتاب الله: حب التطهر: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
ومع ذلك جاء في القرآن الكريم استخدام الرجال في مقابل النساء: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ} [النساء:7] {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النساء:12].
وجاء وصف طائفة ممن سيق خبرهم في سياق الذم أنهم رجال، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32] لكن هذا لا يعني نفي أن يكون للرجولة إطلاقان: إطلاق عام، وإطلاق خاص وهو موضوع حديثنا.
أيها الإخوة والأخوات! يدرك المسلمون جميعاً صغيرهم وكبيرهم جاهلهم ومتعلمهم يدركون مهما كان علمهم ومهما كانت ثقافتهم؛ أن الله عز وجل لم يخلق الناس ويوجدهم إلا لعبادته تبارك وتعالى، قال عز وجل: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] ومن ثم فمنزلتهم وقيمت(38/3)
الرجولة بين المظهر والمضمون
الناس تأسرهم المظاهر ويسحرهم بريقها فمن يجلونه ويقدرونه ليس بالضرورة هو أهل الإجلال والتوقير، ومن يحتقرونه ويزدرونه قد يكون من أولياء الله الصالحين المقربين وماذا يضيره حين يرضى عنه الله عز وجل ويسخط عنه الناس؟! لذا يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى أن لا يهتموا بالمظاهر، فالرجولة مضمون قبل أن تكون مظهراً، عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: (مر رجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، وإن قال أن يستمع، قال: ثم سكت، فمر رجل من فقراء المسلمين فقال: ما تقولون في هذا؟ قالوا: حري إن خطب أن لا ينكح، وإن شفع أن لا يشفع، وإن قال أن لا يستمع فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا خير من ملء الأرض مثل هذا).
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رب أشعث مدفوع في الأبواب لو أقسم على الله لأبره).
وهاهو نموذج من الرجال الذين بلغوا هذه المنزلة وشهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، عن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمي أنس بن النضر عن قتال بدر فقال: يا رسول الله! غبت عن أول قتال قاتلت فيه المشركين، لئن أشهدني الله قتال المشركين ليرين الله ما أصنع، فلما كان يوم أحد وانكشف المسلمون قال: اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء -يعني: أصحابه- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -يعني: المشركين- ثم تقدم فاستقبله سعد بن معاذ فقال: يا سعد بن معاذ! الجنة ورب النضر إني أجد ريحها من دون أحد، قال سعد: فما استطعت يا رسول الله ما صنع، قال أنس: فوجدنا فيه بضعاً وثمانين ما بين ضربة بالسيف أو طعنة برمح أو رمية بسهم، ووجدناه قد قتل وقد مثل به المشركون فما عرفه أحد إلا أخته ببنانه، قال أنس: كنا نظن أن هذه الآية نزلت فيه وفي أشباهه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} [الأحزاب:23] إلى آخر الآية، وقال: إن أخته وهي تسمى الربيع كسرت ثنية امرأة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقصاص فقال أنس: يا رسول الله! والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنيتها فرضوا بالأرش وتركوا القصاص، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره) رواه البخاري.
إنهم ضعفاء يستضعفهم الناس لكن ذلك لا يضيرهم فعند الله هم أهل المنزلة العالية، عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا أخبركم بأهل الجنة؟! كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره، ألا أخبركم بأهل النار؟! كل عتل جواظ مستكبر) رواه البخاري.
وهاهو نموذج آخر يشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاح والتقى وإجابة الدعاء، وهو مع ذلك يعيش في دهماء الناس فلا يقيم له من تأسرهم المظاهر وزناً؛ عن أسير بن جابر قال: (كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سأل: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم، قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم، قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم، قال: لك والدة؟ قال: نعم، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فاستغفر لي فاستغفر له، فقال له عمر: أين تريد؟ قال: الكوفة، قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي، قال: فلما كان من العام المقبل حج رجل من أشرافهم فوافق عمر فسأله عن أويس قال: تركته رث البيت قليل المتاع، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها بر لو أقسم على الله لأبره، فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل، فأتى أويساً فقال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي، قال: استغفر لي، قال: أنت أحدث عهداً بسفر صالح فاستغفر لي، قال: لقيت عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له ففطن الناس، فانطلق على وجهه قال أسير: وكسوته بردة، فكان كلما رآه إنسان قال: من أين لـ أويس هذه البردة؟) رواه مسلم.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله(38/4)
الرجولة روح أكثر منها جسد
وكما أن الرجولة في المضمون لا المظهر فهي في الروح لا الجسد، فرب من أوتي بسطة في الجسم وصحة في البدن يطيش عقله فيغدو كالهباء، ورب من كان معوق البدن وهو مع ذلك يعيش بهمة الرجال، ولهؤلاء سلف في عمرو بن الجموح رضي الله عنه الذي أصر على أن يطأ بعرجته الجنة.
وفي العصر الحديث يوقد شرر الجهاد في الأرض المباركة رجل لا تحمله قدماه، ويقاضى بأن يغيب عن الناس مدى الحياة، لولا أن كانت مصالح لأعدائه تقتضي المساومة على أن يسمح له بأن يتنفس الهواء النقي.(38/5)
مفاهيم خاطئة حول الرجولة(38/6)
إثبات الذات بطرق خاطئة
يسعى الناس لتحقيق الرجولة والامتداح بها، ويحذرون من أن يوصموا بنقصها، لذا فأولئك الذين لا يسعفهم رصيدهم من الرجولة يلجئون إلى أساليب ترفع لهم هذا النقص وتسد لهم هذا الخلل، ومن ذلك إثبات الذات، وكثيراً ما يلجأ الشاب المراهق لذلك فيصر على رأيه ويركب رأسه وتغدو مخالفة رأي معلمه أو والده مطلباً بحد ذاته، فلسانه دوماً يردد: ألست رجلاً؟ ألست أدرك مصالح نفسي؟ كيف يكون مصيري بيد الآخرين؟ ويسهم رفاقه وأقرانه في دفعه إلى هذا التصلب مشيدين برجولته ونجاحه معيرين من لا يحالفهم الحظ في الانتصار على السلطة الغاشمة في نظرهم.
وربما يكون جهل بعض المربين بحاجات هذا الشاب وسماته مدعاة لهذا التصلب، لكن هذا الشاب لو أدرك أن الله تعالى أمر عباده المؤمنين بخفض الجناح للوالدين فقال: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24] ولو أدرك قول الرسول صلى الله عليه وسلم لشاب جاء يريد أن يصحبه قال له صلى الله عليه وسلم آمراً أن يعود إلى والديه: (اذهب إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)؛ لو أدرك ذلك لكان له شأن آخر.
إن الشاب الذي يملك مقومات الرجولة ليس بحاجة إلى تصنعها وإقناع الآخرين بها، فما لم تنطق حاله بذلك وما لم تشهد أفعاله برجولته فالتصنع لن يقوده إلا إلى مزيد من الفشل والإحباط، وبدلاً من ذلك فالأولى به أن يقنع من حوله برجولته من خلال اتزانه وهدوئه وأنه لم يعد يستفز كالأطفال، ومن خلال قدرته على إدارة الخلاف مع الآخرين، ومن خلال قدرته على إبداء رأيه لمن يكبره سناً وقدراً وأن يقدم هذا الرأي بلغة تليق بمقام المخاطرة، ومن خلال نضج رأيه وانطلاقه من أسس موضوعية تقنع الآخرين.(38/7)
التصلب في غير موطنه
ومن المفاهيم الخاطئة للرجولة: التصلب في غير موطنه.
يعد كثير من الناس الثبات على الكلمة التي تقال مظهراً من مظاهر الرجولة لذا توصف الكلمة بأنها كلمة رجل، ويعيره الناس حين يتراجع عن كلمة قالها بانتفاء الرجولة، لا شك أن من الرجولة الحقة أن يقر الرجل على كلمة حق قالها يريد بها وجه الله وأن يستعد لدفع الثمن من أجلها ولو كان غالياً، وأن يأبى التراجع مهما كلفه من ثمن.
ومن الرجولة الحقة أن يصر المرء على الوفاء بوعد كريم نبيل قطعه على نفسه، ولو كلفه ذلك ثمناً باهظاً، لكن حين يقول كلمة يدرك أن الحق بخلافها أو حين يزل بكلمة لا يريد بها وجه الله، أو حين يفسح له من حوله الطريق فيستبين له بعض ما كان يجهل، أو يذكر بعض ما كان ينسى، فالرجولة حينها أن يعود إلى الحق، والرجولة الحقة أن يقول بشجاعة: إنني أخطأت وبالباطل نطقت.
من السهل أن يتشبث المرء بباطله أو يصر على كلمته، لكن الشجاعة أن ينتصر على نفسه أن لا يسيره إلا الحق أن يتجرأ على الموقف الذي يضعف الكثير عن التجرؤ عليه فيتراجع عن قول الباطل ويخضع للحق.(38/8)
القسوة على الأهل
ومن المفاهيم الخاطئة للرجولة: القسوة على الأهل.
{الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء:34] كما جاء في كتاب الله تعالى، والرجل هو الآمر الناهي، والسيد المطاع في بيته، وهي سنة للحياة الزوجية لا تستقيم بدونها سنة يدركها العقلاء ويتعبد باتباعها المسلمون الأتقياء.
وثمة فئة من الأزواج يدير بيت الزوجية كما تدار المعركة ويبني صوراً من الأوهام حوله.
إن معالم الرجولة لدى هؤلاء استقرت في أن يقول: لا، وأن يرفض إعادة النظر في رأي رآه أو موقف اتخذه أو يوصد الأبواب أمام الحوار أو الاستماع لشريكة عمره وحياته، إن البيوت لا تبنى إلا على التأني والطمأنينة، ولا تشاد أسوارها إلا بالرحمة الشفقة، لذا امتن الله تبارك وتعالى على عباده بهذه المنة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21].
إن حال أولئك الذين يتصنعون الرجولة في بيوتهم حال من فقد الرحمة والمودة، وأين هم من صاحب الرجولة الحقة الذي آتاه الله كمالها وجمالها حين كان حاجاً للبيت العتيق أصاب زوجته ما يصيب بنات آدم فلم تعتمر معه قبل حجه، وأعلمها صلى الله عليه وسلم أن حجها حج وعمرة لكنها رضي الله عنها سألته أن يأذن لها في العمرة، فما كان من الحبيب صلى الله عليه وسلم إلا أن لبى رغبتها، وصفه جابر رضي الله عنه بقوله: (وكان رسول صلى الله عليه وسلم رجلاً سهلاً إذا هوت الشيء تابعها عليه).
أين هذا الحال وهذا الواقع من أولئك الذين يفتخرون ويعتزون بأن رجولتهم تتحقق في مخالفتهم لما تريد نساؤهم ولو كانت تريد حقاً مشروعاً ولو كان ما تريده هو الحق، فالسيد والمطاع والرجل الحق عند هؤلاء هو الذي يقول: لا، وهو الذي لا يرضخ لطلبات أهله وزوجته.
وحين سأل النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه عن أحب الناس إليه قال: عائشة، وها هو صلى الله عليه وسلم يعطيها حظها من اللعب واللهو فتقول: (والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم على باب حجرتي والحبشة يلعبون بحرابهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسترني بردائه لكي أنظر إلى لعبهم، ثم يقوم من أجلي حتى أكون أنا التي أنصرف، فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن حريصة على اللعب).
لكن لينه صلى الله عليه وسلم وحبه لزوجه لم يكن دافعاً له أن يقرها على أمر يسخط الله، فرضا الله أولى من رضا المخلوق، وطاعة الله أولى ما تؤسس عليه البيوت، فها هي تحكي ما رآه صلى الله عليه وسلم وما فعله حين رأى أمراً منكراً تقول رضي الله عنها: (دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سترت سهوة لي بقرام فيه تماثيل فلما رآه هتكه وتلون وجهه وقال: عائشة! أشد الناس عذاباً عند الله يوم القيامة الذين يضاهون بخلق الله، قالت عائشة: فقطعناه فجعلنا منه وسادة أو وسادتين).
تلك مجالات للرجولة يحسب أصحابها أنهم يكونون رجالاً بذلك، وما أتي هؤلاء إلا من جهلهم أو فشلهم في تحقيق الرجولة الحقة، ولو وعوا الرجولة وفهموها لعلموا أنهم ليسوا بحاجة إلى أن يتصنعوها، إنها سلوك يفرض صاحبه إنها روح يبدو أثرها على الناس دون أن يتصنعها صاحبها، أما أولئك الذين يتصلبون أو يركبون الباطل محتجين بأن هذا من شيم الرجال وشأنهم فإن هؤلاء من أبعد عن الرجولة الحقة.(38/9)
مجالات الرجولة
ما دامت تلك مجالات خاطئة فما المجالات الحقة للرجولة؟ إنها مجالات وميادين كثيرة منها، بل أهمها:(38/10)
الإرادة وضبط النفس
المجال الأول: الإرادة وضبط النفس، كثير هم أولئك الذين تبدو عنترياتهم وصلفهم أمام الآخرين لكنهم ينهارون مع من هو دون الآخرين وأقرب إليهم من غيرهم.
إن أول ميدان تتجلى فيه الرجولة أن ينتصر الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء إن الرجل هو الذي تدعوه نفسه للمعصية فيأبى، وتتحرك فيه الشهوة فيكبح جماحها، وتبدو أمامه الفتنة فلا يستجيب لها، وأولى الناس بالثناء شاب نشأ في طاعة حيث تدعو الصبوة أترابه وأقرانه إلى مقارفة السوء والبحث عن الرذيلة، ورجل تهيأت له أبواب المعصية التي يتسابق الناس إلى فتحها أو كسرها حيث تدعوه امرأة ذات منصب وجمال فيقول: إني أخاف الله.
معشر الشباب! إن ميادين الانتصار على دواعي الرذيلة وشهوات النفس، وأول ميادين الهزيمة أن يدرك المرء خطأ الطريق ووعورة المسلك لأنه لم يطق أن يقول لنفسه: لا، فأين الرجال هنا لينتصروا على أنفسهم أين الرجال الذين يقودون أنفسهم ولا تقودهم ويأمرونها ولا تأمرهم؟ إن أولئك الذين يهزمون في المعركة مع النفس أحرى بأن يهزموا في المعركة الكبرى مع العدو الغاشم، ولن تنتصر أمة يقودها نحو الميدان مهزومون.
وهاهم قادة المسلمين الذي سطروا الملاحم كان حاديهم نحو النصر على العدو الانتصار على الذات والاستعلاء على الشهوات، فهاهو عبد الرحمن الداخل لما نزل من البحر إلى بر الأندلس وقد قدم إليه خمر ليشرب فأبى وقال: إني محتاج لما يزيد عقلي لا إلى ما ينقصه، فعرف الناس من ذلك قدره، ثم أهديت له جارية جميلة فنظر إليها وقال: إن هذه لمن القلب والعين بمكان، وإن أنا لهوت عنها بمهمتي فيما أطلبه ظلمتها، وإن لهوت بها عما أطلبه ظلمت مهمتي، فلا حاجة لي بها الآن.
وكما أن الرجال ينتصرون على أنفسهم حين تدعوهم للهوى والصبابة، فهم ينتصرون عليها حين تدعوهم للغضب والحمية في غير ما يرضي الرحمن.
عن رجل شهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب قال: (تدرون ما الرقوب؟ قالوا: الذي لا ولد له، قال: الرقوب كل الرقوب الذي له ولد فمات ولم يقدم منهم شيئاً، قال: تدرون ما الصعلوك؟ قالوا: الذي ليس له مال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الصعلوك كل الصعلوك الذي له مال فمات ولم يقدم منه شيئاً، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما الصرعة؟ قالوا: الصريع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الصرعة كل الصرعة الرجل يغضب فيشتد غضبه ويحمر وجهه ويقشعر شعره فيصرع غضبه) رواه أحمد.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
إن الاستجابة للاستفزاز والزمجرة والانفعال عند الغضب ورمي الشتائم كالصاعقة على القريب والبعيد أمر يجيده الكثير، لكن الذي لا يجيده إلا الرجال الحلم حين تطيش عقول السفهاء والعفو حين ينتقم الأشداء، ولذا أثنى القرآن على طائفة من المتقين ووعدهم بالمغفرة والجنان الواسعة فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:133 - 136].
والإحسان إلى من يسيء منزلة لا يطيقها كل الناس إنما يطيقها الرجال: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35].
وقد يسوغ للإنسان أن يأخذ حقه وينتصر ممن يظلمه لكن العفو والتنازل عن الحق من شيم الذي كملت رجولتهم ولا يطيقه إلا أهل العزائم: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُ(38/11)
السخاء والجود
المجال الثاني: السخاء والجود: وهي صفة سادت عند العرب حتى صارت من أروع ميادين الفخر والثناء لديهم، وسارت بذلك أشعارهم وأمثالهم، يقول أحدهم: ذريني فإن البخل يا أم هيثم لصالح أخلاق الرجال شروق ذريني وحطي من هواي فإنني على الحسب الزاكي الرفيع شفيق ومستنبح بعد الهدوء دعوته وقد حل من نجم الشتاء خفوق فقلت له: أهلا وسهلاً ومرحباً فهذا صبوح راهن وصديق وكل كريم يتقي الذم بالقرى وللخير بين الصالحين طريق لعمرك ما ضاقت بلاد بأهلها ولكن أخلاق الرجال تضيق ويأبى أن يأكل طعامه لوحده فلا يطيب له الطعام إلا مع الضيف: فيا ابنة عبد الله وابنة مالك وابنة ذي البردين والفرس الورد إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فلست بآكله وحدي أخا طارق أو جار بيت فإنني أخاف مذمات الأحاديث من بعدي وحين يحل الضيف عليهم يحل بالترحاب واليمن والسعة: فراشي فراش الضيف والبيت بيته ولم يلهني عنه غزال مقنع أحادثه إن الحديث من القرى وتعلم نفسي أنه سوف يهجع بل الرقيق حين يجلب ضيفاً لسيده يكافئه بأعظم مكافأة ينتظرها مثله: أوقد فإن الليل ليل قر والريح يا غلام ريح صر عسى يرى نارك من يمر إن جلبت ضيفاً فأنت حر فجاء الإسلام وأبقى مكارم الأخلاق وهذبها، فقد أثنى على الكرم ودعا إليه لكنه هذبه، فبعد أن كان دافعه خوف المذمة أو الفخر على الناس صار الدافع رجاء الثواب: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه) وكان أكرم الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ورث الكرم من خليل الرحمن الذي تلقى الملائكة بعجل سمين، جاء الإسلام فاتسع مفهوم السخاء والجود لتكون قمته الجود بالنفس في ميدان الوغى في سبيل الله، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
وليربي المسلم على أن يجود بجهده ووقته وعلمه نصرة للدين ورفعة لكلمة الله ونفعاً لعباده.(38/12)
الهمم العالية
المجال الثالث: الهمم العالية: تسمو همم الرجال وتعلو وتتعلق بالمثل العليا فيضعون الأمور في مواضعها ونصابها، فاللهو لدى الرجال ترفيه واستجمام، وإزهاق للسآمة والملل، واستعادة للنشاط والهمة لتنطلق النفس محلقة في ميادين العطاء، لكنه عند غير الرجال أمنية وحياة يعيشون لأجلها وينفقون الأموال في سبيلها، ويفنون أعمارهم وشبابهم في الانشغال بها، ليس يعنيهم كم ضاع من العمر والوقت ما داموا في اللهو والعبث فقد ودعوا حياة الجد وطلقوها طلاقاً باتاً، بل سخروا من الجادين واستعذبوا ما هم فيه من بطالة وعبث.
النموذج الحي أمامهم والمثل الذي يتطلعون إليه هو من يجيد فنون اللهو واللعب فاسمه يتردد دوماً على مسامع صغيرهم وكبيرهم، واللون الذي يعشقون هو الذي يذكرهم بفريقهم ومحبوبهم، إنها صور مخزية في دنو الهمة وأشد منها خزياً أن تعنى الأمم باللهو وتنفقه عليه الملايين، وأن تشغل أبناءها به.
إن رسالة الأمة أسمى من العبث واللهو وهي حاملة الهداية والخير للبشرية أجمع، فكيف يكون اللهو واللعب ميدان افتخارها وهي تنحر وتذبح وتهان كرامتها وتمرغ في التراب، إن بناء النفوس وبذل الخير والهدى للناس وإعادة العز لأمة ذاقت الهوان؛ إن ذلك كله من أسمى همم الرجال وأولى ما ينشأ عليه الجيل، وحين تعلو همم الناشئة وتسمو وتتجاوز التوافه يعلو صوت الأمة وتنهض من كبوتها.(38/13)
النخوة والعزة والإباء
المجال الرابع: النخوة والعزوة والإباء الرجال هم أهل الشجاعة والنخوة والإباء وهم الذي تتسامى نفوسهم عن الذل والهوان، وقد كان للعرب الأوائل اعتناء بالشجاعة والنخوة، وكانت من مفاخرهم وأمجادهم، جاء في بلوغ الأرب: والعرب لم تزل رماحهم متشابكة وأعمارهم في الحروب متهالكة وسيوفهم متقارعة قد رغبوا عن الحياة وطيب اللذات، كانوا يتمادحون بالموت ويتحاجون به على الفراش ويقولون فيه: مات فلان حتف أنفه.
يقول أحدهم: إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد وإن أدع للجلى أكن من حماتها وإن يأتك الأعداء بالجهد أجهد ويقول قائلهم: إني لمن معشر أفنى أوائلهم قول الكماة ألا أين المحامونا لو كان في الألف منا واحد فدعوا من فارس خالهم إياه يعنونا ولا تراه وإن جلت مصيبتهم مع البكاة على من مات يبكونا فجاء الإسلام فربى أبناءه على الشجاعة والعزة والحمية، وجعل الجبن والهوان من شر ما ينقص الرجال، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (شر ما في الرجل شح هالع، وجبن خالع) رواه أبو داود.
وكان القدوة للأمة في الشجاعة رسولها صلى الله عليه وسلم، أخرج الشيخان واللفظ لـ مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت فتلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً وقد سبقهم إلى الصوت وهو على فرس لـ أبي طلحة رضي الله عنه وفي عنقه السيف وهو يقول: لن تراعوا لن تراعوا).
وفي حنين حينما انكشف المسلمون ثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك يقول البراء بن عازب رضي الله عنه: (ولقد كنا إذا حمى الوطيس نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الشجاع الذي يحاذي به).
وهذب الإسلام العزة والشجاعة فلم تعد عند أتباعه ميداناً للفخر والخيلاء، بل هي ميدان للنصح في الدين والذب عن حياضه، والخوف من أهل الضلال تلبيس من الشيطان، والمؤمن الذي يمتلئ قلبه بمخافة الجبار لا يخاف سواه: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] ومن ثم فلن يأتي المرء الخوف إلا من قبل نقص الإيمان، قال شيخ الإسلام رحمه الله: لا يخاف الرجل غير الله إلا لمرض في قلبه.(38/14)
الغيرة
المجال الخامس: الغيرة، الرجال يغارون على الحرمات، فالأعراض لديهم أسمى من المال وأسمى من كل ما يملكون، وقد كان العرب الأوائل أمة غيرة وحمية، فمع ما هم فيه من شرك وضلال، ومع جرأتهم على الفواحش فلأعراض لديهم منزلة، وللحرمات مكانة، قال عروة: وإن جارتي ألوت رياح ببيتها تغافلت حتى يستر البيت جانبه قال عنترة: وأغض طرفي ما بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها فأين هؤلاء؟ أين هؤلاء من الكتاب الذين يفاخر بهم وتسود الصحف بمقالاتهم، كتب أنيس منصور في إحدى مقالاته في أخبار اليوم: إنه زار إحدى الجامعات الألمانية ورأى هناك الأولاد والبنات أزواجاً أزواجاً مستلقين على الحشائش في فناء الجامعة، قال: فقلت في نفسي: متى أرى ذلك المنظر في جامعة أسيوط لكي تراه عيون أهل الصعيد وتتعود عليه.
ولم بنات الصعيد؟ ألأجل أنه لا تزال لديهن الحشمة والغيرة؟! ألأجل أن المدنية المعاصرة لم تلوث نقاء النفوس ولم تمح أثر تربية الدين أيها الشباب! إن الرجل يغار على محارمه ويأبى أن تبدو أمام الناس بلباس فاضح أو غير لائق، يأبى أن تنساق وراء دعوة الموضة والتطور على حساب الستر والعفاف وغيرته تدعوه إلى تربيتها على العفة والفضيلة والإيمان والتقوى وغيرته لا تقف عند محارمه بل تمتد إلى بنات المسلمين فيكف بصره عن الحرام، وعن تتبع الفتن فضلاً عن أن يهم بالمضايقة والبحث عن العلاقة المحرمة، وهو يغار على حرمات الأمة فينكر المنكر ويقف في وجه من يريدون تغريب الأمة وجرها إلى مهاوي الرذيلة ومستنقعات الغفلة.(38/15)
الوفاء
المجال السادس: الوفاء، الوفاء من شيم الرجال التي يمدحون بها، كيف لا وقد كان أهل الشرك يفتخرون به قبل أن يستضيئوا بنور الإسلام، يقول أحدهم: أسمي ويحك هل سمعت بغدرة رفع اللواء لنا بها في مجمع إنا نعف فلا نريب حليفنا ونكف شح نفوسنا في المصنع ويعدون الغدر مسبة ومذمة، قال امرؤ القيس: إذا قلت هذا صاحب قد رضيته وقرت به العينان بدلت آخرا كذلك جدي ما أصاحب صاحباً من الناس إلا خانني وتغيرا وخير نموذج للوفاء لدى أهل الجاهلية ما فعله عبد الله بن جدعان في حرب الفجار التي دارت بين كنانة وهوازن، إذ جاء حرب بن أمية إليه وقال له: احتبس قبلك سلاح هوازن، فقال له عبد الله: أبالغدر تأمرني يا حرب؟! والله لو أعلم أنه لا يبقى منها إلا سيف إلا ضربت به ولا رمح إلا طعنت به ما أمسكت منها شيئاً.
وكان من وفائه أن العرب إذا قدمت عكاظ دفعت أسلحتها إلى عبد الله بن جدعان حتى يفرغوا من أسواقهم وحجهم ثم يردها عليهم إذا ظعنوا من مكة إلى مضارب قومهم.
وحين جاء النبي صلى الله عليه وسلم أنسى بخلقه ووفائه مكارم أهل الجاهلية، ومن أمثلة وفائه عليه الصلاة والسلام وهي كثيرة: موقفه يوم الفتح من عثمان بن طلحة حاجب الكعبة في الجاهلية عندما طلب منه علي رضي الله عنه ومفتاح الكعبة في يده أن يجمع لبني هاشم الحجابة مع السقاية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أين عثمان؟ فدعي له فقال: هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء).
وحين تخلت الأمة عن خلق الرجال وساد فيها التهارج هوت وانهارت قواها حتى رثاها أعداؤها، يقول أحد كتاب النصارى: العرب هووا عندما نسوا فضائلهم التي جاءوا بها، وأصبحوا على قلب متقلب يميل إلى الخفة والمرح والاسترسال بالشهوات.
وقال أحد شعراء الأندلس راثياً ما آلت إليه: حثوا رواحلكم يا أهل أندلس فما المقام بها إلا من الغلط السلك ينثر من أطرافه وأرى سلك الجزيرة منثوراً من الوسط من جاور الشر لا يأمن عواقبه كيف الحياة مع الحيات في سفط(38/16)
كيف نبني الرجولة
كيف نبني الرجولة؟ وكيف نعيد الاعتبار لها؟ لقد كانت الرجولة إرثاً يتوارثه الناس لا تعدو أن تكون بحاجة إلى التهذيب والتوجيه، أما اليوم فقد فتنت المدنية الناس وقضت على معالم الرجولة في حياتهم فصرنا بحاجة إلى التذكير بالشيم التي توارثها العرب قبل الإسلام فلم يزدها الإسلام إلا شدة وتهذيباً.(38/17)
ضبط العادات
من أساليب بناء الرجولة: ضبط العادات، فالعادات تسيطر على صاحبها حتى لا يقوى على منعها، إن اعتياد المرء عادة قبيحة يحوله إلى أسير لها، لا يملك فكاكها، إنها تقعد به عن مصالح دينه وتعوقه عن مصالح دنياه، وكم رأينا من الشباب الذي يؤمل عليهم أهلهم وتؤمل عليهم مجتمعاتهم كم رأينا من هؤلاء من قعد به كسله أو اعتياده على نمط في الحياة فعاقه ذلك عن أن يحصل علماً ينفعه في دينه ودنياه أو يكسب قوتاً يحميه من تكفف الناس والتطلع إلى ما في أيديهم، وحري بالمربين الغيورين على أولادهم أن ينشئوهم منذ الصغر وطراوة النفوس على التخلي عن العادة والبعد عن الاستسلام لها حتى لا تتحول إلى سيد يسترق صاحبه.
ومن ذلك: الاعتناء بمعادن الناس، (الناس معادن خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا) والذين يسودون في حياة الضلال يسودون حين يمن الله عليهم بالهداية، فحري بالمصلحين أن يعنوا بدعوة من تعلو لديه صفات الرجولة وتسود عنده سمات الأكارم، فحين يهتدي هؤلاء يؤدون ما لا يؤديه غيرهم.
ومن ذلك: ترشيد الرجولة من الرجال من يملك مواهب وطاقات لكنها صرفت في السوء والفساد، فحري ببناة الرجولة في المجتمع أن يسعوا إلى ترشيد رجولة هؤلاء، وقد كان للسلف رضوان الله عليهم جهد في ذلك، فهاهو زاذان أبو عمر الكندي الضرير أحد العلماء الكبار ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم روى عن عمر وعلي وغيره من الصحابة وكان ثقة صادقاً روى جماعة أحاديث، قال ابن عدي: تاب على يد ابن مسعود، قال حاكياً عن توبته رحمه الله: كنت غلاماً حسن الصوت جيد الضرب بالطنبور فكنت مع صاحب لي وعندنا نبيذ وأنا أغنيهم فمر ابن مسعود فدخل فضرب الباطية فبددها وكسر الطنبور ثم قال: لو كان ما يسمع من حسن صوتك يا غلام بالقرآن كنت أنت أنت، ثم مضى، فقلت لأصحابي: من هذا؟ قالوا: هذا ابن مسعود.
فألقى في نفسي التوبة، فسعيت أبكي وأخذت بثوبه فأقبل علي فاعتنقني وبكى وقال: مرحباً بمن أحبه الله، اجلس ثم دخل وأخرج لي تمراً، قال زبيد: رأيت زاذان يصلي كأنه جذع.
وكان أحدهم قاطع طريق يشغل الناس بالنهب والسلب، وكان بطلاً شجاعاً يقول لمن سيتولون دفنه: وخطّا بأطراف الأسنة مضجعي وردا على عيني فضل ردائيا خذاني فجراني ببردي إليكما فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا وقد كنت عطافاً إذا الخيل أقبلت سريعاً إلى الهيجا إلى من دعانيا ولا تحسداني بارك الله فيكما من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا وبينما هو في غيه وعدوانه لقيه أحد قادة المسلمين فدعاه إلى التوبة وأن يصحبه إلى الجهاد فأعلن الرجل توبته وسار إلى الجهاد ولدغ في الطريق وقال مرثيته البليغة وفيها: ألم ترني بعت الضلالة بالهدى وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا إنه مالك بن الريب رحمه الله وتقبله في الشهداء.
إن أولئك الذين يسعون إلى تحويل طائفة من أئمة الطيش والسفه وممن أقلقوا البلاد والعباد إلى جند للرحمن وهداة لطريق الإيمان سيقدمون خيراً للمسلمين ويكفون عنهم شراً مستطيراً.
إنها جهود تقود الأمة إلى الخير وتلحقهم بقافلته قبل أن يهووا إلى الحضيض.(38/18)
بناء الرجال وتربيتهم معرفياً وعملياً
ومن ذلك بناء الرجال وتربيتهم جدير بمن يرعى الشباب ويربيهم أن يعنى ببناء سمات الرجولة وأن لا يقتصر الأمر على خطاب الوجدان وحده، إن جيل الصحوة اليوم جدير به أن يكون قدوة للناس، وأن يتسم بما يتسم به الرجال الأكارم، وأن يثبت للمجتمع أنه أهل لأن يعتمد عليه وتعلق عليه الآمال بعد الله، وبناء الرجال المنتظر من المربين يبدو على مستويين: الأول: المستوى المعرفي من خلال إبراز مفاهيم الرجولة وتقديمها نموذجاً للجيل يسعى إليها ويتطلع لها ويسير إلى تحقيقها في نفسه وتحقيقها في دنيا الناس، ومن خلال تصحيح النظرة الخاطئة والمفاهيم السلبية عن الرجولة.
الشباب لديهم حاجة يسعون إلى تلبيتها لديهم حاجة يريدون أن يصبحوا رجالاً يريدون أن يعدهم الناس رجالاً، إن هذه الحاجة قد تلتبس لديهم بمفاهيم خاطئة فيعتقدون أن سبيل تحقيق الرجولة هو في تصلبهم في مواقفهم هو في وقوفهم ضد من يصفونه بأنه سلطة غاشمة من أب أو أم أو معلم أو أستاذ إن تصحيح هذه المفاهيم وفتح آفاق للرجولة الحقة مما يعين على بناء الرجولة عند هؤلاء.
وهي أيضاً تحتاج أن تبنى على مستوىً عملي يتمثل في بناء سمات الرجولة وتحقيقها في النفوس واستثمار كافة الوسائل والميادين التربوية وتحقيق ذلك، وهذا الأمر يتطلب من المربين وبناة الرجال أن يسعوا إلى إعطاء الشباب الثقة بأنفسهم إن الشباب الذين يشعرون أنهم ليسوا أهلاً للثقة الذين لا يولون المسئوليات الذين يشعرون أن المجتمع ومن حولهم لا يزال يعدهم أطفالاً فيسعون إلى إثبات رجولتهم، ومن حقهم أن يسعوا إلى إثبات رجولتهم، لكنهم حين يسعون في غياب توجيه أولئك الذين شعروا أنهم لا يثقون بهم فسوق يضلون الطريق ويسعون إلى إفساده بوسائل تقصيهم عن الرجولة وتبعدهم عنها.
إن الشباب بحاجة إلى أن تفتح لهم المجالات العملية والميادين التي يعملون من خلالها التي ينتجون من خلالها التي يتحولون من خلالها يتحولون من أن يكونوا قوة مزعجة للآخرين أن يكونوا أمة مثيرة للقلق والخوف إلى أمة منتجة أمة تسر آباءهم وتسر أمهاتهم وتسر المجتمع، نعم، إن من واجب المصلحين وبناة الرجولة أن يفتحوا المجالات العملية فالرجولة لا يمكن أن تبنى من خلال التوجيه والحديث، ولا يمكن أن تبنى من خلال اللوم والتأنيب، ولا يمكن أن تبنى من خلال خطوات نعدها أمام الناس ونقول لهم: هذه هي خطوات الرجولة فعليكم أن تسلكوها إنهم بحاجة إلى ثقة داخلية بحاجة إلى أن يشعروا أنهم أهل للثقة بحاجة إلى أن يشعروا أن المجتمع يعدهم رجالاً يعدهم حقاً وليس في مقام المخاصمة إننا حين نخاصم الشباب نحدثهم بأنهم رجال، لا نحدثهم شهادة وتزكية وثناءً إنما نحدثهم لوماً لهم على موقف خالفناهم فيه، وهذا لا يكفي في إشعارهم بالثقة ولا يعطيهم الثقة، إنهم بحاجة إلى ذاك الحديث الذي ينبع ابتداءً دون أي مؤثر آخر الذي يشعرون أنه يقال لهم دون أي دافع يقال لهم دون تمهيد للمطالبة بمطالب لم يلتزموا بها فيشهر في وجههم سلاح الرجولة، وهم بحاجة إلى أن تفتح لهم مجالات عملية في الأسرة في المنزل في المدرسة في المجتمع هنا وهناك، مجالات تدعوهم إلى أن يثبتوا رجولتهم مجالات تحولهم إلى أمة عاملة منتجة.
أيها الرجال الكرام! أيها الشباب! كما قلت في بداية حديثي: لست أتحدث في هذا المقام المبارك مع الرجال لأطالبهم بأن يكونوا رجالاً وحاشا لله، ولست أذكر الرجال بسمات الرجولة ومعالم الرجولة لأعيبهم لأنهم لم يتمثلوها، إنما هو حديث أملاه هذا الواقع الذي نعيشه اليوم والذي غابت فيه كثير من معاني الرجولة فصرنا بحاجة إلى أن نحدث عنها لنسعى إلى تحقيقها في ديننا ولدى أبنائنا.
أسال الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأن يجعلنا وإياكم من الرجال الذين يحبون أن يتطهروا والرجال الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار.
فأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(38/19)
الأسئلة(38/20)
نصيحة لمن يتشبهون بالنساء
السؤال
كما هو ملاحظ اليوم انتشار ظاهرة التشبه بالنساء عند شبابنا من حيث المظهر والملبس وأسلوب الكلام، فما نصيحتكم لهم؟
الجواب
هذا نوع من غياب الرجولة فالرجل يعتز برجولته، وحين يتشبه بالنساء فإنه يهين نفسه وينقص رجولته، ثم هو يعرض نفسه للعنة الرسول صلى الله عليه وسلم فقد لعن المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال.(38/21)
الرجولة والشجاعة
السؤال
يظن بعض الناس أن الرجولة هي الشجاعة، فهل هذا مفهوم صحيح؟
الجواب
نعم، الشجاعة هي ميدان من ميادين الرجولة، وتحدثنا عن ذلك، لكن الإسلام كما قلنا هذب الشجاعة وجعلها في ميدان الحق، فالرجل يقاتل حمية والرجل يقاتل شجاعة ليس في سبيل الله، إنما الذي يكون شهيداً في سبيل الله هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، والشجاعة هي في مواقف الحق التي تتطلب ذلك.(38/22)
الجهل بالعادات القبلية وأثره على الرجولة
السؤال
يعتقد كثير من الناس أن من أهم صفات الرجولة المعرفة بما يسمى سلوم الرجل، فهل إذا كان الإنسان جاهلاً بها تنقص رجولته أو تنعدم؟
الجواب
كثير من أهل القبائل البدوية وغيرهم يقدسون هذه العادات ويعظمونها وكأن الخلل بها كبيرة من الكبائر ومن الموبقات، لأن هناك عادات لها قيمة ووزن مثل إكرام الضيف والوفاء وغيره، لكن هناك أمور اعتادها الناس لا تعدو أن تكون أمراً عادياً لا قيمة له، وعدم مخالفة الإنسان لها ما لم تكن معصية أمر محمود لكن جهله بها لن يضيره، بل جهله بأحكام الدين والخلل به أشد عليه خطراً في دينه ودنياه من جهله بهذه العادات.(38/23)
منع الأهل من التسوق والملاهي
السؤال
هل إذا منعت أهلي ورفضت الذهاب معهم إلى الأسواق والمنتزهات والملاهي المختلطة أصبح ممن يتصنع الرجولة، ما هو توجيهكم؟
الجواب
الرجل يمنع أهله عن الذهاب إلى ما حرم الله عز وجل أو عن الوقوع في الحرام، فإذا فعل ذلك استجابة لأمر الله عز وجل فلا شك أن هذا امتثال أمر الله عز وجل وهو من تمام الرجولة.(38/24)
ترجل النساء
السؤال
يقول: ما تقول في أشباه الرجال والذين ترجلت نساؤهم؟
الجواب
هذا من هوان الرجال وضعفهم، وأنت اليوم ترى في واقعنا عجباً ترى فئات من الرجال كأنهم قد غدوا أشباه الرجال كما قال الشاعر.(38/25)
كيفية اكتساب قوة الشخصية
السؤال
من صفات الرجل قوة الشخصية في الحق، فكيف تضعف الشخصية وخاصة ذلك الذي يدخل في دائرة الرجال بعد مجال الطفولة، كيف يقوي شخصيته بالطريقة الصحيحة والبعيدة عن الصلف والتعدي والتهور؟
الجواب
بيئتنا لا تربي الرجال بطريقة صحيحة؛ بيئتنا في المنزل وفي المدرسة للأسف تقضي على الكثير من سمات الرجولة فالشاب يهان وتهان كرامته ولا يشعر بكرامة ومنزلة ودوماً يعاتب ويلام على الخطأ وعلى غير الخطأ، وفي ظل هذه التربية القاسية أو التربية التي لا تقيم له قدراً لن يخرج لنا رجال يبنون الأمة ويقودونها.(38/26)
التدخين والرجولة
السؤال
ما نصيحتك للمدخن ويظن ذلك من الرجولة؟
الجواب
بعض الشباب يعتقد أن التدخين ينقله إلى عالم الرجال، والواقع أنه ينقله على عالم الحمقى والجهلة.(38/27)
الإصرار على الخطأ
السؤال
قلتم: من الرجولة تراجع المرء عن الخطأ، فما رأيكم في بعض المربين والمشرفين والموجهين الذين يخطئون في عمل أو قول أمام التلاميذ، ثم إذا شعر بخطئه لم يعتذر، وإذا أشهر من قبل أحد تلاميذه يصر على فعله أو قوله خشية من سقوطه في أعين تلاميذه، أليس النبي صلى الله عليه وسلم استمع إلى قول حباب بن المنذر في بدر إلى غير ذلك، أليس في هذه الطريقة تربية الجيل على الإصرار على الخطأ أليس في ذلك تربية الجيل على الخوف والوجل من إنكار المنكر وتصحيح الخطأ، فهل لنا بتوجيه منكم لهؤلاء المربين حفظهم الله.
الجواب
أولاً: الناس ليسوا حمقى وليسوا مغفلين الناس يدركون أنك أخطأت، فإذا وقعت في الخطأ فسيدركون أنك وقعت في الخطأ، والدليل على ذلك أنهم قد نبهوك، وحين تصر على الباطل وعدم الرجوع عن الخطأ فغاية ما تقرره عند الناس أنك إنسان مشاكس فتسقط قيمتك لديهم.
ثانياً: أنت مرب فأولى بك أن تربي على الرجوع إلى الحق وعلى الرجوع عن الباطل، ومن الطبيعي أن يتحدث الإنسان فيقع في الخطأ، قد يسبق لسانه قد يخطئ في نص قد يزل في كلمة لم يحسب لها حساباً فيقع في هذا الخطأ، ورجوعه حينئذ لا ينقصه بل يزيده قيمة ومنزلة.(38/28)
الجمع بين الرجولة واللين مع الأهل
السؤال
كيف يكون الرجل قواماً في بيته ذا شخصية قوية ومطيعاً لأهل بيته ويداعب أولاده؟
الجواب
يكون قواماً في بيته؛ لأن يكون هو صاحب القرار وصاحب الأمر أن يكون مطاعاً إذا أمر بأمر، وأن يأمرهم بما يرضي الله وينهاهم عما يسخط الله عز وجل، وينهاهم عما يكون فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم، ومع ذلك فهو يجالسهم ويداعبهم ويفرحون بقدومه، والرجل الذي يفر أطفاله وينزوون حين يقدم إلى البيت وحش وليس رجلاً، الرجل هو الذي يستبشر أطفاله وأهله بقدومه إلى المنزل.(38/29)
دور النساء في بناء الرجولة
السؤال
هل لمن أتت معي إلى هذا المسجد المبارك كلمة توجيهية لكي يكون لها حظ ونصيب من هذه المحاضرة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
المرأة هي بانية الرجال وهي أم الرجال وأعتقد أن الحديث لا يعني الرجال وحدهم، بل ويعنيها فهي أم الرجال، ونحن بحاجة إلى أن تسهم نساؤنا في تربية الرجال.(38/30)
خطاب الكفار في القرآن بالرجولة
السؤال
لم يرد في الكتاب والسنة مناداة أو خطاب فيه رجولة أو كلمة رجل تجاه المشركين والكفار، هل معنى ذلك ألا ننادي الكفار من النصارى وغيرهم برجل؟
الجواب
بلى يا أخي! أنا قرأت آيات في كتاب الله عز وجل، قال الله عز وجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} [الكهف:32] ثم ذكر حال الرجل الكافر، وقال تعالى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف:31] وغيرها من الآيات، والرجولة لها إطلاقان: إطلاق عام في أصل اللغة وهو خلاف المرأة، والإطلاق الآخر هو الوصف الأخص وهو الذي كان موضوع الحديث.(38/31)
وضع الأمة
السؤال
إن وضع الأمة الإسلامية وضع يرثى له، ومن أهم أسباب هذا الوضع عندما تشبع رجال الأمة الإسلامية بأهل الغرب، ما تعليقك؟
الجواب
وضع الأمة كما قال الأخ وضع يرثى له، وهذا سبب من الأسباب وليس كل الأسباب.(38/32)
كيفية بر الوالدين وعدم مغاضبتهما
السؤال
أنا كنت لا أطيع والدي ولكني عندما ابتعد عنه أعاهد نفسي على البر بهما، ولكن أرجو منكم أن تدلوني على الطريق الصحيح، والدعاء لي بالهداية والمسلمين جزاكم الله خيراً.
الجواب
من خلال تجربتي بما يرد علي من أسئلة كثيرة من الشباب أن أكثر ما يقع فيه الشاب من خطأ مع والديه حينما يغضب، والموقف الثاني حينما يكون له حاجة يصر عليها ويريدها ولا تتفق رغبته فيها مع رغبة والديه، والأمر يحتاج إلى ترويض وتعويد أن يعود نفسه إذا غضب أن يهدأ أن يعود نفسه إذا غضب أن لا يتكلم ويتفوه أمام الآخرين إذا كان أمام أمه أو أمام والده فغضب أن ينصرف عنهما حتى لا يقول كلمة تسخطهما، وبعد ذلك يهدأ غضبه ويعود نفسه، ومن الطبيعي أن الشاب يكون أكثر حدة وأكثر انفعالاً وأن يغضب أسرع من غيره من الرجال، وأن يكون غضبه أشد، لكنه حينما يعود نفسه على الهدوء يكتفي بالحلم، والحلم بالتحلم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.(38/33)
مشكلة في الرجولة بين الأمهات والأولاد
السؤال
شباب بلغوا منزلة الرجولة ولكنهم ما زالوا صغاراً في نظر أمهاتهم، فما الحل لهذه المشكلة؟
الجواب
نحن الذين نربي أولادنا، ونحن الذين نجعلهم رجالاً، وكثير من الآباء والأمهات لديهم حرص على أن يكون أولادهم رجالاً، لكنهم قد يخطئون الطريق، فقد يسطون عليهم قد يهملونهم قد تكون المطالبة بالرجولة هي ردة فعل لمواقف.
وحتى نبني الرجولة عند أولادنا فإنهم يحتاجون إلى أن يشعروا أنا نثق بهم أننا نقدرهم أن نوليهم المسئوليات أن نتجاوز عن الهفوات اليسيرة أن لا يشعروا أننا في صف وهم في صف آخر ومن خلال التربية يمكن أن نعدهم رجالاً.
ونحن نلحظ أن أبناء بعض القبائل الذين يعيشون في البادية يملكون من صفات الرجال ما يملكه غيرهم بغض النظر عن أن لا يكون لديهم نقص في الديانة لكنك تراهم أكثر رجولة من غيرهم، لأنهم نشئوا في بيئة تنشئهم على الرجولة.(38/34)
العزة والرجولة
السؤال
ثمة تصرفات يراها أصحابها رجولة أو عزة وشهامة كأن يخطئ شخص على آخر فيكتم الآخر ذلك في نفسه وإذا قلت له: كلم ذلك الشخص قال: لا، أتريدني أن أهين نفسي إني لم أعد طفلاً إني عزيز عن نفسي
الجواب
العزة هي أن ينتصر الإنسان على نفسه، والله عز وجل يقول: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34 - 35].
أكتفي بهذا القدر من الأسئلة، وأسأل الله عز وجل أن يثيب الإخوة على حضورهم(38/35)
الباحثات عن السراب
الحضارة الغربية قامت بغزو المسلمين في عقر دارهم في مجالات عدة، ومن أخطرها الغزو الفكري الذي تأثر به كثير من أبناء المسلمين وصاروا يتابعون الكفار عليه، ومن ذلك خلع كثير من بناتهم للحجاب والخروج سافرات متبرجات، وإذا أردنا العودة للحجاب فعلينا أن نبين الشبهات الملقاة حوله فنرد عليها ونبين أضرار التبرج والسفور.(39/1)
سؤال يفرض نفسه حول السفور ودوافعه
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته واقتدى بهديه إلى يوم الدين، أما بعد: فأسأل الله تبارك وتعالى أن يكون هذا اللقاء لقاءً طيباً مباركاً، وأن يكون هذا المجلس في موازين حسناتنا يوم نلقاه، وأن يثيب كل من كان سبباً في إقامة مثل هذا المجلس المبارك.
حديثنا أيها الإخوة والأخوات كما سمعتم عن الباحثات عن السراب: حين يتيه المرء في الظهيرة وسط الصحراء يتبدى له أثر ضوء الشمس على أنه ماء زلال، وكلما اقترب منه ابتعد هذا الماء، وهكذا يجري وراءه يريد إدراكه فيكون أسرع منه، إنه السراب الذي يتبدى للإنسان بصورة يحبها، وحين يبلغه يجده هباء لا حقيقة له.
حين نتأمل واقع الناس اليوم نرى عجباً، نرى الرجل يختار اللباس الواسع والساتر لجسده، بينما تسعى المرأة لاختيار لباس من نوع آخر.
والسؤال الذي يفرض نفسه: هل هذا السفور يرتبط بدافع وعامل موضوعي أم هو وضع اجتماعي تسايره المرأة؟ هل الأصل في المرأة أن تكون سافرة مبدية لمفاتنها، أم الأصل أن تكون محجبة مستترة؟ لماذا لا تسير المرأة على سجيتها وطبيعتها؟ بل لماذا تتسابق الأزياء الحديثة في مقدار ما تبديه من مفاتن المرأة وجسدها؟ بل على حساب انطلاقها في سيرها وصحتها؛ فكثير من الملابس الضيقة التي ترتديها النساء لها آثارها الصحية التي لا تخفى، أليست صورة من الرغبة في استثارة الآخرين؟ كانت الفتاة في بلاد المشرق مستترة محتشمة، وما أن جاء المستعمر إلى بلاد المسلمين بنفسه وبعد ذلك بإعلامه، حتى سارت الفتاة في طريق نساء الغرب، وصرت حين تلقاهن في الأماكن العامة لا تفرق بينهن وفتيات الغرب إلا بلون البشرة، فما الذي يدعو الفتاة المسلمة للسفور؟ وما الذي يمنعها من الحجاب؟ في هذا اللقاء المبارك بإذن الله سأسعى للإجابة على هذا السؤال، وأملي من أختي الكريمة الإنصات والمتابعة، والله قد جعل لها عقلاً تميز به ما تسمع وما تقرأ، فإن رأت خيراً قبلته، وإن رأت غير ذلك فلن يملي أحد على أحد اقتناعاته.
إن حديثنا أيها الإخوة والأخوات حديث لتلك الفتاة التي اختارت طريق التبرج والسفور، ورفضت أن تلتزم بهذا الحجاب، وهو حديث أيضاً لتلك الفتاة التي أخذت الحجاب صورة، فارتدت حجاباً تعتقد أن فيه استجابة لأمر الله، بينما هو يبدي مفاتنها فصارت أقرب ما تكون إلى وصف النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (صنفان من أمتي لم أرهما قط: نساء كاسيات عاريات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها) ارتدت في ظاهرها الحجاب لكن تفننت في إبراز مفاتن جسمها ما بين لباس ضيق، وما بين أجزاء تبديها من هنا وهناك، فغاب المعنى الذي شرع من أجله هذا الحجاب.
وهو أيضاً خطاب للفتاة الصالحة المتدينة التي تنطلق داعية لأخواتها، فهي بحاجة إلى أن تعي ما يفكر به هؤلاء، فالفتاة الصالحة رسولة خير إلى أخواتها، إنها حين تعي واقع هؤلاء النسوة فإنها ستكون أقدر على دعوتهن والتأثير عليهن.
وهو خطاب للآباء والمصلحين حتى يعوا هذه الظاهرة المؤلمة في مجتمعات المسلمين.(39/2)
شبهات دعاوى ترك الحجاب والرد عليها(39/3)
الحجاب ينافي الأناقة
إن من أول ما تحتج به الفتاة المتمردة على الحجاب أن الحجاب خلاف الأناقة، يميل الناس بطبيعتهم إلى حب الجمال والأناقة، وليس من عيب في الإنسان أن يسعى لأن يكون أنيقاً جميلاً، لكن هل الأناقة أمر موضوعي يتفق عليه الناس أجمع أم هو أمر نسبي، فما يعده الهنود أناقة قد لا يتقبله الأفارقة، وما يعجب أهل الصين قد لا يعجب أهل المشرق؟ إنني اليوم أتحدث أمامكم باللباس الذي يلبسه أهل بلادي وهو الذي اعتاده الناس وأحبوه، بينما الأناقة عند غيرهم من بلاد المسلمين تعني نوعاً آخر من اللباس، فلم يكون السفور أقرب إلى الأناقة من الحجاب؟ ودعونا نثير سؤالاً جريئاً مهماً: ماذا يريد الرجال من المرأة؟ ما الذي يثيرهم إلى أن يطلقوا نظراتهم نحوها يميناً وشمالاً؟ وحين تعمل المرأة فما المكان المفضل لعملها؟ لننظر إلى واقع الغرب الذي بلغ القمة في المساواة الشكلية بين الرجل والمرأة: كم امرأة مديرة لجامعة؟ كم امرأة وزيرة؟ كم امرأة تشغل منصباً دستورياً؟ كم امرأة تحكم ولاية؟ أين هي من هذه الوظائف؟ إننا حين نتأمل في المواطن التي توضع فيها المرأة نرى أنها توضع حيث تكون أكثر إثارة للآخرين، إنها تعمل في الاستقبال في الفنادق والأماكن العامة، في السكرتارية، في المرافق إلى غير ذلك.
إن المرأة العاقلة أياً كان دينها وخلقها تأبى أن تكون مجرد وسيلة لإثارة الآخرين وإغرائهم، وما معنى اختيار الحسناء في هذه المواطن إذا كان الباعث هو العمل وتوظيف هذا العنصر.
عندما سئل مدير مكتب توظيف في نيويورك عن أهم العوامل التي يجب أن تتوافر لدى المرأة لتحصل على وظيفة قال: الجمال؛ ولهذا انتشرت عمليات التجميل، ففي بريطانيا تم إجراء خمس وتسعين ألف عملية تجميل عام 1998 للميلاد.
وفي عاصمة عربية قرأت إعلاناً وضع على واجهة أحد المحلات، هذا الإعلان يطلب فيه صاحب هذا المحل نساء حسناوات للعمل في المحل.
إذا كان المقصود هو العمل والقيام به فما معنى أن تكون هذه المرأة التي تعمل في هذا المحل التجاري حسناء؟ إنه يريد أن يوظف أناقة المرأة وحسنها لكسبه هو، في لقاء مع البريطانية المسلمة سارة جوزيف والتي تبلغ الرابعة والعشرين من العمر واعتنقت الإسلام قبل سنوات قالت: من ناحيتي كان قرار ارتداء الملابس الإسلامية ينبع من قناعة قوية؛ لأنني أعتقد أن جسم المرأة يساء استخدامه بصورة كبيرة في المجتمع البريطاني، فصور الفتيات شبه العاريات تنتشر في كل مكان، حتى أصبح جسم المرأة ملكية عامة لكل أفراد الجمهور، أنا أكره ذلك وأعترض عليه؛ لأنني أود أن يحكم الناس علي من خلال شخصيتي وليس من منطلق جسمي أو شكلي، وهكذا حررتني الملابس الإسلامية من أن أكون أسيرة منظري وشكلي الخارجي.(39/4)
الحجاب يعطل الحياة العامة
ثانياً: الحجاب يعطل الحياة العامة: يمثل انطلاق المرأة في ميادين الحياة العامة قضية محورية كثيراً ما تثار وتناط بها أمور قد لا تكون بالضرورة ذات علاقة بها، فالحجاب لدى طائفة من هؤلاء يعوق المرأة عن المشاركة بفاعلية، ويعطل مسيرتها، وما دمنا بحاجة إلى مشاركة فاعلة للمرأة فلا معنى لأن تصر على تمسكها بالحجاب.
ودعونا هاهنا نثير تساؤلاً له أهميته: ألا يمكن أن تمارس المرأة دورها الفاعل في الحياة وهي بحجابها؟ وحين يرتبط التخلي عن الحجاب بذلك في مجتمعات الغرب فلا يعني أن المسألة قد غدت محسومة في سائر المجتمعات.
ودعونا نلقي نظرة سريعة على واقع المرأة الغربية التي لم يعد يعوقها شيء، والتي وصلت إلى كل شيء، كيف كان واقعها حين مارست الحياة العامة كما يمارسها الرجال: أن واقع المرأة العاملة في الغرب واقع يبعث على المأساة، فمن أول مظاهر ذلك التمييز، فلا يزال الغرب الذي يناضل دوماً عن حقوق الإنسان وعن حقوق المرأة والذي يعتبر انتهاك أي بلد من بلاد المسلمين لحقوق المرأة موجباً لعقوبات اقتصادية، بل موجباً لحرب قد تشن على تلك البلاد لإنقاذ هذه المرأة المظلومة؛ لا يزال الغرب في مجتمعاته غير قادر على حسم مسألة التمييز ضد المرأة.
تقول إحدى الغربيات وهي إيفان: ظل التمييز بين الرجل والمرأة هو سمة المجتمع الأمريكي حتى مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، ومن أكثر المظاهر التي تنتشر في تلك المجتمعات التحرش الجنسي في أماكن العمل، دلت إحدى الدراسات على أن (90%) من الفتيات في أمريكا عانين من التحرش الجنسي.
وتقول لين فارلي مؤلفة كتاب الابتزاز الجنسي الذي طبع عام (1978م) -أي: كان هذا الكتاب قبل ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً:- إن الاعتداءات الجنسية بأشكالها المختلفة منتشرة انتشاراً ذريعاً في الولايات المتحدة وأوروبا، وهي القاعدة وليست الاستثناء بالنسبة للمرأة العاملة في أي نوع من الأعمال تمارسه مع الرجال.
ويقول مكتب المرأة في لجنة الحقوق المدنية للولايات المتحدة: إن هذا الابتزاز الجنسي للمرأة العاملة واسع الانتشار جداً ويشكل مشكلة عويصة الحل.
وقامت إدارة الخدمة المدنية في اليابان بتوزيع ستين ألف كتيب على موظفي الحكومة في محاولة للحد من حوادث التحرش الجنسي داخل المكاتب الحكومية.
وتقول لين فارلي مؤلفة كتاب الابتزاز الجنسي الذي سبقت الإشارة إليه، تقول متحدثة عن الانتشار الذريع لهذا الابتزاز وأنه تحول إلى قاعدة وليس حالة شاذة: وكشف مسح استطلاعي أعدته وزارة الداخلية البريطانية أن (80%) من ضابطات الشرطة أي بنسبة (4/ 5) يتعرضن للمضايقة الجنسية خلال نوبات العمل الرسمية، وشارك في الاستطلاع (1800) ضابطة في عشر مديريات أمن في إنجلترا وويلز.
وقالت منظمة العمل الدولية: إن النساء العاملات في مختلف دول العالم الصناعي يعانين من مضايقات تجبر كثيرات منهن على ترك وظائفهن، وحذر التقرير أرباب العمل من أن عدم معالجة هذه المشكلة يمكن أن يؤثر على الأداء الاقتصادي لشركاتهم وأن يكون سبباً لفقد موظفات أكفاء ولتكاليف إضافية بسبب عمليات التقاضي.
وأظهر التقرير أن (84%) من النساء العاملات في أسبانيا و (74%) في بريطانيا يبلغن عن تعرضهن لمضايقات، وأشار هانس في تعليق على التقرير إلى أن الأرقام الحقيقية للمشكلة أعلى من ذلك بكثير؛ لأن نسبة غير قليلة من الحالات لم يتم الإبلاغ عنها، ويرجع السبب في ذلك في الأغلب إلى أن النساء اللاتي تعرضن لها خشين من العواقب.
وحين تتعرض المرأة العاملة للابتزاز الجنسي فلا خيار لها إلا أن تتجاهل قيمتها الأخلاقية وعفتها؛ لأن أي عاهرة تستطيع أن تحتل مكانها بسهولة إذا هي رفضت الانصياع لرغبات رئيسها الجنسية.
هذا أيها الإخوة والأخوات ما جنته المرأة حين خرجت للحياة العامة، فماذا حققت من وراء ذلك، إنه طريق موحش مظلم تقابله المرأة المسلمة، تقاد وقد تستجيب أحياناً فتلهث وراء السراب تريد أن تذوق طعم السعادة التي ترى أن المرأة الغربية قد نالتها، ويخفى عليها أنها هناك تعاني من ابتزاز وتعاني اقتيادها إلى مذابح الفضيلة والعفاف لتروي نزوات طائشة لمن لا يرون فيها إلا أنها وسيلة لإشباع نهمهم نحو الشهوات.
أيها الأخوات! أيها الإخوة الكرام! هذا هو واقع تلك المرأة التي ترى أن العفاف وأن الحجاب يعطل الحياة العامة، هل نريد أن تقاد مجتمعات المسلمين، وأن تقاد فتيات المسلمين لأن تعيش هذا الواقع الذي تعيشه تلك البلاد التي تقتدي كثير من فتياتنا اليوم بواقع نسائهم؟(39/5)
الحياء وسخرية الآخرين
رابعاً: الحياء وسخرية الآخرين: من الذي يلوم الناس حين يستحون؟ أليس الحياء دلالة توقير وتقدير للآخرين؟ أليس الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب ما لا يليق؟ يستحي الإنسان أن يخالف الآخرين ويبدو أمامهم بمظهر يدفعهم للسخرية منه ويستحي أن يفعل أمامهم ما يكون منقصة في حقه، والحياء خلق ممدوح وفضيلة سامية، ومن هنا أكد عليه سيد الناس وأحسنهم خلقاً وعده شعبة من الإيمان، وحين رأى رجلاً يعظ أخاه في الحياء قال: (دعه فإن الحياء من الإيمان).
والحياء خصلة فطرية في المرأة، بل هي مضرب المثل في الحياء، وقديماً وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (أشد حياء من العذراء في خدرها)، لذا فحين جاء الإسلام وحفظ للمرأة حقها ومكانتها كان من أهم ما قرره أن لا تتزوج الفتاة دون إذنها، لكن لما كان الحياء قد يعوق الفتاة عن إبداء موافقتها على الزوج المتقدم لها فقد جعل صمت البكر دليل قبولها بالزوج بخلاف الثيب، فقال صلى الله عليه وسلم: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها)، لكن انتشار التساهل في الحجاب في مجتمعات المسلمين قلب الصورة لدى بعض الفتيات فصرنا نرى طائفة منهن يمنعهن الحياء عن ارتداء اللباس الشرعي، فهي تخشى أن تبدو بصورة غير لائقة، وتستحي من أن تلتزم باللباس الشرعي الساتر، إنها الصورة المنكوسة، فالحياء يدعو إلى الستر والعفاف، والحياء يدعو إلى البعد عن التبرج وإظهار المفاتن، ولئن دعا الفتاة حياؤها من الناس أن تجنح للتبرج والسفور أفلا يدعوها حياؤها من الخالق البارئ الذي يراها أينما حلت وارتحلت ويعلم نواياها وطويتها إلى التزام أمره عز وجل؟ أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالحياء فقال: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء.
فتساءلوا مخبرين أنهم يستحون فقال صلى الله عليه وسلم مفسراً حقيقة الحياء: من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).(39/6)
الثقافة والتعليم
خامساً: الثقافة والتعليم: لم تعد الفتاة اليوم هي ابنة القرية التي لا تقرأ ولا تكتب، فقد تعلمت وخاضت ميادين الحياة العلمية فحازت أعلى الشهادات والدرجات، وحين عاشت فتاة الإسلام داخل أروقة الجامعة، ورأت ما فيها من اختلاط وسفور، ورأت في المقابل أن الستر والحياء ارتبط بجدتها وأمها شعرت حينها أن الفتاة المتعلمة لا ينبغي لها أن تلبس هذا اللباس الذي لا يليق إلا بالقروية الجاهلة.
ما العلاقة بين التعليم والسفور؟ هل التعليم يدعو إلى الفضيلة والعفة أم يدعو إلى التهتك والسفور؟ هذه كاتبة من إحدى بلاد المسلمين سخرت نفسها للنضال فيما تسميه معركة تحرير المرأة، الدكتورة نوال السعداوي ألفت كتاباً عنوانه: الله مات في النيل.
تعالى الله عما تقول! وأين طبع؟ طبع في تل أبيب، ومما قالته هذه الكاتبة: إن فكرة الحجاب نشأت في التاريخ البدائي القديم لأسباب صحية وقائية، ثم اكتسبت على يد اليهود صفة دينية، لم يكن بوسع النساء في المجتمع الصحراوي الشحيح بالماء أن يجدن وسائل النظافة الكافية، خاصة في فترات الطمث والولادة؛ ولهذا تقرر عزل المرأة فيما يشبه الحجر الصحي خلال أيام الولادة والطمث، لكن فكرة عزل المرأة اتخذت شكلاً دينياً وتطورت من عزل المرأة إلى فرض الحجاب عليها، واتخذ هذا الحجاب شكل تغطية رأس المرأة، مع أن الرأس ليس عورة وليس عضواً جنسياً! وتقول: أنا أرى أن الفتاة التي تتغطى مثل الفتاة التي تتعرى، ومثل الفتاة في أوروبا وأمريكا التي ترتدي الميني جيب.
التعرية والتغطية واحدة، لماذا؟ لأنها تقول: أن المرأة جسد، وتقول: فالوجه هو الإنسان ومن تغطي وجهها ليست بإنسانة.
ردت عليها الكاتبة سهيلة زين العابدين حماد رئيسة ومنشئة مدارس تحفيظ القرآن الكريم في المدينة النبوية، وعضو رابطة الأدب الإسلامي وعضو اتحاد المؤرخين العرب، فقالت لها: بأي حق تلغي إنسانية المرأة التي تغطي وجهها، إن محدثتك تغطي وجهها؛ لأنها إنسانة كرمها الله بأن شاء لها أن تولد وتعيش وتتعلم في مهبط الوحي ودار الهجرة، وتنتمي إلى هذا المجتمع المسلم الذي يحترم إنسانية المرأة ويصونها فحجب وجهها عن أعين الرجال ولكنه لم يحجب عقلها ويقيد فكرها، إذ فتح لها أبواب العلم والمعرفة على مصراعيها، ونالت منها ما أهلها بأن تكون رئيسة لمدارس تحفيظ القرآن الكريم في المدينة المنورة، وعضواً في رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وعضواً في اتحاد المؤرخين العرب، ودرست مؤلفاتها في الجامعات، وتعتمد بحوثها في أطروحات الماجستير والدكتوراه، وتوزع مؤلفاتها في الوطن العربي، وتنشر مقالاتها وبحوثها في مختلف الصحف والمجلات، ومع ذلك لم يرها أجنبي قط، وهاهي تقف أمامك لترد على أقاويلك، وتحاجك بالعلم الذي تتمنطقين به، وتتجرئين على خالقك باسمه.
وتمضي قائلة: وإن كان مرجعك مؤلفات فرويد وماركس اليهودي وإنجلز وجان بول سارتر وكنزي وفاسترز وجونسون وكاري هوم لي وسيرتي وغيرهم من أصحاب مدرسة التحليل النفسي الفرويدي؛ فإن المرجع الأول لمحدثتك هو كتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان أساتذتك فرويد وماركس فإن المعلم الأول لمحدثك هو محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدون، ثم بقية الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، فلتكن المواجهة إذاً بين ابنة الحجاب التي تغطي وجهها وتؤمن بتشريع خالقها وبين ابنة السفور التي تتجرأ على خالقها وتعترض على تشريعاته وتقول: إنها لا تصلح للعصر.
إن كاتبة هذه المقالة ليست قروية جاهلة، بل هي متعلمة من أرقى الكاتبات والمتعلمات، ومع ذلك لم يكن هذا التعليم والترقي عائقاً لها عن ارتداء الحجاب.
دخلت فتاة في أمريكا في أحد الأسواق، وإذا بها ترى امرأة متحجبة حجاباً كاملاً فأرادت أن تسخر منها وتزدري تمسكها بالحجاب في بلاد الحرية، فماذا فعلت؟ قالت هذه الفتاة بلهجة متهكمة: حجاب هاهنا! دعينا من هذا التخلف.
فالتفتت إليها هذه المرأة المتحجبة ولم ترد عليها، فكررت هذه الفتاة سخريتها ولم تجبها تلك بشيء إلا أنها قالت باللغة الإنجليزية: عفواً لا أعرف اللغة التي تتكلمين بها! أنا أمريكية، فضحكت هذه الفتاة وعجبت من لبسها الحجاب، فقالت تلك المرأة الأمريكية المسلمة بلهجة واثقة: اسمعي أنا أمريكية عشت العري والخلاعة أصالة، وأنا أعرف تماماً ماذا جلب لنا هذا العري من بلاء، ولكن أحمد الله أن هداني للإسلام، وشرع لي الحجاب، لقد صار لأجسادنا وذواتنا قيمة بعد أن كنا ألعوبة للغادين والرائحين، افهمي يا مسكينة هذا الكلام جيداً وانتبهي لنفسك ولا تكوني صورة سيئة عن مسلمات العرب، وانهالت عليها بالنصائح حتى ذهلت تلك الفتاة المتبرجة وبدأت تبكي وكانت صدمة لها لم تنسها لأيام.
قال قريبون منها: فلبثت أسبوعاً لا تخرج من دارها ثم رأيناها تخرج م(39/7)
الحضارة والمدنية
سادساً: الحضارة والمدنية: يرتبط السفور بالمدنية والتحضر والحجاب بالتخلف والبداوة لدى بعض فتيات المسلمين، ومن ثم فهي تتخلى عن الحجاب لتكون أكثر تحضراً، ودعونا نثير هذا السؤال مرة أخرى: ماذا جنى العالم المتحضر من السفور؟ تقول كاتبة إنجليزية وهي نس إنيرود: أنا ليس بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة، تنعم المرأة بأرغد عيش، تعمل كما يعمل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء، نعم، إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل لكثرة مخالطة الرجال.
انتشرت في تلك المجتمعات الخيانة الزوجية، ففي إحصاية في مطلع هذا القرن الهجري في أوروبا (75%) من المتزوجين يخونون زوجاتهم قبل الزواج، و (80 - 85%) لهم خليلات، انتشار الاختطاف رغم أن أبواب التمتع بالحرام متاحة لهؤلاء.
أعلن مركز الضحايا الوطني الذي يناصر حقوق ضحايا جرائم العنف أن معدل الاغتصاب في الولايات المتحدة أصبح (1.
300.
000) أي: (1/ 3) امرأة، وأضاف المركز أن واحدة من كل 8 بالغات في الولايات المتحدة تعرضت للاغتصاب ليكون إجمال من اغتصبن (12.
100.
000) على الأقل، ويشير المسح إلى أن (61%) من حالات الاغتصاب تمت لفتيات تقل أعمارهن عن (18) عاماً، وأن (29%) من كل حالات الاغتصاب تمت ضد أطفال تقل أعمارهم عن أحد عشر عاماً، وأظهرت الأرقام زيادة معدل الاغتصاب عن العام الذي سبقه بنسبة (59%)، وفي بريطانيا (9.
000) فتاة صغيرة لم يتجاوزن الخامسة عشرة حملن عام (1996 للميلاد).
انتشار الشذوذ، ممارسة الشذوذ بين الرجال وبين النساء هو لون آخر من ألوان ما جنته تلك الحضارة، انتشار إتيان المحارم، اعتداء الآباء على بناتهم، بل اعتداء بعض الأجداد على حفيداتهم، اعتداء الإخوة على أخواتهم، أرقام هائلة يضج منها ذلك العالم، هذا هو واقع تلك الحضارة، وهذا هو واقع تلك المدنية، فكيف بفتاة الإسلام تعتقد أن التخلي عن الحجاب هو مظهر من مظاهر الحضارة، وكيف بها ترى أن الحجاب والستر مظهر من مظاهر التخلف، فماذا جنى ذلك العالم المتحضر؟ الذي يبدو منطقياً أنه حينما ينتشر السفور والإباحية في أي مجتمع أن حالات الاغتصاب تقل وتتضاءل، لأن من يريد الفجور أمامه أبواب متاحة، والمفترض منطقياً أن تزيد حالات الاغتصاب وحالات الشذوذ في المجتمعات التي لا يتاح فيها الباب للمارسة الجنسية خارج إطار الزواج، لكن الواقع يشهد بخلاف ذلك، فهل فتاة الإسلام تجعل ذلك المجتمع الذي ترى منه صورة من صور الرقي، هل يسوغ أن تجعل ذلك المجتمع مرآة لها وترى أنها حين تلتزم الحجاب والستر والعفاف تنتمي إلى عصر التخلف والرجعية؟(39/8)
الزميلات والصديقات
المعوق السابع: الزميلات والصديقات: إن الصديق والصاحب له أثره على الإنسان؛ ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وأخبر صلى الله عليه وسلم: (أن المرء على دين خليله -قال:- فلينظر أحدكم من يخالل)، ويوم القيامة يحشر المرء مع من أحب، فإن أحب الصالحين حشر معهم ولو كان عمله دون عملهم، وإن أحب غيرهم حشر معهم.
الفتاة تختار صديقاتها ممن تلتقي بهن في الجامعة أو في حيها من أقاربها وتعيش معهن، وللصديقات تأثير بالغ على الفتاة، فحين تكون صديقات الفتاة من السافرات أو من المستهينات بالحجاب فإن هذا يمثل عائقاً لهذه الفتاة عن العودة إلى ما فرض الله عز وجل عليها من الستر والعفاف، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن حال تلك الصلة والعلاقة التي تبنى على خلاف طاعة الله تبارك وتعالى؛ يقول عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29].
إن هذا المرء سيتبرأ من خليله وصديقه يوم القيامة، فإذا كان يريد النجاة من هذا الموقف فليتخذ هذا القرار في دار الدنيا وإلا فسيبقى ديناً عليه يدفعه يوم القيامة في يوم لا تجدي فيه هذه البراءة، ولا يجديه فيه هذا التخلي، وإنما هو مظهر من مظاهر إبراز التحسر والتأسي.(39/9)
الشذوذ عن المجتمع
المعوق الثامن: الشذوذ عن المجتمع: حين يصبح السفور هو السمة السائدة في المجتمع، أو التساهل في شأن الحجاب هو القاعدة العامة وهو الظاهرة العامة، تشعر الفتاة أنها حين تلتزم بالحجاب تعيش شاذة عن هذا المجتمع الذي تعايشه، والشذوذ ليس بالضرورة صفة سلبية، بل هو حين يكون على خير وعلى حق هو دلالة على قوة الشخصية، ودلالة على أن الإنسان لا يستجيب لضغط المجتمع، ولا يستجيب لضغط الآخرين.
في كتاب الله تبارك وتعالى قص الله عز وجل علينا نبأ فتية لا يبلغ تعدادهم العشرة، عاشوا في مجتمع كان كل الناس فيه من أهل الشرك والضلال ودعوة غير الله عز وجل، ومع ذلك كان هؤلاء الفتية مؤمنين أتقياء صادقين؛ ذكر الله عز وجل قصتهم نبراساً للأمم من بعدهم إلى يوم القيامة، إن هؤلاء كانوا شاذين في عرف مجتمعاتهم.
بل هاهي امرأة طاغية من الطغاة وجبار من المتجبرين إنها امرأة فرعون الذي لم يعرف التاريخ رجلاً أكثر جبروتاً وتسلطاً منه، وأي جبروت أشد من أن يقول للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ثم يقول لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ومع ذلك آمنت بالله تبارك وتعالى، فضربها الله عز وجل مثلاً للمؤمنين والمؤمنات {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
كانت وحدها في بيت هذا الجبار الطاغية الظالم وذاقت ألوان العذاب والأسى، ومع ذلك بقيت مؤمنة صامدة متمسكة بما أمرها الله عز وجل به، فقضت نحبها وأراها الله تبارك وتعالى بيتها في الجنة قبل أن تلفظ روحها، وبقيت مثلاً يتأسى به المؤمنون والمؤمنات إلى قيام الساعة.(39/10)
سلوك المحجبات وواقعهن
المعوق التاسع: سولك بعض المحجبات وواقعهن: تحتج بعض الفتيات بأن سلوك وأخلاق بعض الفتيات المحجبات لا يقود إلى الحجاب، فإنها ترى منهن سوء الخلق، ترى منهن الغش، ترى منهن الكذب إلى غير ذلك من هذه المظاهر.
دعونا نأخذ الصورة المقابلة، لو رأينا امراة متبرجة تدخن أو تتعاطى المخدرات أو تقع في الجريمة، فهل يلفت نظرنا ذلك ونقول: إن هذا الفساد والإجرام ارتبط بالتبرج والسفور؟ إن الذي يلفت نظرنا هو النموذج الشاذ، فتلك الفتاة التي تمارس سلوكاً سيئاً وهي محجبة إنما لفتت نظرنا لأنها محجبة ولو كانت سافرة لما لفتت نظرنا.
والحجاب لا يعني العصمة، فحينما تتحجب الفتاة فهي تلتزم بأمر من أمور الله تبارك وتعالى، تلتزم بفريضة من فرائض الله عز وجل على المرأة، وهذا لا يعني أنها تحولت إلى امرأة معصومة سليمة من الأخطاء.
وهكذا الرجل حين يظهر عليه أثر الصلاح والتدين فلا يعني أنه قد أصبح إنساناً معصوماً، وإذا وجدت هذه الحالات فهي حالات شاذة؛ لكن الغالب على الذين يظهرون بمظهر الصلاح من الرجال والنساء هو أنهم منطقيون مع ما يظهرون أن باطنهم يحكي ظاهرهم، هذا هو الأصل وهو الغالب، وما سوى ذلك في حالات شاذة.(39/11)
الأهم صلاح القلب
الأمر العاشر: الأهم صلاح القلب: تقول بعض الفتيات المسلمات: نعم إنني متبرجة، إنني سافرة، ولكني طيبة القلب، والأهم ليس في المظهر، الأهم هو صلاح القلب.
أيها الإخوة! ما في القلب يظهر أثره على سلوك الإنسان وعمله، إذا ادعى شخص أنه يحب إنساناً وهو مع ذلك يسيئ إليه وينفر منه، أو ادعى أنه يبغضه وهو يجالسه ويشتاق إليه ويسعى لمجالسته، فهل من حوله سيصدقون هذه الدعوى؟ إذا ادعى زوجك أنه يحبك ويقدرك ويجلك ومع ذلك يتلفظ عليك بأقبح الألفاظ، وهو يسب ذلك اليوم الذي عرفك فيه، وهو يبحث عن زلاتك وسقطاتك ويهمش محاسنك، فهل تقتنعين فعلاً بهذه الدعوى من أنه يحبك؟ الانتساب للجندية، لو أن إنساناً لبس ملابس الجند فهل يؤهله ذلك لأن يكون جندياً، وهل يقبل الناس منه ذلك؟ لو انتسب لمؤسسة أو جامعة وهو يقول: إنه جاد وحريص على الدراسة ومع ذلك لم يحضر الدراسة، لم يحضر الامتحانات، فهل يمكن أن يجتاز هذه الجامعة؟ هل يمكن أن يعطيه صاحب هذا العمل الذي التحق به راتباً لأنه يؤكد ويحلف الأيمان المغلظة أنه جاد في ذلك؟ إن مجرد الدعوى لا تكفي.
إذاً: الفتاة حين تقول إنها طيبة القلب صالحة القلب فمرآة طيب القلب وصلاحه استجابتها لأمر الله تبارك وتعالى.(39/12)
الأهم الصلاة والصيام
الأمر الحادي عشر: تقول بعض الفتيات: إن الأهم الصلاة والصيام، إنني أصلي، أحافظ على الصلاة، أصوم شهر رمضان، أجتنب الفواحش، وهذا هو الأهم، وهذه الحجة كثيراً ما نسمعها من كثير من المسلمين حينما ينكر عليهم معصية أو منكر.
حين يحترم الإنسان نظاماً من أنظمة البشر فهل يعفيه ذلك عن احترام سائر الأنظمة؟ هناك أنظمة وقوانين تلزم صاحب البناء أن يلتزم بها، فإذا التزم بواحد من هذه الأنظمة فهل يعفى من البقية؟ هناك أنظمة تلزم سائق السيارة كأن يحمل رخصة قيادة للسيارة، وأن يضع لوحات على السيارة، وأن يرتدي حزام الأمان، وأن يسير وفق سرعة محددة، فلو أن صاحب سيارة من السيارات ارتكب مخالفة من المخالفات ثم أوقفه رجل الأمن فقال: إنني محترم للنظام، إنني أحمل رخصة قيادة، إنني أحمل رخصة سيارتي، فلن يقبل منه ذلك.
إذاً: التزام الإنسان بشيء من شرع الله لا يعفيه من بقية الفرائض، فالتزام الفتاة بالصلاة هو استجابة لأمر الله عز وجل، لكن هذا لن يعفي الفتاة من أن تلتزم ببقية ما شرع الله عز وجل لها.
وهكذا شأن المسلم في سائر أحكام هذا الدين، فحينما يلتزم بالصلاة، يلتزم بالصيام، يؤدي الحج إلى بيت الله، يشهد أن لا إله إلا الله، فإن هذا قيام بأركان عظيمة من أركان الإسلام، لكن هذا لن يعفيه من أن يقوم ببقية الواجبات والشرائع.
هذه أيها الأخوات والإخوة الكرام بعض ما تحتج به فتيات المسلمين اللاتي يتنكبن طريق الحجاب، اللاتي يسعين نحو السفور والتبرج، ودعونا نختم ولو أطلنا قليلاً بصوة من صور الواقع الغربي.(39/13)
صورة من واقع الحياة الغربية
دعونا نختم بصورة من صور واقع الحياة الغربية، ولماذا نورد هذه الشواهد هنا؟ لأن تلك البلاد هي التي أصبحت مرآة لفتياتنا ونسائنا، وهي التي سبقتنا في السفور والاختلاط ومشاركة المرأة للرجل في سائر ميادين الحياة، هاهو الغرب اليوم يتراجع عن السفور، يتراجع عن الاختلاط، وهذه بعض شهادات أولئك وهم لا يقولون هذه المقالة ديناً، فهم لا يؤمنون بالله، لكن هذه مقالات بعض حكمائهم وعقلائهم وقد أدركوا خطورة هذا الطريق الذي سارت عليه مجتمعاتهم.
تقول باميلا سو أرومان التي أسلمت فيما بعد: إن اعتناقها للإسلام أعاد لها كرامتها وعفتها وحقوقها، فيما لا تزال المرأة الغربية تعاني من النظرة الدونية واتخاذها مجرد وسيلة للاستمتاع أو وليمة سهلة على موائد اللئام، وتأسف أسماء لأن معظم نساء الغرب لا يعرفن حقيقة الموقف المشرف للإسلام من قضياهن، فلو عرفن ذلك لسارعن إلى اعتناقه.
تقول الأستاذة جانيت ليفن: بعد خمس وعشرين سنة من التعليم المختلط نلاحظ أنه لا يقدم الحل المأمون، فما زالت الفتيات يتحدثن عن المخاوف من التحرشات الجنسية في المدارس الثانوية المختلطة، وبسببها يفضلن المدارس الخاصة بالبنات، وقد لوحظ أن أعداد المتقدمات إلى كليات البنات قد زاد في السنوات الثلاث الأخيرة زيادة ملحوظة.
وفي صحيفة عربية نشر تحت هذا العنوان: كاتبة أمريكية تقول: امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية المرأة.
قدمت الصحيفة هذه الكاتبة بقولها: هلتيان سانسبري صحفية متجولة تراسل أكثر من 250 صحيفة أمريكية، ولها مقال يومي يقرؤه الملايين ويتناول مشاكل الشباب تحت سن العشرين، وعملت في الإذاعة والتلفزيون وفي الصحافة أكثر من عشرين عاماً وزارت جميع دول العالم، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها.
تقول الصحفية الأمريكية بعد أن أمضت شهراً في إحدى بلاد المسلمين: إن المجتمع العربي كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشباب في حدود المعقول، وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأمريكي والأوروبي، فعندكم تقاليد موروثة تحتم تقييد المرأة وتحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا؛ ولذلك فإن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة الصغيرة وأقصد من هي تحت العشرين هذه القيود صالحة ونافعة وأنا هنا أقرأ مقالها كما هو، وإلا فهي في الواقع ليست قيوداً بل هي أحكام تتشرف المسلمة بالالتزام بها.
تقول: لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب فهذا خير لكم من إباحة وانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا، امنعوا الاختلاط قبل سن العشرين، فقد عانينا في أمريكا الكثير، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقداً مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية قبل سن العشرين يملئون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية، إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار قد جعلت منهم عصابات أحداث وعصابات جيمس بين وعصابات المخدرات والرقيق.
ويقول أحد الغربيين وهو هملتون: إن أحكام الإسلام في شأن المرأة صريحة في العناية بها عن كل ما يؤذيها ويمس كرامتها ويتناول سمعتها، ولم يضيق الإسلام في الحجاب كما يزعم بعض كتابنا الغربيين، بل إنه تمشى مع مقتضيات الغيرة والمروءة.
ويقول البروفسور خون همر: الحجاب في نظر الإسلام وتحريم اختلاط النساء بالأجنبي ليس معناه انتزاع حرية المرأة.
هذه الشهادات أيها الإخوة لم نوردها لأننا نعتبرها منطلقاً لتسويق الحجاب والفضيلة، إنما هي اعترافات من واقع أولئك الذين مع أنهم لا يدينون بالإسلام إلا أنهم رءوا أن هذا السفور قد قاد مجتمعهم إلى الدمار والهلاك، ومثل هؤلاء دعاة التحرير فكثير منهم عاد وتراجع عما كان يقول، ومن هؤلاء ما كتبه قاسم أمين يقول: لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في نحو تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي، رأيتهم ما مرت عليهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة، ثم ما وجدت زحاماً في طريقي فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعاً، إنني أرى أن الوقت ليس مناسباً للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذي قصدته من قبل.
وربما كان لبعض التجارب التي مرت بها أثر في نفسه، فهاهو يروي أن صديقاً عزيزاً زاره مرة فلما فتح له الباب قال: جئت من أجل(39/14)
شبهات دعاوى ترك الحجاب والرد عليها(39/15)
الحجاب ينافي الأناقة
إن من أول ما تحتج به الفتاة المتمردة على الحجاب أن الحجاب خلاف الأناقة، يميل الناس بطبيعتهم إلى حب الجمال والأناقة، وليس من عيب في الإنسان أن يسعى لأن يكون أنيقاً جميلاً، لكن هل الأناقة أمر موضوعي يتفق عليه الناس أجمع أم هو أمر نسبي، فما يعده الهنود أناقة قد لا يتقبله الأفارقة، وما يعجب أهل الصين قد لا يعجب أهل المشرق؟ إنني اليوم أتحدث أمامكم باللباس الذي يلبسه أهل بلادي وهو الذي اعتاده الناس وأحبوه، بينما الأناقة عند غيرهم من بلاد المسلمين تعني نوعاً آخر من اللباس، فلم يكون السفور أقرب إلى الأناقة من الحجاب؟ ودعونا نثير سؤالاً جريئاً مهماً: ماذا يريد الرجال من المرأة؟ ما الذي يثيرهم إلى أن يطلقوا نظراتهم نحوها يميناً وشمالاً؟ وحين تعمل المرأة فما المكان المفضل لعملها؟ لننظر إلى واقع الغرب الذي بلغ القمة في المساواة الشكلية بين الرجل والمرأة: كم امرأة مديرة لجامعة؟ كم امرأة وزيرة؟ كم امرأة تشغل منصباً دستورياً؟ كم امرأة تحكم ولاية؟ أين هي من هذه الوظائف؟ إننا حين نتأمل في المواطن التي توضع فيها المرأة نرى أنها توضع حيث تكون أكثر إثارة للآخرين، إنها تعمل في الاستقبال في الفنادق والأماكن العامة، في السكرتارية، في المرافق إلى غير ذلك.
إن المرأة العاقلة أياً كان دينها وخلقها تأبى أن تكون مجرد وسيلة لإثارة الآخرين وإغرائهم، وما معنى اختيار الحسناء في هذه المواطن إذا كان الباعث هو العمل وتوظيف هذا العنصر.
عندما سئل مدير مكتب توظيف في نيويورك عن أهم العوامل التي يجب أن تتوافر لدى المرأة لتحصل على وظيفة قال: الجمال؛ ولهذا انتشرت عمليات التجميل، ففي بريطانيا تم إجراء خمس وتسعين ألف عملية تجميل عام 1998 للميلاد.
وفي عاصمة عربية قرأت إعلاناً وضع على واجهة أحد المحلات، هذا الإعلان يطلب فيه صاحب هذا المحل نساء حسناوات للعمل في المحل.
إذا كان المقصود هو العمل والقيام به فما معنى أن تكون هذه المرأة التي تعمل في هذا المحل التجاري حسناء؟ إنه يريد أن يوظف أناقة المرأة وحسنها لكسبه هو، في لقاء مع البريطانية المسلمة سارة جوزيف والتي تبلغ الرابعة والعشرين من العمر واعتنقت الإسلام قبل سنوات قالت: من ناحيتي كان قرار ارتداء الملابس الإسلامية ينبع من قناعة قوية؛ لأنني أعتقد أن جسم المرأة يساء استخدامه بصورة كبيرة في المجتمع البريطاني، فصور الفتيات شبه العاريات تنتشر في كل مكان، حتى أصبح جسم المرأة ملكية عامة لكل أفراد الجمهور، أنا أكره ذلك وأعترض عليه؛ لأنني أود أن يحكم الناس علي من خلال شخصيتي وليس من منطلق جسمي أو شكلي، وهكذا حررتني الملابس الإسلامية من أن أكون أسيرة منظري وشكلي الخارجي.(39/16)
الحجاب يعطل الحياة العامة
ثانياً: الحجاب يعطل الحياة العامة: يمثل انطلاق المرأة في ميادين الحياة العامة قضية محورية كثيراً ما تثار وتناط بها أمور قد لا تكون بالضرورة ذات علاقة بها، فالحجاب لدى طائفة من هؤلاء يعوق المرأة عن المشاركة بفاعلية، ويعطل مسيرتها، وما دمنا بحاجة إلى مشاركة فاعلة للمرأة فلا معنى لأن تصر على تمسكها بالحجاب.
ودعونا هاهنا نثير تساؤلاً له أهميته: ألا يمكن أن تمارس المرأة دورها الفاعل في الحياة وهي بحجابها؟ وحين يرتبط التخلي عن الحجاب بذلك في مجتمعات الغرب فلا يعني أن المسألة قد غدت محسومة في سائر المجتمعات.
ودعونا نلقي نظرة سريعة على واقع المرأة الغربية التي لم يعد يعوقها شيء، والتي وصلت إلى كل شيء، كيف كان واقعها حين مارست الحياة العامة كما يمارسها الرجال: أن واقع المرأة العاملة في الغرب واقع يبعث على المأساة، فمن أول مظاهر ذلك التمييز، فلا يزال الغرب الذي يناضل دوماً عن حقوق الإنسان وعن حقوق المرأة والذي يعتبر انتهاك أي بلد من بلاد المسلمين لحقوق المرأة موجباً لعقوبات اقتصادية، بل موجباً لحرب قد تشن على تلك البلاد لإنقاذ هذه المرأة المظلومة؛ لا يزال الغرب في مجتمعاته غير قادر على حسم مسألة التمييز ضد المرأة.
تقول إحدى الغربيات وهي إيفان: ظل التمييز بين الرجل والمرأة هو سمة المجتمع الأمريكي حتى مع اقتراب القرن العشرين من نهايته، ومن أكثر المظاهر التي تنتشر في تلك المجتمعات التحرش الجنسي في أماكن العمل، دلت إحدى الدراسات على أن (90%) من الفتيات في أمريكا عانين من التحرش الجنسي.
وتقول لين فارلي مؤلفة كتاب الابتزاز الجنسي الذي طبع عام (1978م) -أي: كان هذا الكتاب قبل ما يقرب من خمسة وعشرين عاماً:- إن الاعتداءات الجنسية بأشكالها المختلفة منتشرة انتشاراً ذريعاً في الولايات المتحدة وأوروبا، وهي القاعدة وليست الاستثناء بالنسبة للمرأة العاملة في أي نوع من الأعمال تمارسه مع الرجال.
ويقول مكتب المرأة في لجنة الحقوق المدنية للولايات المتحدة: إن هذا الابتزاز الجنسي للمرأة العاملة واسع الانتشار جداً ويشكل مشكلة عويصة الحل.
وقامت إدارة الخدمة المدنية في اليابان بتوزيع ستين ألف كتيب على موظفي الحكومة في محاولة للحد من حوادث التحرش الجنسي داخل المكاتب الحكومية.
وتقول لين فارلي مؤلفة كتاب الابتزاز الجنسي الذي سبقت الإشارة إليه، تقول متحدثة عن الانتشار الذريع لهذا الابتزاز وأنه تحول إلى قاعدة وليس حالة شاذة: وكشف مسح استطلاعي أعدته وزارة الداخلية البريطانية أن (80%) من ضابطات الشرطة أي بنسبة (4/ 5) يتعرضن للمضايقة الجنسية خلال نوبات العمل الرسمية، وشارك في الاستطلاع (1800) ضابطة في عشر مديريات أمن في إنجلترا وويلز.
وقالت منظمة العمل الدولية: إن النساء العاملات في مختلف دول العالم الصناعي يعانين من مضايقات تجبر كثيرات منهن على ترك وظائفهن، وحذر التقرير أرباب العمل من أن عدم معالجة هذه المشكلة يمكن أن يؤثر على الأداء الاقتصادي لشركاتهم وأن يكون سبباً لفقد موظفات أكفاء ولتكاليف إضافية بسبب عمليات التقاضي.
وأظهر التقرير أن (84%) من النساء العاملات في أسبانيا و (74%) في بريطانيا يبلغن عن تعرضهن لمضايقات، وأشار هانس في تعليق على التقرير إلى أن الأرقام الحقيقية للمشكلة أعلى من ذلك بكثير؛ لأن نسبة غير قليلة من الحالات لم يتم الإبلاغ عنها، ويرجع السبب في ذلك في الأغلب إلى أن النساء اللاتي تعرضن لها خشين من العواقب.
وحين تتعرض المرأة العاملة للابتزاز الجنسي فلا خيار لها إلا أن تتجاهل قيمتها الأخلاقية وعفتها؛ لأن أي عاهرة تستطيع أن تحتل مكانها بسهولة إذا هي رفضت الانصياع لرغبات رئيسها الجنسية.
هذا أيها الإخوة والأخوات ما جنته المرأة حين خرجت للحياة العامة، فماذا حققت من وراء ذلك، إنه طريق موحش مظلم تقابله المرأة المسلمة، تقاد وقد تستجيب أحياناً فتلهث وراء السراب تريد أن تذوق طعم السعادة التي ترى أن المرأة الغربية قد نالتها، ويخفى عليها أنها هناك تعاني من ابتزاز وتعاني اقتيادها إلى مذابح الفضيلة والعفاف لتروي نزوات طائشة لمن لا يرون فيها إلا أنها وسيلة لإشباع نهمهم نحو الشهوات.
أيها الأخوات! أيها الإخوة الكرام! هذا هو واقع تلك المرأة التي ترى أن العفاف وأن الحجاب يعطل الحياة العامة، هل نريد أن تقاد مجتمعات المسلمين، وأن تقاد فتيات المسلمين لأن تعيش هذا الواقع الذي تعيشه تلك البلاد التي تقتدي كثير من فتياتنا اليوم بواقع نسائهم؟(39/17)
الحياء وسخرية الآخرين
رابعاً: الحياء وسخرية الآخرين: من الذي يلوم الناس حين يستحون؟ أليس الحياء دلالة توقير وتقدير للآخرين؟ أليس الحياء يمنع صاحبه من ارتكاب ما لا يليق؟ يستحي الإنسان أن يخالف الآخرين ويبدو أمامهم بمظهر يدفعهم للسخرية منه ويستحي أن يفعل أمامهم ما يكون منقصة في حقه، والحياء خلق ممدوح وفضيلة سامية، ومن هنا أكد عليه سيد الناس وأحسنهم خلقاً وعده شعبة من الإيمان، وحين رأى رجلاً يعظ أخاه في الحياء قال: (دعه فإن الحياء من الإيمان).
والحياء خصلة فطرية في المرأة، بل هي مضرب المثل في الحياء، وقديماً وصف النبي صلى الله عليه وسلم بأنه (أشد حياء من العذراء في خدرها)، لذا فحين جاء الإسلام وحفظ للمرأة حقها ومكانتها كان من أهم ما قرره أن لا تتزوج الفتاة دون إذنها، لكن لما كان الحياء قد يعوق الفتاة عن إبداء موافقتها على الزوج المتقدم لها فقد جعل صمت البكر دليل قبولها بالزوج بخلاف الثيب، فقال صلى الله عليه وسلم: (الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتها)، لكن انتشار التساهل في الحجاب في مجتمعات المسلمين قلب الصورة لدى بعض الفتيات فصرنا نرى طائفة منهن يمنعهن الحياء عن ارتداء اللباس الشرعي، فهي تخشى أن تبدو بصورة غير لائقة، وتستحي من أن تلتزم باللباس الشرعي الساتر، إنها الصورة المنكوسة، فالحياء يدعو إلى الستر والعفاف، والحياء يدعو إلى البعد عن التبرج وإظهار المفاتن، ولئن دعا الفتاة حياؤها من الناس أن تجنح للتبرج والسفور أفلا يدعوها حياؤها من الخالق البارئ الذي يراها أينما حلت وارتحلت ويعلم نواياها وطويتها إلى التزام أمره عز وجل؟ أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بالحياء فقال: (استحيوا من الله تعالى حق الحياء.
فتساءلوا مخبرين أنهم يستحون فقال صلى الله عليه وسلم مفسراً حقيقة الحياء: من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، وليحفظ البطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).(39/18)
الثقافة والتعليم
خامساً: الثقافة والتعليم: لم تعد الفتاة اليوم هي ابنة القرية التي لا تقرأ ولا تكتب، فقد تعلمت وخاضت ميادين الحياة العلمية فحازت أعلى الشهادات والدرجات، وحين عاشت فتاة الإسلام داخل أروقة الجامعة، ورأت ما فيها من اختلاط وسفور، ورأت في المقابل أن الستر والحياء ارتبط بجدتها وأمها شعرت حينها أن الفتاة المتعلمة لا ينبغي لها أن تلبس هذا اللباس الذي لا يليق إلا بالقروية الجاهلة.
ما العلاقة بين التعليم والسفور؟ هل التعليم يدعو إلى الفضيلة والعفة أم يدعو إلى التهتك والسفور؟ هذه كاتبة من إحدى بلاد المسلمين سخرت نفسها للنضال فيما تسميه معركة تحرير المرأة، الدكتورة نوال السعداوي ألفت كتاباً عنوانه: الله مات في النيل.
تعالى الله عما تقول! وأين طبع؟ طبع في تل أبيب، ومما قالته هذه الكاتبة: إن فكرة الحجاب نشأت في التاريخ البدائي القديم لأسباب صحية وقائية، ثم اكتسبت على يد اليهود صفة دينية، لم يكن بوسع النساء في المجتمع الصحراوي الشحيح بالماء أن يجدن وسائل النظافة الكافية، خاصة في فترات الطمث والولادة؛ ولهذا تقرر عزل المرأة فيما يشبه الحجر الصحي خلال أيام الولادة والطمث، لكن فكرة عزل المرأة اتخذت شكلاً دينياً وتطورت من عزل المرأة إلى فرض الحجاب عليها، واتخذ هذا الحجاب شكل تغطية رأس المرأة، مع أن الرأس ليس عورة وليس عضواً جنسياً! وتقول: أنا أرى أن الفتاة التي تتغطى مثل الفتاة التي تتعرى، ومثل الفتاة في أوروبا وأمريكا التي ترتدي الميني جيب.
التعرية والتغطية واحدة، لماذا؟ لأنها تقول: أن المرأة جسد، وتقول: فالوجه هو الإنسان ومن تغطي وجهها ليست بإنسانة.
ردت عليها الكاتبة سهيلة زين العابدين حماد رئيسة ومنشئة مدارس تحفيظ القرآن الكريم في المدينة النبوية، وعضو رابطة الأدب الإسلامي وعضو اتحاد المؤرخين العرب، فقالت لها: بأي حق تلغي إنسانية المرأة التي تغطي وجهها، إن محدثتك تغطي وجهها؛ لأنها إنسانة كرمها الله بأن شاء لها أن تولد وتعيش وتتعلم في مهبط الوحي ودار الهجرة، وتنتمي إلى هذا المجتمع المسلم الذي يحترم إنسانية المرأة ويصونها فحجب وجهها عن أعين الرجال ولكنه لم يحجب عقلها ويقيد فكرها، إذ فتح لها أبواب العلم والمعرفة على مصراعيها، ونالت منها ما أهلها بأن تكون رئيسة لمدارس تحفيظ القرآن الكريم في المدينة المنورة، وعضواً في رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وعضواً في اتحاد المؤرخين العرب، ودرست مؤلفاتها في الجامعات، وتعتمد بحوثها في أطروحات الماجستير والدكتوراه، وتوزع مؤلفاتها في الوطن العربي، وتنشر مقالاتها وبحوثها في مختلف الصحف والمجلات، ومع ذلك لم يرها أجنبي قط، وهاهي تقف أمامك لترد على أقاويلك، وتحاجك بالعلم الذي تتمنطقين به، وتتجرئين على خالقك باسمه.
وتمضي قائلة: وإن كان مرجعك مؤلفات فرويد وماركس اليهودي وإنجلز وجان بول سارتر وكنزي وفاسترز وجونسون وكاري هوم لي وسيرتي وغيرهم من أصحاب مدرسة التحليل النفسي الفرويدي؛ فإن المرجع الأول لمحدثتك هو كتاب الله ثم سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن كان أساتذتك فرويد وماركس فإن المعلم الأول لمحدثك هو محمد صلى الله عليه وسلم ثم الخلفاء الراشدون، ثم بقية الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، فلتكن المواجهة إذاً بين ابنة الحجاب التي تغطي وجهها وتؤمن بتشريع خالقها وبين ابنة السفور التي تتجرأ على خالقها وتعترض على تشريعاته وتقول: إنها لا تصلح للعصر.
إن كاتبة هذه المقالة ليست قروية جاهلة، بل هي متعلمة من أرقى الكاتبات والمتعلمات، ومع ذلك لم يكن هذا التعليم والترقي عائقاً لها عن ارتداء الحجاب.
دخلت فتاة في أمريكا في أحد الأسواق، وإذا بها ترى امرأة متحجبة حجاباً كاملاً فأرادت أن تسخر منها وتزدري تمسكها بالحجاب في بلاد الحرية، فماذا فعلت؟ قالت هذه الفتاة بلهجة متهكمة: حجاب هاهنا! دعينا من هذا التخلف.
فالتفتت إليها هذه المرأة المتحجبة ولم ترد عليها، فكررت هذه الفتاة سخريتها ولم تجبها تلك بشيء إلا أنها قالت باللغة الإنجليزية: عفواً لا أعرف اللغة التي تتكلمين بها! أنا أمريكية، فضحكت هذه الفتاة وعجبت من لبسها الحجاب، فقالت تلك المرأة الأمريكية المسلمة بلهجة واثقة: اسمعي أنا أمريكية عشت العري والخلاعة أصالة، وأنا أعرف تماماً ماذا جلب لنا هذا العري من بلاء، ولكن أحمد الله أن هداني للإسلام، وشرع لي الحجاب، لقد صار لأجسادنا وذواتنا قيمة بعد أن كنا ألعوبة للغادين والرائحين، افهمي يا مسكينة هذا الكلام جيداً وانتبهي لنفسك ولا تكوني صورة سيئة عن مسلمات العرب، وانهالت عليها بالنصائح حتى ذهلت تلك الفتاة المتبرجة وبدأت تبكي وكانت صدمة لها لم تنسها لأيام.
قال قريبون منها: فلبثت أسبوعاً لا تخرج من دارها ثم رأيناها تخرج م(39/19)
الحضارة والمدنية
سادساً: الحضارة والمدنية: يرتبط السفور بالمدنية والتحضر والحجاب بالتخلف والبداوة لدى بعض فتيات المسلمين، ومن ثم فهي تتخلى عن الحجاب لتكون أكثر تحضراً، ودعونا نثير هذا السؤال مرة أخرى: ماذا جنى العالم المتحضر من السفور؟ تقول كاتبة إنجليزية وهي نس إنيرود: أنا ليس بلادنا كبلاد المسلمين فيها الحشمة والعفاف والطهارة، تنعم المرأة بأرغد عيش، تعمل كما يعمل أولاد البيت ولا تمس الأعراض بسوء، نعم، إنه لعار على بلاد الإنجليز أن تجعل بناتها مثلاً للرذائل لكثرة مخالطة الرجال.
انتشرت في تلك المجتمعات الخيانة الزوجية، ففي إحصاية في مطلع هذا القرن الهجري في أوروبا (75%) من المتزوجين يخونون زوجاتهم قبل الزواج، و (80 - 85%) لهم خليلات، انتشار الاختطاف رغم أن أبواب التمتع بالحرام متاحة لهؤلاء.
أعلن مركز الضحايا الوطني الذي يناصر حقوق ضحايا جرائم العنف أن معدل الاغتصاب في الولايات المتحدة أصبح (1.
300.
000) أي: (1/ 3) امرأة، وأضاف المركز أن واحدة من كل 8 بالغات في الولايات المتحدة تعرضت للاغتصاب ليكون إجمال من اغتصبن (12.
100.
000) على الأقل، ويشير المسح إلى أن (61%) من حالات الاغتصاب تمت لفتيات تقل أعمارهن عن (18) عاماً، وأن (29%) من كل حالات الاغتصاب تمت ضد أطفال تقل أعمارهم عن أحد عشر عاماً، وأظهرت الأرقام زيادة معدل الاغتصاب عن العام الذي سبقه بنسبة (59%)، وفي بريطانيا (9.
000) فتاة صغيرة لم يتجاوزن الخامسة عشرة حملن عام (1996 للميلاد).
انتشار الشذوذ، ممارسة الشذوذ بين الرجال وبين النساء هو لون آخر من ألوان ما جنته تلك الحضارة، انتشار إتيان المحارم، اعتداء الآباء على بناتهم، بل اعتداء بعض الأجداد على حفيداتهم، اعتداء الإخوة على أخواتهم، أرقام هائلة يضج منها ذلك العالم، هذا هو واقع تلك الحضارة، وهذا هو واقع تلك المدنية، فكيف بفتاة الإسلام تعتقد أن التخلي عن الحجاب هو مظهر من مظاهر الحضارة، وكيف بها ترى أن الحجاب والستر مظهر من مظاهر التخلف، فماذا جنى ذلك العالم المتحضر؟ الذي يبدو منطقياً أنه حينما ينتشر السفور والإباحية في أي مجتمع أن حالات الاغتصاب تقل وتتضاءل، لأن من يريد الفجور أمامه أبواب متاحة، والمفترض منطقياً أن تزيد حالات الاغتصاب وحالات الشذوذ في المجتمعات التي لا يتاح فيها الباب للمارسة الجنسية خارج إطار الزواج، لكن الواقع يشهد بخلاف ذلك، فهل فتاة الإسلام تجعل ذلك المجتمع الذي ترى منه صورة من صور الرقي، هل يسوغ أن تجعل ذلك المجتمع مرآة لها وترى أنها حين تلتزم الحجاب والستر والعفاف تنتمي إلى عصر التخلف والرجعية؟(39/20)
الزميلات والصديقات
المعوق السابع: الزميلات والصديقات: إن الصديق والصاحب له أثره على الإنسان؛ ولهذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: (لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي)، وأخبر صلى الله عليه وسلم: (أن المرء على دين خليله -قال:- فلينظر أحدكم من يخالل)، ويوم القيامة يحشر المرء مع من أحب، فإن أحب الصالحين حشر معهم ولو كان عمله دون عملهم، وإن أحب غيرهم حشر معهم.
الفتاة تختار صديقاتها ممن تلتقي بهن في الجامعة أو في حيها من أقاربها وتعيش معهن، وللصديقات تأثير بالغ على الفتاة، فحين تكون صديقات الفتاة من السافرات أو من المستهينات بالحجاب فإن هذا يمثل عائقاً لهذه الفتاة عن العودة إلى ما فرض الله عز وجل عليها من الستر والعفاف، وقد أخبر الله تبارك وتعالى عن حال تلك الصلة والعلاقة التي تبنى على خلاف طاعة الله تبارك وتعالى؛ يقول عز وجل: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولًا} [الفرقان:27 - 29].
إن هذا المرء سيتبرأ من خليله وصديقه يوم القيامة، فإذا كان يريد النجاة من هذا الموقف فليتخذ هذا القرار في دار الدنيا وإلا فسيبقى ديناً عليه يدفعه يوم القيامة في يوم لا تجدي فيه هذه البراءة، ولا يجديه فيه هذا التخلي، وإنما هو مظهر من مظاهر إبراز التحسر والتأسي.(39/21)
الشذوذ عن المجتمع
المعوق الثامن: الشذوذ عن المجتمع: حين يصبح السفور هو السمة السائدة في المجتمع، أو التساهل في شأن الحجاب هو القاعدة العامة وهو الظاهرة العامة، تشعر الفتاة أنها حين تلتزم بالحجاب تعيش شاذة عن هذا المجتمع الذي تعايشه، والشذوذ ليس بالضرورة صفة سلبية، بل هو حين يكون على خير وعلى حق هو دلالة على قوة الشخصية، ودلالة على أن الإنسان لا يستجيب لضغط المجتمع، ولا يستجيب لضغط الآخرين.
في كتاب الله تبارك وتعالى قص الله عز وجل علينا نبأ فتية لا يبلغ تعدادهم العشرة، عاشوا في مجتمع كان كل الناس فيه من أهل الشرك والضلال ودعوة غير الله عز وجل، ومع ذلك كان هؤلاء الفتية مؤمنين أتقياء صادقين؛ ذكر الله عز وجل قصتهم نبراساً للأمم من بعدهم إلى يوم القيامة، إن هؤلاء كانوا شاذين في عرف مجتمعاتهم.
بل هاهي امرأة طاغية من الطغاة وجبار من المتجبرين إنها امرأة فرعون الذي لم يعرف التاريخ رجلاً أكثر جبروتاً وتسلطاً منه، وأي جبروت أشد من أن يقول للناس: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ثم يقول لهم: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، ومع ذلك آمنت بالله تبارك وتعالى، فضربها الله عز وجل مثلاً للمؤمنين والمؤمنات {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
كانت وحدها في بيت هذا الجبار الطاغية الظالم وذاقت ألوان العذاب والأسى، ومع ذلك بقيت مؤمنة صامدة متمسكة بما أمرها الله عز وجل به، فقضت نحبها وأراها الله تبارك وتعالى بيتها في الجنة قبل أن تلفظ روحها، وبقيت مثلاً يتأسى به المؤمنون والمؤمنات إلى قيام الساعة.(39/22)
سلوك المحجبات وواقعهن
المعوق التاسع: سولك بعض المحجبات وواقعهن: تحتج بعض الفتيات بأن سلوك وأخلاق بعض الفتيات المحجبات لا يقود إلى الحجاب، فإنها ترى منهن سوء الخلق، ترى منهن الغش، ترى منهن الكذب إلى غير ذلك من هذه المظاهر.
دعونا نأخذ الصورة المقابلة، لو رأينا امراة متبرجة تدخن أو تتعاطى المخدرات أو تقع في الجريمة، فهل يلفت نظرنا ذلك ونقول: إن هذا الفساد والإجرام ارتبط بالتبرج والسفور؟ إن الذي يلفت نظرنا هو النموذج الشاذ، فتلك الفتاة التي تمارس سلوكاً سيئاً وهي محجبة إنما لفتت نظرنا لأنها محجبة ولو كانت سافرة لما لفتت نظرنا.
والحجاب لا يعني العصمة، فحينما تتحجب الفتاة فهي تلتزم بأمر من أمور الله تبارك وتعالى، تلتزم بفريضة من فرائض الله عز وجل على المرأة، وهذا لا يعني أنها تحولت إلى امرأة معصومة سليمة من الأخطاء.
وهكذا الرجل حين يظهر عليه أثر الصلاح والتدين فلا يعني أنه قد أصبح إنساناً معصوماً، وإذا وجدت هذه الحالات فهي حالات شاذة؛ لكن الغالب على الذين يظهرون بمظهر الصلاح من الرجال والنساء هو أنهم منطقيون مع ما يظهرون أن باطنهم يحكي ظاهرهم، هذا هو الأصل وهو الغالب، وما سوى ذلك في حالات شاذة.(39/23)
الأهم صلاح القلب
الأمر العاشر: الأهم صلاح القلب: تقول بعض الفتيات المسلمات: نعم إنني متبرجة، إنني سافرة، ولكني طيبة القلب، والأهم ليس في المظهر، الأهم هو صلاح القلب.
أيها الإخوة! ما في القلب يظهر أثره على سلوك الإنسان وعمله، إذا ادعى شخص أنه يحب إنساناً وهو مع ذلك يسيئ إليه وينفر منه، أو ادعى أنه يبغضه وهو يجالسه ويشتاق إليه ويسعى لمجالسته، فهل من حوله سيصدقون هذه الدعوى؟ إذا ادعى زوجك أنه يحبك ويقدرك ويجلك ومع ذلك يتلفظ عليك بأقبح الألفاظ، وهو يسب ذلك اليوم الذي عرفك فيه، وهو يبحث عن زلاتك وسقطاتك ويهمش محاسنك، فهل تقتنعين فعلاً بهذه الدعوى من أنه يحبك؟ الانتساب للجندية، لو أن إنساناً لبس ملابس الجند فهل يؤهله ذلك لأن يكون جندياً، وهل يقبل الناس منه ذلك؟ لو انتسب لمؤسسة أو جامعة وهو يقول: إنه جاد وحريص على الدراسة ومع ذلك لم يحضر الدراسة، لم يحضر الامتحانات، فهل يمكن أن يجتاز هذه الجامعة؟ هل يمكن أن يعطيه صاحب هذا العمل الذي التحق به راتباً لأنه يؤكد ويحلف الأيمان المغلظة أنه جاد في ذلك؟ إن مجرد الدعوى لا تكفي.
إذاً: الفتاة حين تقول إنها طيبة القلب صالحة القلب فمرآة طيب القلب وصلاحه استجابتها لأمر الله تبارك وتعالى.(39/24)
الأهم الصلاة والصيام
الأمر الحادي عشر: تقول بعض الفتيات: إن الأهم الصلاة والصيام، إنني أصلي، أحافظ على الصلاة، أصوم شهر رمضان، أجتنب الفواحش، وهذا هو الأهم، وهذه الحجة كثيراً ما نسمعها من كثير من المسلمين حينما ينكر عليهم معصية أو منكر.
حين يحترم الإنسان نظاماً من أنظمة البشر فهل يعفيه ذلك عن احترام سائر الأنظمة؟ هناك أنظمة وقوانين تلزم صاحب البناء أن يلتزم بها، فإذا التزم بواحد من هذه الأنظمة فهل يعفى من البقية؟ هناك أنظمة تلزم سائق السيارة كأن يحمل رخصة قيادة للسيارة، وأن يضع لوحات على السيارة، وأن يرتدي حزام الأمان، وأن يسير وفق سرعة محددة، فلو أن صاحب سيارة من السيارات ارتكب مخالفة من المخالفات ثم أوقفه رجل الأمن فقال: إنني محترم للنظام، إنني أحمل رخصة قيادة، إنني أحمل رخصة سيارتي، فلن يقبل منه ذلك.
إذاً: التزام الإنسان بشيء من شرع الله لا يعفيه من بقية الفرائض، فالتزام الفتاة بالصلاة هو استجابة لأمر الله عز وجل، لكن هذا لن يعفي الفتاة من أن تلتزم ببقية ما شرع الله عز وجل لها.
وهكذا شأن المسلم في سائر أحكام هذا الدين، فحينما يلتزم بالصلاة، يلتزم بالصيام، يؤدي الحج إلى بيت الله، يشهد أن لا إله إلا الله، فإن هذا قيام بأركان عظيمة من أركان الإسلام، لكن هذا لن يعفيه من أن يقوم ببقية الواجبات والشرائع.
هذه أيها الأخوات والإخوة الكرام بعض ما تحتج به فتيات المسلمين اللاتي يتنكبن طريق الحجاب، اللاتي يسعين نحو السفور والتبرج، ودعونا نختم ولو أطلنا قليلاً بصوة من صور الواقع الغربي.(39/25)
صورة من واقع الحياة الغربية
دعونا نختم بصورة من صور واقع الحياة الغربية، ولماذا نورد هذه الشواهد هنا؟ لأن تلك البلاد هي التي أصبحت مرآة لفتياتنا ونسائنا، وهي التي سبقتنا في السفور والاختلاط ومشاركة المرأة للرجل في سائر ميادين الحياة، هاهو الغرب اليوم يتراجع عن السفور، يتراجع عن الاختلاط، وهذه بعض شهادات أولئك وهم لا يقولون هذه المقالة ديناً، فهم لا يؤمنون بالله، لكن هذه مقالات بعض حكمائهم وعقلائهم وقد أدركوا خطورة هذا الطريق الذي سارت عليه مجتمعاتهم.
تقول باميلا سو أرومان التي أسلمت فيما بعد: إن اعتناقها للإسلام أعاد لها كرامتها وعفتها وحقوقها، فيما لا تزال المرأة الغربية تعاني من النظرة الدونية واتخاذها مجرد وسيلة للاستمتاع أو وليمة سهلة على موائد اللئام، وتأسف أسماء لأن معظم نساء الغرب لا يعرفن حقيقة الموقف المشرف للإسلام من قضياهن، فلو عرفن ذلك لسارعن إلى اعتناقه.
تقول الأستاذة جانيت ليفن: بعد خمس وعشرين سنة من التعليم المختلط نلاحظ أنه لا يقدم الحل المأمون، فما زالت الفتيات يتحدثن عن المخاوف من التحرشات الجنسية في المدارس الثانوية المختلطة، وبسببها يفضلن المدارس الخاصة بالبنات، وقد لوحظ أن أعداد المتقدمات إلى كليات البنات قد زاد في السنوات الثلاث الأخيرة زيادة ملحوظة.
وفي صحيفة عربية نشر تحت هذا العنوان: كاتبة أمريكية تقول: امنعوا الاختلاط وقيدوا حرية المرأة.
قدمت الصحيفة هذه الكاتبة بقولها: هلتيان سانسبري صحفية متجولة تراسل أكثر من 250 صحيفة أمريكية، ولها مقال يومي يقرؤه الملايين ويتناول مشاكل الشباب تحت سن العشرين، وعملت في الإذاعة والتلفزيون وفي الصحافة أكثر من عشرين عاماً وزارت جميع دول العالم، وهي في الخامسة والخمسين من عمرها.
تقول الصحفية الأمريكية بعد أن أمضت شهراً في إحدى بلاد المسلمين: إن المجتمع العربي كامل وسليم، ومن الخليق بهذا المجتمع أن يتمسك بتقاليده التي تقيد الفتاة والشباب في حدود المعقول، وهذا المجتمع يختلف عن المجتمع الأمريكي والأوروبي، فعندكم تقاليد موروثة تحتم تقييد المرأة وتحتم أكثر من ذلك عدم الإباحية الغربية التي تهدد اليوم المجتمع والأسرة في أوروبا وأمريكا؛ ولذلك فإن القيود التي يفرضها المجتمع العربي على الفتاة الصغيرة وأقصد من هي تحت العشرين هذه القيود صالحة ونافعة وأنا هنا أقرأ مقالها كما هو، وإلا فهي في الواقع ليست قيوداً بل هي أحكام تتشرف المسلمة بالالتزام بها.
تقول: لهذا أنصح بأن تتمسكوا بتقاليدكم وأخلاقكم، وامنعوا الاختلاط، وقيدوا حرية الفتاة، بل ارجعوا إلى عصر الحجاب فهذا خير لكم من إباحة وانطلاق ومجون أوروبا وأمريكا، امنعوا الاختلاط قبل سن العشرين، فقد عانينا في أمريكا الكثير، لقد أصبح المجتمع الأمريكي مجتمعاً معقداً مليئاً بكل صور الإباحية والخلاعة، وإن ضحايا الاختلاط والحرية قبل سن العشرين يملئون السجون والأرصفة والبارات والبيوت السرية، إن الحرية التي أعطيناها لفتياتنا وأبنائنا الصغار قد جعلت منهم عصابات أحداث وعصابات جيمس بين وعصابات المخدرات والرقيق.
ويقول أحد الغربيين وهو هملتون: إن أحكام الإسلام في شأن المرأة صريحة في العناية بها عن كل ما يؤذيها ويمس كرامتها ويتناول سمعتها، ولم يضيق الإسلام في الحجاب كما يزعم بعض كتابنا الغربيين، بل إنه تمشى مع مقتضيات الغيرة والمروءة.
ويقول البروفسور خون همر: الحجاب في نظر الإسلام وتحريم اختلاط النساء بالأجنبي ليس معناه انتزاع حرية المرأة.
هذه الشهادات أيها الإخوة لم نوردها لأننا نعتبرها منطلقاً لتسويق الحجاب والفضيلة، إنما هي اعترافات من واقع أولئك الذين مع أنهم لا يدينون بالإسلام إلا أنهم رءوا أن هذا السفور قد قاد مجتمعهم إلى الدمار والهلاك، ومثل هؤلاء دعاة التحرير فكثير منهم عاد وتراجع عما كان يقول، ومن هؤلاء ما كتبه قاسم أمين يقول: لقد كنت أدعو المصريين قبل الآن إلى اقتفاء أثر الترك بل الإفرنج في نحو تحرير نسائهم، وغاليت في هذا المعنى حتى دعوتهم إلى تمزيق ذلك الحجاب وإلى إشراك النساء في كل أعمالهم ومآدبهم وولائمهم، ولكني أدركت الآن خطر هذه الدعوة بما اختبرته من أخلاق الناس، فلقد تتبعت خطوات النساء في كثير من أحياء العاصمة والإسكندرية لأعرف درجة احترام الناس لهن، وماذا يكون شأنهم معهن إذا خرجن حاسرات، فرأيت من فساد أخلاق الرجال بكل أسف ما حمدت الله على ما خذل من دعوتي واستنفر الناس إلى معارضتي، رأيتهم ما مرت عليهم امرأة أو فتاة إلا تطاولوا عليها بألسنة البذاءة، ثم ما وجدت زحاماً في طريقي فمرت به امرأة إلا تناولتها الأيدي والألسن جميعاً، إنني أرى أن الوقت ليس مناسباً للدعوة إلى تحرير المرأة بالمعنى الذي قصدته من قبل.
وربما كان لبعض التجارب التي مرت بها أثر في نفسه، فهاهو يروي أن صديقاً عزيزاً زاره مرة فلما فتح له الباب قال: جئت من أجل(39/26)
موعظة فتاة
وأختم حديثي بهذه القصة: عادت الفتاة الصغيرة من المدرسة، بعد وصولها إلى البيت لاحظت الأم أن الابنة قد انتابها الحزن، فاستوضحت من ابنتها عن سبب هذا الحزن فقالت: أماه! إن مدرستي هددتني بالطرد من المدرسة بسبب هذه الملابس الطويلة التي ألبسها.
الأم: ولكنها الملابس التي يريدها الله يا ابنتي.
قالت الفتاة: نعم يا أماه! ولكن المدرسة لا تريده.
قالت الأم: حسناً يا ابنتي، المدرسة لا تريده والله يريد، فمن تطيعين؟ أتطيعين الله الذي أوجدك وصورك وأنعم عليك أم تطيعين مخلوقة لا تملك لنفسها نفعاً ولا ضراً.
فقالت الفتاة: بل أطيع الله.
فقالت الأم: أحسنت يا ابنتي وأصبت.
وفي اليوم التالي ذهبت تلك الفتاة بالملابس الطويلة وعندما رأتها معلمتها أخذت تؤنبها بقسوة، فلم تستطع تلك الصغيرة أن تتحمل ذلك التأنيب مصحوباً بنظرات صديقاتها إليها، فما كان منها إلا أن انفجرت بالبكاء ثم هتفت تلك الصغيرة بكلمات كبيرة في معناها قليلة في عددها: والله لم أدر من أطيع أنت أم هو؟ فتساءلت المدرسة: ومن هو؟ فقالت الفتاة: الله، أطيعك أنت فألبس ما تريدين وأعصيه هو.
فطلبت المعلمة استدعاء أم تلك الطفلة، ماذا تريد منها؟ جاءت الأم فقالت المعلمة للأم: لقد وعظتني ابنتك هذه أعظم موعظة سمعتها في حياتي.
إن المدينة يابنتي تبقى محصنة أمينة ما دامت الأسوار تمنعها بأعمدة متينة، فإذا هوت جدرانها نفذ العدو إلى المدينة.
أسأل الله تبارك وتعالى أن يمن على نسائنا بالستر والعفاف، وأن يجعلهن مؤمنات صالحات قانتات، وأن يحمي بلادنا وبلاد المسلمين من الفجور والفساد والسوء إنه سميع مجيب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(39/27)
الالتزام هوية أم تكاليف
لقد ظهر التدين في أوساط الشباب المسلم بصورة طيبة، وانتشر الالتزام بالسنن عند الشباب والشابات، لكن البعض لا يزال يرى أن التدين عبء ثقيل، ولا يزال النقد والكلام على الأخطاء يبرز بصورة واضحة تكاد تطغى على خطاب التربية، وكان ينبغي إبراز الجوانب الحسنة والإيجابية عند الشباب.(40/1)
ظاهرة الالتزام بين الشباب والفتيات
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: ففي بداية هذا اللقاء أرحب بالإخوة الحاضرين والأخوات الحاضرات، وأسأل الله عز وجل أن يثيب القائمين على هذا المخيم، وأن يجعل هذا العمل في موازين حسناتهم إنه سميع مجيب.
الموضوع هو: الالتزام هوية أم تكاليف؟ في ظل هذا الواقع الذي تعيشه الأمة ومع تركيز الجهود على صرف الشباب من الجنسين عن دينهم خرج جيل من الشباب والفتيات بعيد عما يريده الله تبارك وتعالى، جيل لا تتمثل فيه صفات أهل الإسلام، جيل ينتسب إلى الإسلام، لكنك حين تراه لا ترى فيه خلق المسلمين وسلوكهم، ولعل ما شاهدتموه قبل قليل يعطي صورة أو جزءاً من هذا الواقع.
عاشت الأمة غربة كالحة حتى أصبح المتدين إنساناً غريباً شاذاً سواء أكان من الشباب أو الفتيات، أصبح الشاب الذي تظهر عليه مظاهر التدين يمثل نموذجاً شاذاً في المجتمع، خاصة حين يكون شاباً متعلماً، فالمفترض أن يكون شاباً راقياً، والتدين إنما يليق بالقرويين والفلاحين وغيرهم! الفتاة حين تكون محجبة فإنها تصبح نموذجاً شاذاً، ويزيد الأمر حينما تكون طالبة متعلمة مثقفة، حينما تكون طالبة في التخصصات التي يتسابق الناس عليها ويشعرون أنه لا مكان لأمثال هؤلاء في هذه الدائرة.
بدأت الأمة تستيقظ، وبدأت ظاهرة عودة الشباب إلى الله تبارك وتعالى من الشباب والفتيات، وأصبحت اليوم في أي مكان وعلى أي مستوى لا يخطئك هذا النموذج؛ أن ترى هذا الشاب المتدين، تراه في مظهره فترى مظهره يحكي لك دون أن تعرف حاله وتعرف أخباره، هذا المظهر يعطيك انطباعاً وصورة بأنك أمام شاب متدين حريص على استقامته والتزامه.
وأصبحت أيضاً ترى الفتيات في تلك البلاد التي انتشر فيها السفور وأصبحت الفتاة تستطيع أن تلبس ما تشاء، وتستطيع أن تفعل ما تشاء، وتخرج كما تشاء في تلك البلاد أصبحت ترى الفساد ليست تلك الفتاة القروية، ليست تلك الفتاة التي تعيش في البادية أو تعيش في قبيلة محافظة إنما تلك الفتاة التي تعيش في المدن، في العواصم، تدرس في الجامعات ومع ذلك تراها محجبة تعتز بحجابها.
أصبحت هذه الظاهرة منتشرة في كل مكان، في الدول، في المدن، في الأقاليم، في القرى، في النواحي، في كافة الطبقات وكافة التخصصات، أصبحت ظاهرة تفرض نفسها، ومن هنا نشأ هذا الاصطلاح.
ربما البعض يتحفظ عليه أو يطرح بديلاً آخر لسنا في صدد نقاش هذه القضية، إنما نحن نتعامل مع أمر واقع، والمعنى واضح، فهناك شباب أصبح الالتزام سمتاً لهم وسمة لهم، وهناك فتيات أصبح الالتزام سمتاً لهن وسمة لهن، وصار الالتزام حياة ونقلة جديدة؛ ولهذا من الطبيعي أن تسمع أن فلاناً التزم واستقام أنني التزمت منذ التزمت أصبحت صورة واضحة، وصار هذا الوصف يعطي دلالة، فأنت حينما تصف فلاناً من الناس بأنه ملتزم أو تصف فلانة من الناس بأنها ملتزمة فهذا الوصف يعطي دلالة واضحة يفهمها الجميع ويعيها الجميع.
من هنا نشأ هذا الجيل وأصبحت له هذه الصفة، هذا المصطلح اصطلحنا عليه وإن كان البعض يتحفظ على هذا المصطلح، يتمنى أن نعبر بالمصطلحات التي دل عليها الشرع: المستقيم الصالح إلى آخره، لكن الاصطلاح إذا لم يترتب عليه محذور فلا إشكال فيه، وإن كان لو أتيح لنا الاصطلاح الشرعي الذي جاء في الكتاب والسنة فلا شك أنه أولى.
لكن لو اصطلح الناس على وصف لا يعارض الشرع فلا حرج في ذلك، فقد اصطلحت الأمة على علوم ومصطلحات، واصطلح الفقهاء على عبارات لم تكن بالضرورة قد نص عليها في الكتاب والسنة.
حينما نتأمل واقع هؤلاء الملتزمين من الشباب ومن الفتيات نرى مشكلة تؤرقنا كثيراً، تلكم المشكلة هي الشعور بالإحباط، نرى جيلاً محطماً، يأتي الشباب يلقون أسألتهم، يتحاورون، تسمع منهم، تجد أن الشباب الملتزمين المتدينين يعيشون إحباطاً، يعيشون نوعاً من عدم الثقة بالنفس، يعيش كثير منهم نوعاً من الشك في الالتزام، فتراه يطرح علامة استفهام على التزامه؛ ولهذا تجده كثيراً ما يقول: أنا شاب محسوب من الملتزمين، أنا شاب يعدني الناس من الملتزمين، وهكذا بالنسبة للفتيات؛ ولهذا ترى كثيراً منهم يضع علامة استفهام على التزامه واستقامته أصلاً.(40/2)
السمات المرتبطة بالشعور بالإحباط(40/3)
الشعور بالنقص
السؤال
هذه القضية هي التي سنحاول أن نتحدث حولها حديثاً لعله أن يكون حديثاً من عفو الخاطر.
أعتقد أن عدم ضبط التوازن بين الهوية والتكاليف كان من نتائجه أن نرى هذه الصورة، يمكن أن نذكر أبرز السمات التي ارتبطت بهذا الشعور منها: الشعور بالنقص: ترى الشباب والفتيات الملتزمين يشعرون بنقصهم، لا نعني بذلك النقص البشري، فالبشر لابد أن يكون لديهم النقص البشري، لابد أن يكون لديهم القصور الذي هو ملازم للبشر، سواء في طبيعتهم وخصائصهم أو حتى في تدينهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لولا أنكم تذنبون لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم).
وقال: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، فكل الناس لابد أن يقعوا في الخطأ، كل الناس لابد أن يقعوا في التقصير، فأن نشهد تقصيرنا البشري الذي هو جزء من كوننا بشراً هذا أمر طبيعي، لكن الشعور بالنقص الذي يتجاوز هذه القضية، ضعف الثقة بالنفس، سواء على مستوى الجيل والتيار أو على مستوى الأفراد.
فالآن لو سألت هذا السؤال وسألت الشباب: ما رأيك في الشباب الملتزم اليوم؟ وسألت الفتيات: ما رأيكن في الفتيات الملتزمات اليوم؟ ماذا تتوقعون أن تكون معظم الإجابات، ونحن نتحدث عن تيار عام، عن ظاهرة عامة، سنجد أن النسبة الكبيرة تنظر نظرة قاصرة، تنظر نظرة دونية، إنه يقول لك: إن جزءاً كبيراً من الالتزام الشائع اليوم مظهر أكثر منه حقيقة، إن هؤلاء كثير منهم غثاء، هؤلاء لا يتوقع منهم إلى آخره.
أنت ترى الحكم الآن في النهاية يدور حول الشعور بضعف هذا الجيل، بضعف هذا التيار، سواء أكان على مستوى الشباب أو كان على مستوى الفتيات، وعلى المستوى الفردي تجد معظم الشباب فاقدين للثقة بأنفسهم، يشعرون بأنهم غير مؤهلين للإنجاز، غير مؤهلين للتغيير، غير مؤهلين لأن يعيشوا حياة الالتزام الحقيقية.(40/4)
التفكير في المشكلات
مظهر آخر: سيطرة التفكير في المشكلات: حينما ألتقي بعدد من الشباب وأستقبل أسألتهم أجد أسئلة كثيرة تدور حول مشكلات: إنني أعاني من كذا، كيف أتخلص من كذا؟ أنا لا أحس أنني صادق في التزامي، لا أحس أنني جاد في التزامي، أنا لست جاداً في طلب العلم، لست جاداً في الدعوة، أنا عندي مشكلة كذا، أنا عندي كذا، تجد دائماً اللغة التي تسيطر علينا هي شعورنا بالمشكلات وسيطرة هذا الشعور، والأمر نفسه أيضاً تجده عند الفتيات.
لا شك -أيها الإخوة- أننا بحاجة إلى أن نشعر بالمشكلات، ومن الخطأ أن تغيب عنا مشكلاتنا، من الخطأ أن نتجاهل مشكلاتنا، والخطوة الأولى للتصحيح ولتجاوز المشكلات أن نعرفها وأن نعيها.
لكن الجيل الذي لا يفكر إلا بالمشكلات، الجيل الذي تسيطر عليه المشكلات؛ أعتقد أنه جيل غير مؤهل للإنتاج والتغيير كما سيأتي.(40/5)
ضعف الفاعلية
مشكلة أخرى ترتبط بهذه الظاهرة وهي ضعف الفاعلية: نحن نملك اليوم أعداد لا بأس بها من الشباب والفتيات الصالحين والذين نصطلح أن نصفهم بالملتزمين والملتزمات، والانتشار أفقي واسع، لا تكاد تدخل مدرسة من المدارس، بل فصلاً من الفصول في المدارس إلا وتجد فيه شاباً أو فتاة ملتزمة ومتدينة، أو تجد عدداً من المعلمين والمعلمات في هذه المدرسة أو تلك، لا تأتي حياً، لا تكاد ترى أسرة إلا وتجد هؤلاء.
أعتقد أن هذه الطاقات لو فعلت بطريقة جيدة وصحيحة لكان النتاج هائلاً، أو افترضنا أننا أمام شركة تجارية تملك مندوبين مسوقين في مدن شتى في مناطق شتى، سنتوقع تسويقاً عالياً لمنتجات هذه الشركة، ونتوقع ترويجاً عالياً لها.
إننا اليوم نملك طاقات كبيرة ومنتشرة في كافة المستويات، ولديها الرغبة في العمل والإنتاج، وأنا لست من المتشائمين، ولست من أولئك الذين يبالغون في النقد، فوافقوني أو خالفوني، وقولوا ما شئتم، لكنني أتفاءل وأقرأ في هذه الوجوه الخير، أقرأ فيها الإقبال على الخير، أقرأ فيها الإقبال على الصلاح، وأقرأ فيها ما لا يقرؤه الآخرون، لا أدري ألأني أسلط النظر على هذه الصفحة والآخرون يسلطون على تلك، أو لأني متفائل والآخرون متشائمون؟ لا أستطيع أن أفسر ذلك.
لكنني أقول: إننا نملك اليوم طاقات هائلة، وأعداداً غفيرة من الشباب والفتيات، وهي تملك الرغبة والحماس، لو وظفت توظيفاً فاعلاً لأنتجت نتاجاً هائلاً أكثر مما نتصور.
إذاً: هذا الجيل يعاني من ضعف في الفاعلية، وضعف في التأثير.(40/6)
حالات الانتكاس
أيضاً: من آثار ذلك الإخفاقات، نجد حالات من التراجع والتقهقر والتي اصطلحنا في أدبياتنا أن نسميها بالانتكاس: وهي حالات موجودة وكثيرة، جزء من هذه الحالات مصدره الشعور بالإحباط، أنا أرفض أن أفسر هذه الظاهرة بهذا العامل، لكن أقول: إن هذا العامل أحد العوامل التي تفسر لنا هذه الظاهرة، فهناك عدد من حالات التراجع والإخفاق مصدرها أن الشاب تمر به مواقف فيفشل فيها في السيطرة على نفسه، يفشل في التخلص من معصية يعاني منها، فيحاول ويحاول مرة أخرى فيشعر أنه غير جاد، يشعر أنه منافق، يشعر أنه غير مؤهل للالتزام فيحسم الموضوع ويتخذ قرار التراجع والتقهقر! أيها الإخوة والأخوات، هذه صور ونماذج تعكس حال هذا الجيل الذي يعاني من إحباط، ينظر إلى الالتزام نظرة واحدة، ينظر إلى الالتزام على أنه أعباء وتكاليف، وقيود صارمة، وأنه مرتقى صعب ليس من حق أي إنسان أن يدعيه ولا أن يسلكه، بل نسمع من الكثير بلسان الحال أو لسان المقال أننا لسنا أهلاً أن نوصف هذا الوصف.
والمشكلة -أيها الإخوة والأخوات كما أشرت قبل قليل- تتجاوز الحكم الفردي، قد يكون الإنسان متواضعاً، قد ينظر إلى سيئاته وتقصيره، لكنك تراها على الجيل.
لو ألقينا سؤالاً على الحاضرين والحاضرات: ما رأيكم اليوم في الشباب الملتزمين؟ ما رأيكن في الفتيات الملتزمات؟ سنجد معظم الإجابات تنظر نظرة فيها إحباط، تنظر نظرة متشائمة، ترى أن هذا الجيل جيل غير مؤهل، جيل غير جاد في التزامه، غير صادق في التزامه.
قد نفترض -كما قلت- مقت النفس واحتقار النفس والنظر إلى قصورها في الحكم الفردي حين يحكم الإنسان على نفسه، أما حين نحكم على الجيل فأعتقد أن مثل هذا الحكم يحتاج إلى إعادة نظر ويحتاج إلى مراجعة.(40/7)
الجيل الملتزم والتحديات(40/8)
التغيير والإصلاح
التحدي الثاني: التغيير والإصلاح: هذا الجيل المبارك من الجنسين هو الجيل الذي ننتظر منه بإذن الله أن يصلح، هو الجيل الذي ننتظر منه أن يرفع لواء الإصلاح والتغيير، من خلال المحيط الذي يتعامل معه ويتحرك من خلاله أو ما ننتظره في المستقبل، فنحن ننتظر أن يخرج من هؤلاء القادة والموجهين، وننتظر من هؤلاء الذين يقودون مشروع الإصلاح والتغيير الشامل.
مشروع الإصلاح الذي نتطلع إليه وننتظره -أيها الإخوة والأخوات- مشروع ضخم، ليس مجرد إلقاء كلمات هنا وهناك، ليس مجرد إلقاء مواعظ، ليس مجرد استثارة عواطف، إننا بحاجة إلى تغيير في المجتمع، والتغيير في المجتمع يحتاج إلى تحد، يحتاج إلى طول نفس، يحتاج إلى جيل مؤهل للتغيير، جيل يملك إمكانات وقدرات، يستطيع أن يفكر بطريقة صحيحة، يستطيع أن يعمل بطريقة صحيحة، يستطيع أن يفهم واقعه بطريقة صحيحة، يستطيع أن يقود عملية التغيير في كافة مجالات الحياة؛ في المجال الاجتماعي، في المجال الاقتصادي، في تدين الناس، في كافة مجالات الأمة، فنحن بحاجة إلى تغيير شامل، وصناع هذا التغيير هم هذا الجيل.
إذاً: هذا الجيل -أيها الإخوة والأخوات- يواجه تحديين: تحدي الثبات والاستقامة في ظل هذا الواقع وهذا العصر لصعوباته، وتحدي التغيير والتأهل للتغيير.
دعوني أسأل سؤالاً: هل تعتقدون أن الجيل المحبط الذي يفقد الثقة في النفس وينظر إلى نفسه نظرة دونية مؤهل لمواجهة هذه التحديات؟ حين نربي جيلاً نلهب ظهره بسياط الإحباط ونجيد صناعة الفشل، ووأد الطموح والثقة، فهل تعتقدون أنا سنخرج جيلاً يتهيأ للثبات في ظل هذا العصر ليقود عملية التغيير؟ نحن -أيها الشباب والفتيات- ننتظر منكم مشروعات طموحة، ننتظر منكم جهوداً هائلة، لا يمكن أن تكونوا عند مستوى طموحنا وتطلعنا حين تكونوا مطأطئي الرءوس، فاقدي الثقة، فإن الذي لا يستطيع أن يقود نفسه كيف يقود الآخرين؟ الذي لا يثق في نفسه كيف يمكن أن يوجه عملية التغيير وإرادة التغيير.
أعتقد أن الصورة واضحة أمامنا، ويشعر المربون والغيورون أن تحدي الثبات تحد ضخم أمامنا يواجهنا، ونشعر جميعاً أن تحدي التغيير هو الآخر تحد ضخم، وأننا بحاجة إلى أن نعد جيلاً يكون عند مستوى تطلعاتنا وعند مستوى طموحاتنا، لكن نحتاج أن نتساءل: هل ربينا هذا الجيل بالصورة التي تؤهله لأن يصل إلى هذا المستوى، بالصورة التي تؤهله أن يواجه هذه التحديات؟ أعتقد أننا بحاجة إلى مراجعة.
الجيل الذي نراه اليوم ونلمسه يقبل على الخير، يقبل على اللقاءات، جيل واعد نستبشر به، لكننا قد نخطئ بحسن نية وقد تدعونا المبالغة في الحرص فنقسو قسوة أو نسلك طريقاً ربما أدى إلى هذه النتيجة التي نعاني منها.(40/9)
عوامل سيطرة الإحباط على الشباب(40/10)
سيطرة لغة الانتقاد
لماذا نرى اليوم الإحباط يسيطر على كثير من الشباب؟ لماذا نرى الشباب من الجنسين ينظر إلى الالتزام على أنه تكاليف وأعباء وقيود؟ لماذا يغفل النظرة إلى الجانب الآخر والصورة الأخرى؟ هناك عوامل ولدت هذه الظاهرة، لا يتسع الوقت لأن نستعرض كل هذه العوامل، لكني سأشير إشارات يسيرة إلى أبرزها؛ لأن موضوع الحديث ليس الحديث عن العوامل، إنما هو حديث حول هذا العنوان العريض، هي دعوة إلى أن نطرح هذا السؤال ونسعى للإجابة عليه، أن يطرحه الشباب والفتيات وأن يطرحه المربون والذين يتحدثون للشباب.
من هذه العوامل: سيطرة لغة الانتقاد والحديث عن الأخطاء: الخطاب الموجه للشاب الملتزم والفتاة الملتزمة اليوم خطاب يسيطر عليه الانتقاد، يسيطر عليه التركيز على الأخطاء.
حينما نتحدث مع الشباب نتحدث عن آفات الشباب الملتزم، أخطاء الشباب الملتزم، أخطاء يقع فيها الشباب الملتزم، آفات، صدق الالتزام، عناوين نسمعها كثيراً، ويأتي هؤلاء الشباب، تأتي هذه الزهور المتفتحة، هذه الوجوه المشرقة وتستمع لهذه السياط التي تلهب ظهورها، وتستمع وهي تحب هذا الحديث؛ لأنه حديث من مشفق ناصح.
نعم، إن أولئك الذين يتحدثون هم يتحدثون من هذه المنابر، ويتحدثون مع هذا الجيل، ويتحدثون حديث المشفق الناصح، إنهم غيورون، إنهم حريصون على هذا الجيل، ولفرط حرصهم يحرصون أكثر على أن يبقى هذا الجيل نظيفاً، أن يبقى جيلاً طرياً فتزعجهم أي نقطة سوداء على هذا الثوب الناصع البياض.
ومن هنا قد يتجاوزون لحرصهم، شأنهم شأن ذاك الإنسان الذي وجد جوهرة ثمينة فوضعها في جيبه، فصار يتحسس جيبه بين فترة وأخرى، يخشى أن تسقط هذه الجوهرة، وهذا السلوك أفضل رسالة لأولئك الذين يحترفون النشل، تشعرهم بأن ثمة صيداً ثميناً في جيب هذا الرجل الذي يدفعه ذلك الحرص، أو ذلك الذي اقتنى منزلاً فارهاً، أو سيارة جميلة، أنفق عليها مالاًَ كثيراً، فتراه يسعى للحفاظ عليها، يتجنب الطرق التي يخشى أن يسمع من خلالها ضجيجاً، الطرق التي تلوح هذا الجمال الناصع الذي تتمتع به هذه السيارة وهذا المركوب.
نعم أيها الإخوة الكرام: إن هناك الغيورين الذين يتحدثون للشباب، أو الأخوات الداعيات اللاتي يتحدثن مع الفتيات، لكن أعتقد أن الانتقاد أخذ أكبر من حجمه الطبيعي وأخذ أكبر من حاجته، ونحن لسنا ضد الانتقاد، وأعتقد أن أياً منكم لو راجع شيئاً من مادتي المسموعة والمكتوبة سيجد نماذج من ذلك، ولابد أن ننتقد المظاهر الخاطئة، لكن أعتقد أن الانتقاد أخذ أكبر من حجمه، وأعتقد أننا تجاوزنا في الانتقاد، وصار حديثنا عن الأخطاء سمة بارزة؛ ولهذا فالشباب اعتادوا هذا الحديث، اعتادوا الحديث عن آفات الشاب الملتزم، عن أخطاء الشاب الملتزم، مشكلات الشاب الملتزم، هل نحن جادون في الالتزام، هل نحن ملتزمون حقاً؟ هل نحن صادقون؟ هذه عناوين نسمع بها كثيراً وعناوين براقة، وربما تعجبنا أكثر من العناوين الأخرى.
اتصلت علي فتاة، وقالت: أريد أن تلقي محاضرة عن أخطاء الملتزمات وآفات الملتزمات، قلت: لماذا؟ قالت: إن هناك مادة قدمت للشباب عن آفات الملتزمين وأخطاؤهم.
قلت: هل تعتقدين أن هناك أخطاء للملتزمات؟ قالت: نعم، وهي كثيرة.
قلت: أنا سأعد للمحاضرة، وكان هذا قديماً، وكانت المحاضرة بعنوان: القابضون على الجمر، وتحدثت فيها عن الوجه المشرق لهؤلاء، ولو كنت أشعر أن هناك مادة أخرى يمكن أن تستقل بالحديث لقدمت حديثاً خاصاً بالفتيات أيضاً حول هذه الصورة، قلت: إننا بحاجة إلى أن نبرز الصورة المشرقة، بحاجة إلى أن نتوازن، لماذا يكون حديثنا دائماً حول النقد؟ لماذا حديثنا حول الأخطاء؟ أين نحن من منهج النبي صلى الله عليه وسلم وسنشير إلى شيء من ذلك.(40/11)
النظرة السلبية للنفس
عامل آخر: النظرة السلبية للنفس: حين ننظر إلى أنفسنا تسيطر علينا النظرة إلى العيوب والأخطاء وجوانب القصور.
لست أدعو إلى أن نزكي أنفسنا، لست أدعو إلى أن نبالغ في الثناء على أنفسنا، لكن هناك فرق بين أمرين: بين امتناع الإنسان عن تزكية نفسه وبين مقت النفس الذي تحدث عنه السلف وبين الثقة بالنفس والتي نعني بها شعور الإنسان أنه يمكن أن ينتج شيئاً، يمكن أن يغير، يمكن أن يصنع الشيء الكثير.
الثقة بالنفس تعني أن نشعر أننا نملك طاقات، نستطيع أن نصنع، نستطيع أن ندعو، نستطيع أن نغير في واقعنا، نملك الكثير، والإعجاب بالنفس هو رضا الإنسان عن نفسه، شعوره بأن له منزلة عند الله، شعوره هذا شيء وذاك شيء آخر، الخلط بينهما هو الذي يؤدي إلى أن نفهم هذه القضية فهماً خاطئاً فننظر نظرة سلبية إلى أنفسنا، إننا بحاجة -أيها الإخوة والأخوات- إلى نظرة متوازنة لأنفسنا، وإلى عيوبنا وأخطائنا، وأن ننظر إلى إمكاناتنا، وأن ننظر إلى ملكاتنا، أن ننظر إلى ما حبانا الله من قدرات ومهارات حتى نوظفها توظيفاً صحيحاً.
قد أكون شخصاً لست سخياً بالمال والإنفاق، لكنني أجيد الحديث، فلماذا لا أنظر إلى هذا الجانب وأوظف هذه القدرة في الحديث مع الناس، قد لا أجيد الحديث والخطابة، لكني أجيد الكتابة، فلماذا لا أنظر إلى هذا الجانب في نفسي وأستثمره، قد أجيد العلاقات الاجتماعية.
فما من إنسان إلا وعنده جوانب إيجابية هي جوانب نجاح، فلماذا نفرط في النظر إلى الجوانب السلبية في حياتنا؟ لماذا لا نبحث عن مجالات النجاح؟ الذي يريد أن يعمل وينتج لا ينظر إلى جوانب السلبية، بل يبحث عن جوانب النجاح، يبحث عن الجوانب التي يمكن أن ينجز من خلالها فيوظف هذه المجالات.
واليوم اتسعت مجالات الدعوة وأصبحت تستوعب الجميع من الرجال والنساء، تستوعب الصغير والكبير، تستوعب المتميز والبليد، وما من إنسان إلا وعنده مجال يمكن أن ينجح فيه، وهذا المجال يمكن أن يوظف في مجال الخير والدعوة.(40/12)
تعميم الصور المثالية
عامل آخر: تعميم الصور المثالية: إذا تحدثنا -أيها الإخوة- عن قيام الليل أوردنا صوراً مثالية من سير السلف لم يصل إليها إلا آحاد منهم، إذا تحدثنا في الورع أوردنا أقوالاً ونماذج من هؤلاء، إذا تحدثنا في الاجتهاد في طلب العلم أوردنا نماذج من هؤلاء، إذا تحدثنا في الدعوة في الجهاد في أي ميدان أوردنا نماذج من هؤلاء، ولست أعترض أبداً على الاستشهاد بهذه المواقف ولا على هذه الأقوال، لكن المشكلة أن كثيراً من هذه الأقوال شاذة إنما لم تكن طبيعية، لم تكن صفة لكل الناس في ذلك المجتمع.
فحينما نعمم هذه النماذج ونحاكم الناس إليها؛ حينما أحدثكم عن عبادة الحسن البصري رحمه الله، أو أحدثكم عن جهاد ابن المبارك، أو أحدثكم عن دأب الإمام أحمد في طلبه للعلم، وأقول: حاكموا أنفسكم إلى هذا النموذج، أعتقد أنها صورة خاطئة وغير صحيحة، نعم نحن بحاجة إلى أن نبرز القدوات والنماذج، لكن هذا شيء وأن نحاكم الناس إلى هذا النموذج شيء آخر، فمراتب الخير تتفاوت، الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيه أعرابي فيقول: (ماذا فرض الله علي؟ قال: خمس صلوات، قال: هل علي غيرهن؟ قال: لا، إلا أن تطوع، وصوم رمضان، هل علي غيره؟ لا، إلا أن تطوع.
وحج البيت قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق).
وفي موقف آخر يبايع النبي صلى الله عليه وسلم طائفة من أصحابه على ألا يسألوا الناس شيئاً، فهذا نموذج وذاك نموذج، ينبغي أن نبرز الصور المشرقة من سير السلف ونماذجهم والقدوات، لكن أيضاً لا نحاكم الناس إليها، ولا نعمم هذه النماذج.
ما الذي يحصل -أيها الإخوة والأخوات- حينما يأتي الشاب فيقرأ هذه النماذج ويقارن نفسه بها، فيقول: أين أنا من عبادة فلان مثلاً، أين أنا من اجتهاد فلان، أين أنا إذاً أنا لست شيئاً، النتيجة أنا غير مؤهل أن أغيره.
حينئذ يتكرس هذا الإحباط عند الأفراد وعند هذا الجيل، فيخرج لنا جيل فاقد للثقة بنفسه، جيل يشعر أنه غير مؤهل للإنتاج.
نحن لا نريد اليوم أن نخلق الغرور عند الجيل ونقول: إنكم ستدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، لكننا أيضاً ينبغي أن نتوازن، وفرق بين أن نورد النماذج المتميزة ليقتدي بها الناس، وبين أن نحاكمهم إليها.(40/13)
تضخيم الأخطاء
صورة أخرى: تضخيم الأخطاء: نحن نضخم الأخطاء كثيراً ونبالغ في تصويرها، وهذا لا شك سيؤدي إلى هذا الشعور.
وأعتقد أنني مضطر إلى أن أتجاوز هذه النقطة.(40/14)
الالتزام تكاليف وهوية وانتماء
نحن بحاجة إلى أن ننظر إلى الالتزام على أنه تكاليف، نعم، فيه تكاليف تحتاج إلى جهد وصبر، لكن أيضاً نحتاج إلى أن نبرز الصورة الأخرى الالتزام هوية انتماء اعتزاز، نحن نريد الجيل الذي يعتز بأنه متدين، الجيل الذي يمشي وهو يرفع رأسه بإسلامه لا فخراً ولا بغياً؛ لكن ذلك السلوك الذي أمرنا القرآن أن نتأسى به: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:139 - 140].
اليوم يتحدث الغرب عن توظيف السلاح النووي، يتآمر العالم بمؤسساته، بحكوماته، بدوله على حرب هذا الجيل وحرب هذه الظاهرة، ويبقى هذا الجيل منتصراً، صامداً، فماذا يملك هذا الجيل؟ شباب لا يملكون وسائل إعلام، لا يملكون أنظمة تتحدث باسمهم، لا يملكون منظمات ومؤتمرات، ومع ذلك يشعر العالم أن هذا يشكل الخطر الداهم.
الشباب الأعزل اليوم في فلسطين يواجه الدبابات، يواجه المدفعية، يواجه دولة تملك ترسانة نووية هائلة، تملك جهاز مخابرات متفوق، ومع ذلك يواجهون بالحجارة هذا السلاح.
الفتاة التي يسخر منها في التمثيليات، في برامج الفن، في وسائل الإعلام؛ تحارب لأنها متحجبة، تحارب لأنها ملتزمة، ومع ذلك تصر على التزامها وعلى حجابها، وانظروا مثلاً إلى الصور التي تنقلها وسائل الإعلام من الشارع الفلسطيني، كم ترى نسبة المحجبات في ذلك المجتمع الذي يحكمه إخوان القردة والخنازير، الشباب الذين ضربوا أروع الأمثلة في الشيشان وفي أفغانستان، همتهم متوقدة للجهاد، للذب عن الدين، للبذل للتضحية، الشباب الذي صمد أمام كل هذه المواجهات، ونوقن بإذن الله أنه مهما ووجه فإنه سيصمد بإذن الله.
إننا بحاجة إلى الشاب الذي يعرف قيمته، يعرف منزلته، لا فخراً ولا بغياً، إنما يقول للناس: إننا الأعلون حين نكون مؤمنين، وحين يعيش الشباب هذا الشعور يثبت بإذن الله، في هذه الشدائد، ويستطيع أن يغير، ويقول: طال الزمن أم قصر فالأمر لله عز وجل، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105]، {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور:55].
إذاً: -أيها الإخوة والأخوات- إننا بحاجة إلى هذا التوازن، وهو أن يشعر الشاب الملتزم والفتاة الملتزمة أن الالتزام كما أن فيه تكاليف وأعباء فهو هوية وانتماء، وأمر يعتزون ويفتخرون به، إننا بحاجة إلى أن نقول للشباب حين نراهم: مرحباً بهذه الوجوه المشرقة، الوجوه الواعدة، إنكم أمل الأمة، إننا نستبشر حين نراكم، إننا نؤمل بإذن الله فيكم خيراً، ونشعر أن هذه الأمة التي تملك هذه الطاقات أمة مقبلة على خير طال الزمن أو قصر، والتغيير لا يقاس بالسنوات، بل يقاس بأعمار الأمم والأجيال.
فالتغيير قادم، رأيناه أو رآه الجيل الذي بعدنا أو الذي بعده، وهذه الصحوة بإذن الله عز وجل لن تنتهي إلا إلى تمكين ونصر ما دامت تملك هذه الطاقات.
أعتقد أننا بحاجة إلى أن نسمع هذه اللغة بدلاً من تلك اللغة التي تقول: إنكم غير جادين، إنكم مقصرون في عبادتكم، مقصرون في طلب العلم، أنتم لا تستحقون نصراً، أنتم لا تستحقون أن تصفوا أنفسكم بأنكم ملتزمون، أعتقد بأننا بحاجة إلى توازن.(40/15)
الاعتدال في النقد
حين نتحدث عن الأخطاء نحن بحاجة إلى أن ننقد مجتمعاتنا وبحاجة إلى أن ننقد جيل الصحوة؛ لأن النقد خطوة نحو التصحيح، لكنا بحاجة إلى اعتدال في النقد، فحينما نتحدث عن الأخطاء في صفوف الشباب والفتيات فإننا بحاجة إلى أن نعتدل في حديثنا عن هذه الأخطاء.
أولاً: في الموقف الشرعي منها: قد نتحدث عن معصية من المعاصي هي صغيرة من الصغائر فنحولها إلى كبيرة، وهذا ليس هو المنهج الشرعي، إن المعاصي فيها صغائر وفيها كبائر، نعم، نحن لا ندعو الناس إلى أن يستخفوا بمعصية الله، ولا ندعو الناس أن يستهينوا بالمعصية، لكن لا يسوغ أن نجعل الصغيرة كبيرة، قد يقع الشاب في معصية من المعاصي وهي صغيرة من الصغائر فيتوب، فنبالغ نحن في حديثنا عن هذه المعصية، ونجعل وقوع الشاب في هذه المعصية دليلاً على نفاقه، وعدم جديته، فيضطر الشاب إلى أن يتخذ قراراً في النهاية أن يودع الالتزام والاستقامة؛ لأنه يشعر أنه فشل في هذه التجربة، لكن هذا بحاجة إلى أن نسمعه: {وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:54]، بحاجة أيضاً إلى أن نعتدل في إعطاء الظاهرة حجمها الطبيعي.
اعتدنا أن نسمع كثيراً: هذه الظاهرة عمت وانتشرت، عمت وطمت، ويقع فيها الجميع إلا من رحم ربك، هذه الكلمات اعتدنا أن نسمعها كثيراً، وأعتقد أنه حديث مبالغ فيه، فمتى نتعلم الاعتدال؟ متى نستطيع أن نقول: إن هذه الظاهرة خطيرة لكن انتشارها اليوم في صفوف الصالحين محدود، انتشارها قليل، نعم لسنا بالضرورة ندعو إلى أن يقتصر حديثنا على الظواهر التي انتشرت بدرجة كبيرة، لكن حين نتحدث عن ظاهرة فلماذا نبالغ؟ لماذا نعطيها أكبر من حجمها؟ لماذا نعطيها أكبر من وزنها في ميزان الشرع؟ ولماذا أيضاً نضخم انتشارها وهي ليست كذلك؟ إذاً أيها الإخوة والأخوات، أيها المربون، أيها الغيورون، ليس من الغيرة أن نبالغ في تضخيم الأخطاء، فلنتحدث عن الأخطاء في إطارها الطبيعي وحجمها الطبيعي، وكل شيء مهما كان مطلوباً وجميلاً إذا جاوز الاعتدال أدى إلى صورة سلبية، الماء لا يمكن أن نشربه إلا بارداً، لكن لو زادت درجة برودة هذا الماء وتجاوز في الاعتدال لأصبح ضاراً.
التكييف نحتاج إليه ولا نستغني عنه، لكن لو زاد لأصبح ضاراً، مكبر الصوت الذي أتحدث من خلاله لا غنى لكم عنه، ولو زاد لأصبح مزعجاً مقلقاً.
فأقول: الحديث عن الأخطاء مطلوب، والتصحيح مطلوب، لكن ينبغي أن نتحدث بقدر، ويجب أن نعلم أننا إذا بالغنا في ذلك سيكون هذا الحديث مزعجاً، وسيؤدي إلى نتائج عكسية وجزء منها ما أشرنا إليه.(40/16)
إبراز الصورة الإيجابية
أيضاً نحن بحاجة إلى التوازن بين إبراز جانب التكليف وإبراز الصورة الإيجابية: حينما نتحدث عن الالتزام نحن أمام كفتين، نتحدث عن الالتزام باعتبار أنه تكليف وباعتبار أن الإنسان بحاجة إلى أن يأخذ الشرع بقوة، وهذا أمر لا شك فيه، لكن أيضاً نحتاج إلى أن نبرز عند الشباب وعند الفتيات أن الالتزام هوية، لماذا لا نجعل الشاب يعتز بالتزامه، يعتز بانتمائه للملتزمين، يفتخر بأنه ينتمي إلى هذا التيار، كما هو حال كثير من الشباب الذي يفتخر مثلاً بتشجيع فريق كروي يفتخر بانتمائه إلى شلة إلى عصابة في الحارة تلبي حاجة عند الشاب في هذه المرحلة، لماذا لا نجعل هذا الشعور عند الشاب الملتزم؟ ألسنا نرى اليوم بعض الشباب إذا قابل زملاءه أو أقرانه حاول أن يظهر بصورة أنه غير متدين، حاول يعدل في مظهره أحياناً، يحاول أن يترك بعض الأشياء التي يفعلها مع الصالحين حتى لا يوصم بأنه متدين؟ لماذا لا نجد الشاب الذي يرفع رأسه ويقول: نعم أنا متدين وأفتخر وأعتز بذلك، ويسعدني أن أرى مثل هذا النموذج.
أذكر موقفاً قديماً لكني لم أنس تلك الصورة وإن كنت لم أفهمها كما أفهمها الآن، حين كنت في سن الشباب في المرحلة المتوسطة، كان أحد الشباب المتدينين يتحدث مع شاب آخر غير متدين، بغض النظر عن اللغة التي كان يتحدث بها والأسلوب، لكن كان يقول: أنت يرضيك الواقع الذي أنت عليه؟ يقول: أسألك ما هو هدفك في الحياة، ما هي رسالتك؟ هذا لا يعرف الهدف إلا في مصطلح الرياضة، فرفع رأسه قال: طيب وأنت لك هدف؟ قال: نعم أنا لي هدف، أنا أحمل رسالة، هل تعتقد أن مظهرك هذا مظهر لائق بإنسان فضلاً عن شخص ينتسب للعلم إلى آخره، وبدأ يلهب ظهره بهذا الحديث.
وحين سأله الآخر عن هدفه ورسالته رفع رأسه معتزاً: أنا أحمل هدفاً، أنا صاحب رسالة وبغض النظر عن الموقف، لكن الشعور الذي يملكه ويحمله هذا الشاب نحن بحاجة إليه، أعتقد أن الشاب الذي في المرحلة المتوسطة أو الثانوية إذا كان يعتز بالتزامه يعتز بتدينه سيكون أكثر ثباتاً، سيكون أكثر تأثيراً، فيمشي مرفوع الرأس، ويبلغ رسالته للناس.
الصورة الأخرى رأيتها حين كنت معلماً قد بدأت أفهم الموقف بشكل أفضل من ذي قبل، كان هناك شاب متدين، ومجموعة من الشباب في ممر المدرسة، فمر هذا الشاب فلمزوه ببعض الأوصاف التي يوصف بها المتدينون، فوقف وعاد وسأل الشاب: ماذا تقول؟ صدم بهذا الموقف، هو اعتاد أنه إذا وصف هؤلاء يطأطئون رءوسهم وينصرفون، تلعثم وقال: يعني: أقول إنك مطوع باللهجة التي يرددها، قال: نعم أنا أفتخر بهذا وأعتز، وأنت فاسق؟ قال: لا، ما أنا فاسق، ما عليش يا أخي، المعذرة! قال: لا، أنا إنسان متدين وأعتز وأفتخر أن أوصف بهذه الصفة، يعني: أنت أولى أن تستحي! فكأنه قال له بلسان الحال: انصرف كما كنت جهولاً.
المقصود: أن هذا الشعور الذي يملكه هذا الشاب نحن بحاجة إليه بغض النظر عن وسيلة التعبير عنه، بغض النظر عن الموقف، أتمنى أن نربي أبناءنا على هذا الاعتزاز، حينئذ سنكون أمام جيل واثق من نفسه، جيل يمكن أن يغير بإذن الله تبارك وتعالى.(40/17)
تأصيل معنى الالتزام
أيضاً: من الأمور المهمة تأصيل معنى الالتزام وبيان أنه هو الأصل: الصورة المترسخة عند الناس أن الالتزام طارئ، لا أنه هو الأصل، فإن الله تبارك وتعالى خلق هذا الكون كله خاضعاً له: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]، فالكون كله يخضع ويسبح ويسجد لله تبارك وتعالى.
فالشاب الملتزم المتدين يعيش في تناسق مع الكون كله، مع كل هذه المظاهر التي تراها خاضعة وم سلمة لله عز وجل، فمن هو الشاذ ولو كثر عدده؟ ماذا يساوي البشر اليوم على ظهر الأرض، والمعمورة كم فيها من البحار والأشجار لكن ماذا تساوي في ظل هذا العالم الفسيح الضخم، كل هذا العالم خاضع ساجد قانت لله تبارك وتعالى إلا أولئك الغافلين المعرضين! إذاًَ: فالتدين هو الأصل، الشاب حين يكون ملتزماً متديناً فهو يعيش في تناسق مع هذا الكون، يعيش حياة طبيعية، أما الآخر فهو الذي يسبح ضد التيار، فإن الله خلق الخلق ليعبدوه، فنحن حين نلتزم ونستقيم نحقق الغاية التي خلقنا من أجلها، ونسير عليها، أما أولئك فهم يتنكبون الطريق، شأنهم شأن إناء صنع لمهمة، ولو وضعته على النار لانكسر؛ لأنه لم يخلق لذلك ولم يصنع لذلك، كذلك هذا الإنسان الذي ينحرف عن طاعة الله عز وجل.
إذاً: فالالتزام هو الأصل وليس أمراً طارئاً، هذا المعنى نحتاج أن نؤصله وأن نبسطه، وتأصيل هذه المعاني ليس بمجرد كلام نقوله، وإنما تبسط هذه المعاني من خلال وسائل عديدة يعيشها الشباب في مشاعرهم، فحينئذ سيعيشون صورة الاعتزاز والتسامي والارتقاء.
الاعتناء بإبراز النماذج والصور الإيجابية، نبرز النماذج الصالحة أمام الشباب من السلف والخلف، فيتطلعون إليها ولا تكون القضية مجرد تركيز على نقد وأخطاء، وحينما نتناول النماذج والقدوات ينبغي أن نتناولها بطريقة لا تؤدي إلى الإحباط، إنما تؤدي إلى التطلع والاقتداء والرغبة في الارتقاء.(40/18)
الاعتناء بالصور الإيجابية
الاعتناء بإبراز الصور الإيجابية، هناك صور إيجابية مشرقة، عند هذا الجيل المبارك نراها اليوم، نحن بحاجة إلى أن نبرزها، دعوني أشير إلى طائفة منها مرة أخرى، فهم جيل الغرباء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء)، فهم الذين أثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يأتي على الناس زمان القابض على دينه كالقابض على الجمر) هذه صورة إيجابية، صورة مشرقة.
صورة أخرى: الثبات اليوم رغم الفتن التي تواجه الشباب، الواقع كله والتيار يدعو الشباب والفتيات إلى طريق آخر، ومع ذلك يثبتون ويثنون ركبهم عند أولئك الذين يضربون ويجلدون ظهورهم بسياط اللوم والحديث عن الأخطاء ويستأنسون بهذا الحديث؛ لأنهم يرون أنه وسيلة للإصلاح، وهؤلاء الشباب الذين يتسابقون إلى حلقات القرآن، إلى المحاضرات، يرمون زملاءهم في الشوارع والملاعب، ويأتون إلينا في المحاضرات ثم نلومهم ونقول لهم: أنتم غير جادين، أنتم غير ملتزمين.
إذاً: ما الذي جاء بهؤلاء؟! إنهم يستطيعون أن يمتعوا أنفسهم بالشهوات المحرمة، يستطيعون أن يلهوا، أن يلعبوا، أن يعبثوا، ولكن ثبتهم الله عز وجل.
إن الثبات اليوم والالتزام في ظل هذا الواقع بحد ذاته إنجاز ونجاح وليس بجهد البشر، ليس بذكاء هؤلاء، لكن هذا الطريق من سار عليه ثبته الله وأعانه، ولولا تأييد الله وتوفيق الله عز وجل ودافع الفطرة لما استقام هؤلاء ولجرفهم هذا التيار الجارف.
هؤلاء الشباب تحقق فيهم معنى يسير أهونهم حالاً من يحب الصالحين ويجالس الصالحين، والذين يحبون الصالحين ويجالسون الصالحين لهم شأن عظيم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر الملائكة الذين يتتبعون مجالس الذكر ثم يصعدون إلى ربهم تبارك وتعالى فيقول: (كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم يسبحونك ويحمدونك ويكبرونك، ثم يقول الله عز وجل: ماذا يسألونني؟ قالوا: يسألونك الجنة، قال: مم يستجيرون؟ قالوا: من النار، قال: أشهدكم أني أعطيتهم ما سألوا وأجره مما استجاروا، قالوا: يا رب فيهم فلان عبد خطاء ليس منهم إنما جاء لحاجة فجلس، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم).
والثلاثة الذين أتوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أحدهم أعرض والآخر أقبل، والثالث استحيا، فالأول أعرض الله عنه، والثالث استحيا الله منه.
هؤلاء الشباب أسوأهم حالاً من يحب الصالحين ولسان حاله كما يقول الشافعي: أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سوياً في البضاعة وقد ثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه: (سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم.
قال: أنت مع من أحببت)، وقال: (يحشر المرء يوم القيامة مع من أحب).
إذاً: هذه نماذج من هذا الجيل المبارك نحتاج أن نبرزها، النجاح في أمور الحياة المادية، الهمة العالية، العمل الدعوي، المنجزات التي نراها كل هذا نتاج هذا التدين، وظاهرة التدين التي ظهرت أمامنا هي نتاج هذا الجهد، نتاج هؤلاء الشباب والفتيات، هؤلاء الصالحين مهما كان فيهم من عيوب وتقصير فهذا نتاجهم وهذا جهدهم، سواء أكان بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة.(40/19)
غياب الاعتدال
التوازن والاعتدال والوسطية سمة الشريعة الإسلامية، ومطلب ينشد في حياة المكلفين بها في عدة مجالات وميادين يصحبها في الغالب الغلو يمنة أو يسرة، كمجال العبادة والسلوك الشخصي وتقويم الأشخاص والهيئات، ومجال الظواهر الاجتماعية، والأحداث السياسية، والحياد عن هذا المطلب مصير إلى الغلو الذي ينشأ عن جملة من الأسباب والعوامل المؤدية إليه.(41/1)
الاعتدال سنة الله في خلقه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فأسأل الله تبارك وتعالى في هذه الليلة المباركة أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال ويجعلنا وإياكم ممن وفق لصيام هذا الشهر وقيامه إيماناً واحتساباً؛ إنه سميع مجيب.
أيها الإخوة الكرام! الاعتدال هو سنة الله تعالى في خلقه، إن هذا الخلق كله قائم على هذه السنة، على سنة الاعتدال، ولو تأملت هذه الظاهرة في مظاهر هذا الخلق وسعيت إلى أن تحصي أفرادها وأمثلتها لضاق بك المقام.
إن هذه الشمس التي تضيء للناس لو اقتربت من الأرض أكثر مما هي عليه لأحرقت الناس، وأحرقت هذه الأرض، ولو ابتعدت لتحولت الأرض إلى جليد، والقمر الذي يضيء في الليالي المقمرة ويتغزل الشعراء به ويهتفون، ويشبهون به من يصفونه بالجمال، لو زاد ضوؤه وصار كضوء الشمس لتحول الليل إلى نهار، ولغابت هذه الحكمة، فالله تبارك وتعالى جعل الليل سكناً، وجعل النهار معاشاً، وهكذا لو تأملت في كل مظاهر خلق الله عز وجل لرأيت أن ذلك كله قائم على الاعتدال، حتى ما يحبه الناس ويسعون إليه ويفرحون به له قدر إذا جاوزه صار منفراً، إن الناس يحبون الجمال ويسعون إليه وربما أنفقوا عليه مبالغ باهضة، لكن هذا الجمال له قدر إذا جاوزه صار مذموماً، فاللوحة الجميلة التي يعتني بها الرسام لو زاد فيها في نسبة الألوان أو في بعض العناصر التي يعتبر الناس أنها منطلق الجمال لتحولت إلى منظر قبيح.
وبياض البشرة يعده الناس جمالاً لمن أوتوا هذه الصفة، لكنه إذا زاد تحول إلى برص ولون منفر، ولا يصلح الناس طعامهم إلا بالملح أو بالسكر فيما اعتادوا أن يتناولوه حلواً، وبدونه لا يصلح الطعام، لكن هذا أيضاً حين يزيد عن قدره يصبح ممجوجاً.
والناس في شدة الحر يلجئون إلى التبريد ويسعون إليه، وإذا زاد عن قدره أصبح مؤذياً، ويشربون الماء البارد، وإذا زاد عن قدره صار مؤذياً، وفي شدة البرد يلجئون إلى أجهزة التدفئة يغتسلون ويستحمون بالماء الدافئ، وحين يزيد عن قدره يصبح مؤذياً.
وهكذا -أيها الإخوة- لو بقينا نتحدث عن مظاهر الاعتدال في هذا الخلق لضاق بنا المقام، فكل ما يحبه الناس ويسعون إليه ويريدونه، بل ربما يدفعون فيه المبالغ الباهضة ينبغي أن يبقى بقدر، فإذا جاوز هذا القدر تحول إلى أمر ينفر الناس منه، بل يسعون إلى الاستشفاء منه.(41/2)
الوسطية والاعتدال سمة التشريع الإسلامي
وجاء شرع الله تبارك وتعالى على وفق سنة هذه الحياة؛ لأن هذا الشرع جاء ليصلح حياة الناس، والناس لا تصلح حياتهم إلا بالاعتدال، ولهذا كان من سمات هذا الشرع الوسطية والاعتدال، ولو تأملت ذلك في كافة أحكام الشريعة لرأيت هذه السمة ظاهرة واضحة بارزة، وامتن الله عز وجل على هذه الأمة بأنها أمة الوسط، وجمعت معاني الوسطية: الخيرية والاعتدال، فقد حماها الله عز وجل من الغلو الذي وقع فيه من سلف من الأمم السابقة، وحماها تبارك وتعالى من الغلو في الطرف الآخر، إن هذه الأمة تعظم نبيها صلى الله عليه وسلم وتجله وتحبه وتطيعه، بل لا يتم إيمان عبد حتى يكون صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، لكنها لا تغلوا فتفعل كما يفعل النصارى الذين ألهوا نبيهم وجعلوه رباً من دون الله، ولا تجفو كما يجفو إخوان القردة والخنازير الذين كانوا يؤذون الأنبياء، بل يقتلونهم بغير حق، وهكذا شأن هذه الأمة في الشرع والأخلاق والدين.
فالاعتدال -أيها الإخوة- هو سنة الله في الحياة، وهو سمة هذا الشرع، وهو صفة هذه الأمة، ومن هنا كنا بحاجة إلى أن نتصف بهذه الصفة، كنا بحاجة إلى أن نتجنب طرفي الأمور، فكلا الطرفين مجانبة للاعتدال.(41/3)
مجالات يغيب فيها الاعتدال في حياة بعض الناس(41/4)
الاعتقاد والتوحيد
إن هناك مجالات يغيب فيها الاعتدال في حياة الناس، وحين يغيب قد يؤدي إلى غلو مذموم ممقوت يعتقد صاحبه أنه يحسن صنعاً، وقد يؤدي إلى جفاء وإفراط.
فالاعتقاد والتوحيد مبناه على الاعتدال، ولهذا أنكر الله عز وجل على أهل الكتاب: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ} [المائدة:77]، {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ} [النساء:171].
وأضرب لكم مثلاً في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي من أمور الإيمان، بل مما لا يتم الإيمان إلا به، فمحبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم من الإيمان، لكن هذا التعظيم له قدره، فإذا جاوزه قد يؤدي بصاحبه إلى الشرك بالله تبارك وتعالى، كما نرى ممن يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم وينزلونه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر).
كذلك في إثبات ما أثبت الله عز وجل لنفسه ونفي ما نفاه عن نفسه تبارك وتعالى، فمن الناس من غالى في إثبات الصفات والأسماء التي وصف الله عز وجل بها نفسه وسمى بها نفسه، فغالى في ذلك، فأدى به ذلك إلى التشبيه والتجسيم وغير ذلك مما يقع فيه هؤلاء الغلاة، ومنهم من غالى في الطرف الآخر ففر من أن يشبه الله عز وجل بخلقه فغالى في نفيها وإنكارها.(41/5)
العبادة
وكذلك العبادة، فإنما خلق الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى، ولا يلام الإنسان على العبادة أبداً، تلاوة القرآن، الصلاة، الصيام، قيام الليل، الإنفاق، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، من الذي يقول: إن العبادة شر أو: إن فيها شراً؟ لكن هذه العبادة أيضاً لها قدر محدود إذا جاوزه الإنسان فشق على نفسه فقد خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك حين جاء طائفة من أصحابه، فسألوا عن عبادته فتقالوها، فشعروا أنها قليلة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك وقال: (أنا أتقاكم لله وأخشاكم له)، وحين تزوج عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه امرأة من قريش وكان قد عمر ليله بالقيام ونهاره بالصيام أتى والده عمرو رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي حاله، فدعاه صلى الله عليه وسلم فسأله: (كيف تختم القرآن؟ قال: كل ليلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بحسبك أن تختم كل أربعين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: كل ثلاثين يوماً، كل جمعة، إلى أن قال: في كل ثلاث، ثم سأله عن صيامه، فكان يصوم كل يوم، فقال: بحسبك أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر) إلى أن أوصله إلى أن يصوم يوماً ويفطر آخر، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً، ولزورك -أي: ضيفك- عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وحين رأى صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدوداً بين ساريتين، قال: (لمن هذا؟ قالوا: لـ زينب، تصلي فإذا فترت تعلقت به، فقال: مه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد)، وحين حدثته عائشة رضي الله عنها عن امرأة رآها عندها، فكانت تذكر من صلاتها، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم من الأعمال ما تطيقون)، والشواهد على ذلك كثيرة.
إن العبادة والصلاة وتلاوة القرآن -أيها الإخوة الكرام- من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه، لكن تحتاج إلى اعتدال، فلا يشق الإنسان على نفسه ولا يشق المرء على نفسه، وإذا شق على نفسه جاوز القدر المشروع وخالف سنة أعبد الناس وأتقاهم لربه صلى الله عليه وسلم.
ومن المجالات التي قد يشدد بعض الناس ويبالغ فيها في العبادة: مبالغة بعض الناس في الحديث عن شروط العبادة، وشروط أعمال القلوب والتشديد فيها، إنك حين تسمع بعض من يتحدث عن الصلاة وعن الخشوع فيها، فيتحدث ويشدد هذا الأمر حتى كأن المصلي نادر، فيقول: إن هؤلاء الذين يصلون يندر فيهم من يخشع في صلاته، يندر فيهم من تقبل صلاته، يندر فيهم من يصلي كما أمر الله عز وجل إلى آخره، كأن الناس هؤلاء كلهم لا يؤدون هذه الصلاة وهذه الفريضة، والبعض حين يتحدث عن بعض أعمال القلوب قد يكلف الناس ما لا يطيقون، قد يتحدث البعض عن الإخلاص، وهو أمر عزيز، لكن يتحدث عنه بأنه نادر جداً، ومن النادر أن تجد الإنسان المخلص.
إذاً: وما شأن بقية الناس؟! وهل هذا هو الدين الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر)؟! أين هذا من نصوص القرآن المحكمة الواضحة ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم؟ إذاً -أيها الإخوة-: التشديد والمبالغة ومجاوزة القدر حتى ولو كان في عبادة الله عز وجل؛ إذا جاوز الإنسان القدر الشرعي القدر الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في كتاب الله، فإنه يصبح أمراً مذموماً.(41/6)
السلوك الشخصي
وهذان المجالان من أكثر ما يقع فيه الغلو في الدين، وليس حديثي عن هذا، ليس حديثي عن الغلو في العبادة وما يتعلق بها، فإن غالب حالنا اليوم هو التفريط والله المستعان، وإن وجدت حالات من الغلو والشطط -سواء في الاعتقاد أو في العمل والسلوك- فإنها حالات قليلة، لكن الظاهرة التي أعتقد أننا نشتكي منها كثيراً، هي أن الاعتدال يغيب كثيراً في تفكيرنا، يغيب كثيراً في حديثنا، في آرائنا، في مواقفنا، في وزننا للأمور، وهذا ما أريد أن أركز الحديث حوله.
ولهذا أنتقل إلى المجال الثالث من مجالات الاعتدال: السلوك الشخصي.
ثمة صفات محمودة يحبها الناس، لكنها بقدر، فالشجاعة إنما تطلب بقدر، وقد تنقلب تهوراً، ويعتقد الإنسان أنه كلما ازداد فيها أصبح الأمر محموداً، والحلم مطلوب، لكنه قد ينقلب عند بعض الناس إلى ضعف وخور، فلا يغضب لما ينبغي أن يغضب المسلم من أجله، وهكذا سائر الصفات.
والغيرة على حرمات الله عز وجل قد تتحول عند البعض إلى جفاء في التعامل مع أهل المعصية، جفاء في التعامل مع الناس.
وحسن الخلق واللطافة قد تتحول أحياناً بالإنسان إلى أن يترك الحزم في المواطن التي ينبغي أن يحزم فيها.
السلوك الشخصي سلوك الإنسان في حياته، في تعامله مع وقته، في تعامله مع نفسه، في تعامله مع الآخرين، ينبغي أن يقوم على الاعتدال، والصفة المطلوبة أياً كانت، إنما تطلب بقدر كالملح في الطعام، كالبرودة في الماء الذي لا يستسيغه الناس إلا بارداً، إنما تطلب بقدر، فإذا جاوزت هذا القدر أصبحت قد جاوزت الاعتدال، سواء أكانت في هذا الطرف أو في الطرف الآخر.(41/7)
تقويم الأشخاص والمشروعات والهيئات والجماعات
المجال الرابع: التقويم، في تقويم الأشخاص كثيراً ما نفتقد الاعتدال، فنحن في الغالب ندور بين مديح مبالغ فيه وثناء مفرط فيه، أو ذم مبالغ فيه، وقلما نعتدل في تقويمنا للأشخاص، فحين يعجبنا شخص نسعى إلى أن نبرر أخطاءه، ونسعى إلى أن نبرر مواقفه، قد يعجبنا إنسان في علمه وتقواه وورعه، قد تجد إنساناً عالماً تقياً ورعاً صالحاً، لكن هذا الإنسان لا يجيد التعامل مع الآخرين ويجفو مع الآخرين؛ بطبيعته وببشريته، فالناس بشر ولا يمكن أن تجد في كل إنسان كل ما تريده، والذي يعتدل في تقويمه لا يحول هذه السمة والسلوك الشخصي إلى حسنة، فيرى أن هذا الجفاء وهذه الغلظة أمر مطلوب حتى يأخذ الناس بالحزم والعزم والجد إلى آخره.
وقد يوجد نموذج آخر، قد يوجد إنسان فيه نوع من الضعف البشري، وإن كان أعطاه الله عز وجل علماً ورأياً وحكمة، فيستسلم للناس ويغير الناس مواقفه وتتغير آراءه ويستجيب لكل من طلب منه موقفاً أو رأياً فيعده الناس وحسن الخلق، نعم هو حسن الخلق، لكنه قد جاوز الاعتدال.
المقصود -أيها الإخوة- أن البشر مهما كانوا ستبقى فيهم سمات البشر، سيبقى في كل إنسان جانب من جوانب القصور، وإذا أخذنا الناس بهذا الأمر وافترضنا البشرية في الناس؛ فإننا لن ننتظر منهم الكمال ولن نحاسبهم على الكمال، وفي المقابل سنضع أخطاءهم في إطارها الطبيعي، وسنضع شخصياتهم في إطارها الطبيعي.
إننا اليوم على مستوى الشخصيات الدعوية أصحبنا نعرف مصطلحاً واحداً هو مصطلح ما نسميه (الشيخ)، فمن يستطيع أن يتحدث أمام الناس، يستطيع أن يكتب للناس، هذا الإنسان نطلق عليه لقب (الشيخ)، وحين يستحق هذا اللقب وهذا الوصف؛ يصبح مؤهلاً لكل شيء، أن يتحدث في كل موضوع، أن يفتي، أن يستشار، أن يتحدث في كل قضية، أن يستشار في كل أمر يعرفه ولا يعرفه، يحسنه أو لا يحسنه، فهذا الأمر ليس صحيحاً، فقد ينبغ إنسان في جانب من الجوانب، قد ينبغ إنسان في ميدان الفقه والفتوى، قد ينبغ إنسان في ميدان الوعظ والتأثير على الناس، قد ينبغ إنسان في ميدان الإصلاح، قد ينبغ إنسان في ميدان الرأي والحكمة، فينبغي أن نضعه في إطاره، ولن يعيبه أن يفقد أمراً آخر مما يملكه الآخرون، وقل مثل ذلك في النقد، فإنك ستجد عند الناس عيوباً، لابد أن تجد عند الناس عيوباً، إما تلك العيوب التي هي من طبيعة البشر، فمن الناس من يكون متعجلاً، ومن الناس من يكون شديد الغضب، فالناس لهم صفات ولهم سمات، وهذه الصفات تترك أثراً على شخصياتهم، وإما تلك العيوب التي هي نتيجة خطأ أنسيه، نتيجة اجتهاد، نتيجة أمر لا يسلم منه البشر، فحين نجد خطأً أو أخطاء عند فلان من الناس فإن هذا لا يعني أن يصبح مثل الشيطان الرجيم لا نذكره إلا بالسوء ولا نتحدث عنه إلا بالسوء.
المقصود -أيها الإخوة- أننا بحاجة إلى الاعتدال في تقويمنا للأشخاص.
أيضاً: في تقويمنا للمشروعات والأعمال كثيراً ما يغيب الاعتدال عنا، فنحن إما أن نقف مع هذا المشروع وهذا العمل مائة في المائة وندافع عن كل جزئية فيه، وإما أن نقف ضده تماماً ونعتبره سوءاً وشراً وأمراً مخالفاً، سمعنا من يتحدث عن تفطير الصائمين في هذا الشهر الذي هو ظاهرة نراها من خير الظواهر في مثل هذا المجتمع، يتحدث عن هذا بأنه إضاعة للمال وأن هذا الأمر لا يجوز إلى غير ذلك، إنه صورة من صور المبالغة، نعم قد يكون للإنسان وجهة نظر في بعض أساليب هذه الأعمال، قد يكون له تحفظ على بعض ما يصاحبها، والناس سيختلفون في الرأي في مثل هذه الأعمال، لكن بهذه الصورة المتطرفة التي تجعلها إضاعة للمال مع أنها تفطير للصائم، والكبد الرطبة فيها أجر؟! والإسلام قد شرع أن يعطى الكفار من الزكاة تأليفاً لهم على الإسلام، فكيف بغيرهم من الناس؟! إنها صور من مجانبة الاعتدال.
وكذلك تقويم الهيئات والجماعات والجهات الدعوية: فاليوم انتشر في الساحة الإسلامية هيئات إسلامية، جمعيات، جماعات، أحزاب، منظمات، ومعظمها يريد الخير، يريد الدعوة، معظمها يغلب عليه الخير، لكنها تتأثر بواقع مجتمعاتها، تتأثر بواقع أولئك الذين يقودونها، فيكون فيها من الضعف والقصور ما يكون فيها، تقويمنا لواقع هذه الهيئات والجماعات لا يكاد يخلو من الغلو، لا يكاد يخلو من المبالغة مدحاً أو قدحاً، وقلما تجد التقويم المعتدل الوسط، فإما أن تجد من يتصيد الأخطاء فيبحث عنها ويصور لك هؤلاء الدعاة إلى الله عز وجل على أنهم جيش من المفسدين الضالين التائهين، وإما أن تجد في الطرف الآخر من يبرر الخطأ ويفسره تفسيراً آخر، فلا هذا ولا ذاك.
إن الاعتدال -أيها الإخوة- كثيراً ما يغيب في تقويمنا، تقويمنا للناس، تقويمنا للأعمال، للمشروعات، للهيئات، للجمعيات وغيرها، والتقويم يحتاج إلى أن يكون معتدلاً فينظر إلى الأمور من كافة جوانبها.(41/8)
الأفكار والمشروعات
المجال الخامس: الأفكار والمشروعات: نقدم أفكاراً ونطرح مشروعات قد نتبناها وقد نعمل بها وقد نقدمها للناس، وقد تكون أفكاراً فيها فرص للنجاح، فيها فرص لأن يتحقق منها فائدة، لكننا كثيراً ما نبالغ ونجاوز الاعتدال في حديثنا عن أفكارناً، في حديثنا عن مشروعاتنا، فحين يقدم الإنسان فكرة يعتقد أنها ستؤدي إلى حل مشكلة أو علاج ظاهرة، فإنه يبالغ في وصفها، يبالغ في فرص النجاح التي يتوقعها منها، بل ربما أدى به ذلك إلى أن يسفه أولئك الذين لا يشاركونه الغلو نفسه في الحماس لهذه الفكرة.
أقول: قد يقدم أفكاراً جميلة ومشروعات، وليس من العيب أن نتحمس لمشروعاتنا، وأن نتحمس لأفكارنا، لكن ينبغي أن نضعها في إطارها الطبيعي، انظر إلى أولئك الذين يتحدثون عن أفكارهم، عن مشروعاتهم، عما يقترحون، تجد أن نسبة كبيرة من هؤلاء، يبالغون في تصورهم للأثر الذي ستتركه هذه الأفكار والمشروعات، يندفعون بحماس لها، وأيضاً يزيدون على ذلك أن يتضايقوا من أولئك الذين لا يشاركونهم الغلو نفسه في الحماس لأفكارهم، إنك تجد من الناس من يريد الجميع في هذا القالب، يريد الجميع أن يتحمسوا لهذه الفكرة كما يتحمس لها وكما يعمل لها، لا نعيب على إنسان أن يتفرغ لمشروع، أن يهتم بأمر وأن يفرغ وقته وجهده له، لكن هذا شيء والغلو والمبالغة في وصفه والثناء عليه وافتراض النجاح فيه شيء آخر.(41/9)
الآراء الشخصية
الجانب السادس: الآراء الشخصية: قد تكون لنا آراء شخصية، وستكون لنا آراء في أمور كثيرة، خاصة أن هناك مساحة واسعة جداً تتسع للآراء من المشروعات الدعوية، والوسائل الإصلاحية، والأفكار التي يمكن أن يكون لها دور في إصلاح المجتمع وغير ذلك، جانب كبير منها هو رأي شخصي، حينما أقدم رأياً حول أسلوب دعوة النساء في الأسواق؛ إذ النساء اليوم ينتشر بينهن التبرج في الأسواق، حينما أقدم فكرة حول دعوة الطالبات في الجامعات والمدارس مثلاً، تبقى رأياً شخصياً يحتمل النجاح والفشل، يحتمل الخطأ والصواب، وكثير من الخلافات والمخترعات التي تدور هي في هذه الدائرة، فحديثنا عن هذه الآراء الشخصية يتجاوز القدر الطبيعي، فنبالغ في حديثنا عن الآراء الشخصية مدحاً وذماً وقدحاً وحماساً إلى غير ذلك.(41/10)
الاختيارات الفقهية
الجانب السابع: الاختيارات الفقهية: هناك مسائل جاءت فيها نصوص واضحة، ولهذا فإنك ترى الأمة لم تختلف فيه، أو ترى جمهور الأمة قد اتفقوا عليها، لكن هناك مسائل هي محل خلاف بين أهل الفقه، ولا يزال أهل العلم يختلفون فيها، وسيبقون مختلفين إلى أن تقوم الساعة، فإذا كان هذا الاختلاف وسع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بمن بعده؟! قد يترجح عند الإنسان رأي في مسألة فقهية فيغلو في ترجيح هذا الرأي له، ويأخذ الأدلة الكثيرة جداً على تحريم هذا الأمر أو على وجوبه أو على استحبابه أياً كان، ويخيل للناس أن هذا البحث الذي قام به أو هذا التقرير الذي قرره سيضع النقاط على الحروف وسيغلق الباب في مثل هذه المسألة إلى غير ذلك، ويتحدث في المسألة على أن هذا الحديث حق لا يقبل النقاش، وعلى أن أولئك الذين يرفضونه يرفضون الحق، يرفضون الدليل، نعم كثيراً ما يترجح رأي لطالب في مسألة اجتهادية، ويرى أنه قد لا يسوغه أن يقول بغيرها، لكن هذا شيء والقطع والمبالغة في الرأي فيها شيء آخر.
دعوني أضرب على ذلك مثلاً: تعلمون أن حلي المرأة اختلف أهل العلم في وجوب الزكاة فيه، فالجمهور على أنه لا تجب فيه الزكاة، ومعظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقل عنهم الفتوى بعدم وجوبه، وهناك رأي آخر -وله أدلته- أن الزكاة واجبة في الحلي، لا نريد أن نقرر هذه المسألة الفقهية، لكن هذا خطيب يخطب أمام الناس ويتحدث عن أولئك الذين لا يؤدون زكاة الحلي، ويقول: إن هؤلاء من حطب جهنم إلى غير ذلك، وهناك فرق بين من يمتنع عن الزكاة، ولا يؤدي الزكاة، وبين من يرى أنه لا يجب عليه أن يخرج الزكاة في هذا المال، وقد وسع هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يسع غيرهم؟! نعم كثيراً ما يشعر طالب العلم أنه لا يسعه إلا هذا، قد يشعر أنه لا يسعه إلا أن يخرج الزكاة في هذا، لا يسعه إلا أن يعمل بهذا القول وذاك، لكن هذا شيء وأن يلزم الناس به شيء آخر، وأن يرتب عليه الأحكام شيء آخر.
وهاهنا نقطة مهمة ينبغي أن نشير إليها: ففي المسائل الاجتهادية كثيراً ما تجد رأياً يميل إلى الحزم والتشديد ورأياً يميل إلى التيسير، لا يعني ذلك أن الذي يختار رأياً فيه تشديد -كالذي يختار إيجاب الزكاة في هذا المال أو ذاك، وكالذي يختار بطلان الصلاة والوضوء بهذا العمل- لا يعني أنه غال، إذا تحقق فيه شرطان: إذا كان هذا الرأي عن اجتهاد وهو من أهل الاجتهاد أو قلد من هو أهل أن يقلد في ذلك، ولم يشدد على الناس في هذا الأمر، ولم يتجاوز هذا القدر، فإن اختياره لهذا الرأي الأحوط والأشد لا يعني الغلو، ولا ينبغي للطرف الآخر أن يتهم هذا الإنسان بالغلو؛ لأنه اختار هذا الرأي الأحوط والأشد، بل إن الناس يختلفون ويتفاوتون كما سيأتي في الحديث، فقد تجد من الناس من يغلب عليه أنه يأخذ بالعزيمة في آرائه وفتاواه حتى في حلفه للناس، وبعض الناس يغلب عليه الأخذ بالتيسير، وهذا الأمر منذ سلف الأمة وإلى قيام الساعة.
المقصود: أن من يختار هذا الاجتهاد لا يعني ذلك أنه قد غلا، إنما الغلو هو أن يجاوز القدر، حين يقرر هذه المسألة يجعل من خالفها مبتدعاً، ويجعل من خالفها فاعلاً للمعصية، ويجعل من خالفها فيه كذا وكذا، إلى غير ذلك.(41/11)
الظواهر الاجتماعية
الجانب الثامن: الظواهر الاجتماعية: حديثنا عن الظواهر الاجتماعية تكثر فيه المبالغة، في حديثنا عن حجم الظاهرة، حين نتحدث عن أي ظاهرة في المجتمع أياً كانت هذه الظاهرة، وكان المتحدث عنده حماس لهذا الموضوع أقلقه أزعجه، فإنه لا يفرق بين خطورة الشيء وبين حجمه في المجتمع، وبينهما فرق كبير.
فنحن نعلم -مثلاً- أن المخدرات خطيرة، وانتشارها خطير، لكن هذا شيء، وحجم انتشارها في المجتمع شيء آخر، الفساد الخلقي خطير والفواحش، ويكفي أن الله عز وجل عاقب أقواماً وأمماً أعلنوا بهذه الفواحش وأظهروها، لكن هذا شيء وانتشارها في المجتمع شيء آخر، فقد يغلب علينا النظر إلى خطورة الظاهرة فنعممها في المجتمع، ونبالغ في الحديث عن حجمها ونكسيها أكبر من حجمها، وفرق بين أن تكون الظاهرة خطيرة وبين أن تكون الظاهرة منتشرة، نعم هناك من الظواهر ما لو لم توجد إلا بنسبة قليلة ينبغي أن نتحدث عنها ونحذر منها، لكن فرق بين أن نحذر منها ونتحدث عنها وبين أن نقول: إنها انتشرت وعمت وطمت، ولهذا تسمع هذه الكلمة كثيراً، فكثير من الذين يتحدثون عن المشكلات يقولون: عمت وطمت، إلا من رحم ربك، ودائماً تسمع هذه الكلمة في الحديث عن أي ظاهرة، فعلى أي أساس نقول هذا الكلام؟! وكذلك الحديث عن تفسير الظاهرة، تفسير الظاهرة قد يكون فيه نوع من الغلو، فنفسرها من خلال سبب واحد، نفسر هذه الظاهرة بهذا السبب، كالطلاق، فقد زادت نسبة الطلاق، وأعتقد أنكم توافقونني على أنه نسبة زائدة، نسبة أعلى من قبل، قد لا نملك أرقاماً دقيقة، لكن الظاهرة منتشرة وموجودة ومزعجة، بعض الناس يقول: إن السبب في هذه الظاهرة هو النظر الحرام، فإن الرجل إذا نظر إلى النساء زهد في زوجته وتطلع إلى الحرام، ثم نشأت المشاكل إلى غير ذلك، نعم النظر الحرام لا شك أنه قد يؤدي إلى مثل هذا الأمر، لكن هل يعني هذا أن هذه الظاهرة كلها تعود إلى هذا السبب؟ هل يعني أن معظم حالات الطلاق تعود إلى هذا السبب؟ فرق بين أن يكون الأمر محرماً ومخالفة، وبين أن نفسر الظاهرة من خلاله، فعندنا رغبة جامحة في محاولة تفسير كل ظاهرة من خلال عامل واحد، من خلال سبب واحد.
كذلك اقتراح العلاج والحل، فالعلاج يتمثل في حل واحد دائماً عندنا، حينما نتحدث عن الطلاق، نقول: إن المشكلة تأتي من فساد دين الناس، إذا صلح الزوجان واتقيا الله عز وجل انحلت المشكلات، أعتقد أن هذا الكلام فيه اختزال، ألسنا نجد عدداً من الصالحين يطلقون ويحصل عندهم الطلاق؟! نعم، الله عز وجل أمر عباده بالتقوى وأكد على التقوى عند الحديث عن آيات الطلاق، ولها صلة بذلك، لكن الصلاح والتقوى كثير من الناس يفهمه فهماً خاطئاً، فمن الصالحين من يسيء العشرة، وأحياناً يكون هناك نوع من عدم التوافق بين الزوجين، وهناك عوامل كثيرة ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار.
المقصود -أيها الإخوة- أن حديثنا عن الظواهر الاجتماعية كثيراً ما يغيب فيه الاعتدال، إما في حجم ظاهرة أو في تفسيرها، أو في علاجها.(41/12)
الظواهر والأحداث السياسية
المجال التاسع: الظواهر والأحداث السياسية: الأحداث السياسية نجنح إلى المبالغة في تفسيرها، وخذ على سبيل المثال الحديث عن المؤامرات، أي حدث يحصل نجنح إلى تفسيره بأنه مؤامرة، فنرى أن الحدث كله تمثيلية من أوله إلى آخره، نعم هناك مؤامرات، هناك أشياء لا تكتشف إلا بعد وقت، لكن لا يعني أن كل حدث يحصل هو -بالضرورة- مؤامرة، وهذا التبسيط المذهل للأحداث، التبسيط المذهل للقضايا لا يعني فطنة ووعياً، الوعي أن نعي الأسباب الحقيقة للظواهر، والأحداث والظواهر السياسية في الغالب ظواهر معقدة، تنشأ من خلال عوامل عديدة لا يمكن أن نفسرها من خلال موقف واحد وعامل واحد.
قد أقول لكم مثالاً وإن كان متطرفاً، لكن يبين لنا الصورة في ذلك: إمام أحد المساجد انزعج من رنين الجوال أثناء صلاة التراويح، وهذا يحصل كثيراً؛ أن الإنسان ينسى أن يطفئ جواله، فقال: إن هذه الجوالات أتى بها الأعداء ليشغلونا، وبدأ يتحدث عن مكر الأعداء وكيدهم في هذا الجهات.
قد تكون هذه الصورة شاذة، لكنها تمثل نمطاً من التفكير موجوداً، إنما الخلاف في قدر الشذوذ وفي مستوى التطرف، وإلا فالتطرف موجود، وقد كان يمكنه أن يقول: إن الجوال له فائدة يحسن بالإنسان أن يطفئه، قد ينسى الإنسان إطفاءه إذا أتى إلى المسجد، فليطفئه، والأمر لا يحتاج إلى مثل هذا الضجيج والإزعاج، والذي يحدثني يقول: كنت نسيت جهازي فلم أطفئه، فخشيت أن أطفئه أمام الناس، فوجدت حرجاً، خشيت أن يسيء الناس الظن بي، والناس بشر.
فشخص يتحدث يقول: كنا نتحدث عن المشروبات الغازية، فقال أحدنا: إن هذه المشروبات الغازية يحرص أعداؤنا على تصديرها لنا؛ لأنها ضارة صحياً؛ لأنها غير نافعة، قلت: يا أخي! المشروبات الغازية تتناول في أمريكا وأوربا أكثر بكثير مما عندنا، قال: الكميات التي عندهم، تصنع بطريقة خاصة، والتي عندنا النسب فيها زائدة.
المقصود: أن عندنا جنوحاً لأن نفسر كل شيء بأنه مؤامرة، والأحداث السياسية الضخمة نحاول أن نختزلها، هناك من يقول: إن سقوط الاتحاد السوفيتي سببه الجهاد الأفغاني، أعتقد أن هذا اختزال للقضية، هناك عوامل كثيرة، نعم قد يكون الجهاد الأفغاني له دور، لكن ليس هو وحده، ومن يقرأ ويعرف طبيعة النظام الشيوعي وآلياته، ويعرف العوامل التي أدت إليه يعتبر أنه لا يمكن أن نختزل مثل هذا الحدث بأن نفسره بأن السبب هو الجهاد، وإذا قلنا: إن الجهاد الأفغاني ليس هو السبب في سقوط الاتحاد السوفيتي لا يعني أننا نهمش دور الجهاد الأفغاني، لكن -أيضاً- لا نغلو ونبالغ، فالجهاد الأفغاني كان عمل بشر، هو جهاد دعمته الأمة وكان يستحق أن يدعم، لكنه عمل بشر لا يخلو من الضعف والقصور، وقد رأينا ما حصل بعده من الصراع والنزاع والشقاق، فعندنا جنوح إلى المبالغة في الحديث عن القضايا السياسية والأحداث السياسية، ونبالغ في الأرقام، نبالغ في المعلومات، نبالغ في التآمر، في تبسيط الأحداث.(41/13)
التعامل مع المخالف
المجال العاشر: التعامل مع المخالف: فتعاملنا مع المخالف قد نفتقد معه الاعتدال، وأهل السنة يرحمون الخلق ويحبون الحق، ومهما كان المسلم يبقى له حق، المسلم الذي وقع في بدعة من البدع له حق الإسلام، والبدعة تسلب من الولاء بقدر ما تلبس يه، ليس صحيحاً أن نحول هذا الإنسان إلى رجل أشد من الكفار، ونلغي ونسقط حق الإسلام؛ لأنه لابس ووقع في هذه البدعة، وقد يكون وقع فيها عن اجتهاد وعن حسن نية، وقد يكون معذوراً فيها، وقع في هذا الأمر عن عذر، وقل مثل ذلك في أصحاب المعاصي، في أصحاب الفسوق، قل مثل ذلك فيمن يخالفنا في الرأي، كثيراً ما نغلو ونفتقد الاعتدال في حكمنا على المخالف، سواء أكان ممن يلابس بدعة، أو كان -وهذا هو الأكثر- ممن لا يصل إلى هذا الحد، إنما هو من إخواننا، فنضخم الأخطاء ونحاول أن نربطها بأصل البدعة، حين يقع في خطأ من الأخطاء نربطه بأصل من أصول البدع، ونسعى إلى إبراز صورة مشوهة عن هذا الشخص، كيف يتعامل اليوم المسلمون مع من يخالفهم في الرأي؟! أعتقد أن هناك غلواً واضحاً بارزاً في تعاملنا مع من يخالفنا.
وعلى المستوى النظري نتحدث جميعاً عن حسن التعامل مع المخالف، وعن حسن التعامل مع من يخالفنا في الرأي، لكن في الواقع هناك ثغرات كبيرة، وكم تجد من الجفاء والغلظة وتفسير النوايا إلى آخره؛ لأن هذا الإنسان يخالف في الرأي فقط، وربما يتضح لهذا الإنسان بعد سنوات خطأ ما كان عليه، فيميل إلى ذاك الذي يعمله هذا الإنسان الذي يخالفه وكان يتهمه قبل بالتساهل، وكان يتهمه بالابتداع.
أنتقل بعد الإشارة إلى هذه المجالات التي يغيب فيها الاعتدال، وأعتقد أنها كلها يمكن أن نردها إلى عامل واحد، فالمشكلة في الاعتدال في تفكيرنا وفي رؤيتنا للأمور، وما ذكرناه إنما هو أمثلة ومجالات لهذا الغلو، وهذا التطرف إن صحت العبارة، ما ذكرناه هو ألفٌ وباء، ونحن نعيش في حياتنا الفكرية، وحياتنا الاجتماعية، نعيش قدراً من الغلو وقدراً من المجاوزة، لا أقصد الغلو في الدين، والغلو في العقيدة.
وفي العبادة، فهذا الأمر -كما قلت في المقدمة- آثرت ألا أتحدث عنه؛ لأنه قد لا يعنينا كثيراً، وأمره معروف، لكن الغلو والمبالغة في تفكيرنا وفي مواقفنا سمة نعاني منها كثيراً، ولعل ما ذكرناه من أمثلة يدل على ذلك.(41/14)
عوامل وأسباب نشأة الغلو وفقد الاعتدال
لماذا ينشأ هذا الغلو؟ لماذا نفتقد الاعتدال في مواقفنا؟ هناك عوامل كثيرة، من العوامل: ضعف ثقافة الإنسان، الإنسان كلما كان ضعيف الثقافة كان إدراكه محدوداً، والثقافة تجعل الإنسان يتسع إدراكه، تجعله يشعر أن للظاهرة أكثر من وجه، يشعر أن لهذه الظاهرة أكثر من سبب، يشعر أن لهذا الحدث أكثر من تفسير، كلما اتسعت ثقافة الإنسان زادت رؤيته للأمور، وإذا كانت هذه الثقافة محدودة، صار إنساناً صارماً، لا يستوعب أن يفهم فهماً شمولياً، لا يستوعب أن يفهم أن يخالفه الآخرون، يصبح لا يعرف إلا أسود وأبيض، وحقاً وباطلاً، كل الأمور عنده على هذا المقياس والميزان الصارم، وأحياناً يؤتى الإنسان من ضعف ثقافته على المستوى الأفقي، قد يكون الإنسان على المستوى الرأسي مطلعاً، يعني: قد يكون عنده اطلاع واسع، لكن اطلاع في إطار معين، وتخصص معين، وهذا قد يؤدي به إلى أن يكون شخصاً مبالغ في آرائه ومواقفه، والذي يجعل الإنسان أكثر اعتدالاً إذا اتسعت ثقافته على المستوى الرأسي، وتنوعت مصادر الثقافة، وتنوع اطلاعه، يجعله يشعر أن كثيراً من الأمور التي كان يعتقد أنها محسومة هي أمور نسبية، هي أمور تحتمل الرأي، تحتمل وجهات النظر.(41/15)
الإيغال في التخصص
العامل الثاني: الإيغال في التخصص، سواء أكان تخصصاً علمياً أو عملياً، قد يؤدي بالإنسان إلى أن يبالغ ويغلو، فبعض الناس يهتم بتخصص أياً كان هذا التخصص؛ كتخصص علمي مثلاً، ويفرغ وقته له، وليس هذا عيباً أبداً، لكن ينبغي أن يوغل، فيؤدي به ذلك إلى الغلو في هذا التخصص، أو الغلو فيما يتعلق به، وقل مثل ذلك في التخصص العملي، وهو يقع أكثر من النوع الأول، فبعض الناس قد يتصدى لميدان من الميادين يعمل فيها أياً كان هذا الميدان، من الناس مثلاً من تصدى لدعوة غير المسلمين للإسلام، من الناس من تصدى لتعليم أهل البادية والعامة الجهلة، من الناس من تصدى لدعوة المرأة، وتخصص فيه واعتنى به، فكثيراً ما يصاب أمثال هؤلاء بالمبالغة والغلو، باعتبار أنه عاش هذا الأمر واهتم له، ليس عيباً أنه تخصص، بل نحن بحاجة إلى التخصص، ونحن بحاجة إلى تعميق هذا الأمر، لكن بحاجة مع التخصص إلى إن يتسع أفقنا، أن نستوعب ما يعمله الآخرون، أن نقدر ما يعمله الآخرون، أن نعلم أن المجالات العاملة ومجالات اليوم تستوعب أنواعاً كثيرة ومجالات كثيرة من العمل، وكونك تنجح في هذا العمل أو ترى مجالات النجاح في هذا العمل أكثر وأولى لا يعني أن ما عليه الآخرون هو إضاعة للوقت، وإهدار للجهود.(41/16)
التكوين الشخصي
السبب الثالث: التكوين الشخصي: بعض الناس -بطبيعته الشخصية- طبيعته النفسية متطرفة أصلاً، تكوينه الشخصي لا يجيد الاعتدال، ولهذا قد تجده في حال الانحراف والضلال متطرفاً، وحين يستقيم ويصلح قد تجده يسير على نفس الخط، وتجد أمثال هؤلاء في مواقفهم الشخصية دائماً متطرفين، إذا أحب إنساناً مثلاً بالغ في محبته وتجاوز القدر، ثم بعد ذلك تحصل مشكلة فيبالغ في كراهيته والنفور منه، تراه يسلك طريقاً فيغلو فيه ويبالغ فيه، ثم يتجه إلى الطرف الآخر، ونلحظ في الساحة الفكرية أشخاصاً يتقلبون بين اليمين واليسار، وجزء من هذا يعود إلى تكوينهم الشخصي، لا يجيدون الاعتدال، فإما أن يقع في هذا الطرف أو يقع في الطرف الآخر، فبعض الناس أحادي العقلية حاد في مواقفه، في تصرفاته، صارم دائماً، وهؤلاء يصعب عليهم أن يعتدلوا، وكثيراً ما ينتقلون من تطرف إلى تطرف آخر، وينتقلون من غلو إلى غلو آخر.(41/17)
البيئة الاجتماعية
العامل الرابع: البيئة الاجتماعية: هناك بيئات بطبيعتها فيها حدة ومبالغة، بعض البيئات -مثلاً- عنيفة نوعاً ما، وبعض البيئات رقيقة، البيئات تختلف، البيئات الاجتماعية لها أثر، ولهذا إذا قرأت تفسير العلماء السابقين وتراجمهم الشخصية تقرأ في نشأة أحدهم وأسرته وظروف نشأته، فتجد أن هذا ترك أثراً على شخصيته، فبعض البيئات بطبيعتها بيئات حادة، ولهذا تجد أصحابها آراؤهم حادة، آراؤهم تميل إلى مواقفهم، تفسيرهم يميل إلى نوع من الحدة ويصعب عليهم أن يعتدلوا، حتى في حياتهم الشخصية، حتى في علاقاتهم الاجتماعية، في حياتهم الزوجية، في علاقاتهم مع الآخرين، هو التطرف والغلو سمة تطبع تفكير الإنسان، تطبع سلوكه فتستطيع أن تجد أمثلتها ومظاهرها في كافة جوانب الحياة، حتى في رؤيته وفهمه للدين، الدين في حقيقته ليس فيه تطرف، الدين ليس فيه غلو، الدين وسط، لكن كيف يفهمه الناس؟ كيف يطبقونه؟ كيف ينظرون إليه؟ فالإنسان من تكوينه الشخصي يفهم النصوص بناءً على طبيعته الشخصية وعلى تكوينه الشخصي، ولهذا تجده يلجأ دائماً إلى النصوص والمواقف التي تتلاءم مع شخصيته، إذا كان شخصاً عنيفاً يلجأ إلى هذه النصوص دائماً يرددها، يعتقد أنها تدعم موقفه، والعكس، فإذا كان في الطرف الآخر تجده يلجأ إلى تلك النصوص التي يعتقد أنها تؤيد ما يسير عليه.(41/18)
غياب منهج التفكير الموضوعي
الأمر الخامس: غياب منهج التفكير: غياب التفكير الموضوعي، التفكير الذي يسعى إلى إعادة الظواهر إلى أسباب وعوامل موضوعية، فنحن يصعب علينا أن نفرق في موقفنا من الشيء بين حبنا له وبين تفسيرنا له، ودعوني أضرب على ذلك مثالاً سبق أن أشرت إليه في حديث سابق: في أحداث أمريكا التي حصلت قبل أحداث سبتمبر كان كثير من الناس يكره أن يكون وراء هذا الحدث المسلمون؛ لأنه يعلم ما سيترتب عليه، فيسعى في نظرته للحدث وفهم الحدث إلى أن يعلق الحدث بأشخاص آخرين، يتعلق بأي طرف في القضية، بأي دليل، بأي موقف يفسر فيه هذا الحدث تفسيراً يختلف عن رؤيته ويلغي هذه الرؤية، ولهذا تجد الإنسان في نظرته للأحداث أياً كانت يفرح دائماً إذا وجد أي دليل يؤيد الشيء الذي يحبه.
وفرق -أيها الإخوة- بين أن يحب الشيء وبين ما حدث، فرق بين موقفنا من الشيء وبين الواقع، إن من مصلحتنا أن نعرف الواقع كما هو، بغض النظر عن موقفنا منه، مثل الأب الذي يذهب إلى المدرسة، استدعته المدرسة لضعف تحصيل ابنه الدراسي، فجاء وقابل مجموعة من المعلمين، أحد المعلمين أثنى على ولده، تجده يتمسك بهذا الموقف ويفرح به؛ لأنه يؤيد الخلفية التي في ذهنه، نفتقد نحن منهج التفكير العلمي، نفتقد التفسير الموضوعي الذي يفصل بين الآراء الذاتية والموضوعية، يفصل بين ما نحب وبين موقفنا، وبين حقيقة الأشياء، من مصلحتنا أن نرى الأشياء كما هي، أن نراها على حقيقتها، بغض النظر عن موقفنا منها، أن نفصل بين عاطفتنا الشخصية وبين رؤيتنا لها.
ومن ذلك الغلو في الأخبار، الأخبار التي تتفق مع ما نحب نصدقها ولو كانت غير منطقية، والأخبار التي لا تتفق مع ما نحب نضع عليها علامة استفهام دائماً دون دليل علمي، فالصراع الذي دار في أفغانستان كلنا لا شك نتمنى أن يزيد فيه الضحايا من الصليبيين ونستبشر ونفرح بذلك، ولكنا نتضايق ونتألم حين يصاب إخواننا المسلمون، وأياً كانوا -حتى من يقع منهم في خطأ- فهم أحب إلينا وأقرب إلينا من أولئك الكفار المعتدين، لكن هذا شيء، وتصديقنا للأخبار شيء آخر، هذه العاطفة تؤثر علينا، كان بعض الناس يأتي بأخبار غير منطقية أصلاً، وإذا ناقشته في ذلك قال: أنت ضد الجهاد، أنت تشكك في قدرة الله! يا أخي! فرق بين القضيتين، هذا الخبر ليس فيه ما يدعونا إلى تصدقيه، فرق بين أن أحب ذلك وأتمنى ذلك، وبين أن يكون هذا الخبر صدقاً وحقيقة، نحن نعاني -أيها الإخوة- من غياب التفكير الموضوعي، التفكير العلمي، التفكير المنطقي، فنخلط بين عواطفنا وبين آرائنا، وتسهم عواطفنا ومواقفنا في صناعة آرائنا بدرجة كبيرة، ولهذا نجنح إلى الغلو، إذا كنا نملك منهج تفكير سليم، تفكير موضوعي؛ سننظر إلى الأمور نظرة شمولية، سننظر إليها من كافة جوانبها، سنعطي كل اعتبار قدره الطبيعي، سنصل إلى مواقف معتدلة، نقطع في مواقف القطع، ونضع احتمالاً في مواقف الاحتمال، وتزداد نسبة الاحتمال وتضعف حسب قوة وضعف الأدلة التي نستند إليها في موقفنا هذا.(41/19)
الرؤية الجزئية
الأمر السادس والسبب السادس: الرؤية الجزئية: قد ننظر للأمر من زاوية جزئية، الأمر قد يكون له عدة زوايا، فإذا نظرت إليه نظرة جزئية لن ترى الصورة المتكاملة، الآن لو نظرتم من خلال هذه الدائرة في هذه الزجاجة، فكل من ينظر إليها سيقول: هذه ورقة أو منظر طبيعي حين ينظر إلى جزء منها، لكن حين ينظر إليه نظرة كاملة يعرف أنها زجاجة ماء عليها ورقة.
فكثير من الأمور تختلط فيها المصالح والمفاسد، تختلط فيها الاعتبارات، فيأتي الإنسان ينظر إلى زاوية واحدة، إلى المصالح التي فيها، ويغفل عن المفاسد، أو العكس، قد ينظر الإنسان إلى المفاسد ويغفل عن المصالح التي فيها، مثل إنسان تقدم لخطبة امرأة يريد أن يتزوج بها، وهذه المرأة فيها صفة من الصفات التي يحبها، هب أنها جميلة، أو فيها دين، أو من أسرة يحب أن يرتبط بها، أو موظفة، أو تخصصها يوافق تخصصه، أياً كان هذه المرأة ففيها صفة يحبها، لكن فيها صفات أخرى، هذا الإنسان إذا نظر إلى هذه الصفة وحدها سيهمل الصفات الأخرى، وقد يقع في مشكلات كبيرة، وقد يؤدي به ذلك إلى أن يفشل في حياته الزوجية، قد يجد امرأة ذات جمال، لكنها ليست ذات خلق، ليست ذات دين، لا تتواءم معه، لا تتفق معه، حين يريد الإنسان الزواج عليه أن يسأل أو ينظر نظرة كاملة في هذه المرأة، والمرأة حين يتقدم إليها من يخطبها تنظر إليه نظرة كاملة، لا تنظر إلى جانب واحد، أو مجال واحد، وفي النهاية تتخذ قراراً بناء على هذه الرؤية الكاملة.
والذي ينظر برؤية كاملة يندر أن يتطرف؛ لماذا؟ لأن أي شيء غالباً تجد فيه جوانب إيجابية وجوانب سلبية، تجد فيه جوانب ضعف وجوانب قوة، فهذا الجهاز -جهاز التسجيل- فيه مزايا: خفيف الحمل، فيه مزية في تسجيله، لكن فيه عيوب، حينما أنظر إلى المزايا فقط سأبالغ فيه، وحينما أنظر إلى العيوب سأبالغ في ذمه، لكن إذا نظرت نظرة متكاملة سأنظر نظرة معتدلة، وهكذا قل مثل ذلك في الوسائل الدعوية، في البرامج الدعوية، في المشروعات، في الآراء، في الأفكار، حين ننظر برؤية متكاملة وننظر إلى الأمر من جميع جوانبه فالغالب أن تكون مواقفنا معتدلة، أن نقول: نتوق إلى النجاح في هذا المشروع بنسبة (80%)، نتوقع النجاح في هذا المشروع بنسبة (70%)، لكن هناك احتمالات فشل، هناك نقاط ضعف، هذا الشيء فيه من المزايا كذا وكذا، وفيه من العيوب كذا وكذا.
إن أولئك الذين ينظرون نظرة جزئية قد يمارسون هذا السلوك في التعامل مع النصوص الشرعية، فالذي ينظر -مثلاً- إلى نصوص الوعيد وحدها يؤدي به الحال إلى أن يقنط ويقنط الناس، والذي ينظر إلى نصوص الرجاء وحدها، قد يؤدي به الحال إلى أن يؤمن الناس من مكر الله تبارك وتعالى.(41/20)
التربية
الأمر السابع، والسبب السابع: التربية: وأعتقد أنها من أكبر الأسباب، قد نكون تربينا على خطاب فيه مبالغة واعتدنا أن نسمع الحديث المبالغ فيه دائماً في كل شيء، في الوعظ نبالغ وقد نتجاوز القدر الشرعي، في ترجيح الأحكام الفقهية قد نبالغ ونتجاوز، في حديثنا عن الظواهر الاجتماعية، عن الأوضاع، ستكون هذه الطريقة في التفكير، هذه التربية التي تعودنا عليها من خلال حواراتنا ومن خلال حديثنا، ومن خلال الخطب، ومن خلال الحوار الذي نسمعه، والخطاب والحديث الدعوي فيه نفس من المبالغة نتيجة غيرة الإنسان وحماسته، فهو حينما يرى الحضور أمامه والناس حوله يتحمس ويؤدي به هذا إلى أن يتجاوز القدر الطبيعي، وحينما يتكرر عند الناس استماع هذه الآراء يتشكل تفكيرهم بهذه الطريقة التي دائماً تتعود على المبالغة، ولهذا حينما يبدأ الإنسان يتحدث يقول: وهذا الموضوع من الأهمية بمكان -أي موضع يتحدث عنه- وهذا من أهم ما يعنى به إلى آخره، وحينما يختم تجد المبالغة سمة، إن وعظ بالغ، إن رجح مسألة فقهية استطرد وذهب يسرد لك الأدلة الطويلة التي ترجح هذا القول، إن تحدث عن ظاهرة اجتماعية، تحدث عن قضية دعوية، هذا النوع له أثره، فيربي الناس على هذا النمط من التفكير.(41/21)
طغيان العاطفة
الأمر الثامن: طغيان العاطفة: الإنسان عنده عواطف، والعاطفة هي عدو المنطق والعقل، كثيراً ما تقود العاطفة الإنسان إلى مواقف يندم عليها، ودعوني أضرب على ذلك مثالاً بالطلاق، فلو ذهبت تتساءل عن الحالات التي تحصل، سواء المرأة التي تطلب الطلاق، أو الزوج الذي يطلق زوجته، تجد كثيراً من هذه الحالات كانت نتيجة موقف عاطفي، تجد أنه غضب هذا الرجل لموقف تافه، فطلق زوجته، وقد يطلقها ثلاثاً، وقد يحرمها، والزوجة كذلك قد تغضب من موقف فتطلب الطلاق من زوجها فيطلقها، ثم حينما تهدأ الأمور يندمون، كم هم الذين يأتون إلى المحاكم، ويأتون إلى المشايخ يبحثون عن شيخ يترخص في فتاوى الطلاق حتى يفتيهم! انظر كيف أدت العاطفة أثرها.
دعني أضرب على ذلك مثلاً قد يكون أقرب إلى الفهم: لو أخطأ أحد أولادك خطأً استفزك وأثارك، فكيف ستعمل في الموقفين الآتيين: الموقف الأول: إذا رأيته بعد الخطأ مباشرة؟ الموقف الثاني: أتيت إلى المنزل وقيل لك: إن فلاناً فعل كذا فغضبت، لكن لم تجده، ذهبت إلى الصلاة أو العمل، ثم أتيت بعد ساعة أو ساعتين، هل تعتقد أن تعاملك في الموقفين سيكون واحداً، كلا، لماذا؟ إن الموقف الأول كنت فيه في ثورة العاطفة، فالعاطفة تجعل الإنسان يصعب عليه أن يستقر، وأن يتوازن، أليس الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يقضي القاضي وهو غضبان)؟! لماذا؟ إذا كان الإنسان غضبان فإنه لا يفكر بطريقة هادئة، لا يستطيع أن يتحرى الحق، فيأتيه الشهود فلا يستطيع أن يتبين صدقهم من عدم صدقهم، لا يتبين صدق البينة، ولهذا ألحق الفقهاء بذلك العطش الشديد، والجوع، والذي يدافعه الأخبثان إلى غير ذلك، ألحقوها بحالة الغضب، فقالوا: لا يقضي القاضي في هذه الحالات؛ لأن هذا يشغله عن أن يفكر بطريقة تعينه على الوصول إلى الحق، وهكذا حماس الإنسان لشيء ومحبته لشيء، العاطفة تقود الإنسان إلى المبالغة يمنة ويسرة.
إن الخطاب العاطفي يسيطر علينا بدرجة كبيرة جداً، ويؤثر علينا كثيراً، وابحث عن مصداق ذلك: فلو قام رجلان بعد الصلاة يتحدثون أمام الناس والمسجد فيه جمع كثير، الشخص الأول يتحدث بصوت قوي وألفاظ جزلة، يذكر بعض القصص والشواهد المزعجة والمؤلمة، والشخص الثاني يتحدث بهدوء، يتحدث حديثاً منطقياً عقلانياً، فكم نسبة الذين يصغون للأول والذين يصغون للثاني؟! كم نسبة الذين يتأثرون بالأول والذين يتأثرون بالثاني؟ الناس كثيراً ما تؤثر عليهم المواقف العاطفية والحديث العاطفي، نعم لا نلغي ذلك، فالله عز وجل لم يخلق العاطفة عبثاً، لابد من استثارة العواطف في المواقف التي تحتاج إلى ذلك، والعواطف تعمل عملها في النفوس، وقد تقود الناس إلى الحق، خذوا على سبيل المثال غزوة مؤتة، كان المسلمون ثلاثة آلاف، وقابلوا الروم وهم يزيدون عن مائتي ألف، ثم ترددوا: هل نعود؟ فتحدث الناس، فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وحدث الناس، وكان حين خرج من بيته حينما ودعوه وقالوا: حفظكم الله وردكم إلينا، قال: لا ردنا الله إليكم: لكنني أسأل الرحمن مغفرة وضربة ذات فرع تقذف الزبدا فكان يتشوف للقاء الله، يتشوف للشهادة، وكان معه زيد بن أرقم رضي الله عنه، يقول: فكان ينشد يقول: إذا أديتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء فشأنك أنعم وخلاك ذم ولا أرجع إلى أهلي ورائي وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام مشتهر الثواء هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء قال زيد بن أرقم: فبكيت، فنخزني وقال: لا عليك -يا لكع- أن يرزقنا الله الشهادة وتعود على ظهر الدابة.
المقصود: حينما جلس الناس يناقشون ماذا يصنعون، قام عبد الله بن رواحة فقال: أيها الناس! إن التي تكرهون للتي خرجتم لها تطلبون، إنها الشهادة، والله لا نقاتل القوم بعدد ولا عدة، إنما نقاتلهم بهذا الإيمان إلى آخره، قال الراوي: فحمس عبد الله الناس، فتحمس الناس، وقابلوا الروم، وكان ما كان من شأنهم رضوان الله عليهم.
المقصود: أن الخطاب العاطفي ليس سلبياً وحده، لا يسوغ أن نلغيه، لكن ينبغي أن يكون بقدر، فالواقع أن الخطاب الدعوي تزيد فيه مساحة العاطفة بشكل كبير، الحديث الذي ينصت له الناس أكثر، الشريط الذي ينتشر، الحديث الذي يعجب الناس، هو الحديث الذي تزيد فيه الشحنة العاطفية، وهذا يزيد من مستوى تأثير العاطفة على الناس، والعاطفة إذا زادت لا تقود الناس إلى الاتزان، لا تقود الناس إلى الاعتدال، لا ينبغي أن نلغي العاطفة، لكن ينبغي أن نضعها في إطارها الطبيعي، وينبغي في مقابل استثارة عواطف الناس أن نخاطب الناس بخطاب عقلاني منطقي يحترم تفكير الناس، فيخاطب الناس بالأدلة الشرعية، بالأدلة المقنعة، بالحوار المقنع، هذا سيجعل مواقف الناس أكثر اعتدالاً وأكثر اتزاناً.(41/22)
غياب الرأي الآخر
الأمر التاسع: غياب الرأي الآخر: عدم وجود رأي آخر سيؤدي إلى المبالغة؛ لأن الرأي الآخر هو الذي يجعل الإنسان يتوازن، فإذا وجدت رأياً آخر في أي موقف، وصار صاحبه يعبر عنه ويتحدث عنه، ستعرف أن رأيك هناك من يخالفه، وأن الآخرين عندهم منطلقات وعندهم مسوغات، سيؤدي ذلك بك ولو لم تغير قناعتك إلى أن تغير من حماسك لرأيك، أن تغير من جزمك وقطعك بصواب ما أنت عليه، وترى أن القضية تحتمل الرأي وتحتمل النقاش.(41/23)
غياب الحوار
العاشر: غياب الحوار: الحوار يعود الناس على الاعتدال، الحوار العلمي، الحوار الموضوعي، إننا نتحدث كثيراً -أيها الإخوة- عن أدب الحوار، ولو ذهبت إلى المكتبات ستجد أشرطة كثيرة وستجد كتباً كثيرة تتكلم عن أدب الحوار، لكن في الواقع لا نمارس الحوار في واقعنا وحياتنا بشكل جيد، تجد أننا حينما نتناقش تعلو أصواتنا، ونتناقش نقاشاً غير موضوعي، ونتناقش نقاشاً فيه اتهام للنوايا إلى آخره، إنه إذا ساد الحوار سيجعلنا نتوازن في مواقفنا، سيجعلنا نعتدل في حماسنا لرأينا، حتى ولو لم نرجع عن هذا الرأي، الحوار سيهيئ بيئة تقلل من الاندفاع، تقلل من التطرف في الآراء والمواقف.(41/24)
ردة الفعل
الأمر الحادي عشر: ردة الفعل: ردة الفعل دائماً تؤدي إلى الغلو، وردة الفعل قد تكون من خطأ شخصي، بعض الناس الذين كانوا على معصية، كانوا في ضلال وانحراف، إذا تاب بعضهم قد يجنح إلى الغلو كردة فعل لواقعه السابق، بعض الناس الذين كانوا في أيام انحرافهم يقعون في فساد خلقي -مثلاً- تجده يبالغ في اتهام الناس في القضايا الخلقية، والذي كان في فساد مالي أياً كان التقصير الذي يقع فيه، قد يقع في ردة الفعل، إما أن يقسو على نفسه في هذا الأمر أو يتهم الآخرين به، كذلك من يقصر في شيء، كشاب يقصر في عنايته بطلب العلم واهتمامه به، ثم يفيق بعد ذلك ويشعر أنه ضعيف في هذا الأمر، قد تجده يبالغ ويغلو في هذا الأمر على حساب أمور أخرى مهمة وضرورية، وقل مثل ذلك في أي أمر وأي جانب من جوانب حياته وجوانب شخصيته، وكذلك ردة الفعل من سوء الواقع، الواقع السيئ يولد ردة فعل، حينما يرى الإنسان منكرات، يرى واقعاً سيئاً، يرى سوءاً، يرى فساداً، وليس كل الناس يجيدون التوازن في ردة فعلهم تجاه هذا الواقع، فقد يجنح الإنسان إلى نوع من الغلو كما نلحظ، قد يغلو في التكفير، قد يغلو في الحكم على المجتمع، قد يغلو في رؤيته للإصلاح إلى غير ذلك؛ نتيجة هذا الواقع السيئ الذي عايشه، وهي ردة الفعل تجاه الغلو السابق، ولهذا تجد من يغلو في مقابل هذا الغلو، قد يوجد -مثلاً- شخص يجتهد في تطبيق السنة ويحرص عليها فيبالغ في ذلك، فيسيء أو يغلو في هذا الأمر، فتجد بالطرف الآخر من يغلو في هذا الأمر ويسخر ممن يطبق السنة، ويجعل هذه الأمور أموراً هامشية، هذا الغلو والتطرف نشأ كردة فعل لذلك التطرف الآخر، ولو تأملت في الفرق الضالة التي نشأت لوجدت أن كثيراً منها نشأ ردة فعل لتلك الطائفة الأخرى.
وكذلك اليوم حين يوجد من يتصرف تصرفات باسم أي موقف شرعي، باسم إنكار المنكر مثلاً، باسم الجهاد، قد يتصرف الإنسان تصرفاً غير مشروع، ويعتقد أن هذا العمل هو من الجهاد في سبيل الله، قد يقابله ردة فعل، ولمسنا شيئاً من هذا ممن يهمش موضوع الجهاد، ممن يكون عنده انقباض من إطلاق كلمة الجهاد أصلاً، مع أنك حينما تقرأ القرآن لا تكاد تجد سورة من سور القرآن تخلو من الحديث عن هذا الأمر العظيم الذي هو ذروة سنام الإسلام، تجد من يفسر الجهاد بأنه رد العدوان فقط، وأن الأمة أمة لا تبدأ بالعدوان إلى غير ذلك من تهميش هذه القضية، وهي ردة فعل لتصرف شخص قد يكون اجتهد اجتهاداً خاطئاً في أمر من الأمور، وهذا لا يعني أن نعالج هذا الخطأ -إذا كان خطأً- بخطأ في الطرف الآخر، وقل مثل ذلك في كثير مما تراه في الساحة من مواقف كثير منها يكون منشؤه ردة فعل من خطأ الآخرين، ومن هنا يجب حينما نعالج موقفاً أن نتوقف كثيراً، ففرق بين موقف ننشئه ابتداء في ظروف طبيعية، وبين موقف ننشئه كردة فعل من خطأ آخر، وكون الآخرين يخطئون لا يعني أن موقفنا صحيح، لا يعني أن موقفنا سليم، قد يخطئ الآخرون فنخطئ نحن في الطرف المقابل، ولهذا يجب أن يكون عندنا حذر من ردة الفعل في نقدنا للآخرين، وهذا كثيراً ما تلمسه في الردود، إذا رأيت من يرد بعضهم على بعض تجد أن كلاً منهم يجنح إلى التطرف في جانب ومجال آخر.(41/25)
غياب النسبية
الأمر الأخير: غياب النسبية: هناك أمور هي حق أو باطل، واضحة؛ ما جاء في الكتاب والسنة، فالأمور الظاهرة المشتهرة ليس فيها مجال لأن يناقشها الناس، لكن هناك أمور فيها نسبية، هناك مسائل اجتهادية ليس فيها نص، وهي محل اجتهاد، هناك أمور تتعلق بالتعامل مع الواقع؛ الأفكار الدعوية، المشروعات، تقويم الواقع، المشروعات الإصلاحية، كثير من القضايا التي هي محل حوار وجدل اليوم بين المصلحين والغيورين هي في ضمن هذه الدائرة، هذه الدائرة فيها نسبية كبيرة، فحينما أدعو إلى مشروع، حينما أدعو إلى برنامج، وأعتقد أن هذا الموقف صحيح، قد يكون موقفاً صحيحاً بنسبة معينة في مثل هذه الحالات، ليست القضية إما صواب وإما خطأ، إما حق وإما باطل، الحق ما وافق الكتاب والسنة صراحة، والباطل ما خالف الكتاب والسنة، وفيما سوى ذلك هناك أمور كثيرة تبقى مجال رأي، مجال اجتهاد، وهي قضايا نسبية، فالنسبية غائبة في تفكيرنا في هذه الدائرة، ولهذا نحن نريد أن نحسم القضية، فإما صواب وإما خطأ، إما حق وإما باطل.
أذكر شخصاً كنت أتحدث معه حول موضوع عن تدريس القرآن الكريم ومشكلة ضعف الطلاب في دراسة القرآن، فيقول: غير صحيح أن تأتي وتضع استبانة وتسأل الناس: كم نحتاج من حصة للقرآن؟ هذا إن ساغ فلا يسوغ في العلوم الشرعية، العلوم الشرعية ما فيها إلا صواب أو خطأ، ما فيها إلا حق أو باطل! وهي قضية ليست قطعية، فحين نقول: كم ينبغي أن يدرس الطالب من حصة في القرآن الكريم؟ فليست هذه مسألة حق وباطل، يعني: حينما أقول أنا: يدرس حصة واحدة، وأنت تقول: يدرس حصتين، والآخر يقول: يدرس ثلاث حصص، هذه قضية نسبية ليست قضية حق وباطل، الحق ما وافق الكتاب والسنة، والباطل ما خالف الكتاب والسنة، أما ماذا ندرس الطالب؟ وكيف ندرس الطالب؟ فهذه قضية من الطبيعي أن تختلف فيها الآراء، ومن الطبيعي أن تختلف فيها المواقف.
كنا نتناقش مع بعض الإخوة حول مناهج العلوم الشرعية، فكان شخص يقول: إن العلوم الشرعية ثابتة مستندة إلى الكتاب والسنة، قلت: يا أخي الكريم! لسنا نتحدث عن المحتوى العلمي الشرعي، نحن نتحدث: كيف نسوغ المنهج، كيف ننظم المحتوى، كيف نعد المنهج؟ هذه قضية ليست ثابتة، هذه قضية نسبية وتختلف فيها الآراء، حتى مناهج العلوم الشرعية، يمكن أن نراجعها ونعيد فيها النظر، ليست القضية في محتوى هذا العلم، ليست القضية في موقفنا من الجهاد، في موقوفنا من الولاء والبراء، من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكن كيف نقدم المادة للطالب باللغة التي يفهما؟ كيف ننظم محتوى المادة؟ هذا شيء والمحتوى شيء آخر.
فغياب النسبية يؤدي إلى مبالغة ويؤدي إلى غلو، فيعتقد الإنسان أنه مادام يتحدث عن قضية شرعية بدافع شرعي، فإن موقفه صواب مائة في المائة وحق مائة في المائة، وحينئذ يرى أنه على الحق ومن يذمه يذم إنساناً يعمل بالحق ويدعو إلى الحق، مثل الإنسان الذي ينكر منكراً بطريقة غير صحيحة، حينما تنكر عليه، يقول لك: أنت ضد الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، أنت تقف مع أهل الفساد، وليس بالضرورة ذلك، لست أقف مع أهل الفساد ولست أقف ضدك، لكن هذه وجهة نظري أن هذا العمل الذي تقوم به لا يؤدي النتيجة، أن هذا الأمر لا يحقق المصلحة، فرق بين أن أعترض على أسلوبك أنت، بين أن أعترض على عملك، وبين أن أطرح رأياً آخر غير رأيك، ليس في ذات المنكر، إنما في طريقة تعاملنا معه، فموقفنا من المنكر وإنكاره قضية، وتلك قضية أخرى.
أعتقد أن الوقت يضيق، ولعل هذا الحديث عن إبراز بعض مجالات وأسباب غياب الاعتدال لعله أن يفيدنا كثيراً في النزوع إلى الاعتدال والسعي دائماً إلى أن نراعي الاعتدال في مواقفنا وأن نعلم أن مجرد أن نعتقد أننا نقف موقف حق لا يسمح لنا أن نتجاوز إلى أقصى حد، وأننا حينما ننطلق من فهم لموقف شرعي لا يعني أن موقفنا كله صحيح وموقفنا كله سليم، فينبغي أن نتعامل دائماً بعلم وعدل، والأمور كلها بعدل حتى العبادة والطاعة كما قلنا، إذا جاوز فيها الإنسان القدر فإنها تتحول إلى غلو وتنطع مذموم.
أعتقد أن الوقت يفرض علي أن أتوقف هنا، وإن كانت بقيت بعض القضايا والنقاط التي تحتاج إلى إشارة، لكن لعله أن يأتي في الأسئلة ما يمكن أن يجعلنا ننبه عليها.(41/26)
الأسئلة(41/27)
الموقف من خطأ كثير الخير
السؤال
ما قولكم في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، أليس هذا دلالة على تجاوز أخطاء من كثرت حسناته؟
الجواب
لا شك بأن خطأ من غلبت حسناته وخيره ليس كخطأ غيره، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه حينما فعل ما فعل، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم).(41/28)
مكانة العلماء والموقف من زلاتهم
السؤال
بعض الناس قد يفهم من الاعتدال في التعامل مع أخطاء العلماء التجاوز في بيانها، وعدم احترامهم وقلة الأدب معهم، كما يحصل من بعض الشباب، فما رأي فضيلتكم؟
الجواب
وهذا من عدم الاعتدال، يعني: العلماء لهم مكانة وجلالة وقدر ومنزلة ينبغي أن نعرفها لهم، حينما يقف أحدهم موقفاً لا يعجبنا فلسنا بحاجة إلى الغلو فإما أن نقول كما قال أو أن نذمه ونعيبه، لا، بل لا يليق، يعني: ليس بالضرورة أن كل كلام لا نوافق عليه نتحدث عنه في المجالس يمنة ويسرة، هذا أمر.
الأمر الثاني: حين يخالفنا إنسان في طريقة التفكير في نظرته للأمور فلا ينبغي أن نلغيه تماماً، ينبغي أن نفرق بين تحفظنا على كلام إنسان وموقفه، وبين شخصه، ولا شك أننا نجد ونسمع تطاولاً الآن من كثير من الشباب على أهل العلم؛ نتيجة مواقف وقفوها، أهل العلم بشر، نحن لا نقول: إنهم معصومون، لا نقول: إنهم لا يتكلمون إلا بالحق، لكن لو قال أحد من أهل العلم كلاماً نعتقد نحن أنه ليس حقاً، فينبغي ألا نتبعه في هذا، لكن نحفظ له مكانته وقدره وجلالته، ونبحث له عما نعذره به.(41/29)
غاية التحذير لا تبرر وسيلة المبالغة
السؤال
هل يمكن استخدام المبالغة والتحجيم في تنفير الناس من أمر معين؟
الجواب
لا، حين تنهى الناس انه الناس باعتدال، لا أعتقد أن المبالغة تسوغ أبداً؛ لأن معنى مبالغة ما هو؟ ما معنى الغلو؟ أن نجاوز القدر الشرعي والقدر الطبيعي.(41/30)
الوسطية المطلوبة في العلاقات الأخوية
السؤال
هل لك أن توجهنا إلى كيفية الاعتدال في العلاقات الأخوية، حيث إنها بين إفراط يصل إلى حد التعلق، وتفريط يصل إلى حد الجفاء؟
الجواب
وصلت إلى الإجابة، يعني: الأخ عرض لنا نموذجين: نموج المبالغة الذي يصل إلى حد التعلق والوله ونحوه، فهذا تجاوز للاعتدال، أو الجفاء الذي يلغي حقوق الأخوة، فالحق وسط بينهما، وكل إنسان لا يخلو من أن يبالغ، لا يخلو من أن يقع في الغلو، فحينما نقول هذا لا يعني أننا نريد أن يكون إنسان منا متميزاً في كل شيء معتدلاً في كل شيء، فيبقى الإنسان بشراً، يمكن أن يغلو في موقف، ويمكن أن يصلح في موقف آخر، لكن ينبغي أن يسعى الإنسان بقدر الإمكان إلى أن يقترب من الكمال.(41/31)
كيفية الاعتدال في جلب ما يحمل الخير والشر
السؤال
هناك من الناس من يدخل في بيته الدش، وهناك من يمنع نفسه وأولاده من التلفزيون، فهل الاعتدال وضع التلفزيون دون إدخال الدش والإيريل؟
الجواب
لا، أعتقد أن الاعتدال أنه لا يضع تلفزيوناً ولا دشاً، يمكن أن يضع فيديو فيه أفلام إسلامية، هذا الاعتدال، ليس الاعتدال قضية مصطلح، أن أقف عند خمسة عشر من ثلاثين، ليس هذا هو الاعتدال، هذه كلها أمور محرمة، إنما هي دركات، فليس الاعتدال أن يقف الإنسان في نقطة وسط فيها، إنما الاعتدال هنا: ألا يمنع الرجل أهل بيته وسائل الترفيه المباحة، وألا يضع عندهم وسائل الترفيه المحرمة.(41/32)
ضرر الحديث في مسائل الدين بغير علم
السؤال
ما رأي فضيلتكم فيمن يجلسون يتحدثون في كثير من مسائل الفقه رغم أنهم غير مؤهلين في هذا العلم، وتجدهم كثيري الاختلاف فيما بينهم، بحيث لا يخرجون بأي فائدة، أرجو النصح؟
الجواب
إذا تحدث الإنسان بشيء لا يعلمه لن يأتي بجديد، لو تحدثت الآن وإياكم عن قضية الكترونية، كنظام التكييف وما هو الأفضل للمسجد هذا التكييف المخفي أو غير المخفي؟ لن نصل إلى نتيجة؛ لأننا لسنا أهل علم بهذا الأمر، فالحديث دائماً ينبغي أن يكون بالعلم، الحديث في مسائل الدين، لا حرج في أن يتناقش الناس في مسائل الشرع دون أن يقولوا على الله ما لا يعلمون، فيرجعون إلى أهل العلم بالأدلة الشرعية، لكن يتناقشون بعلم وأدلة شرعية، أما الجدل واللجاج فلا، تجد بعض الناس -والله- لا يقرأ القرآن قراءة سليمة، يلحن حينما يقرأ القرآن، لا يجيد الصلاة، لو سألته عن أركان الصلاة أو مبطلات الوضوء فربما أخطأ فيها، ومع ذلك تجده يقول رأيه في قضايا كبار ويفتي وكأنه إمام من الأئمة، ويسفه الآخرين.(41/33)
حكم الإسراع بالصلاة في المسجد خشية الرياء
السؤال
أنا رجل أصلي صلاتي غير الصلاة التي أصليها في البيت، وهي صلاة خاشعة، أما في المسجد فأسرع حتى لا يقول الناس عني: إنني مراء، وأنا -والله- أبتغي بها وجه الله، فهل أخشع أم لا؟
الجواب
لا يجوز أن تسرع في صلاتك، إذا كنت أمام الناس فاعمل العمل الذي تعمله سواء كنت في المسجد أو في المنزل، فإذا أردت أن تصلي في المسجد فصل كما تصلي في المنزل، لا تتعمد أن تخل بهذه الصلاة بعداً عن الرياء.(41/34)
الوسطية في تقويم آراء الأشخاص
السؤال
عند تقويم رأي أي شخص فإننا ننظر إلى الرأي وكأننا لا نعرف الشخص، مع أننا نعرف الشخص، فهل هذا القول صحيح، أم هناك وجهة أخرى نظر للتقويم؟
الجواب
هذا تطرف وذاك تطرف، أن نلغي الأشخاص تماماً هذا تطرف، وأن نسلم بآرائهم هذا تطرف، ولهذا تجد -مثلاً- أهل العلم يحتجون يقولون: وبهذا القول قال فلان وفلان، يحتجون بأقوالهم، ويرون أن هذا القول له قيمة، فإلغاء آراء الأشخاص غير صحيح، هناك ناس معروفون من أهل الرأي في أي أمر من الأمور؛ في الفقه في السياسة في الإعلام في الاقتصاد، في أي مجال هناك أهل رأي وكلامهم له وزن، بل أنت أحياناً حينما تريد أن تبحث في مسألة وتطمئن لقول من الأقوال، فحينما تجد قول شخص آخر من الأئمة المعتبرين يخالف هذا القول لا ترتاح لما تقرر عندك، فهذا طبيعي، فإلغاء آراء الأشخاص مطلقاً غير طبيعي، وأيضاً التقليد المطلق غير طبيعي، أنا كنت أتناقش مع بعض الشباب المفتونين باللوثة العقلية والمناقشة فما أدري ما الذي أثار عنده القضية، فقلت: الذي يحكمنا هو الكتاب والسنة وفهم السلف الصالح، فقال: لا، فهم السلف الصالح ما هو بملزم، ثم قال: يا أخي! إذا كان قول الصحابي ليس حجة، فكيف بفهم السلف الصالح؟! إلى هذا الحد من سوء الأدب مع السلف، ويتكلم بعضهم عن التابعين وعن الأئمة بكلام كأنه يتحدث عن أي إنسان عادي، هذا نوع من الغلو ونوع من سوء الأدب، وفي النهاية سيبقى الأئمة أئمة لهم وزنهم، لهم قيمتهم، آراؤهم لها قيمة، ولسنا مع العصمة والغلو، لكن هذا النموذج هو غلو، وقد نلمس هذه الظاهرة عند بعض الشباب الذين لا يقيمون وزناً لأحد، يعني: يتكلمون عن شيخ الإسلام، عن الإمام أحمد، عن محمد بن عبد الوهاب، عن أي إمام آخر فيقولون: الناس سواء، والمسألة محل رأي واجتهاد، والسلف أخطئوا في تعاملهم مع الخوارج، وأخطئوا في تعاملهم مع أهل البدع إلى آخره، فأحياناً تسمع حديثاً أستغربه وجرأة غريبة، وهذا هو غلو وردة فعل.(41/35)
المراد بالاعتدال في المسائل الاجتهادية
السؤال
هل الاعتدال معناه: التساهل في المسائل الخلافية؟
الجواب
أولاً: هناك فرق بين المسائل الخلافية والمسائل الاجتهادية، هناك مسائل خلافية، لكن فيها نص واضح، أما المسائل الاجتهادية فليس فيها نص واضح، العلماء يجتهدون في فهم واحد، ليست القضية تساهلاً، أنا -مثلاً- قد يتقرر عندي وجوب هذا الأمر؛ قد يتقرر عندي وجوب زكاة الحلي فأخرجها وألزم أهلي بإخراجها، لكن حينما يأتي شخص يستقر عنده القول الآخر لا أذمه ولا أعيبه، لا أقول: إنه من حطب جهنم، بل هو لا يأثم عند الله مادام اقتنع بهذا الأمر ديانة، لا يأثم عند الله عز وجل، فهو بين أجر أو أجرين، هنا الاعتدال، يعني: نحن لا نلغي المسائل الاجتهادية، ونميعها، ليعمل الإنسان بما يحلو له، يقول: ما دامت المسألة محل اجتهاد فخذ ما يحلو لك، خذ بالأيسر، هذا غير صحيح، بل يأخذ بما يرى أنه يبرئه عند الله عز وجل، وقد يلزم نفسه بذلك، وقد يستقر عنده هذا القول، ويترجح عنده بنسبة عالية، لكنه يعذر الآخرين حين يخالفون هذا الرأي؛ لأن المسألة محل خلاف.(41/36)
ميزان الاعتدال
السؤال
ما هو الميزان الحقيقي للاعتدال، وهل يختلف من مجتمع إلى آخر؟
الجواب
عندنا ميزانان: ميزان الشرع، وميزان العقل الصحيح، فما وافق الشرع ليس فيه غلو، مع التفريق بين فهم الناس للشرع وبين نصوص الشرع؛ لأن بعض الناس -مثلاً- يستدل بقول الله عز وجل: {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} [النور:2] فيطبق هذا على أهل المعاصي، بينما نجد النبي صلى الله عليه وسلم قال في شأن الأمة: (إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب)، يعني: يجلدها الحد، لكن لا يلومها ولا يؤنبها، ولما قالوا في شارب الخمر: أخزاك الله، قال: (لا تعينوا الشيطان عليه)، فالشرع هو ميزان العدل، ما دل عليه الشرع فهو عدل وهو الوسط وهو الميزان، لكن أيضاً ينبغي أن نحذر أحياناً من فهمنا الخاطئ لنصوص الشرع، ثم ما سوى ذلك العقل والمنطق، هناك أمور كثيرة ليس فيها نص للشرع، إنما تركت للناس؛ كوسائل الدعوة، وتقويم واقع الناس، هناك أمور تركت لاجتهاد الناس وعمل الناس، أن يجتهدوا في البحث عما هو الأصلح في حياتهم في مثل هذا الأمر، فميزان الاعتدال في هذا العقل والمنطق، والرأي المبالغ فيه -حتى لو كان حقاً- قد تجاوز صاحبه في مبالغته في هذا الرأي.(41/37)
الموقف من اشتغال الدعاة بإخوانهم وترك ما هو أهم
السؤال
بماذا تفسر ظاهرة الردود على بعضنا من خلال اختلاف الآراء واختلاف المناهج، وتربص بعضنا ببعض وترك الساحة خالية للعلمانيين والحداثيين المفسدين يعيثون في الأرض فساداً ولا يجدون من يرد عليهم، ويفضح منهجهم الخبيث؟
الجواب
هذا نموذج من الاشتغال، لا أقول: بالمفضول عن الفاضل، إنما الاشتغال بالخطأ عما ينبغي أن نشتغل به ونعتني به، نعم ينبغي أن يبين الخطأ إذا حصل، لكن نبينه بحجمه، ثم لا يشغلنا مثل هذا الأمر عما هو أهم من ذلك.(41/38)
الفرق بين الغلو والتطرف
السؤال
كيف يمكن لنا أن نفرق بين الغلو والتطرف في نظرك؟
الجواب
التطرف مصطلح جاء في لغة العرب، ولهذا يقولون: تطرفت الناقة: إذا رعت من أقصى المرعى، تطرفت الشمس: إذا قربت من الغروب، لكن الشرع جاء بمعنى الغلو، فأنا أفضل أن نستخدم الغلو، لكن التطرف يشمل طرفين، ولهذا آثرت أن أعبر بـ (غياب الاعتدال)؛ لأنه يعني الاتجاه ذات اليمين وذات الشمال، والغلو غالباً يطلق على الزيادة عن القدر المشروع.(41/39)
صلة الاعتدال بالبحث عن النوايا حال تحليل المواقف
السؤال
تحليل المواقف والبحث في النوايا للتثبت هل يعد من غياب الاعتدال؟
الجواب
من الاعتدال أن نتحدث نحن عن المواقف بعيداً عن النوايا، أن نفسر بناء على أدلة واضحة، يعني: حينما أقول: إن الدافع لهذا العمل هو كذا، ينبغي أن يكون عندي أدلة، حينما أصل إلى نتيجة يكون عندي أدلة، ثم -أيضاً- أن أنظر في الأدلة الأخرى، وتكون درجة جزمي بالنتيجة التي أصل إليها مبنية على الأدلة التي تؤدي إلى ذلك.(41/40)
منزلة الجهاد
السؤال
هل الجهاد في الوقت الحالي أصبح ظاهرة اجتماعية قد تكون شبه انتقامية، ولذلك أنكرت في المجتمعات الإسلامية؟
الجواب
الجهاد فريضة إسلامية، والنبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الجهاد ذروة سنام الإسلام، والله عز وجل أخبر أنه اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم، ولو قرأنا في القرآن الكريم الآيات التي تتحدث عن الجهاد ومنزلته لعلمنا عظم منزلة هذه الشعيرة العظيمة، بل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بعثت بالسيف بين يدي الساعة)، وقال: (الجهاد ماض إلى اليوم القيامة)، ولا شك أن الأمة إنما أصيبت بما أصيبت به لما أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا يرفعه عنكم حتى تراجعوا دينكم)، ولا شك أن جزءاً مما أصاب الأمة من هوان وضعف وذلة هو بتركها هذه الفريضة العظيمة، ونحن نستبشر الآن بما نراه من مواطن الجهاد في فلسطين في أفغانستان في الشيشان في أندونيسيا في غيرها من المواطن التي رفع فيها إخواننا راية الجهاد، وأؤكد على ما قاله أخونا الفاضل، أنه من حقهم علينا أن ندعو لهم، أن نتبرع لهم، أن نعرف بقضيتهم، أن نقف معهم ولو بمشاعرنا إذا عجزنا أن نشاركهم في أبداننا، فلا أقل من أن نشاركهم بأموالنا، بدعائنا، بنصرتنا لهم، نعم قد يوجد بعض الشباب ممن يتصرف تصرفات تفسد أكثر مما تصلح، كما يحصل في بعض المجتمعات الإسلامية، يعني: بعض الشباب يرى واقعاً لا يصبر عليه، فيجر مجتمعات المسلمين إلى أعمال دافعه إليها خير ودافعه في ذلك الجهاد، لكن هذه الأعمال مفاسدها قد تكون أكثر من مصالحها، وتؤدي إلى مفاسد أكثر، والجهاد إنما شرع لإقامة دين الله عز وجل، وقد يكون بعضها إعاقة لإقامة دين الله، وقد يكون سبباً لتسلط المفسدين والأعداء على أهل الخير والصلاح، فينبغي أن ينظر في ذلك إلى المصلحة الشرعية والمفسدة، فالجهاد لم يشرع لمجرد أن يقاتل المسلمون الكفار، إنما شرع لإقامة دين الله عز وجل، فإذا كان في هذا إقامة لدين الله عز وجل ونصرة لدين الله فنعم، أما إذا كان فيه مفاسد أكثر من مصالحه؛ فالأولى أن تجنب بلاد المسلمين ومجتمعاتهم مثل هذه الفتن وهذه الأوضاع، أما القتال الواضح اليوم بين مسلمين وكفار -كما يحصل في فلسطين، أو يحصل في الشيشان أو أفغانستان أو غيرها من البلاد- فهذا لا شك أنه حق مهما قال عنه الأعداء: إنه إرهاب وعدوان، هذا حق، ومعظم المسلمين لا تجدهم يختلفون على مثل هذا النوع من العمل، فواجبنا أن نقف معه وندعمه، وإذا أخطأ أحد في تصرفاته لا ينبغي -كما قلت- أن نشكل موقفاً نحن من مثل هذا العمل، بل ينبغي أن نقف موقفاً معتدلاً ومتوازناً.
والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.(41/41)
الرسالة التربوية للأسرة
إن الفرد حين ينطلق إلى العالم الواسع بكل ما يحويه من مؤثرات تنعكس على سلوكه وتكوين شخصيته، وما يشمله من متناقضات لا يجد لها تفسيراً، يحتاج خلال ذلك إلى موجه أمين ومرشد حكيم يرسم له طريقه، كما يحتاج قبل ذلك إلى من يمنحه الأمان النفسي والطمأنينة الاجتماعية التي تساعد في نموه وتكوين شخصيته بصورة سليمة، ولن يجد الفرد كل هذا إلا في إطار أسرة مسلمة مراعية للضوابط التربوية الصحيحة.(42/1)
الأسرة هي المدرسة التربوية الأولى للطفل
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فنسأل الله عز وجل أن يكون هذا اللقاء لقاء طيباً مباركاً، وأن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل، والتوفيق والسداد إنه سميع مجيب.
أسأل الله عز وجل أن يثيب الإخوة على دعوتهم، وأن يجعلني عند حسن ظنهم، وعند حسن ظن إخواني الذين قطعوا جزءاً من وقتهم لحضور هذا اللقاء، وأسأله تبارك وتعالى أن يجعلني خيراً مما يظن الناس بي، وأن يكتب لي ما لا يعلمون.
كان الموضوع الذي اقترحه الإخوة موضوعاً مفتوحاً وهو حول حديث تربوي، لكن هذا الموضوع أو هذا العنوان عنوان واسع فضفاض، والإخوة لم يقصدوا ذلك، إنما قصدوا أن يتركوا الاختيار لي، وقد ترددت كثيراً في اختيار الجانب التربوي الذي يمكن أن نتحدث عنه في مثل هذا اللقاء، فرأيت أن الحديث عن مؤسسة تربوية مهمة ربما يكون له أولوية في مثل هذا الوقت، ألا وهي المؤسسة التربوية الأولى الأسرة.
وحين نتحدث عن الأسرة فإن الحديث يطول، ولا يمكن أن نستوعب أطرافه ومضامينه في مثل هذا اللقاء العاجل المختصر، فرأيت أن أركز الحديث حول الرسالة التربوية للأسرة، ولئن كنا نحتاج إلى أن تؤدي الأسرة هذه الرسالة فنحن اليوم في هذا العصر وفي ظل هذه المتغيرات بل القفزات الهائلة التي تقفز إليها مجتمعات المسلمين اليوم، نحن أحوج ما نكون إلى أن نعيد لهذه المؤسسة رسالتها، وأن نرتقي بها لتؤدي هذه الرسالة.
إن أبناءنا وبناتنا اليوم لم يعودوا أبناء لنا، بل هم أبناء لوسائل التأثير، أبناء لوسائل الإعلام، أبناء للمؤثرات المتناثرة هنا وهناك في هذه المجتمعات، أليست هذه الوسائل اليوم تزاحمنا في أولادنا؟ أليست تسهم في تشكيل كثير من قيمهم ومفاهيمهم وموازينهم؟ أليست تؤثر على كثير من سلوكياتهم؟ إن الصور الشاذة التي نراها اليوم في الشوارع، وفي الأماكن العامة، وفي الأسواق بل وفي المدارس، إنما هي إفراز لتخلف الدور التربوي للأسرة، ربما يكون الزخم الهائل لهذه المؤثرات الوافدة أدى إلى أن تسرق الأوقات، وتسرق مساحات ومجالات التأثير من الأسرة، لكن هذا لا يعفينا من أن نسعى جادين إلى تعميق الرسالة والمهمة التربوية للأسرة.
ومن هنا كان هذا الحديث المقتضب والمختصر الذي لا يمكن أن يأتي على أطراف مثل هذا الموضوع لسعته وشموله وأهميته في مثل هذا اللقاء، ولهذا سأسعى إلى الإجابة على سؤالين رئيسين: لماذا؟ وكيف؟ لماذا نحن بحاجة إلى أن نفعِّل الرسالة التربوية للأسرة اليوم؟ وكيف تحقق الأسرة هذه الرسالة التربوية؟ حينما نتساءل اليوم عن أهمية الوظيفة التربوية للأسرة والرسالة التربوية للأسرة، فليس دافعنا لذلك هو مجرد إقناع الناس بالأهمية التربوية للأسرة، فأظن أن هذا أمر يتفق فيه الجميع، يتفق فيه المسلم والكافر، والجاهل والمتعلم، الجميع يتفقون على أن التربية مطلب وضرورة، وعلى أن الأسرة ينبغي أن تتحمل مسئولياتها في التربية، لكني سأحاول أن أسلط الضوء على بعض الإجابات على هذا السؤال، أعني به
السؤال
لماذا الرسالة التربوية للأسرة؟ سأركز على الإجابات التي تفيدنا في الميدان العملي أكثر من أن تكون مجرد مزيد إضافة للاقتناع بهذا الجانب وهذا العمل، هناك جوانب كثيرة تبرز أهمية الرسالة التربوية للأسرة، لكني سأجتزئ منها ما أرى أننا ينبغي أن نوظفه عملياً للإجابة على السؤال الآخر وهو: كيف نرتقي بالأسرة لتؤدي رسالتها؟(42/2)
خصائص الأسرة التي تكسبها الأهمية التربوية الأولى(42/3)
الأسرة هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية
أولاً: الأسرة هي الدائرة الأولى من دوائر التنشئة الاجتماعية، وهي المؤسسة الأولى من المؤسسات التربوية، فالطفل الرضيع حين يخرج من بطن أمه أول مجتمع يلتقي به هو مجتمع الأسرة، بل إن التأثير التربوي لا يبدأ من مرحلة الولادة، بل هو من مرحلة الحمل، فالطفل وهو في بطن أمه يتأثر بانفعالات الأم، يتأثر بالحالة النفسية التي تعيشها الأم، يتأثر باتجاه الأم نحو حملها ونظرتها له، ولهذا يبدأ منذ أن يكون حملاً في بطن أمه، لا يشارك الأم في تأثيرها أحد في هذه المرحلة، ثم يخرج وهو رضيع فتوصل له الأسرة رسائل تربوية يفقهها هو وربما لا تفقهها الأسرة، فهو في رضاعه من والدته، وفي مداعبة أهله له، وفي حمل أمه له ووضعها له يتلقى مشاعر عطف ومشاعر حنان تعتبر مطلباً ضرورياً في نموه الاجتماعي والنفسي والعاطفي، وهذا الأمر تجهله كثير من الأمهات، ويجهله كثير من الآباء، ثم يتدرج به العمر إلى أن يصل إلى سن المدرسة وهو لا يتعامل مع أي مؤسسة أخرى.
إذاً هذا الأمر حين تكون الأسرة هي المؤسسة الأولى، حين تكون الأسرة هي أول ما يفتح الطفل عينيه عليه، فهذا يؤكد لنا أهمية الرسالة التربوية للأسرة، وهو في المقابل أيضاً يعيننا في الإجابة على كيف؟ فبقدر ما نواجه من تحديات نملك فرصاً في تربيتنا ربما لا نثمنها.(42/4)
الأسرة هي الجماعة الأولى التي يرتبط بها الطفل وينتمي إليها
ثانياً: الأسرة هي أول جماعة يعيش فيها الطفل ويشعر بالانتماء إليها، وهو بهذا يكتسب عضوية في جماعة، ويظهر نمط هذه الجماعة وعلاقاتها على علاقاته فيما بعد، إنه ينتمي بعد ذلك إلى جماعة للعب، أطفال يلعب معهم يشاركهم، وعندما يتقدم به العمر ويصل إلى سن المراهقة فإنه يرتبط بثلة الرفاق أو مجموعة الرفاق، وعندما يتقدم به العمر أكثر يرتبط بجماعات أخرى من خلال الزمالة المدرسية ومن خلال العمل، كل هذه الجماعات تتأثر بالجماعة الأولى التي انتمى إليها وارتبط بها الطفل، ويتشرب قيم ومفاهيم ومعايير يزن من خلالها الناس كما سيأتي بعد قليل.(42/5)
الأسرة هي الجماعة التي يرتبط بها الفرد ارتباطاً لا ينفصم
ثالثاً: الأسرة ولنقل جماعة الأسرة هي الجماعة الوحيدة الذي يظل الإنسان مرتبطاً بها لا يتخلى عنها، ولو عدنا إلى تاريخنا نحن فسنرى أنه كانت لنا علاقات حين كنا أطفالاً وكنا ننتمي إلى مجموعة وفئة من أهل الحي أو الجيران أو الأقارب ونمارس معهم اللعب ونعيش معهم، وحين كنا في الدراسة كان لنا رفقة وزملاء في الدراسة، وفي العمل، وجماعات كثيرة تنشأ في حياتنا ثم تنقرض، أما الأسرة فهي الجماعة الوحيدة التي يبدأ بها المرء مع بدايته في الحياة وهي التي تودعه قبره وتودعه إلى باب البرزخ.
نسأل الله لنا ولكم حسن الخاتمة.(42/6)
الأسرة هي الكيان الذي يتميز بالتماسك رغم اختلاف شخصيات أفراده
رابعاً: طبيعة العلاقة المتبادلة أيضاً بين أعضاء الأسرة تختلف بغض النظر عن نوعهم وعددهم، الأسرة هي الجماعة الوحيدة التي يلتقي فيها جيل الآباء بالأبناء، بل الآباء بالأحفاد، يتعامل فيها الرجل مع زوجته ومع بناته الكبار اللاتي تزوجن وأنجبن، ويتعامل مع بناته المراهقات، ويتعامل مع أبنائه المراهقين، ويتعامل مع الأطفال والرضع، ولهذا فإن لها طبيعة خاصة وسمة خاصة تختلف عن سائر الجماعات والسمات، بغض النظر عن نوع هذه العلاقة وحجم الأسرة وطبيعة أعضاء الأسرة من حيث الجنس والسن إلى آخره، بالرغم من كل ما سبق فإن هذه الجماعة وهذه المؤسسة تبقى مترابطة متماسكة، وهذا يؤكد كما قلت على أهمية الرسالة التربوية للأسرة، وهو أيضاً يعطينا فرصة يمكن أن نستثمرها لنجيب على السائلين: كيف نرتقي في تربيتنا الأسرية؟(42/7)
الأسرة هي النظام الاجتماعي الأكثر ثباتاً على مدى التاريخ
خامساً: مؤسسة الأسرة هي أكثر الأنظمة الاجتماعية ثباتاً على مدى التاريخ، فمن يدرس التاريخ يعرف أن هناك أنظمة اجتماعية تحكم علاقات الناس وصلاتهم، كالقبيلة والعشيرة، وهذه العلاقات تطورت على مدى التاريخ، ومن يقرأ التاريخ يكتشف أن هذه العلاقات لم تثبت على وتيرة واحدة ولم تثبت على نظام واحد، وها نحن مثلاً اليوم نجد جماعات ومجموعات العمل والدراسة ناشئة مع ظروف الحياة الجديدة، وسينشأ في المستقبل نوع من المجموعات والعلاقات، وها نحن نرى مثلاً من خلال شبكة الإنترنت علاقات وصلات بين رجلين لو قابل أحدهما الآخر فلربما لا يعرفه، لكن تبقى هذه المؤسسة أكثر الأنظمة ثباتاً ورسوخاً على مدى التاريخ، وستبقى إلى ما شاء الله.(42/8)
الأسرة هي أكثر الأنظمة الاجتماعية استغراقاً لوقت الطفل
سادساً: الوقت الذي يقضيه الطفل مع أسرته من أطول الأوقات، سواء من خلال المرحلة الأولى من العمر وسيأتي الإشارة إليها، أو ما سوى ذلك، فالمرء يقضي مع أسرته أطول الأوقات، وهي حين تحسن التعامل مع هذا الوقت المتاح لها ستكسب فرصاً لا تكسبها المؤسسات التربوية الأخرى، وتقصر عنها عوامل التأثير الأخرى التي يمكن أن تزاحمها في تشكيل شخصية الطفل.(42/9)
الأسرة تنفرد بالتأثير على الطفل في سنوات عمره الأولى
سابعاً: أن الأسرة تنفرد بالطفل في المراحل الأولية من العمر، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك، وهذه المراحل لها تأثير كبير في تشكيل شخصية الطفل، وتشكيل قيمه وتصوراته وموازينه، والرجل كبير السن اليوم يرى أن هناك قيماً ومعايير ترسخت عنده منذ أن كان في طفولته ولا تزال مترسخة ثابتة.
في هذه المرحلة المهمة والخطيرة الأسرة تنفرد بالطفل فلا يزاحمها عليه أحد، نعم وسائل الإعلام بدأت تزاحمنا على أطفالنا في هذا السن وهذه المرحلة، لكن لا زلنا في هذا السن وهذه المرحلة نستطيع أن نتحكم في الطفل إلى حد كبير، ونستطيع أن نقلل من فرص تعرضه لتلك المؤثرات التي يمكن أن تسير به في طريق يخالف الطريق الذي ترتئي الأسرة أن تسير عليه وتسلكه.
ومن هنا فاستثمار هذه المرحلة المهمة يمكن أن يختصر علينا خطوات كبيرة، وحينما نتحدث اليوم ونطالب بأن تستثمر هذه المرحلة المهمة -مرحلة الطفولة- فلا ينبغي أن يقف الأمر عند التصور الساذج للتربية المطلوبة التي تقتصر على مجرد إعطاء توجيهات وإعطاء أوامر والتأكيد على أن هذا يسوغ وهذا لا يسوغ إلى آخره، بل ينبغي أن نتجاوز إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال البناء الصحيح لطريقة تفكير الطفل، والبناء الصحيح للقيم التي ينطلق من خلالها، وتنمية القدرات والمهارات التي يمكن من خلالها أن يتعامل مع ما يصل إليه بعد ذلك وما يواجهه من مؤثرات لا يمكن أن يتخلى عنها أو يتخلص منها فيما يستقبل من حياته.(42/10)
الأسرة تستقبل التأثيرات التي يتعرض لها الطفل من محيطه الخارجي وتعيد تقويمها
ثامناً: الأسرة تختار من البيئة ما تراه مهماً ثم بعد ذلك تقوم بتفسيره وتقويمه وإصدار الأحكام عليه، فكل ما يتعرض له الطفل، سواء ما يهبط إليه في المنزل من خلال وسائل الإعلام ووسائل التأثير، أو ما يواجهه من خلال الدائرة الأوسع من أسرته القريبة من خلال الأقارب أو ما يواجهه من خلال المدرسة والمجتمع، كل هذا تتعامل معه الأسرة وتقوم باختيار ما تراه مناسباً، ثم تقوم بتفسيره وإصدار الأحكام عليه، ومن هنا تكون القيم التي يتشربها الطفل متأثرة بنظرة الأسرة إليها وبتعبيرها عنه، فتشكل هذه القيم معايير يتعامل من خلالها مع ما يواجهه في المستقبل من مؤثرات في المجتمع.
فمثلاً: الطفل الذي يعيش في أسرة تحتقر المتدينين والتدين، سيتشرب هذه القيم من خلال ما يراه ويسمعه من والده ووالدته، وعندما تستقر عنده هذه القيم ويأتي إلى المدرسة ويجد معلماً متديناً فإن نظرته إلى هذا المعلم ستكون نظرة احتقار وانتقاص؛ لأنها نظرة تلقاها من خلال ما غرسته الأسرة عنده.
خذوا نموذجاً آخر: الطفل الذي يعيش في أسرة متدينة، وليس فقط متدينة بل وتتقن التربية؛ لأنه ليست كل أسرة متدينة تحسن التربية وتربي بطريقة صحيحة، حين ينشأ الطفل في أسرة متدينة تحسن التربية يأتي إلى المدرسة التي تعتبر أول تجربة له مع عالم مفتوح، بغض النظر عن تجربته مع المجتمع قبل المدرسة فهي تبقى تجربة محدودة من خلال علاقاته العائلية، وتبقى غالباً لها صلة وثيقة بثقافة الأسرة وبتربية الأسرة؛ لأن هناك في الغالب قدراً من الانتماء الفكري والقيمي والثقافي بين الأسرة والمحيط المجاور، من خلال الأقارب ومن خلال أخواله وأعمامه، فيبقى التغيير محدوداً، حتى حينما يحتك بالشارع يبقى التغيير محدوداً من خلال نوعية الجيران الذين يحتك بهم، ولكن حين يأتي إلى المدرسة فيجد في فصله 35 طالباً ينتمون إلى أسر متفاوته، وتربية مختلفة، وأنماط اجتماعية مختلفة، وشرائح اقتصادية مختلفة، وثقافات مختلفة، فينتقل نقلة أخرى تصدمه، فهو سيبدأ باختيار أصدقاء، كيف سيختار الأصدقاء؟ هو تلقائياً من خلال تلك القيم التي غرستها عنده الأسرة سيجد أنه يتناغم مع هذا النوع دون ذاك، فيجد أن الأصدقاء المحافظين الذين لا يسمع منهم كلمة بذيئة، ولا يرى منهم سلوكاً بذيئاً يجدهم أقرب إليه، وأكثر تناغماً معه فيميل إليهم.
أما الطفل الآخر الذي اعتاد على سلوك عدواني وسلوك متمرد فإنه يميل إلى تلك الفئة التي تناسبه، والطفل الآخر الذي لم يهذب سلوكه فاعتاد على اللغة غير المهذبة، وعلى الألفاظ السوقية، وعلى الأخلاق والسلوكيات الشاذة، يتجه تلقائياً إلى اختيار أصدقائه ممن يتناسب مع طريقته وتفكيره ونظرته للأمور.
إذاً: فالأسرة هنا أسهمت في غرس هذه القيم في الطفل وصار يتصرف من خلالها من حيث لا يشعر، فيحكم على الناس من خلال ما تلقاه، نظرته إلى معلمه لا تنفك عن نظرة الأسرة إلى الآخرين وتقويم الأسرة للآخرين، القيم التي تغرسها الأسرة عنده للرجل الفاضل وكذلك بالنسبة للفتاة للمرأة الفاضلة المحافظة، والإنسان بطبيعته لا ينظر إلى الأمور نظرة محايدة، يعني: كل المواقف التي تراها وتنظر إليها تمر إليك من خلال قناة، هذه القناة تقوم بعملية فلترة لهذه المواقف، فلا تنظر أنت للمواقف نظرة محايدة، ولا تنظر للأشخاص نظرة موضوعية وتحكم عليهم بحكم موضوعي، وإنما هذه النظرة تمر من خلال تلك القناة التي تمثل إطارك المرجعي الذي تشكل من خلال التربية الأسرية، ثم بعد ذلك التربية المدرسية تعدل وتطور في هذا الإطار، هذا الإطار المرجعي الذي تشكل عندك يتحكم في محتوى ما تتلقاه، في أحكام ستصدرها على الناس، وفي نظرتك للأمور، ولهذا أنت لا تنظر إلى الأمور كما هي، بل تنظر إليها من خلال إطارك المرجعي، ومن خلال القيم والمفاهيم والموازين التي اكتسبتها، فحكمك على الناس وتقييمك لهم ونظرتك لهم، فضلاً عن حكمك على السلوكيات المقبولة أو الشاذة، كل هذا ليس حكماً موضوعياً وليس حكماً محايداً كما يقال، إنما هو حكم يمر من خلال هذه القناة التي تقوم بإعادة فلترة هذه المواقف بإصدار أحكام عليها ما بين شخص مقبول وغير مقبول، أو سلوك مقبول وغير مقبول.
والسلوك بحد ذاته مجرداً من هذه القيم يبقى سلوكاً محايداً تتفاوت أحكام الناس بالنسبة له، فالذي يعده بعض الناس سلوكاً مقبولاً آخرون يعدونه سلوكاً شاذاً، وقس على ذلك الأشخاص الذين يعجب بهم فئة من الناس لا يعجب بهم آخرون، من أين نتلقى نحن هذه الأحكام؟ من خلال هذا الفلتر، ومن خلال هذا الإطار المرجعي الذي شكلته الأسرة، ثم لما جاء إلى المدرسة بدأت المدرسة تتحكم فيه بحيث تزيد وتنقص، وتعدل فيه وتقوم، المهم أن الأسرة شكلت هذه القيم التي ينظر من خلالها الطفل، وتنظر من خلالها الفتاة، وينظر من خلالها المراهق والمراهقة، بل والأب بعد ذلك إلى الأمور كلها، ومن ثم فهو لا ينظر إلى المجتمع ولا ينظر إلى الحوادث نظرة محايدة وإنما ينظر إليها من خلال إطاره المرجعي، بغض النظر عن كون هذا الإطار المرجعي يتفق مع ا(42/11)
الأسرة هي الميدان الحقيقي لإشباع الطفل بحاجاته النفسية
تاسعاً: الأسرة ميدان لإشباع الحاجات النفسية والاجتماعية، هناك حاجات نفسية واجتماعية مهمة للطفل وحتى للمراهق، فهو يحتاج إلى الحب، يحتاج إلى التقدير، يحتاج إلى الانتماء، يحتاج إلى الهوية، يحتاج إلى المسئولية، هناك حاجات كثيرة، أين الميدان الحقيقي لإشباع هذه الحاجات؟ الميدان الأول هو ميدان الأسرة، وسنشير إن شاء الله حينما ننتقل إلى الإجابة على الشق الثاني كيف أن الأسر غير المستقرة تترك أثرها في تربية أولادها حين ذلك.(42/12)
الأسرة أكثر حرصاً على أفرادها
عاشراً: الأسرة أكثر حرصاً وانضباطاً في الغالب، مهما كانت الأسرة فإنها تحرص على أطفالها، حتى الآباء الذين عندهم نوع من الانحراف والتقصير كثير منهم لا يتمنى أن يكون أولاده مثله، والأمهات كذلك، فالأب دائماً يتمنى أن يكون ابنه خيراً منه، بل قد تراه يقول له بلسان المقال: إنني قد وقعت في هذه المشكلة، وقد وقعت في هذا السلوك السيئ، ولا أتمنى أن تكون مثلي، بل أتمنى أن تكون أفضل مني، بخلاف المؤسسات التربوية الأخرى.
لهذا كله كنا بحاجة إلى أن نعيد الاعتبار للأسرة ولرسالتها التربوية، والاهتمام بالأسرة ورسالتها التربوية ليس شأن المسلمين وحدهم اليوم، بل حتى المجتمعات الكافرة تدرك الخطيئة الكبرى التي ارتكبتها حين هدمت هذه المؤسسة، وأكتفي بهذه العبارة التي يقولها مفكر غربي مشهور: لقد ارتكب المجتمع العصري غلطة جسيمة باستبدال تدريب الأسرة بالمدرسة استبدالاً تاماً، ولهذا تترك الأمهات أطفالهن بدور الحضانة، نعم كانت غلطة عظيمة وشنيعة ينبغي أن يعيها المسلمون حتى لا نبدأ من حيث انتهى الآخرون.(42/13)
العوامل الأسرية التي تؤثر على الطفل
ننتقل بعد ذلك إلى الإجابة على السؤال الثاني: كيف يمكن أن تفعِّل الأسرة وتؤدي رسالتها التربوية؟ وقبل أن أجيب على هذا التساؤل سأشير باختصار إلى بعض العوامل الأسرية التي تؤثر على الطفل وهي عوامل نستطيع أن نتحكم بقدر كبير منها، أول هذه العوامل: حجم الأسرة: فحجم الأسرة له أثر على تربية الطفل، مثلاً: الطفل الوحيد لأبويه غالباً ما يحاط برعاية تزيد عن الحاجة، ولهذا تصبح علاقات هذا الطفل بغيره على أساس أهمية مصالحه، وتظهر عنده الأنانية وحب السيطرة إلى آخره، بخلاف الطفل مثلاً الذي ينشأ في أسرة كثيرة الأطفال، فهذا غالباً يميل إلى النموذج السوي باعتبار أنه تعامل مع خليط وفئة عديدة من الأطفال، وباعتبار أن الحيز المتاح له من الاهتمام والديه به يبقى محدوداً باعتبار أنه توزع بين هذا العدد من الأطفال.
تركيب الأسرة: من حيث وجود الأبوين، أو وجود الأب وحده، أو الأم وحدها، أو كونه يعيش مثلاً عند زوجة والده، أو يعيش عند زوج والدته، هذا له أثره، كذلك من حيث نسبة الذكور إلى الإناث، وترتيب الطفل بينهم، ولهذا نجد دائماً أن المرشد الاجتماعي يسأل عن معلومات عن الطفل أول ما يدخل المدرسة، وهذه المعلومات ليست من باب العبث، فهو يسأل عن حجم الأسرة، وترتيب الطفل بين أفراد أسرته، وترتيبه بين الذكور أو بين الإناث إلى آخره، هذا له أثر على الطفل وتنشئته وتربيته، كما أن انسجام أفراد الأسرة له أثر كبير على تنشئة الأطفال، فإذا وجد الأطفال في أسرة تعيش في جو تعاوني بعيد عن الخلافات والمشاحنات، فهذا يجعلهم أكثر استقراراً وأبعد من الانحراف والتأثر، ولهذا دلت بعض الدراسات على أن 75% من حالات الجنوح تحصل في أسر ضعيفة أو منعدمة التماسك.(42/14)
كيف تؤدي الأسرة رسالتها؟
أنتقل بعد ذلك إلى الإجابة على السؤال كيف، كيف تؤدي الأسرة رسالتها؟ ربما أشرنا إلى جزء من الإجابة على هذا السؤال حين أجبنا على السؤال الأول (لماذا؟)، فلم أحرص على أن يكون حديثنا عن أهمية الرسالة التربوية في الأسرة حديثاً مقتصراً على الإقناع بأهمية الرسالة فنحن ندركها جميعاً، وإنما حرصت على أن أختار من بين ما أشرت إليه ما يمكن أن نستثمره في تطوير أداء الرسالة التربوية للأسرة.(42/15)
أهمية التعامل مع الأسرة على أنها مؤسسة اجتماعية
أولاً: ينبغي أن نتعامل مع الأسرة على أنها مؤسسة اجتماعية، وينبغي أن يسهم المجتمع في تعزيز دور الأسرة، وأن ننظر على مستوى المجتمع على أن قضية الأسرة ليست قضية تعني الأب والأم وحدهما، لا، ليست تعني هذا الرجل وتلك المرأة، إنما هي قضية تعني المجتمع، إن المجتمع حين يهمل الاعتناء بالأسرة، فإنه لن يجلب المخاطر على ذرية رجل وامرأة، وإنما سيجلب المخاطر إلى المجتمع بأسره، فالمجتمع حين يعتني بالأسرة وحين يعزز دور الأسرة فإنه سيختصر كثيراً من الخطوات، وسيحل كثيراً من المشكلات الاجتماعية، ولهذا فالحديث عن الأسرة ينبغي أن لا يكون مقتصراً على قطبي الأسرة وهما الأب والأم، فالأمر يعنيهما بدرجة مهمة ويعني بدرجة أهم المجتمع، المجتمع هو المسئول عن إتاحة الفرصة لبناء الأسر السليمة المستقيمة، المجتمع هو المسئول عن التحكم في العوامل والمؤثرات التي يمكن أن تقلص من دور الأسرة، ومن ثم فلترتقي أسرنا لتؤدي رسالتها التربوية لا بد أن نوسع نظرتنا إلى الأسرة، فننظر إليها على أنها مؤسسة تعني المجتمع، ومن ثم فأهل الرأي في المجتمع وأهل الفكر في المجتمع والمؤسسات التربوية والمؤسسات الاجتماعية اليوم ووسائل الإعلام ينبغي أن تضع هذا الأمر في الاعتبار: ماذا قدمت الأسرة على المستويين؛ على مستوى المطلب المحدود الذي يعني الأب والأم، وعلى مستوى مطلب المجتمع ككل؟ وحين تختار أسرة ما أن تسير على خلاف ثقافة المجتمع فإنها لا تجلب الضرر لها وحدها بل تجلب الضرر للمجتمع ككل، المجتمع الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مثل السفينة حين يخرق فيها خرق يغرق المجتمع كله.
الأسرة التي تخرج شاباً منحرفاً طائشاً هل يقتصر العناء على هذه الأسرة وحدها، أم يتجاوز ذلك إلى المجتمع؟ الأسرة التي تخرج فتاة منحلة هل يقتصر أثر ذلك على الأسرة نفسها، أم أن ذلك يتجاوز إلى المجتمع؟ ومن ثم فالمجتمع ينبغي أن يطور نظرته، وأن يتعامل مع الأسرة ومع مؤسسات الأسرة على أنها قضية تعني أباً وأماً وتعني أيضاً المجتمع بأسره، ومن ثم فهو مسئول على أن يقدم للأسرة الإمكانات والخبرات التي تعينها على الارتقاء برسالتها، وهو مسئول عن تطوير أداء الأسرة، وهو مسئول عن حماية الأسرة من المؤثرات، ثم هو أيضاً بمؤسساته لا يسوغ له أن يتبنى أي اتجاه يهدم تأثير الأسرة، ولعله أن يأتي مزيد حديث بهذه القضية.(42/16)
ضرورة أن تكون النظرة التربوية نظرة شمولية
ثانياً: لا بد من الشمول في النظرة التربوية، فالتربية حتى بمفهومنا الشرعي ليست مجرد أمر بالصلاة ونهي عن المنكر والفحشاء، وهذا أمر لا شك هو الأساس والأصل، لكنها أبعد من ذلك، إنها تبدأ أولاً بغرس الإيمان والتقوى في النفوس حتى تميل النفوس إلى حب الصلاة، وإلى حب الخير والطاعة، وإلى كره الفساد وأهله، ثم هي بعد ذلك تعلم ما يجب وما يحرم، وما يسوغ وما لا يسوغ، ثم هي بعد ذلك تربي على محاسن الأخلاق ومعالي الأمور، ثم هي تعتني بالجانب النفسي والاجتماعي والصحي، وترى أنها كلها منظومة واحدة يؤثر بعضها على بعض، ويتأثر بعضها ببعض، إن الحالة الدينية للشاب لا تنفك عن حالته النفسية، فالشاب الذي يعيش في أسرة لا تعطيه الإشباع النفسي والاجتماعي ولا تلبي حاجاته ربما يكون شاباً منحرفاً حتى إن نظرته للدين والمتدينين ستتأثر بهذا الحرمان النفسي والاجتماعي الذي عايشه، ولهذا نرى المربي الأول صلى الله عليه وسلم يرعى هذا الاعتبار، وأجتزئ هنا أمثلة يسيرة: ما هي قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم؟ الصلاة، قرة عين النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، الوقت الذي يجد فيه النبي صلى الله عليه وسلم السعادة والطمأنينة هو في الصلاة؛ ولهذا كان إذا حزبه أمر صلى الله عليه وسلم فزع إلى الصلاة، كان يصلي صلى الله عليه وسلم -وليس يصلي وحده وإنما كان يؤم أصحابه- فأتى أحد أولاده الحسن أو الحسين فارتقى على ظهره صلى الله عليه وسلم فأطال السجود فاستبطأه أصحابه، ثم لما انصرف سألوه، فقال صلى الله عليه وسلم: (إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته)، النبي صلى الله عليه وسلم المعلم الواعظ البليغ المربي كان وهو يخطب في أصحابه وهم خيار الناس وخيار القوم يأتي الحسن ويتعثر، فيترك خطبته صلى الله عليه وسلم ثم ينزل من المنبر فيحمله ثم يعود إلى خطبته فيقول: (إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين).
إذاً: أولئك الذين عاشوا تربية تراعي هذا الجانب، وتلبي هذه الحاجات، وتنمي لديهم الثقة في النفس، وتنمي لديهم هذه القدرات والمهارات التي يحتاجون إليها، وتحقق عندهم الإشباع النفسي والعاطفي، خرجوا جيلاً قاد البشرية وأثر في البشرية.
إذاً: فلا بد أن تتسع الدائرة التي ننظر من خلالها إلى مسئوليتنا التربوية، وألا تقتصر على مجرد الأمر والنهي، أو مجرد أن نعلمه الأحكام الشرعية وننهاه عما لا يسوغ له أن يفعله وإن كان هذا واجباً ومتحتماً ومتعيناً.
يقول أحد التربويين الغربيين والحكمة ضالة المؤمن: لا تظنوا أنكم تربون الطفل عندما تتحدثون إليه فحسب أو ترشدونه أو توجهونه، بل إنكم تربونه في كل لحظة من حياتكم حتى وأنتم غير موجودين في البيت، ومما له أهمية: كيف تلبسون ثيابكم، وكيف تتحدثون مع الآخرين وعن الآخرين، وكيف تعاملون الأصدقاء والأعداء، وكيف تسرون وتضحكون.(42/17)
ضرورة السعي في زيادة الخبرة التربوية لدى الآباء والأمهات
ثالثاً: لا بد من السعي لزيادة الخبرة التربوية من قبل الآباء والأمهات، وهذا يمكن أن يتم من خلال القراءة، وللأسف فإننا نكاد لا نقرأ كآباء وأمهات ما يتعلق بشئون التربية، إن المرأة ربما تقرأ في كتب الطبخ، والرجل يقرأ في قراءات كثيرة تهمه لكنه قلما يقرأ ما يعنيه في تربية أولاده ويعينه على ذلك.
أيضاً: استشارة المختصين، والاستفادة منهم، ومجالستهم ومعاشرتهم، فإنهم يمكن أن يختصروا علينا خطوات كثيرة: كذلك استثمار اللقاءات العائلية التي كثيراً ما نلتقي فيها ونجتمع فيها، فعادة يلتقي الآباء بالآباء، والأمهات بالأمهات، لكن هذه اللقاءات كثيراً ما يدار فيها الحديث فارغ المضمون والحديث غير المفيد، ولو اجتزأنا جزءاً من وقت هذه اللقاءات لنتحدث فيه عن هموم أسرنا وعن تربيتنا لاستفدنا كثيراً، وكم ممن هو دونك في العلم يملك خبرات وعلوماً لا تملكها أنت، وما زال الأكابر يستفيدون من الأصاغر.(42/18)
الاستفادة من تجارب الآخرين في مجال التربية
رابعاً: الاستفادة من تجارب الآخرين، هناك تجارب كثيرة في التربية يمكن أن ترقى بخبراتنا ومهاراتنا، لكن مع الحذر من التعليم الخاطئ، قد تكون هناك تجربة نجح فيها فلان من الناس لا تنجح فيها أنت، وقد تكون تجربة نجحت فيها أنت لا أنجح فيها أنا؛ لأن التجربة لا يمكن أن تفصلها عن شخصية المربي، ولا عن البيئة التي يعيشها، ولا عن الشريحة التي يتعامل معها، وهذا لا يعني أن لا نستفيد منها، لكن يمكن أن نستفيد من كل هذه التجارب مع الحذر من التعميم، فحين نريد أن نعمم ينبغي أن نتأكد من مدى انطباق هذه التجارب على واقعنا.
إذاً: القراءة، واستشارة المختصين، واستثمار اللقاءات العائلية، والاستفادة من تجارب الآخرين، كلها مما يمكن أن يزيد من خبرة الأسرة.(42/19)
الاعتناء بالاستقرار الأسري
خامساً: لا بد من الاعتناء بالاستقرار الأسري، وقد أشرنا قبل قليل إلى أثر الاستقرار الأسري على الانحراف وعلى الاستقامة، وأثره على سلوك الأطفال، وحينما نطالب بالاعتناء بالاستقرار الأسري فنحن نطالب بذلك على مستويين: المستوى الأول: على مستوى المجتمع، فالمجتمع ينبغي أن يسعى إلى تحقيق الاستقرار الأسري من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية، ومن خلال مراعاة ذلك في الأنظمة، فأنظمة العمل التي تحكم علاقات الناس لا ينبغي أن ينظر إليها نظرة مادية بحتة، بل ينبغي أن نتساءل ونحن نضع أنظمتنا، سواء النظام المقنن الذي يصبح قانوناً ونظاماً يلجأ الناس إليه، أو النظام العرفي الذي نتعارف عليه، ينبغي أن نضع في الاعتبار أثر هذه الأنظمة على الاستقرار الأسري، هناك بعض أنظمة العمل تعزل الأب عن أسرته، حيث تتعامل مع الأب على أنه آلة، إذا كان يصح في العالم الغربي أن يعمل الأب لساعات طويلة بعيداً عن أسرته فأظن أننا ينبغي أن نعيد النظر في هذا الأمر، وأرى أنه ينبغي أن نضع حداً أدنى لا نسمح لأحد بتجاوزه لما يقدمه من عمل ولو كان هذا يؤدي إلى مزيد من الإنتاج والثراء بالنسبة له أو بالنسبة للمجتمع، فإن العبرة ليست بالمادة ولا بالمقياس المادي، إن الخلل التربوي يكلف المجتمع مبالغ مالية باهظة حين ينحرف فرد من أفراد المجتمع، فالفرد حين يكون مدمناً يكلف المجتمع في علاجه الصحي، وفي علاجه النفسي والاجتماعي، بل المدمن حين يقع في جريمة يكلف المجتمع تكاليف مادية في سجنه وبعد سجنه، فلو حسبنا التكاليف المادية لرأينا أن التربية حتى بالمنظور المادي تختصر علينا خطوات كثيرة، وأننا لا ينبغي أن نتعامل مع الإنسان على أنه آلة.
إذاً: فالمجتمع ينبغي أن يسعى إلى تعميق الاستقرار الأسري من خلال تقديم الخدمات الاجتماعية، ومن خلال الأنظمة التي يضعها المجتمع، سواء أكانت أنظمة مقننة أو أنظمة عرفية يتعارف عليها المجتمع، ثم من خلال المؤثرات الإعلامية السيئة.
ودعوني أضرب على ذلك مثالاً واحداً: المسرحيات التي تراها الأسر اليوم صباح مساء، ما هو أثرها على هدم استقرار الأسرة؟ المسرحية عبارة عن مجموعة ممثلين يقفون على خشبة المسرح، فيعيشون في صورة مثالية، المرأة تبدو أمام زوجها أولاً بمظهر لا تبدو عليه حتى وهي في بيتها في الواقع، والرجل كذلك، طريقة التعامل، الحوار، العلاقات إلى آخرها، ما أثر هذه المشاهد المتكررة على الأسرة؟ ثم المشاهد التي تتحدث عن الخلافات الزوجية والطلاق والمشكلات وكأنها وسيلة لتطبيع التفتت الأسري باعتباره ظاهرة طبيعية غير شاذة، ناهيك عن وسائل الإثارة التي تحدث أثراً غير مباشر، فالرجل الذي يرى صورة فاتنة في وسائل الإعلام ربما يقوده ذلك إلى مواقعة الفساد والبحث عن ما وراء ذلك، وكذلك المرأة، وهذا من أعظم ما يهدم ويؤثر على الأسرة.
كذلك المسرحيات والتمثيليات التي تصور أم الزوجة على أنها أكبر عدو للزوج، وعلى أنها أكبر مشكلة تواجهه، وكيف يستطيع الزوج أن يتخلص ويتهرب من حماته، بل ربما ارتكب الجريمة للتخلص منها، وقل مثل ذلك فيما يتعلق بالمرأة، كل هذه تعطي رسالة وترسخ قيماً تؤثر على استقرار الأسرة، فمن مسئولية المجتمع أن يحد من هذه المؤثرات السيئة، وأن يقيم ما يراه من مؤثرات كمجلات المرأة والأسرة اليوم، والفقرات التي تقدمها وسائل الإعلام عبر القنوات الفضائية، وعبر شبكة الإنترنت من هنا وهناك، فكل هذه تهدم بنيان الأسرة وتزلزل استقرارها، والمجتمع مسئول عن الحد من هذه المؤثرات حتى يحمي الأسرة.
إذاً: هذا المستوى مستوى محافظة المجتمع على استقرار الأسرة.
المستوى الثاني متعلق بالأسرة نفسها، حيث ينبغي أن يشعر الآباء والأمهات أن الاستقرار الأسري لن تعود ثمرته عليهم هم وحدهم وإنما ستعود الثمرة بعد ذلك على الأبناء والبنات، بل وعلى المجتمع كله الذي سيجني ثمرة هؤلاء، ومن ثم لا بد من أن يسعى الزوجان إلى تقوية الاستقرار الأسري، والتضحية والتحمل في سبيل تحقيق مثل هذا الهدف.(42/20)
ضرورة توفير الوقت الكافي للأسرة من قبل أفرادها
سادساً: لا بد من زيادة الوقت المتاح للأسرة، قلنا: إن الأسرة تملك وقتاً واسعاً وكبيراً تتعامل فيه مع أولادها، لكن اليوم ثمة عوامل كثيرة استغرقت جزءاً كبيراً من وقت الأسرة، ودعوني أضرب على ذلك ثلاثة أمثلة سريعة: التلفزيون: الأسرة تجتمع على طعام العشاء أو في جلسة الشاي أمام شاشة التلفزيون، وهذا يعني أنهم سيجتمعون صامتين ينظرون جميعاً إلى هذه الشاشة، هذا الوقت كان من الممكن أن يشغل بالحديث بين أفراد الأسرة، وهذا الحديث له أثره، فهذا الوقت الذي تعتقد فيه الأسرة أنها قضته مجتمعة في الحقيقة هي لم تقضه مجتمعة إنما قضته أمام ما يسميه بعض التربويين المجمع المفرق، جمعهم أبداناً وفرقهم عقولاً وأرواحاً.
السائق: كم يأخذ من وقت الأسرة، اعتاد الأب أن يوصل أطفاله إلى المدرسة، وأن يوصلهم إلى هنا وهناك، ثم جاء السائق فصار يكفيه مئونة ذلك، وهذا ربما يوفر علينا وقتاً ويحل لنا مشكلة، لكن كم هو الوقت الذي يقضيه الولد مع السائق، هذا الوقت كان من الممكن أن يقضيه مع والده، ومثل هذا لا يخفى أثره النفسي والاجتماعي في تقوية الصلة بين الأب وأولاده، وأثره التربوي كذلك ففي الطريق يشاهد الأولاد مواقف وتمر بهم أمور تستحق التعليق، وتستحق التقويم، فماذا نتوقع من هذا السائق أن يغرسه في نفوس الأولاد؟! الخادمة التي تبقى مع الصغار وتأخذ منهم وقتاً طويلاً، بل ربما تقوم بإعداد الطعام لهم، وتقوم بتنظيفهم ومساعدتهم في ارتداء اللباس، وترعاهم في هذه المرحلة الخطيرة المهمة التي يحتاجون فيها إلى العطف، وإلى الحنان، وإلى الإشباع العاطفي الذي حرموه بسبب هذا الوافد الغريب، ولا أريد أن أستطرد في هذا، لكن أقول: هذه الثلاثة نماذج من الوقت الذي سرق من الأسرة وهي مع بعضها، يعني: الوقت الذي يأخذه السائق وتأخذه الخادمة ويأخذه التلفزيون، كان من الممكن أن يكون مع الأسرة جميعاً أو مع الأب أو مع الأم، فما بالك بما سوى ذلك.
فهذا يدعونا إلى أن نزيد من الوقت المتاح للأسرة، فعلى الأب أن يعيد النظر في الفترة التي يغيبها عن منزله، سواء من حيث طول الوقت الذي يقضيه خارج المنزل، أو من حيث موقع هذا الوقت الذي يقضيه في المنزل من البرنامج اليومي، فالوقت الذي تقضيه في المنزل وأطفالك نائمين لا قيمة له، بعض الآباء يقضي وقتاً طويلاً في العمل، ثم يأخذ عملاً إضافياً أو ينشغل بارتباطات اجتماعية هنا وهناك فلا يرى أطفاله ولا يرى أسرته إلا نادراً، وقل مثل ذلك أيضاً في الأم، فالأم قد تعمل، وقد تنشغل، وقد ترى أن الخادمة تكفيها المئونة، فتتنازل عن جزء من وقتها للخادمة.
أيضاً ينبغي ألا نسمح لأولادنا أن يقضوا معظم وقتهم خارج المنزل، لا بد من أن يكون هناك وقت يلتزم الأولاد بقضائه داخل المنزل مع الأسرة، لا بد إذاً من أن نزيد الوقت المتاح للأسرة، سواء الوقت الذي تكون الأسرة موجودة فيه فعلياً أو الوقت الذي نحسبه نحن على الأسرة وهو ليس محسوباً على الأسرة وقد أخذته العوامل الأخرى كما أشرنا قبل قليل.(42/21)
إعطاء الأولوية للأسرة
سابعاً: لا بد أن نعتبر الأسرة أولوية في أمور كثيرة، ولابد من أن نعيد تقويم عمل المرأة اليوم في ضوء مهمة الأم، ولا بد من أن نبتعد عن العقدة التي تجعل عمل المرأة مطلباً لذاتها.
أظن أن قضية الموقف من عمل المرأة قضية واضحة وقضية لسنا بحاجة إلى تقريرها، لكن حديثنا اليوم عن عمل المرأة هل هو حديث موضوعي يمليه واقع المجتمع فعلاً أم هو حديث وافد من العالم الآخر؟ ألسنا نسمع كثيراً ونقرأ أن المرأة تقول: حصلت على شهادة ثم علقتها على الرف.
إذاً: هل العمل غاية في حد ذاته للمرأة، أم أنه حين تكون هناك حاجة لعمل المرأة يصبح عملاً منتجاً؟ ثم لماذا نأتي إلى الخادمة التي تذهب إلى بيت وتعمل بأجر ونعتبرها امرأة عاملة، وتصنف في معيار العمل الذي تتبناه الأمم المتحدة على أنها امرأة عاملة، وأن المرأة التي ترعى أسرتها وتربيها وتقوم بأضعاف هذا الدور لا تعتبر عاملة؛ لأنها لا تتلقى على ذلك أجراً؟ أقول: ينبغي أن نتجاوز الحساسية التي نتعامل فيها مع هذه الأمور، وأن ننظر إلى عمل المرأة نظرة موضوعية، وأن تتساءل المرأة حين تعمل: ما أثر العمل على أسرتها وعلى أطفالها؟ لا اعتراض على عمل المرأة بشرطين: أن يكون له حاجة، وأن يكون في ظل الضوابط الشرعية، {قَالَتَا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ} [القصص:23]، فهما ذكرتا أنهما محتاجتان إلى العمل لأن أباهما شيخ كبير، وأنهما التزمتا بالحشمة فلا تسقيان حتى يصدر الرعاء، فإذا تحقق هذان الشرطان لا اعتراض على العمل، لكن أيضاً ينبغي حينما تقوِّم المرأة رغبتها في العمل أن تنظر إلى هذا الأمر وهذا الاعتبار: ما أثر العمل على تربيتي لأطفالي وأسرتي؟ وينبغي أن تكون الأسرة أولوية، أن تكون أولوية في عندنا في اختيار السكن، وأن تكون أولوية في اختيار طبيعة العمل الذي يتجه إليه الأب، وهناك ارتباطات وقضايا أخرى كثيرة، المهم أن تكون الأسرة أولوية وليس كما هو الواقع اليوم أنها تأتي في آخر اهتماماتنا.(42/22)
الاعتناء بالمشكلات الاجتماعية التي تواجه الأسرة
ثامناً: لا بد من الاعتناء بالمشكلات الاجتماعية من خلال: أولاً: أن نحتوي المشكلات الاجتماعية قبل أن تقع ونقلل من أثرها.
ثانياً: تهيئة البديل، فحين يوجد شباب أو فتيات يعانون من مشكلات اجتماعية يجب أن توجد لهم المدرسة بديلاً، وأن يوجد لهم الدعاة والمربون بديلاً يخفف على الأقل من أثر المشكلات الاجتماعية، وقد أشرنا إلى شيء من ذلك قبل قليل.(42/23)
أخذ الجانب التربوي بعين الاعتبار عند تعدد الزوجات
تاسعاً: لا بد من اعتبار الجانب التربوي عند التعدد، وتعدد الزوجات أمر مشروع لا نقاش فيه، لكن ينبغي للرجل حين يفكر في أن يعدد أن ينظر إلى أثر ذلك على التربية، وأن تتحقق فيه الشروط التالية: أولاً: لا بد من أن يعتبر ضمن القدرة على التعدد، فالذي لا يستطيع أن يربي أولاده يعتبر غير قادر على التعدد، وهذا أمر شرعي لا بد أن يضعه في الاعتبار، حين لا يستطيع أن يرعى أولاده ويربيهم ينبغي له أن يتوقف عن مثل هذا المشروع.
ثانياً: لا بد أن يحسن التعامل مع التعدد، نحن أحياناً نمارس التعدد بطريقة خاطئة، فنحسن التعامل معه بما يتناسب مع التربية، من خلال مراعاة أول شرط وهو شرط العدل؛ لأنه حين يخل الزوج المعدد بالعدل فسيترك أثره ذلك على أولاده.
ثالثاً: الوقت الذي يصرفه لأولاده، سواء الأولاد جميعاً أو هنا أو هناك.
رابعاً: الزوج المعدد يختار السكن الذي يتناسب مع زوجته الأخرى فهذا مطلب ربما يكون منطقياً بالنسبة للزوجة، لكن بالنسبة لإشرافه هو على أولاده ورعايتهم ربما يكون مناسباً.
خامساً: دور الزوجة وحكمتها، فالزوجة حين تبتلى بزوج معدد ينبغي لها أن تكون حكيمة في التعامل مع هذا الواقع، ألا تكوِّن عند أولادها نظرة سلبية تجاه والدهم، ألا تؤثر هذه النظرة، أن تجعل مشكلتها مع زوجها ومشكلتها مع هذه الضرة الوافدة قضية تخصها، فلا تظلم أولادها ولا تؤثر عليهم من خلال نقلهم إلى مثل هذا الواقع.
أعرف أن هذه النقاط الثمان التي ذكرت غير كافية في الإجابة على هذا السؤال (كيف نرتقي بالأسرة لتؤدي هذه الرسالة؟) لكن هذا قدر ما يسمح به هذا الوقت، ولعلنا أن نكون من خلال هذا الحديث قد أجبنا على هذين السؤالين: لماذا الأسرة اليوم مدعوة إلى أن تسعى لتعزيز الرسالة التربوية؟ ثم كيف تحقق ذلك؟ وما ذكرناه لا يعدو أن يكون أمثلة ونماذج.
أسأل الله عز وجل أن يهب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، وأن يجعلنا للمتقين إماماً، وأن يصلح ذرياتنا وأزواجنا إنه سميع مجيب، وأترك ما تبقى من وقت للإجابة على بعض الأسئلة.(42/24)
الأسئلة(42/25)
بعض الكتب المختصة بتربية الأبناء
السؤال
حبذا لو ذكرتم لنا بعض الكتب التربوية المتخصصة في الجانب الأسري، وكذلك المحتوية على بعض الحلول العملية لمشاكل الأطفال؟
الجواب
كتب التربية الأسرية كثيرة ومتنوعة في كافة المجالات، فهناك كتب تعتني بالأطفال، وهناك كتب تعتني بالمراهقين، وهناك كتب تعتني بتربية الفتاة، وهناك كتب تعتني بتربية الشاب والابن، فربما لا نستطيع في هذه العجالة أن نذكر نماذج لمثل هذه الكتب، وأظن أنك حينما تزور أي مكتبة فإنك ستجد العديد من هذه الكتب المناسبة.
بعض الكتب التي تصف الحلول العملية لمشاكل الأطفال هناك كتب كثيرة ركزت على مشاكل الأطفال، أولاً: الكتب التي اهتمت بتربية الأطفال جزء منها يتناول هذا الجانب، وهناك بعض الكتب منها سلسلة حول المشكلات السلوكية للأطفال، عن الكذب والسرقة والجنوح.
والتلفزيون، وغير غيرها من المشكلات التي يمكن أن يواجهها الأطفال فهي سلسلة جيدة وموجهة يمكن أن تفيدنا في مثل هذا الأمر.(42/26)
كيفية التعامل مع الولد الناشئ بين بنات والعكس
السؤال
ما هي الوسائل التربوية المناسبة للتعامل مع الولد الذي ينشأ بين أخواته البنات؟
الجواب
هذه القضية لا نستطيع أن نتحكم فيها، ولا شك أنه إذا كان عدد الأطفال أقل سيتيح فرصة تربوية أكثر، لكن هذا لا نتحكم فيه بل النبي صلى الله عليه وسلم أمر بكثرة النسل، وقال: (إني مباه بكم الأمم يوم القيامة)، كذلك تربية الابن بين جماعة من البنات والعكس، فالابن حينما ينشأ وحيداً؛ ليس له إخوة يتأثر بجو البنات أو العكس، والحل لذلك أنه يمكن أن نوجد له علاقات مع بعض أقاربه من أبناء عمه أو أبناء خاله فيقضي معهم وقتاً أكثر حتى ينمو بطريقة اجتماعية صحيحة كونه يعيش بين البنات وحده فيتأثر والعكس كذلك بالنسبة للبنت.(42/27)
أثر الزواج المتأخر في تربية الأولاد
السؤال
هل لكبر سن الأب أو الأم أو الزواج المتأخر أثر في تربية النشء؟
الجواب
نعم له أثر من حيث الحمل نفسه، وله أثر من حيث نضج الشخص، ولا شك يعني حين يأتيه الأطفال على كبر سن يختلف حين يأتيه الأطفال وهو في سن الشباب، ولهذا نجد مثلاً أحياناً بعض كبار السن الذي يأتيه آخر الأطفال وهو كبير السن لا يتعامل معه تعاملاً متزناً، فيعطيه قدراً من الاهتمام أكثر من غيره وهذا يترك أثراً سيئاً بالنسبة له.(42/28)
كيفية التعامل مع الطفل الذي يصدر عنه سلوكيات خاطئة
السؤال
يقوم الطفل أحياناً بسلوكيات خاطئة فكيف يغير هذا السلوك، مع العلم أني أمنعه من أشياء لمدة يوم أو يومين ثم ما ألبث أن أتراجع عن ذلك؟
الجواب
أولاً: هناك قدر من سلوك الأطفال يجب أن نعده في إطار الطبيعي، فلا ننتظر منهم أن يكونوا نموذجاً مثالياً، هذه طبيعتهم، فينبغي أن نتقبل قدراً مما نرفضه، ثم أيضاً إتاحة البديل، ووضع الفرص، والاستفادة من اللعب وتوجيهه تربوياً يمكن أن يقلل كثيراً من مثل هذه المواقف التي تستدعينا إلى أن نغضب على أطفالنا.(42/29)
الفرق بين الانترنت والبث المباشر من حيث الأثر في تربية الأولاد
السؤال
ما هو الفرق بين الإنترنت والبث المباشر وأثرهما في تربية النشء؟
الجواب
هناك جوانب لصالح الإنترنت والعكس، البث المباشر غالباً التحكم فيه محدود، يعني: الشخص أمام الشاشة لا يمكنه إلا أن يغير القنوات فقط، وغالباً يركز على الإثارة والإغراء أكثر من المادة الثقافية وهو اتصال من طرف واحد، أما الإنترنت فمجال الاختيار فيها واسع، ما بين سيئ وما بين صالح، فسيئها أسوأ مما في القنوات، وصالحها ربما لا يوجد في غيرها، كما أن فيها تفاعل، فهي من جهة فيها فرص أفضل وفيها مخاطر أكثر.(42/30)
دعوة المجتمع إلى رعاية الأسرة لا يعني أنها ليست جزءاً من مكوناته
السؤال
أنت حملت المجتمع مسئولية الأسرة، أليست الأسرة هي أساس المجتمع، فلماذا لا تكون الأسرة مسئولة عن المجتمع بالقدر نفسه؟
الجواب
ليس هذا خروجاً عن هذا التوجيه، وأظن أن كل حديثنا هو جزء من محاولة أن نقوم بجزء من مسئولية الرعاية للأسرة، لكن لا ننظر إلى المجتمع على أنه مجموعة أسر فقط، إنما هو مجموعة أسر، ثم هناك قيم اجتماعية، وروابط اجتماعية، وهناك عوامل أخرى ليس فقط هو مجرد مجموعة أفراد، فالمجتمع عدة أفراد، لكن الأفراد كلهم أيضاً لا يشكلون المجتمع بل أضف إلى ذلك طبيعة العلاقات الاجتماعية، وأثرها، فهي تولد علاقات أخرى، وتولد طريقة تفكير، وتولد عوامل أخرى لها أثر، ثم إن المجتمع في علاقاته وصفاته يختلف عن الأسرة بهمومها التي غالباً تتمحور حول ذاتها.(42/31)
اجلس بنا نؤمن ساعة
تعد التربية الإيمانية اليوم ضرورة ملحة؛ لجريان سيل بلاء هذا العصر المتحضر بجملة من المشكلات العظيمة التي لن يجد لها الناس حلاً في غير التربية الإيمانية، كما أن هناك جملة من الأسباب الأخرى تدعو إلى التربية الإيمانية لتحقيق الكمال البشري المنشود.(43/1)
أهمية التربية الإيمانية للنفوس
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فعنوان حديثنا: (اجلس بنا نؤمن ساعة).
وهي مقولة لـ معاذ رضي الله عنه، كان يقولها لأصحابه، أو هي حديث عن التربية الإيمانية وحاجتنا إليها، وقد يشعر بعض الناس بادئ ذي بدء حينما يسمعون الحديث عن التربية بأن هذا الحديث يخص فئة من الناس هم أولئك المربون، سوء كانوا آباءً أو أساتذة أم كانوا مربين للجيل والناس الذين يستمعون لكلمتهم ويقتدون بأعمالهم.
فالبعض حين يسمع الحديث حول هذا الموضوع يسقطه من ذهنه، ولسان حاله يقول: هذا ليس خطاباً لك.
وهذا التصرف يعتمد على فهم قاصر للتربية؛ وهو أن التربية ما يتلقاه الإنسان ممن يربيه أياً كان هذا المربي، وهذا أمر -لاشك- له أهميته ودوره، والشرع قد اعتنى به، لكن هناك جانب مهم لا يقل أهمية عن هذا، ألا وهو أن الإنسان مسئول عن تربية نفسه، فعليه أن يسعى لتربية نفسه وتزكيتها وتهذيبها، والله تبارك وتعالى قرر في كتابه في غير ما آية المسئولية الفردية للإنسان، فقال تعالى: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:38 - 39]، وقال تعالى: {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} [مريم:80]، وقال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95].
فهذه النصوص وغيرها تقرر المسئولية الفردية، وهي أن كل إنسان مسئول عن خاصة نفسه، في عمله وسلوكه وحياته، ثم هو -نتيجة هذه المسئولية- سيحاسب وحده وسيلقى الله عز وجل وحده.
فهذا مدخل بين يدي هذا الموضوع حتى لا نتصور أن الموضوع لا يعنينا بدرجة مهمة، أو أن الموضوع إنما يخص المربين.
نعم، وإن كان المربون لهم نصيب من هذا الحديث ومن هذا الخطاب، إلا أننا كلنا -أيضاً- نحتاج لمثل هذا الخطاب وهذا الحديث؛ لأننا يجب علينا أن نقوم بتربية أنفسنا، وندرك مسئوليتنا تجاه أنفسنا، وينبغي أن يراجع كل منا نفسه، ويشعر بأنه إن رزقه الله بمن يحسن تربيته وتوجيهه، فصار قدوة له، لا يعفيه ذلك من المسئولية عن نفسه، بأن يجتهد في تربية نفسه وإصلاحها، وأن يتعرف على الأسباب والوسائل التي تعينه على التربية السليمة لنفسه.(43/2)
تعدد جوانب التربية
والتربية لها جوانب عدة، والتربية إنما تسعى لاكتمال شخصية الإنسان، وأن تكون الشخصية هي الشخصية المسلمة التي تمتثل بأمر الله عز وجل، وتنتهي عما نهى الله تبارك وتعالى عنه.
ولا شك أن النفس لها جوانب متعددة، ومن هنا كانت التربية -أيضاً- لها جوانب متعددة؛ باعتبار أنها تسعى إلى تكميل النفس، وتسعى إلى الرقي بها؛ لذلك صارت لها جوانب عدة، فالإنسان -مثلاً- يحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان التعلم وطلب العلم وتحصيل العلم، ويحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان الخلق والسلوك والتعامل مع الناس، ويحتاج إلى أن يربي نفسه في ميدان العمل والبذل والعطاء، وفي ميادين كثيرة، ومن أهم هذه الجوانب وآكدها التربية الإيمانية، تربية الإيمان في النفس.(43/3)
سبب استعمال مصطلح (التربية الإيمانية)
وآثرنا استخدام هذا المصطلح؛ لأنه هو المصطلح الذي يربط الناس بالألفاظ الشرعية، بالإيمان الذي دلت عليه النصوص المتظافرة المتواترة، فحين تقرأ في كتاب الله عز وجل أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم كم تصادفك كلمة الإيمان! حيث تجد وصف الناس بالإيمان أو وصفهم بارتفاع الإيمان عنهم، أو الدعوة للإيمان، أو بيان أثر الإيمان ونتيجته وقيمته، لا يكاد يخطئك ذلك في أي آية من كتاب الله عز وجل تقرؤها، أو سنة النبي صلى الله عليه وسلم، بل كل ذلك إنما مداره على الإيمان؛ لأن الأمر الذي يؤمر به المرء أو الذي ينهى عنه من حكم، أو خلق، أو سلوك، والوعد والوعيد، والإخبار عن الهالكين والناجين، كل ذلك مرتبط بدائرة الإيمان، فحين يؤمر المرء بأمر فإنه يؤمر بمقتضى الإيمان ونتيجته، وحين ينهى عن أمر فانه ينهى عن ذلك بمقتضى إيمانه، وحين يأتي إخبار الله عز وجل عما أعد للصالحين الصادقين، فإن هذا إخبار عن جزاء أهل الإيمان ونتيجة الإيمان، وحين يخبر تبارك وتعالى عن عذاب المعرضين الغافلين، فهو إخبار عن عذاب أولئك الذين تنكبوا طريق الإيمان وضلوا عنه، وقصص الأولين والآخرين هي -أيضاً- قصص أولئك الذين أعرضوا عن الإيمان أو استجابوا للإيمان، كما قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [يونس:98]، فما قصه الله عز وجل إنما هو خير قرية آمنت فجازاها الله عز وجل بجزاء الدنيا والآخرة، أو قرية أعرضت عن الإيمان فعاقبها الله عز وجل وأخذها نكال الدنيا ونكال الآخرة.
أقول: آثرنا أن نستعمل هذا المصطلح، وأن نتحدث حول هذا اللفظ؛ لأنه المصطلح الذي جاء الشرع به، ودل الشرع عليه في نصوص القرآن والسنة وتواترت نصوص السلف في الحديث حول هذا الأمر كما سيأتي.
وقد يستعمل بعض الناس مصطلحات أخرى كالتربية الروحية أو غيرها، وهي مصطلحات بعضها إما موروث من أهل التصوف، وإما موروث من النصارى، وإما لفظ مستحدث، وكلما اقتربنا والتزمنا بالألفاظ الشرعية كان ذلك أولى.(43/4)
أسباب الحاجة إلى التربية الإيمانية(43/5)
كون الإيمان أفضل الأعمال
لماذا -معشر الإخوة- نحن نحتاج إلى التربية الإيمانية؟ ويكاد يكون حديثنا إجابة على هذا السؤال، فما سيأتي من حديثنا كله إجابة على هذا السؤال.
أولاً: نحتاج نحن إلى التربية الإيمانية؛ لأن الإيمان هو أفضل الأعمال، وهو القضية الأساسية للمسلم في هذه الحياة، فالمسلم إنما يدعى للإيمان، ويسعى إلى تحقيق الإيمان، والإيمان هو أفضل الأعمال كما أخبر صلى الله عليه وسلم في غير ما حديث، فحين سئل صلى الله عليه وسلم: (أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله.
قيل: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) فجعل صلى الله عليه وسلم الإيمان بالله هو أفضل الأعمال، وفي حديث أبي ذر في الصحيحين أنه حين سئل قال: (إيمان بالله عز وجل).
ولو استعرضت ما أجاب به صلى الله عليه وسلم أولئك الذين سألوه عن أفضل الأعمال لوجدت أن هذه الإجابات مع اختلافها، وتنوعها بحسب تنوع حال السائل، كلها مدارها على الإيمان، فيجعل صلى الله عليه وسلم أفضل هذه الأعمال الإيمان بالله عز وجل، وحين جاء وفد عبد القيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: (يا رسول الله! لقد حال بيننا وبينك هذا الحي من كفار مضر، فلا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فمرنا بأمر فصل نأمر به من وراءنا.
قال صلى الله عليه وسلم: آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم بالإيمان بالله وحده، أتدرون ما الإيمان؟) ثم ذكر صلى الله عليه وسلم شيئاً من شرائع الإيمان.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم حين سأله هذا الوفد أن يأمرهم بأمر فصل، وحين سأله هؤلاء أن يبين لهم أمراً يستغنون به، ويعلمون به من وراءهم؛ إذ هم لا يستطيعون أن يصلوا إليه إلا في الشهر الحرام؛ أمرهم صلى الله عليه وسلم بالإيمان بالله وحده.(43/6)
حصول النجاة بالإيمان يوم القيامة
الأمر الثاني: أن الإيمان هو مناط النجاة يوم القيامة، فنجاة المرء يوم القيامة إنما هي بإيمانه، فلن ينجو إلا المؤمنون، ومن أعرض عن الإيمان وتنكب الطريق واختار الكفر بالله عز وجل؛ فلن يدخل الجنة حتى يلج الجمل في سم الخياط، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا)، ويقول: (والذي نفسي بيده! لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة).
فأساس النجاة يوم القيامة ومناط النجاة إنما هو مرتبط بهذا الإيمان بالله عز وجل، فمن حقق الإيمان استحق النجاة يوم القيامة، ومن كفر بالله عز وجل وأعرض عنه فإنه مستحق للهلاك والبوار، وعقوبة الدنيا التي يعاقب الله عز وجل بها المعرضين إنما مردها الإعراض عن الإيمان بالله تبارك وتعالى، يقول تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [يونس:98].(43/7)
دوران التفاضل يوم القيامة على أساس الإيمان
الأمر الثالث: أن الناس يتفاوتون يوم القيامة على أساس الإيمان بالله عز وجل، على أساس إيمانهم وصلتهم بالله تبارك وتعالى، فهم -أولاً- يتفاوتون في المرور على الصراط كما تعرفون في النصوص التي وردت عنه صلى الله عليه وسلم، حيث أخبر صلى الله عليه وسلم أنهم يؤتون نوراً على قدر إيمانهم، بل في كتاب الله عز وجل يقول تبارك وتعالى: {يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12].
إذاً: هذه الآية أخبر الله عز وجل فيها أنهم يوم القيامة {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8]، يسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وهذا النور إنما يؤتونه على أساس الإيمان، ويتفاوت هذا النور، فمنهم من نوره مد البصر، ومنهم من نوره دون ذلك، ومنهم من نوره بين قدميه، ومنهم من ينطفئ تارة ويضيء تارة.
إذاً: فالعبور على أساس الصراط إنما يتفاوت على حسب الإيمان، فهم -أولاً- يؤتون نوراً على هذا الصراط المظلم على أساس إيمانهم، فعلى قدر إيمان المرء يعطى النور على الصراط، وهي قضية متلازمة، فالله عز وجل أمر عباده في الدنيا أن يسيروا على صراطه المستقيم فقال تبارك وتعالى آمراً إياهم بسؤاله الهداية: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:153]، فأمر الله عز وجل الناس أن يسيروا على الصراط المستقيم في الدنيا، والمرء لا يستطيع أن يبصر الصراط إلا بالنور، فيبصر صراطاً مستقيماً في الدنيا بنور الإيمان، فكلما قوي إيمان المرء في الدنيا أعطاه الله عز وجل بصيرة يبصر بها الصراط أمامه حتى لا يضل ولا يزيغ، فيصبح يرى الطريق أمامه واضحاً جلياً، وإنما يلبس على المرء ويضل بسبب إعراضه كما قال تبارك وتعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا} [الأنعام:110 - 111] إلى آخر الآيات.
فيخبر تبارك وتعالى أن هؤلاء -كما أنهم أعرضوا أول مرة- قلب الله أفئدتهم وأبصارهم، فصار الإيمان مستحيلاً لديهم، ولو أنزل الله عز وجل الملائكة، ولو كلمهم الموتى، والمقصود هنا: أن السبب في إضلالهم هو أنهم لم يؤمنوا أول مرة.
وأيضاً في آية أخرى يقول تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد:28]، وهذه الآية ذكرت في سورة الحديد، وفي السورة نفسها ذكر الحديث عن بعض ما يكون على الصراط، فأخبر الله عز وجل أن المؤمنين إذا اتقوا وآمنوا أعطاهم نوراً يمشون به في الدنيا، فالإنسان يسير على صراط الدنيا يحتاج إلى أن يتضح له الطريق، فيحتاج إلى النور الذي يضيء له الطريق، وهو الإيمان الذي ينير له الطريق، فيجعل الله له في هذا الإيمان نوراً يبصر به، ويرى به الحق، ويوم القيامة يعطى نوراً على الصراط في الدار الآخرة كما أعطي هذا النور، فعلى قدر الإيمان على هذا الصراط، ووضوح الأمر لديه يؤتى نوراً يوم القيامة، وعلى قدر ثباته على صراط الدنيا يكون ثباته على الصراط يوم القيامة.
فهم -إذاً- يتفاوتون على الصراط على أساس النور الذي يعطون إياه، وهم يتفاوتون في سرعة مرورهم على الصراط، فمنهم من يمر كالبرق ومنهم من يمر كالريح وهكذا، وكل هذا مداره على أساس الإيمان.
قلنا: إنهم يتفاوتون في المرور على الصراط على أساس الإيمان، ويتفاضل -أيضاً- أهل الجنة فيما بينهم وإن دخلوا الجنة، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف في الجنة، كما تراءون الكوكب الشرقي أو الغربي في الأفق؛ لتفاضل ما بينهم)، فهو ينظر إلى منازل من سبقه كما ينظر الإنسان إلى الكوكب من شدة التفاوت بينهم في هذه المنازل.
(قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.
قال: بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
هذا الحديث في الصحيحين يخبر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم أن الناس يتفاوتون تفاوتاً عظيماً في الجنة في الدرجات، وأن أولئك الذين رزقهم الله عز وجل هذه المنازل التي يتراءاها الناس كما يتراءون الغرف، أنهم هم أولئك الذين آمنوا بالآخرة وصدقوا المرسلين.
إذاً: فعلى قدر إيمان المؤمنين تتفاوت منازلهم في الجنة، حتى لو دخلوا الجنة، فهم يتفاوتون في الجنة على أساس الإيمان.
كما أن العصاة من الموحدين -كما تعلمون- يبقون في النار ثم يخرجون منها، فيقول الله عز وجل: ((43/8)
زيادة الإيمان ونقصانه وتفاضل أهله بذلك
رابعاً: من عقيدة أهل السنة أن الإيمان يزيد وينقص وأن أهله يتفاضلون فيه، والأدلة على ذلك مشهورة، يقول الإمام البخاري في صحيحه: [كتاب الإيمان.
باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس).
وهو قول وفعل يزيد وينقص؛ قال الله تعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4]، {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف:13]، {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مريم:76]، {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17]، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر:31]، {أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [التوبة:124]، وقوله جل ذكره: {فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]، وقوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22]].
ونقل القول بذلك أبو القاسم اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة وعن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وأيضاً قال رحمه الله: لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار كلهم على أن الإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وينبني على مسألة زيادة الإيمان ونقصه مسألة أخرى، وهي تفاضل أهل الإيمان فيه، فإذا كان يزيد وينقص فهذا يعني أن أهله يتفاضلون فيه، كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا أنا نائم رأيت الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي ومنها ما دون ذلك، ورأيت عمر بن الخطاب عليه قميص يجره.
قالوا: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين).
وبوب على هذا الحديث الحافظ ابن مندة في كتابه الإيمان (باب: ذكر ما دل على أن المؤمنين يتفاضلون في الإيمان وفضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه).
وقال: هذا الحديث مجمع على صحته.
فالمقصود إذاً أن هذه الأمور مقرة عند أهل السنة، أن الإيمان يزيد وينقص، وأن أهله يتفاضلون فيه، وهذا يدعو الإنسان إلى أن يحرص على زيادة إيمانه قدر الإمكان، ويحرص -إذا علم أن أهل الإيمان يتفاضلون فيه- على أن يسعى إلى أن يصعد إلى المراتب العالية بهذا الإيمان، وفي المقابل أيضاً يحمي إيمانه من أن يصيبه النقص أو الضعف.(43/9)
دعوة الشرع إلى تجديد الإيمان وتعاهده
خامساً: الدعوة في الشرع إلى تجديد الإيمان وتعاهده.
روى الحاكم والطبراني من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب؛ فاسألوا الله تعالى أن يجدد الإيمان في قلوبكم).
وروى ابن أبي شيبة في الإيمان، وعبد الله بن الإمام أحمد في السنة عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: (القلوب أربعه: قلب أجرد كأنما فيه سراج يزهر فذلك قلب المؤمن، وقلب أغلق فذلك قلب الكافر، وقلب مصفح فذلك قلب المنافق، وقلب فيه إيمان ونفاق، ومثل الإيمان فيه كمثل شجرة يسقيها ماء خبيث وطيب، ومثل النفاق فيه كمثل قرحة يمدها قيح ودم، فأيهما غلب عليه غلبه)، هذا روي عن حذيفة رضي الله عنه موقوفاً عليه، وقد رواه بعضهم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والموقوف أصح.
وروى ابن أبي شيبة في الإيمان عن علقمة أنه كان يقول لأصحابه: امشوا بنا نزدد إيماناً.
وروى -أيضاً- ابن أبي شيبة في الإيمان، والإمام أحمد وأبو عبيدة في الإيمان، والبخاري تعليقاً، وصحح ذلك الحافظ ابن حجر عن معاذ رضي الله عنه أنه قال: اجلسوا بنا نؤمن ساعة.
يعني: نذكر الله تعالى.
وروي عن الأسود بن هلال قال: كان معاذ يقول للرجل من إخوانه: اجلس بنا فلنؤمن ساعة، فيجلسان فيذكران الله ويحمدانه.
وعلى كل حال فالنصوص كثيرة في الدعوة إلى تجديد الإيمان وتعهده في النفوس، وقد صنف السلف في ذلك كتباً خاصة في الإيمان، والمقصود أن ما خاطب به النبي صلى الله عليه وسلم أمته، وأمرهم به من أن يجددوا الإيمان في قلوبهم ويزدادوا إيماناً، وما ورد عن سلف الأمة، يدعونا إلى أن نسعى إلى تعاهد الإيمان في نفوسنا، وإلى تربية الإيمان في نفوسنا، وإلى السعي إلى زيادته في أنفسنا، وأيضاً يدفع ويدعو من يتولى التربية إلى أن يجعل هذه القضية من أهم القضايا، ومن الأولويات الذي يتربى عليها الجيل ويتربى عليها الناس، ولعلنا نتساءل، ونحن قد سمعنا هذه النصوص عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حيث كان أحدهم يقول لصاحبه: اجلس بنا نؤمن ساعة، أو يقول: امشوا بنا نزدد إيماناً، فنتساءل: كم هي المجالس التي نجلسها مع إخواننا؟! أي: المجالس الخاصة، دع عنك الدروس والمواعظ وغيرها، إننا نجلس ساعات طوال في المجالس، أو ربما نسير في السيارة، أو نجلس هنا وهناك، فكم يستغرق حديثنا عن هذه القضايا من وقت؟! وهل حين نجلس مثل هذه المجالس يذكر بعضنا بعضاً بقضايا الإيمان والخوف من الله عز وجل، ونسعى إلى أن تكون هذه المجالس تزيدنا إيماناً؟! وبعبارة أخرى أن أحدنا كثيراً ما يلقى أخاه في الله، فهل هو يشعر أنه حين يلقاه ويتحدثان يزدادان إيماناً، ويشعر أن هذا اللقاء يزيده إيماناً وصلة بالله عز وجل؟! أو أنه يلقاه كما يلقى غيره، بل ربما كانت بعض المجالس مدعاة لقسوة القلب والبعد عن الله تبارك وتعالى.
وليس بالضرورة -أيها الإخوة- أن يكون الحديث في قضايا الإيمان والخوف من الله عز وجل، والمجالس التي تزيد الإيمان، ليس بالضرورة أن يكون موعظة مثل التي يلقيها الإنسان بعد الصلاة، أو في مجلس علم يحضره، أو في حديث رسمي كما يقال، ليس بالضرورة هذا ولا ذاك.
يا أخي! أنت تتحدث مع أخيك في المجلس أو في السيارة أو حتى في الهاتف أو هنا وهناك، فما الذي يمنع من وصيته أو تذكيره بالله عز وجل فيزداد بعضنا إيماناً بالله؟! إذا كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا جلسوا تواصوا ليزدادوا إيماناً، وهم من هم في الإيمان والصلاح والتقوى؛ فغيرهم من باب أولى.(43/10)
إعانة الإيمان صاحبه على الثبات في مواجهة الشهوات
الأمر السادس: أن الإيمان هو الزاد الذي يعين المرء على الثبات في مواجهة الشهوات، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) ويذكر منهم صلى الله عليه وسلم رجلاً دعته امرأة إلى نفسها، فقال: إني أخاف الله عز وجل، فمنعه من مواقعة ما حرم الله تبارك وتعالى خوفه من الله عز وجل، وإيمانه بالله تبارك وتعالى، والله عز وجل يقول: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران:14].
وأخبر تبارك وتعالى أن الشهوات قد زينت للناس، وهذا الكلام في عصر النبوة، فما بالكم بهذا العصر الذي نعيشه، وقد فتحت فيه الأبواب على مصاريعها، وصارت الشهوات تلاحق الشاب، وتلاحق الفتاة، وتلاحق الصغير والكبير في السوق، والشارع، بل حتى في المنزل، وصار الناس يشتكون من جحيم هذه الشهوات وآثارها، وكيف أنها تصرف الكثير عن طاعة الله عز وجل، وربما كانت سبباً في الانحراف وسبباً في الضلال والغواية عافانا الله عز وجل وإياكم من ذلك؟! ولو تأملت حال الكثير ممن ضلوا وتنكبوا الطريق، لوجدت أن الكثير من هؤلاء إنما أتي من هذا الباب.
ويتساءل كثير من الناس ما العلاج وما الحل أمام هذا السيل الجارف من الشهوات الذي صار قضية لا يكاد الإنسان يستطيع أن يمنع أبناءه منها، ولا يستطيع الناس في المجتمع أن يمنعوا الناس من مقارفتها ولا من رؤيتها، وصارت مشاهدها تلاحق الناس في كل مكان، مما يشاهده الناس على الشاشة أو في المجلات أو في الصحف، حتى إذا عوفي الإنسان من هذا كله وعافاه الله عز وجل، فإنه قد لا يعدم أن يحدثه زميله مثلاً في الفصل عن شيء من ذلك أو يدله عليه.
المهم أن هذه الشهوات أصبحت مشكلة الجميع، وأصبحت مشكلة الشاب نفسه الذي يخاف على نفسه، والذي يحمل بقلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان، فلا شك أنه يخشى على نفسه من هذه الشهوات وآثارها، وأصبحت مشكلة الأب الذي يخاف على أبنائه، ومشكلة الأم التي تخاف على أولادها، ومشكلة الأستاذ والمربي الذي يخاف على هذا النشء الذي تعاهده بالتربية والإصلاح، يخاف أن تجترفه هذه السيول، فتفسد في لحظات ما بناه هو في دهور وسنوات.
لقد صارت مشكله فعلاً يعاني منها المسلمون ويتساءلون: ما الحل؟ الحل -يا إخوة- هو في الإيمان، في تربية الإيمان في النفوس، الإيمان الذي يجعل الشاب ويجعل الفتاة ويجعل الإنسان يعرض أصلاً عن أبواب هذه الشهوات وطرقها، الذي يجعله بغض بصره ابتداءً، الذي يجعل في ذهنه قضية تشغله أكبر من قضية الشهوة، فبدلاً من أن يفكر في الشهوة وبدلاً من أن تسيطر عليه، صار يسيطر عليه هم أكبر من هذا كله، صار مشغولاً بالله والدار الآخرة، صار مشغولاً بزيادة الإيمان وتقوى الله عز وجل، صار مشغولاً بعيوب نفسه ومعاصيها وكيف يصلح نفسه، صار همه الشوق إلى لقاء الله عز وجل، والأنس بذكر الله تبارك وتعالى، وتلاوته الكتاب وعبادته ربه تبارك وتعالى، فصار لسان حاله يقول للناس، وهو يراهم صرعى الشهوات: يا قوم! أنتم في واد وأنا في واد، لكم هم ولي هم آخر.
فحين يقوى الإيمان في النفس يصبح هذا حال الشهوة، وهذا لسان حاله، فيكون هذا بإذن الله عاصماً له وحامياً له، حتى لو أتته الشهوات تسعى إليه فإنه يعرض عنها، ويصبح -كما قال صلى الله عليه وسلم- يقول: (إني أخاف الله عز وجل)، وكما قال يوسف عليه السلام: {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23].
ولاشك -يا إخوة- في أن الوقت والمرحلة التي نعيشها الآن التي فتن الناس فيها بالشهوات مدعاة إلى أن نراجع برامجنا التربوية، أن يراجع المربون ما يربون عليه الناس، وما تتربى عليه الأمة، فالآن الملايين من المسلمين يرون أبواب الشهوات مفتوحة أمامهم، ويرون أبواب الفتن والضلال بكل ألوانها مشرعة أمامهم، فماذا يتلقون؟! ماذا يتلقى الطلاب في مدارسهم؟! وماذا تتلقى الطالبات في مدارسهن؟! هل يتلقون ويتعلمون ما يربي الإيمان في النفوس، وما يقوي الإيمان ويصل الإيمان بالله عز وجل؟! ماذا يسمع هؤلاء في وسائل الإعلام؟! وماذا يقرءون في الصحف التي يقرءونها صباحاً ومساء؟! ووسائل التوجيه التي تخاطب الناس والتي تحدث الملايين، ما مدى عنايتها بتربية الإيمان في النفوس، وغرس الإيمان في النفوس؟! إذا كانت الأمة جادة في التربية، وإذا كانت الأمة جادة في الإصلاح، وإذا كانت قضية الدين والعقيدة الإسلامية قضية تعني الأمة بجد، فيجب أن توجه وسائل التربية والتوجيه في الأمة إلى غرس الإيمان في القلوب، فتتعاهد الأمة بتربية الإيمان، وتوجه وسائل التربية والتوجيه كلها في المجتمع لتحقيق هذه القضية، وماذا تريد الأمة من إنسان متعلم ومثقف لكن قلبه خال من الإيمان بالله عز وجل وتقواه؟! وماذا تريد(43/11)
إعانة الإيمان صاحبه على تجاوز ما يقع فيه من المعاصي حال ضعفه
الأمر السابع: أنه حين يقع في المعصية فالإيمان هو الذي يعين على تجاوزها، فقد يوقع الإنسان نفسه في المعصية في حالة ضعف وجبن واستيلاء الشيطان عليه، فإذا كان الإنسان تربى على الإيمان وعلى التقوى لله عز وجل؛ فإنه سرعان ما يستقيم، يقول تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:133 - 135].
إذاً: هذه حال المتقين: إذا وقعوا في معصية ذكروا الله عز وجل، فتجاوزوا هذه المعصية.
وفي آية أخرى يقول تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ} [الأعراف:201 - 202]، فالمتقون قد يصيبهم طائف من الشيطان، فقد يسول لهم الشيطان، فيوقعهم في أمر محرم أو تقصير في واجب شرعي، لكن هذا الإيمان والتقوى في نفوسهم سرعان ما يدعوهم إلى التوبة والرجوع إلى الله عز وجل، والازدياد من الحسنات فيزدادون إيماناً بعد ذلك، ويفعلون من الطاعات أضعاف ما عملوا من السيئات؛ حتى يكون ذلك مدعاة لتطهير أنفسهم من السيئات ورجسها، وزيادة إيمانهم بعد ذلك.
إذاً: صاحب الإيمان -يا إخوة- لو واقع المعصية؛ فإنه هو أقرب الناس إلى المبادرة للتوبة والإقلاع والاستغفار منها.(43/12)
إعانة الإيمان صاحبه على الثبات عند البلاء والإغراء
ثامناً: الإيمان بالله عز وجل هو المعين على الثبات عند الابتلاء والإغراء، فالمرء قد تصرفه الشهوات كما قلت، ويضل عن طريق الله عز وجل، لكنه أيضاً قد يبتلى، والله تبارك وتعالى أخبر أن من لوازم الإيمان أن يبتلى الإنسان، يقول تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3]، ويقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ} [العنكبوت:10]، لاحظوا هنا التعبير: (مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ) فلم يقل: من يؤمن بالله؛ لأنه لو آمن بالله حق الإيمان لما حصل له هذا الأمر، كما قال هرقل لـ أبي سفيان حين سأله عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل يرتد أحد من أصحابه -صلى الله عليه وسلم- سخطة لدينه؟ قال أبو سفيان: لا.
قال: كذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب لا يفارقها أبداً.
والذي يعين الإنسان على الثبات بإذن الله عند الابتلاء وعند الإغراء إنما هو الإيمان بالله عز وجل، وأولئك الذين يعبدون الله على حرف هم أسرع الناس استجابة لداعي الفتنة والإغراء، يقول تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الحج:11].(43/13)
إعانة الإيمان على الدعوة إلى الله تعالى
الأمر التاسع: أن الداعية إلى الله عز وجل وطالب العلم هو أحوج الناس إلى التربية الإيمانية؛ لأن الإيمان بالله هو المعين على أمور الدعوة، فالنبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يأتيه الوحي كان يتحنث في غار حراء، ويتعبد صلى الله عليه وسلم الليالي ذوات العدد؛ لأنه كان أمام تحمل أمانة الدعوة ونشرها، فكان يحتاج إلى الصلة بالله عز وجل والإيمان به تبارك وتعالى؛ حتى يكون ذلك خير معين له على القيام بأعباء هذه الدعوة، ويقول الله عز وجل له: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:1 - 5].
فهذا الأمر بقيام الليل، والأمر بالاجتهاد في الطاعة، كل هذا لأنه تعالى سيلقي عليه قولاً ثقيلاً.
قال تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:6].
فالله عز وجل يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ زاداً له من ناشئة الليل، أن يأخذ زاداً له من قيام الليل، ومن التسبيح في النهار وذكر الله عز وجل؛ لأنه سيلقي عليه قولاً ثقيلاً وهو القرآن، وسيتحمل صلى الله عليه وسلم عبء الدعوة إلى هذا القرآن.
الأمر الثاني: أن الداعية إلى الله عز وجل وطالب العلم عرضة للآفات، عرضة للإعجاب بالنفس، عرضة للرياء، عرضة لأن يسير وراء بريق الشهرة، والذي يعينه ويحميه من ذلك هو الإيمان بالله عز وجل، الذي يجعله يشعر أن ما قدم كله إنما هو لله تبارك وتعالى، والذي يجعله يشعر بذنوبه وتقصيره في جنب الله سبحانه وتعالى، والذي يجعله يشعر أن ما قدم لن ينجيه إلا برحمة الله تبارك وتعالى.
الأمر الثالث: أن الداعية يدعو الناس للإيمان بالله عز وجل، وفاقد الشيء لا يعطيه، وإذا كان المرء فاقداً للشيء فكيف يستطيع أن يعطيه؟! إذا كان يحتاج أن يربي الناس على الإيمان بالله عز وجل وتقوى الله، وهو فاقد الإيمان والتقوى، وإذا كان يريد أن ينهى الناس عن معاصي الله عز وجل، وإذا كان يريد أن يأمر الناس بطاعة الله عز وجل وهو يعاني من الجفاف في قلبه، يعاني من الضعف في إيمانه، يعاني من الخواء في هذا الجانب، فكيف يستطيع أن يحقق هذا الأمر؟! قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:44]، وقال تعالى: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
الأمر الرابع: أن الذي يدعو إلى الله عز وجل هو من أكثر الناس عرضة للابتلاء والامتحان، والذي يعينه على الثبات على الابتلاء هو الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولهذا كلما ذكر الله عز وجل في كتابه ما يكيد الكفار به النبي صلى الله عليه وسلم أوصاه بالصبر، وعقب على ذلك بالوصية بالتسبيح أو الصلاة أو التوجه إلى الله عز وجل، ولا تكاد تجد أمراً للنبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على ما يواجهه من أذى ومن ابتلاء إلا ويعقب بالأمر بالتسبيح والأمر بالصلاة وطاعة الله عز وجل؛ لأن هذا هو الزاد المعين على الصبر، يقول تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه:130]، ويقول: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق:39 - 40]، ويقول: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل:10]، ويقول: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:25 - 26].
والآيات في ذلك كثيرة، ومن استعرض الآيات في السور المكية في سورة هود، والإسراء، وطه، والإنسان، والمزمل وغيرها سيجد أنه يعقب الأمر بالصبر -إما الصبر على مشقة الدعوة، أو الصبر على محاولة الكافرين إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم- يعقب بالأمر بالتسبيح، والأمر بالصلاة، والأمر بقيام الليل؛ لأن من يدعو إلى الله عز وجل عرضة للابتلاء، وعرضة لأن يواجه، والذي يعينه بعد توفيق الله عز وجل إنما هو إيمانه وصلته بالله تبارك وتعالى.(43/14)
الإيمان هو الحل للمشاكل التربوية
الأمر العاشر: الإيمان والتربية الإيمانية هي الحل الأمثل للكثير من المشكلات التي نعاني منها في التربية، فكثيراً ما نشكو من قسوة القلب والفجور، والجرأة عن المعاصي، فما هو الحل لذلك؟ الحل لذلك -لا شك- هو التربية الإيمانية.
وكثيراً ما نشكو ونتساءل عن الانحراف بعد الهدى، وهي ظاهرة بدأت تكثر وخاصة في هذا العصر في السنوات الأخيرة، وكثيراً ما تشاهدون أولئك الذين كانوا على خير واستقامة وصلاح ثم ضلوا وتنكبوا الطريق، ونتساءل كثيراً: ما السبب؟ ونتساءل كثيراً: ما العلاج لهذه الظاهرة؟ لا شك أن أعظم علاج وأهم علاج لمثل هذه المشكلة إنما هو الإيمان بالله تبارك وتعالى، والتربية الإيمانية، أن نربي أنفسنا على الإيمان بالله عز وجل، وأن يربى الجيل ويربى الشباب على الإيمان بالله تبارك وتعالى، ويغرس الإيمان في النفوس، حينها سنجد أن هذه الظواهر تقل وتتلاشى، كما قال هرقل لـ أبي سفيان لما سأله: هل يرتد أحد من أصحابه سخطة لدينه؟ قال: لا.
قال له: كذلك الإيمان إذا خالط بشاشة القلوب لا يفارقها أبداً.
ولما مات النبي صلى الله عليه وسلم وارتد من ارتد، كان الذين ارتدوا عامتهم من أولئك الذين قال الله عنهم: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14]، أما السابقون الأولون أهل بدر، وأهل بيعة الرضوان الذين جاهدوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، الذين دخل الإيمان في قلوبهم؛ فلم يرتد أحد منهم، أما الذين ارتدوا على أدبارهم فهم أولئك الذين لم يتربوا التربية الإيمانية، هم أولئك الذين قال الله عز وجل عنهم: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات:14].
إذاً: هذه القضية والمشكلة التي نعاني منها إنما علاجها وحلها في التربية الإيمانية.
ومن المشكلات التي يعاني منها الكثير من الشباب أنه أذا ابتعد عن إخوانه ضعف، وربما تجرأ على المعاصي، وربما تغيرت حاله وتبدلت.
ومن المشكلات التي نشكو منها العلاقات العاطفية التي قد تكون بين الشباب أو بين الفتيات أو بين الشباب والفتيات، والتي بدأت تنتشر في المجتمع، حتى انتقلت العدوى إلى مجتمعات الصالحين والناس الأخيار.
فالمقصود -يا إخوة- أننا نعاني الآن من مشكلات تربوية كثيرة، ويتردد السؤال ويتكرر: ما الحل لهذه المشكلة، وما العلاج لتلك؟ لا شك أن الحل لكثير من هذه المشكلات هو في تعميق التربية الإيمانية، وفي تعميق الإيمان في النفوس والصلة بالله عز وجل، وهو حين نجعل الهم هماً واحداً، فنختصر الطريق على أنفسنا بدلاً من أن نذهب نعالج كل مشكلة على حدة، وهذه المشكلة حتى لو عالجناها بأي علاج بعيداً عن التربية الإيمانية سيكون علاجها مؤقتاً، علاجاً لا يتوجه إلى مصدر الداء وأساس الداء؛ لأن الإيمان هو -بإذن الله- الذي يزيل كل هذه الأدواء، وهو الذي يجعل الإنسان يختار طريق الخير والصلاح ولو صعب عليه، ويبتعد عن طريق السوء والفساد ولو هان عليه، ولو دعته إليه النفس الأمارة بالسوء.
أسأل الله عز وجل أن يزيدنا وإياكم إيماناً، وأن يحبب إلينا الإيمان في نفوسنا وقلوبنا؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(43/15)
الأسئلة(43/16)
أسباب ضعف الإيمان
السؤال
ما هي أسباب ضعف الإيمان؟
الجواب
الحديث عن الإيمان حديث طويل، والسلف كتبوا كثيراً عن الإيمان، عن فضله وزيادته ونقصه وتفاضل أهله فيه، وعن أسباب زيادة الإيمان ونقصه، وأسباب ضعف الإيمان.
ولا شك أن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فكلما ازداد المرء طاعة لله عز وجل زاد إيمانه بالله تبارك وتعالى، وكلما قصر في طاعة الله عز وجل ووقع في معصية ضعف إيمانه.
فأسباب زيادة الإيمان التفريط فيها مدعاة لنقص الإيمان، كالعلم بالله عز وجل وأسمائه وصفاته تبارك وتعالى، تلاوة القران وتدبر معانيه، والتفكر في مخلوقات الله عز وجل، وذكر الله تبارك وتعالى، والأعمال الصالحة من الصلاة والصيام والصدقة وسائر الأعمال، كل هذه الأعمال تزيد المرء إيماناً، ومن ذلك -أيضاً- صحبة أهل الإيمان والتقوى والصلاح.
وفي المقابل نجد أن ضعف الإيمان -أيضاً- من أعظم أسبابه المعصية ومواقعتها، والبعد عن تلاوة كتاب الله عز وجل، والبعد عن ذكر الله عز وجل، ومصاحبة ضعفاء الإيمان، ومصاحبة المعرضين الغافلين، لا شك أن هذه من أعظم أسباب ضعف الإيمان، ويمكن أن نحيل الإخوة إلى كتاب للشيخ محمد المنجد حول ظاهرة ضعف الإيمان يتحدث فيه بالتفصيل عن أسباب هذه الظاهرة إلى آخره.(43/17)
معوقات الاستقامة
السؤال
البعض يسأل عن معوقات الاستقامة؟
الجواب
هذه المعوقات على كثرتها وتنوعها تعود إلى أصلين، إما إلى الشبهات وأما إلى الشهوات، فالشبهات ألا يتضح للإنسان الطريق، فمثلاً: قد يفهم الحق فهماً خاطئاً، وقد يلتبس عليه الحق بالباطل، ويتلبس عليه الأمر، وتأتيه هذه الشبهات والشكوك فتصرفه عن الحق، وأبواب اللبس في الشبهات كثيرة، فأهل البدع والضلال الذين يعبدون الله على جهل وضلال هم من أولئك الذين ضلوا باتباع الشبهات.
أو يعود الأمر إلى الشهوات، والشهوات كثيرة، وجماع الشهوات وقاعدتها هو أن الإنسان يعرف أن هذا الأمر محرم ويأتيه؛ لأن نفسه تشتهيه وترنو إليه أياً كانت هذه الشهوة، ويترك هذا الأمر لأنه لا يوافق هواه، فمنشأ الضلال ومعوقات الاستقامة إنما تعود في النهاية إلى هذين الأمرين، وسائر الأمور إنما هي مدعاة لتأصيل الشبهات أو مدعاة لتأصيل الشهوات، وخذ مثلاً في جليس السوء، فهو من أعظم الأسباب التي تعوق الإنسان عن الاستقامة، وهو إنما يعوق الإنسان عن الاستقامة من خلال الشبهات أو الشهوات، ولهذا يأمرنا الله عز وجل أن نسأله الهداية دائماً بقولنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:6 - 7]، فصراط الذين أنعم الله عليهم هو غير صراط الضالين وغير صراط المغضوب عليهم، والمغضوب عليهم -كما تعلمون- هم اليهود والضالون هم النصارى، وليس المقصود هاتين الطائفتين فقط، وإن كانت الأمة تشعر أنها على خط متواز مع هؤلاء، فلا يمكن أن تلتقي مع اليهود ولا النصارى؛ لأنهم أعداء، ففي كل يوم يقرأ المسلم مراراً ويستعيذ بالله من طريق الضالين وطريق المغضوب عليهم، لكن ليست القضية ضلال اليهود وحدهم أو النصارى، بل اليهود هم أئمة كل من ضل باتباع الشهوات، والنصارى هم أئمة كل من ضل باتباع الشبهات، فكل من ضل فله إمام، فإما أن يكون إمامه المغضوب عليهم، أو الضالون.(43/18)
ضرورة مراجعة أداء المؤسسات في التربية الإيمانية
السؤال
ما هي الأسباب التي تؤدي إلى التربية الإيمانية المطلوبة؟ وهل المناهج الدراسية الدينية تؤدي إلى هذا؟
الجواب
سبق أن أشرت أن من مشكلة الأمة أن مؤسسات الأمة نفسها تحتاج إلى مراجعة، كل مؤسساتها، سواء المؤسسات الإعلامية أو التعليمية أو التربوية التي تربي الأمة على الإيمان والتقوى والصلاح، والقضية ليست مجرد معلومات جافة وأمور يعطاها الإنسان، لا, لهذا قالت أم سفيان الثوري لما أراد أن يطلب العلم: يا بني! إذا تعلمت عشر مسائل فانظر هل زاد ذلك في علمك وخشيتك وتقواك أم لا؟ أي: سيجعل هذا مقياساً لما يتعلمه.
فهل هذا السؤال يرد في أذهاننا؟ وهل هذا السؤال يرد في ذهن من يربي ويعلم؟ وفي أي ميدان -حتى في طلبك للعلم- يجب أن تطرح هذا السؤال على نفسك، فأساس العلم هو الخشية، فإذا كان هذا العلم لا يزيدك إيماناً ولا خشية ولا زهداً ولا ورعاً؛ فيجب أن تعيد النظر في منهجك في التعلم.
أما الأسباب التي تؤدي إلى التربية الإيمانية فهي العوامل التي أشرت إليها سابقاً، فهي من الأمور التي تعين الإنسان على أن يربي نفسه التربية الإيمانية.(43/19)
بيان سبب تمادي العاصي في معصيته
السؤال
لماذا بعض الشباب ينحرف لمجرد كونه وقع في معصية، ثم يدعي أنه لن يستطيع العودة بعد ذلك؟
الجواب
ليس صحيحاً أنه لا يستطيع العودة، لكن السبب أن هذا عقوبة من الله له على أن وقع في هذه المعصية، فعاقبه الله عز وجل بالضلال، عافانا الله وإياكم، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} [آل عمران:155]، فأوقعهم الشيطان في المخالفة بسبب بعض ما كسبوا.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} [الأعراف:100]، فهذه عقوبة.
ثانياً: أن المعصية تقول: أختي أختي، وتدعو الإنسان إلى أختها، ثم إن المعصية تجعل بينه وبين الصالحين وحشة، وتجعل له أنساً بأولئك الذين يشاركونه في هذه المعصية، فيصاحبهم ويحلو له أن يجالسهم، ثم قد تدعوه المعصية إلى أن ييأس، وأن يشعر بأنه إنسان فاشل، وأنه إنسان لا يملك الإيمان، وإنسان غير مؤهل لأن يكون مع الصالحين، وهذا كله من وسائل الشيطان في إغوائه عافانا الله وإياكم.(43/20)
علامات زيادة الإيمان
السؤال
هل هناك علامات تدل على زيادة الإيمان؟
الجواب
نعم، كلما كان الإنسان أكثر حباً لله وتقوى لله عز وجل، وأكثر استجابة لأوامر الله وأكثر بعداً عن معصية الله عز وجل، فهذا -لا شك- علامة من علامات الإيمان.(43/21)
الحج وبناء النفس
هذا الدين ليس مجرد شعائر يتعبد بها الإنسان لتلبي حاجة في نفسه، وليس أعمالاً يؤديها الإنسان وليس لها معنى، بل هي عبادات تصل الإنسان بربه عز وجل، وتربي المجتمع والأمة على السلوك المستقيم.(44/1)
الدين الإسلامي والنفس الإنسانية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فهذا الدين وهذه الشريعة الخاتمة جعلها الله عز وجل خاتمة للشرائع، وختم تبارك وتعالى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم النبوة والرسالات، فلا رسول ولا نبي بعده صلى الله عليه وسلم.
ولما كانت هذه الشريعة شريعة خاتمة، ولما كان هذا الكتاب كما قال الله عز وجل: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} [المائدة:48] كانت هذه الشريعة العظيمة شريعة صالحة لكل زمان ومكان، هذا الدين حينما نتحدث عن عظمته، حينما نتحدث عن إعجاز هذا الدين في تشريعه وأحكامه فإن الوقت يضيق بنا، إنك لو حدثت جاهلاً بهذا الدين، لو حدثته عن طبيعة هذا الدين وعن إعجازه وعن أحكامه العظيمة لكان ذلك كافياً في إقناعه بعظمة هذا الدين.
أيها الإخوة الكرام! هذا الدين لم يكن مجرد شعائر يتعبد بها الإنسان لتلبي حاجة في نفسه، وليس مجرد أعمال يؤديها الإنسان لمجرد فقط أن يؤدي هذه الأعمال، إن هذا الدين عظيم، هذا الدين لم يشرع الله عز وجل لعباده أمراً وحكماً صغيراً أو كبيراً إلا وفيه حكمة، وحكمة بالغة، هذا الدين يصل الإنسان بربه عز وجل ويعبده لله تبارك وتعالى، وهو أيضاً في الوقت نفسه يربي الفرد المسلم ويربي المجتمع ويربي الأمة، فهو وسيلة للعبودية لله تبارك وتعالى ولتربية النفس وبنائها وتزكيتها.
ومن هنا فإن هذه النفوس لن يصلحها إلا هذا الدين؛ لأن الله عز وجل قال -وهو تبارك وتعالى الذي خلق الخلق وهو أعلم بهم- قال: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]، فالجن والإنس إنما وجدوا لعبادة الله عز وجل، ليست هناك أي غاية ولا مصلحة ولا حكمة ولا فائدة من خلق الجن والإنس سوى هذه الغاية الوحيدة، وهي عبادة الله تبارك وتعالى، وما دام هذا الإنسان قد خلق لعبادة الله عز وجل فإن هذا الإنسان قد ركب بطبيعته: بتكوينه الجسمي وبتكوينه النفسي والعقلي ركب بما يهيؤه لهذه الوظيفة وهذه المهمة، وهذا أمر نلحظه في حياتنا، نلحظه في حياتنا الخاصة في ما يصنعه الإنسان وينتجه في حياته، فإن ما يصنع ليؤدي وظيفة ما يصنع بالطريقة التي تجعله متلائماً مع هذه الوظيفة.
فالأجهزة -على سبيل المثال- المحمولة التي صممت ليحملها الناس ويتنقلوا بها، هذه الأجهزة يراعى فيها هذه الوظيفة، فهي في الأغلب تكون صغيرة الحجم، خفيفة الحمل، تحتمل الصدمات، طاقتها الكهربائية تتحمل أكثر من نظام كهربائي؛ لأنها مهيئة لأن تنتقل، بخلاف الأجهزة الثابتة المستقرة التي تهيأ لتكون في مكان واحد، كذلك وسيلة النقل التي تصنع لتسير في الصحراء والطرق الوعرة تهيئ لهذه المهمة، وحينما يسير بها الإنسان في الطرق المعبدة يفقد فيها قدراً من الراحة يجده في وسائل النقل الأخرى، وحينما يسير في تلك السيارة التي جهزت بأدوات الراحة والرفاهية لتسير في المدينة حينما يسير بها في الطرق الوعرة، في طرق لم تخصص لها فإن هذا سيضر بها كثيراً، بل ربما لا يستطيع أن يسير بها في هذه الطرق، ولو استطردنا في ذكر الأمثلة لوجدنا أن المقام يضيق، فإذا كان هذا فيما صنع الإنسان وفيما أعده الإنسان فما بالكم بخلق الله عز وجل، وخذوا على سبيل المثال عالم الحيوان، وكيف أن الله تبارك وتعالى لو تفكرنا بطبيعة الحيوان كيف أن الله عز وجل هيأ في خلق الحيوان ما يلائمه لهذه الوظيفة، فالإبل على سبيل المثال التي من طبيعتها أن تعيش في الصحراء وتأكل أنواعاً من الأشجار الصحراوية هيأ الله عز وجل لها ما يلائمها لأن تعيش في هذه الأجواء، فهي تملك عنقاً طويلاً تستطيع أن تصل من خلاله إلى الأشجار دون مشقة وعناء، وتستطيع أن تحتمل الظمأ أكثر من غيرها من الحيوانات التي اعتاد الناس أن يربوها في المزارع أو في المنازل وغيرها.
وما دامت قد هيئت للركوب فإنها تحتمل الركوب والسير عليها بخلاف غيرها؛ ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلاً من بني إسرائيل ركب بقرة فالتفتت إليه فقالت: إنا لم نخلق لهذا، رغم أن تركيب البقرة وحجمها لا يبتعد كثيراً عن الإبل، لكن حينما لم تهيأ للركوب ولم تخلق لذلك فإنها لا تحتمل ذلك، بينما نجد الخيل والبغال والحمير وغيرها مما ذكر الله عز وجل أنه خلقها لهذه المهمة نجدها تحتمل مثل هذا الدور وهذه المهمة.
وهكذا من تأمل في الحيوانات التي تعيش في الصحراء، من تأمل في واقع الحيوانات المفترسة، من تأمل في واقع الطيور، في واقع الحشرات، في واقع الحيوانات التي تعيش في البر والتي تعيش في البحر في خلق الله عز وجل يرى عجباً، ويرى كيف أن هذا الكائن خلقه الله تبارك وتعالى بما يتلاءم مع طبيعته، وبما يتلاءم مع الحكمة التي خلق من أجلها، والظروف التي يعيش فيها.
فإذا كان هذا في الحيوان، وإذا كان هذا في خلق الله عز وجل في الجمادات وفي أمور الحياة الطبيعية المادية فكيف بأعظم خلق الله عز و(44/2)
الحج وصلته ببناء الإنسان
أيها الإخوة الكرام! هذا مدخل بين يدي حديثنا عن الحج وصلته ببناء الإنسان، هذا الإنسان خلقه الله عز وجل وهو أعلم به، وخلقه تبارك وتعالى للعبادة، وحينئذ لن يصلح هذا الإنسان إلا العبادة، وحين خلقه تبارك وتعالى للعبادة فإنه هيأ له من الأسباب ما يعينه على أن يرتقي ويهيئ هذه النفس بهذه العبادة.
إن الذي يعد لوظيفة ما أو مهمة ما لا بد أن يهيأ لهذه الوظيفة، ولا بد أن يعد لها، حينما نريد خطيباً يعتلي المنبر، حينما نريد من يمارس عملاً إعلامياً أو صحفياً، حينما نريد من يمارس عملاً إدارياً فإننا نسلك في ذلك خطوتين مهمتين: الخطوة الأولى: أن نختار من يكون مهيئاً في الأصل، ويملك الاستعدادات.
والخطوة الثانية: أن نعده وندربه ونهيئه لهذه المهمة، هذه المهام المحدود الصغيرة تحتاج إلى إعداد، وتحتاج إلى تهيئة حتى ذلك الذي يمارس هذه المهمة يحتاج بين وقت وآخر إلى تطوير أدائه، فالخطيب على سبيل المثال لا غنى له بين وقت وآخر أن يقرأ، أن يحضر البرامج والدورات، أن يسعى إلى تطوير نفسه وإذا لم يفعل ذلك فسوف يدرك الناس الذين يستمعون إليه ويتابعونه أن أداءه قد قل ولم يصل إلى المستوى الذي كانوا يعهدونه منه، وهكذا مثلاً من يعمل في أي مجال، في مجال إعلامي، في مجال فني، لا بد أن يعد لهذه المهمة، ولا بد أن يتتابع الإعداد لهذه المهمة، خذوا على سبيل المثال الذين يعيشون في الميادين الرياضية، لا بد أن يمارسوا التدريبات بين وقت وآخر، ومهما بلغ هذا الرياضي من تميز ومهما بلغ من إدراك لهذه المهارات فسيبقى محتاجاً إلى الإعداد ومحتاجاً إلى التدريب ومحتاجاً إلى التطوير، إذا كان هذا في مثل هذه المهام المحدودة فكيف بعبادة الله عز وجل، إذاً الإنسان بحاجة إلى ما يهيئه لهذه المهمة ابتداءً، وهذا تحقق في خلق الله عز وجل، وأن الله تبارك وتعالى خلق هذا الإنسان واصطفاه وركب فيه من الخصائص ما يهيئه لهذه العبادة، ثم الأمر الثاني: أنه يحتاج مع دوام الوقت إلى ما يربيه ليقوم بهذه المهمة، وهنا يأتي دور العبادة، فالعبادة تهيئ الإنسان وتربيه، ليكون أقرب إلى ربه تبارك وتعالى، تربيه ليمارس حياته في حياته الدنيا بصورة ترضي الله عز وجل، وهذا ما سنشير إلى جزء منه، وفي القرآن الكريم نجد الإشارة إلى هذه القضية الواضحة، نجد الحديث عن مقاصد العبادات، فإن الله عز وجل قال في شأن الطهارة لما ذكر الله عز وجل الوضوء ثم التيمم وما يتصل به من الحدث الأصغر والحدث الأكبر قال الله عز وجل: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} [المائدة:6]، فذكر الله عز وجل في ختام هذه الآية أن الله تبارك وتعالى حينما شرع لنا الطهارة إنما يريد أن يحقق لنا الطهارة: الطهارة الحسية والمعنوية التي عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه نزل من وجهه كل خطيئة نظرتها عيناه مع الماء أو مع آخر قطر الماء، فإذا غسل يديه نزل من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء) إلى آخر الحديث.
فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الطهارة الحسية تحقق للإنسان الطهارة المعنوية، وأن العضو الذي يغسله الإنسان يكون ذلك سبباً في تكفير السيئات التي ارتكبها الإنسان بهذا العضو.
الصلاة التي هي آكد شعائر الإسلام الظاهرة والتي بين النبي صلى الله عليه وسلم أنها العهد بين المؤمنين وبين أهل الكفر، يقول الله عز وجل عنها: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45]، فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وشرعت الصلاة من أجل أن تحقق هذا المعنى وهو النهي عن الفحشاء والمنكر؛ ولهذا نجد أن الصلاة إذا أداها الإنسان كما ينبغي تركت أثرها عليه، وإذا قصر بها الإنسان ضيع ما سواها كما قال الخليفة الراشد رضي الله عنه: واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، فمن حفظها فقد حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع.
والزكاة قال الله عز وجل عنها: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103].
والصيام قال الله عز وجل عنه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
وهكذا من تأمل في نصوص القرآن والسنة وجد أن هذه العبادات العظيمة إنما شرعت لمقاصد وآثار، هذه الآثار تربي النفوس وتربي المجتمعات.(44/3)
أثر الحج في إصلاح النفوس
الحج واحد من هذه العبادات التي لها أثرها في إصلاح النفس وتربيتها وتزكيتها، ومن حكمة الله عز وجل أن تكرار العبادات يتفاوت، فمنها ما يفعله الإنسان كل يوم مرات عديدة، ومنها ما يتكرر في العام، ومنها ما يتكرر في الحول مرة واحدة، ومنها ما يكفي في العمر مرة واحدة، ولا شك أن الفرائض كافية لإصلاح النفس وبناء النفس إذا التزم بها الإنسان وأداها كما ينبغي، لكن يبقى بعد ذلك مجال واسع للاجتهاد بالنوافل والتقرب إلى الله عز وجل بالنوافل.
الحج -أيها الإخوة الكرام- يصلح النفوس، ويبنيها، الحج لم يشرعه الله عز وجل من أجل أن نعيش النصب والتعب، يقول الله تبارك وتعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} [الحج:37]،فالله عز وجل لن يناله تلك اللحوم أو الدماء التي نريقها في الحج إنما يناله تبارك وتعالى التقوى، شرع الله عز وجل هذه العبادة لهذه الحكم العظيمة، {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197].
فشرع الله تبارك وتعالى هذه العبادة وهو عز وجل غني عنا، وهو تبارك وتعالى غني عن خلقه، شرع هذه العبادة لنا لأننا نحن نجني الثمرة، لكن لما سيطرت المظاهر على حياة المسلمين، وأصبحت المظاهر هي القاعدة في حياة الناس، ينظرون إلى المظاهر، ولا يعيشون الحقائق والجوهر، أصبحت العبادات في حس كثير من المسلمين مظهراً أكثر منها حقيقة، أصبح الناس يجتهدون - من يجتهد منهم في ذلك- في إصلاح مظهر العبادة، ويغفلون عن الأهم وهو مقاصد العبادة، يجتهدون في تعلم أحكام العبادة الظاهرة ويغفلون عن تعلم المقاصد، ولاحظوا -مثلاً- سلوك الحجاج، وهم يقومون بأعمال الحج، ويطوفون، ويرمون الجمرات، وهم يؤدون أي منسك، تأمل في الصورة العامة، أنت لا تستطيع أن تقرأ ما في القلوب فالقلوب لا يعلمها إلا علام القلوب، لكن حينما تنظر إلى الناس وتلقي نظرة عامة وترى سلوك الناس فإن سلوك الناس يعبر عن نظرتهم لهذه العبادة، وهم يرمون الجمار وهم يسعون وهم يطوفون وهم يقفون المواقف.
القضية الأساسية عندهم هي مظهر هذه العبادة دون حقيقتها، ودون حكمها وجوهرها، والله عز وجل لم يخبرنا بمقاصد العبادات وأحكام العبادات في كتابه إلا لأجل أن نعيها ولأجل أن نراعيها ونحن نقوم بأداء هذه العبادات، ولأجل أن نتساءل -دائماً- ونحاسب أنفسنا: ماذا حققنا منها؟ ماذا تحقق منها لدى أنفسنا؟(44/4)
مقاصد الحج وآثاره(44/5)
تحقيق التقوى
يبدو التقوى من أهم مقاصد وآثار الحج، وجاءت الإشارة إلى التقوى كثيراً في آيات القرآن التي تحدثت عن الحج، يقول الله عز وجل: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:197]، وهذه الآية جاءت في سياق الحديث عن أحكام الحج، جاءت لتبين أن للحج صلة وثيقة بالتقوى، وصلة وثيقة بتحقيق التقوى، فالحج يعلم الإنسان أن يتقي ربه من خلال التزامه وانضباطه بالأحكام التي شرعها الله عز وجل في الحج، ثم هو يربي النفس على التقوى، فيعود الإنسان حينما يعود من الحج وهو أكثر تقوى لله تبارك وتعالى؛ ولهذا كان هذا الحج يستحق هذه النعمة العظيمة، (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)، ويستحق تلك المنزلة العظيمة حين قال صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)، الحج يربي التقوى في النفوس، والنفوس تحتاج إلى التقوى، تحتاج إلى أن تتربى على تقوى الله عز وجل، ومخافة الله عز وجل، تحتاج إلى أن تعيش التقوى في نفسها، هذه التقوى التي تلزم الإنسان بطاعة الله عز وجل، والتي تحجز الإنسان عن معصية الله عز وجل، هذه التقوى التي تجعل الإنسان يعيش حياته كلها في إطار مرضاة الله عز وجل في سائر أموره، في صلته بربه تبارك وتعالى، في تعامله مع الناس فيما بينه وبينهم، في حياته الاجتماعية، في حياته الاقتصادية، التقوى في حياة الفرد والتقوى في واقع الأمة، أن تعيش الأمة شعار التقوى، أن نرى التقوى ظاهرة في واقع الأمة، حينما نتأمل اقتصاد الأمة، وحينما نتأمل في الواقع الاجتماعي للأمة، حينما نتأمل في واقعها السياسي، حينما نتأمل في المجتمع وطبيعته وعلاقته نرى التقوى ظاهرة وسمة بهذه الأمة، هذه العبادات -ومنها الحج- تحقق هذا المعنى وتبنيه، سواء في نفوس الأفراد أو في نفوس المجتمع ككل، وبالأخص حينما نتعامل مع الحج، فالحج عبادة جماعية، فالحج لا يؤديه الإنسان لوحده، بل تجتمع فيه الأمة، ويجتمع فيه المسلمون جميعاً فتتحقق هذه المعاني، تتحقق التقوى في حياة الفرد وشخصية الفرد، وتتحقق التقوى على مستوى الأمة والمجتمع.(44/6)
تنوع العبادات في الحج
الحج يمارس فيه الإنسان العبادة بأنواعها العديدة، فهو يذكر الله عز وجل، ويدعو الله تبارك وتعالى، يطوف ويسعى ويرمي الجمرات، عبادة بدنية، عبادة قلبية، كل أنواع العبادات موجودة في الحج، وتتكرر.
والعبادة كما قلنا: تصلح النفس وتصلح القلب، بتنوع هذه العبادات مجال لتنوع التأثير على شخصية الإنسان، فالناس يختلفون، والناس يتفاوتون؛ ولهذا راعت الشريعة هذا الأمر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أنفق زوجين في سبيل الله نودي هذا خير، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة) هذا الأمر يعني أن مجالات التقرب إلى الله عز وجل ومجالات التميز في طاعة الله مجالات واسعة تستوعب جميع الناس وفئات الناس، من الناس من يجد أنسه وراحته في الصلاة، فهو من أهل الصلاة والاجتهاد فيها، ومن الناس من يجد ذلك في الصيام، ومنهم من يجده في الصدقة، وهذا في إطار التميز في النوافل والتقرب إلى الله عز وجل والاجتهاد فيها.
أما أصل الفرائض فلا يعذر أحد فيها، ولا يمكن أن نرى مسلماً يوصف بأنه من أهل الصيام وليس من أهل الصلاة بمعنى أنه لا يؤدي الفريضة.
وهكذا أيضاً حينما تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن أصحابه، صنف لنا أصحابه فقال: (أرحم أمتي بأمتي أبو بكر وأشدهم بأمر الله عمر وأقضاهم علي) وذكر النبي صلى الله عليه وسلم تفاوت أصحابه، فأخبر أن منهم من هو أقرأ للقرآن، ومنهم من هو أعلم بالحلال والحرام، منهم من هو أمين هذه الأمة، ومنهم من هو أميزهم قضاءً، وأشدهم في أمر الله، ومنهم من هو أرحم هذه الأمة، وهكذا نجد أن جانب التميز الذي كان يعيشه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان ينطلق من شخصياتهم، فعلى سبيل المثال لو تأملت في شخصية أبي بكر رضي الله عنه وحياته تجد أن طبيعته وتكوينه فيه الرقة ولهذا كان تميزه من هذا المجال والميدان.
ولو رأيت طبيعة عمر رضي الله عنه وتكوينه تجد فيه الحزم، والشدة رضي الله عنه، فصار تميزه منسجماً مع شخصيته، فصار أشدهم في أمر الله عز وجل، وهذا التنوع نلمسه في الحج، وهو يعني أن هذه العبادات تلائم فئات الناس كلها، وهذا من عظمة هذا الدين، وحينما نتأمل في الأديان التي اخترعها الناس أو التي حرفوها نجد أنها تركز على جانب معين وتعالج جانباً واحداً، منها ما يركز على إتعاب الجسد وإنهاك الجسد، ومنها ما يركز على التخلص من الرغبات والغرائز، أي أنها كلها جاءت وفق منحىً محدد، أما هذه الشريعة فقد جاءت واسعة، جاءت تستوعب حياة الناس كلها، فهي تلائم كل الناس، وكل إنسان يجد له مجالاً يلائمه، وهي أيضاً تصلح النفس؛ لأن النفس تحتاج إلى كل هذا، النفس تحتاج إلى جانب فيما يتصل بالمال فيما يتصل بالجهد فيما يتصل بكافة جوانب وأمور الحياة، وهي أيضاً تلائم الإنسان فيما يصلح دينه ودنياه، فإن الإنسان على سبيل المثال في أمور الدنيا يحتاج إلى تهذيب ويحتاج إلى ما يصلح حاله، فتأتي هذه العبادات المتنوعة -ومنها الحج الذي يحوي التنوع في هذه العبادات- تسهم في إصلاح دنيا الإنسان، وتهيئه لأداء هذه الوظيفة التي خلق من أجلها، وهي عبادة الله عز وجل، وعبادة الله عز وجل متمثلة في صلته بربه تبارك وتعالى وفي قيامه بعمارة هذه الأرض وفق منهج الله عز وجل.(44/7)
التخلي عن العوائد
أيضاً الحج فيه التخلي عن العوائد وهذا الأمر أمر مهم في سياسة النفس وإصلاح النفس، أن يتخلى الإنسان عن الأمور التي اعتادها وألفها، إن الناس يألفون أوضاعاً ويألفون سلوكاً معيناً فيسيطر عليهم.
خذوا على سبيل المثال من يألف الكسل حتى يصبح سمة له، هذا الكسل يقعد به عن كثير من مصالحه ويفوت عليه فرصاً كثيرة، ويشعر هؤلاء الذين يفوتون فرصاً كثيرة عليهم في أمور دينهم وأمور دنياهم، أنهم ربما كانوا قادرين على أن يحققوا أهدافاً عديدة، لكن هذه الأهداف تلاشت دون مشكلة الكسل، فالإنسان الذي اعتاد الكسل، واعتاد الاستسلام له، واعتاد التسويف الإنسان الذي اعتاد عادة معينة أياً كانت هذه العادة هذه العادة تؤثر عليه فتعطل حياته، تؤثر عليه في عبادته، وفي حياته المالية والمادية وتعامله وتواصله مع الناس، ومن هنا يأتي الحج يربي في الإنسان التخلص من كل ما يعتاده، فمثلاً: يتخلص من لباسه، هذا اللباس الذي له شكل معين ووضع معين نتخلص منه، فلا نغطي رءوسنا، ونلبس لباساً معيناً له طبيعته الخاصة وله خصائصه التي لم نألف أن نلبسها، ومع تنوع الناس والبشر واختلاف عاداتهم في اللبس لا يمكن أن تجد مجتمعنا اليوم يلبس لبساً يتحقق فيه شروط لباس الإحرام، حتى المرأة، ولما كانت المرأة مبناها على الستر لم يشرع أن تلبس ما يلبسه الرجل، والمرأة في طبيعتها تميل إلى الزينة، فشرع لها في الإحرام أن تجتنب الزينة وأن تلبس لباساً يبعدها عن الزينة.
منعت من النقاب -على سبيل المثال- رغم أنه مشروع في غير الحج، منعت من أن تلبس القفازين مع أنها مشروعة في غير الحج، كل هذا لكي يتخلص الإنسان من هذا الأمر الذي اعتاده، يخلع ملابسه تسليماً لله عز وجل، ومع الجهل الكبير الذي نراه عند الحاج والصور الغريبة والعجيبة مما يعمله الحجاج إلا أنك لا يمكن أن تجد حاجاً لا يلبس لباس الإحرام، فقد تجد -مثلاً- حاجاً يخطئ في ميقات الإحرام، أو يخطئ في بعض السنة المتعلقة بالإحرام، في وقت خلع الإحرام وتغييره قد تجد هذه الحالات، لكنك لا يمكن أن تجد حاجاً أو معتمراً لا يلبس لبس الإحرام.
أيضاً يتخلى الإنسان عن المحظورات، وعن الترفه، ويمتنع عن أخذ شيء من شعره وأظافره، ويمتنع عن الطيب، والزينة، تغيير في سلوك الإنسان يقوده في النهاية إلى التخلي عن العوائد، وهذا أمر مهم جداً يحتاجه الإنسان في أمور دينه؛ لأن الإنسان قد يعتاد أموراً تؤثر عليه في دينه وتعوقه، ويحتاج إليه الإنسان في حياته، ولاحظوا -كما قلنا- الناس الذين يفشلون في حياتهم، الذين يفشلون في تحصيلهم الدراسي، يفشلون في فرص العمل، يفشلون جزء كبير من هذا الفشل مصدره عدم قدرة هؤلاء على إدارة أنفسهم، وجزء من هذا الفشل مصدره أن هؤلاء ألفوا أوضاعاً لم يستطيعوا أن يكسروها ويتجاوزوها، فالحج يربي الإنسان على تجاوز هذه الأوضاع وعلى التخلي عنها.(44/8)
التربية على الصلة بين أمور الدنيا والآخرة
أيضاً الحج يربي على الصلة بين أمور الدنيا والآخرة، والدنيا والآخرة لا تنفصلان في حس المسلم؛ ولهذا رغم أن الحج عبادة عظيمة، ورغم أن الناس يأتون إليه من كل فج عميق، يسافر الإنسان، يتخلص من كل شيء، يأتي، يتقرب إلى الله عز وجل، يذكر الله عز وجل، ومع ذلك يأتي في القرآن قول الله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة:198]، وهذه الآية نزلت في التجارة في موسم الحج، يأتي النص في القرآن على أنه ليس على الإنسان من جناح وهو حاج أن يمارس التجارة، هو حاج أن يبيع ويشتري، وهذا نلحظه عند بعض الشعوب المسلمة، حيث تجد من موسم الحج فرصة لتسويق بعض منتجاتها، وليس في هذا حرج، ما دام هذا في إطار المشروع، وهذا يؤصل قضية أن الدنيا والآخرة لا تنفصلان في حياة المسلم، أن الإقبال على الآخرة لا يعني أن يطلق الدنيا تماماً ويتخلى عنها، وأن سعيه للدنيا لا ينبغي أن يكون على حساب الآخرة.
نعم الإسلام يحث على الزهد في الدنيا، يحث على أن لا يتعلق الإنسان بالدنيا، لكنه لا يحث أحداً على أن يترك الدنيا، ولهذا قدر الله عز وجل لأنبيائه رغم أن الله عز وجل اختارهم لمهمة عظيمة، قدر الله عز وجل لأنبيائه أن يبذلوا جهدهم بأن يكسبوا رزقهم، فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي إلى رعى الغنم)، والله عز وجل كان قادراً على أن يجعل هؤلاء أغنياء، وأن يحقق لهم الغناء بما يكفيهم عن أن يبحثوا عن أسباب ووسائل جلب الرزق، لكن هذا فيه تربية لهم، وتربية للأمة أن الدنيا والآخرة لا تنفصلان، وأن الإسلام دين لا يعارض سعي الناس لكسب الرزق، لا يعارض سعي الناس لتطوير حياتهم في المجال الاقتصادي، في المجال السياسي في المجال الاجتماعي، وهذا سيلزم منه أيضاً أن أحكام الإسلام وأن أحكام الدين سوف نجدها في كافة مرافق الحياة وتطبيقات الحياة، وهذا مما يتأصل من خلال مثل هذه العبادة التي هي عبادة عظيمة، وفيها جهاد، وتكفير سيئات، ومع ذلك لا حرج ولا جناح على الإنسان أن يبتغي فيها فضلاً من ربه، وأن يجعل أيضاً موسم الحج وسيلة لكسب الرزق المباح.(44/9)
تربية النفوس على الانضباط
الحج أيضاً يربي النفوس على الانضباط، والانضباط أمر مهم يحتاج إليه الإنسان في عبادته وصلته بربه تبارك وتعالى، ويحتاج إليه الإنسان في أمور دنياه، نجد مواقف عديدة في الحج، قد لا ندرك نحن حكمتها التفصيلية، فمثلاً حينما نأتي للمناسك نجد عرفة لها حدود واضحة لا يختلف الناس حولها، لو أن رجلين، الأول: وقف دخل داخل حدود عرفة، وبقي طوال وقته نائماً، ولم يذكر الله عز وجل بذكر واحد لكنه بقي داخل حدود عرفة، والآخر بقي خارج حدود عرفة وبقي يقرأ القرآن ويدعو ويتضرع فإن حج الأول صحيح وحج الثاني غير صحيح، لماذا؟ ما الفرق؟ هي أمتار، أمتار يترتب عليها أن يكون حج الإنسان باطلاً ويترتب عليها أن يكون حج الإنسان صحيحاً.
الوقت على سبيل المثال، قبل أن تغرب الشمس لا يجوز للإنسان أن يدفع من عرفة، ولو دفع قبل غروب الشمس فإن عليه دماً عند جمع من الفقهاء، وإذا غربت الشمس لا يجوز له أن يتعمد البقاء، يعني: لا يتعمد البقاء تعبداً؛ لأن هذا من مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
في رمي الجمرات مثلاً هناك وقت للبداية، ووقت للنهاية، هناك عدد محدود لا يزيد عنه ولا ينقص، في يوم النحر يرمي جمرة العقبة وحدها، وفي الأيام الأخرى يرمي الثلاث، يرميها وفق ترتيب معين وعدد معين وزمان معين وهكذا سائر أحكام الحج.
هذه تربي عند الإنسان أموراً عديدة: تربي عند الإنسان الانضباط، أولاً: الانضباط الشرعي، وتربيه على الانضباط في حياته، فإن حياة الناس الدنيوية لا تستقيم إلا بالانضباط، وهي تربي في النفس أمراً مهماً جداً وهو مسألة التسليم لله عز وجل والخضوع لله تبارك وتعالى، وأن الإنسان حتى لو لم يدرك الحكمة فإنه يجب أن يلتزم أمر الله عز وجل، والله عز وجل لم يشرع شيئاً إلا لحكمة، لكن لا يمكن أن كل الناس يدركوا تفاصيل الأحكام، والحكمة في الجملة ندركها، فنحن -مثلاً- ندرك الحكمة من مشروعية الصلاة، والحكمة من تعدد الصلوات في اليوم الواحد، ومن تنوع الصلاة بين الليل والنهار.
لكن إذا أتينا إلى تفاصيل أحكام الصلاة لا ندرك الحكمة من ذلك، لماذا صلاة المغرب ثلاثاً -مثلاً- والعشاء أربعاً والفجر ركعتين؟ لماذا تلك يجهر فيها وهذه لا يجهر فيها؟ هذا الأمر لا ندرك حكمته، ولو أن إنساناً استنبط أمراً ما فإنه يبقى في النهاية استنباطاً لا يمكن أن يقطع أن هذا هو شرع الله عز وجل، فإذا دخلنا في تفاصيل الأحكام الشرعية سوف نجد أحكاماً عديدة لا ندرك حكمتها، وعدم إدراك الحكمة لا ينفي وجود الحكمة، لكن الله عز وجل تعبدنا بذلك، تعبدنا الله عز وجل أن شرع لنا عبادات ظاهرة واضحة ندرك حكمتها في الجملة، ثم تعبدنا الله عز وجل أن نعمل أعمالاً وعبادات لا ندرك تفاصيل أحكامها، حتى يتربى الإنسان على الخضوع لله، والتسليم له عز وجل، وهذا المعنى يحتاجه الناس، يحتاج الناس إلى أن يعوا مقاصد الشريعة، ليدركوا عظمة هذا الدين، ويزيدهم إيماناً ويقيناً، ويحتاج الناس أيضاً إلى أن يتربوا على التسليم؛ يقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36]، مادام الله عز وجل قد قضى أمراً وحكم بأمر فليس لمؤمن ولا لمؤمنة الخيار، وليس هناك مجال للخيار، وليس هناك مجال للسؤال هل نمتثل أو لا نمتثل، حتى عندما نتساءل عن الحكمة وعن مقاصد التشريع فإنه لا يتوقف التزامنا بهذا الأمر على معرفة الحكمة، إنما معرفتنا للحكمة ومقاصد التشريع يزيدنا إيماناً ويزيدنا تقوى، يزيدنا يقيناً وإدراكاً لعظمة هذا التشريع، لكن لا يتوقف التزامنا بذلك على إدراك هذه الحكمة.
فالناس اليوم -مثلاً- يدركون واضحاً وجلياً الحكمة من تحريم الربا، لكن لو أن إنساناً لم يدرك الحكمة أو لم تظهر له الحكمة من تحريم الربا فإن هذا لا يبيح له أن يأكل الربا بحجة أن يقول: لماذا؛ لأن هذا الأمر قد جاء تحريمه نصاً في القرآن والسنة وأجمعت الأمة على تحريم الربا في الجملة، والخلاف إنما هو في بعض التفاصيل، لكن أصلاً التحريم أجمعت عليه الأمة، وحينئذٍ لا مجال لأن يتوقف امتثال الإنسان هذا الأمر على أن يتساءل: لماذا حرم الله عز وجل ذلك؟(44/10)
تنمية القيم الجماعية
أيضاً مما يتحقق في الحج تنمية القيم الجماعية، الحج عبادة جماعية وليس عبادة فردية، وهذا من حكمة الشريعة، فإننا نجد التنوع في العبادات، نجد مثلاً الصيام عملاً فردياً بين الإنسان وبين ربه عز وجل، ولا يعني اجتماع الناس على الإفطار أن الصيام تحول إلى عبادة جماعية، ونجد عبادات فردية وجماعية مثل الصلاة، فالصلاة المكتوبة جماعة لكن الإنسان يصلي نافلة لوحده، فتحقق هذه المعاني، ونجد من العبادات ما لا يشرع إلا جماعة، ومثل ذلك الحج فإن الإنسان صحيح أنه يمارس عملاً فردياً لكنه في النهاية يعيش الحج مع الناس، فيجتمع الناس كلهم في يوم عرفة، ويجتمعون في مزدلفة في وقت محدد، فالطواف له وقت محدد ورمي الجمرات وهكذا سائر المناسك، وهذا الاجتماع مقصود ويحقق معاني عديدة، وأعتقد أنا لو تحدثنا عن القيم الجماعية في الحج لاستوعب هذا الحديث الوقت كله، لكن من أهم ما نحتاج إليه تنمية القيم الجماعية، كيف يعيش الإنسان مع الجماعة، كيف يعيش الإنسان مع الآخرين، كيف يتواصل مع الآخرين، يجتمع الناس في الحج، لا يجمعهم لغة، لا يجمعهم جنس، لا يجمعهم لون، لا يجمعهم إلا شيء واحد هو هذا الإسلام وهذا الدين، فيحقق معيار الانتماء للجماعة، يحقق هذه الوحدة الجماعية بين الأمة، وأن أهم ما يجمع الأمة هو هذا الدين الذي يجمعها على اختلاف لغاتها وألوانها وأجناسها وفئاتها، وهذا الأمر نلحظه واضحاً ونحن نعيش ونتفاعل مع موقف الحج.
أيضاً مواقف اجتماع الناس ينشأ عنه تفاعلات وتواصل بين هؤلاء تعلم الناس قيم الجماعة، فيتطلب -مثلاً- قدراً من التضحية، حيث يشعر الإنسان أنه بحاجة أن يؤخر قضاء حاجته من أجل الآخرين، فهو -مثلاً- يريد أن يقبل الحجر، لا يمكن أن يجتمع اثنان على تقبيل الحجر، وهي يعني كما يقال: العبادة الوحيدة التي لا يمكن أن يعملها اثنان في وقت واحد على ظهر الأرض، فما دمت سأقبل الحجر يجب أن أنتظر أن ينتهي من جاء قبلي ثم آتي بعده، وحينما أقبل الحجر فإنني سوف أكون على حساب الآخرين.
وهكذا حينما يصلي الإنسان وراء المقام، فقد لا يجد مكاناً فإنه بحاجة إلى أن ينتظر، كذلك حينما يريد رمي الجمرات، هذه المواقف تنمي عند الإنسان القيم الجماعية، تنمي عند الإنسان أن يعرف أن للآخرين حقوقاً، سواء في مجال وميدان التعبد أو في غيرها من المجالات والميادين، وهذه القيم لا يمكن أن تملى إملاء، ولا تعلم للناس تعليماً، ربما يسمع الناس كلاماً جميلاً حول الجماعة، حول الانضباط، حول الإرادة ويؤثر فيهم، لكن هذا لن يحقق هذا المعنى بصورة صحيحة في النفوس ما لم يعايشه الناس عملاً، يعايشه الناس من خلال البيئة والمواقف العملية.(44/11)
التربية على التضحية
أيضاً الحج يربي على التضحية، يضحي الإنسان بماله، براحته، بوقته، في كافة الأوقات يعني: في الليل، في النهار، في الموطن هنا، في الموطن هناك، نجد أن الحجاج يعيشون ويضحون بكل هذه الأمور، يضحي بماله براحته، بوقته، بجهده، بأمور عديدة جداً يضحي بها لله عز وجل، ويتقرب بها إلى الله عز وجل، وهو ليس مكرهاً، يتقرب إلى الله عز وجل وهو فرح مستبشر، تجده يرتاح حينما يؤدي هذه العبادة، ويستبشر ويجد الأنس، وهو لا ينظر لهذه العبادة على أنها عبء، وعلى أنها أمر صعب بالنسبة له، إنما يجد الفرحة ويجد الأنس ويجد اللذة، حتى حينما يفرغ من العبادة وينتهي منها يجد الاطمئنان في نفسه.
هذا الأمر أيها الإخوة الكرام! يربي النفوس على التضحية، والنفوس بحاجة إلى التضحية، فالبخل داء سيئ في النفوس وداء مذموم؛ ولهذا كانت العرب تسمي البخيل فاحشاً، يقول طرفة: أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد أي البخيل، ويقول الله عز وجل: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ} [البقرة:268]، والفحشاء هنا يقصد بها البخل، فالبخل صفة رذيلة، البخل ليس فقط في المال، البخل في أمور عديدة، أن يبخل الإنسان بجهد يبذله، أن يبخل الإنسان بوقته، أن يبخل الإنسان بطاقته، الحج يربي النفس على الجود، ويربي النفس على التضحية؛ ولهذا الحج جهاد لا قتال فيه كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهو يربي النفوس على الجهاد؛ لأن الجهاد فيه تضحية، والجهاد فيه بذل، والذين يريدون أن يبرزوا في ساحات وميادين الجهاد هم بحاجة إلى أن يتهيئوا، أن تتهيأ نفوسهم بالبذل وتتهيأ نفوسهم بالتضحية، ومما يهيئ النفوس للتضحية والبذل هذه العبادات العظيمة ومنها الحج.(44/12)
بناء التوحيد في النفوس
أيضاً الحج يبني في النفوس أمراً عظيماً جداً، بل هو أعظم شيء ألا وهو توحيد الله عز وجل، فإن الحج يربي في النفوس التوحيد لله تبارك وتعالى، وهذا نلحظه في كل مواقف الحج، نلحظه في الدعاء، فإن (أفضل الدعاء دعاء عرفة)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)، هو دعاء التوحيد، نلحظه مثلاً في التكبير، يكبر عند الحج، يكبر عندما يرمي الجمرات، يدعو بدعاء التوحيد حينما يصعد على الصفا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، نجد أيضاً هذا في التلبية، نجد مظاهر التوحيد في الجانب العملي، في عمل هو من أفضل أعمال الحج وهو نحر الهدي، وهو لا شك من أعظم شعائر التوحيد، قرنه الله عز وجل بالصلاة فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2]، {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162].
وأخبر الله عز وجل أن من مقاصد الحج أن يتقرب الناس إلى الله عز وجل بنحر البدن، بهذا البيت العتيق: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36]، ثم قال الله عز وجل: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج:37].
أيضاً نجد فيما يتصل بالتوحيد في الحج نجد أيضاً الجهر، يجهر الإنسان بالتلبية، هو نوع من إظهار شعائر الإسلام، ونوع من إظهار التوحيد، وقال جابر رضي الله عنه: (فلبى النبي صلى الله عليه وسلم بالتوحيد: لبيك اللهم لبيك).(44/13)
تأكيد هوية الأمة
نجد أيضاً في الحج تأكيد هوية الأمة، وهو مما يؤصل التوحيد، بتأكيد مفارقة المشركين، وقد تمثلت في أمور عديدة، تمثلت أولاً في التلبية، فإنهم كانوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم هديهم.
وتمثلت مفارقة المشركين في أداء الحج، بل قصد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فإن المشركين كانوا يخرجون من عرفة قبل أن تغرب الشمس، فخالف النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (خالف هدينا هدي المشركين) فبقي النبي صلى الله عليه وسلم حتى غربت الشمس.
كانوا لا يفيضون من مزدلفة حتى تطلع الشمس ويقولون: أشرق ثبير وخالف النبي صلى الله عليه وسلم هديهم في ذلك فدفع النبي صلى الله عليه وسلم من مزدلفة قبل أن تشرق الشمس، وقال صلى الله عليه وسلم في ذلك: (خالف هدينا هدي المشركين) مما يعني: أن هذا أمر مقصود.
أمر مقصود أن تتميز الأمة، أمر مقصود أن تعيش الأمة هذا التميز وأن تشعر أنها أمة متميزة، أمة لها هويتها، ونحن أحوج ما نكون في هذا الوقت إلى هذه القيم وهذه المعاني أن تتربى عليها الأمة وأن تعيشها الأمة، على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي أيضاً.
الأمة اليوم تعيش انهزام، الأمة نظراً لتأخرها في ميدان الحضارة، وميدان العلم المادي، والواقع السياسي والواقع الاجتماعي أصبحت تعيش عقلية الهزيمة، ولتفوق الآخرين عليها أصبحت تعيش التقليد، وما نلحظه اليوم في واقعنا وسلوكنا من الهزيمة النفسية عند الأمة تجاه الآخرين، والشعور بالهوان والضعف والتقليد، هذه المظاهر التي تدل على خلل في هوية الأمة، تدل على خلل في اعتزاز الأمة بهويتها، هذه المظاهر تقودنا إلى إثارة هذا
السؤال
أين أثر هذه العبادات على الأمة؟ ولو أن الأمة تعي حقيقة هذه العبادات لتركت أثرها، سواء على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي.(44/14)
تعظيم شعائر الله
الحج يربي في النفوس تعظيم شعائر الله عز وجل؛ قال الله عز وجل: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32]، هذه الآية كما نعلم جاءت في سياق آيات الحج، فأخبر الله عز وجل أن من مقاصد هذه العبادة العظيمة تعظيم شعائر الله عز وجل، وأن تعظيم شعائر الله عز وجل له أثره في تحقيق التقوى في النفوس والقلوب، تعظيم شعائر الله عز وجل يتمثل في أمور عديدة، مثلاً الحاج لا يتجرأ على ارتكاب المحظور، فهو لا يتجرأ على أن يأخذ شيئاً من شعره، لا يتجرأ على أن يتطيب، على أن يقتل صيداً، على أن يعبد شجرة، لا يتجرأ على الإلحاد في بيت الله الحرام، {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، لا يتجرأ على إيذاء إخوانه، تعظيم شعائر الله مجال وميدان واسع في الحج، فهو يربي في النفس تعظيم شعائر الله فيعود الإنسان وهو يعظم شعائر الله، يعظمها في قلبه وفي نفسه، ثم هذا التعظيم يظهر أثره على جوارحه، ويظهر أثره في تعامله مع شعائر الدين سواء فيما يتصل بالجانب المعرفي والوجداني الداخلي أو ما يتصل بالجانب الظاهر في تعامله مع أحكام الشريعة.
ومن صور تعظيم شعائر الله عز وجل: حفاظ الإنسان على الطاعة، وتعظيم أمرها وشأنها، وبعد الإنسان عن معصية الله عز وجل، وعدم تجرئه على معصية الله تبارك وتعالى، كل هذه القيم وهذه الحقائق تتربى في النفوس من خلال الحج.(44/15)
تربية جانب الأخلاق والسلوك
والحج أيضاً يربي جانب الأخلاق والسلوك، يقول الله عز وجل: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197]، فجو الحج مع الزحام يقود إلى الجدال والخصومة، يقود الناس إلى تجاوز الحد الخلقي وحينئذٍ يوضع الناس أمام محك، والإنسان لا يتعلم حسن الخلق إذا عاش لوحده؛ لأن الخلق سلوك يمارسه الإنسان في تواصله مع الآخرين، فحينما يتواصل الإنسان مع الآخرين في مواقف تتطلب منه ذلك يتعلم حسن الخلق، وأنت لا تكتشف خلق الإنسان في الأجواء العادية، لكن هذا الإنسان حينما يغضب تقيس -مثلاً- تحكمه في انفعالاته، وحينما يعيش مواقف الحج والزحام مع الناس وهذا يخطئ على هذا وهذا يتعلم الإنسان كيف يصبر، ويتعلم كيف يحسن خلقه؛ ولهذا ربط النبي صلى الله عليه وسلم هذه القضية بالحج فقال: (من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) وكان صلى الله عليه وسلم يوصي بالرفق واللين فكان يقول: (أيها الناس عليكم بالسكينة فإن البر ليس بالإيضاع) والإيضاع هو الإسراع، ومن تأمل سلوك الناس في الحج وهم يرمون الجمرات، وهم في الطواف، يجد أن هناك خللاً في الجانب الخلقي والسلوكي، وهم يعيشون في جو العبادة التي تربيهم على ذلك، وتنمي عندهم هذا الأمر.(44/16)
التربية على الصبر
أيضاً نجد في الحج التربية على الصبر، وتحمل المشاق، فإن طبيعة الحج فيه جهد ونصب وتعب، فإذا كان في شدة الحر يعاني الناس من الحر والتعب، وإذا كان في الجو البارد أيضاً عانى الناس، ومع الزحام يعاني الناس، كذلك الأمراض التي تنشأ عند الحجاج كالتعب الإرهاق، فقد أصبح معتاداً أن الذي يأتي من الحج يبقى أياماً وهو يعيش أثر الإجهاد والتعب، هذا النصب وهذا التعب يربي الإنسان على الصبر والتحمل، كذلك طبيعة أعمال الحج وما فيها من زحام، وما تتطلبه من مشي، وإن ركب في سيارته عاش الزحام في السيارات كل هذه المواقف تربي عند الإنسان الصبر، والناس اليوم أحوج إلى هذه المعاني وهم يعيشون حياة ترف ورفاهية، هذه الرفاهية التي عاشها الناس في بيوتهم، في مراكبهم، في تنقلاتهم، في ذهابهم، في إيابهم، حينما يذهبون إلى الحج يتعلمون هذه القيم؛ ومن أثر الرفاهية في حياة الناس اليوم أن الناس يتسابقون على الحملات التي تقدم خدمات رفاهية وخدمات مريحة، وأيضاً الحملات في رعايتها دائماً تركز على هذا الجانب في حديثها مع الناس، لكن مع ذلك سيبقى الحج يحتاج صبراً وتحملاً، سيبقى الحج فيه معاناة، والله عز وجل قد قال في كتابه: {لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الأَنفُسِ} [النحل:7]، وحيئذ يأتي الحج يربي عند النفوس الصبر، والصبر معنى جميل؛ فإنه عندما تكلم الناس عن الصبر كل الناس يحبون الصبر، ويثنون على الصبر، ولا يوجد أحد أبداً يذم الصبر، لكن التحدي كيف أتعلم الصبر، كما قلت قبل قليل: لن نتعلم هذه الأمور من خلال مجرد الحديث عن أهميتها ولا الوصاة بها ولا التأكيد عليها، لن نتعلم هذا إلا من خلال المواقف العملية التي تربي فينا هذه القيم وتربي فينا هذه المعاني.(44/17)
التربية على تحمل المسئولية
أيضاً مما يحققه الحج التربية على تحمل المسئولية.
الإنسان بحاجة إلى أن يتربى على تحمل المسئولية، المسئولية بكافة جوانبها، أولاً المسئولية الدينية بينه وبين الله عز وجل، فالله عز وجل أخبر أن كل إنسان مسئول عن نفسه، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93 - 95].
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان) فهي مسئولية فردية بينه وبين ربه عز وجل، مسئولية تجاه المجتمع، فالنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فكان بعضهم أسفلها وبعضهم أعلاها) فكل فرد مسئول عن هذا المجتمع، وكل فرد يتحمل هذه المسئولية.
أيضاً مسئولية الإنسان في حياته المادية، في حياته الخاصة، هو مسئول عن أهله، مسئول عمن يعول، مسئول عن الإنفاق على نفسه، مسئول عن حماية نفسه من الضرر، مسئول عن حماية مجتمعه من الضرر، هذه المسئولية يتربى عليها الإنسان من خلال الحج، فهو في الحج مسئول عن أعماله، لو ارتكب محذوراً فإن عليه الجزاء في ذلك، لو قتل صيداً لا يحل له عليه الجزاء، حتى لو عمل بعض الأعمال عن جهل ومثله لا يعذر به فإنه يتحمل المسئولية، فيربي عند الإنسان تحمل المسئولية، وتحمل المسئولية هي قيمة يعيشها الإنسان، وليست مجرد وصايا وتأكيد كما ذكرنا قبل قليل.(44/18)
ربط الإنسان بأمته
أخيراً: الحج يربط الإنسان بأمته من خلال أولاً القبلة، فنحن في الحج نتجه إلى هذه القبلة التي تجمع الأمة والتي نتجه إليها في صلاتنا، نتجه إليها في دعائنا، نتجه إليها في عبادات عظيمة، الأمة كلها تجتمع على قبلة واحدة، ويأتون إليها، وربما الذي اعتاد أن يرى بيت الله الحرام والكعبة قد لا يدرك عظم الشوق الذي يعيشه المسلم الذي قضى وقتاً طويلاً من عمره، وهو يستقبل هذه القبلة في صلاته، في دعائه، قد لا ندرك عظم الشوق الذي يختلج في نفوس هؤلاء أن يروا هذه القبلة ويعاينوها ويفدوا إليها.
هذا يوحد الأمة، يوحد انتماء الإنسان لهذه الأمة الذي يمثل هذا البيت رمزاً لوحدتها؛ ولهذا يهدم هذا البيت في آخر الزمان حين لا يحج أحد كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وحدة الأمة في وقوفها، في مناسكها، في عبادتها يربي في النفوس الانتماء لهذه الأمة ووحدة هذه الأمة.
أيها الإخوة الكرام! الحديث عن هذه العبادة العظيمة حديث يطول، ولو أردنا استقصاء ما في هذا الحج من منافع فإننا لن نستطيع، ويكفي أن الله عز وجل قد ذكر ذلك منكراً فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:28]، والنكرة من صيغ العموم، منافع عديدة في كافة حياة الناس وأمورهم، وما ذكرناه هو جزء من أثر الحج على بناء النفس، وإلا لو أخذنا المنافع الأخرى فإن الوقت يضيق.
أسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن يعبده حق عبادته، ويتقيه حق تقواه إنه سميع مجيب، ونسأل الله تبارك وتعالى أن ييسر لإخواننا حجاج بيت الله عز وجل سفرهم، وأن يجعل حجهم مبروراً وسعيهم مشكوراً، ويتقبل منا ومنهم إنه سميع مجيب.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(44/19)
أبناؤنا والتربية في بلاد الغرب
إن الاهتمام بتربية أبنائنا في بلادنا أمر ضروري وبالغ الأهمية، فما بالك إذا كانوا يعيشون في بلاد الغرب فعندها يكون الأمر أكثر أهمية؛ لأن حياة الغرب لها مظاهرها المخالفة لدين الله تعالى، والتي تهيئ لأبنائنا الأسباب لينجرفوا وراء تلك الحياة المادية الشهوانية الحيوانية، فحري بكل ولي أمر أن يهتم بأولاده، وأن يضع لهم البرامج التي تغنيهم عن مظاهر الحياة الجذابة هناك.(45/1)
صعوبة التعامل مع الحياة في المجتمعات الغربية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء وإمام المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد: فيسعدني ويشرفني أيها الإخوة والأخوات! أن أتحدث أمامكم وبين أيديكم، وكم أتمنى أن يكون هذا اللقاء مباشراً والحديث كفاحاً، لكن إذ لم يتيسر اللقاء المباشر فلا أقل من أن يكون مثل هذا الحديث، وإن كان لا يفي برغبتي وتطلعي، وأحسب أنكم كذلك.
إخواني وأخواتي: إن التربية في كل المجتمعات لها مشاكلها، والتربية قضية شائكة؛ إنها تعامل مع الإنسان، ذلك الكائن المعقد، إنك حين تتعامل مع كائن مادي يمكن أن تدخله المختبر، ويمكن أن تجري عليه تجربة، ويمكن أن تتحكم في متغيراته، لإنك تتعامل مع متغيرات واضحة ومحددة، وإذا جهلت جانباً منها فبإمكانك أن تتعلمه، وبإمكانك أن تجرب، وأما الإنسان فهو كائن آخر يختلف عن سائر الكائنات، إنه كائن تؤثر فيه متغيرات عدة يصعب أن تستنبطها أو تحصرها.
إن هذه المتغيرات تتفاعل مع بعضها، فيولد هذا المتغير تأثيراً، والآخر من طرف آخر تأثيراً مناقضاً، والثالث كذلك، وتفاعل هذا المتغير مع الآخر يولد تأثيراً آخر؛ بل إن الموقف والتجربة يصعب استنساخها ويصعب تعميمها، فالذي يلائم زيداً لا يلائم عمراً، والذي يصلح مع ابنك الأكبر قد لا يصلح مع الآخر، والذي يؤثر إيجاباً في موقف قد يؤثر سلباً في موقف آخر، بل إن الشخص نفسه قد يكون هذا الأسلوب مؤثراً عليه في موقف، وفي الموقف الآخر قد يؤدي تأثيراً من نوع آخر، وهو أمر نشهده في حياتنا، ونشهده مع أولادنا وبناتنا.
إننا أمام كائن معقد تتداخل فيه العوامل والمؤثرات، أمام كائن تحكمه نفسية صعبة معقدة، الإنسان نفسه يصعب عليه أن يفهمها فضلاً عن أن يفهمها الآخرون.
إننا إخواني وأخواتي مهما أوتينا من خبرة وتجربة، فإننا لا يمكن أن نصل إلى حد اليقين بتأثير تربيتنا وجهدنا، لكن حسبنا أن نبذل الجهد وأن نبذل ما نستطيع، وحسبنا أن نجتهد، والاجتهاد -إخواني وأخواتي- ليس في مجرد الدافع وحده، ليس في مجرد أن ننصح فقط، وأن نأمر وأن ننهى، لا، بل الاجتهاد يتطلب منا أن نبحث عن الوسائل التربوية المؤثرة الناجحة، ويتطلب منا أن نرتقي بخبراتنا ومعارفنا ومهاراتنا التربوية، ويتطلب منا أن نبحث عن حلول لمشكلاتنا.
إن الله عز وجل أمرنا أن نتقيه ما استطعنا، وهذا من تقوى الله تبارك وتعالى ما استطعنا، فلئن كانت التربية -إخواني وأخواتي- مسألة صعبة ومعقدة، فهي في ظل الظروف التي تعيشون فيها أكثر صعوبة، وأكثر تعقيداً، وأكثر معاناة.
فيجب أن نضع في ذهننا بادئ ذي بدء أننا نعيش في وضع غير طبيعي، فأنتم تربون أولادكم على قيم تخالف قيم المجتمع، وتسمعونهم غير ما يسمعهم المجتمع، وتأمرونهم بخلاف ما يأمرهم به المجتمع، إنكم تسيرون في اتجاه والمجتمع في اتجاه آخر؛ فأنتم تسيرون ضد التيار.
فيجب أن نعي -إخواني وأخواتي- أنه يصعب أن نقضي على المشكلة نهائياً، ولا أعتقد أن هناك حلولاً يمكن أن تنقلنا إلى بر الأمان، وأن تجعل قضية التربية قضية محسومة مضمونة النتائج، لئن كان هذا الأمر صعباً على أولئك الذين يعيشون في بلاد الإسلام، فالذين يعيشون مثلكم الأمر لديهم أصعب.
فلا بد أن نستوعب طبيعة المعاناة التي نعيشها، وهذا يدعونا إلى ألا نكون مثاليين، وهذا يدعونا إلى ألا نعلق على جهدنا البشري كل شيء، فما نقوله وما نعمله وما نسعى إليه في تربيتنا لأولادنا ونحن في هذه البلاد غاية ما فيه أننا نبذل جهداً، ونبذل سبباً، والتوفيق بيد الله تبارك وتعالى.(45/2)
لابد من التضحيات حتى نجنب أولادنا فتن البلاد الغربية
أقول إخواني وأخواتي: لا نتطلع إلى أن تحل المشكلة نهائياً، أعتقد أنكم تعيشون هذا الوضع غير الطبيعي الذي لا يمكن أن تنحل معه المشكلة بصورة قاطعة.
أيضاً لا بد من التضحيات، إننا نطلب مطلباً صعباً، نطلب أن نحافظ على أولادنا وبناتنا، نطلب أن نحافظ عليهم في هذه المجتمعات التي نشعر فيها أن التيار يسير في اتجاه ونحن نسير في اتجاه آخر، حين نختار أن نربي أولادنا على قيم الإسلام، وأن نربي أولادنا تربية إسلامية حقيقية ونحن في هذه المجتمعات فيجب أن نعرف أننا اتخذنا قرارات يجب أن نضحي من أجلها، ويجب أن نبذل الثمن من أجلها، ومن هنا فأولئك الذين يجعلون قضية التربية آخر اهتماماتهم غير مصيبين، فهو على سبيل المثال حين يختار سكناً فإن العامل الأول الذي يدفعه لهذا السكن هو مدى قربه أو بعده من موقع عمله، أو من جامعته التي يدرس فيها.
وهو حين يختار مدينة يسكن فيها، وحين يختار حياً، وحين يختار منزلاً فإنه يتخذ قراراً، وحينما تكون التربية آخر ما يرد في ذهنه فإنه بحاجة إلى أن يعيد النظر في جديته، أقول حينما نطلب أمراً غالياً فلا بد أن ندفع الثمن، وهذا يعني أننا لا بد أن نضحي بمكتسبات كثيرة، فقد يحتاج الأمر أن نتحمل مزيداً من المال، ومزيداً من الوقت، ومزيداً من الجهد، وقد نتنازل عن أمور نرغبها في سبيل تهيئة بيئة تربوية مناسبة لأولادنا، وما لم نحمل الاستعداد على التضحية فأعتقد أننا سنخسر كثيراً.(45/3)
الاهتمام بتربية الأولاد في بلاد الغرب من أهم الأولويات
ولا بد أيضاً من ترتيب الأولويات، وأعتقد أن صلاح أولادنا واستقامتهم من أهم الأولويات لدينا، ومن أعظم الأمور، إن الأب حين يمرض ولده فإنه يبذل كثيراً من ماله لأجل أن يعالجه، وحين لا يتاح له العلاج في بلده فإنه يسافر، ويستدين ويقترض، ويتحمل، ولا يستكثر شيئاً من ذلك؛ لأجل أن ينقذ ولده من هذا المرض؛ فكيف إذا كان المرض أشد؟ وكيف إذا كان المرض يتعلق بمرض القلب؟ وكيف إذا كان الأمر يتعلق بالهلاك الذي لا نجاة بعده؟ وكيف إذا كان الأمر يتعلق بهذا المصير المحتوم؟ عافانا الله وإياكم.
فلئن كان الأب يضحي ويبذل الجهد من أجل أن ينقذ ولده من مرض البدن، فأعتقد أن غيره من الأمراض أولى بالتضحية، وأولى بأن يدفع الثمن من أجلها.
فلا بد إذاً إخواني وأخواتي أن نضع هذه القضايا في الاعتبار، فنحن نعيش في وضع غير طبيعي، ولا يمكن أن نحل المشكلة نهائياً، إنما غاية ما نقدمه أن نقدم وسائل تعين على التعايش بصورة أفضل مع هذه المشكلة، ومع هذه المعاناة، ولا بد من أن نضحي؛ لأننا نطلب أمراً باهظ الثمن، ولا بد من ترتيب الأولويات.
ما هو مكمن المشكلة؟ مكمن المشكلة باختصار أننا نعيش في بيئة مناقضة لما نريد، فنريد أن نربي أولادنا على خلاف ما تدعوهم إليه البيئة التي يعايشونها في الشارع، وفي المدرسة، وفي وسائل الإعلام، وفي السوق هنا وهناك.
وأعتقد أننا يمكن أن نعمل من خلال مسارين: المسار الأول: إضعاف المؤثرات التي تؤثر سلباً على أولادنا، وحين أقول الأولاد، فإنني أعني بذلك البنين والبنات.
المسار الثاني: أن نقوي المانع الذي يجعل أولادنا يكونون أكثر قدرة على مواجهة هذه المؤثرات التي تناقض ما نريد.(45/4)
إضعاف المؤثرات التي تؤثر سلباً على الأبناء لتجنيبهم شرور بلاد الغرب
المسار الأول: إضعاف المؤثرات.
لا بد أن نعي إخواني وأخواتي طبيعة النفس البشرية، فالنفس فيها ميل للشهوة، فيها ميل للهوى، فيها الكسل، والنفس قد تقتنع بأن هذا الطريق لا يقودها إلى طريق الخير والسعادة، وقد تقتنع بأن هذا الطريق يقودها إلى الهلاك والبوار، ومع ذلك فهي تلتزم هذا الطريق.
إن كثيراً من المسلمين الذين نراهم يتجرئون على الكبائر، ويتجرئون على المعاصي، يدركون ما هم عليه من خطأ، فلم يؤتوا من جهلهم، وإنما أتوا من ضعف إرادتهم، ومن ضعف سيطرتهم على أنفسهم.
فإذا أدركنا إخواني وأخواتي طبيعة النفس البشرية، وأن النفس تضعف، وأن الاقتناع وحده ليس هو الباعث الوحيد للإنسان على سلوك الطريق، وأن الإنسان قد يسلك طريقاً بخلاف ما يقتنع به، ندرك عندها أن العلم وحده لا يكفي، وأن التوجيه وحده لا يكفي، وأن الإقناع وحده لا يكفي، وإن كان كل ذلك لا بد منه إلا أنه لا يكفي، فلا بد من إرادة، ولا بد من تضحية، ولا بد من تخل.
وكم نرى في أنفسنا أننا تأتينا ظروف ومواقف تدعونا إلى أن نقع في المعصية، وإلى أن نتكاسل عن الطاعة، ليس جهلاً منا وإنما ضعف أمام هذه المؤثرات.
إذاً: فإضعاف المؤثرات والتقليل منها يجنب أولادنا الوقوع في كثير من هذه المزالق.
لقد جاء الشرع لسد الذرائع، فنهى عن الدخول إلى منازل الآخرين دون استئذان، وقال صلى الله عليه وسلم: (إنما جعل الاستئذان من أجل البصر)، ونهى أن تسافر المرأة إلا مع ذي محرم، ونهى أن يخلو الرجل بالمرأة، وأمر المرأة بالحجاب، وحرم الغناء، وحرم السفور والتبرج.
وجاءت أحكام كثيرة القصد منها تقليل فرص التأثير على الناس بما يقودهم ويدفعهم إلى المعصية، هذه الأمور لم تحرم لذاتها؛ وإنما حرمت لكونها وسيلة للوقوع في الحرام، وماذا يعني حين يحرم الشرع هذه الأمور؟ يعني: أن النفس بحاجة إلى أن تنقذ وأن يحال بينها وبين هذه المؤثرات، هذا الأمر لا بد أن نعيه؛ لأن من الناس من يلغي هذا الاعتبار، ويرى أن الاقتناع هو كل شيء، وأن أهم شيء هو الإقناع، فالإقناع أمر مهم وضروري وسنأتي إليه، لكن لا بد أن نضعف هذه المؤثرات قدر الإمكان، نضعف المؤثرات من خلال حجب ما نستطيع حجبه منها، أو التخفيف من شرها.
وإضعاف هذه المؤثرات يتم بأمور عدة:(45/5)
تقليل فرص التعرض لهذه المؤثرات
الأمر الأول: تقليل فرص التعرض لها فنسعى قدر الإمكان إلى أن نقلل من فرص تعرض أولادنا للمظاهر والمواقف السيئة في هذا المجتمع، بحيث أن نقلل قدر الإمكان من الخروج إلى الأماكن العامة، وأن نقلل من اصطحابهم إلى الأسواق والأماكن العامة التي يظهر فيها هؤلاء على سجيتهم، ويمارسون سلوكيات وأخلاقاً وأموراً أنتم أعلم مني بها.
وأيضاً من وسائل تقليل فرص التعرض لهذه المؤثرات: وسائل الإعلام.
وهي من أكثر ما يؤثر على الناس، ومن وسائل ضبط ذلك أن نقلل قدر الإمكان من تعرض أولادنا لمتابعة ومشاهدة التلفزيون والإنترنت، وأن نسعى إذا ابتلينا بهذه الأدوات ولم نجد بديلاً للتخلص منها أن تكون في مكان عام في المنزل، ومكان متاح، وأن نحذر أن تكون في غرف الأولاد، نحرص أن تكون المشاهدة قدر الإمكان جماعية إذا اضطررنا لذلك، مصحوبة بالتعليق المناسب والمقنع على المواقف المخالفة، فلا نترك أولادنا يتابعون الشاشات لوحدهم، ويتابعون وسائل الإعلام لوحدهم.
إذاً: فالأمر الأول أيها الإخوة والأخوات الذي يضعف هذه المؤثرات: أن نقلل من فرص تعرض أولادنا لها من خلال وسائل عديدة، وما ذكرته هو لمجرد التمثيل لا الحصر.(45/6)
تشكيل اتجاهات سلبية نحو الواقع الغربي
الأمر الثاني أيضاً الذي يضعف هذه المؤثرات: أن نشكل اتجاهات سلبية نحو الواقع الغربي، فأولادنا يبهرون بما يرونه خاصة من ولد منهم في مجتمعات المسلمين، وعاش فيها حتى بلغ سن الإدراك، ثم جاء إلى هذه المجتمعات فإنه يصدم بما يراه في واقع المجتمع الغربي، وهذه الصدمة قد تنتقل إلى تقبل القيم الغربية، وتقبل السلوك الغربي، وإلى إعادة مناقشة مسلمات موجودة عنده؛ لأنه رأى هذا الفارق الحضاري الهائل.
فالسعي إلى تشكيل اتجاهات سلبية نحو الواقع الغربي مما يقلل من تأثير هذه المؤثرات التي سيتعرض لها، ويكون ذلك من خلال نقد قيم الحضارة الغربية، فنتحدث نحن وإياه عنها وننقد هذه القيم نقداً علمياً موضوعياً، ليس مجرد الذم، وليس مجرد فقط الانتقاد، لا بد أن يكون النقد باللغة التي يفهمها، وباللغة التي يسمع لها، وأعتقد أننا نملك الوسائل الكثيرة التي نستطيع من خلالها أن نقنع أولادنا بذلك.
فمثلاً: التفكك الأسري أمر من أهم ما يميز الواقع الغربي، والأمة الإسلامية تعيش بخلافه، فالعيش هناك هو للمصالح المادية، فالناس يخدمونك ويتعاملون معك إذا كانوا يرجون من ورائك مصلحة مادية، وغياب قيم الإيثار كالكرم والشجاعة وغيرها من القيم الأصيلة التي تميل إليها النفس قبل أن تخاطب بالدين، وتسر بها، وتثني على أهلها، فعلينا بإبراز هذه الفوارق، وإبراز هذه القيم التي فقدها العالم الغربي، واجعل أولادك ينظرون إلى الوجه الآخر للعالم الغربي.
إذاً: إبراز الوجه الآخر: كالجريمة، والتفكك الأسري، والانحلال، كل ذلك يعطيه صورة أخرى غير صورة الواقع المادي الذي يبهره.(45/7)
التثقيف تجاه الشهوات
الأمر الثالث الذي يضعف هذه المؤثرات: التثقيف تجاه الشهوات، فالشهوات تشكل سلطاناً على النفوس، والمجتمع الغربي اليوم مجتمع مأفون بهذه الشهوات، مجتمع تعرض فيه الرذيلة أمام الناس ويرونها تمارس في الشارع، ويرونها في التلفاز، وعلى شبكة الإنترنت، وعلى الصحف، فيتعرض لها أولادنا وهذا التعرض قد يؤثر عليهم.
فنحن بحاجة إلى أن نثقف أولادنا عن الشهوات، وأن نحدثهم عن قيمة الإنسان، وأن الإنسان أسمى وأكرم من أن يكون عبداً لشهواته، وأن يعيش عيشة البهائم كما نرى من الممارسات التي نراها في الشوارع وفي القطارات وهنا وهناك، وأن هذا الإنسان كرمه الله عز وجل، وأن الإنسان هو الذي يتحكم في شهوته ولا تتحكم فيه، فيبرز هذا الجانب وهو تثقيف أولادنا تجاه الشهوات، وليس فقط من خلال الحكم الشرعي -وإن كان الحكم الشرعي مطلوباً- وإنما أيضاً من خلال إبراز أن الرجولة عند الشاب هي في سيطرته على نفسه، وأن الانتصار الحقيقي للفتاة هو في أن تشعر أن طريق الفساد متاح أمامها، ثم تمتنع عنه بإرادة وعزيمة وإصرار.
هذه هي قوة الشخصية، وهي الوجود الحقيقي للإنسان، هي قيمة الإنسان الذي يمتاز به عن الحيوان الذي ليس بينه وبين أن يمتع نفسه بشهوته إلا أن تدعوه شهوته لذلك.(45/8)
إبراز الوجه الحضاري للأمة الإسلامية
الأمر الرابع: إبراز الوجه الحضاري للأمة.
صحيح أن أمة الإسلام اليوم تعيش واقعاً سيئاً، وتعيش واقعاً لا يسر المسلم أن ينتسب إليه، خاصة في ظل المجتمع الغربي الذي يعتبر القيم المادية هي كل شيء، ويعلي شأن هذه القيم المادية، إننا نملك رصيداً هائلاً في تاريخنا وفي تاريخ أمتنا، وهذا التاريخ يغيب عن أولادنا خاصة أولئك الذين يعيشون في بلاد الغرب، فربما يدرس الذين يعيشون في بلاد الإسلام شيئاً من تاريخ الأمة وإن كان لا يكفي، لكن أولئك الذين عاشوا في بلاد الغرب يجهلون كثيراً من معالم تاريخ الأمة، ومن ثم فإن مواقف التاريخ الإسلامي المشرقة بدءاً بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والخلفاء الراشدين، وسائر الصحابة، والدولة الأموية، والعباسية، وغيرها في الحضارة الإسلامية التي حكمت مشرق الأرض ومغربها، فيبرز هذا التاريخ ليس لمجرد التاريخ السياسي: جاء خليفة ثم مضى وجاء آخر، وإنما إبراز الجانب الاجتماعي في تاريخ الأمة، وإبراز الجانب الحضاري في تاريخ الأمة، والجانب العلمي، إبراز هذه الجوانب المشرقة في تاريخنا الإسلامي، وأعتقد أنه يمثل حاجة ملحة لأولئك الذين يعيشون في بلاد الغرب أن نعطيهم البديل، فإنه يشعرهم بأنهم ينتمون إلى أمة عريقة، وينتمون إلى أمة قادرة على أن تبني حضارة لا تقارن بها هذه الحضارة المادية التافهة.
إن التاريخ يبرز النموذج الواقعي أمام الناس، فيقنع الناس بإمكانية تحول المثل إلى نماذج واقعية يرونها ويعايشونها، فإبراز تاريخ الأمة يمثل ضرورة ملحة في خطابنا وتربيتنا لأولادنا وبناتنا، وأرى أن المدارس الإسلامية والمراكز الإسلامية لم تقدم أنشطة للأطفال والشباب، فيجب أن يأخذ التاريخ الإسلامي والتعريف به، خاصة الجوانب الحضارية، والجوانب المشرقة، أن يأخذ ذلك مكاناً مهماً في البرامج التي تقدم.(45/9)
إبراز محاسن الإسلام
الأمر الخامس: إبراز محاسن الإسلام.
أن نبرز محاسن الإسلام لأبنائنا ولبناتنا، كيف أن الإسلام أنقذ الإنسان من الجاهلية، وأنقذه من الضلال والتيه والتخبط، وكيف أن الإسلام ارتفع بالإنسان، وكيف أن الإسلام جاء بهذا الدين العظيم الذي لا تتعارض فيه مطالب الدنيا مع مطالب الآخرة.
إننا نبرز الإسلام والدين لأولادنا على أنه تكاليف، وعلى أنه واجبات، صحيح أنهم بحاجة إلى أن يتربوا على الامتثال، لكننا بحاجة إلى نبرز الجانب الآخر، فنبرز محاسن الإسلام للناس، ونبرز أثر هذا الدين في تحرير الإنسان من عبوديته لغير الله عز وجل، وكمال هذا الدين وعظمته تؤكد على الانفصال بين حقائق الدين وبين واقع المسلمين اليوم، فواقع المسلمين اليوم لا يمثل الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام.
إذاً: إخواني وأخواتي هذا المحور الأول، وهو محور مهم: أن نضعف المؤثرات التي تؤثر على أولادنا وبناتنا من خلال تقليل فرص التعرض لها، ومن خلال تشكيل السلبية نحو الواقع الغربي، ومن خلال التثقيف تجاه الشهوات، ومن خلال إبراز الوجه الحضاري للأمة، ومن خلال إبراز محاسن الإسلام.(45/10)
تقوية المانع الداخلي الذي يجعل أبناءنا يواجهون هذه المؤثرات
المسار الثاني: أن نقوي المانع الذي يجعل هؤلاء من الداخل يواجهون هذه المؤثرات.
ومن وسائل ذلك وأهمها:(45/11)
البناء الإيماني للأبناء
الأمر الأول: البناء الإيماني، أن نعنى بتربية الإيمان في نفوس أبنائنا وبناتنا.
إن كثيراً من أساليبنا التربوية تعتمد على الأمر والنهي وعلى التوجيه، ولا شك أن الأم المسلمة حين ترى ولدها، وحين يرى الأب ولده على منكر فإنه ينهاه، وحينما يراه يقصر في واجب شرعي فإنه يأمره به، لكن ما القدر الذي تبنيه هذه البيوت، هل فيها ما يقوي الإيمان؟ هل فيها ما يصل بالله تبارك وتعالى؟ إننا بحاجة إخواني وأخواتي إلى أن نراجع هذا الأمر؛ فإن كثيراً من بيوتنا تعاني من غياب هذا الأمر، تعاني من غياب البناء الإيماني، فحياتنا صارت حياة مادية، فنفكر بالمادة، ونتناقش في أمور المادة، ونتناقش في أمور الدنيا، وقلما أن يوجد في بيوتنا ما يعمر الإيمان ويقوي الإيمان.(45/12)
تقوية الإرادة عند الأبناء
الأمر الثاني: تقوية الإرادة.
فنحن بحاجة إلى أن نقوي الإرادة عند أبنائنا وبناتنا، وأن نجعلهم قادرين على أن يقولوا لأنفسهم: لا.
حين يستوجب الموقف أن يقولوا: لا.
وأن نجعلهم قادرين على أن يقولوا لأنفسهم: نعم.
حين يستوجب الموقف ذلك، وتعويدهم على هذا يحتاج منا إلى جهد، إن الإنسان الذي يتعود على أن يضبط إرادته من خلال تأخير استجابته لدافع الطعام، أو الشراب، واسترساله في الراحة إلى غير ذلك، يستطيع أن يضبط إرادته لمواجهة ما هو أكبر من ذلك، فنحن بحاجة إلى أن نعنى بتدريب أولادنا من الصغر على أن يتحكموا في أنفسهم، على أن يضبطوا أنفسهم، على أن نقوي إرادتهم.(45/13)
تهيئة الصحبة الصالحة
الأمر الثالث: تهيئة الصحبة، والصحبة من أخطر الأشياء وخاصة عند أمثالكم الذين يعيشون في هذه البلاد، إن الشباب المسلم اليوم عرضة لأن يتعرفوا على شاب منحرف أو فتاة منحرفة داخل مجتمعهم، ولكن أولادكم هنا عرضة لأن يتعرفوا على شاب كافر أو فتاة كافرة، والقضية لا تحتمل المخاطرة، فالقضية قد تدعو إلى الكفر والخروج من الدين، وهذا يحتم علينا أن نعتني بهذا الأمر وهذا الجانب، فنحن بحاجة -إخواني وأخواتي- إلى أن نعتني بتهيئة الصحبة الصالحة لأبنائنا وبناتنا، والأمر لا يتم من خلال المزيد من الحديث معهم حول هذا الأمر، وعن أهمية هذا الأمر، فهذا وحده لا يكفي، بل لا بد من الخطوات العملية التي تهيئ لأبنائنا وبناتنا أن يصحبوا الصالحين، وذلك من خلال اختيار المكان المناسب للسكن، وليس صحيحاً أن يختار أحدكم سكنه في أقرب مكان إلى الجامعة، أو أن يختار السكن الأقرب إلى موطن عمله، بل نحتاج إلى أن نختار السكن المناسب، ولو أدى إلى أن نسير خطوات، ولو أدى إلى أن ندفع ثمناً أغلى؛ ففلذات أكبادنا وأولادنا أغلى من أموالنا، وأغلى من كل ما نبذل، فنحن بحاجة إلى أن نختار مكان السكن المناسب، من خلال المكان المناسب القريب من المسجد، من المركز، من سكن المسلمين، اختيار الجيران المسلمين، من خلال اللقاءات العائلية، فمن المهم أن نفعّل اللقاءات العائلية بيننا وبين زملائنا، وأن نصحب عائلاتنا، فإنني حينما ألتقي بزملائي بأسرنا فإن أولادنا يلتقون مع بعضهم، فتلتقي البنات مع بعضهن، بخلاف ما إذا لم نفعل ذلك فإنهم يرون النموذج الآخر، إنه لا يرى إلا الوجه الكالح، فقد يذهب إلى المدرسة، وقد يذهب إلى الشارع، فلا يرى إلا أولاد الكفار، لكن حينما يأتي ويقابل أبناء المسلمين ويجالسهم، فالهموم مشتركة ومتقاربة، فهذه اللقاءات تكثيفها والاعتناء بها أمر مهم، ولو أدى ذلك إلى أن نضحي، ويجب ألا يكون الدافع لهذه اللقاءات مجرد تقضية الوقت، ألا يكون الدافع لهذه اللقاءات مجرد إمتاع الأهل، بل يجب أن تكون هذه اللقاءات مستهدفة لتحقيق التربية، وليس بالضرورة أن يكون معيار نجاحها هو ما نقدم فيها من برامج وتوجيهات أبداً، إن مجرد اللقاء ومجرد التعارف ومجرد التآلف بين هذه الشريحة بحد ذاته له أثره الكبير على أولادنا وبناتنا.
ومن خلال المدارس: اختيار المدارس الإسلامية والمدارس المناسبة التي تهيئ لهم أن يتعرفوا على هؤلاء.
إخواني وأخواتي: أنتم أعلم بواقعكم مني، وصلتي بالحياة الغربية لا تعدو أن تكون زيارات عاجلة خاطفة، أو قراءة محدودة، وأنتم أعلم مني بالوسائل التي يمكن أن تعينكم على تهيئة الصحبة الصالحة لأولادكم.
إن الصحبة الصالحة المسلمة ضرورة ولا بد أن نسعى إليها، ليس من خلال التوجيه وحده, وإن كان التوجيه مطلوباً ومهماً، لكن من خلال الوسائل العملية التي تعينهم على ذلك، والصداقة والصحبة لا تفرض فرضاً، إنك لا تستطيع أن تلزم ولدك أن يصاحب فلاناً وفلاناً، وإنك لا تستطيع أن تلزم ابنتك أن تصاحب فلانة أو فلانة، قد تستطيع أن تنهاهم وتجبرهم وتعاقبهم، لكنك لا تستطيع أن تخرج محبتهم من قلوبهم.(45/14)
الاعتناء باختيار المدارس الإسلامية المناسبة للأبناء
الأمر الرابع: الاعتناء باختيار المدارس الإسلامية المناسبة وإلحاق الأولاد بها قدر الإمكان، وأتمنى -إخواني وأخواتي- أن ندرك الخطورة التي قد تودي بأولادنا وبناتنا حينما نحرص على أن نعلمهم نتاج العلم المادي على حساب دينهم، إنك تستطيع أن تلحق ابنك بمدارس متميزة في تعليمها، لكنك قد لا تضمن بعد ذلك لا أقول استقامته، بل لا تضمن دينه، إن الخطورة تتجاوز مجرد الانحراف، وتتجاوز مجرد وقوع الشاب في التدخين أو الوقوع في الفواحش أو الخمور، إنها قد تؤدي إلى الخروج من هذا الدين بالكلية، وقد تؤدي إلى إنكار هذا الدين.
إن القضية -إخواني وأخواتي- صعبة، وأتمنى أن تكون تطلعاتنا لأولادنا في إطارها الطبيعي، وأن نشعر أن المحافظة على دينهم أسمى شيء، وهذا يدعونا إلى أن نعتني قدر الإمكان باختيار المدارس الإسلامية المناسبة، وإلحاق الأولاد بها، وإذا اضطررنا إلى المدارس الأخرى فلنسع إلى أن ننسق لهم صداقات في المدرسة، وأن ننسق لبناتنا صداقات، وأن نبحث عن المدارس غير المختلطة إذا أتيحت مثل هذه المدارس.(45/15)
تقوية القدرة عند أبنائنا على التقويم
الأمر الخامس الذي يقوي المانع: تقوية القدرة على التقويم.
فنقوي قدرة الابن على أن يقوم الظواهر، وأن يقوم الأشخاص، وأن يقوم الأفكار، وأن تكون عنده الآلية التي تدعوه إلى إصدار الحكم الصحيح؛ لأنه ستواجهه أفكار جديدة، وستواجهه مواقف، وسيتعامل مع أشخاص وسيتعامل مع فئات، فلا بد من أن يملك القدرة على التقويم، وأن يملك القدرة على أن يعرف الشخص المناسب من غير المناسب، وأن يعرف الصواب من الخطأ، وأن يعرف المستقيم والمنحرف، والقضية ليست بمجرد معلومات وأحكام نلقنه إياها بل نحن بحاجة إلى أن نبني هذه المهارة والقدرة عنده، وأن نقوي قدرته على النقد، فيستطيع أن ينتقد ما يراه انتقاداً مبنياً على أسس موضوعية، ليس مجرد الرفض للرفض، بل يستطيع أن يقول: إن هذا الموقف غير صحيح؛ لكذا وكذا، وتستطيع الفتاة حين تخرج متحجبة أن تدافع عن نفسها، وتستطيع أن تنتقد الواقع الآخر، وأن تنتقد تلك الفتاة المتبرجة، والشاب الذي يرفض أن يقيم العلاقات المحرمة يستطيع أن يبرز موقفه، وأن ينتقد موقف الآخرين.
أن نقوي القدرة على اتخاذ القرار وهو أمر مهم، إنه يحتاج إلى اتخاذ قرارات كثيرة في حياته، وستواجهه مشكلات يقدر أن يتعايش معها، وستواجهه صعوبات في تدينه، فهو بحاجة إلى أن يملك القدرة على اتخاذ القرار الصحيح، فنحن بحاجة إخواني وأخواتي إلى أن نقوي هذه القدرات وهذه المهارات التي تعينهم على أن يكون لديهم المانع القوي الذي يحول بينهم وبين تلقي تأثيرات البيئة السيئة.(45/16)
ربطهم بأنشطة وبرامج دعوية تناسبهم
الأمر السادس: ربطهم بأنشطة وبرامج دعوية تناسبهم؛ الأبناء في محيطهم والبنات في محيطهن، فحين يفكر الابن بالدعوة، ويسعى للمشاركة في الدعوة، فإن هذا يجعله ينظر إلى نفسه نظرة أخرى، وهذا من أكثر ما يعين المرء على المحافظة على نفسه، فلنسع إلى إتاحة المجالات الدعوية لأبنائنا وبناتنا من خلال وسائل عديدة؛ من خلال الإنترنت والتواصل فيها مع المسلمين، ومن خلال الحوار حول الإسلام، ودعوة الناس للإسلام إذا كان يجيد ذلك، ومن خلال العمل في المراكز الإسلامية، ومن خلال إعداد مواد دعوية، فهناك مجالات كثيرة يمكن من خلالها أن نوظف جهود أبنائنا وبناتنا في الأعمال الدعوية.
أقول: إخواني وأخواتي إن ربطهم بالأنشطة والبرامج الدعوية التي تناسبهم وتثير عندهم الرغبة والحافز إن هذا مما يعينهم على الثبات، ونحن نلاحظ هذا في حياتنا، فأولئك الذين يمارسون الدعوة من أكثر الناس ثباتاً، والذين يقتصر تدينهم على أنفسهم من أكثر الناس عرضة للتغير.(45/17)
التعجيل بالزواج للأبناء
الأمر السابع: التعجيل بالزواج.
لئن كان الشاب والفتاة اليوم في بلاد المسلمين يؤخرون الزواج، ونعتبر ذلك خطيئة؛ فإنه أشد حينما يكون ذلك في بلاد الغرب.
أعرف -إخواني وأخواتي- أن هناك ظروفاً كثيرة تعوق المسلمين دون أن يبادروا في تزويج أبنائهم وبناتهم، وأعرف أن هناك مصاعب كثيرة، لكن حين تكون هذه القضية مهمة لدينا فإننا يمكن أن نتجاوز ذلك، فقد نلجأ إلى أن نبادر بالعقد بين الشاب والفتاة ولو لم ينتقلا إلى بيت الزوجية، ولو عاش كل منهما في بيته، فإذا أتيحت لهما فرص اللقاء فإنه حينئذ يمارس حقه الشرعي من خلال العلاقة والصلة، ويتاح له المصرف الشرعي الذي يحميه بإذن الله، ويحمي الفتاة من الانحراف والوقوع في الفساد، فلا يسوغ -إخواني وأخواتي- أن نقارن واقع أولادنا بواقعنا، وإن كنا نحن -ونحن رجال ونساء كبار- نشعر بأثر هذا الواقع السيئ علينا، فكيف بأبنائنا وبناتنا الذين يعيشون المراهقة، وكيف بأبنائنا وبناتنا الذين لا يجدون المصرف الشرعي، والذين لم تصقلهم التجارب، ولم يكتسبوا الخبرة.
أقول: نحن بحاجة إلى أن نعيد النظر في أمور كثيرة، وأن نبادر بالتزويج ولو ضحينا التضحيات، ولو غيرنا في عادات كثيرة اعتدنا عليها، فهذه الأمور السبعة تقوي المانع لأولادنا وبناتنا، وتجعلهم أبعد بإذن الله عن التأثر بما يشاهدونه في هذه البيئة.(45/18)
ضرورة اقتطاع جزء من الوقت للجلوس مع الأبناء
وهناك أمور أخرى لا بد منها، فلا بد أن نعطي أولادنا نصيباً من أوقاتنا، وأدرك أنكم مشغولون في دراستكم، ومشغولون بإعمالكم، ومشغولون بمهامكم، لكن منح الأولاد وقتاً نجالسهم فيه، ونشاركهم ألعابهم، ونشاركهم طعامهم، يعد ضرورة؛ خاصة في مثل المجتمعات التي يعيشون فيها.(45/19)
لابد من تعجيل العودة إلى بلاد المسلمين
الأمر الثاني: لا بد من أن نجعل العودة إلى بلاد المسلمين هي الخيار الأول، وأنا أدرك أن طائفة ممن يقيمون في هذه البلاد قد لا يستطيعون العودة إلى بلادهم، وأدرك أن طائفة ممن يقيمون في هذه البلاد هم ممن يقيمون إقامة مؤقتة لأغراض الدراسة، لكن هناك أعداداً ليست بالقليلة يستطيعون أن يعودوا إلى بلادهم، والأمر فقط مجرد أوضاع مادية أحسن من تلك الأوضاع التي يعيشون فيها في بلادهم، أو أنهم يضخمون الأمور الأخرى، لست أقول: إن كل من يقيم هنا كاذب في ادعائه، ولست أقول: إنه قادر على العودة، لكن أقول: اجعلوا العودة إلى بلاد المسلمين هي الخيار الأول ولو ضحيتم ببعض الفرص المادية التي قد لا تجدونها في بلاد المسلمين؛ فإن هذا أولى من أن تضحوا بأولادكم.(45/20)
أهمية زيارة البلاد الإسلامية
الأمر الثالث: من المهم زيارة الدول الإسلامية -سواء دولكم أو الدول الأخرى- قدر الإمكان، وهذه الزيارة -مهما كانت أوضاع الدول الإسلامية غير مشجعة- تجعلهم يرون الصورة الأخرى: يرون المساجد، ويرون المصلين، ويرون البيئة الإسلامية، ويرون الفارق، وحينما ندير نحن التعامل مع ما يشاهدونه من واقع في هذه الدول من خلال إبراز الوجه الآخر، وأن نبرز التواصل الاجتماعي، والكرم، والسخاء، والصور الايجابية في كثير من بلاد المسلمين والتي يفتقدونها في واقعهم الآخر الغربي، وأن نبرز الصور السيئة في الواقع الغربي، فإن هذه تربطهم بأمتهم وتربطهم بواقعهم.
لقد رأيت في بعض البلاد طائفة ممن هاجروا من الدول الإسلامية لا يفصل بين بلدهم الأصلي والبلد الذي يقيمون فيه إلا البحر، كنت أقول: لو ذهبت سباحة في هذا البحر لوصلت إلى بلدكم، ومع ذلك فإن الجيل الثاني لا يعرف لغة بلده لا يعرف اللغة العربية، ولم يزر بلده قط، وليس هناك ظروف تمنعه من ذلك.
فهذا التزاور سيتيح اللقاء بأقرانهم من الصالحين، والمشاركة في بعض أنشطتهم، فحينما تذهب إلى بلاد المسلمين تحرص قدر الإمكان على أن يلتقوا بالشباب الصالحين، وبالفتيات الصالحات، ويشاركوهم بعض الأنشطة، وهذا سيكون بإذن الله عز وجل له دور في ربطهم بأمتهم، وفي ربطهم بدينهم، وفي إبراز الصورة الأخرى من الواقع المقابل للواقع الذي يعيشونه.
أخيراً: قد نضطر إلى التعامل مع الواقع الذي يفرض نفسه، فقد لا يكون ولدك متديناً، وقد لا يكون صالحاً، وقد لا تكون بنتك كذلك، وسيبقى ولدك هو ولدك وتبقى بنتك هي بنتك، فحينما لا يكون أولادك على ما يسر فلا غنى لك عن التعامل معهم، ولا غنى لك عن تقبل هذا الوضع، صحيح أنت لا تسوغ الانحراف، ولا تقبل بالانحراف، ولا تقل: إن طريقك صحيح، لكن يجب أن تقف في نقطة وسط بين بيان الخطأ، وبيان عدم رضاك عما هو عليه، وبين تقبله، فسيبقى ولدك وستبقى ابنتك بعد ذلك.
هذه بعض الخواطر التي في ذهني حول مثل هذا الموضوع، وأدرك أن تجربتكم ومعايشتكم لا شك أنها تقودكم إلى أن تدركوا في مثل هذا الأمر ما لا أدركه، لكني استجابة لطلب الإخوة ورغبة في الحديث معكم، والذي كنت أتمنى أن يكون حديثاً مباشراً، وأن يكون كفاحاً، وأن يتم اللقاء بيننا وبينكم، لكن ما دام أنه لم يتح لنا هذا اللقاء فلا أقل من مثل هذا اللقاء البعيد الذي لا يفي بما أريد وما تريدون.
أسأل الله عز وجل أن يكون لقاء طيباً ومباركاً، ويهب لنا وإياكم من أزواجنا وذريتنا قرة أعين، ويجعلنا للمتقين إماماً؛ إنه سميع مجيب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.(45/21)
الأسئلة(45/22)
حكم مغالاة بعض الآباء في مهور بناتهم؛ لسداد تكاليف الحياة في الغرب
السؤال
بعض الآباء يغالي في مهر ابنته؛ لسداد جزء من التكاليف المادية التي يعاني منها في بلاد الغرب، ما رأيكم في ذلك؟
الجواب
لئن كان هذا الأمر ممقوتاً في بلاد المسلمين، ففي مثل هذه البلاد أعتقد أنه أكبر خطيئة، والمهر لماذا شرع؟ المهر ليس ثمناً للفتاة، والعاقل لا يتاجر ببناته، فالمهر حق لها، وأرى أنه من واجب الأب أن يبادر في تزويج ابنته إذا بلغت سن النكاح، خاصة في مثل هذا البلد، فينصح إذا وجد شاباً مسلماً محافظاً يمكن أن يقترن بابنته أن يبحث عنه ويرضى به، ولو أن المسلمين يشعرون بأن الله تعبدهم بالمهر لرأيت أن الرجل الغيور الحريص على ابنته يبذل المال هو لأجل أن يحصل على الزوج الصالح.
فأقول إخواني وأخواتي: إن المال يذهب ويأتي، وهب أنك وجدت مالاً كبيراً، وهب أن ابنتك تزوجت بشاب ثري فماذا يكون؟ فالمال يزول ويذهب، والرصيد الحقيقي هو في الإيمان وفي التقوى وفي طاعة الله، وماذا يغني -لا سمح الله- إن بقي ولدي أو بقيت ابنتي لم تتزوج، ثم أدى بها ذلك إلى الضلال والانحراف، وصارت من حطب جهنم، ماذا يغني المال؟ وماذا يغني عرض الدنيا؟ ولو سئل أي إنسان: أيهما أهم عندك دينك أم دنياك؟ فلا أعتقد أن مسلماً سيجيب بالأخرى، لكن حينما نرى واقعنا وسلوكنا فإننا نرى خلاف ذلك، فيستغرب الإنسان حين يرى المسلم يجعل بناته تختلطن بالرجال ولو كانوا صالحين! وتعلمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الاختلاط فقال: (إياكم والدخول على النساء، قالوا: فالحمو؟ قال: الحمو الموت).
والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)، فحرم الشرع الاختلاط والخلوة سداً للذريعة والفساد، فكيف إذا كانت الفتاة البالغة تختلط مع شباب غير مسلمين لا يردعهم دين، أي تربية تتربى عليها؟ وأي قيم تتلقاها؟! وأي فساد يمكن أن تصل إليه وهي تعيش في هذا الواقع، إذا كنا اليوم نعاني ونحن في بلاد المسلمين المحافظة، وبناتنا لا يدرسن في مدارس مختلطة؟! إننا نعاني من تأثير المجتمع هذا التأثير السيئ فكيف بما وراء ذلك، فإذا أتمت البنت الدراسة ولم نجد مدرسة منفصلة فأعتقد أننا لسنا بحاجة إلى أن نلحقها بهذه المدارس، فهناك فرص أخرى وبدائل أخرى، كأن نبادر بتزويجها لتكون ربة أسرة، ولا نبقيها في ظل هذا المجتمع المتعفن.(45/23)
الفصل في مسألة التردد بين اختيار المدارس الإسلامية أو المدارس الإنجليزية
السؤال
نتردد كثيراً في الاختيار بين المدارس الإسلامية رغم ما فيها من ضعف، وبين المدارس الإنجليزية؟
الجواب
لقد ذكرت في بداية حديثي أننا بحاجة إلى تضحية، وأننا حينما نريد أن نربي أولادنا ونحن في هذه المجتمعات على قيم تخالف هذه القيم، فإننا بحاجة إلى تضحية، ولهذا قد نضطر إلى أن ندخلهم في مدارس إسلامية أضعف حالاً من المدارس الإنجليزية، قد يكون فيها رسوب، وقد تكون المدرسة بعيدة، لكن نحن لا نقارن بين الأمرين على أنهما فرصتان متساويتان، ولو قارنت بين إلحاقهم بمدرسة إنجليزية أو مدرسة إسلامية على أنهما فرصتان متساويتان فإن المقارنة لن تكون مجدية، وسأشعر بتميز هذه المدرسة الإنجليزية، لكن حينما أضيف إلى ذلك الأمر الآخر فأعتقد أنني لو ضحيت بقدر من التعليم الذي يكتسبه الولد ويمكن أن أعوضه أنا من خلال الخبرات، ويمكن أن نعوضه نحن من خلال ترتيب برامج مشتركة لأولاد المسلمين تكمل لهم ما يفتقدونه في تلك المدارس؛ فإن هذا خير لنا بكثير من أن يذهبوا إلى تلك المدارس، ولو قل مستوى تعليمهم عن أولئك الذين يلتحقون بتلك المدارس، فإن التعليم العالي المتميز بدون الدين لا قيمة له.(45/24)
حكم إلحاق الأولاد بالمدارس الإنجليزية
السؤال
ماذا ترون في إلحاق الأولاد بالمدارس الإنجليزية؟
الجواب
أرى قدر الإمكان أن يكون إلحاق أولادنا بالمدارس الإنجليزية هو في دائرة الضرورة، وكلما استغنينا عن ذلك فهو أولى، وأنا أعرف أنني حينما أدخل ولدي في مدرسة إنجليزية فإنه سيجيد اللغة، وسيتعلم مهارات كثيرة إلى آخره، لكن ستكون فرص تأثره أكثر، وستكون فرص تشربه لقيم هذا المجتمع أكثر، وأعتقد أن الأولى أن اختار خيار الدين، وخيار المحافظة عليه.
مرة أخرى أقول: هناك فرص كثيرة يمكن من خلالها التعويض، يمكن أن نستأجر معلمين ومعلمات من المسلمين الإنجليز، يمكنهم أن يقدموا برامج جيدة، ويمكن أن تتعاون الجالية المسلمة على ترتيب برامج تعليمية، فهناك بدائل يمكن أن تعوض، وقد لا تصل إلى حد أن تكون مثل ما تقدمه المدارس الإنجليزية لكنها يمكن أن تعوض كثيراً مما يفتقدونه جراء عدم التحاقهم بهذه المدارس، وبخاصة أولئك الذين يقيمون إقامة مؤقتة، فهم بحاجة إلى إتقان اللغة العربية أكثر من غيرهم.(45/25)
العلاقة بين الزوجين وتأثيرها على تربية الأولاد
السؤال
ألا ترون أن من مشكلتنا في التربية تكمن في العلاقة بين الزوجين، وغياب القدوة داخل المنزل؟
الجواب
لا شك أن العلاقة بين الزوجين من أهم الأمور التي تعين على النجاح في التربية، إنها تجعل البيت أكثر استقراراً، وتجعل البيت بعيداً عن الاختلاف، وتجعل الأم تعيش في جو نفسي مريح، وتجعل الأب يعيش في جو نفسي مريح، وتجعل البيت أفضل مكان للزوج يجلس فيه، وتجعل الأم ترى أن بيتها هو أفضل مكان، والأولاد يرون صورة مثالية من التعامل، وهذا يترك أثره عليهم، وفي المقابل فإنهم حين يرون الصراع والخصومة والمشكلات بين الوالدين، فإنهم لا يمكن أن يتربوا على حسن الخلق، ولا أن يعيشوا جواً مستقراً، والأطفال يفهمون أكثر مما نتصور وأكثر مما نظنه فيهم.
الأمر الثاني الذي أشار إليه السائل هو: القدوة، فالقدوة من أهم وسائل التربية، بل بدون القدوة لا يمكن أن نربي أولادنا تربية صحيحة، فأولئك الذين لا يفعلون ما يقولون هم في واقع حالهم يأمرون الناس بقولهم، لكنهم ينهونهم بفعلهم، فالأب الذي لا يتصف بالخلق الحسن لا يربي أولاده على حسن الخلق، والذي لا يحافظ على الصلاة لا يمكن أن يربي أولاده على المحافظة على الصلاة وهكذا سائر الأمور.(45/26)
كيفية التعامل مع أسئلة الأطفال
السؤال
كيف يمكن أن نتعامل مع أسئلة الأطفال؟
الجواب
هناك مراحل عند الأطفال يكثرون فيها من الأسئلة، وهذه أسئلة أحياناً قد لا يدرك ما وراءها، ولا يمكن حتى شرحها لهم، وهذا غير الأسئلة المحرجة، وقد يسأل عن أمور الإجابة عليها تتجاوز إدراكه العقلي، فالطفل مثلاً لا يدرك المعاني المجردة وإنما يدرك الأمور المحسوسة، فعندما يسأل عن شيء فهو يحتاج إلى أن تقرب له هذا المعنى مجرداً بصورة محسوسة، وقد لا تستطيع ذلك، فلا شك أن هناك أسئلة كثيرة ترد من الطفل ربما يصعب على الوالدين أن يجيبا عليه فيها، لكن الأمر يحتاج أولاً إلى ألا نتجاهل الإجابة على السؤال خاصة إذا كان ملحاً، وأن نجعل من السؤال فرصة لتنمية قدراته ومهاراته العقلية، وأن نجعل السؤال مدعاة إلى التفكير، فلا نقدم له الإجابة مباشرة، والأسئلة التي فيها نوع من الحرج يمكن أن تقرب له الصورة فيها، فهو مثلاً حينما يسأل عن الابن كيف يأتي؟ فنقول له: إنه ينبت في بطن الأم، ثم يكبر، ثم يخرجه الله عز وجل إلى الحياة، فبمثل هذه الصورة يمكن أن تقرب له.(45/27)
تحمل نتيجة الزواج في بلاد الغرب ولو من مسلمة
السؤال
تزوجت بإنجليزية مسلمة ولي منها طفلة، فطلقتها، واستطاعت الحصول على حضانة الطفلة، فماذا أفعل وأنأ أريد العودة إلى بلادي؟
الجواب
أنت أعلم بالمداخل القانونية لمثل هذا الأمر، لكن إذا استطعت أن تأخذ ابنتك معك بأي طريقة، وبأي حق قانوني، فأولى بك أن تأخذها قدر الإمكان، وهذه المشكلة من مشكلات الزواج في هذه المجتمعات، فلا بد أن ندفع الثمن.
فأقول: إذا كان تأخرك لمدة من الزمن قد يساعدك على أن تحصل على ابنتك وتذهب بها، فأولى بك أن تتأخر؛ حتى تنقذ ابنتك من أن تعيش في هذا المجتمع، وأنا أقترح على الأخ أن يفكر في مراجعة زوجته إن استطاع قدر الإمكان ولو تحمل شيئاً من المعاناة، وما دامت مسلمة فهناك قدر مشترك بينكما فتقتنعان على الأقل بحاجتكما إلى المحافظة على ابنتكما، فتسعى للحوار بصورة تجعل الحفاظ على الأولاد وعلى دينهم أهم من مجرد أن يصر كل منكما على موقفه.(45/28)
الوسائل التي تقوي الإرادة في نفوس أبنائنا
السؤال
ما الوسائل التي ترون أنها تقوي الإرادة في نفوس أولادنا؟
الجواب
هناك وسائل عديدة يمكن أن تعين على تقوية الإرادة، منها: التعويد، فنعود أولادنا ألا يستجيبوا لكل ما تطلبه أنفسهم، والعبادات الشرعية فيها أثر كبير في تقوية الإرادة كالصيام والصلاة وغيرها، وتأخير الاستجابة، وليس تأخير الاستجابة للرغبات الذي يقوم على التحكم، وإنما به نوع من التعويد لهم، فيمكن أن يقوي الإرادة، وكذلك التعويد على التفكير في البدائل، فيعود الولد على أن يفكر ماذا سيدفع؟ أو ماذا سيأخذ وماذا سيجني إذا استجاب؟ وماذا سيجني إذا أخر الاستجابة؟ كل هذه الأمور مما يعين على تقوية الإرادة في نفوس أولادنا.(45/29)
أهمية تعليم الأبناء اللغة العربية
السؤال
كيف ترون أهمية تعليم الأولاد اللغة العربية؟
الجواب
اللغة العربية مهمة؛ لأنها أولاً: هي الوسيلة لفهم القرآن، ولفهم السنة، ولفهم الكتب الإسلامية، ولفهم كلام أهل العلم.
ثانياً: أنها تعطيه شعوراً بالانتماء للأمة العربية والأمة المسلمة، فإذا قابل مسلماً فإنه يستطيع أن يتحدث معه، وتهيئ له فرص الحوار مع إخوانه المسلمين من العرب، فما يتاح من مواد دعوية، ومن مواد خيرة متنوعة في الإنترنت وغيرها هو باللغة العربية، فيمكن أن يتعامل معها، فيعيش الأبناء حينها هموم العالم الإسلامي، ويعيشون أخباره، ويعيشون واقعه، وأما حينما تكون اللغة مختلفة فإنهم يعيشون بصورة معزولة، فإذا عرف الابن اللغة العربية فإنه يفهم القرآن إذا قرأه، وتؤثر فيه السنة، ولا شك أن لهذا أثراً كبيراً في استقامة الأولاد على طاعة الله عز وجل وعلى دينه.(45/30)
حكم تربية الأولاد على أن يقولوا لكل من وجدوه من الكفار يا كافر
السؤال
ما رأيكم في تربية الأولاد على أن يقولوا لكل من يقابلونه من الكفار يا كافر؟
الجواب
لا اعتقد أن هذا مناسب، ولم يكن هذا من شأن المسلمين، فالنبي صلى الله عليه وسلم عايش اليهود في خيبر، وعاش أهل الذمة في بلاد المسلمين، صحيح أنه كان لهم أحكام خاصة، لكن لم يكن من شأنهم أنهم كل من يلقونه يقولون له: يا كافر، والصورة تختلف الآن، فالأبناء يعيشون في وضع هم فيه ضعفاء مستضعفون في هذه المجتمعات، فهذا الأمر لا يحقق المصلحة، وهذا الأمر يقودهم إلى أن يختلفوا معهم، ويقودهم إلى أن يتصارعوا معهم، وقد يقودهم إلى مواقف قد لا يستطيعون بعد ذلك الدفاع عنها والثبات عليها.(45/31)
أثر المدارس الإنجليزية على أولاد المسلمين
السؤال
ما تقييمكم لأثر المدارس الإنجليزية على أولاد المسلمين؟
الجواب
أعتقد أنكم أعلم مني بذلك، لكن من أهمها: أن الذين سيدرسونهم غير مسلمين وغير مسلمات، وأن الطلاب الذين يدرسون معهم غير مسلمين، فهي مدارس مختلطة، مدارس الدين لا يمثل شيئاً فيها، ولا قيمة له فيها، يدرس فيها كل شيء إلا الدين، بل يدرس العالم المادي، وهذه من أخطر الأشياء التي يمكن أن تؤثر على أولادنا، البيئة السائدة في المدرسة، المناهج، النظام، فلسفة الحياة، النظرة إلى الحياة، كل هذه الأمور هي من نتاج هذه المدارس.
جزاكم الله خيراً، وبارك فيكم وأثابكم، وأسال الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم من المتحابين فيه، إنه سميع مجيب، وصلى الله على سيدنا محمد، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(45/32)
التربية الجادة ضرورة
إن المجتمعات والمؤسسات التربوية، والتجمعات بل الأفراد جميعاً يمارسون التربية لأنفسهم، ولكن ليست هذه التربية هي التي نريد، فنحن نريد التربية التي تهيئ المرء ليكون عبداً حقاً لله سبحانه وتعالى، ليكون أهلاً أن يحمل هذه الرسالة وأن يتحمل تكاليف هذا الدين، ومن ثم كان لابد من الحديث عن التربية الجادة.(46/1)
التربية التي نريد
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
أما بعد: فهذا هو الدرس السابع من الدروس التربوية أسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعل فيها الخير والبركة، وأن يعيننا على إتمامها والاستفادة منها.
وهذا الموضوع إنما هو امتداد للموضوع السابق، فنحن كما أننا بحاجة إلى القناعة بأهمية التربية والحديث عن ضرورتها، والعناية بها نحن كذلك نحتاج إلى نوع من التربية، إن المجتمعات والمؤسسات التربوية، والتجمعات بل الأفراد جميعاً يمارسون التربية لأنفسهم، وليست كل تربية هي التربية التي نريد، فنحن نريد التربية التي تهيئ المرء ليكون عبداً حقاً لله سبحانه وتعالى، ليكون أهلاً أن يتحمل هذه الرسالة وأن يحمل هذا الدين، ومن ثم كان لا بد من الحديث عن التربية الجادة.
وقد نتساءل ماذا نعني بالتربية الجادة، لعل هذا التساؤل تزول الحاجة له عند الحديث عن جوانب هذا الموضوع، ولكننا يمكن أن نقول باختصار: إن التربية الجادة يمكن أن نعرفها من خلال برامجها، فهي تلك التربية التي تحتوي على برامج جادة وعلى برامج طموحة تهدف إلى الارتقاء بالمتربي إلى منازل عالية وإلى منازل الرجال.
ويمكن أن نتعرف إليها من خلال الهدف التي تؤدي إليه، والنتيجة التي تصل إليها ألا وهي إعداد الرجل الجاد، الرجل الجاد ليس هو قليل الدعابة والهزل، الرجل الجاد هو صاحب الهدف، الذي يسري في أعماقه وروحه، الرجل الجاد هو من يتوجه بالعبادة الحقة لله سبحانه وتعالى، هو الجاد في طلبه للعلم الشرعي، هو الجاد في دعوته إلى الله عز وجل، هو الرجل القادر على اتخاد القرار الحاسم في الوقت المناسب، هو الرجل الشجاع، هو الرجل غير الهياب، إن مواصفات الرجل الجاد مواصفات أشمل وأتم من أن تكون ذاك الرجل قليل الضحك كما قد يتبادر للذهن، وماذا نريد من إنسان صموت قليل الضحك قليل الكلام وهو في مقابل ذلك قليل العمل وقليل الإنتاج، فلعل بعض الجمادات تكون أكثر هدوءاً وأقل كلاماً وحديثاً من الكثير من أولئك، وما تغني شيئاً، فنحن نريد بالرجل الجاد الرجل العامل الذي يقول الكلمة حين ينبغي أن تقال، يعمل العمل حين ينبغي، صاحب المبادرة في حياته كلها، ونحن بحاجة إلى أن نتخلص من وهم الجماهير والانخداع بها.
إننا نرى الآن أفواجاً هائلة تفد إلى الله سبحانه وتعالى، ونرى هذه الصحوة المباركة تمتد على قنوات ومجالات شتى، وهي ظاهرة ولا شك تبشر بالخير وتسر كل مسلم، ولكننا ينبغي أن لا نفرط في التفاؤل وأن لا نعطي هذه الجماهير أكبر مما تستحق، وأن لا نعول عليها فقد تخذلنا حين نحتاج إليها، {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25]، ونخشى أن تتحول هذه الغثائية التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنها ستصيب الأمة: (قالوا: أومن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل) نخشى أن تتحول هذه الغثائية إلى تيار الصحوة، فيصبح عندنا تياراً قوياً جارفاً فيما نتصور، ولكنه غثاء كغثاء السيل.
إنني لست أتشاءم ولا أقلل من الإنجازات، ولست أنظر بنظرة سوداوية إلى إنجازات هذه الصحوة، ولكنني أيضاً أخشى أن يصيبنا داء غيرنا الذين يتحدثون عن الإنجازات ويتحدثون عن الأرقام ويهتمون بالعدد، وأن ترى الحديث كثيراً في القرآن في ذم الاغترار بالكثرة والاغترار بالعدد، إننا مع حرصنا على تكثير سواد الصحوة وعلى سواد المنتمين لهذا الطريق والخير ينبغي أن لا نخدع بهذه الجماهير، وينبغي أن نشعر ونوقن أن هذه الجماهير بحاجة إلى تربية، تربية جادة، تربية عميقة، تربية طويلة تحتاج إلى جهود يتظافر عليها الجميع، وما كنا نظن أنه سيأتي الوقت الذي نحتاج إلى أن نقنع الناس بالحاجة إلى التربية، أن نتحدث عن أهمية التربية والحاجة إليها، إنها قضية ينبغي أن تكون بدهية، ينبغي أن تكون مستقرة لدى الجميع، وقد كانت كذلك فترة من الزمن ولكن حين امتد الخير وانتشر رواقه، ودخل من دخل أصابنا ما أصابنا فأصبحنا بحاجة إلى أن نقرر البدهيات، وبحاجة إلى أن نتحدث عن أهمية التربية، إننا الآن بحاجة إلى أن نتحدث عن وسائل حديث في التربية، بحاجة إلى أن نتحدث عن مشكلات تربوية، بحاجة إلى أن نتحدث عن برامج التربية عن مضمون التربية وما يتعلق بها، وينبغي أن نتجاوز تلك المرحلة التي نقنع فيها الناس بضرورة التربية والحاجة إلى التربية، هذا مدخل بين يدي هذا الموضوع، والذي سيتضمن النقاط الآتية، مبررات المطالبة بالتربية الجادة، ثمار التربية الجادة، صور من نتائج التربية الجادة، حين تتخلف التربية الجادة، والمفاهيم المغلوطة، مقترحات للنقلة.(46/2)
مبررات المطالبة بالتربية الجادة
إننا حين نطالب المربين جميعاً سواء كانوا آباءً أو أساتذة أو معلمين، سواء كانوا مشايخ في حلق العلم، أو كانوا طلبة للعلم في برامجهم مع إخوانهم، أياً كان أولئك المربين إننا حين نطالب هؤلاء بالتربية الجادة ننطلق من مسوغات ومبررات عدة أولها ما سبق الحديث عنه في الدرس السابق الذي أشرت إليه: حاجتنا إلى التربية.
ولقد ذكرت هناك مسوغات عدة تبرر الحاجة الملحة للعناية بالتربية، لعلي أذكرها الآن إجمالاً، منها:(46/3)
مسوغات سبق الحديث عنها
ضخامة الدور المنوط بهذه الصحوة.
كثرة الفتن والمغريات.
أن هناك معان لا يمكن تحقيقها إلا من خلال التربية، معاني الصبر والوفاء والكرم والشجاعة إلى غير ذلك.
عمق الخلل التربوي في المجتمع، الخلل في واقع الصحوة، الفصام في المؤسسات التربوية بين النظرية والتطبيق، توسع مجالات الدعوة وجوانبها.
تلك أمور سبق الحديث عنها بالتفصيل والإفاضة في ذلك الدرس.
تحدثنا عنها وذكرنا أنها مسوغات للمطالبة بالتربية، وهي الأخرى أيضاً مسوغات للمطالبة بالتربية الجادة، ومن هنا فلست بحاجة إلى تكرار الحديث عنها، فمن لم يحضر الدرس عليه أن يرجع إليه ويستمع إليها حينئذ، أنتقل إلى مسوغات أخرى غير تلك المسوغات، منها:(46/4)
نصوص الكتاب والسنة
أننا حين نقرأ في نصوص الكتاب والسنة نجد أن هناك نصوصاً متضافرة في الكتاب والسنة تخاطب المسلمين على أن الأمر أمر جد، أن الأمر يحتاج إلى أن يؤخذ بجدية، يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، ويقول الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [المزمل:1] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل:2 - 5].
لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحمل أمراً ثقيلاً، أمراً جاداً كان يحتاج معه إلى أن يفرض عليه صلى الله عليه وسلم قيام الليل هو وأصحابه، فقاموا شهراً حتى ورمت أقدامهم ثم نزل التخفيف بعد ذلك، واختلف هل بقي قيام الليل واجباً على النبي صلى الله عليه وسلم أم أنه نسخ وصار في حقه نافلة، هذا الموضوع لا يعنينا، لكن لماذا فرض على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين قيام الليل في تلك الفترة؟ أخبر الله سبحانه وتعالى بالحكمة، {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:2 - 6].
لقد كان هذا القول الذي تلقاه النبي صلى الله عليه وسلم ثقيلاً، هل كان ثقيلاً بألفاظه وحروفه؟ أبداً فهو ميسر {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]، لكنه كان ثقيلاً بتبعاته، كان ثقيلاً يحتاج إلى نفس جادة، إلى نفس تربت تربية تؤهلها لأن تحمل هذه الرسالة.
من هذه النصوص قول الله سبحانه وتعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ * وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران:142 - 143].
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
إن هذه النصوص من كتاب الله سبحانه وتعالى تعطينا دلالة واضحة على أن الأمر أمر جد، أن الأمر يحتاج إلى نفوس عالية، وإلى همم تربت تربية جادة عميقة تحتمل هذا الأمر وتحمل هذا الدين.(46/5)
كيفية بداية الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم
أمر ثالث: كيف بدأ الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم؟ لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتحنث في غار حراء ويتعبد فبينما هو كذلك أتاه الملك فغطه غطة قوية حتى بلغ منه الجهد فقال: (اقرأ قال: ما أنا بقارئ، ثم أرسله ثم غطه ثم أرسله ثلاث مرات، ثم قال: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ} [العلق:1 - 2] فعاد النبي صلى الله عليه وسلم يرجف فؤاده إلى خديجة رضي الله عنها)، ما السر أن يأتي الوحي بهذه الطريقة وبهذه القوة؟ إنه إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحمل قضية جادة، قضية تحتاج إلى همة وعزيمة قوية.
إن الإجابة على هذا كله نقرأها في قوله سبحانه وتعالى، في هذه الآيات التي هي من أول ما نزل: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:5 - 6].
وحين نقرأ سنة النبي صلى الله عليه وسلم نجد الكثير من النصوص التي تؤيد ما نقول، فهو صلى الله عليه وسلم يقول: (حجبت الجنة بالمكاره، وحجبت النار بالشهوات) إن طريق الجنة طريق محفوف بالمكاره فلن يوصل إلى الجنة إلا من خلال سلوك هذا الطريق، الطريق المليء بالمكاره والأشواك، إذاً فلن يسلك هذا الطريق إلا الرجل الجاد، إذاً الرجل الذي سيتربى ليصل إلى هذه المنزلة وليحقق هذا الهدف بحاجة إلى أن يتربى تربية جادة ليتأهل لبلوغ وتجاوز هذه المكاره، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (استعن بالله ولا تعجز) (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف) يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم كل مسلم في هذه الأرض أن يستعين بالله ولا يعجز، أن يكون رجلاً هماماً، رجلاً صاحب قرار يستعين بالله سبحانه وتعالى ولا يعجز ويدع الكسل.
أيضاً من المؤيدات والمبررات دعاؤه صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو، بل كان يدعو كل صباح: (اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل) إن العجز والكسل من أكبر معوقات الرجل الجاد، إن الرجل غير الجاد لا يمكن أن نصفه بأدق من هذا الوصف: إنه رجل عاجز وكسول، ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يستعيذ بالله كل يوم من هذا الداء من العجز والكسل، إذاً فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعله رجلاً جاداً، رجلاً متخلصاً من هذه العوائق.(46/6)
ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة
رابعاً: ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة، حديث يحتاج إلى وقفة، يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا عاد أحدكم أخاه فليقل: اللهم اشف عبدك فلاناً ينكأ لك عدواً أو يمشي إلى الصلاة) والحديث رواه الحاكم من حديث ابن عمر، ورواه أيضاً الحاكم والإمام أحمد وأبو داود من حديث عبد الله بن عمرو.
إن هذا الحديث يعطينا شعوراً بأن وظيفة المسلم وظيفة جادة، وظيفة عمل، فهو يدعى له بالشفاء لأجل أن ينكأ العدو أو يمشي إلى الصلاة، يدعى له بالشفاء لأجل أن يبادر فينكأ العدو ويهين العدو ويواجه العدو فيجاهد في الله سبحانه وتعالى، ويمشي إلى الصلاة وإلى عبادة الله عز وجل، إذاً فهو حين يسعى إلى الشفاء وحين يدعى له بالشفاء لا يدعى له بالشفاء لمجرد أن يكون صحيح البدن سليماً، إنما لأجل أن يعود إلى دوره الطبيعي في الحياة، وهو أن ينكأ العدو أو يمشي إلى الصلاة، وهذا يعطينا دلالة على أن الأصل في حياة المسلم حال الصحة أن ينكأ العدو ويمشي إلى الصلاة، وليست القضية مربوطة فقط بقضية الجهاد وحدها والمشي إلى الصلاة، إنما هي رمز فنكء العدو يتمثل في أن يكون المرء جاداً عاملاً لخدمة دين الله سبحانه وتعالى، يكون شوكة في حلوق أعداء الله عز وجل أياً كان هؤلاء الأعداء، ينكؤهم بالكلمة الصادقة، ينكؤهم بالعمل الجاد المثمر، ينكؤهم بالجهاد في سبيل الله حين يرفع لواء الجهاد، إنه رجل يحمل في قلبه العمل والحيوية والهم لهذا الدين، وهو أيضاً يمشي إلى الصلاة، فهذا رمز لاجتهاده وجده في عبادة الله سبحانه وتعالى.(46/7)
الأصل في الحياة الجدية
هذا هو المبرر الخامس، أن الحياة أصلاً لا يعيش فيها إلا الرجل الجاد، تأمل في تاريخ الدول والأمم ترى الأمة التي سادت وكونت حضارة لا بد أن تكون أمة جادة، لا بد أن يملك أفرادها قدراً من الجدية يؤهلهم إلى أن يصلوا إلى هذه المنزلة وإلا لن يصنعوا شيئاً، وإلا سيكونوا كبني قومنا من المسلمين الذين تتاح أمامهم الموارد الكثيرة: الموارد الاقتصادية، والموارد البشرية وكل الطاقات والإمكانات متاحة للمسلمين، لكنك تجد أنه يغلب عليهم الكسل والتواني ودنو الهمة، ومن ثم فاقهم وسبقهم غيرهم، أنت لا ترى شعباً حقق انتصاراً وحقق إنجازاً أياً كان هذا الإنجاز، إنجازاً مادياً، إنجازاً عسكرياً، إنجازاً في نظم الحياة إلا وترى وراء ذلك رجالاً جادين أياً كان أولئك الرجال، صاحب الدنيا والمال إنه رجل جاد لا يمكن أن يحصل المال ويكسب ويربح إلا ذاك الرجل الجاد الذي يفرغ حياته ووقته لكسب هذا المال والاحتيال عليه بأي وسيلة وأي طريقة بغض النظر عن سلامة طرقه وعن سلامة منهجه، لكنه رجل لم يحصل ما حصل إلا بالجد، إنك حين تتأمل في هذه الحياة ترى أنه لا يمكن أن يحقق امرؤ نجاحاً إلا من خلال الجد والعمل.
فالمؤسسة التي تريد أن تحقق نجاحاً لا بد أن تكون مؤسسة جادة، الفرد الذي يريد أن يحقق النجاح في حياته الخاصة في دراسته، في تعلمه، في أي شأن من شئون الحياة لا بد أن يكون رجلاً جاداً.
الأمة والدولة لا يمكن أن تنجح ولا يمكن أن تحقق الإنجازات إلا عندما تكون جادة، تعمل أكثر مما تتكلم، تحمل رجالاً صادقين جادين عاملين أكثر من مجرد مهرجين وأناس يجيدون فن النفاق والحديث، ومن هنا فعندما تتأمل في التاريخ القديم والحديث ترى أن هذا سر من أسرار نجاح الجميع.(46/8)
جهاد وجهاد لا قتال فيه
الأمر السادس: جهاد وجهاد لا قتال فيه، تقول عائشة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم: (نرى الجهاد أفضل الأعمال أفلا نجاهد؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: عليكن جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة) هنا عائشة تقول: نرى الجهاد أفضل الأعمال، هذا الجهاد هو أفضل الأعمال، وهو الذي لما قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: دلني على عمل يعدل الجهاد في سبيل الله.
قال: لا تطيقونه فعندما ألحوا عليه، قال: (هل تطيق إذا خرج المجاهد أن تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام؟ قال: من يطيق ذلك؟ قال: لا يعدل الجهاد شيء)، هذا الجهاد ذروة سنام الإسلام، وقد يطيب لنا أن نسمع الحديث عن الجهاد وعن البطولات، نقرأ في الكتب، نسمع الروايات عن البطولات مع الجهاد، ويستلقي الإنسان على فراشه ويمني نفسه بالجهاد لكنه ينسى أن الجهاد يعني: قعقعة السلاح، الجهاد يعني: الخوف، يعني: الرعب، يعني: مواجهة العدو، يعني: مواجهة الأخطار كلها، يعني: أن يواجه الحرب والبرد والخوف والهلع والجوع والظمأ والعطش، يعني: أن يواجه كل ما يواجهه الإنسان من مصائب في هذه الحياة، هذا الجهاد الذي فرضه الله على المسلمين، والذي يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق)، أليس يعطينا دلالة أن الأصل في حياة المسلمين هي الحياة الجادة؟ أليس يعطينا دلالة أننا بحاجة إلى أن نربي الرجال الذين يتهيئون لهذه المواقف.
أما الإنسان الذي يفزع بمجرد أي موقف، الذي يخاف ويذعر من مجرد أي صيحة، الإنسان الذي ليس لديه أي استعداد أن يتحمل الجوع والعطش والحر والبرد لا يتحمل هذه الأمور ليس مؤهلاً أن يعيش في الحياة فضلاً أن يكون مؤهلاً لأن يجاهد.
ثم جهاد لا قتال فيه الحج، الحج الذي يعنيه النبي صلى الله عليه وسلم ليس الحج الذي يحصل الآن، والذي تتنافس فيه مؤسسات الحج في تقديم وسائل الراحة، يبعد مخيمنا عن الجمرات 100 متر فقط، أو 40 متر فقط، لدينا معجون أسنان، لدينا مشروبات على مدار الساعة إلى غير ذلك، ليس هذا هو الحج الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم، ولعلكم جميعاً أدركتم الحج الذي فعلاً فيه المشقة والتعب والنصب، هذا الحج الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه جهاد لا قتال فيه، هذه صورة من الأعمال فعلاً والعبادات التي يجب أن يكون المسلم متهيئاً لها، فهذا الجهاد يجب على كل المسلمين أن يحدثوا أنفسهم به، الحج فرض على كل مسلم أن يؤديه مرة في العمر، هذا الحج الذي كان يركب فيه المسلم راحلته وكان يتعب وينصب إلى وقت قريب جداً أدركناه جميعاً، كنا نعرف أن الحج هو عنوان المشقة والتعب؛ ولهذا عندما يقال: فلان مريض فيسأل: ما به؟ يقال: قدم من الحج، لا يستغرب الناس؛ لأن الأصل أن الذي يقدم من الحج أن يصاب بالمرض أو على الأقل التعب والإرهاق.(46/9)
الفتن
سابعاً: الفتن، فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن تحاصر المرء في مجتمعاتنا الإسلامية لا يصمد أمامها إلا الرجل الجاد، الرجل الذي تربى تربية جادة، وقد سبق الحديث عنها في الدرس الماضي.(46/10)
كيف ساد الرجال
ثامناً: كيف ساد الرجال؟ حين نقرأ في سير السلف، نرى أمراً عجباً كيف كان أولئك يتربون التربية الجادة؟ كيف كان أولئك ينظرون إلى الحياة، يقول عبد الله بن الإمام أحمد عن أبيه: سمعت أبي يقول: كنت ربما أردت البكور في الحديث فتأخذ أمي بثيابي وتقول: حتى يؤذن الناس أو يصبحوا، وكنت ربما بكرت إلى مجلس أبي عياش وغيره، الإمام أحمد يريد أن يخرج إلى الدرس قبل أن يؤذن الفجر فتأخذ أمه بثيابه رحمة به وشفقة عليه حتى يؤذن الناس، والآن عندما تطلب من أحد الشباب موعداً بعد الفجر، أو الساعة السابعة يقول لك: يا أخي صعب.
يعني: ما نستطيع نرتاح قليل، إلى غير ذلك من أساليب الاعتذار التي تنم فعلاً عن تخلف الجدية.
ابن أبي حاتم يقول: كنا بمصر سبعة أشهر لم نأكل فيها مرقة، نهارنا ندور على الشيوخ، وبالليل ننسخ ونقابل، فأتينا يوماً أنا ورفيق لي شيخاً فقالوا: هو عليل، أيك وجدوا فرصة ليأكلوا طعاماً دسماً، لما أتوا للشيخ ووجدوه مريضاً، قال: فرأيت سمكة أعجبتنا فاشتريناها، فلما صرنا إلى البيت حضر وقت مجلس بعض الشيوخ، فمضينا فلم تزل السمكة ثلاثة أيام وكادت أن تنتن فأكلناها نيئة، لم نتفرغ لنشويها، ثم قال: لا يستطاع العلم براحة الجسد.
والآن عندما تقدم للشباب وجبة غير مناسبة لهم تسمع الحديث والكلام: وجبة جافة إلى غير ذلك من التمعر والحديث، فليس عنده استعداد أن يتحمل أن يجوع يوماً من الأيام أو على الأقل أن يشبع، لكنه من طعام لا يشتهيه، أولئك الرجال إذا كنا جادين نريد أن نتربى مثل أولئك الرجال، فلنقرأ في سيرهم ونعرف كيف كانوا؟(46/11)
كيف انتصرت الدعوات
تاسعاً: كيف انتصرت الدعوات، نحن نحلم أن نرفع راية الإسلام، نحلم أن نرفع الغشاوة عن هذه الأمة، أن ننصر الإسلام، ونتخيل أننا بهذه النفوس المريضة وهذه التربية الهزيلة نستطيع أن ننتصر، لعلنا قرأنا جميعاً غزوة أحد، قرأنا غزوة الخندق، جيش العسرة، قرأنا النماذج وقرأنا سير الدعاة والمصلحين والمجددين مما يضيق الوقت عن عرض الأمثلة منه فرأينا كيف انتصرت الدعوات، {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، نحن بين خيارين إن كنا نريد أن نحقق النصر، إن كنا نريد أن ننصر هذه الدعوة فلنعلم أن الطريق شاق، طريق يحتاج إلى رجال، يتربون تربية جادة، تربية حازمة، وإن كنا نريد أن نسير الهوينا فعلينا أن نعلم أن الثريا أقرب إلينا مما نريد.(46/12)
أول الأربعة
عاشراً: أول الأربعة، استعاذ النبي صلى الله عليه وسلم: (من علم لا ينفع) في أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم وأحمد عن زيد بن أرقم، وما رواه أحمد وابن حبان والحاكم عن أنس، وما رواه الترمذي والنسائي عن ابن عمر، وما رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة والحاكم عن أبي هريرة، وما رواه النسائي أيضاً عن أنس، كل هذه الأحاديث يستعيذ فيها النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع، وفي بعضها يقول: (اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع، وعلم لا ينفع، أعوذ بك من هؤلاء الأربع).
ويقول صلى الله عليه وسلم أيضاً: (سلوا الله علماً نافعاً، وتعوذوا بالله من علم لا ينفع) رواه ابن ماجة وابن حبان من حديث جابر.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (علم لا ينفع ككنز لا ينفق منه) إذاً فالنبي صلى الله عليه وسلم يحذرنا من العلم الذي لا ينفع، وعندما تقرأ في كتب آداب العالم والمتعلم تجد أن السلف يحذرون من الانشغال بالعلم الذي لا ينفع، ماذا يعني هذا؟ أليس يعني: الجدية؟ أليس يعني: أن يكون المرء جاداً، حتى طلب العلم، حتى تعلم العلم، لا يسأل ولا يتعلم إلا ما ينفعه، لقد عاتب الله سبحانه وتعالى عباده، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا} [البقرة:189].
سأل الناس عن الهلال ما باله يبدو صغيراً ثم يكبر؟ فأجابهم الله بغير سؤالهم: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] بما ينفعهم، ثم قال: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى} [البقرة:189].
قيل في تأويل هذه الآية: إن معنى هذه الآية أن سؤالكم عما لا ينفع إنما هو إتيان للبيوت من ظهورها، فأتوا البيوت من أبوابها، ائتوا العلم من الطرق الموصلة إليه، واسألوا عما ينفعكم.(46/13)