الخلوة بالله في أوقات الإجابة
السبب السادس: الخلوة بالله عز وجل في وقت تنزل الله، وقيام الليل بين يدي الله عز وجل، والتأدب بمناجاته: إنما قالوا التهجد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التسجد هبت الريح الرطيبة وأذان من بلال ادخلوها آمنين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
هذا الإمام الأوزاعي دخلت إحدى الجارات في بيته في الصباح فوجدت بللاً في مصلاه، فعاتبت زوجته فقالت لها: ثكلتك أمك تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ! قالت: ما هذا بول الصبيان، إنما هذا من أثر دموع الشيخ وهو يبكي في الليل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل، وأفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم).(34/9)
مجالسة المحبين الصادقين
السبب السابع: مجالسة المحبين الصادقين، والتقاط أطايب كلامهم: فهذا دواء من أدوية القلب، كما قال إبراهيم الخواص، وإذا كان مجرد أنك تعرف كتبهم وهم موتى فيحيي الله عز وجل قلبك -ومن ذلك عندما تقرأ كلام الإمام ابن القيم أو ابن رجب أو ابن الجوزي أو غيرهم- فما ظنك برؤية وجوههم.
يقول صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رؤوا ذكر الله تعالى برؤيتهم) حسنه الألباني.
الصالحون عندما تقعد معهم تتأدب بآدابهم، وإن شيخك من حدثك بلحظه قبل أن يحدث بلفظه، ومن لم ينتفع بسمت العالم لا ينتفع بعلمه.
يقول الإمام ابن المبارك: طلبنا الأدب عندما فاتنا المؤدبون.
فلا بد من الجلوس مع المحبين الصادقين، والتقاط أطايب كلامهم.(34/10)
قطع كل سبب يحول بينك وبين الله
السبب الثامن: مباعدة كل سبب يحول بينك وبين الله عز وجل، وقطع جميع العلائق والعوائق: أيُّ شيء يقطعك عن الله عز وجل فاقطعه، وكذلك أي شخص يضيع عليك وقتك وعمرك.
احذر الفوت في هذه الدنيا وضياع الوقت، فإن الفوت أشد من الموت، فإن الموت يقطعك عن الدنيا وأهلها، أما الفوت فإنه يقطعك عن الله والدار الآخرة؛ ولذلك جاء أناس إلى معروف الكرخي فأطالوا عنده الجلوس، فقال: إن ملك الشمس يسوقها فما تريدون القيام؟ وكان داود الطائي يسف خبزه سفاً ويقول: بين السف والمضغ خمسون تسبيحة.
قاطع الطريق من الدنيا يقطع جيبك، أما قاطع الطريق إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة فإنه يقطع ما بينك وبين الله عز وجل، فإياك وأهل الغفلات! اصحب من يحملك في سيرك إلى الله عز وجل، لا من تحمله، كما يقول العلامة ابن القيم: ولا تتخذ في السير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا(34/11)
الزهد في الدنيا
السبب التاسع: الزهد في الدنيا: جاء في حديث سهل بن سعد الذي رواه الإمام البيهقي والطبراني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس).
لو طلبت الدنيا بأسرها فهي حقيرة، كأنك تركت شيئاً أقل من جناح البعوضة، وأشد الزهد في الدنيا قصر الأمل، وزهدك في نفسك وفي الرئاسة، إن الرجل قد يزهد في المال والطعام، ولكنه لا يزهد في الجاه ولا في الرئاسة.
الدنيا حقيرة، ووحل مستنقع آسن، حياة تليق بالديدان والحشرات والهوام والزواحف والسباع، حياة لا تليق بمن شبوا عن الطوق، الحياة الدنيا لعب، الذي يريد السباق والغلاب وطلاب الآخرة فأمامه أفق عريض، وغاية تستحق الغلاب، وهو ما عند الله عز وجل، أما الدنيا فهي أسيفة فلا تركنوا إليها.(34/12)
الإخلاص والصدق مع الله والإحسان والمراقبة والرفق والرحمة
السبب العاشر: الإخلاص: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب العبد الغني التقي الخفي)، لابد أن يكون للعبد خبء من عمل صالح بينه وبين الله عز وجل لا يطلع عليه أحد.
السبب الحادي عشر: الصدق؛ فقد قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
سئل الإمام أحمد عن الصدق والإخلاص فقال: بهذا ارتفع القوم.
السبب الثاني عشر: الإحسان، {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] فمن أحب الله فعله أحب ذاته، والإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
الأسباب الثالث عشر إلى الخامس عشر: المراقبة لله تبارك وتعالى، والرفق والرحمة: إن الله رفيق يحب أهل الرفق، فهذا حديث صحيح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله).
وقال: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وقال: (إن الله يحب سمح البيع، سمح الشراء، سمح القضاء).
ولا بد أن تكون عالي الهمة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفاسفها).
لا تقل لي: نادي الأهلي عمل في تونس كذا أو عمل في أدغال أفريقيا، أين الناس المجانين الذين يركبون السيارات الصفراء أو الحمراء، ومعهم أعلام حمراء وبيضاء، ويشغلون (الكوتشات) في الشارع؟! يا سبحان الله! هؤلاء حجروا على عقولهم والله، وبعضهم يصرف في شريط أغان سبعة جنيهات، شريط أغان كلها تافهة! اسمها: من سرق العمود! يأتيني شخص يبيع الشريط بسبعة جنيهات، والناس يسبونه كيف تستمع إلى شريط مثل هذا وفيه مزامير، فأين أنت من مزامير القرآن؟(34/13)
حسن الخلق والجود والكرم
السبب السادس عشر: حسن الخلق: إن الله يحب معالي الأخلاق وأشرافها، ويكره سفسافها، وأثقل شيء في الميزان حسن الخلق، كما قال سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم.
السبب السابع عشر: الجود والكرم: يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله جواد يحب الجودة، وكريم يحب الكرماء).
وفي هذه الأيام تجد اليتامى والمساكين والفقراء محتاجين إلى الطعام إلى اللحم فماذا ستؤكلونهم أنتم؟! وهذا المسجد ولله الحمد يعطي الفقراء واليتامى والمساكين، فساعدوا أهل هذا المسجد، أعط على الأقل خروفاً، أنزل اليتامى هؤلاء منزلة ابنك بعد أن فقدوا العائل، ولا تدري ما يصنع الله في الأيام! فحاول بقدر الإمكان أن تنفق عشرة جنيهات عشرين جنيهاً ثلاثين جنيهاً، فإنها تصل إلى أيد أمينة، وستذهب إلى أهلها: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال سرور تدخله على مسلم، أو تقضي عنه ديناً، أو تطرد عنه جوعاً)، وفي رواية: (أو تطعمه خبزاً).(34/14)
المتابعة
السبب الثامن عشر: المتابعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31].
فالمتابعة تعطيك صفة المحب لله عز وجل، وهي متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله، والعبد يسير بين هجرتين، هجرة إلى الله عز وجل، وهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم: (وجبت محبتي للمتحابين في، والمتجالسين في، والمتزاورين في).(34/15)
التواضع والحياء
السبب التاسع عشر: التواضع: قال تعالى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا} [الفرقان:63].
السبب العشرون: الحياء: (إن الله حيي ستير يحب أهل الحياء).(34/16)
حب صحابة رسول الله
السبب الحادي والعشرون: حب الأنصار وحب صحابة رسول الله: كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحب حسيناً أحبه الله).
(يعجب ربك من شاب ليس له صبوة)، يعني: يترك شهواته ويوقف روحه لله تبارك وتعالى.
وأيضاً ورد في القرآن: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222]، والدعوة إلى الله عز وجل طهارة كاملة: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4].
الداعية يحتاج إلى كمية كبيرة من الطهارة؛ حتى يغوص في الوحل لينقذ من تنجسوا بدون أن يصيبه رذاذ من النجاسة، فعندما يخالط الملوثين بدون أن يتلوث، فإنه يحتاج إلى طهارة كاملة، طهارة حسية وطهارة معنوية: (إن الله جميل يحب الجمال).
والله تبارك وتعالى يحب المتوكلين، والله تبارك وتعالى يحب التوابين، والله تبارك وتعالى يحب المتقين، والله تبارك وتعالى يحب الذين يجاهدون في سبيله صفاً كأنهم بينان مرصوص، والله تبارك وتعالى يحب من يصبر على أذى جاره، حتى يفرق بينهما طعن أو موت، فهذه أسباب -ذكرناها ليست على التفصيل- جالبة لحب الله تبارك وتعالى إياك.
سئل الجنيد عن المحبة فقال: عبد ذاهب عن نفسه، متصل بذكر ربه، أحرق قلبه أنوار هيبته، وصفا شربه من كأس وده، إن تكلم فعن الله، وإن سكت فمع الله، وهو لله وبالله ومع الله، فبكى الشيوخ وقالوا: ما على هذا مزيد، جبرك الله يا سيد العارفين.
هناك كتاب قيم لسيدنا الدكتور السيد العربي، فيه كلمات البخاري في العقيدة، فاحرصوا على اقتناء هذا الكتاب، ولقد رخص حتى يشتريه الجميع، فأقبلوا عليه.
اللهم ارزقنا حبك، وحب من أحبك، وحب العمل الذي يقربنا إلى حبك، اللهم وما رزقتنا مما نحب فاجعله قوة لنا فيما تحب، اللهم وما زويت عنا مما نحب فاجعله لنا فيما تحب، اللهم أحي قلوبنا بحبك، واجعل سعينا كله خالصاً لوجهك الكريم، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين، مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم اجعلنا جنداً لدينك، اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا، يا أكرم الأشياء علينا لا تجعلنا أهون الأشياء عليك، بغض إلينا سعة أكلنا وشربنا ونومنا، وارزقنا سهراً في طاعتك، واكفنا من النوم باليسير، اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، وحظ النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، عرفنا وجه نبينا في رضوانك والجنة، واحشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا مبدلين ولا شاكين، ولا مفتونين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(34/17)
هل ذقت طعم الإيمان
الحياة في ظل الإيمان نعمة لا يعرفها إلا من ذاق حلاوتها وطعمها؛ إذ إنه أفضل الأعمال المقربة من الله عز وجل، ومن أجله بعثت الرسل، وأنزلت الكتب، وقام سوق الجنة والنار، وبه تتفاضل الأعمال عند الله عز وجل.
ولحلاوة الإيمان أسباب تجلبها وتقويها، وهي سهلة يسيرة لمن أرادها بصدق وإخلاص.(35/1)
للإيمان نور وحلاوة وطعم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: الإيمان جمال الدنيا ودنيا الجمال، نور الطريق وطريق النور، وحياة الروح وعالم الأسرار.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم زينا بزينة الإيمان).
للإيمان زينة ونور وحلاوة وطعم، لذا هناك نداء للإيمان، وله تبوء وكتابة، وله زيادة ونقصان ومجالس ومواكب، وقد عبر النبي صلى الله عليه وسلم عن كمال الإيمان وحقيقته مرة بالحلاوة، ومرة بالطعم، ومرة بالطعام والشراب.
فللإيمان حلاوة تباشرها القلوب أشد من مباشرة الألسن لطعم الحلاوة الحسية، فإن لمذاقه حلاوة تحس بها القلوب والأرواح.
يقول إبراهيم بن أدهم: مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها، لذة الأنس بالله عز وجل.
ويقول: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
وقال الإمام ابن القيم من قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن اشتاق إلى الله اشتاقت إليه جميع الأشياء، ومن سر بخدمته لله سرت الأشياء بخدمته، ومن طابت نفسه بالله طابت به كل نفس وآنس به كل مستوحش وطاب به كل خبيث.
والنبي صلى الله عليه وسلم عبر عن حقيقة الإيمان بالحلاوة كما في حديث أنس الذي قال فيه: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجد طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً).
ولما نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة عن الوصال قالوا (إنك تواصل يا رسول الله! قال: إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني).
وليس هذا الطعام والشراب حسياً وإلا لبطل صومه.(35/2)
قيمة الإنسان عند الماديين
إن الماديين وضعوا من قدر الإنسان حين رفع الإسلام من كرامته، فقد قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسراء:70]، فالعصنر البشري -أصلاً- مقرب عند الله عز وجل، أما ملاحدة الغرب فيقولون: لا فرق بيننا وبين أدنى حشرة، بل إنهم يقيسون الإنسان بالنظرية المادية البحتة.
وأحد علماء المسلمين يقول: إن أحد العلماء الماديين قاس قيمة العناصر الموجودة في جسم الإنسان فوجدها لا تزيد عن (60 أو 70) قرشاً، ففي جسم الإنسان -مثلاً- من الدهن ما يكفي لصنع 7 قطع من الصابون فقط، وفيه من الكربون ما يكفي لصنع سبعة أقلام من الرصاص، وفيه من الفسفور ما يكفي لصنع 120 رأس عود ثقاب، -يعني: علبة كبريت- وفيه من ملح الماغنيسيوم ما يكفي لجرعة واحدة من المسهلات.
أما الجير الموجود في جسم الإنسان فقدره يكفي فقط لتبييض حجرة دجاج -يعني: عش فراخ- وفيه من الكبريت ما يطهر جلد كلب واحد من البراغيث، وفيه من الماء سعة عشرة جالونات، فإذا جمع كل هذا فلا يزيد عن جنيه واحد.
إذاً: الإنسان عندهم يساوي جنيهاً، مع أن الله قد أسجد الملائكة لأبيهم آدم وهم في صلبه، وحملة العرش يستغفرون له.
وقل للذي قد غاب يبكي عقوبة مغيبك عند الشأن لو كنت واعياً(35/3)
الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان
وأما الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان فنعدها أولاً، ثم بعد ذلك نشرح بعضاً منها: فحديث سيدنا أنس، فيه ثلاثة أسباب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
والحديث الثاني يشمل أيضاً ثلاثة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً).
فهذه ثلاثة أخرى يكتمل بها العدد ستة.
ثم الحديث الذي رواه الإمام الطبراني وصححه الشيخ الألباني يقول: (ثلاث من كن فيه فقد وجد بهن طعم الإيمان: من عبد الله وحده وعلم أن لا إله إلا هو، وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافدة عليه في كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرطة ولا اللئيمة، ولكن من أوسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره، وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية نفسه يا رسول الله؟! قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان).
وثلاثة أخرى يجمعها حديث القلب المخموم، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل: (أي الناس خير؟ قال: ذو القلب المخموم، قالوا: وما القلب المخموم يا رسول الله؟! قال: التقي النقي الذي لا غل فيه ولا حقد ولا حسد، قالوا: فمن على أثره يا رسول الله؟! قال: الذي يشنأ الدنيا -أي: الذي يكره الدنيا- قالوا: فمن على أثره يا رسول الله؟! قال: مؤمن ذو خلق حسن).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين أيماناً أحاسنهم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الإيمان الصبر والسماحة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأحب للناس ما تحب لنفسك تكن مؤمناً).
أيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان حديث سيدنا عمار بن ياسر الموقوف وله حكم الرفع، والذي رواه الإمام البخاري معلقاً بصيغة الجزم ووصله الحافظ ابن حجر في تغليق التعليق وابن أبي شيبة في مصنفه وعبد الرزاق ووكيع في الزهد: قال عمار بن ياسر رضي الله عنه: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: الإنفاق من الإقتار، وإنصاف الناس من نفسك، وبذل السلام للعالم).
فهذه أيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان.
أيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: اليقين، قال عبد الله بن مسعود: (اليقين الإيمان كله).
وقال أبو بكر الوراق: (ملاك القلب اليقين، وبه كمال الإيمان).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية عن اليقين: (الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله).
وقال: (إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين، {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]).
وأيضاً من كمال الإيمان الورع، كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (وخير دينكم الورع).
أيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: الرضى بقضاء الله عز وجل وقدره، كما جاء في مسند البزار بإسناد حسن عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (لا يجد عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه).
وقال أبو الدرداء أيضاً فيما رواه عنه الإمام ابن القيم: (ذروة سنام الإيمان الصبر للحكم -يعني: لأحكام الله عز وجل- والرضا بالقدر).
ومن الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: الصلاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة).
وكما قال أبو سليمان الداراني: (أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو بلهوهم).
قال الحسن البصري: (اطلبوا الحلاوة في ثلاث: في الصلاة والذكر وقراءة القرآن، فإن وجدتموها فذلك خير، وإلا فاسألوا الله العافية واعلموا أن الباب مغلق، ما تنعم المتنعمون بمثل ذكر الله عز وجل).
والقرآن الكريم جعله النبي صلى الله عليه وسلم ربيع القلوب، وقال الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
وقال أبو سعيد الخدري: (فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام).
وقال ابن عباس: (فضل الله الإسلام، ورحمته القرآن).
فلا شيء أنعم للأرواح ولا ألذ من تلاوة كلام الله عز وجل، كما قال أحد الصالحين لتلميذه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا.
قال: واموتاه من رجل لا يحفظ القرآن؛ فبم تترنم؟ فبم تتنعم؟ فبم تناجي مولاك؟! أيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: الأنس بالله عز وجل والمناداة والتملق والتذلل بين يدي الله عز وجل، والانطراح على عتبة العبودية، وأن تأتي مولاك ذليلاً عارياً من كل دعوى، وتلقي نفسك وتنطرح على عتبة مولاك بكامل الفقر والذل والخضوع لمولاك.
ثم ومن الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان كما قال أهل العلم: الجهاد، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات:15].
وقال شقيق البلخي لرجل في أحد المعارك والناس بين الصفين: (هذا اليوم مثل اليوم الذي زفت فيه إليك امرأتك؟ قال: لا، والله إنه يوم تضرب فيه الرءوس وتقطع فيه الأعناق، قال: والله هذا اليوم أحب إلي).
وكما قال سيدنا خالد بن الوليد رضي الله عنه: (والله ما من ليلة تهدى إلي فيها عروس أو أبشر فيها بمولود أحب إلي من ليلة أصبح بها العدو في جند من جنود المسلمين في ليلة باردة أو ليلة شاتية)، أو كما قال.
أيضاً: المعرفة بأسماء الله وصفاته جالبة لحلاوة الإيمان.
وأيضاً: ترك الهوى ومخالفته وترك الشهوات.
ومن الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان ما قاله بشر بن الحارث الحافي: (لا يجد العبد طعم العبادة ولا حلاوة العبادة حتى يجعل بينه وبين الشهوات حائطاً من حديد).
وأيضاً من الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: الاستقامة على أمر الله عز وجل، فقد قالوا لـ حبيب بن الورد صديق القلوب: (هل يجد من فعل المعصية حلاوة الإيمان؟ قال: لا، ولا من هم بها).
فالرجل الذي تحدثه نفسه بالمعصية لا يجد حلاوة الإيمان وطعمه، والمتقون هم الذين تركوا ما نهى تبارك وتعالى عنه وأتوا ما أمر الله تعالى به ثم خافوا ألا يقبل منهم، كما قال الفضيل.
والفضيل قال عنه عبد الله بن مبارك: (لقد جمعت علم العلماء فما وجدت أحب لقلبي من علم الفضيل بن عياض).
وقال الفضيل رحمه الله: (حرام على القلوب أن تجد حلاوة الإيمان حتى تزهد في الدنيا).
ويقول إبراهيم بن أدهم: (لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف).
ثم الشوق إلى الله تبارك وتعالى أعلى نعيم في الدنيا، ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك لذة الشوق إلى لقائك، ولذة النظر إلى وجهك الكريم).
فجمع بين أعلى نعيم في الدنيا وأعلى النعيم في الآخرة، وجمع بين نعيم الأبدان ونعيم القلوب فقال: (أسألك نعيماً لا ينفذ، وقرة عين لا تنقطع).
فالنعيم الأول نعيم الأجساد، وقرة العين التي لا تنقطع هي نعيم القلوب.
فهذه خمسة وثلاثون أو اثنان وثلاثون سبباً لجلب حلاوة الإيمان.(35/4)
كيف يكون الله أحب إليك مما سواه
أما السبب الأول فهو أن يكون الله ورسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما سواهما: أي أن يكون الله أحب إليك مما سواه، وهذا لا يتحقق ولا يكون إلا بأن تكون محبتك لله عز وجل أولى من كل محبة، وقاهرة لكل محبة، وتكون كل محبة خاضعة وتابعها لها، فيكون الله عز وجل أولى الأشياء عندك بالتعظيم والتوقير وأحب شيء إليك، ولا يكون إلا بأن تكون محبته أعلى محبة وقاهرة لكل محبة، وكل محبة خاضعة لها.
قال الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165].
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].(35/5)
بيان محبة القلوب للجمال
سبحان الله! جبلت القلوب على محبة الشيء الجميل، فلا ترى إنساناً يحب مثلاً نقيق الضفادع أو صوت فحيح الثعبان أو صوت البوم، وإنما تجد الإنسان يحب نسيم الأشجار في الفجر الوليد، وتبسم الورود وخرير المياه؛ لأن الله جبل القلوب على محبة الشيء الجميل، فما ظنك بمن كل جمال في الوجود من آثار جماله؟ وما ظنك بمن نسبة كل جمال في الوجود إلى جمال وجهه أقل من نسبته الفتيل إلى ضوء الشمس، ولله المثل الأعلى.
فالناس والآلاف المؤلفة الذين خرجوا وراء السندرلة لم يخرجوا وراءها لأنها كانت قوامة قانتة منتقبة أو محجبة أو تلقي دروساً في المساجد، بل كانوا يعرفون أنها زوجة علي بدر خان الشيوعي، وهذا الكلام قالته صحيفة الأهرام العربي.
فإن كان الناس يهيمون في الصور والأشباح فما ظنك بنساء الجنة! فإن الله خلق حوراء -كما قال الإمام ابن القيم - في الجنة لولا أن الله كتب الخلود على أهل الجنة لماتوا من حسنها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ولنصيف امرأة من أهل الجنة خير من الدنيا وما فيها)، يعني: الخمار الذي تضعه على رأسها وصدرها.
وكما قال مطرف بن عبد الله: (وكل نعيم في الدنيا بالنسبة إلى نعيم الجنة لا يساوي هباء بالنسبة إلى جبل)، ونعيم الجنة كله مخلوق فما ظنك بجمال الخالق؟! أليس الجمال حبيب القلوب لذات الجمال وذات القلوب أليس جميلاً يحب الجمال تعالى إله الورى عن ضريب(35/6)
معرفة الله لا تدخل قلباً مشرباً بحب الصور والشهوات
والإمامان ابن تيمية وابن القيم لهما إشارات جميلة وطيبة وموافقة للكتاب والسنة، فقالا في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة): إن كانت الملائكة -وهي من مخلوقات الله عز وجل- لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة، فكيف تدخل المعرفة بالله عز وجل والأنس بالله عز وجل ومحبة الله عز وجل وتوحيده قلباً مليئاً بكلاب الشهوات وصورها؟! وقالا: إن الاتجاه إلى القبلة شرط في صحة الصلاة، والقبلة بيت الرب، فمن باب أولى أن يكون التوجه إلى الله عز وجل والإقبال عليه، أي: إن كان الاتجاه إلى القبلة شرطاً في صحة الصلاة فإذاً استقامة القلب وتوجهه إلى ربه أولى، والأشياء الظاهرة المراد بها تمثيل الأشياء الباطنة، فإذاً من باب أولى أن يلتفت القلب إلى الله عز وجل وحده، فمن وجد الله فماذا فقد، ومن فقد الله فماذا وجد؟ هنيئاً لمن أضحى وأنت حبيبه ولو أن لوعات الغرام تذيبه وطوبى لصب أنت ساكن سره ولو بان عنه إلفه وقريبه وما ضر صباً أن يعيش وما له نصيب من الدنيا وأنت نصيبه فيا علة في الصدر أنت شفاؤها ويا مرضاً في القلب أنت طبيبه عبيدك في باب الرجا متضرع إذا لم تجبه أنت من ذا يجيبه غريب عن الأوطان يبكي بذلة وهل ذاق طعم الذل إلا غريبه تصدق على من ضاع منه زمانه وأوشك حتى لاح منه مشيبه من فاته منك حظ حظه الندم ومن تكن همه تسمو به الهمم وناظر في سوى معناك حق له يقتص من جفنه بالدمع وهو دم نسيت كل طريق كنت أعرفه إلا طريقاً يؤديني لبابكم كيف لا تحب من أنت به، وتدبيرك منه ورجوعك إليه، وكل مستحسن في الوجود هو حسنه وجمله وزينه وعطف النفوس إليه؟(35/7)
أوصاف الله العظيمة تقتضي أنه أحق بمحبة العبد
لقد أعطاك أيتها النفس! ما لم تأملي، وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح ضجت المشام، كم عدو حط منك بالذم فرقاك؟ كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك؟ كم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك؟ من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر في إجابته، وأن تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه وأنك أحوج شيء إليه وأنت فيما يبعدك عنه راغب.
تدبر أن لك رباً استوى على العرش يدبر أمر الممالك يأمر وينهى، يعز ويذل، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله، قلوب العباد إليه مفضية، الغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم ما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون.
أحاط بجميع الأصوات وعلمها، على اختلاف لهجاتها، وعلى كثرة شكايتها وحاجتها، لا يعجزه صوت عن صوت، ولا يتبرم بكثرة المسألة، أحاط بصره بجميع المرئيات، ويرى دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء.
وهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان وكذاك يعلم ما يكون غداً وما قد كان والموجود في ذا الآن وكذاك أمر لم يكن لو كان كيف يكون ذاك الأمر ذا إمكانا وهو البصير يرى دبيب النملة السوداء فوق الصخر والصوان ويرى مجاري القوت في أعضائها ويرى بياض عروقها بعيان ويرى خيانات العيون بلحظها ويرى كذاك تقلب الأجفان والله أمر أهل طاعته وأهل مجالسته ألا يقنطوا من رحمته، إن تابوا إليه فهو حبيبهم، وإن لم يتوبوا فهو طبيبهم، يبتليهم بالمصائب ليطهرهم من المعائب، كل إنسان إذا خفته تهرب منه، أما الله عز وجل فإنك إذا خفته تهرب إليه.
ينادى على باب عزته: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ويصاح على محجة حجته: {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84].
تترنم المخلوقات بفضله، {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].(35/8)
نعم الله سبحانه على خلقه سبب لمحبة العباد له
ويقول تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
وقال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:13 - 14].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ} [الأنعام:59].
{وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام:18].
ينادي على باب عزته: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ويصاح على محجة حجته: {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84]، ويخبر عن علمه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7].
تترنم المخلوقات بفضله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53].
ويقول سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
يسبحه النبات جميعه وفريده، والشجر عتيقه وجديده، تمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار، فيطرب السامع تمجيده، فالبلبل بالحمد عابده، وكلما أقام خطيب الحمام النوح على منابر الدوح هيج المستهام تغريده، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت:19].
قل للطبيب تخطفته يد الردى أمداوي الأمراض من أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا قل للضرير خطا بين الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا قل للبصير وكان يحذر حفرة فهَوَى بها من ذا الذي أهواك اقل للجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النَّحل كيف تقاطرت شهدًا وقل للشهد من حلاَّكا بل سائل اللبن المُصَفَّى كان بين دم وفرث ما الذي صفَّاكا وإذا رأيت الحي يخرج من حنا يا ميتٍ فاسأله من أحياكا قل للنبات يجفُّ بعد تعهُّدٍ ورعاية من بالجفاف رَمَاكا وإذا رأيت النَّبت في الصحراء ير بو وحده فاسأله من أَرباكا قل للمرير من الثمار من الذي بالمرِّ من دون الثمار غذاكا وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شقَّ نواكا يا منبت الأزهار عاطرة الشَّذَى هذا الشذى الفواح نفح شذاكا يا مجري الأنهار ما جريانها إن لم تعانق قطرة بنداكا فاقبل دعائي واستجب لرجاوتي ما خاب يوماً من دعا ورجاكا يا أيها الماء المهين من الذي سوَّاك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا ومن الذي غذَّاك من نَعْمَائِه ومن الكروب جميعها نجَّاكا؟ ومن الذي شقَّ العيون فأبصرت ومن الذي بالعقل قد حلاَّكا؟ ومن الذي تعصي ويغفر دائمًا؟ ومن الذي تنسى ولا ينساكا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام في الاستفتاح في صلاة الليل يقول: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، اللهم لك آمنت، وبك أسلمت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت، أنت إلهي، لا إله إلا أنت).(35/9)
بيان محبة النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد الله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فقال في الحديث: (أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سوهما)، ولا يكمل إيمان العبد حتى يحب النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من حبه لنفسه، كما قال عمر بن الخطاب: والله يا رسول الله! لأنت الآن أحب إلي من نفسي، فقال: (الآن يا عمر)، يعني: الآن كمل إيمانك يا عمر.
ادعى قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم محبة الله عز وجل فابتلاهم الله عز وجل بهذه الآية: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31]، أي: بمحبة النبي صلى الله عليه وسلم واتباعه، والذي لا يريد طريق النبي صلى الله عليه وسلم فلن يدخل معه الجنة؛ لأنه كما قال الجنيد: (الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا من اقتفى أثر النبي صلى الله عليه وسلم).
ويقول الله عز وجل: والله لو أتوني من كل باب واستفتحوني من كل طريق، لم يدخلوا إلا من ورائه.
فالذي يريد أن يدخل الجنة ليس أمامه إلا طريق واحد، وهو اتباع سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم.
وكيف يدرك في الدنيا حقيقته قوم نيام تسلوا عنه بالحلم ولما قال عمر: يا رسول الله! إنا نجد بعض صحف اليهود فتعجبنا، غضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، وحتى قال الصديق للفاروق ثكلتك أمك يا ابن الخطاب! أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتهوكون أنتم بعدي)؟ يعني: أمتحيرون أنتم بعدي، (وقد جئتكم بها بيضاء نقية، والذي نفسي بيده! لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
فسيدنا موسى عليه السلام كليم الرحمن لو كان موجوداً في عهد النبوة لما وسعه إلا اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فكيف بي أنا وأنت الأذلاء المنقطعون عن الله عز وجل وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدى إلا هالك).(35/10)
محبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم
ومحبة الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم كانت عجيبة.
فهذه امرأة يقتل زوجها وابنها وأبوها في الحرب فتقول: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون لها: هو بخير، فتقول: أروني أنظر إليه، فلما رأته قالت: يا رسول الله! كل مصيبة دونك جلل.
تعني: صغيرة؛ لأن الجلل من ألفاظ الأضداد، فتستخدم للشيء التافه والشيء الضخم العظيم، فكل مصيبة دونك جلل أو كل مصيبة بعدك جلل.
وما أحب أصحاب رجل هذا الرجل مثل ما أحب الصحابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولهم أخبار عجيبة في حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم أو للآثار التي تركها النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا العباس بن المطلب كان له ميزاب على طريق فكان ينزل منه الماء إلى الطريق، فقال له عمر بن الخطاب: اخلعه، قال: والله لقد وضعه النبي صلى الله عليه وسلم بيده، فقال: والله لتطأن على رقبتي ولتردنه مكانه.
ولما أصيب النبي صلى الله عليه وسلم في وجنتيه لما ضربه عبد الله بن قمئة فدخلت حلقة المغفر في وجنتيه استحلف أبو عبيده بن الجراح أمين هذه الأمة النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزعهما هو، ثم قال: أنزعها بأسناني، فيشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا، فجعل ينزعهما بشفتيه؛ حتى لا يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فسقطت من أجل ذلك ثنيته، فكان أهتم بين المسلمين.
وسيدنا طلحة بن عبيد الله أصيب بالعرج في غزوة أحد من كثرة ما أصابه من الطعن وضربات الرمح أو السيوف أو السهام، ثم قعد للنبي صلى الله عليه وسلم ليصعد على ظهره، وتكلف أن يمشي صحيحاً؛ حتى لا يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، فأصلح الله عرجته.
ونحن ندعي حب النبي صلى الله عليه وسلم ونترك سيرته وأخلاقه، وإنما بمجرد الأقوال فقط إن عرفناه، أما السيرة والأخلاق ومعايشته للناس ووضعه في بيته ومعاونته للناس فنحن أبعد ما نكون عنها، فالتطبيق العملي أن تكون موافقاً للنبي صلى الله عليه وسلم في سنته التقريرية والقولية والفعلية، وتنظر إلى حياته وإلى سيرته.(35/11)
الحب في الله
(أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله).
ويقول الله تبارك وتعالى: (حقت محبتي للمتاحبين في والمتباذلين في والمتزاورين في).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: يقول الله تبارك وتعالى: (المتحابون في والمتجالسون في والمتزاورون في على منابر من نور في ظل عرش الرحمن، يغبطهم النبيون والشهداء)؛ لقربهم من الرحمن، فلا تحب المرء إلا لوجه الله عز وجل، محبة خالصة من أي غرض دنيوي، لا لتجارة ولا لمال ولا لقرابة، وإنما تكون المحبة خالصة لوجه الله عز وجل، وكلما ازداد قرباً من الله عز وجل ازددت حباً له.
وحينما تقع المحبة يكون بذل المال أحقر شيء، لما أتى فتح الموصلي إلى عيسى التمار وكان أخاً له في الله فقال للجارية: أين أخي؟ قالت: ليس موجوداً، قال لها: فأين كيس نقود أخي؟ فأتت بالكيس، فأخذ حاجته من الكيس، ثم رده مرة ثانية، فلما أتى قالت الجارية: أتى أخوك فتح الموصلي وقال: أين كيس نقود أخي، فأخذ حاجته ثم مضى، قال: أشهد الله أنك حرة لوجهه إن كان ما تقولينه حقاً.
ولا تكتمل الصحبة حتى تقول لأخيك: يا أنا، إلا ما حرمه الله ورسوله، كلك لأخيك إلا ما حرمه الله ورسوله، أما واقع المسلمين فيوصف بقول الشاعر: يا من تنهش في أحشائي يا من مني يا من جزء من أجزائي يا من تبدو للجهال كأنك دائي إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي قل لي هل يأتيك ندائي إنك مني أنت كأني حين شقائي حين جهلت طريق إلهي من عند الألف إلى الياء حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكفائي إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد إنك فيها من شركائي لكنك دوماً تطعنني من خلفي وفي كعب حذائي حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي ووشاة القوم إذا بانوا تسري الطعنة في أحشائي قل لي هل يأتيك ندائي ابغ العزة عند إلهي ليس العز دمي وبكائي وغداً من قواك يميتك إن أنت أهملت ندائي كان الرجل منهم يموت فيخلفه أخوه في بيته أربعين سنة في الطعام والشراب والكسوة والمال على أهله لمجرد أنه كان أخاً له في الله فقط.
فمن لك بأخيك كله؟ كل منا تقع منه هفوات، ولكن أين المسامحة؟ فأنصف الناس من نفسك والكمال عزيز، ولن تجد الرجل كاملاً.
فإذا وجدت أخاً في الله عز وجل فشد عليه، فإن مجالسة الصالحين تحيي القلوب كما قال الحسن البصري.(35/12)
الرضا بالله رباً
ومن الأسباب الجالبة لحلاوة الإيمان: من رضي بالله رباً، والرضا بالله رباً: أن ترضى بتدبير الله عز وجل وبكفاية الله عز وجل وبتدبير الله عز وجل، وأن تنزل كل حاجاتك بالله عز وجل.
ومن تمام الرضا بالله رباً: أن ترضى به سيداً وإلهاً، وترضى به حكماً، وتوحيد الربوبية لازم له، وكذا توحيد الألوهية، إذ كيف ترضى به خالقاً ورازقاً ومحيياً ومميتاً ووكيلاً وناصراً ولا ترضى به معبوداً ولا إلهاً حكماً، وإذا رضيت به مدبراً لك فسلم الأمر تجده أولى بك منك.
فسلم الأمور لله عز وجل وتوكل عليه وفوض الأمر إليه، {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3]، وهذا هو الجزاء الوحيد الذي لم يأت إلا في التوكل.
وإذا أنزلت أمرك بالله عز وجل وفوضت الأمور إليه وجدت القرب منه على درجات لا تحيط بها العقول مثل ما يقول القائل: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب كيف نزوله والرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لنا مثلاً تقريبياً فقط ولم يأت بكل درجات القرب، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: (من أتاني يمشي أتيته هرولة).
ولكنه لم يقل: ومن أتاني مهرولاً فعلت به كذا وكذا.
ومثل هذه الهرولة لا نحيط نحن بها.
(ومن تقرب مني شرباً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً).
ثم سكت النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يذكر ومن تقرب إليه باعاً.
فهناك درجات في القرب له لا تحيط بها العقول، فمن تقرب إلى الله بجوارحه بأداء النوافل والفرائض أحبه الله عز وجل، وكان سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، وهذا فعل الجوارح.
ومن أتى الله عز وجل بكليته -بقلبه كله وبروحه كله وبسره كله وبهمه كله- يكون الجزاء درجات في القرب لا تحيط بها العقول ولا الأفهام، وتكفي الإشارة إليها: فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب(35/13)
الرضا بالإسلام ديناً
والرضا بالإسلام ديناً، فالناس تهرب من الإسلام، ونحن محتاجون لعدة سنين حتى نكون أهلاً لأن ننسب إلى الإسلام الذي سأله خليل الرحمن عندما قال: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128].
وقد قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة:130].
والسفيه هو الذي لا يرضى بدين الإسلام ولا أن ينتسب إلى هذا الدين، ويعلم أنه في دنيا الفناء وأن الجمال كله في الدنيا والآخرة في الإسلام، فالذي يحس بهذا فعليه أن يقوم من جديد درجة انتمائه إلى الإسلام العزيز الرفيع: إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها فيا له من دين لو أن له رجالاً، فلو تمسك به أناس لرفعهم فوق هامات السحاب، ولما ابتعدنا نحن عنه أذلنا الله عز وجل، يقول سيدنا عمر بن الخطاب وهو على أبواب القدس: (نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله).
{أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران:83].(35/14)
الرضا بمحمد نبياً ورسولاً
والرضا بمحمد رسولاً: قال الله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65]، أي: ويرضون بحكم الله عز وجل، وهذه مرتبة الإسلام، {ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ} [النساء:65]، وهذه مرتبة الإيمان، {وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65]، وهذه مرتبة الإحسان، كما قال ابن القيم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
رب اجعلنا لك شكارين، لك ذكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
إلهي عميت عين لا تراك عليها رقيباً! وخسر قلب لم يجعل له من حبك نصيباً! إلهي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله فكن دليلنا، إلهي ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه فكن أنيسنا، إلهي آتنا أطباء عبادك يداووا لنا خطايانا فكلهم عليك يدلنا.
اللهم داو أمراض قلوبنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين فاجعلنا من الصالحين، استرنا بالعافية ووفقنا لما تحب.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، اللهم صل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم انصر المسلمين المستضعفين في فلسطين، اللهم عليك باليهود، اللهم دمرهم، اللهم أرنا فيهم آية تنتقم بها منهم حتى ترضى، وتنتقم لأعراض المسلمين منهم حتى ترضى، ولبيوت المسلمين حتى ترضى، ولدماء المسلمين حتى ترضى.
اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وبارك في أعمالنا.
اللهم اجعل أموالنا وأولادنا وأنفاسنا وحركاتنا وسكناتنا وكل ما نملك خالصة لك، واجعل أموالنا وقفاً على دينك.
اللهم استخدمنا ولا تستبدلنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(35/15)
التاريخ يعيد نفسه
إن لله في كونه سنناً ماضية من سلكها وأحسن التعامل معها وفق شرع الله وصل إلى غايته ومقصوده، ومن تنكب لها ولم يعتبر بها صادمته وأفرغت جهده سدى، وقد سار على هذه السنن سلف هذه الأمة، فحققوا لهذه الأمة المجد والسؤدد، والتاريخ خير شاهد على ذلك.(36/1)
بطولات إسلامية
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: عن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة).
ويأبى الغرس إلا طبيعته، والذي يريد للغرس أن يثمر غير ثماره فهو كالأحمق الذي يقول لشجر التفاح: لا تثمر إلا الحنظل، فنقول: (إن الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد للأمة أمر دينها).
اتفق المؤرخون على أن المجددين للإسلام في القرن السادس الهجري هما البطلان نور الدين محمود زنكي وتلميذه صلاح الدين الأيوبي.
وعلى مدار التاريخ الإسلامي كان هناك غرس طيب وقفوا أمام المد الصليبي، بداية من ليث الإسلام وسيف الله خالد بن الوليد، إذ كان أول من خاض المعارك ضد الصليبيين، فمعركة الفراض اجتمعت فيها جيوش الكفر، ولأول مرة في التاريخ يجتمع الفرس والروم ونصارى العرب الموتورون في معركة واحدة ضد سيدنا خالد بن الوليد، فقد جمعوا له بعدما استولى وفتح العراق في أربعين يوماً فقط، وكانت آخر معركة تسمى معركة الفراض، وكان عددهم 150000 فارس، عبروا إلى خالد بن الوليد الفرات، فقتل منهم خالد 100000 مقاتل وطارد الفلول فكانت أكبر نكبة وقعت بالفرس وبالروم في آن واحد يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا يا رب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا ابن الوليد ألا سيف تؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا سقوا فلسطين أحلاماً ملونة وأطعموها سخيف القول والخطبا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا يا من يعاتب مذبوحاً على دمه ونزف شريانه ما أسهل العتبا من جرب الكي لا ينسى مواجعه ومن رأى السم لا يشقى كمن شربا(36/2)
من سنن الله الجزاء من جنس العمل
إن لله سنناً يغفل عنها الناس، وهي تبين أن الجزاء عند الله عز وجل من جنس العمل، وأن الظالم يظلم، وأنه وإن طال ظلمه فسينتقم الله عز وجل منه يوماً من الأيام، لكن الناس غافلون عن حكمة الله عز وجل الكونية القدرية.
كان لسيف الإسلام خالد بن الوليد مع الصليبيين عدة مواقع، منها يوم الموقعة التي حدثت في 15 رجب في 14هـ، وفتح الله على يديه فيها دمشق، وقد اشتركت في هذه المعركة أربعة جيوش إسلامية جيش بقيادة فارس الإسلام أبي عبيدة بن الجراح، وجيش بقيادة شرحبيل بن حسنة وجيش بقيادة عمرو بن العاص والجيش الرابع بقيادة خالد بن الوليد، وقد ظل الجيش الإسلامي محاصراً لمدينة دمشق أربعة أشهر، ولما طال المدى بـ خالد بن الوليد وهو الذي وصف حينها بأنه كان لا ينام ولا ينيم، والذي قال فيه الخليفة أبو بكر الصديق: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، ولما ضاق ذرعاً من طول مدة الحصار، أوصلت إليه عيونه اليقظة التي لا تنام: أن كبير الروم بدمشق قد ولد له مولود، وأنه سيسقي حامية السور الخمر يوم الأحد، فأعد سيف الإسلام خالد حبالاً مفتولة من الليف، وجعل في نهاية الحبال خطاطيف.
وأعد قرباً منفوخة بالهواء، وكان الروم قد حفروا خندقاً عظيماً حول السور وملؤه بالماء، ثم دعى مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو ومن معهم فجعلوا يرسلون الحبال على أعالي الأسوار حتى علق منها حبلان، فصعد مذعور بن عدي العجلي والقعقاع بن عمرو التميمي ومعهما بقية الحبال، فوثقوها في أعلى الأسوار، ثم قال خالد لمن معه: إذا سمعتم تكبيرنا من فوق الأسوار فانهدوا إلينا، ثم نزل خالد ومن معه من أعلى الأسوار وسط تكبيرهم، ثم قتلوا حارس الباب، ثم ضربوا الباب ففتحوه، وظل سيف الإسلام خالد الليل بأكمله يحصد من أمامه حصداً، حتى سارع جند الروم وقالوا: افتحوا الباب لـ أبي عبيدة لئلا يفنينا خالد، فالتقى جيش خالد بجيش أبي عبيدة عند سوق الزياتين بدمشق.
أما المعركة الثانية التي خاضها سيف الإسلام خالد بن الوليد ضد الروم فهي معركة اليرموك، وقد أنهت الوجود الصليبي في بلاد الشام، وكانت بين قيصر وقائد جنده ماهان، وهو أقوى فارس في إمبراطورية الروم، وبين جيش الصحابة وفيه مائة بدري على رأسهم معاذ بن جبل أعلم الأمة بالحلال والحرام، فقد كان قائد الميمنة، وفي القلب وعلى الفرسان سيف الله خالد بن الوليد، وهو البطل الذي أمر نفسه في هذه المعركة الفاصلة، وأبو عبيدة أمين هذه الأمة والقائد الأعلى للقوات، وقيس بن مكشوح المرادي، وسعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة وغيرهم من صناديد المسلمين.
وكان سيدنا أبو هريرة ينادي: أتفرون عن الجنة، وأبو سفيان بن حرب يقول: يا نصر الله اقترب، يا نصر الله اقترب، وكانت المعركة الفاصلة التي أنهت وجود الروم في بلاد الشام، فقد بلغ عدد الذين قتلوا من الروم مائة وعشرين ألفاً، ثمانون ألفاً منهم قتلوا مقترنين بالسلاسل، وكانوا قد ربطوا أنفسهم بها، وأربعون فروا فقتلوا في منحدر جبلي تتبعهم المسلمون حتى سقطوا، وقتل صناديد الروم ورؤساءهم، وقتل أخ لـ هرقل، وانتهت قصة الروم في أرض الشام.
أتوا وهم يرون أنهم لا غالب لهم من الناس، ففي بداية المعركة يجئ هرقل وينادي خالداً: عودوا نوصي لكل رجل منكم بعشرة دنانير، ونوصل إلى أميركم بالمدينة عشرين ديناراً، ونوصي لكل رجل منكم حمل بعير من التمر والبر والشعير، وكسوة الصيف، وكسوة الشتاء، نحن نعرف أنه ما أخرجكم من بلادكم إلا الجوع والجهد، فعودوا، فأجابه سيف الإسلام خالد بعزة المسلم: والله إنا قوم نحب شرب الدماء، وقد بلغنا أن دماء الروم من أحلى الدماء مذاقاً، فلا نعود إلا بشرب دمائكم.
وكان المغيرة بن شعبة قد قال للرسل قبل مثل كلام خالد إذ قال: والله إن حبة بأرضكم تسمونها الحنطة منذ أطعمناها لأولادنا وهم يصيحون بنا: لا تأتون إلا بها، فلا نعود إلا بهذه الحبة من الحنطة.
إنها عزة المسلم المقبل على الله عز وجل ولا يتمنى إلا الشهادة في سبيله.
ولما فر الروم من خالد بن الوليد وجيشه ولما اختبئوا في الحصون قال لهم: والله لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم أو لأنزلكم إلينا حتى نقاتلكم.
نحن في هذه الأيام بحاجة إلى قلامة ظفر من سيدنا خالد إلى شسع نعله إلى حافر فرسه هل يقدر لظهور الخيل التي ركبها أبو سليمان أن يمتطيها بطل غيره، فيعيد للإسلام عزته، ويعيد للمسلمين مكانتهم؟! فانظر إلى واقع المسلمين وإلى التاريخ حتى لا تصاب باليأس، وفي التاريخ أكبر العظة، فهذا مسلمة بن عبد الملك يسمى الجرادة من كثرة ما قتل من جيوش الروم، وكان أولى بالخلافة من إخوته جميعاً كما قال الإمام الذهبي، وهو أول قائد من قواد المسلمين يغزو بلاد الروم في عقر دارهم، وكان معه بطل من أبطال المسلمين يسمى عبد الله البطال، يذكر أن المرأة من بلاد الروم كانت إذا أرادت أن تخيف ابنها تقول: نم وإلا أقول: خذه يا بطال! وقد سئل مرة: ما أغرب ما رأيت؟ قال: بينما أنا أمشي في بلاد الروم وإذا بي أمر تحت نافذة أحد البيوت، وإذا بامرأة تقول لطفلها وقد استعصى عليها تريد أن تنيمه: اسكت وإلا أقول: خذه يا بطال، ثم أخرجته بيدها من النافذة فتلقفته منها، وهذا يبين مدى تأثير صناديد المسلمين في الروم وهم سادة الدنيا في ذلك الوقت.(36/3)
هارون الرشيد وصده للمد الصليبي
يذكر التاريخ أيضاً أن هناك قواد وأمراء وقفوا أمام المد الصليبي سواء من الغرب أم من الشرق، منهم هارون الرشيد، الخليفة البكاء المفترى عليه، الذي كان يغزو عاماً ويحج عاماً، وقد فدى أسرى المسلمين مرتين: المرة الأولى كانت عام 181هـ فدى فيها من أسرى المسلمين 3700 أسير، والمرة الثانية كانت سنة 192هـ فدى فيها من المسلمين 1500 أسير، ولم يبق في ديار الروم أسير واحد من المسلمين، والخليفة هارون الرشيد هو الذي فتح حصن الصفافي عنوة سنة 181هـ، ومما يذكر في التاريخ أن نقفور ملك الروم أرسل إليه خطاباً قال فيه: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ -والرخ طائر كبير يرتفع في السماء- وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها -أي من أموال الروم- ما كنت حقيقاً بحمل أمثالها إليها، ولكن ذاك ضعف النساء وحمقهن، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قبلك من أموالها، وافتد نفسك وإلا فالسيف بيننا وبينك.
فلما قرأ هارون الرشيد الكتاب استفزه الغضب حتى لم يمكن لأحد أن ينظر إليه ويخاطبه، واستعجم الرأي على الوزير ماذا يكتب، فدعا الرشيد بدواة وكتب على ظهر كتاب ملك الروم: من هارون ملك العرب، إلى نقفور كلب الروم أما بعد: يا ابن الكافرة! فالجواب ما ترى دون ما تسمع، ثم انطلق بجيش ضخم وأدب ملك الروم وألزمه الجزية.
هكذا كان هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه، فأين القائلون أنه صاحب ألف ليلة وليلة، وأن هارون كان يتعاطى الخمر، والحق أن هارون ما كان يشرب إلا نبيذ التمر؛ لأن مفتيه كان حنفي المذهب وهو أبو يوسف القاضي، وكان يبيح نبيذ التمر، وقد عرف عنه أنه كان بكاء، وذكر أن مجموع ما كان يصليه هارون الرشيد في اليوم والليلة مائة ركعة.(36/4)
جهود بعض قادة المسلمين في الحد من الزحف الصليبي
ويأتي بعد ذلك فاتح عمورية الخليفة المعتصم.
أما سمعت بأرض الروم مسلمة تشكوا لمعتصم ظلم المغيرينا فتسبق الخيل أصوات استغاثتها وتملأ الكون صيحات الملبينا وتصرخ اليوم آلاف مؤلفة فهل سمعت سوى أحزان باكينا ونحن نسمع أصوات استغاثتها وليس نسمعها إلا أغانينا خضر مرابعنا بيض صنائعنا سود وقائعنا حمر مواضينا ويذبح الطهر طهر البكر في دمه ونحن نسبح في أحلام ماضينا يذكر التاريخ: أن امرأة اعتدى عليها رجل من الروم فقالت: وامعتصماه، فلما وصله خبر استغاثتها، وكان قد دعا بشراب ليشربه، فوالله ما شرب منه شيئاً، وقال للساقي: أبقه حتى أعود من غزو الروم، ثم قال: أي مدنهم أمنع، قالوا: عمورية، فانطلق على رأس الجيش إلى عمورية، وكان النصر والفتح بإذن الله.
فقد وجه المسلمون للروم صفعات عظيمة لا تنسى على مدار التاريخ.
ومن المعارك المشهورة في تاريخ الإسلام معركة ملاذكرد، وهي معركة عظيمة نصر الله عز وجل فيها المسلمين، وكانت بين السلطان ألب أرسلان وقسطنطين الرابع امبراطور الروم سنة 643هـ، وكان عدد المسلمين في هذه المعركة لا يزيد عن 15000 مقاتل، وعدد الروم 200000 فارس، ومعهم من الرجالة 35000 مقاتل، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية 15000، ومعهم 100000 نقاب وحفار، و400 عجلة تحمل النعال والمسامير، حتى إن ألب أرسلان عرض الهدنة وعرض المال؛ لأنه خاف أن تستأصل شأفة المسلمين عن آخرهم، وأن يباد الجيش المسلم عن آخره، فقد وصل مجموع جيش الروم إلى عدد مهول ومجموع المسلمين لا يزيد عن 15000 مقاتل.
واقترب موعد اللقاء فصلى السلطان بالناس، ودعا وأمنوا، وبكى السلطان، وعفر وجهه في التراب، ثم خطب فقال: يا معشر الجند من شاء منكم أن ينصرف فلينصرف، فما هاهنا سلطان، وعقد ذنب حصانه بيده، ولبس البياض وتحنط، فأسرع الجيش وتحنط ولبس كل رجل كفناً، فكان يسمى هذا الجيش في التاريخ بجيش الأكفان، وكانت المفاجأة والنصر والتأييد، فقد دارت الدائرة على امبراطور الروم وهزم وقتل أصحابه وأعوانه، ونودي في آخر النهار: من يشتري أمبراطور الروم قسطنطين الرابع؟ فنادى أحد الجند من أقصى الجيش وقال: لا أشتري الكلب إلا بكلب.
ولا عجب فقد أخبرنا بذلك النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لتغزون عصابة من أمتي البيت الأبيض)، وهو بيت كسرى.
ومن الأمثلة على مدار التاريخ الإسلامي: أمير المؤمنين محمد بن عبد الرحمن بن الحكم بن هشام، صاحب موقعة قريش، كان من ملوك المسلمين بالأندلس، فجمع له النصارى في الأندلس ما جمعوا، حتى ضاق بخيل العدو الفضاء الواسع، فدخل الشك في نفوس الأمراء، وظنوا ألا نجاة من الكفار، فصاح رجل المسلمين بقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا} [آل عمران:173]، ثم جاء إلى الأمير فقال له: يا أمير المؤمنين! والله ما حذرت نفسي، إنه لا رأي لمن لا يطاع، ولست أستطيع أن أجاهد وحدي، فقال له الأمير: وأنا معك، والله ما قذف بهذه الكلمة على لسانك إلا ملك، ثم كان النصر في نهاية اليوم، بعد أن تحالف كل ملوك أوروبا: ملك قشتالة، وملك البشكنش، وملك فرنسا كلهم يريد قتال محمد بن عبد الرحمن، فانتصر عليهم في معركة سليط.
ومن النماذج في التاريخ الإسلامي أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر مؤدب ملكي ليون ونافار في غزوة موبش، إذ اعتصم في حصن موبش 100000 مقاتل، فرمى الملك الناصر الحصن بالمنجنيق، وأخرج مقاتلي الصليبين من صياصيهم، فقدموا إلى الناصر فقتلهم وأبادهم جميعاً، وغنم المسلمون ما في الحصن.
وممن يذكره التاريخ الإسلامي قائداً عظيماً من قواد المسلمين، وأميراً من أمرائهم، وهو الملك العظيم الحاجب المنصور، ومن أعاجيب هذا الملك أن أغلب جنوده كانوا ممن وقعوا في السبي فأسلموا، ولم يتفق هذا لغيره من الأمراء، ولا لغيره من الملوك، ولم تهزم له راية قط، وكانت له غزوات في الصيف، وأخرى في الشتاء، وبلغ مجموع غزواته ضد الصليبين في أسبانيا وغيرها 50 غزوة.
ومما يؤثر عنه أنه كان يجمع غبار المعارك فتوضع معه كحنوط، أو لتصنع منها لبنات توضع في قبره، وكان مرة من المرات يمر بين جبلين -وقد كان يفعل الأفاعيل بجيوش الصليبيين- فاجتمعوا خلفه يريدون حصاره وجيشه، فما كان منه إلا أن نصب البيوت في بلاد الأسبان، ثم قال: نحن لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى، ولذا فسنقيم هاهنا إلى وقت الغزوة الأخرى، فإذا غزونا عدنا.
ثم ظل يقاتلهم حتى يئسوا منه، فما زال الفرنجة يسألونه أن يرحل إلى أن ألزمهم أن يحملوا على دوابهم الغنائم والسبي، وأن يمدوه بالطعام والمال ما يزوده في طريق عودته إلى أن يصل إلى بلاد المسلمين، وأن يحملوا وينحوا دية القتلى بأنفسهم.
وهو بذلك يجسد عزة الرجل المسلم.
ومن النماذج في التاريخ الإسلامي القائد المسلم الملقب بـ المنصور، فقد وصل إلى أقصى مدن الصليبيين، إذ ظل يسير قرابة أربعة أشهر في الجبال الشاهقة، وغزا مدينة تسمى شمس ياقب، وقد سميت هذه الغزوة باسم شمس ياقب، وكانت أعظم مدن النصارى بعد بيت المقدس، وكان غزوه لها سنة 387 هـ ووصل إلى أقصى مكان من أسبانيا في بلادهم، ومن ذلك الأقوال المأثورة لهذا الملك العظيم: الملك لا ينام إذا نامت الرعية، قال: ولو استوفيت نومي لما كان في دور هذا البلد العظيم عين نائمة، يريد أنه لو نام لاحتلت جيوش الغزاة بلاد المسلمين.
روى شجاع الملك المستعين بن هود القصة التالية: قال: عندما ذهبت لمقابلة ملك النصارى الفونسو وجدته في مدينة تالي، وقد نصب على قبر الحاجب المنصور سريره، وامرأته متكئة إلى جانبه، فقال لي: يا شجاع! أما تراني قد ملكت بلاد المسلمين، وجلست على قبر ملكهم، فحملتني الغيرة على أن قلت له: لو تنفس صاحب هذا القبر - الحاجب المنصور - ما سمع منك ما يكرهه، قال: فهم أن يبطش بي، فحالت امرأته -الملكة- بيني وبينه وقالت: صدقك والله.
ومن النماذج في التاريخ الإسلامي أمير المرابطين يوسف بن تاشفين بطل معركة الزلاقة هو والمعتمد بن عباد التي وقعت في مثل هذا الشهر؛ شهر رجب، ففي هذا الشهر دارت رحى أكبر معركة خاضها المسلمون في الأندلس، والصليبيون يسمونها معركة فكر الياس، وقد كانت بين يوسف بن تاشفين بجيشه من البربر من المغرب والمسلمين في أسبانيا، وبين تحالف عباد الصليب وملوكهم: الفونسو السادس ملك قشتالة، وشانشو ملك أرغون، والقنط برنجار وفرسان من ولايات فرنسا الجنوبية، ولعب البابا دوراً عظيماً في الحث على قتال المسلمين، وأرسل الفونسو إلى ملوك النصارى في أوروبا لقتال المسلمين، فأرسل إليه يوسف بن تاشفين رسالة قال فيها: بلغنا أنك دعوت للاجتماع بك، وتمنيت أن يكون لك فلك تعبر بها البحر إلينا، فقد جزناه إليك، وجمع الله في هذه العرصة بيننا وبينك، وسترى عاقبة دعائك، {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14].
وكانت هذه المعركة العظيمة التي انتصر فيها الجيش المسلم، وهرب الفونسو عندما حل الظلام، ولم ينج من جيش الفونسو إلا 400 أو 500 رجل، وكان مجموع من قتل في هذه المعركة 18000 صليبي، وأسر الباقون.
وفي نهاية المعركة صفت الرءوس على شكل هرم، ثم أمر فأذن للصلاة من عليها، وكانت معركة الزلاقة أو هذه المعركة التي يسمونها فكر الياس.
ومن المعارك العظيمة التي دارت بين المسلمين وأعداء الله من الصليبين وغيرهم والتي تشبه معركة الزلاقة: معركة الأرك بين أمير المؤمنين يعقوب بن يوسف وبين الملك الفونسو الثامن ملك قشتالة قائد جيوش الصليبيين، فقد أرسل الفونسو الثامن برسالة إلى الملك المنصور فمزقها وكتب في ظهرها: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37]، وكانت المعركة العظيمة -معركة الأرك- التي انتصر فيها المسلمون.
ولا يزال التاريخ الإسلامي يذكرنا بصفحاته البيضاء، في مشارق الأرض وفي مغاربها، ويرينا أبطالاً مسلمين، وحكاماً صناديد أعادوا العزة للمسلمين.
ففي بلاد الهند كان السلطان فتح علي خان الذي استشهد في قتاله ضد الانجليز، وكان يقول: يوم من حياة الأسد خير من مائة سنة من حياة ابن آوى، أما الذين يرفضون هذه الحياة الكريمة، ويبخلون عن العطاء لدين الله عز وجل فإنهم يدفعون ضريبة الذل أضعاف أضعاف ما يقدمونه في ميدان البذل والعطاء.
ومن سلاطين الأتراك الذين فعلوا الأفاعيل بدول أوروبا: السلطان مراد الثاني الذي حكم بلاد المسلمين وسنه 18 سنة، فقد تفرغ لقتال ملوك أوروبا، فقد قاتل أحد ملوك أوروبا وانتصر عليه، كما انتصر على أمير الصرب، وكان يدفع له جزية سنوية مقدارها 50000 دوق ذهبي، ولما اجتمعت أوروبا كلها لقتال هذا السلطان العظيم وحاصروا مدينة بارانا انتصر عليهم، وكان ذلك في 28 رجب سنة 848هـ، ومنيت جيوش أوروبا وهي مجتمعة بهزيمة منكرة.
ومنهم السلطان العثماني سليمان القانوني، الذي فتح بلغراد في 25 رمضان سنة 927هـ، وحاصر بربع مليون جندي فينا عاصمة النمسا، ودفعوا الجزية له عن يد وهم صاغرون، وقد وصل الجيش المسلم بقيادته إلى الميدان الرئيسي في مدينة فينا عاصمة النمسا، إلا أن الشيعة بخياناتهم والدولة الصفوية اضطروه إلى أن يفك الحصار عن(36/5)
مهما كبتت الأمة فلا بد أن تستيقظ
أتت على المسلمين أيام بلغوا فيها من الذل مبلغاً عظيماً، ومن الهوان ما ليس بعده هوان، ففي أيام حكم الفاطميين لمصر -والفاطميين من غلاة الشيعة الإسماعيلية- الذي استمر 208 سنوات أذلوا المصريين أيما إذلال، ومن ملوكهم الذين اشتهروا بذلك المعز لدين الله الفاطمي وكان أول خلفائهم، فقد أرسل جوهر الصقلي لبناء مدينة القاهرة وبناء المسجد الأزهر؛ لنشر الفكر الشيعي، ولسب الصحابة، ثم شاء الله عز وجل له أن يعود إلى أهل السنة على يد البطل السلطان صلاح الدين الأيوبي، ومن أعمال الفاطميين أنهم لما جاءوا إلى مصر أمسكوا بكبير علماء المصريين وكبير حفاظهم أبو بكر بن النابلسي، فقال له المعز لدين الله -الخليفة الفاطمي-: بلغنا أيها الرجل أنك تقول: لو كانت عندي عشرة أسهم لجعلت واحداً للرافضة وتسعة لليهود والنصارى، قال: ما هكذا قلت، ولكن قلت: لو كانت عندي عشرة أسهم لجعلت واحداً لليهود والتسعة الباقية للرافضة، فقال له المعز: لماذا؟ فأجابه: لأنكم غيرتم دين الأمة، وأطفأتم نور السنة، وادعيتم ما ليس لكم، فأمر بسلخه حياً، وأمر أن يقوم بسلخه يهودي، فسلخه اليهودي حتى وصل السلخ إلى منطقة القلب فرق له فطعنه بخنجر فقتله.
حكى ذلك الحافظ الذهبي في كتابه القيم (سير أعلام النبلاء).
وقد كان بدر الجمالي أمير الجيوش -وهو والي فلسطين من قبل الفاطميين- فلما جاءت جيوش أوروبا وجيوش النصارى يقودها بطرس الناسك ومعه ملوك أوروبا سقطت في أيديهم الرهى، وهي أول مدينة مسلمة تسقط في أيدي الصليبيين، ثم مدينة أنطاكية، وكانت في أيدي السلاجقة، ولم يكن لديهم أدوات حربية فسقطت الواحدة تلو الأخرى، ثم استمر زحفهم إلى بلاد المسلمين في بلاد الشام حتى وصلوا معرة النعمان فأوسعوا المسلمين قتلاً، والروايات الأوروبية التي تحكي الغزو الصليبي والحملات الصليبية تذكر أنهم قتلوا عدداً كبيراً من المسلمين في معرة النعمان، وقاموا بسلخهم بعد موتهم مباشرة، ثم شيهم وأكلوهم، وهذا ثابت في كل الروايات الأوربية التي تعرضت للحملات الصليبية.
ثم بعد ذلك واصلوا زحفهم إلى بيت المقدس، وكان بدر الجمالي أمير الجيوش وغيره من قادة الفاطميين، فما شهروا في وجه الصليبيين سيفاً، ولا أرسلوا سهماً، وكل الذي عملوه أنهم سلموا للصليبين القدس، ولما سلموها قتل الصليبيون في هذا اليوم من المسلمين 70000 في بيت المقدس، حتى ما استطاع القائد الصليبي أن يدخل إلى المسجد الأقصى إلا بعد أن غاص بين جثث المسلمين إلى ركبتيه، وجعلوا من المحراب الأكبر مكاناً لخيولهم وخنازيرهم، وعلقوا على قبة الصخرة صليبهم الأعظم، وظلت ديار المسلمين يجول فيها الشيعة الرافضة فما أن يروا قائداً يهب لجهاد الصليبيين إلا وقتلوه، فقتلوا الأمير ممدود الذي كان من أبطال المسلمين الذين قاتلوا الصليبيين في بلاد الشام، قتلوه وهو خارج من المسجد بعدما صلى الجمعة، وقد أرسل ملك الصليبيين إلى كبير المسلمين يقول له معاتباً: إن أمة قتلت عميدها، في يوم عيدها، -يوم الجمعة- في بيت معبودها -في المسجد- حقيق على الله أن يبيدها.
ثم أذن الله عز وجل أن يعود مجد المسلمين على يد بطل يسمى عماد الدين آق خنقر زنكي بن زنكي، وهو أبو البطل نور الدين محمود زنكي، فقد أذاق الفرنجة الويلات، يقول عنه ابن كثير: كان من أحسن الملوك سيرة، وأجودهم سريرة، وهو الذي أعاد الثقة إلى نفوس المسلمين بعد أن دب الوهن في قلوبهم، وفتح مدينة الرهى، أول مدينة سقطت من بلاد المسلمين.
ثم اغتاله المماليك وهو يحاصر حصون الصليبيين، فتولى الإمارة من بعده ابنه ليث الإسلام نور الدين محمود زنكي، يقول عنه الإمام أبو شامة الشافعي: أطربني ما رأيت من آثاره، وسمعت من أخباره، مع تأخر زمانه، ثم وقفت بعد ذلك على سيرة سيد الملوك من بعده الملك الناصر صلاح الدين، فوجدتهما في المتأخرين كالعمرين -أي: كـ أبي بكر وعمر - في المتقدمين، فلله درهما من ملكين تعاقبا على حكم السيرة، وجميل السريرة، والفضل للمتقدم -يريد نور الدين - فإنه أصل ذلك الخير كله للمسلمين -لأن صلاح الدين ما هو إلا عامل من عماله- فهو الذي مهد الأمور بعدله وجهاده وهيبته في جميع بلاده، ولكن صلاح الدين أكثر جهاداً، وأعم بلاداً، صبر وصابر، وسخر الله له من الفتوح أنفسها.
وكان أول شيء عمله نور الدين محمود زنكي أنه أصلح الجبهة الداخلية، فقمع الرافضة، وأظهر السنة في حلب ودمشق بعدما كان الشيعة متسلطين عليها، ويذكر أنه لما حاول بعض أمراء المسلمين أن يعيدوا السنة كان الشيعة يسحبون الحصر في المسجد الجامع من تحت أرجل المصلين، ويقولون: هذه لـ علي بن أبي طالب، فإذا أراد أبو بكر أن يصلي فليأت بحصر له.
وبعد أن قمع نور الدين محمود زنكي الرافضة والشيعة بحلب أرسل أسد الدين شيركوه ومعه ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي إلى مصر؛ من أجل أن يعين المصريين على طرد الشيعة، ومما يذكر عن هذا البطل العظيم أنه ما فاتته صلاة الجماعة، وكان له قبيل الفجر ركعات يركعها في المسجد قبل أن يأتي الإمام، وقبل أن يأتي المؤذن ليؤذن لصلاة الفجر، وكان هو السلطان الذي ملك بلاد الشام كلها يعمل الأغلاف والسكاكر، وكانت له عجائز يبعن هذه الأغلاف والسكاكر سراً، ويعيش عليها، ويعيش من سهمه في الغنيمة.
ويذكر أن زوجته عصمة الدين بنت الأتابك خاتون بنت معين الدين أنر كانت كثيرة الصدقة، وكانت ترسل إليه أن يأتي إليها بالمال فيقول: ليس لي إلا ثلاثة دكاكين بحمص فخذيها، وأما ما أنا فيه من المال فإنما أنا خازن فيه للمسلمين، لا أخوض النار في هواك.
ويذكر أنه كان في رمضان يمتنع عن طعام المملكة ويرسل إلى شيخه عمر الملا بالموصل ليأتي إليه بالرقاق ليعيش عليه طيلة الشهر.
هذا السلطان العظيم يقول عنه الذهبي: قل أن ترى العيون مثله.
وقال ابن الأثير: ما حكم البلاد بعد عمر بن عبد العزيز أعدل من هذا الملك العظيم.
ومما ذكروا عنه: أنه كان مدمناً لصلاة الليل.
قال ابن الأثير: وكذلك كانت زوجته عصمة الدين بنت الأتابك خاتون، فقد ذكروا أنها قامت ذات ليلة غضبى من نومها، فسألها عن سر غضبها، فقالت: فاتني وردي البارحة فلم أستطع أن أصلي من الليل شيئاً، فأمر بضرب طبل خانة توقظ الناس لصلاة وقيام الليل.
وكان هذا الملك العظيم يتعرض للشهادة كما قال كاتبه أبو اليسر، ويسأل الله عز وجل أن يحشره إليه من حواصل الطير وبطون السباع، وكان شيخ الديار المصرية والشامية قطب الدين النيسابوري يقول له: بالله عليك يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك، فأنت سور الإسلام ومنعته، ولو قتلت ما بقى في المسلمين أحد إلا وأعملوا فيه السيف، فيرد عليه هذا البطل العظيم ويقول: اسكت يا قطب الدين! هذه إساءة أدب مع الله عز وجل، من كان يحفظ البلاد والعباد قبلي غير الذي لا إله إلا هو؟ وكان قاضية القاضي كمال الدين يجلس للقضاء بعد أن تفشى الظلم في الجنود والقواد ويجلس معه في المجلس نور الدين مرتين كل أسبوع.
ويذكر أن أسد الدين شيركوه نائبه على المملكة جمع الحاشية والجند ثم قال: لو أوقفتموني أمام نور الدين لصلبتكم، قالوا: إذاً يطمع في مالك العامة، قال: والله لضياع ملكي أهون عندي من أن ينظر إلي نور الدين بعين ظالم، فلما سمع بذلك نور الدين سجد لله شكراً وقال: الحمد لله الذي جعل عمالنا ينصفون من أنفسهم قبل المجيء إلينا.
ومما يؤثر عنه أنه كان يكثر الصلات والنفقة على فقراء المسلمين وزهادهم وعبادهم، ويقول: كيف أقطع صلاتي بقوم يدافعون عني بسهام في الليل لا تخطئ، وإنما أنصر وأرزق بدعائهم وبإخلاصهم، وكان هذا البطل العظيم جذوة مشتعلة من الشعور بهم المسلمين، سكن الديار الشامية وكان سلطانها، وكان جيشه بمصر، فلما بلغه أن الفرنجة نزلوا على دمياط في الديار المصرية على الساحل المصري أرسل الجيش لقتال الفرنجة، وامتنع عشرين يوماً عن أكل الطعام، فما كان له إلا الشراب حتى بلغ به الضر والجهد، وأشار عليه الأطباء أنه يعرض نفسه للهلكة، فلم يكن يستطيع أن يسيغ الطعام والمسلمون محاصرون بمصر.
ومما يذكر عنه أحد قواد جيشه أن حدثه بحديث مسلسل بالتبسم فلم يبتسم، فراجعه أن يبتسم حتى يتم له سلسلة السند، فقال: إني لأستحي من الله عز وجل أن يراني مبتسماً والفرنجة يحاصرون دمياط.
واستمر به الحال حتى رأى إمام مسجده الإمام يحيى رسول الله في المنام يقول له: يا يحيى! بشر نور الدين محمود زنكي برحيل الفرنجة عن دمياط، قال: وهل من علامة يا رسول الله؟ قال: قل له: علامة تل حارم.
ثم قص عليه النبي صلى الله عليه وسلم هذه القصة: أنه لما اشتد الكرب بالمسلمين في يوم حارم، وهذه كانت أعظم معركة بينه وبين النصارى الصليبيين، وقتل فيها 10000 وأسر 10000، لما اشتد الكرب بالمسلمين نزل عن فرسه وجواده وعفر خديه في التراب، وقال: اللهم إن هؤلاء عبادك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك -والقصة يرويها أبو شامة في عيون الروضتين في المجلد الأول- ثم قال: اللهم انصر دينك ولا تنصر محمود، أيش دخل محمود الكلب بين الله وبين عباده؟! وكان هذا النصر بداية وتمهيداً لفتح بيت المقدس على يد البطل صلاح الدين الأيوبي، وانتصر المسلمون في هذه(36/6)
خلق الحياء
إن لكل دين خلقاً، وخلق دين الإسلام الحياء، والحياء له فضل ومنزلة عظيمة عند الله عز وجل، وهو على أقسام أعلاها حياء العبد من ربه، فيقلع عن المعصية، وبالحياء يرزق المؤمن الخوف منه سبحانه لا من غيره، وحياء الأنبياء والصالحين نبراس لنا في ترك معاصيه سبحانه، والائتمار بأوامره.(37/1)
خلق الحياء ومنزلته في شعب الإيمان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين، ثم أما بعد: حديثنا اليوم بعون الله وتوفيقه إليكم عن العلم الأكبر كما قال ابن عطاء، وعن رأس مكارم الأخلاق كما قالت السيدة عائشة، عن خلق الإسلام: الحياء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً، وإن خلق الإسلام الحياء) والحياء تعبد لله عز وجل بأسمائه: الحيي والرقيب والعليم والخبير والشهيد.
وهي حالة تنشأ كما قال الجنيد رحمه الله من رؤية الآلاء ورؤية التقصير، أي: رؤية نعم الله تبارك وتعالى عليك، وتقصيرك ومعاصيك، فتنشأ بينهما حالة تسمى الحياء.
قال الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
وقال تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
وقال تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:52].
وقال تعالى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80].
وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16].
وروى الإمام أبو داود في سننه بسند فيه انقطاع، ووصله الطبراني في الصغير والبيهقي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من فعلهن فقد طعِم طَعْم الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا هو، وأدى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من أوسط أموالكم)، وزاد البيهقي: (وزكى نفسه، فقال رجل: وما زكى نفسه يا رسول الله؟! قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان).
وقال سيدنا عبد الله بن عمر: لن يجد العبد صريح الإيمان حتى يعلم أن الله معه حيث كان، فلا يعمل بسر يفتضح به يوم القيامة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء والإيمان قرنا جميعاً، فإذا رفع أحدهما رفع الآخر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من شعب الإيمان).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحياء والعي شعبتان من الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من النفاق).
والعي: هو عدم الخوص باللسان كثيراً؛ مخافة أن يقع الإنسان في الباطل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما كان الحياء في شيء إلا زانه، وما كان الفحش في شيء إلا شانه).
فعكس الحياء: القحة والبذاءة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يستحيي أن يرفع إليه العبد يديه فيردهما صفراً خائبتين).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستِّير، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر).
قال الإمام ابن القيم: وحياء الله عز وجل حياء لا تكيفه العقول، ولا تدركه الأفهام، فإنه حياء بر وجود وكرم، يستر على العاصي وهو يعلم أنه من عصاه.
قال: والحياء صفة من صفات الله عز وجل، ومن تقرب إلى الله عز وجل بصفة من صفاته مما ينبغي أن يتقرب بها أدخلته على الله عز وجل، وقربته من الله عز وجل، وأدنته من الله عز وجل، وصيرته محبوباً، فإن الله عز وجل عليم يحب العلماء، رحيم يحب الرحماء، جواد يحب الجود.
فالإنسان يتخلق بهذه الصفة من صفات الله عز وجل على معنىً يليق به، وليست كل صفات الله عز وجل مما ينبغي للعبد أن يتخلق بها، فصفة الكبرياء خاصة بالله تبارك وتعالى، وينبغي للعبد ألا يتخلق بها، وأما صفة الرحمة وصفة الحياء فينبغي للعبد أن يتخلق بهما على معنى يليق بالعبد، فالعبد عبد والرب رب.(37/2)
أقسام الحياء
والحياء يأتي على أقسام عشرة: حياء الجناية، وحياء التقصير، وحياء الإجلال، وحياء الحشمة، وحياء الكرم، وحياء استصغار النفس، وحياء المحبة، وحياء العبودية، وحياء الشرف والعزة، وحياء المستحيي من نفسه.(37/3)
الحياء من الناس
قالوا: أحي حياءك بمجالسة من يستحيا منه.
وقال مجاهد: لو لم يكن من مصاحبتك للصالحين إلا أنهم يمنعونك من المعاصي حياءً لكان في هذا خير.
أي: أنك لو لم تستفد من جلوسك وصحبتك للصالحين إلا أن تقلع عن الذنوب حياءً وخجلاً منهم لكفى.
ومن الناس من يتساهل، فإذا نسيت نفسك ونسيت أهلك وزوجك وأولادك، فلا تنس ثلاثة مواقف: موقفاً بين يدي الله عز وجل ليس بينك وبينه ترجمان، فعن عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا سيخلو بربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشام منه فلا يرى إلا ما قدم).
يوم يعاتبك الله عز وجل على سيئاتك ويذكرك بها: أتذكر ذنب كذا يوم كذا وكذا، هذا الموقف لا تنساه أبداً، فإذا نسيت كل من حولك فلا تنس أنك ستخلو بربك يوماً من الأيام.
والموقف الثاني: وأنت على الحوض وتنظر إلى رسول الله لأول مرة، وما نظرت إليه قبلها، انظر بحياء المحبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكيف تخاطبه وكيف تكلمه حين يسألك عن ميراثه، ماذا فعلت به؟ موقف عظيم تتقطع دونه القلوب حسرة.
والموقف الثالث: حين يصاح بك على رءوس الخلائق: فلان بن فلان، وتتشابه الأسماء، فوالله ما يستقر في قلبك إلا أنك أنت المراد، فتصرخ على رءوس الأشهاد، يقول صلى الله عليه وسلم: (يرفع لكل غادر لواء غدره يوم القيامة عند استه، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان) هذا في غدر الناس بالناس، فكيف في قلبك مع ربك، وفي نقضك لعهدك مع الله عز وجل، وكيف بميثاق الفطرة الذي أودعه فيك، ماذا تقول لربك؟! قال تعالى: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، وقوفك بين يدي الله عز وجل ووقوفك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقوفك على رءوس الأشهاد.
فيا سوأتا والله راءٍ وسامع لعبد بعين الله يغشى المعاصيا(37/4)
الحياء من الملائكة
الحياء من الملائكة صفة من صفات الصالحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وأصدق أمتي حياءً عثمان).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة)، فسيدنا عثمان كان لا يفيض الماء إلا وهو متستر بثوبه، وكان يغتسل ولا يقيم صلبه؛ حياء من الله عز وجل.
وما أكذب عبد الرحمن الشرقاوي حين قال: إن سيدنا عثمان قص على الصحابة ما كان بينه وبين زوجه! فهذا الرجل قد يكذب على أي شخص، لكن على أحيا الأمة عثمان بن عفان فهذا مستحيل! فالحياء من الملائكة واجب، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11]، أي: فاستحيوا منهم.
ولا أقبح ممن لا يستحيي من الجليس، ولذلك يقول عبد الرحمن بن أبي ليلى: ما على أحدكم إذا خلا بنفسه أن يقول لملكيه: اكتبوا على بركة الله، ثم يفعل الخير.
وكان أبوه يستشعر قرب الملائكة من مجلسه فيقول: يا ملكي ادعوا الله لي، فأنتما أطوع لله مني.
فالإنسان يستشعر قرب الملائكة الأقران فيكرمهم؛ لأنهم أحق بالكرم.(37/5)
حياء المستحيي من نفسه
الرجل الذي يستحيي من الناس ولا يستحيي من نفسه ليس لنفسه عنده قدر، فهو يفعل في السر ما يستحيي أن يطلع عليه الناس في العلانية، فليعلم أن نفسه عنده هينة، ولو كان لنفسه عنده قدر لاستحيا منها، فيجعل من نفسه نفسين: نفساً تفعل معصية، ونفساً تحاسبها وتعاتبها.(37/6)
الحياء من الله سبحانه
والحياء على أنواع أعلاه وأفضله الحياء من الله تبارك وتعالى؛ لحديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله! إنا لنستحيي من الله حق الحياء، قال: ليس ذاكم، ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا، فمن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء).
فقوله: (فليحفظ الرأس وما وعى) أي: حتى الوساوس حتى خطرات النفس تحفظها لله عز وجل.
وقوله: (وما وعى) أي: العين والشم والسمع تحفظه لله تبارك وتعالى، وقال أهل العلم: أعلى من هذا درجة حديث السر الذي ينشأ في رأسك، قال ثور بن عبد الله التستري: أول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم، أي: من العمل السيء.
وقوله: (والبطن وما حوى) أي: ينظر من أين طعامه، ومن أين شرابه، فلا تكن الرجل الذي طعامه من حرام، وشرابه من حرام، ويطيل السفر أشعث أغبر، ثم يقول: اللهم ارزقني، لا يستحيي من الله تبارك وتعالى، فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى.
قال بشر بن الحارث الحافي: لو صفا لي درهم من حلال لاشتريت به دقيقاً، ولصنعت منه خبزاً، ثم دققته، ثم مررت به على المرضى أداويهم به.
قوله: (وليذكر الموت والبلى) فمن ذكر الموت هانت عليه شهواته، ومن تذكر عذاب القبر ومنكراً ونكيراً، هانت عليه شهواته.
قوله: (ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا) فاستحي من الله عز وجل أن يراك ماضياً إلى الدنيا بقلبك، والله عز وجل لم ينظر إليها، فقد قال النبي صلى الله علي وسلم: (لو كانت الدنيا تساوي عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء).
الحياء من الله عز وجل يتولد من معرفة العبد لمقام الله عز وجل، ولذلك قال بلال بن سعيد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.
وقال أحدهم: يا رب! أتراك ترحم من لم تكن عيناه للمعاصي، حتى علم ألا عين تراه غيرك.
فيا أخي المؤمن لم جعلت الله أهون الناظرين إليك؟ لم لا تستحيي من الله عز وجل؟ يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أوصيك أن تستحيي من الله عز وجل كما تستحيي من الرجل الصالح من قومك).
يا من يشير إليهم المتكلم وإليهم يتوجه المتظلم وشغلتم كلمي بكم وجوارحي وجوانحي أبداً تحن إليكم وإذا نظرت فلست أنظر غيركم وإذا سمعت فمنكم أو عنكم وإذا نطقت ففي صفات جمالكم وإذا سألت الكائنات فعنكم وإذا رويت فمن طهور شرابكم وبذكركم في خلوتي أترنم فعليك أن تجعل الله عز وجل أعظم ما تحن إليه.
كان عمرو بن عبد القيس ينام في البراري، وهو من دهاة العرب، فقالوا له: أما تخشى من السبع؟ قال: إني لأستحيي من الله عز وجل أن أخشى غيره وأنا في سلطانه.
مع أن هذا خوف جبلّي، والإنسان يخاف من الأسد، ولكن هذا كان خوفه من الله أعلى مما جعله لا يخاف من الأسد.
وسيدنا سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد في حديث حسنه الشيخ الألباني أنه وقع في أسر الروم، ففر من الأسر، فبينما هو على الطريق إذ لقيه الأسد فقرب منه وقال له: يا أبا الحارث! -وهذه كنية الأسد- أنا مولى رسول الله، وكان من أمري كذا وكذا وكذا، وجلس يحكي للأسد، قال: فبصبص الأسد -أي: حرك ذنبه يميناً ويساراً- حتى أوصله إلى مأمن الجيش.
وهذا عمرو بن عتبة بن فرقد الإمام التابعي العظيم كان والده قائداً لجيش من جيوش المسلمين، هذا الرجل الصالح ما كان يتحرك في صلاته، وفي ذات ليلة أتى السبع ففر الجيش وهو واقف في صلاته فما انصرف، فلما انصرف قال: ابحث عن رزقك في مكان آخر، فقالوا له: أما خفت السبع؟ قال: إني أستحيي من الله عز وجل أن أخاف غيره وأنا بين يديه.
وبنان الحمال دخل على أحمد بن طولون أمير مصر فأمره ونهاه ووعظه، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فأتى بسبع وألقاه إلى بنان وهو في السجن، فإذا بالسبع يشم بناناً، فقالوا له: أين كان قلبك والأسد يشمك؟ قال: إني كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع.
فهؤلاء قوم لا تخطر لهم المعصية على بال؟ لأن الإنسان قد يترك المعصية خوفاً من الوعيد وخوفاً من النار، ومقام أعلى منه أن يقلع عن المعصية حياءً من الله عز وجل، فيعلم بقرب الله عز وجل فيقلع عن المعصية، وأعلى منه أن يقلع عن المعصية حباً لله عز وجل، وأن يعظم حياؤه من الله عز وجل أن يعصيه وهو يحبه.
يقول عمر بن الخطاب: (من قل حياؤه قل ورعه، ومن قل ورعه مات قلبه).
ويقول مقدم الجيوش الجراح بن عبد الله: تركت الذنوب أربعين سنة حياءً من الله عز وجل، ثم أدركني الورع.
يعني: ظللت أجاهد نفسي وأترك الذنوب حياءً من الله أربعين سنة، ثم بعد ذلك أدركني الورع.(37/7)
حياء المحبة
أما حياء المحبة فمثاله في البشر أن الرجل مثلاً إذا عقد على امرأة ولم يدخل بها، ثم ذهب إلى بيت أبيها فمجرد أن تخرج عليه تجد أن الدم يتصاعد إلى جبينه من غير أن يدري، أو يتلعثم في كلامه إذا رآها أول مرة بعد العقد، وهذه حالة يعرفها كل الناس، قال الشاعر: فما هو إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب وإني لتعروني لذكراك هزة لها بين جلدي والعظام دبيب وأما حياء المحبة بالنسبة لله تبارك وتعالى فهذا يدفعك إلى كره المخالطة للخلق، فإذا أحببت الله عز وجل، وعلمت أن الله عز وجل قريب منك، فهذا يدفعك إلى حب الله عز وجل، وهذا الحب يدفعك إلى الأنس بالله عز وجل، ويكره إليك مخالطة الخلق، فهذا شيخ الإسلام ابن تيمية كان إذا أصحر يقول: وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك القلب بالسر خاليا وما بقى من زمان الدنيا إلا الخلوة بالله تبارك وتعالى، قيل للإمام أحمد بن حنبل: ما تشتهي؟ قال: سرداب أخلو بالله تبارك وتعالى فيه.
فإذا أبعدك الله عز وجل من مخالطة الخلق، وأنعم عليك بجواره ومحبته والأنس به، فقد اجتباك الله تبارك وتعالى، ولذلك مما يقسي القلب فضول مخالطة الناس ومجالستهم، وقد نهي عن السمر بعد العشاء إلا مع زوج، أو في مطالعة العلم، لكن الناس الآن تبدأ أمورهم بعد صلاة العشاء، وجلساتهم لا تطيب ولا يحلو لهم الجلوس إلا بعد صلاة العشاء، ثم بعد ذلك يضيع عليهم الفجر، فبالله عليك هل العدد الكبير الذين يصلون في العشاء يصلون الفجر؟ فلو أقللت من مخالطتك للناس، وعلمت أن لله حقاً في حرمات الليالي لما كان هذا حالنا مطلقاً.(37/8)
حياء الحشمة وحياء استصغار النفس وحياء عزتها
هذا الحياء اختفى من بين الناس، كحياء سيدنا علي بن أبي طالب، حيث قال: كنت رجلاً مذاءً فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لمكانة ابنته، فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم، فما بال الناس قد ارتفع هذا من دنياهم، فيجلس الرجل ويحدث بهذا وبجواره ابنته ولا يستحيي، بل ويكلم الرجل حميه ونسيبه في المسألة مما يتعلق بابنته ولا يستحيي منه.
ومثل الرجل يستحيي أن يسأل ربه الدنيا وهو يعلم أنها لا تساوي عند الله عز وجل جناح بعوضة، يقول أحد العباد: إني لأستحيي أن أسأل ربي الدنيا وهو مالكها، فكيف أسألها من غير مالكها؟! حياء عزة النفس وشرفها، كالرجل الكريم الجواد العظيم في هباته لله، إذا صدر منه ما هو أقل من قدره فإنه يستحيي من هذا وكأنه هو الآخذ، ولا ينظر إلى عيني الآخذ؛ لأنه يعلم كثرة السؤال، فإذا كنت مثلاً متعوداً أن تعطي أحداً من إخوانك كلما قابلته جنيهين، وفي يوم من الأيام قابلته ولا يوجد معك سوى ربع جنيه، فتعطيه هذا الربع وأنت مستحي منه تغض بصرك إلى الأرض، وكأنك أنت الذي أخذت، ومن آداب الأعطية ألا تنظر إلى عيني الآخذ، فللسؤال كسرة، نسأل الله تبارك وتعالى أن ينجينا وإياكم من هذا.(37/9)
حياء العبودية
هو حياء كما قال ابن القيم: ممتزج بين خوف وبين حب، ويدفعك هذا إلى استصغار ما يصدر منك في حق الله عز وجل، فتقول في نفسك: بمثل هذه العبودية أقابل الله عز وجل! ولذلك فإن العباد الصالحين دائماً يستغفرون الله عز وجل عند كل طاعة، ويقولون: مثل هذه الطاعة لا تليق بمقام الله عز وجل، فالعبد إذا تحلل من صلاته قال: أستغفر الله، أستغفر الله، أستغفر؛ لأن مثل هذه العبادة لا تليق بمالك الملوك سبحانه رحمان الدنيا والآخرة، وتستقل هذا من نفسك، فهذا حياء العبودية.(37/10)
حياء الإجلال
وهذا الحياء يكون على قدر المعرفة بالكيف، مثل حياء سيدنا عمرو بن العاص من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما جاءه الموت قال: والله ما كان شيء أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما كنت أملأ عيني من رسول الله حياءً منه، ولو قلتم لي: صفه، لا أستطيع أن أصفه.
أي: لم يكن يستطيع أن يملأ عينيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم حياءً منه وإجلالاً لمقامه العظيم، كما يقول الشاعر: أشتاقه فإذا بدا أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة وصيانة لجماله الموت في إدباره والعيش في إقباله وأصد عنه إذا بدا وأروم سبط خياله وكان عبد الله بن عمر رضي الله عنه جالساً في مجلس أبي بكر وعمر ورسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن من الشجر شجرة مثل المؤمن لا يسقط ورقها، فوقع في الناس أنها شجر البوادي، ووقع في نفسي أنها النخلة، فلم أتكلم إجلالاً لمكانة أبي بكر وعمر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هي النخلة) فحدث عبد الله بن عمر والده بعد ذلك، فقال: يا بني! لئن كنت قلتها أحب إلي من كذا وكذا.
وقال سيدنا عبد الرحمن بن مهدي تلميذ سفيان الثوري: والله ما كنت أستطيع أن أنظر إلى سفيان الثوري حياءً منه وهيبة.
وقيل عن سفيان الثوري: كان أصفق الناس وجهاً في الله عز وجل، يعني: لا يستحيي من أحد في الحق، وهذا من غاية الحياء وكماله: ألا تستحي من مقارعة المبطلين لمقام الله عز وجل، وترفع حياءك من الله عز وجل فوق حيائك من الخلق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا لا يمنعن أحد هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه).
ولذلك لما دخل سفيان الثوري على المهدي أغلظ له في القول وهو خليفة المؤمنين، فقال له عبيد الله وزير المهدي: لقد أسأت وتعديت، قال: اسكت فما أهلك فرعون إلا هامان، فلما ولى وانصرف قال عبيد الله للخليفة المهدي: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أضرب عنقه، قال: اسكت! وهل بقى في الأرض من يستحيى منه غير سفيان.(37/11)
حياء الكرم
مثلما حدث مع النبي صلى الله عليه وسلم حين أكرم ضيوفاً له فأبوا إلا الجلوس، فعاتبهم الله عز وجل: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب:53].
ومثال ذلك أيضاً: أن تأتي إلى أخ لك فيصنع لك حق الضيف، وحق الضيافة ثلاثة أيام، فلا تنتظر حتى تأخذ متاع البيت على كتفيك وترحل، وإنما تتقي الله تبارك وتعالى في إخوانك.(37/12)
حياء التقصير
أما النوع الثاني من الحياء فهو: حياء التقصير، كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، ثم إذا رفعوا رءوسهم يوم القيامة قالوا لله عز وجل: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك.
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91].
وأي ذنب يرتكبه العبد دائر بين أمرين كما قال ابن القيم، فإذا قال العبد -حتى ولو ارتكب صغيرة-: إني أفعل هذا الذنب والله عز وجل لم يرني، ولا يطلع علي، ولا يعلم بخطيئتي، ولا يعلم بقبحي، فهذا خرج من الإسلام بالكلية، حتى ولو ارتكب خطيئة.
وأما إذا قال: إني أفعل هذا الذنب وأعلم أن الله تبارك وتعالى يراني من فوق سبع سموات، وأعلم أنه مطلع علي، فهذا يدل على قمة الحياء.
وفي ذلك يقول سيدنا عبد الله بن عباس: يا صاحب الذنب لا تأمن عاقبته، فما بعد الذنب أهون من الذنب، حزنك على الذنب إذا فاتك وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وفرحك بالذنب إذا عملته أعظم من الذنب، وقعودك وإصرارك على الذنب وأنت على الذنب أعظم من الذنب، وامتناع فؤادك إذا حركت الريح ستر بابك، ولا ينخلع قلبك ويضطرب لنظر الله عز وجل إليك من فوق سبع سماوات أعظم من الذنب.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي عامر الألهاني: (إني أعلم أناساً يأتون يوم القيامة بحسنات مثل جبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباء منثوراً، فقال ثوبان: يا رسول الله! جلهم لنا، أي: صفهم لنا نعرفهم لئلا نكون منهم، قال: هم أناس من جلدتكم، ويأخذون من الليل مثلما تأخذون، ويصلون كما تصلون، ولكنهم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها).
وكم ذي معاص نال منهن لذة ومات فخلاها وذاق الدواهيا وتصرم لذات المعاصي وتنقضي وتبقى تباعات الذنوب كما هيا فيا سوأتا والله راءٍ وسامعٌ لعبد بعين الله يغشى المعاصيا(37/13)
حياء الجناية
أما حياء الجناية: فهو ناشئ عن اعتراف العبد بذنبه، فيعلم العبد أنه أذنب، ويعلم أن له رباً فيستحيي منه، كحياء آدم عليه السلام بعد أن فعل المعصية وفر في الجنة، فقال له الله عز وجل: أفراراً مني يا آدم؟! قال: لا يا رب! بل حياء منك.
وروى الإمام البخاري ومسلم عن قتادة عن أنس رضي الله عنه: (أن الناس إذا اجتمعوا في عرصات القيامة وهالهم الموقف، رجعوا إلى الأنبياء، فذهبوا إلى آدم أبي البشر، وقالوا له: يا آدم! أنت أبو الخلق خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة أن يسجدوا لك، ألا ترى ما نحن فيه، ألا تستشفع لنا إلى ربنا، قال: فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته، فيستحيي منها ويقول: اذهبوا إلى نوح) وهكذا مع كل نبي إلى سيدنا عيسى فيقول: لست هناكم، ويذكر خطيئته فيستحيي منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ومذهب السلف -وليس لهم مذهب سواه- جواز الصغيرة على الأنبياء، ولكن هناك فرق بينهم وبين بقية البشر، وهو أنهم إذا فعلوا الصغيرة تابوا منها في الحال وأقلعوا عنها، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة.
ومن هذا الحياء حياء الفضيل بن عياض رحمه الله، حيث قال: لو خيرت أن أبعث فأدخل الجنة وبين ألا أبعث لاخترت ألا أبعث.
فقيل لـ محمد بن أبي حاتم: هذا من الحياء؟ قال: نعم، من حيائه من الله عز وجل.
وشهد الفضيل بن عياض موقف الناس في عرفات، فأمسك بلحيته وتساقطت دموعه على وجنتيه، وهو يقول: واسوءتاه منك وإن عفوت، واخجلاه منك وإن عفوت.
والأسود بن يزيد لما احتضر وجاءه الموت، بدا عليه الجزع، قالوا: ولم الجزع؟ قال: ومن أحق مني بالجزع، ومن أولى مني في هذا الموقف بالجزع، إن العبد ليذنب الذنب فيعلم أن الله غفره له، فيستحيي من موقفه بين يدي الله تبارك وتعالى.
يا خجلة العبد من إحسان سيده يا حسرة القلب من ألطاف نعماه فكم أسأت وبالإحسان قابلني واخجلتي واحيائي حين ألقاه يا نفس كم بخفي اللطف عاملني وقد رآني على ما ليس يرضاه يا نفس كم زلة زلت بها قدمي وما أقال عثاري ثم إلاه دخل أبو حامد الخلقاني على الإمام أحمد إمام أهل السنة، فقال له: يا إمام! ما تقول في شعري؟ قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قول القائل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني فأمره الإمام أحمد أن يكررها، ثم أمسك بطرف ثوبه وأخذ نعله، ثم أغلق الباب، وسمع نحيبه من خلف الباب وهو يقول: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني قال الحسن البصري: لو لم يكن من البكاء إلا على هذا الموقف، لكان حرياً أن يطول بكاؤنا.(37/14)
نماذج من حياء الأنبياء والصالحين
إن سيدنا موسى عليه السلام أعلى الله مقامه بجهاده لليهود الذين كانوا لا يتناهون عن منكر يأتونه، وكان موسى عليه السلام حيياً ستيراً، كما قال صلى الله عليه وسلم: (كان لا يرى شيء من جلده حياءً، فقال اليهود عنه: إنه آدر، وبينما كان يغتسل ذات مرة إذ أخذ الحجر ثوبه، فأخذ يطارد الحجر ويقول: ثوبي يا حجر! وظل يضرب الحجر حتى بان أثر الضرب ندباً على الحجر).
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم أشد الناس حياءً، إذ كان أشد حياءً من العذراء في خدرها، وكان إذا رأى شيئاً يكرهه عرف الصحابة ذلك في وجهه.
فمن حيائه أن امرأة أتت تسأله عن الغسل، فقال: اغتسلي لكذا وكذا، وضعي فرصة من المسك، فقالت: كيف أتطهر؟ فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على وجهه، وعلمت السيدة عائشة، فجذبت المرأة ثم جعلت تعلمها كيفية الغسل وكيفية الطهارة.
وأما حياؤه من ربه فقد ورد في حديث مالك بن صعصعة لما قال له موسى: (سل ربك التخفيف؛ فإن أمتك لا تقدر، قال: لقد سألت حتى استحييت، ولكني أرضى وأسلم).
وحياء ابنة الرجل الصالح الذي يسميه العامة شعيباً، وهو ليس نبي الله شعيباً، قال تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] يعني: كأن الأرض زرعت حياءً وهي تمشي عليه.
وقالت هذه المرأة الصالحة لأبيها: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ} [القصص:26]، وهي تريد أن تطلبه لنفسها، ولكنها تستحيي من والدها.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس للنساء أن يحققن الطريق).
وجاءت فاطمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تريد أن تسأله خادماً، قال: ما أتى بك يا بنية؟! قالت: جئت أسلم عليك، ولم تخبره بما تريد حياءً، ولما كان اليوم القادم فعلت ما فعلت، فأتاها النبي صلى الله عليه وسلم في بيتها وهي في مخدعها، فأدخلت نفسها في الغطاء حياءً من والدها.
وأما حياء الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما فقالت: لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي أبو بكر كنت أدخل واضعة ثوبي وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فلما مات عمر ما كنت أدخل إلا في كامل ثوبي؛ حياءً من عمر، وهذا بعد موته.(37/15)
دعوة إلى التمسك بخلق الحياء
وقد كان من قبل تمشي المرأة في الشارع وتعلم أن عمها -مثلاً- في نهاية الشارع، فتراها تضع الخمار على وجهها، ولكن بعد دخول التلفاز مات كل شيء، فما يفعل في المدن يفعل في القرى على قدر ما عند الناس من مال.
ومن العجيب أن الرجل يأتي بزوجته معه في حفل فيقولون: لن تكون رجلاً متحضراً إذا لم ترقص أنت وزوجتك أمام المدعوين.
فعلامة موت القلب والروح فقدان الحياء، أو قلة الحياء.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان فاستحيي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني فكيف وقد مات الحياء؟! فما بعد التلفاز إلا موت القلب، وذهاب الحياء، وضياع الأمة.
ولما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم العهد على النساء المسلمات من قريش قال: ولا تسرقن ولا تزنين، فجاءت هند بنت عتبة وقالت: أو تزني الحرة يا رسول الله؟! ووضعت فاطمة بنت عتبة يدها على رأسها حياءً، فقالت لها عائشة: أقري أيتها المرأة! فوالله ما بايعنا إلا على هذا.
يقول الله تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26]، لباس التقوى: هو الحياء كما قال علماء التفسير، والتبرج ثمرة المعصية، قال تعالى: {فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه:121]، فبدو عورة آدم وزوجه كان من ثمرات المعصية.
فالحياء زينة الرجال، ولكل دين خلق وخلق هذا الدين الحياء، فاستحيوا من الله عز وجل أن يرى منكم ريبة، واستحيوا من الله أن يراكم على غير هدي الإسلام، فالإنسان قد يصد عن دين الله وهو لا يدري، فليستح من الله في معاملاته مع ربه ومع الناس أجمعين.
فاستح من الله تبارك وتعالى، واستح من الناس، واستح من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارزقنا الحياء، واسترنا بالعافية، واجعل تحت الستر ما تحب؛ فربما سترت على ما تكره، اللهم أنت أصلحت الصالحين فاجعلنا من الصالحين.
اللهم ارزقنا حبك، وحب من يحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك، اللهم وما أعطيتنا مما نحب فاجعله قوة لنا فيما تحب، اللهم أحيي قلوبنا بحبك.
ربنا اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أوابين منيبين، وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا.
إلهي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله وتكن دليلاً له، إلهي ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه وتكن أنيساً له.
اللهم داو أمراض قلوبنا، اللهم ارزقنا لذة العيش بعد الموت، وحب النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك.
اللهم احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، وتقبلنا في عداد عبادك الصالحين، واستر علينا يا أرحم الراحمين، ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا.
اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، اللهم أحي قلوبنا، اللهم ارزقنا جواب السؤال عند لقياك، اللهم ارزقنا جواب السؤال عند لقيا رسولك، اللهم لا تفضحنا يوم يقوم الأشهاد، سترت علينا في الدنيا فاستر علينا في الآخرة، وعاملناك بالخيانة وعاملنا عبادك بالأمانة، فاستر علينا يا أرحم الراحمين، استر علينا يا أرحم الراحمين.
اللهم نج إخواننا المسلمين المشردين في فلسطين، عليك باليهود، عليك باليهود، عليك باليهود خذ لدينك منهم حتى ترضى، خذ لأطفال المسلمين منهم حتى ترضى، خذ لعورات المسلمين منهم حتى ترضى، ونج إخواننا في كل مكان، وائذن لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
عبد الله! (عش ما شت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به).
البر لا يبلى، والذنب لا ينسى، والديان لا يموت.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(37/16)
الصبر
من العبادات الجليلة التي ينبغي أن تلازم المؤمن في حياته ولا يمكنه الاستغناء عنها بحال عبادة الصبر، فهو الضياء في الظلمات والحوالك، والقائد إلى منابر الخير والفلاح، وركن الرفعة والسؤدد، ففضله عظيم، وخيره كبير، وجزاؤه أوفر جزاء، لا يعلمه إلا رب الأرض والسماء.(38/1)
فضل الصبر(38/2)
الصبر عدة المؤمن
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: فاعلم أخي أن الصبر جواد لا يكبو، وسيف لا ينبو، وجند لا يهزم، وجدار لا يهدم، فهو عدة المؤمن كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (وما أعطي أحد عطاء خيراً وأوسع من الصبر).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: نعم عيش أدركناه بالصبر، ولو كان الصبر من الرجال لكان كريماً.
وقال علي بن أبي طالب: الصبر مطية لا تكبو، والإيمان نصف صبر ونصف شكر، وهو واجب بإجماع علماء الأمة، قال الإمام أحمد بن حنبل: ذكر الصبر في القرآن في نحو تسعين موضعاً, من هذه التسعين ما هو أمر به مطلقاً، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
وقال الله تبارك وتعالى لنبيه: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127]، فهذا أمر بالصبر مطلقاً.
الأمر الثاني الذي جاء به في القرآن الكريم النهي عن ضده، قال الله تبارك وتعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف:35]، والعجلة ضد الصبر.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139]، كل هذا نهي عن ضد الصبر من العجلة كما قال الله تبارك وتعالى لنبيه: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، فإنه لما ترك قومه بعد أن دعاهم إلى الله عز وجل واستبطأ إجابة قلوبهم إلى الله عز وجل تركهم دونما إذن من الله عز وجل عاتبه الله عز وجل بحبسه في جوف الحوت، {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات:143 - 144].
وقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه: {وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم:48]، فاستجاب رسولنا صلى الله عليه وسلم لأمر ربه سبحانه، فقد روى الإمام البخاري عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لاقينا من المشركين شدة) - وكانت مولاة خباب بن الأرت تأتي له بالحديد المحمى فتلقيه على ظهره وهو على رمال الصحراء فوالله ما ينطفئ هذا الحديد المحمى إلا بما يسيل من دهن ظهره.
قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة -قال في رواية- فاحمر وجهه وقال: إنه كان يؤتى بالرجل ممن كان قبلكم فيشطر نصفين ثم يمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ما يرده ذلك عن دينه، والله ليتمن الله عز وجل هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون).
وقد لاقى الصحابة من الشدة ما لم يلاقه بشر، فهذا عمار بن ياسر كان يعذب حتى ما يدري ما يقول، وكان مما يعذب به أن كانوا يضعونه في الزيت المغلي، وهذا بلال داعي السماء كانوا يضعونه في حر الصحراء وهجير مكة وهو لا ينسى نشيده الخالد: أحد أحد، ومع هذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ولكنكم تستعجلون).
يمر على عمار بن ياسر وهو يعذب فيقول له: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، لم يمنهم بأي شيء إلا الجنة، حتى يعطيهم فسحة وأملاً في التفكير، وأملاً في بعد المعركة بينهم وبين الباطل، وأنها معركة تحتقر حدود الأرض حتى تصل إلى القيامة، (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة)، والحديث حسنه العلماء بمجموع الطرق.
وعن النهي عن ضد الصبر من العجلة يقول الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله وهو الخبير المحنك الذي ابتلي بما ابتلي به من سجن وبلاء، وهو يقدم النصيحة في المجلد الأول من الظلال عند قول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة:246]: قال: القائد البصير المحنك لا ينخدع بحماس الجماهير من حوله، فإن بني إسرائيل طلبوا لقيا العدو وطلبوا جهاد أعدائهم، فلما كتبه الله تبارك وتعالى عليهم نكصوا على أعقابهم، وبدأو العد التنازلي والانسحاب، فالقائد البصير المحنك لا ينخدع بالحماس الثائر للجماهير من حوله؛ لأن هذه الجماهير التي لم ترب جيداً على الكتاب والسنة.
ثم بعد ذلك أطلق البشارة للصابرين حين يقول الكريم الذي لا يحد كرمه والجواد على كل من جاد: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155]، فلم يقل وبشرهم بالجنة وإنما أطلق البشارة، وإطلاق البشارة مع كرم الله الذي لا يحد يدل على عظيم الأجر للصابرين كما قال الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54]، وكما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وبذلك علم أن أجر الصبر لا يعلم حده ولا ثوابه إلا الله عز وجل.(38/3)
الصبر واليقين طريق الإمامة في الدين
الوجه الثاني في ذكر الصبر في القرآن الكريم: أن الله عز وجل ذكر أن الإمامة في الدين لا تنال ولا تدرك إلا بالصبر واليقين، قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
فالإمامة في الدين والتبحر في دين الله عز وجل لا يأتي في يوم وليلة، فالرجل الذي لا يصبر على طلب العلم أكثر من سنتين أو ثلاث وهو يريد التبوء والتصدر ولما يرسخ بعد أنى له ذلك؟ أما وعى قول القائل: تفقهوا قبل أن تسودوا.
كما أن الشهرة تمنع الرجل من طلب العلم كما يحلو له، وقال سفيان الثوري: ما صدق الله عبد أحب الشهرة، ولذا كان العلماء عبر التاريخ يفرون منها.
فطالب العلم عندما يحرص على تبوء المنازل قبل أن يصل يقطعه ذلك عن طلب العلم والاستزادة منه، ولذلك قال ابن عباس: ذللت متعلماً وعززت عالماً، ومن خدم المحابر دانت له المنابر.
فقوله: من خدم المحابر أي: من عكف على طلب العلم، ولذلك قيل للإمام أحمد بن حنبل: حتى متى أنت مع المحبرة؟ قال: مع المحبرة إلى المقبرة.
قال ابن القيم: إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين، وقال سيدنا سفيان بن عيينة شيخ الإمام الشافعي: لما أخذوا برأس الأمر جعلناهم رءوسا.(38/4)
الحظوظ العظيمة من خصال الخير لا تنال إلا بالصبر
الوجه الثالث: أن الحظوظ العظيمة من خصال الخير لا تنال إلا بالصبر، قال تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35].
والجنة لا تنال إلا بالصبر قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].
ومحبة الله عز وجل واجبة للصابرين قال الله تبارك وتعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].
ومعية الله الخاصة -معية الحب والعناية- لا تكون إلا مع الصبر، قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:153].
ولقد أخبر الله عز وجل بعد قسمه أن الصبر خير، قال سبحانه: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126]، أتى بالواو ولام التوكيد مرتين {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل:126].
ثم يخبر الله عز وجل أن آياته في الكون في أربع مواضع في القرآن الكريم لا ينتفع بها إلا الصابرون، قال الله تبارك وتعالى في شأن قوم سبأ: {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [سبأ:19].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ * إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى:32 - 33].
وأرسل الله تبارك وتعالى موسى إلى قومه {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5]، فآيات الله عز وجل في الكون لا ينتفع بها إلا الصابرون.
والصبر عدة كما قال الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45].(38/5)
واقع مرير دواؤه الصبر
الصبر على قلة الناصح وانتشار الباطل الصبر حين أن ترى الشر منتشراً والخير ثاوياً، لا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق الصبر على انتشار الباطل، من منا لا يرى دولة عربية أذلها تلميذ ميشيل عفلق وفعل بعلماء السنة ما فعل، وليس هذا وقت الشماتة بهذا الرجل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما اختلج عرق إلا بذنب وما يدفع الله أكثر)، أي: لا يصيبك ألم إلا بذنب.
ولكن المصيبة تأتي على الصبيان والأطفال والنساء والشيوخ الذين لا حول لهم ولا قوة، وهو ببطشه وجبروته ناج في قصوره حتى نزار قباني وهو من هو يقول: يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا فهذا حاكم طليطلة بعدما مات أمير الجماعة في الأندلس جلس على قبره وقال للقاضي المسلم وزوجته تسمع: أما ترى أني استوليت على ملك المسلمين وجلست على قبر ملكهم؟ فقال: هدئ من صوتك فوالله لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت فوقه ما سمع منك هذا الكلام.
فقالت له زوجته: صدق والله.
فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا يا ابن الوليد ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا سقوا فلسطين أحلاماً ملونة وأودعوها سخيف القول والخطبا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا سقوا فلسطين أحلاماً ملونة وخلفوها وباسوا كف من ضربا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا وها هي العراق التي أنجبت نور الدين محمود زنكي وصلاح الدين الأيوبي وهو من أكراد العراق، ودولة الرشيد ودولة المعتصم: رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعنا لكنها لم تلامس نخوة المعتصم الكثير منا عندما يتحدث عن الرشيد يقول: إنه كان صاحب ألف ليلة وليلة: وينسون أن هذا الخليفة المفترى عليه كان يحج عاماً ويغزو عاماً، ولما كتب إليه نقفور ملك الروم ما كتب، قال: غرك ضعف الملكة السابقة فإن وصلك كتابي هذا فابعث إلي ما أخذته من الملكة وابعث إلي الجزية، فأخذ هارون الرشيد الكتاب وكتب على ظهره: من هارون ملك العرب: إلى نقفور كلب الروم أما بعد: يا ابن الكافرة! فالجواب ما ترى لا ما تسمع.
أسأل الله عز وجل أن ينجي العراق بأبطاله ومسلميه بشيوخه وشبابه ونسائه؛ علهم أن يتوبوا إلى الله عز وجل (والله لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مسلم بغير حق)، فكيف وأكثر من ثلاثة أرباع مليون طفل ماتوا بسبب أنهم لا يجدون طعاماً يأكلونه ولا يجدون شراباً يسد ظمأهم، والعجيب أن أناساً يموتون من التخمة وأطفال يموتون جوعاً ولا يجدون حتى اللبن.
فنسأل الله عز وجل ألا يعاملهم بعدله وإنما يعاملهم بفضله.(38/6)
الصبر سبيل النصر
النصر رفيق الصبر وحليفه، فلا يأتي النصر إلا مع الصبر، والنصر حفظ وجنة من كيد الأعداء، {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران:120].
وقد علق الله تبارك وتعالى الفلاح على الصبر فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200].
وعلق الله عز وجل المغفرة والأجر العظيم على الصبر أيضاً فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3].
وقال الله عز وجل: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا} [الأعراف:137].
والصبر من عزائم الأمور؛ قال الله تبارك وتعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى:43].
وقال لقمان لابنه: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
كل هذا من النواحي التي ذكرها الله تبارك وتعالى عن الصبر، ذكر الإمام أحمد منها حوالي 90 موضعاً، وفصل الإمام ابن القيم في نحو 22 موضعاً كلها في الصبر في القرآن الكريم.
وقد أخبر الله عز وجل أن أهل الصبر في نجاح دائم وغيرهم في خسران، قال الله تبارك وتعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
وأخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الميمنة أنهم ماذا؟ {تَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17].
وأثنى الله تبارك وتعالى على الصابرين كما قال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].(38/7)
أنواع الصبر ودرجاته
والصبر على ثلاثة أنواع: صبر على الأقدار، وصبر عن المعصية، وصبر على الطاعة.
وقد قسمها البعض تقسيماً آخر فقال: صبر بالله وصبر لله وصبر مع الله.
فالصبر بالله: أن تصبر وتعلم أن الله عز وجل هو الذي يصبرك، وأنه لولا تمكين الله عز وجل لك من الصبر ما صبرت، فأنت بالله، وهذه استعانة، قال تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127].
فليس الأمر شجاعة نفس وإنما مرد الفضل كله إلى الله عز وجل، كما قال سيدنا إسماعيل عليه السلام لأبيه لما قال له: {يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102]، فاستثنى بالمشيئة والمعنى: إن شاء الله عز وجل لي الصبر صبرت، فالأمر كله يعود إلى الله عز وجل.
وأعلى رتبة من الأول: صبر لله: وهو أن تصبر ويكون باعث الصبر في قلبك إرادة وجه الله عز وجل والدار الآخرة لا المحمدة عند الناس ولا إظهار قوة النفس.
ثم بعد هذا صبر مع الله: وهو صبر الصديقين كما قال ابن القيم رحمه الله، وهذا شديد وهو أن تدور مع أوامر الله عز وجل ومع نواهي الله عز وجل، فحيث يأمرك الله عز وجل يجدك وحيث ينهاك يفتقدك.
ولذا قال الجنيد رحمه الله: ترك الدنيا للآخرة سهل على المؤمن، وهجران الناس في جنب الله شديد، وهجران النفس إلى الله عز وجل صعب شديد، والصبر مع الله أشد.(38/8)
الصبر المذموم
والصبر يحمد في كل المواطن إلا في لون واحد فقط وهو الصبر عن الله فهو صبر اللئام.
أما كيف يصبر العبد عن الله فذلك أن يرى العبد أن ما بينه وبين الله عز وجل خراب ودمار ولا يصلح ما بينه وبين مولاه.
والصبر يحمد في المواطن كلها إلا عليك فإنه لا يحمد كيف تصبر عن الله عز وجل وملاك الخير كله منه، وأمرك كله بيده، ورجوعك كله إليه، وكل فضل أعطيته فهو منه، ولذا كان هذا صبر اللئام من الكفار والفجار وغيرهم، فمع أن الله يحلم عليهم إلا أنهم يسبونه ويشتمونه ويدعون له الولد.
ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثنياً على ربه عز وجل: (ما أحد أصبر على الأذى من الله عز وجل)، يعني: يصبر على أذاهم مع كمال القدرة ومع كمال العلم، فهو يعافيهم ويرزقهم وهم يدعون له الولد {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ} [مريم:90] من هول هذا الكلام، {وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:90 - 91].
فالسموات والأرض تكاد أن تزول من هذا لولا إمساك الله عز وجل لها، فلا أحد أصبر من الله عز وجل، ملك الملوك ومع أن جوده عم المخلوقات إلا أن هؤلاء يسبونه وينسبون إليه ما لا يليق به من الصاحبة والشريك والولد فخيره إلى العباد نازل وشرهم إليه صاعد.
ولذلك كان الصبور من أسماء الله عز وجل الحسنى، قالوا: وجانب الحلم عن الله عز وجل أوسع وأتم، كما قال الإمام ابن القيم: صبر لله وصبر بالله وصبر مع الله.(38/9)
تقسيم آخر للصبر
أما أنواع الصبر فثلاثة وإن شئت قسمتها قسمين: صبر على ما لا كسب للعبد فيه (اضطراري) وصبر اختياري.
فالصبر الاضطراري هو الصبر على أقدار الله عز وجل من أذى الموت والمرض والفقر والغنى وغيرها.
أما الاختياري فإنه على نوعين: صبر عن المعصية وصبر على الطاعة، وأفضلهما الصبر على الطاعة، وأقل منه درجة الصبر عن المعصية، وأقل منها درجة الصبر على الأقدار المؤلمة، فالصبر على الأقدار المؤلمة أقل درجات الصبر ثواباً.
والناظر إلى عظم هذا الثواب مع أنه أقل أنواع الصبر يعظم في صدره ثواب ما هو أعلى منه.
فأعلى من الصبر على الأقدار المؤلمة الصبر عن المعصية، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هل يقارن صبر يوسف على إلقاء إخوته له في الجب بصبره عن مراودة امرأة العزيز؟ لا شك أن صبره عن مراودة امرأة العزيز أشد؛ لأن الأول واقع سواء صبر أو لم يصبر فيكون صبره حينها صبراً اضطرارياً، أما صبره عن المعصية فهو صبر اختياري؛ فإنه صبر عند مراودة امرأة العزيز.
ومثل ذلك يقال في صبر يعقوب على عماه وصبر إبراهيم على إلقائه في النار لا يقاس هذا بذاك، ومع ذلك فإن الصبر على الأقدار عظيم الأجر والثواب؛ فعن صبر من ابتلي بالعمى يقول صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: إذا أنا سلبت كريمتي عبدي -أي عينيه- فصبر على ذلك لم أرض له ثواباً دون الجنة)، فهذا جزاء صبر من رزقه الله الصبر على العمى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم).
ولذلك كانت عند خالد بن الوليد رضي الله عنه امرأة فطلقها، ثم أثنى عليها فقال: لم تبتل وهي عندنا بشيء، أي: لم تصب بأي مرض.
والإنسان لا يتمنى البلاء ولكن إن نزل به يصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليودن أهل العافية أن لو قرضت جلودهم بالمقاريض في دار الدنيا لما يرون من ثواب أهل البلاء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصالحين يشدد عليهم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء فالأمثل فالأمثل، كان أحدهم يبتلى بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها، وأحدهم يبتلى بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء).
وعن الصبر على موت الولد يقول الله تبارك وتعالى لملائكته: (قبضتم روح ولد عبدي المؤمن.
يقولون: نعم، يقول: أخذتم ثمرة فؤاده؟ يقولون: نعم، يقول: فماذا قال عبدي؟ يقولون: يا رب حمدك واسترجع، قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الرقوب من لا ولد لها)، والرقوب هي المرأة التي لا يعيش لها أولاد، والرقوب في الشرع هي التي لم تقدم أولاداً يموتون في حياتها؛ لأن الرجل إذا مات له ثلاثة من الأولاد أو اثنان من الأولاد كانا حجاباً له ولامرأته من النار.
فينبغي على الإنسان أن يصبر انتظاراً لروح الفرج، فالأمراض كفارات تأخذ من ذنوب المرء، ولا يزال المرض بالمؤمن حتى يلقى الله تبارك وتعالى وليس عليه خطيئة، والذي يهون على الإنسان الصبر على قضاء الله عز وجل هو ذكر سوالف المنن التي امتن الله بها عليه، وتعداد أيادي المنن الحاضرة الموجودة بين يديه، إن من يأخذ منك شيئاً ليعطي لك الأجر كاملاً يوم القيامة لا شك أنه رحيم بك كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله ليحمي عبده المؤمن من الدنيا كما تحمون مريضكم من الطعام والشراب).
ومثل ذلك أن يكون لك ولد تحبه أصابه مرض ما فمنعك الدكتور أن تطعمه ثلاثة أيام وهو ابنك الوحيد، وأنت تملك كنوز الأرض وتتمنى أن تورثه مالك كله وتطعمه ما اشتهى من أطعمة الدنيا، ومع ذلك تلتزم بتعاليم الدكتور وتمنعه من الأكل لمدة ثلاثة أيام، فكذا يحمي الله عز وجل عبده المؤمن من الدنيا حتى لا تصيبه بأوضارها ونجاستها.
ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها فتهلككم كما أهلكتهم).
الصبر على الأقدار المؤلمة قال سيدنا ابن عباس لـ عطاء: (ألا أريك امرأة من أهل الجنة، قال: نعم، قال: هذه المرأة السوداء أتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له: يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي قال: إن شئت صبرت ودعوت الله لك بالجنة وإن شئت دعوت الله لك فعافاك، قالت: أصبر ولي الجنة، قالت: يا رسول الله ولكني أتكشف)، بلا إرادة منها تأتيها نوبة الصرع فتظهر محاسنها وتتبرج بغير حول منها ولا قوة، فصبرت على الألم ولم تصبر على التبرج، (قالت: إني أتكشف فادع الله لي ألا أتكشف فدعا لها)، فكانت عندما يأتيها الصرع لا ينكشف شيء من عورتها، فصبرت على شدة الألم وكان لها الجنة.(38/10)
صور من صبر السلف
يقول العلماء وهو مذهب الإمام مالك: يجوز ترك التداوي لمن صبر على ذلك، وليس كل أحد يستطيع أن يصبر على ذلك، ونرى الواحد منا إذا أصابه قليل من الصداع يتذمر ويملأ الدنيا صراخاً وأنيناً.
ولذلك قالوا: الصبر الجميل هو الذي لا شكوى معه.
وهذا الإمام أحمد بن حنبل أنَّ في مرض موته، فقالوا له: إن طاوساً يقول: إن أنين المريض من الشكوى، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات؛ على أن هناك فرقاً بين أنين وآخر.
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم فالأنين على نوعين: أنين شكوى وأنين فيه تفريج لألم الرجل، وذكر أنه دخلت على الإمام أحمد أخت بشر بن الحارث الحافي -أيام ما كانت النساء نساء والرجال رجال- وقالت له: يا إمام! أأنين المريض شكوى؟ قال: ما سئلت عن مثل هذه المسألة من قبل قط، أرجو ألا يكون كذلك.
وهذه المسألة الوحيدة التي لم يستطع الإمام أحمد أن يجاوب فيها وما عرفها الإمام أحمد إلا في مرض الموت، ثم قال لابنه بعد أن خرجت المرأة: انظر أي البيوت تدخل هذه المرأة قال: دخلت بيت بشر بن حارث الحافي -وكان أسمها مخة بنت الحارث - فقال: من بيتهم خرج الورع.
أما الشكوى إلى الله عز وجل فليست بشكوى؛ لأن نبي الله أيوب عليه السلام قال: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، ومع هذا قال الله عز وجل عنه، {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص:44].
وقال يعقوب عليه السلام أيضاً: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف:86]، فالشكوى إلى الله عز وجل لا تنافي الصبر الجميل، والصبر الجميل هو الصبر الذي لا شكوى معه، يقول الأحنف بن قيس سيد أهل المشرق: إني والله منذ أربعين سنة ما أبصر بعيني، وما تعلم بها زوجتي.
أي: طيلة هذه الأربعين سنة عين من عينيه لا يرى بها وزوجته لا تعرف ذلك.
وقال الإمام الحافظ إبراهيم الحربي: منذ عشر سنوات لا أبصر بإحدى عيني، ولا تعلم ذلك زوجتي، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أفطر على رغيفين إن أتت بهما أمي أو أختي وإلا طويت جائعاً، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أفطر على رغيف واحد إن أتت به زوجتي وأولادي وإلا صبرت، قال: والله ما كنا نعرف إلا الباذنجان المشوي، لم يكونوا يعرفون أساليب الترفه.
ولذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
أتى رجل سيدنا عبد الله بن عمر قال: إني رجل من فقراء المسلمين، قال: ألك بيت؟ قال: نعم، ألك زوجة؟ قال: نعم، قال: ولي خادم، قال: اذهب فأنت من الملوك، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوى من شدة الجوع وما يجد من الدقل ما يسد به جوفه، وكان يمر الهلال والهلال والهلال ولا يوقد في بيت رسول الله نار، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط، ولا رأى شاة صميطاً قط، ومات رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي.
أما هذه الأمة فقد أصبحت أمة متخمة فأمانيها مترفة وتفكيرها مترف وحياتها كلها ترف، فلابد أن يعاقبها الله عز وجل حتى تعود إلى دينها، والعود إلى الله عز وجل أحمد.
قال سعد بن أبي وقاص: كنت سابع سبعة عشنا أياماً مع رسول الله ليس لنا طعام إلا ورق الشجر، وكنا نضع كما تضع البعير ليس له خلط، وهنا نتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم، (والله ما الفقر أخشى عليكم)، وإنما يخشى علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنى.
ومما نشاهده اليوم أنه بمجرد ما تجد الأخ الملتزم المحافظ على الصلاة في المسجد حين يفتح الله عليه بعمل أو زواج تفوته صلاة الجماعة وقد لا يصلي في المساجد، فنسأل الله تبارك وتعالى لنا العون والثبات، ونعوذ بالله عز وجل من الحور بعد الكور.
يذكر عن أبي قلابة الجرمي -تلميذ عبد الله بن عباس - أنه ابتلي في دينه فصبر، وابتلي في جسمه فصبر، فقد أُريد توليته القضاء فهرب من الشام حتى لا يولى القضاء، فهذا العبد الصابر كان انبه يرعاه بعد أن أصيب في يديه ورجليه وثقل سمعه وبصره فلم يبق منه إلا لسانه وقليل من السمع وقليل من البصر، وكان ابنه يوضئه ويقوم على خدمته.
قال ابن حبان في الثقات: قال رجل: بينا أنا أمر في عريش مصر في الصحراء إذا بي أسمع صوت رجل يثني على الله عز وجل بمحامد ما سمعت مثلها من قبل في الثناء على الله عز وجل، فقلت: والله لأذهبن إلى تلك الخيمة، فإذا رجل قد ذهبت يداه ورجلاه وكف سمعه وبصره إلا القليل، قلت له: أي نعمة من نعم الله تحمده عليها؟ قال له: وما لي لا أدعو الله عز وجل، فوالله لو أمر الجبال فنسفتني أو أمر النيران فأحرقتني أو الأرض فابتلعتني ما كففت عن ذكره وشكره، قال: رجعت أتفكر على أي شيء وقد كف سمعه وبصره وكل شيء فيه قد ذهب، قال لي: إليك حاجة، قلت: مثلك تجاب حاجته على الفور، تكلم والله إن من أحب شيء إلي أن أسعى في حاجة مثلك، قال: أنت تعلم ما أنا فيه، وقد كان لي ابن يوضئني ويقيم على عنايتي وقد ذهب منذ أيام، فقلت: والله لأبحثن عنه، فمضيت غير بعيد فإذا بعظام هذا الشاب وقد افترسه السبع قلت: يا رب بأي وجه أعود إلى هذا الرجل، ثم تفكرت في نبي الله أيوب وما حل به فقلت: أدخل عليه من هذا المدخل، قلت: أنت أفضل أم نبي الله أيوب؟ وتعلم كيف ابتلاه الله عز وجل في جسده وكذا وكذا، قال: نعم، قلت: فكيف وجده الله عز وجل؟ قال: وجده صابراً، قلت: ولم يزل الله عز وجل يبتليه حتى أوحش منه أهله وأحبابه فكيف وجده الله عز وجل؟ قال: صابراً، قال: ماذا تريد؟ قلت: إن ابنك قد افترسه السبع، فرفع يده إلى السماء وقال: الحمد لله الذي لم يجعل ولداً من صلبي محله النار، ثم شهق الرجل فمات، لما مات من كان يعول هذا العبد الصالح قضى الله بموت هذا العبد الصالح.
وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي قال: فانشغلت بأمره، كيف أواري هذا الرجل أو كيف أفعل وإنما أنا رجل واحد؟ وإذا بجماعة يأتون، فقالوا: اكشف لنا عن وجهه فلما كشفت عن وجهه قالوا: أبو قلابة الجرمي تلميذ عبد الله بن عباس؟! قال: فجعلوا يقبلونه في رأسه وفي رجليه، ويقولون: بأبي وأمي عين طالما غضت عن محارم الله، وبأبي وأمي قدم طالما سعى في طاعة الله عز وجل قال: فتعاونا عليه حتى دفناه، قال: فلما دفنته وجدته في رؤيا وكأنه في واحة خضراء، قلت له: ألست بصاحبي؟ قال: نعم أنا هو، إن عند الله عز وجل درجات في الجنة لا يبلغها العبد إلا بالصبر.
وهذا شقيق البلخي لما قابل إبراهيم بن أدهم قال له: ما تقول في الصبر والشكر؟ قال شقيق: إنا قوم نصبر عند البلاء، ونشكر في الرخاء، قال: هذا ما تفعله كلاب بلخ، قال: فما تقول أنت قال: إنا قوم نصبر عند الرخاء ونشكر في البلاء، أي: أنهم لا يتمنون البلاء ولكن حين يأتيهم الغنى يخافون أن يكون تحت هذا الغنى استدراج ومكر من الله عز وجل، ويؤيد هذا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء).
أما الصحابي الجليل عمران بن حصين فقد بلغ من شدة المرض أن ثقبوا له ثقباً في السرير ينزل منه الغائط، وهو صاحب الكرامات التي أوردها علماء أهل السنة التي منها أنه كانت تسلم عليه الملائكة.
وهذا الإمام العابد عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة، وهو ابن السيدة أسماء، ذهب إلى الوليد بن عبد الملك ومعه ابنه محمد فعانه، يعني: حسده ونظر إليه بنظرة عائنة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن العين لتستنزل الحالق)، أي أن هناك أناساً أعينهم توقع الجبل وتهده -قال: فعانه فتناعس فسقط في إسطبل للدواب فداسته الدواب حتى قتلته، ووقعت الأكلة -السوسة- في رجله فقال له الأطباء: لابد من قطعها، قالوا له: نعطي لك دواء يغيب عقلك، فأبى وقال: إن ربي اختبرني؛ ليرى مدى صبري، فلما علا المنشار على العرق ما زاد على أن قال: حسبي، ثم غشي عليه، فلما أفاق من غشيته استنار وجهه وقال: خذها يا بني فكفنها وطيبها وادفنها في مقابر المسلمين والله ما مشيت بها إلى فاحشة قط، ثم لما عاد إلى المدينة وأتى أهل المدينة ليعزونه قال: لقد لقينا من سفرنا هذا نصباً، ورفع يده إلى السماء وقال: إلهي إن سلبت فلطالما أعطيت وإن أخذت فلطالما أبقيت.
وهذه امرأة فتح الموصلي كانت من الصالحات، وقد أثنى عليها الإمام أحمد بن حنبل، ذكر عنها أنها لما قطع أصبعها ضحكت، فقال لها رجل: يقطع أصبعك فتضحكين، قالت: أحدثك على قدر عقلك: حلاوة أجرها أنستني مرارة قطعها.
ولذلك كان فتح الموصلي إذا رجع إلى بيته ولم يجد في البيت طعاماً ولا شراباً ولا موقداً ووجد السقف قد وكس على أهله يرفع يده إلى السماء ويقول: إلهي سلبتني.
أجعتني وأجعت أولادي وأعريتني وأعريت أولادي وقديماً كنت تفعل هذا بأنبيائك وأوليائك وعبادك الصالحين، فبأي خصلة من خصال الخير تقربت بها إليك يا مولاي فقبلتها مني حتى أداوم عليها.(38/11)
أهل البدع يتبرمون من الأقدار
أما أهل البدع فقد كانوا يتبرمون من الأقدار ونزولها، فهذا رجل من أهل البدع كان عالماً فأصيب في رجله فلما قطعت قال في لحظتها: يا قاسم الرزق لم ضاقت بي القسم ما أنت متهم قل لي من أتهم تعطي اليهود قناطير مقنطرة من اللجين ورجلي ما لها قدم أعطيتني وَرَقاً لم تعطني وَرِقاً قل لي بلا وَرِقٍ ما تنفع الحكم والمعنى: لا أريد علماً بل أعطني فقط نقوداً.
فرد عليه رجل من أهل السنة: قل للبيب الذي ضاقت به الحكم لو كنت ذا حكم لم تعترض حكماً عدل القضاء أميناً ليس يتهم هلا نظرت بعين الفكر معتبراً في معدم ما له مال ولا حكم فانظر إلى لطف الله عز وجل، وسوالف المنن وتعداد أيادي النعم وملاحظة روح الفرج، فإنك تعيش على أمل ورجاء أن تشفى من هذا المرض.
وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي ثم مطالعة حسن الثواب في الآخرة.
ذكر أن رجلاً كان يشكو إلى الناس، فقال له رجل من الصالحين: لك يد؟ قال: نعم، قال: لو قطعت؟ قال: أدفع فيها خمسة آلاف دينار، ثم قال له: ولك عين تبصر بها؟ قال: نعم، قال: لو أخذ الله نورها؟ ثم قال له: يا هذا عندك آلاف مؤلفة من الدنانير وأنت تشكو الفقر بعد ذلك.
فالصبر على الأقدار المؤلمة انتظاراً لما عند الله عز وجل من حسن الجزاء، ثم يأتي بعد هذا الصبر عن معصية الله عز وجل وله موطن آخر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتقل فلا تبعدنا، وعلى بابك نقف فلا تطردنا.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا.
اللهم أدبنا بأدب الصالحين من عبادك، اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيها أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان بديع السموات والأرض يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! اللهم لا تفضح بلادك بذنوب عبادك، بك نستنصر فانصرنا وعليك نتوكل فلا تكلنا.
اللهم إنا نسألك لذة العيش مع الموت وحسن النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك.
اللهم ارحم عبادك وبلادك، اللهم ارزقنا الأمن والأمان في بلادنا وأوطاننا.(38/12)
أتأمرون الناس بالبر
يعيب الله عز وجل على بني إسرائيل أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر دون أن يكون ذلك واقعاً عملياً ملموساً في حياتهم، فإنهم لا يأتون ما أمروا به، ولا ينتهون عن ما نهوا عنه، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فيشمل ذلك بني إسرائيل وغيرهم، وفي هذا تحذير من اتباع سيرة أحفاد القردة والخنازير.(39/1)
أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: قال الله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
المخاطبون بهذه الآية الكريمة هم اليهود خاصة، والكتاب المشار إليه في هذه الآية هو التوراة، أي: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون التوراة، ويلتحق باليهود كل من أمر بالبر ونسي نفسه من نصارى، وأهل نفاق، ومن قال قولاً لم يعمل به وكان قادراً على العمل به من المسلمين.
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44] هذا الاستفهام المراد به: التوبيخ والتقريع، والبر بداية: هو كل طاعة، فكل طاعة لله عز وجل تسمى براً، والبر المقصود به في هذه الآية هو: التمسك بالتوراة، فقد كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بالتمسك بها ولا يتمسكون هم بها.
وقيل: المراد بالبر هنا اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان الرجل من اليهود يوصي أقاربه سراً باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ويقول لهم: إنه هو الرسول الحق، ولا يتمسك هو بذلك، فقد أخرج الإمام البخاري من حديث أنس رضي الله عنه قال: كان غلام يهودي يخدم النبي صلى الله عليه وسلم فمرض، فأتاه النبي يعوده فقعد عند رأسه وقال له: (أسلم! فنظر الغلام إلى أبيه وهو عنده فقال له: أطع أبا القاسم، فأسلم، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول: الحمد لله الذي أنقذه من النار).
وقيل أيضاً: المراد بالبر هنا: الصدقة، وقد كان علماء اليهود يأمرون بها ويحثون الناس عليها ولا يتصدقون هم.
وقيل: المراد بالبر: الحث على اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان جماعة من اليهود قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم يخبرون الناس بخروج النبي صلى الله عليه وسلم يوماً من الأيام، ويحثون الناس على اتباعه، وهذا قبل أن يبعث، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم كفروا به، وجحدوا نبوته، وأعرضوا عن دينه، وكان اليهود يقولون للعرب: إنه تقارب زمان نبي يبعث الآن نقتلكم معه قتل عاد وإرم، فلما سمع الأوس والخزرج بهذه المقالة آمنوا بالنبي لماء جاء، وانتظروا أن يؤمن به اليهود، فلم يؤمنوا وتولوا على أعقابهم.
وقيل أيضاً: المقصود بالبر هنا: عموم الطاعات، وقد كان أحبار اليهود يحثون أتباعهم على طاعة الله عز وجل وتقواه، ثم يواقعون هم المعاصي ويقترفونها.
وهذه الآية آية عظيمة جليلة من كتاب الله عز وجل، ومن أجلها ألف الإمام الحافظ الخطيب البغدادي كتابه الطيب العظيم (اقتضاء العلم العمل)، وهذا الكتاب خرج حاشيته فضيلة الشيخ الألباني، وقد قيل: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل المصباح يضيء للناس ويحرق نفسه).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع)، والقلب لا يخشع إذا لم يطيق ما يعلمه، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن علمه ماذا عمل به، وعن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه).
ولذلك قالوا: كن بالخير موصوفاً، ولا تكن للخير وصافاً، فإن الواو والراء والدال لا تشم منها رائحة الورد، فإنما الرائحة من العبير، قالوا: العلم كله دنيا والعمل به هو الآخرة، وقالوا: العلم موقوف على العمل به، والعمل بالعلم موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله عز وجل يورث الفهم عن الله عز وجل، {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29]، فكلما اتقى العبد ربه جعل له فرقان في قلبه يميز به بين الخطأ والصواب من المسائل.
قال الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16]، وقسوة القلوب تكون بالبعد عن العمل، ولذلك حل على اليهود غضب الله عز وجل؛ لأنهم كانوا يعلمون ولا يطبقون، والنصارى كانوا يجهلون ولا يعلمون فسموا: ضالين، ولذلك قال العلماء: من ضل من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن ضل من عبادنا كان فيه شبه من النصارى.
ولذلك كان الصحابة إذا حفظ الرجل منهم البقرة وآل عمران عد فيهم عظيماً أو عالماً؛ لأنهم كانوا يعلمون فيعملون فيدعون الناس إلى ما يعلمون، ولذلك قالوا: من علم ثم عمل ثم دعا الناس إلى ما علم ثم صبر، عد في ملكوت السماوات عظيماً.(39/2)
ما أعده الله للذين لا يعملون بعلمهم أو يخالفونه
وقد كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقرءون العشر آيات حتى يعملوا بها، فتعلموا العلم والإيمان معاً؛ ولذلك كان أبو سليمان الداراني يقول: يا أصحاب السورة! ويا أصحاب السورتين! ماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ ثم يقول: إن القرآن ربيع قلب المؤمن، كما أن الغيث ربيع الأرض.
وكان أحد أبناء العباد يقول لأبيه: يا أبتي! مالي أراك إذا تكلمت أبكيت، ووعظ غيرك لا يبكي العيون؟ قال: يا بني! إن العالم إذا لم ينتفع بعلمه زالت موعظته عن القلوب، ثم قال: يا بني! ليست النائحة الثكلى كالمستأجرة.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكباد ولذلك سئل يونس بن عبيد تلميذ الحسن البصري: هل رأيت من يعمل بعمل الحسن؟ قال: لا والله، ما رأيت من يقول بقول الحسن حتى أرى من يعمل بعمله، إن الحسن كان إذا تكلم أبكى القلوب، ووعظ غيره لا يبكي العيون.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالرجل فيدور على أهل النار فتندلق أقتابه -يعني: أمعاؤه- فيقولون له: ألست كنت تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).
وقد وصف الله عز وجل الذين لا يعملون بعلمهم بأبشع وصف، قال الله عز وجل: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فالرجل الذي لا ينتفع بعلمه كالحمار يحمل الأسفار ولا ينتفع بها: كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول بل وصفهم الله عز وجل أيضاً بوصف أبشع من الأول فقال: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176].
وقال صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخوف على أمتي من الدجال؛ الأئمة المضلون).
وهم الذين لا يعملون بعلمهم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)، فتسأله في المسألة فيجيب إجابة جيدة جداً ولكنه لا يطبق، فهذا أخوف ما يخاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الأمة، فكل إنسان يعظ الناس ثم لا يعمل هو بالوعظ فهذه مصيبة كبيرة.
وصفت التقى حتى كأنك ذو تقى وريح الخطايا من ثيابك تسطع وقال آخر: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم ابدأ بنفسك فانهها عن غيها فإذا انتهت عنه فأنت حكيم فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى بالقول منك وينفع التعليم قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
وقال عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود:88].
وغير تقي يأمر الناس بالتقى طبيب يداوي الناس وهو مريض إن قوماً يأمروننا بالذي لا يفعلون لمجانين وإنهم لم يكونوا يصرعون قال إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص -يعني: الوعظ- لثلاث آيات: قول الله عز وجل: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ} [البقرة:44]، وقول الله عز وجل: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2]، وقول الله عز وجل: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} [هود:88].
فالقضية أن يتعلم الإنسان أولاً العلوم الشرعية من باب العلم قبل القول والعمل، والعلم شرط في صحة العمل؛ لأنك إذا لم تعلم لم تستطع أن تفرق بين البدعة وبين السنة، فلا بد أن تتعلم أولاً، ثم تطبق ما تتعلم على نفسك، وتدعو الناس إليه، وتصبر على دعوة الناس، فالذي لا يطيق العلم واقعاً عملياً ممارساً في حياته، يصيبه الله عز وجل بقسوة القلب، ويبتعد عن منهج الله عز وجل.
وغالباً ما يؤدي الفصل بين العلم والعمل إلى وقوع الإنسان في الرياء، فإنسان يقول ولا يعمل بهذا القول يدفعه ذلك إلى طلب الشهرة؛ إذ لو كان الرجل يعمل بعلمه لابتعد أشد ما يبتعد عن الشهرة، قال سفيان الثوري: قلّ رجل تكبر حلقة درسه، أو يشتهر بين الناس إلا وابتعد عن الإخلاص.
ولذلك مر الحسن البصري على طاوس بن كيسان تلميذ ابن عباس وهو في المسجد الحرام فيهمس له في أذنه: إن كانت نفسك تعجبك فقم.
وطاوس بن كيسان هذا قال فيه ابن عباس: إنما طاوس طاووس، يعني: زين العباد، وكان إذا قال له هذا يقوم من فوره.
فارتباط العلم بالعمل هو الذي يجعل الإنسان يستقيم على درب الله تبارك وتعالى، ولذلك تجد الرجل إذا عمل بعلمه وعظ الناس بحاله وبلحظه حتى وإن لم يتكلم، وقد قالوا: إن شيخك من وعظك بلحظه قبل أن يعظك بلفظه، وقالوا: إن أخاك من نفعك بحاله قبل أن ينفعك بمقاله، ومن لم ينتفع بصمت العالم لا ينتفع بعلمه، ولذلك كان الناس إذا رأوا محمد بن سيرين خارجاً إلى السوق كبروا للنور الذي على وجهه، وكان إذا أقبل على الناس تبسم، ووسع على الناس، فإذا كان بمفرده خالياً بربه فكأنه قتل أهل القرية جميعاً، ولا بد أن يكون بينك وبين الله عز وجل خبء من عمل صالح: بكاء، صيام، صلاة، قراءة قرآن، تسبيح، لا تشعر به حتى زوجك، وأخلص العمل فإن الناقد بصير.(39/3)
معنى النسيان في قوله تعالى: (وتنسون أنفسكم)
قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، والنسيان هنا ليس النسيان المعهود الذي هو ضد التذكر؛ لأن النسيان الذي هو ضد التذكر لا يؤاخذ الله به، قال الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} [البقرة:286].
والنسيان يأتي أحياناً كثيرة بمعنى: الترك، كما قال الله عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] أي: فأهملهم؛ لقول الله عز وجل: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم:64].
إذاً: فمعنى: {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]: تتركون زكاة أنفسكم، وقلنا: إن النسيان هو ضد التذكر، ويأتي أيضاً بمعنى: الترك، قال الله عز وجل: {فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} [الأعراف:51]، وقال الله عز وجل: {كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:126]، وقال الله عز وجل: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام:44]، كل هذا من النسيان الذي بمعنى: الترك.
قال تعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:44] أي: التوراة: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] يعني: أفلا تمنعون أنفسكم من الوقوع في هذه الحالة المخزية، أتأمر الناس بالبر وتنسى النفس.
والعقل: هو المنع، وقد سمي العقل عقلاً لأنه يعقل الإنسان عن الصفات الذميمة، ومنه يسمى: عقال البعير؛ لأنه يمنع البعير من الحركة: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44] أي: أفلا تفهمون، أفلا تمنعون أنفسكم من هذه الحالة المخزية، وهل معنى هذا أن يترك الإنسان الأمر بالبر مطلقاً حتى يفعل هذا البر، أو أن للإنسان أن يأمر بالبر وإن لم يفعله؟ قال العلماء: لا يترك الإنسان الأمر بالبر، بل عليه أن يأمر بالبر وإن لم يفعله، فالآية الكريمة حوت ثلاث فقرات: المعنى الأول: أمر الناس بالبر، والمعنى الثاني: نسيان النفس، {وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، والمعنى الثالث: تلاوة الكتاب: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:44]، ولا شك أن الذم في الآية الكريمة والتوبيخ والتقريع منصب على الفقرة الثانية: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة:44]، فأمر الناس بالبر مستحب، وقد يصل هذا الأمر إلى الوجوب في بعض الأحيان، وكذلك تلاوة الكتاب، فمن نسي نفسه، وأمر الناس بالبر، وتلا الكتاب خير ممن نسي نفسه، وترك تلاوة الكتاب، وترك أمر الناس بالبر، وكذلك هو خير ممن نسي نفسه، وأمر بالمنكر، وترك تلاوة الكتاب، وهكذا جاءت أقوال أهل العلم.
قال الحافظ ابن كثير: الغرض من هذه الآية: أن الله عز وجل ذمهم على هذا الصنيع، ونبههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم للبر، فإن الأمر بالمعروف معروف، وهو واجب على العالم، ولكن الأحرى والأولى بالعالم أن يفعل ما أمرهم به ولا يختلف عنهم.
إذاً: الأمر بالبر مستحب، وقد يصل أحياناً إلى الوجوب، هذا في الدرجة الأولى، ثم يطبق الإنسان هذا الأمر على نفسه كما قال شعيب عليه السلام: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].(39/4)
لا يشترط في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن يكون صاحبهما ممتثلاً لهما
فالأمر بالمعروف وفعل المعروف واجبان لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح أقوال أهل العلم، فأمرك بالمعروف واجب، وفعلك المعروف واجب، فلا يسقط أحدهما بترك الآخر، يعني: إن تركت واحداً منهما فلا تترك الأمر الثاني وهو الأمر بالمعروف، قال الإمام ابن كثير: كل من الأمر بالمعروف وفعله -يعني: فعل المعروف- واجب لا يسقط أحدهما بترك الآخر على أصح أقوال أهل العلم من السلف والخلف.
وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعصية لا ينه غيره عنها، وهذا ضعيف، وأضعف منه من يتمسكون بهذه الآية فإنه لا حجة لهم فيها، والصحيح: أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه.
قال سعيد بن جبير: لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحد بمعروف ولا نهى عن منكر، ومن يعظ العاصين بعد محمد صلى الله عليه وسلم؟! والأغلب أن الناس عصاة، فليس هناك من كمل في صفاته وأخلاقه غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الإمام مالك بن أنس: وصدق سعيد بن جبير: من ذا الذي ليس فيه شيء؟ وقال العلامة الشيخ السعدي: فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله، أو نهاه عن الشر فلم يتركه دل على عدم عقله وجهله، خصوصاً إذا كان عالماً بذلك قد قامت عليه الحجة، وهذه الآية وإن كانت قد نزلت في بني إسرائيل فهي عامة لكل أحد، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2].
يقول: وليس في الآية أن الإنسان إذا لم يقم بما أمر به أن يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنها دلت على التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين: واجب الأمر بالمعروف، وواجب فعل هذا المعروف، وإلا فمن المعلوم أن على الإنسان واجبين: أمر غيره ونهيه، وأمر نفسه ونهيها، فترك أحد الواجبين لا يكون رخصة في ترك الآخر، والكمال أن يقوم الإنسان بالواجبين، والنقص الكامل أن يتركهما، وأما قيامه بأحدهما دون الآخر فليس في رتبة الأول وهو دون الأخير.
هذا كلام الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي.(39/5)
الصبر وأنواعه
ثم يقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45]، الصبر على الثلاثة الأنواع: صبر على الأقدار المؤلمة، وصبر على المعصية، وصبر على الطاعة، وأكملها: الصبر على المعصية، فلا يستوي صبر يوسف على إلقاء إخوته له في الجب مع صبره على مراودة امرأة العزيز له، فصبره على مراودة امرأة العزيز له أعظم من صبره على إخوته، كما لا يستوي صبر إبراهيم على إلقائه في النار مع صبر يعقوب على فقدان يوسف.
وهناك صبر بالله، وصبر لله، وصبر مع الله.
فالصبر بالله هو: الاستعانة، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] يعني: أن ترى أن الذي يصبرك هو الله عز وجل.
والصبر لله: أن يكون دافع الصبر إرادة وجه الله عز وجل.
والصبر مع الله -وهو الأكمل-: أن تدور مع الأحكام الشرعية حيث دارت.
قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وقال: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] يعني: لما أخذوا برأس الأمر: الصبر واليقين جعلناهم رءوساً.
وقال ابن تيمية: إنما تنال الإمامة في الدين بالصبر واليقين.
يقول الله عز وجل: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45] والمخاطبون بذلك: هم بنو إسرائيل، والمؤمنون تبع لهم في الخطاب.
فيطلب الله عز وجل من بني إسرائيل الاستعانة على طاعة الله عز وجل بصفة عامة، فيقول: استعينوا بالصبر والصلاة لتذهب عنكم شهوة الرئاسة والجاه، فعندما يطول الأمد، ويشق الجهد يضعف الصبر، فعليك أن تصبر على طول الطريق الشاق، وعلى قلة الناصح، وعلى أن ترى الشر منتشراً، والخير خافتاً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق، وعليك أن تصبر على قساوة القلوب، وإعراضها عن كتاب الله عز وجل، وهنا يمد الله عز وجل الصبر بالصلاة؛ لأنها التقاء النقطة بالكنز الذي يغني ويفيض، إنها انطلاقة من حدود الأرض إلى كون الله الفسيح، إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة، إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرحنا بها يا بلال!).
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (الصلاة خير موضوع، فمن أراد أن يستكثر فليستكثر)، ودائماً يوصى الدعاة بالصبر وعدم العجلة؛ لأن العجلة تضيع ثمرة الخير التي في الدعوة، يقال بعضهم: إن القائد المحنك لا يخدع بحماس الجماهير الثائرة من ورائه، ثم يضرب المثل على ذلك بقول الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246]، وهم الذين طلبوا القتال والبذل والعطاء، فلما فرض عليهم القتال تولوا، وهذه هي الانتكاسة الأولى، والانتكاسة الثانية: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ * قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:247 - 248].
الانتكاسة الثالثة: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:249]، {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} [البقرة:249]، وهذه الانتكاسة الرابعة.
ولذلك يقول سيدنا خباب بن الأرت: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد لاقينا من المشركين شدة فقلنا: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمر وجهه، وقال: إنه كان يؤتى بالرجل من قبلكم فيوضع في حفرة، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين جلده وعظمه ما يمنعه ذلك عن دينه، والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون)، وذلك أن الصحابة لاقوا ما لاقوا وصبروا، فقد كان عمار يعذب حتى لا يدري ما يقول، وبلال ينشد نشيده القدسي: أحد أحد، فالفتنة التي تعرض لها الصحابة هي من أشد الفتن، قال الله عز وجل: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
وقال: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
إن طريق التربية الإيمانية هو أقرب الطرق لإعادة دولة الإسلام وإن ظنه الناس أنه أبعد طريق، ولا بد من ابتلاء كما قيل للشافعي: يبتلى الرجل أم يمكن؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى، فلابد من التربية الإيمانية، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه! قالوا: كيف يا رسول الله! يذل نفسه؟ قال: يعرضها من البلاء لما لا يطيق).
فأين أنت يا مخنث العزم! والطريق طويل، تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار في البكاء داود، واتهم بالسحر والشعوذة والجنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشد الحجر على بطنه من شدة الجوع، ولله خزائن السماوات والأرض، وكسرت رباعيته، وشق رأسه، ولله جنود السماوات والأرض، وسم أبو بكر، وطعن عمر، وذبح عثمان، وطعن علي، وسم الحسن بن علي، وقتل الحسين بن علي، وسم عمر بن عبد العزيز، وقتل الحجاج سعيد بن جبير وما في الأرض رجل إلا وهو محتاج إلى علمه، فالأمر يحتاج إلى صبر، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت مدة دعوته ثلاث وعشرين سنة، فضى منها أكثر من ثلاث عشر سنة في التربية الإيمانية، ولم يتم له النصر الأكبر والأكمل والأكثر تأثيراً المتمثل في فتح مكة إلا قبل وفاته بعامين فقط، فلا تطلب من الناس أن يلتزموا بكل الأحكام مباشرة، ولا تطلق الأحكام على الناس، {كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ} [النساء:94]، فجاهد نفسك، وهذه هي البداية، {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123]، فمن لم ينتصر على نفسه لا ينتصر على غيره، والإمام ابن القيم تكلم عن جهاد النفس، وجهاد الشيطان، وجهاد أهل البدع، وجهاد الكفار، وجهاد المنافقين.(39/6)
الجهاد مراحله وأنواعه
وجهاد النفس أربع مراتب: العلم، والعمل، والدعوة، والصبر على أذى الناس، وجهاد الشيطان، وجهاد الشهوات التي يزينها الشيطان لك، ثم بعد ذلك جهاد الشبهات التي يلقيها عليك الشيطان، وجهاد الشهوات يكون بالصبر، أما جهاد الشبهات فيكون باليقين في آيات الله عز وجل، ثم بعد ذلك جهاد المبتدعة باللسان، ثم بعد ذلك جهاد المنافقين باللسان: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، فأي زنديق يطعن في دين الله عز وجل، أو يتكلم في دين الله عز وجل، أو يطعن في الصلاة التي هي أساس دين الله عز وجل فعليك أن تجاهده، وتبين عواره للناس.
ثم جهاد الكفار، ويكون بالسيف واللسان كذلك، وقد مر الجهاد بمراحل في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمرحلة الأولى: هي مرحلة الكف، وفيها لم يؤمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال أي رجل من الكافرين في مكة، ثم بعد هذا جاء الإذن بقتال من قاتله، قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج:39]، ثم بعد هذا جاء الأمر بوجوب قتال من قاتلك، وأما من سالمك من الكفار فلا تقاتله، ثم أتت المرحلة الرابعة: وهي مرحلة السيف، فابدأ بالقتال لكل الناس حتى يسلموا لله عز وجل، أو يدفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
وهذه المرحلة الرابعة هي التي قال فيها جمهور أهل العلم: إنها ناسخة لما قبلها من المراحل، وهذا قول ابن كثير وابن تيمية وابن القيم والقرطبي وابن عباس ومجاهد وقتادة، ومعنى ناسخة أي: مزيلة لحكم المراحل التي قبلها، وليس هو النسخ بالمعنى الأصولي عند الفقهاء؛ لأن النسخ في اصطلاح المتقدمين من علماء السلف ليس كالنسخ في اصطلاح المتأخرين، فمثال النسخ في اصطلاح المتأخرين: أن الناس كانوا يصلون لبيت المقدس فنسخ هذا وأمرهم الله بالتحول إلى البيت الحرام، فالحكم الأول أزيل نهائياً ولا يعمل به في أي وقت من الأوقات، لكن النسخ عند العلماء المتقدمين معناه: التفسير والتبيين، ومن أمثلته: تقييد المطلق، وتخصيص العام، فعندما يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران:102].
وقال في آية أخرى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16]، فـ ابن تيمية يقول: إن الآية الأولى منسوخة بالآية الثانية، أي: مبينة ومفسرة لمعنى الآية الأولى؛ ولذا قال العلماء: إن آية السيف ليست ناسخة وإنما هي ناسئة، كما في قوله عز وجل: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة:106]، ومعنى الكلام كما قال بعض أهل العلم: أن على المسلمين العمل بآيات الصفح والعفو في زمن الاستضعاف، والعمل بآية السيف في حال القوة والتمكين.(39/7)
مهاجمة المسلمين لعدوهم من غير فرض جزية، وجواز موادعة الكفار عند الضعف والحاجة
وقد سئل الإمام الشافعي: هل يجوز للمسلمين أن يهاجموا عدوهم من غير فرض جزية؟ قال: يجوز لهم هذا.
بل قال الشافعي: ويجوز لهم عند الضرورة أن يعطوا المشركين مالاً إذا خشي الإمام استئصال شأفة المسلمين.
يعني: دمار المسلمين دماراً نهائياً.
والدليل على هذا: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى غطفان بأن يرحلوا عن المدينة مقابل أن يعطيهم ثلث ثمار المدينة -إذاً: فالمسألة جائزة شرعاً- فقال سيدنا سعد بن عبادة: والله يا رسول الله! لقد كنا كفاراً وما كنا نعطيهم تمرة واحدة من ثمار المدينة، والذي بعثك بالحق لا نعطيهم إلا السيف.
ومثل هذا حصل مع ألب أرسلان لما كان معه عشرون ألف مسلم، وقسطنطين الرابع ملك الروم كان معه ستمائة وخمسون ألف جندي مدجج بالسلاح، فسلطان المسلمين خاف على الجيش المسلم أن يباد عن بكرة أبيه، فبعث إلى قسطنطين الرابع وقال له: أبعث لك ما تشاء من المال واسمح للجيش بالمرور، فقال: لا، قال: أعطيك ما تشاء من الأرض، قال: لا، وذلك لخوفه على المسلمين، فأراد أن يسمح لجيشه بالانسحاب، فأبى ذلك الطاغية، ثم قال: من أراد أن يرجع منكم فلا شيء عليه، قالوا: لا، بل نقاتل طلباً للشهادة، فلبس سلطان المسلمين ألب أرسلان كفنه عند الفجر، ولبس كل الجيش أكفنتهم وذهبوا طامعين في قسطنطين الرابع ومعه ستمائة وخمسون ألفاً، وما هي إلا ساعة حتى كان النصر للمسلمين، وسقط قسطنطين في الأسر، ثم نادى ألب أرسلان على قسطنطين: من يشتري الكلب؟ فنادى رجل من مؤخرة جيش المسلمين: لا أشتري الكلب إلا بالكلب! يعني: أدفع في ملك الروم هذا وأشتريه بكلب، قال: ادفعوا إليه الكلب، فذهب الرجل وأتى بكلبه وأتى بـ قسطنطين وربطهما في حبل ليف واحد من العنق، ثم مشى الرجل بهما إلى القسطنطينية، فلما رأى أهل القسطنطينية ما فعل بملكهم سملوا عينيه.
فالشاهد: أن الناس يمرون بمراحل، فمثلاً: المسلمون عندما يكونون في وقت مستضعفين فإنه يجوز لهم الموادعة، ولكن هذا لا يعفيهم من الإثم حتى يصلوا إلى الحالة التي يجاهدوا فيها الكفار، وإذا وقعت امرأة أو رجل من المسلمين في الأسر ولم يفد إلا بكل ما في بيت المسلمين من مال فإنه يجوز دفعه لافتدائه، فما ظنك بأعراض المسلمات التي تنتهك! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(39/8)
إقامة الصلاة
لقد أنزل الله كتابه لهداية البشر من الضلالة والعمى إلى نور الإيمان والتوحيد، وكان هذا الكتاب معجزاً في ذاته، ولا تزال معجزاته تتوالى في كل عصر، ومن معجزاته: أن تحدى الله الخلق أن يأتوا بسورة من مثله فعجزوا.
ولقد اشتمل هذا الكتاب على بيان قضايا الإيمان وقضايا الغيب؛ إذ بهما يعرف الصادق في إيمانه به من الكاذب، فآمن بها المؤمنون كما جاءت، وأنكرها وأولها الملاحدة من الفلاسفة وغيرهم.
وأولى اهتماماً خاصاً بقضية الصلاة؛ إذ هي أجل الأعمال وأفضل القربات عند الله، وبقية الأعمال مرهونة بقبولها؛ من أجل ذلك تولى إيضاحها وبيانها والحث عليها في آياته، وكذلك في سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.(40/1)
من أسرار الحروف المقطعة في بداية السور
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: يقول العلامة ابن القيم في كلام له طيب في أسرار الحروف من كتابه بدائع الفوائد يقول: تأمل سر (الم) كيف اشتملت على هذه الأحرف الثلاثة، فالألف التي بدأ بها أولاً مصدرها من أقصى الحلق، وهي أول المخارج من أقصى الحلق، واللام من حروف اللسان، ومن وسط مخارج الحروف منها، وهي أشد الحروف اعتماداً على اللسان، والميم آخر الحروف ومخرجها من الفم من الشفتين.
إذاً: الهمزة مخرجها من أقصى الحلق، واللام مخرجها من اللسان، والميم مخرجها من الشفتين وهذه الثلاثة هي أصل مخارج الحروف، الحلق واللسان والشفتان، ثم ترى الترتيب الألف أولاً، ثم اللام الوسط، ثم الميم، فترى الترتيب في النزول من البداية إلى الوسط إلى النهاية.
يقول العلامة ابن القيم: فإن للألف البداية ولللام التوسط وللميم النهاية، فاشتملت هذه الأحرف الثلاثة على البداية والنهاية والواسطة، وكل سورة استفتحت بهذه الأحرف الثلاثة مشتملة على بدء الخلق ونهايته والتوسط فيه، ومشتملة على تخليق العالم، وعلى الغاية من خلقه، وعلى التوسط بين البداية والنهاية من التشريع والأوامر، وقد اشتمل على ذلك كل سورة بدأت بـ (الم) مثل البقرة، وآل عمران، وتنزيل السجدة، وسورة الروم.
ثم يقول: فإذا أتيت إلى سورة (ق) تجد السورة كلها مبنية على الكلمة القافية، و (ق) هو الحرف الغالب في سورة (ق): من ذكر القرآن، وذكر الخلق، وتكرير القول، والقرب من ابن آدم، وتلقي الملكين قول العبد، وذكر النقيض، وذكر القلب والقرون، والتنقيب في البلاد، والقيل، وتشقق الأرض، وإلقاء الرواسي فيها، وسوق النخل، والرزق، وذكر القوم، وحقوق الوعيد، والقول والمحاورة، فترى حرف القاف هو الغالب على سورة (ق).
قال: وكل معاني هذه السورة مناسب لما في حرف القاف من الشدة والجهر والعلو والانفتاح.
قال: ثم تعال إلى سورة (ص) وما فيها من الخصومات المتعددة التي تناسب حرف الصاد، وفيها نبض الصاد.
فأولها: خصومة الكفار مع النبي صلى الله عليه وسلم، واختصام الخصمين عند داود، وتخاصم أهل النار، واختصام الملأ الأعلى في العلم والدرجات والكفارات، ومخاصمة إبليس لربه واعتراضه على أمر السجود، ثم خصامه ثانياً في شأن بنيه، وقوله: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص:82] إلا أهل الإخلاص.
قال ابن القيم: فليتأمل اللبيب الفطن هل يليق بهذه السورة غير (ص)، وبسورة (ق) غير حرفها؟!! قال ابن القيم: وهذه قطرة من بحر من بعض أسرار هذه الحروف، والله أعلم.
هذا قول سيدنا وتاج رأسنا العلامة ابن القيم السابح في بحار القرآن الكريم.(40/2)
معاني التقوى
قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة:1 - 2].
والتقوى تأتي في القرآن بمعنى الإيمان تارة، وبمعنى التوبة تارة، وبمعنى الطاعة ثالثة، وترك المعصية رابعة، وبمعنى الإخلاص خامسة.
أما بمعنى التوحيد والإيمان فقد الله تبارك وتعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح:26] وهي كلمة التوحيد.
وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3].
وقال تعالى: {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} [الشعراء:11] يعني: ألا يوحدون الله عز وجل، وألا يؤمنون.
وأما التوبة ففي قول الله عز وجل: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا} [الأعراف:96] يعني: وتابوا إلى الله عز وجل.
وأما الطاعة ففي قول الله عز وجل: {أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [النحل:2].
وأما ترك المعصية ففي قول الله عز وجل: {وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:189].
وأما الإخلاص ففي قول الله عز وجل: {فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32].(40/3)
معنى الإيمان
قال تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:1 - 3].
والإيمان لغة معناه: التصديق، قال إخوة يوسف لأبيهم: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف:17] يعني: وما أنت بمصدق لنا.
والإيمان شرعاً: تصديق وقول وعمل، تصديق بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالجوارح والأركان.
والتصديق بالجنان معناه: اعتقاد القلب بانفراد الله عز وجل بالألوهية، ولا تكفي المعرفة بأن الله عز وجل واحد، وعدم التصديق بذلك لا ينجي العبد من الخلود في النار، وقد قال الناس: إن قول القلب هو تصديق القلب بانفراد الله عز وجل بالألوهية ولا تكفي المعرفة فقط.
وأبو طالب كان يقول: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية دينا لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبينا وقال تعالى عن قومه: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].
إذاً: فلا تكفي المعرفة، وإنما لابد من يقين القلب واعتقاده الجازم بانفراد الله بالألوهية وتصديقه بذلك.
هذا قول القلب.(40/4)
بيان أول واجب على الإنسان عند أهل السنة وعند الأشاعرة
وقول اللسان: هو النطق بالشهادتين، وهذا هو أول واجب على المكلف، خلافاً لقول الأشاعرة: إن أول واجب على المكلف هو النظر أو القصد إلى النظر، وعندهم أنه لا ينفع التقليد في التوحيد.
وهذا القول مما خالفهم فيه الحافظ ابن حجر في المجلدين الأول والثالث عشر من (فتح الباري)، وهذا الذي جعل بعض الناس يقولون: إن ابن حجر لم يكن من الأشاعرة، وإنما كان من مفوضة أهل السنة والجماعة ولم يكن من الأشاعرة؛ لأنه خالفهم في أول واجب على المكلف، وقال: لابد من النطق بالشهادتين إلا أن يحول بين ذلك حائل، كأن يكون أخرس لا يستطيع النطق بها لعيب في لسانه مثلاً.(40/5)
بيان كيفية توبة المرتد
في دار الدنيا إن لم ينطق العبد بالشهادتين لا يكون مسلماً أبداً، وقول اللسان يكون بالنطق بالشهادتين، فلو أتى أحد وقال لك: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فإنه يدخل بها الإسلام، فإذا علم من حاله أنه يقول: إن محمداً نبي العرب فقط وليس للأقباط ولا لنا فلا تكفي حتى يشهد أن الرسالة عامة للثقلين، وناسخة لما قبلها من الشرائع.
والمرتد يرجع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين وبالتصديق بما أنكره.
فلو قال لك أحد: لا يوجد في الإسلام صلاة، قلنا لك: أقم عليه حد الردة، فإن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فلا يكفي ذلك، بل لا بد أن يقر بما جحده.
وهو وجوب الصلاة.
إذاً: الدخول في الإسلام يكون بالنطق الشهادتين، ثم بالتصديق بما جحده، وهذه مسألة هامه جداً.(40/6)
بيان أفضل العمل
وعمل القلب أفضل الأعمال، وهو الخوف والرجاء والحب والتوكل والإخلاص.
وهذه الأشياء الثلاثة أقل شيء يأتي به العبد حتى يكون مسلماً، وليس لازم أن يأتي بالأعمال كلها، فمثلاً الصلاة فيها اختلاف بين العلماء، فالإمام الشافعي يقول: إن لم يجحدها وإنما تركها تكاسلاً فلا يكفر.(40/7)
بيان شروط تحقيق الإسلام في العبد
وأما النطق بالشهادتين فلازم، وكذلك تصديق القلب واعتقاده بانفراد الله عز وجل بالألوهية، ثم أصل أعمال القلوب.
فمن أجل أن يكون العبد مسلماً عند الله عز وجل فلا بد أن ينطق بلسانه بالشهادتين، ويصدق ويوقن بقلبه، وهذا شيء خفي بينه وبين المولى عز وجل، ثم الأمر الثالث أصل أعمال القلوب والتي هي الخشية والخوف والرجاء والمحبة والإخلاص، فلا بد أن يكون في قلبه أقل شيء من الخوف لله عز وجل، وأقل شيء من المحبة، وأقل شيء من الإخلاص.
فإن لم يوجد في قلبه تعظيم خالص لله عز وجل وانتفى منه الخوف مطلقاً من قلبه فلا يكون مسلماً.(40/8)
بيان كيفية معرفة إسلام العبد
وأما كيفية معرفة أن في قلبه شيئاً من ذلك فلا بد من أن يأتي ببضعة من الأعمال تثبت ذلك، فمثلاً: الخوف لا بد أن يكون عنده ولو ذرة بسيطة في قلبه من الخوف، ونعرف أنه لا يوجد في قلبه ذرة من الخوف أو أنه لا يخاف ربنا أبداً كأن يأتي بالمصحف مثلاً بمزاجه هكذا وهو بكامل عقله وفي كامل قواه غير مكره ثم يطأ عليه، ولو كان في قلبه أدنى ذرة من التعظيم لله لما فعل ذلك؛ لأنه يعلم أن المصحف كلام الله عز وجل.
فلو أتى بالمصحف وقطعه ووضعه تحت رجله بمزاجه هكذا وبدون إكراه أو ضغط عليه أو ضرب أو فقد لعقله أو شرب للخمر، فليس في قلبه أدنى ذرة من التعظيم لله عز وجل، فأصل أعمال القلوب أن يكون عنده أقل ذرة من المحبة لله عز وجل، وأقل ذرة من الخوف من الله عز وجل، وأقل ذرة من التوكل على الله عز وجل، وهذه هي الثلاثة التي ينجو بها العبد عند الله عز وجل، فإن انتفى ذلك تماماً من قلبه لم يكن مسلماً.(40/9)
شبهة حول تكفير المرتد والجواب عنها
يكفي في دار الدنيا النطق بالشهادتين حتى يكون الشخص ملسماً، وبعض الناس اليوم يقول: لا يستطيع أحد أن يحكم بالكفر على أحد، وكيف يستقيم هذا الكلام والعلماء قد كتبوا كتباً كثيرة في الردة، وكتب المذاهب الأربعة والكتب الفقهية مملوءة بالكلام عن الردة، وكذلك كتب السنة مملوءة بأحكام الردة، فإذا عمل أحد شيئاً كفرياً قلنا له: هذا كفر، فنأخذه إلى القاضي الشرعي حتى يقيم عليه الحجة ويقول له: ارجع، فلا تكون العملية سائبة، فلا يقول أحد: لا يوجد أحد يقدر أن يحكم بالكفر على أحد، ولا يملك التكفير إلا الله عز وجل، ومن الذي قال هذا الكلام من العلماء؟! قال حذيفة بن اليمان: كان النفاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما اليوم فإما الإسلام وإما السيف.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم ربنا أطلعه على أسماء المنافقين، والرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يقتل أحداً من أصحابه؛ خشية أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه، وأما الآن فقد انتهى النفاق، فكل من أظهر طعناً واضحاً جلياً في دين الله قلنا له: لست جاهلاً وإنما تريد طعناً في دين الله عز وجل، فتعال إلى العلماء، ليقيموا عليك الحجة وإلا حكموا عليك بالردة.(40/10)
بيان كفر الحلاج وضلالاته
ولو لم يكن أحد يملك تكفير أحد فلماذا العلماء كفر العلماء الحلاج وحكموا عليه بالقتل، وهل هؤلاء العلماء كانوا ظالمين له؟ ماكنول المستشرق الأجنبي جلس أربعين سنة ينخر في فكر الحلاج؛ فقد كان عنده بلايا وزندقة واضحة كما ذكر ذلك العلامة ابن كثير، ولسنا نحن من يقول هذا الكلام، بل قاله ابن كثير، وقد كان عالماً وسيداً من سادات العلماء، فقال في المجلد الثالث عشر من (البداية والنهاية): إن الحلاج كان يقول: ألا أبلغ أحبائي بأني ركبت البحر وانكسر السفينة على دين الصليب يكون موتي فلا البطحا أريد ولا المدينة وقال: إن الرجل يسقط عنه صوم رمضان بصيام ثلاثة أيام، ثم يصوم اليوم الرابع ويفطر على ورق الشجر -أي: مثل الجواميس والعجول- فيسقط عنه فرض الصوم.
ويقول عن الحج: إن الرجل يأتي إلى حجرة مطيبة من بيته ويطوف حولها ويفعل عندها ما يفعل حول الكعبة، ويطعم ثلاثين مسكيناً بيده، ويعطي كلاً منهم 7 دراهم، وبهذا يسقط عنه فرض الحج.
وبهذا يرتاح الناس جداً؛ لأن كل واحد منهم عنده اليوم غرفة فيها موكيت نظيف تمام النظافة، فيطوف حولها، فيسقط عنه فرض الحج.
وأما القرآن فيقول عنه الحلاج لتلميذه: أستطيع أن أؤلف مثله.
وهذا ليس كلامي وإنما هو كلام ابن كثير، وكل من يظهر طعناً واضحاً جلياً في دين الله عز وجل فهو زنديق.
وحكم الزنديق في الإسلام إذا كان أمر زندقته مشهوراً أنه لا تقبل له توبة ويقتل درءاً للفتنة.
والحدود لا يقيمها إلا الوالي أو الحاكم الشرعي؛ حتى لا تحدث الفتن.(40/11)
بيان ما تتعدى به كلمة مؤمن
وكلمة مؤمن تتعدى بالباء أو باللام، مثل قوله تعالى: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} [يوسف:17]، وقوله: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى} [يونس:83]، وقوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران:73].
ففعل (آمن) يتعدى باللام، أي: يأتي بعده لام الجر، ويتعدى بالباء، أي: تأتي بعده الباء، مثل قولنا: أنا مؤمن برسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو تقول: أنا مؤمن لرسول الله صلى الله عليه وسلم، بالباء أو باللام.(40/12)
بيان كون العمل من الإيمان
إن الأعمال ركن من أركان الإيمان، فقد الرسول صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان).
أخرجه الإمامان البخاري ومسلم.(40/13)
معنى الغيب والإيمان به
وقال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3] والغيب كما قال العلماء هو: كل ما غاب عن العباد وأخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم، ويدخل في ذلك الإيمان بالله عز وجل، والإيمان بالملائكة، وبالكتب المتقدمة، وبالرسل المتقدمين، وباليوم الآخر، وبالجنة وبالنار، وبلقاء الله عز وجل، وبكل ما ذكر القرآن من الغيوب.
ومن الإيمان بالملائكة ألا تصفها بأن لونها ذهبي؛ لأن هذا فيه استهزاء بالملائكة، وكذلك لا تقل: طعام الملائكة، أو أكل الملائكة، أو هذا يأكل مع الملائكة، وبعض العبارات التي تخرج من الناس وهم لا يشعرون بها توقعهم في سخط الله عز وجل، وهم يقولونها جهلاً منهم بدينهم.
والغيب كل ما غاب عنا، فالله عز وجل غيب، والإيمان بالقدر غيب؛ لأن قدر الله عز وجل غائب عنا.
ومن الإيمان بالغيب الإيمان باللوح المحفوظ، والإيمان بالحور العين، وبما ذكر الله عز وجل في الجنة، وبما ذكر في النار، وبعض العلماء يقولون: ومن الإيمان بالغيب: الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأننا آمنا به ولم نره.
قال العلامة ابن عطية رحمه الله في كتابه (المحرر الوجيز): وهذه الأقوال كلها لا تتعارض في معنى الغيب، بل يقع الغيب على جميعها.
فالغيب في اللغة: ما غاب عنك من الأمر.
وبعض العلماء قالوا في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة:3]: يؤمنون به حال غيبهم، يعني: يؤمنون به باطناً كما يؤمنون به ظاهراً، فيؤمنون بقلوبهم كما يؤمنون بألسنتهم، وبهذا يفارقون أهل النفاق الذين يؤمنون بألسنتهم وينافقون بقلوبهم.
هذا كله من معاني الإيمان بالغيب.(40/14)
بيان إنكار ابن سينا للحشر وللجنة
وابن سيناء يقول: لا يوجد شيء اسمه الجنة، ولا يوجد شيء اسمه حشر الأجساد، وإنما الحشر هو حشر النفوس، وأنه لا يوجد عقاب ولا جزاء، وأن جزاء الفيلسوف أن روحه تنتقل إلى فيلسوف ثان، فقال: بتناسخ الأرواح، وقال: إن عقاب الرجل الذي ليس فيلسوفاً وكان عاصياً أن روحه تنتقل إلى عاصٍ مثله، وأنكر حشر الأجساد، ووجود الجنة، والله تعالى يقول: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الآخِرِينَ * عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ * مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ * يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ * لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلا يُنزِفُونَ * وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ * وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:10 - 22].
فأثبت تعالى أن الجنة فيها أكل وشرب ونكاح.
وقد كان ابن سيناء من طائفة الحشاشين، وهم من غلاة الإسماعيلية الشيعة.
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة يمشي الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها).
فلا يقول أحد: لا يعقل أن شجرة يمشي الراكب في ظلها مائة عام وأنا أمشي من هنا إلى أسوان في شهرين، يعني: أن هذه الشجرة إلى حد موزبيق فلا يعقل هذا الكلام.
ولكن علينا أن نؤمن بهذا ونصدقه.
ولما قيل لـ أبي بكر الصديق: أما تنظر إلى صاحبك يزعم أنه قد أسري به ثم عاد الليلة! فقال: إن كان قاله فقد صدق.(40/15)
إقامة الصلاة
قال تعالى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة} [البقرة:3]، أي: يداومون عليها.
ونقل العلامة القاسمي في كتابه (محاسن التأويل) عن الراغب في إقامة الصلاة قال: إنها توفية حدودها، وإدامتها، والمحافظة عليها، وأداؤها بأركانها وسننها وهيئاتها في أوقاتها، وملازمتها جماعة في الفرائض، والإكثار من النوافل.(40/16)
فضل الصلاة وفضل إقامتها في أول وقتها
ونأتي إلى إقامة الصلاة عند علماء السلف وعبادهم والسابقين من هذه الأمة، وسجودهم في المحراب، واستغفارهم في الصلاة، ودموعهم عند المناجاة، وهذه يحتكرها المؤمنون، ولئن كانت جنة أهل الدنيا في الدينار والنساء والقصر المنيف فإن جنة المؤمن في محرابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان والحاكم وحسنه الألباني: (الصلاة خير موضوع، فمن استطاع أن يستكثر فليستكثر).
ومن إقامة الصلاة المحافظة عليها في أول وقتها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة في إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الصلاة في أول وقتها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله الصلاة لوقتها، ثم بر الوالدين، ثم الجهاد في سبيل الله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الصلاة لوقتها، والجهاد في سبيل الله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعت النداء فأجب داعي الله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا بلال! أقم الصلاة، أرحنا بها يا بلال).(40/17)
فضل المشي إلى المساجد
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اتقوا الله في الصلاة وما ملكت أيمانكم).
ومن إقامة الصلاة والمحافظة عليها: أن تمشي إلى المساجد متوضئاً، فأجر الخارج إلى صلاة مكتوبة متوضئاً متطهراً كأجر الحاج المحرم، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا يخرجه إلا إياه فأجره كأجر المعتمر، وصلاة على إثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين).
والمشي إلى المساجد بوضوء هذا مما اختصمت فيه الملائكة.(40/18)
فضل صلاة الجماعة
ومن إقامة الصلاة أيضاً: الحرص على صلاة الجماعة، وعلى التكبيرة الأولى.
فعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى لله أربعين يوماً في جماعة يدرك التكبيرة الأولى كتبت له براءتان: براءة من النار، وبراءة من النفاق).
رواه الترمذي، وحسنه الشيخ الألباني.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يتوضأ أحدكم فيحسن وضوءه ويسبغه، ثم يأتي المسجد لا يريد إلا الصلاة فيه: إلا تبشبش الله إليه كما يتبشبش أهل الغائب بطلعته).
والبشبشة هي: الفرح، كما في رواية: (إلا فرح الله عز وجل به).
رواه ابن خزيمة في صحيحه، وصححه الألباني.(40/19)
فضل صلاة العصر والترهيب من تركها
ومن إقامة الصلاة: حب الرجل للمساجد وتعلقه بها؛ حتى يظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ويبدو حرص الرجل على صلاته في حرصه على الصلاة الوسطى؛ صلاة العصر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة -يعني: العصر- عرضت على من كان قبلكم فضيعوها، فمن حافظ منكم اليوم عليها كان له أجره مرتين).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الذي تفوته صلاة العصر كأنما وتر أهله وماله).(40/20)
فضل صلاتي الفجر والعشاء والجلوس بعد صلاة الفجر في المسجد حتى تطلع الشمس وصلاة ركعتين
ومن إقامة الصلاة والحرص عليه: المحافظة على صلاتي العشاء والصبح في جماعة والجلوس في المسجد للذكر حتى تطلع الشمس، ثم صلاة ركعتين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة فكأنما قام نصف ليلة، ومن صلى الصبح في جماعة فكأنما قام الليل كله).
يعني: الذي يصلي العشاء له النصف، والذي يصلي الصبح له نصف آخر، فيصبح كأنما قام الليل كله.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى العشاء في جماعة كان كقيام نصف ليلة، ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان كقيام ليلة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في صلاة العشاء وصلاة الفجر لأتوهما ولو حبواً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها).
ودخول المسجد في صلاة الفجر له خاصية أخرى: فعن ميثم وهو رجل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (بلغني أن الملك يغدو برايته -ملك من الملائكة- مع أول من يغدو إلى المسجد، فلا يزال بها معه حتى يرجع فيدخل بها منزله، وإن الشيطان يغدو برايته إلى السوق مع أول من يغدو فلا يزال معه حتى يرجع فيدخل منزله).
وهذا القول له حكم الرفع؛ لأنه قول صحابي، وإذا قال الصحابي: بلغني فله حكم الرفع.
وهذا الحديث رواه ابن أبي عاصم وأبو نعيم والمنذري.
فأول واحد خارج من بيته لصلاة الفجر يمشي معه الملك بالراية حتى يدخله المسجد، ثم ينتظره بعد الصلاة حتى يوصله إلى بيته، فيا عظمة ذلك الرجل، وهو أفقر رجل في بلدنا لا يملك قوت يومه إلا بالعافية، وأقسم بالله أنه يومياً يمضي قبل الفجر بثلاث ساعات إلى المسجد متوكئاً على عكازه يتهجد، وما فاتته صلاة الجماعة قط.
وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من توضأ ثم أتى المسجد فصلى ركعتين قبل الفجر ثم جلس حتى يصلي الفجر كتبت صلاته يومئذ في صلاة الأبرار وكتب في وفد الرحمن).
متى صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب فإذا فعلت ذلك كتبت عند الله عز وجل من الأبرار، وكتبت في وفد الرحمن.
وقال صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي بكرة رضي الله عنه: (من صلى الصبح في جماعة فهو في ذمة الله، فمن أخفر ذمة الله كبه الله في النار لوجهه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى البردين دخل الجنة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي أمامة رضي الله عنه: (من صلى صلاة الغداة في جماعة ثم جلس يذكر الله حتى تطلع الشمس، ثم قام فصلى ركعتين انقلب بأجر حجة وعمرة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى الفجر في جماعة ثم قعد يذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس، ثم صلى ركعتين كانت له كأجر حجة وعمرة تامة تامة تامة).
فإذا فعلت ذلك كل يوم كان لك أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة، إذاً: فاجلس حتى تشرق الشمس، وصل ركعتين، ثم ارجع إلى بيتك بأجر حجة وعمرة تامة؛ حتى يبارك لك ربك في بيتك وفي زوجتك وفي مالك وولدك، لا أن تخرج تجلس في الشارع إلى أن تشرق الشمس، ثم بعدها تذهب لعمل الدنيا فلا يبارك لك ربك في العمل.(40/21)
فضل الصف الأول
ومن إقامة الصلاة: حرصك على الصلاة في الصف الأول، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال قوم يتأخرون عن الصف الأول حتى يؤخرهم الله في النار).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما في الصف الأول لكانت قرعة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا)، وهذا فيه فضل الصلاة في الصف الأول.(40/22)
فضل الصلاة في ميامن الصفوف ووصل الصفوف واللين بالمناكب
ومن تمام إقامة الصلاة: الصلاة في ميامن الصفوف، فعن عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف)، فصلاتك عن يمين الإمام يوجب صلاة الله عز وجل والملائكة عليك.
ومن إقامة الصلاة: صلة الصفوف، ولين المناكب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على الذين يصلون الصفوف، ومن سد فرجة رفعه الله بها درجة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خياركم ألينكم مناكب في الصلاة) أي: تجعل منكبك بجانب منكب أخيك، لا أن تدفعه وكأنك تريد أن تخلع كتفه.(40/23)
فضل السنن الرواتب
وأيضاً من تمام إقامة الصلاة: الحرص على صلاة السنن الرواتب في البيوت، وأداؤها في البيوت سنة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى في اليوم والليلة اثنتي عشر ركعة تطوعاً بنى الله له بيتاً في الجنة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى في يوم وليلة ثنتي عشرة ركعة بني له بيت في الجنة: أربعاً قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء، وركعتين قبل صلاة الغداة).(40/24)
الترغيب في صلاة السنن والنوافل في البيت
وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بصلاة السنن الرواتب والنافلة في البيوت، فقال: (فضل صلاة الرجل في بيته على صلاته حيث يراه الناس كفضل المكتوبة على النافلة).(40/25)
فضل صلاة الضحى
وأيضاً من تمام إقامة الصلاة ومن حرص الرجل على الصلاة: حرصه على صلاة الضحى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب، وهي صلاة الأوابين).
وأفضل أوقاتها هو ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صلاة الأوابين حين ترمض الفصال).(40/26)
بيان الاختلاف في صلاة التسبيح وذكر فضلها وكيفيتها
وأيضاً المحافظة على صلاة التسبيح، ومعظم فقهاء القاهرة يضعفون حديث صلاة التسابيح، وأنا سألت شيخنا الشيخ ابن عثيمين عن صلاة التسابيح فقال لي: لا أعرف عنها إلا ما تعرف، فأعطيته أسماء العلماء الذين صححوها وحسنوها، ومن ضعفها من أهل العلم، وممن حسن صلاة التسابيح الحافظ ابن حجر أستاذ الدنيا كلها في علم الحديث، وكذلك الشيخ الألباني، وشيخ الإسلام الإمام البلقيني، وأبو عبد الرحيم المصري، والإمام المنذري، والإمام الحاكم، والحافظ العلائي، وبلغ الذين صححوا صلاة التسابيح أو حكموا عليها بالحسن أكثر من أربعين عالماً، حتى إن الإمام أحمد بن حنبل كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في التعليق على (مشكاة المصابيح) ضعف الحديث أولاً ثم رجع عن تضعيفه.
وذكر الحافظ ابن حجر هذا الكلام أيضاً في النكت على الأذكار.
وابن حجر عندنا يساوي ملء الأرض من طلاب الحديث والعلماء من أمثالنا.
و {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف:76]، ولكن علينا دائماً أن نرد الأمر إلى أهله.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديثه عن صلاة التسابيح: (يا عباس! يا عماه! ألا أعطيك؟ ألا أمنحك؟ ألا أحبوك؟ ألا أفعل بك عشر خصال إذا أنت فعلت ذلك غفر الله ذنبك أوله وآخره، قديمه وحديثه، خطأه وعمده، صغيره وكبيره، سره وعلانيته؟ تصلي أربع ركعات تقرأ في كل ركعة فاتحة الكتاب وسورة، فإذا فرغت من القراءة في أول ركعة وأنت قائم قلت: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر خمس عشرة مرة، ثم تركع فتقولها وأنت راكع عشراً، ثم ترفع رأسك من الركوع فتقولها عشراً، ثم تهوي ساجداً فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك من السجود فتقولها عشراً، ثم تسجد فتقولها عشراً، ثم ترفع رأسك فتقولها عشراً، فذلك خمس وسبعون في كل ركعة، تفعل ذلك في أربع ركعات، فلو كانت ذنوبك مثل زبد البحر أو رمل عالج غفرها الله لك، إن استطعت أن تصليها في كل يوم مرة فافعل، فإن لم تفعل ففي كل جمعة مرة، فإن لم تفعل ففي كل شهر مرة، فإن لم تفعل ففي كل سنة مرة، فإن لم تفعل ففي عمرك مرة).
وصلاة الأربع الركعات مثنى مثنى.(40/27)
الخشوع في الصلاة
وأيضاً من إقامة الصلاة: أن تخشع فيها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا قمت في صلاتك فصل صلاة مودع، ولا تتكلم بكلام تعتذر منه، واجمع الإياس مما في أيدي الناس) أي: اجعل كل قلبك متصل بربك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذكر الموت في صلاتك، فإن الرجل إذا ذكر الموت في صلاته لحري أن يحسن صلاته، فصل صلاة رجل لا يظن أنه يصلي صلاة غيرها، وإياك وكل أمر يعتذر منه) أي: صل وكأنها آخر صلاة لك.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة طول القنوت).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أحدكم إذا قام يصلي فإنما يناجي ربه، فلينظر كيف يناجيه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صل صلاة مودع كأنك تراه، فإن كنت لا تراه فإنه يراك).(40/28)
أهمية مراعاة المعاني الباطنة للصلاة
وأيضاً من إقامة الصلاة: أن تراعي المعاني الباطنة للصلاة من حضور القلب في الصلاة، وأن يكون قلبك تابعاً لهمتك، فلابد من حضور القلب في الصلاة، وتدبره وتفهمه لمعاني ألفاظ القرآن الكريم التي يتلوها، ثم تعظيم كلام الله عز وجل، ومعرفة حقارة النفس وخستها، وكونه عبداً مربوباً مسخراً.
وإذا علمت أن ربك عظيم، وعلمت مدى حقارة النفس تبت إلى الله عز وجل، واستكنت وانكسرت وخشعت له عز وجل.
وإذا استحضر العبد الهيبة والرجاء ولطف الله وكرمه وعميم إنعامه ولطائف صنعه ومعرفة صدقه في وعده بالجنة إذا صلى ثم استشعر الحياء وتقصيره في الصلاة وعلمه بالبعد عن القيام بحق الله عز وجل فإنه يستحيي من ربه أن يوجه إليه صلاة عرجاء.(40/29)
وصف صلاة الخاشع
وقد وصف العلامة ابن القيم صلاة الخاشع فقال: يصلي ما كتب الله له صلاة محب ناصح لمحبوبه، متذلل منكسر بين يديه، لا صلاة مدل بها عليه، يرى من أعظم نعم محبوبه عليه أن استزاره ولم يطلب غيره، وأعزه وأهله بالقرب منه وحرم غيره، وهو يزداد بذلك محبة إلى محبته، ويرى أن قرة عينه وحياة قلبه وجنة روحه ونعيمه ولذته وسروره في تلك الصلاة، وهو يتمنى طولها ويهتم بفراقها كما يتمنى المحب الفائز وصول محبوبه، كما يقول الشاعر: يود لو أن ظلام الليل دام له وزيد فيه سواد القلب والبصر فهو يتملق فيها مولاه تملق المحب لمحبوبه العزيز الرحيم، يناديه بكلامه، معطياً لكل آية حظها من العبودية، فينجذب قلبه وروحه إلى آيات المحبة والوداد، والآيات التي فيها الأسماء والصفات، والآيات التي تعرف بها الله إلى عباده بآلائه وإنعامه عليهم، فتطيب له السير آيات الرجاء والرحمة وسعة البر والمغفرة، وتكون له بمنزلة الحادي الذي يطيب له السير ويهونه، وتقلقه آيات الخوف والعدل والانتقام وإحلال غضبه بالمعرضين عنه العادلين به غيره المائلين إلى سواه، فيجمعه عليه، ويمنعه أن يشرد قلبه عن الصلاة.
فبالجملة يشاهد المتكلم سبحانه وقد تجلى في الكلام، فيعطي كل آية حظها من عبودية القلب الخاصة الزائدة على مجرد تلاوتها والتصديق بأنها كلام الله، بل الزائدة على نفس فهمها ومعرفة المراد منها، ثم شأن آخر لو فطن له العبد لعلم أنه كان يلعب قبل ذلك، كما قيل: وكنت أرى أن قد تناهى بي الهوى إلى غاية ما بعدها لي مذهب فلما تلاقينا وعاينت حسنها تيقنت أني إنما كنت ألعب وعندما يدخل الشخص الجنة ويرى النعيم الذي فيها وتفاوت الدرجات يقول: يا إلهي! لقد كنا نلعب في دار الدنيا، فصلاتنا كلها صلاة عرجاء، لا تؤهلنا إلى أن نأخذ فقط مقبض باب من أبواب الجنة، فمقبض الباب فقط يساوي الدنيا كلها وما عليها، (ولموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها).
ولو قيل لك: لو صليت صلاة فسنعطيك فلة على البحر، فإنك ستصلي صلاة لم يصلها أحد؛ من أجل فلة فقط على البحر، فما ظنك بصلاة ترتفع بها إلى أعلى عليين؟(40/30)
بيان تفاوت أهل الجنة في الدرجات
إن الذين في أدنى درجات الجنة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لينظرون إلى أهل الغرف كما تنظرون أنتم إلى النجم الدري الغابر في الأفق؛ لتفاضل ما بينهما، وما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض).
يعني: من التفاوت الذي بينهما.
وهذا التفاوت موجود حتى في الدنيا، فهناك ناس في الدنيا لا يقدرون على شراء طعمية أو باذنجان، وهناك ناس يطيرون بطائرات من ذهب، فالتفاوت في دار الدنيا رهيب لا يخطر على بال أحد، حتى يكاد الشخص يجن، فتجد ناساً فقراء في هذه الدار، وناساً لا يخطر غناهم على بال أحد، إذاً: فكيف تكون الجنة؟! وسبحان مثبت العقول.
فإن آخر من يدخل الجنة يبدو له قصر من در أبيض، وإذا رأى قهرمانه -وهو لم يره قبل ذلك- سجد له، فيقال له: ارفع رأسك، فيقول: كأنما تراءى لي ربي، فيقول: إنما أنا قهرمانك، وتحت يدي ألف على مثل ما أنا عليه.(40/31)
التحذير من الغفلة عن الآخرة والركون إلى الدنيا
فيا ويلك يا من تترك كل هذا النعيم، وتجادل عن جيفة طلابها كلاب، فالملك يدعوك إلى جنانه وأنت مقيم على الجيف وتقول: والله لآخذنها، فنعيم أنت راحل إليه في كل لحظة أحق بالعمل له من نعيم خراب أنت راحل عنه في كل لحظة.
يقول ابن القيم: فوا أسفاه وواحسرتاه! كيف ينقضي الزمان وينفذ العمر والقلب محجوب ما شم لهذا رائحة، وخرج من الدنيا كما دخل إليها وما ذاق أطيب ما فيها، بل عاش فيها عيش البهائم، وانتقل منها انتقال المفاليس، فكانت حياته عجزاً، وموته كمداً، ومعاده حسرة!!(40/32)
بيان معنى تطفيف الصلاة وسرقتها
يا ابن آدم! أي شيء يعز عليك من دينك إذا هانت عليك صلاتك! فالصلاة مكيال، وقد علمت ما قال الله في المطففين، وإن كان الله قد توعد المطففين في مكيال الدنيا من الحبوب والشعير فما ظنكم بالمطففين في مكيال الدين!! {أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسوأ الناس سرقة الذي يسرق صلاته، قالوا: وكيف يسرق من صلاته؟ قال: لا يتم ركوعها ولا سجودها، وأبخل الناس من بخل بالسلام).
فليس السارق هو الذي يقطع الجيوب، بل السارق الذي يسرق من صلاة؛ نفسه، فهو يسرق نفسه، فتجده يكبر في التراويح: الله أكبر بسرعة من أجل الفوازير، ويجادل بأن السنة في صلاة التراويح ثمان ركعات فقط، والوتر ركعة أو ثلاث من أجل الفوازير.(40/33)
نماذج من خشوع السلف في الصلاة
وأين هذا من الإمام يحيى بن وثاب، فقد كان إذا قضى صلاته مكث ملياً تعرف فيه كآبة الصلاة، وكان إذا ركع أو سجد فكأنه قد وقف للحساب، ويقول: أي رب! أذنبت كذا وكذا فعفوت عني فلا أعود، وأذنبت كذا وكذا فعفوت عني فلا أعود.
وكان إبراهيم النخعي إذا صلى يمكث بعد الصلاة ساعة كأنه مريض.
وحاتم الأصم لما سئل عن صلاته قال: أقوم إلى صلاتي وأمثل الكعبة بين حاجبي، والصراط تحت قدمي، والجنة عن يمني، والنار عن شمالي، وملك الموت ورائي، وأظنها آخر صلاتي.(40/34)
شدة محافظة السلف على صلاة الجماعة
وهناك أمثلة عطرة في تاريخ الإسلام لعلو كعب العلماء في المحافظة على صلاة الجماعة، والمسارعة إليها، وفي اختيارهم المكان البعيد؛ كي يكسبوا الثواب، فـ سعيد بن المسيب يقول: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام في المسجد، ومنذ ثلاثين سنة وأنا أسمع صوت المؤذن في المسجد.
ويقول: منذ أربعين سنة ما نظرت إلى قفا مسلم في صلاة؛ لأنه كان يصلي في الصف الأول، فلا يوجد أحد أمامه حتى يرى قفاه.
وأما حضور صلاة الفجر ليلة الزواج فهذه لا تخطر على بال، وما الذي يمنعك إن أنت تزوجت أن تصلي في المسجد وترجع إلى زوجك؟ روى الإمام الطبراني عن عنبسة بن الأزهر قال: تزوج الحارث بن حسان وكان له صحبة، فأراد أن يخرج لصلاة الفجر فقيل له: أتخرج وإنما بنيت بأهلك في هذه الليلة؟! قال: والله إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة ومن صلاة الفجر في جمْع لامرأة سوء.
والإمام سعيد بن المسيب لما اشتكى عينه قالوا: اذهب إلى البادية، قال: فكيف بصلاة الغداة والعشاء؟ أي: لا داعي لذلك، وعيني ستشفى إن شاء الله.
وكانوا يحضرون وهم مرضى.
فالإمام أبو عبد الرحمن السلمي كان يقول: قوله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) هو الذي أقعدني هذا المقعد منذ أربعين سنة.
فقد درس الناس وعلمهم القرآن أربعين سنة، ثم لما مرض أبو عبد الرحمن السلمي وكان قد نزل المطر قال لهم: احملوني على أكتافكم وخذوني إلى المسجد، فكان يحمل وهو مريض إلى المسجد.
والإمام سعيد بن المسيب قيل له: إن طارقاً يريد قتلك، فقال: أبحيث لا يقدر الله علي؟ فقيل له: اجلس في بيتك تحمي رقبتك، فقال: أسمع حي على الفلاح ولا أجيب؟!(40/35)
مقارنة بين حالنا وحال السلف في المحافظة على صلاة الجماعة
ونحن عندما تكون هناك مباراة للأهلي والزمالك في يوم الجمعة تمتلئ المدرجات بالمشاهدين، فإذا جاءت صلاة الجمعة وقلت لهم: صلوا، قالوا: أيعقل أن نترك المكان؟ لتذهب صلاة الجمعة في ستين داهية، وأما ترك المكان فلا.
والإمام أبو عبد الرحمن السلمي حرص على أن يأتيه الموت وهو في انتظار الصلاة في المسجد، ورفض الانتقال من المسجد إلى فراشه لما حضرته المنية.
فعن عطاء بن السائب قال: دخلنا على أبي عبد الرحمن السلمي وهو في النزع الأخير في المسجد، فقلنا له: لو تحولت إلى فراشك فإنه أوسع لك، فقال: حدثني فلان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يزال أحدكم في صلاة ما دام في مصلاه ينتظر الصلاة)، قال أبو عبد الرحمن السلمي: فأريد أن أموت وأنا في مسجدي، ومات في المسجد.(40/36)
حث الأبناء على صلاة الجماعة
وينبغي لك أن تحث ابنك على ملازمة المسجد، قال أبو الدرداء لابنه: يا بني! ليكن المسجد بيتك؛ فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن المساجد بيوت المتقين، فمن كانت المساجد بيوته ضمن الله له بالروح والرحمة والجواز على الصراط إلى الجنة).
وهذا الحديث حديث صحيح.
فالواجب على الأب أن يؤدب ابنه إذا تأخر عن صلاة الجماعة.
وروي عن عبد العزيز بن مروان والد عمر بن عبد العزيز: أنه لما بعث ابنه عمر إلى المدينة ليتأدب بها كتب إلى صالح بن كيسان أن يتعاهده، وأن يلزمه الصلوات، فأبطأ يوماً عن الصلاة فقال له صالح بن كيسان: ما حبسك؟ قال: كانت خدامتي تسكن شعري، أي: تسرح لي شعري، فقال: أبلغ من تسكين شعرك أن تؤثره على الصلاة؟! وكتب بذلك إلى والده، فبعث عبد العزيز رسولاً إليه فما كلمه حتى حلق شعره.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم.(40/37)
مجاهدة النفس
إن العبد المؤمن القوي بحاجة إلى أن يعاتب نفسه ويحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه، ولا يمكن أن يقوى العبد على طاعة وينشط في عبادة ربه إلا إذا عرف نفسه قدرها، وخيرها بين نعيم الدنيا ونعيم الآخرة فاختارت النعيم الأبدي السرمدي، فعملت لما بعد الموت، وانشغلت به عن ملذات الدنيا التي لا تساوي شيئاً(41/1)
وقفة عتاب للنفس
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد: فنتكلم اليوم عن المرابطة الخامسة وهي: مجاهدة النفس، وقد تشق على الشخص ولكنها طريق فريد لشرف النفس وعلوها، وقد يطول بك الأمر فاصبر، وسبيلك في ذلك أن تسمع ما ورد في الأخبار من فضل مجاهدة النفس، ومن أنفع أسباب العلاج أن تطلب صحبة عبد من عباد الله، مجتهد في العبادة، فتلاحظ أقواله وتقتدي به.
قال عبد الله بن المبارك: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فأجد فيه الحزن؛ فأمقت نفسي.
وكان بعضهم يقول: كنت إذا اعترتني فترة في العبادة نظرت إلى أحوال محمد بن واسع وإلى اجتهاده، فعملت على ذلك أسبوعاً.
إلا أن هذا العلاج قد أصبح عزيزاً؛ إذ قد فقد في هذا الزمان من يجتهد في العبادة اجتهاد الأولين، فينبغي أن يعدل من المشاهدة إلى السماع، فلا شيء أنفع من سماع أحوال الصالحين، ومن مطالعة أخبارهم، وما كانوا فيه من الجهد الجهيد، وقد انقضى تعبهم، وبقي ثوابهم ونعيمهم أبد الآباد لا ينقطع، فما أعظم ملكهم! وما أشد حسرة من لا يقتدي بهم! فيمتع نفسه أياماً قلائل بشهوات مكدرة، ثم يأتيه الموت ويحال بينه وبين كل ما يشتهيه أبد الآباد نعوذ بالله من ذلك! قال أبو حنيفة رحمه الله: الحكايات عن الصالحين أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها أخلاق القوم وآدابهم.
قيل لـ فتح الموصلي: بالله عليك يا فتح كم بكيت الدم؟ قال: لولا أنك سألتني بالله ما أخبرتك، بكيت الدموع على تخلفي عن واجب حق الله تعالى، وبكيت الدم على الدموع؛ لئلا يكون ما صحت لي الدموع: والعين لها دم ودمع سح ذا يكتب شجوه وهذا يمحو كان الثوري رحمه الله يقول: عند الصباح يحمد القوم السرى وعند الممات يحمد القوم التقى فهكذا كانت سيرة السلف الصالحين في مجاهدة النفس وفي مراقبتها، فمهما تمردت نفسك عليك، وامتنعت من المواظبة على العبادة فطالع أحوال هؤلاء، ولو قدرت على مشاهدة من يقتدي بهم فهو أنفع، وأبعث على الاقتداء، فليس الخبر كالمعاينة، وإذا عجزت عن هذا فلا تغفل عن سماع أحوال هؤلاء، فإن لم تكن إبلاً فمعزا، وخير نفسك بين الاقتداء بهم والكون في زمرتهم وغمارهم وهم العقلاء والحكماء وذوو البصائر في دين الله، وبين الاقتداء بالجهلة الغافلين من أهل عصرك، ولا ترض لها أن تنخرط في سلك الحمقى وتقنع بالتشبه بالأغبياء، وتؤثر مخالفة العقلاء، فإن حدثتك نفسك بأن هؤلاء رجال أقوياء لا يطاق الاقتداء بهم فطالع أحوال النساء المجتهدات، وقل لها: يا نفس! ألا تستنكفي أن تكوني أقل من امرأة؟! فأخسس برجل يقصر عن امرأة في أمر دينها ودنياها: كذاك الفخر يا همم الرجال تعالي فانظري كيف التعالي أتسبقك وأنت رجل نسوة أما لك بالرجال أسوة كانت جارية خالد بن الوراق شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة، فأخبرها خالد برفق الله وقبوله ليسير العمل؛ فبكت ثم قالت: إني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مذنب، وإني لأؤمل من الله آمالاً لو حملتها الجبال لعجزت عن حملها كما عجزت عن حمل الأمانة، ولكن قل لي يا خالد: كيف لي بحسرة السباق؟ قلت لها: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر، إذا ركب الأبرار نجائب الأعمال، وطاروا إلى مولاهم، وخلفت مع المسيئين المذنبين، ثم قالت: وعزة سيدي! لا يسبق مقصر مجداً ولو حبا المجد حبواً، ثم قالت: يا خالد! انظر لا يقطعك عن الله قاطع، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة مع مولاهم، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الآمال توقظه إذا نام البطالون؟! وكانت عمرة زوجة أبي محمد حبيب العجمي توقظه لقيام الليل وتقول: قم يا سيدي، فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، وبين يدينا طريق طويل، وزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد سارت قدامنا ونحن قد بقينا.
فعليك إن كنت من المرابطين المراقبين لنفسك أن تطالع أحوال الرجال والنساء من المجتهدين؛ لينبعث نشاطك ويزيد حرصك، وإياك أن تنظر إلى أهل عصرك! فإنك إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله، إياك أن تتدلى بحبل غرورها وتنخدع بتزويرها! قل لها: أرأيت لو هجم سيل جارف يغرق أهل البلد وثبتوا على مواضعهم، ولم يأخذوا حذرهم لجهلهم بحقيقة الحال، وقدرت أنت على أن تفارقيهم وتركبي في سفينة تتخلصين بها من الغرق فهل يختلج في نفسك أن المصيبة إذا عمت طابت أم تتركين موافقتهم في صنيعهم وتأخذين حذرك مما دهاك؟ فإن كنت تتركين موافقتهم خوفاً من الغرق، وعذاب الغرق لا يتمادى إلا ساعة فكيف لا تهربين من عذاب الأبد وأنت متعرضة له في كل حال، ومن أني تطيب المصيبة إذا عمت؟ ولأهل النار شغل شاغل عن الالتفات إلى العموم والخصوص، ولم يهلك الكفار إلا بموافقة أهل زمانهم، حيث قالوا: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، خذ قول الله عز وجل لأهل النار: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39]، فعليك إذا اشتغلت بمعاتبة نفسك فاستعصت ألا تترك معاتبتها وتوبيخها، وتعريفها سوء نظرها لنفسها؛ فعساها تنزجر عن طغيانها.(41/2)
توبيخ النفس ومعاتبتها
أما المرابطة الثانية: فهي توبيخ النفس ومعاتبتها.
اعلم يا أخي! أن أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك، وقد خلقت أمارة بالسوء، ميالة إلى الشر، فرارة من الخير، وأمرت بتزكيتها وتقويمها وقودها بسلاسل القهر إلى عبادة ربها وخالقها، ومنعها عن شهواتها، وفطامها عن لذاتها، فإن أهملتها جمحت وشردت ولم تظفر بها بعد ذلك، وإن هزمتها بالتوبيخ والمعاتبة والملامة كانت نفسك هي النفس اللوامة التي أقسم الله بها، ورجوت أن تصير النفس المطمئنة، المدعوة إلى أن تدخل في زمرة عباد الله راضية مرضية، فلا تغفلن ساعة عن تذكيرها ومعاتبتها، فإن اتعظت فعظ الناس، وإلا فاستحي من الله، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55]، وسبيلك أن تقبل عليها فتقرر عندها جهلها وغباوتها، وأنها أبداً تتعزز بفطنتها وهدايتها، ويشتد أنفها واستنكافها إذا نسبت إلى الجهل، فقل لها: يا نفس! ما أعظم جهلك! تدعين الحكمة والذكاء والفطنة وأنت أشد الناس غباوة وحمقاً، أما تعرفين ما بين يديك من الجنة والنار؟! وأنك صايرة إلى إحداهما على القرب؟ فمالك تفرحين وتضحكين وتشتغلين باللهو وأنت مطلوبة لهذا الخطب الجسيم؟ وعساك اليوم تخطفين أو غداً فأراك ترين الموت بعيداً، ويراه الله قريباً! أما تعلمين أن كل ما هو آت قريب، وأن البعيد ما ليس بآت؟ أما تعلمين أن الموت يأتي بغتة من غير تقديم رسول ومن غير مواعدة ومواطأه، وأنه لا يأتي في شيء دون شيء، ولا في شتاء دون صيف، ولا في صيف دون شتاء، ولا في نهار دون ليل، ولا في ليل دون نهار، ولا يأتي في الصبا دون الشباب، ولا في الشباب دون الصبا؟ بل كل نفس من الأنفاس يمكن أن يكون فيه الموت فجأة، فإن لم يكن الموت فجأة، فيكون المرض فجأة ثم يفضي إلى الموت، فمالك لا تستعدين للموت، وهو أقرب إليك من كل قريب؟! آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد ركوب نعشك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد عرصات القيامة ولقاء ربك، وإن النفس قد يخرج ولا يعود، إن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} [الأنبياء:1 - 3].
ويحك يا نفس! إن كانت جرأتك على معصية الله لاعتقادك أن الله لا يراك، فما أعظم كفرك! وإن كان مع علمك باطلاعه عليك فما أشد وقاحتك وأقل حيائك! ويحك يا نفس! لو واجهك عبد من عبيدك بل أخ من إخوانك بما تكرهينه كيف كان غضبك عليه ومقتك له فبأي جسارة تتعرضين لمقت الله وغضبه وشديد عقابه؟! أفتظنين أنك تطيقين عذابه؟ هيهات هيهات! جربي نفسك إن ألهاك البطر عن أليم عذابه، فاحتبسي ساعة في الشمس أو في بيت الحمام، أو قربي أصبعك من النار لترين قدر طاقتك! إن كنت تغترين بكرم الله وفضله واستغنائه عن طاعتك وعبادتك فمالك لا تعولين على كرم الله في مهمات دنياك؟! إذا قصدك عدو لم تستنبطين الحيل في دفعه ولا تكلينه إلى كرم الله؟! وإن أرهقتك حاجة إلى شهوة من شهوات الدنيا مما لا تنال إلا بالدينار والدرهم فمالك تنزعين الروح في طلبها وتحصيلها من وجوه الحيل فلا تعولين على كرم الله تعالى حتى يعثر بك على كنز أو يسخر عبداً من عبيده فيحمل إليك حاجتك من غير سعي منك ولا طلب؟ أفتحسبن أن الله كريم في الآخرة دون الدنيا، وقد عرفت أن سنة الله لا تبديل لها، وأن رب الآخرة والدنيا واحد، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى؟! ويحك يا نفس ما أعجب نفاقك ودعاويك الباطلة! إنك تدعين الإيمان بلسانك، وأثر النفاق ظاهر عليك، ألم يقل لك سيدك ومولاك: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود:6]، وقال في أمر الآخرة: {وَأَنْ لَيْسَ لِلإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم:39]، فقد تكفل لك بأمر الدنيا خاصة، وصرفك عن السعي فيها فكذبتيه بأفعالك وأصبحت تتكالبين على طلبها تكالب المدهوش المستهتر، ووكل أمر الآخرة إلى سعيك فأعرضت عنها إعراض المغرور المستحقر، فليس هذا من علامات الإيمان، لو كان الإيمان باللسان فلم كان المنافقون في الدرك الأسفل من النار؟!(41/3)
توبيخ النفس وتذكيرها بيوم الحساب
ويحك يا نفس! كأنك لا تؤمنين بيوم الحساب، وتظنين أنك إذا مت تخلصت، وهيهات هيهات! أتحسبين أنك تتركين سدى؟ ألم تكوني نطفة من مني يمنى، ثم كنت علقة فخلق فسوى؟ أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟! فإن كان هذا من إضمارك فما أكفرك وأجهلك! أما تتفكرين أنه خلقك من نطفة فقدرك، ثم السبيل يسرك، ثم أماتك فأقبرك، أفتكذبينه في قوله؟! ثم إذا شاء أنشرك فإن لم تكوني مكذبة فمالك لا تأخذين حذرك؟! ولو أن يهودياً أخبرك في ألذ أطعمتك بأنه يضرك في مرضك لصبرت عنه، ولتركته وجاهدت نفسك فيه، أفكان قول الأنبياء المؤيدين بالمعجزات وقول الله تعالى في كتبه المنزلة أقل عندك تأثيراً من قول يهودي يخبرك عن حدس وتخمين وظن مع نقصان عقل وقصور علم؟! والعجب أنه لو أخبرك طفل بأن في ثوبك عقرباً لرميت ثوبك في الحال من غير مطالبة له بدليل ولا برهان، أفكان قول الأنبياء والعلماء والحكماء وكافة الأولياء أقل عندك من قول الصبي من جملة الأغبياء، أم صار حر جهنم وأغلالها وأنكالها وزقومها ومقامعها وصديدها وسمومها وأفاعيها وعقاربها أحقر عندك من عقرب لا تحسين بألمها إلا يوماً أو أقل منه؟! ما هذه أفعال العقلاء، بل لو انكشف للبهائم حالك لضحكوا منك، وسخروا من عقلك، فإن كنت يا نفس قد عرفت جميع ذلك، وآمنت به، فمالك تسوفين العمل والموت لك بالمرصاد ولعله يختطفك من غير مهلة؟ فبماذا أمنت استعجال الأجل؟! وهبك أنك وعدت بالإمهال مائة سنة أفتظنين أن من يطعم الدابة في حضيض العقبة يفلح ويقدر على قطع العقبة بها؟ إن ظننت ذلك فما أعظم جهلك! أرأيت لو سافر رجل ليتفقه في الغربة فأقام فيها سنين متعطلاً بطالاً يعد نفسه بالتفقه في السنة الأخيرة عند رجوعه إلى وطنه هل كنت تضحكين من عقله؟! وظنه أن تفقيه النفس مما يطمع فيه بمدة قريبة، أو حسبانه أن مناصب الفقهاء تنال من غير تفقه، اعتماداً على كرم الله سبحانه وتعالى، ثم هبي أن الجهد في آخر العمر نافع، وأنه موصل إلى الدرجات العلى، فلعل اليوم آخر عمرك فلم لا تشتغلين فيه بذلك؟ فإن أوحي إليك بالإهمال فما المانع من المبادرة؟ وما الباعث لك على التسويف؟ هل له سبب إلا عجزك عن مخالفة شهواتك لما فيها من التعب والمشقة! أفتنتظرين يوماً يأتيك لا تعسر فيه مخالفة الشهوات؟! هذا يوم لم يخلقه الله قط ولا يخلقه.
فلا تكون الجنة قط إلا محفوفة بالمكاره، ولا تكون المكاره قط خفيفة على النفوس، هذا محال وجوده، أما تتأملين منذ كم تعدين نفسك وتقولين غداً غداً؟! فقد جاء الغد وصار يوماً فكيف وجدته؟ أما علمت أن الغد الذي جاء وصار يوماً كان له حكم الأمس؟! لا بل الذي تعجزين عنه اليوم فأنت غداً عنه أعجز وأعجز؛ لأن الشهوة كالشجرة الراسخة التي تعهد العبد بقلعها، فإذا عجز العبد عن قلعها للضعف وأخرها كان كمن عجز عن قلع شجرة وهو شاب قوي فأخرها إلى سنة أخرى، مع العلم بأن طول المدة يزيد الشجرة قوة ورسوخاً، ويزيد القالع ضعفاً ووهناً، فما لا يقدر عليه في الشباب لا يقدر عليه قط في المشيب، بل من العناء رياضة الهرم، ومن التعذيب تهذيب الذيب، والقضيب الرطب يقبل الانحناء، فإذا دف وطال عليه الزمان لم يقبل ذلك، فإذا كنت أيتها النفس لا تفهمين هذه الأمور الجلية وتركنين إلى التسويف فما بالك تتدعين الحكمة؟ وأي حماقة تزيد على هذه الحماقة؟! ورحم الله من قال: أنذرتكم سوف فإنها جند من جنود إبليس.
لعلك يا نفس تقولين ما يمنعني عن الاستقامة إلا حرصي على لذة الشهوات، وقلة صبري على الآلام والمشقات، فما أشد غبواتك! وأقبح اعتذارك إن كنت صادقة في ذلك! فاطلبي التنعم بالشهوات الصافية عن الكدورات الدائمة أبد الآباد، ولا مطمع في ذلك إلا في الجنة، فإن كنت ناظرة لشهوتك فالنظر لها في مخالفتها، فرب أكلة تمنع أكلات، وما قولك في عقل مريض أشار عليه الطبيب بترك الماء البارد ليصح ويهنأ بشربه طول عمره، وأخبره أنه إن شرب ذلك مرض مرضاً مزمناً، وامتنع عليه شربه طول العمر فما مقتضى العقل في قضاء حق الشهوة؟ أيصبر ثلاثة أيام ليتنعم طول العمر أم يقضي شهوته في الحال خوفاً من ألم المخالفة ثلاثة أيام حتى يلزمه ألم المخالفة ثلاثمائة يوم وثلاثة آلاف يوم، وجميع عمرك بالإضافة إلى الأبد الذي هو مدة نعيم أهل الجنة، وعذاب النار أقل من ثلاثة أيام بالإضافة إلى جميع العمر، وإن طالت مدته، وليت شعري ألم الصبر عن الشهوات أعظم شدة وأطول مدة أو ألم النار في دركات جهنم؟! فمن لا يطيق الصبر على ألم المجاهدة كيف يطيق ألم عذاب الله؟ ما أراك تتوانين عن النظر لنفسك إلا لكفر خفي أو لحمق جلي.
أما الكفر الخفي: فضعف إيمانك بيوم الحساب، وقلة معرفتك بعظم قدر الثواب والعقاب.
وأما الحمق الجلي: فاعتمادك على كرم الله وعفوه، من غير التفات إلى مكره واستدراجه، واستغنائه عن عبادتك، مع أنك لا تعتمدين على كرمه في لقمة من الخبز، أو حبة من المال، أو كلمة واحدة تسمعينها من الخلق، بل تتوصلين إلى غرضك في ذلك بجميع الحيل، وبهذا الجهل تستحقين لقب الحماقة، فالأحمق: من أتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.(41/4)
توبيخ النفس ومعاتبتها بترك الدنيا
ويحك يا نفس لا ينبغي أن تغرك الحياة الدنيا، ولا يغرنك بالله الغرور، فانظري لنفسك، فما أمرك بمهم لغيرك، لا تضيع أوقاتك فالأنفاس معدودة، فكلما ذهب نفس فقد ذهب بعضك، فاغتنمي الصحة قبل السقم، والفراغ قبل الشغل، والغنى قبل الفقر، والحياة قبل الموت، واستعدي للآخرة على قدر بقائك فيها.
يا نفس! أما تستعدين للشتاء بقدر طول مدته تجمعين له القوت والكسوة والحطب وجميع الأسباب، ولا تتكلين في ذلك على فضل الله حتى يدفع عنك البرد في غير جبة وحطب وغير ذلك فإنه قادر على ذلك؟! أفتظنين أيتها النفس أن زمهرير جهنم أخف برداً وأقصر مدة من زمهرير الشتاء، أم تظنين أن ذلك دون هذا؟ كلا، لا مقارنة في الشدة والبرودة بينهما، أفتظنين أن العبد ينجو منها بغير سعي؟ هيهات! كما لا يندفع برد الشتاء إلا بالحطب والنار وسائر الأسباب فلا يندفع حر النار وبردها إلا بحسن التوحيد، وخندق الطاعات، وإنما كرم الله في أن عرفك طريق التحصن، ويسر لك أسبابه، لا في أن يندفع عنك العذاب دون حصنه، كما أن كرم الله عز وجل في دفع برد الشتاء أن خلق النار وهداك لطريق استخراجها.
ويحك يا نفس! انزعي عن جهلك، وقيسي آخرتك بدنياك: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان:28]، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء:104]، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف:29] وسنة الله لا تجدين لها تبديلاً، ولا تحويلاً.
ويحك يا نفس! ما أراك إلا ألفت الدنيا وأنست بها، فعسر عليك مفارقتها، وأنت مقبلة على مقاربتها، تؤكدين في نفسك مودتها، فاحسبي أنك غافلة عن عقاب الله وثوابه، وعن أهوال القيامة وأحوالها، فما أنت مؤمنة بالموت المفرق بينك وبين محابك، أفترين أن من يدخل دار ملك ليخرج من الجانب الآخر فرد بصره إلى وجه مليح يعلم أنه يستغرق ذلك قلبه؟! ثم يضطر لا محالة إلى مفارقته أهو معدود من العقلاء أم من الحمقى؟ أما تعلمين أن الدنيا دار لملك الملوك وما لك فيها إلا مجاز، وكل ما فيها لا يصحب المجتازين بها بعد الموت، ولذلك قال سيد البشر صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه)؟! ويحك يا نفس! أتعلمين أن كل من يلتفت إلى ملاذ الدنيا ويأنس بها -مع أن الموت من ورائه- إنما يستكثر من الحسرة عند المفارقة، وإنما يتزود من السم المهلك وهو لا يدري؟! أو ما تنظرين إلى الذين مضوا كيف بنوا وعلوا، ثم ذهبوا وخلوا؟! وكيف أورث الله أرضهم وديارهم أعداءهم؟ أما ترينهم كيف يجمعون ما لا يأكلون، ويبنون ما لا يسكنون، ويؤملون ما لا يدركون، يبني كل واحد قصراً مرفوعاً إلى جهة السماء، ومقره قبر محفور تحت الأرض؟ فهل في الدنيا حمق وانتكاس أعظم من هذا؟! يعمر الواحد دنياه وهو مرتحل عنها يقيناً، ويخرب آخرته وهو صائر إليها قطعاً! أما تستحين يا نفس! من مساعدة هؤلاء الحمقى على حماقتهم؟! احسبي أنك لست ذات بصيرة تهتدي إلى هذه الأمور، وإنما تميلين بالطبع إلى التشبه، فقيسي عقل الأنبياء والعلماء والحكماء بعقل هؤلاء المنكبين على الدنيا، واقتدي من الفريقين بمن هو أعقل عندك إن كنت تعتقدين في نفسك العقل والذكاء.
يا نفس! ما أعجب أمرك وأشد جهلك وأظهر طغيانك! عجباً لك كيف تعمين عن هذه الأمور الواضحة الجليلة، ولعلك يا نفس أسكرك حب الجاه، وأدهشك عن فهمها، أو ما تتفكرين أن الجاه لا معنى له إلا ميل القلوب من بعض الناس إليك؟! فاحسبي أن كل من على وجه الأرض سجد لك وأطاعك، أفما تعرفين أنه بعد خمسين سنة لا تبقين أنت ولا أحد ممن على وجه الأرض ممن عبدك وسجد لك؟! وسيأتي زمان لا يبقى ذكرك، ولا ذكر من ذكرك كما أتى على الملوك الذين كانوا من قبلك: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} [مريم:98].
كيف تبيعين يا نفس! ما يبقى أبد الآباد بما لا يبقى أكثر من خمسين سنة إن بقي؟! هذا إن كنت ملكاً من ملوك الأرض سلم لك الشرق والغرب، حتى أذعنت لك الرقاب، وانتظمت لك الأسباب، كيف ويأبى إدبارك وشقاوتك أن يسلم لك أمر محلتك بل أمر دارك فضلاً عن محلتك! فإن كنت يا نفس لا تتركين الدنيا رغبة في الآخرة لجهلك وعمى بصيرتك فمالك لا تتركينها ترفعاً عن خسة شركائها، وتنزهاً عن كثرة عنائها، وتوقياً من سرعة فنائها؟! ما لك لا تزهدين في قليلها بعد أن زهد فيك كثيرها؟ وما لك تفرحين بدنيا إن ساعدتك فلا تخلو بلدك من جماعة من اليهود والمجوس يسبقونك بها، ويزيدون عليك في نعيمها وزينتها؟! فأف لدنيا يسبقك بها هؤلاء الأخساء! ما أجهلك، وأخس همتك، وأسقط رأيك! إذ رغبت في أن تكوني في زمرة المقربين من النبيين والصديقين في جوار رب العالمين أبد الآبادين، لتكوني في صف النعال من جملة الحمقى الجاهلين أياماً قلائل، فيا حسرة عليك إن خسرت الدنيا والدين فبادري! ويحك يا نفس! قد أشرفت على الهلاك واقترب الموت، وورد النذير! فمن ذا يصلي عنك بعد الموت؟! من ذا يصوم عنك بعد الموت؟! من ذا يترضى عنك ربك بعد الموت؟! من يتقرب إلى الله بالأعمال بعدك؟ ويحك يا نفس! ما لك إلا أيام معدودة هي بضاعتك إن اتجرت فيها، وقد ضيعت أكثرها فلو بكيت بقية عمرك على ما ضيعت منها لكنت مقصرة في حق نفسك، فكيف إذا ضيعت البقية وأصررت على عادتك؟ أما تعلمين يا نفس! أن الموت موعدك، والقبر بيتك، والتراب فراشك، والدود أنيسك، والفزع الأكبر بين يديك؟ أما علمت يا نفس! أن أكثر الموتى عندك على باب البلد ينتظرونك وقد آلوا على أنفسهم كلهم بالأيمان الغليظة أنهم لا يبرحون من مكانهم ما لم يأخذوك معهم؟ أما تعلمين يا نفس أنهم يتمنون الرجعة إلى الدنيا يوماً ليشتغلوا بتدارك ما فرط منهم وأنت في أمنيتهم ويوم من عمرك لو بيع منهم بالدنيا بحذافيرها لاشتروه لو قدروا عليه، وأنت تضيعين أيامك في الغفلة والبطالة: سألت الدار تخبرني عن الأحباب ما فعلوا فقالت لي أقام القوم أياماً وقد رحلوا فقلت أين أطلبهم وأي منازل نزلوا فقالت في القبور ثووا رهاناً بالذي فعلوا وقال آخر: يا أيها الناس سيروا إن غايتكم أن تصبحوا يوماً لا تسيروا حثوا المطايا وأرخوا من أزمتها قبل الممات وقضوا ما تقضونا كنا أناساً كما كنتم فغيرنا دار فسوف كما كنا تكونونا وقال آخر: فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وأنت لا تدري وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر يا ليت شعري كيف أنت على نبش الضريح وظلمة القبر ويحك يا نفس أما تستحين؟ تزينين ظاهرك للخلق، وتبارزين الله في السر بالعظائم؟! أفتستحين من الخلق ولا تستحيين من الخالق؟! ويحك أهو أهون الناظرين عليك؟! أتأمرين الناس بالخير وأنت متلطخة بالرذائل، تدعين إلى الله وأنت عنه فارة، تذكرين بالله وأنت له ناسية! أما تعلمين يا نفس! أن المذنب أنتن من العذرة، وأن العذرة لا تطهر غيرها؟ فلم تطمعين في تطهير غيرك وأنت غير طيبة في نفسك؟! ويحك يا نفس لو عرفت نفسك حق معرفتها لظننت أن الناس ما يصيبهم بلاء إلا بشؤمك، ويحك يا نفس قد جعلت نفسك حماراً لإبليس يقودك إلى حيث يريد، ويسخر بك، ومع هذا فتعجبين بعملك وفيه من الآفات ما لو نجوت منه رأساً برأس لكان الربح في يديك! وكيف تعجبين بعملك مع كثرة خطاياك وزللك، وقد لعن الله إبليس بخطيئة واحدة مع عبادته له قبل ذلك، وأخرج آدم من الجنة بخطيئة واحدة مع كونه نبيه وصفيه؟ ويحك يا نفس ما أغدرك! ويحك يا نفس ما أوقحك! ويحك يا نفس ما أجهلك وما أجرأك على المعاصي! ويحك كم تعقدين فتنقضين؟! ويحك كم تعهدين فتغدرين؟! ويحك يا نفس أتشتغلين مع هذه الخطايا بعمارة دنياك كأنك غير مرتحلة عنها؟! أما تنظرين إلى أهل القبور كيف كانوا، جمعوا كثيراً، وبنوا مشيداً، وأملوا بعيداً، فأصبح دمعهم بوراً، وبنيانهم قبوراً، وعملهم غروراً؟! ويحك يا نفس! أما لك بهم عبرة؟ أما لك إليهم نظرة؟ أتظنين أنهم دعوا إلى الآخرة وأنت من المخلدين؟ هيهات هيهات! ساء ما تتوهمين، ما أنت إلا في هدم عمرك منذ سقطت من بطن أمك، فابني على وجه الأرض قصرك فإن بطنها عن قليل سيكون قبرك، أما تخافين إذا بلغت النفس منك التراقي، أن تبدو رسل ربك منحدرة إليك بسواد الألوان، وكلح الوجوه، وبشرى بالعذاب؟ فهل ينفعك حينئذ الندم أو يقبل منك الحزن أو يرحم منك البكاء؟! والعجب كل العجب يا نفس أنك مع هذا تدعين البصيرة والفطنة، ومن فطنتك أنك تفرحين كل يوم بزيادة مالك، ولا تحزنين بنقصان عمرك، وما نفع مال يزيد وعمر ينقص!(41/5)
معاتبة النفس بلزوم العمل للآخرة
ويحك يا نفس! تعرضين عن الآخرة وهي مقبلة عليك، وتقبلين على الدنيا وهي معرضة عنك، كم من مستقبل يوماً لا يستكمله! وكم من مؤمل لغد لا يبلغه! أنت تشاهدين ذلك في إخوانك وأقاربك وجيرانك فترين تحسرهم عند الموت ثم لا ترجعين عن جهالتك.
احذري أيتها النفس المسكينة! يوماً آلى الله فيه على نفسه ألا يترك عبداً أمره في الدنيا ونهاه حتى يسأله عن عمله دقيقه وجليله، سره وعلانيته، فانظري يا نفس بأي موقف تقفين بين يدي الله، وبأي لسان تجيبين، فأعدي للسؤال جواباً، وللجواب صواباً، اعملي بقية عمرك في أيام قصار لأيام طوال، وفي دار زوال لدار مقامة، وفي دار حزن ونصب لدار نعيم وخلود، اعملي قبل ألا تعملي، اخرجي من الدنيا اختياراً خروج الأحرار قبل أن تخرجي منها على الاضطرار، لا تفرحي بما يساعدك من زهرات الدنيا، فرب مسرور مغبون، ورب مغبون لا يشعر! فويل لمن له الويل ثم لا يشعر! يضحك ويفرح، ويلهو ويمرح، ويأكل ويشرب وقد حق له في كتاب الله أنه من وقود النار، فليكن نظرك يا نفس إلى الدنيا اعتباراً، وسعيك لها اضطراراً، وردك لها اختياراً، وطلبك للآخرة ابتداراً، ولا تكوني ممن يعجز عن شكر ما أوتي، ويبتغي الزيادة فيما بقي، واعلمي يا نفس أنه ليس للدين عوض، ولا للإيمان بدل، ولا للجسد خلف، ومن كانت مطيته الليل والنهار فإنه يسار به وإن لم يسر، فاتعظي يا نفس بهذه الموعظة، واقبلي هذه النصيحة، فإن من أعرض عن الموعظة فقد رضي بالنار، وما أراك بها راضية، ولا لهذه الموعظة واعية، فإن كانت القساوة تمنعك عن قبول الموعظة فاستعيني عليها بدوام التهجد والقيام، فإن لم تزل فبالمواظبة على الصيام، فإن لم يزل فبقلة المخالطة والكلام، فإن لم تزل فبصلة الأرحام واللطف بالأيتام، فإن لم تزل فاعلمي أن الله قد طبع على قلبك وأقفل عليه، وأنه قد تراكمت ظلمة الذنوب على ظاهره وباطنه، فوطني نفسك على النار، وقد خلق الله الجنة وخلق لها أهلاً، وخلق النار وخلق لها أهلاً، وكل ميسر لما خلق له، فإن لم يبق فيك مجال للوعظ فاقنطي من نفسك، والقنوط كبيرة من الكبائر نعوذ بالله من ذلك، فلا سبيل لك إلى القنوط، ولا سبيل لك إلى الرجاء، مع انسداد طرق الخير عليك، إن ذلك اغتراراً وليس برجاء، انظري الآن هل يأخذك حزن على هذه المصيبة التي ابتليت بها؟! وهل تسمح عينك بدمعة رحمة منك على نفسك؟! فإن سمحت فمستقى الدمع من بحر الرحمة، فقد بقي فيك موضع للرجاء، فواظبي على النياحة والبكاء، واستعيني بأرحم الراحمين، واشتكي إلى أكرم الأكرمين، وأدمني الاستغاثة، ولا تملي طول الشكاية؛ لعله أن يرحم ضعفك، وأن يغيثك، فإن مصيبتك قد عظمت، وبليتك قد تفاقمت، وتماديك قد طال، وقد انقطعت منك الحيل، وراحت عنك العلل، فلا مذهب ولا مطلب، ولا مستغاث ولا مهرب، ولا ملجأ ولا منجى إلا إلى مولاك، فافزعي إليه بالتضرع، واخشعي في تضرعك على قدر عظم جهلك، وكثرة ذنوبك، فإنه يرحم المتضرع الذليل، ويغيث الطالب المتلهف، يجيب دعوة المضطر، وقد أصبحت إليه اليوم مضطرة، وإلى رحمته محتاجة، قد ضاقت بك السبل، وامتدت عليك الطرق، وانقطعت منك الحيل، ولم تنجح فيك العظات، ولم ينفع التوبيخ، فالمطلوب منه كريم، والمسئول جواد، والمستغاث به بر رءوف، والرحمة واسعة، والكرم فائض، والعفو شامل، قولي: يا أرحم الراحمين! يا رحمان يا رحيم! يا حليم يا عظيم يا كريم! أنا المذنب المصر، أنا الجريء الذي لا أقلع، أنا المتمادي الذي لا أستحي، هذا مقام المتضرع المسكين، والبائس الفقير، والضعيف الحقير، والهالك الغريق، فعجل إغاثتي وفرجي، وأرني آثار رحمتك، أذقني برد عفوك ومغفرتك، ارزقني من عظمتك يا أرحم الراحمين!(41/6)
معاتبة عون بن عبد الله لنفسه
قال منصور بن عمار: سمعت في بعض الليالي بالكوفة عابداً يناجي ربه ويقول: يا رب! وعزتك ما أردت بمعصيتك مخالفتك، ولا عصيتك إذ عصيتك وأنا بمكانك جاهل، ولا لعقوبتك متعرض، ولا لنظرك مستخف، ولكن سولت لي نفسي، وأعانني على ذلك شقوتي، وغرني سترك المرخى علي، فعصيتك بجهلي، وخالفتك بفعلي، فمن عذابك الآن من يستنقذني؟! وبحبل من أعتصم إن قطعت حبلك عني؟ واسوأتاه من الوقوف بين يديك غداً إذا قيل للمخفين: جوزوا، وقيل للمثقلين: حطوا، أمع المخفين أجوز أم مع المثقلين أحط؟ ويلي كلما كبرت سني كثرت ذنوبي! ويلي كلما طال عمري كثرت معاصي! فإلى متى أتوب؟ وإلى متى أعود؟ أما آن لي أن أستحي من ربي؟! انظر يا أخي! هذه معاتبة نفس، زفرات صدر، وأشجان قلب يمم وجهه شطر الدار الآخرة مستراح العابدين يبثها في خشوع، تابعي جليل من القرون الخيرية، من تلامذة الصحابة، ربي وصنع على أيديهم، شرب من سلسبيل القرآن والسنة، وكحل أجفان قلبه بهما، فانظر إليه كيف يستنصر الدمع في مناجاته، إنه عون بن عبد الله بن عتبة، يقول: ويحي لم أعصي ربي؟! ويحي إنما عصيته بنعمته عندي! ويحي من خطيئة ذهبت شهوتها وبقيت تبعتها عندي في كتاب كتبه كتاب لم يغيبوا عني! واسوأتاه لم أستحيهم ولم أراقب ربي! ويحي نسيت ما لم ينسوا مني! ويحي غفلت ولم يغلفوا عني! لم أستحيهم ولم أراقبه، ويحي حفظوا ما ضيعت مني! ويحي طاوعت نفسي وهي لا تطاوعني! ويحي طاوعتها فيما يضرها ويضرني! ويحي ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني؟! ويحها ألا تطاوعني فيما ينفعها وينفعني؟! أريد إصلاحها وتريد أن تفسدني، ويحها إني لأنصفها وما تنصفني! أدعوها لرشدها وتدعوني لتغويني! ويحها إنها لعدو لو أنزلتها تلك المنزلة مني! ويحها تريد اليوم أن ترديني وغداً تخاصمني! ويحي كيف أفر من الموت وقد وكل بي؟! ويحي كيف أنساه ولا ينساني؟! ويحي إنه يقص أثري! فإن فررت لقيني، وإن أقمت أدركني، ويحي هل عسى أن يكون قد أظلني فمساني وصبحني، أو طرقني فبغتني؟! ويحي أزعم أن خطيئتي قد أقرحت قلبي، ولا يتجافى جنبي، ولا تدمع عيني ولا تأثر لي ولا يسهر ليلي؟! ويحي كيف أنام على مثلها ليلي؟! ويحي هل ينام على مثلها مثلي؟! ويحي لقد خشيت ألا يكون هذا الصدق مني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كيف لا توهن قوتي ولا تعطس هامتي؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي كيف لا أنشط فيما يطيفها عني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي! كيف لا يذهب ذكر خطيئتي كسلي، ولا يبعثني إلى ما يذهبها عني؟! بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي! لا تنهاني الأولى من خطيئتي عن الآخرة، ولا تذكرني الآخرة من خطيئتي بسوء ما ركبت من الأولى! فويلي ثم ويلي إن لم يتم عفو ربي، ويحي لقد كان لي فيما استوعبت من لساني وسمعي وقلبي وبصري اشتغال، فويلي إن لم يرحمني ربي! ويلي إن حجبت يوم القيامة عن ربي فلم يزكني، ولم ينظر إلي، ولم يكلمني! أعوذ بنور وجهه من خطيئتي، وأعوذ به أن أعطى كتابي بشمالي أو وراء ظهري؛ فيسود به وجهي، وتزرق به مع العمى عيني، بل ويلي إن لم يرحمني ربي، ويحي بأي شيء أستقبل ربي بلساني أم بيدي أم بسمعي أم بقلبي أم ببصري؟! ففي كل هذا له الحجة والطلبة عندي، فويلي إن لم يرحمني ربي، كيف لا يشغلني ذكر خطيئتي عن ما لا يعنيني؟! ويحك يا نفس ما لك تنسين ما لا ينسى، وقد أوتيت ما لا يؤتى، وكل ذلك عند ربي يحصى، في كتاب لا يبيد ولا يبلى، ويحك لا تخافين أن تجزي في من يجزى، يوم تجزى كل نفس بما تسعى، وقد آثرت ما يفنى على ما يبقى، يا نفس! ويحك ألا تستفيقين مما أنت فيه إن سقمت تندمين، إن صححت تأثمين، إن افتقرت تحزنين، إن استغنيت تفتنين، ما لك إن نشطت تزهدين، فلما إن دعيت تكسلين؟ أراك ترغبين قبل أن تنصبي، فلم لا تنصبين فيما ترغبين؟! يا نفس! ويحك لم تخالفين؟ تقولين في الدنيا قول الزاهدين، وتعملين فيها عمل الراغبين! ويحك لم تكرهين الموت؟! يا نفس ويحك أترجين أن ترضي ولا تراضين؟ ما لك إن سألت تكثرين، فلما إن أنفقت تقترين؟! تعظمين في الرهبة حين تسألين، وتقصرين في الرغبة حين تعملين، تريدين الآخرة بغير عمل، وتؤخرين التوبة لطول الأمل! لا تكوني كمن يقال: هو في القول مدل، ويستصعب عليه الفعل.
ويح لنا ما أغرنا! ويح لنا ما أغفلنا! ويح لنا ما أجهلنا! ويح لأي شيء خلقنا؟! أللجنة أم للنار؟ ويح لنا أي خطر خطرنا، ويح لنا من أعمالنا! ويح لنا مما يراد بنا! ويح لنا كأنما يعنى غيرنا! ويح لنا إن ختم على أفواهنا، وتكلمت أيدينا، وشهدت أرجلنا! ويح لنا حين تفتش سرائرنا! ويح لنا حين تشهد أجسادنا! ويح لنا مما قصرنا! لا براءة لنا، لا عذر عندنا، ما أطول أملنا! ويح لنا حيث نمضي إلى خالقنا! ويح لنا والويل الطويل لنا إن لم يرحمنا ربنا، فارحمنا يا ربنا! ويحي! كيف أغفل ولا يغفل عني؟! كيف تهنئني معيشتي واليوم الثقيل ورائي؟! كيف لا يطول حزني ولا أدري ما يفعل بي، أم كيف تهنأ لي الحياة ولا أدري ما أجلي؟ أم كيف تعظم فيها رغبتي والقليل منها يكفيني؟ أم كيف آمن ولا يدوم فيها حالي؟ أم كيف يشتد حبي لدار ليست بداري؟! أم كيف أجمع لها وفي غيرها قراري؟ أم كيف يشتد عليها حرصي ولا ينفعني ما تركت فيها بعدي؟ أم كيف أوثرها وقد أضرت بمن آثرها قبلي؟ أم كيف لا أبادر بعمل قبل أن يغلق باب توبتي؟ أم كيف يشتد إعجابي بما يزايلني وينقطع عني؟ أم كيف أغفل عن أمر حسابي وقد أظلني واقترب مني؟ أم كيف أجعل شغلي فيما قد تكفل لي به؟ أم كيف أعاود ذنوبي وأنا معروض على عملي؟ أم كيف لا أعمل بطاعة ربي وفيها المنجاة مما أحذر على نفسي؟ أم كيف لا يكثر بكائي ولا أدري ما يراد بي؟ أم كيف تقر عيني مع ذكر ما سلف مني؟ أم كيف أعرض نفسي لما لا يقوى له جسدي؟ أم كيف لا يشتد هولي مما يشتد منه جزعي؟ أم كيف تطيب نفسي مع ذكر ما هو أمامي؟ كيف يطول أملي والموت في أثري؟ كيف لا أراقب ربي وقد أحسن طلبي؟ ويحي! هل ضرت غفلتي أحداً سواي؟ أم هل يعمل لي غيري إن ضيعت حظي؟! أم هل يكون عملي إلا لنفسي، فلم أدخر عن نفسي ما يكون نفعه لي؟ ويحي! كأنه قد تصرم أجلي ثم أعاد ربي خلقي كما بدأني، ثم أوقفني وسألني وسأل عني وهو أعلم بي، ثم أشهد الأمر الذي أذهلني عن أحبابي وأهلي، وشغلت بنفسي عن غيري! وبدلت السموات والأرض وكانتا تطيعان وكنت أعصي، سيرت الجبال وليس لها مثل خطيئتي، وجمع الشمس والقمر وليس عليهما مثل حسابي، وانكدرت النجوم وليست تطلب بما عندي، وحشرت الوحوش ولم تعمل بمثل عملي، وشاب الوليد وهو أقل ذنباً مني.
ويحي! ما أشد حالي وأعظم خطئي فاغفره.(41/7)
معاتبة أعطر من أريج الزهور
ومعاتبة أخرى أعطر من أريج الزهور: يا نفس! ما لي أراك مطمئنة والغالب عليك الفرح والسرور، وشواهد المقت بادية عليك، ودلائل الغضب بينة فيك، في كثير من أحوالك قد اطمأننت وسكنت، وكثيراً ما يغلب عليك الفرح والسرور في أكثر الأحوال، وأنت ترين فيك من الله دلائل الغضب وشواهد المقت، ثم لا تبكين ولا لذلك تكترثين، كأنك لغضب الله تطيقين، ولعذابه تجهلين، هيهات هيهات! إنك عن دون الله لتضعفين، ومن أقل أذى الدنيا تجزعين، فكيف بشدة غضب الله وأليم عذابه؟! ولكن عقوبات الله منعتك من أن تجزعي، فكيف يصنع الله بمن لا يجزع من غضبه، ولا يتوجع من أليم عذابه، ولا يصلح على آدابه، ولا يقبل عليه بالإقلاع شكراً لدوام نعمائه، ولا ينحاش ولا يهرب إليه؛ لما يرى من سوء آثار عقوباته في الدنيا خاصة دون معاشه في نفسه وعياله؟! ويحك يا نفس! ويحك يا نفس! ألم تري أن مولاك قد أبعدك عما كان يتعاهد به قلبك من هيجان التيقظ وقوة التنبه، والدوام على ذكره والجزع من نسيانه وشدة عذابه، ولقد رغب الله قلبك في أول أمرك، وتأديباً كانت بلية الله فيك، وتقريباً منه إليك، وتحنناً منه عليك فنبه قلبك عن الغفلات، ومن عليك بجود الحلاوة عند الطاعات، وشدة التلذذ بالمناجاة، فأصبحت وأمسيت مباعدة من الله، مطرودة عن بابه، منحاة من قربه، قد حل بك منه الخذلان، تتمادين في الغفلات فلا يوقظك، ويدوم منك النسيان فلا ينبهك، وتكون منك الزلة بعد الزلة فلا يدوم لك الحزن، ولا يطول بك الغم، بل قد قلب التنبه فيك فصار لا ينبهك ولا يذكرك، ثم يحدوك بالعقوبة عن استعمال التذكر وطاعة التنبه، فصرت في شر حال، وبعد ذلك طول الغفلة ودوام النسيان لنظر الجليل العظيم.
ثم شهوتك لترك استعمال التذكر وطاعة التنبه، طول غفلة وجرأة وإقدام على الذنب، وما تخافين أن تحرمي الخلود في جواره، هل سمع السامعون بأسوأ منك حالاً؟ هل عرف العارفون بأشر من منزلتك؟ ثم مع ذلك الحزن عنك زائل، والغم لك مباين، والتوجع لك غير لازم، وقد رآك مولاك في أسباب الدنيا بأضداد ذلك كله، شغلك بطلبها دائم لا تملين، تنشطين وتقوين إذا رأيت الزيادات في معاشك، وتنكسرين إذا رأيت النقصان فيه، ولا يكون ذلك فيما بينك وبين ربك إلا في أقل الأوقات، قد أصبحت عند الله مفتضحة، ومن البعد منه غير مكترثة، لقد أصبحت وأمسيت وهو عليك غير مقبل، ولك غير مقرب، مقصاة منه، مباعدة عنه، ولولا تفضله عليك بالعفو لسلبك نعمة الدين كلها، ولكنه يبقي من العقوبة تفضلاً منه وإحساناً وكرماً على عبيده.
ويحك ما لك في الجهل مفعمة مغموسة، وفي البلايا متلوثة؟ ويحك هل عقلت من تعصين؟ ويحك تتمادين في الغفلات فلا يوقظك، ويدوم منك النسيان فلا ينبهك، فكيف لا يغلب ذلك عليك وأنت في كل يوم في نقصان، في كل يوم لا تفرين من المعاصي؟! إن تبت لا تلبثين أن ترجعي عن توبتك وتعودين في تخبطك، إن عزمت لا تقلعين، وإن فعلت ما عزمت عليه فمن الآفات لا تسلمين عن حب محمدة أو عجب، تعاهدين فتغدرين، وتعدين فتخلفين، وتحلفين بالله ثم لا تفين، فلو كنت جاهلة كان أخف للحجة عليك، وكان أبعد لك عن الجرأة عن مولاك، ولكن عظمت عليك الحجة، ودامت منك الجرأة، إن كنت للآثار طالبة، وللقرآن حافظة، وفي الدقائق من الحكمة مناظرة، وبحسن العظات نافقة، تدعين إلى الله وأنت منه فارة، وتذكرين بالله وأنت له ناسية، تعظمين الله بالقول وأنت بالفعل غير معظمة، ويحك! أنت اليوم مهملة، والله لك منظر، وعن قليل تنقطع المدة وتزول النظرة ولو قد تغشاك الموت وسياقه، فلقد حضرك العدم فأعطيت النية الصحيحة حيث لا يقبل، ويحك أتدرين عما ينكشف الغطاء؟ أما تخافين لو بلغ منك النفس التراقي أن تبدو رسل الله منحدرة من السماء بسواد الألوان وبشرى العذاب؟ هل ينفعك حينئذ الندم؟ هل يقبل منك الحزن، أو يرحم منك البكاء؟ ويحك! بادري حلول الأجل بالتوبة، واغتنمي عيش كل ساعة فإنك في السير مجدة، وفي كل وقت من لقاء الله تقربين.
ويحك! تكلفي الحزن واطلبيه، لعلك من الحزن الأكبر تنجين، ويحك كدري الفكر بما سلف منك من الذنوب، وعودي البكاء عيناً بالدموع قبل سيلها في نار جهنم.
ويحك! استعيني بأرحم الراحمين، واشتكي إلى أكرم الأكرمين، وأديمي الاستغاثة، ولا تملي طول الشكاية، لعله أن يرحم ضعفك ويغيثك، فإن مصيبتك قد عظمت، وبليتك قد تفاقمت، وتماديك قد طال، قد انقطعت منك الحيل، وانزاحت إليك العلل، لا مهرب ولا مطلب، ولا استغاثة ولا ملجأ ولا منجى إلا إلى مولاك، فاضرعي إلى مولاك واخشعي في تضرعك؛ لأنه يرحم المتضرع الذليل، ويغيث الطالب المتلهف، ويجيب دعوة المضطر، وقد والله أصبحت إليه مضطرة، وإلى رحمته محتاجة، فألحي بالطلب للفرج، واشتكي لعظم المصيبة، فإن المطلوب إليه كريم، والمسئول إليه جواد، والمستغاث به رءوف، أديمي الاستغاثة فإنه يغيثك، وإن من إغاثته لك أن من عليك بالاستغاثة، فليرك مولاك في مقام المضطرين الحيارى الملهوفين؛ لأنه إن أخذك بعظيم جرمك لم يغثك، وإن صفح بجوده أن يؤاخذك أسرع بإجابتك.
فادعي يا نفس! دعاء من لا يستأهل أن يجاب ولا يغاث، طامع من الجواد ألا يناقش السيئات، ولا يؤاخذ بالخطايا، يغيث من يدعو وهو عند نفسه لا يستأهل أن يجاب، ولكن حمله على التضرع معرفته بكرم المسئول وجود المطلوب ورحمة المستغاث.
اعقلي يا نفس ما فاتك من طاعة ربك، وما أفنيت من عمرك في غير التقرب إليه، فيا أسفاه على طاعته! ويا حزناه على رضاه! ويا خجلاه مما اطلع عليه! يا طول كمدك إن حرمك جواره في الآخرة كما حرمك صدق المعاملة في الدنيا! يا تقلقلك في حر جهنم إن لم يعف عنك! ويحك اذكري ما يحل بأهل عذابه من اشتعال النار في جميع أجسامهم، ووصولها إلى أحداقهم، ودخولها في أجوافهم.
ويحك كيف ترين وجع قلب عبد دخلت النار في عينه ونفذت إلى جميع بدنه؟! بل كيف بنار تأكل أمعاءه وكبده؟! بل كيف بلسان من نار يدخل في جوف قلبه ثم يلتهب في جميع أعضاء جسده؟! ويحك أتأمنين أن يكون هذا غداً نعتك وصفتك، وهذه حالك؟! ويحك ارحمي ضعف جسمك لا تخاطري به، ورقي لقلة صبرك ولا تغتري، إذا لم ترحمي بدنك من النار فمن ترحمين؟! وإن لم ترقي له فعلى من ترقين؟! والله لو تبت وأنبت وأطعت لم آمن عليك أن يردك ولا يقيلك، فاستقيليه عسى ألا يردك ولا تنالين ذلك إلا به، فافزعي إليه فزع الهالك، وتضرعي إليه تضرع الغريق، استغيثي به استغاثة العطب؛ فإن المستغيث مأمول له في الاستغاثة، والله الداعي موفق للدعاء، كما كان الكريم يمن بالاستغاثة، ويهيج على الطلب وهو لا يريد ممن فعل به ذلك ألا يجبه، ولكن ليكثر المتفضل عليه بالدعاء على مقدار نقمته، وليلح بالطلب على قدر مسكنته، فلتقصير في ذلك رد أكثر المستغاثين.
أما من فتح الله عليه باب الاستغاثة، ومن عليه بالتضرع فعظم منته بذلك، وعلم أنه أعطي ما لم يستأهله، ثم داوم وواظب على الطلب فلن يخيب الله دعوته، ولن يمسك إجابته، أبى الجواد بكرمه وجوده أن يرد من أراده، فاشتكي إليه، داومي ولا تملي، فمن كان في مثل حالك لا يمل دوام التضرع بشدة المسكنة ولعظيم المصيبة.
ويحك إن لم تخافي العذاب ولم ترحمي جسدك أما تشتاقين أن يحل بك من الله الرضا، وينظر إليك بالحظوه؟! ويحك أما تحنين إلى طيب جوار الله في جنته، في روح لا يزول، ونعيم لا يبيد، وقرة عين لا تنقطع، فوق الأماني مما تشتهيه الأنفس، مع البقاء واليقين بالرضوان، وأعظم من ذلك تشتاقين إلى أن تزوري مولاك، وتسمعي كلامه لك بالترحيب، ويكشف الحجاب فتنظري إلى من لا يشبهه شيء في جلاله؟! ويحك! في هذه الدار وجب ذلك كله للعمال، وفي هذه حل الحرمان كله على الجهال، فعيشك غنيمة، وبقية عمرك إقالة، فافرحي واشكري لمولاك أن يكون الموت عاجلك فحال بينك وبين الرجوع، وقطع بك عن النزوع، وفاتك طيب جوار الله العظيم الجليل.
ويحك! لا تزهدي في الهرب من النار، ولا تستهيني بطيب الجوار، ولا تعرضي عن الرغبة في رضوان الله، إني لأقول لك هذا ولا أدري أي حال عند الله حالك، بماذا ينظر إليك في ساعتك هذه؟ بالمحبة والرضوان؟ أم بالغضب والسخط والحرمان؟ أي الدارين دارك؟ وأي القرارين قرارك؟ وأي العيش عيشك؟ فكلا الدارين قد امتلأ بسكانها، ووصل كل واحدة منها أهلها، فاطلع بقلب فارغ إلى الجنة وقد ثوى فيها سكانها إلى انفساح سعتها، وبرد طيب نسيمها، وإلى طيب ما يفوح من رائحتها، وإلى حسن بناء قصورها، وبهجة حليها وحريرها، وتلألأ نورها على أسرتها وحجالها، اطلع إلى حسن وجوه أهلها ونضرة أثر النعيم في وجوههم، وقربهم من مليكهم، ويقينهم برضا الله عز وجل عنهم، اطلع إلى اختلاف الملائكة رسلاً من الله إليهم، وتردد الولدان كاللؤلؤ في لذاتهم، اطلع إلى أنهارها على جنادل ياقوتها وقد تضمنت من أصناف البهجة في عرصاتها! ثم اشرفي بوجهك على دار الهوان والخزي انظري ببصر قلبك إلى شدة ضيقها إلى تكاثف ظلمتها وانطباق أبوابها، مسودة بالعمد عليهم، ووهج النيران فيها، انظري إلى قبيح صور المعذبين فيها وإلى شدة نتن دارهم، وتهتك أجسامهم، ونتن مقطعات ما بهم إلى النيران ملتهبة من فوق رءوسهم وأسافل أقدامهم وإلى حياض الحميم تفور معدة لشدة عطشهم، وتجاوب أصواتهم بالويل والثبور، وإلى تضرعهم إلى مالك والخزنة، وندائهم بالاستغاثة، ثم دعائهم إلى ربهم فأخسأهم فانقطعت أصواتهم، والتحمت أفواههم، وحبست أنفاسهم وبقوا بالغم والكرب لا يتنفسون إلى حلول غضب الله عليهم، وانقطاع رجائهم منه.
توهمي ما تضمنته حواشيها من صنوف الهوان والألوان من العذاب، فإنك إن نظرت في ساعتك هذه إلى كل واحدة منها، وعظيم ما فيها، ثم لم تأمني حرمان جوار الله والخلود في دار عذابه أشفقت وإن أشفقت حذرت، وإن حذرت أيقنت بكل ما يتوعد به؛ فتبت وأنبت ومن كل ما يكره تطهرت، فتوهمي إلى عواقب من أطاع واتقى، وعواقب من عصى الله وأساء، ولا ترضي بأن تخاطري فيما إن وقعت فيه لن تقالين، ولا إلى الدنيا تردين.
ويحك! إن الدنيا دار نجاة الآخرة، بقدر ما تحملين فيها من المكروه لله تعوضين، وبقدر ما تتركين من ملاذها تجزين، إن الجامعين بذلوا الأحزان في الدنيا(41/8)
سقوط الأندلس
لما أقام المسلمون على هذا الدين وعزروه ونصروه مكن الله لهم في الأرض، وجعلهم فيها خلائف، ولما تفرقوا وتنازعوا ونسوا حظاً مما ذكروا به تمزقوا إلى فرق وطوائف، وأوضح مثال على ذلك هو سقوط الأندلس في أيدي الصليبيين.
إن الصليبيين واليهود سوف يظلون أعداء الإسلام مهما أوهموا المسلمين أنهم يريدون السلام؛ لأن حاضرهم وماضيهم لا يثبت صدق دعواهم.(42/1)
الجهود المبذولة لمحاربة الإسلام والمسلمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: يقول الشيخ جلال العالم في كتابه: (قادة الغرب يقولون: دمروا الإسلام أبيدوا أهله): حاول الصليبيون تدمير الإسلام في الحروب الصليبية ففشلت جيوشهم التي هاجمت بلاد الإسلام بالملايين، فعادوا يخططون من جديد لينهضوا، ثم ليعودوا إلينا بجيوش حديثة، وفكر جديد هدفه تدمير الإسلام من جديد.
كان جنديهم البريطاني حين يلبس بزة الحرب قادماً لاستعمار بلاد الإسلام ليبيا ينشد نشيداً فيقول: أماه! أتمي صلاتك لا تبكي بل اضحكي وتأملي أنا ذاهب إلى طرابلس فرحاً مسروراً سأبذل دمي في سبيل سحق الأمة الملعونة سأحارب الديانة الإسلامية سأقاتل بكل قوتي لمحو القرآن أما ما فعلوه في الحروب الصليبية فإنهم لما سألوا بطرس الناسك عند نقص المؤن، أمرهم بأن يأتوا بجثث المسلمين الذين ماتوا في التو، وأن يقوموا بسلخها، ثم شيها، ثم أكلها.
وهذا ثابت في كل الروايات حتى التي كتبها مفكرو الغرب ومؤرخوهم، فقد كانوا يقومون بأكل جثث المسلمين بعد موتها.
وأما في الأندلس فمحاكم التفتيش خير شاهد على ما فعلوه في الأندلس، تقول الدكتورة هونكه: في 2 يناير 1492 م رفع الكاردينال مندوزا الصليب على قلعة الحمراء، وهذا القصر كان موجوداً في غرناطة، وكان مكتوب عليه: لا ناصر إلا الله لا غالب إلا الله، فذهبوا وعملوا مسرحية: لا غالب إلا الحب.
وقد وقع آخر خلفاء الأندلس أبو عبد الله الصغير معاهدة مع فرديناند وإيزابيلا، وهذه إيزابيلا صاحبة القميص العتيق، كانت ملكة الكنائس، وقد عاصرت آخر خليفة أندلسي عربي مسلم، وعلى يدها سقط ملك المسلمين في الأندلس، فقد تزوجت فرديناند وأقسمت للقسيس الذي كان يرعاها ويربيها أن سقوط خلافة المسلمين في الأندلس سيكون على يدها، وهذه يسمونها صاحبة القميص العتيق.
وفي رواية إسبانية أن إيزابيلا صاحبة القميص العتيق لم تخلع ثوبها الداخلي منذ أقسمت أمام قسيسها حتى سقط ملك المسلمين، وأقسمت أنها لا تخلع ثوبها الداخلي لغسل حتى يسقط ملك المسلمين، وكان لها ما أرادت.
أبو عبد الله الصغير هو الذي ضيع ملك المسلمين في الأندلس، وأتى ليبكي بعدما دخلوا القصر، فقالت له أمه عائشة: ابك كالنساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال.
وكان من ضمن الأشياء التي أخذها على فرديناند وإيزابيلا أن تظل الرئاسة الفخرية أو العرش الفخري أو العرش الرئاسي -يملك ولا يحكم- لأول أحفاده من بعده.
يقول مؤرخ عربي مغربي: فلقد وجدت أحفاده يتسولون الناس بفاس -مدينة المغرب-.
فقد أضاع ملك المسلمين لكي يظل الملك لأولاده، وأحفاده كانوا يتسولون في بلاد المغرب العربي، وانتهى قبره أن أصبح مزاراً سياحياً على درجة من درجات سلم في مشهد من مشاهد الآثار، فعاش فقيراً، ومات فقيراً.
تقول الدكتورة هونكه في 2 يناير 1492 م رفع الكاردينال الصليب على الحمراء، وهي القلعة الملكية للأسرة الناصرية، فكان إعلاناً بانتهاء حكم المسلمين على أسبانيا.
وبانتهاء هذا الحكم ضاعت تلك الحضارة العظيمة التي بسطت سلطانها على أوربا طوال العصور الوسطى، وقد احترمت المسيحية المنتصرة اتفاقاتها مع المسلمين لفترة وجيزة، ثم باشرت عملية القضاء على المسلمين وحضارتهم وثقافتهم.
ثم تقول: لقد حُرِّم الإسلام على المسلمين، وفرض عليهم تركه، كما حُرِّم عليهم استخدام اللغة العربية، والأسماء العربية، وارتداء اللباس العربي، ومن يخالف ذلك كان يحرق حيًّا بعد أن يعذّب أشد العذاب.
هكذا انتهى وجود الملايين من المسلمين في الأندلس فلم يبق في أسبانيا مسلم واحد يُظهر دينه.(42/2)
تعذيب المسلمين في أسبانيا
كان المسلمون يعذبون على أيدي ما يسمى بدواوين ومحاكم التفتيش، فبعد مرور أربعة قرون على سقوط الأندلس أرسل نابليون حملته إلى أسبانيا، وأصدر مرسوماً سنة 1808م بإلغاء دواوين التفتيش في المملكة الأسبانية.
لنرى ماذا حصل عندما ألغيت دواوين التفتيش: تحدث أحد الضباط الفرنسيين فقال: أخذنا حملة لتفتيش أحد الأديرة التي سمعنا أن فيها ديوان تفتيش، وكادت جهودنا تذهب سدى ونحن نحاول العثور على قاعات التعذيب، فقد فحصنا الدير وممراته وأقبيته كلها، فلم نجد شيئاً يدل على وجود ديوان للتفتيش، فعزمنا على الخروج من الدير يائسين، كان الرهبان أثناء التفتيش يقسمون ويؤكدون أن ما شاع عن ديرهم ليس إلا تهماً باطلة، وأنشأ زعيمهم يؤكد لنا براءته وبراءة أتباعه بصوت خافت وهو خاشع الرأس، توشك عيناه أن تطفر بالدموع، فأعطيت الأوامر للجنود بالاستعداد لمغادرة الدير، لكن اللفتنانت دي ليل استمهلني قائلاً: أيسمح لي الكولونيل أن أخبره أن مهمتنا لم تنته حتى الآن؟ قلت له: فتشنا الدير كله، ولم نكتشف شيئاً مريباً، فماذا تريد يا لفتنانت؟ قال: إنني أرغب أن أفحص أرضية هذه الغرفة فإن قلبي يحدثني بأن السر تحتها.
عند ذلك نظر الرهبان إلينا نظرات قلقة، فأذنت للضابط بالبحث، فأمر الجنود أن يرفعوا السجاجيد الفاخرة عن الأرض، ثم أمرهم أن يصبوا الماء بكثرة في أرض كل غرفة على حدة -وكنا نرقب الماء- فإذا بالأرض قد ابتلعته في إحدى الغرف.
فصفق الضابط دي ليل من شدة فرحه، وقال: ها هو الباب، انظروا، فنظرنا فإذا بالباب قد انكشف، كان قطعة من أرض الغرفة يُفتح بطريقة ماكرة بواسطة حلقة صغيرة وضعت إلى جانب رجل مكتب رئيس الدير.
أخذ الجنود يكسرون الباب بقحوف البنادق، فاصفرت وجوه الرهبان، وعلتها الغبرة، وفُتح الباب، فظهر لنا سلم يؤدي إلى باطن الأرض، فأسرعت إلى شمعة كبيرة يزيد طولها على متر، كانت تضيء أمام صورة أحد رؤساء محاكم التفتيش السابقين، ولما هممت بالنزول وضع راهب يسوعي يده على كتفي متلطفاً، وقال لي: يا بني! لا تحمل هذه الشمعة بيدك الملوثة بدم القتال؛ فإنها شمعة مقدسة.
فقلت له: يا هذا! إنه لا يليق بيدي أن تتنجس بلمس شمعتكم الملطخة بدم الأبرياء، وسترى من النجس منا، ومن القاتل السفاك؟ وهبطت على درج السلم يتبعني سائر الضباط والجنود شاهرين سيوفهم حتى وصلنا إلى آخر الدرج، فإذا نحن في غرفة كبيرة مربعة، وهي عندهم قاعة المحكمة، وفي وسطها عمود من الرخام به حلقة حديدية ضخمة ربطت بها سلاسل من أجل تقييد المحاكمين بها.
وأمام هذا العمود كانت المصطبة التي يجلس عليها رئيس ديوان التفتيش والقضاة لمحاكمة الأبرياء، ثم توجهنا إلى غرف التعذيب وتمزيق الأجسام البشرية التي امتدت على مسافات كبيرة تحت الأرض.
رأيت فيها ما يستنفر نفسي، ويدعوني إلى القشعريرة والتقزز طوال حياتي، رأينا غرفاً صغيرةً في حجم جسم الإنسان، بعضها عمودي وبعضها أفقي، فيبقى سجين الغرف العمودية واقفاً على رجليه مدة سجنه حتى يموت ويبقى سجين الغرفة الأفقية ممدداً بها حتى الموت.
وتبقى الجثث في السجن الضيق حتى تبلى، ويتساقط اللحم عن العظم، وتأكله الديدان، ولتصريف الروائح الكريهة المنبعثة من جثث الموتى فتحوا نافذة صغيرة إلى الفضاء الخارجي.
قال: وقد عثرنا في هذه الغرف على هياكل بشرية ما زالت في أغلالها.
قال: كان السجناء رجالاً ونساءً، تتراوح أعمارهم ما بين الرابعة عشرة والسبعين، وقد استطعنا إنقاذ عدد من السجناء الأحياء، وتحطيم أغلالهم، وهم في الرمق الأخير من الحياة.
وكان بعضهم قد أصابه الجنون من كثرة ما صبوا عليه من عذاب، وكان السجناء جميعاً عراة، حتى اضطر جنودنا إلى أن يخلعوا أرديتهم ويستروا بها بعض السجناء.
أخرجنا السجناء إلى النور تدريجياً حتى لا تذهب أبصارهم، فكانوا يبكون فرحاً وهم يقبلون أيدي الجنود وأرجلهم الذين أنقذوهم من العذاب الرهيب، وأعادوهم إلى الحياة، فكان مشهداً يبكي الصخور.
ثم انتقلنا إلى غرف أخرى، فرأينا فيها ما تقشعر لهوله الأبدان، عثرنا على آلات رهيبة للتعذيب، منها آلات لتكسير العظام، وسحق الجسم البشري، كانوا يبدءون بسحق عظام الأرجل، ثم عظام الصدر والرأس واليدين تدريجياً، حتى يهشم الجسم كله، ويخرج من الجانب الآخر كتلة من العظام المسحوقة، والدماء الممزوجة باللحم المفروم، هكذا كانوا يفعلون بالسجناء الأبرياء المساكين.
ثم عثرنا على صندوق في حجم رأس الإنسان تماماً، يوضع فيه رأس الذي يريدون تعذيبه بعد أن يربطوا يديه ورجليه بالسلاسل والأغلال؛ حتى لا يستطيع الحركة، وفي أعلى الصندوق ثقب تتقاطر منه نقط الماء البارد على رأس المسكين بانتظام، في كل دقيقة نقطة، وقد جُنّ الكثيرون من هذا اللون من العذاب، ويبقى المعذب على حاله تلك حتى يموت.
وآلة أخرى للتعذيب على شكل تابوت تثبت فيه سكاكين حادة، كانوا يلقون الشاب المعذب في هذا التابوت، ثم يطبقون بابه بسكاكينه وخناجره، فإذا أغلق مزق جسم المعذب المسكين، وقطعه إرباً إرباً.
وعثرنا على آلات كالكلاليب تغرز في لسان المعذب ثم تشد فيخرج اللسان معها، ليقص قطعة قطعة، وكلاليب تغرس في أثداء النساء وتسحب بعنف حتى تتقطع الأثداء أو تبتر بالسكاكين.
وعثرنا على سياط من الحديد الشائك يُضرب بها المعذبون وهم عراة حتى تتفتت عظامهم، وتتناثر لحومهم.
هذا منقول من كتاب: (محاكم التفتيش) للدكتور علي مظهر، وكتاب التعقل والتسامح للشيخ محمد الغزالي عليه رحمة الله من صفحة (311 حتى 313).
هذا العذاب كان موجهاً ضد الطوائف المخالفة من المسيحيين والمسلمين واليهود، وقد كان عذاب المسلمين أشد من ذلك، بل إن دواوين التفتيش هذه انتقلت إلى بقاع العالم الإسلامي، فسلطها حكام مجرمون فجرة على شعوبهم.
قال الشيخ جلال العالم: وقد ذكر لي شاهد عيان بعض أنواع التعذيب التي كانت تنفذ في أحد البلدان الإسلامية ضد مجموعة من العلماء المجاهدين فقال: بعد يوم من التعذيب الشديد ساقنا الزبانية بالسياط إلى زنزاناتنا، وأمرنا الجلادون أن نستعد ليوم آخر شديد.
وصباح اليوم التالي أمرنا الجلادون أن نخرج فوراً، كنا نستجمع كل قوانا في أقدامنا الواهنة هرباً من السياط التي كانت تنزل علينا من حرس كان عددهم أكبر منا.
وأخيراً أوقفونا في سهل صحراوي تحت أشعة الشمس اللاهبة، حول كومة من الفحم الجيري، كان يعمل الحرس جاهدين لإشعالها، وقرب النار مصلبة خشبية تستند إلى ثلاثة أرجل.
ولما اشتعلت كومة الفحم الحجري حتى احمرت، فجأة سمعنا شتائم تأتينا من بعيد، التفتنا فوجدنا خمسة من الرجال يقودون شاباً كان اسمه: جاويد خان إمامي أحد علماء ذلك البلد.
وامتلأ الأفق بنباح كلاب مجنونة، رأينا عشرة من الحرس يقودون كلبين، ارتفاع كل واحد منهما متراً، علمنا بعد ذلك أنهما قد حرما من الطعام منذ يومين.
اقترب الحرس بالشاب جاويد من كومة النار الحمراء، وعيناه مغمضة بحزام سميك.
كنا نتفرج أكثر من مائة سجين، ومعنا أكثر من مائة وخمسين من الحرس معهم البنادق والرشاشات، وفجأة اقترب من الشاب جاويد عشرة من الحراس وأجلسوه على الأرض، ووضعوا في حضنه مثلثاً خشبياً ربطوه إليه ربطاً محكماً بحيث يبقى قاعداً، ولا يستطيع أن يتمدد، ثم حملوه جميعاً، وأجلسوه على الجمر الأحمر، فصرخ صرخة هائلة، ثم أغمى عليه.
سقط منا أكثر من نصفنا مغمى عليهم، كانوا يصرخون متألمين، وعمت رائحة شواء لحم جاويد المنطقة كلها، ومن حسن حظي أنني بكيت بكاء مراً، لكنني لم أصب بالإغماء لأرى بقية القصة التي هي أفظع من أولها.
حُمل الشاب، وفكت قيوده وهو غائب عن وعيه، وصلب على المصلبة الخشبية، وربط بها بإحكام، واقترب الجلادون بالكلبين الجائعين، وفكوا القيود عن أفواههما، وتركوهما يأكلان لحم ظهر جاويد المشوي، فبدأت أشعر بالانهيار، إنه لازال حياً والكلاب تأكل لحمه فقدت وعيي بعدها.
لم أفق إلا وأنا أصرخ في زنزانتي كالمجنون دون أن أشعر: جاويد! جاويد! أكلتك الكلاب يا جاويد، كان إخواني في الزنزانة قد ربطوني وأحاطوا رأسي وفمي بالأربطة؛ حتى لا يسمع الجلادون صوتي فيكون مصيري كمصير جاويد، أو كمصير شاهان خاني الذي أصيب بالهستيريا مثلي، فأصبح يصرخ جاويد! جاويد! فأخذه الجلادون ووضعوا فوقه نصف برميل مملوء بالرمل، ثم سحبوه على الأسلاك الشائكة التي ربطوها صفاً أفقياً، فمات بعد أن تقطع لحمه ألف قطعة، وأخيراً أغمي عليّ.
فتحت عيني ففوجئت أنني في أحد المشافي، وفوجئت أكثر من ذلك بسفير بلدي يقف فوق رأسي، قال لي: كيف حالك، يبدو أنك ستشفى إن شاء الله، لو لم تكن غريباً عن هذه البلاد لما استطعت إخراجك، فاجأني سائلاً: لكن بالله عليك! قل لي: من هو هذا جاويد الذي كنت تصرخ باسمه، فأخبرته بكل شيء، فامتقع لونه حتى خشيت أن يغمى عليه.
فلم نكمل حديثنا إلا والشرطة تسأل عني، واقترب من سريري ضابط وسلمني أمراً بمغادرة البلاد فوراً، ولم تنجح تدخلات السفير في ضرورة إبقائي حتى الشفاء، حملوني ووضعوني في باخرة أوصلتني إلى ميناء بلدي، كنت بثياب المستشفى، ليس معي أي وثيقة تثبت شخصيتي، فاتصلت بأهلي تليفونياً، فلما حضروا لم يعرفوني لأول وهلة، فحملوني إلى أول مستشفى، بقيت فيه ثلاثة أشهر في بكاء مستمر، ثم شفاني الله.
ولقد كان مدير السجون يهودياً، والمسئول عن التعذيب خبيراً ألمانياً نازياً، وقد أطلقت تلك الحكومة في ذلك البلد الإسلامي يده يفعل بعلماء المسلمين ما يشاء.
هذه قصة بسيطة من قصص محاكم التفتيش التي كان من نتيجتها أن كل مسلم كان على أرض الأندلس تنصر.
وقد رثى الشاعر الأندلسي أبو البقاء الرندي سقوط الحكم الإسلامي على يد النصارى، حيث قال في مطلع قصيدته: لكل شيء إذا ما تم نقصان فلا(42/3)
تعذيب المسلمين في الحبشة
أما في الحبشة فهناك مثال على ما فعله الصليبيون في بلاد المسلمين.
إريتريا المسلمة بتأييد من فرنسا وإنجلترا، فماذا فعلت الحبشة وحاكمها وإمبراطورها هيلاسيلاسي في المسلمين.
صادرت معظم أراضيها، وأسلمتها لإقطاعيين من الحبشة، وكان الإقطاعي والكاهن مخولين بقتل أي مسلم دون الرجوع إلى السلطة، فكان الإقطاعي أو الكاهن يشنق فلاحيه من المسلمين أو يعذبهم في الوقت الذي يريد.
وفُتحت للفلاحين المسلمين سجون جماعية رهيبة، يجلد فيها الفلاحون بسياط تزن أكثر من عشرة كيلو غرامات، وبعد إنزال أفظع أنواع العذاب بهم، كانوا يلقون في زنزانات بعد أن تربط أيديهم بأرجلهم، ويتركون هكذا لعشر سنين أو أكثر، وعندما كانوا يخرجون من السجون كانوا لا يستطيعون الوقوف؛ لأن ظهورهم قد أخذت شكل القوس.
كل ذلك كان قبل استلام هيلاسيلاسي السلطة في الحبشة، فلما أصبح هيلاسيلاسي إمبراطور الحبشة وضع خطة لإنهاء المسلمين خلال خمسة عشر عاماً، وتباهى بخطته هذه أمام الكونغرس الأمريكي.
فسن تشريعات لإذلال المسلمين منها: أن عليهم أن يركعوا لموظفي الدولة وإلا يقتلوا، وأمر أن تستباح دماؤهم لأقل سبب، فقد وجد شرطي قتيلاً قرب قرية مسلمة فأرسلت الحكومة كتيبة كاملة قتلت أهل القرية كلهم وأحرقتهم مع قريتهم، ثم تبين أن القاتل هو صديق المقتول الذي اعتدى على زوجته، وحاول أحد العلماء واسمه الشيخ عبد القادر أن يثور على هذه الإبادة فجمع الرجال، واختفى في الغابات، وجمعت الحكومة أطفالهم ونساءهم وشيوخهم في أكواخ من الحشيش والقصب، وسكبت عليهم البنزين وأحرقتهم جميعاً.
ومن قبضت عليه من الثوار كانت تعذبه عذاباً رهيباً قبل قتله، من ذلك: إطفاء السجائر في عينيه وأذنيه، وهتك عرض بناته وزوجته وأخواته أمام عينيه، ودق خصيتيه بأعقاب البنادق، وجره على الأسلاك الشائكة حتى يتفتت، وإلقاؤه طريحاً قبل أن يموت لتأكله الحيوانات الجارحة، بعد أن تربطه بالسلاسل حتى لا يقاوم.
وأصدر هيلاسيلاسي أمراً بإغلاق مدارس المسلمين، وأمر بفتح مدارس مسيحية، وأجبر المسلمين على إدخال أبنائهم فيها ليصبحوا مسيحيين.
وعين حُكاماً فجرة على مقاطعات إرتيريا، منهم واحد عينه على مقاطعة جمة، فابتدأ عمله بأن أصدر أمراً ألا يقطف الفلاحون ثمار أرضهم إلا بعد موافقته، وكان لا يسمح بقطافها إلا بعد أن تتلف، وأخيراً صادر 90% من الأراضي، أخذ هو نصفها وأعطى الإمبراطور نصفها، ونهب جميع ممتلكات الفلاحين المسلمين.
وأمرهم أن يبنوا كنيسة كبرى في الإقليم فبنوها، ثم أمرهم أن يعمروا كنيسة عند مدخل كل قرية أو بلدة، ولم يكتف بذلك بل بنى دوراً للعاهرات حول المساجد ومعها الحانات التي كان يسكر فيها الجنود، ثم يدخلون إلى المساجد ليبولوا ويتغوطوا فيها، وليراقصوا العاهرات فيها وهم سكارى.
كما فرض على الفلاحين أن يبيعوا أبقارهم لشركة أنكودا اليهودية، فكافأه الإمبراطور على أعماله هذه بأن عينه وزيراً للداخلية.
وكانت حكومة الإمبراطور تلاحق كل مثقف مسلم لتزجه في السجن حتى الموت، أو تجبره على مغادرة البلاد حتى يبقى شعب إرتيريا المسلم مستعبداً جاهلاً، وغير ذلك كثير.
كما جاء في كتاب: (كفاح دين) للشيخ محمد الغزالي من صفحة (60 إلى صفحة 80).(42/4)
ما فعله الصرب في البوسنة والهرسك
وما فعله الصرب في البوسنة والهرسك بالمسلمين معروف لكل من هب ودب.
فكان يؤتى بطفلة عمرها خمس سنوات ويهتك عرضها الصربي، ويجبرها على أن تناديه بزوجي، ويهتك عرض المسلمة أمام أولادها وأمام زوجها، ثم يذبح زوجها وأطفالها أمامها، وأقاموا المقابر الجماعية للمسلمين، وأبادوا القرى، وهدموا المساجد، ولعبوا برءوس الأطفال مثل كرة القدم.(42/5)
رثاء البوسنة والهرسك للعشماوي
يقول الدكتور عبد الرحمن العشماوي مصوراً تلك المأساة: نناديكم وقد كثر النحيب نناديكم ولكن من يجيب نناديكم وآهات الثكالى تحدثكم بما اقترف الصليب سراييفوا تقول لكم ثيابي ممزقة وجدراني ثقوب محاريبي تأن وقد تهاوى على جدرانها القصف الرهيب وأوردتي تقطع لا لأني جنيت ولا لأني لا أتوب ولكني رفعت شعار دين يضيق بصدق مبدأه الكذوب لأني لا أجامل أو أحابي ولا أرضى الخضوع ولا أذوب لهذا مزق الأعداء ثوبي وبين يدي أشعلت الحروب يا ليت المسلمين يأكلون ويشربون فقط، بل إن أمير الكويت تطوع بأربعة ملايين دولار لحديقة حيوانات في بريطانيا، وبالمقابل قال لي أخ كان يعمل ضمن أعضاء الرابطة في السعودية: والله العظيم إن الطفل المسلم الصومالي ينصر بشوال من الدقيق، يذهبون به إلى الكنيسة ويعطونه شوالاً من الدقيق فيصبح نصرانياً، وهذا يتطوع بأربعة ملايين دولار، فهو وأمثاله أولى بهم الفقر لكي يعودوا إلى دينهم، ملئوا الحانات والبارات والملاهي في أوروبا، فعلوا ما لا يفعله المجانين من العهر والفسق والرذيلة، وكل ما لا يخطر على بال.
يقول الدكتور عبد الرحمن العشماوي: لكم يا إخوتي أكل وشرب وأكسية لها نسج عجيب لكم دار مشيدة وظل يظللكم به غصن رطيب لدى أطفالكم لعب وحلوى وعند نسائكم ذهب وطيب وما والله نحسدكم ولكن نقول أما لإخوتكم نصيب نذير الحرب في أرضي نذير لكم فالليل منشؤه الغروب وجدب الأرض يسبقه احتباس وعصف الريح يسبقه هبوب لنا في أرضنا نهر وماء وروض في مرابعنا خصوب لنا بيت وأطفال ولكن محت آثار منزلنا الخطوب بنات المسلمين هنا سبايا وشمس المكرمات هنا تغيب تبيت كريمة ليلى وتصحو وقد ألغى بكارتها الغريب يقبل وجهها يا ليت شعري بماذا ينطق الوجه الكئيب يموت الطفل في أحضان أم تهدهده وقد جف الحليب بكت حزناً عليه بغير دمع وأين الدمع والظمأ النصيب وكم يرعى خلايا الجسم داء فيهلكه وقد عز الطبيب سل الفجر الذي لم يبد فينا لماذا لا يغني العندليب بني الإسلام هذي حرب كفر لها في كل ناحية لهيب يحركها اليهود مع النصارى فقولوا لي متى يصحوا اللبيب أراكم تنظرون وأي جدوى لنظرتكم إذا غفت القلوب(42/6)
نشيد أطفال سراييفو
ويقول الدكتور حسن أمرائي وهو من كبار الأدباء المغاربة في نشيد أطفال سراييفو: نحن أطفال سراييفو العتيدة إن حرمنا من حنان الأمهات في الليالي الحالكات فلأنا مسلمون نحن أطفال سراييفو المجيدة إن رمونا للسجون أو سقونا في الصبا كأس المنون فلأنا مسلمون نحن رغم القيد والقهر اللعين سوف نبقى مسلمين نحن أطفال سراييفو الجملية نعشق العصفور والوردة تزهو في الخميلة نعشق الأرجوحة الخضراء في الحقل ونعدو نحو أفق لا يحد نعشق الشمس ولون البحر نلهو بالمحار مثل آلاف الصغار ونحب النهر يشدو والفراشة تملأ الكون حبوراً وبشاشة فلماذا يا إلهي! ضرب الصرب الحصار ولماذا سرقوا منا النهار ولماذا بالدماء لطخوا وجه السماء ولماذا تصبح الأحلام كابوساً ويغدو لبن الأم دماً يا أصدقائي ويطير الأمل الأخضر من قبل الفطام يا أحبائي حطاماً في حطام ولماذا يقتل الورد الرصاص نحن أطفال سراييفو القتيلة قيدونا عذبونا أحرقوا المسجد والروض وأحلام الطفولة صادروا الآباء منا والبراءة والحكايات الجميلة علمونا في ربيع العمر أن نلعق جرح الكبرياء علمونا أن نغني للردى الزاحف أن نعزف ألحان المنية علمونا أن نصلي ويد تحضن جسم البندقية ما أشد الابتلاء نحن أطفال سراييفو الشهيدة سنصلي ونصلي ونعيد الضوء باسم الله للشمس الطريدة من بعيد من بعيد نحن عدنا من بعيد من بساط الموت عدنا نلعق الجرح العتيد نحمل الفجر الوليد يغمر الناس كل الناس بالعدل الرشيد فليمت من مات منا وليهاجر من يهاجر سوف تخضر المنابر من جديد من جديد والمحاريب ترى الذكر ندياً من جديد من جديد وستزهو الأرض من دفء الأذان ويعم النور يا أحبابنا كل مكان سوف نعلي راية الإسلام في الأرض وإن طال الحصار وسنبني للحضارة هاهنا ألف منارة ومنارة يا سراييفو النبيلة يا سراييفو الشهيدة أذن الله بأن ترفع رايات الجهاد نحن أطفالك حراس العقيدة(42/7)
وقفات مع الخائفين
مخافة الله عز وجل رأس الأمر، إذ هو شعار أنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، وكذلك هي شعار الصالحين من بعدهم.
فالخوف باعث قوي على عبادة الله عز وجل، وسبب في البعد عن معاصيه، ورادع في الكف عن شهوات النفس، فإن النفس الأمارة بالسوء لا يردعها إلا قوة خوف من خالقها سبحانه وتعالى.(43/1)
بيان مقام الخوف وتعريفه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: فالخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه، والخوف سراج في القلب به يبصر ما فيه من الخير والشر، ولا يزال الناس على الطريق ما دام معهم الخوف، فإذا زال عنهم الخوف ضلوا، وما فارق الخوف قلباً إلا وخرب، قال حاتم الأصم: لكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف.
وقال ابن مسعود: إنما العلم الخشية.
والخوف هو: توقع العقوبة على مدار الأنفاس، كلما خرج منك نفس تخشى عذاب الله عز وجل.
قال سيد التابعين أويس القرني: كن في أمر الله كأنك قتلت الناس أجمعين، أي: في الخوف من الله عز وجل.(43/2)
بيان أن الخوف نعمة من الله وبيان فضله
الخوف نعمة من الله عز وجل، ينعم بها على من يشاء من عباده، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} [المائدة:23].
فبنص هذه الآية الخوف من الله عز وجل نعمة؛ لأنه هداية، ولأنه يهيئ القلوب للاستجابة لأمر الله عز وجل، كما قال الله عز وجل: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} [الأعلى:10].
وكما قال الله عز وجل: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} [يس:11].
والخوف يوصل العبد لأقصى مقامات الإيمان، فيوصله إلى رضا الله تبارك وتعالى عنه، قال الله تبارك وتعالى: {جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:8].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46].
فالعبد عندما يعلم باطلاع الله تبارك وتعالى عليه فإنه يعظم هذا المقام، فيترك الذنب -وقد أمكنه فعله- خوفاً من الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين النظر إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه).
الخوف يوصل العبد إلى رضا الله تبارك وتعالى عنه، بل ويوصله إلى أعلى مقامات الجنان، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان:5] والأبرار هم: المقربون {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا * يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا * وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان:6 - 11].
والخوف علامة أهل الجنة، قال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} [فاطر:34].
فمن لم يخف يخشى عليه أن يكون من أهل النار، قال الله تبارك وتعالى عن أهل الجنة: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ} [الطور:26].
والإشفاق هو: رقة الخوف {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].
ومن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (رجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يلج النار عبد بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس شيء أحب إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة دمع من خشية الله، وقطرة دم تراق في سبيل الله، وأما الأثران: فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله).
والخوف سبب للنصر، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} [إبراهيم:14].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).(43/3)
بيان أن الخوف من صفات الأنبياء وعباد الرحمن
والخوف شعار الأنبياء، قال الله تبارك وتعالى عنهم: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء:90].
وأما أصحاب التصوف الفلسفي فيقول الحلاج: ما الجنة؟ إنها لعبة صبيان، يضحكون بها على العيال الصغار، وما النار؟ أستطيع أن أبصق عليها فأطفئها، أي: أتفل عليها تفلة واحدة فأطفئها، وهذا لا يقوله رجل يخشى الله عز وجل، ولذلك حكم عليه جمهور أهل العلم بالزندقة، ولا تجد رجلاً ينافح عن الحلاج إلا وفي دينه خلل، مثل صلاح عبد الصبور الذي عندما كتب عن مصرع الحلاج جعله بطلاً دينياً وقومياً وبطلاً من أبطال الحرية، وجعل الفقهاء أصحاب سلطة وأصحاب مال.
وأما عباد الله وعباد الرحمن فإن ديدنهم كما قال الله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} [الفرقان:65].(43/4)
أنواع الخوف(43/5)
خوف العقوبة
والخوف على أنواع، منه: خوف العقوبة، وهو خوف العامة، وهو يتولد من مشاهدة الذنب والتصديق بوعيد الله عز وجل، وخوف العقوبة إذا ترحل من القلب ترحل عنه الإيمان، فلا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى عظمة وكبرياء من واجهته بها.
وإذا حركت الريح ستر بيت إنسان أو ستر باب بيته فإنه ينخلع فؤادك لنظر الناس إلى عورتك، فكيف تقيم على المعصية وأنت عالم بنظر الله عز وجل إليك من فوق سبع سماوات واطلاعه عليك وأنت تقترف المعاصي ليلاً ونهاراً؟! فآدم عليه السلام لم يسامح بلقمة وهو صفي الله عز وجل، ونحن: نصل الذنوب إلى الذنوب ونرتجي درج الجنان ونيل فوز العابد ونسينا أن الله أخرج آدم منها إلى الدنيا بذنب واحد(43/6)
خوف الخشية وخوف الوجل
ومنه: الخشية، والخشية هي: خوف مقرون بعلم، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية).
وهناك: خوف الوجل، والوجل: انقباض القلب وخوفه عند ذكر من يخاف سطوته وعقابه، فمثلاً: عندما يقال: إن الرجل الفلاني يقوم بإعدام الناس في دار الدنيا فإنه ينقبض القلب بمجرد ذكر اسمه، فالوجل هو: انقباض القلب أو خوف القلب عند ذكر من يخاف عذابه وسطوته.(43/7)
خوف الإشفاق وخوف الهيبة
وفوق هذا: خوف الإشفاق، والإشفاق هو: رقة الخوف.
وفوق هذا: خوف الهيبة، والهيبة -كما قال ابن القيم - هو: خوف مقرون بحب.
فالخوف والخشية والوجل والإشفاق والهيبة كل هذا من مقامات الخوف، وما أنصب العباد والخدام إلا ذكر يوم القيامة، وكيف لا يخاف العباد ولا يحزنون منها؟! وما عبد الله عز وجل بمثل الخوف، فكيف لا يخافون والقيامة أمامهم، وفي العرصات مقامهم، وعلى الصراط جوازهم، والمهبط والصعود إما إلى الجنة وإما إلى النار.(43/8)
نماذج من خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ربه
وإن كان سيد الرسل قد شاب من ذكر أهوال القيامة أفلا يشيب العبد؟ وقد ورد أن أبا بكر الصديق قال: (يا رسول الله! قد شبت قبل المشيب، قال: شيبتني هود وأخواتها)، وفي رواية: (شيبتني هود، والواقعة، والمرسلات، وعم يتساءلون، وإذا الشمس كورت).
ولما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً قد اجتمعوا قال: (علام اجتمع هؤلاء؟ قيل: اجتمعوا على قبر يحفرونه، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبدر من بين يدي إخوانه، ثم واجه القبر حتى بل الثرى من دموعه، وقال: أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا) هذا خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان إذا قام إلى الصلاة يسمع لصوت صدره أزيز كأزيز المرجل).
وكان إذا هبت الريح دخل وخرج، فتقول له السيدة عائشة: (يا رسول الله! إن الناس إذا رأوا الغيم استبشروا -أي: لأنه سيجيء من بعده المطر- ولكني أعرف الكآبة في وجهك، قال: وما يؤمنني، إن قوماً رأوا عذاب الله عز وجل فقالوا: هذا عارض ممطرنا).
فبمجرد تغير الجو وهبوب الريح كان يعرف الخوف في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربع أصابع إلا وفيها ملك ساجد واضع جبهته لله عز وجل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت الجنة والنار فلم أر كالخير والشر قط اليوم) ثم قال: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل).
فغطى صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين، أي: صوت خارج من الأنف فائج عن البكاء.(43/9)
نماذج من خوف الأنبياء من الله عز وجل
وقال الله تبارك وتعالى في ذكر خليل الرحمن إبراهيم: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] قال الشوكاني: يكثر التأوه من ذنوبه، فإذا تذكر الذنب أكثر التأوه من ذلك، فمن لجوعك ومن لعطشك ومن لذنوبك إذا جئت بها تحملها على ظهرك؟ فواطول وقوفاه وتحيراه! وأوه من حمل الذنوب وثقلها، وأوه من الإقرار بها! نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للبكاء تعار وبكى آدم عند نزوله من الجنة حتى قالوا: لو قيس بكاء آدم ببكاء أهل الأرض جميعاًَ لعدل بهم، وقال: أبكي على دار كنت أسمع فيها زجل تسبيح الملائكة حول العرش.
وما شرب نبي الله داود شراباً من الماء ولا تناول طعاماً إلا وبلله بدموعه، وكان يقول: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك، فكيف أستطيع حر نارك؟ يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك -وهو الرعد- فكيف أستطيع سماع صوت غضبك.(43/10)
ذكر خوف جبريل وميكائيل من الله عز وجل
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل: (مررت ليلة أسري بي بالملأ الأعلى، وجبريل كالحلس البالي من خشية الله)، أي: كالكساء الممزق الذي يوضع على ظهر الدابة.
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: (ما لي لم أر ميكائيل يضحك؟ قال: ما ضحك ميكائيل منذ خلقت النار)، وهذا الحديث حسنه الألباني.(43/11)
نماذج من خوف الصحابة من الله عز وجل
ثم تعال إلى الصالحين من عباد الله عز وجل، فـ صديق هذه الأمة الأكبر رضي الله عنه يقول: يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل.
وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: يا ليتني لم أولد، ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت نسياً منسيا.
وحفرت الدموع خطان أسودان في وجه الفاروق.
وعندما قال له ابن عباس رضي الله عنه عند موته: إنك لشهيد، مصر الله بك الأمصار، وفتح بك الفتوح، وفعل بك وفعل قال: إن المغتر من غررتموه، والله! لو كان لي ما طلعت عليه الشمس ما أمنت سوء المطلع، أو لافتديت به من هول المطلع يومئذ، ويرحم الله عمر بن الخطاب فاروق الإسلام فقد مرض من جراء آية، وهي قوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور:7]، يقول: قسم حق ورب الكعبة! وسيدنا علي رضي الله عنه يخرج ذات يوم على أصحابه ويقول: والله! لقد رأيت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فلم أر اليوم شيئاً يشبههم، لقد كانوا يصبحون شعثاً غبراً، بين أعينهم أمثال ركب المعزة، قد باتوا لله عز وجل سجداً وقياماً، يراوحون بين جباههم وأقدامهم، تنهمر دموعهم على خدودهم فتبتل منها ثيابهم، فما بال هؤلاء قد أصبحوا غافلين؟ فما روي ضاحكاً حتى ضربه عبد الرحمن بن ملجم.
وكان تحت عيني سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مثل الشراك البالي من كثرة الدموع، وكان يقول ابن مسعود رضي الله عنهما: إن هاهنا رجالاً ودوا لو أنها قامت ألا يبعثوا.
وعمران بن حصين رضي الله عنه الذي كان مجاب الدعوة يقول: يا ليتني كنت رماداً تذروه الرياح في يوم عاصف.
وسيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول: لأن أدمع دمعة من خشية الله عز وجل أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار.
والصحابي الجليل شداد بن أوس رضي الله عنه كان إذا أوى إلى فراشه لا يستطيع النوم، ويقول: اللهم إن جهنم لا تدعني أنام.(43/12)
نماذج من خوف التابعين من الله عز وجل
وعلي زين العابدين رضي الله عنه ابن الإمام الحسين كان إذا توضأ اصفر وجهه، ولما يسأل عن ذلك يقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف؟ وهبت نار عظيمة أتت على أكثر المسجد ففزع منها الناس، فلم يفزع ولم يترك صلاته، وقال: شغلتني النار الكبرى.
والربيع بن خثيم حفر قبراً في منزله، وكان ينزل فيه في اليوم مرات، ويقول: يا ربيع! ها قد خرجت، فاعمل لقبر إن نزلت فيه تقول: رب ارجعون، إلى يوم القيامة ولا يستجاب لك.
وربعي بن خراش -أحد رواة الكتب الستة- يقسم ألا يراه الله ضاحكاً حتى يعلم أي الدارين داره، يقول غاسله: فلما مات تبسم، ولما كان على المغسلة تبسم، ولما وضعناه في قبره تبسم.
وهذه كرامة ثابتة.
وكذا يزيد الرقاشي قال عنه الحسن البصري: آلا على نفسه ألا يضحك حتى يعلم مصيره.
قال: فعزم على ذلك فوفى.
والحسن البصري سيد البكائين وصفوه فقالوا: كان إذا تكلم فكأنه شاهد الآخرة، ثم جاء من الآخرة يخبر الناس عنها.
وقالوا: كان إذا قدم فكأنما قدم من نفس حميم الله، وإذا جلس فكأنما هو أسير يستعد لضرب العنق، وإذا بكى فكأن النار لم تخلق إلا له.
وكان يبكي ولما سئل عن سبب بكائه وقيل له: يا أبا سعيد! ما يبكيك قال: وما يؤمنني أن يكون الله قد اطلع علي في بعض ذنوبي فقال: افعل ما شئت فلا غفرت لك.
ويقول: أخاف أن يطرحني في النار غداً ولا يبالي.
وإن كانت الأنبياء يقولون يوم القيامة: (إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله) فقد كان يبكي الحسن ويقول: أخاف أن يطرحني في النار غداً ولا يبالي.
ويقول: والله! لا يؤمن أحد بهذا القرآن إلا ذبل، وإلا نحل، وإلا تعب، وإلا ذاب.
وعندما قال له رجل: كيف حالك يا أبا سعيد؟! قال: كيف حال قوم ركبوا سفينة فلما توسطوا البحر تكسرت السفينة وتعلق كل منهم بخشبة؟ قال: في حال شديدة.
قال: حالي والله! أشد من حال هؤلاء.
وكان صائماً فقدم له ماء ليفطر عليه فلما رآه بكى، فقيل له: لم؟ قال: تذكرت أمنية أهل النار، وقولهم لأهل الجنة: {أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ} [الأعراف:50].
أما طاووس بن كيسان سيد العباد، وسيد أهل اليمن، وتلميذ سيدنا عبد الله بن عباس كان إذا مر برواس -الرجل الذي يشوي الرءوس- ووجده قد أخرج رأساً مشوياً غشي عليه، ولا يأكل أولا يتعشى تلك الليلة، وكان إذا أتى إلى مضجعه يقول: طير ذكر جهنم نوم العابدين، ثم يستقبل محرابه إلى الصباح.
أما سفيان الثوري -أمير المؤمنين في الحديث- فكان عجب عجاب، قال عنه الإمام أحمد: سفيان عندي هو الإمام، كان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم، وكان إذا ذكر الموت لا ينتفع بعلمه أياماً، ويقول: لا أدري، لا أدري.
وحمل بوله إلى طبيب في مرضه الأخير فقال: هذا ماء رجل قد أحرق الخوف جوفه، وكان يقول: خفت الله عز وجل خوفاً أعجب كيف ما مت منه، وكان إذا جلس يجلس فزعاً مرعوباً ويقول: اللهم سلم، اللهم سلم.
ويقول عبد الرحمن بن مهدي -شيخ الإمام أحمد -: ما صاحبت رجلاً في الناس أرق من سفيان، كان يقوم من نومه فزعاً مرعوباً ويقول: اللهم إنك عالم بحاجتي غير معلم، وإن حاجة سفيان أن تغفر له ذنبه، اللهم لو كان لي عذر في التخلي عن الناس ما أقمت مع الناس طرفة عين.
ولما سئل سفيان عن سر بكائه قال: لو أعلم أني أموت على التوحيد ما بكيت، وقال: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام، وقال سهل بن عبد الله التستري: خوف الصديقين من سوء الخاتمة ومن مكر الله عز وجل عند كل خطوة وعند كل حركة، وهم الذين عناهم الله عز وجل بقوله: {وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} [المؤمنون:60]، فـ سفيان الثوري الإمام المعظم المبرز يقول: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام.
يخشى أن يموت على غير الإسلام.
سفيان الثوري يقول لرجل: تعال لنبكي على علم الله فينا، وماذا سبق القضاء لنا في أم الكتاب، أي: في اللوح المحفوظ، أشقي أم سعيد؟ وليس سوء الخاتمة فقط، وإنما يخافون مما سبق في علم الله لهم، أأشقياء أم سعداء؟ ومسعر بن كدام يبكي ويطول بكاءه، فتقول له أمه: لم البكاء يا مسعر؟ فيقول لها: لما ننتظر.
فتقول: وما هو يا بني؟! فيقول لها: القيامة وما فيها، القيامة وما فيها.
وأتى مالك بن مغول إلى سفيان الثوري فبكيا حتى رقا، حتى قال سفيان: ما أحب أن أقوم من مكاني حتى أموت، فقال له مالك بن مغول: ولكني والله! لا أرضى ذلك -أي: لا أحب ذلك- قال له سفيان: ولم؟ قال: معاينة الرسل، -أي: رؤية ملك الموت وملائكة العذاب أو ملائكة الرحمة- ولم ترهم من قبل، وخوف السكرات، واصطكاك الأسماع، واختلاف الأضلاع، وترادف الحشارج، وتتابع الأنين، ثم رؤية ملك الموت.
فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر وكأنهم قد وضعوك على ظهر السرير وأنت لا تدري وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر يا ليت شعري كيف أنت على نبش الضريح وظلمة القبر يا ليت شعري ما تقول إذا وضع الكتاب صبيحة الحشر(43/13)
بيان أهوال الموت
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100].
وقال تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ * وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ * وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ * إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة:26 - 30].
وقال تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق:20 - 22].
رب مذكور لقوم غاب عنهم فنسوه وكأني بالمرء قد يبكي عليه أقربوه وكأن القوم قد قاموا فقالوا أدركوه حرفوه وجهوه غمضوه كفنوه ألحدوه أقبروه فارقوه خلفوه وكأن القوم لم يكونوا يعرفوه(43/14)
الحث على تذكر الموت والهرب من النار
تذكر الموت، واجعله منك على بال حتى يدوم خوفك، واجعل السكرات منك على بال، ومعاينة الرسل ومشاهدة ملك الموت، وتفكر في هذا، وما تقول له ولم تره من قبل، فهذا كائن لا محالة، وأمتنا آخر الأمم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، وقد أسرع بإخبارنا فما ننتظر إلا المعاينة.
ويقول مطرف بن عبد الله -وهو من أئمة التابعين-: لقد كاد الخوف من النار أن يمنعني من سؤال الله الجنة.
يقول: غلب علي الخوف حتى كاد ينسيني سؤال الله عز وجل الجنة.
إن آخر من يخرج من النار كما جاء في الحديث الصحيح رجل يحبو حبواً، ثم يقول للمولى عز وجل: (يا رب! اصرف وجهي عن النار، لا أسألك شيئاً غير ذلك)، فيأخذ المولى تبارك وتعالى عليه العهد والميثاق -فمع هول ما هو فيه ينسى الجنة- وإنما يقول: (اصرف وجهي عن النار، لا أسألك شيئاً غير ذلك).
ويزيد بن مرثد يقول له عبد الرحمن بن يزيد بن جابر: ما لي أرى عينك لا تجف؟ قال: وما مسألتك عن هذا؟ قال: عسى الله أن ينفعني بك، قال: إن ربي توعدني إن أنا عصيته أن يسجنني في النار، ولو لم يتوعدني إلا بالسجن في الحمام لكان حرياً ألا تجف لي عين.
يعني: إن ربي قد توعدني لو عصيته بالنار، ولو لم يتوعدني إلا بسجني في الحمام تحت دش ساخن قد علت درجة حرارته قليلاً لكان حرياً ألا تجف لي عين.
إن هذا الأمر ليعرض لي حين أسكن إلى أهلي فيحول بيني وبين ما أريد، وهو يعرض لي حين يقدم إلي الطعام فأبكي وتبكي صبيتي وزوجتي وتقول: ويحي وما اختصصت به من طول الحزن معك.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس الإسلام وأهله).(43/15)
من أسباب الخوف(43/16)
الأول: خشية العذاب
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: من أسباب الخوف: أن يخشى الإنسان حلول العذاب، ويخشى أن يعاقبه الله عز وجل ويعجل له العقوبة في دار الدنيا على معاصيه، وكان هذا لا يدع الصالحين ينامون.
فـ الربيع بن خثيم -تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود، وكان من أحب الناس إليه، وكان إذا خلا به لا يأذن عبد الله بن مسعود لغيره من التابعين- تقول له ابنته: ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فقال: إن أباك يخشى البيات.
والبيات هو: حلول عذاب الله ليلاً.
وتقول له أمه: يا ربيع! يا بني! أقتلت نفساً؟ فيقول: بلى.
فتقول: فوالله! لو علم أهل القتيل ما تلاقي بسبب قتيلهم لرحموك من كثرة البكاء، فيقول: قتلت أعز الأنفس علي، قتلت نفسي بالمعاصي.
ومالك بن دينار يقول: لولا أن تكون بدعة لوضعت التراب على رأسي وقلت: أيها الناس! من رآني فلا يعصي ربه، هذا ذل العاصي في دار الدنيا فكيف في الآخرة.
وكان يقول: لو أن لي أعواناً لفرقتهم في منارات الدنيا يصيحون في الناس: النار النار، أي: لا تنسوا النار.
وله شاهد من حديثه صلى الله عليه وسلم: (أنذرتكم النار، أنذرتكم النار، أنذرتكم النار).
ويقول: لولا أن تكون بدعة لم أسبق إليها عند الموت، فإنه إذا جاءني الموت لوضعت الغل في عنقي وقلت لهم: اسحبوني وامضوا بي كما يمضى بالعبد الآبق إلى سيده.
وقال: بينا أنا أطوف إذا بجويرية صغيرة تقول: يا رب! أفما كان لك أدب تؤدب به من عصاك إلا النار؟ أي: يا رب! أما اخترت عقوبة وأدباً للذي يعصيك غير النار؟ قال: فما زال هذا مقامها إلى الصباح.
قال: فلما رأيت هذا من جويرية صغيرة وضعت يدي على رأسي وقلت: ثكلت مالكاً أمه، أفما كان لك أدب تؤدب به من عصاك إلا النار؟(43/17)
بيان صفة جهنم
جهنم سوداء، نارها أسود، شجرها أسود، أهلها سود قبيحون، {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس:27]، أكلوا من النار، وشربوا من النار، ومشوا على النار، وعاشوا في النار، لهم نعال من نار، وسرابيل من قطران، {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]، {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]، {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور:17 - 14].
فما ظنك أيها المفرط في عمره المقصر في دهره! بسكان هذه الدار، فهي ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، دار يخلد فيها الأسير، ويوقد فيها السعير، فيها سلاسل وأغلال، ومقامع وأنكال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم واحد من أهل النار فتنفس فأصابهم نفسه لاحترق المسجد بمن فيه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل النار يبكون الدمع حتى ينفد الدمع، ثم يبكون الدم -أي: بدل الدمع- حتى يصير في وجوههم كهيئة الأخدود، لو سيرت فيه سفن لجرت).
دمع النواصي مع الأقدام صيرهم كالقوس محنية من شدة الوتر(43/18)
صالحون يموتون وتعمى أبصارهم خوفاً
والله إن أناساً من هذه الأمة ماتوا من الخوف، كانت تتلى عليهم آيات العذاب أو يرددونها فتخرج أرواحهم.
ومنهم علي بن الفضيل بن عياض وقد قرأ زرارة بن أوفى قاضي البصرة قول الله عز وجل: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر:8 - 9] في صلاة الصبح فخرجت روحه، وأبو جهير الضرير في مجلس صالح المري تخرج روحه، وكان الناس يحضرون مجالس عبد العزيز بن سليمان فيقول: النار، النار، القيامة، القيامة، فيرفع من المجلس الميت والميتان والثلاثة.
ومنهم من بكى من خوف النار، ومن خوف الوقوف بين يدي الله عز وجل حتى عمي.
والإمام الترمذي -الذي ما خلف البخاري بعده أفضل منه وأورع- بكى من خوف الله عز وجل حتى عمي.
وعلي بن بكار الذي يقول: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا طلوع الفجر بكى حتى عمي.
هشام الدستوائي بكى حتى عمي، وقبل أن يعمى كان إذا أبعدت زوجته عنه السراج يبكي فتقول له: لم تبكي؟ فيقول: أخشى ظلمة القبر.
وأشيم البلخي بكى حتى عمي، وكان يقول: أواه القبر وظلمته، أواه اللحد وضيقه، ثم يبكي حتى عمي.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سيدنا سعد بن معاذ الذي اهتز لموته عرش الرحمن: (ضيق عليه القبر لولا أن فرجه الله عنه) فانظر ماذا يكون حالي وحالك؟ وعطاء السلمي يبكي ويقول: ويل عطاء، ليت عطاء لم تلده أمه، وكان إذا غلا السعر في السوق يقول: كل هذا بذنب عطاء، لو مات عطاء لاستراح الناس، لو مات لاستراح الناس.
والفضيل بن عياض يأتي إليه جابر بن سليمان من أصحاب الحديث، فيقول له: اجلس يا جابر! ليس عند أصحاب الحديث أحب إليهم من قرب الإسناد، وسآتي لك بإسناد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن جبريل عن ربه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، فأنا وأنت يا جابر من الناس، يعني: أنا وأنت من وقود النار، ثم غشي على الفضيل، وكذا على ابنه علي، ما كانوا يستطيعون ذكر القيامة، أو أي آية من آيات العذاب.
وعمر بن عبد العزيز كان يبكي حتى تختلف أضلاعه ويقول: بطيء بطين متباطئ، ويتمنى على الله منازل الصالحين، وكان يبكي ويقول: نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم وتكدح فيما سوف تكره غبه كذلك في الدنيا تعيش البهائم(43/19)
تابع أسباب الخوف(43/20)
الثاني: الخوف من الموت قبل التوبة
ومن أسباب الخوف: خوف الموت قبل التوبة، فـ الحسن بن صالح بن حي لما كانوا يقولون له: صف لنا غسل الميت! فيبكي ولا يستطيع.
وكان إذا قرأ: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] يغشى عليه ويقول: {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84] أنفاسك تعد، آخر العدد خروج نفسك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد لقاء ربك، {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84]، إن النفس قد يخرج ولا يعود، وإن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل.
هذا هو الخوف من الموت قبل التوبة.
فيا إخوتاه! قوموا قيام قوم قد يئسوا من العودة إلى مجلسهم خوفاً من خطفات الموكل بأخذ النفوس، وما أدراك أنك ستأتي إلى المسجد بعد خروجك منه إن النفس قد يخرج ولا يعود، وإن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل، فبادر بالتوبة.(43/21)
الثالث: الخوف من نقض التوبة وعدم الوفاء بها
ثم بعد ذلك يخافون من نقض التوبة، أي: أن يعودوا بعد التوبة، وألا يوفوا بكلمة.
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني(43/22)
الرابع: الخوف من الميل عن الاستقامة ومن مكر الله
ثم الخوف من الميل عن الاستقامة، والخوف من مكر الله عز وجل، مثل أن تركن لأعمالك الصالحة فيوكلك الله عز وجل إليها.
صفت لي الليالي فاغتررت بها وعند صفو الليالي يحدث الكدر والقلوب بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فتخاف -يا أخي- من ضيق القلب وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع، فيسبق عليها الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)، فتخاف مكر الله عز وجل، فكم من رجل كان له حال مع الله عز وجل، وكان يصلي الفجر في جماعة، وهو الآن يجلس على القهاوي.
فاتق الله عز وجل هذا هو الخوف من الزيغ ومن مكر الله عز وجل.(43/23)
الخامس: الخوف من تشتت القلب في أودية الدنيا
ثم الخوف من تشتت القلب في الدنيا وأهلها وهمومها.
نسأل الله عز وجل أن يجمع قلبي وقلبك على هم الآخرة.
وفي الخوف من تشتت القلب في أودية الدنيا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحدا كفاه الله سائر همومه).(43/24)
السادس: الخوف من ضياع الوقت في المعاصي
ثم الخوف من ضياع الوقت في غير طاعة لله عز وجل، كأن يعيش في غفلة وفي لعب ولهو حتى يأتيه الموت بغتة.(43/25)
السابع: الخوف من رؤية الله للعبد على معصية وخوف كفر النعمة
وكذلك الخوف أن يراك الله عز وجل مقيماً على ما لا يرضاه منك، وخوف البطر والطغيان والكبر بكثرة النعم.(43/26)
الثامن: الخوف من تعجيل العقوبة
ومن الأسباب: الخوف من تعجيل العقوبة في دار الدنيا، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
وهذه الآية نزلت في ناس كفروا ثم نقصوا في الموازين ففعل الله بهم ما فعل {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ * وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود:102 - 105]، {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر:46].
والحسن بن صالح كان إذا رأى الجراد يطير يغشى عليه، وعندما يسأل عن سر ذلك يقول: {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنتَشِرٌ} [القمر:7].(43/27)
التاسع: خوف السؤال في القبر
وكذلك الخوف من منكر ونكير، وسؤال الملكين حينما يسألان الإنسان: من ربك؟ وما دينك؟ وما الأمر الذي كنت عليه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال) يعني: فتنة توازي في هولها فتنة المسيخ الدجال، وهي أعظم فتنة منذ خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة (إنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال، وعني تسألون).(43/28)
العاشر: خوف يوم القيامة
ثم الخوف من عرصات القيامة ومن الحساب واطلاع الله على النقير والفتيل والقطمير.(43/29)
الحادي عشر: الخوف من الوقوف بين يدي الله عز وجل
ثم الخوف من الوقوف بين يدي الله عز وجل، فالرجل العابد لما قابله ابن السماك وقد حفر لنفسه قبراً ودلى رجليه إلى القبر وهو يقول: إن للناس موقفاً لا بد أن يوقفوه قال له ابن السماك: بين يدي من؟ فمات الرجل.(43/30)
الثاني عشر: الخوف من تطاير الصحف والموازين والصراط
ثم الخوف من تطاير الصحف، والوقوف بين يدي الله عز وجل، والموازين، والصراط وحده.
وإذا كان دعاء النبيين وهم على الصراط: يا رب! سلم، يا رب! سلم، فماذا يكون حالي وحالك؟(43/31)
الثالث عشر: الخوف من القصاص وخوف مكان المصير
والخوف من القنطرة والقصاص، وعدم العلم بعد ذلك بالمأوى هل يكون إلى الجنة أم إلى النار.(43/32)
الرابع عشر: خوف عدم قبول الأعمال وخوف الذنوب
ثم بعد ذلك الخوف من الحسنات والخوف من الذنوب، فما ظنك بالخوف من الحسنات وألا يقبلها الله عز وجل، وألا توفي بها، وألا تستمر عليها إلى يوم القيامة.
فعودوا أنفسكم الخوف من الله عز وجل، فإذا سكن الخوف القلوب طرد مواطن الشهوات عنها، وأحرق مواضع الشبهات منها، وعودوا أنفسكم ذكر الموت، واجعلوا الموت منكم على بال.
فهذا الربيع بن خثيم يقول: لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة لفسد قلبي، ومن لم يتعظ بالموت ولا بالقرآن فلو تناطحت الجبال بين يديه ما اتعظ.(43/33)
الحث على قصر الأمل
وليكن عندك قصر في الأمل، وكل يوم قل: هذا اليوم الذي أموت فيه، وفلان يغسلني، ولتكن الوصية منك على بال، ودع نصب عينيك، فلان يغسلني، وفلان يكفنني، وفلان يصلي علي، فإذا أتى الليل فقل: يا نفس! هذه ليلتك التي فيها تموتين، وفلان يغسلني، وفلان يكفنني، وفلان يصلي علي.
وحفصة بنت سيرين كانت إذا قامت إلى صلاتها من الليل لبست كفنها؛ إذ ربما تكون هذه آخر صلاة لها.
فاجعل الموت منك على بال، واجعل السكرات منك على بال، واجعل القبر منك على بال، واجعل القيام منك على بال، وردد آيات العذاب، {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54]، {فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك:27].
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].(43/34)
بيان فوائد خوف الله عز وجل
وعزة سيدي! لا يجعل الله عز وجل عبداً أسرع إليه كمن أبطأ عنه، والناس تتسابق في دار الدنيا وتتغافل عن الموت، وإن أمراً أنت راحل إليه في كل لحظة أحق بالعمل من دار أنت مسافر عنها في كل لحظة.
اللهم ارزقنا الخوف منك وحدك، ومن خاف الله عز وجل وحده خوف الله منه كل شيء، ومن خاف غير الله عز وجل أخافه الله من كل شيء.
فهذا عز الدين بن عبد السلام كان يقول لـ نجم الدين ملك مصر: يا نجم الدين! الخمر تباع في الحانة الفلانية، فقال: هذا كان في أيام أبي، فقال له: أنت ممن يقول الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف:23]، فيقولون له: أما خفت نجم الدين أيوب ملك مصر، فيقول: تذكرت هيبة الله عز وجل فصار كالقط، والملك العادل ملك مصر كان إذا دخل عليه عبد الغني المقدسي -وكان إماماً عظيماً من أئمة الحديث- يقوم له مرتعداً، فيقولون له: هذا رجل صاحب قرآن وصاحب حديث فلماذا تخاف منه هكذا؟ فيقول: والله! ما دخل علي مرة إلا وخيل إلي أنه سبع.
ومصطفى كمال أتاتورك الذي أذل المسلمين في تركيا وأسقط دولة الخلافة وجعل الصلاة باللغة التركية وهدم المساجد وحولها إلى متاحف، وصاحب الراقصات، هذا الرجل الذي فعل الأفاعيل جاء نوع من النمل الأبيض وأصابه بحكة غريبة، فجلس الأطباء يعالجوه منها سنتين، وهم لا يعرفون ما هو سبب المرض، ثم اكتشفوا أنه نمل أبيض، قدم من آسيا إلى أوروبا فأمر بمدمرة بحرية بكامل طاقمها تأتي إلى قصره؛ لتهاجم النمل، وألقى مرة خطابه في مجلس النواب فهبت ريح شديدة وغبار شديد فارتعد وأراد أن يخرج من المجلس، فأمسكوا به، وبعد لحظات إذا هي غنم كان يرعاها راع، فخاف من رؤية غبار الغنم، ومن لم يخف الله عز وجل خوفه الله من كل شيء.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الخوف منه وحده، والعمل له وحده، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك مخبتين منيبين، ربنا تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخيمة صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
اللهم اشف مرضانا وجميع مرضى المسلمين، اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، وحسن النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، اللهم اهد حكام الأمة، اللهم اهد حكام الأمة إلى العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(43/35)
رسالة إلى كل مسلم
إن المسلمين اليوم يعانون من ذل وهوان وتسلط عدوهم عليهم، فجروحهم نازفة وما أن يلتئم جرح حتى يفتح آخر، وكلها أحداث تدمي فؤاد كل مسلم غيور، ولا شك أن كل محب للمسلمين يبحث عن السبيل لإخراج الأمة مما هي فيه، ومن بذل ولو جهداً يسيراً في البحث فسيجد أن الطريق إلى المجد هو تحقيق الإيمان، والعيش في ظله الوارف، والتنعم بحلاوته، والتزين بزينته، واكتساء حلته.(44/1)
رسالة إلى المسلمين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: يقول الشاعر: يا من يعاتب مذبوحاً على دمه ونزف شريانه ما أسهل العتبى من جرب الكي لا ينسى مواجعه ومن رأى السم لا يشقى كمن شربا أنا قبيلة آلام بأحزنها ومن جراحي سقيت المزن والسحبا يا ابن الوليد ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا إن الأحداث أبلغ من أي كلام، وأعظم من أي دموع، وأكبر من أي دماء تسكب من العيون.
فكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه رسم الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب أما آن للمسلمين الغفل النيام أن يعرفوا عدوهم، {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً} [الممتحنة:2]، ويقول الله تبارك وتعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران:118].
والمطالع للتاريخ الإسلامي، ولمحاكم التفتيش التي نصبها النصارى، ولما فعله فرديناند وإيزابيلا بالمسلمين وإجبارهم على التنصر في أسبانيا، وما فعله عباد البقر وعباد الفئران في كشمير، وما فعلوه في الفلبين، وما فعلوه في معرة النعمان في بلاد الشام أيام الحملات الصليبية، وما فعلوه في بيت المقدس.
يعلم إنها مآسي أبلغ من أي كلام، وهذه قصاصات من التاريخ تبين حجم وهول الأحداث على المسلمين.
يقول مؤرخو الغرب لا مؤرخو المسلمين في وصف الحملات الصليبية ضد السلاجقة الأتراك: كان جنودنا يكرهون أولئك الكلاب القذرين -يعنون بذلك المسلمين- فتبعثرت أشلاء الكفرة -أي المسلمين- في كل مكان، وانتشر الكرب وعويل النسوة، وقد جرى ذبح آباء الأسر مع جميع أبنائهم، وجرى تدمير محتويات المنازل، وتملكت المنتصرين شهوة قتل جنونية وجشع ونهب، ولهذا لم يستثنوا من القتل لا الجنس ولا المنزلة الاجتماعية، ولم يقيموا للسن أدنى قيمة، ووضعوا السيوف على رقاب الأمهات وأبنائهن، ثم اقتسموا أثاث المنازل والذهب والثياب النفيسة، ويروى أنه قتل في اليوم الأول من احتلال أنطاكية أكثر من 15000 من أهاليها، وانتشرت جثث القتلى غير المدفونة على طول الطرقات.
ويقول المؤرخ الغربي راءول دوكايين في أثناء الاحتلال الصليبي لمعرة النعمان -بلد أبي العلاء المعري في الشام -: إن جماعاتنا كانوا يقلون الكفار في القدور -أي: كانوا يأتون بالمسلم وهو حي ويضعونه في القدر- بل أفظع من هذا كانوا يأكلون جثث العرب المسلمين، وهذا ثابت في كل الروايات الأوربية التي تعرضت للغزوات الصليبية.
وهناك دكتورة غربية مسلمة حاصلة على دكتوراه في التاريخ الصليبي، لما سألتها عن ذلك أخبرتني بصدق ذلك في كل الروايات الأوربية التي تعرضت للغزو الصليبي لبلاد المسلمين، حيث كانوا يتجمعون حول النار مساء من أجل التهام فرائسهم وهم يشوونها على تلك النيران، وأيام فتح بيت المقدس جعلوا من مسجد الصخرة مشتى لخنازيرهم، وجعلوا من الصخرة مذبحاً لهم، وعلقوا صليباً على قبة الصخرة، ثم قتلوا المسلمين الذين احتموا بالمسجد الأقصى، وبلغ عدد القتلى في المسجد الأقصى سبعين ألف قتيل، حتى إن القائد الصليبي حين دخوله لبيت المقدس في المسجد الأقصى غاص في قتلى المسلمين، وفي دماء المسلمين حتى ركبتيه.
أما ما فعلوه في الأندلس فهو أكثر من أن يقال، حتى إن خير الدين بربوس عندما استغاث به نساء الأندلس أرسل الرسول الجزائري ثلاث مرات يحمل الأطفال ويحمل النساء الذين يريدون إجبارهم على التنصر، وأنقذ بمفرده سبعين ألف امرأة وطفل أسباني.
فماذا يفعل المسلمون الآن؟ لا شيء سوى الشجب والاستنكار والإدانة، مع أن بمقدورهم أن يقاطعوا صربيا، وبمقدورهم أن يطردوا السفراء من كل الدول الإسلامية، وبمقدورهم أن يفعلوا الكثير، فإن كان الشعب لا يستطيع أن يفعل شيئاً حيال ما يجري، وإن كانت الحكومات عاجزة لا أقل من أن الإنسان يعرف ابنه من عدوه، ويصحح القصد، ويرفع يده إلى السماء أن يجير الله عز وجل لهؤلاء الأطفال والنساء والرجال الذين يقتلون، ونقول للناس: واإسلاماه! عودوا إلى ربكم، واعرفوا من عدوكم، وصححوا القصد مع الله عز وجل، فاليوم كوسوفو ولا تعلمون الدائرة على من في الغد، فإن لم تحس بجرح المسلمين اليوم فمتى؟ ولو قيل لك: قتل أخوك في القاهرة فإنك ستبكي العبرات، وهؤلاء إخوتنا نساءً وأطفالاً رضع أجبروا على ترك بيوتهم، وهجروا من بلادهم حتى بلغ عدد المهجرين ثلثي كوسوفو، بل إنهم لا يسلمون من القتل في طريق هجرتهم، ومع ذلك كله تجد أن الترف قتل المسلمين في كل مكان؛ في دول الخليج وفي غيرها.
نعم تجد رجالاً صالحين مؤمنين ناسكين، ولكن تجد على الطريق الآخر مسابقة لاختيار أجمل خروف كما نشرت ذلك جريدة الوطن الكويتية! وتعقد هذه المسابقة ويقع اختيارهم على خروف سموه عندهم الزعيم، وقد بيع بمائتين وخمسين ألف جنيه مصري، أي: ما يعادل خمسة وعشرين ألف دينار كويتي، ومسابقة أخرى لاختيار أجمل حمامة، وقد رفض صاحبها أن يبيعها بسيارة مرسيدس آخر موديل في هذا العام.
هذه حال المسلمين، وفي مصر ينشغل الناس بمباراة كرة القدم! يقول الشاعر: من حر قلب الشاعر الهدار تهمي الدموع فتكتوي أشعاري أبكي ألوف المسلمين بكوسفا تحيا مروعة بغير ديار باتوا كراماً آمنين فأصبحوا شعباً شريداً حف بالأخطار الصرب عادوا كالذئاب ضراوة جوعى أصيبوا كلهم بسعار في البوسنه اغتالوا الحياة ودنسوا عرض النساء وعفة الأبكار داسوا على وجه الزهور وأخرسوا همس النسيم ورنة الأطيار ثم استداروا كي يبيدوا مسلمي الـ ألبان في حنق وفي إصرار في كل شبر قد أقاموا مجزراً للمسلمين العزل الأحرار سالت دماء المسلمين شهيدة تجري من الأعناق كالأنهار عادوا لتكرار المآسي نفسها لم يسأموا من كثرة التكرار والهاربون إلى الجبال تلفحوا بالثلج يلسعهم ليل من الأحزان خيم فوقهم يمتد مسوداً بغير نهار قد هوجموا لكن بغير جريرة قد هاجروا لكن بلا أنصار والجوع يفترس البطون بنابه والجوع كالوحش الهصور الضاري يبكي الصغار فيطعمون صغارهم عشباً وأوراقاً من الأشجار ومن العجيب أن أمريكا تريد أن تأخذ 20.
000 لاجئ من الألبان، وكندا 5000، والنرويج 10.
000، وألمانيا 40.
000، وأما المسلمون فكأن الأمر لا يعنيهم، ولذا أقول لأخي المسلم: إن لم تستطع أن تفعل شيئاً فكن رجلاً يقدر أن أخاه يذبح، وأن أخته ينتهك عرضها، وأن أطفاله الرضع ربما شابوا من هول ما هم فيه، وليتذكر أنه على مسافة خمسة وعشرين كيلو متر يقف مئات الآلاف من أجل أن يدخلوا مقدونيا فراراً من الصرب.
آمل أن هذه المأساة تجعل من الشباب المسلم يقول: تبت إلى الله عز وجل أنبت إلى الله عز وجل وأن يستدرك ما فاته حتى لا يأتي الدور عليه.(44/2)
حلاوة الإيمان
إن للإيمان حلاوة وزينة ونعيماً ونوراً لا يدركها إلا من عايشها سلوكاً ومنهجاً، فمن عاشها سيدرك أن للإيمان حلاوة تباشرها القلوب أكثر من مباشرة اللسان لحلاوة الطعام الحسية، وهي ما عبر عنها الرسول صلى الله عليه وسلم مرة بالطعام، ومرة بالذوق، ومرة بحلاوة الإيمان؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً)، وهو من حديث العباس بن عبد المطلب.
وروى الإمامان البخاري ومسلم من حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
كما أن للإيمان زينة وحلة يرتديها المؤمنون، ولذا كان دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا هداة مهتدين)، وهذه الزينة إذا كست القلب بدت آثارها على الجسد والجوارح، قال تعالى: {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].
ومما لابد أن يعلم أن للقلب نعيماً مثل نعيم الأبدان، وهو الذي عبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقرة العين، قال الإمام ابن القيم في كتابه (إغاثة اللهفان): قوله: (وأسألك نعيماً) هذا نعيم الأبدان، ثم قال: (وقرة عين لا تنقطع)، هذا نعيم القلوب.
إن أجمل شيء يلقاه العبد في دار الدنيا هو لذة الأنس بالله عز وجل، والمعرفة بالله عز وجل، والفرار منه إليه، وهو يقابل لذة النظر إلى وجه الله الكريم في الدار الآخرة، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وأسألك برد العيش بعد الموت، وأسألك الشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، فجمع بين لذة الدنيا ولذة الآخرة، فوالله ما طابت الدنيا إلا بذكره، وما طابت الآخرة إلا برؤيته.
مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها؛ المعرفة بالله عز وجل، والأنس به، والمحبة له.
يقول يحيى بن معاذ الرازي: من سر بخدمة الله عز وجل سرت بخدمته الأشياء، ومن قرت عينه بالله عز وجل قرت به كل عين.(44/3)
الأسباب التي تجعل المسلم يذوق حلاوة الإيمان
وهنالك أكثر من عشرين سبباً يجد بها العبد حلاوة الإيمان سنحاول أن نتتبعها سبباً سبباً.(44/4)
الرضا بالله رباً
السبب الأول: الرضا بالله رباً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً)، ومعنى: الرضا بالله رباً: أن ترضى بالله عز وجل وكيلاً مدبراً ولياً ناصراً، وأن تبغض إلى نفسك عبادة كل شيء سوى الله عز وجل، وأن يكون الله عز وجل أولى الأشياء عندك بالتعظيم، وأن تكون محبة الله عز وجل سابقة لكل محبة، وأن تكون كل محبة للبشر محبة إضافية ومحبة الله عز وجل محبة ذاتية، ولذلك عندما أمر المولى عز وجل سيدنا إبراهيم بذبح ابنه هم بالذبح؛ لأنه لا يحب إسماعيل ابنه لذات إسماعيل، وإنما يحبه لأن الله عز وجل أمره بحبه، فإذا دعاه الله تبارك وتعالى إلى ذبح ولده هم بذلك وسارع.
فهذه غاية المحبة، وهي أن تكون محبة الله عز وجل هي المحبة الذاتية الأصلية، وكل محبة تابعة لها، وأن تقهر محبة الله عز وجل كل محبة، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
فلابد أن تكون محبة الله عز وجل أولى من كل محبة، سابقة لكل محبة، قاهرة لكل محبة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة:165]، وهذا عين الرضا بالله.
وأما الرضا عن الله: فهو الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لن يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه).
والرضا بالله رباً أفضل من الرضا عنه رباً؛ لأن الرضا بالله رباً متعلق بأسماء الله عز وجل وبصفاته، وأما الرضا عن الله عز وجل فهو متعلق بثواب الله عز وجل، فالرضا بالله رباً فرض آكد على القلوب، وأما الرضا عن الله عز وجل فاختلف العلماء فيه هل هو واجب أم مستحب على قولين، كما أن الرضا عن الله رباً لازم للرضا بالله رباً.(44/5)
الرضا بالإسلام ديناً
السبب الثاني: الرضا بالإسلام ديناً، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85]، وقال عز وجل: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:130 - 133].
إن أعداء الله لا يبغضون منا إلا الإسلام، فإذا تركنا ديننا كنا أحباء خلصاً لهم، فهم لا يبغضون إلا دين الله عز وجل الذي أسلم له من في السماوات ومن في الأرض، ونحن نوقن أن هذا الإسلام عزنا وشعارنا وفخرنا.
قالها أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب لـ أبي عبيدة رضي الله عنهما حين قال له أبو عبيدة وهو يفد ليستلم مفاتيح القدس: لو أصلحت من شأنك يا أمير المؤمنين؛ فإنك تلقى وجهاء الناس وكبراءهم؟ فضرب في صدره وقال: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة! نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله.
فليس الأمر هاهنا، وإنما الأمر هاهنا: ((وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ)).
يقول أبو حازم الأعرج: قد رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، حينما يتسع خرق النعل تصلحه.
ونحن: نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع فلابد أن نعلم أنه إذا ضاع الإسلام ضاع كل شيء، تضيع الأعراض وتغتصب النساء، وتسفك الدماء، وتنتهب الأموال، وتسلب الأراضي وغيرها، والواقع خير شاهد، فحلف الناتو عند غزو الصرب لكوسوفو لم يعمل شيئاً للمسلمين، وإنما ضرب بعض المواقع تاركاً جنود الصرب يذبحون المسلمين، وكأنها مؤامرة الكل يتفقون عليها.
لقد دك الصرب الناس دكاً، فماذا فعل حلف الناتو؟ لا شيء، فرغم أن عندهم جيوشاً برية وبحرية وجوية، لكن ليس عندهم استعداد أن يقتل قتيل واحد فقط من أجل مسلم، ونحن عندنا قلامة ظفر أصغر طفل من البوسنة أو من ألبانيا أو من كوسوفو برقاب كل الكافرين الذين على وجه الأرض.(44/6)
الرضا بمحمد رسولاً
والرضا برسول الله رسولاً هو عين الشهادة أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24]، وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2].
وقال الله تبارك وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].
قال سيدنا عمر يوماً لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله يا رسول الله! لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي، قال: لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده والناس أجمعين، قال: الآن يا رسول الله، قال: الآن يا عمر).
وكونك ترضى به رسولاً يعني: ألا تتحاكم إلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تطبق هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأن تهاجر إلى سننه: في حركاته وسكناته وكلامه وصمته وأفعاله، وأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدك وشيخك، فتفزع إلى آرائه، وتترك كل الآراء لآرائه، وتترك زبالات الأذهان ونتائج الأفكار العفنة وأقوال العقول وهدايات الأفكار لهديه وشرعه، فتترك علم الكلام والمنطق لهدي نبينا صلى الله عليه وسلم، ولتكن قاعدتنا دوماً: النقل مقدماً على العقل، والكتاب والسنة مقدم على غيره من عقول البشر، وعلى غيره من أذواق ومواجيد الصوفية، وأن يكون الذوق عند المسلم ذوقاً شرعياً مرتبطاً بالكتاب والسنة.
لقد أعزنا الله بالإسلام والجهاد، ثم لما أغمدت السيوف أتت الهزيمة والذل والعار والوحل والسقوط والدناءة على يد من ابتعدوا عن دين الله عز وجل.
إذا أنت غمت عليك السماء وظلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها(44/7)
عبادة الله وحده
السبب الرابع: عبادة الله وحده، وهناك ثلاث أخرى من فعلهن يحبه الله ورسوله، ويذوق طعم الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده)، والعبودية: هي الذل التام والحب التام، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية.(44/8)
إخراج زكاة المال
السبب الخامس: أن يؤدي المسلم زكاة المال، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتقدم: (ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا الله وحده، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولا يعطي الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط: اللئيمة، ولكن من أواسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولا يأمركم بشره).
ولو أن حكومات وأثرياء المسلمين بعثوا زكاة الأموال لفقراء المسلمين النازحين من بلادهم لاغتنوا وما عاد يسمع في المسلمين فقير.(44/9)
تزكية النفس
السبب السادس: تزكية النفس.
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق: (ويعطي زكاة ماله طيبة بها نفسه، وزكى نفسه، قالوا: وما تزكية النفس يا رسول الله؟ قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان).
قال أحد السلف: لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى عظمة من واجهته بها.
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيات تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني وقال الآخر: إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب فعلى العبد حينما يباشر أي معصية أن يتذكر أن الله عز وجل ناظر إليه من فوق سبع سماوات، عالم بحاله وأمره؛ مطلع على معصيته وظلمه.
وقد ذكر أن رجلاً راود امرأة على الفاحشة فقالت بعد أن خلا بها: انظر هل يرانا من أحد، قال: ما يرانا إلا الكواكب، قالت له: فأين مكوكبها؟! ويذكر أن امرأة أخرى راودها رجل على الزنا، فقالت له: هل نام أهل القافلة جميعاً؟ قال: نعم، قالت له: فهل نام الله؟! {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
فأمرك حين تقترف أي ذنب دائر بين أمرين: إما أن تقول إن الله عز وجل حين أباشر هذه المعصية الصغيرة لم يرني ولم يطلع علي ولم يعلم بحالي، وأنت لو تيقنت هذا خرجت من الإسلام بالكلية ولو في فعل صغيرة، وأما إذا قلت: إني أباشر المعصية وأعلم أن الله يراني ومطلع علي، فهذا يدل على قلة الحياء.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
والمراقبة منزلة عظيمة من منازل الإحسان، وقد عرفه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، ولو أن تعظم أمر الله عز وجل كما تعظم الرجل الصالح من قومك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أن تجعل الله عز وجل أجل الناظرين إليك).(44/10)
إقامة الصلاة
السبب الثامن: قال أهل العلم عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت قرة عيني في الصلاة): إن قرة عينه هي نعيم القلب.
قال الإمام ابن القيم في (إغاثة اللهفان): الصلاة عبارة عن حركات تباشرها الجوارح، وأساسها الخشوع، والخشوع من أعمال القلوب.
كان علي زين العابدين إذا توضأ اصفر وجهه، فإذا وقف للصلاة بين يدي الله عز وجل يرتعد، ولما يسأل عن ذلك يقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف؟! فما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة في الصلاة، ولا بمثل الذل والتضرع ومد اليد إلى الله عز وجل، فهو والله النعيم الذي يحسه أهل الليل في ليلهم، فهم في لذة أعظم من أهل اللهو بلهوهم.
قال ثابت البناني: كابدت الصلاة عشرين سنة واستمتعت بها عشرين سنة.
قم في الدجى بين يدي الله عز وجل، وتحرى في قيامك الثلث الأخير؛ علك أن تصادف ساعة الإجابة فتسعد، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مؤمن يسأل الله عز وجل شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة)، فقم واسجد لله عز وجل واغسل بدموعك خدودك، وسل الله عز وجل أن يفك أسرى المأسورين من المسلمين، وأن يفرج الكرب عن المسلمين.
يذكر عن صلاح الدين الأيوبي لما حاصر الصليبيين أنه كان يطوف على الأمصار وعيناه تذرفان الدموع، ويقول: يا للإسلام! يا لعكا! وقالوا: كان يحمل الأحجار في حجره ليصلح من حصون عكا، ويحمل هماً كالجبال في صدره حزناً على الإسلام وغماً على حال المسلمين، مع أنه كان حينها قد أصيب بالدماميل في ظهره، وما كان يستطيع أن يأكل إلا وهو مستلق على بطنه من شدة الدماميل التي في ظهره، ولكن كان إذا ركب الخيل ينسى هذا كله، فكان يتعجب قاضيه ابن شداد ويقول: إنك لا تأكل إلا نائماً على بطنك، فكيف تركب الخيل؟ يقول: والله لا أحس بألمها حتى أعود مرة أخرى إلى الأرض، إنها معونة الله عز وجل.
وظل يبني الأبراج ويبني الحصون إلى أن سلم أهل عكا، بعد أن ضيق عليهم النصارى الحصار من قبل البحر، وأتت السفن تضربهم كي يستسلموا، واشترطوا على النصارى الأمان، إلا أنهم غدروا فبعد أن سلم المسلمون لهم ذبحوا 3000 صبراً، جمعوهم وذبحوهم في الصحراء، ولم يوفوا للمسلمين بأي عهد، وبكى صلاح الدين في هذا اليوم بكاء لم يبك مثله في أي يوم آخر.
وممن حمل هم الإسلام محمود زنكي، ومما يؤثر عنه أنه كان يروي الحديث بالسند، فجاء حديث أن رسول الله تبسم، وتبسم راوي الحديث الصحابي، ثم التابعي، فقالوا: تبسم حتى تكتمل السلسلة، فقال: والله إني أستحي من الله عز وجل أن يراني متبسماً والصليبيون يحاصرون دمياط، وكان الصليبيون وقتها محاصرين لدمياط، وما بنيت المنصورة إلا قلعة من قلاع الجهاد لوقف زحف الصليبيين على دمياط.
إن مما ينبغي على المسلمين بعد أن يتعلموا دينهم أن يقرءوا التاريخ الإسلامي، وأخبار المعارك الإسلامية، فإن المسلم حين يجد أن المسلمين قد وصلوا إلى قرية سينس وهي تبعد عن باريس ثلاثين كيلو متراً من جهة الجنوب، ووصلوا إلى جبال الصين، ووصلوا إلى سيبريا، سيجد الفرق الهائل بين المجد القديم لأمة الإسلام والحاضر المزري الذي أبرز صورة عجز المسلمين عن الدفاع حتى عن القدس.(44/11)
حسن الخلق
السبب التاسع: حسن الخلق، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس أحسنهم خلقاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ما أعطي الناس خلق حسن، ومن كمل إيمانه ذاق حلاوة الإيمان)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الإيمان الصبر والسماحة)، وأفضل الصبر الصبر على طاعة الله: من الإتيان لصلاة الجماعة في المسجد، والمواظبة على سماع دروس العلم، والإتيان لصلاة الفجر، والمداومة على قيام الليل، والحرص على صوم النافلة.
ويلي الصبر على طاعة الله الصبر عن معاصي الله، ثم الصبر على أقدار الله المؤلمة.
ولابد أن يعلم المسلم أن الله عز وجل أرحم بالمظلومين من المسلمين من كل المسلمين قاطبة، إن الله عز وجل اختص نفسه بتسع وتسعين من الرحمة، ثم أنزل إلى الأرض جزءاً يتراحم منه الجن والإنس والطير والهوام، والله عز وجل لا يريد للمسلمين إلا الخير، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها، وما يصيب المسلمين من أزمات لا يريد الله للناس بإصابتهم بها إلا الخير، ولعلهم أن يعودوا تدريجياً إلى دينهم، فتمتلئ المساجد، ويظهر الحجاب والنقاب واللحية وغيرها من شعائر الإسلام.
قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140]، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بأبأس أهل الدنيا من أهل الجنة -من شدد الله عز وجل عليهم في الدنيا- فيغمس في الجنة غمسة واحدة فيقال: هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا).(44/12)
أن يحب المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه
السبب العاشر: أن يحب المسلم لأخيه المسلم ما يحبه لنفسه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأحب للناس ما تحبه لنفسك تكن مؤمناً) أي: تكن مؤمناً كامل الإيمان كما فسره علماء الحديث.(44/13)
بغض الدنيا
والسبب الحادي عشر: بغض الدنيا.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس ذو القلب المحموم، واللسان الصادق، قالوا: وما القلب المحموم يا رسول الله؟ قال: هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا حسد، قالوا: فمن على أثره يا رسول الله؟ قال: الذي يشنأ الدنيا -الرجل الذي يبغض الدنيا-، قالوا: فمن على أثره يا رسول الله؟ قال: مؤمن في خلق حسن)، فالمؤمن الذي يبغض الدنيا هو الذي يذوق حلاوة الإيمان، ولذلك يقول: إبراهيم بن أدهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.(44/14)
الرجوع إلى القرآن تلاوة وتدبراً وتفهماً
السبب الثاني عشر: الرجوع إلى القرآن بتلاوته وتدبره وتفهمه، يقول الله عز وجل: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس:58]، وهذا فرح القلب: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وفضل الله ورحمته هو الإسلام والقرآن، ففرح القلوب المؤمنة بالقرآن بتلاوته وتدبره هو نعيم القلب.
يقول ابن تيمية: أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي.
لسان حاله: إن معي كتاب الله وسنة نبيه، فجنتي وبستاني في صدري.
ومن النعيم الذي يغمر قلوب المؤمنين نعيم الذكر، فما تلذذ المتنعمون بمثل ذكر الله عز وجل، ورحم الله أقواماً كان الذكر نعيمهم وعنوانهم، والقرآن نزهتهم وبستانهم وروحهم وريحانهم.(44/15)
الصدق
السبب الثالث عشر: الصدق، فمن أراد طريقاً إلى الله عز وجل فعليه باليقين بوعد الله عز وجل، فلو كان لدى المؤمنين يقين بما وعد الله عز وجل به الصالحين من النعيم والخير لتنعموا بلذة الإيمان والتصديق، وستجد من أيقن بقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة)، ملازماً لتلك العبادة قد ذاق حلاوة التصديق بما وعد الله عز وجل.
كما أنه إن وصل إلى هذه الدرجة جعلت الآخرة منه على بال، وكان الموت أحب شيء إليه؛ لأنه يقربه من الله عز وجل، بينما اليوم أصبح دين أحدهم لعقة على لسانه، يقول: أؤمن بيوم القيامة، وكذب ومالك يوم الدين! فالموت أول وارد علينا من ربنا، فكلنا نؤمن بالموت ولا نرى له مستعداً، ونؤمن بالجنة ولا نرى لها مشتاقاً، ونؤمن بالنار ولا نرى منها خائفاً، ونؤمن بلقيا الله عز وجل ولا نستعد لهذا اللقاء.
يقول الإمام العظيم ابن دقيق العيد: والله منذ أربعين سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها موقفاً بين يدي الله عز وجل.(44/16)
الجهاد في سبيل الله
السبب الرابع عشر: الجهاد في سبيل الله، فإن العبد يذوق حلاوة الإيمان إذا جاهد في سبيل الله عز وجل، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الحجرات:15]، والجهاد المراد هو الجهاد بكل أنواعه؛ جهاد الكلمة ضد الزنادقة والمارقين الذين يبغضون إلى الناس دينهم، ويزرعون الشكوك في أنفس العامة، وهذا جهاد الخاصة، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة:73]، وجهاد المنافين لا يكون إلا بالكلمة، قال الله عز وجل: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52]، فجهاد الخواص هو الدعوة إلى الله عز وجل.
قال الإمام القرطبي: والدعاء إلى الإسلام أعلى مقامات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وهنا ينبغي الحذر من الممارسات اللامسئولة التي يمارسها بعض المتحمسين باسم الجهاد والجهاد منها براء.
ويذكر عن شقيق البلخي أنه لما اصطف المسلمون مع أعدائهم للقتال قال لمن بجانبه: هذا اليوم مثل الليلة التي زفت إليك فيها امرأتك؟ قال: لا والله، هذا يوم تنزل فيه الروح، ثم قال له: أتجعل يوم بنائي على زوجتي مثل يوم الجهاد؟ قال: والله لهما سواء عندي، هذا اليوم مثل اليوم الذي زفت إلي فيه امرأتي.
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب ريح العبير لكم ونحن عبيرنا رهج السنابك والغبار الأطيب ولنا أن نتساءل أين نحن من هؤلاء الرجال؟ أين نحن من يوم من أيامهم، إن ما نبذله للإسلام لا يقاس بحافر في خيل خالد، أو بذرة غبار على وجه ابن المبارك، ولا بيوم من أيام معاذ بن جبل، ولا بيوم من أيام أبي هريرة حافظ المؤمنين في الحديث، وقد كان ينادي في قبيلته دوس: أتفرون من الجنة؟ أتهربون من الحور العين؟! ولا بيوم من أيام أبي سفيان وهو يصيح في يوم اليرموك: يا نصر الله اقترب، أين نحن من نصر الله عز وجل، ولا بيوم من أيام عكرمة بن أبي جهل وهو يقول: من يبايع على الموت؟ فيقول له خالد: أبقنا لنفسك يا أبا عمرو، يقول: إليك عني يا خالد، لقد قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مكان، أفأفر اليوم عن الجنة؟! اللهم أكرمنا بالشهادة في سبيلك اللهم اهد حكام المسلمين، وارجعهم إلى دينك، اللهم ائذن لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين.
وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
اللهم اشف مرضى المسلمين، اللهم ارحم موتى المسلمين.
اللهم عليك بالظالمين من الكافرين والملحدين، اللهم وارحم شهداء المسلمين في كل مكان، واحم أعراض نساء المسلمين في كل مكان، وارحم أطفال المسلمين في كل مكان، واحفظ دماء المسلمين في كل مكان، ووفر الأمن لبلاد المسلمين في كل مكان.
اللهم أقبل بشباب المسلمين على كتابك وعلى سنة نبيك، اللهم احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت فينا أعداء حاسدين.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان، اللهم إنك ملك الملوك تقدر ولا يقدر غيرك، وتملك ولا يملك غيرك، اللهم ارحمهم، اللهم احم أعراضهم، اللهم احفظ أموالهم، واحفظ أولادهم، واحفظ شيوخهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله على محمد، وعلى آله الطاهرين.(44/17)
شذا الريحان بذكر جنة الرحمن
الجنة دار الخلود، والفرح والسعود، لا يحصل عليها من أدمن القعود، وظل راكداً في ميادين الركود، وهي دار صفاء ونقاء، وجمال وكمال، فيها ما لم تره الأعين، ولم تسمعه الآذان، وفيها من شتى الفواكه لذيذة المذاق جميلة الألوان، وفيها الحور الحسان، وفيها راحة الجسد والأبدان، فهنيئاً لمن جعل الجنة نصب عينيه فجد واجتهد، وعمل وكد، وما نام ولا رقد، وشمر عن ساعد الاجتهاد والجد.(45/1)
شوق جنة الرحمن إلى أولياء الرحمن
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير من ما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: حديثنا اليوم بعون الله وتوفيقه سيكون بعنوان: شذا الريحان بذكر جنة الرحمن.
هذه الدار التي دندن حولها رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة بقوله للصحابي الجليل: (حولها ندندن).
هذه الدار التي ارتضاها الله مأوى لعباده الصالحين، هذه الدار التي غرس الله غراسها بيده، كما قال ابن عمر: إن الله عز وجل خلق جنة عدن بيده كما خلق آدم بيده، وخلق العرش بيده، وخلق القلم بيده، وخلق باقي الكائنات بكلمة كن.
فالله عز وجل خلق الجنة بيده، فرحم الله أقواماً علموا أن الرحمن غرسها بيده، فحنوا إلى ما غرسه.
خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته وأقبل مقبض بابه خذني إلى وطني أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه نحن اعتصرنا غيم كل طرائق الدنيا وأشعار الحنين إلى الوطن لا ماؤها يروي ولا أشعارها تكوي ولا تنسي عدن(45/2)
نماذج من الصحابة اشتاقت إلى الجنة
هذه الدار التي اشتاق إليها الصالحون، فهذا عمير بن الحمام الصحابي الجليل سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فقال: بخ بخ، قال: ما حملك على أن تقول هذا؟ قال: والله يا رسول الله! ما قلت ذلك إلا رجاء أن أكون من أهلها، قال: فإنك من أهلها، فأخرج تمرات من قرنه جعل يأكل منهن ثم ألقاها وقال: إنها لحياة طويلة إن مكثت حتى آكل تمراتي هذه، وقاتل حتى قتل).
إنها الدار التي اشتاق إليها حرام بن ملحان في يوم بئر معونة لما طعن وسال الدم على رأسه وقال: فزت ورب الكعبة.
وهذا عامر بن فهيرة راعي أغنامٍ لـ أبي بكر الصديق، لما طعنه الجبار بن أبي سلمى يوم بئر معونة قال: فزت ورب الكعبة، فقال الجبار قاتله: بماذا فاز؟ قالوا: بالجنة، قال: فرأيت رجالاً يذهبون به في السماء علواً حتى كانت السماء بيني وبينه، ثم أسلم جبار في الحال.
هذه الدار التي قال عنها جعفر الطيار: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها هذه الدار التي شم رائحتها أنس بن النضر رضي الله عنه لما خرج لغزوة أحد فقال له سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟ قال: إليك عني يا سعد بن معاذ! والله إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد.(45/3)
نفحات من نعيم الجنة
فلو أنك مررت على قصر لرجل عظيم من أبناء الدنيا، وزرع حول هذا القصر ريحاناً ونباتاً طيباً، فإنك تشم رائحة هذا القصر على مسافة كيلو متر أو نصف كيلو متر، ولكن الجنة رائحتها كما جاء في الحديث الصحيح تشم من مسيرة خمسمائة عام.
فما ظنك بالعطر في نواحيها وبالطيب في أرجائها، قال الله تبارك وتعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد:6] قال ابن عباس: عرفها لهم أي: طيبها لهم، والعرف: هو الطيب.
هذه الجنة عرضها كعرض السماء والأرض، فلو كنت بعيداً عن الديار ومعك العنوان ورقم الشارع، وقد تضل الطريق، فما ظنك بجنة عرضها السماوات والأرض؟ ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده! لأحدهم أعرف بقصره من منزله في دار الدنيا).
بل إن هذه الدار تقرب كرامة لصاحبها على الله عز وجل، يقول تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] يعني: قربت.
قال الله عز وجل: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11] ولم يقل هنا: أولئك المتقربون، وإنما قال: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:11] أي: المحمولون على العناية والرعاية الكاملتين.
الجنة دار الطيبين، نعيم لا ينفد، ولا عهد للناس به في دار الدنيا، فلو أن واحداً فرش بيته ورفع الحصير وجاء بالسجاد الإيراني، فإنه نعيم صامت لا يتكلم، ولكن المولى عز وجل يزين الجنة ثم يأمرها أن تتكلم فتقول: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1].
وإن من نعيم الجنة الذي يتكلم أن تمر سحابة فتقول: ماذا أمطركم؟ يقول يحيى بن أبي كثير: أشهد الله أن لو أراني هذا الموقف لأمرت السحابة أن تمطر علينا حور عين.
وإذا عاب الناس قول من قال: اللهم ما عبدتك رغبةً في جنتك، وهذا القول قول منسوب إلى رابعة، وهو غير صحيح، لأن الكاملة من النساء آسية زوج فرعون طلبت الجنة، فكيف لا تطلبها رابعة وهي أقل قدراً منها؟ قال تعالى: {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11].
والله عز وجل لا يرى إلا في الجنة فكيف لا تطلبها رابعة وقد طلبها من هو أكمل منها وأفضل؟(45/4)
ذكر ما جاء في سوق أهل الجنة وتحقيق أمنياتهم
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن رجلاً من أهل الجنة استأذن ربه في الزرع فقال له: ألست فيما شئت؟ قال: بلى، ولكن أحب أن أزرع.
فبذر فبادر الطرف نباته واستواؤه واستحصاده فكان أمثال الجبال) زرع وفي لحظة استوى النبات فكان كأمثال الجبال (فيقول الله: دونك يا ابن آدم، فإنه لا يشبعك شيء).
فقال أعرابي كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول هذا: (والله لا تجده إلا قرشياً أو أنصارياً فإنهم أصحاب زرع، فأما نحن فلسنا بأصحاب زرع، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة لسوقاً يأتونها كل جمعة فيها كثبان المسك -فيها جبال من مسك- فتهب ريح الشمال فتحثو في وجوههم وثيابهم فيزدادون حسناً وجمالاً).
فهل هناك أحد يخرج إلى سوق الدنيا ويرجع منه وقد زاد حسناً؟ لكن أهل الجنة يزدادون حسناً وجمالاً (فيرجعون إلى أهليهم وقد ازدادوا حسناً وجمالاً، فيقول لهم أهلهم: والله! لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً، فيقولون: وأنتم والله! لقد ازددتم بعدنا حسناً وجمالاً).(45/5)
ذكر خطيب أهل الجنة وتلذذهم برؤية وجه الله الكريم
وأهل النار خطيبهم الشيطان، أما أهل الجنة فخطيبهم داود عليه السلام، يقول الله تبارك وتعالى لداود: (يا داود! مجدني كما كنت تمجدني في الدنيا)، إن نبي الله داود كان يسبح الله في الدنيا وتسبح الجبال معه والطير، أما في الجنة فإن نبي الله داود ينصب له منبر من لؤلؤ أو من نور، فإذا تلا داود القرآن أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، فكيف إذا سمعوه من الملك العلام؟ وإنك حين تستمع للمنشاوي وهو يرتل فإنك تنسى نفسك، فكيف إذا سمعوه من داود عليه السلام؟ وكيف إذا سمعوه من الملك العلام؟ وهناك في الجنة يوم يشبه يوم الجمعة من أيام الدنيا يزورون فيه الله عز وجل، يأتي الملك فيقول: يا ولي الله! إن ربك يستأذنك في زيارتك، فيسيرون إليه، منهم من يجلس على كثبان اللؤلؤ، ومنهم من يجلس على كثبان المسك، ومنهم من يجلس على منابر من نور أمام عرش الرحمن، فيقول لهم الله عز وجل: (يا عبادي! ألكم حاجة؟ يقولون: كيف يا رب! ألم تبيض وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتغفر ذنوبنا، وتدخلنا الجنة؟ فيقول لهم الله عز وجل: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً، فترفع الحجب فينظرون إلى مولاهم وينظر مولاهم إليهم، فما أعطي أهل الجنة شيئاً ألذ من النظر إلى وجه الله الكريم).
فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وحي على روضاتها ورياضها وحي على عيش بها لا يسأم فلله أبصار ترى الله جهرة فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم فيا مسرعين السير بالله ربكم قفوا بي على تلك الربوع وسلموا وقولوا: محب قاده الشوق نحوكم قضى عمره فيكم تعيشوا وتسلموا أحبتنا عطفاً علينا فإننا بنا ظمأ والمورد العذب أنتم وحبكم أصل الهدى ومداره عليه وفوز للمحب ومغنم وتفنى عظام الصب بعد مماته وأشواق وقف عليه محرم(45/6)
ذكر غناء أهل الجنة والتمتع بالحور العين
وإن من النعيم في الجنة أن يسير الرجل تحت أشجار من ذهب مغروسة في أرض من فضة، تسقى بخمر ولبن وعسل، ثم تهب عليها الريح من المسك فتميل أغصان هذه الأشجار، وتغني الحور الحسان تحت هذه الأشجار فما يدري الرجل أيهن أشد حسناً.
قال الإمام ابن القيم: قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان يا حسن ذياك السماع وطيبه من مثل أقمار على أغصان والشمس تجري في محاسن وجهها والليل تحت ذوائب الأغصان فيظل يعجب وهو موضع ذاك من ليل وشمس كيف يجتمعان وكذاك فسر شغلهم في سورة من بعد فاطر يا أخا العرفان قوله: من بعد فاطر يعني: سورة يس قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} [يس:55] قال العلماء: مشغولون بفض الأبكار، يؤتى الرجل قوة مائة في الأكل والشراب والجماع.(45/7)
النعيم الروحي لأهل الجنة
هل هناك نعيم روحي لأهل الجنة؟ فقد قال الله عز وجل: {فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة:38] فمن النعيم الروحي الأمن أي: لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ولا خزي فيها أيضاً، قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم:8].
والجنة رحمة قال تعالى في الحديث القدسي: (أنتِ رحمتي أرحم بكِ من أشاء)، وقال تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107].
والجنة حب وود قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر:47].
والصور جميلة قال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس:38] يعني: نيرة جميلة.
{ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:39].
تضيء بالسعادة وجوههم قال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107].
يسعون إلى الجنة ومعهم النور قال تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد:12].
قد جاوروا النبيين: {مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وهم في صحبة أسرهم وأصدقائهم: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} [الرعد:23].
يقربهم الله عز وجل، ونعيم القرب من الله عز وجل ليس كأي نعيم ثانٍ: {أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:11] ويجعلهم في عليين، ويثيبهم من رضوانه.
قال الله عز وجل: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ} [الغاشية:9] يعني: فرحين بما قدموا راضين عن جزاء الله عز وجل، راضين عن أنفسهم، يرددون دائماً: الحمد لله الذي صدقنا وعده، الحمد لله الذي هدانا لهذا، ليس لهم عند التسليم {إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:26].
هي دار السلام دعواهم فيها التسبيح: {سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ} [يونس:10].
يسمعون صوت داود وصوت ربهم وصوت غناء الحور الحسان: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46].
والجنة فسيحة، قال الله عز وجل: {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر:74] فيا بائعاً هذا ببخس معجل! ارجع وعد إلى هذه الدار، واجعل كل همك أن تحصل عليها.
إن رحمة الله عز وجل عرضها السماوات والأرض، فإياك إياك ألا يكون لك قدم فيها، لمثل هذه الجنة فاعمل، لمثل هذه الدار فانشط وكد واتعب، إن من فارق الراحة وجد الراحة.
يا ابن الإسلام! من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد.
إذا قال لك الكسالى والبطالون: هلم إلى الدنيا فقل: ما عند الله عز وجل أعظم وأجل، إنما خلقنا لجوار الرحمن، للدار التي ارتضاها الرحمن مكافأةً لعباده، نسأل الله عز وجل أن يدخلنا هذه الجنة، فإن دخول الجنة محض منٍّ وكرم وفضل من الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لن ينجو أحد منكم من النار بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته).
قال تعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61]، وقال: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
لو أن رجلاً سمع برجل هو أرفع إلى الله منه، فمات ذلك الرجل غماً، ما كان ذلك بكثير على من يريد أن يرث الفردوس، فلا تقلبوا الأمر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(45/8)
حال آخر من يخرج من النار إلى الجنة ووصف ثمار وفواكه الجنة
وأما آخر من يدخل الجنة وآخر من يخرج من النار لا يخرج من النار إلا حبواً كما جاء في الحديث الصحيح: (يا رب! اصرف وجهي عن النار، لا أسألك شيئاً غير ذلك، فيأخذ عليه الله العهد والميثاق ألا يسأله شيئاً غير ذلك، ثم يمثل له شجرة ذات ظل فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة لا تجعلني أشقى خلقك، فيقول: ما أغدرك يا ابن آدم! ألم آخذ عليك العهد والميثاق ألا تسألني شيئاً غيره؟ ويعذره الله عز وجل؛ لأنه يرى ما لا صبر له عليه، ثم يمثل له شجرة ذات ظل فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكون في ظلها وآكل من ثمرها فيقربه، ثم يمثل له شجرة ذات ظل وثمر وماء فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكون في ظلها وآكل من ثمرها وأشرب من مائها فيقربه، فيرى أهل الجنة فيقول: يا رب! أدخلني الجنة فيدخل الجنة، فإذا دخل الجنة قال: هذا لي وهذا لي وهذا لي، فيمنيه الله عز وجل: تمن من كذا وتمن من كذا وتمن من كذا، ثم يقول له: ولك عشر أمثال الدنيا من يوم خلقتها إلى يوم أفنيها، فيقول: أتسخر بي وأنت الملك؟)، هذا أقل وآخر رجل يدخل الجنة.
فبعد أن نزل الناس منازلهم، يكون هذا الملك العظيم لأقل رجل يدخل الجنة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من شجرة في الجنة وإلا وساقها من خالص الذهب).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة).
فيا أخي المسلم! سبح الله كثيراً، فإن هذا الحديث صحيح، وهذه هي وصية إبراهيم عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله) فلماذا ضيعنا وصية الخليل في زحمة الدنيا ووسط التكالب عليها؟ قال ابن عباس: نخل الجنة أصوله من خالص الذهب.
وسعفها خيام أهل الجنة، ثمرها أشد بياضاً من الثلج، أحلى مذاقاً من العسل ليس فيه نوى، يغرس في أرض من فضة، ويسقى بخمر ولبن وعسل وماء.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ولا ينتهي ظلها).
قال الله عز وجل: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة:30].
وإن هذه الشجرة يخرج منها ثياب أهل الجنة جميعاً.
ويقول سبحانه: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة:27 - 28] أي: شجر منزوع الشوك منه مليء بالثمار حتى يكون على الأشجار سبعين لوناً من الثمار، ما فيهن واحد يشبه لونه لون الآخر.
ويقول تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة:29] والطلح: إما شجر نزع شوكه، قد تجمعت ثماره في سباطة تجميع النور، أو شجر النوار الحلو الرائحة الذي في البادية.
بشرها دليلها وقال غداً ترين الطلح والجبال ويقول تعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة:31 - 33] كان أحد الصالحين إذا مر بسوق الفاكهة ولا يستطيع شراء الفاكهة يقول: السلام عليكِ، أما فاكهة الجنة فليست بالمقطوعة ولا بالممنوعة، قال الله سبحانه: {وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن:54].
ويقول سبحانه: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان:14] أي: تميل عليه الشجرة حتى يأكل منها مستلقياً، ويأكل منها جالساً، ويأكل منها قائماً.
فاكهة الدنيا مقطوعة وممنوعة، أما فاكهة الآخرة فليست بالمقطوعة ولا بالممنوعة: {وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة:25] والطعم غير الطعم والرائحة غير الرائحة، لا عهد لهم به في دار الدنيا.(45/9)
وصف أرائك الجنة وخدامها وولدانها
قال الله تبارك وتعالى عن أرائك أهل الجنة: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:54] البطانة: الحشو.
فإذا كانت البطائن من إستبرق، فمم تكون ظواهرها؟ قال مالك بن دينار: من نور جامد.
وقال سفيان الثوري: من نور يتلألأ.
وعلى هذا الإستبرق تجلس الخيرات الحسان، فهي خيرة جمعت بين حسن الخلق وبين حسن الخلقة.
{وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة:22] يقال للمرأة: إنها حوراء إذا كانت شديدة بياض العين شديدة سوادها، يعني: أن عينها كعين المها، يقال لعين المها أو عين البقرة الوحشية؛ لأنها شديدة اتساع الحدقة، وهذه المرأة تمتاز بميزة كما قال تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [النبأ:33].
وقال: {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37] والعرب: جمع عروب، والعروب: هي المرأة التي تحسن تدليل زوجها، يعني: إذا تعب زوجها تحسن تدليله في الفراش، هذا بالنسبة للأسرة.
أما ارتفاع السرير فقد قال سفيان الثوري: قدر ثمانين عاماً ليشرف على أعلى ملكه.
وفي الحديث الصحيح؛ حديث عبد الله بن مسعود، الذي رواه الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد في كتابه السنة: (آخر من يدخل الجنة يرى قصراً من در أبيض فيسجد له، فيقال: مه، ارفع رأسك، يقول: كأنما رأيت ربي أو تراءى لي ربي، فيقال: إنما هذا قصر من قصورك.
فما ظنك بالجنة؟! ثم يمشي في الجنة فيرى رجلاً فيهم بالسجود له، فيقول: مه ارفع رأسك، فيقول: كأنك ملك من الجنة، يقول: لا، إنما أنا قهرمانك -يعني: أنا خادمك- تحت يدي ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه).
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي وجاء في الحديث أن الرجل يعرض عن زوجته ثم ينظر إليها فتزداد في عينيه سبعين ضعفاً ويزداد في عينيها سبعين ضعفاً، والحديث صححه الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام المنذري والإمام الذهبي رحمهم الله.
هذا بعض نعيم أهل الجنة قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ} [المرسلات:41] يفجر الرجل نبع الماء، كما قال الله عز وجل: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان:6].
فأينما أراد تفجير نبع ماء تفجر، وفي أي أرض حل من أرض الجنة تخرج له العين النضاحة والعين الفوارة أي: العين الجارية، وكلاهما منظر للعين حسن.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أهل الجنة مائة وعشرون صفاً، أمتي منهم ثمانون صفاً) وباقي الأمم أربعين صفاً، وأمة النبي صلى الله عليه وسلم ثلثي أهل الجنة.
يا من أراد الله تبارك وتعالى لك الرفعة! {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] إن القرآن رفعة لهذه الأمة كما يقول الشاعر: إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها يا من أراد الله لك الرفعة حين تدخل الجنة! قال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].
وليس الملائكة فقط، بل المولى عز وجل، قال تعالى: {لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2].
وقال تعالى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55]، وقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} [الأحزاب:44].
{سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].
فالمولى عز وجل هو الذي يسلم على أهل الجنة، كما تسلم عليهم الملائكة ولا يسمعون فيها إلا السلام، والكلام الذي لا لغو فيه ولا تأثيم، قال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26].
واعلم أن ملك الجنة ليس له حدود، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان:20].
زوارك فيها أنبياء الله عز وجل، والطوافون عليك فيها الولدان المخلدون: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنثُورًا} [الإنسان:19] أي: في جمال اللؤلؤ المكنون والمنثور.
هذا الخادم فما ظنك بالمخدوم؟(45/10)
وصف أرض الجنة
والجنة طيبة التربة فهي ذات متاع حسي وروحي.
وكم سنة من عمرك تنفق على أرض الجنة هذه؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرض الجنة مسك خالص).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تربتها الزعفران).
وقال ابن عباس: أرض الجنة من مرمرة بيضاء، من فضة كأنها المرآة، ليست كفضة الدنيا، فإن فضة الدنيا لا تستطيع أن ترى ما بداخلها، أما فضة الجنة فهي أرض من مرمرة بيضاء في صفاء القوارير.
إذاً: أرض الجنة مسك وزعفران وفضة، سبحان مثبت العقول، فبكم تشتري هذه الأرض؟! والله! لو كانت الدنيا ذهباً يفنى، والآخرة خزفاً يبقى، لكانت الآخرة أحق بالعمل لأنها تبقى.
إنَّ الدنيا لا تساوي نقل أقدامك إليها فكيف تعدو خلفها؟ الدنيا لعب ولهو وزينة، والرجل العاقل لا يشتغل باللهو وإنما يتركه للصغار فهما لا يليقان بالكبار.
فإذا صار عمر الرجل أربعين سنة فإن الدنيا لا تليق به، فكيف نجري خلفها وهي جيفة لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ألا نصدق قول رسولنا صلى الله عليه وسلم وهو أصدق من نطق: (الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة).
يكفيك من هوان الدنيا على الله عز وجل أن عذب أنبياؤه وذبح وقتل من أنبيائه فيها.(45/11)
وصف قصور الجنة وخيامها
تعال إلى الجنة وتطلع إلى الأفق، وانظر إلى الخلود مع الله عز وجل في دار رضوانه، إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في قصور الجنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لبنة من فضة ولبنة من ذهب).
وقد قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من الدنيا في الآخرة إلا الأسماء).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم عن قصور الجنة: (لبنة من فضة ولبنة من ذهب وملاطها المسك الأذفر) يعني: المسك الشديد الرائحة.
ويقول: (سقفها نور عرش الرحمن) هذا عن القصور.
أما خيامها فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للعبد المؤمن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة طولها ستون ميلاً) يعني: تسعين كيلو متراً.
قال: (فيها أزواج لا يرى بعضهم بعضاً) وخيام الجنة تضرب على شواطئ أنهار الجنة.(45/12)
وصف أنهار الجنة والحور العين
أما من أين تفجر الأنهار؟ ومجراها يكون على ماذا؟ فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (الجنة مائة درجة ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، أوسطها وأعلاها الفردوس، ومنه تفجر أنهار الجنة).
فأنهار الجنة آتية من على بعد مائة عام من السماء، ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، فخمسمائة في مائة بخمسين ألف سنة.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الذين في أرض الجنة) يعني: في أقل درجات الجنة (لينظرون إلى أهل الغرف سكنى كما تنظرون أنتم إلى النجم الغابر في الأفق لتفاضل ما بينهم).
أما قال الله عز وجل: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21]، أما ترى أهل الدنيا غرقى في النعيم فما ظنك بالآخرة؟ {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء:21].
وهذه الأنهار تجري على مسيرة خمسين ألف سنة من أعلى، ثم تنزل تحت القصور، وهذا معنى قوله: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [البقرة:25] ثم تصعد مرة ثانية إلى أهل الغرف.
فلو أن عندك نبع ماء يجري فإنه يتبعثر ولن تنتفع به، لكن أنهار الجنة قال الله تبارك وتعالى عنها: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31] قال أنس: تجري في غير ما أخدود تجري فيه، أي: ليس لها أخدود تجري فيه.
فسبحان مثبت العقول.
(أمسك الله حافتيها بقباب اللؤلؤ المجوف)، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومجرى هذه الأنهار ليس على الطين، وإنما على المسك الأذفر، قال مجاهد: تخرج الحور العين إلى شواطئ أنهار الجنة فيغنين، فيخرج إليهن أولياء الله عز وجل، فإذا أعجب الرجل منهن بواحدة لمسها بمعصمه فتتبعه، فتنبت مكانها من النهر جارية أخرى، فأنهار الجنة تنبت الأبكار لا تنبت الحشائش.
لبن وعسل وخمر وماء؛ لبن لم يحلب من الأبقار، وعسل لم يجن من الأزهار، وخمر لم يعصر بيد الخمار، وإنما يجري على رضراض الأنهار برحمة العزيز الغفار.
في هذه الأنهار طيور كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أعناقها كأعناق البخت) أي: مثل أعناق الجمال الخراسانية.
فقال سيدنا عمر: (ما أنعمها يا رسول الله! قال: أكلتها أنعم منها)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول طعام يأكله أهل الجنة زيادة كبد الحوت).
قلنا: إن في الجنة خمراً ولكن ليس كخمر الدنيا تغتال العقول، وإنما خمر لذة للشاربين، لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون، إنما يجتمعون حولها، فلا تزيدهم إلا صحواً، رائحتها كرائحة المسك.
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي والحور العين هن أزواج أهل الجنة، قال الله عز وجل: {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان:54] قال العلماء: الباء زائدة هنا من الناحية البلاغية تفيد أن الزواج ليس زواجاً حقيقياً، وإنما الحور العين تقوم بمثابة ملك اليمين، أي: بمثابة الخادمة، وزوجتك من بنات الدنيا تكون بمثابة السيدة لها؛ لأن أماكن الوضوء لها تشع نوراً يوم القيامة.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم عن الحور العين: (أدنى لؤلؤة في تاجها تضيء ما بين المشرق والمغرب).
لو تعثرت لتزين لها ما بين الخافقين، لو برز بنانها لأذهب ضوء الشمس والقمر، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: (ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقاب قوسين أو موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها).
وفي رواية: (خير مما بين السماء والأرض).
ولقد صورهن القرآن بأجمل وصف حسي، إذ من الممكن أن ينظر الرجل إلى وجه المرأة فيرى وجهه في صفحة خدها، وينظر الرجل فيرى مخ ساقها من خلف سبعين ثوباً من إستبرق لشفافية لونها.
قد يقول لك شخص: أنا عشت طوال حياتي لا أسمع غناءً، وأنزه سمعي عن هذا اللغو الباطل، لكن في الآخرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الحور العين لتغنين في الجنة يقلن: نحن الحور الحسان خبئنا لأزواج كرام).
وكما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أزواج أهل الجنة ليغنين أزواجهن بأحسن أصوات ما سمعها أحد قط، إن مما يغنين: نحن الخيرات الحسان، أزواج قوم كرام ينظرن بقرة أعيان.
وإن مما يغنين به: نحن الخالدات فلا يمتن، نحن الآمنات فلا يخفن، نحن المقيمات فلا يطعن).
هذا غناء الطاهرات، تقول لزوجها: طال اشتياقي إليك يا ولي الله!(45/13)
آثار الذنوب والمعاصي
إن للذنوب والمعاصي آثاراً على الفرد والمجتمع في الدنيا، حيث يعم البلاء، وينزل العقاب، وتفسد الأرض وتتغير بشؤم معصية بني آدم.
وللمعصية آثار على الفرد في أخراه من وقت سكرات الموت، ومعاينته لملائكة العذاب، حتى يصل إلى جهنم فيقذف فيها حقيراً مهيناً ذليلاً، فيأتيه من حرها وزقومها وزمهريرها وحميمها ما لا تستوعبه العقول، ويعذب خالداً مخلداً فيها بسبب جنايته على نفسه، وإعراضه عن طاعة ربه سبحانه وتعالى!(46/1)
شتان بين الفريقين: الصالح والطالح
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
أما بعد: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كما لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينزل الفجار منازل الأبرار)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده)، كما لا تستوي الظلمات ولا النور، ولا الظل ولا الحرور، وكما لا يستوي الأحياء ولا الأموات؛ فلا يستوي في ميزان الله عز وجل من أقبل على الله عز وجل ومن أعرض عنه.
أفمن بقي مع الله عز وجل كمن أعرض عن الله عز وجل؟! أفمن رغب إلى الله عز وجل كمن رغب عن الله عز وجل؟! لا يستويان ولا يلتقيان.
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي فإما أن تكون في معية الله عز وجل، وإما أن تكون ولياً للشيطان، فإياك أن تكون ولياً للشيطان في السر عدواً له في العلانية! يقول الشاعر: عباد أعرضوا عنا بلا جرم ولا معنى أساءوا ظنهم فينا فهلا أحسنوا الظنا فإن خانوا فما خنا وإن عادوا فقد عدنا وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى فإذا كان هذا قول مخلوق لمخلوق فما ظنك ببعد العاصي عن الله عز وجل! قال الحسن البصري: هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم.
يقول الشاعر: أيها المعرض عنا إن إعراضك منا لو أردناك جعلنا كل ما فيك يردنا ويقول الآخر: يا أيها الماء المهين من الذي سواك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاك ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جميعها أنجاك ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي بظهوره أعلاك ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساك فإما العز مع الله عز وجل، مع ملك الملوك الذي له ملك الدنيا والآخرة، وله ملك السموات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإما الخزي والعار والشنار! ألم يقل الله عز وجل: {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر:5]؟! ألم يقل الله عز وجل: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]؟! ألم يقل الله تبارك وتعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]؟! ألم يقل الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النحل:104]؟! ألم يقل الله عز وجل: {وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]؟ ألم يقل الله عز وجل: {فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:23]؟! ألم يقل الله عز وجل: {نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19]؟! ألم يقل الله عز وجل: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف:36 - 38]؟! قال ابن عباس رضي الله عنهما: إن للسيئة سواداً في الوجه، وضيقاً في الرزق، وبغضاً في قلوب الخلق.
وجاء رجل إلى الحسن البصري فقال له: أشكو إليك قسوة قلبي، قال: أذبه بالذكر.
وإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنس وجاء رجل إلى أحد الصالحين فقال له: قد مات اليوم عزي وسندي، مات ابن عم لي، وكان ممن تولى منصباً رفيعاً في الدنيا، قال: فلم جعلت عزك إلى من يموت؟! واجعل بربك كل عزك يستقر ويثبت فإن اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت(46/2)
أثر المعصية وشؤمها على غير العاصي
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بجنازة: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: أما العبد المؤمن فيستريح من نصب الدنيا وتعبها إلى سعة رحمة الله عز وجل، وأما العبد الكافر أو الفاسق فتستريح منه البلاد والعباد، والشجر والدواب)، فحتى الجماد يحس بوطأة الفاسق، وبوطأة العاصي، وأن بقاءه في الدنيا حرب على أهل الأرض.
وجاء في الأثر: أن عقارب الأرض وهوامها تقول: لعن الله ابن آدم؛ منعنا القطر بشؤم معصيته! فهذا العاصي تجده هيناً ذليلاً عند أهله، بل عند الدواب التي يملكها، كما قال أحد عباد السلف: إني لأعصي الله فأجد ذلك في خلق دابتي وامرأتي.
فيعصي الله عز وجل فيجد آثار المعصية عندما يركب إبله فيجدها تعصيه وتتمرد عليه، ويعود إلى البيت فترفع زوجته صوتها عليه، فهو ذليل عند أهله، وذليل حتى عند الحيوانات.
وشؤم المعصية يؤثر في حياة الإنسان ولو بعد آلاف السنين، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بديار ثمود نزح الصحابة الماء وعجنوا به العجين؛ حتى يصنعوا منه الخبز، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يلقوا هذا العجين للنواضح، وهي الإبل التي كانوا يسقون عليها الناس، فعافتها ورفضت أن تأكل من هذا العجين إلا جمل واحد كان أقواهن، فأكل فصار أضعفهن بشؤم المعصية، فقد أثر الماء الذي في الآبار عليه بعد مرور آلاف الأعوام من موت قوم ثمود، وهذا واضح جلي في السيرة.
والمولى عز وجل نعت الظالم بأبشع النعوت في القرآن الكريم، نعته بأن له أغراضاً كبيرة في كل شيء، يقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225]، ونعته بأن قوله يناقض فعله: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:226]، وأنه مرتبط بالأرض ولا يتطلع إلى أفق السماء، وإنما كل ارتباطه وكل همه ملذات الأرض وشهواتها.
والدنيا تصمه عما سوى الباطل، وتعميه عن ذكر الله، وذكر الناس فاكهته وقوته، فينادى إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة فلا يجيب النداء، هذا قبر يسعى إلى قبور مثله، ومريض يقوده مثله، فإذا ابتليت بمثل هذا الرجل فأعطه ظاهرك، وترحل عنه بقلبك، فهذا قاطع طريق عن الله عز وجل وعن الدار الآخرة، وقطاع الطريق عن الله عز وجل وعن الدار الآخرة أشد من قطاع الطريق في دار الدنيا؛ لأن الذي يقطع عليك الطريق في دار الدنيا يأخذ مالك، لكن قاطع الطريق عن الله عز وجل وعن الدار الآخرة يأخذ رأس تجارتك مع الله عز وجل، ويأخذ وقتك.
ولذلك تلقى السارق بالنسبة للآخرة حاله عجيب جداً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أسرق الناس من يسرق من صلاته)، فقد تجد سارقاً يسرق أباه أو أخاه أو أمه أو عمه، لكن هل لقيت سارقاً يسرق نفسه؟! لا يوجد أبداً إلا الذي يسرق من صلاته، والعاصي هو الذي يسرق من صلاته، وهذا شيء عجيب وفريد! فالذي يرتبط بالأرض يكون همه فقط ما يأكله، فليس له هم إلا الطعام والشراب والثياب واللباس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة)، فمن كان همه ما يأكله فقط ولا يتصور أنه أتى إلى الدنيا إلا من أجل الأكل فقط فقيمته ما يخرجه! والذي يرتبط بالأرض قال الله عز وجل عنه: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} [الأعراف:176]، فهو مرتبط بالأرض ولا يستطيع أن يرفع نفسه إلى السماء! إذا أنت غمت عليك السماء وظلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها(46/3)
دناسة قلب العاصي، والعقوبات المضروبة عليه
العاصي لله عز وجل قلبه دنس، يقول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} [المائدة:41]، إذاً فقلوبهم دنسة وقاسية، وعجباً للناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (وما فشت الفاحشة في قوم قط إلا ابتلوا بالأوجاع - يعني: الأمراض - التي لم تكن في أسلافهم من قبل) والحديث حديث صحيح.
(وما فشت الفاحشة) أي: الزنا، (في قوم قط إلا ابتلوا بالأوجاع التي لم تكن في أسلافهم من قبل) والواقع خير شاهد.
وأنا كطبيب بشري في البكالوريوس أدخلونا متحف البتول فرأينا عينات من الأمراض، أقسم بالله - وأنا غير مبالغ - أنني رأيت حصوة في كلية رجل نزعها الأطباء ووضعوها في المتحف أقسم بالله أنها لا تقل عن حجر كبير كالذي يبنى به البيت، ولا أدري كيف نزعت من كلية هذا الرجل؟! شيء عجيب! وهناك أنواع السرطانات في كل نواحي الجسد، وخاصة أن السرطان يتنقل في أكثر من مكان، فهناك أشياء عجيبة! وتجد مثلاً: الرجل الذي يديم شرب الدخان لو اطلعت على رئته لرأيتها أشد سواداً من القار، فإذا كان هذا تأثير المعاصي في جسد الإنسان فما ظنك بتأثير المعاصي في قلب الإنسان؟! إن المتتبع لآيات القرآن الكريم يجد أن الله عز وجل ضرب على القلب أكثر من ثلاثين مرضاً، وأكثر من ثلاثين عقوبة ذكرها الله عز وجل، فذكر الختم، قال تعالى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة:7].
وذكر الله عز وجل الأكنة، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ} [الأنعام:25].
وذكر الله عز وجل الغطاء، قال تعالى: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} [الكهف:101].
وذكر الله الغلاف، فقال تعالى: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88].
وذكر الله عز وجل الحجاب، قال تعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا} [الإسراء:45].
وذكر الله عز وجل الوقر والغشاوة والران، قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين:14].
وذكر الله الغل، قال تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ} [يس:7 - 8] أي: في قلوبهم أغلالاً.
وذكر الله عز وجل السد، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} [يس:9].
وذكر القفل على القلب، قال تعالى: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد:24].
وذكر الصمم والبكم والعمى، قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46].
وذكر الصد والشد والإغفال، قال تعالى: {وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف:28].
وذكر تقليب الأفئدة، قال تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110].
وذكر الحول بين المرء وقلبه، وذكر إزاغة القلوب، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف:5].
وذكر الإركاس والتزيين، وإماتة القلب، وجعل القلب قاسياً، فهذه ثلاثون مرضاً، فممكن أن يكون القلب منكساً، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يأتي زمان على الناس يصبح المعروف فيه منكراً، والمنكر فيه معروفاً)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان يصدق فيه الكاذب، ويكذب فيه الصادق، ويؤتمن فيه الخائن، ويخون فيه الأمين، وينطق فيه الرويبضة).(46/4)
حال العاصي عند الموت وفي القبر
إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه، فإذا كان عند الموت - وما أدراك ما سكرات الموت! هذه اللحظة التي يتغافل عنها ويتناساها كثير من الناس - وأقبل ملك الموت: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:27]، وتبدلت بعد الحركات السكون، فهذه اللحظة شديدة قاسية على الظالمين، قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93]، قال الإمام ابن كثير: أي: باسطوا أيديهم بالضرب.
وقال الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]، فالملائكة تضرب وجه الرجل ودبره، ويأتيه ملائكة سود الوجوه فيجلسون منه مد البصر، ثم يأتي ملك الموت فيقول: اخرجي أيتها الروح الخبيثة! كانت في الجسد الخبيث، فتخاف منه فتتفرق في أجزاء الجسد، فينتزعها من الجسد كما ينتزع السفود من الصوف المبلول، فتخرج منها كأنتن جيفة وقعت على وجه الأرض.
والحمد لله أنه ليس للذنوب رائحة في دار الدنيا، يقول محمد بن واسع: لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي.
واحمدوا الله عز وجل على العافية، فقد ستر الله عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام، فلو فاحت آثار الذنوب لزكمت الأنوف من نتن هذه الرائحة.
فتخرج منها كأنتن جيفة على وجه الأرض، فيناديه الملائكة بأقبح أسمائه: روح من هذه الخبيثة كانت في الجسد الخبيث؟! ثم إذا أرادوا أن يعرجوا بها إلى ملكوت السماوات فلا تفتح لها أبواب السماء، وتسقط من مكان شاهق إلى الأرض، ثم ينادى من قبل الله عز وجل: أن كذب عبدي، يعني: حتى ولو ما عوقب بالنار فيكفيه أن ملك الملوك يقول له: أنت كذاب! فمن وجد الله فماذا فقد؟ ومن فقد الله فماذا وجد؟! فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب متى صح منك الود فالكل هين وكل الذي فوق التراب تراب وليس هذا قول رابعة، وإنما هو قول أبي فراس الحمداني لابن عمه سيف الدولة الحمداني يوم أن وقع في أسر الروم، فتكاسل عن إنقاذه، فهذا قول المخلوق لمخلوق فما ظنك بقول المخلوق للخالق.
(ينادي مناد من قبل الله تعالى: أن كذب عبدي، فاكتبوا كتاب عبدي في سجين، وأعيدوه إلى الأرض، وافتحوا له باباً إلى النار -فيأتيه من سمومها وحميمها ما الله أعلم به-، وافرشوا له فراشاً من النار).
فأول الغيث قطرة! ثم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تبتلون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال، وعني تسألون).
فيأتيه منكر ونكير يسألانه: من ربك؟ وما دينك؟ ومن رسولك؟ فإن كان الرجل فاسقاً أو عاصياً فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! ويقولان له: من رسولك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فقد كان أبعد الناس عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فلا يعرف عن رسوله ولا عن سنته شيئاً، ويقولان له: وما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري! فيقال له: لا دريت ولا تليت، ثم يضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه، ويوكل به ملك أصم أبكم أعمى معه مرزبة -أي: مطرقة من حديد- فيضربه بها ما بين أذنيه، فيصيح صيحة يسمعه كل من على وجه الأرض إلا الثقلين، ثم يعيد الله خلقه، وتكون حاله هكذا إلى يوم القيامة.
وفي الحديث الصحيح: (فيجلس كهيئة المنهوش) أي: مثل الرجل الذي لدغه ثعبان أو حية أو عقرب، فتصور حياة هذا الرجل وحالته هذه! فهذا شيء من عذاب البرزخ! {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].(46/5)
حال العاصي في الموقف أمام الله
ثم إذا أتى إلى ملك الملوك الذي نساه ونسى شرعه في دار الدنيا كيف يكون حاله؟! إنهم يكونون منكسي الرءوس أمام مولاهم، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [السجدة:12] وهم سود الوجوه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} [الزمر:60]، ويعرضون على الله عز وجل فيحتقرهم الأشهاد: {أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة:24] أي: عابسة كالحة، تعلوها الظلمة، ويعلوها الغبار، كما قال الله عز وجل: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:40 - 42].
ويودون أن يباعد الله عز وجل بينهم وبين أعمالهم السيئة، فيقولون: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف:49].
ويقول ابن آدم يوم القيامة: رب! ألم تجرني من الظلم؟ يقول: بلى، يقول: فإني لا أجيز علي شاهداً إلا مني، فيقول له الله عز وجل: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء:14]، وكفى بالكرام الكاتبين عليك شهوداً، ثم يختم على فيه، وتؤمر أعضاؤه فتنطق عليه بما قدم، ويكون فخذه أول ما ينطق عليه، قال الله عز وجل: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ * وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} [يس:65 - 67].
وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم، فيحمل الرجل سيئاته على ظهره، فيطوق ما بخل به من أموال يوم القيامة إلى سبع أرضين، وهو مذموم مدحور مرذول عند الله عز وجل، ويصبحهم الخزي والعار، يقول الله عز وجل: {سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ} [الأنعام:124]، فماذا بعد هذا الذل؟! ثم بعد ذلك يتمنى الموت يقول: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة:27]، ويقول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:25 - 32].(46/6)
إحباط عمل العاصي وحجبه عن رؤية الله عز وجل
ومن العقوبات التي ينالها من بعد عن طريق الله عز وجل إحباط العمل؛ يقول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [آل عمران:22].
واليأس من رحمة الله، يقول الله عز وجل: {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} [العنكبوت:23]، واليأس من مغفرة الله.
ويحرم من رؤيته سبحانه، قال الله عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15]، وهذا أشد من عذاب النار، فلا ينظر الله تبارك وتعالى إليهم، ولا يزكيهم، ويحجبهم عن رؤيته بنص القرآن: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُوا الْجَحِيمِ} [المطففين:15 - 16]، فلا ينظر الله عز وجل إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ويحرمهم من النور عند الصراط، ويحول بينهم وبين ما يشتهون، كما قال الله عز وجل: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} [سبأ:54].
فهؤلاء الذين {يَئِسُوا مِنَ الآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة:13]، فلا خلاق لهم في الآخرة، أي: لا نصيب لهم في الآخرة، وهؤلاء ينسون يوم القيامة، قال تعالى: {الْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية:34]، فلا مأوى لهم ولا ناصر، قال تعالى: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [الشورى:8].
ثم بعد ذلك: الحشر في عرصات القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر)، فيغشاهم الذل من كل مكان، وتعلوهم النار، ويساقون إلى سجن في جهنم، أليس يكفيهم النار؟ ولماذا السجن؟! ولماذا القيود؟ ولماذا الأغلال؟! هل هم سيهربون؟ والله ما سلسلهم خوفاً من هربهم ولا فرارهم، وإنما سلسلهم زيادة في نكالهم، فيساقون إلى سجن في جهنم يسمى: (بولس) يسقون من عصارة أهل النار (طينة الخبال).
قال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22]، وقال الله عز وجل: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48]، وقال الله عز وجل: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97]، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار له لسان فصيح، وعينان تبصران، وأذنان تسمعان، يقول: إني وكلت بكل من دعا مع الله إلهاً آخر، فيلتقطون من الموقف لقط الطير حب السمسم، فيحبسهم في النار، ثم يخرج مرة ثانية فيقول: إني وكلت بالمصورين، إني وكلت بالمتكبرين، فيحبسهم في النار، ثم يخرج مرة ثالثة: فيقول: إني وكلت بالمصورين).
وإذا حبس هؤلاء في النار جيء بالموازين والصحف، واستعد الناس للحساب، فما ظنك أيها المفرط في عمرك! والمقصر في دهرك بسكان هذه الدار ضيقة الأرجاء، مظلمة المسالك، مبهمة المهالك، دار يخلد فيها الأسير، ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، هذه والله دار الذل والهوان والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، أحدثك عن دار غم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، يقول الله عز وجل يوم القيامة: (يا ابن آدم! ألم أكرمك وأسودك، وأسخر لك الخيل والإبل، وأجعلك ترأس وتربع؟ يقول: بلى فيقول: أكنت تظن أنك ملاقي؟ يقول: لا، فيقول له الله عز وجل: فاليوم أنساك كما نسيتني)، فيقوم الرجل في عرصات القيامة وقد حشر الناس حفاة عراة غرلاً، وقد دنت الشمس من رءوسهم، فمنهم من ذهب عرقه في الأرض سبعين ذراعاً، ومنهم من يلجمه عرقه حتى يبلغ إلى أنصاف أذنيه، فيناديه الله تبارك وتعالى: ليقم فلان ابن فلان للعرض على الله عز وجل، فتأخذه الملائكة في العرض على الله عز وجل، فأين يكون قلبك في هذه اللحظة؟ ليقم فلان ابن فلان، والأسماء المتشابهة كثيرة، ولا أحد يقول: يمكن ألا أكون أنا المطلوب، ولا يمكن أحد أن يقول: اسمي ثلاثي أو اسمي رباعي! لا يوجد هذا الكلام، إذا قيل: فلان بن فلان مع تشابه مئات وآلاف من الأسماء المتشابهة والله لا يقوم إلا من وقر في صدره أن هو المعني، وذلك بالخوف الذي يعتريه، فلا يقف أبداً ولا يقوم إلا المعني بالسؤال، فتصوروا هذه الفضيحة على رءوس الأشهاد، ويقول الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
تصوروا أناساً يقفون في عرصات القيامة وقد أدنيت الشمس من رءوسهم، فتطحنهم الشمس طحناً، وقاموا أمام الله عز وجل في عرصات القيامة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، فلم يذوقوا طعاماً، وما شربوا شراباً حتى تقطعت أكبادهم من شدة العطش، ثم يؤمر بهم فيسحبون إلى النار، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه ليؤتى بالرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة، اقرءوا إن شئتم: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف:105]).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سمع سمع الله به، ومن راءى راءى الله به) من سمع سمع الله به مسامع خلقه، وصغره وحقره يوم القيامة.(46/7)
حال العاصي في نار جهنم
ثم بعد ذلك يعرضون على النار، {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، يقول سيدنا عمر لـ كعب: يا كعب! هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها بذكر النار، فيقول: يا أمير المؤمنين! يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا زفرت زفرة فما من دمعة في العيون إلا وقد جفت، وإذا زفرت الأخرى فما من نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا وجثى على ركبتيه وقال: نفسي! نفسي! حتى لو كان لك يا أمير المؤمنين عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت أنك لا تنجو.
فانظر يا أخي إلى صفة النار أجارنا الله وإياك منها، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) يعني: عدد الملائكة الذي سيجرون جهنم على عرصات القيامة -هذه النار الكبرى الداهية العظمى التي ما أنذر العباد بشيء أشد منها- أربعة آلاف مليون ملك وتسعمائة مليون ملك، فاضرب سبعين ألفاً في سبعين ألفاً يكون الناتج: أربعة ألف مليون وتسعمائة مليون ملك.
وحين يقول الله عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] فيضعون القيد في رقبته، ويبتدره مائة ألف ملك أو يزيدون كلهم يريد أن يضع الغل في عنقه، فيقول: ألا ترحموني؟ فيقولون: كيف ولم يرحمك أرحم الراحمين؟ ويحشرون كما يقول الله تبارك وتعالى إلى جنهم زرقاً، سود الوجوه، زرق العيون، وهذا أبشع منظر عند العرب! أفمن يصرف إلى النار هكذا كمن يزف إلى الجنة؟ فالجنة تقرب من المؤمنين، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] حتى تتلقاه الحور العين على عتبة البيت، فالرجل يتكلم من هذه؟ فتقول: قد طال اشتياقي إليك يا ولي الله! وهذا النبي صلى الله عليه وسلم لا يدخل الجنة إلا وعلى رأسه التيجان تتلقاه الملائكة من كل باب: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24]، وأعظم من هذا: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].
وأعظم من هذا: سماع القرآن بصوت سيدنا داود، كان إذا تلا الزبور في دار الدنيا تسبح الجبال معه وتؤوب، والطير، وكل الكون يسبح مع سيدنا داود، فإذا تلا القرآن في الجنة أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، فكيف إذا رأوا ربهم، يقول: (يا عبادي! ألكم حاجة؟ فيقولون: يا رب ألم تبيض وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتغفر ذنوبنا، وتدخلنا الجنة؟ فيقول لهم الله عز وجل: اليوم أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً)، فترفع الحجب فينظرون إلى مولاهم فما أعطي أهل الجنة أعظم من النظر إلى وجه الله الكريم.
وإذا زاروا ربهم وعادوا إلى أهليهم وجدوهم قد ازدادوا حسناً، وهم قد ازدادوا حسناً في أعين أهليهم، حتى إن الرجل ليحلو في عين أهله سبعين ضعفاً، فبمجرد ما تقعد عنده ثم تلتفت له مرة ثانية يحلو في عينها سبعين ضعفاً.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لقاب قوسين أو موضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها)، وفي رواية: (ولنصيفها خير من الدنيا وما فيها) والنصيف: هو الخمار الذي على جيبها وصدرها فإذا كان نصيفها خير من الدنيا وما فيها فكيف ستكون الحور العين؟! وكم سيكون قدرها عند الله عز وجل؟ قد هيئوك لأمر لو فطنت له فأربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل وانظروا إلى الطرف الآخر: هذا الرجل العاصي الذي دخل النار يخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن حرارة النفس الذي يخرج منه؛ لأنه يتنفس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون وفيهم شخص من أهل النار فتنفس لاحترق المسجد بمن فيه) فإذا كان هذا نفس يخرج منه فيحرق مسجداً فيه مائة ألف مصل فكيف ستكون أجوافهم من الداخل؟ وإذا كان لم يدخل النار والعرق ينزل في الأرض سبعين ذراعاً، ويلجمه حتى يكاد يغرقه فإذا دخل النار فكيف ستكون حاله؟! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم)، فكيف بمن يكون الزقوم طعامه وشرابه؟! {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ * خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان:43 - 47].
وقال الله تبارك وتعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ * ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ * ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات:62 - 68].
سبحان الله! إذا كان هذا وصف لون واحد من الطعام فكيف بالشراب؟ وكيف بالثياب؟ ولقبح المنظر يقوم الشيطان بينهم خطيباً ويلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم بعضاً، وكلما دخلت أمة لعنت أختها! وأما شرابهم فقال الله عز وجل: {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد:15] وقال الله عز وجل: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الكهف:29] أي: مثل الزيت الأسود المغلي: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29] وقال الله عز وجل: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17].
إن طاعة الله أهون علينا من هذا كله! فكيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، وتدبيرك بيده، ورجوعك إليه وكل مستحسن في الوجود هو حسنه وجمله وزينه، وعطف النفوس إليه، لقد أعطاك أيتها النفس! ما لم تأمري، وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام، فكم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك!! أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا أنا العبد الذي أمسى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناس حووا من كل معروف نصيبا أنا العبد الغريق بلج بحر أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا أنا العبد السقيم من الخطايا وجئت الآن ألتمس الطبيبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا أنا العبد المفرط ضاع عمري ولم أرع الشبيبة والمشيبا فواأسفا على عمر تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني ممات يحير هول مطلعه اللبيبا وواذلاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا وذلة موقف وحساب عدل أكون به على نفسي حسيبا وواخوفاه من نار تلظى إذا زفرت وأقلقت القلوبا تكاد إذا بدت تنشق غيظاً على من كان ظلاماً مريدا فيا من مد في كسب الخطايا خطاه أما آن الأوان أن تتوبا وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا آن الأوان لتوبتنا! اللهم ارحم ذل مقامنا بين يديك، وبغض إلينا ساعات أكلنا وشربنا ونومنا واكفنا من النوم باليسير، واحشرنا مع نبينا في دار رضوانك غير مبدلين ولا مفتونين، ولا شاكين ولا مرتابين.
اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، والنظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك.
اللهم اجعلنا لك ذكارين لك شكارين، إليك أواهين، لك منيبين، وتقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(46/8)
الإمام سفيان الثوري
إن لله رجالاً حملوا هذا الدين، وكانوا نبراساً في الهدى للحائرين، من هؤلاء الرجال والعلماء الربانيين سفيان الثوري، فقد شهد له العالم والجاهل والأمير والمأمور بعلمه الوافر، وزهده وورعه وخوفه من الله عز وجل، وبعده عن الولاة والأمراء، وهذا دأب كل الصالحين.(47/1)
الحث على معرفة قصص الصالحين
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
لا نجاة ولا فلاح إلا بالعتيق كما قال سيدنا عبد الله بن مسعود: (عليكم بالعتيق).
كان الشيوخ في قديم الزمان أصحاب قدم، والطلاب أصحاب ألم، فذهب القدم والألم، واليوم لا غصة ولا قصة، والتربية بالقدوة خير وسائل التربية، والحكايات عن سلفنا حكايات أثرية ليست كقصص بني إسرائيل، إن بني إسرائيل لما هلكوا قصوا، ولكن هذه الحكايات ترجمة عملية للسنة النبوية، فقد كانت حياتهم ترجمة للعلم الذي نهلوا منه، فالحكايات عن سلفنا جند من جنود الله تعالى يثبت الله بها قلوب أوليائه، قال الإمام أبو حنيفة: الحكايات عن العلماء ومحاسنهم أحب إلي من كثير من الفقه؛ لأنها آداب القوم وأخلاقهم، ما يفيدك الفقه أو العلم إن لم تكن مؤدباً، ولا يفيدك العلم إن لم ينفعك، فالعلم يهتف بالعمل فإن أجابه حل وإلا ارتحل، وإن شيخك من حدثك بلحظه قبل أن يحدثك بلفظه، كن بالخير موصوفاً ولا تكن للخير واصفاً، فإن الواو والراء والدال لا تشم منها رائحة الورد، قال الله تعالى لنبيه: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، وقال الله تبارك وتعالى لنبيه: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الأنعام:90].
قال مالك بن دينار: الحكايات تحف الجنة، أي: تجعلك تعيش وكأنك في الجنة.
وقال الجنيد: الحكايات جند من جنود الله عز وجل يقوي الله بها إيمان العباد، فقيل له: هل لهذا من شاهد؟ قال: قوله تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود:120].
وخير وسيلة لإشعال العزائم، وإثارة الروح الوثابة، وقدح المواهب، وإذكاء الهمم، وتقويم الأخلاق، والتسامي إلى معالي الأمور والترفع عن سفسافها، الاقتداء بالأسلاف الأجلاء، وقراءة سير العلماء الصلحاء النبغاء، والتملي من مناقب الصالحين الربانيين، والاقتراب من العلماء النبهاء العاملين المجددين، ذلك خير لرفع الهمم، وشد العزائم، وسمو المقاصد، وإنارة القلوب، واحتلال ذرى المجد الرفيع، واغتنام الباقيات الصالحات، وإخلاص النيات -يقول قائلهم: تركنا البحار الزاخرات وراءنا فمن أين يدري الناس أنى توجهنا أقسم بالله إن العيش مع هؤلاء لينقلك إلى دنيا عجيبة، وكأنهم خلقوا من طينة غير طينتنا، كما يقول الإمام أحمد: إياك أن تقول في مسألة ليس لك فيها إمام أو شيخ.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى برؤيتهم)، فبمجرد الرؤية يكون ذلك فكيف بقراءة كلامهم، وكيف بسماع قصصهم، وأخبار صدقهم وعباداتهم؟! وقالت السيدة عائشة: إذا أردتم أن يطيب المجلس فعليكم بذكر عمر بن الخطاب، ولما علم عمر من أخبار تميم الداري ما علم قال له: لمثل هذا كنا نحبك يا أبا رقية، ليس من رأى كمن لم ير.
وقال أحد الصالحين: أما رأيتم مالك بن دينار والحسن البصري وغيرهما يحيي الله بكلامهم الفئام من الناس -الجماعات الكبيرة من الناس-، سيماهم في كلامهم مثلما هي في وجوههم.
لماذا كتب الذهبي سير أعلام النبلاء؟ ولماذا كتب الذهبي طبقات القراء؟ لماذا كتب ابن عساكر تاريخ دمشق؟ ولماذا كتب الخطيب البغدادي تاريخ بغداد؟ ولماذا كتب الأصفهاني تاريخ أصفهان؟ ولماذا كتب حلية الأولياء؟ ولماذا كتب ابن الجوزي صفة الصفوة؟ لأنها تمتلئ بحشد وافر من أخلاق هؤلاء الناس وعباداتهم وأقوالهم، فخير وسيلة بعد أن غابت القدوة في أيامنا أنك تعيش مع ابن المبارك، أو تعيش مع الفضيل بن عياض، أو تعيش مع سفيان الثوري فهؤلاء هم الناس، ذهب الناس وبقي النسناس.
ذهب الرجال الصالحون وأخرت نتن الرجال للزمان المنتن ذهب الذين يعاش في أكنافهم وخلفت في جلد كجلد الأجرب.
السيدة عائشة كانت تقول هذا بعد رحيل صفوة الصحابة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الناس كإبل مائة لا تكاد تجد فيها راحلة)، من كان مقتدياً فليتأس بالميت، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة.
ومن عجب أني أحن إليهمُ وقد سكنوا قلبي وروحي ومهجتي ذكرت فلم أنس زمان وصالهم أأنسى ليال بالعزيز تقدس نعم والله، أيام عشت فيها مع تراجم أهل العلم، وأنا أجمع هذه الكتب منها كتاب: (نسائم الأسحار في فضائل الصحابة الأبرار) في أربعة مجلدات، وكتاب: (عبق النسرين في ذكر المجددين) في أربعة مجلدات، وكتاب: (زهر الجنان من حياة شيوخ الإسلام).
وسنبدأ بحياة شيوخ الإسلام، وسموهم شيوخ الإسلام لأن لهم مكانة عالية، وكثير من الإخوة لا يعلمون شيئاً عنهم مع أن كتب التاريخ هذه من أهم الكتب، فتقرأ فيها وتعرف ما وقع لمن سبق، وتعرف ما وقع من وقائع ومعارك حربية انتصر فيها الإسلام على الكفر، وحتى تروح عن نفسك وتقول: إن لنا نسباً عريقاً في التاريخ.
لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهد ذكرت فلم أنس زمان وصالهم أأنسى ليال بالعزيز تقدس منازل أحبابي مواطن سادتي مطالع أقماري شموس أهلتي معاهد أفراحي ديار سعادتي مواسم أرباحي وأوقات لذتي فهذا سيدنا عبد الله بن المبارك كان يجلس طويلاً مع الكتب، فقالوا له: لم لا تجلس إلينا؟ قال: أجلس إلى من هم أفضل؛ منكم أجلس إلى الصحابة والتابعين، فيتتبع سيرهم وكأنه يجلس معهم.
من فاته العين هد الشوق بالأثر والذي لا يرى الناس الطيبين يسمع أخبارهم: معاهد أفراحي ديار سعادتي مواسم أرباحي وأوقات لذتي وحاشاي أن أتلو هواهم وحبهم يذكرني حفظ العهود القديمة فهم سر أسراري ونور مناظري وروحي وريحاني وأنسي وبهجتي وهم عين أعياني وقلبي وقالبي وهم منتهى قصدي ومشهد رؤيتي وهم في معانيهم حياتي حقيقة وهم في مغانيهم أهيل مودتي وهم في تجليهم شموس إذا بدوا وهم في تدنيهم رياضي ونزهتي وهم أينما كانوا نهاية مقصدي وهم أينما حلوا مرادي وبغيتي(47/2)
التعريف بسفيان الثوري
هو أمير المؤمنين في الحديث، شيخ الإسلام سيدنا سفيان الثوري سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، قال عنه الإمام الذهبي: هو شيخ الإسلام، إمام الحفاظ، سيد العلماء العاملين في زمانه، أبو عبد الله الثوري الكوفي المجتهد مصنف كتاب الجامع، ولد سنة سبع وتسعين هجرية اتفاقاً، وطلب العلم وهو حدث -أي: صغير- بعناية والده المحدث الصادق سعيد بن مسروق الثوري، كان والده من أصحاب الإمام الشعبي ومن ثقات الكوفيين، وعده العلماء من صغار التابعين، روى له الجماعة الستة في دواوينهم، وحدث عنه ولده سفيان الإمام، وعمر ومبارك، وشعبة بن الحجاج، مات سنة ست وعشرين ومائة.
معجم شيوخ سيدنا سفيان قال الذهبي: قالوا: إن عدد شيوخه ستمائة شيخ، كان يجلس إلى بعض شيوخه ستة عشر عاماً، كـ ابن القاسم شيخ علماء المالكية وكبير المصريين، قال: بت على عتبة مالك عشرين سنة، فكلكم على ثغر من ثغور الإسلام، فليخش أحدكم أن يؤتى الإسلام من قبله.
وقد قال الإمام الشافعي: إنما ضيع الناس ثلث العلم لما تركوا الطب لليهود والنصارى.
فهذه مدرسة جامعية في كلية الطب في جامعة الأزهر تقول: أنا أريد أن أتفرغ للدعوة، وهي تشرف على مستشفى بأكمله، فقلت لها: مقامك هذا أكبر دعوة، وتخصصك تخصص نادر؛ كلكم على ثغر من ثغور الإسلام، وكل يدعو إلى الإسلام في موقعه، فالطبيب في موقعه، والمهندس في موقعه، والرجل المتخصص في علم أو في فرع من الفروع الإسلامية في موقعه.
قال ابن القاسم: بت على باب مالك عشرين سنة؛ وذلك حين رحل من مصر، وقعد عشرين سنة على باب مالك، حتى ظنته جارية الإمام مالك مولى له؛ لأنه كان قبل الفجر عند خروج الإمام مالك يسأله سؤالين أو ثلاثة أسئلة، فينتفع بعلم الإمام مالك، وذات ليلة أيقظته الجارية وقالت: إن شيخك يصلي الفجر بوضوء العشاء وبئس العبد أنت تنام ويقوم سيدك؟ فظنته عبداً من عبيد مالك بن أنس؛ لكثرة جلوسه على باب مالك، حتى أتى وفد الحجيج المصريين قال: فدخل شاب براق الثنايا جميل المطلع فذهب إلى الإمام مالك وقال: أنت ابن القاسم؟ قال: لا، وأشار إلى ابن القاسم، فقال الإمام ابن القاسم: فقمت إليه فاعتنقته فشممت منه رائحة الولد ثم لازم الإمام مالك يطلب العلم، وكان قد خير ابنة عمه في أن يطلقها، فقالت: بل أمكث وأصبر على هذا.(47/3)
معنى شيخ الإسلام وعلى من يطلق هذا اللقب
أول من لقب بشيخ الإسلام هما سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا عمر، والذي لقبهما بذلك هو سيدنا علي، كما روى المحب الطبري قال: إماما الهدى وشيخا الإسلام، فشيخ الإسلام لقب شرعي كأمير المؤمنين في الحديث كالحافظ والمحدث، فاختص به جماعة من أهل العلم إما من أهل العلم الحفاظ أو الزهاد أو من كانوا رأساً في السنة، أي: إمام يحتج بقوله في العقيدة.
وقال المحب الطبري: إذا رأيت الرجل يحب الأوزاعي فاعلم أنه من أهل السنة والجماعة، وإن رأيت الرجل يقع في أبي إسحاق الفزاري فاعلم أنه مبتدع.
يعني: أنه يصير علماً في السنة يقتدي به الناس على طريقة السلف في العقيدة، يقال: كان الرجل رأساً في الحديث، أو رأساً في السنة، فقولك: كان رأساً في السنة معناه: كان إماماً يؤتم بقوله ويعتمد على قوله في العقائد، كشيخ الإسلام ابن تيمية والإمام أحمد بن حنبل وسفيان الثوري وحماد بن زيد وسعيد بن جبير.
وقد يكون الرجل إماماً في الحديث، وقد يكون إماماً في الفقه، وقد يكون إماماً في الزهد، وقد يكون ممن عمر في الإسلام، والمتتبع لشيوخ الإسلام المعتبرين على مدار التاريخ يجدهم ما يقارب ثلاثمائة وخمسين شيخاً كشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، وأبي داود الطيالسي وغيرهم، ثم أطلق لقب شيخ الإسلام على قاضي القضاة عند الشافعية وعند الحنابلة، فصار هذا اللقب يطلق على كل من هب ودب كما يقول العلماء، فكونك تريد أن تعرف شيوخ الإسلام فهم القمم في حياة المسلمين وهم القدوة، وإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، فشيوخ الإسلام هم الذين طبقوا العلم على أنفسهم وصاروا نوراً يمشي على الأرض، فالعيش مع هؤلاء ليس مجرد حكايات، بل حياة الإسلام وتاريخه متمثل في هؤلاء القمم؛ لأنهم هم الذين طبقوا الإسلام.
يقول أمير المؤمنين في الحديث سفيان الثوري: ما رأيت الزهد في شيء أقل منه في الرئاسة، ترى الرجل يذهب في المطعم والمشرب والمال والثياب، فإن نوزع في الرئاسة حامى وعادى عليها.
والزهد في النفس: ألا ترى لنفسك قيمة أبداً كما قال سفيان الثوري: من نظر إلى نفسه كانت نفسه عنده أذل من كلب.
لذلك فإن المولى عز وجل ستر عليك من القبائح ما لو ظهرت لفاح نتنها، فأنت تعلم من نفسك ما لا يعلم غيرك منك، فاحمد الله على العافية، ومن أراد الزهد الحقيقي فليزهد في نفسه وفي طلب الجاه عند الناس، والتزين في قلوب الخلق، والهرب من ذم الناس، وطلب مدحهم، كل هذه عوامل كبيرة من عوامل الرياء، والرياء أعظم فتنة وكما يكون في الأفراد يكون في الجماعات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخوف عليكم: شرك السرائر)، قالوا: وما شرك السرائر يا رسول الله؟! قال: (أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته؛ لما يرى من نظر رجل إليه).
مثال ذلك: أخ أراد الاعتكاف في رمضان مع إخوة معتكفين، وهو في بيته يصلي صلاة قصيرة، فقال: هؤلاء هم صفوة القوم، وأنا سأقرأ في صلاتي سورة المائدة أو الأنعام؛ ليري الناس أنه يطيل في صلاته، فإن هذا أخطر شيء على الرجل.
سيدنا عبد الله بن المبارك خرج من بلدته مرة وذهب إلى بئر ليستقي، فجعل الناس يزاحمونه فقال أحد الحفاظ: إنه عبد الله بن المبارك فقال: اسكت إنما العيش هكذا والله ما خرجنا من مرو إلا من أجل هذا.
فإذا أراد الله تبارك وتعالى حفظك وإذا أراد بك خيراً حماك من الشهرة، وهي نعمة لو سجدت لله تبارك وتعالى شكراً على محمي الإبر ما كافأته عليها.(47/4)
ذكر ما حصل من خلع الخليفة المهدي الخاتم لسفيان الثوري
لما استخلف الخليفة المهدي العباسي بعث إلى سفيان، فلما دخل عليه خلع عليه خاتمه على الرسائل فرمى به إليه وقال له: يا أبا عبد الله! هذا خاتمي فاعمل في هذه الأمة بالكتاب والسنة، فأخذ الخاتم بيده وقال: تأذن لي في الكلام يا أمير المؤمنين؟ فقال الراوي عن عطاء: قلت لـ عطاء: هل قال له: يا أمير المؤمنين؟ قال: نعم.
قال: أتكلم على أني آمن؟ قال: نعم، قال: لا تبعث إلي أحداً من أعوانك حتى آتيك، ولا تعطني حتى أسألك، فغضب المهدي وهم به، فقال له كاتبه: ألست قد أمنته؟ قال: بلى، فلما خرج حف أصحاب الثوري به فقالوا: ما منعك وقد أمرك أن تعمل في الأمة بالكتاب والسنة، فاستصغر عقولهم وفر هارباً؛ لأنه رأى المهدي وقد أحيط ببطانة السوء فلن يأمنهم ولن يجد فائدة من ذلك، ولذلك كان سيدنا سفيان يضرب به المثل في البعد عن أصحاب الجاه والمنزلة والرئاسة وعن الحكام.(47/5)
أقوال التابعين وأحوالهم مع الرؤساء
يقول سعيد بن المسيب: إذا رأيتم العالم يرتاد أبواب الأمراء فاشهدوا أنه لص.
وكان مالك بن دينار يقبل جوائز السلطان والهدايا التي يبعث بها الخليفة، وما كان يقبلها محمد بن واسع، فأتى محمد بن واسع وعاتب مالك بن دينار في قبوله للهدية قال: يا مالك أقبلت جوائز السلطان؟! قال: بالله عليك لا تحكم علي بذلك، وإنما سل جلسائي، وقالوا: والله لقد فرقها في اليتامى والمساكين، قال: ناشدتك الله يا مالك أقلبك الساعة على السلطان؟ قال: لا، أشهد الله أنه قد تغير، قال: فانظر من أين أوتيت، فبكى مالك بن دينار وقال: إنما مالك حمار، إنما يعبد الله أمثال محمد بن واسع، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5].
قال سفيان الثوري: ما شيء أشد على نفسي من قول الله عز وجل: {لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [المائدة:68].
وقال سفيان: لست أخاف إهانتهم وإنما أخاف كرامتهم، فلا أرى سيئتهم سيئة، ولا أرى للسلطان مثلاً إلا مثلاً ضرب على لسان الثعلب، قال الثعلب: عرفت للكلب نيفاً وسبعين دستاناً -أي: مكراً وحيلة- ليس منها دستان خير من ألا أرى الكلب ولا يراني.
قال سفيان: أدخلت على أبي جعفر المنصور بمنى وكان فظاً فقلت له: اتق الله، فإنما أنزلت هذه المنزلة وصرت في هذا الموضع بسيوف المهاجرين والأنصار، وأبناؤهم يموتون بين يديك جوعاً، حج عمر فما أنفق إلا خمسة عشر ديناراً، وكان ينزل تحت الشجر، قال: أتريد أن أكون مثلك؟ قلت: لا، ولكن دونما أنت فيه، وفوق ما أنا فيه، قال: اخرج.
قال عصام بن يزيد: لما أراد سفيان أن يوجهني إلى أمير المؤمنين المهدي قلت له: أنا غلام جبلي لعلي أسقط بشيء، فقال: يا عصام! أترى هؤلاء الذين يجيئون؟ لو قلت لأحدهم لظن أني قد أسديت إليه معروفاً ولكن قد رضيت بك، قل ما تعلم ولا تقل ما لا تعلم، فلما رجعت قلت له: لأي شيء تهرب منه، لو جاء لخرجت معه إلى السوق فأمرنا ونهينا، قال: يا غافل! حتى يعمل بما يعلم، فإذا فعل لم يسعنا إلا أن نذهب إليه.(47/6)
شهادة الأمراء والحكام ببعد سفيان عن عطاياهم
وقال المهدي يصف بعض العلماء ويصف سفيان الثوري قال: لقد جاءني قراؤكم فأمروني ونهوني، ووعظوني وبكوا وأبكوا وتباكيت لهم، ثم لم يفجأني من أحدهم إلا أن أخرج من كمه رقعة: أن افعل لي كذا، وافعل لي كذا، ففعلت، وسقطوا من عيني، وقد كتب المهدي إلى سفيان؛ لأن سفيان طال هروبه منه، كتب إليه أن يعطيه الأمان، قال: فأتيته فقدمت عليه البصرة بالأمان، وقال المهدي: ما من رجل أمرنا ونهانا فقدمنا له من دنيانا إلا وقضم منها -أي: أكل منها- إلا سفيان.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: ما رأيت رجلاً أشفق وجهاً في الله عز وجل من سفيان الثوري.
وكان سيدنا عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد يقول: ما كنت أستطيع النظر إلى سفيان هيبة له.
ولما دخل على أبي جعفر المنصور قال له: اتق الله في أموال المسلمين، اتق الله في أبناء المهاجرين، اتق الله في كذا، اتق الله في الرعية، فقال له الوزير أبو عبيد الله: اسكت أتواجه الخليفة بمثل هذا؟ قال: اسكت فما أهلك فرعون إلا هامان، فلما خرج سفيان قال الوزير: يا أمير المؤمنين! دعني أضرب عنقه، قال: اسكت، فوالله ما بقي في الأرض من يستحيى منه غير هذا.
وكان إذا رأى موكب الخليفة يقول: ما هذه السرادقات! حج عمر ولم ينفق إلا خمسة عشر ديناراً.(47/7)
خوف سفيان الثوري من سوء سابقته قبل خاتمته
وانظر إلى خوف سفيان، قال عطاء الخفاف: ما لقيت سفيان إلا باكياً، فقلت له: ما شأنك؟ قال: أتخوف أن أكون في أم الكتاب شقياً.
فمن العجب أنه يخاف من السابقة قبل خوفه من سوء الخاتمة.
فخذوا العبرة يا رجال! يخاف سفيان أن يكون في أم الكتاب شقياً، وما في أم الكتاب قد سبق في علم الله عز وجل، وقد قضاه الله عليه قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، فهو يبكي على ما سبق في علم الله، والمعروف أن الرجل يبكي على سوء الخاتمة حينما يستشعر قرب موته، لكن سفيان رحمه الله تجده طيلة عمره باكياً، ولذلك فإن أعلى درجات الخوف: الخوف من السابقة.
قال عبد الرحمن بن مهدي: لما جر سفيان إلى القضاء غصباً عنه تحامق عليه؛ ليخلص نفسه منه، فلما علم أنه يتحامق أرسل سفيان فهرب.(47/8)
ما يجب على المؤمن تجاه البلاء والرخاء
قال سفيان: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة والرخاء مصيبة.
وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجباً لأمر المؤمن إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له).
فالله يرزق الإنسان المال فيشكر، وإن رزقه الفقر يصبر، لكن هناك درجة أعلى وهي هذه التي قال عنها سفيان: ليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، والرخاء مصيبة، فهناك درجة أعلى من درجات الصبر، وهي الرضا بما قدر الله عز وجل عليك، فإن ابتلاك بمصيبة تعلم أن هذا خير لك، وإن ابتلاك بمال أخذت حذرك؛ لأن البلاء لا يأتي إلا برفعة الدرجات أو تكفير السيئات، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما يصيب المؤمن من هم ولا غم ولا حزن ولا نصب ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه)، فالبلاء دائماً يأتي بتكفير السيئات أو بعلو الدرجات، لكن إذا كنت على معصية واستمررت عليها مع زيادة المال عندك، فإنه استدراج ومكر من الله عز وجل، فالظالم كلما ازداد مالاً ازداد فجوراً، حتى إذا أخذه الله لم يفلته، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:42 - 43].
ولذلك ورد في الأثر أن خالد بن الوليد كانت عنده زوجة فطلقها، وبعد أن طلقها أثنى عليها، فلما سئل عن ذلك قال: مكثت عندنا مدةً لم نصب فيها بشيء، فخفت أن يكون الأمر استدراجاً ومكراً من الله عز وجل.
وعروة بن الزبير لما قطعت رجله ومات ابنه محمد أحب أبنائه إليه، رفع يديه إلى السماء وقال: إن سلبت فلطالما أعطيت، وإن أخذت فلطالما أبقيت، ولما أشار عليه الطبيب بنشر رجله قال أي: الطبيب: نريد أن نعطيك دواءً -يعني: حتى لا تحس بألم القطع- قال: إن ربي ابتلاني ليرى مدى صبري.
فإذا ضيق الله عز وجل عليك في الرزق فقد يكون هذا هو الخير لك، فقد تصلي في الفجر فتستغيث بالله عز وجل وتقول: يا غياث المستغيثين أغثنا، اللهم فرج الكرب عنا، وترفع يديك إلى السماء تدعو الله تبارك وتعالى فيتعلق قلبك بالله عز وجل، وربما كان هذا خير لك من كنوز الدنيا بأسرها، فقد تكون كمثل أحد الصالحين كان يقوم الليل ولم يكن معه إلا ثوب واحد به رقع، ولما ضربه البرد بكى، فرأى فيما يرى النائم أن هاتفاً يقول له: أقمناك وأنمناهم ثم تبكي علينا! حقاً إن المال الصالح للرجل الصالح، ولكن المال من أعظم الفتن، فربما تترك الصلاة، أو تتأخر فتدرك ركعة أو ركعتين، أو تدرك الجماعة الثانية، أو لا تأتي المساجد أبداً؛ لأنك منشغل فتصلي في البيت أو في أي مكان، فليس بفقيه من لم يعد البلاء نعمة، الرخاء مصيبة.
وهناك كلام للعلماء يشبه هذا الكلام، قال إبراهيم بن أدهم لما قابل شقيق البلخي: ما تعدون الصبر والشكر فيكم يا شقيق؟ قال: إنا قوم نشكر في الرخاء ونصبر في البلاء، فقال له إبراهيم: هذا ما تفعله كلاب بلخ، قال: فما تقول أنت؟ قال: إنا قوم نشكر في البلاء ونصبر عند الرخاء، فربما كان الرخاء استدراجاً.
وهذا ليس مخالفاً للسنة، ودليل ذلك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الصالحين كان يشدد عليهم، يبتلى أحدهم بالفقر حتى ما يجد إلا العباءة يجوبها) أي: يقطعها لتستر عورته، (ويبتلى أحدهم بالقمل حتى يقتله، ولأحدهم كان أفرح بالبلاء إن نزل به من فرح أحدكم بالعطاء)، إذاً: كلام سفيان موافق لهذا الحديث، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(47/9)
علم سفيان الثوري بالقرآن والمناسك وانصرافه عن الدنيا
بلغ سيدنا سفيان في علم القرآن والمناسك مبلغاً عظيماً، قال الإمام الأوزاعي: لو قيل لي: اختر لهذه الأمة رجلاً يقوم فيها بكتاب الله وسنة نبيه لاخترت لهم سفيان الثوري.
وعن عبد الرحمن بن مهدي قال: نزل عندنا سفيان وكنا ننام أكثر الليل، فلما نزل عندنا ما كنا ننام إلا أقله من قيامه لليل.
قال ابن إدريس: ما رأيت رجلاً في الكوفة أتبع للسنة، ولا أود أني في مسلاخه من سفيان الثوري رحمه الله.
وقال سفيان رحمه الله: لو أن البهائم تعقل من الموت ما تعقلون ما أكلتم منها سميناً.
قال ابن يمان: ما رأيت مثل سفيان؛ أقبلت الدنيا عليه فصرف وجهه عنها.(47/10)
أمر سفيان بالمعروف ونهيه عن المنكر
ثم انظر إلى أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، قال إبراهيم بن أعين: كنت مع سفيان والأوزاعي فدخل علينا عبد الصمد بن علي أمير مكة وسفيان يتوضأ وأنا أصب عليه الماء، وهو يقول: لا تنظروا إلي أنا مبتلى، فدعا عبد الصمد فسلم فقال له سفيان: من أنت؟ فقال: أنا عبد الصمد، فقال: كيف أنت؟ اتق الله، إذا كبّرت فأسمع الناس.
وعن عبد الله بن خبيب: حدثنا الهيثم بن جميل عن مفضل بن مهلهل قال: حججت مع سفيان فوافينا بمكة الأوزاعي فاجتمعنا في داره، وكان على الموسم أمير الحج عبد الصمد بن علي أمير مكة، فدق داق الباب قلنا: من ذا؟ قال: الأمير، فقام سفيان الثوري فدخل المخرج، وقام الأوزاعي فتلقاه فقال له: من أنت أيها الشيخ! قال: أنا الأوزاعي، قال: حياك الله بالسلام، أما إن كتبك تأتي إلينا فنقضي حوائجك، فما فعل سفيان؟ قال: فقلت: دخل المخرج، ثم دخل الأوزاعي في أثره فقال: إن هذا الرجل ما قصد إلا قصدك، فخرج سفيان مقطب الوجه، فقال: سلام عليكم كيف أنتم؟ فقال له عبد الصمد: أكتب عنك هذه المناسك، فقال: أولا أدلك على ما هو أنفع لك منها؟ قال: ما هو؟ قال: تدع ما أنت فيه، قال: وكيف أصنع بأمير المؤمنين؟ فقال: إن أردت كفاك الله أبا جعفر، فقال له الأوزاعي: يا أبا عبد الله! إن هؤلاء ليس يأخذون منك إلا الإعظام لهم، فقال: يا أبا عمرو إنا لسنا نقدر أن نضربهم، وإنما نؤدبهم بمثل هذا الذي ترى -أي: بالكلام الخشن-، فقال مفضل: فالتفت إلي الأوزاعي وقال: قم بنا من هاهنا، إني لا آمن أن يبعث هذا من يضع في رقابنا حبالاً.
فالواجب علينا أن نقتدي بمثل هؤلاء الرجال، قال الشاعر: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاحُ(47/11)
بعد سفيان الثوري عن الولاة والأمراء
قال محمد بن سعد: طلب الخليفة المنصور سفيان الثوري، فخرج إلى مكة، فنفذ المهدي إلى محمد بن إبراهيم عامله على مكة في طلبه وقال له: هات سفيان الثوري، فأعلم سفيان بذلك، وقال له محمد بن إبراهيم أمير مكة: إن كنت تريد إتيان القوم فاظهر حتى أبعث بك إليهم وإلا فتوارى، فتوارى سفيان، وطلبه محمد وأمر منادياً فنادى بمكة: من جاء بـ سفيان فله كذا وكذا، فلم يزل متوارياً بمكة لا يظهر إلا لأهل العلم ومن لا يخافه.
وعن أبي شهاب الحناط قال: بعثت أخت سفيان بجراب معي إلى سفيان، فقدمت فسألت عن سفيان فقيل لي: ربما قعد عند الكعبة فيما يلي الحناطين، فأتيته فوجدته مستلقياً فسلمت عليه فلم يسائلني تلك المساءلة، ولم يسلم علي كما كنت أعرفه، فقلت له: إن أختك بعثت معي بجراب، فاستوى جالساً وقال: عجل علي بها، فكلمته في ذلك، فقال: لا تلمني فلي ثلاثة أيام لم أذق فيها ذواقاً، فعذرته.
قال ابن سعد: لما خاف من الطلب -من أن يأخذوه للمهدي - خرج إلى البصرة ونزل قرب منزل يحيى بن سعيد، ثم حوله إلى جواره وفتح بينه وبينه باباً، فكان يأتي بمحدثي أهل البصرة يسلمون عليه ويسمعون منه.
يقول يحيى بن سعيد القطان: سفيان الثوري فوق مالك في كل شيء، قيل لـ سفيان الثوري: ما منعك أن ترحل إلى الزهري؟ قال: لم تكن عندي دراهم.
قال مهران الرازي: كنت عند سفيان الثوري فضاع مني كتاب الديات فذكرت ذلك له، فقال: إذا وجدتني خالياً فاذكر لي حتى أمليه عليك، فحج فلما دخل مكة طاف بالبيت وسعى، ثم لقيته فذكرته، فجعل يملي علي الكتاب باباً في إثر باب حتى أملاه جميعاً من حفظه.(47/12)
خشية سفيان لربه وعلو همته في الإصلاح وذكر بعض أقواله
قال يوسف بن أسباط: كان سفيان إذا أخذ في ذكر الآخرة يبول الدم.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت سفيان يقول: ما بلغني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط إلا عملت به ولو مرة.
وقيل لـ سفيان الثوري: إلى متى تطلب الحديث؟ قال: وأي خير أنا فيه خير من الحديث فأصير إليه، إن الحديث خير علوم الدنيا.
وقال سفيان: إن أقبح الرغبة إلى الزنجي -يعني: العبد- وكده، أي: أكله ثم شغله، وفي رواية: اعلف الحمار ثم كده.
وقال سفيان الثوري: إني لأرى الشيء يجب علي -يعني: نهي عن منكر- أن أتكلم فيه فلا أفعل فأبول دماً؛ من الكمد والحزن.
وقال عبد الرحمن بن مهدي شيخ الإمام أحمد: كنا جلوساً مع الثوري في مكة فوثب وقال: النهار يعمل عمله، إن ملك الشمس يسوقها فمتى تريدون القيام.
وكانوا يحافظون على أوقاتهم، فهذا داود الطائي كان يسف خبزه سفاً -أي: يدق الأكل-، فيقول: ما بين السف والمضغ خمسين تسبيحة.
وعن سفيان قال: ما وضع رجل يده في قصة رجل إلا ذل له.
وقال أحمد بن يونس: سمعت الثوري ما لا أحصيه -يعني: يقول كثيراً-: اللهم سلم سلم، اللهم سلمنا وارزقنا العافية في الدنيا والآخرة.
وقال سفيان: ليس الزهد بأكل الغليظ ولبس الخشن، ولكنه قصر الأمل وارتقاب الموت، فالزهد أن تذكر حين يغسلونك ويكفنونك، فتقصر الأمل؛ حتى لا تنتظر أن تشرق عليك شمس الغد، هذا هو الزهد، وقصر الأمل يدفعك إلى العمل حتى لو قيل لك: إن القيامة غداً ما كان في عملك مزيد.
قال سفيان الثوري: المال داء هذه الأمة -أي: فتنة هذه الأمة-، والعالم طبيب هذه الأمة، فإذا جر العالم الداء إلى نفسه فمتى يبرئ الناس؟! وقال سفيان: لا نعلم شيئاً أفضل من طلب العلم بنية.
وقال الثوري: احذر سخط الله في ثلاث: احذر أن تقصر فيما أمرك، واحذر أن يراك وأنت لا ترضى فيما قسم لك، وأن تطلب شيئاً من الدنيا فلا تجده فتسخط على ربك.
وقال سفيان: الزهد زهدان: زهد فريضة، وزهد نافلة، فالفرض: أن تدع الفخر والكبر والعلو والرياء والسمعة والتدين للناس.
فإنك تجد شخصاً يزهد في المال ويزهد في كل شيء إلا في الجاه والرئاسة، وهذا رجل عنده مال كثير جداً، فيضيع ماله كله في انتخابات مجلس الشورى، فتراه يزهد في المال ولا يزهد في الجاه ولا يزهد في الشهرة، فأشد الزهد الزهد في النفس.
قال: أن تدع الفخر والكبر والعلو والرياء والسمعة والتدين للناس، أما زهد النافلة فأن تدع ما أعطاك الله من الحلال، فإذا طلب شيئاً من ذلك صار فريضة عليك ألا تتركه إلا لله عز وجل.
ودخل عبد الصمد الأمير العباسي عم الخليفة المنصور على سفيان يعوده وهو مريض، فحول سفيان وجهه إلى الحائط ولم يرد السلام، فقال عبد الصمد: أظن أبا عبد الله نائماً، فلما حول سفيان وجهه الناحية الثانية قال: أحسب ذلك أصلحك الله، فقال سفيان: لا تكذب لست بنائم، فقال عبد الصمد: يا أبا عبد الله! لك حاجة؟ قال: نعم، ثلاث حوائج: لا تعد إلي ثانيةً، ولا تشهد جنازتي، ولا تترحم علي، فانخذل عبد الصمد وقام، فلما خرج قال: والله لقد هممت ألا أخرج إلا ورأسه معي.
قال يوسف بن أسباط: قال سفيان: زينوا العلم والحديث بأنفسكم ولا تتزينوا به.(47/13)
شيوخ سفيان الثوري ورواته وتلاميذه
عدد شيوخ سفيان الثوري ستمائة شيخ، كبارهم هم الذين حدثوه عن أبي هريرة وجرير بن عبد الله البجلي وعبد الله بن عباس وأمثالهم، وقرأ الختم عرضاً على حمزة الزيات أحد القراء السبعة، وكان حمزة الزيات لا يشرب الماء من الكوفة خوفاً من أن يشرب الماء من بيت من علمه القرآن، فيكون بذلك قد أخذ أجراً على تعليم الناس القرآن.
وأما الرواة عن سفيان الثوري فذكر ابن الجوزي أنهم أكثر من عشرين ألفاً، ولكن هذا القول مردود على الإمام ابن الجوزي، قال الذهبي: وهذا مدفوع، فإن بلغوا ألفاً فبالجهد، قال: وما علمت أحداً من الحفاظ روى عنه عدد أكثر من مالك، فلقد بلغوا بالمجاهيل والكذابين ألفاً وأربعمائة شيخ.
قال يحيى بن أيوب العابد: حدثنا أبو المثنى قال: سمعت بمرو -مرو: بلد سيدنا عبد الله بن المبارك - رجلاً يقول: قد جاء الثوري قد جاء الثوري، فخرجت أنظر إليه فإذا هو غلام صغير قد دقل وجهه، قال الذهبي: كان ينوه بذكره في صغره من فرط ذكائه وقوة حفظه، ولقد حدث وهو شاب.
قال سفيان رحمه الله: ما استودعت قلبي شيئاً قط فخانني، أي: يحفظ ولا ينسى.(47/14)
فضل الثوري ومنزلته عند مشايخه وأقرانه
أجل إسناد لأهل العراق: سفيان عن منصور عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله.
قال شعبة بن الحجاج -وهو من شيوخ سفيان ومن أقرانه- وابن عيينة -وهو: سفيان بن عيينة الذي قال فيه الإمام الشافعي: لولا مالك وابن عيينة ضاع علم الحجاز- وأبو عاصم ويحيى بن معين وغيرهم: سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث.
وقال عبد الله بن المبارك: كتبت عن ألف ومائة شيخ ما كتبت عن أفضل من سفيان.
وعن أيوب السختياني الذي نفع الله به سيدنا سفيان الثوري، وذلك أن الشيعة كادوا يجرونه إلى اعتقادهم الفاسد، فنفع الله بـ أيوب سفيان، قال: ما لقيت كوفياً أفضله على سفيان الثوري.
وقال يونس بن عبيد تلميذ الحسن البصري: ما رأيت أفضل من سفيان، فقيل له: قد رأيت سعيد بن جبير وإبراهيم النخعي وعطاءً ومجاهداً وتقول هذا؟! قال: هو ما أقول، ما رأيت أفضل من سفيان.
وقال عبد الرحمن بن مهدي -وهو الإمام الذي كان يحضر مجلسه تسعون ألفاً معهم المحابر- قال: ما رأت عيناي مثل أربعة: ما رأيت أحفظ للحديث من سفيان الثوري، ولا أشد تقشفاً وزهداً من شعبة، ولا أعقل من مالك، ولا أنصح للأمة من عبد الله بن المبارك.
وهذا شعبة بن الحجاج أمير المؤمنين في الحديث يلقب بـ شعبة الخير، وكان يحدث عن الضخام، قالوا: يبس جلده على عظمه من شدة العبادة، وكنت إذا رأيته سجد قلت: قد مات يقول شعبة: سفيان أحفظ مني.
وقال رجل لـ شعبة: خالفك سفيان -في راو من الرواة- قال: دمغتني إذاً.
وقال عبد الرحمن بن مهدي: كان وهيب بن الورد طبيب القلوب، كان يقدم سفيان الثوري في الحفظ على مالك بن أنس، الذي قال فيه الشافعي: إذا جاء الأثر فـ مالك النجم.
وقال يحيى القطان: ليس أحد أحب إلي من شعبة ولا يعدله أحد عندي، وإذا خالفه سفيان أخذت بقول سفيان.
وقال عباس الدوري: رأيت يحيى بن معين لا يقدم على سفيان أحداً في زمانه في الفقه والحديث والزهد وكل شيء.
وقال ابن مهدي: رأى أبو إسحاق السبيعي سفيان الثوري مقبلاً فقال: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12].
وعن أبي حنيفة قال: لو كان سفيان الثوري في التابعين لكان فيهم له شأن.
وقال أبو حنيفة: لو حضر علقمة والأسود -وهما من التابعين- لاحتاجا إلى سفيان.
وقال المثنى بن وضاح: سفيان عالم الأمة وعابدها.
وقال ابن أبي ذئب -سيد أهل المدينة-: ما رأيت أشبه بالتابعين من سفيان الثوري.
وقال شعبة: زاد سفيان على الناس بالورع والعلم.
وقال شعبة: سفيان أمير المؤمنين في الحديث.
وقال ابن عيينة: ما رأيت رجلاً أعلم بالحلال والحرام من سفيان الثوري.
وقال ابن المبارك: ما نعت لي أحد فرأيته إلا وجدته دون نعته إلا سفيان الثوري.
وقال أحمد بن حنبل: قال لي ابن عيينة: لن ترى بعينيك مثل سفيان الثوري حتى تموت.
وقال عبد الله بن المبارك: ما أعلم على الأرض أعلم من سفيان.
وقال حفص بن غياث: ما أدركنا مثل سفيان، ولا أنفع من مجالسته.
وقال يحيى بن سعيد: سفيان أثبت من شعبة وأعلم بالرجال.
وقال الفضيل بن عياض: كان سفيان أعلم من أبي حنيفة.
وقال ابن راهويه شيخ الإمام الشافعي وشيخ الإمام البخاري: سمعت عبد الرحمن بن مهدي ذكر سفيان وشعبة ومالكاً وابن المبارك فقال: كان أعلمهم بالعلم سفيان.
وهذا بشر بن الحارث الحافي إمام الدنيا كلها في الزهد والورع، كان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة من مسائل الزهد قال: أتسألوني عن الزهد وفيكم بشر؟! وقال: لو تزوج بشر لكملت رياسته.
جاءت مرة أخت سيدنا بشر بن الحارث الحافي تسأل الإمام أحمد، تقول: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم قال: نرجو ألا يكون ذلك، ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، فلما حضر الإمام أحمد بن حنبل الموت عرف أن أنين المريض شكوى، فما أن ابن حنبل حتى مات، ولذلك من الأدب حينما تذهب إلى الطبيب تقول له بعد حمد الله عز وجل: أشكو كذا وكذا، قالوا: الشكوى بعد الحمد ليست بشكوى.
فقال: ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، فقالت: يا إمام! إنا نغزل غزلنا على ضوء مصباح مشاعل الظاهرية، وكانوا قوم سوء ظلمة، فإذا انطفأ غزلناه على ضوء القمر، أنبينه للناس؟ قال: بينيه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، فلما ذهبت قال الإمام أحمد لابنه عبد الله: اذهب يا بني! فاتبعها، فقال: دخلت بيت بشر، فقال: مثل هذه لا تكون إلا في بيت بشر، من بيتهم خرج الورع.
وكان بشر بن الحارث الحافي لا يشرب من السواقي التي حفرها أمراء الدولة العباسية في بغداد، وكان يشرب من مياه الآبار، ولما سئل عن ذلك قال: مع أن الماء في ذاته صالح للشرب إلا أن هذه السواقي حفرها أمراء ظلمة.
قال بشر بن الحارث: كان الثوري عندنا إمام الناس، وقال: سفيان في زمانه كـ أبي بكر وعمر في زمانهما.
وقال ورقاء: يا جماعة لم ير سفيان الثوري مثل نفسه.
وهذا شعيب بن حرب إمام حافظ من حفاظ السنة قال: إني لأحسب أنه يجاء غداً بـ سفيان حجة من الله على خلقه، يقول لهم: لم تدركوا نبيكم قد رأيتم سفيان، فقد كان سفيان يتمثل فيه علم النبوة.
وقال علي بن المديني: لا أعلم سفيان صحف في شيء قط، يعني: لم يكن يغلط في أسماء الرجال إلا في اسم امرأة أبي عبيدة بن الجراح، كان يقول: حفينة والصواب: بجيم: جفينة، فالمؤمن كيس فطن.
وروى أبو بكر المروزي تلميذ الإمام أحمد عن الإمام أحمد قال: أتدري من الإمام؟ الإمام سفيان الثوري لا يتقدمه أحد في قلبي.
يقول الإمام أحمد بن حنبل: روى عبد الله بن خبيب عن يوسف بن أسباط قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة أتوضأ، فناولته فأخذها بيمينه ووضع يساره على خده فبقي مفكراً ونمت، ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي، فقلت له: هذا الفجر قد طلع، قال: لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الآخرة حتى الساعة.
وقال شعبة: إن سفيان ساد الناس بالورع والعلم.
وقال قبيصة: ما جلست مع سفيان مجلساً إلا ذكرت الموت، وما رأيت أحداً كان أكثر ذكراً للموت منه.
قال يوسف بن أسباط: سئل الثوري عن مسألة وهو يشتري شيئاً فقال: دعني فإن قلبي عند درهمي.
وقال سفيان: لأن أخلف عشرة آلاف درهم يحاسبني الله عليها أحب إلي من أن أحتاج إلى الناس.
وقال الثوري: كان المال فيما مضى يكره، أما اليوم فهو ترس المؤمن.
فهذه نصيحة غالية من إمام عظيم.
فالجزء الذي يطالبك به المولى عز وجل هو الاعتقاد، فإذا عرفت الواجب عليك في الفقه وفي علم الحديث وقال لك أبوك: لا تحضر الدرس فلا تحضره، واقرأ كتاب بر الوالدين للإمام الطرطوشي، وهذه أمور لم يختلف فيها أهل العلم.
وهذا عبد الله بن المبارك كان تاجراً وكان يتاجر من أجل حفاظ الحديث، نعم المال الصالح للرجل الصالح، فلا بد من تنويع الكفاءات حتى تشمل احتياجات الأمة كلها.
جاء رجل إلى سفيان الثوري يشاوره في الحج، فقال: لا تصحب من يكرم عليك، إنك إن ساويته في النفقة أضر بك، وإن تفضل عليك استذل بك.
ونظر إليه رجل وفي يده دنانير فقال: يا أبا عبد الله! تمسك هذه الدنانير؟! قال: اسكت، فلولاها للتمندل بنا الملوك.
قال الذهبي: قلت: كان سفيان رأساً في الزهد والتقشف محبة لله عز وجل والشوق إليه، يعني: رأساً في الحفظ ومعرفة الآثام، ورأساً في الفقه، لا يخاف في الله لومة لائم، من أئمة الدين وفيه(47/15)
خطبة عيد الأضحى [1417هـ]
يجتمع الناس يوم الحج الأكبر فيذكرون نعمة الله عليهم وفضله أن جعلهم أمة واحدة، يدينون بدينه، ويتبعون كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وشرع الله الأضحية في عيد الأضحى للمسلمين تأسياً بنبي الله إبراهيم، الذي صدق الله حين ابتلاه بذبح ولده، فكانت الأضحية سنة له ولمن بعده.(48/1)
مشاهد النحر في الحج الأكبر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تستقل الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم).
لبيك لبيك جد الركب وانطلقت جموعه والنشيد العذب يدفعه أصداؤه في فجاج الأرض صاخبة والبيد في رحبها نشوى ترجعه وفي الجوانح من وجد ومن وله ما جاش في النفس حتى صاب مترعه ما الصبح ما رقة الأنداء ضاحكة ما الزهر في الروض أذكاه وأضوعه أنقى وأجمل من ترداد تلبية ينجو بها محرم والكون يسمعه لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل، لبيك إله الحق لبيك، لبيك وسعديك، لبيك والخير في يديك، والرغباء إليك والعمل، لبيك إنما العيش عيش الآخرة، الله أكبر الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما هل مهل قط، ولا كبر مكبر قط إلا وبشر، قيل: بماذا يا رسول الله؟ قال: بالجنة)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا ولبى ما عن يمينه من حجر أو شجر أو مدر، حتى تنقطع الأرض من ههنا ومن ههنا)، فالكون كله يدين بالطاعة وبالولاء وبالسجود لله تبارك وتعالى.
يسبحه النبات جمعه وفريده، والشجر عتيقه وجديده، وتمجده رهبان الأطيار في صوامع الأشجار، فيطرب السامع تمجيده، وكلما ذرف الهزار دف شكره، فالبلبل بالحمد يعيده، وكلما أقام خطيب الحمام النوح على منابر الدوح هيج المستهام تغريده، {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ} [العنكبوت:19]، ينادى على باب عزته: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23]، ويصاح على محجة حجته: {قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84]، وينزل ناقوس علمه: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7].
ويترنم منسم فضله: {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، ويقول جهبذ طوله: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، فكل موافق ومخالف يمشي وفق مشيئته، ويتقلب في قبضته، إليه إليه يا أهل الموت والفناء، إنه ليس أقدر من قادر طلبته بيده، وليس أعذب من مخلوق هو بيد طالبه، إليه إليه يا أهل الموت والفناء كيف تستمسكون عن عبادته ولا رب لكم غيره، ولا وارث لكم سواه؟! يا من تفنى آجالكم ممر الساعات، واختلاف الليل والنهار! عودوا إلى مولاكم في هذا اليوم الذي أقسم الله بفجره فقال: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2] قال ابن عباس: هو فجر يوم النحر، ويوم النحر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أعظم الأيام عند الله يوم النحر).(48/2)
عودة إلى الماضي المجيد لتذكر أجدادنا
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها) فأين نحن يا إخوتاه من هذه الأمة التي أراد الله تبارك وتعالى لها قيادة البشرية، نحن أمة الصديق، فأين نحن من الصديق الذي سبق -والله- سبقاً بعيداً؟ تقول عنه عائشة: أبي وما أبي! أبي والله لا يعطوه الأبد.
ويقول علي بن المديني: إن الله تبارك وتعالى أعز الإسلام برجلين لا ثالث لهما: أبي بكر يوم الردة، وأحمد بن حنبل يوم المحنة.
ويقول ابن مسعود: رضي الله عن أبي بكر لو أطاعنا أبو بكر -أي: في يوم الردة- لكفرنا، قام بأمر الله كله، وقام بدين الله كله.
هذا أبو بكر حالب الشياه للعجائز، والعاجن بيديه خبز الأيتام.
نحن من أمة عمر، هذه النفس الأبية العظيمة، فقد فتحت الفتوحات العظيمة على يده، وما أدراك ما عمر.
فيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر جنودك في سيناء حطوا رحالهم وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر نحن من أمة عثمان ذي النورين الذي كانت الفتوح في عصره كالماء المنهمر، ومن أمة معاذ بن جبل مقدام العلماء، فعمره يوم مات أربع وثلاثون أو ثمان وعشرون سنة على الرواية الثانية، وهو يسبق العلماء برتوة يوم القيامة.
نحن من أمة أبي عبيدة فاتح القدس، وما أدراك ما أبو عبيدة، صاحب اليرموك، سلوا عنه سهول اليرموك تعلمكم من هو أبو عبيدة أمين هذه الأمة.
نحن من أمة خالد الذي قال عنه أبو بكر: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، نحن من أمة خالد الذي قال له رسول ملك الروم: ارجعوا معاشر العرب وسنعطي لكم الحنطة والشعير، فقال: نحن قوم نحب شرب الدماء، وقد بلغنا أن دماء الروم من أحلى الدماء مذاقاً، فلا نعود إلا بشرب دمائكم.
نحن من أمة أسامة بن زيد الذي دوخ الجيوش وهو ابن عشرين سنة.
ونحن من أمة مصعب بن عمير ذلك الشاب جبل الرحمة فاتح المدينة بالقرآن.
ونحن من أمة محمد بن القاسم الثقفي فاتح السند والهند وعمره سبعة عشر عاماً.
ونحن من أمة محمد الفاتح الذي فتح القسطنطينية وهو ابن اثنتين وعشرين سنة ونصف.
ونحن من أمة البخاري الذي كتب التاريخ الكبير وهو ابن ثمان عشرة سنة.
ونحن من أمة ابن تيمية الذي أسلم على يديه يهودي وهو مازال صبياً يذهب إلى الكتاب.
ونحن من أمة هارون الرشيد الذي كتب إلى نقفور امبراطور الروم: من هارون أمير المؤمنين إلى نقفور كلب الروم، يا ابن الكافرة! الجواب ما ترى دون ما تسمع.
ومن أمتنا خرج المعتصم.
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم صادفت أسماعنا لكنها لم تصادف نخوة المعتصم نحن من أمة محمود بن سبكتكين فاتح خراسان والهند سنة 418هـ، ونحن من أمة ألب أرسلان الذي واجه الروم وكان معه عشرون ألف مقاتل، ثم خرج بكفنه، وخرج الجيش كلهم بأكفانهم، وما هي إلا ساعة حتى كان النصر للمسلمين، ووقع أرامنوس في قبضة المسلمين.
يقول ابن النحاس: ونودي على أرامنوس! من يشتري؟! فقال أحد الجنود: لا أشتري الكلب إلا بكلب، فقال ألب أرسلان: أعطوه الكلب، فإن الكلب خير منه، ثم ربطوا عنقه بعنق الكلب، فلما وصل إلى روما سملوا عينيه.
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا ومن هذه الأمة خرج نور الدين محمود زنكي، فعندما حاصر الفرنجة دمياط أراد أحد طلبة الحديث أن يروي حديثاً عن التبسم، وأرادوا من نور الدين محمود زنكي أن يتبسم، فقال: كيف أبتسم والمسلمون محاصرون؟! نحن من هذه الأمة التي أخرجت صلاح الدين الأيوبي الذي دوخ جيوش الفرنجة ونحن من هذه الأمة التي أخرجت الظاهر بيبرس لما أراد ملك عكا أن يستعرض جيشه أمام رسول بيبرس قال له الرسول: إن أسرى الفرنجة عند بيبرس أكثر من جيشك.
ونحن من أمة سليمان القانوني السلطان العثماني فاتح بلغراد ورودس وبلاد المجر، فأين نحن من هذه الأمة، أين نحن من هذه الأمة؟! قال الشاعر: فيا فلسطين من يهديك أفئدةً ومن يعيد لك البيت الذي خربا تلفتي تجدينا في مبادئنا من يعبد الجنس أو من يعبد الذهبا أنا قبيلة آلام بأكملها ومن دموعي سقيت المزن والسحبا يا من يعاتب مذبوحاً على دمه ونفس شريانه ما أسهل العتبى من جرب الكي لا ينسى مواجعه ومن رأى السم لا يشقى كمن شربا يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا فقبر خالد في حمص يلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا ابن الوليد ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا أضنت سياط حزيران ظهورهم فأدمنوها وباسوا كف من ضربا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا وقال الشاعر: بيروت في اليم ماتت قدسنا انتحرت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا قم من ترابك يا ابن العاص في دمنا ثأر طويل لهيب العار يكوينا قم يا بلال وأذن صمتنا عدم كل الذي كان طهراً لم يعد فينا هل من صلاح يعيد السيف في يدنا أو كسروها فقد شلت أيادينا هل من صلاح لشعب هده أمل ما زال رغم عناد الجرح يشفينا جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني جئنا نداويك تأبى أن تداوينا إني أرى القدس في عينيك ساجدة تبكي عليك وأنت الآن تبكينا ما زال في العين طيف القدس يجمعنا لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا أين السودان والأئمة الذين يذبحون في شرق السودان؟ وأين ليبيا؟ وأين المجاعة في الصومال؟ وأين المسجد الأقصى؟ وأين البوسنة والهرسك؟ وأين بلاد المسلمين؟! متى يفيق النائمون؟! شهداؤنا بين المقابر يهمسون والله إنا قادمون في الأرض ترتفع الأيادي تنبت الأصوات في صمت السكون والله إنا راجعون تتساقط الأحجار يرتفع الغبار وتضيء كالشمس العيون والله إنا عائدون شهداؤنا خرجوا من الأكفان وانتفضوا صفوفاً ثم راحوا يصرخون عار عليكم أيها المستسلمون! وطن يباع وأمة تنساق قطعاناً وأنتم نائمون! شهداؤنا فوق المنابر يخطبون قاموا إلى لبنان صلوا في مساجدها وزاروا المسجد الأقصى وطافوا في رحاب القدس واقتحموا السجون في كل شبر من ثرى الوطن المكبل ينبتون من كل أرض من كل ركن من ربوع الأمة الثكلى أراهم يخرجون شهداؤنا وسط المجازر يصرخون: الله أكبر منك يا زمن الجنون الله أكبر منك يا زمن الجنون الله أكبر منك يا زمن الجنون شهداؤنا يتقدمون أصواتهم تعلو على أسوار بيروت الحزينة في الشوارع في المفارق يهدرون إني أراهم في الظلام يحاربون رغم انتصار الضوء في الوطن المكبل بالمهانة والذمامة والمجون.
والله إنا عائدون أكفاننا ستضيء يوماً في رحاب القدس سوف تعود تقتحم المعاقل والحصون شهداؤنا في كل شبر يصرخون: يا أيها المتنطعون كيف ارتضيتم أن ينام الذئب في وسط القطيع وتأمنون؟! وطن بأرض الكون يعرض في المزاد وطغمة البلدان في الوطن الجريح يتاجرون أحياؤنا الموتى على الشاشات في صخب النهاية يذكرون من أذهب الوطن العريق وكبل الأحلام في كل العيون؟ يا أيها المتشرذمون! سنخلص الموتى من الأحياء من سفه العميل العابث المجنون.
والله إنا قادمون شهداؤنا في كل شبر في البلاد يزمجرون جاءوا صفوفاً يسألون يا أيها الأحياء ماذا تفعلون؟! في كل يوم كالقطيع على المذابح تصلبون تتسربون على جناح الليل كالفئران سراً للذئاب تهرولون وتطوف أعينكم على الدولار فوق ربوعه الخضراء يبكي الساجدون صور على الشاشات والناس من ألم الفجيعة يضحكون في صورتين تباع أوطان وتسقط أمة ورءوسكم تحت النعال وتركعون في صورتين تسلم القدس العريقة للذئاب ويسكر المتآمرون شهداؤنا في كل شبر يصرخون بيروت تسبح في الدماء وفوقها التابوت يهذو في جنون بيروت تسألكم: أليس لأرضها حق عليكم؟ أين فر الرافضون؟ وأين غاب البائعون؟ وأين راح الهاربون الصامتون الغافلون الكاذبون؟ صمتوا جميعاً والرصاص الآن يخترق العيون وإذا سألت سمعتهم يتصايحون.
هذا الزمان زمانهم في كل شبر في الورى يتحكمون.
لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً كلكم في اليم يوماً غارقون تجرون خلف الموت والنخاس يجري خلفكم وغداً بأسواق النخاسة تعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون كهاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون متى يفيق النائمون؟ متى يفيق النائمون؟ يا إخوتاه! كل يوم لا يعصى الله فيه فهو يوم عيد، والعاقل يفرح لسيده ومولاه، والغافل يفرح بلهوه وشيطانه وهواه.
ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن طاعاته تزيد.
بك يا الله نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، وإلى جنابك نقترب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
اللهم ائذن لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود، اللهم ائذن لشريع(48/3)
ذكر ما جاء في خطبة الوداع ونحر الهدي
في حجة الوداع يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا) ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال المرء معنقاً صالحاً ما لم يصب دماً حراماً، فإذا أصاب دماً حراماً بلح) يعني: عطب أمره.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لزوال الدنيا أهون على الله من قتل مؤمن بغير حق)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن أهل السماء والأرض اشتركوا في دم امرئ مسلم لكبهم الله على وجوههم في النار).
ولما أمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية لينحر الهدي في حجة الوداع، تسابقت الإبل والنوق بين يديه أيها ينحر أولاً بين يديه، وكأن الموت بين يديه حياة، فالإبل تسارع بين يدي رسول الله لتنال شرف الذبح بين يديه صلى الله عليه وسلم، هذا هو شوق العجماوات إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأين شوقكم إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!(48/4)
دعوة إلى حمل هموم المسلمين والعودة إلى الدين
نبي الله إبراهيم يرفع بيت الرحمن ويقول: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].
وكان وهيب بن الورد إذا قرأ هذه الآية يقول: وأنت يا خليل الرحمن وأنت ترفع بيت الرحمن تقول: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم! والخليل الثاني الذي ننتسب إليه رسولنا وحبيبنا وعظيمنا، رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهل صحت نسبتنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل هاجرنا إلى الله عز وجل، وإلى رسوله اتباعاً وتمسكاً بهديه واقتفاءً لأثره؟ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ عمر: (أمتهوكون أنتم بعدي يا عمر؟ أمتحيرون أنتم بعدي يا عمر؟! والله لقد جئتكم بها بيضاء نقية، والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا اتباعي).
نسينا في ودادك كل غال فأنت الآن أغلى ما لدينا نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا هذا هو الدين الذي يجمعنا، والآصرة التي تجمعنا آصرة العقيدة.
إن يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد أو يختلف نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد فهل أقمنا الدين مقام الوالد؟!! سلوا كل صقع في الأرض، سلوا كل مشرد وكل أقلية مسلمة تذبح، سلوا البطون التي تبقر، سلوا اليتامى في فجاج الأرض، سلوا الدماء التي تباع رخيصة؟ سيكون جوابها: يا من تنهش في أحشائي يا من مني يا من جزءاً من أجزائي يا من تبدو للجهال كأنك دائي إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي قل لي: هل يأتيك ندائي؟ إنك مني أنت كأني لست أرائي أنت كأني حين شقائي حين جهلت طريق إلهي من عند الألف إلى الياء حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكسائي لكنك دوماً تطعنني من خلفي وفي كعب حذائي حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي ووشاة القوم إذا بانوا تصل الطعنة في أحشائي قل لي: هل يأتيك ندائي؟ ابغ العزة عند إلهك ليس العز دمي وبكائي وغداً من قواك يميتك إن أنت أهملت ندائي(48/5)
فضل خليل الرحمن إبراهيم
تعود بنا الذكريات إلى عصر أبطال في التاريخ، إلى أبي الأنبياء، إلى خليل الرحمن إبراهيم، الذي قال فيه ابن عباس: ما قام بدين الله كله إلا إبراهيم عليه السلام، قدم جسمه للنيران، وماله للضيفان، وولده للقربان، {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، فقام بأمر الله كله، وقال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى بالشك من إبراهيم).
قام أمر إبراهيم كله على اليقين، ما قام بأمر الله كله إلا إبراهيم، وانظروا إلى الكون في عهد إبراهيم وإلى الأرض وهي تموج بالكفر وتضطرب إلا هو وزوجه وابن أخيه، سبحان الله! أي غربة فوق هذه الغربة، إبراهيم وابن أخيه وزوجه فقط، وكل من على الأرض بعد ذلك كافر.
جمعوه في النيران ويقول رءوس الكفر كلمتهم، ويقول الله عز وجل كلمته، قال تعالى: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ * قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:68 - 69]، فانظر ما الفرق بين كلمة وكلمة: كلمة تذهب أدراج الرياح إلى مزابل التاريخ، وكلمة أخرى تنشر بها عوالم وتخلق بها نواميس، ويحق الله عز وجل الحق بكلماته.
{قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الأنبياء:69]، تتلقاه الملائكة وهو يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل.
ويطارد إبراهيم ويهاجم، إبراهيم عليه السلام المقطوع من الولد والأهل والعشيرة، الشيخ الطاعن في السن، يرزقه الله تبارك وتعالى الولد وهو في شيخوخته بعد أن دعا الله تبارك وتعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات:100].
إبراهيم -وكله أدب مع الله عز وجل- يقول مثنياً على ربه: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ} [الشعراء:78 - 80] ولم يقل: وإذا أمرضني، وإنما قال: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:80]، فنسب إرادة المرض إلى نفسه؛ أدباً مع الله عز وجل.
إبراهيم الذي رزق كمال الأدب مع الله عز وجل، المتواضع في عظم النبوة وجلالها يقول: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء:83]، ويقول: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].(48/6)
أمر إبراهيم بأخذ زوجه هاجر وابنه إلى مكة
يرزق إبراهيم بغلام حليم نجيب شهد الله تبارك وتعالى له بالنجابة من صغره، فيأمره الله عز وجل أن يذهب بزوجته وبولده إلى جبال صالان موضع مكة الآن، حيث الصحارى التي تتلظى ناراً ووهجاً، فيستجيب لأمر الله عز وجل ويرضى به، تقول له زوجه: يا إبراهيم! إلى من تتركنا في مثل هذا المكان القفر؟! آلله أمرك بهذا؟! يقول: نعم، تقول: إذاً: فلن يضيعنا.
فأي مكانة للتوكل أعظم من هذه! موقف لامرأة عظيمة مصرية يعجز عن مثله رجال الدنيا، إن أراد الناس أن يفتخروا وإن أراد المصريون أن يفتخروا فليفتخروا بأم إسماعيل هاجر، لا يفتخرون بأقباط وفراعنة قدماء كفرة لا شأن لهم عند الله عز وجل في ميزان الأرض ولا في ميزان السماء، هناك امرأة لها رسالة دكتوراة في التاريخ الإسلامي تثبت أن أم إسماعيل كانت بنتاً لفرعون مصر، وقد أهداها لخليل الرحمن إبراهيم، وهو مع كفره يقول لإبراهيم: نعم الرب ربك يا إبراهيم.
أم إسماعيل تقول: إذاً: فلن يضيعنا الله، ويذهب إبراهيم تاركاً لها ولولده، ثم بعد هذا يأتيها جبريل حينما يتلبط وهي تهرول ما بين الصفا والمروة باحثة عن الماء لرضيعها الذي يتلبط جوعاً، وهنا يتبدى لها جبريل، وفي رواية صحيحة يقول لها: من أنت؟ تقول: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم.
يقول: إلى من وكلكما؟ تقول: إلى الله، وهي لا ترى أمامها إلا رمال الصحراء، يقول: وكلكما إلى خير كافل، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله، فإن كان الله عز وجل لا يضيع أهله فهل يضيع دينه.
ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإقتار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا وقال الآخر: لا تدبر لك أمراً فأولي التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منكا فيحفظها من يحفظ موسى في ثبج البحر، ومن حفظ إبراهيم في لجج النيران، سبحان من جعل من ثبج البحر وموجه لموسى مستراحاً ومأمناً ومناماً، يحفظها من يحفظ يونس وهو في بطن الحوت: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
فهذه خطوات لامرأة ملؤها الصدق يجعلها الله عز وجل ركناً من أركان الحج كما يقول جمهور أهل العلم، هذا ما أوصتكموه أم إسماعيل يا بني ماء السماء، خطواتها بصدقها أصبحت ركناً من أركان الحج.
إن الله لا يضيع أهله، فالدرس الأول في هذا اليوم هو درس اليقين لأم إسماعيل ولإسماعيل ولإبراهيم عليهم السلام.
{وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} [القصص:7] إن المرأة إذا خافت على وليدها ضمته إلى صدرها، فما بال الله عز وجل يلهم أم موسى أن تلقيه إلى ثبج البحر؟! حتى يصل إلى عدوه فرعون الذي كان يرسل الآلاف المؤلفة بحثاً عن طفل رضيع، فيذهب إليه الطفل دون حراسة؛ ليمضي أمر الله عز وجل، انظر كم قتل فرعون من أجل لقيا موسى، ولسان القدر يقول له: لا نربيه إلا في حجرك.
فمن وجد الله عز وجل فماذا فقد؟ ومن فقد الله عز وجل فماذا وجد؟!! وتتعدد صنوف الابتلاء لإبراهيم، فبعد أن يشب غلامه يأمره الله عز وجل في رؤيا منامية -ورؤيا الأنبياء وحي- بذبح ولده، ولم يقل له: أرسله إلى فلان ليذبحه، أو أرسله إلى مكان تعلم أنه سيهلك فيه، ولكن باشر أنت بنفسك عملية الذبح لولدك البكر؛ ليعظم البلاء.(48/7)
ذكر ما جاء من ابتلاء الله لإبراهيم ونجاح إبراهيم فيه
يقول ابن القيم: إن الله تبارك وتعالى يغار على قلب خليله إبراهيم، والخليل هو الذي لم يبق في قلبه شيء لغير ربه حتى من العواطف الفطرية، فسيدنا نوح قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود:45]، ولكن الله عز وجل في شأن إبراهيم يريد ألا يسكن قلب إبراهيم إلى غيره ولو كانت عاطفة البنوة، فرجل كبير طاعن في السن يؤتى الغلام على الكبر شيء طبيعي أن تنجذب شعبة من قلبه إلى حب ابنه، ولكن الله يغار على قلب خليله، فلا يريد لقلب خليله أن ينصرف إلى غيره حتى ولو شعبة يسيرة تتفلت إلى إسماعيل.
فيأمره الله برؤيا منامية ليست وحياً صريحاً وإنما هي منام، فلو كان غيره لتلكأ وقال: أنتظر حتى يأتيني الأمر الصريح، وأنتظر حتى أرى ذلك في اليقظة، ولكن خليل الرحمن الذي أتى ربه بقلب سليم هو شيء آخر عند الله؛ لأن مقام الخلة لم يصل إليه من البشر إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإبراهيم عليه السلام، (إن الله قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً).
فأمره الله تبارك وتعالى بذبح ولده: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102]، فلم يرد أن يتخلص من الضغط النفسي الذي هو فيه بأن يذبح الغلام، ثم بعد ذلك يتجرع مرارة الألم والندم، ولكن جمال الطاعة وقوة الإيمان ونبل التسليم لأمر الله تبارك وتعالى والرضا به أتى من منارة التوحيد، فالحادث الفريد العظيم الكريم الذي لم يسمح بمثله التاريخ أتى به إبراهيم.
قال تعالى: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102] خليل الرحمن إبراهيم يريد أن يرتفع بابنه إلى كمال التسليم لأمر الله تبارك وتعالى {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ} [الصافات:102] وشبح السكين على رقبته، {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] لم يقل: ستجدني من الصابرين، وإنما من أدب النبوة: ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
ومن أراد الله تبارك وتعالى له الثبات والصبر فسيثبت، ولو وكلك الله عز وجل إلى نفسك فثم الخذلان والضياع.
قال تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] أسلما الأمر كله لله عز وجل، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات:103 - 105] نجزي المحسنين بأن نرفع قلوبهم إلى مستوى الوفاء لله عز وجل، ونرفع قلوبهم إلى مستوى الصبر لأمر الله عز وجل، ونجزي المحسنين بالسلام عليهم في الدنيا قبل الآخرة، سلام مسجل في الوجود، ويسطر في كتاب الله عز وجل: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:108 - 109].
انظر يا أخي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده)، فالإنسان منا بمجرد أن يكون له ولد قد يترك أمر الدعوة كلها، فإن الولد مجبنة مبخلة، ولكن سيدنا إبراهيم جاد بولده الوحيد لله عز وجل، فماذا كان الأمر؟ أعطاه الله تبارك وتعالى إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب، فقد بشره الله بحفيده يتمتع برؤيته في حياته، ويسميه الله عز وجل: يعقوب، يعني: سيكون له عقب وذرية ونسل، بل ويجعل الله عز وجل في ذريتهما النبوة والكتاب؛ لأنه ضحى بولد واحد لله عز وجل، فأعطاه الله تبارك وتعالى إسحاق وابن إسحاق يعقوب الذي سيمتد عقبه في التاريخ، وجعل النبوة والكتاب في بيت إبراهيم، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم:37]، فقد بلغ إبراهيم كل اليقين، وهذا هو أصلكم الضارب في التاريخ يا من تنتمون إلى ملة إبراهيم، فهل صح انتماؤكم إلى إبراهيم؟!(48/8)
رمضان ورهبان الليل
قيام الليل أفضل صلاة التطوع، وهو مدرسة يتعلم فيها المؤمن الإخلاص لله تعالى، وهو دأب الصالحين قبلنا، وقربة منا إلى ربنا، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ولقد حافظ النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والصالحون الصادقون على قيام الليل، فهو شرف المؤمن وعزه.(49/1)
فضل قيام الليل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن لله في أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا لها، فلعل أحدكم من تصيبه نفحة من رحمة الله لا يشقى بعدها أبداً)، وأطيب النفحات وأعطرها وأنفحها نفحات رمضان.
الخير باد فيك والإحسان والذكر والقرآن يا رمضانُ والليل فيك نسائم هفهافة حنت لطيب عبيرها الرهبان رمضان شهر الإخلاص والصيام وصلاة التراويح والتهجد، قال الله تبارك وتعالى في محكم آياته، وهو أصدق القائلين: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9]، وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17].
قال الإمام ابن القيم: أخفوا لله العمل فأخفى الله عز وجل لهم الجزاء، فلا تعلم نفس ملك مقرب ولا نبي مرسل ما أعد الله لهم من الجزاء.
قال ابن عباس: من التفسير الذي لا يحيط به أحد تفسير هذه الآية: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة:17] أي: عند الله عز وجل الجزاء الأوفر، فلا تعلم نفس ما أعد الله للمتهجدين.
وفي حديث المغيرة بن شعبة: (أن موسى سأل ربه عن أعلى أهل الجنة منزلة؟ قال: أولئك الذين غرست كرامتهم بيدي، فلم ترَ عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:17]).
وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18]، وقال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6].
وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا * إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان:26 - 27].
قال الإمام الشنقيطي: يستعان على طول الوقوف يوم القيامة بطول التهجد بنص هذه الآيات.
وقال الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، قال ابن مسعود: إذا فرغت من الفريضة فانصب لصلاة الليل.
قال ثابت البناني: من أراد أن يدخل إلى سيده فليدخل من باب الاستقامة، وبابها المحراب، وأي دعوة تريد أن تستقيم إلى الله عز وجل لابد أن يأخذ أصحابها بحظ وافر من الصلاة، فلا يسمى العابد عابداً، ولو كان فيه كل خصلة من خصال الخير، حتى تكون فيها هاتان الخصلتان، لأنهما تأخذان من لحمه ودمه، ولو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39].
وقال أيضاً: الصلاة خدمة الله في الأرض، فمن علم من يخدم، ولِمَ يخدم فليخدم، وليطل الخدمة لمولاه.
وقال أيضاً: كابدت قيام الليل عشرين سنة، واستمتعت به عشرين سنة.
ويوجه الله عز وجل المؤمنين إلى الصلاة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153]، وقال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، والصبر يكون على طول الطريق الشائك، وعلى قلة الناصر، وعلى انتشار الباطل: وهو أن ترى الشر فاشياً، والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق، وهنا قد يضعف الصبر، فيمد الله عز وجل الصبر بالصلاة؛ لأنها انطلاقة من حدود الأرض إلى كون الله، وصلة بالله تعالى، وجلاء الروح، ومدد القلب، وزاد الطريق.
إن الله عز وجل الذي خلق القلوب، وهو العليم بما يصلحها، وجه رسولنا في بداية الدعوة إلى قيام الليل، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل:1 - 2].
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقام الصحابة اثني عشر شهراً، وأمسك الله خاتمة سورة المزمل في السماء حتى انتفخت سوقهم وأرجلهم، فلما علم الله عز وجل صدقهم نزل التخفيف في نهاية السورة: ((إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ)) أي: علم أن لن تطيقوا قيام الليل بأكمله، ثم قال: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل:20].
والصلاة خدمة الله في الأرض، ومدرسة الإخلاص، قال قتادة: كان يقال: قلما سهر الليل منافق، والدعوة إلى الله عز وجل تحتاج إلى المخلصين الذين لا يبالون بمدح الناس ولا بذمهم، يريدون وجه الله عز وجل لا يبتغون الجاه عند الناس ولا المنزلة، ولا يهربون من ذم الناس لهم، فالصادق لا يبالي بالخلق ولو خرجت كل محبة له من قلوب الخلق في سبيل أن يصلح ما بينه وبين مولاه.(49/2)
حال الصالحين مع قيام الليل
فهؤلاء أخفوا لله عز وجل العمل في ظلمات الليالي فملأ الله قلوبهم إخلاصاً ويقيناً، قال محمد بن أعين عن عبد الله بن المبارك: كنت مصاحباً له في أسفاره، فبينا نحن في أرض الروم ذات ليلة إذ أوهمني أنه ينام، فأوهمته أني أريد أن أنام أيضاً، فلما ظن أني قد نمت قام إلى صلاته، فما زال يصلي إلى الفجر، فلما كان عند الفجر أيقظني وقال: يا محمد! الصبح، فقلت له: إني لم أنم، فلما علم أني قد علمت بحاله، ظهر الغضب في وجهه، ولم يزل مجافياً لي إلى أن مات رحمه الله.
وأيوب السختياني كان يصلي معظم الليل، فإذا كان قبل الفجر أظهر الصوت والصياح، وكأنه قد قام من ساعته تلك.
ومنصور بن المعتمر: كان إذا أتى لصلاة الصبح أظهر النشاط لإخوانه، وكأنه لم يقم الليل وقد قام الليل كله أو معظمه.
ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصلاة عند الله صلاة داود، وأفضل الصيام عند الله صيام داود، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل، ثم يقوم ثلثه، ثم ينام سدسه)، وهذا الأكمل والأفضل في صلاة الليل: أن تنام نصف الليل، ثم تقوم الثلث، ثم تنام السدس قبل صلاة الفجر، وهذا هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
قالت السيدة عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم: (ما ألفاه السحر الأعلى إلا نائماً في بيتي)، وتقول أيضاً كما رواه البخاري: (كان يقوم إذا سمع الصارخ: الديك)، والثلث الأخير من الليل هو وقت التنزل الإلهي.
وكان نبي الله داود عليه الصلاة والسلام ينام قبيل الفجر -السدس الأخير من الليل-؛ لأن الرجل إذا صلى طيلة الليل، وخرج إلى الناس في الصباح علت وجهه صفرة القيام، فعلم الناس بحاله، وأما إذا نام قبيل الفجر قليلاً فإن النوم يذهب صفرة الوجه، ويكون هذا أقرب إلى الإخلاص وأبعد عن الرياء.
فصلاة الليل مدرسة الإخلاص، وباب التزكية الأعظم، فمن كان لهم قدر من الليل مع مولاهم فلابد أن تزكى نفوسهم وجوارحهم.
والربيع بن خثيم رحمه الله تلميذ عبد الله بن مسعود قالت له ابنته يوماً: يا أبت! ما لي أرى الناس ينامون ولا تنام؟ فيقول لها: إن أباك يخشى البيات، أي: يخشى هجوم عذاب الله في الليل.
وقالت له أمه: يا بني! والله لو علم أهل القتيل ما تلاقي بسبب قتيلهم لرحموك من كثرة البكاء، فيقول: قتلت أعز الأنفس عندي، قتلت نفسي بالمعاصي.
والربيع بن خثيم هذا الأواب المتهجد اشترى فرساً بثلاثين ألف درهم ليغزو عليها، وذهب غلامه يسار ليحتش وقام هو إلى صلاته من الليل، فلما أتى الغلام لم يجد الفرس، فقال: يا سيدي أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان شيء يشغلني عن الصلاة، ثم رفع يده إلى السماء وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن كان فقيراً فاغنه.
فدعا لسارقه ولظالمه بأن يهده الله إلى الجنة.
لا تعرضن لذكرنا مع ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد وقيام الليل عنوان لعلو الهمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عجب ربك من رجلين: رجل ثار -يعني: نهض بهمة- عن لحافه ووطائه من بين حبه وأهله، ولو شاء أن يرقد لرقد)، فهذا ممن يباهي الله تبارك وتعالى به الملائكة، ويقول: (عبدي يذر شهوته لأجلي، أشهدكم أني قد غفرت له).
وأبو مسلم الخولاني عبد الله بن ثوب كان له سوط يعلقه في المسجد، فإذا كسل عن القيام ضرب رجله بالسوط ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه، والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً.
إنما قالوا التهجد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة وأذان من بلال ادخلوها آمنينا فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعينا قم حبيبي قم حبيبي قم فإن الديك صاح والثريا للمغيبِ أوشكت والصبح لاح والكسالى في عقال أصبحوا متخبطين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين عقد الشيطان عقداً ثم في الآذان بالا ثم قال ارقد وشد فعليك الليل طالا فاغسل الماعون عدًّا من ولوغ الكلب حالا ثم أطلق للشكال أطلق الله اليمين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين والجهاد في الإسلام يسقى بدمع التهجد، وما عرف الإسلام رجاله إلا كذلك: في الليل رهبان وعند جهادهم لعدوهم من أشجع الشجعان من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح أي: من خان الصلاة ولم يكن له قسط منها في الليل، خان الجهاد.
وقد تناوب سيدنا عباد بن بشر رضي الله عنه في غزوة (ذات الرقاع) هو وعمار بن ياسر رضي الله عنه في حراسة جيش المسلمين، وكانت النوبة على عباد بن بشر، وكان المسلمون قد أصابوا دماً لأحد المشركين، فأقسم ألا يمس جنبه الأرض حتى يصيب من المسلمين مقتلاً.
فأقبل عباد على صلاة الليل، وأتى الرجل إلى قرب من معسكر المسلمين فرأى عباداً قائماً فضربه بالسهم من الخلف، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فضربه بالسهم الثاني فنزعه وأقبل على صلاته، ثم ضربه بالسهم الثالث، فلما استيقظ عمار ولى الرجل هارباً، فعاتب عمار رضي الله عنه عباد بن بشر رضي الله عنه وقال له: يرحمك الله! ما الذي منعك من أن توقظني، قال: إني كنت أقرأ سورة فكرهت أن أقطعها.
وتأخرت السيدة عائشة رضي الله عنها ذات ليلة على النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: (ما حبسك عنا يا عائشة! قالت: رجل حسن الصوت يتهجد بكلام الله عز وجل، فخرج فإذا هو سالم مولى أبي حذيفة يصلي وكان حسن القراءة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك).
ولما كان يوم اليمامة وانكشف صف المسلمين أمسك سالم براية المسلمين، فقالوا: يا سالم إنا نخشى أن نؤتى من قبلك، قال: بئس حامل القرآن إذاً أنا، وأمسك بيمينه فقطعت يمينه، ثم أمسك الراية بيساره، فقطعت يساره، فضم اللواء إلى عضديه وهو يتلو قول الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].
وأسلمت هند زوج أبي سفيان في صبيحة يوم الفتح، وقد حرشت قومها على قتل زوجها أبي سفيان في يوم الفتح، وقالت: اقتلوا هذا الخريت الذي يقول: (من دخل دار أبي سفيان فهو آمن)، فقال: قد كنت أراك تكرهين الرجل فما الذي أدخلك في الإسلام؟ قالت: والله! ما رأيت الله عبد قبل اليوم في هذا البيت، يعني: ما رأيت الله عبد إلا في ليلة الفتح، لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يراوحون بين ركبهم وجباههم تهجداً لله عز وجل.
فنور القيام أثر في قلب آكلة الأكباد، حتى أسلمت ودخلت في دين الله عز وجل.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من تعارّ من الليل -أي: من استيقظ من الليل- فقال: الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإذا دعا -أي: قال: اللهم اغفر لي! - استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته).
قال الإمام ابن المنير: وقبول الصلاة حد زائد على صحة الصلاة.
وصلاة الليل لها فضل على صلاة النهار، فهي مقبولة بنص هذا الحديث.
وسيدنا الحسن كان يقول: والله! لو أعلم أن الله قبل مني سجدة واحدة لفرحت بذلك، قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27]، فما ظنك إذا كنت تقوم من الليل وأنت تعلم أن أي صلاة تصليها لله عز وجل بالليل مقبولة عند الله تبارك وتعالى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن عمر: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يصلي من الليل).
قال: سالم بن عبد الله بن عمر: فكان عبد الله لا ينام بعد ذلك من الليل إلا قليلاً.
وفي رواية: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر الصلاة من الليل).
وقام النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فزعاً وقال: (سبحان الله! ماذا أنزل من الفتن؟ من يوقظ صواحب الحجرات -يعني: أمهات المؤمنين للصلاة-؟ فرب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).
وروى الإمام البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه ليلاً، وكنت وفاطمة نائمين، فقال: ألا تصليان؟ فقلت: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مولياً وجهه عنا ويضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]).
وما أيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ابنته وابن عمه في الليل الذي جعله الله سكناً للناس إلا لعلم النبي صلى الله عليه وسلم بعظم صلاة الليل.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحببت من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس)، والناس اليوم يظنون أن الشرف في المال، فلو ضاع هذا المال ضاع الشرف.(49/3)
فوائد قيام الليل الطبية
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بصلاة الليل؛ فإنها دأب الصالحين قبلكم، وقربة منكم إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد).
وفي مؤتمر الإعجاز الطبي للقرآن الكريم الذي حضره عمداء ومدرسون ومستشارون في كليات الطب على مستوى العالم الإسلامي، عملوا بحثاً عن تأثير قيام الليل والتهجد على آلام المفاصل (الروماتيزم)، فجربوا مسكنات الألم: كالزركلين والأدنوجكت والإسبرين وغيرها من المسكنات.
أما الدكتورة سلوى من جامعة حلوان، فقد جاءت بثلاثين شخصاً من الذين يصلون التراويح، وثلاثين آخرين ممن لا يصلون التراويح، وأثبتت أن الثلاثين الذين يصلون التراويح ارتفعت عندهم الكفاءة الروحية لعضلات القلب، مع ليونة في جميع المفاصل، واختفاء آلام الروماتيزم من كل مفاصل الجسد.(49/4)
عدد ركعات صلاة التراويح
فالمطلوب من المسلم أن يلتزم بهدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الليل، وأن يقتدي به تمام الاقتداء، فقد كان لا يزيد في رمضان وغيره عن إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة، وتجوز الزيادة على ذلك العدد.
وكانت صلاة التراويح عند الصحابة رضوان الله عليهم نموذجاً للكيف لا الكم كما قال تميم الداري: كنا نقرأ بالمئين، -يعني: في الركعة الواحدة-، وكنا نعتمد على العصي من طول القيام -يعني: عندما تمل أرجلهم من طول الصلاة- وما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر؛ خشيت أن يفوتنا الفلاح، أي: السحور.
يعني: كانوا يصلون إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة، وكانت تستغرق الليل إلى قبيل الفجر.
فمن أراد أن يكون سنياً فعليه أن يأتي بأكمل الهدي فيصلي في الليل إحدى عشرة ركعة أو ثلاث عشرة ركعة إلى قبيل الفجر.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وكان تكثير الركعات عوضاً عن طول القيام، وهو الذي قال به جمهور أهل العلم.
وقال الشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين: صلاة الليل من النفل المطلق ولا حد لأكثره، وأفضل الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
فينبغي للمسلم الالتزام بهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وليكثر من الوقوف بين يدي الله تبارك وتعالى، فإنه يذهب من البدن أمراض الروماتيزم وغيرها من الأمراض.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جابر بن عبد الله: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله عز وجل من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه الله إياه، وذلك في كل ليلة).
وهي ساعة التنزل الإلهي، وليست ساعة الإجابة التي تكون في آخر ساعة من عصر الجمعة، إنما هي ساعة إجابة في كل ليلة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل الآخر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الساعات جوف الليل الآخر، أو جوف الليل الأخير).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الخاسرين، ومن قام بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام بألف آية كتب من المقنطرين)، والمقنطرون كما جاء في الحديث الآخر: (من لهم قنطار من الأجر، والقنطار من الأجر خير من الدنيا وما فيها)، وفي رواية: (أثقل في الميزان من جبل أحد)، فإما أن تكون من الغافلين الذين أخذوا الطين، وإما أن تكون من المقنطرين.
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي قال الحافظ ابن حجر: آيات جزء عم وتبارك ما يقارب ألف آية، فمن قام الليل بهذين الجزأين كتب من المقنطرين ممن لهم قنطار من الأجر عند الله تبارك وتعالى.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يعجب ربك إلى ثلاثة) وفي رواية: (ثلاثة يحبهم الله، ويضحك إليهم)، والحديث الآخر: (ومن ضحك الله إليه فلا حساب عليه)، وهؤلاء الثلاثة هم: رجل انهزم أصحابه في المعركة فقاتل بنفسه حتى فتح الله عليه وعلى أصحابه، فيقول الله عز وجل: انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر بنفسه من أجلي.
ورجل عنده فراش لين وزوجة حسناء ولو شاء أن يرقد لرقد، فيدع فراشه ويصلي من الليل، ورجل كان في سفر هو وأصحابه وطال قيامهم حتى تمنوا أن لو تمس جلودهم الأرض، فناموا جميعاً، فقام يحرسهم ويصلي لله تعالى إلى أن استيقظوا.
وممن يضحك الله إليهم: الذين يقومون الليل ويتهجدون لله عز وجل.
تتجافى جنوبهم عن لذيذ المضاجعِ كلهم بين خائف مستجير وقامع تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع واستهلت دموعهم بانصباب المدامع ورأوا أنجم الدجى طالعاً بعد طالع قيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين من أحسن الناس وجهوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
فالذين يواظبون على صلاة الفجر ترى وجوههم نيرة، فما بالك بالذي يواظب على صلاة الليل؟ فالشيخ صفوت نور الدين، والشيخ الأستاذ عبد العظيم، والشيخ: أبو بكر الجزائري وجوههم نيرة؛ لأن لهم حظاً مع الله عز وجل، وكذلك سريرة صالحة مع الله عز وجل.
وكان محمد بن سيرين إذا دخل المسجد سَبّح الناس ربهم؛ لما على وجهه من النور، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين رُءوا ذُكر الله تعالى برؤيتهم).
والحافظ عبد الغني المقدسي كان إذا خرج من بيته اصطف الناس على جنبات الطريق للنظر إلى محياه، وبات معه رجل ممن يعبد الشمس فلما رأى صلاته من الليل وبكاءه، زفر الرجل زفرة خرج الكفر بها من صدره، فقد أثرت صلاة عبد الغني المقدسي في هذا الرجل فأسلم بسبب صلاة الليل.
فانظر إلى حال من لهم حال مع الله تبارك وتعالى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى ثم أيقظ زوجته، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة قامت الليل فصلت ثم أيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء)، وفي حديث آخر: (فإن قاما من ليلتهما هذه كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).
وصلة بن أشيم العدوي لما تزوج السيدة معاذة العدوية تلميذة السيدة عائشة رضي الله عنها، ففي ليلة البناء أدخله ابن أخيه بيتاً حاراً، ثم أدخله بيتاً مطيباً، ثم بعد ذلك أدخلوا إليه معاذة، فقام يصلي صلاة الليل حتى الصباح، وقامت هي تصلي خلفه، فعاتبه ابن أخيه في اليوم الثاني فقال له: يا عماه! في ليلة عرسك تصلي إلى الصباح! قال: وماذا أصنع يا ابن أخي، إنك أدخلتني بيتاً حاراً فذكرتني فيه بالنار، ثم أدخلتني بيتاً مطيباً فذكرتني فيه بالجنة، فلم يزل خلدي فيهما إلى الصباح.
ورياح القيسي لما تزوج ذؤابة العابدة تناوم في ليلة البناء يريد أن يختبر صلاة زوجه، فلما كان ربع الليل الأول قالت: يا رياح! قم فقد مضى ربع الليل الأول، فقال: أقم ولم يقم، فلما كان ربع الليل الثاني، قالت: يا رياح قم، قد مضى ربع الليل الثاني، قال: أقوم ولم يقم، فما زال كذلك إلى صلاة الفجر، فلما كان عند الفجر قام يصلي الفجر في جماعة، فقالت: ليت شعري من غرني بك يا رياح، لأنه ما صلى إلا الفجر فقط في جماعة.
وكانت زوجة محمد بن حبيب العجمي توقظه لصلاة الليل، وتقول له: قم يا سيدي! فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، والطريق طويل، والزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد وصلت إلى الجنة ونحن قد بقينا.
وكانت زوج أحمد بن أبي الحواري: رابعة بنت إسماعيل الشامية توقظ زوجها لصلاة الليل، فكان يقول: والله! إن قلبي ليرق بالنظر إلى وجه زوجتي أكثر مما يرق بالحديث مع إخواني؛ لما أرى عليها من أثر التهجد والخشوع وآثار الصلاة.
والنبي صلى الله عليه وسلم ربما قام الليل بآية حتى يصبح، وقام الليل حتى تفطرت قدماه، أي: تشققت قدماه من طول القيام، فتقول السيدة عائشة: (يا رسول الله! أتفعل هكذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً).(49/5)
تهجد الصحابة
إن ذكر الصالحين يطيب المجالس، والحديث عن عباد السلف وعلمائهم ومجاهديهم مما يحلو به الكلام، ففاروق الإسلام عمر بن الخطاب لما مات تزوج عثمان بن العاص -وكان جاراً له- إحدى زوجات عمر، وقال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر.
فسيدنا عمر رضي الله عنه كان في وجهه خطان أسودان من كثرة الدموع من خشية الله.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها قام الليل بآية فما زال يرددها ويبكي حتى أغمي عليه، فمرض من جراء هذه الآية حتى عاده الصحابة شهراً، وكان ينعس وهو قائم بعد توليه الخلافة، فقالوا له: يا أمير المؤمنين! ألا تنام؟ فقال: إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله.
لسان حاله يقول: لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطابة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا وكذلك كانت ابنته أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها، ذكر الإمام الحافظ ابن حجر في كتاب الإصابة بسند حسنه هو والشيخ الألباني عليه رحمة الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة بنت عمر ذات يوم، فنثر عمر التراب على وجهه، وقال: ما يعبأ الله بك يا ابن الخطاب بعد هذا؟ فنزل جبريل وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة).
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ويزرع إلا في منابته النخل فالكلام عن الصحابة أزكى الناس على ظهر الأرض ذو شجون، فنعال الصحابة أو قلامة أظفارهم لو كانت في مياه سوداء مليون سنة لخرجت منها وهي أنظف من قلوب ووجوه الذين ينتقصون فيهم، فقد كان الصحابة قمماً عالية، فسيدنا عثمان بن عفان لما دخلت عليه زوجته نائلة وقد قتلوه، قالت: قتلتموه وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن كله في ركعة واحدة.
تعني: أنه قرأ القرآن كله في ركعة واحدة.
قال الشيخ عبد القادر الأرناؤوط عن هذه الرواية: إسنادها صحيح.
والعلماء الذين احتجوا بجواز صلاة الوتر بركعة واحدة احتجوا بفعل سيدنا عثمان بن عفان وتميم الداري وسعيد بن جبير؛ فإنهم ختموا القرآن الكريم في ركعة واحدة في الكعبة.
ضحوا بأشمط عنوان السجود به يقطع الليل تسبيحاً وقرآناً وفيه نزل قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر:9].
وترجمان القرآن عبد الله بن عباس كان تحت عينيه مثل الشراك البالي من كثرة الدموع، وكان يصلي نصف الليل ونصفه الآخر يبكي، ويكثر في النشيج، ويردد قول الله تعالى إلى أن يصبح: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
وأبو هريرة راوية الإسلام تناوب قيام الليل هو وزوجته وخادمه، فكان يقوم ثلثاً ثم ينام، وتقوم زوجته ثلثاً ثم تنام، ويقوم خادمه ثلثاً.
فإذا قام هذا نام هذا.
وكان يسبح بعد صلاة الصبح اثنتي عشرة ألف تسبيحة، أي: أن له اثنتي عشرة ألف نخلة غرست في الجنة، وكان يقول: إنما أسبح الله بقدر ذنبي، وفي رواية: بقدر ديتي.
وسيدنا تميم الداري الصحابي الذي تفرد برؤية الجساسة، كان بعض الشباب من أبناء الصحابة يقولون عنه: أدركناه شيخناً كبيراً وما كنا نستطيع أن نصلي وراءه صلاة الليل أبداً؛ لطول صلاته، لذلك أجرى الله عز وجل الكرامات على يديه، فقد هبت نار عظيمة في أيام خلافة سيدنا عمر بن الخطاب فقال: قم لها يا تميم، قال تميم: ومن أنا؟ -تواضعاً منه- فاستحلفه بالله أن يقوم، فأومأ بيده هكذا حتى أخرجها خارج المدينة وأدخلها إلى مغارة أو كهف، فقال سيدنا عمر: ليس من سمع كمن رأى، لمثل هذا كنا نحبك يا أبا رقية.
وسيدنا أبو ريحانة الصحابي الجليل قفل عائداً من الغزو فأعدت له زوجه الطعام بالليل، فأكل ثم قام إلى مصلاه إلى الصباح، فعاتبته زوجه، فقالت: يا أبا ريحانة: غزوت فأطلت الغزو ثم عدت، أفما كان لنا فيك نصيب؟ قال: لو خطرتي لي على بال لكان لك فيّ نصيب.
قالت: يرحمك الله! ومن الذي شغلك عنا؟ قال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها.
ولقد غزى سيدنا أبو ريحانة مع الصحابة في البحر فسقطت إبرته إلى البحر، فقال: أقسمت عليك يا رب إلا أعدت إلي إبرتي، فعادت إليه.
وسيدنا شداد بن أوس: كان إذا دخل إلى فراشه فكأنما هو حبة مقلاة من كثرة التقلب، يقول: اللهم إن النار منعتني النوم، فلا يزال يصلي إلى الصبح.
ولما دعا النبي صلى الله عليه وسلم للنفقة في غزوة تبوك رجع أبو ضمضم الأنصاري إلى بيته، وكان فقيراً لم يكن معه شيء، فقام يصلي من الليل ثم قال: اللهم إني أتصدق على كل مسلم ظلمني في مالي أو جسدي أو عرضي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من المتصدق بعرضه البارحة؟ ليقم، فقام، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده! لقد قبلت صدقتك في الزكاة المتقبلة).(49/6)
تهجد التابعين
وكان مسروق بن عبد الرحمن بن الأجدع يقوم من الليل، وكانت زوجته تبكي عليه رحمة مما يصنع بنفسه، فقد كان يصلي وإن رجلاه لمنتفختان من طول القيام، وما كان يأتي فراشه إلا زحفاً كما يزحف البعير.
وكان أصحاب الربيع بن خثيم يعرفون أنه قام الليل ولم ينم بجمته، فإذا أتى إلى الصباح يقولون: والله إن جمة الربيع لتخبركم أنه لم يتوسدها الليلة، فإنها نفس الشعر الذي فارقناه في صلاة العشاء.
وحسان بن أبي سنان تقول عنه زوجه: كان يأتي إلى فراشي فيدخل معي في فراشي ثم يخادعني كما تخادع المرأة صبيها، فإذا علم أني قد نمت قام وسل نفسه إلى صلاة الليل.
ومنصور بن المعتمر: كان يقوم الليل إلى الصباح فوق سطح منزله، فلما مات قالت فتاة لأمها: يا أماه! المشحب الذي كان على سطح جارنا ما لي لم أره الليلة؟ فقالت: قد مضى إلى ربه.
والإمام الأوزاعي: بات يوماً عند جاره، فلما خرج من البيت رأت زوجة صاحب البيت بللاً في مصلى الأوزاعي، فعاتبت زوجها، وقالت له: ثكلتك أمك! تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ، فقال: والله ما هذا بول الصبيان، وإنما هذا من أثر دموع الشيخ ليلاً.
نزف البكاء دموع عينك باستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تعارُ وعبد الرحمن بن مهدي يقول: ما صحبت رجلاً من الناس أرق من سفيان الثوري، كنت أرمقه الليلة بعد الليلة ويقوم من نومه فزعاً ويقول: اللهم لو كان لي عذر في التخلي عن الناس ما أقمت مع الناس طرفة عين، ومتى الخلاص من النار؟ اللهم إن كلاً يغدو ويروح وإن حاجة سفيان أن تغفر له ذنبه.
وشعبة بن الحجاج، يبس جلده على عظمه من كثرة العبادة.
وسيدنا أسيد بن حضير صحابي جليل، بينما هو في مربضه ليلاً يصلي ويقرأ بسورة البقرة، وكانت فرسه مربوطة بجواره، وكان ابنه يحيى قريباً منها، فكان إذا قرأ جالت الفرس، فإذا سكت سكنت، فإذا قرأ جالت، فخاف على ابنه، فأمسك عن القراءة، ثم نظر إلى السماء فإذا فيها ظل كأمثال المصابيح، فلما أصبح غدا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بالقصة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (اقرأ يا ابن حضير، فلقد أتيت مزماراً من مزامير داود، قال: يا رسول الله كان ابني يحيى قريباً منها فخشيت أن تطأه الفرس بحافرها، فأمسكت عن القراءة، ثم سنظرت إلى السماء فإذا فيها أمثال الظلة فيها أمثال المصابيح، قال: أتدري ما ذاك؟ قال: قلت: الله ورسوله أعلم، قال: تلك السكينة دنت لقراءتك)، وفي رواية: (تلك الملائكة دنت لقراءتك ولو ظللت تقرأ لرأيت منها الأعاجيب)، وفي رواية: (ولو ظللت تقرأ لاستمرت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم)، فقد كانت بيوتهم بيوت النور.
وسيدنا ثابت بن قيس رضي الله عنه كان الصحابة يمرون بالليل على داره ويقولون: أما تنظرون إلى دار ثابت بن قيس إنها لتبهر بمصابيح منذ الليل.
وسيدنا محمد بن سيرين يقول: من يدلني على بسام بالنهار بكاء بالليل وأنا أدعو له.
فقد كان كثير التبسم للناس، فإذا أوى إلى الفراش فكأنه قتل أهل القرية جميعاً.(49/7)
قصص المتهجدات من النساء
وكانت حفصة بنت سيرين إذا قامت إلى صلاة الليل لبست كفنها، فربما انطفأ مصباح البيت فيوقد لها مصباح آخر، وجلست في مصلاها اثنتا عشرة سنة وما خرجت إلا لقائلة، أو لحاجة زوج.
وأم الدرداء الصغرى كانت مع نساء متعففات معها يقمن الليل، فما يركعن الركعة الأولى إلا بعد قراءة سورة الأنعام، وإن أرجلهن لمنتفخات من أثر القيام.
وكانت منيفة العابدة إذا قامت إلى صلاتها من الليل تقول: بخ بخ! يا نفس قد جاء سرور المؤمن، فإذا قامت إلى صلاتها تقول: لا تأنسن بمن توحشك نظرته فتمنعن من التذكار في الظلم واجهد وكد وكن في الليل ذا شذم يسقيك كأس وداد العز والكرم فإذا أسفر الصباح بكت وقالت: واحرباه! واسلباه! ذهب الظلام بأنسه ليت الظلام بأنسه يتجدد.
وعلي بن بكار عَمِيَ من طول البكاء، وكان يقول: منذ أربعين سنة ما أحزنني إلا أذان الفجر لأنه يقطع علي الصلاة مع الله عز وجل.
أخي قد قيد القيد قدميك وغل الإبعاد يديك أفما لك عين تبكي عليك؟ دخل أحمد بن أبي الحواري على أبي سليمان الداراني فوجده يبكي في وقت السحر، قال: ما يبكيك يا أبا سليمان؟! قال: وكيف لا أبكي وإنه إذا كان مثل هذا الوقت من الليل قام العابدون إلى محاريبهم، وتقطرت دموعهم على خدودهم، وأشرف الجليل من السماء وقال: بعيني من تلذذ بذكري واستراح لأنسي، لما لا تنادي فيهم يا جبريل ما هذا البكاء، هل رأيتم حبيباً يعذب أحبابه، أم كيف يجمل بي أن آخذ قوماً إذا جنهم الليل تملقوا إليّ بالدعاء؟ فبي حلفت: إن وردوا عليّ يوم القيامة لأكشفنّ لهم عن وجهي الجميل حتى ينظروا إليّ وأنظر إليهم.
وقال أبو سليمان الداراني: نمت ذات ليلة عن وردي من صلاة الليل، فإذا أنا بحوراء من أهل الجنة تأتيني مناماً وتقول لي: أتنام والملك يقظان؟ أتنام وأنا أربى لك في الخدور منذُ آلاف الأعوام؟ بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة الملك العلام، وأنشدته شعراً حفظ منه: أتطلب مثلي وعني تنام؟ ونوم المحبين عنا حرام لأنا خلقنا لكل امرئ كثير الصلاة براه القيام يعني: أبقاه قيام الليل عظماً على لحم.(49/8)
المجاهدون المتهجدون
وكل من له باع في الجهاد كان كثير التهجد، فـ محمد الفاتح: حين فتح القسطنطينية غدا يتهجد طيلة الليل مع جنوده.
وكذلك العلاء بن الحضرمي فاتح بلاد ماردين.
ونور الدين محمود زنكي بطل موقعة حارم الذي قتل من الصليبيين عشرة آلاف، قال عنه ابن الأثير أنه كان مواظباً على صلاة الليل، وكذلك كانت زوجته عصمت الدين خاتون فقد قامت ذات ليلة غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني وردي البارحة فلم أصل من الليل شيئاً، فأمر من يوقظ الناس لصلاة الليل.
ولما مات عنها نور الدين تزوجها صلاح الدين من بعده.
وأيام أن أخذ الفرنج القدس، دخل أحد السقاة من المسلمين القدس فسمع الفرنج يقولون: إن القسيم بن القسيم -يعنون: نور الدين محمود زنكي - لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه بين يدي مولاه ليلاً، فلابد أن ربه ناصره علينا.
والقاضي ابن الشداد قاضي صلاح الدين الأيوبي يقول: وفي حصار عكة كنت أرمقه الليلة بعد الليلة، فإذا جن الليل علا على سجادته تتقاطر دموعه على وجنتيه وهو يقول في سجوده: إلهي! قد انقطعت الأسباب الأرضية عن نصرة دينك وليس لي إلا الإخلاد إلى جنابك، فيأتيه خبر النصر على الأعداء.
فإن سهام الليل لا تخطئ وسل الله عز وجل أن يرفع الغمة عن بلاد المسلمين.
اللهم إنا نسألك باسمك الأعظم، بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم، اللهم صل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر المسلمين المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها، اللهم احم ديارهم واحفظ أموالهم وأعراضهم، واحقن دماءهم، وأرنا في الصليبيين واليهود ودول الكفر آية، إنهم لن يعجزوك فخذهم أخذ عزيز مقتدر.
اللهم ارحم المسلمين واكس عاريهم، واشف مرضاهم وسدد رميهم، وأرنا في الكافرين والصليبيين آية.
اللهم قو شوكة المسلمين، وأقبل بشبابهم على كتابك وسنة نبيك، وانشر الدعوة إلى دينك في ربوع الأرض مشارقها ومغاربها، وأرنا وجه نبينا في رضوانك والجنة، واحشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين، وارفع الغمة عن المسلمين الصادقين، وفك أسرهم وفرج كربهم، واحم بيوتهم وأولادهم.
اللهم ارزقنا الشهادة إن علمت صدقاً منا فارزقنا الشهادة في سبيلك، واختم أيامنا بالشهادة في سبيلك، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(49/9)
سنن الله في الكون والأمم
لقد سنَّ الله سبحانه سنناً يجري عليها نظام الكون، فلا تتبدل ولا تتغير، وهي كثيرة ومتعددة تشمل جميع المخلوقات، وقد ذكر الله في القرآن كثيراً منها حتى يراعيها الناس في حياتهم.(50/1)
المقصود من سنن الله في الكون وبيان عمومها وتنوعها
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
السنن: جمع سنة، والسنة هي الطريقة المتبعة في معاملة الله تبارك وتعالى للبشر بناءً على سلوكهم وأفعالهم، وموقفهم من شرع الله وأنبيائه، وما يترتب على ذلك من نتائج في الدنيا والآخرة.
إن معاملة الله تبارك وتعالى للبشر المطيعين والمسيئين، وللمعاندين لرسوله والمقبلين على دعوته؛ لها قانون عام يحكم البشر، وهذا القانون العام هو سنة الله تبارك وتعالى، ولها وجهان: الوجه الأول: قانون عام يحكم الكون بما فيه من جمادات ونبات وإنسان، فالإنسان تجد فيه الكبد في الناحية اليمنى ويقوم بوظيفة كذا وكذا وكذا! والمعدة تقوم بوظيفة كذا وكذا وكذا! كذلك قول الله تبارك وتعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38 - 40].
فخروج الشمس طالعة من المشرق وغيابها في المغرب سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون، والنظام المفترض لهذه السنن يدل على أن وراء الكون خالقاً عظيماً، وسنة الله تبارك وتعالى في إيجاد البشر من الماء المهين من سنن الله تبارك وتعالى في الكون، وسنة الله تبارك وتعالى في إخراج الولد من رحم الأنثى لا من الرجل من سنن الله تبارك وتعالى؛ فهذا الوجه الأول للقانون العام.
الوجه الثاني: ما يتعرض له العباد من نعيم في الدارين أو من ذل وشقاء، نتيجة إقبالهم على كتاب الله تبارك وتعالى أو إعراضهم عنه.
فمثلاً: سنة الله تبارك وتعالى في استدراج الظالمين، ومكر الله تبارك وتعالى بالماكرين، وجزاء الله تبارك وتعالى لمن بطر النعمة، وسنة الله في الظالمين لا تختلف ولا تتبدل ولا تتغير، يقول الله تبارك وتعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الأحزاب:62].
فهذا القانون لا يُحابي ولا يجامل أحداً، ولم يأت شيء من خلق الله تبارك وتعالى بالصدفة! يقول الله تبارك وتعالى: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43]، ويقول الله تبارك وتعالى بعد أن يقص أخبار الأمم السابقة: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ} [الحشر:2] أي: لا تفعلوا صنيع القوم؛ فيكون جزاؤكم من جنس جزائهم.
وإلا فما فائدة سرد قصص أنبياء الله تبارك وتعالى مع المعاندين والمشاقين والحائدين عن طريق الله تبارك وتعالى إن لم تكن للعظة والعبرة؟ ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43] يعني: ليس كفاركم من جنس ثانٍ أنظف من جنس أولئك، فإن عمّهم جنسٌ الكفر فالنتيجة واحدة والعقاب واحد، فهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى، فـ أبو لهب لم ينطق بكلمة لا إله إلا الله! وطالما أنه حاد عن طريق الله وكفر بأنعُم الله فالجزاء المحتم النار والخلود فيها، وقد يجازيه الله تبارك وتعالى بما قدّم من خير للناس في دار الدنيا فيوفيه نصيبه فيها وليس له في الآخرة من نصيب.
قال الله تبارك وتعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43]، ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:51]، ويقول الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123].
واليهود قالوا: نحن أبناء الله وأحباؤه فسيتجاوز عن ذنوبنا، فقال الله تبارك وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] فكل من يعمل سوءاً يلق جزاءه؛ لأن الجزاء بحسب سنة الله تبارك وتعالى أثر طبيعي لكفر الكافر أو لإيمان المؤمن، يقول الله تبارك وتعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ * هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:137 - 138] أي: لعل الناس يعودون إلى رشدهم، ويئوبون إلى طريق خالقهم عز وجل.
فتدبر سنن الكون ووقائع الله تبارك وتعالى بالأمم السابقة أمر واجب على كل مؤمن؛ ليصحح المعاملة مع الله تبارك وتعالى.
ومن سنن لله تبارك وتعالى: سنة ربط الأسباب بالمسببات، وربط النتائج بالمقدمات، وسنة الله تبارك وتعالى في قانون الهدى والضلال، ودفع الله الناس بعضهم ببعض، وسنة الله تبارك وتعالى فيمن اتبع هداه ومن أعرض عنه، وسنة الله تبارك وتعالى في الابتلاء وفي الفتنة، وسنة الله تبارك وتعالى في الظلم والظالمين، وسنة الله تبارك وتعالى في الاختلاف والمختلفين، وسنة الله تبارك وتعالى في المتساوين والمختلفين، وسنة الله تبارك وتعالى في الترف والمترفين، وسنة الله تبارك وتعالى في الطغيان والطغاة والمتكبرين، وسنة الله تبارك وتعالى فيمن بطر النعمة وجحدها، وسنة الله تبارك وتعالى في الذنوب والسيئات، وسنة أخرى في التقوى والإيمان والعمل الصالح، وسنة الله تبارك وتعالى في استدراج الظالمين، وسنة الله في المكر بالماكرين بالدعوة، وسنة الله في ثواب الدنيا والآخرة، وسنة الله في الرزق، وسنة الله في الفظاظة والغلظة وفي الرفق، فالرجل الفظ تنفر منه الناس عادة، فمن سنة الله تبارك وتعالى ألا يقبل الناس على رجل فظ غليظ القلب، وإنما يقبلون على من كان في قلبه رقة، ومن كان حسن المعاملة للناس.(50/2)
سنة ربط الأسباب بالمسببات
هذه السنن واقعة والقانون العام الذي يحكمها هو الشمول والعموم، والسنة الأولى من سنن الله تبارك وتعالى في الكون أن كل شيء بسبب، والنتائج لا بد لها من مقدمات، والمسببات لا بد لها من أسباب، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ} [البقرة:22] فالفاء هنا السببية: {فَأَخْرَجَ} [البقرة:22] أي: أنزل المطر ليخرج به النبت، فجعل المطر سبباً لظهور المسبب وهو النبات.
ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} [الأنفال:29] أي: علماً ونوراً في القلب يفرِّق به العبد بين الحق والباطل، والفرقان يحدث بسبب التقوى، فالتقوى سبب والفرقان مسبب عن التقوى.
ويقول الله تبارك وتعالى في شأن الصائمين: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] أي: بسبب عملكم في أيام الدنيا كلوا الآن واشربوا.
ويقول الله تبارك وتعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم:1] إذاً: أنزل الله تبارك وتعالى الكتاب لهداية البشرية، فاللام لام السببية، وما أنزل الله تبارك وتعالى القرآن عبثاً حاشاه، وإنما أنزله لهداية الناس إلى طريق الله تبارك وتعالى.
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2 - 3].(50/3)
الرد على الأشاعرة في قولهم ليس هناك ربط بين الأسباب والمسببات
بعض الناس ومنهم الأشاعرة يقولون: إن الله تبارك وتعالى قد يدخل النار أولى أوليائه، ويدخل الجنة أعتى أعدائه، وهذا قول الأشاعرة يدرسونه في الأزهر، ويتبعون ذلك لمحض الإرادة، يقولون: إن الله تبارك وتعالى {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:107] فيفعل أي شيء يريده.
وقولهم هذا قول باطل؛ لأن الله تبارك وتعالى لا يظلم أحداً، وقد أنكر الأشاعرة كل باء سببية في القرآن الكريم وأولوها وقالوا: إن النار لا تحرق بطبعها، يعني: لا توجد في ذاتها خاصية للإحراق، لكنك عندما تقرب منها الخشب تحرق.
وهذا يصادم العقل؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية: الذي يقول هذا ليس عنده أدنى مسكة من عقل، فالمولى تبارك وتعالى جعل الشبع والغذاء سبباً لحياة الناس وبقائهم، والولد يخلقه الله تبارك وتعالى في بطن أمه بإلقاء ماء الرجل في رحم المرأة؛ فالمسببات تكون بأسبابها.
ويقول الأشاعرة: إن الإنسان يشبع عند الأكل، أي: مجرد أن ينظر إلى الأكل يشبع، لكن علماء السلف يقولون: الإنسان يشبع لأن المولى تبارك وتعالى وضع خاصية الإشباع في الأكل، فإذا أكل الإنسان أكلة معينة لمدة معينة وبقدر معين يحصل الشبع بسبب هذا الأكل لا عند أكله، وهذه نقطة من نقط الخلاف الرئيسية بين الأشاعرة وأهل السنة والجماعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: يقول الله تبارك وتعالى عن القرآن: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} [المائدة:16] فمن قال: يفعل الله عندها، أي: عند هذه الأسباب لا بها فقد خالف لفظ القرآن الكريم، ويقول: مع أن الحس والعقل يشهدان أن القرآن سبب لحصول الهداية، ويعلم الفرق بين الجبهة والعين في اختصاص أحدهما بقوة ليست موجودة في الآخر، فحاسة السمع أودع الله تبارك وتعالى فيها قوة للسماع، وحاسة البصر أودع الله تبارك وتعالى فيها قوة تختلف عن قوة السماع وهي قوة الإبصار، ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية: ويعلم الفرق بين الخبز والحصى، أن أحدهما أودع الله فيه خاصية الغذاء والآخر لا يحتوي على هذه الخاصية؛ فأهل السنة والجماعة يقرون بربط الأسباب بالمسببات، وهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون.
لكن الأشاعرة يقولون: ممكن أن يكون السبب موجوداً والمسبب عنه لا يحدث، مستدلين بقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لن يدخل الجنة أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته) قالوا: مع أن الرجل يعمل صالحاً لكن من الممكن ألا يدخل الجنة، إذاً: السبب موجود والمسبب عنه الذي هو دخول الجنة قد لا يحصل وقد يحصل؛ وهذا لفهمهم الخاطئ للباء هنا، كما يقول الله تبارك وتعالى: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل:32] جعل الله تبارك وتعالى عملهم الصالح سبباً لدخول الجنة، إذاً: الباء هنا باء السببية وتفهم من الحديث: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله) قالوا: هذه باء العوض، يعني: لا تظن أن عملك هذا تضعه في كفة ودخولك الجنة في كفة، وتقول: ثمن عبادتي أنني سأدخل الجنة، وعبادتي هذه تساوي دخول الجنة، صحيح أن دخول الجنة بالعمل، وميراث الدرجات أيضاً بالعمل، لكن هذا العمل ليس عوضاً عن الجنة، إذاً: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله) الباء هذه باء العوض والمقابلة، أي: لن تدخل الجنة مقابل هذا العمل الضئيل.
أيضاً ربط المولى تبارك وتعالى بين الأسباب وبين التوكل على الله تبارك وتعالى، فالتوكل: علم القلب بكفاية الرب، وكما يقول ابن القيم: قال الإمام أحمد: التوكل عمل من أعمال القلب، لكن اتخاذ الأسباب عمل من أعمال الجوارح، فلا منافاة بين اتخاذ الأسباب وبين التوكل على الله تبارك وتعالى؛ فهذا عمل للجوارح وهذا عمل وعلم للقلوب، فتعاطي الأسباب لا ينافي التوكل، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز) والاستعانة بالله هي عين التوكل على الله تبارك وتعالى، وقوله: (ولا تعجز) أي: ولا تعجز عن اتخاذ الأسباب.
وإن قوماً قالوا: إنا متوكلون على الله تبارك وتعالى وخرجوا من الأسباب بالكلية، وهذا طعن في السنة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم قال للرجل: (اعقلها وتوكل) قال: أعقلها أو أتوكل؟ قال: (اعقلها وتوكل)، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، وكما قال الشاعر: توكل على الرحمن في الأمر كله ولا تعجزن يوماً عن السبب ألم تر أن الله قال لمريم وهزي إليك الجذع يساقط الرطب مع مباشرة آلام المخاض والولادة.
قال: ولو شاء أدنى الجذع من غير هزّها لجذع ولكن كل شيء له سبب فلا بد أن تعتمد على الله تبارك وتعالى مع مباشرتك للأسباب، يقول أبو بكر الصديق للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى أسفل قدميه لأبصرنا، قال: (يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما) فالنبي صلى الله عليه وسلم أخذ كل الأسباب لسرية عملية الهجرة، ثم توكل على الله تبارك وتعالى بعد ذلك.(50/4)
سنة الله تعالى في اتباع هداه والإعراض عنه
وهناك قانون يسمى قانون الهدى والضلال، يقول الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} [التوبة:33] فالهدى هو دين الإسلام: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} [البقرة:120].
ومن يترك هدى الله يتركه الله تبارك وتعالى وما اختاره، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء:115].
فقوله: {نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء:115] أي: نتركه وما اختاره لنفسه، ونكله إلى ما توكل عليه؛ لأن الله تعالى يقول: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ} [يونس:32] فيتركه الله تبارك وتعالى للشياطين، ولكنه ينذره عذابه، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} [البقرة:120] فالمخاطب بهذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم والمأمور بها الأمة، قال العلماء: الخطاب مع الرسول والأمر لأمته، وهذا قول العلامة ابن كثير، مثل قوله تبارك وتعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:145] فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد: أمته.
فمن سنن الله تبارك وتعالى أن من يتبع هدى الله تبارك وتعالى لا يخاف ولا يحزن، لا يحزن على ما فات ولا يخاف من الآتي؛ لأنه يرضى بقضاء الله تبارك وتعالى، ويعلم أن سبيل الهدى يكسبه الخيرات والدرجات عند الله تبارك وتعالى، فالله تبارك وتعالى يعد من اتبع هداه وسنته بسعادة الدنيا والآخرة، يقول الله تبارك وتعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} [طه:123] قال ابن عباس: تكفّل الله لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة، هذه سنة من سنن الله في الكون.
وقد يقول قائل: أنا أقرأ القرآن وأعمل بما فيه، لكنني أشعر بضيق، نقول: من سنن الله تبارك وتعالى أنك لو قرأت القرآن وعملت بما فيه لا يضلك الله في الدارين، ولا يجعل الشقاء يعرف طريقاً إلى قلبك؛ لأن مفاهيمك للحياة ستتغير، فإذا فهمت القرآن وعملت بالذي فيه، وأصابك ضيق في الرزق فإنك ستصبر وتعلم أن هذا قضاء الله وقدره، قال تعالى: {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى * وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه:131 - 132] فطالما أنك مع القرآن فالعاقبة والخير لك، إذاً: لا يوجد شقاء.
ولو رأيت أخاً يقول لك: أنا حامل لكتاب الله، لكنني أشعر كأن صدري يصعّد في السماء، فقل له: لقد أخطأت الطريق، ما هكذا يا سعد تورد الإبل، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126]؛ فأقسم بأسماء الله تبارك وتعالى أن الذي يُعرض عن طريق الله ولا يريد أن يطبّق حكم الله تبارك وتعالى أن حياته كلها نكد، وإن فعل وفعل، وإن أظهر أنه سعيد في حياته، كما قال الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يُذل من عصاه! فأنت في نعمة! ومن النعمة أن تدخل المسجد وليس معك حرس لا من أمامك ولا من خلفك، ومن النعمة أن تمشي في الشارع في الوقت الذي تريد وفي المكان الذي تريد، فإن رئيس أي دولة يقول: أنا المعتقل الوحيد في هذا البلد؛ لأني لا أستطيع أن أمشي دقيقة واحدة بدون حرس، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ليس المحبوس من حبس عن ربه، وإنما المحبوس من حبسه هواه، قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126] وهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون فمن سنة الله تبارك وتعالى في الكون: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] يقول ابن القيم: إن شيخ الإسلام ابن تيمية كان من أفقر الناس، فكُنا إذا ضاقت بنا الدنيا فما هي إلا أن نجلس إليه برهة فنقوم وقد نفضنا عنا الدنيا بأكملها؛ فالذي يعمل عملاً صالحاً لا بد أن يرزقه الله تبارك وتعالى حلاوة هذا العمل، فيحس بشوق إلى الله تبارك وتعالى وإلى الدار الآخرة، فالمؤمن يصاحب الناس ببدنه وروحه معلقة بالملأ الأعلى، هذه هي الحياة الطيبة.
ومن أعرض عن ذكر الله تبارك وتعالى يقيض له الله شيطاناً فهو له قرين.
ومن الناس من يعمل مع الجن، واعلم أنه لا يوجد جني مسلم يخدم ساحراً أو كاهناً أو يؤذي الآخرين؛ يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ * وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:36 - 39].
فأهل المصائب يشتركون في مصيبة واحدة ويخفف عن أحدهم بعض مصابه عندما ينظر إلى مصيبة غيره؛ ولكن هؤلاء لا ينفع بعضهم بعضاً وهم في النار، ولا يوافي بعضهم بعضاً؛ يقول الله تبارك وتعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] أي: تفرقوا أيها المجرمون.
وإن كان للعبد المؤمن في الجنة خلان يجتمع بهم وأصدقاء، فإنه يتقابل مع إخوته على الأرائك، أما أهل النار فيقول عنهم الله تبارك وتعالى: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ} [يس:59] يعني: انفصلوا فلا اجتماع بينكم، وإنما يُحبس كل منهم في تابوت من النار وآخر الأمر لا يَرى ولا يُرى، بل يقيّض الله له شيطاناً سواء أكان الشيطان من الشرق أم من الغرب، فالكل شياطين، يقول الشاعر: روسية ماذا جنيتم بعدها غير الجنون يقول: هذا كاسترو ولينين وإستالين وماركس وغيرهم، وبعد أن انتهت روسيا والاشتراكية قالوا: نذهب إلى أمريكا! روسية ماذا جنيتم بعدها غير الجنون ماذا جنيتم واسألوا سينا وأطراف الحدود أو فلتكن غربية تعطيكم شهد العهود فليعطكم متران نصراً في الجرائد من بنود نحن يا مقداد أوفى بالعقيدة بالعهود بالعقيدة سوف نمضي إخوة حتى نعود(50/5)
سنة التدافع بين الحق والباطل
ومن سنن الله تبارك وتعالى في الكون: قانون التدافع بين الحق والباطل: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} [الحج:40].
وتعرفون ما حدث في عهد جمال عبد الناصر، فالمسلمون كانوا في اضطهاد وتضييق، حتى إنهم كانوا يصلون ويخرجون فيقولون: رجال الشرطة لا خوف عليهم ولا هم يحزنون! ولكن شاء الله أن يدفع الباطل بالحق، قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [الحج:40] وهناك بعض الناس كما يقول القرضاوي: في الشر معجون به منقوع.
فمن سنن الله تبارك وتعالى التدافع بين الحق والباطل، وسنة الله في هذا التدافع أن الغلبة للحق وأهله، ولكن من الممكن لكثرة الضربات التي لحقت بالحركات الإسلامية من مكر الماكرين أن يصيب بعض الإخوة الوهن، ويظنون أن الله يخلف وعده! وليس الأمر كذلك يقول الله تبارك وتعالى: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى:24].
ويقول تبارك وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18].
ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].
فمن كان بيته من زجاج فلا يرمي بيوت الناس بالحجر، فقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81] أي: لا يجعل عمل المفسدين صالحاً، وقال الزمخشري في تفسيرها: لا يثبته ولا يديمه، ولكن يسلط عليه الدمار، فانظر كم من أفلام ومسرحيات عُملت، وفي الأخير يقول صاحب الأفلام والمسرحيات: سنة من سنن الله تبارك وتعالى في الكون أن الله تبارك وتعالى {لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].(50/6)
سنة الله في نصر المؤمنين على الكافرين
سنة الله تبارك وتعالى في نصر المؤمنين لا تختلف؛ لأن الله تبارك وتعالى يقول: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} [الفتح:22 - 23].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ} [الأنعام:34].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
ويقول الله تبارك وتعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [المجادلة:21] وهذه الكتابة لا تتبدل ولا تتغير.
ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
يقول العلامة ابن كثير: وهذه سنة الله تبارك وتعالى في خلقه من قديم الدهر وحديثه أنه ينصر عباده المؤمنين، ويقر أعينهم ممن آذاهم.
ويقول السدي: لن يبعث الله عز وجل رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه، أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل بهم ذلك في دار الدنيا، وهذا وعد الله تبارك وتعالى.
فالنصر قد يتأخر لنصر أكبر؛ وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى بالمؤمنين، فالفتح الأعظم هو فتح مكة وقد تأخر من بداية دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة إلى سنة (8 هـ) قبل موت الرسول صلى الله عليه وسلم بعامين فقط، فقد كان هناك انتصارات؛ ولكن النصر النهائي كان قبل وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم بعامين؛ ولا بد أن يحدث قبل النصر أذىً وتمحيص، كما قيل للإمام الشافعي: يبتلى الرجل أم يمكن؟ قال: لا يمكّن حتى يُبتلى، ولذلك نقول لكل الإخوة السلفيين: الإنسان لا يتمنى البلاء أبداً، ولا يتمنى السجون أبداً، نود لو دمرت السجون وخرج منها كل الموحدين! وقد تتعدد صنوف الابتلاء، وطالما أنك على الجادة فلا بد من ابتلاء؛ والابتلاء قد يكون بالفقر، وقد يكون بالمرض، وقد يكون بزوجة غير صالحة، وقد يكون بفتنة الأولاد، وقد يكون بنقص من الثمرات وبموت ولد، وبطء في الرزق، وبمرض معين، وليست الفتنة أن تكون في سجن فقط! وهذه هي سنة الله تبارك وتعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140 - 141].
فلا بد من التمحيص؛ لأن من يريد جوار بلال وعمار لا بد أن يكون على طريقتهم، فـ عمار رضي الله عنه ما كان يكفر أحداً إلا الكافرين، كذلك ابن تيمية الذي أُلقي في السجن حتى مات ما ذهب ليكفر الناس الذين عذبوه في السجن، والمعتزلة اختلفت الأمة في تكفير أعيانهم، والرأي الأقوى أنهم لا يكفرون، ومع أن المأمون كان يقول بفكر المعتزلة لكن لم يكفره الإمام أحمد بن حنبل.
فسنة الله تبارك وتعالى أنه لا بد من التمحيص، والذي يتصور أن الحركة الإسلامية من الممكن أن تستقر وتنتشر في ربوع البلاد بدون تمحيص فليجلس في بيته، يقول ابن القيم: أول الأمر بذل الدم وإلا فدع عنك الترهات.
ويقول أيضاً: أين أنت يا مخنث العزم والطريق طويل، تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وأُلقي في النار إبراهيم، وأضجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذُبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بالبكاء داود، واتهم بالسحر والشعوذة والجنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن لن نكون أكرم على الله تبارك وتعالى من رسوله الذي أوذي وشد الحجر على بطنه من شدة الجوع، بل إن يوسف عليه السلام كان أميناً على خزائن الأرض وكان لا يشبع، فسئل عن ذلك؟ فقال: أخاف أن أشبع فأنسى الجياع، ونحن نقول: إنّا على الدرب سائرون، ولكننا ما شددنا حجراً في يوم من الأيام، وما ابتلينا.
إن سيدنا أبا بكر صدِّيق هذه الأمة ضُرب بالنعل على وجهه من قبل عقبة بن أبي معيط وكان ينزو على بطنه حتى أقبلت بنو تيم وهم لا يشكون في موته ولا يعرفون أنفه من وجهه، وتقول أسماء: وجعل أبو بكر رضي الله عنه لا يمس شيئاً من شعره إلا وسقط معها شيء من لحم الرأس.
فإذا أردت أن تلحق بركاب الناس فعلى الأقل ادع إلى الله تبارك وتعالى، وتعلم شيئاً ينفعك في دينك، فلو ضاقت علينا الدنيا كلها، فعلى كل واحد أن يمسك عائلته ويدعو فيها؛ وليقم الرجل خطيباً في قبيلته، حتى لو سدوا عليك أبواب الدعوة وأودعوك السجن، ولم يبعثوا أحداً ليتقصى أخبارك! فأقل شيء أن تدعو عائلتك، وقد يتأخر نصر الله تبارك وتعالى لعدم وجود الإيمان، أو لعدم كماله؛ فهذا الشيخ عبد الكريم زيدان يقول: واقع المسلمين لا ينقض سنة الله في نصر المؤمنين، إن سنة الله في نصر المؤمنين قررها الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم، وهي سنة مؤكدة يقيناً لا يخالطنا فيها ذرة من الشك بسبب ما يُرى من واقع المسلمين من كونهم مغلوبين لا غالبين، بل مقهورون من قبل أعدائهم غير منصورين عليهم؛ لأن هذه السنة وهي نصر المؤمنين حين يكونون موصوفين بأوصاف الإيمان وبمعانيه التي بينها الله في كتابه، لا بمعاني الإيمان في مخيلاتهم ومقاييسهم بأمانيهم، فإن انتصارهم على أهل الباطل كائن.(50/7)
سنة الله أن للقوة المادية تأثيرها في النفوس
أيضاً من سنن الله: أن للقوة المادية تأثيرها في النفوس.
فمن الناس من يقول: لن ننتصر ما دمنا قلة، نقول له: قال الله تبارك وتعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ} [الأنفال:43].
إذاً: للقوة المادية مع القوة المعنوية تأثير في النفوس، وإن كانت القوة المادية مفقودة عند الصحابة يوم بدر لكن الله نصرهم: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الأنفال:43].
وفي وصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجنده: إنما ينصر الله تبارك وتعالى المسلمين بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم ولا عدتنا كعدتهم، فإذا استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا بالقوة، وإن لم ننصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا، واعلموا أنه عليكم في مسيركم حفظة من الله يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم ولا تعملوا بمعاصي الله وأنتم في سبيل الله.
هذه سنة الله تبارك وتعالى في نصر أوليائه وهزيمة أعدائه.(50/8)
سنة الله أن على الجماعة المسلمة تجنب الرياء إن أرادت النصر
أيضاً من سنن الله تبارك وتعالى في الكون: أن على الجماعة المسلمة التي تريد النصر أن تتجنب الرياء والشبهات: فأول من تسعر بهم النار ثلاثة، منهم رجل ظن نفسه مجاهداً في سبيل الله، وكما يحدث الرياء في الأفراد فقد يحدث الرياء في جماعة من الجماعات، يقول الشيخ عبد الكريم زيدان: وعلى الجماعة المسلمة أن تتجنب الرياء في عملها، وألا تحرص على ثناء الناس ولا على رضاهم مطلقاً؛ لأن الرياء يفقد الجماعة تأييد الله ورضاه، وإنما عليها أن تحرص على رضا الله تبارك وتعالى.
يقول: ولكن هذا لا يعني أنها لا تتوقى سخط الناس ولا ترغب في رضاهم! فرضا الناس يؤدي إلى ثقتهم بالجماعة، والثقة شيء مطلوب ولكن لا يجوز لأي اتجاه أن يطلب رضا الناس بسخط الله تبارك وتعالى.(50/9)
سنة الله في الابتلاء والتمحيص
ومن سنن الله تبارك وتعالى قانون الابتلاء، وأنه لا بد من الفتنة: يقول الله تبارك وتعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء:35] فلا بد من الفتنة إما بالمال وإما بالأمراض والأوجاع وغير ذلك.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد:31] إذاً: البلاء سنة من سنن الله تبارك وتعالى.
ويقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الكهف:7].
ويقول تبارك وتعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة:155].
ولكن الابتلاء بين الناس يتفاوت، فقد جرت سنة الله تبارك وتعالى في الابتلاء أن البلاء على قدر الإيمان؛ فأشد الناس بلاءً الأنبياء ثم الصالحون والعلماء الأمثل فالأمثل، ويمتحن الله تبارك وتعالى المؤمنين بالشدائد كما يمتحنهم بالجهاد ويمتحنهم بأنواع الأذى.
وقد يبتلي الله تبارك وتعالى الأمة الكافرة عسى أن ينفعها هذا البلاء، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ} [الأعراف:94].
والله تبارك وتعالى يبتلي أيضاً مدّعي الإيمان: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
والله تبارك وتعالى قد يبتلي العبد بفتنة النعمة وهذه سنة من سنن الله تبارك وتعالى، وكثير من الناس لا يصمد على فتنة المال؛ يقول عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: ابتلينا بالضراء فصبرنا، وابتلينا بالسراء فلم نصبر.
فمن الممكن أن تلقى أخاً يرابط على صلاة الجماعة في الصف الأول طالما أن لديه أكل يوم فقط! فإذا ما أغناه الله غاب عن صلاة الجماعة؛ ولذلك قال تعالى: {فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:49].
والله تبارك وتعالى هو المتفرد بامتحان عباده، وقد أمرنا أن نتعوذ من الفتن، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم، ومن فتنة القبر وعذاب القبر، ومن فتنة النار وعذاب النار، ومن شر فتنة الغنى، وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجال).
ويقول الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة:5] جاء في التفسير: أي: لا تظهرهم علينا فيفتنونا عن ديننا، ولا تسلطهم علينا فيفتنونا عن ديننا.
والله تبارك وتعالى حين يبتلي الجماعة المسلمة لا يبتليها ليعذبها وإنما يبتليها ليهذبها؛ وهناك كلام طيب للشيخ عبد الكريم زيدان في سنة الابتلاء يقول: والمحن إن كانت مما جرت به سنة الله في ابتلاء عباده فهي تمحيص وتمييز للصادق من الكاذب، وللخبيث من الطيب، وهذه السنة تسري على الجماعة المسلمة، ولكن حذار أن تجلب الجماعة المسلمة المحن لنفسها أو تستعجل وقوعها لها، مدفوعة بالحماس لنصرة الإسلام أو مستحضرة في نفسها أن المحن والشدائد لابد منها، وأنها بدون المحن تنصب عليها التهم بالضعف والخور والقصور في خدمة الإسلام.
ويقول: استعجال المحن جهل من الجماعة المسلمة، أعني بهذا الجهل: جهل الجماعة المسلمة بمعنى سنة الله في الابتلاء والفتن والامتحان وما يجب عليها.
يقول: لا يعني ذلك وجوب أو استحباب أو إباحة أن تجلب الجماعة المحن لنفسها وتتعمد الوقوع فيها، كما لا تعني هذه السنة عدم جواز الحذر أو الوقاية! فالموقف الصحيح للجماعة المسلمة أنها لا تستغرب الفتن إذا أصابتها المحن أو الشدائد، ولكنها لا تستعجل الوقوع فيها ولا تتمنى الوقوع فيها، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لا تتمنوا لقاء العدو)، ويقول الله تبارك وتعالى عن نبيه إسماعيل: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] لم يقل: ستجدني من الصابرين؛ فالذي يصبر من صبّره الله تبارك وتعالى.
يقول الشيخ عبد الكريم زيدان: رياء الجماعة المسلمة يجلب لها المحن، وقد يكون الدافع للجماعة المسلمة في سعيها لجلب المحن لنفسها هو رياؤها وطلبها السمعة لنفسها عند الناس، وهذا الدافع للعمل داء قديم في الجماعات وفي الأفراد، ولكن ضرره في الجماعة المسلمة أشد من ضرره بالأفراد والجماعات الدنيوية، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (بشر هذه الأمة بالثناء والدين والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب) وإذا لم يحصل ثناء ولا رفعة ولا تمكين في الأرض فذلك لأنه يوجد رياء، وليس هناك إخلاص.
وأيضاً من المحاذير في هذا الباب وفي هذه السنة: أنه (لا ينبغي للمسلم أن يذل نفسه)؛ وهذا حديث صحيح: كيف يذل نفسه؟ قال: (يتعرض من البلاء لما لا يطيق) أي: أنه يعرض نفسه لأمر يعلم أنه يؤدي إلى الفتنة، وأنه سيحلق لحيته.
فالإنسان يتقي الله تبارك وتعالى في إخوانه، ويتقي الله تبارك وتعالى فيمن حوله وفيمن وراءه.(50/10)
سنة الله تعالى في أخذ الظالمين بالظالمين
وأيضاً من سنن الله تبارك وتعالى: قانون الظلم: فإن الله تبارك وتعالى حرّم الظلم على كل شيء، وأن الظالم لا بد له من عقوبة في الدنيا قبل الآخرة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة به في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة مثل البغي وقطيعة الرحم).
وانظروا في تاريخ مصر أو في تاريخ الدول قاطبة: كيف حال الظالمين؟ وأين حال الظالمين؟ ذهبوا إلى مزبلة التاريخ، مشيعين بلعنات الصادقين؛ فهؤلاء أرادوا أن يدخلوا التاريخ فدخلوا التاريخ من أنجس أبوابه.
فمن السنن أن الله تبارك وتعالى قد يعاقب الظالم بتسليط ظالم عليه، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الأنعام:129] يعني: ينتقم الله تبارك وتعالى من ظالم بظالم، ولذلك كانوا يقولون للحسن البصري: ندعو على الحجاج؟ نخرج على الحجاج؟ قال: إن الحجاج كان عقوبة من الله تبارك وتعالى، وعقوبة الله لا تغير بالسيف وإنما بالتوبة.
وذلك أن أهل العراق لما ظلموا وخرجوا عن طاعة علي رضي الله عنه دعا عليهم كما يقول الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية فقال: اللهم سلط عليهم فتى ثقيف الذيّال الميّال يبيد خضراءهم، ولم يولد الحجاج بعد.
يقول الإمام ابن القيم: فأعمال القوم عمّالهم، يعني: أن ولاتنا على قدرنا، وإن ولاة الصدر الأول من الصحابة على قدرهم، ويأبى عدل الله أن يولي علينا أمثال معاوية بن أبي سفيان فضلاً عن أبي بكر وعمر.
والعجيب أنه إذا اختلفت الجماعات الإسلامية لا يلجئون إلى مثل تحاكم معاوية وعلي رضي الله عنهما، فإن علياً لما اختلف مع معاوية وحدث بينهم من القتال ما حدث، قال لـ ضرار: يا ضرار! صف لي علياً؟ قال: اعفني يا أمير المؤمنين! قال: والله لا أعفيك، فجعل يصف علياً قال: كان غزير الدَمعة، قصير الثوب، أشهد والله لقد رأيته في ظلم الليل وهو يتململ تململ السليم ويقول: يا دنيا! إليكِ عني لقد باينتك ثلاثاً لا رجعة فيها.
قال: كيف حزنك عليه يا ضرار؟! قال: كحزن من ذُبح وحيدها في حجرها.
فبكى معاوية حتى بل ثوبه وقال: رحمك الله يا أبا الحسن! وأنت اليوم إذا اختلفت مع أخ لك فإنك تسبه وتلعنه، يعني: كل حسناته تضعها في التراب ولا ترى فيه إلا الشيء السيئ؛ هذا في تعاملات الناس مع إخوانهم، ولم نصل بعد للخلافة ولم نصل إلى الإمبراطورية، بل ما زلنا على الرصيف نمشي، ومن الناس من يقول: نعم والله العظيم، لقد حصل من فتنة علي ومعاوية الضرر الكثير وذهبت الألوف المؤلفة، وهاهو ابن القيم يقول: ويأبى عدل الله أن يولي علينا أمثال معاوية فضلاً عن أمثال أبي بكر وعمر، يعني: ليس من سنة الله في الكون أن يولي علينا أمثال أبي بكر وعمر إلا إذا كنا على نهج الصحابة تماماً، قيل لأمير المؤمنين علي: ما بال الثورات قد كثرت في عهدك ولم تكثر في عهد أبي بكر؟ قال: لأن أبا بكر كان أمير على مثلي وأنا اليوم أميراً على أمثالكم، كما تكونون يولى عليكم.(50/11)
سنة الله في الظالمين أنهم لا يفلحون أبداً
ومن سنة الله تبارك وتعالى أن الظالم لا يفلح أبداً: يقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:135].
ويقول الله تبارك وتعالى مبيناً أن الأمة تهلك بظلمها: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام:45] أي: تهلك الأمم بالظلم، وهلاك الأمم الظالمة له أجل محدود، فقد يملي الله تبارك وتعالى للظالم ولكنه إذا أخذه لم يفلته.(50/12)
سنة الله أن الدولة تبقى مع كفرها ولا تبقى مع ظلمها
وأيضاً من سنن الله تبارك وتعالى: أن الدولة قد تبقى مع الكفر ولا تبقى مع الظلم: يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود:117] فالدولة الكافرة قد تكون عادلة، بمعنى أن حكامها لا يظلمون الناس، والناس أنفسهم لا يتظالمون فيما بينهم، فهذه الدولة مع كفرها تبقى، وهذه سنة الله في الكون؛ إذ ليس من سنته إهلاك الدولة بكفرها فقط، لكن إذا انضم إلى الكفر ظلم حكامها للرعية، وتظالم الناس فيما بينهم هلكت هذه الدولة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة.
ويقول أيضاً: الدنيا تدوم مع العدل والكفر ولا تدوم مع الظلم والإسلام، حتى وإن كان الناس مسلمين فلن يبقوا وهم ظالمون، فليتقوا الله تبارك وتعالى حتى لا تخرب البلاد؛ فمن آثار الظلم خراب البلاد، يقول الإمام القرطبي: إن الجور والظلم يخرّب البلاد بقتل أهلها وانجلائهم منها، وترفع من الأرض البركة، يقول الله تبارك وتعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل:52].(50/13)
سنة الله تعالى في خلاص الصالحين من فتنة الظالمين
ومن سنن الله تبارك وتعالى أن الصالحين لا يفتنون من الظالمين على الدوام: ففي صحيح الإمام البخاري: قال إبراهيم النخعي: كان الصحابة يكرهون أن يستذلوا فإذا قدروا عفوا.
والتعاون مع هذه السنة أن الإنسان لا يركن إلى الذين ظلموا، يقول سعيد بن المسيب: لا تملئوا أعينكم من أعين الظلمة إلا وأنتم لهم منكرون؛ حتى إنهم كانوا يتحاشون الدخول على الأمراء أيام دولة الخلافة، فقد كان سعيد يقول: إذا رأيت العالم يرتاد مجالس الأمراء فاعلم أنه لص.(50/14)
الأسئلة(50/15)
التحذير من خرافات الصوفية
السؤال
أعلمكم بأنني بعد عناء كبير وبحث وتنقيب هداني الله تبارك وتعالى إلى أصحاب الدعوة الصحيحة، ألا وهي الدعوة السلفية، فهي الفرقة الناجية إن شاء الله، بعد أن كنت قبورياً صوفياً، وأطلب من العلماء أن يكثروا من دروس العلم، وأن يكثّفوا جهودهم لهداية الناس وخاصة ضد الصوفية، فهي الخطر الدائم ضد التوحيد، وأقسم لكم بالله إنهم يقولون كلاماً ويعتنقون معتقدات أكثر كفراً وشركاً من اليهود والنصارى والكفار عامة؛ فأحيطكم علماً أن هذه الطرق الصوفية شركية تسري وتنتشر بسرعة الصاروخ، ولها جنود يعملون على انتشارها، وأصحاب الدعوة نائمون عن هذا! فهم أكثر خطراً من العلمانيين؛ فهم يجعلون من سيدنا محمد إلهاً، كما أُعرّفك أنني من بلدة تابعة لمحافظة المنية ولا يوجد فيها أكثر من عدد الأصابع يتبعون الدعوة السلفية، ومعظم أهل البلدة يتبعون الطرق الصوفية، وعددها يقرب من الثلاثين ألفاً.
وبعد فمرفق هذا الخطاب أحاديث يوزعونها على الصوفية، وهي بعض من أحاديث كثيرة.
الحديث الأول: نور النبي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أول ما خلق الله نوري قبل كل شيء)؟
الجواب
وهو حديث لم يقله الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأيضاً يقول الشيخ الشعراوي نسأل الله أن يعفو عنا وعنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر!) وهذا القول الذي ينسبونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لا أساس له من الصحة، وأصل هذا راجع لنظرية عند الهنود وعند محيي الدين بن عربي اسمها: الحقيقة المحمدية، فالهنود يقولون: أول ما خلق الله الكلمة، وبالكلمة خلق كل شيء؛ هذا اعتقاد الهنود في كتابهم: زندة فتة، والصوفية يقولون في الحقيقة المحمدية: أول ما خلق الله الحقيقة المحمدية وبها خلق كل شيء؛ وهذا مخالف للفطرة وللعقل السليم؛ لأن أبا البشر خُلق من طين، ثم جعل نسله من ماء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم من نسل آدم، من سلالة من ماء، هذا هو الصحيح.
وكان هناك عندنا شيخ صوفي آثاري كبير يقول: الذين يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم ولد ولادة طبيعية، مثل ما يجري ما بين الرجل وامرأته من جماع صحيح هذا يستحق الضرب! فالرسول صلى الله عليه وسلم شق له فتحة غير المجرى التناسلي تماماً خرج منها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل هذا مع الشركيات التي عنده يقول لهم: الجمعة الآتية سأكون في البلدة الفلانية، وهكذا ضربت الصوفية بشركياتها على البلدة.
ومن الصوفية من يقول: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات:7] صلى الله عليه وسلم، فطالما أن هذا قول لا يتبدل، ويعلم أن فيكم رسول الله؛ إذاً: يقولون بنظرية التناسخ، فيقولون: انتقلت روح النبي صلى الله عليه وسلم إلى قائم العصر الذي يدعى عز الدين ومعنى ذلك: أن هذا الكلام يقول بالتناسخ الذي يقول به الفلاسفة.(50/16)
الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة
السؤال
كيف نوفق بين أن ندعو إلى الله تبارك وتعالى ونحن نتوقع البلاء، وبين ألا نعرِّض أنفسنا لما لا نطيق؟
الجواب
الإنسان لا بد أن يعرف أن هناك حداً معيناً للتعامل مع الظالمين، فهو مثلاً يعلم أنه مهما استخدم القوة المسلحة لن يغيّر شيئاً، فيستجلب الضرر على نفسه وعلى جماعته ودعوته، كما وقع معنا ونحن في بني شريف، فإن مجرد حصول اعتداء على ضابط شرطة؛ أسفر عنه الضرر على بقية الدعاة، فقد حبس ثلاثمائة وخمسون داعية، فالأصل فيهم وإن كانوا ظالمين أنهم مسلمون، وإهدار دم المسلم نحاسب عنه أمام الله تبارك وتعالى، ومتى رخُص الدم رخُص كل شيء، فالإنسان يتقي الله تبارك وتعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108] ليست على عجلة، والمفروض أن الحركات الإسلامية تعي الدرس جيداً، وماذا بقي حتى يفيق الناس ويتقون الله تبارك وتعالى فيما تبقى من الحركة.
فقد قامت الحركة الإسلامية قبل عام (1981م) منطلقة من المدينة الجامعية، حتى قال مدير المدينة الجامعية: يا إخوة! كأنكم دولة داخل دولة، فالمطعم نحن الذين نشرف عليه، والذي لا يصلي نأتي به ليصلي، والدجاج يذبح بطريقة إسلامية، ولا يوجد نصراني في المدينة، فقد جعلناها مدينة إسلامية، إلى أن انتشر خبرها أمام مجلس الشعب، وتكلمت بها إذاعة بريطانيا، ولكن الناس لم يرعوا هذه النعمة، فوالله لقد كنا نفعل في المدينة ما لا يفعله مدير المدينة الجامعية نفسه، أما الآن فإن الدعوة في القرى محاصرة، ومداخل المحافظات ومخارجها محاصرة، فأنت قد تدمر دعوتك بسبب تصرفك.(50/17)
علامات البلاء
السؤال
كيف أعرف أن إنساناً مبتلى من الله عز وجل، وهل هناك علامات لذلك؟ وما الذي يجب على الناس في شدة البلاء؟
الجواب
إن أعطاك الله مالاً ثم نمت عن صلاة الفجر شهراً أو سنة فهذا بلاء؛ فكلنا أعلم ببلائه والله أعلم، وإن أعطاك الله زوجة لا تعينك على الطاعة فهذا بلاء، وإن أعطاك الله أولاداً يكثر منهم الأخطاء فهذا بلاء، وكل أعلم ببلائه.(50/18)
حكم المسافر الذي يدخل المسجد وقد بقي من الصلاة ركعتان
السؤال
رجل كان في سفر فدخل المسجد فوجد جماعة وعلم أنه بقي من الصلاة ركعتان فنوى القصر وصلى ركعتين، فما حكم صلاته؟
الجواب
هذا القول جائز في قول مرجوح عند الأحناف، ونقل هذا شيخ الإسلام ابن تيمية ولكن هذا مرجوح وضعيف، والعمل على خلافه والله أعلم.(50/19)
السنة صيام ثلاثة أيام من كل شهر
السؤال
هل يجوز صيام التاسع والعاشر والحادي عشر من هذا الشهر، ثلاثة أيام متصلة؟
الجواب
نعم، هذه هي السنة والله أعلم.(50/20)
جواز فطم المرضعة طفلها قبل عامين
السؤال
ما حكم الإسلام في امرأة حامل تُرضع طفلها الرضيع، هل تفطم طفلها وقد قال الله تبارك وتعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان:14]؟
الجواب
أقصى مدة للرضاعة عامان، ولكن يجوز لها أن تفطمه قبل ذلك، والله أعلم.(50/21)
وجوب ستر المعاصي ما لم يكن صاحبها مجاهراً بها
السؤال
شاب أقبل على علاقة مع سيدة متزوجة؟
الجواب
الستر أولى يا إخوة! اتقوا الله تبارك وتعالى.(50/22)
وجوب الذهاب إلى طبيب مسلم
السؤال
إني مسافر للعمل في الخارج، وأشكو من خشونة في الركبة وذهبت للعلاج عند طبيب نصراني فقال لي: لا تثن ركبتك، وصلِّ على كرسي؟
الجواب
اذهب إلى طبيب مسلم أولاً، والخشونة في الركبة قد تكون من نقص اليود وغيره، فمن الممكن أن تتعالج بسهولة جداً، والله أعلم.(50/23)
حكم الجهر بالبسملة والإسرار بها في الصلاة الجهرية
السؤال
أغلب الأئمة في صلاتهم لا يجهرون بالبسملة، وهذا قول الجمهور، فلماذا يحرمون الناس من سماع البسملة؟
الجواب
لأنه هو الرأي الأقوى، والذي عليه جمهور أهل العلم.(50/24)
حكم إعفاء اللحية
السؤال
ما حكم إعفاء اللحية إذا كانت تسبب عقوق الوالدين؟
الجواب
لا تحلقها، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما الطاعة في المعروف)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق) وهذه فتوى الشيخ ابن باز.(50/25)
نصيحة لمشاهدي مباريات كرة القدم
السؤال
يا حبذا من نصيحة للشباب، يقولون: في هذه الليلة يبدأ كأس العالم لكرة القدم!
الجواب
نحن لدينا مباراة كبيرة جداً في البوسنة والهرسك والفلبين، وهي جماجم أطفال المسلمين، فاتقوا الله تبارك وتعالى، فإن الرجال عندما تميل تميل النساء، ونحن لا نحرم شيئاً أحله الله تبارك وتعالى، ولكن اتق الله تبارك وتعالى واسأل نفسك هل تعطي لنفسك من دروس العلم والقرآن ما تعطيه لكأس العالم؟ فالواجب عليك أن تحمل هم الإسلام، فإن الشيخ ابن عثيمين أفتى أنه لا يجوز الذهاب إلى بلاد الكفر لمشاهدة مباراة كأس العالم، لكنك ترى السعوديين فرحين لوصولهم إلى نهائيات كأس العالم، وكأنهم حرروا القدس، فأفتى الشيخ ابن عثيمين بأنه يحرم ذلك، فنحن نقول: اتقوا الله تبارك وتعالى فما يجري في الدعوة من مباريات كثيرة تدار في الخفاء أولى أن تنتبهوا لها، فاللعب لا تستطيع أن تقول: إنه في ميزان حسناتك، ولكنك عندما تدعو واحداً سيكون في ميزان حسناتك: (لأن يهدي الله بك رجلاً خير لك من الدنيا وما فيها) فلو أنك ذهبت لأحد جيرانك وقعدت معه ناصحاً لكان أفضل لك، بدلاً من أن تقف مع ماردونا! ولن يجعله الله في ميزان حسناتك يوم القيامة، فنحن نريد من الإخوة أن يدعوا إلى الله تبارك وتعالى، ويعمروا المراكز دعوة إلى الله تبارك وتعالى.(50/26)
المؤمن يتحرى الإخلاص في العمل
السؤال
قد يعمل الإنسان العمل لا يرجو به إلا وجه الله ولكن قد تحدثه نفسه بما فيه الرياء؟
الجواب
ترك العمل لأجل الناس رياء، والعمل لأجل الناس شرك، والإخلاص أن يعافيك الله منهما، فإذا أتاك الشيطان وأنت في صلاة وقال لك: أنت مراءٍ فزد فيها.(50/27)
حكم الزواج العرفي
السؤال
نرجو إلقاء الضوء على حكم الزواج العرفي؟
الجواب
الزواج بوجود القاضي والشهود الأكثرون من أهل العلم يقولون: إنه زواج فاسد، قالوا: لا نكاح إلا بولي، والله أعلم.
فما بالك بقولك: زوجتكِ نفسي، وقولها لك: زوجتكَ نفسي؟!(50/28)
تحريم المجاهرة بالمعاصي
السؤال
ما حكم من ارتكب جريمة؟
الجواب
اتق الله يا رجل! واستر على نفسك يسترك الله يوم القيامة.(50/29)
حكم صيام تاسوعاء وعاشوراء
السؤال
ما حكم صيام تاسوعاء وعاشوراء من شهر محرم؟
الجواب
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نحن أولى الناس بموسى) ثم خالفهم قال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) فالإنسان يجمع بين صيام التاسع والعاشر مخالفة لليهود.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(50/30)
الصالحون والعصاة - حياتهم ومماتهم وميعادهم
لقد أرسل الله رسلاً، وأنزل كتباً ليبين للناس سبيل الرشاد، فكان من الأنام من اتبع نهج مولاه، وسار على طرق الحق، واتبع سبيل الهدى، فكانوا أعظم الناس قرباً إلى الله، وأحظاهم عنده.
وفي المقابل هناك من الناس من اتبعوا الشهوات، وغاصوا في بحور الشبهات المظلمات، وأوقعوا أنفسهم في مستنقعات الملهيات، فخسروا أنفسهم، وضيعوا أعمارهم، وحازوا على أكبر خسارة، ونالوا أعظم ندامة.(51/1)
ذكر بعض الآيات التي تميز الصالحين عن العصاة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد.
فحديثنا عن الصالحين والعصاة حياتهم ومماتهم ومعادهم.
وعندما نتأمل فإننا نجد الفروق بين الصالحين والعصاة قد تصل إلى خمسمائة فرق، وسنقف عند كل فرق ونترنم بقول القائل: وقل للذي قد غاب يكفي عقوبة مغيبك عن ذا الشأن لو كنت واعيا وحتى ولو لم تكن هناك نار أو آخرة.
وأن نترنم بقول القائل: قوم تخللهم زهو بسيدهم والعبد يزهو على مقدار مولاه تاهوا به عمن سواه لهوا يا حسن رؤيتهم في حسن ما تاهوا فيا صاحبي! قف بي مع الحق وقفة أعيش بها وفداً وأحيا بها وفدا وقل لملوك الأرض تجهد جهدها فذا الملك ملك لا يباع ولا يهدى قال الله تبارك وتعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
ولم يتكلم عن أصحاب النار وأهمل شأنهم وأعرض عنهم وجعلهم نسياً منسيا، وإنما ذكر أصحاب الجنة فقال: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر:24].
وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].
وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:19 - 22].
وفي الجهل قبل الموت موت قلوبهم وأجسادهم قبل القبور قبور وأرواحهم في وحشة من جسومهم وليس لهم حتى النشور نشور وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
وقال تبارك وتعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58].
وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].
وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [القصص:61].
وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [فاطر:8].
وقال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [هود:24].
وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19].
وقال الله تبارك وتعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:122].
وقال الله تبارك وتعالى: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ * وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة:88 - 94].
وقال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} [الرعد:35].
وهناك آيات كثيرة تزيد عن مائة آية في المقارنة بين العصاة وبين الصالحين.(51/2)
بعض أقوال العلماء في التفريق بين الصالحين والعصاة
ومن أقوال أهل العلم، قال أحدهم: أفمن رغب إلى الله كمن رغب عن الله؟! أفمن بقي مع الله كمن بقي عن الله؟! وعزة سيدي! لا يسبق المقصر المجتهد أبداً ولو حبا إلى المجد حبواً.
ويقول الحسن البصري: لا يجعل الله عبداً أسرع إليه كمن أبطأ عنه.
ويقول أحدهم: أفمن كان في حال الوصال يجر أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسي وباله؟! أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعاني مشقة الكلفة؟! أفمن هو في روح إقبال الله عليه كمن هو في محنة إعراضه عنه؟! أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالي الكفران ووحشة العصيان؟! أفمن أيد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن ربط بالخذلان ووسم بالحرمان؟! لا يستويان ولا يلتقيان.(51/3)
تفريق الرسول الكريم بين الأبرار والفجار
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كما لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينزل الله الأبرار منازل الفجار).
وقال صلى الله عليه وسلم: (عند الله خزائن الخير والشر مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لمن جعله الله مغلاقاً للخير مفتاحاً للشر).(51/4)
ذكر بعض الفروق بين الصالحين والعصاة
وانظر إلى العصاة وإلى الصالحين، فمن وجد الله فماذا فقد؟ ومن فقد الله فماذا وجد؟ فالأول كل عيشه مع الله عز وجل، وفي معية الله عز وجل، والله مولاه وناصره، وهو من حزب الله عز وجل، فماذا فقد إذا كان عزه بسيده؟ {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون:8].
واجعل بربك كل عزك يستقر ويثبت فإن اعتززت بمن يموت فإن عزك ميت والآخر إلهه هواه، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23].
وإلهه الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، قال صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة).
الأول في معية الله عز وجل، يصلي لله تبارك وتعالى ويثني عليه، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إن الله وملائكته وأهل السماوات وأهل الأرضين، حتى النملة في جحرها، وحتى الحيتان في البحار ليصلون على معلم الناس الخير) ويثني عليه الله عز وجل، فماذا يريد بعد ذلك من الخير؟ ويقول له الله عز وجل عند موته: (أن صدق عبدي) فماذا يريد بعد ذلك من الخير؟ فكفاه جزاء على الطاعة أن رضيه لها أهلاً، وأنه نظف مشاعره وأحاسيسه وقلبه وصدره وفرغه له، وجعل كل همه في طاعته وفي مرضاته، ويكفيه هذا وحتى ولو لم تكن هناك جنة، فما ظنه بصلاة الله عليه، واستغفار حملة العرش له، ودعاء النبيين له قبل وجوده في دار الدنيا، كما قال نوح عليه السلام {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28].
وكما قال الله تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19]، فماذا يريد من الخير بعد ذلك؟ يضاعف له العمل القليل الذي ربما احتقره وربما لم ينظر إليه، وإذا عاد أخاً له في الله عز وجل مريضاً بعث الله تبارك وتعالى على مدرجته سبعون ألف ملكاً يستغفرون له حتى يمسي، وهذا الكلام نوقن به ونعلمه.
وما ظنك بأن يستغفر لنا من أول النهار إلى آخره سبعون ألف ملك وأن نكون في معية الله عز وجل؟ فماذا تريد بعد ذلك؟ فعفوه يستغرق الذنوب، فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال، فكيف حبه؟ وحبه يدهش العقول، فكيف وده؟ ووده ينسي ما دونه، فكيف لطفه؟ ولطفه تطيب به الأرض، وكذلك الصالحون تطيب بهم الأرض، قال عليه الصلاة والسلام: (هم القوم لا يشقى جليسهم).
قوم كرام السجايا أينما جلسوا يبقى المكان على آثارهم عطرا فهم يعطرون المكان بعطر تطيب به الأرض بفضل طيبهم، وتشتاق إليهم الأرض، بل تشتاق إليهم الجنة.
وفي الحديث الصحيح الذي حسنه الشيخ الألباني يقول عليه الصلاة والسلام: (إن الجنة لتشتاق إلى علي وعمار وسلمان).
وإن الجبل ينادي جبلاً آخر باسمه: هل مر بك ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال: نعم قال: أبشر، فالأرض تحس بوقع أقدامهم الطيبة.
وعلى الطرف الآخر أناس تلعنهم الأرض وتستريح بموتهم، فقد مرت جنازة على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (مستريح أو مستراح منه.
فقالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: إن العبد الكافر أو الفاسق أو المنافق تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب).
وفي الأثر: (إن هوام الأرض وعقاربها تقول: لعن الله ابن آدم منعنا القطر بشؤم معصيته)، فأرض تلعن ناساً يمشون عليها، وأرض تشتاق إلى مرور أقدام الصالحين عليها، فماذا نريد بعد ذلك؟(51/5)
صور من عز الصالحين
وانظر إلى وجه هذا وإلى وجه هذا، وإلى عزة هذا وذل هذا، فالأول له العز كل العز فشيخ الإسلام ابن تيمية عندما أتى إليه السلطان محمد بن قلاوون يقول: إنك تعمل مع ملك التتر -أي: المغول- لنزع ملكي، قال: ملكك وملك المغول لا يساوي عندي فلساً.
ويقول: أنا جنتي وبستاني في صدري أينما ذهبت فهي معي، إن معي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني عن بلدي فنفيي سياحة، وإن سجنوني فأنا في خلوة مع ربي.
إن المحبوس من حبس عن ربه وإن الأسير من أسره هواه.
ولما منعوا سلطان العلماء أن يخطب في دمشق حتى يقبل يد سلطان دمشق الصالح إسماعيل قال: يا سبحان الله! أيها الناس! أنتم في واد وأنا في واد آخر، والله ما أرضى لسلطانكم أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل أنا يده.
فانظر إلى عز هؤلاء حتى وهم في سجنهم.
وشيخ الإسلام ابن تيمية لما مات دخل عليه يغسله الحافظ المزي ومعه أربعة من حفاظ الحديث، وما استطاع ساجنوه أن يخرجوا في يوم موته إلى الشوارع أبداً؛ خوفاً من بطش العامة بهم.
فانظر إلى سجين يسجن ساجنيه وهو ميت.
فأي عز بعد هذا.
وهذا الفراء فقد كان ابنا المأمون يأتيان له بنعلين ليلبسهما.
ولما حبسوا عز الدين بن عبد السلام أراد الصالح وهو يكلم ملوك الفرنج أن يتودد إليهم، فقال: أتدرون من هذا الذي يقرأ في ظلمات الليل في خيمته القرآن؟ قالوا: من؟ قال: هذا أكبر قسيسي المسلمين -أي: أكبر شيخ عند المسلمين- حبسته من أجلكم؛ لأنه حرم بيع السلاح لكم.
فقال أكبر ملوك الفرنجة: لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه ولشربنا مرقته، أي: لجعلنا غسيل رجليه مرقاً وشربناه؛ لأنه رجل مبارك.
فهذا هو عز الصالحين.(51/6)
صور من ذل العصاة
وأما ذل العصاة فيقول أحدهم: إني لأعصي الله فأجد ذلك في خلق دابتي وامرأتي.
ويقول الحسن البصري: إنهم وإن طقطقت بهم البغال وهملجت بهم البراذين فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه.
وانظروا إلى قول المخلوق للمخلوق: أناس أعرضوا عنا بلا جرم ولا معنى أساءوا ظنهم فينا فهلا أحسنوا الظنا فإن خانوا فما خنا وإن عادوا فقد عدنا وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى أيها المعرض عنا إن إعراضك منا لو أردناك جعلنا كل ما فيك يردنا أي: لو أنك نظيف ولك قيمة ومنزلة عندهم لرفعوك كما يقول الله تبارك وتعالى، ولكنك متمسك بالطين والوحل، وتعيش في الأرض بين الديدان والحشرات ومستنقع الهوام ولعب الأطفال ولا تنظر إلى السماوات أبداً، ولا تنظر إلى جمال الإسلام أبداً.
إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها(51/7)
نور وجوه الصالحين وظلمة وجوه العاصين في الدنيا والآخرة
وعند المقارنة بين وجه هذا ووجه هذا فإن الشيخ إبراهيم عزة والشيخ صفوت نور الدين كانا إذا رؤيا ذكر الله.
ولم يسلم رجل بالنظر إلى وجه أحد الصالحين مثل ما حصل مع الحافظ عبد الغني المقدسي، فقد جلس معه رجل طول الليل ورأى بكاءه وصلاته فزفر الرجل زفرة خرج الكفر بها من صدره وأسلم.
وكانوا يصطفون في الطرقات لرؤية وجوه الصالحين، ويقولون: الوجه هذا يذكر بقيام الليل، والوجه هذا يذكر بصلاة الفجر جماعة، وهذا يذكر بالمسح على رءوس اليتامى.
فقد كانت وجوههم نيرة بطاعة الله عز وجل.
قيل للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
وعلى الطرف الآخر وجه كلما نظرت إليه ذكرك بالظلم وبسب الدين وبترك الصلوات وبالكبر، وبكل ما هو قبيح على وجه الأرض.
وإذا رأى الشيطان طلعة وجهه حيا وقال: فديت من لا يفلح فأين هذا من ذاك؟ قال الله تبارك وتعالى: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:60].
وقال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن:41].
فهم زرق العيون سود الوجوه، وهذا أقبح منظر عند العرب.
قال تعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41].
وقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُوْلَئِكَ هُمْ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس:40 - 42].
فهم خاشعة أبصارهم منكسة رءوسهم في يوم القيامة، قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا} [الإسراء:97].
وقال عز وجل: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].
فهل يستوي الوجهان؟ وقال تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107].
وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23].(51/8)
الصلاح يعلي من قدر الإنسان ولو كان عبداً خادماً
وقبل أن تنظر إلى فكر هذا وفكر هذا، وإلى نهار هذا ونهار هذا، وليل هذا وليل هذا، وزوجة هذا وزوجة هذا، وطفل هذا وطفل هذا، وسماع هذا وسماع هذا، والصفات الخلقية العظيمة لهذا والصفات الذميمة لهذا، وجار هذا وجار هذا، انظر لخادم هذا وخادم هذا، أي: الخدام في بيوت الصالحين وفي بيوت العصاة، فهذا عنده خدامة سيلانية بالدولار، والثاني خادمه سالم مولى أبي حذيفة، والسيدة عائشة تحتبس ليلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقول: (ما حبسك عنا يا عائشة؟ فقالت: رجل حسن الصوت يتهجد بكلام الله عز وجل، فيخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فإذا هو بـ سالم مولى أبي حذيفة، فيقول له: الحمد لله الذي جعل في أمتي مثلك).
ولما كان يوم اليمامة وانكشف صف المسلمين أمسك سالم براية المسلمين، فقالوا: يا سالم! إنا نخشى أن نؤتى من قبلك.
قال: بئس حامل القرآن إذاً أنا، ثم أمسك اللواء بيمينه فقطعت يمينه، ثم أمسك اللواء بيساره فقطعت يساره، فضم اللواء إلى عضديه وهو يتلو قول الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} [آل عمران:146].
والخادم في البيت المسلم مثل أبي العالية رفيع بن مهران كان يختم القرآن يومياً حتى نهاه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فجعل يختمه كل ثلاث.
والخادم في البيت المسلم مثل: سعيد بن جبير مولاهم، والحسن البصري مولاهم، وطاوس بن كيسان اليماني مولاهم، وعطاء بن أبي رباح مفتي الحرم، فهم سادة، نعالهم فوق جباه أبناء الدنيا جميعاً.
وأبناء الآخرة تخدمهم الملوك، وقد كان عطاء بن أبي رباح وهو عبد، وكان مفتي مكة، وأعلم الناس بالمناسك، وكان عبد الملك بن مروان يأتي به فيرفعه على سريره وقريش تحته يعلمهم، وكان عطاء بن أبي رباح أعور أفطس الأنف أشن أعرج أسود، ثم بعد ذلك عمي، ورغم هذا كله كان سيد الناس، وكنت إذا نظرت إليه لا تأبه له، فإذا تكلم علمت أنه مؤيد، وكأنما تنطق على لسانه الملائكة، هذا عطاء بن أبي رباح.
وكذلك كان الحسن البصري، فهؤلاء كانوا موالي، وكانوا عبيداً.
فأبناء الآخرة تخدمهم الملوك والخلفاء، فالشيخ ابن باز حمل نعشه أمراء السعودية.
وأبناء الدنيا تخدمهم الإماء والعبيد، وانظر عندما يكون خادمك عبداً ولا يكون ملكاً.
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي.
(ولا يجعل الله من أسرع إليه كمن أبطأ عنه) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(51/9)
مقارنة بين قلوب وهموم الصالحين والعصاة
الحمد لله وحده لا شريك له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: وانظر إلى قلب الصالح وإلى قلب العاصي، فالصالح قلبه سليم، سلم مما سوى الله عز وجل، وجعل همه في الله عز وجل، فهو مخبت منيب، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ} [محمد:17].
وعلى الطرف الآخر قلب قاس.
وفي القلب الأول يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم في أرضه قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس ذو القلب المخموم.
قالوا: وما القلب المخموم يا رسول الله؟! قال: الذي لا غل فيه ولا حقد ولا حسد).
وقلب العاصي فيه أغلال وأنكال، وعليه الران، فهو قلب مسود قاس ممسوخ، ومن الناس من يمسخ قلبه فيصبح كالكلب، ومنهم من يمسخ قلبه فيصبح كالخنزير فيترك الطيبات، وتكون العقوبة على القلب: الران والأغلال والصد والشد والقفل والصمم والبكم والغشاوة وتقليب الأفئدة وإنكار القلب وجعله غافلاً، وكل هذه عقوبات على القلب.
فهنا بساتين تزهر، وهناك نتن يفوح وقلوب دنسة، لم يرد الله تبارك وتعالى أن يطهرها.
وانظر إلى هم الصالح وهم العاصي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه).
وإي والله! من جعل الهم هماً واحداً فجعله في ذات الله عز وجل كفاه الله سائر همومه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها).
تجده يقول لزوجته: نحن اليوم نريد أن نضع جدولاً لمدة ثلاثة أشهر ننضم فيها جدولنا في الصيف ونذهب بالأولاد إلى كذا وكذا، وهذا هو أمره، قال تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7].
وقال: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم:30]، هذا هو الشيء الوحيد الذي يعرفه ويريده، فنهاره مهتم بالدوري، يذهب لمشاهدة مباراة كذا وكذا، ولا هم له إلا هذا، ولا تمر الآخرة على باله مطلقاً في لحظة من نهار.
والصالح رجل همه أن يسارع في الاستيقاظ في السحر؛ حتى يفيق قلبه من غفلة الدنيا، ولو شممت نسيم الأسحار لاستفاق منك قلبك المخمور، ورياح الأسحار لا يشمها مزكوم الغفلة؛ لأنه عند السحر لابد أن ينام.
وفي الأثر: (يا جبريل! أنم هذا وأقم هذا).
كما قال العلامة ابن رجب الحنبلي.
همه أول ما يستيقظ أن يكون أول داخل إلى المسجد في صلاة الغداة -أي: صلاة الفجر- لأنه يعرف أنه أول من يخرج من بيته لصلاة الغداة يرافقه ملك برايته حتى يدخل معه المسجد، ثم يعود معه إلى بيته، فأراد أن ينعم بصحبة الملك، فهو قد جعل همه أن يسمع أذان المؤذن في صلاة الفجر وهو في المسجد، فإذا ما صلى الفجر في الصف الأول جلس في مصلاه إلى الشروق، ثم بعد ذلك يصلي ركعتين، فتكتب له أجر حجة وعمرة تامة تامة تامة.
يقول سعيد بن المسيب: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام بالمسجد.
ويقول إبراهيم التيمي: إذا رأيت الرجل يتهاون بالتكبيرة الأولى فانفض يديك منه؛ فإنه لا يفلح.
فإذا أشرق الضحى تجده واقفاً صافاً قدمه بين يدي مولاه ليصلي صلاة الضحى، والقاسم بن محمد قال: ذهبت إلى بيت عمتي عائشة بعد صلاة الصبح فإذا هي قائمة تصلي الضحى وتقرأ قول الله عز وجل: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28].
قال: فعدت إلى منزلي، ثم دخلت السوق واشتريت حاجتي، ثم أتيت، فإذا هي قائمة تردد نفس الآية: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].
والصالح إذا أشرق عليه الصبح يقول: يا نفس! هذا يومك الذي فيه تموتين، أنت ستموتين هذا اليوم ولن يأتي المغرب عليك، فيظل في طاعة إلى الغروب، يسابق خروج الروح.
ويبدأ نهاره كما بدأ أبو هريرة بالتسبيح اثنا عشر ألف تسبيحة، ويقول: إنما أسبح بقدر ذنبي.
والصالح لا يترك زوجته تذهب أين شاءت، فتركب الأوتوبيس، مبهذل حالها على سلم الأوتوبيس فما هي عيشة الهم هذه؟ فبدلاً من أن تجلس في بيتها تسبح أو تسمع قراءة الشيخ خالد القحطاني أو الشيخ ابن باز أو ابن عثيمين، فتجلس تسبح وتنظف بيتها وتطعم أولادها، وليس لها هم إلا ذلك، وعندما تأتي تأكل مع زوجها تذكره بالآخرة، كما كانت تفعل رابعة بنت إسماعيل الشامية، كانت إذا جلست مع زوجها تلميذ الإمام أحمد تذكره بالآخرة، وأن الجنة فيها كذا، والنار فيها كذا، والعرض على الله كذا، فيقول لها: دعينا لا تنغصي علينا عيشنا، يعني: اللقمة التي نأكلها دعيها تنزل ولا تنغصيها علينا، فتقول له: لست أنا وأنت ممن ينغص عليه العيش بذكر الآخرة.
وكان أحدهم في وقت النهار لو رجع من الحرب والجهاد في سبيل الله يجمع غبار المعارك في صرة؛ حتى يجعل من هذه الصرة لبنة توضع معه في القبر.(51/10)
بيان بعض أخلاق الصالحين
حياة الصالح حياة غريبة، فإنك تجده في النهار شفتيه ذابلتين، مثل سيدنا أبو أمامة رضي الله عنه، قال: (يا رسول الله! دلني على عمل، قال: عليك بالصوم فإنه لا مثل له)، فكان أبو أمامة لا يرى في بيته دخان بالنهار أبداً إلا في حضرة ضيف.
والصالحون إذا مشوا على بقاع الأرض يمشون هوناً، {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].
ويسعون في مصلحة الناس، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال عند الله سرور تدخله على مسلم، أو تطرد عنه جوعاً، أو تقضي عنه دينا)، وفي رواية: (أو تطعمه خبزا).
الصالحون ملئت قلوبهم رحمة، فلا تجدهم إلا واضعين أيديهم على رأس يتيم، يمسحون بها على رأسه، ويطعمون اليتيم بأيديهم، فقد كان سيدنا أبو بكر الصديق -وهو خليفة- يحلب شياه اليتامى بالنهار.
ولا يبغون من الخير إلا رقة الأحاسيس في دار الدنيا، وطهارة القلب ونعيمه، بدلاً من أن يصعد القلب كأنما يصعد في السماء في ضيق النفس والقلب وضيق الصدر واسوداد القلب.
وحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم والله العظيم! إن هذه الجنة في دار الدنيا قبل دار الآخرة، يقول ابن تيمية: إن لله جنة في الأرض من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.(51/11)
مقارنة بين ليل الصالحين وليل العصاة
وهناك أكثر من خمسمائة مقارنة بين الصالحين وبين العصاة، وتجد هذا عند الموت، بل تجده عند الموت الأول في ليل هذا وفي ليل هذا.
فليل الصالح دموع ورجاء وأمل بالله عز وجل، وخوف يقطع نياط القلوب الطاهرة، ودعاء ورغبة وذل على باب سيده، يقول: أسألك بعزتك وذلي، وأسألك بغناك عني وحاجتي إليك إلا رحمتني، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل، سؤال من رغم لك أنفه، وذلت لك رقبته، وخضع لك جميع أمره.
والصالح لا تجده في الليل إلا هكذا.
والآخر لا تجده إلا في صياح في كازينو أو في ملهى ليلي.
فالصالح يصف قدميه بين يدي مولاه، ولا يأتي فراشه إلا زحفاً، فإذا أتى إلى فراشه بكى وقال: سبقني العابدون وقطع بي، ويقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء! وهل رضيتك لله طرفة عين؟ ويقول أحدهم: إني لأصلي الركعتين لله عز وجل، أقوم منهما بمنزلة السارق والزاني الذي يراه الناس، ينكرون أنفسهم ويحتقرونها.
ويقول مالك بن دينار: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف.
ويقول محمد بن واسع: لو كانت للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي.
فكانوا يمقتون أنفسهم، ويظلون طوال الليل قانتين لله عز وجل، فإذا كان السحر مالوا إلى الاستغفار.
يقول الحسن البصري: وكأنهم أسلفوا في ليلهم الجرائم.
وكأنهم باتوا مصرين على القبائح والمعاصي.
فهل يستوي ليل هذا وليل ذاك؟ لا يستويان.
والصالح سماعه سماع النبيين والصديقين من أحسن الحديث والطيب من القول؛ سماعه القرآن الكريم يردده في صدره، ويردد الآية ويتعجب كيف ينام الناس عن هذا القرآن! يقول أحدهم: إني لأتعجب لحفظة القرآن -أو لقراء القرآن- كيف يذوقون النوم؟ وكيف ينامون ومعهم القرآن؟ أما والله! لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا.
والعاصي رجل بال الشيطان في أذنيه، وعقد الشيطان على قافية رأسه: عليك ليل طويل فنم ولا تقم، فليل هذا ليل كله غفلة، ينام حتى عن صلاة الظهر.
فلا يستوي هذا وذاك.(51/12)
مقارنة بين الصالحين والعصاة عند الموت
والعاصي عند سكرات الموت كما قال الله تبارك وتعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27].
وأنت عندما يضربك أحد -كالمعلم- في دار الدنيا تجد لضربه ألماً، فكيف بضرب الملائكة، كما قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27]، وقال تعالى: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93]، قال ابن كثير: أي في الضرب.
ويقول ملك الموت للصالح عند سكرات الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة -إن كانت في الجسد الطيب- إلى روح وريحان ورب غير غضبان.
قال ابن القيم: إن العبد وهو يتقلب في نعيم الجنة فيذكر نعيم الدنيا فلا يساوي شيئاً مقارنة ببشارة ملك الموت له عند خروج الروح.
واليوم أربعة مليون شخص شيعوا جنازة الأميرة ديانا، وهذه قمة اللهو.
وإذا نظرنا إلى عدد المشيعين للعبد المؤمن فإنه عندما تخرج روحه يضعها الملائكة في حنوط من حنوط الجنة، وكفن من أكفان الجنة، فتخرج منها كأطيب نفحة مسك على وجه الأرض، وينادونه بأحب الأسماء إليه كانت في دار الدنيا، ويشيعها من كل سماء مقربوها إلى السماء التالية.
وفي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (ما في السماوات موضع أربعة أصابع إلا وملك ساجد واضع جبهته لله).
وسمك السماء الواحدة مسيرة خمسمائة عام، وبين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، والمقربون يشيعون روح العبد الصالح حتى يصلوا بها إلى السماء السابعة، فيقول الله: (اكتبوا كتاب عبدي في عليين).
وعلماء التفسير اختلفوا في معنى عليين، يعني: هل هي في السماء السابعة أو عند سدرة المنتهى أو في قائمة العرش اليمنى أو عند الله عز وجل؟ فأقل شيء أن روحه تكون في السماء السابعة فما فوق، فهي في علو دائم.
وأما العاصي فيقول له: (اكتبوا كتاب عبدي في سجين) في الأرض السابعة، في حزر إبليس وتحت سيطرته، وروحه لا تفتح لها أبواب السماء، ولا تصعد في ملكوت السماوات، قال تعالى: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
والعاصي تجذب روحه جذباً، وذلك عندما تتفرق وتخاف وتنتشر في جسده فإن الملائكة يجذبونها جذباً، قال تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات:1].
وتخرج منها كأنتن جيفة على وجه الأرض، ولا تصعد إلى السماء، وينادى من قبل العرش: (أن كذب عبدي)، وكفاية عليك هذا لو لم ترض بجوار الله عز وجل.(51/13)
نعت الله لأهل المعاصي بأقبح النعوت
المولى عز وجل نعت أهل المعاصي والشاردين عن بابه ومن كفروا بأقبح النعوت، فنعتهم بالضلال، قال الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:16].
ونعتهم بالغفلة، قال الله تبارك وتعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
ونعتهم بالتخبط في الظلمات، قال تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ} [البقرة:17].
ونعتهم بالانحراف عن الصراط، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} [المؤمنون:74].
ونعتهم بالسقوط والهوي، قال تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
ونعت قرينهم بقرين السوء قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء:38].
وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف:27].
وقال الله تبارك وتعالى: {أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} [مريم:83].
ويقول الشيطان خطيبهم في النار، وانظر إلى من يكون خطيبه في الجنة ألا وهو نبي الله داود ذا الصوت الرخيم وصاحب المزامير، وصاحب النار يكون خطيبه نعيق البوم والشيطان: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22].
فإذا سمعوا مقالته هذه مقتوا أنفسهم.
ونعت الرجل الذي أعطاه العلم فأخلد إلى الأرض بقوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176]، وليس هذا فقط، بل قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5].
إذاً: فهو كمثل الكلب وأضل من الأنعام ومثل الحمار، ولا يوجد هناك نعت أسوأ من هذا ولا أقبح من هذا، إلا وألصق بهم ونسب إليهم.
ويقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات:12].
ويقول الله تبارك وتعالى: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
ونعتهم بغيبة العقل وبالعلم القاصر وبالمجادلة بغير علم، فقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} [الحج:8].
وباتباع الظن، قال تعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:28].
وبالسفاهة، قال تعالى: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام:140].
وبالمقت، قال تعالى: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [غافر:10].
ووصف قلوبهم بالقاسية قال الله تبارك وتعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
وبالفسق وبفعل السوء، قال تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ} [البقرة:169].
وبظلم أنفسهم، قال تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة:231].
وبالكبر، قال تعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر:56].
وبالريبة والشك، قال تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:45].
وبالغرام الشديد بكل شيء، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225].
فإذا وجدت مسرحية جديدة هم عبدة لها، وإذا حان وقت مباريات كأس العالم، تجد شغله الشاغل هو وزوجته وأولاده أن يعملوا الأكل ويضعوه في الثلاجات؛ لأنهم مشغولون بكأس العالم، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225].
إلا الوادي الأفيح، وإلا وادي المسك، وإلا وادي المعاملة مع الله عز وجل، فهذا الوادي لا يعرفونه.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} [الشعراء:225].
وإذا ظهرت أغنية جديدة فإنهم ينشغلون بها، وينشغلون بالبذلة الجديدة، وبآخر موضة جديدة، وبالأكل في المطعم الفلاني فهذا هو مبلغه من العلم، وهذا الذي يعيشه فقط، وليس معه شيء آخر، ولا يفكر في حاجة أخرى، وليس له هم للإسلام أو هم للدعوة أو لكذا أو كذا.
وقد كانت زوجة أبي محمد حبيب العجمي تقول له: قم يا سيدي! فهذا الليل قد أدبر، وهذا النهار قد أسفر، وبين يدينا طريق طويل وزاد قليل، وهذه قوافل الصالحين قد سارت أمامنا إلى الجنة ونحن قد بقينا.
فبالله عليك هل يستوي هذا وهذا؟ وسياسي كبير يقول: أنا حققت ثلاثة انتصارات: على ذبابة دخلت مخدع نومي وكانت تطن، وبعد ساعة قتلتها وانتصرت عليها! والثاني يقول: كان وزني خمسة وثمانين كيلو فعملت ريجيم وخفضت من وزني، ولا ألعب طاولة مع زميلي إلا وكان زميلي كل مرة يغلبني والمرة هذه غلبته أنا.
فهذه ثلاثة انتصارات لا يتحملها القلب لدرجة أنه أصيب بالسكر، فإن كنت هكذا فأنت شبه رجل.(51/14)
حجب الله للعصاة وفضحه لهم وتكريمه للصالحين
ومن كان هذا حاله فإن الله حجب عنه مغفرته، قال تعالى: {لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء:137].
ورؤيته، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15].
ونظره وتزكيته لهم، قال تعالى: {وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ} [آل عمران:77].
وحرمهم من النور، قال تعالى: {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد:13].
وينادى بهم على رءوس الأشهاد، ويقول الأشهاد: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} [هود:18]، وهذه فضيحة مجلجلة، قال تعالى: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18]، فكيف هو حال العاصي إذا ضيق عليه القبر حتى تختلف أضلاعه؟ وكيف إذا جعل له فراش من النار؟ وكيف إذا أتى إليه الشجاع الأقرع؟ الذي ينكره أحمد منصور؟ نسأل الله عز وجل أن يجازيه به إن لم يتب، وكيف إذا قال الله عز وجل: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] فيبتدره سبعون ألف ملك أو مائة ألف ملك، كلهم يريد أن يضع الغل في عنقه؟ وكيف إذا سحب على وجهه إلى النار؟ وكيف إذا سيق إلى جهنم وهو عطشان كما قال تعالى: {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} [مريم:86] وهذا بعد خمسين ألف سنة وقد تقطعت أعناقهم من شدة العطش؟ وكيف إذا حشروا إلى النار هكذا؟ وأما الصالحون فتقرب إليهم الجنة؛ لكرامتهم على الله، قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31].
ولا يسيرون إليها سيراً بل -والله- ركباناً، فكيف إذا تلقتهم الملائكة؟ وكيف إذا تلقتهم الحور العين على أبواب قصورهم؟ وخادم واحد من خدمك في الجنة يساوي الدنيا كلها ومن عليها، وإذا رأى قهرمانه في الجنة -وهو وكيل الخزنة- هم بالسجود له، فيقول له: ارفع رأسك، فيقول: كأنك ملك وأنا لا أعرف، فيقول: إنما أنا قهرمانك، وتحت يدي ألف قهرمان على مثل ما أنا عليه.
وآخر من يدخل الجنة له مثل عشرة أمثال الدنيا من يوم أن خلقها الله عز وجل حتى يحييها.
وعند النظر في نعيم الجنة ونورها والمقارنة بين متاع هذا في الجنة ومتاع هذا في الجنة نجد بينهما ألف نقطة، ونقطة واحدة فقط كفيلة أن تعود بك إلى الله عز وجل.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(51/15)
الصدق
الصدق منجاة، من عمل به نجاه، وهو من صفات المؤمنين، ومن خصال المتقين، ومن علامات الصالحين، فالفوز والفلاح معقود في كل كلمة صدق، والنجاة والخلاص متعلقة بكل كلمة حق.
وقد حث الله عليه في كتابه الكريم، وحض عليه رسوله المصطفى في غير موضع من سنته المطهرة، والصدق لا يعني فقط صدق اللسان، وإنما هو صدق الجنان، والجوارح والأركان في جميع الأعمال والأقوال والأحوال.(52/1)
فضل الصدق
بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: الصدق أساس هذا الدين، وعمود فسطاط اليقين، به تميز سكان الجنان من سكان النيران، أما كونه أساس هذا الدين فلا يدخل العبد في الإسلام إلا بتصديق من قلبه حتى وإن نطق بالشهادتين وخالف النطق قلبه فهو مخلد في النار، فأساس الإسلام: قول باللسان وتصديق بالجنان، وكما قالوا: إن العبد يعصم ماله ودمه بالنسبة للدنيا بالنطق بالشهادتين، ولكن المسلم الناجي عند الله عز وجل: من أتى بالنطق بالشهادتين ثم صدق القلب بما نطق اللسان.
وهذه قد تظهر من فلتات الرجل أو تظهر من أعماله وإن لم يصرح بها.
هب أن رجلاً نطق بالشهادتين أمام الناس، ثم أتى إلى مصحف فمزقه، ووضعه تحت قدمه وهو غير مكره ولا خائف ولا معتوه العقل، فهل يصدق أن هذا مسلم؟ فلو كان في قلبه أصل أعمال القلوب، وأصل التوقير لله عز وجل، وأصل الخوف من الله عز وجل، لما مزق كتاب الله عز وجل، فلا يدخل العبد في الإسلام إلا بتصديق القلب، والنطق بالشهادتين: يعصم بها المال والدم في ديار الإسلام، ولا يقتل الرجل طالما أنه نطق بالشهادتين ما لم يرتد بعد ذلك.
الصدق به الفلاح في الدنيا والآخرة، قال الله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119]، فالصدق هو الذي ينجي في عرصات القيامة، والكاذب كاذب حتى في عرصات القيامة، فلقد جاء في الحديث: أن الله تبارك وتعالى يقول لنوح أول نبي أرسله: (يا نوح هل بلغت؟! يقول: نعم، فيقول الله عز وجل لأمة نوح: هل بلغكم نوح؟ يقولون: ما جاءنا من نذير، فيقول الله عز وجل: من شهودك؟ يقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته)، فيكذب قوم نوح أمام الله عز وجل، ولكنهم إذا رءوا النار تلتهب صدقوا: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15]، وعندما يقول لهم خزنة النار: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ} [الملك:8 - 9].
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة الذي رواه الإمام أحمد، وحسنه الحافظ ابن كثير، وحسن الإسناد الشيخ أحمد شاكر: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل لـ أبي هريرة: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة)، أي: الرجل الحقير التافه يتكلم في أمر العامة، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه)، وقال صلى الله عليه وسلم لأعرابي: (إن تصدق الله يصدقك)، وقال أيضاً: (أفلح إن صدق).(52/2)
من أخبار الصادقين
عبد القادر الحسيني رجل عظيم، استشهد وهو يدافع عن القدس، وابنه هو المسئول الآن عن ملف القضية الفلسطينية، هذا كان خريج الجامعة الأمريكية في القاهرة، وفي حفل التخرج، وبعد أن صعد المنصة ليتسلم شهادته، قال أمام الجميع: إنكم ما أتيتم لبلادنا إلا للتفجير والتنصير، وهناك كتب عدة في الجامعة تدعو إلى هذا، ثم أتى بالشهادة فمزقها ووضعها تحت قدميه.
إن تصدق الله يصدقك.
وهذا الرجل في أثناء حرب ثمانية وأربعين، وقد أوشكت القدس على السقوط، ذهب إلى سوريا يستنجد من اللجنة العربية لإنقاذ القدس، ويطلب سلاحاً يدافع به عن القدس، فلم يعطوه، فعاد مرة ثانية من سوريا وهو يقسم ألا تسقط القدس حتى يقتل في سبيل الله عز وجل، وظل بمدفعه يقاتل أربعة وعشرين ساعة متكاملة، والقوات التي أمامه تظن أنه كتيبة فدائية تقاتلها، حتى سقط الرجل شهيداً.
إن تصدق الله يصدقك.
مفتاح الصديقية، وهي درجة ثانية بعد النبوة، صدق في الأقوال، وصدق في الأحوال وهو الإخلاص وصدق في الأعمال واستواء السريرة مع العلانية ولقد كان رسول المولى عز وجل يسأله: أن يرزقه مدخل صدق، ومخرج صدق، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80].
وسيدنا إبراهيم سأل ربه فقال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2].
ومعنى: أدخلني مدخل الصدق أي: كل دخول في أي أرض يكون بالله ولله، كدخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقد خرج من دياره تاركاً وراءه كل شيء: الأهل والأحباب والمال، خرج فاراً بدينه، فلما أتى إلى المدينة وكان دخوله صادقاً بالله وفي الله أثر هذا الدخول في عبد الله بن سلام زعيم اليهود، قال عن يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة: (لما نظرت إليه علمت أنه ليس بوجه كذاب على الله، فكان أول ما سمعته منه: أيها الناس! أطعموا الطعام، وأفشوا السلام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام)، هذا مدخل الصدق.
ومخرج الصدق: كل خروج يكون لله عز وجل، كخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر، وخروجه أيضاً من مكة لينشر دعوة الله عز وجل: ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ووده الغرباء ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء وخروج الكذب: كخروج أبي جهل في يوم بدر، قالوا له: قد أفلتت العير من محمد فارجع سالماً، قال: لا والله! والله لا نعود ولا نرجع حتى نمكث ببدر ثلاثة أيام، نشرب الخمور وتعزف لنا القيان، فتسمع بنا العرب فتهابنا، فأذله الله عز وجل في يوم بدر.
كل خروج من البيت أو إلى أي مكان تكون فيه ضامناً على الله عز وجل وأنك ستخرج لله وفي لله، فهو خروج الصدق.
ولسان الصدق: هو الثناء العطر من الناس بعد ممات الرجل، قال الله تبارك وتعالى: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ * سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:108 - 109].
فاحذر أن يفضحك ميراثك يوم موتك، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بجنازة: (مستريح أو مستراح منه، ولما سألوه عن المستراح منه؟ قال: العبد المنافق أو الكافر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب).
ومقعد صدق أي: الجنة، وقدم صدق: ما تقدمه من إيمان بالله ورسوله، ولذلك فسروها: بأنها محمد صلى الله عليه وسلم، أو ما تقدم عليه وهي الجنة.
الدين كله صدق، فمن زاد عليك في الصدق، فقد زاد عليك في الدين.
قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وقال الله تبارك وتعالى: ((وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ)) أي: الدين {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33] أي: الصديق رضي الله عنه.
يقول سيدنا علي: والذي نفسي بيده! إن الله سمى أبا بكر صديقاً، يعرفه المسلمون بنعته وصفته، وكثير من المسلمين لا يعرفون اسم أبي بكر الصديق الحقيقي، إنما يعرفونه بكنيته وبصفته.
الصدق يرفع صاحبه، وانظر إلى الصديق الأنصاري ومنزلته في الأنصار كمنزلة أبي بكر في المهاجرين، وهو سيدنا سعد بن معاذ رضي الله عنه لما قال: (يا رسول الله! امض لما أمرك الله به، فإنا والله صدق في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك)، وهذا الرجل حالف يهود بني قريظة قبل الإسلام فكانوا من حلفائه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعشر الأنصار: (قوموا إلى سيدكم) فأنزلوه، وكان مريضاً، وسأل الله عز وجل ألا يمته حتى تقر عينه من يهود بني قريظة، وقد قالوا في النبي صلى الله عليه وسلم ما قالوا، ونالوا منه بألسنتهم، وكان قد أصيب سعد في أكحله، وكان الدم لا يرقأ، وبكى أبو بكر وبكى عمر وبكى النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل النبي حوله من يرقع جرحه، وما اندمل الجرح، فرفع سعد يده يدعو إلى السماء، وقال: اللهم لا تمتني حتى تقر عيني من يهود بني قريظة، قالوا: فوالله لقد حبس الشريان فما قطرت منه بعد ذلك قطرة واحدة، ثم حاصر النبي صلى الله عليه وسلم يهود بني قريظة وقاتلهم حتى نزلوا على حكم سعد بن معاذ وهم يظنون أنه سيجاملهم.
وحكم فيهم سعد بحكم الله من فوق سبع سماوات: أن تقتل مقاتلتهم، وأن تسبى نساؤهم وذراريهم، وهذا نفس الحكم الموجود في توراتهم المحرفة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: (لقد حكمت فيهم يا سعد! بحكم الله من فوق سبع سماوات).
فتصوروا أن رجلاً يمشي على الأرض يوافق حكمه حكم الله عز وجل من فوق السماوات السبع، أي شرف لهذا الصادق أعظم من هذا.
ثم قال سعد بعد أن قتل اليهود على ضوء سعف النخيل: اللهم افجره شوقاً إليك، فانفجر الشريان، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتي إلى سعد كل يوم، ويسأل عن أخباره رفيدة، فلما أتى إلى رفيدة قالت: يا رسول الله! اشتد به الوجع، فأتى قومه بني عبد الأشهل فحملوه إلى ديارهم، ونزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! من هذا الذي مات من أمتك؟ نزل اليوم إلى الأرض سبعون ألف ملك، ما نزلوا إلى الأرض قبل يومنا هذا).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أسرع المشي حتى قال الصحابة: (يا رسول الله! تقطعت شسوعنا ونعالنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة).
ولما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيته وجد أمه تنوح عليه، فقال: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد، أو إلا نائحة سعد)، جعلت تقول: ويل أم سعد سعداً صرامة وجداً وفارساً معداً.
ولما حملوه قال المنافقون: ما وجدنا أخف حملاً منه، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن الملائكة قد حملته معهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن السرير اهتز فرحاً بموت سعد بن معاذ)، وفي رواية: (إن عرش الرحمن اهتز فرحاً بموت سعد بن معاذ)، وهذه هي الجائزة العظمى للصدق.(52/3)
من أنواع الصدق
الصدق في الإيمان والأحوال والأعمال، والصدق في النيات، والصدق في العزم.(52/4)
الصدق في الخوف
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: الصدق في الخوف: ليس أن تدمع عيناك وأنت ترتكب المعاصي، ليس الخائف من يبكي ويمسح عينيه، إنما الخائف من يترك ما يخاف أن يعاقب عليه.
كان مالك بن دينار يعظ قوماً، ثم بعد أن انتهى من موعظته التفت إلى النعل فلم يجدها، فقال: كلنا يبكي فمن سرق النعل؟ فالدموع ليست بكافية، ربما تكون دموع تماسيح.
هل أنت صادق مع الله عز وجل؟ أم أن توبتك كتوبة شيخ ضعفت قوته عن ارتكاب المعصية، أو يدعي التوبة ويلتفت إلى الذنب الفينة بعد الفينة، ويتذكر حلاوة الذنب؟ فلو صدقت توبتك لصحت.
فكل يوم يمر عليك ولا تعصي الله عز وجل فهو يوم عيد.
وهذه هاجر أتى بها إبراهيم إلى جبال فاران موضع مكة الآن، ونظرت حولها فلم تجد إلا هدير الصحراء؛ فقالت: (يا إبراهيم! إلى من تتركنا في مثل هذا المكان القفر، يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فلن يضيعنا).
هذا الكلام سهل، لكنه كلام امرأة ومعها رضيعها في الصحراء، وبعد قليل سيفارقها زوجها، ولن تجد بعد ذلك لا ابن ولا بنت، ولن تجد إلا الموت في الصحراء.
فماذا تفعل المرأة برضيعها، وهو يتلبط من الجوع والعطش، فتهرول ما بين الصفا والمروة، ولصدقها يجعل الله عز وجل هذه الخطوات ركن من أركان الحج، فرفعها الله عز وجل بصدقها، ولما نزل إليها جبريل، قال: من أنت؟ ومن زوجك؟ قالت: أنا أم إسماعيل، وزوج إبراهيم، قال: إلى من وكلكما؟ قالت: إلى الله، فقال: صدقت، وكلكما إلى خير كافل، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله.
ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإحسان جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا قال الله عز وجل: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، ولما صدقت في المعاملة مع الله عز وجل، وعلمت أن الله عز وجل هو خير كافل، وهو خير وكيل، ألقت بابنها الرضيع على صفحة النهر، وقد كانت ترضعه على خوف من فرعون وملئه، والآن تلقيه في اليم، والأم إذا خافت على ولدها ضمته إلى صدرها، فلم يقل لها: فضميه إلى صدرك بل (فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ)، وهذا من صدق التوكل على الله عز وجل.
سبحان من جعل من موج البحر لموسى مستراحاً ومأمناً ومناماً، وجعل من النار لإبراهيم برداً وسلاماً.
ويأتي هذا التابوت إلى قصر فرعون لتكون المعركة على أرضه.
وكأنه يقال له: جندت كل جندك وكل القافلات من أجل هذا الطفل الرضيع! فسوف نسهل لك المهمة ونأتي به إلى قصرك.
وتنظر الجواري فيلتقطن سيدنا موسى عليه السلام، وإنما يؤتى الحذر من مأمنه، ولا يؤتى فرعون إلا من قبل زوجته التي تعيش معه في غرفة واحدة، قال الله تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، قالت زوجة فرعون: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، ونجاه الله عز وجل بأرق شيء، وهو المحبة التي ألقاها في قلب آسية، فلم تحمه الملائكة ولا غيرها، وإنما حماه الله بكلمة الحب: لا تقتلوه.
وربي موسى في حجر فرعون، ولسان القدر يقول: لا نربيه إلا في حجرك.(52/5)
الصدق في الأقوال
الصدق في الأقوال: أن يجتنب الإنسان ما أمكنه عن المعاريض، ويحاول أن يكون صادقاً، ويجنب نفسه كثرة المعاريض، نعم إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب ولكن يحاول الإنسان أن يخفف.
ومن الصدق في الأقوال: أن يصدق الله عز وجل في مناجاته أثناء العبادات، فلا يقول أثناء الصلاة: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً.
وقلبه في القاهرة مثلاً، ولا يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5] ويكون عبداً لشهواته، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة)، فالصدق في الأقوال ينجي.
روي أن صبياً وهو عبد القادر الجيلاني أثناء طلب العلم ذهب إلى بغداد، فأعطته أمه أربعين ديناراً، فخرج على القافلة التي كان يسير فيها قطاع الطرق، فأتى أحد اللصوص إلى الجيلاني فقال: ما معك؟ قال: أربعون ديناراً! فظن أن الولد يكذب، فأعاد عليه مرة ثانية، فقال: معي أربعون ديناراً، فأتى به إلى زعيم اللصوص، فقال: ما معك؟ قال: أربعون ديناراً، ثم أخرجها؟ قال: ما حملك على الصدق؟ قال: إني عاهدت أمي على الصدق! قال: يا سبحان الله! أنت تخاف أن تنقض عهدك مع أمك على الصدق، وأنا لا أخاف أن أنقض عهد الله عز وجل، ثم قال: أنا تائب على يديك، فقال اللصوص: أنت كبيرنا في التوبة كما كنت كبيرنا في قطع الطريق، وتابوا على يد الجيلاني وهو طفل صغير.
والصدق منجاة، قال الجنيد في درجة الصدق في الأقوال: أن تصدق في موطن لا ينجيك منه إلا الكذب، مثل ربعي بن حراش رحمه الله وهو أحد التابعين، قالوا: ما كذب قط، وكان الحجاج طالباً منه ولديه ولم يكن له غيرهما، فعلم أن ربعي بن حراش يعلم مكان ولديه، فلما أتي به إلى الحجاج قال: أين ولداك؟ قال: إنا لله وإنا إليه راجعون هما في البيت، قال: عفونا عنهما من أجل صدقك.(52/6)
الصدق في المجاهدة والتوبة إلى الله
والصدق في المجاهدة مع الله عز وجل: ألا تختار غير الله عز وجل، ولا تقدم عليه أحداً، قال الله عز وجل: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} [الحج:78] أي: اصطفاكم، فلا تختر على الله عز وجل ولا تقدم عليه أحداً، كما لم يقدم عليك ولا على المسلمين أحداً بأن اصطفى هذه الأمة.
والصدق في التوبة مع الله عز وجل.
فهذا بشر بن الحارث الحافي، الذي قال عنه الناس: ما أخرجت بغداد أتم عقلاً منه، والإمام أحمد كان إذا سئل في مسألة عن الزهد والورع، قال: تسألوني عن الزهد وفيكم بشر؟ قالوا: إنه كان في بداية حياته ماجناً، وكان يسرق، وبينما هو يدعو إخوانه إلى ليلة عنده، إذ مر ذاهب بالباب فطرق قصر بشر بن الحارث، فلما خرجت إليه الجارية، قال لها: قصر من هذا، قصر عبد أم حر؟ فقالت له: قصر حر، فقال: صدقت لو كان عبداً لاستعمل آداب العبودية، ثم مضى، فخرج بشر حافياً وراءه، لما سأل الجارية عما قاله، وما لبس نعلاً وظل حافياً طيلة حياته، قال: حال لقيت الله عز وجل بها لا أغادرها أبداً، فلقب بالحافي، ويوم موته خرجوا به وقت صلاة الغداة وما وضعوه في قبره إلا بعد العشاء.
علي بن المديني يقول: هذا والله! عز الدنيا قبل عز الآخرة، وهذا شرف الدنيا قبل شرف الآخرة.
وكان أبو محمد حبيب العجمي مرابياً، وكان إذا خرج إلى الشارع يخرج الأطفال حوله يهتفون وراءه: هذا أبو محمد حبيب العجمي المرابي، فجلس مجلساً للحسن البصري فتاب إلى الله عز وجل، وتصدق بجميع ماله، فكان بعد ذلك إذا خرج إلى السوق يقول الأطفال: هذا أبو محمد حبيب العجمي الزاهد.
إن تصدق الله يصدقك، يقول أبو عبد الرحمن الزاهد: ويلي! من أشد جرماً؟ يا مولاي! عاملتُ عبادك بالصدق والأمانة، وعاملتك بالخيانة!! اتق يوماً تقف فيه أمام الله عز وجل، ليس بينك وبينه ترجمان، تنظر عن يمنيك ما ترى إلا ما قدمت، وتنظر أشأم منك فلا ترى إلا النار.
أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الأماني أن يتوبا أنا العبد المسيء عصيت سراً فمالي الآن لا أبدي النحيبا أنا الغدّار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناس حووا من كل معروف وطيبا فيا أسفا على عمر تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني ممات يحير هول مصرعه اللبيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا أنا العبد الغريق بلج بحر أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد السقيم من الخطايا وقد أقبلت ألتمس الطبيبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا انظروا إلى توبة ماعز الذي ارتكب الزنا ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (والله! لقد تاب توبة لو قسمت على أمة لعمتهم).
وانظروا إلى الغامدية التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن زنت وتابت إلى الله عز وجل: (والله! لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لقبلت منه).
وهذا كعب بن مالك عندما تاب الله عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبشر يا كعب بخير يوم خرج عليك منذ ولدتك أمك).(52/7)
الصدق في النيات والعزم
فالصدق في النيات: هو أن تريد بالعمل وجه الله تبارك وتعالى، ولا تريد رئاء الناس، يقول الله تبارك وتعالى عن المنافقين: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [التوبة:107]؛ لأنهم كذبوا في نياتهم.
الصدق في العزم: يقول سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه: والله! لئن أقدم فتضرب عنقي، أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق.
والصدق في العزم يتفاوت، فرب رجل يقول: عليّ لله إن أعطاني مالاً أن أتصدق بجميع هذا المال، ولكنه إذا أتاه المال يكون متردداً.
وقد يقول رجل: إني أحب أبا بكر الصديق، ولكن لا يكون في عزمه كعزم سيدنا عمر، فسيدنا عمر يقول: والله لئن أقدم فتضرب عنقي أحب إليّ من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق.
وهذا صدق في العزم.
ومثل سيدنا أنس بن النضر رضي الله عنه عندما غاب عن مشهد بدر، فقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الكافرين وأغيب عنه! والله! لئن أشهدني الله مشهداً آخر لأرين الله ما أصنع.
يقول أبو تراب النخشبي: إن الرجل إذا صدق في عزمه أعطاه الله حلاوة العمل قبل مباشرته للعمل.
يعني: إذا علم الله عز وجل من نيتك ومن عزمك الصدق ألبسك رداء هذا العمل قبل أن تفعله، وأعطاك بصيصاً من حلاوته قبل أن تقدم عليه.
فالأصل: المتاجرة مع الله عز وجل بالقلوب، وسيدنا أنس بن النضر عندما خرج إلى جبل أحد، فقال له سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟ فقال: إليك عني يا سعد بن معاذ، والله! إني لأشم ريح الجنة من دون أحد.
وقاتل حتى قتل، فما عرفته إلا أخته الربيع بنت النضر ببنانه فقط، وفيه نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث نعيم بن همار الذي أخرجه الإمام أحمد وأبو يعلى والطبراني في الأوسط بإسناد صحيح، قال: (الشهداء الذين يقاتلون في سبيل الله في الصف الأول، ولا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا، يلقون في غرف الجنة العليا يتلبطون، يضحك الله تبارك وتعالى إليهم، وإن الله تبارك وتعالى إذا ضحك إلى عبد فلا حساب عليه).(52/8)
النصر متعلق بالصدق
والصدق ينجي في الدنيا والآخرة، هل صدق المسلمون والعرب وهم مليار وربع مليار، واليهود خمسة مليون فقط؟ هل صدقوا الله عز وجل في نصرة فلسطين؟ والله! ما صدقوا.
قالوا لنا أرضنا أرض مباركة فيها التقى والهدى والوحي والرسل ما لي أراها وبحر الزور يغرقها وأبقوا الأمر في أرجائها زجل عار على الأرض كيف الذل أغرقها كيف استوى عندها الكذاب والرجل فكم بكينا على أطلال قرطبة وقدسنا لم تزل في العار تغتسل في القدس تبكي أمام الله مئذنة ونهر دمع على المحراب ينهمل لم يبق شيء لنا من بعد ما غربت شمس الرجال تساوى السفح والجبل وكعبة تشتكي لله غربتها وتسكب الدمع في أعتاب من رحلوا كانوا رجالاً وكانوا للورى قبساً وجذوة من ضمير الصدق تشتعل القاتل الوغد لا تحميه مسبحة حتى ولو قام وسط البيت يعتمر يعقوب لا تبتئس فالذئب نعرفه من دم يوسف كل الأهل قد سكروا أسماء تبكي أمام البيت والهة وابن الزبير على الأعناق يحتضر يا فارس الشعر قل للشعر معذرة هل يسمع الشعر من بالوحي قد كفروا واكتب على القبر: هذي أمة رحلت لم يبق في ذكرها شأن ولا أثر تصوروا يا إخوتاه! أن الذي أدخل البريطانيين إلى القدس هم العرب، فقد أقام الجنرال اللنبي معاهدة مع الشريف حسين حتى يأخذ الخلافة، وتكون الخلافة هاشمية، فاسترخص اللنبي أن يأتي بدم إنجليزي ويدخل به إلى القدس، فأتى بعرب من أعراب المسلمين، ودخل ببنادقهم القدس في عام (1917م)، ثم ركز علمه الذي فيه الصليب على جبل الزيتون وقال: انتهت الحروب الصليبية الآن، والذين حوله لا يعلمون رطانته الأعجمية، ولا يعرفون ماذا يعني.
ولما سقطت فلسطين، واجتمعت الجيوش العربية نصبوا الملك عبد الله، عامله الله بما يستحقه، ومسكوه قيادة القوات العربية كلها، فجعل على رأس القمة قائداً إنجليزياً، وهو جولوب الإنجليزي، فكيف ستقاتلون الإنجليز واليهود تحت راية رجل إنجليزي؟!! وإن تصدقوا الله عز وجل يصدقكم.
اللهم ارزقنا الصدق في الأقوال والأحوال والأعمال، واحشرنا مع الصادقين، واجعلنا مع الصادقين، اللهم زينا بزينة المهتدين المتقين.
رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أوابين مخبتين منيبين، اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا إلى غيرك، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننكسر فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر لي ولكم.(52/9)
القول الأزهر في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الواجبات الشرعية على كل مسلم، فبهما تصلح أحوال الناس، وبتركهما تفسد أحوالهم.
ويتأكد وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على العلماء، وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر.(53/1)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومواقف العلماء الصالحين في ذلك
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: قال تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران:110].
أمة تخرج من وراء الغيب السرمدي الذي لا يعلم ما وراءه إلا الله عز وجل، أمة ذات دور خاص، ومكانة خاصة، يخرجها الله عز وجل لتكون لها الريادة والقيادة بين الأمم؛ لكونها خير أمة أخرجت للناس.
وهذه المكانة التي أهّلها الله تبارك وتعالى لها، وهذا الموضع يفرض عليها تبعات، وأن يكون عندها ما تعطيه لبقية الأمم من تصور صحيح، واعتقاد صحيح، ومعرفة صحيحة، وعلم صحيح، وإلا استبدلها الله تبارك وتعالى بغيرها.
قال الله تبارك وتعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
فلا صلاح للأمة إلا أن تقوم بواجبها من الدعوة إلى الخير، ومن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا شيء ليس بالسهل اليسير؛ لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر يواجه طباعاً شتى من الناس، فمنهم: المسترخي الذي يكره أن يكون رجلاً، ومنهم المائع الناقم الذي لا يحب الصلاح، ومنهم من يغلب شهوته ومصالحه فوق أي مصلحة.
فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ليس بالشيء الهين، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من أمتي قوماً يعطون مثل أجور أولهم؛ ينهون عن المنكر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل المعروف في الدنيا هم أهل المعروف في الآخرة، وأهل المنكر في الدنيا هم أهل المنكر في الآخرة).
وهذه الأمة يرحمها الله عز وجل ما قامت بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال الله تبارك وتعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة:71].
ومن موجبات الرحمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلا تحول المجتمع إلى مستنقع آسن، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة، يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل لـ أبي هريرة: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة).
والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بيعة مع الله عز وجل يترجمها القرآن في قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:112].
وقال الله تبارك وتعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران:113 - 115].
ومتى تركت الأمم الدعوة إلى الخير استحقت اللعنة، قال الله تبارك وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
وقال الله تبارك وتعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].
يقول الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5].
وقد صور الله كل من يحمل الحق ثم يتولى عنه بصورة مشينة، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176].
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي أمتي قراؤها).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أخوف ما أخاف على أمتي غير الدجال الأئمة المضلون).
يقول فقيد الإسلام مصطفى صادق الرافعي في (وحي القلم) تحت عنوان: أمراء للبيع: ولو نافق عالم الدين لصار كل منافق أشرف منه، فليست لطخة في الثوب الأبيض كلطخة في الثوب الأسود.
إن عالم الدين حياته مكشوفة للناس، لم يأت للتلبيس، ولا لخداع الناس، والفرق بين عالم السوء وعالم الحق، وهما يأخذان من نور واحد، كمثل لوح البلور ولوح الخشب، فلوح البلور ينعكس عليه النور، فيظهر جمال النور، ويظهر جمال نفسه، وينعكس النور منه على بقية الأشياء، وأما لوح الخشب فلا يظهر فيه إلا الأشياء التي في الخشب، لا يعكس نوراً وإنما يحبسه في نفسه ولا يخرجه، ولا يظهر للناس إلا البقعة التي في الخشب.
يقول: وأصحاب الجاه الذين يتعاملون مع عالم السوء إنما يتعاملون مع قوة الهضم التي فيه.
مثلما قال النهدي: ما من عالم من العلماء إلا واعلقنا مخالينا هذه في رقبته فأكل منها وشرب، إلا سفيان الثوري، لم يأكل منا شيئاً.
فأصحاب زهرة الحياة الدنيا يتعاملون مع عالم السوء بقوة الهضم التي فيه، فهم يعلمون أن قوة الهضم أول ما تأكل دين الرجل، ولذا يصور لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يأمر الناس بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولا يعمل بذلك أنه مثل حمار الرحى، تندلق أقتابه وأمعاؤه وهو يطوف بين الناس في النار.
قال الله تبارك وتعالى لنبيه: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ} [الأعراف:199] أي: أمر بالمعروف، {وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وقال الله تبارك وتعالى على لسان لقمان: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17].
وقال الله تبارك وتعالى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء:114].
ويقص الله تبارك وتعالى علينا قصة أصحاب السبت من بني إسرائيل، قال الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف:164 - 165].
ففرقة أخذها الله عز وجل بظلمها وبتحايلها، وفرقة نجاها الله عز وجل لأنها آمرة بالمعروف وناهية عن المنكر، وفرقة وإن نجاها الله عز وجل إلا أن الله أهمل شأنها؛ لإهمالها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدال على الخير كفاعله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الأعمال إلى الله إيمان بالله، ثم صلة الرحم، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها كمن غاب عنها،(53/2)
قصة سعيد بن جبير مع الحجاج بن يوسف الثقفي
وسعيد بن جبير جهبذ العلماء مات وما في الأرض رجل إلا وهو محتاج إلى علمه، ذبحه الحجاج بن يوسف الثقفي، الذي قال عنه سيدنا عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمم وجاءت كل أمة بخبيثها، وجئنا بـ الحجاج لفقناهم.
دخل سعيد بن جبير -وهو أعلم أهل الأرض يومئذ- على الحجاج، فقال له: ما اسمك؟ فقال: سعيد بن جبير، فقال له: لا، بل أنت شقي بن كسير، قال له: أمي أعلم باسمي منك.
فقال له الحجاج: الويل لك ولأمك، فقال له: لا يعلم الغيب إلا الله.
قال له الحجاج: لأبدلنك بالحياة ناراً تلظى.
فقال له: لو كنت أعلم أن هذا لك لاتخذتك إلهاً من دون الله.
فيقول: اذبحوه، فيضحك سعيد بن جبير، فقال له: مم تضحك؟ فيقول: لحلم الله عليك وجرأتك على الله عز وجل، ثم يقول: خذها مني حتى تلقاني بها غداً عند الله يا حجاج، أما أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ثم يقول: اختر لنفسك يا سعيد أي موتة تريد؟ فيقول: بل اختر أنت لنفسك، والقصاص أمامك.
فقال الحجاج: حرفوه عن القبلة، فقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].
فيقول: اطرحوه أرضاً، فقال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55].
فقتل سعيد، وما عاش الحجاج بعده كما قال ابن كثير إلا أربعين يوماً، وكان يرى سعيد بن جبير في منامه يأخذه بتلابيبه وثوبه، ويقول له: يا عدو الله: فيم قتلتني؟ فيقوم من نومه فزعاً مرعوباً، وكان يقول: مالي ودم سعيد بن جبير، ما لي ودم سعيد بن جبير.(53/3)
قصة الإمام الأوزاعي مع السفاح العباسي
ومن الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر إمام أهل الشام الإمام الأوزاعي، سيد حمص وبيروت.
قال عنه الإمام الذهبي: قام إلى أبي العباس محمد بن علي، وكان ملكاً سفاكاً للدماء ظالماً غشوماً، قتل في صبيحة اليوم الذي دعا فيه الأوزاعي مائة وسبعين رجلاً من رجال بني أمية وأمرائها.
قال الأوزاعي: والله لئن تكلم معي لأسلقنه؛ واستبسلت للموت فجعلت أتخطى رقاب بني أمية المذبوحة أمامي حتى وصلت إليه، فقال له أبو العباس السفاح: ما جئنا من بغداد إلى دمشق إلا هجرة في سبيل الله، فقال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كانت هجرته لله ورسوله فهجرته لله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) يعني: الله أعلم بنيتك، قال: فجعل ينكت بالخيزرانة والرجال أمامه شاهرون سيوفهم، قال: ما تقول في دماء بني أمية؟ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة).
فجعل ينكت بالسيف نكتاً أشد من الأول، قال: فما تقول في أموال بني أمية؟ قال: إن كانت حلالاً لهم فهي حرام عليكم، وإن كانت حراماً عليهم فهي أيضاً حرام عليكم.
ثم قال: أقاربك وأهلك كانوا أعلم بذلك منك، ولم يولوني القضاء، وإن لي حرماً وأهلاً هم في حاجة إلي، ثم قال لي: اخرج فخرجت، فوالله ما أخطوا خطوة إلا وأتوقع أن تقطع فيها رقبتي، فلما وصل إلى بيروت إذا بالرسول يسأل عنه، فقال الأوزاعي: كأن الرجل قد ظن في ظناً، أي: رجع مرة ثانية لكي يقتلني، فقال الرسول: قد بعث إليك بمائتي دينار، ففرقها في اليتامى والأرامل والمساكين.
ولذلك لما مات الإمام الأوزاعي وقف والي حمص على قبره فقال: يرحمك الله يا أبا عمرو، والله لقد كنت أهابك أعظم من الذي ولآني، فمن يظلم بعدك فليصبر.
وروى الإمام عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب السنة: أن الأوزاعي قال: رأيت فيما يرى النائم كأن ملكين عرجا بي حتى أوقفاني بين يدي رب العزة، فقال لي: أنت عبدي عبد الرحمن الذي يأمر بالمعروف؟ قلت: أنت ربي وأنت أعلم بذلك، قال: ثم هبط بي مرة ثانية.
وهذه كرامة ثابتة للإمام الأوزاعي، وهي رؤيته لله تبارك وتعالى مناماً، وهذا جائز في عقيدة أهل السنة والجماعة.(53/4)
متفرقات من أمر السلف بالمعروف ونهيهم عن المنكر
والإمام الثوري إمام أهل الدنيا كلها يقول عنه الإمام أحمد: لا أحد يعدل مكانة سفيان في قلبي، كان يقول: كنت إذا رأيت الأمر لا أمر فيه بالمعروف ولا أنهى فيه عن المنكر، أبو الدم كمداً.
قال الإمام سفيان الثوري لـ أبي جعفر المنصور: الظلم فاش ببابك، وإني أرى أموراً لا قبل لي بها.
فقال له المهدي: خذ خاتمي هذا، فاؤمر الأمة بالمعروف، وانه عن المنكر، واعمل بكتاب الله فيها، قال: لا، ما دام هؤلاء معه، يعني: حاشية السوء وبطانته معه.
والإمام ابن أبي ذئب إمام أهل المدينة لما دخل الخليفة المهدي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قام الناس له إلا ابن أبي ذئب، فأتى رجل من الحرس وقال لـ ابن أبي ذئب: قم، فقال: اسكت يا رجل! إنما يقوم الناس لرب العالمين، فقال المهدي: دعه فوالله! لقد قامت كل شعرة في رأسي من قوله.
يقول له أبو جعفر: ما قولك في؟ قال: اعفني يا أمير المؤمنين.
قال: والله لا أعفيك.
قال: إنك رجل لا تقسم بالسوية، ولا تعدل في القضية.
فقال والي من ولاة الشام: طهره بدمه يا أمير المؤمنين.
قال أبو جعفر: اسكت يا رجل، فليس في دم امرئ مسلم طهور، فوالله! ما أهلك فرعون إلا هامان.
والليث بن سعد عالم أهل مصر يقول له هارون الرشيد: ما صلاح بلدتكم مصر؟ قال: صلاح بلدتنا بجريان النيل، وإصلاح أميرها، فإن الأمير رأس العين، وإذا صفيت العين صفيت السواقي.
قال: صدقت يا ليث.
والعمري: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الله بن عمر من نسل سيدنا عمر بن الخطاب، كان يقف للرشيد ويظل يأمره بالمعروف وينهاه عن المنكر حتى يغشى على الرشيد.
فقال له مرة في الحج وهما في جبل عرفات: يا أمير المؤمنين! كم عدد هؤلاء الحجاج؟ قال: لا يحصيهم إلا الله عز وجل، قال: وكم في الخلق مثلهم؟ قال: لا يحصيهم إلا الله عز وجل، قال: اعلم أن كل رجل من هؤلاء يسأل عن نفسه خاصة، وتسأل أنت عن هؤلاء، فبكى هارون الرشيد حتى غشي عليه.
وقال عالم آخر: يا هارون! إن الرجل إذا أسرف في ماله استحق أن يحجر عليه، فكيف بمن أسرف في أموال المسلمين؟ فكان هارون الرشيد يخاف من العمري، والعمري هذا شخصية عظيمة في تاريخنا قد لا يسمع بها الكثير، فهو إمام عابد وعالم عظيم.
وبهلول المجنون كان يسمى بالمجنون وهو من عقلاء البصرة، قال له هارون: عظني يا بهلول! قال: قد ملكك الله الأرض كلها، وخضع لك الجميع، وغداً تموت وتقف بين يدي الله تعالى، وهو سائلك عن النقير والفتيل والقطمير، فيبكي هارون الرشيد، ثم يقول له: هل عليك دين يا بهلول؟ فيقول: دين لربي، فويل لي إن حاسبني، وويل لي إن ناقشني، وويل لي إن لم يعف عني.
فأراد أن يصله بصلة، فيقول له: ردها إلى من أخذتها منهم يا هارون.(53/5)
موقف العز بن عبد السلام مع السلاطين
والرجل العظيم الذي يضرب به المثل: شيخ الإسلام، وسلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء: عز الدين بن عبد السلام، كانت تهابه الملوك والأمراء.
فالملك الأشرف سلطان دمشق لما وجه الجيوش السورية تجاه أهل مصر، وكان التتار على أبواب دمشق، وكان في مرض الموت، فدخل عليه عز الدين بن عبد السلام، وقال له: أعرف أنك واصل للرحم، وتقاتل شقيقك سلطان مصر الكامل، فوجه جيشك إلى التتار، أضمن لك النصر عليهم، فإن عاجلتك المنية كانت هذه نية حسنة تلقى الله عز وجل بها، فأمر في الحال بإرسال الجيوش إلى مواجهة جيش التتار، ثم قال: والحانة الفلانية فيها الخمور، ووزراؤك يفرضون المكوس على الناس، فأبطل هذه في الحال، ثم أراد أن يصرف له مالاً، فقال له: هذه النصيحة لله عز وجل لا أكدرها بشيء من أمر الدنيا.
والملك الصالح إسماعيل لما تولى بعد الأشرف ملك دمشق، تحالف مع الصليبيين، وتنازل لملوك الفرنج عن بعض قلاع المسلمين، ثم أجاز بيع السلاح من المسلمين للنصارى لقتال نجم الدين أيوب ابن أخيه، فلما سئل عز الدين بن عبد السلام وكان قاضي دمشق وعالمها وخطيب وإمام الجامع الكبير فيها عن ذلك، قال: لا يحل بيع السلاح للفرنجة؛ لأنكم تعلمون أنهم سيقاتلون به إخوانكم المصريين، ثم قطع الدعاء للسلطان في خطبته، ودعا وأمن الناس وراءه، وكان من دعائه: اللهم ابرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
فوشى رجال السوء إلى الصالح إسماعيل فمنع عز الدين بن عبد السلام عن الخطابة، ثم لما أراد أن يمضي إلى بيت المقدس حبسوه في بيت المقدس، فبعث الصالح إسماعيل ملك دمشق بمنديله مع وزيره، وقال: تلطف له وسايسه وقل له: كل ما في الأمر أن السلطان يقبل منك أن تقبل يده، وستعود إلى الخطابة وإلى أكثر منها، فلما قال له رسول الملك: إن مولاي يرضى منك بأن تقبل يده، قال: والله ما أرضى لسلطانكم أن يقبل يدي فضلاً على أن أقبل يده! يا قوم! أنتم في واد، وأنا في واد آخر، الحمد لله الذي عافنا مما ابتلاكم به.
فحبسوه في خيمة بجوار خيمة الصالح إسماعيل، فسمع صوت عز الدين بن عبد السلام وهو في خيمته يتلو القرآن في الليل، فأراد الصالح إسماعيل أن يتودد إلى ملوك الفرنجة، فقالوا: من هو هذا الرجل الذي يتلو في الخيمة؟ قال: هذا أكبر قسيس في المسلمين حبسته من أجلكم؛ لأنه أفتى بحرمة بيع السلاح لكم، فقالت ملوك الفرنجة كما ذكر الإمام السبكي في طبقات الشافعية: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه، ولشربنا مرقته.
ثم أتت الجيوش المصرية وانتصرت على جيوش الفرنجة، وسار نجم الدين أيوب بـ عز الدين بن عبد السلام مكرماً معززاً وولاه قضاء مصر.
وبعد أن تولى القضاء كان نجم الدين أيوب متكبراً لا يقيل من عثرة، ولا يتحنن على ولد، فذهب إليه عز الدين بن عبد السلام في يوم عيد وهو في قلعته وسط عساكره، وقد أخذ زينته، فناداه باسمه المجرد فقال: ما تقول لربك يا أيوب إذا قال لك ألم أبوء لك ملك مصر؟ والخمور تباع في الحانة الفلانية، وفي الحانة الفلانية، قال: ليست هذه في عهدي وإنما كانت من العهود السابقة، قال: أنت ممن يقول الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:22]، ثم أبطل نجم الدين أيوب الخمور.
فقال تلميذ عز الدين بن عبد السلام له: لماذا أخبرته بذلك؟ قال: والله يا بني! رأيته في زهوه وسطوته وكبريائه فأردت ألا تخدعه نفسه، قال: أما خفته؟ قال: يا بني! استحضرت هيبة الله عز وجل فصار أمامي كالقط.
وكان الأمراء في مصر من المماليك، والمملوك لا يحل له بيع ولا شراء ولا شهود على عقد إلا بإذن سيده، وما ثبت لـ عز الدين أنهم صاروا أحراراً، فما صح لهم بيعاً ولا عقداً ولا شراء، وكان من المماليك نائب السلطان نجم الدين أيوب بنفسه.
فأخبروا الملك نجم الدين أيوب بذلك، فأرسل إليه رسالة قال له فيها: اشتغل فيما أنت فيه من الفتاوى ودع أمر الإمارات.
فأخذ عز الدين بن عبد السلام متاعه فوضعه على حماره، ثم أتى بأهله فوضعهم على حمار آخر، وخرج من القاهرة، فتبعه أهل القاهرة وما تخلف منها أحد مما يأبه له، فقالوا له: إن هذا الشيخ ذهب بملكك.
فركب نجم الدين بنفسه، وطيب خاطر الشيخ، وقال له: افعل ما شئت في الأمراء، قال: أنادي عليهم في السوق غداً وأبيعهم، فصاح نائب السلطان: كيف يبيعنا هذا الرجل ونحن أمراء البلد؟ والله لأقتلنه بسيفي هذا، ثم مضى بحاشيته إلى بيت عز الدين بن عبد السلام، فلما رأى ولد الشيخ ما سيحل بأبيه أخبر والده، فقال له عز الدين بن عبد السلام: اجلس يا بني! فإن أباك أقل من أن يرزقه الله الشهادة في سبيله، ثم لما فتح الباب ونظر إلى بيبرس والسيف على يده، سقط السيف من يده ثم بكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: ماذا تفعل فينا يا مولانا؟ قال: أبيعكم غداً في سوق العبيد، وأضع أموالكم وثمنكم في بيت مال المسلمين، وكان له ما أراد فباع الأمراء واحداً واحداً في سوق العبيد.
والله! ما حدث هذا في التاريخ إلا في زمن عز الدين بن عبد السلام.
ولما أراد قطز أن يقاتل التتار طلب منه أن يفرض قرضاً من التجار، قال له: لا، حتى تأتي بذهبك وذهب الأمراء وما عندكم، فإن لم يكف المال بعد ذلك يجوز لك حينئذ أن تقترض من التجار.
ولما مرت جنازة عز الدين بن عبد السلام تحت القلعة ورأى بيبرس عدد الناس بكى وقال: اليوم استقر ملكي.
أي: ما يتفق موت الشيخ إلا في سلطاني، ثم أمر أمراءه بحمل نعش عز الدين بن عبد السلام وأوصلوه إلى المقابر.
أعيانهم مفقودة، وأمثالهم في القلوب موجودة، كم من إناس موتى تحيا القلوب بذكرهم، وكم من أناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم.
اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننصب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا، إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسر عبد لم يجعل له من حبك نصيباً.
إلهي ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله فكن دليلنا! إلهي ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه فكن أنسنا، إلهي أتينا أطباء عبادك ليداووا خطايانا، فكلهم عليك يدلنا، اللهم داو أمراض قلوبنا، اللهم احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين.(53/6)
قصة الفضيل بن عياض مع هارون الرشيد
والفضيل بن عياض سيد من سادات أهل السنة والجماعة، ولما قسا قلب هارون الرشيد ذات ليلة قال للفضل بن الربيع: قد حاك في نفسي الليلة شيء، فدلني على واعظ يذهب ما في صدري، قال: هاهنا سفيان بن عيينة شيخ الحجاز، فانطلقا إليه، فدق هارون الرشيد على باب بيت سفيان بن عيينة فخرج فقال: من؟ قال: أمير المؤمنين، قال: يا أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك، ثم ظل يكلمه ثم قال له: عليك دين؟ قال: نعم، قال: يا فضل اقض عنه دينه، ثم قال: ليس صاحبك بشيء.
ثم دله على عبد الرزاق بن همام الصنعاني شيخ أهل اليمن، فدق عليه الباب، فخرج عبد الرزاق فقال: أمير المؤمنين لو أرسلت إلي لأتيتك، فسأله فأجابه، ثم قال له: أعليك دين؟ قال: نعم، قال: يا أبا عباس اقض عنه دينه، ثم قال: ما فعل صاحبك بي شيئاً.
ثم دله على رجل آخر وهو الفضيل بن عياض عابد أهل مكة وعالمها، قال: اذهب بنا إليه، فذهب مع هارون الرشيد إليه فدق الباب، فقال: من؟ قال: أمير المؤمنين.
قال: ما لي ولأمير المؤمنين، قال: افتح الباب أليست لي عليك طاعة؟ ففتح له الباب، ثم أطفأ المصباح وصعد إلى أعلى الغرفة، فقال الفضل: والله ليكلمنه الليلة بكلام من قلب تقي نقي، قال: فجعل يحدثنا ولا نصل إليه، قال: فسبقت كف هارون الرشيد إليه كفي، فلما أمسك بها قال: ما ألين هذه الكف، وأنعمها إن نجت غداً من عذاب الله عز وجل! ثم قال: يا هارون! عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة أتى بـ رجاء بن حيوة , ومحمد بن كعب القرظي، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعد الخلافة بلاء وعددتها أنت وأصحابك نعمة، أفمعك مثل هؤلاء؟ قال: لا.
قال: يا هارون! ما أجمل وجهك إن وقيته لفح النار، ثم ما زال في الوعظ حتى انتهى منه، ثم قال له: ألك دين؟ قال: نعم، دين لربي، الويل لي إن حاسبني، والويل لي إن ناقشني، والويل لي إن لم يعف عني.
ثم قال له: أعليك دين للعباد؟ قال: سبحان الله! أنا أدلك على طريق النجاة ويكون جزائي منك هكذا، فخرجت جارية سوداء وقالت: والله! لقد أفزعتم الشيخ هذه الليلة، ثم انصرفوا، فلما انصرف هارون الرشيد قال: يا فضل بن الربيع إن دللتني على رجل فدلني على مثل هذا.
هذا سيد المسلمين.
والفضيل بن عياض كان في بداية أمره لصاً، وكان يتعشق الجواري، ثم تاب إلى الله تبارك وتعالى بسبب آية من القرآن، فبينما هو يتسلق الجدار ذات ليلة ليصل إلى حبيبته سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16].
فقال: آن الأوان يا رب ثم نزل، فأراد أن يمضي إلى خربة لينام فيها بعد أن تاب فسمع أهل قافلة يقولون: إن الفضيل في الطريق، لا نسافر هذه الليلة، فأمنهم وأوصلهم إلى مأمنهم.
وكان سفيان بن عيينة يقبل يد الفضيل.
أما عبد الله بن المبارك فكان إذا سمع الفضيل يتكلم يقبل جبهته ويقول: يا معلم الخير! من يحسن هذا غيرك.
وكان يقول: كنت كلما قسى قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فجدد لي الحزن، فأمقت نفسي.
والإمام شيخ الإسلام أبو نعيم الفضل بن دكين، لما سألوه في محنة خلق القرآن، قال عنه الإمام أحمد: قام لله بعظيم أمر لم يقم به أحد، هو وعفان، وعفان كان شيخ الإمام أحمد.
ولما أدخل أبو نعيم على المأمون ليمتحنه في خلق القرآن قال: القرآن كلام الله، ولقد لقيت سبعمائة شيخ من شيوخ الكوفة والبصرة وكلهم يقولون: القرآن كلام الله، وعنقي أهون علي من زري هذا، فقام الحافظ أحمد بن يونس، وكانت بينه وبين أبي نعيم شحناء فقبل رأسه، وقال له: جزاك الله من شيخ خيراً.
وكان قبله رجل قد أفتى أن القرآن مخلوق، فقال أبو نعيم: أما جد هذا فلقد أخبرني الأعمش أنه كان يقول: يجوز أن ترمى الجمرات بالقوارير.
ولما دخل عفان على المأمون، بعث لواليه وقال له: امتحنه وقل له: إن أجبت إلى القول بخلق القرآن نجري عليك ما كنا نجري، وإلا منعنا عنك الراتب الشهري ألف درهم في الشهر.
وكان يعول أربعين نفساً في بيته فامتنع، وقال لشيوخ الحديث: لم أسود وجوهكم، وقلت: القرآن كلام الله عز وجل، فمنعوا عنه راتبه، فلما وصل إلى بيته عاجلته النسوة، وقلن له: قطعت عيشنا، والآن نأكل من أين؟ فما إن دخل حتى دق الباب رجل يبيع الزيوت وأعطاه ألف درهم، وقال له: هذه ألف درهم مكان الألف، ثبتك الله كما ثبت دينه.
والإمام البويطي تلميذ الإمام الشافعي، وعالم الشافعية، امتحن في خلق القرآن، فلقد بعث الواثق لوالي مصر إن امتحنه في خلق القرآن، فالوالي كان يحبه، فقال له: قل: إن القرآن مخلوق بيني وبينك، قال: لا والله ورائي مائة ألف، ولا أكذب في دين الله عز وجل، فاضطر أنه يسيره إلى بغداد والأغلال في عنقه، والأنكال والقيود في رجليه، وقد شدوا ما بين رجليه وما بين عنقه بسلسلة وضعوا فيها قطعة حديد زنتها أربعين رطلاً، وكان يقول: والله لأموتن في حديدي حتى يأتي أقوام يعلمون أن هذا الأمر قد مات فيه أناس في حديدهم.
وشيخ الإسلام نعيم بن حماد شيخ الإمام البخاري لما سألوه في محنة خلق القرآن لم يجب، فكلكلوه وألقوه مقيداً، فمات ولم يغسل ولم يكفن، فقد أرادوا أن يفك عنه القيد قبل لحظة الوفاة فقال: إني رجل مخاصم أمضي إلى الله عز وجل بقيودي.(53/7)
قصة الإمام أحمد بن نصر الخزاعي مع الواثق
والإمام أحمد بن نصر الخزاعي قال له الواثق: ما تقول في القرآن؟ قال: القرآن كلام الله، قال: هل ترى ربك يوم القيامة؟ قال: صحت بذلك الأحاديث، فقال الواثق: إني أحتسب خطاي إلى هذا الرجل الكافر ثم قام فقتله، وعلقوا رأسه في بغداد وجسده في سامراء، ووضعوا القيد في رجليه بعد أن قتل.
فهذا الطريق طويل تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واستجاب لربه في ذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقادير في البكاء داود، واتهم بالسحر والشعوذة والجنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشج رأسه وكسرت رباعيته، وربط الحجر على بطنه من شدة الجوع: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [المنافقون:7].
سم أبو بكر، وطعن عمر، وذبح عثمان، وطعن علي، وسم الحسن بن علي، وقتل الحسين بن علي، ووطئوا بحوافر الخيل الفم الذي قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والشيخ حسن العدوي من مشايخ الأزهر عندما جاء السلطان عبد العزيز يزور مصر بعد تولية الخديوي إسماعيل عمل مقابلة خاصة لعلماء الأزهر مع السلطان عبد العزيز، قالوا: وكان من البروتوكولات السياسية أن الذي يدخل على الخليفة يقبل الأرض بين يديه، ويدخل منحنياً، وإذا خرج لا يولي ظهره للخليفة، بل يمشي القهقرى إلى أن يخرج من الباب.
فدخل العلماء كلهم هكذا إلا الشيخ حسن العدوي، فدخل في عزة العالم الذي نسي دنياه وتذكر دينه، ولم يحن رأساً، وسلم عليه بالإمارة، ووعظه ونهاه، ثم لما أراد أن ينصرف أعطى ظهره للخليفة ثم مضى.
فأسقط في يده الخديوي إسماعيل، فقالوا له: هذا الرجل مجنون، ولا تؤاخذنا يا مولانا، فقال: ما عندكم إلا هذا العالم؟! وأعطاه جائزة دون باقي العلماء.
وبنان الحمال إمام من أئمة مصر لما دخل على أحمد بن طولون وعظه ونهاه، فحبسوه، وكان لديهم أسد فجوعوه ثلاثة أيام، ثم أدخلوا الأسد إليه، فوجدوه قائماً يصلي والسبع يلحسه، فأتى به أحمد بن طولون وأمره أن يستغفر له، ثم قال له: بماذا كنت تفكر والسبع يشمك؟ قال: كنت أفكر في اختلاف العلماء في لعاب السباع.
والسلطان الخديوي إسماعيل دخل الجامع الأزهر مرة عندما جاء الخليفة عبد العزيز يزور مصر، فقام إليه المشايخ إلا رجلاً مد رجله وهو في المحراب، فأراد أن يمشي بالملك بعيداً عن هذا الرجل، ثم أرسل أحد أتباعه بكيس دنانير فأعطاها له، فقال له: بعث بها إليك الخديوي إسماعيل، فقال له: إن من يمد رجله لا يمد يده.
فكان هناك من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
وشيخ الإسلام ابن تيمية ذهب إلى قازان ملك التتر وقال له: أنت تزعم أنك مسلم، وإن أباك وجدك كانا كافرين، وكانا يحتكمان إلى المسلمين، وظل يكلمه ويغلظ له في القول، وبقية المشايخ يمسكون بثيابهم خشية أن يتطاير إليهم الدم من عنق ابن تيمية، ثم قال له: والله ما لقيت عالماً أهيب منك، فماذا تريد؟ قال: أريد أن تفك أسرى المسلمين وأسرى أهل الذمة، ففك أسرى المسلمين وأسرى أهل الذمة، ثم عرض على شيخ الإسلام ابن تيمية الجوائز فرفضها.(53/8)
كنا جبالاً
لقد اختص الله أمة الإسلام بخصائص لم تكن لأمة من قبل، ومنها ما يتعلق بتشريفها وتفضيلها على سائر الأمم في الدنيا، والرفق بها في الأحكام والتكاليف، ومنها ما يتعلق بأفضليتها على سائر الأمم في الآخرة، فهي آخر الأمم، ورسولها آخر الرسل وأفضلهم وإمامهم وقائدهم.(54/1)
ذكر بعض خصائص هذه الأمة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
يقول الشاعر: كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحاراً ويقول آخر: أنت تدري أيها الحيران أنا كيف فوق الشمس أفناناً حللنا ويقول آخر: وكنا عظاماً فصرنا عظاماً وكنا نقوت فها نحن قوت يقول الله تبارك وتعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرها وأكرمها على الله عز وجل).
قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، يعني: كنتم وما زلتم كما قال ابن الأنباري.
وهناك قول آخر في قول الله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، قال: كانت البشارة بكم قبل أن تأتوا إلى الوجود أنكم خير أمة أخرجت للناس، وهذا قول حسن.
ويقول: ابن قتيبة في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110]، أي: أنتم خير أمة أخرجت للناس.
فالعرب قد تأتي بصيغة الماضي وفيها معنى الاستمرار أيضاً، كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء:96]، يعني: منذ الأزل إلى الأبد والله تبارك وتعالى غفور رحيم، فلا تزال ولا تسقط عنه هذه الصفة أبداً، ومثل قول الله تبارك وتعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ} [المائدة:116]، هذا القول يقوله الله تبارك وتعالى لعيسى يوم القيامة.
أو مثل قول الله تبارك وتعالى: {قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم:29]، فهذه الخاصية لهذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (في كل قرن من أمتي سابقون)، {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11].
وهؤلاء السابقون يحملون إلى الجنان ولا يسيرون إليها، وتقرب منهم الجنة بكرامة من الله تبارك وتعالى كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31]، أي: وقربت الجنة.
فسبحان من فضلنا على جميع الناس وجعل نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل من رأى وشاهد، فلما أعطانا علو الهمة قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
فإنه لا يوجد في الأمم السابقة مثل أبي بكر الصديق الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عمر: (هذان من الدين السمع والبصر).
وقال فيهما: (هذان سيدا كهول أهل الجنة، خلا النبيين والمرسلين) أفي الأمم السابقة مثل أبي بكر الصديق، أو عمر الذي أغص كسرى بالريق، أو عثمان الصابر على مر المذيق، أو علي بحر العلم الغزير العميق، أو مثل حمزة، والعباس؟ والله ما من الأمم السابقة أمة صلت وقد صلصلت السيوف ورنت الأقواس، {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
فما بال هذه الأمة نسيت شرفها، والله تبارك وتعالى يقول: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44]، أي: أن هذا المنهج وهذا الدين وهذا القرآن شرف لك ولقومك، {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف:44].
إذا أنت غمت عليك السماء وعمت حواسك عن صبحها مغش دورة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها الذي بعد عن منهج السماء وعن الإسلام، والذي يفصل بين الدين وبين الدولة، والذي يريدها علمانية نقول له: عليك أن تقوّم من جديد نسبك إلى الإسلام الرفيع العزيز.
ولابد من ذكر خصائص هذه الأمة، حتى لا ينسينا الحاضر ولا ينسينا الواقع مكانتها العالية.
يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا وقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا ورب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا ابن الوليد ألا سيف تؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا أدمت سياط حزيران ظهورهم فأدمنوها وباسوا كف من ضربا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا فواحد أعمت الدنيا سريرته وواحد من دم الأحرار قد شربا وخلفوا القدس فوق الوحل عارية تبيح عزة نهديها لمن رغبا {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31].
والخاصية الثانية لهذه الأمة: أنها أمة مرحومة لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو موسى الأشعري: (إذا كان يوم القيامة يدفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً ويقول: هذا فداؤك من النار).
وروى الإمام مسلم عن أبي موسى الأشعري قال: (إذا أراد الله رحمة بأمة قبض نبيها قبلها ليكون سلفاً وفرطاً بين يديها).
ورسولنا صلى الله عليه وسلم أصيبت به الأمة فموته صلى الله عليه وسلم أعظم مصيبة حلت في هذه الأمة، ومن كانت عنده مصيبة فليتعز بمصاب الأمة في نبيها.
وما عظمت يوماً رزية هالك مصيبة يوم مات فيه محمد صلى الله عليه وسلم.
هذه الأمة أمة مرحومة، وقد بعثت في خير القرون كما صح عن رسولنا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بعثت من خير القرون قرناً قرناً حتى كنت من القرن الذي أنا فيه أو الذي كنت فيه).
وهذه الأمة أمة أريد بها اليسر كما قال فيها الله تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185].
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أنتم أمة أريد بكم اليسر).
وأيضاً من خواص هذه الأمة ومن شرفها أنها آخر الأمم وأول الأمم حساباً بين يدي الله عز وجل.
ومن خواص هذه الأمة أيضاً عند الله تبارك وتعالى: أنها أول الأمم دخولاً للجنة.
من خواص هذه الأمة أن لها الخلود في الجنة بعد أن يعذب بعض عصاتها، ثم بعد ذلك يؤول أمرهم إلى الجنة كما قال جماهير أهل السنة والجماعة إلا غلاة المبتدعة ممن كفرهم العلماء، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من أمة إلا وفيها في النار ومنها في الجنة إلا هذه الأمة فلها الخلود في الجنة).
ومن خواص هذه الأمة وكرامتها على الله تبارك وتعالى: أن الله يدخل سبعين ألفاً من هذه الأمة الجنة بغير حساب ولا عذاب، وهم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون.
ويدخل الله تبارك وتعالى مع كل ألف سبعين ألفاً وثلاث حثيات من حثيات الرب عز وجل.
ومن خواص هذه الأمة أيضاً كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالسمك والجراد، وأما الدمان فالكبد والطحال).
ومن خواص هذه الأمة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللحد لنا والشق لغيرنا).
ومن خواص هذه الأمة: أن الله خيرها عند القتل بين دفع الدية أو القصاص أو العفو، أما عند اليهود فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45]، فلا دية عند اليهود وإنما يوجد عندهم إلا القصاص.
ومن خواص هذه الأمة أيضاً: النسخ، والذي يعرف في هذه الأمة وأنكرته اليهود وقالوا: إن هذا بداء، أي أن الله يفعل الشيء ثم يجد أنه قد أخطأ فيغيره، عليهم لعنة الله إلى يوم القيامة.
ومن خصائص هذه الأمة الإسناد: لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم).
ومن خواص هذه الأمة في كرامتها على الله تبارك وتعالى: أن الله جعل لها الندم توبة.
أما قوم موسى من بني إسرائيل فقد كانت توبتهم بقتل أنفسهم، قال تعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [البقرة:54].
ومن خواص هذه الأمة: أن اليهود عليهم لعائن الله إلى يوم القيامة يحسدونها على يوم الجمعة الذي أضل الله عنه اليهود والنصارى، فالناس لنا تبع في هذا اليوم.
وكما يحسدوننا على يوم ال(54/2)
التحذير من طول الأمل ونسيان الموت
{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
طول الأمل ضيع هذه الأمة، وطول الأمل ينسي الآخرة.
والناس يتغافلون عن ساعة الموت وينسون لحظة الموت، ويا لها من ساعة لا تشبهها ساعة، يندم فيها أهل التقى فكيف بأهل الإضاعة؟! يجتمع فيها مع شدة الموت حسرة الفوت.
يا إخوتاه! الموت أول وارد عليكم من ربكم فسيروا إلى ربكم سيراً جميلاً.
أمتكم آخر الأمم، ورسولكم آخر الرسل، وقد أسرع بخياركم فما تنتظرون إلا المعاينة.
إن الموت قد فضح الدنيا لكل ذي لب، حتى ما ودع لكل ذي عقل فيها فرحة، وإن أمراً يكون الموت آخره حقيق بأن يزهد الإنسان في أوله، وإن أمراً يكون الموت أوله حقيق بأن يخاف الإنسان من آخره، وكان ربيع بن خثيم يقول: لو غفل قلبي عن ذكر الموت ساعة واحدة لفسد قلبي! فكأن أهلك قد دعوك فلم تسمع وأنت محشرج الصدر وكأنهم قد قلبوك على ظهر السرير وأنت لا تدري وكأنهم قد زودوك بما يتزود الهلكى من العطر يا ليت شعري كيف أنت إذا غسلت بالكافور والسدر يا ليت شعري كيف أنت على ظهر السرير وأنت لا تدري يا ليت شعري كيف أنت إذا وضع الحساب صبيحة الحشر يوم من الأيام سيرحل كل منا إلى القبور، يوماً من الأيام سيرحل كل منا إلى القبور سيخرج أحدنا من بيته في رحلة لا يرجع منها أبداً، وقد يركب أحدنا مركباً لا ينزل منه أبداً.
عثمان بن عفان كان إذا مر بقبر يبكي حتى تبتل لحيته، فيقال له ويسأل عن ذلك، فيقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما رأيت منظراً إلا والقبر أفظع منه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (القبر أول منزل من منازل الآخرة، فمن ينج منه فما بعده أهون منه، ومن لم ينج منه فما بعده أشد منه).
يوماً من الأيام ستحل ضيفاً على قوم كلامهم السكوت، أحباء لا يتزاورون، جيران لا يتآنسون.
يوماً من الأيام سيترادف أنينك وزفيرك.
يوماً من الأيام ستوضع مع أقوام موتى لا يتحركون، أي الجديدين -الليل والنهار- مر عليهم صار عليهم سرمداً إلى يوم يبعثون.
يوماً من الأيام سنشيع إلى قلب الضريح وإلى ردم الصفيح، إن كانت القبور تنسيك الدنيا بمنظرها الخارجي فكيف بداخلها.
يا قبر ما أسكنك وتحتك الدواهي!! إني سألت الترب ما فعلت بعد وجوه فيك منعفرة فقال لي صيرت ريحهم يؤذيك بعد مناظر عطرة وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نضرة لم تبق غير جماعة عريت بيض تلوح وأعظم نخرة وعمر بن عبد العزيز لما وقف على قبور آبائه من بني أمية قال: مر بعسكرهم إن كنت ماراً، وادعهم إن كنت داعياً، وانظر إلى تقارب منازلهم، سلهم عن العيون النظرة، التي كانوا بها إلى اللذات ينظرون، سلهم عن الجلود الرقيقة، وسلهم عما فعلت الديدان باللحمان تحت الأكفان، سالت الأحداق على الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وقيحاً وصديداً، واتخذ دواب الأرض وحشراتها في أبدانهم مقيلاً، يا مغسل الوالد والولد، ويا تاركه في التراب وحده قل لأبيك: بأي خديك بدأ البلى.
ليس الغريب غريب الشام واليمن إن الغريب غريب اللحد والكفن تمر ساعات أيامي بلا ندم ولا بكاء ولا خوف ولا حزن سفري بعيد وزادي لا يبلغني وقوتي ضعفت فالموت يطلبني ما أحلم الله عني حيث أمهلني وقد تماديت في ذنبي ويسترني أنا الذي أغلق الأبواب مجتهداً على المعاصي وعين الله تنظرني يا زلة كتبت في غفلة ذهبت يا حسرة بقيت في القلب تقتلني دع عنك عذلي يا من كان يعذلني لو كنت تعلم ما بي كنت تعذرني دعني أنوح على نفسي وأندبها وأقطع الدهر بالتذكار والحزن دعني أسح دموعاً لا انقطاع لها فهل عسى عبرة منها تخلصني كأنني بين جل الأهل منطرحاً على الفراش وأيديهم تقلبني وقد أتوا بطبيب كي يعالجني ولم أر الطب هذا اليوم ينفعني واشتد نزعي وصار الموت يجذبها من كل عرق بلا رفق ولا هون واستخرج الروح مني في تغرغرها وصار ريقي مريراً حين غرغرني وقام من كان أولى الناس في عجل نحو المغسل يأتيني يغسلني وقال يا قوم نبغي غاسلاً حذقاً حراً أديباً أريباً عارفاً فطن(54/3)
متى يفيق النائمون؟
لقد قيض الله لهذه الأمة رجالاً شرفاء، ومجددين أفذاذاً، وأبطالاً فحولاً كلما قارب نور الإيمان وشعلة الجهاد على الانطفاء أعادوا إليها لهيبها؛ لتشتعل وتستعر وتلتهب في وجوه أعداء الديانة الخالدة بخلود السماوات، الباقية ما تعاقب الليل والنهار، بعز عزيز أو بذل ذليل.(55/1)
إعادة التاريخ لنفسه سنة ماضية
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد حدث في الجمعة الأولى من شعبان الموافقة لجمعتنا هذه حادث فريد في تاريخ الأمة الإسلامية، لقد كانت خطبة الجمعة في الرابع من شهر شعبان بعد يوم فتح القدس بثمان، سنة 583 هجرية، وكان الخطيب محيي الدين بن زكي القرشي قاضي صلاح الدين الأيوبي الذي بدأ الخطبة بعد واحد وتسعين سنة غابت فيه صلاة الجمعة من المسجد الأقصى، بدأها بالحمد في قول الله تعالى: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، ثم أتى بآيات الحمد في القرآن الكريم، ثم ذكر بعد ذلك خطبة فريدة بعد أن خفت صوت القسيسين والرهبان، وعلا صوت المؤذن بالأذان، بعد أن وحِّد الواحد، وكبّره الراكع والساجد.
التاريخ -كما قال أهل العلم- وكأنه يعيد نفسه، فقد مرت على المسلمين لحظات من الضعف بلغوا فيها منتهى الذل؛ بيعت النساء -كما حدث في إسبانيا ومحاكم التفتيش- سبايا، بلغ من الذل أن أحد الملوك أراد للناس أن يطبقوا السنة في حلب وإذا بالدهماء والغوغاء يسحبون البسُط من تحت أقدام المصلين ويقولون هذه حصر علي بن أبي طالب، فإذا أراد أبو بكر أن نترك حي على خير العمل ونقول الأذان الشرعي فليأت بحصر من عنده.
بلغ ذل الناس في الأندلس أن الملك كان يقول: بايعوني اليوم على الملك واقتلوني غداً، من أجل شهوة الملك والجاه والرئاسة فقد بلغت بالناس كل مبلغ، تخلى الناس عن دينهم وتركوا السنة وأتت البدع، واليوم يعيد التاريخ نفسه، فأيام ما كانت (منظمة فتح) لها الصولة في ديار فلسطين كان معين بسيسو وهو شاعر من شعراء المقاومة مع أنه صليبي إلا أنه كان شاعراً كبيراً للمقاومة الفلسطينية، كان هذا الكافر الزنديق يقول: كل ديك قد ذبحناه بقي الله! قال هذا جهاراً نهاراً محمود درويش المستشار الثقافي لـ ياسر عرفات السابق وهو شيوعي، وحينما يأتي هنا إلى معرض القاهرة الدولي للكتاب يحتفل به الشعراء والمفكرون وتقوم الدنيا ولا تقعد لـ محمود درويش، الذي يقول في قصيدة تسمى مديح الظل العالي: يا خالقي في هذه الساعات من عدم تجلى فلعل لي رباً لأعبده لعل ويقول أيضاً: فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير وأما رشاد حسين فيقول: الله أصبح غائباً يا سيدي صابر إذاً حتى بساط المسجد وهذا كله كفر وزندقة وجرأة على الذات الإلهية وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إن الناس الشاردين عن طريق الله عز وجل يأتيهم الذل من كل مكان حتى يراجعوا الحساب مع الله عز وجل، وحتى يعودوا إلى الدين، وحتى يتمسكوا بآداب دينهم وصدام حسين أنفق في حرب العراق مع إيران خمسمائة مليون دولار، وإيران دولة شيعية لا نحبها أبداً وبيننا وبين الشيعة من العداوة الشيء الكثير، ولكنهم داخلون في مسمى المسلمين وهم أهل بدع كفرية؛ ولكن هذا الرجل أنفق خمسمائة مليون دولار من أموال الشعب العراقي وضيعها في الحرب بينه وبين إيران، وسقط في المعارك مليونا قتيل، وكل هذا لا لدين الله عز وجل وإنما من أجل الدنيا، وفعل بالكويت ما فعل؛ فماذا كانت النتيجة؟ ثمانون ألف طفل عراقي يموتون كل شهر.
ودك قرى الأكراد التي أنجبت صلاح الدين الأيوبي بمن فيها وما فيها، وكانت النتيجة أن يخرج الجندي العراقي ويميل على قدم الجندي الأمريكي في حرب الخليج، فيقول: لا ترع لا تخاف وتسجِّل هذا الصحف الغربية ووكالات الأنباء الغربية.
لا بد من عودة إلى الله عز وجل، وكأن التاريخ يعيد نفسه.
إن ملك المسلمين في عهد سيدنا عثمان بن عفان كان يبلغ من المغرب العربي حتى حدود الصين، وفي أيام الدولة العباسية بلغ من جنوب ولايات فرنسا الجنوبية على بعد 17 ميل من باريس حتى حدود الصين، يكفي أن تعلم أن قتيبة بن مسلم الباهلي وكان سنه 17 عاماً يفتح بجيشه 40% من مساحة الإتحاد السوفيتي و50% من مساحة الصين قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد(55/2)
دور البطل نور الدين زنكي في محاربة الصليبيين(55/3)
عدالة نور الدين زنكي وزهده عن الحرام
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما روى الإمام أبو داود والحاكم والبيهقي في المعرفة من حديث أبي هريرة وصححه الحاكم والألباني: (إن الله يبعث على رأس كل مائة عام -وفي رواية- على رأس كل قرن من يجدد للأمة أمر دينها).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن القرن أربعون سنة، وبناء على كلام شيخ الإسلام ابن تيمية فقد حدد المجاهدين المجددين لهذا الدين كل أربعين سنة.
وجمهور أهل العلم قالوا: إن القرن مائة عام.
وقال أهل العلم: قد يكثر المجددون في زمن واحد فيكون منهم مجدد في الفقه، ومجدد في الحديث، ومجدد في الجهاد، ومجدد في الزهد؛ فكان على رأس المائة الأولى سيدنا عمر بن عبد العزيز، وعلى رأس المائة الثانية الإمام الشافعي.
قال أهل العلم: إن نور الدين محمود بن الأتابك عماد الدين زنكي وتلميذه صلاح الدين الأيوبي هما المجددان للدين في قرنهما في باب الجهاد، فهما اللذان جددا الجهاد وأعادا اسم الجهاد بعد أن كان رسماً بالياً، ووالد نور الدين محمود زنكي كان والياً على حلب وهو عماد الدين زنكي، وهو أول من جرأ المسلمين على قتال الصليبيين بعد أن ظن الناس أن الصليبيين قوة لا تقهر؛ فجرأ المسلمين بفتحه لحصن الرها سنة (539 هـ)، ثم أتى من بعده ولده القسيم بن القسيم، الشهيد بن الشهيد نور الدين محمود زنكي هذا الملك كان سلطاناً على دمشق، ثم بعد ذلك استنقذ مصر من أيدي الفاطميين، ووحّد مصر والشام، وبعد أن مات أسد الدين شيركوه عم صلاح الدين الأيوبي ونائبه على مصر ووزيره في المصريين، وتولى الوزارة من بعده ابن أخيه صلاح الدين الأيوبي وظل على وفائه لسيده نور الدين محمود زنكي حتى وفاة نور الدين محمود زنكي الذي كان دائماً يتعرض للشهادة ويتمنى أن يقتل في سبيل الله عز وجل، وكان دائماً يقول: اللهم احشرني إليك من حواصل الطيور وبطون السباع، وكان الفقيه في عصره قطب الدين النيسابوري قاضي المملكة وفقيه نور الدين محمود زنكي يقول له: بالله عليك يا مولانا السلطان لا تخاطر بنفسك فتقتل فتعرض البلاد للخطر، إنما أنت سور البلاد وحاميها فيقول له: اسكت يا قطب الدين! إن هذه إساءة أدب مع الله عز وجل، فمن كان يحفظ البلاد والعباد -غير الذي لا إله إلا هو- قبلي وقبل من قبلي؟ وقد بنى نور الدين محمود زنكي داراً للعدل كان يجلس فيها يوماً أو يومين في الأسبوع، وذلك عندما قال له قاضيه كمال الدين الشهرزوري: إن الناس قد كثرت شكواهم من قواد الجيش -وكان نائبه آنذاك أسد الدين شيركوه - فقال: أبني داراً للعدل وأجلس لمظالم الناس وفضها بنفسي يوماً في الأسبوع، فما كان من أسد الدين شيركوه قائد القوات المسلحة في عهد نور الدين محمود زنكي إلا أن أقسم لولاته وقال: لو عرضتموني أن أقف أمام نور الدين محمود زنكي في دار العدل ورأيت أن أحداً من العوام يشتكي منكم لأضربن رقبة من يعرِّضني لهذا، فوالله! لضياع ملكي أهون عندي من أن ينظر إليَّ نور الدين محمود زنكي على أنني ظالم.
فما أتت شكاية واحدة من أسد الدين شيركوه ولا من أتباعه بعد أن ردوا للعوام مظالمهم، فسجد نور الدين محمود زنكي شكراً لله، وقال: الحمد لله الذي جعل عاملي ينصفني من نفسه.(55/4)
عدد المدن التي انتزعها نور الدين من أيدي الصليبيين ودوره في توحيد المسلمين
نور الدين محمود زنكي هذا البطل النحرير انتزع نيفاً وخمسين مدينة من أيدي الصليبيين قبل موته كما قال الإمام ابن الجوزي، وكان هذا السلطان المجدد يأكل من عمل يده فكان يصنع ما يسمى بالكوفيات أو ينسخ الكتب، أو يصنع الأقفال للأبواب ولا يأكل إلا من هذا، ونصيبه من الغنائم اشترى به ثلاثة دكاكين في حمص وكان ينفق على نفسه من ريع هذه الدكاكين، لدرجة أنه كان يمتنع تماماً عن طعام المملكة في شهر رمضان، وكان يبعث إلى شيخه الشيخ عمر الملا بالموصل يقول له: ائتني برقاق أعيش عليه طيلة الشهر، فكان يرسل إليه بالرقاق وهو كالعيش الجاف الناشف، ثم يظل يأكل منه طيلة الشهر، ووكّل أمر الموصل إلى شيخه عمر الملا وقال للساسة وللقضاة: لا بد أن تعودوا في كل مسألة إلى الشيخ عمر الملا لزهده ولعبادته.
هذا الرجل الذي أسقط المكوس والضرائب عن أرجاء مملكته، وكانت المكوس والضرائب قبل عصره 586 ألف دينار ذهب فأسقطها تقرباً لله عز وجل.
ودعا من كان بجواره من ملوك الدول الإسلامية والإمارات الإسلامية إلى قتال الفرنجة فمنهم من أيده ومنهم من نكص عنه مثل صاحب حصن كيفا، ففي اليوم الثاني جهّز الجيوش وسار مع نور الدين محمود زنكي فقالوا له: لم؟ قال: إن نور الدين محمود زنكي يرسل إلى العلماء والصالحين والزهاد والعباد بأخبار غزوه للفرنج فإن لم أسر معهم دعا عليَّ هؤلاء ولعنوني في صلاتهم، فلا بد من المسير معهم.
في موقعة بانياس ذهبت عين أخيه نصر الدين فقال لأخيه مواسياً: والله! لو تعلم ما لك من الأجر عند الله عز وجل لفرحت بذهاب الثانية إذا ذهبت!(55/5)
تواضع نور الدين زنكي لله ودوره في وقعة حارم
هذا الرجل كان مولعاً بالجهاد وبالعدل، وما حكم البلاد والعباد بعد الخلفاء الراشدين وبعد عمر بن عبد العزيز أعدل من نور الدين محمود زنكي كما قال ذلك العلامة ابن كثير، والذهبي وابن الأثير.
وكانت له زوجة عابدة، فبعد أن مات عنها تزوجها صلاح الدين الأيوبي.
ذات ليلة قامت وهي غاضبة من نومها، فسألها نور الدين عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني ورد البارحة فلم أصل من الليل شيئاً فأمر بمن يوقظها لصلاة الليل، وكانت كثيراً ما تطلب منه أموالاً لتنفق على الناس، فظن أنها تنفق هذه الأموال من أجل زينتها وعلى حليها فقال لها: والله ما عندي شيء من المال، إنما أنا خازن لبيت المال، ولا أخوض النار في هواكِ أبداً، ثم أعطاها الثلاثة الدكاكين التي كانت في حمص.
الإمام العظيم والسلطان المجدد يذكر له التاريخ وقعة حارم لما أتى ملوك الدول الأوروبية وملوك الإفرنج والنصارى والصليبيين في ساحل الشام وفي كل مدن الشام، واجتمعوا في وقعة حارم سنة (559هـ) وكان عددهم ثلاثون ألفاً، وحينما حمي وطيس المعركة واشتد لهيبها تضرع لله عز وجل، يقول: اللهم ارحم عبدك المكاس العشّار الظالم محمود الكلب، يا رب هؤلاء عبيدك وهم أولياؤك، وهؤلاء عبيدك وهم أعداؤك أتوا لحرب أوليائك فانصر دينك ولا تنصرني، ثم نزل من على فرسه وجعل يمرّغ خده في التراب، وكانت النتيجة: أن قتل واحد وعشرون ألف صليبي في هذه المعركة، وأسر جميع الملوك الذين ناصروا الأعداء، وقتل البرنس صاحب الكرك مقدم الصليبيين في هذه المعركة، وبدأ نور الدين محمود زنكي يستعد لفتح بيت المقدس وأعد منبراً يدخل به إلى بيت المقدس.(55/6)
كرامة نور الدين زنكي وانتصاره على الفرنجة في دمياط
لما نزل الفرنج الصليبيون على دمياط استمروا بمحاصرة دمياط خمسين يوماً، وكانوا ينزلون عليها من البحر على سفن ومراكب تأتيهم من أوروبا، واشتد الهم والغم على نور الدين محمود زنكي وظل صائماً عشرين يوماً ولا يفطر إلا بالماء فقط حتى خاف عليه الأطباء من الموت، وبعد العشرين يوماً رأى إمام مسجده رؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل هذه الرؤيا كان نور الدين محمود زنكي عالم حديث فقد روى أحاديث في تبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فروى حديث التبسم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تبسم حتى وصل الإسناد إلى نور الدين محمود زنكي فأراد بعض المحدثين أن يتبسم فقال: إني لأستحيي من الله عز وجل أن يراني متبسماً والإفرنج محاصرون لدمياط.
فأتى إليه إمام مسجده وبشّره قائلاً: رأيت رؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: بشِّر نور الدين محمود زنكي بالنصر على الأعداء، فقلت: قد لا يصدّقني يا رسول الله! فهل من علامة؟ قال: العلامة ما حدث منه يوم موقعة حارم، وإمام المسجد لم يكن يعرف موقعة حارم، فلما صلى معه الفجر قال نور الدين: ما عندك؟ قال: بشّرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصرك على الفرنجة، وبرفع هذه الغمة، ويقول لك: العلامة ما حدث منك في تل حارم، قال نور الدين: وما حدث مني؟ قال: حدث منك أنك قلت: اللهم اغفر للعبد المكاس الظالم العشّار محموداً، فاستحى أن يقول له: محمود الكلب فقال نور الدين: العلامة ناقصة، قال: يا سيدنا فيها قال: قلها؟ قال: محمود الكلب، فبكى نور الدين محمود زنكي واستبشر وجاءه النصر على الفرنجة، ومات نور الدين محمود زنكي وهو يتمنى أن يمن الله تبارك وتعالى عليه بفتح القدس على يديه ولم تكتمل له هذه الفرحة، وذهب إلى الله عز وجل بنيته ولكن يكفيه شرفاً أنه وحّد مصر والشام.(55/7)
ذكر ولاية صلاح الدين(55/8)
مولد صلاح الدين والبشارة به
ثم يأتي من بعده تلميذه والذي تزوج امرأته من بعد موته صلاح الدين الأيوبي يوسف بن أيوب بن شادي المولود بتكريت، أي: في قرية من قرى الأكراد، وظل بالموصل حتى انتقل مع أبيه إلى حلب.
قال حميد النجار سنة (555هـ): كنت في الموصل في مجلس الشيخ عمر الملا وإذا برجل من عوام المسلمين يأتي إلى الشيخ عمر الملا ويقول له: رأيت كأني في ديار غريبة مملوءة بالخنازير وإذا برجل قائم بالسيف يقتل هذه الخنازير، فقلت: من الرجل؟ هل أنت المسيح؟ قال: لا، قلت: المهدي؟ قال: لا، إنما يوسف، فأولوها أنه يمكن أن يكون يوسف بن عبد المؤمن أمير الموحدين في المغرب، أو الخليفة العباسي، ثم لما وقعت حطين وانتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين وفتح بيت المقدس صح تعبير الرؤيا بأنه يوسف بن أيوب سلطان المسلمين المسمى بـ صلاح الدين الأيوبي.
ورأت أمه يوم ولادته أن رجلاً يقول لها: إنك ستلدين سيفاً من سيوف الله عز وجل.
وبعد موت نور الدين محمود زنكي أعلن نفسه سلطاناً على مصر، ثم بعد ذلك ضم ولايات الشام إليه وأصبح سلطاناً على مصر والشام.(55/9)
دور صلاح الدين في إزالة الفاطمية القرامطة
يذكر التاريخ لـ صلاح الدين الأيوبي بكل الفخر، أن الفاطميين الذين ضاعت في عصرهم القدس أسقط صلاح الدين الأيوبي خلافتهم وأنهى خلافة العاضد ودعا بعد شهرين إلى الدولة العباسية على منابر المسلمين.
فالفاطميون أتوا بالأزهر وبنوه خصيصاً لنشر الفكر الشيعي، وعلى منبره سب أبو بكر وعمر، وخليفتهم الثالث ادّعى الألوهية وفتح سجلات فأيده واعترف به إلهاً ثمانون ألف مصري، ثم بعد ذلك قتله أحد المصريين غيرة لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم.(55/10)
خادم صلاح الدين يأسر مائة واثنين وسبعين من الكفار
صلاح الدين الأيوبي هذا السلطان الذي قال عنه قاضيه ابن شداد: إنه سلطان في قلبه يحمل جبلاً في فكره، لن نتكلم على صلاح الدين الأيوبي؛ لأننا لا نستاهل أن نتكلم عن عظماء، وإنما سنتكلم عن خادم صلاح الدين الأيوبي حاجبه حسام الدين لؤلؤ وهو أسد من أسود المسلمين، عندما قالوا له: إن الفرنج الصليبيين ركبوا بحر القلزم ليغيروا على طيبة مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وينبشوا قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كم عددهم؟ قالوا له: مائة واثنان وسبعون فقال: عليّ بمائة واثنين وسبعين قيداً، وهذا قبل أن يذهب للمعركة وقبل أن يركب البحر، ثم من الله تبارك وتعالى عليه بأسرهم جميعاً، فبعث اثنين منهم ذُبحوا في منى في موسم الحج، والمائة والسبعين عاد بهم إلى القاهرة فضرب العلماء أعناقهم جميعاً تحت سماء القاهرة؛ هذه كانت أيام صلاح الدين الأيوبي.
أما أيامنا هذه فإن ملكاً من ملوك العرب يقول: لا أهرول هرولة للسلام وإنما أركض ركضاً، وأبو عمار يقول: رابين ابن عمي، رابين قائد شجاع وفي 28 سبتمبر سنة 1995م في اتفاقية توسيع الحكم الفلسطيني وكان فيها رابين وياسر عرفات والرئيس الأمريكي فقال رابين: بدأت أعتقد أيها الرئيس عرفات! أنك قد تكون يهودياً هذا كلام رابين بالترجمة الحرفية.
بيروت في اليم ماتت قدسنا انتحرت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا أعداؤنا ضيعونا حينما فتحوا باعوا المآذن والقرآن والدينا أعداؤنا من توارى صوتهم فزعاً والأرض تسبى وبيروت تنادينا قم من ترابك يا ابن العاص في دمنا ثأر طويل لهيب العار يكوينا قم يا بلال وأذن صمتنا عدم كل الذي كان طهراً لم يعد فينا هل من صلاح يداوي جرح أمته؟ ويطلع الصبح ناراً من ليالينا هل من صلاح لشعب هده أمل ما زال رغم عناد الجرح يشفينا جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني جئنا نداويك تأبى أن تداوينا إني أرى القدس في عينيك ساجدة تبكي عليك وأنت الآن تبكينا ما زال في العين طيف القدس يجمعنا لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجهاد في سبيل الله عز وجل فإنه باب من أبواب الجنة يُذهب الله به الهم والغم والحزن) أو كما قال.(55/11)
جهاد صلاح الدين الأيوبي كما يصفه القاضي ابن شداد
جهاد صلاح الدين الأيوبي قال عنه قاضيه ابن شداد: أحلف بالله غير حانث أن صلاح الدين الأيوبي بعد أن شفاه الله من مرضه نذر كل وقته للجهاد في سبيل الله عز وجل، وما أنفق درهماً بعد شفائه إلا في الجهاد.
وكان صلاح الدين قد مرض، وكان له وزير وقاضٍ عادل اسمه عبد الرحيم البيساني وكان من العلماء الصالحين، وكان يقرأ القرآن ويختمه كل يوم، وهذا ثابت عنه كما قال الذهبي.
هذا القاضي العادل عندما رأى صلاح الدين الأيوبي مريضاً قال: ادع لله عز وجل إن شفاك من مرضك أن توجه كل همك لتحرير القدس.
فلما شفاه الله من مرضه أعلن بالنفير العام وسط ديار المسلمين، يقول القاضي ابن شداد: كنت واقفاً أنا وصلاح الدين الأيوبي أمام عكا ورأيت البحر، قال: وكانت لأول لحظة أرى فيها البحر، فهالني منظر البحر حتى قلت: لو أن رجلاً قال لي أبحر لمدة ميل وأملكك الدنيا كلها لا أبحر من شدة فزعي، فنظر إليّ صلاح الدين وقال: كنت أريد بعد أن أنقذ القدس أن أقسم البلاد بين بني ثم أركب البحر إلى جزائر الكفار فلا أبقي كافراً على وجه الأرض يعبُد غير الله إلا وأدخلته في الإسلام، فقال: يكفيك بلادك وأن ترسل الجنود، وإنما أنت سور الإسلام ومنعته قال: أي الموتتين أشرف القتل في سبيل الله عز وجل أم غيره؟ قال: الموت في سبيل الله عز وجل، قال: يكفيني أشرف الموتتين.(55/12)
عقيدة صلاح الدين وعبادته وزهده
وقد تعلم عقيدة أهل السنة والجماعة وكان يحفظها لأولاده الصغار: عثمان وعمر وأبو بكر.
أما صلاته فما ترك صلاة الجماعة منذ سنين، كما قال ذلك عنه قاضيه ابن شداد.
أما الزكاة فما وجبت عليه الزكاة قط؛ لأن ليس لديه مال، وعندما مات صلاح الدين الأيوبي لم يخلف قرية ولا مزرعة وإنما كان كل ماله سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً فقط! ولم يكن يعلم الورثة أن هذا في خزائنه، ولم يكن لدى أولاده مال وهم ملوك، حتى إن ثمن الطوب أو اللبن الذي سوي به قبره اقترضوه من الناس، وبعدها رأوا في خزائنه سبعة وأربعين درهماً وديناراً واحداً فقط! هذا الذي ملك مشارق الأرض ومغاربها وفتح سبعة وسبعين مدينة كانت في أيدي الصليبيين، كان يُعطي للجهاد عطاء من لا يخشى الفقر، وقد أعطى من ماله الخاص خمسة آلاف من الجياد لأمراء المجاهدين، هذا هو الرجل الذي أعاد مصر إلى حديقة أهل السنة والجماعة.(55/13)
جهاد صلاح الدين الصليبيين في حطين والكرك
وفي موقعة حطين 25 ربيع الآخر سنة (583 هجرية) كان فيها ثلاثة وستون ألف فارس صليبي أتوا لقتال صلاح الدين الأيوبي، فبعث صلاح الدين الأيوبي من يمنعونهم من ماء النهر حتى اشتد بهم العطش وحر الظهيرة واجترّهم إلى القتال، وكان هناك حشيش تحت أرجلهم فأمر أن يشعلوا النار عن طريق الرماة، فاشتعلت النار تحت أرجل خيولهم فاضطروا إلى قتاله، وانتهت المعركة بثلاثين ألف أسير وثلاثين ألف قتيل منهم كل الملوك الذين حاربوه، ومنهم البرنس صاحب الكرك، وكان كافراً لكنه شديد الكفر، وكان قد عقد هدنة مع صلاح الدين الأيوبي ثم غدر ووجد قافلة من تجار المسلمين جعلوا يستغيثون فقال: فليجركم محمد! واستباح الأعراب، فنذر صلاح الدين إن مكنه الله منه أن يقتله.
فلما أتوا بالملوك الأسرى واشتد بهم العطش، ومنهم الملك جفري بن جفري ومعه البرنس صاحب الكرك وابن ملك ألمانيا جلس الملك جفري وبجانبه أمير الكرك فلما اشتد بالملك جفري العطش أمر صلاح الدين الأيوبي بماء فشربه، وكان من عادة العرب أنك طالما أعطيت الأسير ماء من عندك أو أكل فهذا كرم كبير منك؛ فأعطاه الملك جفري لأمير الكرك الذي استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم فقال له صلاح الدين الأيوبي: أنا ما أعطيته هذا الماء إنما أنت الذي أعطيته، ثم قال: استهزأت برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا نائب عنه، فعرض عليه الإسلام فلم يقبل، فقام إلى سيفه فضربه على كتفه فأسقطه ثم حز رأسه وألقاه خارج الخيمة.(55/14)
صلاح الدين يفتح عكا والقدس
وبعد حطين فتح عكا ودخلها وأُذن فيها لصلاة الجمعة بعد غياب ثلاث وسبعين سنة، ثم بعد ذلك بدأت جيوش صلاح الدين الأيوبي تنظر إلى القدس، وفي 15 رجب جاء بستين ألف مقاتل وقفوا حول أسوار القدس، وفي السابع والعشرين من رجب (سنة 583هـ) فتح القدس، وأصح الأقوال هو قول شيخ الإسلام ابن تيمية والإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام ابن بطة والإمام ابن رجب الحنبلي إن السابع والعشرين من رجب لم يكن يوم الإسراء وإنما كان يوم فتح صلاح الدين الأيوبي للقدس.
وقف المسلمون على أسوارها، ولما قتل أمير من أمراء المسلمين المجاهدين في سبيل الله عظم ذلك عند المسلمين واشتد بهم الحنق والغيظ، فبدءوا يثقبون الأسوار، ويستعينون بالمجانيق علهم يقتحمون هذا السور، وبالفعل سقط السور من قبل صلاح الدين الأيوبي من ناحية بلاد الشام الأخرى، فبرز قائد الجنود الصليبيين بليان بن برزان، وأراد أن يؤمنه صلاح الدين الأيوبي فقال: خذها صلحاً.
قال صلاح الدين: والله لا آخذها إلا عنوة كما دخلتموها عنوة.
فسيدنا صلاح الدين الأيوبي عندما دخل عكا فك أربعة آلاف أسير مسلم، وعندما أتى عند القدس قال: لا آخذها إلا عنوة كما أخذتموها عنوة، أي: مثلما قتلتم المسلمين بها، وكانوا قد قتلوا سبعين ألف مسلم حينما دخلوا القدس حتى غاصت الركب في دماء المسلمين وجعلوا من قبة الصخرة مكاناً لخيولهم وخنازيرهم، وقالوا: دون قمامة فلتقم القيامة.
فقال صلاح الدين: لا آخذها إلا عنوة مثلما أخذتموها عنوة.
فقال له بليان بن برزان: إذاً نقتل من كان عندنا من المسلمين -وكان عندهم خمسة آلاف أسير مسلم- ثم نذبح نساءنا وأطفالنا، ثم نكسِّر الصخرة ونهدم القبة ونهدم المسجد، ثم نعمي بئر بيسان ثم نخرج إليك في الصحراء، وهنا رق صلاح الدين الأيوبي لأسرى المسلمين، ووافقهم على الصلح بشرط أن أي واحد يخرج منهم خارج القدس يدفع عشرة دنانير جزية، والمرأة خمسة دنانير، والصبي أو الصبية دينارين، وأعطاهم مهلة أربعين يوماً والذي لا يستطيع ذلك يقع في أسر المسلمين، فرحلوا كلهم عن القدس، ووقع الذين عجزوا عن دفع الجزية في أسر المسلمين وهم ستة عشر ألف أسير، فكان عددهم كبيراً، وقد باع رجل من فقراء المسلمين أسيره بزربول -أي: فردة نعل- حتى يُعلم أن كثرة الأسرى بلغ من ذلهم وهوانهم أن يُباع الأسير بزربول، وترك الناس الأبقار والإبل من كثرتها واشتغلوا بالأسرى، وكان الرجل وزوجه وأولاده الخمسة يباعون بثمانين درهماً، وكان الفلاح يأتي بطنب خيمة ويربط فيه نيفاً وثلاثين أسيراً فيجرهم بعمود خيمة، والحارس من المسلمين يحرس المائتين ولا يهربون خوفاً من بطشه.
وفتحت القدس يوم الجمعة ولكن صلاح الدين الأيوبي لم يستطع أن يصلي الجمعة؛ لكثرة ما كان فيها من الخنازير وحيض النساء فاشتغل أسبوعاً كاملاً ينقل ما فيها من النجاسات، ثم غسل المسجد وقبة الصخرة بالماء العادي، ثم بماء الورد الطاهر وبالمسك الفاخر، ثم صدر المنشور الصلاحي للقاضي محيي الدين بن الزكي القرشي بأن يتولى الخطابة في أول جمعة من شعبان بعد يوم الفتح بثمان، وجرت الدموع غالية، فهل من عودة لأيام صلاح الدين الأيوبي؟ رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر حصانك في سيناء يشرب دمعه ويا لعذاب الخيل إذ تتذكر(55/15)
موت صلاح الدين الأيوبي
ويموت صلاح الدين الأيوبي بعد أن فتح سبعة وسبعين مدينة، وقد بلغ من شغفه أنه بعد أن فتح القدس بدءوا هم للرجوع إلى عكا، وحاصروا عكا من البحر، وظل صلاح الدين الأيوبي بعيداً عن مصر (58 شهراً) وعيناه تذرفان الدموع يقول: يا للإسلام! يا لعكا، هل من رجال مؤمنين لعكا؟ وكان يشكو في ظهره من الدمامل الكثيرة لدرجة أنه كان لا يستطيع الأكل إلا نائماً، وبرغم هذا كما يقول قاضيه ابن شداد: يركب فرسه من الصباح إلى الظهر، ومن العصر إلى المغرب، فيقال له: إنك لا تستطيع أن تقعد وأن تأكل إلا نائماً فكيف تجلس على الفرس؟ فيقول: والله ما إن أرتقي صهوة جوادي حتى ينتهي الألم ثم يعود إليّ بعد أن أفارق جوادي.
ثم جاءته حمى فغاب عن وعيه تماماً ثلاثة أيام، يقول من كان معه: فقرأت عليه حتى وصلت إلى قول الله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر:22] قال: فأفاق من غيبته وهو يقول: صحيح -يعني هذا الكلام- يقول: فجعلت أقرأ حتى وصلت إلى قول الله عز وجل: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} [التوبة:129] فتبسم وخرجت روحه.
ورحل صلاح الدين خرج يوسف من سجن الدنيا إلى فضاء الحق عز وجل، وشيعته العيون الباكية، يقول القاضي ابن شداد: كنت أستقل أن رجلاً يقول لرجل: أفديك بنفسي ومالي، فلما مات صلاح الدين تمنيت لو افتديته بنفسي، وعلا البكاء والنحيب على الرجل الذي رد إلى المسلمين هيبتهم.(55/16)
ذكر بعض المجددين بعد صلاح الدين
بعد هذا يأتي الظاهر بيبرس، وله مواقف جسورة في قتال الصليبيين، فهو الذي أذل أهل أنطاكية ورد أنطاكية إلى المسلمين، وأرمينية ردها إلى المسلمين، وحاصر عكا، وعندما كان يحاصر الصليبيين الذين في عكا قال سفير بيبرس لملكهم عندما استعرض جنوده أمامه: كل هؤلاء الجنود لا يساوون عدد الأسرى الموجودين عندنا في القاهرة.
ثم أتى بعد ذلك السلطان محمد بن قلاوون الذي استرد طرابلس وهدمها، ثم أقام مدينة طرابلس التي في بيروت.
ثم الملك أشرف خليل الذي أعاد عكا إلى المسلمين بعد أن استردها الصليبيون من المسلمين بعد موت صلاح الدين الأيوبي لإ فهو الذي استردها مرة ثانية، ثم دمرها حتى لا يتخذها الصليبيون قلعة ضد المسلمين، وبلغ من كثرة الأسرى أن الفتاة كانت تباع بدرهم واحد، فأين عز المسلمين الآن؟ اللهم ارجع تلك الأيام إلينا، اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
رب اجعلنا لك ذكّارين، لك شكّارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبّل دعواتنا، أجب دعواتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا، اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، اللهم اجعل حشري إليك من حواصل الطيور ومن بطون السباع.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(55/17)
رسالة أحد الأدباء المعاصرين إلى صلاح الدين
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد فقد وقع الصليب الأعظم للصليبيين في أيدي المسلمين وهو الذي يظنون أن عيسى قد صلب عليه، فأرسل والي عكا لـ صلاح الدين: ما بقى عندنا إلا القدس والصليب، وهذه الديار، وقد كثر القتل منا ومنكم، والصليب عندنا له قيمة عظيمة، وعندكم هو مجرد خشبة، فتفضّل بمنك وكرمك فأرجعه إلينا، وأما القدس فمتعبّدنا لا ننزل عنها حتى آخر رجل منا.
فبعث إليه صلاح الدين الأيوبي فقال: أما ما تقول: إنه قد هلكت الرجال منا ومنكم، فعندنا طعامنا وشرابنا، وأما ما تقول من أن القدس متعبدكم فهي مسرى نبينا، ولا نستطيع أن نقول للمسلمين مجرد كلمة في تنازلنا عنها، وأما صليبكم فلا أعطيه لكم أبداً فهذه أيام صلاح الدين الأيوبي.
فاروق رويدة صاحب الصفحة الأدبية في الأهرام وهي صحيفة قومية كتب فيها يقول: رسالة إلى صلاح الدين الأيوبي يقول في هذه الرسالة عن القدس وعن ديار المسلمين: وطن جميل كان يوماً كعبة الأوطان ماذا تبقى منه الآن تأكله الكلاب وترتوي بالدم فوق ربوعه الديدان الآن ترحل عنه أفواج الحمام وتنعق الغربان الآن ترتع فيه أسراب الجراد وتعبث الفئران الآن يأتي الماء مسموماً ويأتي الخبز مسموماً ويأتي الحلم مسموماً ويأتي الفجر مصلوباً على الجدران وطن بلون الفرح يبدو الآن محمولاً على نعش من الأحزان جسد هزيل في صقيع الموت مصلوب بلا أكفان وطن جميل كان يوماً كعبة الأوطان الآن ترتحل الرجولة عن ثراه ويسقط الفرسان في ساحة الدجل الرخيص يغيب وجه الحق تسقط أمنيات العمر يزحف موكب الطغيان في ساحة القهر الطويل يضيع صوت العدل تخفت أغنيات الفجر تعلو صيحة البهتان وطن بلون الصبح كان وطن جسور أنت في عيني ذليل في ثياب العجز والنسيان وطن عريق أنت في عيني أراك الآن أطلالاً بلا اسم بلا رسم بلا عنوان وطن بلون الصبح كان في أي عين سوف أحمي وجه ابني بعد ما صلبوا صلاح الدين يا وطني على الجدران في أي صبر سوف يسكن قلب ابني بعد ما عزلوا صلاح الدين من عين الصغار وتوجوا ديان يا للمهانة عندما تغدو سيوف المجد أوسمة بلا فرسان يا للمهانة عندما يغدو صلاح الدين خلف القدس مطروداً بلا أهل بلا سكن بلا سلطان في كل شيء أنت يا وطني مهان من علّم الأسد الأبي بأن ينكِّس رأسه ويهاجم الجردان؟ من علّم الفرس المكابر أن يهرول ساجداً في موكب الحميان؟ من علّم القلب النقي بأن يبيع صلاته ويعود للأوثان؟ من علّم الوطن العريق بأن يبيع جنوده ويقايض الفرسان بالغلمان؟ من علّم الوطن العزيز بأن يبيع ترابه للراغبين بأبخس الأثمان؟ من علّم السيف الجسور بأن يعانق خصمه ويعلّق الشهداء في الميدان؟ يا أيها الوطن المهان إني بريء منك يا أيها الوطن المهان ويقول أيضاً في جريدة الأهرام في الصفحة الأدبية: لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً كلكم في اليم يوماً غارقون تجرون خلف الموت والنخّاس يجري خلفكم وغداً بأسواق النخاسة تُعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرّط أو يخون كهّاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون من حسي نشوة السلطان والطغيان راحوا يسكرون وشعوبنا ارتاحت في غيابات السجون نام الجميع وكلهم يتثاءبون فمتى يفيق النائمون؟ متى يفيق النائمون؟(55/18)
خطبة القدس التي ألقاها قاضي صلاح الدين
أما خطبة القدس التي ألقاها محيي الدين بن زكي قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:2 - 4].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} [الأنعام:1].
{وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} [الإسراء:111].
وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1].
وقال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى} [النمل:59].
وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [سبأ:1].
{الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [فاطر:1] ثم أتى بآيات الحمد كلها.
الحمد لله معز الإسلام بنصره، ومذِّل الشرك بقهره، ومصرِّف الأمور بأمره، ومديم النعم بشكره، ومستدرج الكافرين بمكره.
الحمد لله أظهر دينه على الدين كله، القاهر فوق عباده فلا يمانع، والظاهر على خليقته فلا ينازع، والآمر بما يشاء فلا يرادع، والحاكم بما يريد فلا يُدافع.
أحمده على إظفاره وإظهاره، وإعزازه لأوليائه، ونصره لأنصاره، وتطهيره بيته المقدس من أدناس الشرك وأوزاره حمد من استشعر الحمد باطن سره وظاهر جهاره.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الأحد الصمد {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:3 - 4] شهادة من طهر بالتوحيد قلبه، وأرضى به ربه.
وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله رافع الشكر، وداحض الشرك، ورافض الإفك، الذي أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وعرج به منه إلى السماوات العلى إلى سدرة المنتهى {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:15 - 17].
صلى الله عليه، وعلى خليفته أبي بكر الصديق السابق إلى الإيمان، وعلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أول من رفع عن هذا البيت شعار الصلبان، وعلى أمير المؤمنين عثمان بن عفان ذي النورين جامع القرآن، وعلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب مزلزل الشرك ومكسّر الأوثان، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان أيها الناس! أبشروا برضوان الله الذي هو الغاية القصوى، والدرجة العليا، لما يسّره الله على أيديكم من استرداد هذه الضالة من الأمم الضالة، وردها إلى مقرها من الإسلام بعد ابتذالها في أيدي المشركين قريباً من مائة عام، وتطهير هذا البيت الذي أذن الله أن يُرفع وأن يُذكر فيه اسمه، وإماطة الشرك عن طرقه بعد أن امتد عليها رواقه، واستقر فيها رسمه، ورفع قواعده بالتوحيد فإنه بني عليه، وبالتقوى فإنه أُسس على التقوى من خلفه ومن بين يديه، فهو موطن أبيكم إبراهيم، ومعراج نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم، وقبلتكم التي كنتم تصلون إليها في ابتداء الإسلام.
وهو مقر الأنبياء, ومقصد الأولياء، ومفر الرسل، ومهبط الوحي، ومنزل تنزل الأمر والنهي.
وهو في أرض المحشر وصعيد المنشر، وهو في الأرض المقدسة التي ذكرها الله في كتابه المبين.
وهو المسجد الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالملائكة المقربين، وهو البلد الذي بعث الله إليه عبده ورسوله، وكلمته التي ألقاها إلى مريم وروحه عيسى الذي شرفه الله برسالته، وكرّمه بنبوته، ولم يزحزحه عن رتبة عبوديته، فقال تعالى: {لَنْ يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ} [النساء:172] وقال تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [المائدة:17].
وهو أول القبلتين، وثاني المسجدين، وثالث الحرمين، لا تشد الرحال بعد المسجدين إلا إليه، ولا تُعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه، ولولا أنكم ممن اختاره الله من عباده واصطفاه من سكان بلاده لما خصّكم بهذه الفضيلة التي لا يجاريكم فيها مجار، ولا يباريكم في شرفها مبار، فطوبى لكم من جيش صارت على أيديكم المعجزات النبوية، والوقعات البدرية، والعزمات الصدّيقية، والفتوح العمرية، والجيوش العثمانية، والفتكات العلوية جددتم للإسلام أيام القادسية، والوقعات اليرموكية، والمنازلات الخيبرية، والهجمات الخالدية فجزاكم الله عن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أفضل الجزاء، وشكر لكم ما بذلتموه من مهجكم في مقارعة الأعداء، وتقبّل منكم ما تقربتم به إليه من مهراق الدماء، وأثابكم الجنة فهي دار السعداء فاقدروا رحمكم الله هذه النعمة حق قدرها، وقوموا لله تعالى بواجب شكرها، فله النعمة عليكم بتخصيصكم بهذه النعمة، وترشيحكم لهذه الخدمة؛ فهذا هو الفتح الذي فتحت له أبواب السماء، وتبلجت بأنواره وجوه الظلماء، وابتهج به الملائكة المقربون، وقر به عيناً الأنبياء والمرسلون.
فماذا عليكم من النعمة بأن جعلكم الجيش الذي يُفتح عليه البيت المقدس آخر الزمان، والجند الذي تقوم بسيوفهم -بعد فترة من النبوة- أعلام الإيمان، فيوشك أن يكون هناك التهاني به بين أهل الخضراء أكثر من التهاني به بين أهل الغبراء، أليس هو البيت الذي ذكر الله في كتابه، ونص عليه في خطابه، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى} [الإسراء:1]؟ هو البيت الذي عظمته الملوك، وأثنت عليه الرسل، وتُليت فيه الكتب الأربعة المنزلة من إلهكم عز وجل، أليس هو البيت الذي أمسك الله عز وجل الشمس على يوشع بن نون لأجله أن تغرب؟ وباعد بين خطواتها ليتيسر فتحه ويقرب؟ أليس هو البيت الذي أمر الله موسى أن يأمر قومه باستنقاذه فلم يجبه إلا رجلان، وغضب عليهم لأجله فألقاهم في التيه عقوبة للعصيان؟ فاحمدوا الله الذي أمضى عزائمكم لما نكلت عنه بنو إسرائيل وقد فضّلهم على العالمين، ووفقكم لما خُذل فيه من كان قبلكم من الأمم الماضين، وجمع لأجله كلمتكم وكانت شتى، وأغناكم بما أمضته كان وقد عن سوف وحتى، فليهنكم أن الله قد ذكركم فيمن عنده، وجعلكم بعد أن كنتم جنوداً لأهويتكم جنده، وشكركم الملائكة المنزلون على ما هديتم إلى هذا البيت من طيب التوحيد، ونشر التقديس والتحميد، وما أمطتم عن طرقهم فيه من أذى الشرك والتثليث والاعتقاد الفاجر الخبيث، فالآن يستغفر لكم أملاك السماوات، وتصلي عليكم الصلوات المباركات.
فاحفظوا -رحمكم الله- هذه الموهبة فيكم، واحرسوا هذه النعمة عندكم بتقوى الله الذي من تمسك بها سلم، ومن اعتصم بعروتها نجا وعُصم، واحذروا من اتباع الهوى وموافقة الردى، ورجوع القهقرى، والنكول عن العدا، وخذوا في انتهاز الفرصة، وإزالة ما بقي من الغصة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وبيعوا -عباد الله- أنفسكم في رضاه؛ إذ جعلكم من عباده.
وإياكم أن يستزلكم الشيطان وأن يتداخلكم الطغيان فيخيل إليكم أن هذا النصر بسيوفكم الحداد، وبخيولكم الجياد، وبجلادكم في مواطن الجلاد، لا والله! {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10].
واحذروا -عباد الله- بعد أن شرّفكم بهذا الفتح الجليل، والمنح الجزيل، وخصّكم بهذا الفتح المبين، وأعلق أيديكم بحبله المتين أن تقترفوا كثيراً من مناهيه، وأن تأتوا عظيماً من معاصيه، فتكونوا {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثًا} [النحل:92] ومثل {الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الأعراف:175].
الجهاد الجهاد! فهو أفضل عباداتكم، وأشرف عاداتكم، انصروا الله ينصركم، اذكروا الله يذكركم، اشكروا الله يزدكم ويشكركم، جدوا في حسم الداء، وقطع شأفة الأعداء، وتطهير بقية الأرض من الفئة التي أغضبت الله ورسوله، اقطعوا فروع الكفر واجتثوا أصوله، فقد نادت الأيام بالثارات الإسلامية، والملة المحمدية.
الله أكبر فتح الله ونصر غلب الله وقهر أذل الله من كفر.
واعلموا رحمكم الله أن هذه فرصة فانتهزوها، وفريسة فناجزوها، ومهمة فأخرجوا لها هممكم، وبرّزوها وسيروا إليها سرايا حسناتكم، وجهّزوها فالأمور بأواخرها والمكاسب بذخائرها فقد أظفركم الله بهذا العدو المخذول، وهم مثلكم أو يزيدون، فكيف وقد أضحى في قبالة الواحد منهم منكم عشرون، وقد قال الله تعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65].
أعاننا الله وإياكم على اتباع أوامره، والازدجار بزواجره، وأيدنا معشر المسلمين بنصر من عنده {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] ثم دعا للسلطان صلاح الدين الأيوبي فقال: اللهم وأدم سلطان عبدك، الخاضع لهيبتك، الشاكر لنعمتك، المعترف بموهبتك، سيفك القاطع، وشهابك اللامع، المحامي عن دينك المدافع، الذاب عن حرمك المانع، السيد الأجل، الملك الناصر، جامع كلمة الإيمان، وقامع عبدة الصلبان، صلاح الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، مطهر البيت المقدس أبي المظفر يوسف بن أيوب محيي دولة أمير المؤمنين.
اللهم عم بدولته البسيطة، واجعل ملائكتك براياته محيطة، وأح(55/19)
دمعات شعرية على قدس الإباء
ونختم بما بكى به الشاعر القدس قال: أعيني لا ترقي من العبرات وصلي البكا الآصال بالبكرات لعل سيول الدمع يطفئ فيضها توقد ما في القيد من جمرات ويا قلب أسعر نار وجدك كلما خبت بادكار يبعث الحسرات ويا فم بح بالشجو منك لعله يروح ما ألقى من الكربات على المسجد الأقصى الذي جل قدره على موطن الإخبات والصلوات على خير الأملاك والوحي والهدى على مسكن الأبدال والبدلات على سلم المعراج والصخرة التي أناست بما في الأرض من صخرات على القبلة الأولى التي اتجهت لها صلاة البرايا في اختلاف جهات على خبر معمور وأكرم عامر وأشرف مبني لخير بناة وما زال فيه للنبيين معبد يوالون في أرجائه السجدات عسى المسجد الأقصى المبارك حوله رفيع العماد العالي الشرفات عسى بعد ما قد كان للخير موسماً وللبر والإحسان والقربات يوافي إليه كل أشعث قانت لمولاه بر دائم الخلوات خلا من صلاة لا يمل مقيمها توشح بالآيات والسورات خلا من حنين التائبين وحزنهم فما بين نواح وبين بكاة لتبك على القدس البلاد بأسرها وتعلن بالأحزان والترحات لتبك عليها مكة فهي أختها وتشكو التي لاقت إلى عرفات لتبك على ما حل بالقدس طيبة وتشرحه في أكرم الحجرات فمن لي بنواح ينحن على الذي شجاني بأصوات لهن شجاة يرددن بيتاً للخزاعي قاله يؤذن فيه خيرة الخيرات مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصات(55/20)
وقفات مع سورة النجم [1]
في أول سورة النجم يبين الله عز وجل صدق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لم يضل، ولم يصبه الجهل ولا الغواية، بل إنه معلم من ربه سبحانه بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام الذي وصفه الله بالقوة والأمانة في إنزال الوحي ونقله إلى النبي صلى الله عليه وسلم على مراد الله عز وجل، ولذا لا يستطيع الطاعنون مهما أوتوا من قوة أن يطعنوا في محمد صلى الله عليه وسلم ورسالته.(56/1)
معنى قوله تعالى: (والنجم إذا هوى)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه وسنتهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، وأشهد أن لا إله إلا الله وجده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: فهذه وقفات مع سورة النجم.
وسورة النجم لها ثلاثة أسماء، ومنها: سورة (النجم) بدون الواو، كما هو ثابت في الصحيح عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورة النجم فسجد بها وسجد المشركون).
وتسمى: سورة (والنجم) كما ترجم لها الإمام البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، وكما ترجم لها الإمام الترمذي.
وتسمى سورة: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، كما جاء في حديث زيد بن ثابت في الصحيحين.
وهذه السورة أول سورة يعرضها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة، كما قال ابن مسعود فهي مكية بإجماع علماء التفسير وأهل التأويل.
ونسب بعضهم عن ابن عباس -وهذا القول ضعيف- أن السورة كلها مكية إلا آية: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم:32].
أما القول المنسوب للحسن البصري أنها مدنية فهذا قول شاذ.
وهذه السورة رقمها 23 في ترتيب النزول، وقد نزلت بعد سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، وقبل سورة عبس.
قال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:1 - 14].
قوله: (والنجم) يقسم الله تبارك وتعالى بالنجم، فما المراد بالنجم؟ هناك لأهل التأويل أقاويل عدة، القول الأول: أن المقصود بالنجم هنا الثريا، والثريا ستة أنجم كانت تعرفها العرب، ذكر ابن قتيبة وابن وهب هذا القول عن ابن عباس، وهو منسوب إلى مجاهد بن جبر من رواية ابن أبي نجيم، وهو قول سيدنا سفيان الثوري، وانتصر له العلامة ابن جرير.
القول الثاني: أن المراد به النجوم، وهذا أمر جائز، وهو أن يذكر الفرد ويراد به الجميع، مثل قول الله تبارك وتعالى عن أهل الجنة: {أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا} [الفرقان:75] والجنة ليست غرفة واحدة؛ لأن أولئك يجزون الغرف بما صبروا، وهذا من إطلاق الفرد وإرادة الجمع، فهنا يقسم الله عز وجل بالنجوم كاملة.
وعلماء الفلك من المسلمين أو من غير المسلمين يقولون: إن في السماء مجرات يصل عددها إلى مائة ألف مليون مجرة، والمجرة عدد نجومها مائة ألف مليون نجم، فاضرب مائة ألف مليون مجرة في مائة ألف مليون نجم، وانظر كم سيكون عدد النجوم في السماء.
والمسافة بين النجوم تقاس بمقياس يسمى: (بارسك)، والبارسك يساوي 192 وأمامها ضع 11 صفر، ولا أدري كيف ينطق بها، هذه وحدة قياس المسافات بين النجوم، وهناك وحدة قياس أخرى وهي السنة الضوئية، وهي عبارة عن تسعة بليون كيلو متر، فبعد الشمس عن الأرض (5.
8) دقيقة ضوئية.
أما الشعرى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم:49] قالوا: إنها تبعد عن الأرض بمقدار (300) سنة ضوئية، يعني: (300) اضربها في 9 بليون كيلو متر.
وقالوا: إن مجرتنا التي تقع فيها الأرض نصف قطرها (50000) سنة ضوئية، ولهذه المجرة توابع منها السدوم، وهي المواد الأولية في تكوين النجوم، وهي تبعد عن مركز المجرة (100000) سنة ضوئية {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة:75 - 76].
وهذه النجوم تسير في أبراج وفي مدارات وتخضع لله عز وجل وأنت لا تخضع يا ابن آدم، ومن النجوم الشمس، وهي تعطي ثلاثمائة مليون شمعة، ومن النجوم ما يعطي في اليوم الواحد مثلما تعطي الشمس في سنة كاملة، ولكن لبعدها السحيق عنا يجعلنا لا نشعر بها، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى بنا، فمن أنت؟! فذل واخضع لمولاك ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له النجم في سفحه يدين له الفلك الدائر تدين له الأسد في غابها وظبي الفلا الشارد النافر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له البر والفاجر القول الثالث في معنى النجم: أنه آيات وسور القرآن التي أنزلت مفرقة على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم.
فإن العرب تطلق على الشيء المفرق اسم النجم، تقول: أسدد لك الدين الذي لك علي على نجم كذا؛ لأنهم كانوا يسددون الديون على نجوم، أي: في أوقات ظهور النجم أو اختفائه، فأطلق بعد ذلك على شيء مفرق يقال له نجم.
فالله عز وجل يقسم بآيات القرآن وسوره التي أنزلت منجمة على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم تدل على صدق الرسالة.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1] إذا قلت: إنه الثريا يكون المعنى: إذا غاب نجم الثريا أو إذا غابت النجوم، وإذا قلت: إنه الرجوع من رجم الشياطين يكون المعنى: عند هويها لسحق الشياطين.
وإذا قلت: إنه الآيات يكون المعنى: إذا هوى، أي: إذا نزل.(56/2)
معنى قوله: (ما ضل صاحبكم وما غوى)(56/3)
الفرق بين الضلال والغواية
قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:2].
في كلمة (صاحبكم) تبكيت للمشركين، أي: أنتم تعلمون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كنتم تسمونه بالصادق الأمين قبل مجيء الوحي إليه، فلما جاءه النور وزاده نوراً فوق نوره غيرتم القول وقلتم: إنه المجنون وإنه الأفاك، وإنه الكذاب.
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم:2]، فأنتم تعرفونه جيداً وهو معروف عند أهل الحي بالاستقامة والنزاهة قبل أن يعرف طريق الله عز وجل، فما هو ببعيد عنكم، ولم ينزل إليكم من المريخ ولا من كوكب آخر، وقد كنتم تنعتونه بكل نعت جميل، فإذا ما التزم بدين الله عز وجل صار هو المتطرف، وصار كذا وكذا.
وقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم:2] الضلال: هو الانحراف في طريق العلم، وهو ضد الهدى.
قوله: {وَمَا غَوَى} [النجم:2] الغواية: ضد الرشاد، وضد الرشد الانحراف، فيزكي الله تبارك وتعالى نبيه ويثني عليه بكمال العلم والعمل؛ لأن الانحراف في أي طريق يؤدي إلى الدمار دمار أن تعلم ثم لا تعمل، أو أن تعمل بغير هدى من الله تبارك وتعالى.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اليهود مغضوب عليهم، والنصارى ضالون) الأمة الغضبية أمة اليهود؛ لأنهم علموا وكتبوا أو علموا وكتموا، والنصارى ضالون؛ لأنهم لم يعرفوا طريق الهدى فاتبعوا البدع؛ ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية: من ضل من علمائنا فله صفات انتساب إلى اليهود في كتم العلم وقساوة القلب، ومن ضل من عبادنا فله نسب إلى النصارى.
ولذلك فلاسفة الصوفية كـ ابن سبعين، وابن عربي، وابن الفارض قالوا بوحدة الوجود والحلول، وهي مثل مقالة النصارى.
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم:2] الانحراف في العلم، {وَمَا غَوَى} [النجم:2] ألا تعمل بهذا العلم، وهذه مصيبة.(56/4)
ذم العلم من غير عمل والعكس
يقول لك رجل من العوام: يا أخي! اتق الله عز وجل واستح، فهو يراك رجلاً داعية من دعاة المسلمين، ثم لا تطبق ذلك على نفسك، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ} [الصف:2 - 3].
وفي حديث جندب بن عبد الله الذي جود إسناده الشيخ الألباني فيما رواه الطبراني والضياء المقدسي في المختارة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل المصباح يضيء للناس ويحرق نفسه).
وقال عبد الله بن مسعود: تعلموا، فإذا علمتم فاعملوا.
وقال أبو هريرة رضي الله عنه: مثل علم لا يعمل به كمثل كنز لا ينفق منه في سبيل الله عز وجل.
يقول سيدنا عيسى عليه السلام في المنسوب إليه: حتى متى تصفون الطريق للمدلجين وأنتم مقيمون مع المتحيرين.
يقول الحسن البصري رحمه الله: واعجباه من ألسنة تصف، وقلوب تعرف، وأعمال تخالف.
ويقول إبراهيم بن أدهم رحمه الله: أعربنا في القول، ولحنا في العمل.
ويقول سهل بن عبد الله التستري: العلم كله دنيا، والآخرة منه العمل به.
ويقول أبو عبد الله الروذباري: العلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص، والإخلاص لله تبارك وتعالى يورث الفهم عن الله تبارك وتعالى.
وقال محمد بن المنكدر رحمه الله: العلم يهتف بالعمل، فإن أجابه حل وإلا ارتحل.
قم بالخير موصوفاً، ولا تقم بالخير وصافاً؛ فإن الواو والراء والدال لا تشم منها رائحة الورد.
يقول الجنيد رحمه الله: متى ما أردت أن تتشرف بالعلم وتنسب إليه قبل أن تؤدي حق هذا العلم عليك احتجب عنك نوره، وبقي عليك رسمه، وظهور هذا العلم عليك لا لك.
يعني: إذا لم تؤد حق العلم من العمل به يبقى لك مسمى العلم، ويذهب عنك نوره وبركته.
يقول مصطفى صادق الرافعي في كتابه القيم وحي القلم: إن الخطأ الأكبر أن تنظم الحياة من حولك وتترك الفوضى في قلبك.
يقول الشاعر: وبخت غيرك بالعمى فأفدته بصراً وأنت محسن لعماك كفتيلة المصباح تحرق نفسها وتضيء للأعشى وأنت كذاك المولى تبارك وتعالى ذم من لا يعمل بعلمه فقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] أي: في الدنيا والآخرة، فلا يزكيهم الله عز وجل، ولا ينظر إليهم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي أمتي قراؤها).
ولقد نعت الله عز وجل من يعلم ولا يعمل بعلمه بأقبح نعتين في القرآن الكريم: فوصفهم بأنهم كالحمير، وأنهم كالكلاب؛ قال الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة:5]، وقال الله تبارك وتعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176].
فهذا أقبح مثل لعالم السوء! ضل حمار العلم في الطين: وهل أفسد الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها(56/5)
العز بن عبد السلام المثل الناصع للعالم العامل بعلمه
والمثل الناصع لمن كمل في علمه وعمله عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك والأمراء، كان شيخ الإسلام في الشام، وإمام المسجد الجامع في مدينة دمشق، ولما أراد الصالح إسماعيل ملك دمشق وسلطانها أن يحارب ابن أخيه السلطان نجم الدين أيوب حاكم مصر استعان بالفرنجة وأقطعهم بعض بلاد المسلمين، وأعطى لهم حصوناً من الحصون التي في بلاد المسلمين، فاستفتى تجار السلاح عز الدين بن عبد السلام في حكم بيع السلاح، فقال: يحرم عليكم بيع السلاح لهم؛ لأنهم سيقتلون به إخوانكم من المصريين.
ثم لما كان يوم الجمعة قطع الدعاء للحاكم وقال: اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
فعزلوه عن الخطابة؛ فرحل عز الدين من دمشق إلى بيت المقدس، فلما أتت جيوش الفرنجة خاف الصالح إسماعيل على ملكه فقال لوزيره: خذ منديلي هذا وتلطف في خطاب عز الدين بن عبد السلام ليعود إلى منبره، بشرط أن يقبل يدي على ملأ من الناس، لا أريد منه سوى ذلك، فإن لم يستجب لك فاحبسه في خيمة بجوار خيمتي.
فرحل إليه الوزير له وقال: إن الملك لا يريد منك إلا أن تقبل يده على الملأ.
فماذا قال عز الدين؟ قال كلمات خالدة تبقى ترن في آذان الصادقين مشاعل من نور تبث الحياة في الآخرين؛ لأنها خرجت من قلب حي لتبعث الحياة في الآخرين؛ فقال: يا سبحان الله! أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ غيره، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، والله ما أقبل من سلطانكم أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل أنا يده، أيها الناس! أنتم في وادٍ وأنا في وادٍ غيره.
فحبسوه إلى جوار خيمة الصالح إسماعيل، وارتفع صوت الشيخ بتهجده في الليل، فأراد ملك دمشق أن يتزلف نفاقاً ورياء إلى ملك أوروبا الأعظم، فقال: أتسمع صوت هذا الشيخ في تلاوته للقرآن؟ قال: نعم، قال: أتدري من هذا؟ قال: لا، فكما جاء في رواية طبقات الشافعية الكبرى لـ ابن السبكي أنه قال: هذا أكبر قسس المسلمين حبسناه من أجلكم؛ لأنه أفتى بحرمة بيع السلاح لكم، فقال هذا الملك: لو كان هذا الشيخ قسيسنا لغسلنا رجليه ولشربنا الماء.(56/6)
موقف العز بن عبد السلام من أمراء مصر المماليك
عز الدين بن عبد السلام سلطان العلماء وبائع الملوك والأمراء، لما أراد بعد ذلك أن يدخل إلى مصر قربه نجم الدين أيوب وجعله مفتياً للديار المصرية، وكان الشيخ يعلم أن المماليك وأهل الحكم في مصر غير السلطان نجم الدين أيوب من العبيد المماليك، فلا يحل لهم عقود البيع والشراء ولا السفر ولا الترحال إلا بإذن من سادتهم، وكان للملك هيبة ووحشة حتى عند المقربين منه، فلما قابله عز الدين بن عبد السلام قال له: يا نجم الدين! -وناداه باسمه- إن الحي الفلاني فيه الخمر الفلاني! فارتعد لكلمته نجم الدين أيوب وقال: هذا من زمن آبائي، قال: أنت ممن يقول الله فيهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف:22].
ثم قال بعد ذلك تلميذ عز الدين بن عبد السلام له: كيف واجهته وهو من هو؟ قال: تذكرت هيبة الله عز وجل فصار السلطان أمامي كالقط.
ثم بعد ذلك أرسل عز الدين بن عبد السلام إلى نجم الدين أيوب بعزمه على بيع المماليك من نظراء الدولة ومن نوابه، فقال: خض في غير هذا! فارتحل عز الدين بن عبد السلام عن القاهرة تاركاً وراءه كل شيء، أخذ متاعه على حمار وارتحل، فسار الناس خلف شيخهم وتركوا القاهرة لـ نجم الدين أيوب حتى قال وزيره: إن مضى هذا الرجل من القاهرة مضى عنك ملكك؛ لأن الناس سيخرجون وراءه، ما من رجل عاقل إلا سيخرج خلفه، فسيتركون لك القاهرة فتصبح ملكاً على المقابر.
فسار إليه وظل يتلطف له في القول ويسترضيه وقال: عد وأفت بما شئت، فقال: لأفتين ببيعهم غداً، فقال نائب السلطان للأمراء: أنا أريحكم من عز الدين بن عبد السلام وأقتله؛ كيف يبيعنا ونحن سادة البلد؟ فأمسك بسيفه ثم سار إلى بيت عز الدين بن عبد السلام، فأراد ابن عز الدين ألا يفتح له خوفاً على أبيه، فقال: اجلس يا بني! فإن أباك أقل من أن يرزقه الله الشهادة في سبيله.
ولما فتح الباب ارتعدت فرائص نائب السلطنة ويبست يده، وسقط السيف منها فقال: بالله عليك يا مولانا ماذا تعمل فينا؟ قال: أبيعكم غداً! قال: ومن يقبض ثمننا؟ قال: أنا، وأضعها في خزانة بيت مال المسلمين.
ولأول مرة -وهي المرة الوحيدة الفريدة في التاريخ- يباع أمراء المملكة على مرأى من الناس، يبيعهم سلطان العلماء، وبائع الملوك والأمراء!(56/7)
قوله تعالى: (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى)(56/8)
الإعجاز اللفظي للقرآن
قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3].
انظر إلى دقة اللفظ وإعجازه! {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:2 - 3]، ولم يقل الله عز وجل: وما ينطق بالهوى، وإنما قال: عن الهوى.
وهذا أعجب وأجمل وأثبت في المعنى؛ لأن هذا يفيد صدق المصدر الذي أخذ منه الكلام، وصدق النص، فقد يصدقك الكذوب أحياناً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لسيدنا أبي هريرة: (صدقك وهو كذوب).
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم:3] ففيه صدق مصدر التلقي، وصدق النطق ذاته.
{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ} [النجم:3 - 4] الضمير هنا يعود على نطق الوحي، أي: إن نطقه كله إلا وحي يوحى، وهذا أثبت في المعنى وأجمل، ومعناه أن كل ما يتكلم به وحي، ومصداق ذلك حديث النبي صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود وصححه الألباني، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، وقال تعالى: {وَأَنزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [النساء:113] قال الشافعي: الحكمة هي السنة، وقال الأوزاعي: روي عن حسان بن عطية: كان جبريل عليه السلام يدارس النبي صلى الله عليه وسلم السنة مثلما كان يدارسه القرآن.(56/9)
الرد على قصة الغرانيق وبيان عصمة الأنبياء
قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:4] فالسنة وحي، والقرآن وحي، لنرد بعد ذلك على قصة الغرانيق التي ستأتي عند قول الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، حتى لا يتبجح الزنديق سلمان رشدي في آياته الشيطانية ويقول: إن هناك سهوات محمدية مثل ما يقول المشركون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يسهو ويمدح الآلهة والأصنام يريدون بذلك أن يبطلوا الرسالة.
إذا مدح النبي صلى الله عليه وسلم يوماً الأصنام وهو ما أتى إلا لهدمها فقد بطلت رسالته من الأصل، ويستدلون على ذلك بحديث موضوع قال عنه إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة: هذا من وضع الزنادقة، وهو حديث الغرانيق العلى، وذهب إلى أنه موضوع أيضاً الإمام البيهقي، والقاضي أبو بكر بن العربي، والقاضي عياض في كتابه الشفا، والإمام العيني، والإمام الكرماني أحد شراح البخاري، والإمام الشوكاني، والإمام الألوسي، وصديق حسن خان، والشيخ سيد قطب، والإمام محمد عبده، وشيخ أهل الشام محدث الديار الشامية الشيخ الألباني عليه رحمة الله في كتابه الطيب: نصب المجانيق لنسف قصة الغرانيق.
اعلم يا أخي! أن مذهب السلف هو عصمة النبي صلى الله عليه وسلم في كل ما يختص بالوحي، العصمة عند التلقي والتحمل، والعصمة عند الأداء كما يقولون، يعني: حين ينزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم فإن النبي صلى الله عليه وسلم لا يشك في أنه جبريل أو غيره، وإنما يعطيه الله عز وجل ويجعل له العلم اليقين في قلبه أن هذا هو جبريل، وأن النازل به وحي من عند الله، فلو شك النبي صلى الله عليه وسلم هل هذا جبريل أو لا لبطلت الرسالة من الأصل.
فعندما يسمع النبي صلى الله عليه وسلم جبريل لا يشك فيه، ولا يزيد فيه ولا ينقص منه: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى * إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى:6 - 7]، وحينما يبلغ الوحي إلى البشر فإنه لا يجوز له أن يشك أو أن يسهو أو أن يزيد في الوحي أو أن ينقص منه شيئاً، حتى يستقر العلم بالوحي في الأرض، وإذا استقر العلم بعد ذلك فيجوز له أن ينسى أو أن يسهو، مثلما حدث في الصلاة ونبهه الصحابة.
أما عصمة الأنبياء من الذنوب فهم معصومون من الكفر ومن قول الباطل والكبائر، والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكفر قبل الرسالة، أما قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] فمعناه: ووجدك غافلاً عن أحكام الشريعة.
فما كان النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه قط، قال الإمام أحمد: من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم كان على دين قومه هذا قول سوء، يعزر صاحبه.
والأنبياء معصومون من الكبائر بعد الرسالة، أما قول موسى: {فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ} [الشعراء:20]، فإن هذا قبل الرسالة.
أما صغار الذنوب فتجوز على الأنبياء، وهذا مذهب السلف، ولا يعرف لهم مذهب غيره كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، ولكنهم إذا فعلوا صغار الذنوب تابوا منها في الحال، وأقلعوا عنها، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة، ولذا قال تعالى: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:2 - 4].(56/10)
معنى قوله تعالى: (علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى)(56/11)
عداوة اليهود لجبريل وللمسلمين
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: قال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5 - 6].
هذا معلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كما يقول اليهود الكذابون الدجالون: إن الذي كان يعلم محمداً هو عبد الله بن سلام حبر اليهود الذي أسلم بعد ذلك عدو جبريل من الملائكة كما قالت يهود، واليهود يبغضون كل شيء طيب وجميل، وكبرى جرائمهم قتلهم للنبي صلى الله عليه وسلم.
فصارت الحرب بيننا وبينهم دينية بحتة، روى الإمام أحمد في مسنده عن عبد الله بن مسعود أنه قال: (لأن أحلف بالله تسعاً أحب إلي من أن أحلف مرة واحدة أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل قتلاً، وجعله الله نبياً، واتخذه شهيداً).
يقول أبو الأحوص فسألت إبراهيم النخعي فقال: كانوا يقولون -أي: الصحابة-: إن يهود سممت النبي وأبا بكر.
قال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح على شرط مسلم، ورواه الحاكم في المستدرك.
وزينب بنت الحارث هي التي سمته بعد غزوة خيبر، ومات النبي صلى الله عليه وسلم من أثر السم، حيث كان يعاوده أثر السم فيحتجم، حتى مات النبي صلى الله عليه وسلم متأثراً بالسم.
وكذلك سموا من بعده الصديق أبا بكر، وعبد الله بن سبأ اليهودي كان وراء قتل عثمان، وصاحب الفتنة الكبرى، حيث أله علياً وأسس المذهب الشيعي في ديار المسلمين وأتت كل البدع عن طريق الدولة الفاطمية التي أنشأها عبيد الله بن ميمون القداح اليهودي المنتسب إلى بيت النبوة زوراً.
وأسقطوا دولة الخلافة في تركيا على يد اليهودي مصطفى كمال أتاتورك من يهود الدونمة، ثم بعد ذلك أخذوا فلسطين.
{عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5] هو جبريل عليه السلام، و (القوى) هنا لازمة لصيانة الوحي عن أن يتخطفه الشياطين عند نزول جبريل به، قال الله عز وجل: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ} [الشعراء:210 - 211]، لقوة جبريل {إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [الشعراء:212].
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في وصف جبريل بهيئته التي خلقه الله بها وقد رآه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك مرتين: (رأيت جبريل له ستمائة جناح، ينتثر من ريشه تهاويل الدر، كل جناح سد علي الأفق).
قال الله تبارك وتعالى مبيناً قوة جبريل: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر:37] يعني: طمس جبريل أعينهم بطرف جناحه فقط بعد أن رفع القرى اللوطية الخمس حتى أسمع الملائكة صوت نباح الكلاب وصوت الديكة، وهو الذي صاح صيحة واحدة على ثمود، {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس:29]، صيحة واحدة فقط!(56/12)
قوله تعالى: (ذو مرة فاستوى)
قال تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ} [النجم:5 - 6]، أي: ذو قوة.
والقول الثاني: أي: ذو منظر حسن وجميل، ينتثر من ريشه تهاويل الدر، يحمل الجمال والنور وينزل به في الصحف المكرمة.
فلابد أن يكون في منظر جميل، وانظر إلى جمال نزوله، حيث يقول: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم:1]، يعني: والقرآن إذا نزل، فجبريل عليه السلام في تلألئه وفي النور الذي يحمله مثل النجم إذا لمع ورق، أجواء شفافة مضيئة يحملك إليها القرآن بعيداً عن الأرض: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5 - 6] أما من يحمل الصحف السوداء والكذب والدجل فتجده يحمل وبيصاً منها وشيئاً منها وكفلاً منها.
وإذا رأى الشيطان طلعة وجهه حيا وقال فديت من لا يفلح لست كذاباً فما كان أبي حزباً ولا أمي إذاعة أما الصحف النقية الكريمة، {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ} [عبس:14 - 15]، {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ} [النجم:5 - 6] يعني: ذو منظر جميل، والله تبارك وتعالى يصف سيدنا جبريل في سورة التكوير فيقول: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:20 - 21]، هو المقرب من الملائكة إلى ربه، له مكانة وأي مكانة عند الله عز وجل، فهو: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير:20].
لا تبغين جاهاً وجاهك ساقط عند الإله وكن للموت حذارا قال تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ} [التكوير:20 - 21] له الطاعة العظمى في ملكوت السموات، يصدر الأمر إلى الملائكة فيستجيبون له {ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21].
وعندما تسمع صفة جبريل انظر إلى ملكوت السموات وكم فيها من ملك؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أطت السماء وحق لها أن تئط، ما فيها موضع أربعة أصابع إلا وملك ساجد واضع جبهته لله تبارك وتعالى).
وأعداد الملائكة على التضعيف، يعني: كل سماء ضعف التي قبلها، فعدد الملائكة الذين يدخلون البيت العتيق سبعون ألف ملك يدخلونه ثم لا يعودون أبداً، وهذا منذ أن خلق الله تبارك وتعالى السموات، وكل هؤلاء يؤدون لجبريل الطاعة المطلقة فهو: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير:21]، أي أمين يحمل أنفس شيء، وأعظم شيء، وأجمل شيء، ولا يبخل به، مع أنه نزيه لا يكتم شيئاً منه، فليس بمتهم على الوحي، كما قال الله تبارك وتعالى عن الرسول البشري سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] والغيب هنا هو القرآن بإجماع علماء التفسير.
فقوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24] يعني: لا يبخل بشيء من الوحي مع نفاسته ولا يكتم شيئاً منه، وهذا كمال الكرم.
القول الثاني على القراءة السبعية الثانية: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بظَنِينٍ} [التكوير:24] بالظاء يعني: ليس بمتهم، فهو أمين.
فهو سبحانه يثبت الأمانة لسيدنا جبريل ويثبتها للنبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير:24]، {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:5 - 6] كلمة (استوى) معناها: علا وارتفع، ولكن استوى قد تضيف لها حرف جر فتحمل نفس المعنى، أي فتكون بمعنى العلو والارتفاع، وتحمل معه معنى آخر، وهذا من جمال اللغة العربية: وسعت كتاب الله لفظاً وغاية وما ضقت عن آي به وعظات فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سألوا الغواص عن صدفاتي وكلمة (شرب) نعلم من معناها جميعاً أنه إنسان يشرب، ولكنه قد يشرب ولا يرتوي، فإذا وضعنا حرف الجر بعدها أفادت معنى آخر للشرب: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] لم يقل: يشربها عباد الله وإنما قال: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان:6] يعني: يرتوي منها عباد الله.
قال تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [البقرة:29] قال ابن كثير: ثم صعد، وقال ابن جرير: ثم قصد، فصار معناها العلو والارتفاع، ومعناها القصد، أي القصد تجاه الشيء.
فيكون معنى استوى: العلو والارتفاع أي: ارتفع جبريل في الأفق الأعلى: {وَهُوَ بِالأُفُقِ الأَعْلَى} [النجم:7].(56/13)
قوله تعالى: (ثم دنا فتدلى ما أوحى)
قال تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم:8].
من الذي دنا فتدلى؟ ليس معناه: أنه زاد فيه ونقص، وقدم وأخر، ووقع في الوهم، كما قال الحافظ ابن حجر، وحمل عليه العلماء الحديث الوارد في البخاري ومسلم.
وإنما الذي دنا فتدلى هو جبريل، دنا فتدلى من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرب.
قال تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم:9].
قاب: قدر قوسين: القوس معروفة.
أو أدنى: (أو) هنا لا تحتمل الشك، وإنما لتقدير المسافة، مثلما قال الله عز وجل: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات:147]، يعني: ما كانوا مائة ألف، بل يزيدون على ذلك فـ (أو) لا تحمل معنى الشك، ومثلها: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74] إن لم تكن فيها قسوة الحجارة فهي أشد منها.
قال تعالى: {فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:10].
أي: أوحى الله لعبده جبريل ما أوحى، أو أوحى جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما أوحاه الله إليه.
قال تعالى: {مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وفي القراءة السبعية الثانية: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11] يعني: ما كذب الفؤاد ما رآه البصر، بل صار مشهد البصر والبصيرة واحداً.
اللهم يا معلم إبراهيم علمنا، يا معلم إبراهيم علمنا، يا مفهم سليمان فهمنا، اللهم ارزقنا من علمك ربي، اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا.(56/14)
الكلام على رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا
هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ هذا أمر فيه خلاف بين أهل السنة والجماعة.
قال العلماء: إن رؤية الله تبارك تعالى يقظة لا تجوز في دار الدنيا لا تجوز للمؤمنين، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (واعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت).
وبعض الناس يجوزون رؤية الله عياناً في دار الدنيا، وهؤلاء هم الصوفية، بل يجوزون رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يرى يقظة في دار الدنيا، وهذا قال به طائفة من علماء الصوفية، ويقول به الشيوخ المنتسبين إلى الحركة الإسلامية في باكستان فهم يقولون بجواز رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنع كشف الحسابات الخاصة بدار العلوم عندهم وهذا كلام لا يقول به سليم العقل! أما بالنسبة لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه فالعلماء فيها على ثلاثة أقوال: منهم من توقف فلم يثبت الرؤيا ولم ينفها كالإمام القرطبي.
ومنهم من أثبت الرؤيا، وهم: سيدنا عبد الله بن عباس، والحسن البصري، وعكرمة، وعروة بن الزبير، وابن شهاب الزهري، وإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة، وأكثر الأشاعرة، وانتصر لذلك الإمام ابن حجر العسقلاني في كتابه (الغنية في مسألة الرؤية).
وكان ابن عباس يقول: إن الله اختص محمداً بالرؤية مثلما اختص موسى بالكلام، واختص إبراهيم بالخلة.
والخلة ثابتة والتكليم ثابت للنبي صلى الله عليه وسلم.
وكان الحسن البصري يحلف بالله أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه.
أما من نفاها فهم أكثر أهل السنة وجمهور الصحابة كـ عائشة رضي الله عنها وأنس، وأبي ذر رضي الله عنه، وجمهور علماء السنة من بعدهم.
وابن عباس له روايتان: رواية مطلقة بأن النبي رأى ربه، ورواية مقيدة أنه رأى ربه بفؤاده، أي: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه يعني: الرؤيا المنامية.
أما الذين نفوا الرؤية وهو القول الأصح فمنهم السيدة عائشة فلما قال لها مسروق بن عبد الله الأجدع: إن كعب الأحبار يقول إن محمداً رأى ربه، قالت: لقد قف شعري مما تقول، من قال لكم أن محمداً قد رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله عز وجل.
وإن أبا ذر رضي الله عنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ فقال: نور أنى أراه؟) و (نور) هنا فسرها العلماء أنه حجاب النور الذي حال بينه وبين رؤيته.
وأصح الأقوال ما قال الإمام ابن كثير، والإمام البيهقي: أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ثابتة مناماً بالقلب، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا) وكل ما يأتيه في المنام يكون وحياً.
ولذلك كان من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم -كما يقول ابن عباس -: أنه ربما نام حتى يسمع غطيطه ثم قام فصلى ولم يتوضأ، فلا يأتي أحد يقول لك: نحن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم فنقوم من النوم ونصلي مباشرة، لأن ذلك من خواص النبي صلى الله عليه وسلم.
وربما كان يأتيه الوحي مناماً.
أما حديث اختصام الملأ الأعلى، الذي قال عنه الإمام الترمذي: سألت عنه محمد بن إسماعيل البخاري فقال حديث حسن صحيح، وصححه الشيخ الألباني، وشرحه الإمام ابن رجب الحنبلي في كتاب (اختيار الألى شرح حديث اختصام الملأ الأعلى) فهو قوله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة).(56/15)
وقفات مع سورة النجم [2]
يذكر الله عز وجل في هذه الآيات شرف رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ومنزلته ومكانته العلية، ثم يدعو أولئك المشركين الذين عبدوا الأصنام وسموها بأسماء مشتقة من أسماء الله عز وجل، وجعلوا لها صفات الألوهية أن يفيقوا من نومهم وغفلتهم، ويحذروا من اتباع الظنون والأهواء، ومن عبادة أشياء ما أنزل الله بها من سلطان.(57/1)
قوله تعالى: (أفتمارونه على ما يرى)
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
ثم أما بعد: فقد وصلنا إلى قول الله عز وجل: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:11]، وفي القراءة السبعية أيضاً: (ما كذّب الفؤاد ما رأى) يعني: ما كذب الفؤاد ما رآه البصر، فصار مشهد البصر والبصيرة واحداً.
وذكرنا مذهب أهل السنة والجماعة في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه يقظة أو عياناً، واختلاف أهل العلم في ذلك، والرأي الراجح: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه إلا مناماً، لكن هذه قضية اختلف فيها علماء الأمة؛ فلا يسفه أحد رأي الآخر، يعني: تجد من جملة من يثبتون الرؤية ابن عباس على قول، وعكرمة مولى ابن عباس والحسن البصري وعروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة، وابن شهاب الزهري، والإمام المحدث الحافظ ابن حجر العسقلاني، وإمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة وعليه أكثر الأشاعرة.
والذين ينفون الرؤية: السيدة عائشة رضي الله عنها وأبو ذر وأنس وجمهور الصحابة، وهو الرأي الذي يميل إليه الإنسان ويرتاح إليه، وهو قول الإمام البيهقي، والإمام ابن كثير، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام ابن القيم.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم:12] والقراءة الأخرى: (أفتمْرونه على ما يرى) وهذه قرأ بها حمزة والكسائي وخلف ويعقوب، وهي قراءة سبعية صحيحة.
(أفتمارونه) بإثبات الألف يعني: أفتجادلونه، والقراءة السبعية الثانية أفادها التفسير؛ لأن الجدال قد يكون من أجل التبين، وقد يكون الدافع إليه الجحود فقط، فالقراءة الثانية: (أفتمرونه) يعني: أفتجحدونه، فهي أفادت معنى آخر، إذاً: هذا الجدال ليس جدال تبيين حقائق، وإنما جدال من أجل الجحد ودفع هذه الحقيقة.(57/2)
قوله تعالى: (ولقد رآه نزلة المنتهى)
قال تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم:13].
(نزلة) يعني: مرة، أي: ولقد رآه مرة أخرى، يقول ابن الجوزي: رأى محمد ربه، وقال ابن مسعود: إن هذه الرؤية لجبريل، رآه على صورته التي خلقه الله تبارك وتعالى عليها، ولقد رآه مرة أخرى في صورته الطبيعية التي خلقه الله عليها، وذلك عند بدء الوحي، والمرة الثانية عند سدرة المنتهى.
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم:13 - 14] السدر: هو شجر النبق، وهذه شجرة في السماء السابعة كما في حديث مالك بن صعصعة الموجود في الصحيحين، وفي أفراد مسلم: أن هذه الشجرة موجودة في السماء السادسة، ولا خلاف بين القولين، كما قال الحافظ ابن حجر، قال: ولا يعارض قوله أنها في السماء السادسة ما دلت عليه بقية الأخبار، أنه وصل إليها بعدما دخل السماء السابعة؛ لأن ذلك يحمل على أن أصلها في السماء السادسة، وتمتد فروعها حتى تصل إلى السماء السابعة.
قوله: (سدرة المنتهى) سميت بذلك لأنه ينتهي إليها ما صعد من الأرض، وينتهي إليها أمر الله عز وجل الذي تأخذه الملائكة بعد ذلك، وهذه الشجرة العظيمة تصل ما بين السماء السادسة إلى السماء السابعة، يعني: حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام، وما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام) إنك إن ذهبت إلى أمام جامعة القاهرة أو إلى مكان آخر تقول: يا إلهي! هذه الأشجار من متى وهي موجودة؟ ارتفاعها قدر كيلو، فما ظنك بهذه الشجرة؟ بل وشجرة أخرى موجودة في الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى، يسير الراكب ذو الجواد المضمر -يعني: الجواد السريع- في ظلها مائة عام، ولا ينتهي ظلها)، نفس الظل مسيرة مائة عام بالجواد السريع، هذا خلق الله عز وجل: من أنت يا أرسطو ومن أفراخ قبلك يا مبلد ومن ابن سينا حين قرر ما هديت له وأرشد هل أنتم إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد فالإنسان لا يتصور أبداً، ولا يجول بخاطر ولا يستطيع أن يكيف هذا المخلوق الذي هو سدرة المنتهى، وما عند الله عز وجل أعظم وأجل.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم:15] أي: عند هذه الشجرة جنة المأوى، وجنة المأوى قال ابن عباس: هي الجنة التي يأوي إليها جبريل والملائكة.
وقال الحسن: هي الجنة التي يصير إليها أهل الجنة، يعني: المأوى هنا علم على الجنة، فالجنة كما قال تبارك وتعالى: {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41] فالمأوى: مسمى للجنة كما قال الإمام ابن القيم.(57/3)
قوله تعالى: (إذ يغشى السدرة ما يغشى)
ثم قال الله تبارك وتعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16] النبي صلى الله عليه وسلم قال عن هذه الشجرة: (نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة).
وأنت عندما تنظر إلى شجرة طوبى تجد أنها عجيبة! يعني: جميع ثياب أهل الجنة تخرج من شجرة طوبى، انس الأرض قليلاً وأطلق لروحك العنان في ذلك الأفق الوضيء، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من شجرة في الجنة إلا وساقها من خالص الذهب) أي شجرة أو أي نخلة في الجنة من الذهب الخالص، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس من الدنيا في الآخرة إلا الأسماء)، يعني: يقول لك: هذا ذهب، ولكنه يخالف ذهب الدنيا، وهذا اشتراك في المسمى فقط.
إذاً: الشجرة من ذهب تغرس في أرض من مسك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرض الجنة مسك خالص، وتربتها الزعفران).
وقال ابن عباس: من مرمرة بيضاء من فضة كأنها المرآة، فضة الجنة ليست كفضة الدنيا، فضة الدنيا مصمتة لا تستطيع أن تنظر ما بداخلها، ولكن فضة الجنة ترى ما تحتها من أنهار، شجرة طوبى تسقى بخمر ولبن وعسل وماء غير آسن: خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباتي وأبوس مقبض بابه خذني إلى وطنٍ أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه نحن اعتصرنا غيم كل خرائط الدنيا وأشعار الحنين إلى الوطن لا ماؤها يروي ولا أشعارها تكوي ولا تنسي عدن إن من النعيم في الجنة أن تمر السحابة من المسك فتقول لأهل الجنة: (ماذا أمطركم)؟ يقول يحيى بن أبي كثير: أشهد الله أن لو أراني هذا الموقف لأمرتها أن تمطر علينا حوراً مزينات! وليس مطراً فقط، ففي الصحيح الموقوف على عبد الله بن عباس: أنه يخرج أهل الجنة إلى شواطئ أنهار الجنة، ويخرج الحور العين، فإذا أعجب الرجل منهن واحدة لمسها بمعصمه فتتبعه، فتنبت مكانها من النهر جارية أخرى.
إذاً: فيقول: وتمر السحابة من المسك فتحرك أغصان الأشجار، فيسمع لهذه الأشجار حثيث، فلا تدري أيهن أشد حسناً؛ صوت حثيث الأشجار أم صوت غناء الحور الحسان تحتها: قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان لا النغمات والأوزان يا حسن ذيّاك السماع وطيبه من مثل أقمار على أغصان يا حسن ذيّاك السماع فإنه ملئت به الآذان بالإحسان والشمس تجري في محاسن وجهها كالبدر ليل الست بعد ثمان يعني: ليلة أربعة عشر.
فيظل يعجب وهو خالق ذاك من ليل وشمس كيف يجتمعان فهذه هي الجنة، وهذا ما عند الله عز وجل في ملكوته.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16].
روى مسلم في أفراده من حديث عبد الله بن مسعود: قال: غشيها فراش من ذهب.
منظر جميل عندما تنظر إلى فراشات تغطي أوراق الأشجار، منظر يبعث الشاعر على أن يتكلم، فكيف إذا كان هذا الفراش من ذهب خالص؟! هذا قول سيدنا عبد الله بن مسعود.
وفي حديث مالك بن صعصعة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت)، أي: لما نزل عليها من أوامر الله ما نزل تغيرت تلك الشجرة (فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها).
تعجز الخلائق بعد نزول أمر الله عز وجل على هذه الشجرة أن تصفها من شدة حسنها، فما ظنك بجمال الخالق! قال ابن القيم: فيا مسرعين السير بالله ربكم قفوا بي على تلك الربوع وسلموا وقولوا محب قاده الشوق نحوكم قضى عمره فيكم تعيشوا وتسلموا أحبتنا عطفاً علينا فإننا بنا ظمأ والمورد العذب أنتم وحبكم أصل الهدى ومداره عليه وفوز للمحب ومغنم وتفنى عظام الصب بعد مماته وأشواقه وقف عليه محرم فحي على جنات عدن فإنها منازلنا الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وحي على روضاتها ورياضها وحي على عيش بها لا يسأم فلله أبصار ترى الله جهرة فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم(57/4)
تفسير قوله تعالى: (ما زاغ البصر وما طغى)
قال تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17].
زيغان البصر: الالتفات يميناً ويساراً عن محدثه، وطغيان البصر: أن يرتفع وينظر فوق محدثه.
شخص يكلمك فمن الأدب أن تجعل نظرك إلى ناظريه، وألا تلتفت يميناً ولا يساراً عنه، وألا تنظر فوقه.
يأتي شخص أول مرة يدخل مثلاً مصر الجديدة، ويأتي إلى العمارات الشاهقة وغيرها من الأماكن فيقف متعجباً، ينظر ويقول: أشياء ليست موجودة في بلدنا، ويحدق ناظريه إلى أعلى وإلى أسفل، فما ظنك بمن اختلق السماوات السبع، وقد أدب الله عز وجل بصره، فلم يلتفت إلى غير محدثه صلى الله عليه وسلم.
ولذلك تجد العلماء الذين يكتبون في الرقائق عندما يتكلمون عن الأدب يتكلمون عن أدب النبي صلى الله عليه وسلم، فيقولون: قال ابن القيم: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] وهذا كناية عن أدب النبي صلى الله عليه وسلم (ما كذّب الفؤاد ما رأى) ما كذّب الفؤاد ما رآه البصر.
والدين كله أدب، فمن زاد عليك في الأدب فقد زاد دينك، قال عبد الله بن المبارك: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم، وقال: طلبنا الأدب حينما فاتنا المؤدبون.
وقال بعض أهل العلم: من أساء الأدب على الباب رُد إلى سياسة الدواب.
الذي لا يعرف أن يجالس الملوك، يقال له: اذهب إسطبل الخيول والحمير، فهذا أولى به.
وقالوا: من ترك الأدب عوقب بحرمان السنن، والله تبارك وتعالى صدر هذه السورة بعد القسم بقوله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم:17] يدل على كمال العلم والعمل.
وليس هناك انحراف في العلم ولا في العمل، فبعض الناس يتصورون أن السلفية أنك تحشو نفسك بالعلم وانتهى الأمر، وهذا فهم خاطئ، فحين يتصور كل إنسان منا أنه سيكون الألباني أو ابن باز فهذا دمار للدعوة السلفية، أو أن كل الناس سيكونون محدثين، فهذا دمار للدعوة السلفية؛ لأنه تختلف الإمكانيات والمدارس ومدارك الناس، فهذا رجل قدرته خطبة الجمعة، ويجيد فيها، وهذا آخر قدرته درس علمي بحت، يربي الأجيال والكوادر، لا يستطيع أن يربيها من يخطب الجمعة، وهناك شخص آخر عنده من الورع فوق هؤلاء، فالدعوة السلفية إذن تستوعب مثلاً التاجر، والفاكهاني، وصاحب عصير القصب.
قد يكون هناك شخص أصبح علم الطب فرض عين عليه، فهل أقول له: اطلب العلوم الشرعية وأهمل الطب؟ والشريعة تضمن الطبيب الجاهل، فإذا قتل رجلاً فإنه يدفع الدية لأهله.
اليهود الآن عندهم القنبلة النووية، وإمكانيات المسلمين متواضعة؛ بسبب الفهم السيئ، لماذا لا يوجد عندك كوادر في كل مجال علمي؟! يعني: هب أن الناس قالوا: يا أصحاب اللحى! تعالوا أقيموا دولة الإسلام، فلابد أن توجد عندك كوادر تقيم بها هذه الدولة، لنتكلم بصراحة، هل عندك كوادر تقيم بها الدولة أم عندك كوادر علمية؟ إعداد في مجرد دعاوى، والدعاوى يحتج لها ولا يحتج بها، أنت هل عندك كوادر علمية تمسك القضاء الشرعي؟ كم عندك من الأشخاص أكملوا فقه السنة؟ ولا يمكن أن تمثل قاضياً شرعياً يقضي بين الناس في الدماء والحقوق وتقول: أخذت فقه السنة فقط! لا يمكن.
لابد أن تكون على الأقل مجتهداً في المذهب فتكون قاضياً له حق الاجتهاد، فما الذي عندك أنت؟ ممكن تجد ألف خطيب جمعة، ولكن القاضي الشرعي لا تجده، لا يوجد عندك هذه الكوادر، إذاً: لا في العير ولا في النفير، إنما هي دعاوى فقط! فنقول: اتقوا الله تبارك وتعالى، إن دولة الخلافة التي أسقطت واحتاجت إلى سنوات طويلة لإسقاطها، تحتاج كذلك إلى عشرات السنين لقيامها.
وكما قال العلامة ابن القيم: يأبى عدل الله -وهذا في عصر الإمام ابن القيم - أن يولي علينا أمثال معاوية رضي الله عنه، فضلاً عن أبي بكر وعمر، فإن ولاتنا على قدرنا، وولاة السلف على قدرهم، وكأن أعمالنا ظهرت في جنس عمالنا، الحركات الإسلامية تجد مثلاً شخصاً في الجامعة، يقول لك: نحن أخذنا مسجد الجامعة! طيب: يا أخي! هذا تبع الأوقاف، لا تبعي ولا تبعك، أعطني فرصة لأتكلم فيه، أنت وريث المسجد لأبيك؟ أما إذا قامت هذه الدولة فماذا سنعمل فيما بيننا؟ فالاهتمام بالعلم فقط لا يكفي، نعم، اهتم بالعلم، ومع العلم العمل بهذا العلم؛ والورع أن تنشئ جيلاً ربانياً ورعاً، متهجداً بكاءً، يرفع يده إلى السماء فيستجيب الله عز وجل له.
كان سيدنا محمد بن واسع زين القراء، فلما اصطف الناس لفتح كابول عاصمة أفغانستان الآن، قال قائد الجيش: أين محمد بن واسع؟ قالوا: هو في أقصى الميمنة رافعاً إصبعه إلى السماء، قال: أبشروا فقد جاء النصر، هذه الأصبع أحب إلي من ألف سيف شهير وشاب طرير، ففتحت بدعوة محمد بن واسع وضيعتها اللحى في عصرنا هذا! بعدما طرد الروس أحمد شاه مسعود ذهب إلى أمريكا وبريطانيا وفرنسا من أجل أن يعطوه قوات ويمدوه بالسلاح، من أجل أن يقوي نظام المعارضة في أفغانستان، حتى قال الناس وقتها: لو أنكم أمسكتم الدولة ستكونون مثل الأفغان، وأنت معك لحية مثل لحية سياف أو شاه مسعود أو كذا، فهذا قول العوام، والعوام معذورون.
فأنا أقول لك: لابد من الورع إلى جانب العلم، ومن تفويض الأمر لله تبارك وتعالى.
كذلك من ضمن المسائل التي أتت على الدعوة ما حصل بين الشيخ ربيع بن هادي المدخلي والشيخ سلمان العودة وسفر وغيرهما، هذه المسائل لو وجد الصدق مع الله تبارك وتعالى لحلت في جلسة واحدة، في وجود مثلاً الشيخ ابن باز، فلو وجد تجرد لله عز وجل لحلت، لكن أن يصل الأمر في مصر إلى أن يأتي شاب عمره سبع عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة فيقف ويقول للشيخ محمد بن إسماعيل المقدم أنت ما هو اتجاهك؟ فيقول له: عندك كلامي في التوحيد قبل أن تخلق، أيام ما كنت في بطن أمك؟! وفي أمريكا كنت أعطيهم درسهم الأسبوعي عن طريق الهاتف، فيسألني أحدهم عن الخلافات التي عندنا؟ فقلت له: اترك الخلافات التي عندنا، وحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرها من الأنفس عليها حسيب غيرك.
كذلك في الجزائر لا تدخل إلا أشرطة جماعة معينة، والجماعة الأخرى أشرطتها ممنوعة حتى أشرطة اللجنة العامة للدعوة والإرشاد في السعودية لا تدخل؛ لعدم التجرد لله تبارك وتعالى، وعدم وجود الورع، فهم أناس عندهم علم وليس عندهم تقوى.
كم من الذين يتعلمون يصلون الفجر؟! كم من المبرزين في العلم يصلون الفجر؟ الأمر يحتاج إلى علم وعمل، واهتمام بالقلب حتى لا يقسو، وإذا كان عندك من العلم أطنان فإنها لا تنفع، فهذا العلم عليك لا لك، وهذا العلم يعطيك رسم العلم وظهوره، ويخفي عنك بركته ونوره.(57/5)
تفسير قوله تعالى: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى)
قال تعالى: {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:18].
هذا الأدب لا تستفيده من كتاب، وإنما يستفاد بمجالسة أهل العلم والورع، إن شيخك من حدثك بلحظه لا من حدثك بلفظه، وأقسم بالله -وأنا غير حانث- أنك لو مكثت مثلاً شهراً كاملاً مع الكتب لم تنفعك مثل جلوسك بين يدي الشيخ محمد بن إسماعيل في بيته جلسة عادية لمدة ساعة؛ فصمت الرجل وورعه ووقاره وخوفه وسمته يكفيك، ومن لا ينتفع بسمت العالم لا ينتفع بعلمه: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17 - 18].
قال ابن الجوزي: لقد رأى من آيات ربه العظام، ما الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن مسعود: رأى رفرفاً أخضر من الجنة قد سد الأفق.
والرفرف: هي زوائد البسط، قال تعالى: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن:76].
فكيف بالسرير الذي عليه هذا الرفرف، قال الله تبارك وتعالى: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:54] بطانة الفرش والأسرة من إستبرق، وهو الحرير السميك.
أما ظواهرها فقد قال الثوري أو غيره: من نور جامد، أو من نور يتلألأ.
هل سمعت بنور جامد؟! نسأل من الله أن يجلسنا على هذه الأسرة، ويبقي لنا العقل بعد ذلك.
قد تعجب لو جلست على سرير من أسرة الدنيا مزيناً مبهرجاً بألوان البهارج، فما ظنك بأسرة الجنة؟ وعلو السرير ارتفاع مسيرة سبعين سنة، حتى تشرف على أعلى ملكك كما قال سفيان الثوري، ثم ينخفض بك متى أردت، هل يباع هذا بمال؟ أم بجيفة طلابها كلاب؟ إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في دار غرس الرحمن غراسها بيده.
القول الثاني: أنه رأى جبريل في صورته التي يكون عليها في السماوات، يعني: في خلقته الطبيعية، وهذا قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقال ابن جرير: رأى من أعلام ربه الأدلة الكبرى.(57/6)
قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى)
ثم قال الله عز وجل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم:19] قراءة الجمهور (اللاتَ) وقراءة سبعية ثانية: (أفرأيتم اللات) وهي قراءة ابن كثير، بتشديد التاء، واللات: اسم صنم يعبده أهل ثقيف بالطائف، وأصله كان لرجل يلت السويق للحجيج، فلما مات صنعوا له صنماً.
والعزى: اسم شجرة كانوا يعبدونها، وهذا قاله مجاهد.
أما مناة: فكانت صنماً لهذيل وخزاعة يعبده أهل مكة، وقال قتادة: بل كان هذا الصنم للأنصار.
ومن الأصنام: هبل، ولذا قال أبو سفيان في أحد: أعل هبل، فقال سيدنا عمر بن الخطاب بإذن النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أعلى وأجل)، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم، فأجابه سيدنا عمر: (الله مولانا ولا مولى لكم).
وقولهم: (اللَّاتَ والعزى) فيه إلحاد في أسماء الله عز وجل، والإلحاد في أسماء الله عز وجل: أن تخترع أسماء الأصنام من أسماء الله عز وجل، فهم اشتقوا اللات من الله، والعزى من العزيز، هو أن يسمى الله عز وجل بغير اسمه، كالأب كما تسميه النصارى، أو العلة الفاعلة عند الفلاسفة، أو العقل الكلي عند الفلاسفة، وأصحاب نظرية العقول العشرة.
العزى: شجرة كان يعبدها أهل مكة، وتوجد شجرة عندنا في مركز قبل نجع الشيخ عمار بقليل، هذه الشجرة إلى الآن تقدم لها القرابين، وهي شجرة موحشة ولا يستطيع أي أحد أن يقترب منها، لأن الاقتراب منها قد يؤدي إلى مشاكل بين العائلات وقد تسيل بسبب ذلك الكثير من الدماء يريد أرضاً تأتي بمحاصيل ينذر لها.
والناس في عبادتهم للأصنام على قدر عقولهم، فمثلاً: في مصر الجديدة يمكن أن يحضر الرجل للأصنام أنواعاً من الحلوى الفاخرة، ونحن عندنا شيخ في منطقة ما يسمونه الشيخ أبو المواجير، والماجور عبارة عن آلة العجين، أو الذي تضع فيه الماء للدجاج، فتجد عنده سيارات تنقل (مواجير) هذا هو الشيخ.
وفي الفيوم في منطقة الغرقة هناك على البحيرة يعملون مولداً في الصيف، وفي هذا المولد يصعد أهل البلد كلهم على المراكب، وعندما تسألهم: هل ستظلون في المراكب؟ يقولون: نعم، هذا مولد سيدنا الشيخ الغريق، فلماذا هو سقط إلى تحت الماء؟ يكفي أنه سقط، وهذا الفعل إلى الآن موجود.
وفي طريق (الإسكندرية مصر) عندما تسلك الطريق الصحراوي بجانب شريط القطار يوجد هناك مولد لرجل اسمه الشيخ سبرتو، وقد قص علي قصته زوج عمتي، وهو وكيل لوزارة النقل، فيقول: كان سبرتو في سكة الحديد، وكان يشرب سبرتو أحمر في القطار، وبعدما مات قالوا: أوقفوا القطار وادفنوه إلى جنب شريط القطار، وتمر أعوام وإذا هناك مولد، لمن هذا المولد؟ يقولون: مولد الشيخ سبرتو، نحن الذين دفناه! والعوام والفلاحون متشبعون بالضلال، والناقل ينقل وتزداد الفتن، ولا يوجد ورع ولا تقوى لله تبارك وتعالى.
لكن تعال وانظر تجد الصوفية ينزلون إلى الأرياف، ويصلون إلى مناطق لا تستطيع أن تصل إليها، كل هذا لينشروا الأحاديث الضعيفة والموضوعة التي تؤيد طريقتهم في الجبل، فالذي أنت متأكد أنه حديث موضوع وقال به المبتدعة تلقاه موجوداً عند الناس، وهؤلاء الناس لا يعرفون العلم فمن الذي أوصلهم؟ مشايخ الصوفية.
وتنتشر البدع التي أهلكت الأخضر واليابس، وجاء مرة شيخ الطريقة الشاذلية، وجلس وسط الحلقة وهو يشرب سيجارة (مارلبورو)، فلما رمى السيجارة رأيت أكثر من عشرين رجلاً عراة يتسابقون على عود السيجارة ليتبركوا به، ويقول له أحدهم: يا سيدنا الشيخ! أنا امرأتي لا تخلف أعطني عزيمة الإنجاب! كل هذا موجود في القرى، جهل وضلال! الاتحاد والحلول الذي قال به ابن الفارض تجده في الموالد، ويقول ابن سبعين: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا وما الله إلا راهب في كنيسته يقول لك: إن الله عز وجل حل في الرهبان، هذا قول ابن سبعين صاحب الاتحاد والحلول، هو نفس الكلام الذي يقوله الرجل المنشد: يا راهب الدين يا قسيس يا حنا افتح لنا الدير خلينا نشوف حنا حنا كوانا بنار الحب جنة ولا يوجد بينهما فرق.
وكذلك الذي يطلق على الذات الإلهية قائلاً: وبتنا في حمى ليلى! من هي هذه ليلى؟ يقول لك: الذات الإلهية، فسمى الإله تسمية الأنثى؟! ولقد قال الله عز وجل عمن يسمون الملائكة بنات الله: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى} [النجم:27].
فهذا الأمر يحتاج إلى دعاة، فأنت مثلاً عندك علم في التوحيد والعقيدة فعليك أن تؤدي زكاة هذا العلم، كلم الناس، جرب نفسك يوماً في النزول إلى الناس، وفكر ماذا ستقول لهم في توحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الألوهية والربوبية، لابد أن تبصرهم بهذه المعاني، وتنزل لهم إلى مستوى يفهمونه، كيف توصل لهؤلاء العوام التوحيد.
فأنت لابد أن تعمل للدعوة فهل رحمت هؤلاء المساكين وهم أحوج الناس إلى ما عندك، لماذا تنكر على جماعة التبليغ؟ إن جماعة التبليغ يجتهدون ويدورون على الناس ويخرجون بنتيجة، كم أدخلت أنت في الدعوة؟(57/7)
قوله تعالى: (أفرأيتم اللات والعزى ألكم الذكر وله الأنثى)
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، في قراءة سبعية: (ومناءة الثالثة الأخرى).
هنا قال الوضاعون والكذابون والزنادقة: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20] قال: (تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى)! الغرانيق: جمع غرنوق، أو غرنيق، وهو: طائر يسبح على صفحة الماء، ثم يرتفع في الجو.
ومعنى (تلك الغرايق العلى) أن لها قدراً ومنزلة عند الله عز وجل.
(وإن شفاعتهن لترتجى)، وهذا ما قال عنه المستشرقون وسلمان رشدي: إنها السهوة المحمدية، قالوا: إن محمداً سهى ومدح الآلهة والأصنام، فلما سجد سجد المشركون معه.
عن سعيد بن جبير رحمه الله قال: (لما نزلت هذه الآية: ((أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى)) قرأها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترجى، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المشركون: إنه لم يذكر آلهتهم قبل اليوم بخير، فسجد المشركون معه، فأنزل الله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52]) هذه رواية عن سعيد بن جبير، وهي رواية صحيحة إلى سعيد بن جبير، ولكنها رواية مرسلة.
وهناك رواية أخرى مرسلة عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وهو من التابعين، وهناك رواية أيضاً صحيحة مرسلة عن قتادة، وهناك رواية صحيحة ولكنها مرسلة عن أبي العالية.
إذاً: هناك أربع روايات مرسلة وكل رواية منها رواية صحيحة إلى من أرسلت عنه.
وهناك حديث موصول إلى ابن عباس، ولكنه لا يصح، والمرسل يا إخوتاه لا يحتج به، فهو من قسم الضعيف، وهناك أكثر من عشر روايات بينها اضطراب في المتن: الرواية الأولى تقول: إن المشركين سمعوا هذا القول فقط من دون المؤمنين، يعني: فالمؤمنون لم يسمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا القول.
هذه رواية.
الرواية الثانية تقول: إن الشيطان كان يقلد صوت النبي في سكتاته -في سكتات الوقف- فحاول تقليد النبي صلى الله عليه وسلم فنطق: تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى.
الرواية الثالثة تقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم تمنى ألا ينزل عليه وحي من الله عز وجل يغضب منه المشركون، فلما نزل: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم:19 - 20]، تلك الغرانيق العلى، قال المشركون: ما سمعنا محمداً يمدح آلهتنا قبل اليوم، فلما سجد سجدوا معه، حتى أتاه جبريل مرة ثانية، فعاوده التلاوة فقال له: أنا ما قلت لك هذا القول، فحزن النبي صلى الله عليه وسلم لذلك.
انظروا إلى هذا الاضطراب: أولاً: الأسانيد كلها مرسلة لا يصح منها إسناد، والأسانيد المرسلة لا يحتج بها؛ لأنها قد تكون من مصدر واحد، وخاصة أن قتادة وأبا العالية، وأبا بكر بن عبد الرحمن بن الحارث وسعيد بن جبير كلهم موجودون في عصر واحد، فقد يكون مصدر التلقي شيخاً واحداً.
الشيخ الألباني قال: وهذه الروايات لا تصح، والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: لا تصح هي من صنع الزنادقة، وأنكر هذه الرواية أيضاً الإمام البيهقي وقال: هذه القصة غير ثابتة من جهة الناقل.
وممن حكم على حديث الغرانيق بالوضع الإمام ابن العربي في كتابه: (أحكام القرآن)، والقاضي عياض في كتابه: (الشفا في حقوق المصطفى)، والفخر الرازي في تفسيره: (مفاتيح الغيب)، والإمام القرطبي في تفسيره: (أحكام القرآن)، والإمام الكرماني من شراح البخاري، والإمام العيني في كتابه: (عمدة القارئ)، والإمام الشوكاني في (فتح القدير) والإمام الألوسي في كتابه: (روح المعاني) وصديق حسن خان في تفسيره: (فتح البيان) ومحمد عبده الشيخ المصري، وسيد قطب، والدجوي شيخ الأزهر، والشيخ الألباني في كتابه: (نصب المجانيق نسف قصة الغرانيق).
قال القاضي أبو بكر بن العربي: اعلموا أنار الله أفئدتكم بنور هداه، ويسر لكم مقصد التوحيد ومغزاه، أن الهدى هدى الله، فسبحان من يتفضل به على من يشاء، ويصرفه عمن يشاء.
يقول: لقد بينا معنى هذه الآية في فضل تنبيه الغبي على مقدار النبي صلى الله عليه وسلم، بما نرجو عند الله الجزاء الأوفى في مقام الزلفى، ونحن الآن نجلو بتلك الفصول الغنَّاء، ونرقيكم بها عن حضيض الدهماء إلى بقاع العلماء وبدأ في الرد.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: لهذه القصة أصل، والروايات المرسلة صحيحة يقوي بعضها بعضاً، وهذه فقرة من فقرات الحافظ ابن حجر العسقلاني لا تتبعوه فيها، فقد رد عليها العلماء الجهابذة، وبعدما أثبت ابن حجر أن الحديث له أصل اضطر أن يؤول، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقل: تلك الغرانيق العلى، وإنما جاءت على لسان الشيطان.
فقال أهل العلم: وما الذي يحوجك إلى هذا التأويل، وخاصة أن الروايات مرسلة؟ قال القاضي أبو بكر بن العربي: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل الله إليه الملك بوحيه، فإنه يخلق له العلم به، حتى يتحقق أنه رسول من عند الله، ولولا ذلك لما صحت الرسالة.
يعني: حين يرسل الله عز وجل ملكاً إلى النبي فإنه يعطيه العلم اليقيني، ويقذف في قلبه أن هذا ملك وأنه منزل بوحي من عند الله، وإلا لو كان النبي صلى الله عليه وسلم يتشكك ويقول: هذا جبريل أو ليس جبريل! هذا ملك أو شيطان! إذاً ستضيع الرسالة، هذا هو المقام الأول.
المقام الثاني: إننا أمة النبي صلى الله عليه وسلم نستطيع أن نميز الكفر في الأقوال، فكيف يخفى على النبي صلى الله عليه وسلم؟ حاشاه أنه قال الكفر، ويمر عليه هذا ثم يأتي جبريل ويعلمه، ويقول له: إن هذا ما قلته لك.
فهذا الكلام لا يقول به عاقل.
ثم يقول: تأملوا فتح الله أغلاق النظر عنكم إلى قول الرواة الذين هم بجهلهم أعداء الإسلام أن النبي صلى الله عليه وسلم لما جلس مع قريش تمنى ألا ينزل الله عليه الوحي يغضب منه الكافرون، فكيف يجوز لمن عنده أدنى مسكة من عقل أن يصدق أن النبي صلى الله عليه وسلم يؤثر أنس المشركين على أنسه بربه؟! فهذه القصة موضوعة باطلة لا تصح متناً ولا سنداً، ورد الله كيد سلمان رشدي في نحره، حيث يقول: إن هذه سهوة محمدية، وإن محمداً قد مدح الكافرين!! قال تعالى: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأُنثَى} [النجم:21]، أي: له الأنثى من الملائكة؛ لأنهم قالوا: إن الملائكة بنات الله {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف:19] كيف تجعلون لله عز وجل الإناث وأنتم لا تطيقون رؤية الإناث عند ولادتهن؟! قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [النحل:58] وهذا الطبع موجود عندنا في الفلاحين إلى الآن، يولد له الولد فتجد أعيرة النار تكاد تخرب الباب، وربما يكبر هذا الولد بعد ذلك فيكون عاصياً وفاجراً والعياذ بالله! أما البنت فلا يلقي لها اهتماماً، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من عال جاريتين كنت أنا وهو كهاتين، وضم إصبعيه)، وحتى بيوت الملتزمين لا تخلو من ذلك.(57/8)
قوله تعالى: (تلك إذاً قسمة ضيزى)
قال تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم:22].
وفي القراءة السبعية الثانية: (تلك إذاً قسمة ضئزى).
وفي لغة العرب: ضيزى يعني: جائرة وليست بعادلة، تقول: ضِيزى، وضوزى، وضؤزى، وضأزى، كلها في لغة العرب، ولغة القرآن أبلغ.
تقول: ضيزى من قولك: ضازه يضيزه، يعني: نقصه حقه، وتقول: ضأزه يضأزه، ضيزى أو ضئزى، يعني: هذه قسمة ناقصة وجائرة.
قال تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:22 - 23] أي: هذه أسماء لا تضر ولا تنفع، وهي أعلام على جمادات ليس تحتها من شيء إلا أنها أسماء، مثلما هو عند الصوفية يقول لك: القطب والأبدال والخواص، والغوث، والأوتاد، ورئيس الديوان، والديوان الذي هو مشرف على الملكوت، يقولون: إن هذا الكون نظام بديوان، وأقطابه الأربعة: الرفاعي والدسوقي والبدوي وتشرف أم هاشم رضي الله عنها على هذا، فهي رئيسة الديوان.
فهذا كلام ما أنزل الله تبارك وتعالى به من سلطان: ما هذه الأسماء ماذا خلفها لا شيء إلا أنها أسماء فالسابقون مضوا وما خدعوا الورى بالترهات لأنهم أمناء واللاحقون مضوا على أهوائهم أرأيت ما فعلت بنا الأهواء بدع بها جمعوا من الأموال ما جمعوا ومجموع الهباء هباء في ذمة العلماء هذا كله إن كان فيما بيننا علماء ونقل عن بعضهم أنه ذكر السيد البدوي، وكان من ضمن ما قال: إن البدوي ذهب ليصلي على غلام قد مات، فقال له والد الصبي: أنا أولى بالصلاة منك، فأنا والده، قال: لا، عندي أمر من الله عز وجل أن أصلي أنا عليه، فبعد أن صلى عليه قال للغلام: قم، فقام الغلام من كفنه! والناس يصيحون: الله! مرة أخرى يا سيدنا الشيخ، هذا على ملأ من الناس والله!! وهذا يذكرني بحال من يسمعون القرآن والقارئ يقرأ آيات ذكر النار فيقول: ثانية، وإذا لم تعجبه الآية يقول: كفرتنا يا سيدنا الشيخ أعد مرة أخرى.
كنت جالساً مرة أنا والشيخ أبو إسحاق في مسجد العزيز، فقال لي: أريك العجب العجاب؟ كان الشيخ محمود صديق المنشاوي جالساً يقرأ في مسجد الحسين، وحوله مجموعة، وبعدما أكمل التلاوة ذهب إليه شخص وقال له: الله الله، قسماً بالله لئن جلس مكانك أحد لأمزقنه، يعني: أي شخص يجلس على هذا الكرسي غيرك ويقرأ فإني سأقتله بالمسدس!(57/9)
قوله تعالى: (إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)
قال تعالى: {تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى * إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم:22 - 23] تنزل في مكتبة جامع الأزهر نفسه، فتجد كتاب الطبقات الكبرى عبد الوهاب الشعراني وهذا الكتاب لو وقع في يد شخص مسيحي لما دخل الإسلام أبداً.
يقول فيه: وكان سيدي بركات الخياط من أولياء الله المتصرفين في الكون، وذلك أنه ما سمع عن قط ميت، ولا كلب ميت ولا حمار ميت إلا وأتى بها إلى حانوته، وكان يتوضأ من مشخة حمير.
أما سيدي إبراهيم العريان: فسمي بذلك لأنه كان يخطب الجمعة عارياً!! هذا بخلاف الأشياء الأخرى التي لا يستطيع أحد أن يقولها، ثم يعد هذه كرامات!! يقول: أما سيدي إبراهيم الدسوقي فإذا كان سيدنا سليمان بعد النبوة رزقه الله لغة الطير والوحش فإن إبراهيم الدسوقي حصل عليها وهو ابن ست سنوات، كان يكلم الوحش والطير! هذه هي الصوفية التي قتلت المصريين من كبار الناس في جامعة الأزهر إلى ما دونهم.
وهناك رسالة دكتوراه عن الصلة بين التصوف والتشيع، فأول من سمي بالصوفي جابر بن حيان الشيعي أو عبدة الشيعي فأول لقب أطلق على الصوفية سمي به الشيعة أولاً.
الشيعة أتت مصر حينما أتى إليها المعز بن عبيد الله بن ميمون بن طيسان القداح اليهودي، ولما بنى جوهر الصقلي القاهرة أنشئوا الجامع الأزهر، والجامع الأزهر بني لنشر الفكر الشيعي حينما كان مسجد عمرو بن العاص ينشر فكر أهل السنة، وعلى منبره في الجمعة الأولى سب أبو بكر وعمر.
المهم أن المعز لدين الله كان عنده شاعر اسمه ابن هانئ وكان ينشده الشعر مثلما هو موجود في البداية والنهاية لـ ابن كثير يقول له: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار ولما دخل مصر وجد الإمام الحافظ المقرئ أبا بكر بن النابلسي شيخ الديار المصرية، فأتى به فقال له: بلغنا أنك قلت: لو كان عندي عشرة أسهم لجعلت تسعة لليهود والنصارى وواحداً للرافضة، قال: ما هكذا قلت! فطمع فيه فقال: ماذا قلت إذاً؟ قال: قلت: لو كانت عندي عشرة أسهم لجعلت واحداً لليهود والنصارى وتسعة للرافضة، قال: لماذا؟ قال: لأنكم أطفأتم نور السنة، وغيرتم دين الأمة، وادعيتم ما ليس لكم.
وبالفعل أطفئوا هنا في مصر نور السنة، والذي لا يعرف العقيدة تماماً يقول لك: استمع إلى قناة المنار، وانظر إلى حسن نصر الله المجاهد الكبير والفدائي العظيم الذي فعل ما لا تفعله قادة العالم، وحزب الله هو الأمل المنتظر، حتى إن إخوة كانوا من أهل السنة في منطقة بجانب العزيز فصاروا الآن شيعة؛ لكثرة استماعهم إلى هذه القناة، والبطولات الزائفة لحزب الله، وكلام مصطفى بكري عنه بأنه هو الأمل المنتظر، وفهمي هويدي في هامة الأمة بتيجان من نور، ولهم دين في عنق الأمة، وسبهم وتكفيرهم للصحابة ماذا يكون؟ فمن غير عقيدة سليمة لا يستقيم لك الأمر أبداً، وهنا واحد من كبار الدعاة يقول: إن حسن نصر الله هو صلاح الدين في القرن العشرين، إنك إن قرأت عن شيعة جنوب لبنان، أصحاب جبل العالية وتاريخهم مع قادة الجهاد على مدار التاريخ الإسلامي تجد العجب العجاب، الفاطميون حاولوا قتل صلاح الدين مرتين، مرة في مصر ومرة على أبواب حلب، أسد الدين شيركوه عامل صلاح الدين قاتله الفاطميون من أهل مصر مع الصليبيين حينما أتى إلى مصر.
الأمير ممدود كان من قادة الجهاد ضد الصليبيين فقاتله الفاطمية الرافضة، حتى كتب قائد الصليبيين إلى ملك دمشق: إن أمة قتلت عميدها الذي هو الملك سلمان ممدود في يوم عيدها -وهو في الجمعة بعدما انصرف من صلاة الجمعة- في بيت معبودها حقيق على الله أن يبيدها.
وعندما كانت السلطة للفاطميين سقطت القدس، ولم يدافع عنها بدر الدين الجمالي ولا بسهم واحد، وسلموها للصليبيين في سبيل أنهم يمرون إلى حاميتهم الفاطمية عسقلان بدون أن يقتل منهم رجل، وقبل ذلك أرسلوا خطابات التهنئة لما سقطت أنطاكية في أيدي الصليبيين، فرد عليهم القائد الصليبي بهمانت بأن أرسل لهم وقر بعيرين من رءوس الأتراك السلاجقة الذين دافعوا عن القدس قبل ذلك.
الدروز والنصيريون الذين في جبل العالية هم الذين مهدوا ودلوا الصليبيين على بيت المقدس.
الدولة الصفوية التي قامت في إيران، وقلبت إيران من دولة سنية إلى دولة شيعية، لما قامت وأرادت أن تدرس الفكر الشيعي وتلزم الناس به جاءت بشيوخ جبل العالية في جنوب لبنان، وعلى كتفهم قامت دولة إيران.
الدولة الصفوية هذه منعت السلطان سليمان القانوني أن يحتل كل أوروبا، وكانت الجيوش العثمانية قد وصلت إلى الميدان الرئيسي والشارع الكبير في فيينا عاصمة النمسا، ولكن الذي جعله يعود ولم يحتل أوروبا كلها جيوش الشيعة في شرق آسيا، فاضطر إلى أن يعود وينسحب بقواته.
فالشيعة تاريخهم أسود، فالذي عنده عقيدة طيبة لا يمكن أن تختلط عليه الأمور مهما دبلجو ومهما زيفوا، فإنه يستبين لك الأمر؛ ولذلك يقول الإمام الحافظ محمد بن عبد الوهاب: إن الرجل العامي من الموحدين يهزم جيشاً من علماء البدعة، فإن المولى عز وجل يرزقه البصيرة لما عنده من علمه.(57/10)
قوله تعالى: (إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس فلله الآخرة والأولى)
قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ} [النجم:23] وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إياكم والظن! فإن الظن أكذب الحديث).
((إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ)) أي: الشبهات ((وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ)) أي: الشهوات، وأمراض القلوب دائرة بين الشبهات والشهوات.
{إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23]، جاءتهم الآيات البينات من كتاب الله عز وجل، وجاءهم الطيب من القول وأحسن الحديث، ومزامير الأنس من حضرة القدس، بألحان التوحيد من رياض التمجيد، من مقعد صدق عند مليك مقتدر.
ثم قال الله تبارك وتعالى: {أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم:24] أي: أم لهذا الكافر الذي يعيش بهوان من أمنيته، فلا تتحقق أمنياته في طلبه الشفاعة من هذه الأصنام والأوثان.
أم لهذا الكافر ما تمنى؟ ليس له ما تمنى من أن تشفع فيه هذه الأصنام والأوثان: ((فَلِلَّهِ الآخِرَةُ وَالأُولَى)) أي: الأمر كله لله عز وجل، قال الله عز وجل: {إِنَّ عَلَيْنَُا لَلْهُدَى * وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى} [الليل:12 - 13]، وقال الله عز وجل: {وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ} [النمل:91] لله عز وجل كل شيء، ملك السماوات السبع والأرضين السبع، وما بينهما، وما تحت الثرى، وله الشفاعة.
فالشفاعة كلها لله عز وجل، يعطيها من يشاء من عباده بعد إذنه ورضاه، ولابد من وجود شرطين: إذن الله عز وجل، ورضاه عن المشفوع فيه، ويستثنى من ذلك أبو طالب، فإن العباس قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (هل نفعت شفاعتك لعمك أبي طالب؟ فقال: نعم، وضع في ضحضاح من النار) توضع الجمرة تحت أخمصه يغلي منها دماغه، ولولا النبي صلى الله عليه وسلم لكان في قعر جهنم، فهذا من شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنه لا يخرج من النار.
والشفاعة على مراتب: الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم دون بقية البشر، وهو: أن يأذن الله عز وجل في حساب الناس، وهذه خالصة للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها أحد، ومن عظمها أن النبي صلى الله عليه وسلم خيره الله عز وجل بين أن يدخل نصف أمته الجنة وبين الشفاعة، فاختار الشفاعة العظمى في انصراف الناس للحساب بين يدي الله عز وجل.
وهناك شفاعات أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم لا يشاركه فيها غيره من الأنبياء، كشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في سبعين ألفاً من أمته، يدخلون الجنة بغير حساب، يقول صلى الله عليه وسلم: (أعطاني ربي سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب من الباب الأيمن من أبواب الجنة، لا يدخل معهم أحد سواهم -سبعين ألفاً- ومعهم ثلاث حثيات من حثيات الملك عز وجل، أو مع كل ألف سبعين ألفاً)، وفي الحديث الذي صححه الألباني: (مع كل واحد منهم سبعين ألفاً)، السبعون الألف الذين يدخلون الجنة بغير حساب مع كل واحد سبعون ألفاً، إذاً الذين يدخلون الجنة بغير حساب أربعة مليار! سيدنا عمر قال إذاً: يدخلهم الله كلهم الجنة، على هذا لا يوجد أحد سيدخل النار؟ فقال سيدنا أبو بكر: وما عليك أن يدخلهم الله كلهم الجنة؟ أي: لماذا أنت غاضب من هذا؟ ثم شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في الجنة، حيث قال: (أنا أول شافع في الجنة) أي: الإذن بدخول الناس الجنة، هذه يشفع فيها النبي صلى الله عليه وسلم.
والشفاعة لأهل الكبائر من أمته هذه ينكرها مصطفى محمود! وهناك شفاعة أخرى: مثل الشفاعة في أناس دخلوا الجنة فيعطون فوق ما تبلغهم أعمالهم، يعني: أن أعمالهم توصلهم إلى درجة معينة، فيشفع فيهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ فيصلون إلى مراتب في الجنة لا تبلغهم إياها أعمالهم، فكل هذه شفاعات.
والنبي صلى الله عليه وسلم حين يشفع يحد الله له حداً: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال حبة من شعير أخرج من النار من كان في قلبه مثقال برة أدنى ذرة ثم يأتي الذين لم يعملوا خيراً قط، فيقول لهم الله عز وجل: (هؤلاء ليسوا لك إنما هم لي)، وهؤلاء يسمون بالجهنميين عتقاء الرحمن من النار.
وهناك شفاعة للملائكة، وشفاعة للرسل، وشفاعة للصالحين، وشفاعة للشهداء، والشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته.
اللهم ارزقنا الشهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، اجعلنا ممن قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: الشهداء الذين يقاتلون في الصف الأول لا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا، يلقون في الغرف العلى من الجنة، يضحك إليهم ربك، إن ربك إذا ضحك إلى عبده المؤمن فلا حساب عليه، هي هذه الجائزة إذا نلتها، فلله در أم حملت بك ودرت عليك! أما الصالحون فقد يشفع أحد الصالحين فيما لا يشفع فيه الشهيد، مثل أويس القرني قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (رجل من أمتي يشفع في مثل الحيين ربيعة ومضر)، يعني: حدود هاتين القبيلتين، وهما أعظم قبائل في الجزيرة العربية، كان عددهم لا يقل عن مائة ألف، فقالوا: هو أويس القرني أو الحسن البصري أو عثمان بن عفان، والذي عليه أكثر العلماء أنه أويس القرني.(57/11)
قوله تعالى: (وكم من ملك في السماوات والأرض لا تغني شفاعتهم ولم يرد إلا الحياة الدنيا)
يقول الله تبارك وتعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} [النجم:26] أي: إذن الله للشفيع؛ لأنها حق لله عز وجل، فيطلب الحق من مالكه، ثم رضا الله عز وجل عن المشفوع فيه.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي: لا يؤمنون بالبعث {لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الأُنْثَى * وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم:27 - 28]، و (الحق) هنا هو العلم، يعني: لا يغني عن العلم، لا يقوم الظن مقام العلم أبداً، والعلم هو يقين.
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم:29 - 30].
هذا تهويل لشأن أهل الدنيا الذين ترتبط علومهم بالمعايش فقط، ولا تتجاوز أسوار الدنيا، فهم يعيشون من أجل علومها فقط، ومن أجل علوم المعايش فقط، من الأكل والشرب والتجارة والصناعة، هذا العلم وإن بدا كبيراً فإنه صغير، وإن بدا شاملاً فإنه محدود، وربما كان منه العلم الذي لا ينفع، فعلم الشريف رزق الله صاحب نادي السينما علم لا ينفع، وعندما يأتون مهرجان القاهرة السينمائي تحس أن هذا الرجل كانوا يعلمونه في بطن أمه أسماء المخرجين والمنتجين.
وكأنه لا يوجد في هذا العقل إلا هذا الشيء فقط! مثل بعض المهووسين المجانين في الكرة، تسأله: من هم العشرة المبشرون بالجنة؟ فيقول: لا أعرفهم، لماذا؟ ليسوا من بلدنا! لكن تقول له: ما هي أخبار احتياطي فريق، أسوان، أو أخبار ماردونا أو أخبار إبراهيم حسن، وطاهر الشيخ ماذا عمل؟ وما هي أخبار مباريات كأس العالم ونحو ذلك، فيجيبك إجابة شافية كافية أنا أعرف بيوت بعض السيدات ينزلون فيها في أول مباريات كأس العالم، فيحضِّرون أكل عشرة أيام كلها، ويضعونه في الثلاجات، لا يستطيعون أن ينزلوا ولا أن يطبخوا، بل يحضروا الأكل لعشرة أيام، لأنهم يخافون أن يضيعوا أوقاتهم في الطبخ: ((ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ)).
تجد شخصاً من الفنانين فتسأله: ماذا تفهم؟ يقول لك: أنا أفهم أحدث أنواع الموضة، وأحسن قصات الشعر بالكمبيوتر، وكقصة مايكل جاكسون، وغير ذلك.(57/12)
يا من طال بعده
شهر رمضان هو شهر القرآن، ففيه نزل، وفيه يتلى كثيراً في القيام وغيره، وهو شهر الصدقات والعطاءات والإحسان والبذل والجود.
وفي هذا الشهر تفتح أبواب الجنان، وتغلق أبواب النيران، وتسلسل الجان، وفيه تتنزل رحمات الرحمن، وفيه تفتح أبواب العفو والغفران.
وقد كان السلف يجتهدون في هذا الشهر ما لا يجتهدون في غيره، فكانوا يقومونه ويصومونه، ويكثرون فيه من قراءة القرآن، والتقرب بالطاعات إلى الرحيم الرحمن.(58/1)
أطيب النفحات
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا الخير دهركم، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها؛ فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة من رحمة الله لا يشقى بعدها أبداً)، وأطيب النفحات وأرقها نفحات رمضان.
الخير باد فيك والإحسان والذكر والقرآن يا رمضان والليل فيك نسائم هفهافة حنت لطيب عبيرها الرهبان بين الجوانح في الأعماق سكناه فكيف ينسى ومن في الناس ينساه في كل عام لنا لقيا محببة يهتز كل كياني حين ألقاه بالعين بالقلب بالآذان أرقبه وكيف لا وأنا بالروح أحياه في موسم الطهر في رمضان الخير تجمعنا محبة الله لا مال ولا جاه فالعين دامعة والأذن سامعة والروح خاشعة والقلب أواه يقول مصطفى صادق الرافعي: فديتك زائراً في كل عام أحيي بالتحية والسلام وتقبل كالغمام يفيض حيناً ويبقى بعده أثر الغمام ولم أر قبل حبك من حبيب كفى الرهبان آثار القيام فلو درت العوالم ما درينا لحنت للصلاة وللصيام هبت على القلوب اليوم نفحة من نفحات نسيم القرب، وسعى سمسار الوعظ للمهزورين للصلح، وصلت البشارة للمنقطعين.
فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، ويا شمس التقوى والإيمان على القلوب أطلعي، ويا عين المتهجدين في ليل رمضان لا تهجعي، ويا همم المحبين بغير الله لا تقنعي.
من دامت خسارته فهذه أيام التجارة الرابحة، ومن طال بعده عن مولاه فهذا وقت المصالحة، فينادى حي على الفلاح وأنت على الخسران مثابر، فإلى رمضان وإلى الصيام وإلى القيام.(58/2)
فضائل الصوم
قبل أن نتكلم عن هذا الشهر نقول: للصوم فضائل ومزايا، فمنها ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ أبي أمامة الباهلي: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له) وفي رواية: (عليك بالصوم فإنه لا مثل له).
فكان أبو أمامة الباهلي لا يرى في بيته نار إلا في حضرة الضيف، ومعنى هذا: أنه كان يسرد الصوم سرداً.
ويحكي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
وهذا الحديث ورد بثلاث روايات كل رواية أفادت معنى جديداً: الرواية الأولى: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قال الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له كفارة إلا الصوم فإنه لي).
يقول العلماء: قد يأتي الإنسان يوم القيامة وعليه غرماء، فيأخذون من حسناته، من ثواب الصلاة، وقراءة القرآن والذكر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أما ثواب الصيام فكما قال سفيان بن عيينة: لا يأخذ الغرماء منه شيئاً، بل يختم الله تبارك وتعالى عليه ويدخل صاحبه به الجنة.
الرواية الثانية: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له؛ الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).
فالمولى تبارك وتعالى الجواد الذي جاد بكل من جاد، والذي علا جوده على كل جواد، من تفضّله ومن كرمه على عباده يزيد ثواب الحسنات إلى عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، ولا يزيد ثواب أي عمل فوق السبعمائة ضعف بأي حال من الأحوال إلا الصبر؛ لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، والصوم مثل الصبر، بل تجتمع فيه معاني الصبر الثلاثة: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على الأقدار المؤلمة، ولذلك استثنى الله عز وجل ثواب الصوم وزاده فوق السبعمائة ضعف.
الرواية الثالثة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).
فالصلاة لله تبارك وتعالى، وكل العبادات له تبارك وتعالى، فلم أتى الله تبارك وتعالى إلى عبادة بعينها وهي الصوم ونسبها إلى نفسه دون باقي العبادات؟ إنما هي نسبة تخصيص وتشريف، كما نسب الله عز وجل إلى نفسه البيت الحرام فقال: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26] مع أن كل المساجد لله.
وقال العلماء عن سبب تخصيص الصوم بنسبته لله تعالى: أن الصوم له خاصية ينفرد بها عن بقية العبادات، فحشوه الإخلاص ولا رياء فيه، ومتى صح الصوم من الناحية الفقهية فلا رياء فيه، قال الإمام أحمد: لا رياء في الصوم.
أما الصلاة فقد تصح من الناحية الفقهية ثم يضرب بها وجه صاحبها يوم القيامة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخوف عليكم شرك السرائر، أو الشرك الخفي، قالوا: وما شرك السرائر يا رسول الله؟! قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته؛ لما يرى من نظر الرجل إليه).
وأول من تسعّر بهم النار ثلاثة: رجل ظنه الناس مجاهداً في سبيل الله، وآخر ظنوه عالماً وقارئاً، وثالث ظنوه الناس متصدقاً، فهؤلاء أول من تسعّر بهم النار؛ ولذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إلا الصوم فإنه لي)؛ لأنه عبادة محشوة الإخلاص، وهي عبادة السر كما قال العلماء.
المعنى الذي بعد ذلك: أن الله تبارك وتعالى جبل الإنسان على شهوات البطن والفرج والفم، وكلما تحرر من هذه القيود التحق بالملأ الأعلى، وإن كان في أي عبادة من هذه العبادات لا يتحرر مطلقاً من هذه الشهوات؛ لأنه تكره الصلاة بحضرة الطعام، وفي الحج يمتنع الإنسان عن الجماع ولكنه يأكل لذيذ الطعام، أما في الصيام فينكد نفسه بالساعات حتى يحس ويشعر بألم فقده لهذه الشهوات التي جبل عليها، فطوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الري الكامل، وطوبى لمن جوّع نفسه ليوم الشبع الأكبر، وطوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعد غيب لم يره.
يشتد عطشك إلى ما تهوى فارصد آمال الرجاء إلى من عنده ري كامل، وقل: قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف، فعجل لي العام الذي فيه يغاث الناس ويعصرون.
من صام عن شهواته أدركها في الجنة، ومن صام عما سوى الله فذاك عيده يوم لقاء ربه.
وقد صمت عن لذات دهري كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين عاماً) فكيف بصيام ثلاثين يوماً! وفي رواية: (سبعين خريفاً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة من النار).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله بوعدت عنه النار مسيرة مائة عام).
يحكي أحد الصحابة أنهم كانوا في سرية بحرية، فبينما هم على المركب إذ سمعوا هاتفاً من فوقهم يقول: أيها الناس! ألا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه يوم خلق السماوات والأرض؟ قالوا: أخبرنا إن كنت مخبراً، قال: إن الله تعالى قضى على نفسه أنه من صام يوماً في سبيل الله سقاه الله يوم العطش، يقول الله تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
قال مجاهد: هذه آية الصائمين، تمد لهم موائد الإنعام من رب البرية، والناس ما بعد يحاسبون في عرصات القيامة، كل يا من لم تأكل، واشرب يا من لم تشرب.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك) وخلوف الفم: هو تغير رائحته من آثار الصيام، حتى إذا مر الرجل الصائم برجل من أبناء الدنيا من أهل الكروش يقول صاحب الدنيا: ابتعد عني فإن رائحة فمك تؤذيني، فماذا يكون الجزاء؟ يُطيب الطيب بعطر أفواههم، وليس هذا فقط، بل لخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك.
وكما يقول مكحول: يروح على أهل الجنة برائحة ما وجدوا خيراً منها، فيقال: يا رب! ما هذه الرائحة؟ فيقال: هذه رائحة أفواه الصائمين، إذا ما انفرجت الشفاه تخرج رائحة تعطِّر الجنة بأسرها، ولا تحتاج الجنة إلى عطر وإنما هذا جزاء تغير رائحة الأفواه في الدنيا.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون لا يدخل معهم غيرهم، فإذا دخلوا أُغلق من ورائهم، من دخل منه شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً).
من دخل منهم شرب وهم يحتاجون إلى الشرب في يوم يطول خمسين ألف سنة، ما ذاقوا فيه طعاماً، ولا شربوا شراباً حتى تقطعت أجوافهم عطشاً، وحتى يسمع لصوت الأجواف غليان، يقول سلمان الفارسي: تقول الأجواف: غط غط، وهذا صوت الغليان، فكيف إذا كان الجزاء دخولهم من الريان.
إن الرجل إذا سار في الصحراء واشتد به الظمأ، وأشرف على الهلكة ثم قيل له: هذا ماء، فإنه يرتوي تلقائياً حتى ولو لم يشرب، فكيف إذا طال العطش ثم قيل: هذا الباب يسمى الريان؟ الريان من الري، والري: ضد الظمأ، قابل الله تبارك وتعالى عطشهم بمسمى باب يبعث على الراحة، وأول الغيث قطرة، فما ظنك بالداخل؟! فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته وأبوس مقبض بابه خذني إلى وطني أموت مشرداً إن لم تكحِّل ناظري بترابه يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ختم له بصيام يومه دخل الجنة).
يا إخوتاه! أحدنا يؤثر الظل على الشمس، فما بالنا لا نؤثر الجنة على النار؟ أفلا تساوي الجنة نقلة من الشمس إلى الظل؟ إذاً: فاجعل الصوم سبيلاً للجنة، فاستمسكوا بهذا السبيل، فإنه سبيل للجنة.
والصوم مكفرة للسيئات، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فتنة الرجل في ماله وأهله وولده وداره ونفسه تكفرها الصلاة والصيام والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
فهذه معان عظيمة في الصوم لا بد أن نحياها، وأيضاً الصائم له دلال على الله تبارك وتعالى، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين).
سبحان الله! أنت تأكل والله تبارك وتعالى يصلي عليك، فتكون كأم موسى تُرضع ولدها وتأخذ أجرها من فرعون؛ لأنه لا يعلم أنه ابنها، فيكون حالك في توكلك على الله تبارك وتعالى، وصدقك معه في أرقى المرتب؛ فأنت تأكل والله تبارك وتعالى تتنزل عليك رحماته، والملائكة تستغفر لك.
يا أخي! كم من ملك في السماوات والأرض ما ذاقت أعينهم غمضة، وما ذاقوا طعاماً، ولا شربوا شراباً منذ أن خلقهم الله تبارك وتعالى، ليست لهم منحة {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، وليس لهم عبير (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك).
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) لأن هذا فرق ما بين صيامنا وبين صيام ضلال النصارى، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (فرق ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر)؛ لأنهم لا يتسحرون، ولذا سماه الرسول صلى الله عليه وسلم الغذاء المبارك، فقال: (قم بنا إلى الغذاء المبارك).
وسماه أيضاً: الفلاح، يقول الصحابة: (وما كنا ننصرف إلا في طلوع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح).
فعلق الله تبارك وتعالى فلاح هذه الأمة بأن تكون أمة فريدة في خصالها، فلا تتشبه باليهود ولا بالنصارى، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الدين ظاهراً ما عجلت أمتي الفطر).
وقال: (لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر).
وقال: (لا تزال أمتي على(58/3)
حال السلف مع الصوم
قارنوا يا إخوتاه بين أحوالنا وبين أحوال عباد السلف، وبين أحوال الأنبياء، فكان داود أعبد الناس، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً.
وهذه السيدة حفصة بنت عمر رضوان الله عليها زوج رسول الله، كان للصيام أثر طيب في حياتها، وقد أبقاها الله زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن رسول الله -كما قال الحافظ ابن حجر في الإصابة-: طلقها ذات يوم، فنثر عمر التراب على وجهه، وقال: ما أصبح الله يبالي بـ عمر ولا بابنة عمر، فنزل جبريل من السماء وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها قوامة صوامة، وإنها زوجتك في الجنة.
والسيدة عائشة رضوان الله عليها كانت تسرد الصوم سرداً، وكذلك إمام أهل السنة وعالم المدينة مالك بن أنس، وكذا عروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة، سرد الصوم ستين عاماً، يصوم يوماً ويُفطر يوماً، ومات وهو صائم.
وداود بن أبي هند سرد الصوم أربعين سنة، كان يأخذ طعامه من البيت فيتصدق به في عرض الطريق، فيظن أهل البيت أنه قد تناول ما أخذ من طعام، ويظن أهل السوق أنه قد أكل ما أخذه من البيت، بقي على هذا أربعين سنة، لا يشعر به زوجه، أو أهله.
سيبقى لكم في مضمر القلب والحشا سريرة حب يوم تبلى السرائر وهذا الإمام إبراهيم بن إسحاق النيسابوري إمام جليل من أئمة هذه الأمة تلميذ الإمام أحمد بن حنبل، وصاحب كتاب مسائل الإمام أحمد، هذا الإمام العابد كان نسيج وحده في الصيام، لدرجة أن الإمام أحمد وهو إمام أهل السنة يقول لابنه إسحاق: ومن يطيق ما كان يطيق أبوك؟! هذا الإمام ضل ستين سنة يسرد الصوم سرداً، لا يفطر إلا الأيام التي يحرم فيها الصوم.
فلما جاءه الموت قال لابنه: يا بني! قرِّب إليّ قدحاً من الماء لأشرب، ثم قال لابنه: يا بني! هل غربت الشمس؟ قال: لا يا أبت! قال: فنح القدح إذاً، ثم مات وهو يتلوا قول الله تبارك وتعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].
فأديموا الصيام يا إخوتاه، وافرحوا بصومكم، افرحوا بعبادة تقربكم من الله تبارك وتعالى.(58/4)
خصائص شهر رمضان
أما عن رمضان، وما أدراك ما رمضان! فهو تاج على مفرق الدهور وممر الأعوام، له خصائص طيبة تميّز بها عن باقي الشهور، وهي كالتالي: الأولى: أنه شهر يزاد فيه ثواب الأعمال؛ لقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي).
والعمرة: سنة مؤكدة على أرجح أقوال العلماء، ولا تصل إلى ثواب الحج وهو فرض، فيضاعف الله تبارك وتعالى ثواب العمرة في رمضان حتى تصير مثل حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أن ثواب الأعمال يضاعف في رمضان، وكذلك ثواب الصدقات، وثواب الصلاة، وثواب القيام، كل هذا يضاعف، فما ظنكم بالثواب المضاعف ويُضاعف؟! فاتق الله تبارك وتعالى، ولا تبع الليل ولا رمضان بلقمة بها تُحرم منحة (تتجافى)، وبها تُحرم عتاب: (كذب من ادعى محبتي، فإذا جنه الليل نام عني)، أليس كل حبيب يحب الخلوة بحبيبه؟ يا إخوتاه! إذا جن الغاسق حن العاشق، وقلوب المحبين جمرة تحت شحمة الليل، إذا هب عليها نسيم السحر أجج ما فيها من شوق إلى الله تبارك وتعالى، فاحرصوا على لحظات رمضان.
أخي! قد قيد الصد قدميك، وغل الإبعاد يديك، أفما لك عين تبكي لو بعت لحظة من رمضان بملك قارون في عمر نوح، ولو فعلت لغبنت وما ربحت، فحافظ على هذه الأنفاس التي تخرج إلى الله تبارك وتعالى، واملأها بجواهر تزيد في ميزان أعمالك يوم لقي الله تبارك وتعالى، وهنا يفرح الصادقون.
الخاصية الثانية لرمضان: أنه شهر نزول القرآن، قال تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
وفي نزول القرآن في رمضان قولان: الأول: قال ابن عباس: معنى نزوله: أن نزوله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا كان في رمضان.
ونحن نؤمن باللوح، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تبارك وتعالى خلق لوحاً من درة بيضاء، دفتاه من ياقوتة حمراء، عرضه ما بين السماء والأرض، قلمه نور، وكتابه نور، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم ثلاثمائة وستين نظرة، يخلق بكل نظرة ويحيي ويميت، ويفعل ما يشاء).
المعنى الثاني: أن بدء نزول القرآن الكريم على قلب رسولنا صلى الله عليه وسلم، بواسطة أمين الوحي جبريل عليه السلام كان في ليلة القدر في رمضان.
وهو شهر نزول كل الكتب السماوية؛ لحديث واثلة بن الأسقع -وحسنه الشيخ الألباني - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة لست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاث عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل الزبور لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان) على اختلاف العلماء في تحديد ليلة القدر، وأن الوتر يكون باعتبار ما مضى من الشهر، فإذا عددت من أول الشهر تكون ليلة واحد وعشرين، أو ثلاث وعشرين، أو خمس وعشرين، أو سبع وعشرين، أو تسع وعشرين هي أرجى الليالي موافقة لليلة القدر.
وإذا عددت من آخر الشهر؛ لحديث أبي سعيد الخدري لواحدة بقين، لثلاث بقين، لخمس بقين، فبهذا الحساب من آخر الشهر قد تكون ليالي الوتر وترية باعتبار ما تبقى من الشهر، وتكون شفعاً باعتبار ما مضى من الشهر.
إذاً: فشهر رمضان شهر نزول كل الكتب السماوية كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية.
قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] فالقرآن كاف لكل ذي لب.(58/5)
فضل قراءة القرآن
أين نحن من القرآن ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (من سرّه أن يُحب الله ورسوله فلينظر في المصحف)، فأينا لا يسرّه أن يحب الله تبارك وتعالى؟ ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكلام أقواماً ويضع به آخرين).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية كنت تقرأها).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم آية من كتاب الله فله ثوابها ما تليت).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له به أجران).(58/6)
سير السلف في قراءة القرآن في رمضان وغيره
مزامير الأنس، من حضرة القدس، بألحان التوحيد، من رياض التمجيد، هذا طعم الخبر، فكيف بطعم النظر! آيات منزلة من حول العرش، الأرض منها سماء فهي منها نجوم، فلم لا تقبلون على كتاب الله تبارك وتعالى؟ يقول عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعت من كلام ربكم.
يقول أحمد بن أبي الحواري: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنؤهم النوم ومعهم القرآن! أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا.
يا إخوتاه! هذا شهر يستحب فيه ختم القرآن في أقل من ثلاث، وعليه عمل السلف في هذه الأمة وعبّادها، فـ الشافعي كانت له ستون ختمه في شهر رمضان، يعني: أنه يتلو القرآن مرتين يومياً بواقع ستين جزءاً، وأقسم بالله إني لأعلم شباباً يقرءون القرآن في سبع ساعات حدراً لا يخطئون خطئاً واحداً، ففي سبع ساعات يمرون عليه مروراً.
وعليه قول الإمام مالك فقد سئل الإمام مالك عن رجل يقرأ القرآن كل ليلة ويختمه، فقال: القرآن إمام كل خير، وأمام كل خير.
وهذا قول أحمد، وقول إسحاق بن راهويه أنه لا يكره الختم في أقل من ثلاث؛ لأن هذا فقط في الأيام التي يرجى فيها الخير ويستحب فيها الدعاء، وليس هذا ديمة، فأديموا مع القرآن وقوفكم.
عجباً لك يا أخي! يأتيك خطاب من ابن عمك ربما كان لا يساوي خردلة في ملك الله، فتقرأه في الطريق ولا تستمهل أن تصل إلى البيت فتقرأه! وأمامك كتاب الله تبارك وتعالى فلا تسعد عينك بالنظر إليه! أحد تابعي هذه الأمة -وكان ضريراً- سأل الله تبارك وتعالى أن يمن عليه بالبصر وقت قراءة القرآن فقط، فكان إذا قرأ القرآن عاد إليه بصره.
رميت ببين منك إن كنت كاذباً وإن كنت في الدنيا بغيرك أفرح وإن كان شيء في الوجود سواكم يقر به القلب الجريح ويفرح هوى غيركم نار تلظى ولحظة وحبكم الفردوس بل هو أفسح اسمعوا إلى الطيب الحيي سيدنا عثمان بن عفان ذي النورين لما قتلوه بكت زوجته نائلة، تصوروا يا إخوتاه رجال من هذه الأمة ينتسبون إلى هذه الأمة يقتلون عثمان ذا النورين! أناس تمتد أيديهم إلى ذي النورين الذي تستحي منه الملائكة، ويقتلونه وهو يقرأ القرآن، فيسيل الدم على قول الله تبارك تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:137].
تقول زوجه: قتلتموه وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن، ويقرؤه كله في ركعة واحدة، وفيه نزل قول الله تبارك وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
فأين نحن من تلاوة القرآن؟ أين نحن من تدبر القرآن؟ أين نحن من الرجوع والتحاكم إلى القرآن؟ يا أخت أندلس عليك سلام هوت الخلافة عنك والإسلام طوي الهلال عن السماء فليتها طويت وعم العالمين ظلام وقال الآخر: بكت الصلاة وتلك فتنة عابث بالشرع عربيد القضاء وقاح أفتى خزعبلة وقال ضلالة وأتى بكفر في البلاد بواح ضجت عليكِ ممالك ومآذن وبكت عليكِ منابر ونواحي فالصين والهة ومصر حزينة تبكي عليكِ بمدمع سحاح والشام تسأل والعراق وفارس أمحى من الأرض الخلافة ماح خطب أتى طول الليالي دونه قد طاح بين عشية وصباح وعلاقة فصمت عرى أسبابها كانت أبر علاقة الأرواح نزلت صفوف المسلمين ودمعهم في كل غدوة جمعة ورواح فلتسمعن بكل أرض داعياً يدعو إلى الكذاب أو لسجاح ولتسمعن بكل أرض فتنة فيها يباع الدين بيع سماح يبكى على ذهب المعز وسيفه وهوى النفوس وحقدها الملحاح {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:40].(58/7)
فضل قيام الليل في رمضان وغيره
الحمد لله، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الحمد لله حبيب قلوب الوالهين، ومنتهى رغبة السالكين، ومحط آمال الراحلين.
ورمضان يا إخوتاه شهر القيام، وشهر التراويح، وشهر التهجد، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة غرفاً ترى ظهورها من بطونها، وباطنها من ظاهرها، قالوا: لمن هي يا رسول الله؟! قال: لمن أطعم الطعام، وألان الكلام، وأدام الصيام، وصلى بالليل والناس نيام).
شهر رمضان يا إخوتاه شهر الإخلاص في الصوم والقيام، يقول قتادة: كان يقال: ما قام الليل منافق.
والصلاة في الليل تبعث على الإخلاص، وقيام الليل ليس فيه رياء، وصحته على ركني هذا الشهر: الصيام والقيام، فبهما يطرد كل رياء من القلوب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن رجل ينام الليل أجمعه فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).
يقول الحسن البصري: إنه والله بول ثقيل، يقول لك الشيطان: عليك ليل طويل فنم ولا تستيقظ، وعلى الطرف الآخر يقول الله تبارك وتعالى لجبريل: أقم فلاناً وأنم فلاناً؛ حتى لا يساوي الحيوانات العجماوات، ولا يساوي الطيور العجماوات.
تقول السيدة عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الطارق وهو الديك، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول في حديث حسنه المناوي والألباني: (لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة).
إذاً فهذا الديك هو أحسن من بعض البشر الذين يوقظون للمعاصي، (لا تسبوا الديك؛ فإنه يوقظ للصلاة).
صاح الديك فلم تنتبه، فأعاد فلم تفق، فقوى برد الجناحين فخطم خديه حزناً على مصيبته.
قم بنا يا أخي لما نتمنى واطرد النوم بالعزيمة عنا قم فقد صاحت الديوك ونادت لا تكون الديوك أطرب منا {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17].
وقال تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات:17 - 18].
وقال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل:1 - 6].
وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8]، فإذا فرغت من الفريضة فانصب لصلاة الليل، كما قال ابن مسعود.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم).
فعادة الصالحين الطيبين قبلكم أن يقوموا الليل، فإذا قام العابد إلى مصلاه قالت له الملائكة: طوباك سلكت منهاج العابدين من قبلك، (عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة منكم إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد).
وحينما تذهب إلى أي طبيب في أمراض الروماتيزم فكل ما يعطيك من أدوية: بلكريم ونحو ذلك، فكل هذه الأدوية مسكنة ولا تقضي على المرض، ولم يخترع علاج على مستوى العالم إلى الآن لأمراض الروماتيزم، وهناك طبيب من أعظم أطباء مصر حينما قال: لقد اخترعت علاجاً لأمراض الروماتيزم، أوقف من النقابة 6 أشهر عن مزاولة المهنة، وقد أتى بها الرسول منذ أربعة عشر قرناً.
وهناك بحث أعده أطباء القصر العيني بالتعاون مع كلية الطب بحلوان وأشرفت عليه كل كليات الطب في العالم الإسلامي، أخذوا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (ومطردة للداء عن الجسد) هذه الفقرة فقط وأجروا بحثاً على ثلاثين رجلاً يصلون التراويح، وثلاثين آخرين لا يصلون التراويح، فأثبتوا أن الذين يواظبون على صلاة التراويح ارتفعت عندهم الكفاءة الوظيفية للقلب مع مرونة جميع فقرات العمود الفقري، واختفاء كل الآلام الروماتيزمية من المفاصل، هذا لمن يطلب المادة، وأما من يطلب الآخرة فهناك شيء آخر لقيام الليل، فقد جاء رجل من قضاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، ممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء)، فالذي يواظب على صلاة التراويح يكتب عند الله تبارك وتعالى من الصديقين والشهداء.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزّه استغناؤه عن الناس).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، ماذا أنزل الليلة من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات) يعني: أمهات المؤمنين، (يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يطرق علياً وابنته فاطمة ليلاً وقال: (ألا تصليان؟ فقال علي: يا رسول الله! إنما أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، يقول علي: فسمعته وهو مول يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل ساعة لا يوافقها رجل مؤمن يسأل الله عز وجل فيها شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة).
والرسول صلى الله عليه وسلم يمر بـ سالم مولى أبي حذيفة فيجده يتهجد بصلاة الليل، فقال: (الحمد لله الذي جعل في أمتي مثله).(58/8)
سيرة السلف في قيام الليل
قيل لسيدنا عمر بن الخطاب: ألا تنم يا أمير المؤمنين؟! فقال: كيف لي بالنوم، إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حضي مع الله.
لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا وسيدنا عثمان عندما مات عمر تزوج عثمان بإحدى نسائه، فلما سألوه عن سر ذلك قال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر.
اللهم بغّض إلينا ساعات أكلنا وشربنا، وارزقنا سهراً في طاعتك، اللهم ارزقنا الشوق إلى لقائك، اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك، رب اجعلنا لك ذكّارين، لك شكّارين، لك أوّاهين مخبتين منيبين، وتقبّل توبتنا، اللهم واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدرونا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
قام الخطاءون وقمنا إلى عبادتك، اللهم أصلحنا لعبادتك، اللهم أصلحنا لخدمتك، اللهم أصلحنا لخدمتك، اللهم تجاوز عن سيئاتنا اللهم تجاوز عن سيئاتنا، اللهم فرغ قلوبنا ممن سواك، اللهم فرغ قلوبنا ممن سواك، اللهم فرغ قلوبنا ممن سواك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، ومعذرة إن كنت قد أطلت عليكم، وأقم الصلاة.
قال الشاعر: فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح وهذا سيدنا أبو ريحانة الصحابي الجليل قفل من غزوه فأعدت له زوجه طعام العشاء، فأكل ثم نصب قدميه في محرابه إلى الصباح، فلما كان الصبح وأراد أن يمضي إلى الجيش قالت له زوجه: يا أبا ريحانة! غزوت فأطلت الغزو ثم عدت، أفما كان لنا فيك نصيب؟ قال: لو خطرت لي على بال لكان لكِ فيَّ نصيب، قالت: يرحمك الله وما الذي شغلك عنا؟ قال: إني نظرت إلى ما أعد الله عز وجل للمتهجدين في كتاب الله من سندسها ومن إستبرقها، فذاك الذي شغلني عنكِ.
وقد سأل سيدنا موسى الله تبارك وتعالى: (من أدنى أهل الجنة منزلة، ومن أعلاهم منزلة؟ فلما سأله عن أعلاهم منزلة قال: أولئك الذين أردت غرس كرامتهم بيدي، فلم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16])، ومعنى هذا: أن المتهجدين هم أعلا أهل الجنة منزلة، ولذلك حرص العلماء على قيام الليل، فسيدنا أبو هريرة قسّم الليل أثلاثاً بينه وبين زوجته وبين خادمه، فإذا قام هذا نام هذا، واتخذوا الليل زمناً، فإذا أسفر الصباح كانت له اثنتا عشرة ألف تسبيحة.
فإذا صلى واحد من العشاء إلى الفجر وقام الليل بعشر فإنه يجد رقة عجيبة، فما بالك إذا كان سيدنا أبو هريرة يأتي باثنتي عشرة ألف تسبيحة، ثم بعد أن يفرغ من هذا يقول: إنما أسبِّح بقدر ذنبي، وكأنهم قد أسلفوا في ليلهم الجرائم.
إنما أسبح بقدر ذنبي، وفي رواية: إنما أسبِّح بقدر ديتي.
وسيدنا عبد الله بن عباس اتخذ الليل زمناً، فنصفه يصلي ويدعو، ونصفه يبكي.
وحفرت الدموع خطين أسودين في وجه الفاروق، فبالله عليك قل لي عن دمع يحفر مجرى في لحم كيف هذا الدمع؟ وإحدى العابدات أخذت بيد ابنها وكان عابداً كثير البكاء بالليل، فأرته نقرة أو حفرة في البيت وقالت له: هذا موضع دموع أبيك.
والإمام الأوزاعي دخلت إحدى الجارات على أم ولد له فوجدت بللاً في مصلى الشيخ، فقالت لزوج الأوزاعي: ثكلتك أمك تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ؟ قالت: والله ما هذا بول الصبيان، وإنما هذا من أثر دموع الشيخ ليلاً.
فما ظنك بالدموع إذا كانت هذه آثار الدموع الباقية.
وابن عباس ظل يبكي حتى مرضت عيناه كما قال علماء التراجم.
وسيدنا مسروق بن عبد الرحمن تقول عنه زوجه: ما كان يأتي فراشه إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام، وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه.
وكان أحد العباد إذا أتى صلاته زحفاً -وهو علي بن الفضيل - ينظر إلى أبيه ويقول: أي أبتاه! سبقني العابدون وقُطع بي، والهفاه يا أبتاه! وقتله ترداده لآية في ظلام الليل قام بها الليل، وهي قوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27]، فظل يرددها حتى خرجت روحه فيها، وبكى والده وقال: واابناه، واقتيل جهنماه! ما قتل ابني إلا الخوف من النار.
والربيع بن خثيم كانوا يعلمون شعره بالليل، فإذا أتى إلى صلاة الصبح قالوا: والله إن شعر الربيع ليخبركم أنه ما توسده الليل.
وقالوا للحسن البصري: هنا رجل يحفظ القرآن وينام الليل، فقال: ذاك رجل يتوسد القرآن.
يعني: كأنه ينام على القرآن.
وضيغم بن مالك الذي صلى حتى تفحم، وصلى حتى أُصيب بمرض أقعده، قال أحد العبّاد: ما أطول بكاء ضيغم! فقالت أم ضيغم: لمثل ما ندب إليه فليكن البكاء القيامة وما فيها، يا بني وهل رأيت حزيناً قط؟ ذهب الحسن وأصحابه بالحزن.
ونور الدين محمود زنكي كان مدمناً لقيام الليل، وكان له مع رمضان حكايات وحكايات، ورمضان هو شهر بدر وشهر فتح مكة، وشهر الجهاد، رمضان هو شهر عين جالوت، رمضان هو شهر الزلاقة، رمضان هو شهر الفتوحات، فأين نحن من هذا؟ فهذا نور الدين محمود زنكي قاهر الصليبيين وما كان يتناول من إفطار المملكة شيئاً طوال شهر رمضان، وكان يبعث إلى شيخه يأتي له بالرقاق يتناوله طوال شهر رمضان، وكان مدمناً لقيام الليل، فبهؤلاء انتصر المسلمون.
يقول الحافظ ابن كثير دخل بعض المسلمين إلى بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة له فسمعوا النصارى يقولون: إن القسيم بن القسيم -يعنون نور الدين - لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما ينصر علينا بصلاته في الليل.
فهذه شهادة الكفار في حقه.
وأين منا قول أنس بن النضر: واهاً لريح الجنة، إني لأشم رائحة الجنة من وراء أحد.
وأين منا قول جعفر: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها عليّ إن لاقيتها ضرابها أين منا قول عمير بن الحمام: إنها لحياة طويلة إن مكثت في الدنيا حتى آكل تمراتي هذه؟! وأين منا قول حرام بن ملحان الذي نفض الدم على رأسه وقال: فزت ورب الكعبة؟! وأين منا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل)؟ وأين منا قول أبي بكر: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد.
ورمضان يا أخوتاه شهر الدعاء، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام أحمد بسند جيد عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكل مسلم دعوة مستجابة يدعو بها في رمضان).
وهذا نور الدين محمود زنكي كان مدمناً لقيام الليل، وكذلك كانت زوجه عصمة الدين بنت الأتابك خاتون، فقد قامت ذات ليلة غضبى من نومها، فسألها عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني وردي من البارحة فلم أصل من الليل شيئاً، فلما مات عنها تزوجها صلاح الدين الأيوبي.
يقول القاضي ابن شداد شيخ الحنفية: كان صلاح إذا اشتد الحصار بالمسلمين يطوف على البلاد والأمصار وعيناه تذرفان الدموع، ويقول: يا للإسلام يا لعكا، ويطول قيامه ويقول: إلهي قد انقطعت أسبابي الأرضية عن نصرة دينك، وليس لي إلا الإخلاد إلى جنابك، ودموعه تتقاطر على لحيته، قال: فوالله ما يأتي الفجر إلا ومعه خبر النصر على الأعداء.
والإمام البطل المجاهد الحافظ عبد الغني المقدسي - وهذا كان من أعظم علماء الحنابلة- رآه رجل كافر وهو يصلي بالليل، فلما كان الغد أسلم هذا الرجل لما رأى من الخشوع الذي على وجه عبد الغني المقدسي.
قالوا للحسن البصري: عجزنا عن قيام الليل! قال: أثقلتكم ذنوبكم، وقيدتكم خطاياكم، إنما يؤهل الملوك للخلوة بهم من يصدق في ودادهم، فأما من كان من أهل مخالفتهم فلا يرضونه لذلك.
قالوا للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.(58/9)