المرأة وعلو الهمة
المرأة مصنع الرجال، ومنبع الأبطال، فبصلاحها يعم الخير الكثير، وبفسادها ينتشر الشر الوبيل، كيف لا تكون كذلك وهي الأم المربية، والأخت الناصحة، والزوجة المرشدة، والبنت الطائعة.
وفي التاريخ الإسلامي الكثير والكثير من النماذج المشرقة لنساء صالحات مرشدات تائبات قانتات، أصلحن علاقتهن مع خالقهن ومع كل من حولهن.(1/1)
تشريف الإسلام للمرأة
المرأة نصف الأمة، ثم هي تلد لها النصف الآخر، فهي أمة بأسرها، يقول الشاعر وهو الشيخ يوسف القرضاوي: يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يرجونها للهو واللعبِ هل يستوي مَن رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطا حمالة الحطب أختاه لست بنبت لا جذور له ولست مقطوعة مجهولة النسب أنت ابنة العُرْب والإسلام عشت به في حضن أطهر أم من أعزّ أبِ فلا تبالي بما يلقون من شُبه وعندك العقل إن تدعيه يستجب سليه من أنا ما أهلي لمن نسبي للغرب أم أنا للإسلام والعرب لمن ولائي لمن حبي لمن عملي لله أم لدعاة الإثم والكذب وما مكانيَ في دنيا تموج بنا في موضع الرأس أم في موضع الذنب هما سبيلان يا أختاه ما لهما من ثالث فاكسبي خيراً أو اكتسبي سبيل ربك والقرآن منهجه نور من الله لم يحجب ولم يغب في ركبه شرف الدنيا وعزتها ويوم نبعث فيه خير منقلب فإن أبيتِ سبيل الله فاتخذي سبيل إبليس رأس الشر والحرب إن ضياع الأمة الإسلامية قديماً وحديثاً كان بسبب المرأة، فهذه إيزابيلا زوجة فرديناند ملك إسبانيا، أسقطت حكم المسلمين في إسبانيا يوم أن كان آخر خلفاء المسلمين اسماً على مسمى: أبو عبد الله الصغير.
فأضاع ملك المسلمين نظير أن يكون ملكاً من قبل فرديناند ملك إسبانيا، ويكون الملك لبنيه ولأحفاده من بعده، هناك رواية التاريخ الأسباني تسمى: إيزابيلا صاحبة القميص العتيق، فالأسبان يمجدون هذه المرأة التي أقسمت ونذرت ألا تخلع قميصها الداخلي، وألا تهنأ بزوج حتى يسقط ملك المسلمين من إسبانيا، وكان لها ما أرادت.
ويوم أن أخرجت أبو عبد الله الصغير من ملكه في قصر الحمراء بكى أبو عبد الله كالصغار، فقالت له أمه عائشة: ابك كالنساء، ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال.
والمرأة التي أذاقت المسلمين في العصر الحديث الويلات، والتي ثأرت لدينها ولبني قومها باحتلال أرض العرب والمسلمين، هي غولدا مائير، وقد قال عنها بن غريون في مذكراته: سيذكر التاريخ يوماً من الأيام أن امرأة طافت أوروبا وأمريكا وجمعت ملايين الدولارات؛ من أجل إقامة إسرائيل، وسيذكر التاريخ أن غولدا مائير هي الرجل الوحيد في إسرائيل.(1/2)
عناية الإسلام بالمرأة
إن المرأة أمرها عظيم؛ لذا فقد شرفها الإسلام وكرمها، وجعلها هي والرجل من أصل واحد، فقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما النساء شقائق الرجال)، وساوى الله تبارك وتعالى بين الرجل والمرأة في العمل وفي الأجر فقال تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء:124]، وقال تبارك وتعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
فالإسلام هو الذي شرف المرأة، ولذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدنيا كلها متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الصالح، والجار الصالح، والمركب الهنيء)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حبب إلي من دنياكم النساء والطيب، وجعلت قرة عيني في الصلاة)، والطيب لا يحب إلا الطيب، يقول عليه الصلاة والسلام: (جعلت قرة عيني في الصلاة)، فيابن آدم! خل بينك وبين سيدك وداً وصلة تدخل عليه أنى تشاء.
ذكر النبي صلى الله عليه وسلم من الطيبات المرأة، ثم ذكر الطيب، ثم ذكر الصلاة، فجمع المرأة إلى الطيبات، إلى الطيب وإلى الصلاة.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قلب شاكر، ولسان ذاكر، وزوجة صالحة تعينك على أمر دنياك ودينك، خير ما اكتسبه الناس).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليتخذ أحدكم قلباً شاكراً، ولساناً ذاكراً، وزوجة مؤمنة تعينه على أمر الآخرة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل نفس من بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة بيتها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (استوصوا بالنساء خيراً).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله يوصيكم بالنساء خيراً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني أحرج عليكم حق الضعيفين: اليتيم، والمرأة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (خياركم خياركم لنسائهم)، وقال صلى الله عليه وسلم: (خياركم خيركم لأهله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
وقال الأديب الرافعي: النساء منجم السعادة، فرجل واحد لا يكاد يمد يده حتى يضعها على الجوهرة المشرقة، ومائة رجل يغربلون حصى شارع؛ ليجدوا فيها جوهرة تلمع فما يجدونها.
ولذلك المرأة لزوجها رزق من الله تبارك وتعالى، يقولون: كم من امرأة جميلة تراها أصفى من السماء، مثل النسيم العليل، ثم تثور يوماً فلا تدل ثورتها على شيء إلا كما يدل المستنقع على أن الوحل في قاعه، الخبيثات للخبيثين كما إن الطيبات للطيبين.
قيل لأرض حصيبة -أرض ملؤها الحصى نكدة -: ما تشتهين أن يكون زوجك لو كنت امرأة؟ فقالت: الفأس، أي: حتى تقطعها من رأسها.
وقال مصطفى صادق الرافعي أديب الإسلام يرحمه الله: المرأة ريحانة بيتها، إذا ضاقت الدار فلم تتسع فلم لا تتسع النفس التي فيها؟ المرأة وحدها هي الجو الإنساني لدار زوجها، فواحدة تدخل الدار تجعله روضة نضرة متروحة ساكنة، وإن كانت الدار قحطة ليس فيها كبير شيء، وامرأة أخرى تدخل الدار فتجعله مثل الصحراء، برمالها وقيظها وعواصفها، وإن كانت الدار في رياشها ومتاعها كالجنة السندسية، مثلما قال الحطيئة لأمه وزوجته: أغربالاً إذا استودعت سراً وكانوناً على المتحدثينا إنما تكون المرأة مع رجلها من أجله؛ لأنه زوجها، ومن أجل الأمة، فعليها حقان لا حق واحد، أصغرهما كبير، ولو إن المرأة عاشت بهذه الذات فإنها نصف الأمة، فإن أخبرها زوجها تقول: أعيش من أجل الجماعة الكبرى، فتكون المرأة مع رجلها من أجله ومن أجل الأمة معاً، فعليها حقان لا حق واحد أصغرهما كبير؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يصلح للبشر أن يسجد لبشر، ولو صلح أن يسجد بشر لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها؛ من عظم حقه عليها، والذي نفسي بيده! لو أن من قدمه إلى مفرق رأسه قرحة تنبجس بالقيح والصديد، ثم استقبلته فلحسته ما أدت حقه) والحديث صحيح.
فالإسلام العظيم كرم المرأة حين وضعتها الجاهلية الخبيثة القديمة، والجاهلية الحديثة في الحضيض.(1/3)
إهانة الجاهلية الحديثة للمرأة
في أمريكا في السبعينات كانت هناك إحصائية رسمية طلبت من المكتب الرسمي للإحصائيات، فقالوا: إن في أمريكا عشرين مليون لقيط، وكان ساعتها عدد أمريكا مائتين مليون، يعني: كان في أمريكا كل واحد من عشرين ابن حرام، هذا في السبعينات أما في هذا الوقت فكيف؟! وأيضاً في الثمانينات عملوا إحصائية، وجدوا فيها أن 46% من النساء يمارسن السحاق، وهذا في سنة ستة وثمانين.
ورصدوا إحصائية: أن كثيراً من النساء يرضعن أولادهن مع الحليب المخدرات، من أجل أن ينام الطفل؛ حتى أصيب الأطفال الرضع بالإدمان، وهذا من كلامهم.
كما أباحت الكنائس في أوروبا وفي أمريكا أن يتزوج الرجل بأمه وبأخته!! يقول الشيخ عبد الله عزام رحمه الله في كتابه مستقبل الإسلام: كنت أحتفظ في جيبي دائماً بصورة شاب في العشرين من عمره، وقد تزوج جدته وهي في السبعين من عمرها، في قرية بالقرب من لوس أنجلوس.
فهذه الحضارة الأوروبية النكدة، وهذا ما يريدون للمرأة، علاوة على نوادي العراة، وحفلات الشذوذ الجنسي الجماعي، وتبادل الزوجات.
ووجدوا أن من أخطر المجرمات في أمريكا عشر من النساء، ثلاث منهن من رائدات التحرر المثالي.(1/4)
صور من إكرام الإسلام للمرأة
الإسلام العظيم كرم المرأة حين صور بيتها تصويراً بديعاً يشع منه التعاطف والندى، ويفوح منه العبير.
أي تكريم للمرأة فوق أن يسمي الله عز وجل سورة من كلامه في القرآن باسم النساء؟ وسورة أخرى باسم امرأة وهي مريم البتول رضي الله عنها؟! وأي تكريم للمرأة أجل من أن القرآن كان ينزل في مخدع عائشة؟! أي تكريم أعلى من أن الله ينزل قرآناً في براءة امرأة كما قالت: وبرأني الله من فوق سبع سماوات، وهي الصديقة بنت الصديق؟! أي تكريم أجل من أن يتولى الله بنفسه تزويج امرأة، وهي زينب بنت جحش فكانت تفتخر على أمهات المؤمنين فتقول: زوجكن آباؤكن وزوجني الله من فوق سبع سماوات؟! فلا التأنيث لاسم الشمس عيب ولا التذكير فخر للهلال وأكمل النساء تلك التي تنظر إلى الدنيا بعين متلألئة؛ بنور الإيمان، تقر في كل شيء معناه السماوي، فهذه المرأة كالمعبد، وكالقوة المسعدة لزوجها، فالمرأة الحق هي تلك التي خلقت لتكون خلف الرجل، مادة الفضيلة والصبر والإيمان تكون له إلهاماً وعزاء وقوة، وزيادة في سروره ونقصاً من آلامه، ولن تكون المرأة في الحياة أعظم من الرجل إلا بشيء واحد، وهي أن تجعل زوجها أعظم منها، فنحن لا نعرف اسم زوجة الشافعي، ولا زوجة البخاري، ولا من تكون أم سفيان الثوري، فهذه المرأة وأمثالها اختفت خلف زوجها وصنعت منه رجلاً عظيماً.(1/5)
علو الهمم عند النساء
تعال إلى علو الهمة لنحلق في آفاق عالية، نسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل في بيوتنا حظاً من هذه الهمة العالية.
العلماء عندما يقارنوا بين السيدة خديجة وبين عائشة رضي الله عنهما يقولون: إن خديجة أفضل؛ لأن الله تبارك وتعالى سلم بنفسه عليها فقال: (أقرئ خديجة من ربها السلام)، أما عائشة فقد سلم عليها جبريل، يعني: الأولى سلم الله عليها بنفسه، وبلغها ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه سلم عليها جبريل فقط.
فمن أمثلة علو الهمة عند النساء:(1/6)
علو همة امرأة فرعون
زوج فرعون مثال عال للاستعلاء على عرض الدنيا النتنة، فحينما تطل بكبرياء أهل الجنة على زخرف الأرض وتقول: لا أريده، قال الله تبارك وتعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11]، فهي لم يصدها طغيان الكفر الذي تعايشه في قصر فرعون عن طلب النجاة من ربها؛ وإنما تبرأت من قصر فرعون طالبة من الله بيتاً في الجنة، ولما حرمت من السكن في دار الدنيا تبرأت من صلتها بفرعون، وتبرأت من عمله، وخافت أن يلحقها شيء لأنها ألصق الناس به، وتبرأت من قوم فرعون وهي تعيش بينهم، فهذه المرأة السيدة الكاملة مثل للاستعلاء على عرض الدنيا في أبهى صوره، فلقد كانت امرأة فرعون الذي كان أعظم ملك في الأرض يومئذ، وكانت في قصره الذي يمثل أمتع مكان تجد فيه المرأة ما تشتهيه، فاستعلت على هذا بالإيمان وحده، واعتبرته شراً ودنساً وبلاء تستعيذ بالله منه، وطلبت النجاة منه.
وهي امرأة واحدة في مملكة عريضة قوية، وهذا فضل آخر؛ فالمرأة أشد شعوراً بوطأة المجتمع وبتطوراته، وهذه المرأة كانت وحدها في وسط هذا المجتمع الكافر العريض، في وسط ضغط القصر وضغط الملك، وضغط الحاشية، والمقام الملوكي، ففي وسط هذا كله رفعت رأسها إلى السماء وحدها في خضم هذا الكفر الطاغي.
وهي نموذج عال في التجرد لله عز وجل من كل هذه المؤثرات، ومن كل هذه الأواصر والمعوقات، ومن ثم استحقت أن تذكر في كتاب الله الخالد، الذي تتردد كلماته في جنبات النفوس.
فهي امرأة عظيمة بحق، يذكرها الله عز وجل في كتابه العظيم.
عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كمل من الرجال كثير، ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (حسبك من نساء العالمين بأربع: مريم بنت عمران، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد رضي الله عنها).(1/7)
علو همة مريم البتول
ومريم البتول رضي الله عنها رمز للتجرد لله تبارك وتعالى وكمال العبادة، قال الله تبارك وتعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، فقد كانت ولية من أولياء الله تبارك وتعالى، تأتيها فاكهة الصيف في الشتاء وفاكهة الشتاء في الصيف.
والكرامة ثابتة عند أهل السنة والجماعة للصالحين من عباد الله تبارك وتعالى.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم يمسه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها)؛ ولذا قال الله عز وجل: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا} [آل عمران:37]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان؛ فيستهل صارخاً من نخسة الشيطان، إلا ابن مريم وأمه).(1/8)
فضل أم المؤمنين خديجة
ولو لم يكن للنساء من فضل في هذه الأمة إلا أن أول مسلم كانت خديجة بإجماع المسلمين كما قال ابن الأثير، وأول شهيد في الإسلام سمية أم عمار.
قال ابن الأثير: خديجة أول خلق الله أسلم بإجماع المسلمين.
ويقول سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (خير نسائها خديجة بنت خويلد، وخير نسائها مريم بنت عمران).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب)، ومعنى: (من قصب) أي: من عيدان اللؤلؤ، وعيدان اللؤلؤ مستقيمة مستوية، ثم قال عليه الصلاة والسلام: (لا صخب فيه ولا نصب)، وكذا كل بيوت الجنة، كما قال الله عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]، ولكن ينص النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الخاصية في بيت خديجة بالذات، وقد بشر عليه الصلاة والسلام خديجة ببيت في الجنة من قصب، لا صخب فيه ولا نصب؛ وذلك لما دعاها النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام أجابته خديجة طوعاً، ولم تحتج إلى منازعة ولا تعب في ذلك، بل أزالت عن النبي صلى الله عليه وسلم كل نصب، وآنسته من كل وحشة، وهونت عليه كل عسير، كما قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: (آمنت بي إذ كذبني الناس، وآوتني إذ رفضني الناس).
وهي التي واست النبي صلى الله عليه وسلم، وآزرته وقالت له: (أبشر فوالله! لا يخزيك الله أبداً؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتعين على نوائب الحق)، فهي خاصية من جمل الخصائص التي تميزت بها السيدة خديجة على باقي أمهات المؤمنين! وما عارضت النبي صلى الله عليه وسلم في أمر، وهناك من يقول: الأولى للداعية أن يتزوج داعية أو عالمة فإن لم تتحل بالورع فستجعل حياته نكداً، فعندما يقول لزوجته الفقيهة -مثلاً- قال الشافعي أو قال مالك، فستقول له: أنا على رأي الأحناف، فإن لم يرزقها الله عز وجل ورعاً ستشعل بيته حريقاً.
ولكن عندما تكون لا تعرف إلا أعمال البيت، وتصلي خمسها، وتصوم شهرها، وتحفظ فرجها، وتكون ذاكرة عادلة فهذا خير لها ولزوجها، فأنت لا تريد من المرأة إلا أن تحسن التبعل لك، فلا ترفع صوتها على صوتك، وأحلى وأعطر كلمة تقولها المرأة لزوجها: يا سيدي، تعطر بها فمها وتنال بها رضا ربها.
فقد كانت رابعة بنت إسماعيل الشامية إذا طبخت قدراً من الطبيخ تقول لزوجها: كله يا سيدي، فوالله! ما نضج إلا بالتسبيح.
وأم الدرداء كانت إذا ذكرت زوجها بعد موته، تقول: حدثني سيدي أبو الدرداء.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلم المرأة حق الزوج لم تقعد ما حضر غداؤه وعشاؤه حتى يفرغ منه)، فنحن نقول: لو أن المرأة تعلم حق زوجها فسيكون عندها شيئاً كبيراً عظيماً، هو سيدها فلو أقرت لزوجها بالأمر هذا سيكون البيت أجمل ما يكون، ولو نظرت إلى زوجها وكأنه أقل منها في شيء فسيكون البيت دماراً.
ونحن نعرف امرأة حاصلة على الدكتوراة في العلوم الشرعية، وهي متزوجة من مكنيكي لا يعرف إلا الصامولة ونحوها، ولكنه ملتزم، وبرغم هذا فهي من أسعد الزوجات وزوجها من أسعد الأزواج.
فلا يصح أن تنظر المرأة لزوجها بعين النقص فتجعل البيت شجاراً ودماراً.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يركز على هذه النقطة فبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب.(1/9)
صبر وتوكل هاجر
والمرأة عظيمة في توكلها على الله عز وجل، فهذه أم إسماعيل زوج الخليل إبراهيم، لما أتى بها سيدنا إبراهيم إلى جبال فاران موضع مكة الآن، وهي لا ترى إلا رمال الصحراء، وهديرها الكالح، فتقول: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ يقول: نعم، تقول: إذاً فلن يضيعنا.
وهذا ليس بكلام عفوي، أي: يخرج تلقائياً، فلو لم يكن عندها يقين لما تركته يذهب، فهي تعلم - إن لم يكن عندها يقين بربها - أن في ذهابه موتها، فهو لمن سيتركها ورضيعها في الصحراء؟ ليس عندها إلا تمر، وجراب من ماء فقط، لكنها قالت له: اذهب؛ لأنه بقي عندها الزاد العظيم من التوكل، ولكنه بالله تبارك وتعالى، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل)، أي: بطول الأمل.
ولما ظلت تلهث بحثاً لرضيعها عن الماء سمعت صوتاً، فقالت لنفسها: صه، وكأنها تسمع نفسها، ثم قالت: أغث إن كان عندك غوث، وهنا تبدا لها جبريل أمين وحي السماء، وقال لها: من أنت؟ قالت: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم، قال: إلى من وكلكما؟ قالت: إلى الله، فقال لها: وكلكما إلى خير كاف، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله.(1/10)
صبر ويقين أم موسى
وأم موسى كان اليقين يملأ قلبها بما عند الله تبارك وتعالى، قال الله عنها: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا} [القصص:10] أي: من كل شيء إلا من محبة ابنها فقد ملأت شغاف قلبها، وبرغم هذا ألهمها الله عز وجل بقوله: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ} [القصص:7]، ومعلوم أن المرأة إذا خافت على ولدها تضمه إلى صدرها، فما بال أم موسى تلقيه إلى البحر؟! وذلك ليقينها بما عند الله عز وجل، فهي مثل عال في اليقين، وفي التوكل على الله عز وجل، وفي الثقة به سبحانه وتفويض الأمر إليه، وقال بعضهم: لا تدبر لك أمراً فأولوا التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحو أولى بك منكا(1/11)
فضل فاطمة بنت رسول الله
وفاطمة عليها السلام، البضعة النبوية والجهة المصطفوية، يقول عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل نساء أهل الجنة خديجة وفاطمة ومريم وآسية)، كانت رضي الله عنها تدير الرحى حتى ظهرت في يدها وفي كفها الثآليل - الفقاقيع - وحتى تأثرت يداها وأثرت الرحى في صدرها، وكانت تستعين على خدمة البيت بالتسبيح.
وعن الشعبي رحمه الله أنه قال: لما مرضت فاطمة أتى أبو بكر فاستأذن، فقال علي: يا فاطمة! هذا أبو بكر يستأذن عليك، فقالت: أتحب أن آذن له؟ فقال: نعم -قال الذهبي: عملت السنة رضي الله عنها، فلم تأذن في بيت زوجها إلا بأمره- قال: فأذنت له، فدخل عليها يترضاها، وكان هذا بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، حتى رضيت.
والإسناد صحيح.
وكان مهرها درع علي الحطمية، ومن من النساء الآن تقبل هذا؟! فكيف نريد دولة إسلامية، أو خلافة على منهاج النبوة، ولا يوجد من النساء من تقبل هذا؟! قال: كان مهرها درع علي الحطمية، أهديت إليه، ومعها خميلة، ومرفقة من أدم حشوها من الليف، وقربة، ومنخل، وقدح، ورحى، وجرابان، ولم يكن لها فراش غير جلد كبش، ينامان عليه بالليل وتعلف عليه الناضحة بالنهار، والناضح يعني: الإبل التي تحمل الماء.
وهي من هي، فهي بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنست وطحنت وأثرت الرحى في صدرها، واستعانت على خدمة البيت بالتسبيح، كما وصاها بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن الجوزي: تالله! ما ضرها ذلك.
أذهب الله عنها وعن سائر بيتها الرجس، وطهرها تطهيراً، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحبها ويكرمها ويسر إليها، وكانت صابرة على شظف العيش مع زوجها علي رضي الله عنه، دينة خيرة صينة قانعة شاكرة لله.
عن أبي البحتري: قال علي لأمه: اكفي فاطمة الخدمة خارجاً، وتكفيك هي العمل في البيت أي: من العجين والخبز.
ونساءنا اليوم لا يعرفن الطحن أو الخبازة والعجين، بل لا يعرفن ما هو العجين، ولا ما هو الخبز، فليحمدن الله عز وجل على ذلك.
وتجد المرأة في الستين من عمرها وهي تقول لمن هن دونها في السن: احمدن الله عز وجل، فأنتن في كامل الراحة، فاجعلوا بيوتكن جنات لأزواجكن، يكفي شظف العيش الذي يلاقيه الرجال.
وعن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نزل ملك من السماء فاستأذن الله أن يسلم علي لم ينزل قبلها، فبشرني أن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة)، وكل الأحاديث التي ذكرتها ذكرها الشيخ الألباني في صحيح الجامع.
وكان الإمام أحمد إذا سئل عن علي وأهل بيته، قال: أهل بيت رسول الله لا يقاس بهم أحد.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحداً كان أصدق لهجة من فاطمة، إلا أن يكون الذي ولدها، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم.(1/12)
قبسات من حياة أم المؤمنين عائشة
أما الصديقة بنت الصديق حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزوجة نبينا في الدنيا والآخرة، الفقيهة الربانية، مات عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن أقام معها تسع سنوات، وحين مات صلى الله عليه وسلم ما كانت قد بلغت بعد السنة التاسعة عشرة يعني: لما مات النبي صلى الله عليه وسلم كان سنها ثماني عشرة سنة، على أنها ملأت أرجاء الدنيا علماً، فقد وعت من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تعه امرأة من نسائه، وروت عنه ما لم يرو مثلها أحد من الصحابة إلا أبو هريرة وعبد الله بن عمر.
قال الإمام الذهبي: لا أعلم في أمة محمد صلى الله عليه وسلم بل ولا في النساء مطلقاً امرأة أعلم منها.
نشهد أنها زوجة نبينا صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة، وما نزل الوحي إلا والنبي صلى الله عليه وسلم في لحاف عائشة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما نزل علي الوحي وأنا في لحاف امرأة منكن غيرها).
وكانت رضي الله عنها من أنفس الناس رأياً في أصول الدين، ودقائق الكتاب المبين، وكان لها الاستدراكات العظيمة على الصحابة، فإذا علموا ذلك منها رجعوا إلى قولها.
يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ما أشكل على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث قط فسألنا عائشة إلا وجدنا عندها منه علماً.
وقال مسروق: رأيت مشيخة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يسألونها عن الفرائض.
وقال عطاء بن أبي رباح: كانت عائشة أفقه الناس.
وقال الزهري: لو جمع علم الناس كلهم وعلم أمهات المؤمنين، لكانت عائشة أوسعهم علماً.
ويبلغ مسند عائشة رضي الله عنها (2210) أحاديث.
ولما ذكر الإمام ابن حزم أسماء الصحابة الذين رويت عنهم الفتاوى في الأحكام، على كثرة ما نقل قدم عائشة على سائر الصحابة في نقل الفتاوى عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وروت عائشة من جملة صحيح البخاري ومسلم مائتين ونيفاً وتسعين حديثاً، وحمل عنها ربع الشريعة بأكملها.
قال عروة بن الزبير: ما رأيت أحداً أعلم بفقه ولا بخطب ولا بشعر من عائشة.
يقول أيضاً: لقد صحبت عائشة -وهي خالته- فما رأيت أحداً قط كان أعلم بآية نزلت، ولا بفريضة، ولا بسنة، ولا بشعر، ولا أروى للشعر، ولا بيوم من أيام العرب -أي: تاريخ العرب- ولا بنسب، ولا بقضاء منها.
فهذا فضل عائشة رضي الله عنها.(1/13)
عبادة أم المؤمنين عائشة
أما عبادتها، فقد قال القاسم: كانت عائشة تصوم الدهر -أي: تسرد الصوم- ولا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.
وعن عروة: أن عائشة كانت تسرد الصوم، يقول: كانت تصوم الدهر ولا تفطر إلا يوم أضحى أو يوم فطر.
وعن القاسم رحمه الله قال: كنت إذا غدوت -يعني: إذا صلى الغداة أو الصبح- أبدأ ببيت عائشة رضي الله عنها فأسلم عليها، فغدوت يوماً فإذا هي قائمة تسبح وتقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27]، تدعو وتبكي وترددها، فظللت منتظراً حتى مللت القيام.
ثم ذهبت إلى السوق لحاجتي فرجعت فإذا هي قائمة تصلي وتبكي وتقول: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور:27].
وعن عروة رضي الله عنه قال: كانت عائشة رضي الله عنها لا تمسك شيئاً جاءها من رزق الله إلا تصدقت به.
وقال عروة: بعث معاوية مرة إلى عائشة بـ (100000) درهم، فقسمتها، لم تترك منها شيئاً، فقالت لها بريرة: أنت صائمة فهلا ابتعت لنا منها بدرهم لحماً، فقالت: لو ذكرتيني لفعلت.
أي: أنها تنسى نفسها عند الصدقة.
وعن عروة قال: إن عائشة تصدقت بـ (70000) درهم، وإنها لترقع جانب درعها.
ما منا أحد حتى ممن ضيق الله عز وجل عليه الرزق يرضى أن يكون له ثوباً مرقعاً، هذا بالنسبة للرجل فما ظنك بالنسوة! مالوا فملن، ولما يفسد الرجال تفسد النسوة.
وعن محمد بن المنكدر عن أم ذرة كانت تغشى عائشة رضي الله عنها، قالت: بعث إليها ابن الزبير بمال في غرارتين كبيرتين بمائة وثمانين ألف درهم، فدعت في طبق وهي صائمة يومئذ، فجعلت تقسمه بين الناس، فأمست وما عندها من ذلك درهم، فلما أمست قالت: يا جارية! هلمي فطوري، فجاءتها بخبز وزيت، فقالت لها أم ذرة: أما استطعت مما قسمتي اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه، قالت: لا تعنفيني، لو كنت ذكرتيني لفعلت.(1/14)
تواضع أم المؤمنين عائشة
وفي مرض موتها دخل عليها عبد الله بن عباس رضي الله عنهما فقال: أبشري فوالله! ما بينك وبين أن تلقي محمداً صلى الله عليه وسلم والأحبة إلا أن تخرج الروح من الجسد، كنت أحب نساء النبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب إلا طيباً، فقالت: يا ابن عباس! دعني منك ومن تزكيتك، فوالله! لوددت أني كنت نسياً منسياً.
وهذا من تواضع عائشة رضي الله عنها.
فكانت قدوة من حيث الصدقة، ومن حيث صيام الدهر، ومن حيث العلم، ومن حيث العبادة.
ومن ذلك أنه يذهب ابن أختها إلى السوق وهي تصلي ثم يشتري حاجته، ثم يقف عندها حتى يمل من القيام، وهي ما خرجت بعد من سنة الضحى.(1/15)
علو الهمة عند أم المؤمنين زينب
ومن علو همة أم المؤمنين زينب بنت جحش في الصدقة أنها كانت امرأة صناعة، أي: تعمل بيدها وتتصدق به في سبيل الله.
قالت عائشة رضي الله عنها: كانت زينب بنت جحش تساميني في المنزلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم أر امرأة قط خيراً في الدين من زينب، وأتقى لله، وأصدق حديثاً، وأوصل للرحم، وأعظم صدقة، وأشد التزاماً بنفسها في العمل الذي تتصدق به، وتتقرب به إلى الله تبارك وتعالى.
أما في قيام الليل فحدث عنها ولا حرج، فقد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ذات يوم فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال: ما هذا الحبل؟ قالوا: لـ زينب، إذا فترت تعلقت به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (حلوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا فتر فليقعد).
وعن برزة بنت رافع قالت: لما جاء العطاء - أي: عطاء سيدنا عمر لأمهات المؤمنين - بعث عمر إلى زينب رضي الله عنها بالذي لها، فلما دخل عليها قالت: غفر الله لـ عمر، لغيري من أخواتي كان أقوى على قسم هذا مني.
تظن أن هذا المال كله جاء لأمهات المؤمنين كلهن، فقالوا: هذا كله لك، فقالت: سبحان الله! ثم استترت دونه بثوب، ثم قالت: صبوه، ثم جعلت عليه ثوباً آخر، ثم قالت لجاريتها: ادخلي يدك فاقبضي قبضة اذهبي إلى آل فلان وإلى آل فلان من أيتامها ومن ذوي رحمها، فقسمته حتى بقيت منه بقية، فقالت لها برزة: غفر الله لك، والله! لقد كان لنا من هذا حظ، فقالت: لكم ما تحت الثوب، فرفعنا الثوب فوجدنا (85) درهماً، ثم رفعت يدها وقالت: اللهم! لا يدركني عطاء عمر بعد عامي هذا، فماتت قبل أن يأتي العطاء في العام المقبل.
وكان عطاء أم المؤمنين زينب بنت جحش في السنة (12000) درهم.
حمل إليها فقسمته كله إلا (85) درهماً فقط.
قالت عنها السيدة عائشة رضي الله عنها: لقد ذهبت حميدة متعبدة، مفزع اليتامى والأرامل.
وفي هذا عظة للإخوة والأخوات، فكل أخت ينبغي أن تسأل عن اليتامى والأرامل والمحتاجات من نساء المسلمين، وهذا دورهن في العمل الاجتماعي، أي: أن يبحثن عن النساء المسلمات المتعففات، اللاتي لا يجدن القوت، وأن تكون المرأة مسبحة ذاكرة صائمة متهذبة بكاءة خيراً لها، بعد أن تتعلم العلم المفروض عليها، ونحن قلنا: يجب أن يصحح الاعتقاد أولاً، أي: أن يكون مجمل الاعتقاد صحيح، وما فرض الله عليك من الصلاة والصيام والزكاة إن كنت غنية، ثم أقبلي على حفظ كتاب الله عز وجل، وكثرة الذكر.
وصح أن أم المؤمنين حفصة بنت عمر رضي الله عنها طلقها النبي صلى الله عليه وسلم وقد حسن ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة، وكذا الشيخ الألباني، ثم راجعها سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم بأمر من جبريل؛ لأن النبي لما طلقها نثر عمر التراب على وجهه وسار في طرقات المدينة وقال: ما أصبح الله يبالي بـ عمر ولا بابنة عمر، فنزل جبريل وقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة.(1/16)
علو الهمة عند أسماء بنت أبي بكر
وأسماء بنت الصديق رضي الله عنها لما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة حمل أبو بكر معه جميع ماله (5000) أو (6000) فأتى جدها أبو قحافة وكان قد عمي فقال: إن هذا قد فجعكن بماله ونفسه، فقالت: كلا قد ترك لنا خيراً كثيراً، قالت: فعمدت إلى أحجار فجعلتهن في كوة في البيت، وغطيت عليها بثوب، ثم أخذت بيده ووضعته على الثوب، فقالت: ترك لنا هذا، فقال: أما إن ترك لكم هذا فنعم.
وعن عبد الله بن زيد قال: ما رأيت امرأتين قط أجود من عائشة وأسماء وجودهما مختلف، أما عائشة فكانت تجمع الشيء حتى إذا اجتمع عندها قسمته، وأما أسماء فكانت لا تمسك شيئاً لغد.
ومن ضمن الرسائل التي وصلتني رسالة أخ يقول فيها: أخي الشيخ الفاضل حسين! إني أحبك في الله لم أنس يا شيخنا آخر مرة سمعت لك فيها، تحدثت فيها عن فضل العلم وطلبه، فجزاك الله خيراً، والحقيقة عندما أردت أن أحضر اليوم أنا وزوجتي لكي نسمع لفضيلتك، لم يكن معنا إلا أربعة جنيهات فقط، فهل كنا نبقيها للطعام أم نجعلها للمواصلة، فآثرنا غذاء الروح على غذاء البطن، وجئنا لكي نستفيد من علمك.
فنسأل الله عز وجل أن يبارك في هذا الأخ وفي زوجه، والله! لو قدم علي يكون ضيفي هو وأهله فسوف أضعه في عيوني.
فـ أسماء رضي الله عنها ما كانت تمسك شيئاً لغد، وكانت إذا مرضت تعتق كل مملوك لها، وتتصدق بكل أكل عندها.
وعن ابن أبي ملكية قال: كانت أسماء تصدع فتضع يدها على رأسها وتقول: بذنبي وما يغفره الله أكثر.(1/17)
علو همة سيمة بنت خياط
وسمية بنت خياط أول شهيدة في الإسلام، أم عمار وهي سابع سبعة في الإسلام، كان بنو مخزوم إذا اشتدت الظهيرة والتهبت الرمضاء، خرجوا بها وبابنها وزوجها إلى الصحراء، وألبسوهم دروع الحديد، وأهالوا عليهم الرمال المتقدة، وأخذوا يرضخونهم بالحجارة، فاعتصمت بالصبر، وقرت على العذاب، وأبت سمية أن تعطي القوم ما أرادوا من الكفر بعد الإيمان، فذهبوا بروحها وأفظعوا قتلتها، فلقد أنفذ النبل أبو جهل بن هشام أنفذ حربته فيها، فماتت رضي الله عنها، وكانت أول شهيد في الإسلام.
سمية لا تبالي حين تلقى عذاب النكر يوماً أو تلين وتأبى أن تردد ما أرادوا فكانت في عداد الصابرين(1/18)
صبر أم شريك
وبصبر أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم أسلم من عذبوها، قال ابن عباس: وقع في قلب أم شريك الإسلام وهي بمكة فأسلمت، ثم جعلت تدخل على نساء قريش سراً فتدعونهن وترغبهن في الإسلام، حتى ظهر أمرها لأهل مكة، فأخذوها وقالوا لها: لولا قومك لفعلنا بك وفعلنا، ولكنا سنردك إليهم، فقالت: فحملوني على بعير ليس تحتي شيء، ثم تركوني ثلاثاً لا يطعمونني ولا يسقونني، فنزلوا منزلاً وكانوا إذا نزلوا أوقفوني في الشمس واستظلوا هم، وحبسوا عني الطعام والشراب حتى يرتحلوا.
فبينا أنا كذلك إذا بأثر شيء بارد وقع علي منه، ثم عاد فتناولته فإذا هو دلو ماء، قالت: فشربت منه قليلاً ثم نزع مني، ثم عاد فتناولته فشربت منه قليلاً ثم رفع، ثم عاد أيضاً، فصنع ذلك مراراً حتى ارتويت، ثم أخذت سائره على جسدي وثيابي، فلما استيقظوا إذا هم بأثر الماء على جسدي وعلى ثيابي، ورأوني حسنة الهيئة، فقالوا لي: انحللت؟ أي: هل فككت الرباط، فأخذت سقاءنا فشربت منه؟ فقلت: لا والله! ما فعلت ذلك، بل كان من الأمر كذا وكذا، فقالوا: لئن كنت صادقة فدينك خير من ديننا، فنظروا إلى الأسقية ووجدوها كما تركوها، فأسلموا من ساعتهم.(1/19)
أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط
وهكذا أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط زوجة عبد الرحمن بن عوف كان أبوها شيطاناً من شياطين الكفر، فأسلمت وفارقت خدرها ومستقرها ومأمنها تحت جنح الليل وحيدة فريدة شريدة، تطوي بقدميها ثنايا الجبال وأغوار التهائم بين مكة والمدينة، إلى مفزع دينها ودار هجرتها؛ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أتت بعد ذلك أمها فاتخذت سنتها، وهاجرت هجرتها، وتركت شباب أهل بيتها وكهولتهم وهم في ضلالهم يعمهون.
وأم كلثوم المغنية كانت دماء المسلمين التقية الندية تسيل على رمال سيناء وهي تصيح في المخدرين والسكارى والنائمين: هذه ليلتي وحلم حياتي! ولو أن الخيال يبعث حياً هوت الكأس من يديه حطاما كوكب الشرق ذل قومي لما جعلوك على الصدور وساما وأم حواري الرسول صلى الله عليه وسلم وعمته، أول امرأة قتلت رجلاً من المشركين، صفية بنت عبد المطلب، حدث عنها ولا حرج.(1/20)
جهاد أم عمارة نسيبة
ومقام أم عمارة نسيبة بنت كعب في أحد خير من الرجال، فهي الفاضلة المجاهدة الأنصارية، شهدت ليلة العقبة وشهدت أحداً والحديبية ويوم حنين ويوم اليمامة، وجاهدت وفعلت الأفاعيل، وقطعت يدها وهي تجاهد، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لمقام نسيبة بنت كعب اليوم خير من مقام فلان وفلان)، وكان يراها وهي تقاتل أشد القتال، وهي حاجزة ثوبها على وسطها، حتى جُرحت ثلاثة عشر جرحاً، وكانت تقول: إني لأنظر لـ ابن قمئة وهو يضربها على عاتقها، وكان أعظم جراحها، فداوته سنة، وهو الذي ضرب النبي صلى الله عليه وسلم، ثم نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: إلى حمراء الأسد، وشدت عليها ثيابها فما استطاعت من نزف الدم رضي الله عنها.
قالت أم عمارة: رأيتني وقد انكشف الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بقي إلا في نفر ما يتمون عشرة، وأنا وأبنائي وزوجي بين يديه نذب عنه، والناس يمرون به منهزمين، ورآني ولا ترس معي، فرأى رجلاً مولياً معه ترس، فقال: ألق ترسك إلى من يقاتل، فألقى ترسه فأخذته فجعلت أتترس به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قالت: فأقبل رجل على فرس فضربني، فتترست له فلم يصنع سيفه شيئاً فولى، فأضرب عرقوب فرسه فوقع على ظهره، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يصيح: يا ابن أم عمارة أمك أمك؛ قالت: فعاونني عليه حتى أوردته شعوب.
يعني: قالت: أعانني ابني على قتل هذا الكافر حتى قتله معي.
وقتل ابنها مسيلمة الكذاب، وكانت تشجعه على هذا، جرحت يوم أحد اثني عشر جرحاً، وجرحت يوم اليمامة أحد عشر جرحاً، وقطعت يدها وقدمت المدينة وبها الجراحات.
فلقد رئي أبو بكر رضي الله عنه وهو خليفة يأتيها يسأل عنها، وهي عجوز مسنة قد قطعت يدها، ولكن مسليمة قتل ابنها فلله درها من امرأة!! وقد تكون المرأة ناعمة في بيت أبيها، لئن جاز للعواتق الناعمات من بنات حواء حياة ناعمة وهاجعة في بيوت آبائهن، يجررن فيها الذيول، تستعرض الواحدة منهن أنواع الحلي والزينة، وتضحي المسك فوق رأسها نؤوم الضحى لم تنطق عن تفضل، فإنها في بيت الحركة تكون فدائية.(1/21)
جهاد أسماء بنت يزيد بن السكن
وقتلت أسماء بنت يزيد بن السكن تسعة من الروم في يوم اليرموك، وهي من المبايعات المجاهدات، قتلت بعمود خبائها يوم اليرموك تسعة من الروم، قالوا: وكان ذلك اليوم يوم عرسها، فلما قتلوا زوجها قلعت عمود الخباء ثم قتلت تسعة من الروم، في صبيحة عرسها.
يقولون: المرأة وليدة مجتمعها، يعني أنها تتأثر بظروف مجتمعها، مثلاً: امرأة تقول لزوجها: اذهب يرزقك ربنا ثعباناً؛ لأنهم يصيدون الثعابين، فتريد أن تصيبه بخير.
فالمرأة ظروف المجتمع تفرض عليها أحوالاً معينة، ونحن نريد امرأة تعيش للإسلام فقط، داعية، متصدقة، عابدة، ذاكرة، نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزق الناس بمثلهن.(1/22)
أم سليم امرأة أبي طلحة
والرميصاء بنت ملحان أم سليم امرأة من أهل الجنة، مثل كريم في الصبر، وفي الدعوة إلى الله عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بـ الرميصاء بنت ملحان، امرأة أبي طلحة، فسمعت خشفة، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا بلال).
وكانت حياتها مليئة بالأعاجيب النيرة المشرقة، توحي بسموها وعلوها.
قالت أم سليم: آمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء أبو أنس وكان غائباً، فقال: أصبوت -أي: أكفرت-؟! فقالت: ما صبوت ولكني آمنت، وجعلت تلقن أنساً وهو يرضع: قل: لا إله إلا الله، قل أشهد أن محمداً رسول الله، ففعل، فيقول لها أبوه: لا تفسدي علي ابني، فتقول: إني لا أفسده، ولكني أعلمه دينه.
فخرج مالك فلقيه عدو فقتله، فقالت: لا جرم لا أفطم أنساً حتى يدع هو الثدي، ولا أتزوج حتى يأمرني أنس، أي: حتى يكبر أنس ويأمرني بذلك.
وخطبها أبو طلحة وهو مشرك، فأبت وقالت له يوماً: أرأيت حجراً تعبده لا يضرك ولا ينفعك؟ أو خشبة تأتي بها النجار فيضع لك منها صنماً هل يضرك أو ينفعك؟ قال: ووقع في قلبي كلامها، فقلت: إن آمنت، قالت: إني أتزوجك، ولا آخذ صداقاً منك غير الإسلام.
فقال أنس: تزوج أبو طلحة أم سليم فكان صداق ما بينهما الإسلام، وكان أفضل صداق في الإسلام.
أما صبرها الجليل، فهذه المرأة العظيمة لما مرض أخ لـ أنس من أبي طلحة يدعى أبا عمير، فبينا أبو طلحة في المسجد مات الصبي، فتهيأت أم سليم وقالت: لا تخبروا أبا طلحة بموت ابنه، فرجع من المسجد وقد تزينت وتصنعت، فقال: ما فعل ابني؟ قالت: هو أسكن مما كان، فقدمت عشاء فتعشى هو وأصحابه الذين قدموا معه، ثم قامت إلى ما تقوم له المرأة فأصاب من أهله، فلما كان آخر الليل قالت: يا أبا طلحة! ألم تر إلى أهل فلان استعاروا عارية فتمتعوا بها، فلما طلبت إليهم شق عليهم، قال: ما أنصفوا، قالت: فإن ابنك فلاناً كان عارية من الله، فقبضه الله إليه، فاسترجع وحمد الله وقال: والله! لا أدعك تغلبيني على الصبر حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: (بارك الله لكما في ليلتكما)، فاكتملت منذ الليلة على عبد الله بن أبي طلحة ولم يكن في الأنصار شاب أفضل منه، وخرج منه رجال كثيرون، ولم يمت عبد الله حتى رزق عشرة بنين، كلهم حفظ كتاب الله عز وجل.(1/23)
صبر الخنساء
والخنساء التي صاغها الإسلام، ملأت في الجاهلية البوادي نياحاً على شقيقها صخر، وقالت: وإن صخراً لتأتم الهداة به كأنه علم في رأسه نار وقالت أيضاً: يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره لكل غروب شمس فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي بكت عليه، وقد مات مشركاً، وكان شجاعاً، لكن هذا لا ينفعه مع عدم الإسلام.
وفي الإسلام قدمت أفلاذ كبدها ونياط قلبها، أربعة من الأسود، خرجوا في يوم واحد؛ يوم القادسية، وكان مما أوصتهم به قولها: يا بني! إنكم أسلمتم طائعين، وهاجرتم مختارين، والله الذي لا إله إلا هو! إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم، ولا فضحت خالكم، ولا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم، اعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية، {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200]، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، وجللت ناراً على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها، فاظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والمقامة.
فلما كشرت الحرب عن أنيابها تدافعوا عليها وتواقعوا إليها، وكانوا عند ظن أمهم بهم، حتى قتلوا واحداً إثر واحد، فلما وافتها النعاة خبرهم لم تزد على أن قالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من الله أن يجمعني بهم في مستقر الرحمة.
وخولة بنت الأزور من ذوات الخدور، ولكن ليس كمثلها النسور.(1/24)
عبادة وتقوى حفصة بنت سيرين
وحفصة بنت سيرين العابدة التقية، حفظت القرآن وهي بنت ثنتي عشرة سنة، وكان إذا أشكل على أخيها محمد بن سيرين شيء من القرآن يقول: اذهبوا إلى أختي حفصة فانظروا كيف تقرؤه.
هذه التقية التي مكثت ثلاثين سنة لا تخرج من مصلى بيتها إلا لقضاء حاجة زوج أو قيلولة.
وكانت من أفضل التابعين.
قال هشام بن حسان: اشترت حفصة جارية، فقيل لها: كيف رأيت مولاتك بالليل؟ فذكرت كلاماً بالفارسية معناه: إنها امرأة صالحة، إلا أنها أذنبت ذنباً عظيماً، فهي الليل كله تبكي وتصلي.
وكانت إذا قامت إلى مصلاها من الليل لبست كفنها، ما تمسك التلفون ست ساعات، بل كانت إذا قامت صلاة الليل لبست كفنها، وكانت تقرأ نصف القرآن في الليلة، وتصوم الدهر، ولا تفطر إلا العيدين وأيام التشريق.(1/25)
علم عمرة بنت عبد الرحمن
وعمرة بنت عبد الرحمن بن سعد بن زرارة تربية عائشة، كانت عالمة فقيهة حجة، كثيرة العلم، وحديثها كثير في دواوين الإسلام.
عن ابن شهاب عن القاسم بن محمد أنه قال لي: يا غلام! أراك تحرص على طلب العلم، أفلا أدلك على وعائه؟ قلت: بلى، قال: عليك بـ عمرة فإنها كانت في حجر عائشة، فأتيتها فوجدتها بحراً لا ينزف.(1/26)
ابنة ابن المسيب وأم الثوري
وابنة سعيد بن المسيب كانت تُعلم زوجها علم سعيد بن المسيب، ولما أراد أن يمضي إلى حلقة والدها قالت: إلى أين؟ قال: إلى مجلس أبيك أتعلم العلم، قالت: اجلس هاهنا أعلمك علم سعيد بن المسيب.
وأم سفيان الثوري تعوله بمغزلها، قالت أم سفيان لـ سفيان: اذهب فاطلب العلم حتى أعولك بمغزلي هذا، فإذا كتبت عدة عشرة أحاديث، فانظر هل تجد في نفسك زيادة من العمل فاتبعه.
يعني: يا بني اكتب عشرة أحاديث، فإن عملت بها ووجدت في نفسك زيادة فاكتب عشرة أحاديث أخرى، وإلا فلا تتعنى، أي: إذا كنت لن تطبق العلم على نفسك فاقعد خيراً لك.(1/27)
عبادة أم الدرداء الصغرى
وأم الدرداء الصغرى مثل للفقيهة العابدة، كانت هي ونسوة متعبدات يجتمعن في مسجد فيصلين، فإذا ضعفن عن القيام تعلقن بالحبال، وكن يصلين بالبقرة وآل عمران والنساء والمائدة، قيل: فوالله ما يقعن إلا عند الأنعام في ركعة واحدة.(1/28)
علم وفقه ابنة الإمام مالك وجاريته
وبنت الإمام مالك كانت تحفظ الموطأ، وكان إذا قرأ القارئ على أبيها، فإذا زاد أو نقص تدق ابنته الباب، فيقول أبوها للقارئ: ارجع فالغلط معك، فيرجع القارئ فيجد الغلط عنده.
وجارية الإمام مالك، حكى أشهب أنه كان في المدينة، وأنه اشترى خضرة من جارية، وكانوا لا يبيعون الخضرة إلا بالخبز، فقال لها: إذا كان عشية حين يأتينا الخبز فأتنا نعطيك الثمن، فقالت: ذلك لا يجوز، قال لها: ولم؟ فقالت: لأنه بيع طعام بطعام غير يد بيد، فسأل عن الجارية، فقالوا: هي جارية مالك بن أنس.
جارية في السوق وهي تعلم الناس فقه البيوع.(1/29)
فطنة أم ابن المديني
وأما علي بن المديني، فيقول: غبت عن البصرة في مخرجي إلى اليمن ثلاث سنين وأمي حية، فلما قدمت قالت: يا بني! فلان لك صديق وفلان لك عدو، فقلت لها: من أين علمت يا أماه؟ قالت: كان فلان وفلان يجيئون مسلمين فيعزونني ويقولون: اصبري، فلو قدم عليك سرك الله عز وجل بما ترين.
يعني: ابنك هذا خرج في طلب العلم ولما يرجع فسيكون عالماً كبيراً جداً، فيعوضك عن الأيام التي غابها عنك كلها، قالت: فعلمت أن هؤلاء لك أصدقاء، وفلان وفلان إذا جاءوا يقولون: اكتبي إليه، ضيقي عليه ليقبل، فعلمت أنهم أعداء لك.
وفاطمة بنت عباس بن أبي الفتح كانت تستحضر أكثر المغني.(1/30)
حفظ زيب النساء للقرآن
وأعجوبة النساء الأميرة مفسرة القرآن، زيب النساء، بنت الملك أورنك زيب عالمكير سلطان الهند، كانت حافظة للقرآن مفسرة له، كتبت تفسيراً لكتاب الله عز وجل، ويعد تفسيرها هذا من أوائل التفاسير التي انفردت بها النساء، تفردت بتفسير القرآن العظيم كاملاً.
اسمها زيب النساء، يعني: زين النساء، بنت الملك أورنك زيب عالمكير سلطان الهند في عهده.(1/31)
زهد وتقوى زوجة صلاح الدين الأيوبي
وأيضاً المرأة التقية الزاهدة زوجة صلاح الدين، اسمها عصمة الدين، وهذه المرأة كانت زوجة نور الدين محمود زنكي، ثم لما مات عنها تزوجت صلاح الدين الأيوبي.
هذه المرأة العظيمة قامت ذات ليلة وهي غاضبة من نومها، فسألها زوجها عن سر غضبها؟ فقالت: فاتني وردي البارحة، فلم أصل من الليل شيئاً.
وهي امرأة ملك، وكانت زوجة سلطان دمشق، بل سلطان الشام كله، وتقوم من الليل غاضبه؛ لأنها لم تصل بالليل.
وكانت ترسل إلى زوجها؛ لأنها كانت كثيرة الصدقة، فتأخذ منه المال الكثير فيقول: والله! لا أدخل النار بسببك، وكان نور الدين محمود زنكي زوجها سلطان دمشق، كل أكله من عمل الأقفال، أي: يصنع الأقفال بيده، ثم يذهب بها فيبيعها، وكان هذا دخله الذي يعيش منه، وهو ملك الشام قاهر الصليبين.
وكان من قواده في مصر أسد الدين شيركوه وهو عم صلاح الدين، فلما مات أسد الدين شيركوه عهد نور الدين محمود زنكي بالعمل من بعده لـ صلاح الدين الأيوبي، فقضى صلاح الدين الأيوبي على سلطان الدولة الفاطمية من مصر.
يحفظ التاريخ العديد من العابدات التقيات، الصوامات القائمات في الليل، وكانت المرأة منهن إذا دخل عليها الليل تقول: بخ بخ، يا نفس! قد جاء سرور المؤمن، فإذا اشتدت في عبادتها تقول: لا تأنسن بمن توحشك نظرته فتمنعن من التذكار في الظلم واجهد وكد وكن في الليل ذا شجن يسقيك كأسه باب العز والكرم فإذا مضى عنها الليل بكت وقالت: واحرماه واسلباه.
ذهب الظلام بأنسه وبإرثه ليت الظلام بأنسه يتجدد(1/32)
أمثلة لعلو الهمة عند النساء من التاريخ الإسلامي
يحفظ التاريخ منهن رابعة العدوية، أثنى عليها شيخ الإسلام ابن تيمية، وأثنى عليها ابن القيم، وأثنى عليها ابن مفلح، وأثنى عليها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء في الجزء الثامن، وأثنى عليها ابن كثير في المجلد العاشر من البداية، وقال: رابعة العابدة التقية، أكثر الناس من الثناء عليها، ورؤيت لها منامات صالحة، إلا أن أبا داود السجستاني كان يتهمها بالزندقة، وربما بلغه عنها الشيء، ولكن أكثر أهل العلم على توثيقها، أما الكلام الذي صدر عنها إن صح منها فلا يقبل، ولكن هذا في جانب صيامها وقيامها.
وهذه عاتكة المخزومية تعاتب في كثرة بكائها، فقالت: ما ينبغي للمخوف بالنار أن تجف له دمعة، حتى يعرف موقع الأمان من ذلك.
وعفيرة العابدة، تعاتب في قلة نومها وكثرة قيامها، فقالت: ربما اشتهيت أن أنام فلا أقدر، وكيف ينام من لا ينام عنه حافظاه ليلاً ولا نهاراً؟! وفاطمة النيسابورية تقول: الصادق المقرب يدعو ربه دعاء الغريق يسأل ربه الخلاص والنجاة.
وعائشة بنت سعيد الحيري عابدة نيسابور، مجابة الدعوة، سمعت ابنتها تتكلم وهي فرحة ببعض ما لديها من العلم، وببعض ما لديها من حطام الدنيا، فقالت: لا تفرحي بفان، ولا تجزعي من ذاهب، وافرحي بالله عز وجل، واجزعي من سقوطك من عين الله عز وجل.
وقالت لابنتها: الزمي الأدب ظاهراً وباطناً، فما أساء أحد الأدب في الظاهر إلا عوقب ظاهراً، ولا أساء أحد الأدب باطناً إلا عوقب باطناً.
ومليكة بنت المنكدر تقول: دعوني أبادر طي صحيفتي.
وزوجة صلة بن أشيم: معاذة العدوية تلميذة السيدة عائشة رضي الله عنها، لما أتاها نعي زوجها وولدها، وأتت النسوة يعزينها، قالت: إن كنتن قد جئتن لتهنئنني فأهلاً بكن وسهلاً، وإلا فارجعن من حيث أتيتن.
ولبابة العابدة تقول عن لذة عبادتها في محرابها: ما زلت مجتهدة في العبادة حتى صرت أستريح بالعبادة، فإذا تعبت من لقاء الخلق آنسني بذكره، وإذا أعياني الخلق روحني للتفرغ لعبادة الله عز وجل، والقيام إلى خدمته.
ومخة أخت الإمام بشر بن الحارث الإمام الورع وأخته ورعة كذلك، تأتي إلى الإمام أحمد وتقول له: أنين المريض شكوى؟ أي: المريض عندما يئن ويقول: آه، هل هذا كأنه يشكو الله عز وجل إلى خلقه؟ قال: والله! ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، فلما كان في مرض موته قيل للإمام أحمد: إن طاوس يقول: إن أنين المريض شكوى، فما أنَّ الإمام أحمد حتى مات.
المسألة التي غابت على إمام أهل السنة حفظتها امرأة.
وقالت: يا إمام! إنا نغزل غزلنا على ضوء مصباح الشارع، فإذا انطفأ مصباح الشارع ومرت مصابيح الظاهرية -وكانوا قوماً من الحكام ظالمين- غزلنا على ضوء مصابيحهم، أفنبينه للناس؟ قال: بيني ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: اتبعها يا بني، وانظر إلى أي بيت تدخل، فدخلت بيت بشر بن الحارث، فقال: من بيتهم خرج الورع.
أي: مثل هذه لا تخرج إلا من بيت بشر.
وماجدة القرشية كانت تبكي وتقول: كفى المؤمنين والمؤمنات طول اهتمامهم بالمعاد شغلاً عن الناس.
ونفيسة بنت الحسن بن زيد التي تقول عنها زينب بنت يحيى: خدمت عمتي فما رأيتها نامت بليل إلا قليلاً، ولا أفطرت بنهار، فقلت لها: أما ترفقين بنفسك؟ قالت: كيف أرفق بنفسي وقدامي عقبات لا يقطعها الفائزون!! ورابعة زوجة أحمد بن أبي الحواري يقول عنها زوجها: كنت يرق قلبي بالنظر إلى وجه زوجتي أكثر مما يرق بالحديث مع إخواني؛ لما رأى عليها من أثر الزهد والعبادة.
وبوب الإمام محمد بن نصر المروزي تلميذ الإمام البخاري باب: إن الرجل أو المرأة إذا اعتاد القيام نبه لذلك بالملائكة أو بعمار الدار من الجن.
وذكر قصة رابعة: إن زوجها يقول: ما رأيك تقومين من أول الليل، قالت: أوتحسبني أقوم بخاطري، إنما أقوم إذا نوديت.
وبوب الإمام محمد بن نصر المروزي تلميذ الإمام البخاري باب: إن الرجل أو المرأة إذا اعتاد القيام نبه لذلك بالملائكة أو بعمار الدار من الجن.
وذكر قصة رابعة: إن زوجها يقول: ما رأيك تقومين من أول الليل، قالت: أوتحسبني أقوم بخاطري، إنما أقوم إذا نوديت.
وهكذا الجواري والعبيد قال خالد الوراق: كانت جارية لي شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة، فدخلت عليها يوماً فأخبرتها برزق الله وقبوله ليسير العمل، فبكت وقالت: يا خالد! إني لأؤمل من الله تعالى آمالاً لو حملتها الجبال لأشفقت من حملها كما ضعفت عن حمل الأمانة، وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مذنب، ولكن كيف لي بحسرة السباق؟ قال: قلت: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر إذا بعثر ما في القبور، وركب الأبرار نجائب الأعمال، فاستبقوا إلى الصراط، وعزة سيدي! لا يسبق مقصر مجتهداً أبداً ولو حبا المجد حبواً.
أم كيف لي بموت الحزن والكمد، إذا رأيت القوم يتراكضون وقد رفعت أعلام المحسنين، وجاز الصراط المشتاقون، ووصل إلى الله المحبون، وخلفت مع المسيئين المذنبين!! ثم بكت وقالت: يا خالد! انظر لا يقطعك قاطع عن سرعة المبادرة بالأعمال، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه إذا نام البطالون! هذه صفحات من علو همة النساء.(1/33)
كتب تتحدث عن علو الهمة عند النساء
وكل أخت تريد أن تقرأ كثيراً في التراجم عليها بكتاب: سير أعلام النبلاء في تراجم النساء، وعليها بتاريخ دمشق، وتاريخ بغداد في تراجم النساء، وعليها بصفة الصفوة، وعليها بكتاب شيخنا وسيدنا الشيخ محمد المقدم عودة الحجاب، الجزء الثاني، وكتاب: تراجم أعلام النساء لـ عمر كحالة.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(1/34)
المستقبل للإسلام
آيات كثيرة في كتاب الله الكريم تشير إلى أن المستقبل للإسلام، وأن الله ناصر جنده ولو بعد حين، كما يشير النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك، وأخبر أنه لن تقوم الساعة حتى ترفع راية الإسلام في كل مكان.
وإذا نظرنا في تاريخ المسلمين فسنجد أن الأيام دول، وأن بعد الهزيمة والذل نصراً وتمكيناً.(2/1)
أهمية تبشير الناس بأن المستقبل للإسلام
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، أما بعد: فإن الرائد لا يكذب أهله في مثل هذه الأوقات العصيبة، وعملاً بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (يسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا)، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة).
فسرور تدخله على مسلم بالتبشير بأن المستقبل المضيء للإسلام وللإسلام وحده ينور قلوباً ربما قد يعتريها الجفاف فتنتعش بعد ظمأ، وتسقي ساحات العمل الإسلامي المبارك، نبشر ليعقل ساذج، وليتململ كسلان راقد، وينافس هابط قاعد، ويفرح هامد يائس بائس.
نبشر بمستقبل الإسلام ليسكن القلب، ويسلو الحزين البائس، نجاةً من وهدة، وتوجيهاً في ساعة حيرة، وأذاناً في نيام، ونبلاً عندما يسهل الواقع، وسمواً إذا نطق الإغراء، ووفاء في ساعة النكوص، واقتحاماً في مواطن الانخذال، ودفعاً للانزواء الذي كلكل على اليائسين القانطين؛ لتدخل القلب برودة السكن بوعد الله عز وجل للمؤمنين بعد حرارة القلق، ولذعات الحيرة، ومرارة اليأس، وصداً لكل مأجور غريق تائه لا يجد له طريقاً.
عندما نعيش للإسلام فإن حياتنا تبدو طويلة عميقة تبدأ من حيث بدأت البشرية، وتمتد بعد الأرض، فنعيش حياة مضاعفة بقدر ما يتضاعف إحساسنا بالمسلمين لإسلامي أعيش أنا بتوحيدي وذا ديني نقشت حروفه تعلو على كل العناوين بخط الباب أن يسمو على كل الميادين لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني لإسلامي ولو حتى إلى النيران زفوني لإسلامي لإسلامي ولو في السوق باعوني وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني تبث النور في روحي وتنبض في شراييني وإسلامي له أعطي له نفسي وتكويني أنا ماذا أكون أنا بلا ربي بلا ديني أنا ماذا أكون أنا أجيبوني أجيبوني نحن لا نقول للناس: إن الإسلام جميل وطيب فاتركوا له فرصة؛ لأن هذا فعل اليائس، وإنما نقول: إننا بحاجة لأن نعلو حتى نصل إلى مستوى الإسلام النظيف، {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة:128]، هذا قول خليل الرحمن إبراهيم أعلى البشرية بعد رسولنا صلى الله عليه وسلم، يريد أن يبقيه الله تبارك وتعالى على الإسلام {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101]؛ أدباً مع الله عز وجل، ومعرفة لقدر النعمة التي لما حدنا عنها حاد عن أرجلنا طريق المجد.
عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رأيت ذات ليلة فيما يرى النائم كأنا في دار عقبة بن رافع فأتينا برطب من رطب ابن طاب) وهي رطب معروفة في المدينة لرجل يسمى: ابن طاب، قال: (فأولت ذلك الرفعة لنا في الدنيا، والعاقبة في الآخرة، وأن ديننا قد طاب).
نحن نتكلم عن الإسلام من منطلق الرد على الصليبية بأن المستقبل للإسلام، وأن حضارة الإسلام هي الحضارة العظمى، ونرد عليهم بقول علماء الأرض ممن حصلوا على أعلى الجوائز كجائزة نوبل، من عقلاء الغرب الذين يقولون: إن مجتمعاتهم مجتمعات خنازير، كما قال أفلاطون.
قال صلى الله عليه وسلم: (عند الله خزائن الخير والشر، مفاتيحها الرجال، فطوبى لمن جعله الله مفتاحاً للخير مغلاقاً للشر، وويل لمن جعله الله مفتاحاً للشر مغلاقاً للخير)، وقال صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالتيسير والسناء والرفعة في الدين، والتمكين في البلاد، والنصر).
حال الأمة في هذه الأيام مثل حال النبي صلى الله عليه وسلم، فأثناء الهجرة وهو مطارد وحيد إلا من رفيقه الطريد مثله يقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ سراقة الذي يريد أن يلحق به: (يا سراقة: كيف بك وسواري كسرى؟) يعني: الإسلام سينتصر وسيأخذ بيت كسرى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تغدو عصابة من أمتي البيت الأبيض بيت كسرى).
فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف بك يا سراقة وسواري كسرى؟)، فتمثل ذلك الواقع حينما تقول للناس: إن المستقبل للمسلمين.
والحال كما هو معلوم {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب:10 - 11].
وفي يوم الأحزاب كان النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحفر الخندق على ضربات المعاول يبدو نور المستقبل، فيقول: (الله أكبر أعطيت خزائن كسرى، أعطيت ملك قيصر، أعطيت خزائن اليمن)، {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب:22].
وأما المنافقون فيمثلهم معتب بن قشير يقول: إن محمداً يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب ليقضي حاجته.
قال تعالى: {وَلا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الكَافِرُونَ} [يوسف:87].
وكم لله من لطف خفي يدق خفاه عن فهم الذكي(2/2)
المبشرات بالنصر والتمكين(2/3)
مبشرات من القرآن
إن المستقبل للإسلام، وهذه مبشرات من القرآن الكريم، ومن السنة المطهرة، ومن السنن الربانية، ومن تاريخ المسلمين ومن خصائص الإسلام، ومن واقع هذه الأمة، ومن شهادات عقلاء الغرب بأن المستقبل للإسلام.
لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهد قال الله عز وجل: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة:32 - 33].
وقال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف:8 - 9]، هل رأى الناس إلا ديناً يضيء للدنيا كالمصابيح؟ فعصفوا عليه بأفواههم كما تعصف الريح، {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف:8]، وأين سراج النجم من نفخة ترتفع إليه كأنما تذهب لتطفيه؟! وأين نور القمر من كف يحسب صاحبها أنه سيرفعها إليه ليطفئه؟! هيهات هيهات! دون ذلك درج الشمس -وهي أم الحياة- في كفن وإنزالها بالأيدي -وهي روح النهار- في قبر من كهوف الزمن! إن المصباح السماوي الذي أوقده رسول الله صلى الله عليه وسلم تألب عليه بعضهم من يوم أبي لهب، ومن يوم حيي بن أخطب -وزال هؤلاء وذهبوا إلى مزابل التاريخ وبقي الإسلام شامخاً.
فالإسلام كالشمس لا يغرب مطلقاً، فانظر -مثلاً- حينما سقطت غرناطة -دولة المسلمين بالأندلس- في نفس الوقت كان سليمان القانوني يدق أسوار فينا ويصل إلى الميدان الرئيسي في فينا، واحتل بلغراد ودخلها في يوم الجمعة 25 رمضان، وأعلى الأذان في معابدها، ووصل خير الدين بربروس وهو قائد البحرية التركي الذي أنشأ دولة الجزائر، وصد الأسطول البرتغالي الأسباني ثلاث مرات ودحرهم، وأنقذ (70000 أسيرة مسلمة)، وأراد أن يعبر جبال البرانس بفرنسا، بل وصلت قوات المسلمين إلى مدينة سانت جنوب باريس بثلاثين كيلو متر.
وحينما سقطت دولة الخلافة العباسية -في نفس الوقت- قامت دولة الإسلام الفتية في الهند.
قال الله تبارك وتعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:55]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
فكلمة تكون بها عوالم، وتخلق بها نواميس، وكلمة تذهب أدراج التاريخ، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52]، وذكر الله تبارك وتعالى لنبيه عيسى أن أتباعه من المسلمين فوق الذين كفروا، قال: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [آل عمران:55]، وكذلك كل متبع للنبي ولمن سبقه من الأنبياء كما قال ابن كثير.
وقال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
إن الله أبتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، ومن ظلم الأديان إلى عدل الإسلام، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56]، وقال الله تبارك وتعالى عن حزب الشيطان: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُوْلَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة:19]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كما لا يجتنى من الشوك العنب كذلك لا ينزل الأبرار منازل الفجار)، فهما طريقان أيهما أخذتم أدركتم ثمرته.
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ فِي الأَذَلِّينَ * كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:20 - 21]، وقال تعالى: {إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128]، وقال تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، وقال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق:8 - 9].
والعاقبة النتنة لأجيال البشرية الضالة المنكوبة الكافرة البعيدة عن طريق الله وطريق رسوله، قال الله عز وجل مبشراً للمؤمنين: {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:5].
وقال الله تبارك وتعالى مبيناً معيته للمؤمنين: {وَلَنْ تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال:19]، وقال تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد:35]، وقال تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
وبين الله عز وجل أنه ولي الذين آمنوا فقال: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} [البقرة:257]، وقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
قال أبو سفيان في غزوة أحد: اعل هبل، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يردوا ويقولوا: (الله أعلى وأجل)، فقال: لنا العزة ولا عزة لكم، فقالوا له: (الله مولانا ولا مولى لكم).
قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38]، وهو ناصرهم قال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، وقال تعالى: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40]، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
والله عز وجل يمكر لدينه دائماً قال تعالى: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30]، وقال جبريل لـ أم إسماعيل: لا تخشي الضيعة إن الله لا يضيع أهله.
قال تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق:15 - 17].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36]، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة:5].
وقال تعالى: {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} [ص:11]، وقال تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} [آل عمران:12]، وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} [الرعد:17].
كل هذه مبشرات من كتاب الله عز وجل ومن أصدق من الله قيلاً، ومن أصدق من الله حديثاً، فليس بعد قول الله قول.(2/4)
مبشرات من السنة
وهناك مبشرات من السنة في انتشار الإسلام في أرض البسيطة، فقد بشر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (والله ليتمن الله هذا الأمر) أي: الإسلام، (حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخشى إلا الله، والذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون)، وراوي الحديث هو خباب بن الأرت الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (ولكنكم تستعجلون) كانت سيدته تلقي عليه الحديد المحمى فوالله ما يطفأ الحديد إلا بما يسيل من شحمه.
وعن تميم الداري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين بعز عزيز أو بذلك ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر).
وبشر النبي باتساع رقعة الإسلام، فعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها).
وفي حديث عبد الله بن عمرو بن العاص -الذي أخرجه الإمام أحمد - قال: (بينما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أو رومية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً)، ومدينة هرقل هي القسطنطينية، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد فتحت القسطنطينية في يوم الثلاثاء 20 جماد الأول سنة 857 هجرية الموافق 29 مايو سنة 1453 ميلادية على يد السلطان محمد الفاتح، وهو ابن 23 سنة، ففتحت القسطنطينية وستفتح روما.
هذه بشارة نبينا صلى الله عليه وسلم في عودة الخلافة الراشدة كما جاء في حديث حذيفة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عضوضاً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم سكت).
ومن المبشرات بمستقبل الإسلام السائر قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى تعود أرض العرب مروجاً وأنهاراً)، ومن المبشرات بأن المستقبل لهذا الدين ظهور المجددين لهذا الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة الذي رواه أبو داود، والحاكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها).
ومن المبشرات على أن شمس الإسلام لن تزول: بقاء الطائفة المنصورة إلى يوم القيامة، كما جاء في حديث عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة).
وفي حديث المغيرة بن شعبة: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون)، وفي حديث معاوية: (لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).
وحديث أبي هريرة: (لا تزال طائفة من أمتي قوامة على أمر الله لا يضرها من خالفها)، وحديث عقبة: (لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك).
وحديث سلمة بن نفيل: (ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام، ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله).
وقال صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره)، وهذا يدل على وجود الخيرية في هذه الأمة في كل زمن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (عصابتان من أمتي أخرجهما الله من النار) أي: لا يدخلان النار أبداً، (عصابة تغزو الهند، وعصابة تكون مع عيسى ابن مريم).
وقال صلى الله عليه وسلم: (بعثت بجوامع الكلم، ونصرت بالرعب، وبينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فوضعت في يدي).
ومن المبشرات لهذه الأمة نزول المسيح عيسى ابن مريم آخر الزمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد، حتى تكون السجدة الواحدة خير من الدنيا وما فيها).
وفي حديث آخر صححه الشيخ أحمد شاكر قال: (سيدق الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويدعو الناس إلى الإسلام، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال، ثم تقع الأمانة على الأرض حتى تركع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات فلا تضرهم).
وكما قال صلى الله عليه وسلم: (طوبى لعيش بعد المسيح، يؤذن للسماء بالقطر، ويؤذن للأرض بالنبات، حتى لو بذرت حبة على الصفا لنبتت، وحتى يمر الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاح ولا تحاسد ولا تباغض).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليقتلن ابن مريم الدجال ببيت لد).
ثم من المبشرات أيضاً: ظهور المهدي في آخر الزمان، قال صلى الله عليه وسلم: (لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملأت جوراً).
ومن المبشرات: الانتصار على اليهود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود، فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد).
وجيش محمد سيعود في عز وفي غلب وأن الغرقد الملعون مقطوع بلا سبب وأن السامري سيوقد النيران فوق مفاوز العرب ويمضي مثلما ولت جميع كتائب الإفرنج من حقب ويبقى تائهاً في الأرض يعبد عجله الذهبي وفي آخر الزمان ستفتح القسطنطينية مرة ثانية بعد عودتها إلى الكفر، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (تكون بينكم وبين بني الأصفر هدنة، فيغدرون بكم فيسيرون إليكم في ثمانين غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم -أي: الصليبيون- بالأعماق، فيخرج إليهم جيش من المدينة -أي: من مدينة دمشق- هم خير أهل الأرض يومئذ، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث هم خير الشهداء عند الله، ويفتح الله عز وجل على الثلث الباقي، وبينا هم يقتسمون الغنائم وقد علقوا سيوفهم بأشجار الزيتون إذ صاح فيهم الصائح -وفي رواية: الشيطان-: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم وذراريكم -وهذا باطل-، فيبعثون من يتقصى الخبر).(2/5)
مبشرات من سنن الله في الكون
وهناك مبشرات من سنن الله عز وجل ومن نواميس الله عز وجل في الكون، التي لا يحيد عنها حائد، ومن هذه السنن سنة التغيير وسنة التداول، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140].
فقد كانت الغلبة لهم ثم انتقلت الدولة والحضارة إلى المسلمين، ولما غفل المسلمون عن دينهم انتقلت الحضارة إلى الغرب، ويوماً من الأيام ستعود إلينا، وقد سقطت حضارة روسيا الأولى، وبعد سقوط حضارتهم تعود إلينا مرة ثانية.
وسنة التغيير؛ قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ} [الأنفال:53 - 54].
وهذه سنة الله عز وجل في الذي يعرض عن هداه، ولا ريب أنهم في الغرب قد أعرضوا عن طريق الله عز وجل، قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف:36 - 37]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124].
وأما سنة الله عز وجل في المترفين: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
وأما سنة الله في الظالمين: {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:21]، {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأنعام:45]، {هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام:47]، {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [يونس:13]، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
فأين كان العالم يوم أن بكى الأطفال وماتوا وقتلوا، كانوا 700000 طفل بإحصاءات الأمم المتحدة؟! وأين كان العالم وأطفال العراق يموتون من الجوع؟! ولا شيء أشد على النفس من موت طفل وأنت تستطيع أن تنقذه.
وأين كان ضمير العالم وفلسطين تئن من الذبح والقتل والتشريد ونسف البيوت؟! {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
إن حضارة الغرب حضارة عوراء لا تنظر إلا بعين واحدة وهي عين المادة، وتكيل بمكيالين دائماً، {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102]، {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} [الفجر:9]، {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:12 - 14].
وسنة الله في الكفار واحدة، فليس هناك كافر يكفر هو أحسن من كافر آخر، قال الله عز وجل: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُوْلَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} [القمر:43]، فكما أخذ عاد وثمود، وقوم لوط التي تمثلت فيها حضارة الشذوذ فسيأخذ حضارة الشذوذ في أي زمان، {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود:83]، {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10]، وقال الله عز وجل: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [البقرة:211]، وقال الله عز وجل: {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} [الزخرف:8].
إن سنن الله عز وجل لا تحيد أبداً، فانظر إلى الغرب حين انتشرت فيه المخدرات، والبطالة، والقتل، والإجهاض، تقول الإحصائيات: إن ثلاثة وخمسين مليون طفل هم حصيلة الإجهاض، فالجريمة كل دقيقة، والاغتصاب مستمر، كما انتشرت الخمور، وكثر نكاح المحرمات، ونكاح الأقارب.
وهناك بنوك للحيوانات المنوية تأخذ منها المرأة ما تشاء فيولد الطفل من غير أب، فيباع الأطفال، وانتشرت البطالة، والديون والتردي، كل هذا موجود في حضارة الغرب.
يقول الكاتب الإنجليزي أسبورن: نحن موتى مخدرون مضيعون، نحن سكيرون مجانين حمقاء، نحن تافهون.
وهذه كانت في مسرحية حضرها ستة مليون وسبعمائة وثلاثة وثلاثين ألف في الغرب.
وانظر إلى كتاب جيمس بادرسن، وديسر جيم: يوم أن اعترفت أمريكا بالحقيقة.
وهذا الكتاب صدر في نيويورك عام 1991م وترجمه الدكتور محمد سعود البشر، وهناك كتاب آخر: نحن القوة الأولى أين تقف أمريكا؟ وأين تسقط في النظام العالمي الجديد؟ لـ أندرو شابيرو، صدر عام 1992م بعد حرب الخليج.
ثم الكتاب الثالث: السقوط التراتيبي أمريكا عام 2020 ميلادية للجنرال هوف قائد السلاح الجوي السابق الأمريكي، وقائد قوات الأمم المتحدة في كوريا ومستشار وزارة الدفاع، صدر هذا الكتاب عام 1992م، يقول: إن ديون الولايات المتحدة الأمريكية عام 1992م كانت أربعة ألف مليون دولار، وستصل في عام 2020م إلى عشرة واثنين من عشرة ترليون دولار.
يقول: إنه في كثير من الأوقات يراودهم شك بأنهم دجالون ومحتالون ومنافقون.
معنى هذا: أن هناك ثمانين مليون دجال ومنافق ومحتال في بلادهم.
وانظر إلى كتاب: سقوط الحضارة لـ كولن ولسن، وانظر إلى ما كتبه الشاعر الألماني بروشرت يقول: نحن جيل بلا رابط ولا عمق عمقنا هو الهاوية نحن جيل بلا دين ولا راحة شمسنا ضيقة حبنا وحشية شبابنا بلا شباب إننا جيل بلا قيود ولا حدود ولا حماية من أحد وانظر إلى ما كتبه العالم ألكيس كارتل صاحب كتاب: الإنسان ذلك المجهول، والحاصل على جائزة نوبل، أو انظر إلى كتاب إنسانية الإنسان لـ رنيه روبو الفرنسي الحاصل على جائزة نوبل، أو انظر إلى ما كتبه لوبات سكرتير وزارة الداخلية الأمريكية في بحث له بعنوان: هل تستطيع أمريكا التغلب على خلاصة النمو؟ يقول: إنه من السهل اعتبار أمريكا التي صنعها الإنسان كارثة.
وانظر إلى ما كتبه جون ديوتي: إن الحضارة التي تسمح للعلم بتحطيم القيم المتعارف عليها لهي حضارة تضر نفسها بنفسها.
وانظر إلى كتاب سقوط الحضارة لـ كولن ولسن الذي يصف فيه المجتمعات بأنها مجتمعات الخنازير أو كما قال.(2/6)
مبشرات من التاريخ
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
هذه مبشرات من التاريخ، ففي أشد الظروف التي مرت بالأمة الإسلامية حيث تكون الأمة أحوج ما تكون إلى النصر يأتي نصر الله، قال تعالى: {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214]، {حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ} [يوسف:110].
فقد نصر الله المؤمنين يوم بدر، ونصرهم الله عز وجل يوم الأحزاب، وليس ذلك في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم بل انظر إلى الأيام التي أعز الله عز وجل فيها المسلمين ودك شأن الصليبين، وانظروا إلى سيف الله خالد بن الوليد في معركة نهر الدم، حيث كانت هذه المعركة بين المسلمين وبين جيوش الفرس، وكان عددهم 150000 ومعهم بعض نصارى العرب، وكان جيش خالد عدده 18000، فقال جابان قائد جيش الفرس: استعدوا للقاء خالد.
فمن عدم احتفالهم بسيدنا خالد نشروا البسط وأرادوا أن يأكلوا الطعام وهم يرون جيش خالد أمامهم، فأجبرهم خالد بخيوله على ترك الطعام حتى قال لهم قائدهم جابان: والله لكأنكم أعددتم الطعام لـ خالد.
واستمر فيهم القتل، ونزل خالد وقد كان عاهد الله إن منحه أكتاف القوم أن يجري النهر من دمائهم، ولما اقترب النصر صاح منادي خالد: الأسر الأسر، أي: لا تقتلوهم، وجعل يأتي بهم جماعات جماعات فيضرب أعناقهم على حافة النهر.
فأراد أن يبر بقسمه لله عز وجل، وقال له القعقاع بن عمرو التميمي: والله لو أنك قتلت أهل الأرض جميعاً ما وفيت بنذرك حتى تجري قليلاً من الماء في النهر؛ فتحمل المياه دماءهم حتى تبر بقسمك، ففعل خالد وتغير لون مياه النهر 20 يوماً.
ثم قال خالد بعد ذلك للمسلمين: اجلسوا للطعام.
وخطب سيدنا أبو بكر الصديق فقال: يا معشر قريش! عدا أسدكم على الأسد -أي: سيدنا خالد عدا على قوات الفرس- فغلبهم على خراجينه -أي: على اللحم الذي كانوا يأكلون منه-، عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد.
وثاني معركة كانت بينه وبين صليبي العرب، واسمها: معركة عين التمر، وكان قائد قوات الصليبين عقة بن أبي عقة في وسط جيشه، وسيدنا خالد في وسط الجيش، ونظر خالد سيف الله عز وجل فقال: احموا مجلدتي بعشرة فرسان، أي: احموا ظهري بعشرة فرسان، ثم انطلق إلى جيشهم فمضى في صف الجيش المحارب ثم صاول عقة بن أبي عقة حتى اقتلعه عن فرسه وأمسك به ثم وضعه على فرسه، وانطلق به إلى جيش المسلمين وانتهت المعركة.
وفي معركة الفراض في 15 ذي القعدة سنة 12 هجرية كان أول مرة في التاريخ تجتمع فيها قوات الفرس وقوات الروم والصليبين وعددهم 150000، أما سيدنا خالد ومن معه فكان عددهم 38000، فقتل منهم سيدنا خالد 100000.
وبعث سيدنا أبو بكر إلى خالد أن يذهب إلى جبهة الروم بالشام، وقال: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد.
وكانت معركة اليرموك وفتح دمشق، وكانت في 15 رجب سنة 12 هجرية، وكانت جيوش المسلمين خمسة جيوش: جيش شرحبيل بن حسنة، ويزيد بن أبي سفيان، وأبي عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وجيش خالد بن الوليد، فمكثوا أربعة أشهر كاملة لا يستطيعون فتح مدينة دمشق، حتى وصلت الأخبار إلى خالد الذي وصفه المؤرخون بأنه لا ينام ولا ينيم، أي: هو لا ينام والعدو الذي أمامه من شدة خوفه لا ينام، فعيونه ذكية، فبث مخابراته فقالوا له: إن نسطاس بن نسطور قائد الروم في دمشق قد ولد له مولود، وإنه سيوزع الخمر الليلة على جنود الحامية، فأعد خالد قرباً مليئة بالهواء ثم عبر عليها النهر سباحة حتى وصل إلى أسوار دمشق، وأعد سلالم من حبال الليف معلقة فيها خطاطيف في نهاية كل حبل، فجعلوا يلقونها على الأسوار فعلق حبلان، فصعد عليهما مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو التميمي ومعهما بقية الحبال، فعلقاها فوق أسوار دمشق، ونادى خالد: إذا سمعتم تكبيرنا من فوق الأسوار فانهدوا إليهم، وطيلة الليل يقتل خالد في الروم حتى قالوا: افتحوا الباب لجيش أبي عبيدة حتى لا يفنينا خالد.
وكانت معركة اليرموك هي التي أنهت وجود الروم في بلاد الشام، وكان عدد الروم فيها 300000 مقاتل، وعليهم قائدهم ماهان أقوى قادة الروم، ومعه القيقلان وبندارق أخو هرقل، وكان جيش المسلمين 36000 مقاتل، فيهم 1000 صحابي، وفيهم 100 بدري.
وأرسل سيدنا أبو عبيدة لسيدنا عمر قال: إنه قد أتى المسلمين ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله بملائكة، فسيدنا خالد قال لـ أبي عبيدة: إن كنا نقاتلهم بالقوة والكثرة فوالله ما تغني قلتنا أمام الناس شيئاً، وإن كنا نقاتلهم بالله ولله فإن قواتهم لا تغني عنهم ولو ملئوا جيوش الأرض لنا، ثم قال البطل خالد: أتطيعني فيما آمرك؟ قال: نعم، قال: ولني ما وراء ذلك واتركني والقوم فإني أدعو الله أن ينصرني عليهم، وكان على جيش المسلمين في القلب أمين هذه الأمة أبو عبيدة، وعلى الميمنة أعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وعلى الميسرة قباث بن أشيم بطل المسلمين وصنديدهم، وعلى الرجالة قاتل الأسود هاشم بن عتبة بن أبي وقاص، وعلى الخيل خالد بن الوليد، وبالتناوب مع أبي الأعور سعيد بن زيد أحد العشرة المبشرين بالجنة، حتى إن الروم كان كل 100 منهم يسلسلون بسلاسل، فقتل منهم 120000، منهم 80000 مسلسلين بالسلاسل، و40000 قتلوا في يوم المعركة، حتى إن القيقلان لما رأى ما حل بالروم من هزيمة منكرة قال: غطوا رأسي، فحز المسلمون رأسه وهو ملفوف.
وفي أيام الدولة الأموية كان مسلمة بن عبد الملك بن مروان الجرادة الصفراء أفضل أخوته، وكان الروم يفزعون منه إلى آخر بلادهم، وكان معه قائد من قواد المسلمين اسمه: أبو محمد عبد الله البطال، فبلغ الذعر بقوات الروم من هذا البطل المسلم ما روي أنه قال له عبد الملك بن مروان: ما أغرب ما حدث لك يا بطال؟ قال: توغلت في أرض الروم في ليلة بادية وإذا أنا بضوء خافت ينفذ من نافذة، وإذا بامرأة تريد أن تنيم ولدها فلا ينام، فتقول له: اسكت وإلا آتيك بـ البطال فأقول: خذه يا بطال، ومدت يدها نحو النافذة قال: فأخذت الصبي منها.
وفي أيام المستعصم الخليفة العباسي بلغ خوف الروم من قائد جيش اسمه ابن فتحون أن الرجل الرومي كان يسقي فرسه من الماء فإذا امتنعت عن الشرب يقول لها: اشربي وإلا رأيت ابن فتحون في الماء.
وفي معركة من معارك المسلمين اسمها: معركة ملاذكرد سنة 653 ميلادية كانت بين السلطان المسلم ألب أرسلان وجيشه كان 15000 مقاتل، وبين أرانوس الرابع قائد وإمبراطور الروم وجيشه كان 600000 مقاتل، حتى إن ألب أرسلان خاف استئصال شأفة الجيش المسلم فعرض المال -وهذا جائز- على أرانوس الرابع فلم يقبل.
فأتى السلطان وقال: أيها الأمراء! من أراد أن يرجع فليرجع، فلا أمير ولا سلطان عليكم بعد اليوم، وإني ماض إلى الجنة، فمن أراد أن يتبعني فليتبعني، فلبس الجيش كله الأكفان، وكان يسمى: جيش الأكفان، ثم كانت الدائرة في نهاية الأمر على الروم، وأخذ أميرهم وإمبراطورهم أسيراً، ونودي عليه: من يشتري الكلب؟ فنادى أحد جنود المسلمين: لا اشتري الكلب إلا بكلب.
فقراءة التاريخ الإسلامي وما حدث فيه من انتصارات للإسلام والمسلمين مما يذهب الإحباط واليأس عن النفوس.(2/7)
فضائل الحج
اختص الله عز وجل عشر ذي الحجة بفضائل على غيرها، مما جعلها أفضل الأيام، والعمل فيها أفضل من سائر الأعمال، وفي هذه الأيام تقام شعيرة الإسلام وركنه العظيم، وهو الحج إلى بيت الله الحرام.
وقد رغب ديننا في الحج، وبين فضله ومناسكه؛ ليشمر أصحاب الهمم إلى رضوان الله.(3/1)
بيان فضل عشر ذي الحجة(3/2)
فضل عشر ذي الحجة على غيرها من الأيام
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل كفى خير من ما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: اعلم يا أخي! أن الله اختار من الزمان شهوراً طيبة هي أفضل الزمان، وهي الأشهر الحرم، واختار من الأشهر الحرم أفضلها، وهو ذو الحجة، واختار من ذي الحجة أفضله، وهو العشر الأوائل منه، وأقسم الله تبارك وتعالى بهن، والعظيم لا يقسم إلا بعظيم، قال تعالى: {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر:1 - 2].
قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة: الليالي العشر هي عشر ذي الحجة.
وهي الأيام المعلومات التي قال الله تبارك وتعالى فيهن: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج:28].
قال ابن عباس: هي عشر ذي الحجة.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن هذه الأيام لها فضل في ذاتها، بخلاف فضل العمل فيها، فعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر).
قال صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إلى الله العمل فيهن من أيامكم هذه، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير).
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله عز وجل من هذه الأيام - يعني: أيام العشر - قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟! قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء).
فالعمل المفضول في هذه الأيام أفضل من العمل الفاضل في غير هذه الأيام، والعمل المفضول وهو الذكر أفضل من الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام.
فالذكر في هذه الأيام من تسبيح وتحميد وتهليل أفضل من الجهاد في سبيل الله، إلا من لون واحد من الجهاد، وهو رجل يخرج بنفسه وماله ثم لا يرجع من ذلك بشيء.
ولذلك كان راوي الحديث سعيد بن جبير يقوم هذه الأيام ويجتهد فيها اجتهاداً لا مزيد عليه، وكان يقول: لا تطفئوا سرجكم هذه الأيام، يعني: أحيوا هذه الأيام، ولا تطفئوا سرجكم فيها، فكانت تعجبه كثرة العبادة.(3/3)
الأحاديث الواردة في صيام أيام العشر وطريق الجمع بينها
أما صوم هذه الأيام فورد فيه حديثان: الحديث الأول: حديث حفصة بنت عمر رضي الله عنها في مسند الإمام أحمد قالت: (ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع صيام عاشوراء وعشر ذي الحجة وثلاثة أيام من كل شهر).
وفي سند هذا الحديث اختلاف.
والحديث الثاني: حديث عائشة الذي رواه الإمام مسلم: (ما رأيت رسول الله صائماً العشر قط)، وفي رواية: (ما رأيت رسول الله صائماً في العشر قط).
وجمع العلماء بين الحديثين بجمعين: الجمع الأول: أن الحديثين خرجا مخرج الغالب، يعني: عندما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رسول الله صائماً العشر قط) كانت تعني: ما أتم صيامهن.
وقول السيدة حفصة: (ما كان رسول الله يدع صيام عشر ذي الحجة) تعني: أنه كان يصوم أغلبهن.
والجمع الثاني: القاعدة: أن المثبت عنده زيادة علم على النافي، والمثبت هو حفصة رضي الله عنها، والنافي هو عائشة رضي الله عنها، فقد يوافق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصم في أيام عائشة وما رأته صائماً، ولكن أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها رأته صائماً في أيامها عندها.
فيكون الجمع: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكمل صيام هذه الأيام وإنما صام أغلبها.
وإذا أراد أخ أن يكمل صيام هذه الأيام التسع فلا حرج عليه؛ فقد كان عبد الله بن عمر يصوم العشر، وهذا أيضاً خرج مخرج الغالب؛ لأن اليوم العاشر -وهو يوم العيد- يحرم صومه.
يعني: كان يصوم التسع بأكملهن.
وممن قال بهذا الحسن البصري وجمهور أهل العلم، فمن أكمل صيام هذه الأيام فلا حرج عليه، وله في ذلك سلف، وهو عبد الله بن عمر.
ومن لم يكملهن فهدي النبي صلى الله عليه وسلم أكمل وأنفع وأطيب، هذا بالنسبة للصيام.(3/4)
حكم التكبير في عشر ذي الحجة
وأما بالنسبة للتكبير، وهل يشرع الجهر بالتكبير والتسبيح والتحميد؟ فقد اختلف فيه أهل العلم، فأنكره جماعة واستحبه الشافعي وأحمد، إلا أن الشافعي خص الجهر بالتكبير عند رؤية بهيمة الأنعام، واستحبه الإمام أحمد مطلقاً.
وروى الإمام الفريابي في كتاب العيدين: أن سعيد بن جبير ومجاهداً وعبد الرحمن بن أبي ليلى كانا يدخلان السوق في أيام العشر فيكبران فيكبر السوق بتكبيرهما، وأن عبد الله بن عمر وأبا هريرة كانا يدخلان السوق فيكبران لا يدخلان إلا لذلك.
فبين أهل العلم اختلاف في التكبير.(3/5)
آداب عشر ذي الحجة
عن أم سلمة رضي الله عنها مرفوعاً: (من أراد منكم أن يضحي فإذا ظهر هلال ذي الحجة فلا يأخذ من شعره ولا من بشره)، وفي رواية: (ولا من أظافره شيئاً)، أي: يمسك عن قص الشعر من أراد أن يضحي، ولا يأخذ من شعره ولا من أظافره شيئاً.
وهذه أيام طيبة فيها يوم عرفة، وصيامه كفارة للسنة الماضية والمستقبلة، فصيامه يكفر سنتين.
وفي هذه الأيام يوم النحر، وهو أفضل أيام الدنيا عند الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأيام يوم النحر، ثم يوم القر)، وهي الأضحية، وهو علم وشريعة من شرائع الملة المحمدية الإبراهيمية، فيها ركن من أركان الإسلام العظيمة الحج.(3/6)
فضل الحج
والملائكة تحج أفلا نحج نحن؟ وقد أقسم الله عز وجل بالبيت المعمور، وهو كعبة الملائكة في السماء، كما جاء في حديث الإسراء من حديث مالك بن صعصعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثم رفع بي إلى البيت المعمور فإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم)، أي: يدخله للصلاة فيه سبعون ألف ملك يومياً من يوم أن خلق الله السماوات والأرض لا يعودون إليه آخر ما عليهم.
وفي حديث خالد بن عرعرة عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أنه لما سئل عن البيت المعمور؟ قال: كعبة في السماء السابعة حيال الكعبة -يعني: فوق الكعبة- في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك.
قال ابن كثير: يطوفون حوله ويصلون نحوه، وفي كل سماء بيت يطوف حوله أهل هذه السماء من الملائكة، والذي في السماء الدنيا يسمى بيت العزة.
وأما الذي في السماء السابعة فهو البيت المعمور، ويعظم الملائكة البيت الذي في السماء في طوافهم حوله، أفلا يعظم أهل الأرض هذا البيت؟ والحسن بن علي ريحانة النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا حج خمساً وعشرين مرة ماشياً على قدميه، وإن النجائب لتقاد من حوله.
وأبو عثمان النهدي شيخ وقته حج واعتمر ستين مرة.
والأسود بن يزيد حج ثمانين مرة؛ فهذا من تعظيم العلماء والصالحين للحج وللعمرة.(3/7)
موقف المبتدعة من الحج(3/8)
القرامطة ينتهكون حرمة البيت الحرام وحجاجه
وأما غيرهم من الفجار والكفار فيصدون عن البيت الحرام، فقوم من غلاة الشيعة القرامطة الذين كانوا يسكنون في جنوب الجزيرة العربية وفي البحرين بالذات؟ كان فيهم رجل يسمى أبو سعيد الجنابي، وفي سنة ثلاثمائة وسبعة هجرية قتل هذا الفاجر اللعين من الحجاج ثلاثة عشر ألفاً، وقلع الركن في يوم النحر، وقتل في المسجد الحرام ألفاً وسبعمائة رجل وامرأة وهم متعلقون بأستار الكعبة، وردم بهم زمزم.
وقتل من أهل خراسان والمغاربة ثلاثين ألفاً، وسبى مثلهم من الأطفال والنساء، واقتلع الحجر الأسود من مكانه في الكعبة وذهب به إلى البحرين، وظل عنده حتى سنة ثلاثمائة وتسع ثلاثين هجرية حتى أعاده الخليفة العباسي مرة أخرى.
وهذا اللعين كان يقول: خذي الدف يا هذه والعبي وغني هزاريك ثم اطربي تولى نبي بني هاشم وهذا زمان بني يعرب لكل نبي مضى شرعة وهذي شريعة هذا النبي فقد حط عنا فروض الصلاة وحط الصيام ولم يتعب إلى آخر المحرمات التي أباحها هذا الفاجر، فكان جزاؤه أن امرأة ألقت عليه بقالب من الطوب وهو يخطب في البحرين فمات قتيلاً، وقتيل النساء شر قتيل، لأن الرجل الذي تقتله امرأة رجل لئيم.(3/9)
بيان ضلال الحلاج وصده عن الحج والصيام والقرآن
وممن يصدون أيضاً عن البيت أصحاب التصوف الفلسفي، فـ الحلاج وهو شخصية صوفية كفرها أهل العلم وكان يقول في كتابه التواصيل: ألا أبلغ أحبائي بأني ركبت البحر وانكسرت سفينه على دين الصليب يكون موتي فلا البطحا أريد ولا المدينه وهو رائد الحج بالهمة، فكان هذا الرجل يقول كما ذكر الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية في المجلد الحادي عشر: من أراد الحج ولم يتيسر له فليبن في داره بيتاً لا يناله شيء من النجاسة ولا يمكن أحداً من دخوله، فإذا كان في أيام الحج فليصم ثلاثة أيام وليطف به -يعني: ببيته هذا حتى وإن كان في مصر مثلاً- كما يطاف بالكعبة، ثم يفعل في داره ما يفعل الحجيج بمكة، ثم يستدعي ثلاثين يتيماً فيطعمهم من طعامه ويتولى خدمتهم بنفسه، ثم يكسوهم قميصاً قميصاً، ويعطي كلاً منهم سبعة دراهم، أو قال: ثلاثة دراهم، فإذا فعل ذلك قام له مقام الحج.
أي: يسقط عنه فرض الحج، كما قال الحلاج.
ويقول عن النيابة في صيام رمضان: وصيام رمضان ينوب عنه -وهذا نقل الحافظ ابن كثير عنه- أن يصوم الرجل ثلاثة أيام، يفطر بعدها في اليوم الرابع على ورق الشجر.
أي: فيصبح هذا كمن صام رمضان.
وأما القرآن فإن تلامذته يقولون: إن الحلاج يستطيع أن يؤلف مثله.(3/10)
من ضلال الصوفية في الحج
ونسب فريق الدين العطار مؤرخ الصوفية هذا إلى رابعة العدوية، وهي من هذا بريئة، فجمهور أهل العلم على توثيقها، وأنها كانت عابدة تقية.
ونسبوا إليها أنها قالت عن الكعبة: ذلك الصنم المعبود في الأرض ما ولجه الله ولا دخله.
وبرأها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه مجموع الرسائل، بل منهم من يقول كما يحكي الشيخ عبد الرحمن الوكيل: إنهم لا يذهبون للطواف حول الكعبة؛ لأن الكعبة تأتي إليهم وتطوف حولهم.
وينسبون إلى التقي الورع الإمام الزاهد العابد إبراهيم بن أدهم أنه حج إلى الكعبة أربعين سنة ماشياً من كثرة عبادته.
يعني: أنه خرج من بيته ولم يصل إلى الكعبة إلا بعد أربعين سنة، فلما كان عند الكعبة اختفت الكعبة عن إبراهيم، فقال: يا رب! صرت أعمى حتى لا أرى الكعبة أم ماذا؟ فسمع هاتفاً يقول له: يا إبراهيم! ما أنت بأعمى، ولكن الكعبة قد تحولت للقاء رابعة.
وهذا الكلام خرافات ودجل، وإبراهيم بن أدهم التقي الورع من ذلك بريء.(3/11)
ضلال البهائية والقاديانية في الحج
وأيضاً البهائية أسقطوا الحج عن النساء وقالوا: بأن الحج واجب على الرجال فقط، وهم لا يعرفون شعائر الحج وقالوا: الحج إلى بيتين: إما إلى بيت البهاء، وهو الذي ادعى الألوهية في بغداد، أو إلى بيت علي محمد الشيرازي في شيراز.
والبيتان ليست موجودين في هذا الوقت؛ لأن الحكومة العراقية هدت البيت الأول، والإيرانية هدت البيت الثاني، وانتهى هذا الدجل.
وأما أحمد القادياني عميل الإنجليز فقال عن مسجد القاديان في أقصى أغوار الهند: ومن دخله كان آمناً.
وقال: الحج هو حضور المؤتمر السنوي لجماعة القاديان.
فهذا هو الحج عند القاديانية.(3/12)
ضلال الشيعة في الحج
وأما الإثنا عشرية من الشيعة الذين هم سكان إيران فعندهم أن كربلاء أفضل من مكة، بل وأفضل من السماوات السبع، حتى قال قائلهم: هي الطفوف فطف سبعاً بمغناها فما لمكة معنى مثل معناها أرض ولكنما السبع الطباق لها دانت وطأطأ أعلاها لأدناها فقوله: السبع الطباق لها دانت يعني: خضعت وذلت.
وقوله: وطأطأ أعلاها يعني: أعلى السماوات السبع.
وقوله: لأدناها يعني: لأقل مكان في كربلاء.
ومعنى قوله تعالى: {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ} [المائدة:97] كما قال الحسن البصري: يظل الدين قائماً ما حج إلى هذا البيت، ويظل الناس على ديانة ما حجوا البيت، ويظل حجيج البيت يتوافدون عليه حتى يهدم الكعبة ذو السويقتين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عنه أنه (من الحبشة، كأني أنظر إليه أسود أفيدع، بعيد ما بين ساقيه، ينقضها حجراً حجراً).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى لا يحج إلى هذا البيت).
وأما من قال من أمريكا وندب قومه من الكافرين إلى هدم الكعبة، فنقول له: اخسأ فلن تعدو قدرك.
نقول له: إذا كان القضاء إلى ابن آوى فتعديل الشهود إلى القرود أي: إن كان لا يحكم إلا ابن آوى فيأتي له بشهود من القرود.(3/13)
الحث على التعجل بالحج
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل).
وقال صلى الله عليه وسلم: (تعجلوا إلى الحج؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أراد الحج فليتعجل؛ فإنه قد يمرض المريض وتضل الضالة وتعرض الحاجة).
وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار ينظرون كل من كانت له جدة -أي: عنده مال- ولم يحج فيضربوا عليه الجزية، ما هم بمسلمين، ما هم بمسلمين.
يعني: إن استحلوا ترك الحج.
فهذا فهم العلماء في قول سيدنا عمر.
وعن أبي أمامة فيما حسنه الشوكاني قال: من لم تمنعه حاجة ظاهرة أو سلطان جائر فلم يحج فليمت إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً.
وهذا في من استحل ترك الحج وكانت عنده المقدرة.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (استمتعوا من هذا البيت؛ فإنه قد هدم مرتين ويرفع في الثالثة).(3/14)
فضل الحج والعمرة(3/15)
الحج والعمرة سبب لتكفير السيئات
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه) يعني: هذا غفران لكل الذنوب الصغائر والكبائر، كما قال الحافظ ابن حجر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الحج يهدم ما قبله).
وقال صلى الله عليه وسلم: (من أتى هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كما ولدته أمه).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة).
والحج المبرور هو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بر الحج إطعام الطعام ولين الكلام).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أديموا الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد).
فإذا قال شخص: إذا واصلت بين الحج والعمرة فإنه يأتي على كل ما عندي من مال، قلنا له: يكتب الله لك الغنى، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب، فإذا قال: كيف هذا وأموالي كلها تصرف في الحج والعمرة؟ قلنا له: هذا قول النبي المعصوم صلى الله عليه وسلم.(3/16)
الحج عبادة تصلح العقل وتهدي إلى التفكير الصحيح
وأعظم فائدة في الحج أنه يحجم العقل، ويضعه في الموضع الذي أراده الله عز وجل له، فعندما تأتي بكل شعائر الحج من رمي الجمرات والطواف حول البيت وتقبيل الحجر فإنك تشعر بالروحانية، فالحج كله روحانية من أوله إلى آخره، وتعظيم للاتباع.
من أنت يا أرسطو! ومن أفلاط قبلك يا مبلد ومن ابن سيناء حين قرر ما بنيت له وشيد هل أنتمو إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد فلا يأتي أحد يقول لك: إن مواسم الحج زحمة، فلو كان الحج طول السنة! يعني: ممكن أن يحج ناس في رمضان وناس في شوال وناس في شهر آخر، وهكذا على مدى اثني عشر شهراً، فقل له: إن هذا مما لا تهتدي عقول الناس إليه.(3/17)
المفاضلة بين الحج والجهاد
والحج لون من ألوان الجهاد وهو أحد نوعي الجهاد، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي العمل أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله) وثم هنا للترتيب، يعني: الإيمان ثم الجهاد.
(قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور).
وقال صلى الله عليه وسلم: (أفضل الأعمال الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة برة تفضل سائر الأعمال كما بين المشرق والمغرب).
فالإيمان يأتي الجهاد بعده مباشرة ثم الحج، أي: أن فرض الكفاية أفضل من الحج الذي هو فرض عين على القادر، ففصل العلماء هذا الحديث وقالوا: كان هذا الحديث قبل فرض الحج؛ لأن فرض الحج تأخر.
هذا قول.
والقول الثاني: أن جنس الجهاد أفضل من جنس الحج؛ لأنه نفع متعد للأمة، أما نفع الحج فقاصر على صاحبه، قالوا: فإذا تساوى الجهاد والحج -يعني: صار كل منهما فرض كفاية، وهذا إذا كان قد حج حجة الإسلام ثم عرض له أن يحج أو يجاهد، فيجاهد ولا يحج.
أي أنه إذا استوى الجهاد والحج يقدم الجهاد؛ لأنه نفع متعد، ولذا قالوا: حجة قبل غزوة أفضل من عشر غزوات، وغزوة بعد حجة أفضل من عشر حجات.(3/18)
بيان أن جهاد النساء والضعفاء والكبار هو الحج
وقال سيدنا عمر رضي الله عنه: (قال النبي صلى الله عليه وسلم للنساء: لكن أفضل الجهاد حج مبرور).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (جهادكن الحج).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحج جهادكِ).
وقال صلى الله عليه وسلم: (جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج).
وروى الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه: (أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: يا رسول الله! إني ضعيف وإني جبان، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ألا أدلك على جهاد لا شوكة فيه؟ الحج).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (النفقة في الحج تعدل النفقة في سبيل الله بسبعمائة ضعف).
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إذا وضعتم السروج -يعني: إذا جئتم من الجهاد- فشدوا الرحال إلى الحج؛ فإنه أحد الجهادين.
وقال ابن مسعود: إنما هو كد ورحل، فالكد: الجهاد في سبيل الله، والرحل: الحج.
ولذلك كان أمير المؤمنين هارون الرشيد يغزو عاماً ويحج عاماً، وفيه يقول القائل: فمن يطلب لقاءك أو يرده ففي الحرمين أو أقصى الثغور(3/19)
الحجيج وفد الله وضيفانه
وقال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي صححه الشيخ الألباني: (إن عبداً صححت له جسمه ووسعت عليه في المعيشة يمضي عليه خمسة أعوام لا يفد إلي إنه لمحروم).
فالحج رحلة إلى الله عز وجل، ولذا يقول في الحديث: (ثلاثة في ضمان الله عز وجل: رجل خرج إلى مسجد من مساجد الله، ورجل خرج غازياً في سبيل الله، ورجل خرج حاجاً).
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الحجاج والعمار أنهم وفد الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (الغازي في سبيل الله عز وجل والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم).
وفي رواية: (الحجاج والعمار وفد الله دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم).(3/20)
الحج إجابة لأذان إبراهيم عليه السلام
وقال الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] قال ابن عباس: ما أسفت على شيء أسفي على أني لم أحج ماشياً، حج إبراهيم خليل الرحمن وإسماعيل ماشيين.
روى يحيى بن معين بسند حسنه الحافظ ابن حجر قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قال له الله عز وجل: أذن، قال: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ، فقال: يا أيها الناس! إن الله كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق، فسمعه ما بين السماء والأرض.
وقال مجاهد: فمن حج اليوم إلى يوم القيامة فهو ممن أجاب إبراهيم وقال: لبيك اللهم لبيك.
وقال ابن جرير: سمعه من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فهو مثل يوم الميثاق.
وعالم الغيب لا دخل للعقل فيه إلا التسليم، ولو أنك أتيت بميزان حساس وأردت أن تزن به جبلاً من الجبال لسفه الناس عقلك؛ لأن هذا الميزان الحساس صنع لتوزن به الجواهر الثمينة النادرة، لا أن تضع عليه جبلاً، فأنت أساساً وضعت هذا الجهاز في غير موضعه، فكذلك ما ورد أنه سمع إبراهيم من أصلاب الرجال وأرحام النساء، يصدقها صاحب العقل الحساس الذي يؤمن بالغيب.
والنبي صلى الله عليه وسلم لما كان يوم الحديبية نحر مائة من الإبل، وكان فيها جمل لـ أبي جهل، ولما صدت الإبل عن البيت وأرجعتها كفار قريش حنت الإبل إلى البيت كما تحن إلى أولادها.
فهاهي الإبل العجماوات تحن إلى البيت الذي بناه خليل الرحمن وفيه أثر من آثار الجنة.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما ترفع إبل الحاج رجلاً ولا تضع يداً إلا كتب الله له بها حسنة ومحا عنه سيئة ورفعه بها درجة).(3/21)
التلبية في الحج(3/22)
ألفاظ التلبية وكيفيتها
وبداية الحج في الميقات بعد لبس الإحرام فيلبي بقوله: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك.
أو: لبيك لبيك، لبيك إله الحق لبيك، لبيك وسعديك والرغباء إليك والعمل، لبيك إنما العيش عيش الآخرة، لبيك ذا المعالي، لبيك ذا الفواضل، لبيك حقاً حقاً تعبداً ورقاً.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (أمرني جبريل أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية عند الإهلال؛ فإنها من شعائر الحج).
وقال أبو حازم فيما رواه عنه أبو بكر بن أبي شيبة بسند صحيح: إن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم بها بحاً.
ولبى ابن عمر فأسمع ما بين جبلين.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كأني أنظر إلى نبي الله موسى واضعاً إصبعيه في أذنيه له جؤار إلى الله بالتلبية).(3/23)
فضل التلبية
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفضل الحج العج والثج).
والعج: رفع الصوت بالتلبية.
والثج: نحر الهدي.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أهل مهل قط ولا كبر مكبر قط إلا وبشر، قيل: بماذا؟ قال: بالجنة، تبشره بها الملائكة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن التلبية: (ما من مسلم يلبي إلا لبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا)، أي: على آخر صوتك، والصوت القوي يشهد له الحجر والشجر والمدر، والأحجار تلبي، ودعك من العقل، وحجمه قليلاً، فالأحجار تلبي، والأشجار تلبي، والطين يلبي، وأنت تلبي من الميقات حتى رمي جمرة العقبة، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية.
لبيك لبيك دب الركب وانطلقت جموعه والنشيد العذب يدفعه أصداؤه في هضاب الأرض صاخبة والبيد في رحبها نشوى ترجعه وفي الجوانح من وجد ومن ولَهٍ ما جاشت النفس حتى طاب مطلعه ما الصبح ما رقة الأنداء ضاحكة ما الزهر في الروض أزكاه وأضوعه أنقى وأجمل من ترداد تلبية يشدو بها محرم والكون يسمعه أما والذي حج المحبون بيته ولبوا له عند المهل وأحرموا وقد كشفوا تلك الرءوس تواضعاً لعزة من تعنو الوجوه وتسلم يهلون بالبيداء لبيك ربنا لك الملك والحمد الذي أنت تعلم تراهم على الأنبار شعثاً رءوسهم وغبراً وهم فيها أسر وأنعم(3/24)
معنى التلبية
والتلبية: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك، في معناها أقوال جميلة لأهل العلم: القول الأول: أنها من لبى ثم لبى، يعني: إجابة بعد إجابة، أي: أنا مجيب لك مرة بعد مرة.
وقل للمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا والقول الثاني: من لبى الرجل في المكان وألب إذا قام فيه ولم يبرح، يعني: أنا مقيم على طاعتك يا رب.
القول الثالث: من قولهم: امرأة لبة، أي: امرأة محبة لزوجها وأولادها، يعني: أنا محب لك.
القول الرابع: من قولهم: بابي تلب بابك، يعني: بابي تجاه بابك، يعني: قصدي واتجاهي إليك يا رب.
القول الخامس: من اللب، واللب هو: صافي الشيء، أي: إخلاصي لك يا رب.
وكل هذه من معاني التلبية، وأنت تلبي حتى تصل إلى البيت: أبطحاء مكة هذا الذي أراه عياناً وهذا أنا ومهما فعلت فلابد أن تنساب هناك الدموع: هذه دارهم وأنت محب ما بقاء الدموع في الآماق على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركات لدى الباب جبريل الأمين براحه رسائل رحمانية النفحات وزمزم تجري بين عينيك أعيناً من الكوثر المعسول منفجرات لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم لبيت كريم الساح والعرصات نسير بأرض أخرجت خير أمة وتحت ظلال الوحي والسورات وكأن السماوات كلها وحي هنا السماوات تبدو قرب طالبها هنا الرحاب فضاء حين تلتمس هنا النبوة تحيا في أماكنها لا الطيب يبلى ولا الأصداء تندرس هنا الصحابة من حول النبي هنا أبو هريرة يروي عنه أو أنس(3/25)
فضل مكة والبيت الحرام(3/26)
بيان كون مكة أحب أرض الله إلى الله وأنه حرمها يوم خلق السماوات والأرض
وهذه البلدة الطيبة أحب أرض الله إلى الله كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما أطيبكِ من بلدة وأحبك إلي، وإني لأعلم أنكِ أحب بلاد الله إلي وأكرمه على الله).
ومكة حرمها الله يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، وما أحلت لنبي قبل النبي صلى الله عليه وسلم، ولم تحل لنبينا إلا ساعة من نهار، ثم عادت حراماً بحرمة الله إلى يوم القيامة.
أوصى بها الرحمن فهي عظيمة من غيرها الرحمن قد أوصى بها لو لم تكن خير البلاد على الثرى ما كان بيت الله فوق ترابها ولما اصطفاها الله قبلة خلقه ولما سعى الساعون نحو ركابها ولما اصطفى خير البرية مرسلاً بالحق والتوحيد من أعطابها النسك والإيمان من أفيائها والعدل والإحسان من أوصابها فكأنها صوت الزمان وثغره وكأن زمزمها زلال رضابها سجيلها باق على أعدائها وعلى حقول الحق قطر سحابها هي قلب هذي الأرض مقلة وجهها والباقيات علقن في أهدابها فسل الصفا ومنى وكل سرية عن أشرف الماشين فوق ترابها حدت لها قبل الأنام سماؤها بحديد سجيل على سلابها من هاهنا مر الأمين ومن هنا أسرى وفاض العدل من خطابها ما زال يخترق الفضاء دلالها هرم الزمان ولم تزل بشبابها جمع الزمان جميعه فإذا به يجثو خشوع القلب في محرابها فاغسل فؤادك يا شهيد بمائها إن شح ماء فاغتسل بترابها(3/27)
بناء البيت
قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:96]، أي: نزلت به الملائكة وبنته الملائكة.
وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} [الحج:26]، أي: عرفناه مكان البيت.
{وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج:26] والبيت بنته الملائكة أولاً، ثم بناه آدم ثانياً، فخليل الرحمن إبراهيم، فجرهم وقريش، وكل هؤلاء لم يبنوه بالطوب والإسمنت، وإنما كان بيتاً في وسط صحراء تهب عليه الرياح والأعاصير ويظل كما هو، ورسمه كما هو، يحتاج فقط إلى مجرد ترميم.
وهذا من الإعجاز في أن يظل هذا البيت كما هو، ولا يحتاج إلا إلى ترميم فقط.
قال تعالى: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] وهذا البيت بناه إبراهيم وإسماعيل.(3/28)
فضل الحجر الأسود والركن والمقام
وفيه أسرار عجيبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من حجارة الجنة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحجر الأسود من الجنة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضاً من الثلج فسودته خطايا بني آدم).
وقال ابن عباس في الحديث المرفوع: (نزل الحجر الأسود من الجنة أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لولا ما مسه من أدران الجاهلية ما مسه ذو عاهة إلا وشفي).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الركن والمقام ياقوتتان من الجنة طمس الله نورهما، ولو لم يطمس نورهما لأضاءتا ما بين المشرق والمغرب).
وهذه أسرار من أسرار الجنة، يعني: أن من الجنة ما هو موجود هنا، وهو الحجر الأسود والركن والمقام، وكل هذه الأحاديث صحيحة صححها الشيخ الألباني.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليبعثن الله عز وجل هذا الحجر يوم القيامة له عينان يبصر بهما وشفتان ولسان ينطق به يشهد على كل من استلمه بحق).
ففتش قلبك عند لمسك للحجر أهو كاذب أو صادق حتى يشهد عليك الحجر أو لك.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مسح الحجر الأسود والركن يحطان الذنوب حطاً).
وهذا الحجر أتت به الملائكة لما ذهب سيدنا إسماعيل عليه السلام ليأتي بحجر من الوادي فوجد أباه قد رفع الحجر فقال: من الذي أتى به إليك؟ قال: أتى به من لم يحوجني إليك، نزل به جبريل وسيدنا إبراهيم عليه السلام في مكانه.(3/29)
فضل الطواف وزمزم والسعي بين الصفا والمروة
والطواف بالبيت صلاة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الطواف بالبيت صلاة إلا أنه قد شرع فيه النطق، فأقلوا فيه الكلام).
ولا يشرع الطواف بغير الكعبة فلا يأتي أحد يقول لك: أنا أطوف حول أضرحة الأولياء، وهذا مثل تنظيم حركة المرور بل قل له: اتق الله عز وجل، فإنه لا يشرع الطواف بغير الكعبة.
(ما من رجل يطوف بالبيت أسبوعاً إلا كان كعتق رقبة).
ومن السنة الشرب من زمزم، وتسمى: هزة جبريل، وزمازم، وزمزم، وهي أفضل من ماء السماء كما قال ابن حجر، وزمزم فجرها جبريل لأم إسماعيل الصادقة.
من أركان الحج: السعي بين الصفا والمروة، لقوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].
وقد جاء في سبب نزول هذه الآية قولان: الأول: أن الأنصار من الأوس والخزرج كانوا يهلون لمناة عند المشلل، وهي قرية ما بين مكة والمدينة، ولا يأتون إلى الصفا والمروة.
والقول الثاني: أنهم كانوا قد وضعوا صنماً عند الصفا ويسمى إسافاً، وصنماً عند المروة ويسمى نائلة، وكانوا يحرمون بينهما فتحرجوا من الطواف بينهما كما يفعل أهل الجاهلية، فنزل قول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة:158].(3/30)
فضل أم إسماعيل
وانظر إلى الصدق وماذا يفعل، المرأة الصادقة أم إسماعيل: (هذا ما أورثتكموه أمكم أم إسماعيل)، يعني: أن السعي بين الصفا والمروة إرث جعله الله ركناً من أركان الحج، أي: خطوات امرأة صادقة صالحة جعلها الله ركناً من أركان الحج, وانظروا تعظيم الإسلام العظيم للمرأة، وهي -والله العظيم- امرأة مصرية، أتى بها إبراهيم عليه السلام من مصر.
وقد ضربت أروع الأمثال في التضحية، يأتي بها إبراهيم عليه السلام إلى موضع مكة الآن بولدها الرضيع، فتقول له: يا إبراهيم! إلى من تتركنا في مثل هذا المكان القفر؟ يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ فيقول: بلى.
فتقول: إذاً فلن يضيعنا.
ولم يكن شيء معها من طعام أو شراب غير جراب من التمر وقليل من الماء الذي سينفد بعد قليل، وهي يمكنها أن تتحمل، وأما الولد فلا، ومع هذا تقول: إذاً فلن يضيعنا الله! إذا ضاقت بك الظروف واشتد عليك النوائب فإن كنت عبداً لله عز وجل وعلى دينه فلن يضيعك ولو في المهلكات، بل يحفظك مثلما حفظ يونس وهو في بطن الحوت، ومثلما حفظ موسى الرضيع وهو على ثبج البحر، ومثلما حفظ إبراهيم وسط النيران.
فاجعل هذه قاعدة عندك: إذاً فلن يضيعنا.(3/31)
تفجير جبريل لزمزم
وجعلت أم إسماعيل لما تلمظ وليدها وبدأ يتلوى من شدة العطش تهرول ما بين الصفا والمروة، ثم سمعت صوتاً فقالت: صه، أغث إن كان عندك غوث، فتبدى لها جبريل وقال: من أنتِ.
وهذا اختبار لها فقالت: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم.
فقال: إلى من وكلكما؟ -ولو كانت واحدة غيرها وعندها طعام وشراب يكفيانها سنة لقالت: لا أعرف- فقالت: إلى الله.
فقال لها: وكلكما إلى خير كاف، لا تخشي الضيعة، إن الله لا يضيع أهله.
ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإقتار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا فضرب جبريل الأرض بجناحه تتفجر زمزم، وتنبع في صحراء الجدب ويعيش عليها إسماعيل ويرتوي من مائها، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هذه أمكم يا بني ماء السماء)؛ لأن غذاء إسماعيل عليه السلام كله كان على الماء.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (زمزم طعام طعم وشفاء سقم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير ماء على وجه الأرض ماء زمزم).
ولذلك لما شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وأتت الملائكة بطست من ذهب الجنة غسلوه بماء زمزم، ولهذا ذهب شيخ الإسلام البلقيني إلى أن ماء زمزم أفضل من الكوثر.(3/32)
الوقوف بعرفة
ثم بعد ذلك الوقوف بعرفة، وما أدراك ما عرفة، وقد أقسم الله بهذا اليوم فقال: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر:3] والوتر: يوم عرفة، والشفع: يوم النحر.
وعرفة كلها موقف.
وفيها أكمل الله عز وجل هذا الدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3].
وفيها أخذ الله الميثاق على البرية من ذرية آدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم بنعمان يوم عرفة، وأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرهم بين يديه كالذر، ثم كلمهم قبلاً: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172]).
فأخذ الله عز وجل الميثاق الأول على ذرية آدم أنه ربهم وأن يوحدوه، قال ابن الجوزي: ووضع هذا الميثاق في الحجر الأسود.
هذا كلام الإمام ابن الجوزي في لطائف المعارف.
والله عز وجل يباهي الملائكة وأهل السماء بأهل عرفة عشية عرفة ويقول: (عبادي أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لكم).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (الحاج الشعث التفل)، أي: على قدر نصبك في الحج وتعبك فيه يكون عظم الأجر، لا أن تنزل في الفندق السياحي وتدفع ثلاثين ألفاً وتأكل لحماً وكباباً وغيرهما، صحيح أن هذا يسقط عنك فرض الحج، ولكن عظم أجر الحج في النصب والتعب.
كما يقول تعالى في الحديث القدسي: (عبادي أتوني شعثاً غبراً، أشهدكم أني قد غفرت لهم).(3/33)
من خصائص أمة الإسلام
لقد خص الله عز وجل هذه الأمة بخصائص لم تكن للأمم السابقة قبلها؛ تكرمة لهذه الأمة، ولنبيها محمد صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم، وزيادة في فضل الأمة، وهذه الخصائص شاملة للدنيا والآخرة؛ ليكتمل لها الشرف الأمثل، والمكانة العليا عند الله عز وجل وجميع خلقه.(4/1)
بقاء الخير في هذه الأمة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، إن ما توعدون لآتٍ وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: هذه الأمة العظيمة -أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم- لها من الخصائص ما يجعل ريح الإيمان تهب عليها دائماً، وربيع القلوب والأرواح يروحها أبداً، فتأتي منها الأعاجيب في دنيا الواقع، خليتها لا تزال تعسب، وشجرتها لا تزال تثمر، ولن تستطيع أمة أن تقوم مقامها، أو أن تؤدي دورها، فشرارة الحياة والطموح كامنة أبداً في رمادها، فلا يزال فيها رجال تتجافى جنوبهم عن المضاجع، وتسيل دموعهم على خدودهم سحراً، وعند هذه الأمة اليد البيضاء التي تشرق لها الظلمات، ويضيء لها العالم، وقوارع هذا العصر وهزئه سيقض مضجعها ويوقظها، ويوجهها إلى شريعة رسولها صلى الله عليه وسلم.
وقد يقول قائل: دعني من قولك، وقل لي: أين هذه الأمة وواقعها في الحضيض؟ فأقول: عروس جللت بثياب حزن وطاف بها على الشارين عبد مراكبها تسير في بحار ولا هدف على الشطآن يبدو أين هذه الأمة؟ قد يقول قائل: لقد ماتت! فصِحْ على القبر هذه أمة رحلت لم يبق من ذكرها شأن ولا أثر نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر يرافقنا في اليوم بليون كافر ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر حصانك في سيناء يشرب دمعه وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدرٌ يا حبيبي وخيبر وتأبى جراحي أن تضم شفاهها كأن جراح الحب لا تتخثر هذه الأمة أمة عظيمة رغم الوحل الذي تعيش فيه، ورغم واقعها المر، إلا أننا نقول للناس: لا تهيئ كفني يا عاذلي فأنا لي مع الفجر مواثيق وعهد إنا في ضمير الكون محفور محيانا وإن نشيدنا يسري ضياء الشمس نشوانا وما علموا بأن شهادة التوحيد في الأكوان قدسية وأن رطوبة التوحيد في فمنا مؤيدة بنصر الله محمية فتعال إلى خصائص هذه الأمة، ومتى علمت هذه الخصائص فقم من سباتك ونومك وغفلتك وادع الله عز وجل أن يوقظ النائمين.(4/2)
خيرية الأمة المحمدية ووسطيتها
هذه الأمة خير الأمم وأكرمها على الله عز وجل: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} [آل عمران:110].
(كنتم) أي: في علم الله السابق المكتوب في اللوح المحفوظ قبل إيجاد الخلائق، وقبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، كما جاء في حديث رسولنا صلى الله عليه وسلم، أن هذه الأمة التي ستخرج من وراء الستار السرمدي، والغيب الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل؛ أنها خير الأمم.
وقال ابن الأنباري: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] يعني: أنتم خير أمة أخرجت للناس، مثلما يقول الله عز وجل: {وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النور:20] يعني كان وما زال.
عن بهز بن حكم عن أبيه عن جده قال: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إنكم تتمون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل).
وفي رواية: (وأفضلها).
قال الإمام المناوي: يظهر هذا الإكرام في أعمال هذه الأمة، وفي أخلاقها وتوحيدها، ومنازل أهلها في الجنة، ومقامهم في الموقف، ووقوفهم على تل يشرفون به على الخلائق يوم القيامة، هذه الأمة العظيمة لها دور خاص في التاريخ، ومقام خاص، وحساب خاص.
فينبغي أن تدرك الأمة جيداً، أن لها القيادة والريادة في التاريخ، وأنها لم تأت على هامش التاريخ، بل لها القيادة والريادة، وهذا الموقع يحتم عليها أن يكون عندها ما تعطيه للناس، فهذا المكان وهذا القدر لا يعطى للناس اعتباطاً، لكن له تبعاته.
وهذه الأمة أمة وسط، قال الله تبارك وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
والوسط: هو الأفضل، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] أي: قال خيرهم أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ.
الأمة الوسط وسط في كل معاني الوسط، سواء معنى الحسنى والفضل، أو معنى الاعتدال والقصد، فهي أمة وسط في التصور والاعتقاد بين رهبانية النصارى والغلو الروحي، وبين ارتكاس اليهود المادي.
أمة وسط في التفكير والشعور، لا تتبع كل ناعق، ولا تقلد تقليد القردة المضحك.
أمة وسط في التنظيم والتنسيق، لا تدع الحياة كلها للمشاعر والضمائر، ولا تدعها كلها أيضاً للتشريع والتأديب.
أمة وسط لا تهمل شخصية الفرد، ولا تجعله جشعاً أثراً، لا هم له إلا ذاته حتى ولو ضاع المجتمع.
أمة وسط في المكان والزمان، في الزمان بين عهد طفولة البشرية من قبلها وبين عهد النضوج العقلي، تحرص على هذا النضوج، وتوجهه مثلما أراد الله عز وجل.(4/3)
شهادة أمة الإسلام على الأمم السابقة
{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة:143].
هذه الأمة تشهد للأنبياء يوم القيامة بتبليغ الرسالات، وليست هذه الخصيصة إلا لهذه الأمة.
عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجيء نوح وأمته فيقول الله هل بلغت؟ يقول: نعم أي رب، فيقول لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون: لا، ما جاءنا من نبي، أو ما جاءنا من نذير، فيقول الله تبارك وتعالى لنوح: من يشهد لك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، وهو قول الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143].
قال النبي: والوسط العدل، فيدعون فيشهدون له بالبلاغ، ثم أشهد عليكم).
هذا ليس خاصاً بنوح فقط، بل بكل الأمم، كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم شعيب وغيرهم أن رسلهم قد بلغتهم، وأنهم كذبوا رسلهم.
هذه الأمة مجتباة مصطفاة: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78].
اجتباها الله عز وجل واصطفاها، وفلسطين ما ضاعت منذ وقت قريب، بل ضاعت من زمان بعيد جداً، من أيام الدولة الفاطمية، عندما كانوا حاكمين على مصر، وسلموا فلسطين للصليبيين، ولم يدافعوا عنها أبداً.
ضاعت من قبل أيام نايف حواتمه، ومنظمات التحرير العلمانية وغيرها، لما كان الإخوة الملتزمون في منظمة الفتح يقفون لأجل أن يصلوا الفجر أو غيره، أما نايف حواتمه فكانت كلمة السر عنده سب دين الله عز وجل، وهذا الكلام قاله الدكتور عبد الله عزام عليه رحمة الله، وكان يقول: إن تسل عن عنصري عن نسبي أنا مركسي لينيني أممي ضاعت فلسطين وكان ياسر أبو عمار يحني رأسه أمام أرنستو جيفارا ويقول: أنت مرشدنا وإمامنا؛ ولذلك حتى محمود درويش الشيوعي، وهو المستشار الثقافي الأسبق لـ ياسر عرفات، لما ذهبوا إلى اتفاقية أوسلو قدم له استقالة مسببة، وكتب فيها: للحقيقة وجهان، ولون الثلج أسود، ثم قال له: لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة؟! هذه الأمة مجتباة مصطفاة، أمة وارثة لعقائد الأنبياء، أمة أصلها عريق ضارب في أعماق الزمن، موصول الماضي بالحاضر بالمستقبل، قال الله عز وجل: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:136].
أمة وارثة لتراث الأنبياء، تراث العقيدة من قبلها، أمة لا تجتمع على ضلالة، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143] أي: عدولاً، ومقتضى العدالة أنهم بمجموعهم يعصمون عن الخطأ.
وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يجمع أمتي على ضلالة، ويد الله على الجماعة)، قال المناوي: أي: لا يجمع علماء أمتي على ضلالة؛ وذلك لأن العامة تأخذ من العلماء دينها، فالمعتبرون هم العلماء.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى قد أجار أمتي أن تجتمع على ضلالة).(4/4)
أمة الإسلام كالغيث
هذه الأمة لا ينقطع الخير منها أبداً، فلها دوام الخيرية، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل أمتي مثل المطر، لا يدرى أوله خير أم آخره)، وهذا هنا ليس أسلوب تفضيل وإنما يدل على استمرار الخيرية، كما يقول الشاعر: فوالله ما أدري أفي الطرف سحرها أم السحر منها في البيان وفي الثغر معناه أنها ساحرة في طرفها وفي بيانها وفي ثغرها.
وهذا الحديث لا ينافي حديث الصحيح (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).
فالناس كالخامة من الزرع، وحاجة خامة الزرع للمطر في البداية أكثر، فهو دائماً يحتاج إلى المطر في بدايته أكثر من حاجته عند قرب الحصاد، نعم المطر كله رحمة وغيث، إلا أن حاجة الزرع إلى المطر في أوله ليس كمثل حاجته إليه عند قرب الحصاد، وهذا يدل على استمرار الخيرية، لكن القرون الثلاثة الأولى هم خير الناس.(4/5)
أمة الإسلام هم شهداء الله في الأرض
وهذه الأمة هم شهداء الله في الأرض، ولقد (مر على النبي صلى الله عليه وسلم بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجبت! ثم مُرَّ بأخرى فأثنوا عليها شراً، فقال: وجبت! فقيل: يا رسول الله! قلت لهذه وجبت ولهذه وجبت؟! قال: شهادة القوم المؤمنين).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الملائكة شهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، إن لله ملائكة تنطق على ألسنة ابن آدم بما في المرء من الخير أو الشر).
والشهادة المعتبرة هي للناس الملتزمين، ليس لصعاليك الناس، فعندما ترى شخصاً قاعداً بجوار الطريق يحشش، وعندما يموت آخر مثله يعرفه فتأتي تسأله عن هذا الذي مات وهو يشرب الحشيش؟ يقول: هذا كان مستقيماً، هذا كان أحسن واحد في البلد فهذه شهادة غير معتبرة، مثل شهادة مجدي العمروتي الذي يشتغل تبع شركة أسطوانات الحب حين شهد لـ عبد الحليم حافظ في الذكرى السنوية الأولى لموته، قال في صفحة الوفيات من جريدة الأهرام: هنيئاً للجنة بك! هذا مع أن عقيدة أهل السنة والجماعة أنهم لا يشهدون لمعين بجنة ولا بنار إلا لمن شهد له الشارع.
هذا نور الدين محمود زنكي، وهو في الشام، أيام حصار الفرنجة الصليبيين لدمياط رووا له حديثاً بالتبسم، فلما قرءوا عليه سنده وسلسلته قالوا له: تبسم لتكتمل لك السلسلة بالتبسم، قال: أخشى أن يحاسبني الله عز وجل، كيف أبتسم والفرنجة محاصرون لدمياط؟! فأين النخوة؟ أين الرجولة؟ أين المروءة؟ لقد ضاعت.
لما مات موسيقار الجنين عبد الوهاب فقيل له: تعال بالعود واعمل مقطوعة غنائية لـ عبد الوهاب، فيأتي مباشرة على طول: وقم على القبر إن اللحن يحييه فشهداء الناس هم المعتبرون عند الله تبارك وتعالى من الناس، وليسوا (النسناس).(4/6)
فضل هذه الأمة على الأمم السابقة في الأجر والعطاء
هذه الأمة أقل عملاً وأكثر أجراً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (مثلكم ومثل أهل الكتابين كمثل رجل استأجر أجراء، فقال: من يعمل لي من الغدوة إلى نصف النهار على قيراط؟ فعملت اليهود، ثم قال: من يعمل لي من نصف النهار إلى صلاة العصر على قيراط؟ فعملت النصارى، ثم قال: من يعمل لي من العصر إلى أن تغيب الشمس على قيراطين؟ فأنتم هم؛ فغضبت اليهود والنصارى، وقالوا: ما لنا أكثر عملاً وأقل عطاء؟! فقال الله عز وجل: هل نقصتكم من حقكم؟ قالوا: لا.
قال: فذلك فضلي أوتيه من أشاء).
وهذه الأمة أمة باقية محفوظة، كم من أمم اندثرت وبادت ولم يبق لها نسل كعاد وثمود، بخلاف أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما قال: (سألت ربي ثلاثاً، فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة، سألت ربي ألا يهلك أمتي بسنة فأعطانيها، وسألته ألا يهلك أمتي بالغرق، فأعطانيها، وسألته ألا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها).
فهذه الأمة لن يهلكها الله عز وجل بعذاب يستأصل شأفتها، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم (لن يجمع الله تعالى على هذه الأمة سيفين، سيفاً منها، وسيفاً من عدوها).(4/7)
أمة الإسلام سياحتها الجهاد
هذه الأمة سياحتها الجهاد، ورهبانيتها أيضاً الجهاد، والحديث في ذلك صحيح، عن أبي أمامة رضي الله عنه أن رجلاًَ قال يا رسول الله (ائذن لي في السياحة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن سياحة أمتي الجهاد في الله عز وجل).
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء فقال: أوصني! فقال أبو سيعد: سألت عما سألت عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوصيك بتقوى الله، فإنها رأس كل خير، وعليك بالجهاد؛ فإنه رهبانية الإسلام، وعليك بذكر الله، وتلاوة القرآن؛ فإنه روحك في السماء، وذكرك في الأرض).
هذه الأمة العظيمة التي أخرجت الإمام العظيم الحافظ أحمد بن إسحاق السلمي شيخ الإمام البخاري كان له سيف، وكان يهزه ويقول: أعلم يقيناً أني قتلت به ألف تركي كافر، ولو عشت لقتلت به ألفاً آخرين، ولولا أن تكون بدعة لم أسبق إليها لأمرت أن يدفن معي سيفي في قبري.
هذه الأمة تحتاج إلى رجل مثل لؤلؤ العاجلي كان يلقب أمير البحار عند صلاح الدين الأيوبي، وكان خادماً لـ صلاح الدين الأيوبي، ثم رقاه إلى أمير البحار، لما قالوا له: إن النصارى الصليبيين قد ركبوا بحر القلزم -البحر الأحمر- يريدون أن يغيروا على مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كم عددهم؟ فأخبروه أن عددهم ثلاثمائة وتسعة عشر فقال: علي بالقيود، فهو كان متيقناً قبل أن يخرج لملاقاتهم أنهم كلهم سيقيدون وسيأتي بهم إلى صلاح الدين فكان له ما أراد، فلما علموا بأنه جاء خلفهم في السفن، تركوا البحر وصعدوا إلى الجبال، فصعد هو وثلة من فرسانه، وأتوا بهم وقيدوهم بالسلاسل كلهم، فضربت أعناقهم تحت سماء القاهرة، وأرسلوا اثنين ليذبحا في منى يوم النحر.(4/8)
أمة الإسلام أمة مرحومة
هذه الأمة أمة مرحومة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتي هذه أمة مرحومة، ليس عليها عذاب في الآخرة، إنما عذابها في الدنيا الفتن والزلازل والقتل والمصائب) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى إذا أراد رحمة أمة من عباده قبض نبيها قبلها، فجعله لها شرفاً وخلفاً بين يديها، وإذا أراد هلكة أمة عذبها ونبيها حي، فأهلكها وهو ينظر، فأقر عينه بهلكتها حين كذبوه وعصوا أمره).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الأمة أمة مرحومة، عذابها في أيديها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل من المسلمين رجل من المشركين، فيقال: هذا فداؤك من النار) هذا يدخل بدلاً منك النار.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة دفع الله عز وجل إلى كل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقال: هذا فكاكك من النار) والحديث صحيح.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه في النار يهودياً أو نصرانياً).
وهذا من فضل الله عز وجل على هذه الأمة، أن الكافر يكون فداءً للمسلم يوم القيامة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يجيء يوم القيامة أناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال، فيغفرها الله لهم، ويضعها على اليهود والنصارى) يعني: يضع أمثالها على اليهود والنصارى، كما قال الإمام النووي: هذا التأويل لا بد منه، قال: ويضع أمثالها على اليهود والنصارى فمثلاً: هناك مسلم متهاون في الزكاة، والصيام، أو في أداء الصلاة، فيأتي يوم القيامة فبمثل هذا التهاون يعذب الله عز وجل النصراني واليهودي، وهذا يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الشرائع.
يعني: يحاسب على كفره مرة، ويحاسب على فروع الشريعة التي تركها مرة، يقال له: لماذا كنت كافراً؟ لماذا كنت يهودياً؟ لماذا كنت نصرانياً؟ ثم بعد ذلك: لماذا لم تكن تصلي؟ لماذا لم تكن تصوم؟ لماذا لم تكن تحج؟ {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:42 - 46].
فهم دخلوا النار لأنهم كذبوا بيوم الدين، ولم يصلوا، وكلها فروع شرائع: {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} [المدثر:44] أنت ما كنت تطعم اليتامى والمساكين! أنت كنت كثير الجدال! {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر:45 - 46].
قال الإمام النووي: هذا التأويل لا بد منه.
ومن هذه الخصائص العظيمة أن هذه الأمة بعثت في خير قرون الزمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بعثت من خير قرون بني آدم قرناً، حتى كنت من القرن الذي كنت منه).(4/9)
أمة الإسلام رضي الله لها اليسر وكره لها العسر
هذه الأمة رضي الله لها اليسر، وكره لها العسر قال الله عز وجل: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة:185]، وقال الله تبارك وتعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء:28].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى رضي لهذه الأمة اليسر، وكره لها العسر).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم أمة أريد بكم اليسر).
أراد الله عز وجل أن يضع عن هذه الأمة الآصار والأغلال التي كانت في الأمم السابقة، يعني: كانت بنو إسرائيل إذا تبول رجل منهم على جسده وثوبه يقرضه بالمقراض.
ولما عبدت طائفة منهم العجل كانت توبتهم بأن يقتلوا أنفسهم {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة:54]، لكن نحن يقول لنا النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة).
فيتوب الله عليك بمجرد التلطف مع رب العالمين أو علم الله عز وجل صدق نيتك.
هذه أمة أريد بها اليسر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عباد الله إن الله وضع الحرج) أي: عن هذه الأمة.
ومما يدل على أن الله عز وجل يسر على هذه الأمة: أنه عفا عن حديث النفس، والوسوسة، والهاجس والخاطر، فهذه لا تحاسب عليها هذه الأمة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تعمل أو تتكلم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم (إن الله تجاوز عن أمتي ما توسوس بها صدورها، ما لم تعمل أو تتكلم به، وما استكرهوا عليه).
إذا وقع الإنسان في إكراه فلا شيء عليه، وكذلك الخطأ والنسيان، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه).(4/10)
من خصائص أمة الإسلام التيمم
ومن خصائص هذه الأمة التيمم، وما عرفته أمة قبل هذه الأمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً).(4/11)
من خصائص أمة الإسلام أن أحلت لها الغنائم
ومن خصائص هذه الأمة أن أحل لها الغنائم، وما أحلت الغنائم لأمة من الأمم قبل هذه الأمة، كانوا يجمعون الغنائم، فتنزل نار من السماء فتحرقها، أما هذه الأمة لما علم الله عز وجل صدق المهاجرين من فقراء المسلمين الذين تركوا أموالهم وديارهم فداء لدينهم، عوضهم عن هذه الأموال التي أخذها المشركون بأن أحل لهم الغنائم بعد وقعة بدر مباشرة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لم تحل الغنائم لأحد سود الرءوس من قبلكم، كانت تنزل نار من السماء فتأكلها) (من ترك شيئاً لله عوضه الله عنه خيراً مما تركه).
ترك المهاجرون بيوتهم وأموالهم؛ فعوضهم الله تبارك وتعالى عنها بإحلال الغنائم لهم، فانظر كم تركوا وكم أخذوا!(4/12)
من خصائص أمة الإسلام جعل الأرض لها مسجداً وطهوراً
ومن خصائص هذه الأمة العظيمة: أن الله عز وجل جعل الأرض كلها مسجداً لهذه الأمة، فحيثما أدركتك الصلاة فصل، إلا في تسعة عشر موضعاً أتت فيها كراهة الصلاة، وتحريم الصلاة في هذه المواضع، مثل المقبرة ومعاطن الإبل وغيرها، وما كانت هذه الخصيصة لأمة من الأمم قبلنا.
كانوا يصلون في كنائسهم فقط، وفي بيعهم، وهذا كما جاء في حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، أين ما أدركتني الصلاة صليت، وكان من قبلي يعظمون ذلك، إنما كانوا يصلون في كنائسهم وبيعهم).
أي: كانوا يصلون في دور العبادة فقط، وهذا هو الذي رجحه الحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام المناوي، أما هذه الأمة فإنها تصلي في أي مكان من أرجاء المعمورة.(4/13)
من خصائص أمة الإسلام أن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة
ومن خصائص هذه الأمة: أن صفوفها في الصلاة كصفوف الملائكة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فضلنا على الناس بثلاث: جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة - أي في الصلاة - وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء، وأعطيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة، من كنز تحت العرش، لم يعط منه نبي قبلي، ولا يعطى منه أحد بعدي).
قال الإمام المناوي: كانت الأمم السابقة يصلون منفردين كل واحد على حدة، فخص الله عز وجل هذه الأمة بخاصية الصلاة في جماعة والتراص في الصفوف كصفوف الملائكة.
وفضل الله عز وجل هذه الأمة بصلاة العشاء، لم تصلها أمة من الأمم قبلنا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أعتموا بهذه الصلاة) يعني: انتظروا بهذه الصلاة حتى تدخلوا في الليل (فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، لم تصلها أمة من قبلكم).
وإنما كانت ندباً على الأنبياء من قبلنا، كما قال الإمام المناوي، إن صلاة العشاء كانت تصليها الرسل نافلة لهم، أي زائدة، ولم تكتب على أممهم، مثل التهجد، فإنه وجب على رسولنا صلى الله عليه وسلم، ولم يجب علينا.(4/14)
من خصائص أمة الإسلام أن الله ستر أعمالها
ومن خصائص هذه الأمة أيضاً: أن الله ستر أعمالها، سواء كانت الأعمال مقبولة أم مردودة عليها، بل المقبول يبارك الله عز وجل فيه، ويجعل له الثناء الحسن بين الناس.
من رحمة الله عز وجل أن هناك ناساً أعفن من العفونة بكثير، يمشون وسط الناس ولا يدري الناس لحالهم، يسترهم الله عز وجل، كما يقول محمد بن واسع: لو كان للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي، هذا محمد بن واسع زين القراء: كم عدو حط منك بالذم فرقاك كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك ستر الله عليك من القبيح من قبيح أعمالك ما لو فاح لضجت المشام.
وهذا من رحمة الله عز وجل أن سترها عليك في الدنيا، وقد يسترها عليك في الآخرة، يقول: (سترتها عليك في الدنيا، وأنا اليوم أسترها عليك في الآخرة).
أما الأمم التي كانت قبلنا فقال شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام: إن الله ستر على من يتقبل عمله من أمته، وكان من قبلهم يقربون القرابين.
كان الرجل إذا أراد أن يعلم هل تقبل الله منه هذا العمل أم لا، يقرب قرباناً بين يدي عمله، فتأكل النار ما تقبل منه، وتدع ما لم يتقبل فلا تأكله ولا تقربه، فيصبح الرجل مفضوحاً بين الناس.
يعني: كان الرجل إذا أراد أن يعرف صلاحه من فساده، يقدم القرابين لله عز وجل، فإذا نزلت نار وأكلتها علم أن هذا العمل قد تقبل منه، قال الله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
وحسن الشيخ الألباني تفسير ابن عباس وقال: إن له حكم الرفع.(4/15)
من خصائص أمة الإسلام صلاة بعض الأنبياء خلف بعض صالحيها
ومن خصائص هذه الأمة: أن بعض الأنبياء صلوا خلف أناس صالحين من هذه الأمة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة، فينزل عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فيقول أميرهم: تعال صل لنا -وهو المهدي - فيقول: لا، إن بعضكم على بعض أمراء؛ تكرمة الله لهذه الأمة).
ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (منا الذي يصلي عيسى بن مريم خلفه) فصلاة نبي خلف أحد الصالحين يدل على عظم هذا الصالح، ولقد ثبت أن النبي صلى الله عليه صلى خلف عبد الرحمن بن عوف صلاة الصبح.
والعلماء بينهم اختلاف كبير في صلاة النبي مأموماً خلف أبي بكر، والثابت الذي رواه الحافظ ابن حجر العسقلاني أن النبي صلى مأموماً خلف أبي بكر.
والذي لا نزاع فيه بين أهل العلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم: (صل مأموماً خلف عبد الرحمن بن عوف).(4/16)
من خصائص أمة الإسلام أن الله اختصها بالسلام والتأمين
ومن خصائص هذه الأمة: أن الله اختصها بالسلام والتأمين، وحسدتها على ذلك اليهود، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء ما حسدتكم على السلام والتأمين).
السلام تحية الله عز وجل لأهل الجنة: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس:58].
وسلام الملائكة على أهل الجنة: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].
وسلام بعضهم على بعض: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26].(4/17)
من خصائص أمة الإسلام السحور
ومما خص الله عز وجل به هذا الأمة: السحور أو الفلاح، وهو الغداء المبارك كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر).
فالفرق بين صيامنا وصيام النصارى واليهود السحور، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على المتسحرين) وصلاة الله ثناء، والصلاة من الملائكة استغفار، فأنت تأكل ويثني عليك الله عز وجل، وليس ذلك لأجل أنك تأكل لنفسك، ولكن لأجل أنك لم تكن إمعة، لا بد أن تكون لك شخصية مستقلة.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال أمتي بخير ما عجلت الفطر، وأخرت السحور)؛ لأن اليهود والنصارى يؤخرون الفطر وينتظرون اشتباك النجوم.
فلا بد من السحور ولو على جرعة ماء؛ لتخالف فيها اليهود والنصارى.
سبحان الله! انظروا إلى الفرق! لو أنك أتيت لتوقظ شخصاً من النوم قبل الفجر بنصف ساعة في غير رمضان، فإنه سيرفض وربما يغضب! فسبحان من يجعل الأمر على العكس في رمضان! سبحان من يحبب هذا الوقت إلى الناس! فسبحان من يحبب إلى الصادقين الشيء الذي يخالفون به اليهود والنصارى!(4/18)
من خصائص أمة الإسلام أن الله خصها بيوم الجمعة
وهذه الأمة أمة خصها الله بيوم الجمعة، سيد الأيام، عيد المسلمين الأسبوعي، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا ليوم الجمعة) وفي لفظ مسلم (هدينا إلى الجمعة، وأضل الله عنها من كان قبلنا).
الجمعة هذه لا يعظمها ولا يوقرها إلا عظماء الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث الأيام يوم القيامة على هيئتها، ويبعث يوم الجمعة زهراء منيرة أهلها- أي: الناس الذي كانوا يوقرون اليوم هذا ويحتفلون به- يحفون بها، كالعروس تهدى إلى كريمها، تضيء لهم، يمشون في ضوئها، ألوانهم كالثلج بياضاً، وريحهم يفقع كالمسك، يخوضون في جبال الكافور، ينظر إليهم الثقلان ما يفرقون؛ تعجباً -يعني: من جمالهم- حتى يدخلوا الجنة لا يخالطهم أحد إلا المؤذنون المحتسبون).
ثم نأتي إلى كامب ديفيد الثانية لما كان يوم السبت قال باراك نوقف المحادثات لأن اليوم عيد قومي، وقال كلينتون: ويوم الأحد هو يوم عيدنا فتتوقف فيه المحادثات، بينما لما يمانع أبو عمار في أن تكون المحادثات يوم الجمعة، يا عم الشيخ العملية باينة من الأول، لو عندك احترام حتى لدينك أو ليوم الجمعة لصنعت كما صنع صاحب مونيكا، وكنت قلت: هذا أيضاً عيد عند المسلمين.
ستعلمي إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار وآخر يقول: إذا كان الغراب دليل قوم فلا فازوا ولا فاز الغراب إذا كان الغراب دليل قوم يمر بهم على جيف الكلاب أما يوم الجمعة فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا أعطاه إياه)، وذلك كما قال بعض أهل العلم في آخر ساعة قبل غروب شمس يوم الجمعة.
ومن كرامة هذا اليوم قول النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر).
وهذا اليوم يذكرنا باليوم الذي ننتظره جميعاً، وهو يوم المزيد، فيوم المزيد هو يوم الجمعة في دار الدنيا، لكنه يسمى في الآخرة يوم المزيد، يزور أهل الجنة ربهم في هذا اليوم الأسبوعي، ومنهم من يزور الله عز وجل بكرة وعشياً، ولكن كل أهل الجنة يزورون ربهم في يوم المزيد.
يوم ينطلقون فيه إلى مولاهم فمنهم من يجلس على كثبان اللؤلؤ، ومنهم من يجلس على منابر من نور قدام عرش الرحمن، فيقول لهم الله عز وجل: (يا عبادي! إن لكم موعداً أريد أن أنجزكموه فيقولون: يا رب! ألم تبيض وجوهنا، وتثقل موازيننا، وتغفر ذنوبنا، وتدخلنا الجنة، فيقول لهم الله عز وجل: اليوم أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبداً، فترفع الحجب، فينظرون إلى مولاهم، وينظر مولاهم إليهم، فما أعطي أهل الجنة شيء ألذ من النظر إلى وجه الله الكريم).
فيا مسرعين السير بالله ربكم قفوا بي على تلك الربوع وسلموا وقولوا محب قاده الشوق نحوكم قضى عمره فيكم تعيشوا وتسلموا قضى الله رب العالمين قضية بأن الهوى يعمي القلوب ويبكم وحبكم أصل الهدى ومداره عليه وفوز للمحب ومغنم وحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم وحي على روضاتها ورياضها وحي على عيش بها لا يسأم فلله أبصار ترى الله جهرة فلا الحزن يغشاها ولا هي تسأم(4/19)
من خصائص أمة الإسلام أن الله أحل لها بعض الأطعمة
ومن خصائص هذه الأمة: أن الله تبارك وتعالى أحل لها بعض الأطعمة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحلت لنا ميتتان ودمان، فأما الميتتان: فالحوت والجراد، وأما الدمان: فالكبد والطحال).(4/20)
من خصائص أمة الإسلام أن لها أسباب الشهادة في سبيل الله
ومن رحمة الله عز وجل بهذه الأمة وكرامته لها أنه جعل الطاعون الذي كان رجزاً وعذاباً على الأمم السابقة شهادة لهذه الأمة، فمن مات بالطاعون مات شهيداً.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الطاعون شهادة لأمتي، ووخز لأعدائكم من الجن).
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه عذاب يبعثه الله على من يشاء، وإن الله جعله رحمة للمؤمنين، ليس من أحد يقع به الطاعون، فيمكث في بلده صابراً محتسباً، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتبه الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد).
ولذلك توفي في طاعون عمواس أمين هذه الأمة سيدنا أبو عبيدة عامر بن الجراح، وأعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، لما أصيب ابنه عبد الرحمن المكنى به، قال له: كيف تجدك يا بني؟ قال: يا أبت! {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147].
ثم أصيب سيدنا معاذ في أصبعه، فقال كلمة طيبة! قال: إنها لصغيرة، وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً.
ذكر ذلك الحافظ ابن حجر الهيتمي في بذل الماعون في فضل الطاعون، قال معاذ: إنها لصغيرة، وقد يبارك الله في الصغيرة فتصبح كبيرة، فمات بها، ولما جاءه الموت قال في سكرات الموت: اخنق خنقك، فوعزتك إني أحبك، حبيب جاء على فاقة، لا أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار، ولا لكراء الأنهار، وإنما لظمأ الهواجر، ومكابدة الساعات، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.(4/21)
من خصائص أمة الإسلام تعدد أسباب الشهادة
ومن كرامة الله عز وجل لهذه الأمة: أن عدد لها أسباب الشهادة: وهذه كرامة كبيرة من الله عز وجل، يأتي واحد فيقول: يا سلام لو أذهب إلى فلسطين لأقاتل.
قال تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246] ولذلك يقول الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله: القائد البصير لا ينخدع بحماس الجماهير الثائرة من حوله، وإنما لا بد من أناس فيهم الإيمان، والإيمان لا يأتي بين بكرة وعشية، وإنما يحتاج إلى طول وقت، فلا بد من الإعداد، ودولة الخلافة التي احتاجت إلى قرون لإسقاطها، تحتاج إلى قرون لقيامها.
فمن رحمة الله عز وجل أنه علم ضعف هذه الأمة فنوع لها أسباب الشهادة، من فاتته الشهادة في ميدان المعركة قد يأخذ أجرها وهو على فراشه: (من سأل الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن كان على فراشه).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم (ما تعدون الشهيد فيكم؟ قالوا: من قتل في سبيل الله يا رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن شهداء أمتي إذاً لقليل! ثم قال: من قتل في سبيل الله فهو شهيد، ومن مات في البطن -المبطون- فهو شهيد، والغريق شهيد).
المبطون الذي هو مؤمن، أي: مواظب على الصلاة، فإذا جاء له مرض البلهارسيا، فيتسبب في أن تجتمتع المياه في بطنه، فتضغط على الحجاب الحاجز، ولا تتركه ينام أو يأكل، فربنا يرحمه إذا مات على هذا وصبر، يكون أجره مثل أجر الشهيد.
أو رجل مصاب بالإسهال كما قال أهل العلم، ومات بهذا المرض الشديد، فإنه يموت شهيداً، وكذلك من أصيب بمرض السل فمات بسببه أو من مات تحت الردم، فإنه يكون له أجر الشهيد.
والنفساء: المرأة التي تموت وجنينها فيها، أو تموت عند الولادة، ومن وقصه بعيره في سبيل الله، ومن مات حتف أنفه في سبيل الله، وصاحب ذات الجنب، ومن مات بالسل، ومن قتل دون ماله أو دون أهله، أو دون دينه، أو دون دمه، فهو شهيد.
وهذه رحمة من الله تبارك وتعالى لهذه الأمة، فقد يرزقك الله عز وجل بمرض يكون سبباً لأن تعطى مثل أجر الشهيد.(4/22)
من خصائص أمة الإسلام أنها أمة الإسناد
هذه الأمة العظيمة أمة الإسناد، خصنا الله عز وجل بالإسناد دون بقية الأمم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تسمعون ويسمع منكم، ويسمع ممن يسمع منكم).
الإسناد هو: حدثنا فلان قال أنبأنا فلان قال أخبرنا فلان، وقد خص الله عز وجل به هذه الأمة، وليس الإسناد لأمة من الأمة إلا لهذه الأمة، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء.
لولا الإسناد لكان الرجل -كما قال الشافعي - مثل حاطب ليل، قد يحمل الأفعى بين حطبه وهو لا يدري.
يأتي رجل -لا يدري ما أتى به- بكتاب ثعلب وهو أبو العباس النحوي لا يعرف الأحاديث الضعيفة من الصحيحة، فيقول لك: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ربيع أمتي في البطيخ والعنب)، فيكون هذا الحديث من الأحاديث الموضوعة.
وقيل لـ عبد الله بن المبارك: ما هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة من الرجال، لقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
وقيل لـ عبد الله بن المبارك: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالعدس فإنه قدس على لسان سبعين نبياً).
فقال: ولا على لسان نبي واحد، يكفيك رائحته؛ فإنه يؤذي البطن.
ولما صارت المساجد تحت وزارة الأوقاف وجد جيل جديد يصعد على المنابر يحدث بأحاديث ما أنزل الله بها من سلطان! ولقد كان عندنا إمام يقول لي: هل تعرف اسم أخي سيدنا يوسف؟ قلت له: لا أعرف، قال: أنتم يا السنيون جهلة! قلت له: أخبرني (يا أبو العريف) ثم قال لي: تعرف اسم ابن سيدنا نوح من القرآن؟ قلت: لا ما أعرف؟ قال: أما أخو سيدنا يوسف فاسمه (نكتل)! وأما ابن سيدنا نوح فاسمه: (سآوي)! يصعد أحدهم المنبر فيقرأ من كتاب مكتوب فيه: إن الزنا عم وإن الربا طم، آه آه، فقال لك: إن الزناعم والرباطم واحد وخمسين واحد وخمسين! نسأل الله السلامة.(4/23)
من خصائص أمة الإسلام وضع البركة في البكور
ومما خص الله تبارك وتعالى به هذه الأمة أن بورك لها في بكورها: يعني: المولى عز وجل يبارك لها في الرزق عند البكور، رزق الأجساد أو رزق القلوب، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (بورك لأمتي في بكورها).
وعن صخر بن وداعة الغامدي أن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم بارك لأمتي في بكورها).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أرسل سرية أرسلها في أول النهار، وكان صخر إذا أرسل تجارة أرسلها في أول النهار؛ فكثر ماله، حتى كان لا يدري أن يضعه! الإمام أحمد بن حنبل -وهو طفل صغير- كان يذهب إلى أستاذه في علم الحديث وإلى شيوخه قبل صلاة الفجر، فكانت أمه تستحلفه بالله ألا يخرج حتى يؤذن المؤذن لصلاة الفجر.
لو قلت للإخوة: تعالوا لأعطيكم درساً قبل الفجر فهل سيأتي أحد؟ إذا جاء لك بعد العشاء فهو في خير.
والذي يأتي بعد الفجر إلى الدرس فإنه لا ينسى، وهو وقت مبارك، فيه تسبيح المستغفرين، ثم بعد ذلك تخرج إلى طلب قوتك، وقوت أولادك، فيبارك الله عز وجل.
لكن بعد ما دخل -النيل سات- وجدت عندنا عشش مبنية بالطوب واللبن، والرجل يسكن هو وامرأته وأولاده جنب الجاموسة، بحيث لا يوجد باب يفصلهم عن الجاموسة والغنم، ولكنه يشتري تلفزيوناً ملوناً ودشاً، ويجلس أمام قناة أوربت قناة الأفلام، ويشاهد عشرة أفلام في اليوم، طبعاً هو طرزان! فلا زراعة ولا فلاحة، فهو رجل أوربت جالس قدام قناة أفلام ليل نهار.
والله العظيم إلى حد أن الثعابين والفئران ملأت الحقول، فمن أين يأتي الخير؟ ولقد كنت أرى جدي رحمه الله قبل مدة من الزمن يستيقظ قبل صلاة الفجر فيتوضأ، ويذهب ليصلي في المسجد، ثم يقعد يقرأ قليلاً من القرآن، فتأتي له زوجته بالبيض والزبدة والشاي وقبل أن تشرق الشمس يكون في حقله، ولقد كانت الأرض الزراعية قليلة لكن البركة كانت موجودة، وكان ينام بعد العشاء مباشرة، لكن اليوم الناس يقعدون أمام التلفاز أربعة وعشرين ساعة، فكيف سيذهبون إلى عملهم وهم لا يبكرون فيها والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (بارك الله لأمتي في بكورها).(4/24)
من خصائص أمة الإسلام أن لها النصر والغلبة إلى قيام الساعة
كذلك من خصائص هذه الأمة: أن لها النصر والتمكين والغلبة إلى يوم الدين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر أمتي بالنصر والثناء والتمكين، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالتيسير والثناء والرفع).
رفعة بالدين، والتمكين في البلاد والنصر، فمن عمل منهم بعمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب.(4/25)
من خصائص أمة الإسلام أنهم يأتون يوم القيامة غراً محجلين
أما في الآخرة: فهذه الأمة أفرادها محجلون يوم القيامة من الوضوء، وغر من السجود، النور في جباههم وركبهم وأقدامهم من آثار الوضوء والسجود، وليست هذه السمة والعلامة إلا لهذه الأمة المباركة.
ولها خصائص أيضاً كما جاء في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أعرف أمتي من بين الأمم، أنظر عن يميني فأعرف أمتي، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي، فقال رجل: يا رسول الله! وكيف تعرف أمتك من بين الأمم ما بين نوح إلى أمتك؟ قال: غر محجلون من أثر الوضوء، ولا يكون لأحد من الأمم غيرهم، وأعرفهم أنهم يأتون كتبهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأعرفهم بنورهم الذي بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم) والحديث صحيح.
قال تعالى: {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].(4/26)
من خصائص أمة الإسلام تخفيف طول القيام عليها يوم القيامة
من خصائص هذه الأمة: أن يوم القيامة الطويل الذي قال فيه المولى تبارك وتعالى: {يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج:4]، يجعله الله عز وجل قصيراً على هذه الأمة، فلا تحس به ولا تشعر، فيجعله على هذه الأمة كقدر ما بين صلاة الظهر إلى العصر، والحديث صحيح.
وجاء في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يوم القيامة على المؤمنين كقدر ما بين الظهر والعصر) والحديث صححه الشيخ الألباني.(4/27)
من خصائص هذه الأمة أنها أول من يحاسب يوم القيامة ويمر على الصراط
ومن خصائص هذه الأمة: أنها أول أمة تحاسب يوم القيامة؛ إكراماً من الله تبارك وتعالى لها.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن آخر الأمم، وأول من يحاسب، يقال: أين الأمة الأمية ونبيها؟ فنحن الآخرون الأولون).
ومن خصائص هذه الأمة، أنها أول الأمم مروراً على الصراط، وبعد الصراط تكون في مكان مرتفع تشرف على الخلائق، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ويضرب الصراط بين ظهري جهنم، فأكون أنا وأمتي أول من يجيز على الصراط).
وفي حديث كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا كان يوم القيامة كنت أنا وأمتي على كثب -مكان مرتفع- فيكسوني حلة خضراء، ثم يأذن لي تبارك وتعالى أن أقول ما أشاء أن أقول، وذلك المقام المحمود).(4/28)
من خصائص أمة الإسلام في الشفاعة
ومن خصائص هذه الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأهل الكبائر منها فيدخلون الجنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم خبأ دعوته شفاعة لهذه الأمة.
ومن خصائص هذه الأمة أنها أول الأمم دخولاً الجنة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع لأناس سيعطون منازل في الجنة، لا تبلغهم إياها أعمالهم، وإنما يشفع النبي صلى الله عليه وسلم لهم، فيزدادون درجات في الجنة لا تبلغها أعمالهم.
ومن خصائص هذه الأمة: أن أناسه معظمون يوم القيامة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يدخل الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم).
وبنو تميم أكبر قبيلة عربية من حيث العدد، فقد يصل عددها إلى عشرين أو ثلاثين ألفاً أو أكثر.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة ومضر، قالوا: لست أنت يا رسول الله؟! قال: لست أنا).
قالوا: إن هذا الرجل هو عثمان بن عفان أو أويس القرني، فهذا الرجل بشفاعته يدخل ثلاثون ألفاً الجنة.
والشهيد يشفع في سبعين رجلاً من أهل بيته، فما بالك بالذي يشفع مثلاً في ثلاثين ألفاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم!(4/29)
من خصائص أمة الإسلام أنها أول الأمم دخولاً الجنة
ومن خصائص هذه الأمة أيضاً أنها أول الأمم دخولاً الجنة: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، ونحن أول من يدخل الجنة).
أما أول زمرة تدخل الجنة! فيقول النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن عمرو: (أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم.
فقال: المهاجرون، يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فتقول لهم الخزنة: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: بأي شيء نحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله حتى متنا على ذلك، فيفتح لهم).
فهؤلاء لم يكونوا يملكون الكنوز والخزائن والقصور التي على شاطئ الريفيرا ونهر الصين والراين التابعة لمنظمات التحرير والوزراء؟! وهناك شاب فلسطيني أجرب اشترى سيارة الأميرة ديانا -وهي سيارة محطمة ومكسرة- بثلاثة ملايين دولار، وهو عبارة عن تاجر فلسطيني، فما ظنكم بالقادة الذين صاروا أثرياء على حساب القضية الفلسطينية! فأولئك الذين هدموا عرش كسرى وقيصر من المهاجرين يقال لهم: أوقد حوسبتم؟ فيقولون: على ماذا سنحاسب؟ ما كان عندنا شيء! وهؤلاء أصحاب الصفة كانوا ينامون في المسجد، فيقولون: إنما كانت سيوفنا على عواتقنا في سبيل الله فعلى أي شيء كنا نحاسب؟!(4/30)
من خصائص أمة الإسلام أنها أكثر أهل الجنة
ومن خصائص هذه الأمة أنها أكثر أهل الجنة: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قال الراوي: فكبرنا! فقال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ فكبرنا، فقال: أترضون أن تكونوا نصف أهل الجنة؟ فكبرنا، فقال: إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة.
فنصف أهل الجنة من هذه الأمة، وزاد الله عز وجل نبيها سدساً آخر فوق النصف، فثلثا أهل الجنة من هذه الأمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أهل الجنة عشرون ومائة صف، أمتي منهم ثمانون صفاً).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم يوم القيامة فرأيت النبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد).
ما هذا؟! نبي يرسله الله إلى أمة ولا يستجيب له أحد! هل هم عصاة إلى هذه الدرجة؟! ثم قال: (ورأيت النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرجل والرجلان، والنبي يأتي يوم القيامة وليس معه أحد).
فهذه الأمة ثلثا أهل الجنة، وأكرم أهل الجنة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة) أي: خلا النبيين والمرسلين.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة).
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (حمزة سيد الشهداء يوم القيامة)، وكلهم من هذه الأمة.(4/31)
من خصائص أمة الإسلام دخول سبعين ألفاً منها الجنة بغير حساب
ومن خصائص هذه الأمة أن سبعين ألفاً منها يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
وفي رواية: (أو سبعمائة) أي: سبعمائة ألف، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول (فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً).
أي: سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، ومع كل ألف من هؤلاء سبعون ألفاً أيضاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
قال: (وثلاث حثيات) فسيدنا أبو بكر قال: إذاً يدخلهم كلهم الجنة، فقال سيدنا عمر: وما عليك أن يدخلهم كلهم الجنة يا أبا بكر! فزاد الله تبارك وتعالى نبيه يقول: (مع كل واحد منهم سبعين ألفاً).
وقد فرحت فرحاً شديداً لما عرفت أنه صححه الشيخ الألباني في المجلد الثالث عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، قلوبهم على قلب رجل واحد، فاستزدت ربي عز وجل، مع كل واحد سبعين ألفاً).
وهذا رواه الإمام أحمد وأبو يعلى في مسنده وصححه الإمام البوصيري والشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة، حديث رقم (1484).
فهؤلاء سبعون ألفاً مع كل واحد سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب، فيكون عددهم: أربعة آلاف مليون وتسعمائة مليون شخص، يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(4/32)
الخوف من الله
الخوف من الله تعالى ضرورة يحتاج إليها المسلم، ولا يخلو منه قلب إلا قلب خرب، وهو صفة الصالحين، ودليل تعظيم رب العالمين.
ويوقظه في القلب جملة من الأسباب، ومنها خوف فوات التوبة قبل الموت أو نقضها، وزوال رقة القلب، والميل عن الاستقامة، وسابقة علم الله بمآل العبد، وسكرات الموت، وأهوال يوم القيامة، وغير ذلك من الأسباب الداعية إلى الخوف من رب العزة جل جلاله.(5/1)
فضل الخوف من الله تعالى
بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله؛ نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: فإن الخوف سوط الله يقوم به الشاردين عن بابه، وهو سراج في القلب به يبصر الخير والشر، وإذا دخل الخوف القلوب أحرق مواضع الشبهات منها، وطرد الدنيا عنها.
قال أبو سليمان الداراني: ما فارق الخوف قلباً إلا وخرب هذا القلب.
ولكل شيء زينة، وزينة العبادة الخوف من الله عز وجل كما قال حاتم الأصم.
ولا تغتر برؤية الصالحين، فلا أصلح من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينتفع برؤيته المنافقون ولا الكافرون، ولا تغتر بطيب المكان، فذلك لا ينجيك من الله عز وجل إن لم تكن صالحاً، فلا مكان أطيب من الجنة، وفيها لقي آدم ما لقي، فآدم عليه السلام لم يسامح في لقمة، وهو صفي الله وكليمه، ودخلت امرأة النار في هرة ربطتها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.
تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي درج الجنان ونيل فوز العابد ونسيت أن الله أخرج آدما منها إلى الدنيا بذنب واحد نهارك يا مغرور سهو وغفلة وليلك نوم والردى لك لازم وتنشط فيما سوف تكره جده كذلك في الدنيا تعيش البهائم(5/2)
نصوص تبعث على الخوف من الله عز وجل(5/3)
نصوص قرآنية باعثة على الخوف من الله
قال الله تبارك وتعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175]، وقال تعالى: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون:57 - 61].
فرار السعداء إلى الله عز وجل، وفرار الأشقياء من الله عز وجل، وكل إنسان إذا خفته تهرب منه، أما الله عز وجل فإنك إذا خفته تهرب إليه.
قال الله تبارك وتعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] قال أبو عيسى الترمذي: جنة لخوفه من ربه، وجنة لتركه لشهواته.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم عز وجل إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن).
وقال الله تبارك وتعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات:40] أي: اطلاع الله عز وجل عليه، ورؤية الله له {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} [النازعات:40 - 41].
عجباً لك يا ابن آدم! تحرك الريح أستار بيتك وأنت مستلق في بيتك، فيضطرب فؤادك لنظر الناس إلى عورتك، والاطلاع على ما خفي من أمرك، وأنت عالم أن الله ناظر إليك من فوق سبع سماوات، يراك مصراً على المعصية، فلا ينخلع فؤادك لنظر الله عز وجل إليك من فوق سبع سماوات.
{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأنعام:15].
وقال الله عز وجل عن عباده الصالحين: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان:10].
وقال عز وجل: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ} [النور:37].
وقال عز وجل: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ} [الرعد:21].
فاتقوا الله عز وجل؛ فإن أخذ الله أليم شديد.(5/4)
نصوص نبوية باعثة على الخوف من الله
كان عبد الله بن المبارك إذا نام في مضجعه يتقلب ويقول: ومن يقدر على أخذ الله، إن أخذه أليم شديد.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ولما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله عز وجل)، فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ولهم خنين، أي: بكاء.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر) وقال: (ما رأيت مثل الجنة نام طالبها، ولا رأيت مثل النار نام هاربها).
وفي حديث عدي بن حاتم الطائي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة).
فهذه جملة من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تبعث على الخوف والخشية والوجل والإجلال والهيبة من الله عز وجل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون كمقدار ميل) قال سليم بن عامر الراوي عن المقداد: فوالله ما أدري ما يعني بالميل، أمسافة الأرض، أم الميل الذي تكحل به الجفون؟! وذكر النبي صلى الله عليه وسلم أن الناس يعرقون يوم القيامة، فيذهب عرقهم في الأرض سبعين ذراعاً، ثم يلجمهم حتى يبلغ آذانهم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل) والإدلاج: السير آخر الليل.
يقول صلى الله عليه وسلم: (من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة).(5/5)
أثر مبارزة الله بالمعاصي على المجتمعات
دخل النبي صلى الله عليه وسلم على السيدة زينب بنت جحش فزعاً مرعوباً فقال: (ويل للعرب من شر قد اقترب! فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه -وحلق بأصبعيه- قالت زينب بنت جحش: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟! قال: نعم إذا كثر الخبث).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر الربا والزنا في قرية فقد حلوا بأنفسهم عذاب الله عز وجل).
وما زلزال تركيا ببعيد، فالحكومة التركية أعطت -كما نشر في جريدة الأهرام- وسام الجمهورية من الطبقة الأولى لصاحبة أكبر مؤسسات الدعارة، قالوا: لأنها جلبت المال الوفير للاقتصاد القومي التركي، فأعطوها أعظم جائزة في الجمهورية التركية.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيكون في آخر الزمان خسف وقذف ومسخ، قيل: ومتى ذلك يا رسول الله؟ قال: إذا ظهرت المعازف والقينات واستحلت الخمر).
وأظن أن المعازف والقينات أصبحت كثيرة جداً، والله تبارك وتعالى يقول: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:13] أي: ما لكم لا تخافون لله عظمة؟! وما لكم لا ترعون لله حقاً؟! وما لكم لا تقدرون الله عز وجل حق قدره؟! أأمنتم عذاب الله عز وجل؟! وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأسه بأهل الأرض، وإن كان فيهم الصالحون).
فإذا كان فيهم قوم صالحون يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يرجعون إلى رحمة الله وإلى مغفرته.
فهذا الزلزال الذي أصاب تركيا من غضب الله عز وجل، وكيف لا يغضب الله عز وجل على دولة كانت دولة الخلافة في يوم من الأيام؟! فتركيا فتحت بودابست عاصمة المجر، وبلاد البوسنة والهرسك، وفتحت بلغاريا، وهزمت فرنسا في قعر دارها، فهذه الدولة نشرت أعلام الإسلام، ثم يأتيها أتاتورك الرجل الصنم الذي أذهب القرآن، وحول مسجد آياصوفيا إلى مطعم آياصوفيا، وألغى لغة القرآن في تركيا، وأراد أن يعتدي على أخت زوجته، وأطلق عليها الرصاص لما رفضت، وحال بينه وبين ذلك خادمه، وأقام سد أتاتورك على منبع الفرات ومنبع دجلة حتى لا يصل الماء إلى سوريا أو العراق، وأغلق المدارس الدينية، ومنع المحجبات من النزول في الشوارع، فكيف لا يغضب الله عز وجل؟! فهذا الزلزال أخذ في لحظة واحدة أربعين ألفاً {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102].
فلا بد من وقفة للحساب.(5/6)
نماذج من حياة الخائفين
كان سيدنا مالك بن دينار يقول: لو أن لي أعواناً لفرقتهم في منارات الدنيا يصيحون بالناس: النار، النار! علهم يفيقون من غفلتهم.
ويقول: والله لقد هممت أن آمر إذا أنا مت أن يطرحوني على مزبلة، وأن يضعوا الرماد على وجهي، ويقال: هذا جزاء من عصى الله.
فمن رآني لم يعص ربه.
وهذا خوف الصادقين.
وانظر إلى هدي النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كان ربما بكى في الصلاة حتى يسمع لصوت صدره أزيز كأزيز المرجل، وكان إذا تغير الجو دخل وخرج، وعرف ذلك في وجهه، فتقول له السيدة عائشة: إن الناس إذا رأوا المطر استبشروا، فقال: (وما يؤمنني أن يكون فيه عذاب من الله عز وجل؟).
يقول سيدنا أنس بن مالك: إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، وإن كنا لنعدها على عهد رسول الله من الموبقات.
أي: من المهلكات.
وروي أن أحد العباد كان بمكانٍ فغشي عليه، فلما أفاق سألوه: فقال: هذا مكان عصيت الله فيه يوماً من الأيام.
وسيدنا خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام يقول المولى عز وجل فيه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] كان إذا ذكر ذنبه تأوه، كما كان يفعل سيدنا داود، يقول: أواه من عذاب الله، قبل أن لا تنفع أواه.
ويقول: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك، فكيف أستطيع حر نارك؟! يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك وهو الرعد، فكيف أستطيع سماع صوت غضبك؟! فيا عباد الله! ابكوا قبل أن لا ينفع البكاء، وقبل أن تكون الدموع دماً، وقبل أن يؤمر بنا ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (مررت ليلة أسري بي بجبريل كالحلس البالي من خشية الله).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل: (ما لي لم أر ميكائيل ضاحكاً؟! فقال: لم يضحك ميكائيل منذ خلقت النار).(5/7)
أسباب الخوف من الله تعالى(5/8)
الخوف من الموت قبل التوبة أو من نقضها
والخوف -يا إخوتاه- له أسباب عديدة، منها خوف الموت قبل التوبة، فتخاف أن تموت قبل أن يتوب الله عز وجل عليك، وربما ران الذنب على القلب فمنعك من التوبة، {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر:56].
فقد يعجل لك الموت قبل التوبة، والنفس قد يخرج ولا يعود، وإن العين قد تطرف ولا تطرف الأخرى إلا بين يدي الله عز وجل.
وهناك الخوف من نقض التوبة: أي أن تتوب إلى الله عز وجل، ثم تعود في توبتك مرة أخرى، أو أن تكون التوبة توبة علة.(5/9)
الخوف من عدم قبول العمل وعدم الوفاء بأمر الله عز وجل
إن الرجل الصالح قد يفعل العمل الصالح ويخاف عدم القبول، قال تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].
ويخاف من الرياء، ومن أن يكون فعله لغير وجه الله عز وجل، ويخاف أن لا يبقى على هذا العمل إلى موته، كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام:160] يعني: أتى بها، وصبر على فعلها إلى الموت، فهو يخشى ألا يوفق للطاعة، فهذا خوفهم وهم يعملون الصالحات، فكيف بخوف من يصرون على الموبقات والسيئات؟! وهناك الخوف من عدم الوفاء بأمر الله عز وجل، حيث لم تقدر الله عز وجل حق قدره، ولم تف بأوامر الله عز وجل، وكان بإمكانك أن تفي بها.(5/10)
الخوف من زوال رقة القلب
وهناك الخوف من زوال رقة القلب، فتقسو القلوب، كما قال الله عز وجل: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
أتى وفد اليمن سيدنا أبا بكر في زمن الخلافة، فلما سمعوا القرآن بكوا، فقال سيدنا أبو بكر: هكذا كنا حتى قست القلوب.
ويقول أبو بكر: يا ليتني كنت شجرة تعضد ثم تؤكل، يا ليتني كنت شعرة في صدر امرئ مسلم، أو في جنب امرئ مسلم.
قال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
وما كان بين إسلامهم وعتاب الله عز وجل لهم بهذه الآية إلا أربعة سنين، وكأن الله عز وجل استبطأ الصحابة فعاجلهم بهذه الآية بعد أربعة سنين فقط.
فحذار -يا أخي- من قسوة القلب، فإن القلب إذا قسا لا تنفع فيه المواعظ أبداً، وإذا حضر قلبك فأقل شيء تراه يذكرك بالله عز وجل، وإن غاب قلبك فإن مائة ألف نبي لا يوصلون إليك موعظة.(5/11)
الخوف من الميل عن الاستقامة
وهناك خوف من الميل عن الاستقامة على الأمر والنهي، والاستقامة على مذهب أهل السنة والجماعة، والاستقامة على التوحيد، فتخشى من البدعة، وتخشى أن تكون من الذين ظلموا.
وهناك الخوف من استيلاء العادة في اتباع الشهوات، فتطل على شهواتك متبعاً لها حتى تصبح عادة لك لا تستطيع أن تفارقها، ثم بعد ذلك يكلك الله إلى حسناتك، وإن أعظم الخذلان أن يكلك الله عز وجل إلى أعمالك فيصيبك الغرور والعجب، وهو صنو الكفر.
فاقطع كل ما يقطعك عن الله، فإذا ابتليت بصاحب يقطعك عن الله عز وجل فاتركه؛ لأنه قاطع طريق إلى الله عز وجل، وقاطع طريق الآخرة أشد من اللص، فاللص يسرق جيبك، أما هذا فيسرق رأس مالك، ويسرق وقتك مع الله عز وجل.(5/12)
الخوف من تبعات الذنوب
وهناك بعد ذلك خوف تبعات الذنوب، فتخاف من اغتيابك للناس، ومن خيانتك للناس، ومن غشك للناس، ومن إضمار السوء للناس، فحاسب نفسك لنفسك، فإن غيرك من الأنفس عليها حسيب غيرك.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم وقد قال له أبو بكر: قد شبت يا رسول الله قبل المشيب! فيقول: (شيبتني هود وأخواتها).(5/13)
الخوف من الاغترار بالدنيا والركون إليها
ومن أسباب الخوف الخوف من الاغترار بالدنيا والركون إلى الدنيا.
والاغترار بزخرف الدنيا أن تميل إلى فتنة الدنيا، واعلم أن الدنيا إذا حلت أوحلت، وإذا كست أوكست، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما لي وللدنيا، إنما أنا كراكب استظل بظل شجرة ثم راح وتركها).(5/14)
الخوف من الفتن
وهناك الخوف من فتن الدنيا: فالإنسان يخشى على نفسه من الدجال، فالنبي صلى الله عليه وسلم ذكر للقلوب الحية -قلوب الصحابة- أمر الدجال فخافوا، حتى قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: (إن ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه).
فالصحابة خافوا على أنفسهم من هذه الفتنة، وهي أعظم فتنة من يوم أن خلق الله السماوات والأرض إلى قيام الساعة.(5/15)
الخوف من اطلاع الله على السرائر
وهناك الخوف من اطلاع الله على سريرتك حال الغفلة عنه.
قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13] فهو يعلم السر وأخفى من السر.
فخف من الوقوف بين يدي الله عز وجل يوم تبدو السمات فوق الجباه، ويظهر المخفي.
فاتق الله تبارك وتعالى، أما تخاف من اطلاع الله عز وجل على قلبك وأنت تزخرف ظاهرك للناس؟! فإياك أن تكون ولياً لله في العلانية، عدواً له في السر، وأن تكون ولياً لله في العلانية، ولياً للشيطان في السر.(5/16)
الخوف من سوء الخاتمة
ثم بعد ذلك الخوف من أن يختم لك بخاتمة السوء.
يقول سيدنا سفيان الثوري: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام.
ولما نزل به الموت بكى، فقالوا: لم هذا الجزع؟! قال: والله ما خوفي من الذنوب ولو بلغت ذنوبي أمثال الجبال، وإنما أخاف أن أسلب الإيمان عند الموت.
وأشد من هذا خوف السابقة، فماذا سبق في علم الله لك في اللوح المحفوظ؟! وماذا كتب الله لك قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة؟! كان أحد الصالحين يأتي إلى أخيه ويقول: تعال لنبكي لعلم الله فينا؟ أي: ماذا قدر علينا ربنا في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض.(5/17)
الخوف من سكرات الموت
ثم بعد ذلك الخوف من سكرات الموت، ومن شدة الموت، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا إله إلا الله، إن للموت لسكرات).(5/18)
الخوف من رؤية ملائكة الموت
والخوف من رؤية ملك الموت، ومعاينة الرسل.
ويروى أن رجلاً وعظ سفيان الثوري، فذكر الله عز وجل حتى رق، فقال سفيان: والله إني لأحب الموت الآن.
فقال: ولكني والله لا أحب الموت، فقال: لمَ؟ قال: لمعاينة الرسل.
ثم قام يبكي يخط الأرض برجله.
يعني بذلك رؤية ملك الموت ولم يره من قبل، ورؤية ملائكة العذاب، أو ملائكة الرحمة.
فالسكرات شيء، ورؤية ملائكة العذاب شيء، وضرب ملائكة العذاب شيء آخر، {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27].(5/19)
الخوف من أهوال القبور
ثم بعد ذلك الخوف من القبر: ويروى (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جمعاً من أصحابه قد اجتمعوا، فقال: علام اجتمع هؤلاء؟ فقالوا: يا رسول الله! على قبر يحفرونه.
فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين يدي إخوانه، ثم توجه إلى القبر وبكى حتى بل الثرى من دموعه، وقال: أي إخواني! لمثل هذا اليوم فأعدوا).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما رأيت منظراً قط إلا والقبر أفظع منه).
فخف هذا اليوم ولا تتغافل عنه، وأعد لرؤية ملك الموت، ونزولك بدار البلاء بين أقوام لا يتكلمون، وأحباء لا يتزاورون، صار عليهم الجديدان سرمداً إلى يوم يبعثون.
فيا خبر! ما أثكلك، وتحتك الدواهي، مر بعسكرهم إن كنت ماراً، وادعهم إن كنت داعياً، وانظر إلى تقارب منازلهم، وسلهم عن الأعين النظرة التي كانوا بها إلى اللذات ينظرون، وسلهم عن الجلود الرقيقة وعن الأجساد الناعمة.
سلهم عما فعلت الديدان باللحمان تحت الأكفان، سالت الأحداق عن الوجنات، وامتلأت الأفواه دماً وقيحاً وصديداً، واتخذت هوام الأرض وحشراتها في أبدانهم مقيلاً.
يا مغسل الوالد والولد، ويا تاركه في التراب وحده، قل لي: بأي خديك بدأ الثرى؟! وأين كسوتك لصيفك وشتائك؟! وأين ثمارك اليانعة؟! إني سألت التراب ما فعلت بوجوه فيك مبعثره فقال لي صيرت ريحهمو يؤذيك بعد مناظرٍ عطره وأكلت أجساداً منعمة كان النعيم يهزها نظره لم تبق غير جماجم عريت بيض تلوح أو أعظم نخرة ففي يوم من الأيام سيخرج كل منا في رحلة لا يرجع منها أبداً، وسيركب كل منا مركباً لا يركب مثله أبداً، وسنوضع على شفير القبر، فماذا أعددت من النور لهذه الظلمة، وماذا أعددت من الغنى لهذا الفقر، غم الضريح، وردم الصفيح، أفلا يبكيك هذا؟!(5/20)
الخوف من سؤال الملكين
ثم بعد ذلك الخوف من سؤال الملكين: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تفتنون في قبوركم قريباً من فتنة المسيح الدجال) يعني: سؤال الملكين عن ربك ودينك ورسولك، فهي فتنة تساوي في هولها فتنة المسيح الدجال.
قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، فإياك أن تقول: هاه هاه لا أدري! فإن كنت لا تدري في دار الدنيا فلن تدري غداً، فيقال لك: لا دريت ولا تليت، على الشك كنت، وعليه مت، وعليه تبعث إن شاء الله، فحذار من ليلة تتمخض بنا عن يوم القيامة.(5/21)
الخوف من عذاب القبر
ثم بعد ذلك الخوف من عذاب القبر: كان الوسيم بن جميل الثقفي عم قتيبة بن سعيد الشيخ الإمام إذا ذكر القبر بكى ويقول: أواه من القبر وظلمته، أواه من القبر وشدته، أواه من القبر وضيقه! وكانت إحدى العابدات إذا أطفأت السراج يبكي زوجها، وعندما تسأله عن ذلك يقول: يذكرني هذا بظلمة القبر.
ففي القبر يفرش لك -إذا هلكت- فراش من نار، ومهاد من نار، وتنظر من طاقة إلى النار، وتعيش كهيئة المنهوش، ويضيق عليك القبر حتى تختلف أضلاعك، فنعوذ بالله من ليلة صباحها يؤدي بنا إلى عرصات القيامة.
ثم بعد ذلك الخوف من القيامة وأهوالها، وهذا أمر سنفرده مع ذكر الخائفين.(5/22)
الخوف من كشف الستر يوم القيامة
ثم الخوف من كشف الستر أمام الناس: أي: كشف ما ستر من أمرك على الناس في دار الدنيا من القبائح التي لو ظهرت لكانت الذلة والهوان، فستبدو علانية أمام الناس يوم أن يقال: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، فيصيح بك الأشهاد على مرأى من الناس: {هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18].
ثم بعد ذلك الخوف من المقام بين يدي الله عز وجل.
كان أحد الصالحين يقول: والله ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها موقفاً بين يدي الله عز وجل.(5/23)
الخوف من المرور على الصراط
ثم بعد ذلك الخوف من المرور على الصراط: فيد تعلق، ورجل تطيش، وإنما الصراط دحض مزلة، فكيف تقوى على المرور عليه؟! قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم:71] فنحن من الورود على يقين، ومن النجاة على حذر.
ولما نزلت هذه الآية بكى سيدنا عمر، فلما سئل عن ذلك قال: إن ربي أنزل على رسوله في كتابه آية ينبئني فيها أني وارد النار، فأنا من الورود على يقين ومن النجاة على حذر.
قال تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم:72](5/24)
الخوف من السؤال يوم القيامة ومن عذاب النار
ثم الخوف من السؤال عن النقير والفتيل والقطمير، وعن الحلال، وعن الشبهات، وعن المال الذي فيه شبهة، والمال الحرام، ثم تسأل عن الحلال من أين اكتسبته، وفيم أنفقته، ولو لم يكن إلا هذا لكفى.
ثم بعد ذلك الخوف من النار وأغلالها وأهوالها، وأنت ترى ملائكة النار ومعهم الكلاليب والخطاطيف والأغلال، والله عز وجل يقول: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30]، فإذا لم يرحمك أرحم الراحمين فمن سيرحمك؟! قال الشاعر: أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الخطايا أن يتوبا أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا أنا العبد المسيء عصيت سراً فما لي الآن لا أبدي النحيبا أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناسٍ حووا من كل معروف نصيبا أنا العبد الغريق بلج بحرٍ أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد السقيم من الخطايا وجئت الآن التمس الطبيبا أنا العبد الشريد ظلمت نفسي وقد وافيت بابكمو منيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا فواأسفا على عمرٍ تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني مماتٌ يحير هول مطلعه اللبيبا ويا ذلاه من حشري ونشري بيومٍ يجعل الولدان شيبا ويا خوفاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا وذلة موقفٍ وحساب عدلٍ أكون به على نفسي حسيبا ويا خوفاه من نارٍ تلظى إذا دخلت وأقلقت القلوبا فكادوا إذا بدت تنشق غيظاً على من كان ذماماً مريبا فوامن مد في كسب الخطايا أما آن الأوان لأن تتوبا وقال ثان: إذا ما قال لي ربي أما أستتحييت تعصيني وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني وقال ثالث: يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام عن اللذات عيناه أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(5/25)
الطريق إلى بيت المقدس
لقد قامت دولة لليهود على أنقاض أمة تهاوى عزها، وسقط لواؤها، وتهدم بنيانها، وانتقضت عراها، وتشتت شملها، وتفرق جمعها، قامت على أنقاض قوم نسوا أو تناسوا عزة قومهم، وإباء أجدادهم، نسوا الفاروق الذي أرعب الصليبيين ونعله في يده، وفي ثوبه ثلاث عشرة رقعة، نسوا صلاح الدين وصوت الأذان وهو يصدح من منائر القدس: حي على الفلاح، نسوا الجهاد والكفاح والنضال والنفاح.
وقد نصت كثير من الآيات البينات، والعديد من الأحاديث الواضحات على فضل بيت المقدس وشرفه، فلابد من إرجاعه إلى حوزة المسلمين.(6/1)
أحكام شهر رجب
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].(6/2)
أسماء شهر رجب
شهر رجب من الأشهر الحرم، وهو بين جمادى وشعبان، والأشهر الحرم سميت بذلك، لأن أهل الجاهلية كانوا يحرمون القتال فيها، ولحرمة وقوع الذنب فيها أكثر من غيرها من الشهور.
ولشهر رجب أسماء منها: رجب من الترجيب، أي: التعظيم؛ لأنه كان يعظم.
ومن أسمائه أيضاً: رجم بالميم، يقولون: إنه كانت ترجم فيه الشياطين.
وسمي أيضاً: شهر رجب الأصم، لأنه لم تكن تسمع فيه قعقعة بسلاح.
وسمي شهر رجب الأصب، قالوا: لأن الرحمة تصب فيه صباً.
وسمي المعكعك، وسمي المعلى، وسمي المقيم؛ لأن حرمته ثابتة مقيمة.
وأما التسمية الشرعية فهي شهر رجب.(6/3)
حكم الاحتفال بشهر رجب
وأما عن حكم الاحتفال به فقد كره ابن عباس الاحتفال برجب واتخاذه عيداً، وسيدنا عمر بن الخطاب كان يضرب أكف الرجال الصائمين في رجب؛ حتى يضعوها في الطعام، ويقول: ما رجب؟! إن رجباً كان تعظمه الجاهلية فلما كان الإسلام ترك، وكره عمر بن الخطاب أن يتخذ صيامه سنة.
وهناك من علماء السلف من كان يصوم الأربعة الأشهر الحرم، ولا يفطر إلا في يوم عيد الأضحى وأيام التشريق، منهم الحسن البصري وأبو إسحاق السبيعي، ومنهم من كان يكثر الصيام في الأشهر الحرم كـ سفيان الثوري، وكره الإمام أحمد، ويحيى بن سعيد القطان، وأنس رضوان الله عليه، وابن عمر أن يتم الرجل صيام رجب، وكان أبو بكرة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى أهله قد جمعوا السلال والكيزان لمجيء شهر رجب، يقلب السلال، ويكسر الكيزان، ويقول: ماذا؟! أجعلتم رجب كرمضان؟!، ونص الإمام أحمد أنه لا يصوم رجب كرمضان بتمامه إلا من صام الدهر بأكمله.
وورد حديث ضعيف: (أن في الجنة نهر يقال له: رجب، ماؤه أحلى من العسل، وأشد بياضاً من اللبن، من صام يوماً في رجب سقاه الله من ذلك النهر) وقد ضعفه الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتابه: (تبيين العجب في ما ورد في فضل رجب) وقال: لا يصح في فضل رجب حديث صحيح.(6/4)
حكم تخصيص صلاة معينة في رجب وذكر من قال إن الإسراء في رجب
ما ترك المبتدعة شهراً إلا وألحقوا به صلاة، وصلاة رجب تسمى صلاة الرغائب، وقد وضع الوضاعون حديثاً نسبوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأساسه من علي بن جهضم الذي كان يضع الحديث، وفي هذا الحديث: (أن من صام أول خميس من رجب، وقام في ليلة الجمعة التي تسميها الملائكة الرغائب، وفيها يجتمع الملائكة من أقطار السماوات والأرض حول الكعبة ويسألون الله تبارك وتعالى أن يغفر لصوام رجب)، وقد روى في هذا الموضوع قولاً قال: (إن من صام هذه الليلة وقام ليلها ما بين المغرب والعشاء، كان له ثلاثة: أماناً من الفزع الأكبر، وأن يغفر الله ما تقدم من ذنبه، وأن يعصم في ما بقي).
يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: والله! إني لأعجب، وإني لأغار لرمضان ولصلاة التراويح من هذه الصلاة، ليس جحداً بهذه الصلاة، بل إن العوام يجتمعون على هذه الصلاة أكثر مما يجتمعون في شهر رمضان، وكثير من الوعاظ يقولون: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رجب شهر الله، وشعبان شهري، ورمضان شهر أمتي، وهذا الحديث فيه أبو بكر بن القاسم، وهو ضعيف لا يصح.
أما حديث صلاة الرغائب، فقد قال الإمام الحافظ عبد الوهاب شيخ الإمام ابن حجر العسقلاني: فتشت عن رجاله في جميع الكتب فلم أجدهم.
يعني: أن أسانيده أسانيد ملفقة، يضعها الوضاعون في فضل صلاة هذا الشهر، وصلاة الرغائب ضعفها شيخ الإسلام الإمام العربي الأنصاري، وضعفها ابن الصنعاني، وابن الزيدي، وابن رجب الحنبلي ولم يصححها إلا ابن الصلاح وهذه سقطة، وسقطات العلماء في بحر جودهم وفي بحر علمهم مغفورة.
يقول الحافظ ابن حجر: وأما ما يقوله القصاص والمفسرون من أن الإسراء والمعراج كان في رجب، فذلك كذب.
ضعفه ابن حجر العسقلاني، وكذلك الإمام الحافظ إبراهيم الحربي، وابن رجب الحنبلي، وقالوا: إن الإسناد إلى القاسم بن محمد لا يصح.
وهناك فريق من العلماء منهم الإمام النووي قالوا: إن الإسراء كان في شهر رجب، وهناك جمع من العلماء قالوا: إن الإسراء كان في شهر رمضان، ومنهم ابن سعد، وهناك جمع من العلماء قالوا: إن الإسراء كان في ربيع الآخر، ومنهم إبراهيم الحربي، فهذا قول العلماء أن الإسراء والمعراج لم يكن في رجب.
وعلى قول من قال: إن الإسراء كان في رجب، أما اختصاصه في السابع والعشرين من رجب فهذا ما قاله إلا العماد ونقل عنه العلامة ابن كثير.(6/5)
حكم القتال والذبيحة في رجب
تذهب السيدة عائشة إلى أن القتال في رجب منسوخ لقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} [المائدة:2]، ومذهب الجمهور على خلاف مذهب عائشة لقول الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ} [البقرة:217]، فحكم القتال في رجب غير جائز.
أما بالنسبة للذبيحة في رجب، فهناك حديث للنووي وغيره ورواه الإمام البخاري يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا فرعة، ولا عتيرة)، وورد عند النسائي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (من شاء منكم أن يفرع فرع، ومن شاء أن يعتر عتر)، فجمع العلماء بين هذا الحديث وحديث أبي هريرة فقالوا: إن النفي هنا هو نفي الوجوب، أي: أن الذبيحة ليست واجبة، والرأي الأقوى الذي ذهب إليه ابن رجب الحنبلي قال: والعمل على حديث أبي هريرة بكراهية الذبيحة التي كانوا يذبحونها في رجب العتيرة، والنهي أولى، ويقدم حديث أبي هريرة في هذا الباب فحديثه أصح.(6/6)
ذكر ما وقع من حوادث تاريخية في رجب
في هذا الشهر العظيم وقعت حادثتان عظيمتان: فتح بيت المقدس في رجب في السنة السادسة عشر للهجرة، وتحرير صلاح الدين الأيوبي لبيت المقدس في يوم الجمعة الموافق 27 رجب سنة 583 هجرية.
القدس تحتل مكان القلب من قلب كل امرئ مسلم قديسة التاريخ والآباء والذكر الحسن يا عطر كل الأنبياء المخلصين يا زهر كل الأولياء المتقين من قال اسمك يمتهن يا قدسنا يا عشقنا يا صهرنا قاتلت فيك ولم يزل يحلو السفر.(6/7)
ذكر ما ورد من فضائل بيت القدس من الكتاب والسنة
القدس بنت السماء التي ضمت النور بالساعدين، ومسجدها وأذانها يحتل مكان القلب، ويقعان في قلب كل مسلم، هذه الأرض التي باركها وقدسها الله تبارك وتعالى، وألقى على ظلالها الطهر، هذه الأرض التي جاءت آيات كثيرة في بركتها، يقول الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1].
وجبريل حاد لمشرودة تقاصر عنها خيال الزمان ونور ينادي ونور يلبي ونور يضاء به المشرقان وفاض الذي لا تراه العيون يراه محمد رؤيا عيان ويقول الله تبارك وتعالى في كتابه على لسان موسى: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة:21].
ويقول الله تبارك وتعالى عن بيت المقدس: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137].
ويقول الله تبارك وتعالى عن الشام وبيت المقدس: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18].
ويقول الله تبارك وتعالى عن الشام وبيت المقدس فيما جاء عن إبراهيم: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81].
ويقول الله تبارك وتعالى عن عيسى وعن أمه عليهما السلام: {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50].
قال قتادة والسدي: إنها بيت المقدس.
ويقول الله تبارك وتعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور:36].
قال عكرمة: هي المساجد الأربعة: الكعبة، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى، ومسجد قباء.
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا} [البقرة:114].
نزلت هذه بقول علماء التفسير في بيت المقدس.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس، سأل ربه ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يأتي إلا للصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: أما اثنتين فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) هذا الحديث رواه الإمام ابن ماجه في سننه، وصححه الشيخ الألباني في صحيح ابن ماجه وفي صحيح الجامع الصغير.
فقوله: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس) أي: من تجديد بناء البيت؛ لأن الذي بناه يعقوب، وكان بين بناء المسجد الأقصى وبين بناء أول بيت وضع للناس أربعون سنة كما جاء في الصحيحين.
وقوله: (سأل ربه ثلاثاً: حكماً يصادف حكمه) أي: حكماً يوافق حكم الله تبارك وتعالى، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء:79].
وقوله: (وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده) أي: وملكاً لا يكون لأحد من بعده، والمعجزة التي أعطيها سيدنا سليمان كانت في الملك والنعم التي أعطاها الله تبارك وتعالى لسليمان، فما أعطى الله تبارك وتعالى ملك سليمان لأحد من قبله ولا لأحد من بعده.
وقوله: (وألا يأتي هذا المسجد) أي: بيت المقدس، (أحد لا يأتي إلا للصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه).
وروى الإمام البخاري والإمام مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا لثلاث: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
وروى الإمام النسائي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتيت بالبراق فركبته حتى أتيت بيت المقدس، ثم ربطته في الحلقة التي يربط فيها الأنبياء، ثم دخلت المسجد)، لو لم يكن لبيت المقدس إلا هذه الفضيلة لكفى.
وعن جنادة الأزدي عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال ويقول في الدجال: (فيمكث في الأرض أربعين صباحاً، يبلغ ملكه كل منهل، لا يأتي أربعة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجد الطور، ومسجد الرسول صلى الله عليه وسلم).
وعن ميمونة مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: (قلت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر).
أي: يحشر الناس إليها ومنها ينشرون.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتوه فصلوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قالت: قلت: يا رسول الله! أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه، قال: فاهدوا له زيتاً يسرج فيه، فمن فعل فهو كمن أتاه).
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41]، قالوا: ينادي -وهو إسرافيل- يقف على صخرة المقدس، وينادي الناس للنشر وللوقوف أمام الله تبارك وتعالى في عرفات القيامة.
الجراحات تستغيث وتشكو مل سمع الوجود أين صلاح مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروان تغير المسجد المحزون واختلفت على المنابر أحرار وعبدان فلا الأذان أذان في منائره من حيث يتلى ولا الآذان آذان يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد من رواية أبي الدرداء: (بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب قد احتمل من تحت رأسي، فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام) قال ابن حجر: سنده صحيح.
وذلك لأن ملك النبوة في آخر الزمان سيكون في الشام، بل الخلافة الإسلامية سيكون مركزها في القدس، لما رواه الإمام أحمد والإمام أبو داود والحاكم في مستدركه عن ابن حوالة الأزدي قال: (وضع رسول الله صلى الله وسلم يده على رأسي -أو على هامتي- وقال: يا ابن حوالة! إذا رأيت الخلافة قد نزلت الأرض المقدسة -أي: فلسطين- فقد دنت الزلازل والبلايا والأمور العظام، وللساعة يومئذ أقرب للناس من يدي هذه من رأسك) وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني.(6/8)
اهتمام النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين ببيت المقدس
المسجد الأقصى بيت المقدس وجه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم ناظره، وفي غزوة مؤتة ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة آلاف مقاتل ليذهبوا إلى مؤتة حيث يعسكر جحافل الروم، وكانوا قد أخذوا الشام ومنها بيت المقدس، وفي مؤتة من أرض الشام سالت دماء زكية لأطهر الصحابة، سالت دماء زيد بن حارثة، وسالت دماء جعفر الطيار الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشبهت خلقي وخلقي)، وسالت دماء عبد الله بن رواحة.
يقول الشاعر: وفيها دماء الطهر لابن رواحة وفيها قضى زيد العوالي وجعفر وفي السنة التاسعة من الهجرة قاد النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة ثلاثين ألف مقاتل، حتى وصل إلى تبوك وفرت جحافل الروم، وبعد أن طهر البيت الحرام مما فيه من الأصنام والأوثان، يمم الرسول الله صلى الله عليه وسلم وجهته إلى المسجد الأقصى، فعقد اللواء بيديه لـ أسامة، ليؤدب عساكر الروم وجحافلها، فمنعه مرض الموت من ذلك، وعسكر أسامة هناك، ومات الرسول صلى الله عليه وسلم، فأراد بعض الناس من أبي بكر أن يستعيد هذا الجيش لقتال المرتدين، فقال: والله! لا أفكن لواءً عقده بيده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي عهد أبي بكر الصديق استطاع المسلمون أن يستنفذوا من براثن الصليبية بعض مدن فلسطين، وأرسل إليهم خالد بن الوليد الذي قال فيه الصديق: والله لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، ولما وصل إلى قنسرين والتقى بالروم قال خالد بن الوليد سيف الله لجحافل الروم: والله! لو كنتم في السحاب لحملنا الله إليكم، أو لأنزلكم إلينا حتى نقاتلكم.
ولما سمع عمر هذه الكلمة فيما بعد قال: يرحم الله أبا بكر، لقد كان أعلم بالرجال مني.(6/9)
استلام عمر بن الخطاب مفاتيح بيت المقدس
أرسل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عمرو بن العاص داهية العرب وذكي الصحابة إلى أرطبون ملك الروم، وأراد عمرو بن العاص أن يتحسس بنفسه مواقع جيش الروم، فذهب على أنه رسول من عمرو بن العاص إلى أرطبون قائد جيوش الروم، فلما وصل إلى أرطبون، قال لما رأى من ذكاء هذا الرجل إما أن يكون مستشاراً لـ عمرو بن العاص وإما أن يكون هو بذاته عمرو، فلأقتلنه بعد أن يمضي إلى الصحراء، وحدث بذلك قائداً من قواده، وشعر عمرو بن العاص بالخطر، فقال له: أيها الملك! إن سيدي عمرو له عشرة من المستشارين غيري أنا أقلهم أو كلهم على شاكلتي، فأشار الملك إلى الرجل الذي أمره بقتل عمرو بأن لا تفعل؛ فربما كان هذا أحد مستشاري عمرو، فلما وصل عمرو إلى مأمنه أرسل إلى أرطبون أن الذي كان يحدثك هو عمرو بن العاص.
وعسكرت الجيوش الإسلامية الوضيئة -وكان عددهم خمسة عشر ألف مقاتل- أربعة أشهر على آثار القدس، خمسة آلاف تحت قيادة أبي عبيدة، وخمسة آلاف تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان، وخمسة آلاف تحت قيادة شرحبيل بن حسنة، فأرسل بطاريك القدس: والله لا نسلم المفتاح إلا لـ عمر، وأتى عمر ليتسلم المفتاح، فجاء سيدنا عمر إلى الشام بنفسه ولم يلبس قميص صوف، ولم يضع على رأسه عمامة، تلوح صلعته للشمس، راكباً على جمله، فلما وصل إلى الشام ترجل عمر وترجل أبو عبيدة وهمّ أبو عبيدة أن يقبل يد عمر، فهم عمر أن يقبل رجل أبي عبيدة، فامتنع أبو عبيدة وامتنع عمر، فقال له أبو عبيدة لما رأى قميصه مرقعاً قد اتسخ: يا أمير المؤمنين! إنك تأتي إلى قوم ذوي شأن فلا يصلح أن تأتيهم بهذه الهيئة، ثم أعطاه برذوناً، فلما ركب عمر فوق البرذون تاه به البرذون وتبختر في مشيته، فنزل عنه وقال: والله! ما كنت أظن أن الشياطين تركب قبل اليوم، علي بقميصي، ووجدوا بين كتفيه وبين منكبيه ثلاث عشرة رقعة.
فلما مضى إلى القدس ليدخلها خاض في الوحل، فنزع نعليه ووضعهما في يد، وهو يخطم الجمل باليد الأخرى، وخاض في الوحل، فقال أبو عبيدة: ما رأيت مثل اليوم منظراً، فضربه عمر في صدره، وقال: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! لقد كنا أحقر وأذل الناس، فأعزنا الله بالإسلام، فلو طلبنا العزة في غيره لأذلنا الله.
ثم سار إلى الصخرة، فقال لـ كعب: أرني موقع الصخرة، وكانت المرأة إذا حاضت حيضاً أرسلت بخرقة الحيض إلى مكان الصخرة، وهي قبلة اليهود التي يزعمون، حتى قال لـ هرقل: والله! لأنتم أحرى بالقتل على ما فعلتم بهذا المسجد من اليهود على قتل يحيى وعلى بني يحيى، فكان عمر يضع القمامات في جلبابه وفي قميصه ويخرجها خارج المسجد، ومن خلفه المسلمون.
ومن الشروط التي اشترطها النصارى على أنفسهم قولهم لـ عمر: أن تدق الأجراس في جوف الكنائس دقاً خفيفاً بحيث لا يسمعه المسلمون، وأن نقوم للمسلمين من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، وألا نتشبه بالمسلمين في فرق شعر ولا في لباس نعل، وألا نضع السرج على الخيل، وأن نركب الخيل من شق واحد، وأن نلزم زنارنا حيث كنا.
أيا عمر الفاروق هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق المآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر وقال الآخر: وكأنني وابن الوليد وجنده وبكل كف لامع الأنصال نشروا على أرض الخليل لواءهم فغدا يظلل أطهر الأطلال وعن اليمين أبو عبيدة قد أتى وأتى صلاح الدين صوب شمال يسعى بجند قد شَرَوْا أرواحهم لله يوم تسابق لقتال فهم الأعزة في كتاب خالد ما بعد قول الله من أقوال ولما تولى معاوية الخلافة، أخذ العهد بالخلافة في بيت المقدس، ثم جعل دمشق عاصمة لخلافته، وفي عهد عبد الملك بن مروان أخذ البيعة بالخلافة في بيت المقدس، وأوقف عبد الملك بن مروان خراج مصر سبع سنوات على تجديد المسجدين، وعمر بن عبد العزيز لما تولى الخلافة طلب من الجميع أن يذهبوا إلى بيت المقدس ويقسموا هناك بين ربوعه يمين الولاء والطاعة والعدل بين الرعية.(6/10)
سقوط القدس ثم استرجاعها على يد صلاح الدين
لم تسقط القدس إلا في سنة 482هـ في عهد الفاطميين غلاة الشيعة، أحفاد عبد الله بن سبأ اليهودي المؤسس الحقيقي لدين الشيعة، وقد سقطت القدس في عهد الخليفة المستعلي بالله لا أعلاه الله، وقد حاصروا القدس أربعين يوماً، وذلك عندما أتى إلى القدس سامعان الثاني وبطرس الناسك وبابا روما، فقاد الجيوش الصليبية، ومنهم ملوك أوروبا الوسطى وأوروبا الغربية، وفرضوا حصاراً حول القدس أربعين يوماً، حتى سلم قائد الجيش الفاطمي مستشار الدولة القدس، ورابط ألف ألف مقاتل صليبي، وقتل في المعارك حول القدس آلاف المسلمين، وامتلأت أرضية المسجد بدماء ستين ألف مقاتل مسلم، حتى خاض قائد الجيوش الصليبية في جثث المسلمين إلى ركبتيه، إذ لم يروا حرمة لهذه المدينة الطيبة ولا حرمة لمسلم، فقد قتلوا من قتلوا، وذبحوا من ذبحوا، ورفعوا الصليب على مسجد الصخرة.
وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه نصب الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب وظلت القدس أسيرة إحدى وتسعين سنة، وجعلوا من قبة الصخرة مرتعاً لكلابهم، وربطوا الخيل والخنازير في أرجاء المسجد، حتى عسكر صلاح الدين الأيوبي في الخامس عشر من رجب، وفرض حصاراً حول القدس، ولما صارحوه على أن تفتح القدس بطريقة اشترطوها، قال: والله! لا تفتح إلا عنوة كما أخذت عنوة، فقال له مقدم النصارى الذي في القدس: إذاً نقتل من بأيدينا من أسرى المسلمين -وهم أربعة آلاف أسير مسلم- ونقتل أولادنا ونساءنا وجوارينا، ثم نهدم القدس وقبة الصخرة، ثم نخرج إلى العراء نقاتلكم قتال الموت، وهنا استجاب صلاح الدين إلى مطالبهم على أن يخرج كل رجل ويدفع عشرة دنانير، وكل امرأة خمسة دنانير، وعن كل صبي أو صبية ديناران، ومن يمكث أربعين يوماً ولا يخرج يقع أسيراً في أيدي المسلمين، وتم أسر ستة عشر ألف رجل وامرأة وولد، ودخلت جيوش المسلمين القدس بعد طول غيبة، في يوم الجمعة 27 من شهر رجب سنة 593هـ، دخل صلاح الدين الأيوبي، واهتموا بإزالة ما فيه من الصلبان والقساوسة والرهبان والخنازير، ثم غسلوا المسجد بالماء الطاهر، ثم بعد ذلك غسلوه مرة ثانية وقبة الصخرة بماء الورد والمسك الفاخر، وصدر المرسوم الصلاحي بأن يكون خطيب الجمعة في يوم الجمعة 4 شعبان هو القاضي القرشي ابن الزكي.
ما أجمل عودة الأرض إلى أهلها! وما أجمل عودة الأرض إلى الذين جادوا بأنفسهم لله تبارك وتعالى! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى يقتتل المسلمون واليهود، وحتى يختبئ اليهودي خلف الحجر والشجر، وينطق الحجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي ورائي تعال فاقتله، إلا شجر الغرقد فإنه من شجرهم) أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وبعد الفتح بثمان، أي: في اليوم الرابع من شعبان علا صوت الأذان، وخسئ القسيسون والرهبان، وصمتت النواقيس والرهبان، وقرئ القرآن، وعلقت القناديل، وتلي التنزيل، وتنوعت العبادات، وكثرت الدعوات، وكبر الله تبارك وتعالى الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ كبره كل قائم وقاعد، وكل راكع وساجد، وامتلأ الجامع، وسالت لرقة القلوب المدامع.
كما قال العلامة ابن كثير: وصعد القاضي المنبر، فكان أول ما قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45]، ثم أتى بجميع المحامد أي: آيات الحمد التي في القرآن الكريم.
فما أحلاها من عظة! ما تمسك المسلمون بدينهم إلا وأعزهم الله تبارك وتعالى، وما فرطوا فيه إلا وأذلهم الله تبارك وتعالى.(6/11)
نكبة اغتصاب اليهود لفلسطين مرة أخرى
بعد سنوات عديدة سقط المسجد مرة ثانية في أيدي اليهود المشردين المشتتين، هؤلاء اليهود إخوان القردة والخنازير يحتلون أرض بيت المقدس، وكان احتلالهم لبيت المقدس لوعد بلفور عام 1917م.
تقول كاتبة مذكرات بلفور: إن بلفور كان يؤمن بالتوراة إيماناً عميقاً، ويؤمن بها إيماناً حرفياً، ولإيمانه بالتوراة أعطى اليهود فلسطين على أساس أنها ستكون لهم، كما جاء في التوراة المحرفة، فما أعطاها نظام تولي فقط، وإنما أعطاها لإيمانه العميق بالتوراة المحرفة، وقبلها لينين زعيم الشيوعية وكلبهم الأحمر، إذ أعطى فلسطين عام 1917م لرفاقه اليهود الذين شاركوه في الثورة، وأصدر منشوراً بإعطاء موطناً لليهود في فلسطين.
وقبل سنة 1798م قال نابليون بونابرت في الحملة الفرنسية على مصر أمام يهود العالم: أيها الإسرائيليون! أيها الشعب المختار! يا ورثة فلسطين الحقيقيين! هذه اللحظة قد لا تعود لآلاف السنين، فانتهزوا هذه اللحظة لإقامة وطن قومي لكم في فلسطين.
فـ نابليون بونابرت وعد اليهود قبل أن يعدهم لينين.
واجتمعت جحافل الصليبيين والشيوعيين على الغدر بفلسطين وأقيمت الدولة اليهودية، وما استطاع أهلها أن يقاتلوا إذ لم يكن لهم من يقودهم ويأمرهم، فقائد القوات الأردنية لم يكن أردنياً، وإنما كان إنجليزياً، وحين لاقى الجيش المصري العدو في الفالوجة أشار عليهم القائد الإنجليزي أن يلبسوا ملابس النساء إذا أرادوا أن يخرجوا من الفالوجة، فامتنعوا من ذلك.
وأول سيارة دخلت إلى سينا نزل منها الجنود والضباط الإسرائيليون، وقبلوا الأرض الذي تسلم فيها موسى التوراة من ربه، أو التي كلم موسى فيها ربه.
إن ما بيننا وبين هؤلاء اليهود حرب دينية بحتة، ففي عام 1956م كانت أول سيارة جيب تخترق أرض سينا محملة بنسخة كبيرة من التوراة، ووراء هذا الكتاب حاخام يهودي يتلو على الجنود الإسرائيليين: يا أبناء إسرائيل! إنكم الآن تدخلون الأرض المقدسة، إنكم الآن أتيتم إلى الأرض التي تسلم موسى فيها رسالة من ربه، فقاتلوا أعداء موسى.
وفي سنة 1967م ألفت بنت موشي ديان كتاباً يسمى كتاب (جندي من إسرائيل) -وكانت ممن اشترك في الحرب- تقول فيه: وكان ينتابني الرعب، ويعتصر قلوبنا الخوف من لقاء الجبهة الجنوبية لجيش مصر، فكان إذا أتانا الحاخام وتلا علينا نصوصاً من التوراة، استحال الخوف أمناً، بينما كانت إذاعة العدو تردد للجنود المصريين: قاتلوا من أجل الربيع، قاتلوا من أجل عشاق الحياة، قاتلوا من أجل صناع الحياة، وأم كلثوم معهم في المعركة، يا خيبة الأمل! وبعد المعركة تساقطت سبعمائة وخمسون طائرة، حتى إن جمال عبد الناصر أرسل إلى الملك حسين وقال له: أسقطنا ثلثي طائرات العدو، طائراتنا فوق تل أبيب، اطمئن يا جلالة الملك! التوقيع سلمي.
أنقل هذا الكلام سخرية من رجالات العرب.
كوكب الشرق لا تذوبي غراماً ودلالاً وحرقة وهياما ففلسطين لا تحب السكارى وربى القدس لا تريد النياما كوكب الشرق ضاع قومي لما تاه في حبك القطيع وهاما ولو أن الخيام يبعث حياً هوت الكأس من يديه حطاما(6/12)
العداء الديني بين المسلمين واليهود
ما بيننا وبين هؤلاء اليهود حرب دينية بحتة، يقول الله تبارك وتعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة:82]، فهذه آية لا يستطيع أي كذاب أن ينكرها.
فاليهود قتلة الأنبياء قتلوا يحيى وقتلوا قبله أباه زكريا، وأرادوا أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ دست امرأة زعيم من زعماء اليهود السم في ذراع الشاة، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الشاة تخبرني أنها مسمومة).
ومات من أكل هذه الأكلة بشر بن البراء الصحابي الجليل، بل قال كثير من العلماء: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات من أثر السم، لأنه قال لأخت بشر بن البراء في مرض الموت: (هذا أوان انقطاع أبهري من أثر الأكلة).
ومن اليهود عليهم اللعنة من الله، منهم كعب بن الأشرف الذي سب أمهات المؤمنين، ومنهم عبد الله بن سبأ مؤسس دين الشيعة الأكبر، ومنهم مدحت باشا مثير النعرات القومية، والذي كان سبباً في إسقاط دولة الخلافة على يد اليهودي الأصل مصطفى كمال أتاتورك؛ لأنه كان من يهود الدونمة.
ومنهم كارل ماركس زعيم الشيوعية، ومن اليهود أيضاً جامبل كرتر، وقبائحهم لا تنقضي ولا تعد، فما بيننا وبين اليهود حرب دينية بحتة، ودولة إسرائيل دولة دينية، وشعارها شعار ديني، وتسمى بإسرائيل وهو نبي الله يعقوب، وحدودها كما جاء في الإصحاح الخامس عشر من التوراة المحرفة: (ما بين النيل إلى الفرات لنسلك هذه الأرض)، من نهر النيل إلى النهر الكبير؛ نهر الفرات، وعلمهم أيضاً فيه شعار ديني: خطان أزرقان يشيران إلى النيل والفرات وبينهما مسجد داود إشارة إلى ملك إسرائيل لهذه الأرض.(6/13)
العمالة الهابطة ودورها في سقوط الأرض
وعلى الطرف الآخر تجد الجميع يتساقطون، وأول من يتساقط أصحاب الأرض؛ منظمة فتح التي عقدت كامب غزة وأريحا، هذه المنظمة العلمانية التي لا دين لها، عند كل عملية فدائية كلمة السر سب دين الله تبارك وتعالى أو سب الرسول، كان يقول القائل منهم إن تسل عن نسبي أنا ماركسي لينيني أمي.
وهذا ياسر عرفات حينما اشتكى لـ ديفيد كاسترو قال له: وأنت مرشدنا وزعيمنا الروحي، وجعل محمود درويش مستشاراً له، وحينما نزل إلى مطار القاهرة الدولي إذا بآلاف مؤلفة يستمعون إلى محمود درويش الشيوعي المرتد، وقد كان مستشاراً ولكن عرفات أقاله من منصبه، وقد نظم محمود درويش قصيدة بعنوان: للحقيقة وجهان ولون الثلج أسود، يقول فيها: لم تقاتل لأنك تخشى الشهادة لكن نعشك عرشك تحمل العرش إن أردت العرش يا ملك الانتظار لم يترك لنا هذا السلام إلا حفنة من غبار ويقول محمود درويش: أنا من قرية عزلاء منفية كل رجالها في الحقل والمعمل يحبون الشيوعية وقال في ياسر عرفات: أنا يا أخي! آمنت بالشعب المقلد والمكبل وحملت رشاشي لتحمل بعدنا الأجيال منجل شعار الشيوعية وقال أيضاً: نامي فعين الله نائمة عنا وأسراب الشحارير ويقول في قصيدته مديح الظل العالي: يا خالقي في هذه الساعات من عدم تجلّى -يعني: ظهر وبان-.
فلعل لي رباً لأعبده لعلَّ أما رشاد حسين شاعر من شعراء منظمة فتح يقول: الله أصبح غائباً يا سيدي صابر إذاً حتى بساط المسجد أما سميح القاسم عضو الكنيست الإسرائيلي وشاعر من شعراء الثورة الفلسطينية: يقول في قصيدته: (التعاويذ المضادة للطائرات): والله نحن نشاؤه بغرورنا شيئاً له قسماتنا الشوهاء ترسمه أنانياتنا ويقول محمود توفيق زياد في قصيدته (عيوني إليك المراكشية) يقول: وكان الله جندياً يحمل الحجارة ويعزل الإسمنت بيديه ويصطاد السمك لأطفال فلسطين ويقول محمود بسيسو المرتد الملحد في قصيدة له (إلى سائحة): وآخر ديك قد ذبحناه بقي الله هؤلاء هم أصحاب الردة، وشعراء الإباحية والزندقة، كلهم مستشارو عرفات، فالعلمانية لا دين لها، وهي التي احتفلت بـ لينين الذي أعطى أول وعد لليهود في فلسطين.
يقول محمود توفيق زياد: أمامه وقفت خاشع الجبين ضريحك المنصوب في القيود يا لينين يكفيك أن عدانا أهدروا دمانا ونحن من دمنا نحسو ونحتلب(6/14)
أمريكا وإسرائيل
إن ما بين أمريكا وبين إسرائيل حبل سري لا ينقطع أبداً إلا إذا ماتت إحدى الدولتين كما يقولون.
فأمريكا يغلب عليها مذهب البروتستانت الذي يؤمن بالتوراة إيماناً حرفياً، ويؤمن بالعهد القديم وبالتوراة المحرفة، وفي التوراة المحرفة: أن الله تبارك وتعالى يورث أرض كنعان -يعني: أرض العرب- لأولاد سام ويافث، ويعطي لإسرائيل ولنسله الأرض، يقول: لتسجد لك شعوب، لتسجد لك قبائل، ليكن كنعان وأولاد كنعان لك.
فهم يؤمنون بالتوراة.
فسبعة من رؤساء أمريكا كلهم يؤمنون بالصهيونية الإنجيلية، أو المذهب عند البروتستانت يؤمن به ريجن، ويؤمن به نيكسون، ويؤمن به بوش، وكان يؤمن به قبل ذلك جونسون من أربعة قرون، ويؤمنون أن اليهود لهم الحق في إقامة وطن ديني لهم في فلسطين، بل ويؤمنون أيضاً بخرافة ينسبونها إلى التوراة المحرفة، تقول: إن معركة سيقودها المسيح تسمى معركة هرمجدون في سهل مجيدو في فلسطين.
ويقولون: إن رؤساء العالم ويهوده يجتمع منهم حوالي أربعمائة مليون يقاتلون الوثنيين أو العرب المسلمين، وهناك ينصرهم دين المسيح حتى يرفع عرايا شيكاغو وعرايا باريس.
ويقولون: إن المسيح سينزل بعد ألف سنة فيحكم الأرض ألف سنة، وفيها تقع معركة هرمجدون، فلما تأخر نزوله عن الألف الأولى قالوا: تأخر نزوله إلى الألف الثانية، وهناك كتاباً اسمه: 1999مسلم بلا حرب، وستسيطر أمريكا سيطرة كاملة على العالم ويبقى ما بقى على السيد المسيح.
أما ريجن فيقول: أظن أن السوفيت سيتورطون في معركة هرمجدون، ويعلن أمام التلفاز والبيت الأبيض وأمام مجلس الشيوخ إحدى عشرة ألف مرة إيمانه بهذه المعركة.
ويقول جونسون رئيس أمريكا أثناء الحرب العالمية الأولى: إنه يتوجب على ابن راعي الكنيسة كما قال في التوراة أن ينشئ وطناً دينياً لليهود في فلسطين.
وأما كارتر فيقول في خطابه في تاريخ 5/ 1/1973: إن إنشاء دولة إسرائيل وقيامها أولاً وقبل كل شيء تحقيق للنبوءة التوراتية، وتحقيق للوطن التوراتي لليهود في فلسطين، وقيام دولة إسرائيل هو منشأ النبوءة التوراتية وجوهرها فهؤلاء يعتقدون اعتقاداً دينياً أنه لا بد من تسليم القدس لليهود، تمهيداً لعودة المسيح إلى الأرض، ونحن نقول هذا الكلام حتى يفيق الناس من سباتهم، وحتى يعودوا إلى الله تبارك وتعالى، وعليكم أن تعلموا أولادكم أن بين أمريكا وإسرائيل وفاقاً دينياً كبيراً شديد الصلة كالحبل السري، كما قال أحد ساساتهم أمام مجلس الشيوخ الأمريكي.
فاتقوا الله تبارك وتعالى فينا وفي أولاد المسلمين، واتقوا الله تبارك وتعالى في كل مسجد ذبيح، وفي كل أذان صابر، وفي كل شبر من الأرض.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى عن المنكر، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك توابين منيبين، تقبل توبتنا، وأجب دعوتنا، واسلل سخائم صدورنا، اللهم إن علمت الصدق منا فارزقنا شهادة في سبيلك، اللهم احشرنا إليك من حواصل الطيور وبطون السباع، اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك وموتاً في بلد رسولك.
وصلى الله وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(6/15)
بكاء الأفئدة من نار الله الموقدة
إن النار مخلوق من مخلوقات الله عز وجل، لا تفنى ولا تبيد، وقد أعدها الله لمن عصاه، وخالف أمره، وكذب رسله وأنبياءه، فمن خافها في الدنيا، وتجنب كل عمل يقربه منها أمنه الله منها يوم القيامة.
ومن لم يخف منها، واقترف ما يقربه منها خوفه الله منها يوم القيامة.(7/1)
من أخبار البكائين من النار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فإن عنوان هذا الموضوع هو: بكاء الأفئدة من نار الله الموقدة.
ما ظنك أيها المفرط في عمره، المقصر في دهره بسكان هذه الدار الضيقة الأرجاء، المظلمة المسالك، دار يخلد فيها الأشقياء، ويوقد فيها السعير، طعام أهلها الزقوم، وشرابهم الحميم، هذه والله دار الذل والهوان، والعذاب والخذلان، دار الشهيق والزفرات، والأنين والعبرات، دار أهلها أهل الندامة والشقاء، والتعاسة والبكاء.
أحدثك عن دار غم قرارها، مظلمة أقطارها، حامية قدورها، فظيعة أمورها، سلاسل وأغلال، ومقامع وأنكال، والله لم ينذر العباد بشيء أدهى منها، كما قال الحسن البصري رحمه الله: بكى من ذكرها الصالحون، بل ومات من ذكرها الصالحون، هذا علي بن الفضيل بن عياض يقوم في تهجده فيقرأ قول الله عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنعام:27] فظل يرددها حتى خرجت روحه، فيأتيه والده الفضيل فيقول: أي ابناه! واقتيل النار! واقتيل القرآن! واقتيل جهنماه! والله ما قتل ابني إلا الخوف من عذاب الله.
ويبكي يزيد الرقاشي، ثم يعاتب في كثرة البكاء ويقال له: لو لم تخلق النار إلا لك لما كان في بكائك مزيد، فيقول: وهل خلقت النار إلا لي ولإخواني من الجن والإنس، أما تسمع قول الله عز وجل: {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلانِ} [الرحمن:31]، ثم ظل يقرأ من سورة الرحمن حتى وصل إلى قول الله عز وجل: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43 - 44]، فظل يجول في الدار ويصيح ويبكي.
يقول مالك بن دينار رحمه الله: لو وليت من أمر الناس شيئاً لأقمت رجالاً على منارات الدنيا يصيحون في الناس: النار النار.
رأى مالك بن دينار رحمه الله جويرية متعبدة تطوف بالكعبة وتقول: يا رب! أما كان لك عذاب تعذب به من عصاك إلا النار؟! وظل هذا دأبها وقولها من الصباح، فوضع مالك يده على رأسه وقال: يا ثكلاه! ثكلت أم مالك مالكاً، ثكلت أم مالك مالكاً، إذا كان هذا قول الجويرية فما ظنك بـ مالك.
ولما بكى يزيد بن مرثد قال يزيد بن جابر: لم البكاء؟ قال: وما مسألتك عن هذا؟ قال: عسى الله أن ينفعني به، قال: إن هذا الأمر ليعرض لي حين أدخل إلى أهلي، فيحول بيني وبين ما أريد، إن هذا الأمر ليعرض لي حين يقدم إلي الطعام فأبكي وتبكي صبيتي، وتبكي الزوجة، حتى تقول: ويحي وما اختصصت به من طول الحزن معك، لا تقر لي معك عين في دار الدنيا.(7/2)
صفة النار وأهلها
انظر يا أخي إلى صفة جر النار، وإلى صفة الإتيان بها، سيدنا عمر بن الخطاب قال لـ كعب الأحبار فيما رواه ابن القيم بسند حسن: إن هذه القلوب قد استرسلت فاقبضها بذكر النار، قال: يا أمير المؤمنين! يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فإذا زفرت زفرة فما من دمعة في العيون إلا وبدت، وإذا زفرت الأخرى فما من نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا وجثا على ركبتيه، وقال: نفسي نفسي، حتى لو كان لك يا أمير المؤمنين عمل سبعين نبياً إلى عملك لظننت أنك لا تنجو.
وفي الصحيح الذي أشار إلى صحته الحافظ ابن حجر في (المطالب العالية بزوائد المسانيد الثمانية) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يخرج عنق من النار له لسان فصيح، وعينان تبصران، وأذنان تسمعان، يقول: إني وكلت بكل جبار عنيد، فيلتقطهم من الموقف لقط الطير حب السمسم، ثم يخرج مرة ثانية فيقول: إني وكلت بكل من دعا مع الله إلهاً آخر، فيلتقطهم من الموقف لقط الطير حب السمسم، ثم يخرج مرة ثالثة، فيقول: إني وكلت بالمصورين، فإذا حبس هؤلاء في النار أتي بالصحف وجيء بالموازين، واستعد الناس للحساب) صححه الألباني.
وكما أن هناك سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، ومع كل ألف سبعون ألفاً فهناك آخرون يجرون إلى النار بغير حساب، {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، والحديث يدل على هذا.
قال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك:22].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وَجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء:97].
وقال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر:48].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر على صورة الناس، يغشاهم الذل من كل مكان، تعلوهم نار الأنوار، يساقون إلى سجن في جهنم يسمى: بولس، يسقون من عصارة أهل النار (طينة الخبال)) والحديث صحيح.
يقول الله تبارك وتعالى عن النار: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12]، يخلق الله عز وجل للنار إدراكاً وإحساساً، فهي نار تتكلم، {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق:30].
والنار قد أعدها الله تبارك وتعالى للكافرين، وهيئت وجهزت، وهذا الإعداد إعداد حقيقي خلافاً لقول المعتزلة أن الإعداد هنا بمعنى التقدير، فجهنم موجودة الآن، وهو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً لقول المعتزلة الذين أنكروا وجود النار الآن.
وأما عن كيفية مجيء النار ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بجهنم لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها) معنى ذلك أن الملائكة المكلفين بجر النار أربعة آلاف مليون وتسعمائة مليون ملك، مع أن خزنة النار تسعة عشر.
وأما ما في النار أجارنا الله وأعاذنا الله منها ففي (المطالب العالية) فيما أشار إلى حسنه الحافظ ابن حجر العسقلاني قال: (لو أن في هذا المسجد مائة ألف أو يزيدون، وفيهم واحد من أهل النار فتنفس لاحترق المسجد بمن فيه).(7/3)
طعام أهل النار
طعام أهل النار أربعة أصناف: الطعام الأول من الشجرة المعلونة الزقوم، قال الله تبارك وتعالى: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ * إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ * فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات:62 - 66].
هذه الشجرة الملعونة جعلها الله فتنة للظالمين، وعهد أبناء الدنيا أن النار تأكل الشجر، فما بالك بهذه الشجرة التي لا تترعرع إلا في النار، ويكون مستقرها في قعر الجحيم، ومع هذا لا يزيدها ذلك إلا ترعرعاً في قعرها {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات:64].
وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان:43 - 46].
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم) فكيف بمن يكون الزقوم طعامه وشرابه؟!! وأما الصنف الثاني فهو الضريع، والضريع نبات تعرفه العرب، فإذا كان أخضر تعافه الماشية، فإذا كان يابساً صار سماً خالصاً، سبحان الله! فمعنى هذا أن طعام أهل النار الثاني وهو الضريع طعام تعافه الماشية في دار الدنيا.
أما الطعام الثالث فلقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا * وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل:12 - 13]، فهو الطعام بالغصة، قال سعيد بن جبير: إنها حجارة من كبريت، وقال ابن عباس: شكوك يلتقمه أهل النار فيأخذ بعروق الحلوق، لا يدخل ولا يخرج.
فتصور لو أن إنساناً أكل لقمة فوقفت عند لسان المزمار لا تدخل ولا تخرج، إذا دخلت في الجهاز التنفسي مات بسببها الرجل، أو تتردد عند لسان المزمار فيكون في حالة ما بين الموت والحياة، هذا بلقمة، فما ظنك بشوك يأخذ بعروق الحلوق لا يدخل ولا يخرج.
من غص داوى بشرب الماء غصته فكيف يفعل من قد غص بالماء والطعام الذي بعد ذلك: هو الغسلين، قال محمد بن كعب القرظي رحمه الله: لو دلي من غسلين دلو في مشرق الشمس لغلت منه جماجم قوم في مغربها.
والغسلين هذا يسيل من قروح وقيح وصديد أهل النار.
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي(7/4)
شراب أهل النار
أما عن شراب أهل النار فقد قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} [الكهف:29]، فهو ماء أسود كعكر الزيت المغلي، جهنم سوداء وماؤها أسود، وشجرها أسود، وأهلها سود مقبوحون {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا} [يونس:27].
قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ * مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم:15 - 17].
وهناك الزمهرير، وهو الشراب البارد الذي يحرق من شدة البرد، وهناك الحميم، وهو الذي بلغ أقصى درجات الغليان، {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن:43 - 44]، وشراب أهل النار طينة الخبال.
فهذا طعامهم وهذا شرابهم.(7/5)
ثياب أهل النار
أما عن ثيابهم فقد قطعت لهم ثياب من نار، كما قال الله عز وجل: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} [إبراهيم:50]، قال سعيد بن جبير: قطران الإبل، وقال ابن عباس: إنه الرصاص المذاب.
وهو الذي يذوب من شدة الغليان.
وقال الله تبارك وتعالى: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ} [الأعراف:41] أي: الأسرة من نار، {وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الأعراف:41] واللحف أيضاً من نار، وحذيت لهم نعال من نار، وسرابيل من قطران، وأطبقت عليهم الأبواب، وغضب عليهم المولى عز وجل.
ألبسوا النضيج من النحاس، ومنعوا خروج الأنفاس، فالأنفاس في أجوافهم تتردد، والنيران على أبدانهم تتوقد، يا نار كلي، يا نار أنضجي، كلي ولا تقتلي.(7/6)
بكاء أهل النار
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بكاء أهل النار: (إن أهل النار يبكون الدمع، ثم يبكون الدم حتى لو سيرت فيه السفن لجرت).
وكان من دعاء داود: يا رب! إني لا أستطيع حر شمسك فكيف أستطيع حر نارك؟! يا رب! إني لا أستطيع سماع صوت رحمتك -وهو الرعد- فكيف أستطيع سماع صوت غضبك؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: إن كانت لكافية يا رسول الله، قال: فإنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها ونارها).
أما حديث: (إن جهنم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، وألف سنة حتى احمرت، وألف سنة حتى اسودت).
فهذا حديث ضعفه الشيخ الألباني، كما ضعفه أهل العلم.(7/7)
قبح وبشاعة أهل النار
أما عن قبح وبشاعة أهل النار -أجارنا الله منها- فإن الفضيل بن عياض في موعظته للرشيد كان يقول: يا مليح الوجه حذار من نار الله عز وجل، حذار من نار الله عز وجل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ضرس الكافر في النار مثل جبل أحد، وبعد ما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام، وغلظ جلده مسيرة ثلاثة أيام).
ونحن أطباء أمراض الدنيا نقول: عندنا في الطب أن الجلد هو مركز الإحساس الأول في الجسم، وتنتهي فيه كل أطراف الأعصاب، فإذا زادت درجة الحرارة على أطراف الأعصاب تتلف هذه الأعصاب، فلا يحس الإنسان لا بحرارة ولا ببرودة، ولذا يقول الله عز وجل: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:56]، وكلما سمك الجلد أحس الإنسان بألم العذاب أكثر، {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ:30].
وفي حديث صحيح صححه الشيخ الألباني قال صلى الله عليه وسلم: (مقعد الكافر من النار ما بين مكة والمدينة، وعضده مثل البيضاء، وفخذه مثل الورقاء) وهي جبال في الجزيرة العربية.
قال ابن عباس: ما بين شحمة أذن أحدهم وعاتقه مسيرة أربعين خريفاً، وأودية قيح ودم قيل: أنهار؟ قال: لا، بل أودية.
وقال عمرو بن ميمون الأودي يسمع لصوت الدود ما بين جلد الكافر وما بين عظمه جلبة كجلبة الوحش.
قال أبو هريرة: شفاههم على صدورهم، مقبوحون مرذولون، تلفح وجوههم النار وهم فيها كالحون ككلوح الرأس النضيج.(7/8)
سلاسل أهل النار
أما عن السلاسل التي أعدت لهم فكما قال الله عز وجل: {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26].
هذه الأغلال والقيود ما سمع بها البشر.
وقال الله تبارك وتعالى: {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ} [الرحمن:41]، قال أهل العلم بالتأويل: يجمع ما بين ناصية الرجل -أعلى الرأس- وما بين قدمه بسلسلة، ومعلوم أنه لا يستطيع أحد حتى الذين يلعبون الجنباز أو غيرهم أن يؤتى برأسه إلى جنب قدمه، ولكن هذه السلسلة تجمع ما بين الناصية وما بين القدم من الخلف، بحيث لا تتكسر الفقار.
جمع النواصي مع الأقدام صيرهم كالقوس محنية من شدة الوتر قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالًا وَجَحِيمًا} [المزمل:12]، والأنكال هي القيود والسلاسل التي توضع بالرجل.
إن أسير الدنيا يوماً من الأيام تفك قيوده، وتفصم غلوله، أما أسير الآخرة فلا تفك قيوده أبداً، ولا تفصم غلوله أبداً، فهو الأسير حقاً، والله ما سلسلهم الله عز وجل خوفاً من انفلاتهم، ولا خوفاً من هربهم، وإنما سلسلهم زيادة في ذلهم، قال الله عز وجل: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ * إِذِ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر:70 - 71]، فتجمع اليد إلى العنق بالأغلال.
ولكل رجل منهم مقمع من حديد يضرب به، ولكل رجل غل مكتوب عليه اسمه كما قال علماء السلف.
فهي أغلال توضع بالعنق، وأنكال توضع بالرجل، وسلسلة تجمع ما بين النواصي والأقدام، وهذا عذاب ما سمع به البشر.
ونعيم بن حماد شيخ الإمام البخاري قيدوه وسلسلوه في محنة خلق القرآن ثم ألقوه في حفرة، فقال: إني امرئ مخاصم أمضي إلى الله عز وجل بسلاسلي وقيودي، فقالوا: فوالله ما غسلوه، وإنما ألقوه في حفرة بسلاسله.
وأما ما عند الله من قيود وسلاسل فلا يعرفها البشر، قال الله عز وجل: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32]، قال وهب بن منبه: الذراع سبعون باعاً، والباع أبعد مما بين مكة والكوفة، فطول السلسلة أربعة آلاف وتسعمائة باع، قال أهل العلم: لا يقوم لها حديد الدنيا.
قال الله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30] أي: ضعوا الأغلال في عنقه، فيبتدره مائة ألف ملك أو يزيدون كلهم يريد أن يضع الغل في عنقه، فيقول: ألا ترحموني؟! فيقولون: كيف ولم يرحمك أرحم الراحمين! تخيل لو أن واحداً يجري خلفه مائة ألف معهم سلاسل وقيود يريدون أن يضعوا الأغلال في عنقه!! فهذا صنف من العذاب.
ثم أتى بـ (ثُم) وهي هنا للتأخر والترتيب، فقال: {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31]، والتصلية بالنار هي الغمس الكامل في النار.
ثم تأتي منزلة أعلى في العذاب، قال تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32] يعني: سلك السلسلة فيه أشد من التصلية بالنار، فالسلك في اللغة أن تدخل قطراً صغيراً في داخل قطر أكبر، فإن كانت هذه السلسلة لا يقوم لها حديد الدنيا فكيف تدخل من استه وتخرج من فمه أو من منخريه، وهذا ما عرفه أهل الدنيا، وإنما أعد خصيصاً لأهل النار {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32].(7/9)
كفر التابعين بالمتبوعين في النار
هؤلاء الذين كان يملي بعضهم لبعض في الضلال يكفر بعضهم ببعض يوم القيامة، ويلعن بعضهم بعضاً، {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38]، {رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} [فصلت:29].
شعارهم: {لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} [ص:59].
قال الله عز وجل: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس:59] أي: تفرقوا اليوم أيها المجرمون، فكل منهم في تابوت من نار لا يرى ولا يُرى، قال الله عز وجل: {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39] يعني: أهل المصائب حين تجمع بينهم المصيبة الواحدة هذا يهون البلاء عليهم كما قالت الخنساء: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن أعزي النفس عنه بالتأسي والمعنى: أنهم يبكون لكن لا يبكون مثل أخي، والذي مات ليس كأخي، لكن نحن في مصيبة واحدة.
وأما أهل النار فقد انقطع التواصل بينهم، {وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف:39].
قال الله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ * قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [غافر:49 - 50].
والكذاب كذاب إلى يوم القيامة، يقول الله عز وجل لسيدنا نوح: يا نوح! هل بلغت؟ يقول: بلى، فيقول الله تبارك وتعالى لأمة نوح: هل بلغكم نوح؟ يقولون: ما جاءنا من نذير، فيكذبون وهم أمام الله عز وجل؟!! وهناك مثل في مصر يقول: (نهيتك وما انتهيت، والطبع فيك غالب، وذيل الكلب ما ينعدل ولو علقوا فيه مائة قالب).(7/10)
نداء أهل النار مالكاً
قال الله تعالى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77]، ومالك ملَك كريه المرءى كأكره ما أنت راءٍ من الرجال، وإذا غضب على النار أكل بعضها بعضاً، وأخذت تجري منه إلى الأبواب، يطول صمت مالك مئات السنين، فإذا أجابهم قال: إنكم ماكثون، بعد هذه المدة يكون هذا الجواب، ما أطول المدة وما أمر الجواب!(7/11)
خطيب جهنم ونداءات أهل النار
خطيب أهل الجنة سيدنا داود، وإذا تلى القرآن في الجنة أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، وهؤلاء في جهنم خطيبهم الشيطان، {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:22] بعد أن أوردهم المهالك؟! وإذا سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم، فينادون: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر:10]، فينادون ربهم: {رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ} [إبراهيم:44] فيجيبهم الله عز وجل: {أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ} [إبراهيم:44 - 45].
يقولون: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} [فاطر:37]، فيجيبهم الله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر:37].
يقولون: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} [المؤمنون:106 - 107]، فيجيبهم الله عز وجل: {اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون:108].
فلا يبقى لهم بعد ذلك إلا أنين الرجل المدنف، وهم يصطرخون فيها، وأول أمرهم زفير، ونهاية أمرهم شهيق كصوت الحمار.
هذه منزلة أهل النار عياذاً بالله أن نكون منهم.(7/12)
متفرقات من عذاب النار
قال الله تبارك وتعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر:17] أي: يكلفون بصعود جبل من نار، فإذا وصلوا إلى نهايته ردوا بمقامع من حديد إلى قعر النار.
قال الله عز وجل عن ناره: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ} [المدثر:28] أي: لا تبقي لحماً، ولا تبقي مخاً، ولا تبقي عظماً، قال: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر:29] أي: حراقة للجلد، أو تلفح وجوههم فتدعها أشد سواداً من الليل البهيم.
قال الله تبارك وتعالى: {انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات:30 - 31] هذا الظل الذي من يحموم لا بارد ولا كريم، ظل أسود حار يأخذ بالأنفاس، يكاد يزهق أرواحهم، وعهد الناس بالظل في دار الدنيا أنهم يستريحون فيه ويتفيئون نعيمه، فما بال هذا الظل؟! وعلى الطرف الآخر شجرة طوبى، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى يسير الراكب بالجواد المسرع في ظلها مائة عام ولا ينتهي ظلها)، فانظر إلى هذا الظل من ذياك الظل!! أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي يقول الله عز وجل: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات:32] فشرر النار يشبه القصور العظيمة.
وهذه النار لا تفنى أبداً، كما قال العلامة ابن القيم: دار جمعت الطيب وأهله الطيبين، ودار جمعت الخبث وأهله، لا تستويان أبداً، ولا تبيدان أبداً.
قال مجاهد: يلقى الجرب على أهل النار فيحتكون حتى تبدوا عظامهم، فيقال: لماذا هذا؟ يقال: لأذاكم للمؤمنين.(7/13)
صفة الجنة
وعلى الطرف الآخر دار غرس غراسها الرحمن بيده.
إن جنة عدن كما قال سيدنا عبد الله بن عمر في الصحيح الموقوف عليه وله حكم الرفع: (رحم الله أقواماً علموا أن الرحمن غرس الجنة بيده، فقدروا قطع الغرس، إنما خلقنا لنحيا مع الخالق، دار غرس غراسها الرحمن بيده، حصباؤها المسك، وترابها الزعفران، ولبناتها الفضة والذهب، وجيرانها أنبياء الله، وزوارها ملائكة الرحمن، الطوافون عليهم فيها الولدان المخلدون، سقفها نور عرش الرحمن).
فنعيم الجنة نعيم يتكلم، وأما عن أرض الجنة فتصور لو أن رجلاً فرش بيته بالحصير، ثم أراد أن يفرشه بالموكيت أو بالسجاجيد ربما يوهم عائلته أنه قد غير الحصير بالسجاد، فما ظنك بدار أرضها كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرض الجنة مسك خالص) فبالله عليك خبرني كيف يمشي الإنسان على المسك! وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (تربتها الزعفران).
وقال ابن عباس: أرض الجنة من مرمرة بيضاء من فضة كأنها المرآة، فضة ليست مصمتة كفضة الدنيا، وإنما فضة هي في صفاء الزجاج.
وأرض الجنة مسك خالص، هذه الأرض التي يمشي ويسير عليها أولياء الله عز وجل.(7/14)
آخر من يخرج من النار ويدخل الجنة
آخر من يدخل الجنة وآخر من يخرج من النار -ولا يخرج منها إلا حبواً كما جاء في الحديث الصحيح- هذا الرجل الذي ينسيه الخوف من النار أن يسأل المولى عز وجل الجنة، يقول: يا رب! -كما جاء في الحديث الصحيح- اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك.
فيأخذ الله تبارك وتعالى عليه العهد والميثاق ألا يسأله شيئاً غير أن يصرف وجهه عن النار، ثم يمثل له شجرة ذات ظل، فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكن في ظلها، يقول: ما أغدرك يا ابن آدم، ألم آخذ عليك العهد والميثاق ألا تسألني شيئاً غير ذلك؟! يقول: يا رب! لا تجعلني أشقى خلقك.
ثم يمثل له شجرة ذات ظل وثمر، يقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكن في ظلها وآكل من ثمرها، فيقربه، ثم يمثل له شجرة ذات ظل وثمر وماء -يعني: تحتها نبع ماء- فيقول: يا رب! قربني من هذه الشجرة أكن في ظلها وآكل من ثمرها، ثم يرى باب الجنة ويشم رائحتها، وإن رائحة الجنة لتشم من على مسيرة خمسمائة عام، كما جاء في الحديث الصحيح.
فإذا دخل الجنة يقول: هذا لي وهذا لي، وهذا لي، وهذا لي، ثم تنقطع به الأماني؛ لأنه رآى ما لا قبل لعينه به، ورأى أشياء لا يعرفها، فتنقطع به الأماني، فيقول له المولى عز وجل: تمن من كذا، وتمن من كذا، وتمن من كذا، ثم يقول المولى عز وجل: ولك عشرة أمثال الدنيا من يوم خلقتها حتى أفنيها، هذا آخر من يدخل الجنة! وفي الحديث الصحيح الذي صححه الحافظ ابن حجر والإمام المنذري وغيرهما من أهل العلم في كتاب السنة للإمام عبد الله بن الإمام أحمد قال: (ثم يمثل له قصر من در أبيض فيسجد، فيقال: مه، ارفع رأسك، يقول: كأنما رأيت ربي، أو كأنما تراءى لي ربي، فيقال: إنما هذا قصر من قصورك، ثم يمشي فيرى رجلاً من أهل الجنة فيهم بالسجود، فيقال: مه، ارفع رأسك، يقول: كأنك ملك، يقول: إنا كهرمانك -يعني: خادمك- وتحت يدي ألف كهرمان على مثل ما أنا عليه) هذا آخر من يدخل الجنة! وينظر إلى وجه زوجته ثم يعرض عنها ويلتفت إليها مرة أخرى فتزيد في عينيه سبعين ضعفاً، ويزيد في عينيها سبعين ضعفاً، ويرى صفحة خده في خدها، وترى صفحة خدها في خده، هذا آخر من يدخل الجنة! هذا نعيم حسي، فما ظنك بالنعيم الروحي: إن داود عليه السلام إذا تلى القرآن في الجنة أنسى أهل الجنة نعيم الجنان، فما ظنك برؤية الملك العلام! إن من النعيم في الجنة أن تمر السحابة من المسك بأهل الجنة فتقول: ماذا أمطركم؟ قال يحيى بن أبي كثير: أشهد الله أن لو أراني هذا الموقف لأمرت السحابة أن تمطر علينا حوراً مزينات.
ومن أنهار الجنة كما قال مجاهد كما روى أبو نعيم في صفة الجنة قال: يخرج أولياء الله عز وجل إلى شواطئ أنهار الجنة، ثم تخرج الحور العين، فإذا أعجب الرجل منهن بواحدة لمسها فتتبعه وتمشي خلفه.
فهذه أنهار تنبت الأبكار لا تنبت الحشائش، لبن لا يحلب من الأبقار، وعسل لا يجنى من الأزهار، وخمر لا يعصر بيد الخمار، كل هذا يجري كالأنهار برحمة العزيز الغفار، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة:31]، ماء يجري في غير أخدود، سبحان مثبت العقول!! وأنهار تجري في غير أخدود، أمسك الله حافتيها بقباب اللؤلؤ المجوف.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يدنينا من الجنة، وأن يبغض إلينا كل عمل يقربنا من النار.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(7/15)
حسن الخلق
لقد دعا الإسلام إلى التخلق بمكارم الأخلاق، والابتعاد عن الأخلاق السيئة، ولقد كان النبي عليه الصلاة والسلام القدوة العظمى للأمة في حسن الخلق، واقتدى به أصحابه الكرام وأتباعه وأتباعهم إلى يوم الدين.
وقصص الصحابة والسلف الصالح في تمسكهم بمكارم الأخلاق والابتعاد عن سيئها شيء عظيم عجيب.(8/1)
التزكية وحسن الخلق
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
موضوعنا عن التزكية وحسن الخلق، ولله در من قال: يا من تنهش في أحشائي.
يا من مني.
يا من جزءاً من أجزائي.
يا من تبدو للجهال كأنك دائي.
إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي.
قل لي هل يأتيك ندائي؟ إنك مني.
أنت كأني لست أرائي.
أنت كأني حين شقائي.
حين جهلت طريق إلهي من عند الألف إلى الياء.
حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكسائي.
إنك مني.
إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد.
إنك فيها من شركائي.
لكنك دوماً تطعنني من خلفي وفي كعب حذائي.
حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي.
ووشاة القوم إذا بانوا تسري الطعنة في أحشائي.
قل لي هل يأتيك ندائي؟ أبغ العزة عند إلهك.
ليس العز دمي وبكائي.
وغداً من قواك يميتك، إن أنت أهملت ندائي.
الكلام عن حسن الخلق في هذه الأيام كما يقول جمال الدين القاسمي علامة الشام: هذا وقت تسكب فيه العبرات، فهذا موضع تسكب فيه العبرات، والله عز وجل أقسم أحد عشر قسماً متتالية في سورة واحدة من كتابه، أن المطلوب صلاح النفوس بالتزكية، قال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:1 - 9].
وتزكية النفوس: تحليتها بالفضائل وبالأخلاق الجميلة؛ بالعفو مع الكتمان وبالصفح وبالحلم وبالتغافل وبقبول ظاهر الناس وترك سرائرهم إلى الله عز وجل، فهذه أخلاق طيبة قامت عليها ربع الرسالة المحمدية، كما قال الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151].
ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، زكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها)، فمطلب عظيم بعد التوحيد تحلية النفس بالأخلاق الحسنة، كما أمر الله تبارك وتعالى كليمه موسى أن يذهب إلى فرعون، يقول الله تبارك وتعالى له: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19]، ففي البداية يكون الوعظ الحسن.
ثم يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76] فجعل الله عز وجل الجنات العلى لمن تزكى.
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن تزكية النفس إحدى موجبات ذوق حلاوة الإيمان، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يجد العبد طعم الإيمان إلا بثلاث: أن يشهد أن الله وحده لا شريك له، وأن يؤدي زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولا يعطي الدرنة ولا الهرمة ولا المريضة ولكن من أوسط أموالكم، وأن يزكي نفسه، قيل: وما تزكية النفس يا رسول الله؟! قال: أن يعلم أن الله معه حيث كان).
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكية النفس إحدى ثلاث لذوق طعم الإيمان، وأعلى درجات الإحسان: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك).
وتزكية النفوس وسلامة القلوب أمر مسلم إلى الرسل وإلى الأنبياء لا يخضع إلى مجرد المجاهدة، ولا إلى مجرد الرياضة بدون علم نبوي وتزكية نبوية، فلا يستطيع الإنسان أن يعالج نفسه بدون وجود طبيب، أو يخضع جسده لمجرد التجارب بدون علم وبدون طب، وإلا فإن الشريعة قد ضمنت الطبيب الجاهل الذي ليس عنده علم، ومن يتلف عضواً فعليه دفع الدية لذلك العضو الذي أتلفه، فكيف بطب القلوب؟! فلا يسلم إلى الناس ولا إلى الصوفية ولا إلى أصحاب المواجيد، وإنما يسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
والعنصر الأخلاقي عنصر متين في شرع الله عز وجل، فقد أثنى الله على نبيه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، قال ابن عباس: وإنك على دين عظيم لا دين أحب إلي وأكرم عندي مما أنت عليه.
وقد سئلت السيدة عائشة رضي الله عنها عن خلق الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: (كان خلقه القرآن).
وأصالة هذا الدين ثبتت في أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا الثناء العلوي، وهذا التكريم العظيم من الكبير المتعال لشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا عظمة العظمات أن يتلقى رسولنا صلى الله عليه وسلم هذا الثناء العلوي، وهذا التكريم العظيم، وهو يعلم من عظم ربه ما لا يحيط به أحد من البشر سواه، ويعلم قائل هذه الآيات، ومتى قيلت، في أعظم كتاب من كتب الله عز وجل، تتجاوب فيه أصداء الوجود، يبقى ما بقت الأيام، ثم لا يفخر رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت وطأة هذه الكلمات العظيمة، بل لا تزيد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا نوراً على نور، وتواضعاً ورحمة.
قال سيد قطب: هذه عظمة العظمات في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: سيدنا رسول الله وهو بشر، وسيد البشر كان يثني على أحد من أصحابه فمن هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بشر لا يستطيع الصحابي إلا أن يفتخر على الصحابة بهذا الثناء.
سيدنا سعد بن أبي وقاص وهو أحد العشرة المبشرين بالجنة، قال له سيدنا الرسول صلى الله عليه وسلم: (ارم سعد فداك أبي وأمي) فقال سيدنا سعد مفتخراً على الصحابة: لقد جمع لي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أبويه.
فبهذا الثناء كان يفتخر به على الصحابة، فإذا كان من مناقب سعد بن أبي وقاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: (ارم سعد فداك أبي وأمي) فما ظنك برسول الله وهو يسمع هذا الكلام العطر ينزل به جبريل في سجل الله الخالد، وهو قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].(8/2)
أحاديث تبين فضيلة حسن الخلق
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حاثاً على حسن الخلق مع العوام والخواص: (عليك بحسن الخلق، وبطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجملت الخلائق بمثلهما).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أثقل شيء في الميزان: الخلق الحسن).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أعطي الناس شيئاً خيراً من الخلق الحسن).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء -أي: لجدال- وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
فترك المراء من حسن الخلق، وترك الكذب مازحاً من حسن الخلق، ثم ينص رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: (وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (البر حسن الخلق، والإثم ما حاك به الصدر وخشيت أن يطلع عليه الناس) وهذا حديث النواس بن سمعان.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أحب عباد الله إلى الله أحسنهم خلقاً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل المؤمنين أحسنهم خلقاً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقربكم مني مجالس يوم القيامة أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون، وأبعدكم مني مجالس يوم القيامة الثرثارون المتشدقون المتفيهقون، قيل: ما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل الظامئ بالهواجر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن المؤمن المسدد ليدرك بحسن خلقه، وكرم ضريبته ما يبلغه درجة قائم الليل، وصائم النهار).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كريم يحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله تعالى آنية في الأرض، وآنية الله قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف، إذا انقيد انقاد، وإذا استنيخ على صخرة أناخ).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من يرجى خيره، ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره، ولا يؤمن شره).
فهذه أحاديث عطرة في حسن الخلق.(8/3)
مرجع مكارم الأخلاق
والإمام ابن القيم أرجع مكارم الأخلاق كلها إلى أربعة: الصبر، والشجاعة، والعفة، والعدل.
فالصبر: أن الإنسان يصبر على أذى الغير، ويكظم غيظه، ولا يظلم غيره، ولا يتعجل.
والعفة تدعوه إلى الحياء، وهو رأس كل خير.
والشجاعة تدعوه إلى مكارم الأخلاق.
والعدل يكون وسطاً بين حدي الأمر.
فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، فهي وسط في الأمور.
والإمام الهروي قال: مرجع مكارم الأخلاق كلها إلى العلم، فإن الرجل إذا لم يكن عالماً بمكارم الأخلاق: بحسنها من سيئها، وضع السيف في موضع الندى، فالعلم يبين مكارم الأخلاق من سيئها.
وإذا كان الرجل شريفاً فإنه يسامح ويتغاضى عن حقوقه، ويصبر على أذى الناس.
والخلق الحسن يمكن اكتسابه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها)، وقال: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الحلم بالتحلم، وإنما العلم بالتعلم).(8/4)
مشاهد حسن الخلق مع المخلوقين
حسن الخلق يكون مع الخلق ومع الحق، أما حسن الخلق مع الخلق: فلك فيهم أحد عشر مشهداً مما يصيبك من أذى الخلق: أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي الأول: إذا اعتدى عليه رجل، أو سبه، أو ظلمه، أو شتمه يشهد مشهد القدر، يعني: ينظر إلى ظلم غيره له كما ينظر إلى وقوع المطر ووقوع البرد ووقوع ألم الجراح عليه، فيقول: هذا من قضاء الله عز وجل علي وعليه، ومن قدر الله في وفيه، فينظر إلى القدر في حق نفسه لا في حق ربه.
والدليل على ذلك: أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بربه، قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً بيده: خادماً ولا أمة ولا دابة إلا أن يجاهد في سبيل الله).
وقالت السيدة عائشة: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلا في حق من حقوق الله عز وجل، فلا يقوم لغضبه شيء حتى ينتقم لربه)، أما في حق نفسه فيسامح.
وكما قال سيدنا أنس رضي الله عنه: (والله ما لمست ديباجاً ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما شممت عطراً أطيب من طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولقد خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا قال لي لشيء لم أفعله: لم لم تفعله؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله قال: دعوه، فلو قضي شيء لكان).
إذاً: تفنى عن حق نفسك، وتنظر إلى مشهد القدر في حق غيرك.
المشهد الثاني: مشهد الصبر، وأنت تعلم جزاء وثواب الصابرين، وقد قال فيه صلى الله عليه وسلم: (ليس الشديد بالصرعة، وإنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب).
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كضم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه أتى الله به على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، فيزوجه منها ما يشاء).
وحديث آخر قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم: (من كضم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة).
وسيدنا سلمان الفارس أتى إليه رجل فشتمه فقال: يا هذا! إن ثقلت موازيني فأنا خير مما تقول، وإن خفت موازيني فأنا شر مما تقول.
وشتم رجل الربيع بن خثيم تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود، الذي قال فيه سيدنا عبد الله بن مسعود: أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم يا ربيع لفرح بك.
وكان إذا رآه يقول: وبشر المخبتين، جلس خمس عشرة سنة في بيت سيدنا عبد الله بن مسعود والجارية التي على الباب لا تعرف أنه صحيح البصر، وكانت تقول: يا سيدي! صاحبك الأعمى الربيع بن خثيم أتى، فكانت تظن أنه أعمى من كثرة غض بصره إلى الأرض.
والربيع بن خثيم أتى إليه رجل فشتمه فقال له: يا هذا! إن دون الجنة عقبة إن جزتها فأنا خير مما تقول، وإن لم أجتزها فأنا شر مما تقول.
وأتى رجل إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فشتمه فأنصفه وصبر سيدنا عمر بن عبد العزيز، ثم قال له: أردت اليوم أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً، هذا والله لن يكون.
وقد قال الله عز وجل: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10]، وثواب الصبر كالماء المنهمر كما قال ميمون بن مهران: لا حد له.
المشهد الثالث: مشهد العفو والحلم والصفح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما ازداد عبد بعفو إلا عزاً).
ليس أحد يعفو إلا ويزيده الله رفعة في الدنيا والآخرة، والأمثلة على ذلك ما يلي: السيدة أم المؤمنين صفية بنت حيي بن أخطب أتت مولاة لها إلى سيدنا عمر وقالت له: إن صفية تفضل السبت على الجمعة، وتصل قوماً من اليهود، فسيدنا عمر أرسل إلى السيدة صفية يسألها فقالت: والله ما أحب السبت بعد أن أبدلني الله خيراً منه الجمعة، أما صلتي لليهود: فإن لي فيهم رحماً، ثم أتت إلى مولاتها فقالت: يا بنيتي! ما حملك على أن تقولي ما قلت؟ اذهبي فأنت حرة لوجه الله.
وسيدنا عبد الله بن عون كان له جمل يحمل عليه ويحج عليه وكان به معجباً، فأتى مولى من مواليه فلطم الجمل فأسال عينه، فقال الناس: إن كان ثأر من عبد الله بن عون فسيكون اليوم، فلما أتى إليه قال: يا بني! ألا غير الوجه يرحمك الله؟ اذهب فأنت حر لوجه الله.
وسيدنا الأحنف بن قيس يضرب به المثل في الحلم، سيد أهل المشرق كما قال فيه سيدنا عمر بن الخطاب، أتى إليه رجل فقال: علمني الحلم، قال: أن تصبر على الذل يا بني! وأتى إليه رجل فشتمه، ثم شتمه مرة ثانية وهو ساكت، ثم شتمه للمرة الثالثة وهو ساكت، فبكى الرجل الذي كان يشتم وقال: والله ما يمنعك من الرد علي إلا هواني عليك، يعني: أنت تستخف بي.
وأتى إليه رجل فشتمه في الطريق، حتى أوصله إلى خيام أهله فقال: يا هذا! إن كان عندك شيء فأت به، فقد أتيت إلى مضارب قومي ولا آمن عليك سفهاء الحي أن يؤذوك.
وقالوا للأحنف بن قيس: ممن تعلمت الحلم؟ قال: من قيس بن عاصم المنقري الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هذا سيد أهل الوبر).
وقد بلغ من حلمه بينما هو جالس مع رضيع له يداعبه إذ أتت مولاة له بلحم مشوي على حديد محمى فوقع على الولد فقتله، فارتاعت الجارية فقال: لا روع عليك، أنت حرة لوجه الله.
وبينما هو في حبوته - يعني: جامع يديه إلى ركبتيه- إذ أتوا بابن أخ له قد قادوه مكتوف الأيدي وقد قتل ابنه، قالوا: فوالله ما حل حبوته ولا تغير وجهه، وإنما قال: أذعرتم الفتى، ثم قال: يا ابن أخي! أنقصت عددك، وأثمت بربك، وأسأت إلى قومك، وقتلت نفسك بيدك، ثم قال: حلوه، ثم قال: اذهبوا إلى أم ولدي فادفعوا الدية لها فإنها غريبة.
يقول مثل ما قال سيدنا يوسف: {قَالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92].
وهذا نبي الله يوسف عليه السلام حتى مجرد تذكيرهم بالإساءة وما عملوه فيه لما جمع الله بينه وبين إخوته وبين أبيه، قال يوسف: {وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} [يوسف:100] ولم يقل: إذ أخرجني من الجب؛ لأن إخوته كانوا جالسين، فلم يذكرهم بغدراتهم به.
المشهد الرابع: مشهد الرضا، كما يقول الشاعر: من أجلك جعلت خدي أرضا للشامت والحسود حتى ترضى وهو أن ترضى بقضاء الله عز وجل عليك، فالرضا بعذابه فيك عذب.
سيدنا عمر بن عبد العزيز علم من سمه من مواليه في اليوم الذي سمه، ثم قال رضي الله عنه: والله لو أعلم أن شفائي في مد أصبعي ما مددتها، أحبه إلى الله أحبه إلي.
عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب حسبي من الحب أني لما تحب أحب المشهد الخامس: مشهد الإحسان، وهو أعلى درجة من مشهد الرضا، وهو أن الرجل إذا أساء إليك تحسن إليه، فكما قال العلماء: اقتضاء الثواب الهبة، فالرجل إذا وهبك شيئاً فأنت تجازيه وتحسن إليه، إذاً: من ظلمك تحسن إليه.
وهناك أمثلة: فسيدنا أبو بكر الصديق كان ينفق على مسطح بن أثاثة، فلما قال في عائشة ما قال وتكلم في عرضها وهي زوج رسول الله، حلف أبو بكر الصديق ألا ينفق عليه، فلما نزلت قوله تعالى: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] عاد أبو بكر إلى النفقة على مسطح.
وإبراهيم بن أدهم كان في المقابر فمر عليه جندي وقال له: يا رجل! أين العمران؟ فأشار إلى المقابر، فعلاه بالسوط فشق رأسه، ثم أراد أن يدخله المدينة من أجل أن يراه الناس، لأنه يقول له: أين العمران؟ فيشير إلى المقابر، فتلقاه أهل المدينة بالبشاشة والاحترام؛ لأنهم يعلمون مكانة إبراهيم بن أدهم وجعلوا يقبلون رأسه، فلما نظر الجندي إلى الناس وهم يقبلونه أراد أن يقبل يده ورجله، فقال: لا يا بني، والله ما علوتني بالسوط حتى دعوت الله لك بالجنة؛ لأني أعلم أن ثواب صبري الجنة، فما أردت أن يكون نصيبي منك الجنة ونصيبك مني الأذى.
وقال الفضيل بن عياض: من أفضل من قابلتهم رجل كان في الحج، وبين هو في الطواف إذ سرق ماله فظل يبكي إلى قبيل الغروب، فقلت له: أمن أجل المال تبكي؟ قال: لا والله، وإنما تذكرت هذا الذي سرقني وضعف حجته بين يدي الله عز وجل، فبكيت رحمة له.
والربيع بن خثيم اشترى فرساً بثلاثين ألف درهم وأراد أن يغزو عليها، وعندما انصرف الغلام قام الربيع ليصلي، فأتى السارق فسرق فرس الربيع، فلما أتى الغلام قال: يا ربيع! أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان شغل يشغلني عن الصلاة، ثم رفع يده إلى السماء، وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده وإن كان فقيراً فاغنه.
فهذه الأخلاق موجودة في عوام المسلمين، وفي أعضاء الحركات الإسلامية غير موجودة، وأقسم بالله على هذا إلا النادر، وبهم يرفع البلاء عن أهل الأرض.
فمشهد الإحسان: أن تحسن إلى من أساء إليك وهو في موقف ذلة، وجاء يعتذر إليك، فالجزاء من جنس العمل، وستكون يوم القيامة في موقف ذلة وتحتاج إلى ربك ليحسن إليك، والجزاء من جنس العمل، ومن لا يرحم لا يرحم.
المشهد السادس: مشهد سلامة القلب وبرد القلب، وهو أن تنام وليس في قلبك غل لأحد من المسلمين، فتنام س(8/5)
علو الهمة
ندب الله عباده إلى المسابقة في الخيرات، والتنافس فيما يقربهم إليها، وما وصل السابقون إلى ما وصلوا إليه إلا بعلو هممهم وقوة عزائمهم، ولذلك فإننا بحاجة إلى أن نشد العزم فهي بداية الطريق الصحيح، وإن مما يساعد على ذلك مطالعة سير السلف وما كانوا عليه، وأخذ النفس بها حتى تستقيم على ذلك.(9/1)
الحث على المسارعة إلى الخيرات والتنافس فيها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: قال الله تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:8]، أي: انقطع إليه انقطاعاً.
وقال تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148].
وقال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50].
وقال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
وقال تعالى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين:26].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال الصالحة، فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا).
وفي الحديث القدسي: (يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها، ويكره سفسافها).
ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الألباني: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده).
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الأرنؤوط وضعفه غيره من العلماء: (لست من دد وليس الدد مني)، والدد: هو اللعب.
ويقول الشاعر: إن لم تكن للحق أنت فمن يكون والناس في محراب لذات الدنايا عاكفون والموت غاب عن العيون والحور والجنات أضحت كالظنون فاهتف بكل النائمين أتصدقون؟ أتصدقون؟ فإلى متى يا قلب تغشاك الظنون؟ ويقول الشاعر: لإسلامي أعيش أنا لتوحيدي وذا ديني نقشت حروفه تعلو على كل العناوين بخط بارز يسمو على كل الميادين لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني لإسلامي ولو حتى إلى النيران زفوني لإسلامي لإسلامي ولو في السوق باعوني وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني تبث النور في روحي وتنبض في شراييني وإسلامي له عرق له نبضي وتكويني أنا ماذا أكون أنا بلا رب بلا دين أنا ماذا أكون أنا أجيبوني أجيبوني وتقول حفصة بنت سيرين: يا معشر الشباب! اعملوا فإني رأيت العمل في الشباب.
ويحيى بن زكريا المذكور في قول الله عز وجل: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] جاء في تفسيرها: أنه لما قيل له: اذهب بنا نلعب قال: أوللعب خلقنا؟ وجاء من هذه الأمة من يترجمون ما قاله يحيى بن زكريا عليه السلام.
فـ الربيع بن خثيم تلميذ عبد الله بن مسعود الذي كان يقول له: أما والله لو رآك محمد صلى الله عليه وسلم يا ربيع لفرح بك، تقول له ابنته: يا أبت ألعب؟ فيقول لها: اذهبي فاصنعي خيراً، فيقولون له: أو ما تقول لها: اذهبي فالعبي، فيقول: والله لا تكتب في صحائف أعمالي أني قلت لها: اذهبي فالعبي.
فكان يحترز من كلمة اللعب.
وكان أحد السلف يسف خبزه سفاً ويقول: بين السف والمضغ خمسون تسبيحة.
وكان يحيى بن معاذ الواعظ يقول: لا يزال العبد مقيماً على حب الأماني؛ وما جعل أحد الأماني تقوده إلا كان أثقل الناس خطوة وعدم الماء وقت العطش، ووجد السراب الخادع.
ومن كان متسلحاً بالدعاء وجدته على خير دائماً، وعلى ري دائماً، وسباق إلى الخير دائماً، فإن كان ذا قوة استقى لنفسه أو استسقى، فيمده الله بقوة من السماء، وإن كان مستضعفاً وجد وريثاً لموسى عليه السلام يسقي له ويزاحم الرعاء.
وكان الجيلاني -أحد أئمة الحنابلة وأحد أئمة السلفيين وعدو المتصوفة-؛ قالوا له: هل كان هناك ولي لله على غير اعتقاد ابن حنبل؟ أي: على غير عقيدة السلف، فقال: ما كان هذا -أي: ما كان هذا في الماضي- ولا يكون.
وكان يقول: سيروا مع الهمم العالية.
ويقول ابن القيم: قيمة كل امرئ ما يحسن.(9/2)
أنواع الهمم
والهمة همتان: همة تدور حول الأنتان والحش، وهمة ترتبط بمن فوق العرش.
فالهمة التي تدور حول الأنتان والحش ينادى صاحبها إلى الدار الآخرة وإلى الله عز وجل من مكان قريب فلا يجيب النداء، فالدنيا تصمه عما سوى الباطل وتعميه، وذكر الله حبسه وموته، وذكر الناس فاكهته وقوته، ينادى إلى الله عز وجل وإلى الدار الآخرة من مكان قريب فلا يجيب النداء، فمصاحبة هذا الرجل هلاك، والقرب منه سم ناقع كما قال العلماء، فإن ابتليت به فأعطه ظاهرك، وترحل عنه بقلبك، كما يقول القائل: وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان عنك فإنه شغلي وأديم نحو محدثي وجهي ليرى أن قد عقلت وعندكم عقلي.
والأخرى ارتبطت بمن فوق العرش إرادة وطلباً وإخباتاً وشوقاً.(9/3)
علو الهمة في اغتنام الأوقات
أنفاس الدعاة وقف على الله عز وجل، ودقائق الليل غالية فلا ترخصوها بالغفلة، ولو قال لك الكسالى والبطالون: لو تفرغت لنا! فقل لهم: وأين الفراغ، قد ذهب الفراغ فلا فراغ إلا عند الله عز وجل.
أو قل لهم مقالة إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل حيث يقول: يا بني! لقد أعطيت المجهود من نفسي.
الراحة للرجال غفلة، وأنفاس الدعاة وقف على الله عز وجل، وهمم الأحرار تحيي الرمم، ونفحة الأبرار تحيي الأمم.(9/4)
علو الهمة في التوبة والرجوع إلى الله
إن انتصار الدعوة لا يكمن في كثرة الرق المنشور، بل بالرجعة إلى الله عز وجل، وبالتوبة إليه عز وجل، فما لنا وكأن قد احتجب عنا من في السماء؛ لأننا نادينا من وراء الحجرات، وزأرنا رافعين أصواتنا نوجب على الله عز وجل لنا نصراً بإجلال، نبيعه ولا نرى علينا حقاً عادلاً في الثمن، ودون أن نقدم بين يديه دمعاً مدراراً في جوف الأسحار، ولا مناجاة في جوف الليل.
وانظروا إلى أبي مسلم الخولاني رحمه الله -وقد كان سيداً من سادات التابعين- لما ألقاه الأسود العنسي في النار فخرج منها سالماً، ثم أتى إلى المدينة ودخل مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فصلى خلف سارية، فقال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بالله عليك أنت صاحب الكذاب الذي خرج من النار سالماً، فقال: أنا هو، فقال: الحمد لله الذي لم يمت عمر حتى أراه الله من أمة محمد من صنع الله به صنيع خليله إبراهيم.(9/5)
علو الهمة في المسارعة إلى الخيرات
وكان لـ أبي مسلم الخولاني ثوب يعلقه في المسجد، وكان إذا تعبت قدمه من القيام يضربها بالسوط، ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء! أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليه؟ والله لأزاحمنهم عليه حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً! لا تقرنن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد نزلوا بمكة في قبائل هاشم ونزلت بالبيداء أبعد منزل ويقول الإمام العلامة ابن رجب الحنبلي: لما سمع القوم قول الله عز وجل: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148]، وقوله: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [آل عمران:133] فهموا أن المراد أن يكون كل واحد منهم هو السابق لأخيه إلى بلوغ المنازل العليا من الجنة، فكان تنافسهم في الآخرة حين كان تنافس الناس في الدنيا.
ولذا يقول الحسن البصري: من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.
ويقول بعضهم: إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل.
ويقول أحد العباد: لو أن رجلاً سمع برجل هو أسرع لله منه فمات ذلك الرجل غماً ما كان ذلك بكثير على من يريد أن يرث الفردوس.
قال رجل لـ مالك بن دينار: رأيت فيما يرى النائم أن رجلاً وقف على حلقة مثل حلقاتنا هذه فقال: أيها الناس! الرحيل الرحيل -يعني: إلى الجنة-، فلم يقم إلا محمد بن واسع، فغشي على مالك بن دينار.
وأما عمر بن عبد العزيز رحمه الله فكان يقول: إن لي نفساً تواقة، ما نالت شيئاً من الدنيا إلا واشتاقت إلى ما هو أعلى منه، فلما نالت ما نالت -أي: الخلافة، وهي أجل منصب في الدنيا- اشتاقت إلى ما عند الله عز وجل.
وأتته مولاة له تقول له: يا أمير المؤمنين! رأيت فيما يرى النائم وكأن الصراط قد نصب على جهنم، ورأيت أناساً يتساقطون فيها، ورأيتك يا أمير المؤمنين وقد جيء بك، فلم تتم كلمتها حتى غشي عليه، فجعلت تصيح في أذنه: رأيتك والله قد نجوت، رأيتك والله قد نجوت.(9/6)
علو الهمة في التشمير للآخرة
ولما علم الصالحون قصر العمر وحث الحادي سارعوا وطووا مراحل الليل مع النهار؛ اغتناماً للأوقات، فأصغ يا أخي! سمعك لنداء ربك، قال تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات:50]، وبادر قبل طي صحيفتك، واحسر عن رأسك قناع الغافلين، وشمر للسباق غداً، فإن الدنيا ميدان المتسابقين، واعلم أننا خلقنا لنحيا في دار غرس غراسها الرحمن بيده، وفي الصحيح الموقوف: (إن الله عز وجل غرس جنة عدن بيده)، فرحم الله قوماً علموا أن الرحمن غرس جنة عدن بيده، فاشتاقوا إلى الغارس واشتاقوا إلى المغروس.
فيا إخواتاه سيروا إلى ربكم سيراً جميلاً.
أيا صاح! هذا الركب قد سار مسرعاً ونحن قعود ما الذي أنت صانع أترضى بأن كنت المخلف بعده رهين الأماني والغرام ينازع على نفسه فليبك من كان باكياً أيذهب وقت وهو في اللهو ضائع فحيهلاً إن كنت ذا همة فقد حدا بك حادي الشوق يطوي المراحلا وقل لمنادي حبهم ورضاهم إذا ما دعا لبيك ألفاً كواملا ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا قال صاحب كتاب حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح: إن أهل الجنة رفع لهم علم فشمروا إليه، ووضع لهم صراطها المستقيم فاستقاموا عليه، ورأوا أن من أعظم الغدر بيع ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر في أبد لا يزول ولا ينفذ، بعيش إنما هو كأضغاث أحلام، أو كطيف زار في المنام، مشوب بالكدر وممزوج بالغصص، إن أضحك قليلاً أبكى كثيراً، وإن سر يوماً أحزن شهوراً، آلامه تزيد على لذاته، وأحزانه أضعاف أضعاف مسراته، أوله مخاوف وآخره مهالك، أتبيع جنة عرضها الأرض والسماوات بسجن ضيق بين أرباب العاهات والبليات؟ أتبيع مساكن طيبة في جنات عدن تجري من تحتها الأنهار، بمساكن ضيقة آخرها الخراب والبوار؟ أتبيع الحور اللاتي خلقن أبكاراً {عُرُبًا أَتْرَابًا} [الواقعة:37] كأنهن الياقوت والمرجان، بسيئات الأخلاق المشاقات أو المتخذات أخداناً.
وذكر العلامة ابن القيم: أن نساء الجنة خلقن من الزعفران.
دع المفرغات من ماء وطين واشغل هواك بحور عين وغفل أبو سليمان الداراني يوماً عن قيام الليل، فرأى فيما يرى النائم أن امرأة من أهل الجنة حوراء تقول له: أتنام والملك يقظان؟ بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة الملك العلام، أتنام وأنا أربى في الخدور منذ آلاف الأعوام؟ ثم أنشدته شعراً حفظ منه: أتطلب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عنا حرام لأنا خلقنا لكل امرئ كثير الصلاة كثير القيام(9/7)
بيان حقارة الدنيا ومن ركن إليها
وإلى المتكالبين على الدنيا نقول لهم: ما الدنيا إلا مأكول أو مشروب أو ملبوس أو منكوح.
فأما المأكول فأفضله العسل، وهو بزقة ذبابة، وأما الملبوس فأفضله الحرير وهو صنع دودة، وأما المشموم فأفضله المسك وهو دم فأرة؛ لأنه يتخذ من عنق الغزال، وأما المنكوح فهن النساء، فإن أعرضت عن طريق الله عز وجل فهي مبال في مبال، تتزين بأجمل الثياب ويراد منها أقبح الأماكن.
إن الذي يعتز بشيء من حطام الدنيا نقول له: جدك البعيد تراب رميم، وأبوك القريب ماء مهين، وأنت خرجت من مجرى البول مرتين؛ أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل العذرة.
أنف يسيل وأذن ريحها سهك والعين مرفضة والثغر ملعوب يا ابن التراب ومأكول التراب غداً أقصر فإنك مأكول ومشروب إن أعرضت عن طريق الله عز وجل وكنت عند الناس من كنت فإنك لا تساوي شيئاً من ملك الله، وأنت تعلم ما يخرج من بطنك، والنحلة أعلم بما يخرج من بطنها، فيا ليت قومي يعلمون.(9/8)
همة السلف رضي الله عنهم
تلمح القوم الوجود وفهموا المقصود، فأجمعوا الرحيل قبل الرحيل، وصاحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلقة بالملأ الأعلى، أما تسمعون قول الصحابي الجليل أنس بن النضر يقول لـ سعد بن معاذ: والله يا سعد! إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد.
وهذا شم حسي! يا ابن النظر طهرت أنوفكم فاشتاقت إلى ما عند الله عز وجل، ونحن زكمت أنوفنا بالدنيا وبعطر الكاسيات العاريات، فلم يبق فيها مكان لشم رائحة الجنة.
خذني إلى بيتي أرح خدي على عتباته وأبوس مقبض بابه خذني إلى وطن أموت مشرداً إن لم أكحل ناظري بترابه هؤلاء علت هممهم في كل شيء: في الدعوة إلى الله عز وجل على بصيرة، وفي طلب العلوم الشرعية، وفي الذكر، وفي قراءة القرآن، وفي الصلاة، وفي الصدقات، وفي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(9/9)
همة السلف في طلب العلم
أما في تعلم العلوم الشرعية فتجد السلفي يتابع المكتبات ويشتري الكتب، ويستلف ويستدين، وتلقاه ماشياً واضعاً الكتاب تحت إبطه، والبعض يسخر ويقول: انظروا إلى هذا، إن لحيته تسع أربعة آلاف حديث ويسأل عن مسألة فلا يجيب! فهؤلاء علت همتهم في طلب العلوم الشرعية؛ حتى يعبدوا الله عز وجل على بصيرة، وكما بوب الإمام البخاري: (باب العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله عز وجل: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19]، وقول الله عز وجل: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108]، أي: على علم).
فتعالوا لننظر إلى مدى بلوغ همتهم في طلب العلوم الشرعية، فهذا الإمام الزهري كانت تقول زوجه عنه: والله لمطالعة الزهري لهذه الكتب أشد علي من ثلاث ضرائر، يعني: يا ليته تزوج ثلاث نساء ولم يطالع الليل والنهار في هذه الكتب.
الإمام ابن الباغندي الحافظ رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فقال له: يا رسول الله! منصور أحفظ أم شعبة؟ فيقول: منصور، منصور.
الإمام ابن الباغندي كان ربما دخل الصلاة وهو يقول: الله أكبر، وبعد أن يكبر يقول: حدثنا فلان عن فلان حتى يذكر أنه في صلاة.
وابن أبي حاتم الرازي الإمام الجليل يقول: اشتهينا سمكة فاشتريناها، ولم يكن عندنا وقت لنطبخها، كنا في النهار نطوف على الشيوخ، وفي الليل ننسخ ونقابل، فمكثت عندنا ثلاثة أيام فأكلناها نيئة.
وشعبة بن الحجاج الضخم الذي كان يحدث عن الضخام كانت ثيابه بلون التراب، واليوم أحدنا إذا اغبرت ثيابه قال: لا بد أن تكون الغترة مكوية، والجلابية مكوية، وكذا وكذا والإمام أحمد بن حنبل كان يقول: مع المحبرة إلى المقبرة.
وكان الإمام أبو داود السجستاني رحمه الله وهو يخيط قميصه يصنع كماً ضيقاً وكماً واسعاً، أما الكم الواسع فكان يضع فيه الكتب حتى يقرأها وهو في الطريق.
ومصعب الزبيري أعطاه يحيى بن زكريا كتب محدث آخر فأكلتها الفأرة وبالت عليها، فجعل يقرأ ما بقي من أكل الفأرة.
وأبو بكر الأنباري كان يقرأ في الأسبوع 10.
000 صفحة.
وابن تيمية الجد كان يدخل إلى الخلاء ثم يقول لابنه: اقرأ علي بصوت عال حتى أسمعك وأنا بالداخل.
هذه هي همة السلف في تعلم العلوم الشرعية.(9/10)
بيان أدب السلف مع مشايخهم
وأما همتهم في تأدبهم مع مشايخهم: فالإمام الشافعي كان يقول: كنت أقلب الصفحة بين يدي مالك تقليباً خفيفاً؛ حتى لا يحس بها مالك.
فكان جزاؤه من جنس عمله، فـ الربيع بن سليمان كان يقول: والله ما استطعت أن أشرب الماء في حضرة الشافعي.
طهرتم فطهرنا بفاضل طهوركم وطبتم فمن أنفاس طيبكم طبنا والربيع بن سليمان كان تلميذ الإمام الشافعي.(9/11)
همة السلف في الدعوة
وأما همتهم في الدعوة إلى الله عز وجل فحدث عنها ولا حرج، فالتربة التي يرقد فيها الآن أبو أيوب الأنصاري هي بالقرب من أسوار القسطنطينية، وأم حرام مدفونة في جزيرة قبرص، وبلال الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون تحت أسوار دمشق، وعقبة بن نافع في إفريقيا.
وهم حجة علينا.
هؤلاء هم الذين حملوا الإسلام غضاً طرياً، فقد حملوه في عيونهم، وأما نحن فنستحيي من ديننا، ونستحيي من هذه البضاعة التي نحملها ونعرضها على الناس، وأما هم فعاشوا للإسلام.
يقول أبو حازم الأعرج: قد رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، لا تقل: دينك لحمك، دينك دمك، إن الرجل منا إذا اتسخ ثوبه قام يغسله.
فما بال دينك ترضى أن تمزقه وثوبك الدهر محمي من الدنس؟ نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع أصبح دين أحدنا لعقة على لسانه، يقول: أؤمن بيوم القيامة، وكذب ومَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ! يقول الشاعر: أدمت سياط حزيران ظهورهم فأدمنوها وباسوا كف من ضربا وهذا من شعر نزار قباني، وشعره عفن لكن البيت الوحيد الذي صدق فيه على العرب هو هذا.
وعندما قاتل العرب ضد جنود أمريكا وفرنسا وغيرهم قال فيهم نزار فصدق وهو كذوب: متى تفهم؟ متى تفهم؟ متى يا أيها المتخم أيا جملاً من الصحراء لم يلجم ويا من يأكل الجدري منك الوجه والمعصم متى تفهم؟ أيا من تخجل الصحراء حتى من نداءاتك نسيت الوشم فوق يديك نسيت ثقوب خيماتك وبعت الله بعت القدس بعت رماد أمواتك وانظروا في المعارك الإسلامية في اليرموك وفي القادسية وفي سقوط المدائن.(9/12)
نماذج من علو الهمة(9/13)
علو الهمة في الغزو والجهاد
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فقد أشار علي شيخنا وقرة العين الشيخ محمد بن إسماعيل بأن أكتب رسالة تسمى: صلاح الأمة في علو الهمة، وهذه من بركات مولانا الشيخ محمد بن إسماعيل، حفظه الله لدعوته.
وإن شاء الله سآتي بمقتطفات من كل مبحث.
فمثلاً في باب الغزو والجهاد: تجد نور الدين محمود زنكي القسيم بن القسيم، قاهر الصليبيين والذي فعل بجحافلهم ما فعل كان يتمنى الشهادة في سبيل الله، فقال له قطب الدين النيسابوري شيخ علماء الحنفية: بالله عليك يا مولانا السلطان! لا تخاطر؛ فأنت سور الإسلام، فإنك إن قتلت أخذت الديار، فيقول له: اسكت يا قطب الدين! فهذه إساءة أدب مع الله عز وجل، فمن كان يحفظ البلاد والعباد قبل نور الدين محمود زنكي.
ومن منا لم يسمع بـ أبي ثور عمرو بن معد كرب الزبيدي وفعله في معركة القادسية سنة (100هـ) أو سنة (106هـ)، ومن منا لم يسمع بـ طليحة بن خويلد الأسدي الذي ادعى النبوة، ثم ختم الله له بالشهادة؛ لبطولته.
وكذلك القعقاع بن عمرو التميمي الذي سمل أعين الفيلة في معركة القادسية، وقتل القائد الذي كان يتولى قيادة القلب في جيش الفرس.
فلا القعقاع يهتف بالسرايا فتخشى ساحة الهيجا نزاله ولا حطين يبعثها صلاح طوى الجبناء في خور هلاله فلا صوت المؤذن في حمانا وقد سقطت مآذننا بلاله وهم الشعب صك أو رغيف وجل مناه أن يرضي جماله وألفاظ يتيه بها قرود وليس لها معان أو دلاله سيادته هوان في هوان وقد رفعت معانيه السفاله سعادته شقاء في شقاء سماحته يعيش مع الضلاله فخامته هزيل ليس يدري بأن الناس قد صدحوا هزاله ودولته يعيش على الأماني ويخشى أن تفاجئه الإقاله(9/14)
علو الهمة في الصلاة
وفي باب الصلاة: تجد الأخ أول ما يلتزم مع الاتجاه الإسلامي مواظباً على صلاة الفجر في الصف الأول، ثم بعد مرور شهرين تجده متأخراً.
وفي الحركة الإسلامية ناس تفوتهم الركعة الأولى والثانية والثالثة، بل لو حضر الجماعة الأولى فقد كثر خيره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي حسنه الألباني في صحيح الجامع: (من واظب على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كتبت له براءتان، براءة من النفاق وبراءة من النار).
وأما السلف فقد كانت أحوالهم عند الوضوء على أعلى الهمم، وكانوا يستحضرون فيه أنهم سيدخلون على حضرة الملك.
فـ علي زين العابدين كان إذا توضأ اصفر وجهه وارتعد وكان يقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقف؟ وذلك من شدة خشوعهم في صلاتهم.
وعبد الله بن الزبير كان يسمى حمامة المسجد، وكان إذا ركع أو سجد أتى الطير فحط على ظهره من شدة خشوعه.
ومنصور بن المعتمر كان يقوم الليل على سطح بيته، وكانت بنت الجيران تصعد فتجد شيئاً منصوباً تظنه خشبة، فلما مات منصور بن المعتمر فقدت الخشبة، فقالت لأمها: يا أماه! المشجب الذي كان على سطح جارنا أين ذهب؟ فقالت لها: ذاك المشجب قد مضى إلى ربه.
فـ منصور بن المعتمر هو ذاك المشجب، وقد مضى إلى ربه.
ولما سئل أبو زرعة الرازي عن حكم الكتابة في المحاريب قال: قد كرهها قوم، فقالوا: هناك كتابة في محراب مسجدك، قال: إني منذ 20 سنة أصلي في هذا المسجد لا أشعر أن هناك كتابة.
وسعيد بن المسيب يقول: منذ أربعين سنة ما فاتتني تكبيرة الإحرام في المسجد.
والربيع بن خثيم يقول: والله إني لآنس بصوت عصفور المسجد أشد من أنسي بزوجتي.
وأحدهم كان في صلاته، فضاعت له مخلاة فيها شعير، فجعل يفتش عنها فلم يجدها ولم يجدها الخادم، وبعد أن قضى صلاته قال: المخلاة في المكان الفلاني، فقال: أعد صلاتك؛ فإنك كنت تفتش عن المخلاة.
والعبد اليوم يستوفي مكيال شهواته ولا يطفف فيها، ثم يطفف في مكيال دينه وصلاته.
فإذا هانت عليك صلاتك فأي شيء يعز عليك من دينك؟ قال تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود:95].
وإمام من أئمة السلف وهو الربيع بن خثيم خرج في غزاة ومعه غلامه يسار، فخرج يحتش بالفرس وقام الربيع بن خثيم إلى صلاته، فسرقت الفرس، ولما أتى الغلام قال: يا سيدي! أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها؟ قال: ما كان هناك شيء يشغلني عن الصلاة.
ثم قال بأدبه: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن فقيراً فأغنه.
وكان عمر بن الخطاب ينعس من قيام الليل وهو قاعد، فقالوا: يا أمير المؤمنين، ألا ترقد؟ ألا تنام؟ فيقول: وكيف لي بالرقاد، إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله.
وكأن لسان حاله يقول: لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي أو لرعي النجوم كنت مخلا والصحابي الجليل أبو ريحانة كان في الغزو، ولما رجع من الغزو أعدت له زوجه طعاماً للعشاء، فأكل، ثم صف قدمه في محرابه إلى الصباح، ثم أخذ مخلاته وذهب إلى الجيش، فأمسكته زوجه وقالت له: يا أبا ريحانة! غزوت ثم عدت، أفما كان لنا فيك نصيب؟ قال: والله لو خطرت لي على بال لكان لك في نصيب! بعدما غاب شهرين أو ثلاثة عن زوجته يقول لها: لو خطرت لي على بال.
قالت: يرحمك الله! وما الذي يشغلك عنا؟ قال: إني نظرت في كتاب الله عز وجل وإلى ما أعد الله عز وجل لعباده في الجنة من سندسها وإستبرقها فذاك الذي شغلني عنك.(9/15)
علو الهمة عند أهل الكرامات
ولذلك كان هؤلاء الناس لهم دلالة على الله عز وجل، حكى ابن سيد الناس في المقامات الجلية في كرامات الصحابة: أن أبا ريحانة هذا سقطت إبرته في البحر، فلما وقعت قال: يا رب! عزمت عليك إلا أرجعت لي إبرتي، فعلت الإبرة على سطح الموجة فأخذها.
وفي الحديث الذي حسنه الشيخ الألباني عن محمد بن المنكدر قال: (إن سفينة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقع في أسر الروم، ثم هرب، فبينما هو في الطريق تصدى له الأسد، فقال له: يا أبا الحارث -وهذه كنية الأسد- أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان من أمري كيت وكيت وكيت، فحرك الأسد ذنبه يميناً ويساراً ثم أوصله إلى مأمنه).
وهذا بنان الجمال جلس يأمر أحمد بن طولون بالمعروف وينهاه عن المنكر فحبسه، ثم جوع أسداً وألقاه إليه، فقالوا: كيف كان قلبك حين دخل الأسد عليك وكان الأسد يشمك، فقال: كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع، أي: كان يفكر في مسألة فقهية.
وهذه القصة حكاها الذهبي في سير أعلام النبلاء وابن كثير في البداية والنهاية.
والمصطفى صلى الله عليه وسلم طلق حفصة ثم راجعها فيما حكاه ابن حجر في الإصابة، قال: (فلما طلقها حثا عمر بن الخطاب التراب على رأسه ومشى باكياً في المدينة وقال: ما أصبح الله يبالي بـ عمر ولا بابنة عمر، فنزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له كما في حديث الذي حسنه الألباني -: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة).
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه ويزرع إلا في منابته النخل(9/16)
قيام الليل عند السلف
وكان للصحابة أمور عجيبة في قيام الليل، واليوم يأتي شخص ويقول: والله أنا أخ سلفي، ولكن شغلي الحديث والعلل والمتون والأسانيد وتحقيق الكتب عن قيام الليل، وليس عندي وقت لقيامه.
فنقول له: هل أنت أحسن من أبي هريرة، فإنه اتخذ الليل جملاً هو وخادمه وزوجته: ثلث يصليه الخادم، وثلث يصليه هو، وثلث تصليه زوجته، فإذا جلس إلى الشروق بعد الفجر كان له 12.
000 ألف تسبيحة.
قال الأرنؤوط: صحيح.
وكان مع ذلك من أعلم الناس بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما الجفاف الذي عندنا فهذا من مطالعة الكتب، وإذابته يكون بالذكر وبقيام الليل.
ومسروق بن عبد الرحمن المفسر الجليل تقول عنه زوجه: كان يقوم الليل، وما كان يأتي صلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدماه لمنتفختان من أثر القيام، وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه.
والإمام الأوزاعي إمام أهل الشام دخلت امرأة ذات صباح على زوجته فوجدت بللاً في مصلى الشيخ على السجادة التي يصلي عليها، فقالت لها: ثكلتك أمك! تركت الصبيان حتى بالوا في مصلى الشيخ، فقالت: والله ما هذا بول الصبيان، وإنما دموع الأوزاعي.
وهذه امرأة تأتي بابنها وتريه حفره في البيت وتقول له: هذا موضع دموع أبيك.
أي: إن أباه كان يبكي هنا حتى عمل حفرة لدموعه.
وإن تعجب فاعجب من عمر بن الخطاب الذي كان في وجهه خطان أسودان من كثرة البكاء! نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تعار وابن الأثير لما ترجم لـ نور الدين محمود زنكي الذي دوخ الصليبيين قال عنه: كان مدمناً لقيام الليل.
وهذا غير المدمن على الأفيون والهروين والكوكايين المخرب للبيوت.
يقول: وكذلك كانت زوجه عصمة الدين بنت الأتابك خاتون.
كذاك الفخر يا همم الرجال تعالي فانظري كيف التعالي أفما لك بالرجال أسوة؟ أتسبقك امرأة وأنت رجل؟ وعصمة الدين هذه زوجة نور الدين محمود زنكي قامت ذات ليلة غضبى من نومها، فسألها عن سر غضبها -ألأنه لا يوجد دقيق جاء من إيطاليا، أم لم يأت لباسها من بيوت الأزياء في باريس- فقالت: فاتني ورد البارحة، فلم أصل من الليل شيئاً، فأمر بصنع طبلقانة تضرب للناس لمن يريد أن يقوم في السحر.
فلما مات عنها نور الدين محمود زنكي تزوجها صلاح الدين الأيوبي، فامرأة كهذه لا تكون إلا تحت صلاح الدين الأيوبي أو نور الدين محمود زنكي.(9/17)
علو الهمة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
أما في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهذا الإمام أبو بكر بن النابلسي شيخ علماء الحديث في مصر لما أتى المعز الفاطمي العبيدي الإسماعيلي وكان من أحفاد ميمون القداح اليهودي، الذي مدحه ابن هانئ الأندلسي بقوله: ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار وقبل أن يموت بسنتين اختفى في سرداب، فقال المصريون: المعز في السحاب.
قال ابن كثير: قال تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف:54]-أتى إلى ابن النابلسي - الإمام الحافظ هذا فقال: أيها الرجل! بلغنا أنك تقول: لو كانت عندي عشرة أسهم لرميت اليهود والنصارى بتسعة والرافضة بواحد.
قال: والله ما هكذا قلت، ولكن قلت: والله لو كانت عندي عشرة أسهم لأبقيت تسعة للرافضة، ثم أبقيت العاشر أيضاً للرافضة، قال: لماذا أيها الرجل؟! قال: لأنكم غيرتم دين الأمة وأطفأتم نور السنة وادعيتم ما ليس لكم.
فأمر المعز يهودياً أن يسلخه فسلخه، وهو يقول: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، فلما وصل السلخ إلى القلب أشفق عليه اليهودي فطعنه برمح في قلبه فمات وروى الذهبي: فقال: والله لقد سمع صوت القرآن من جوفه بعد أن قتلوه.
إذا أردنا النصر فلتعل هممنا في كل شيء، في طلب العلوم الشرعية، وفي الدعوة إلى الله عز وجل، وفي العمل بهذا العلم، وفي التحلي بأخلاق الإسلام، وفي الذكر، وفي ختم القرآن ولو مرة كل أسبوع، وفي قيام الليل، وفي الصيام.(9/18)
علو الهمة في الصيام
وفي الصيام مثلاً: إبراهيم بن النيسابوري تلميذ الإمام أحمد بن حنبل، يقول الإمام أحمد بن حنبل لابنه إسحاق: يا إسحاق! والله لا أستطيع ما يستطيع والدك.
وعندما جاءه الموت كان صائماً، فقال لابنه: ارفع الصدر يا بني! قال: الصدر مرفوع يا والدي! فقال: اسقوني، فلما أتوا بالماء قال: هل غابت الشمس؟ فقالوا له: لا، فأمسك بيديه -هكذا- حتى يموت وهو صائم، ثم لما جاءته السكرات قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].
ومن هممهم كان أحدهم يأتي إلى جرحه ويمسكه ويقول: إنك لصغير، وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً، يعني: حتى يقتلني.
ومن الهمة العالية همة سيدنا موسى لما بكى كما في حديث الإسراء فيما يرويه الإمام البخاري، ولما سئل عن سر بكائه قال: (أبكي أن نبياً يبعث من بعدي ويدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخل من أمتي) فهذا بكاء الرجال.
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالرجال فلاح وبعد: فيا داعية الإسلام؛ من جد وجد، ومن صحت بدايته صحت نهايته، وليس من سهر كمن رقد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(9/19)
قبض العلماء
إن العلماء هم حراس العقيدة، وحماة التوحيد، وبهم يحفظ الله هذا الدين، وتصان حرمات المسلمين.
فإذا مات العالم خسر المسلمون حارساً من حراس عقيدتهم، وموت العلماء علامة على قبض العلم، وانتشار الجهل، وتولي الجهال على مقاليد أمور المسلمين، وهو ثلمة في الدين لا يزال الناس يشعرون بالنقص بعده.(10/1)
ترجمة الإمام ابن باز
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: يقول الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد: لو بدا لرجل أن يسمى شيخ الإسلام فأولى الناس به الشيخ الشنقيطي، فما ظنك بالعلامة إمام عصره بلا منازع فضيلة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
يقول الشاعر أبو عمر المقدسي: العام عام ترجل الفرسان من شيخنا البازي للألباني دخل الجزيرة والشآم مواجع ومدامع تربوا على الطوفان علماء قد حملوا الهداية معلماً للحق يهدي حائر الثقلان همُ في الوجود صحائف قد سطرت بمداد أفئدة الهدى الرباني هم في الوجود موانئ لسفائن التوحيد تسري لدوحة الإيمان عادوا بها بيضاء بعد غشاوة وسموا بها عن مجمع البهتان رغم العدا علماؤنا لم يرحلوا فهواء مسجدنا غدا ألباني رغم العدا فرساننا لم يرحلوا سرب البزاة سحائب البلدان يا ناصر الدين الحنيف محارباً ومنابذاً بدع البغيض الجاني وإذا سألت عن الحديث وأهله فاسأل يجبك عن السؤال بياني علم الحديث رواية ودراية في عصرنا ربانه الألباني إن شيخنا الإمام عبد العزيز بن باز قد مثل في شخصه الكريم مشيخة الإسلام في هذا العصر، فهو إمام أهل السنة، والمحقق الأثري الفقيه النابغة، مفتي الديار السعودية، ومرجع المستفتين من أنحاء العالم يرحمه الله.
يقول بعض السلف: قولوا لأهل البدع: بيننا وبينكم يوم الجنائز، ومن رأى جنازة الشيخ ابن باز ونحيب كبار الشيوخ بالمملكة بصوت عال كالأطفال، ولا أبالغ إذا قلت: أكثر من تسعمائة ألف يسير خلف جنازة الشيخ ابن باز، من رأى ذلك علم صحة المقالة السابقة.
فهذه لحظات نعيشها مع الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى، حفظ الشيخ القرآن عن ظهر قلب قبل أن يبدأ مرحلة البلوغ، وبحفظه لكتاب الله عز وجل باشر انطلاقه في طلب العلم، ولم يحبس الشيخ نفسه على أستاذ واحد، بل اتصل بالعديد من المشايخ وتلقى عنهم العلم كل في حدود تخصصه، كالشيخ محمد بن عبد اللطيف بن عبد الرحمن والشيخ صالح بن عبد العزيز بن عبد الرحمن والشيخ محمد بن إبراهيم بن عبد اللطيف آل الشيخ، حيث لم يألوا جهداً في تشجيعه على المثابرة في تحصيل الخير والعمل والتبحر في عقائد السلف.
ومن مشايخه أيضاً الشيخ سعد بن حمد آل عتيق والشيخ حمد بن فارس، والشيخ سعد البخاري الذي أخذ عنه علم التجويد، على أن أطول سني الشيخ الدراسية تلك التي قضاها في التتلمذ كانت على سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة العربية السعودية سابقاً، حيث استمر ملازماً له عشر سنوات كاملة، وطول ملازمة الشيوخ تعين طالب العلم على الأدب، ولذلك قالوا: إن الشيخ من حدثك بلحظه قبل أن يحدثك بلفظه.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى برؤيتهم)، فما ظنك بالتتلمذ على أيديهم وطول معاشرتهم.
فهذا محمد بن المنكدر يقول عن أحد العباد: والله إن رؤيته لتنفعني في ديني.
وعبد الله بن المبارك يقول عن الفضيل بن عياض: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فيجدد لي الحفظ فأمقت نفسي.
والذين عاشوا مع الشيخ ابن باز يقولون مثل ذلك عنه وعن رؤية محياه، مثل الشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ عبد الله بن غديان وغيره يقولون: كان الشيخ يأتي الصبح وعلى جبينه أثر السجود وفي رجليه انتفاخ من أثر القيام، يعني: إذا رأوه وجدوا قدميه وقد انتفختا من أثر القيام، ووجدوا آثار دموع الليل على جبين الشيخ عبد العزيز بن باز، فهذا الذي جعل الشيوخ ينتحبون على موت الشيخ ابن باز.
فقد الشيخ عبد العزيز بن باز بصره في التاسعة عشرة من عمره، واستمر يطلب العلم بعد فقده لعينيه، ولكن قلبه ازداد نوراً وعوضه الله عز وجل بذكاء في القلب، وبصبر على العلم ومصابرة وذكاء منقطع النظير، فالشيخ حافظ العصر في علم الحديث، وإذا سألته عن حديث من الكتب الستة أو من عند غيرهم ففي الغالب تجده يستحضر الحديث سنداً ومتناً، ومن تكلم فيه من أهل العلم سنداً ومتناً، وإن أتيته بالإسناد أتاك بالمتن، وإن أتيته بالمتن أتاك بالإسناد، ويذكر لك مقالات أهل الجرح والتعديل في كل حديث، فائتوني يا أهل العيون المبصرة برجل كالشيخ كـ ابن باز في علمه وفي فقهه!! يقول الشيخ عائض القرني في ترجمة الشيخ ابن باز في كتابه الممتاز في مناقب ابن باز: وتستمر حالة الشيخ فلا يفتأ ليلاً ولا نهاراً يبحث عن العلم ويطلبه من مظانه، مع قلة ذات اليد ومع الفقر ومع العمل ومع عوزه للمال، وكان يقصد الله عز وجل في طلب العلم.
أول الطريق إلى آخره بذل الروح والصدق مع الله عز وجل، بهذا ارتفع الخير وإلا فدع عنك الترهات.
الإمام أحمد عندما كان يسأل عن الصدق والإخلاص فيقول: بهذا ارتفع الخير.
فالشيخ صدق الله عز وجل في طلبه للعلم مع فقده للبصر.
قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(10/2)
وقفات مع جهود بعض أهل العلم في تحصيل العلم على كبر السن
كثير من أهل العلم طلبوا العلم وهم كبار، ولكنهم صدقوا الله عز وجل فصدقهم، منهم شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك فقد طلب العلم وهو ابن عشرين سنة، وأول ما بدأ يطلب العلم قالوا له: إن الربيع بن أنس موجود في السجن، فاحتال عليه حتى دخل السجن فأخذ منه أربعين حديثاً.
والإمام البخاري يعنون في كتابه: من طلب العلم وهو كبير.
والإمام القفال ذهب إلى أحد الأمصار في طلب العلم وعمره أربعون سنة، فقال: متى أطلب العلم، ومتى أحفظ، ومتى أعلم الناس، فمر بصاحب ساقية يسوق البقر وكان الحبل يقطع الصخرة من كثرة مروره عليها، فقال: أطلبه وأتفرغ لطلبه، واستمر يطلب العلم وعمره ثنتان وأربعون سنة حتى أصبح من كبار أئمة الشافعية ومن جهابذة الدنيا.
يقول تعالى: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق:3]، ونحن لا نألّي الإخوة بطلب العلم ولكن كل وإمكانيته وما أعطاه الله عز وجل، ويمكن أن يفيد المسلمين في مجال آخر كبناء المساجد، وكفالة الأيتام، فلا يحقر نفسه، فعلى الإنسان أن يكون ذا طموح وهمة عالية.
والإمام بقي بن مخلد إمام أهل الدنيا وصاحب أكبر مسند في التاريخ، يسير على قدميه من المغرب إلى بغداد ليصل إلى إمام أهل السنة، يقول: وكنت أقتات بما تلقيه النساء على طول الشاطئ من أوراق القرنفل، فلما وصلت إلى بغداد قيل لي: إن الإمام أحمد ممنوع من الدرس، فقلت: دلوني على بيت الإمام أحمد، ثم طرقت عليه الباب، فقلت: يا إمام طالب علم جئت إليك من بلاد بعيدة، قال: من إفريقيا أم من تونس؟ قال: بل أجوز بحراً من بلادي حتى أصل إلى تونس أنا من الأندلس، قال: مثلك يرحب لطلب العلم، ولكنك تعلم أني ممنوع من الدرس، قال: عندي فكرة، قال: وما هي؟ قال: سوف آتي إليك في زي السؤال وأنادي وأنت تخرج إلي، فأسمع منك الحديث، قال: بشرط ألا تجلس إلى أحد من أهل الحديث، قال: لك هذا، قال: فلما كان في الغد جعلت الأوراق في كمي وأتيت بخرقة وجعلتها عمامتي، ثم جعلت أقول: السؤال هنا والأجر هنالك إن شاء الله، قال: فيعطيني الحديث والاثنين والثلاثة فأسمع لذلك، قال: واستمر الحال على ذلك ستة أشهر حتى انتهت المحنة.
يقول الإمام ابن أبي حاتم الرازي: اشتهينا سمكة، فمكثت عندنا أياماً، كنا في النهار نطوف على الشيوخ وفي الليل ننسخ ونقابل، فمكثت عندنا أياماً ولم يكن عندنا وقت لطبخها.
والإمام محمد بن جرير الطبري والإمام محمد بن نصر المروزي والإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة دخلوا لتحصيل بعض الأحاديث من عند المصريين، فانتهت عليهم النفقة واضطروا إلى أن يسألوا الناس، فقالوا: نجري قرعة ومن خرجت عليه القرعة يخرج ويسأل الناس، فخرجت القرعة على إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب كتاب الصحيح، فقال: ذروني حتى أصلي ركعتين، وبينا هو يصلي إذ دق الباب رسول لـ أحمد بن طولون فقال: أيكم محمد بن جرير الطبري؟ فدفع إليه صرة فيها خمسون ديناراً، ثم قال: أيكم محمد بن إبراهيم؟ فدفع إليه صرة فيها خمسون ديناراً، وأعطى لكل رجل خمسين ديناراً، فقالوا: ما قصتك؟ قال: أتى أحمد بن طولون آت في المنام فقال له: إن المحمدين جياع فأطعمهم، وهو يستحلفكم بالله إن انتهت النفقة أن تعلموه حتى يأتيكم بغيرها.
فلا بد من الصدق في طلب العلم.
لا تدبر لك أمراً فأولو التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منكا(10/3)
جهود الشيخ ابن باز في تعلم العلم وتعليمه
كان الشيخ ابن باز يجيد اللغة العربية الفصحى، ويشرحها ويلقيها على طلابه، وله في الفرائض والمواريث قدم، أما في الحديث فهو محدث الدهر، ويعرف الرجال.
يقول عنه الشيخ عائض القرني: سألته قبل ما يقارب أربع سنوات عن الحجاج بن أرطأه، فقال: ضعيف ومدلس، قال: فهو يحفظ آلاف الرجال في ذهنه، فإذا سألته عن الرجل أخبرك عنه، وما قيل فيه.
ويتابع كثيراً في (تهذيب التهذيب) لـ ابن حجر، وهو كتابه المفضل لديه، يقول لبعض محبيه: ربما حفظت 80% من تهذيب التهذيب الذي كله أسماء رجال، والذي يتكون من ثلاثة عشر مجلداً.
يقول: ويحفظ (فتح الباري)، وقد قرأه مرات عديدة من وقت طلبه للعلم إلى الآن، وهو الذي تولى الإشراف على إخراجه وتحقيقه للناس.
هذا الكتاب الذي مكث فيه ابن حجر يؤلفه اثنتين وثلاثين سنة.
وواصل الشيخ مشواره في تعليم طلبة العلم من بعد صلاة الفجر إلى طلوع الشمس، فيدرس فتح الباري، وفتاوى ابن تيمية، وبلوغ المرام، ثم يدرس الكتب الستة وشروحها، ثم يدرس شرح العقيدة الطحاوية، ويدرس تفسير ابن كثير، والبداية والنهاية، وجامع العلوم والحكم.
يقول عنه محمد المجذوب: روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم فلم أر بازاً قط قبلك شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي والباز: هو الصقر.
ويقول الشيخ عائض في مديح الشيخ عبد العزيز بن باز: قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي عفواً لك الشيخ قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كدمع الوابل السافي يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافِ مجالس اللغو ممشاهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعاني ولم تولع بإرجاف بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الظل في إشراقه الصافي يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم ولدي أضعاف أضعاف أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي كالشجو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قاف وثد اجتمعت في الشيخ عبد العزيز بن باز خصال ما اجتمعت في غيره.
والشيخ لم يحبس نفسه في مكتبه فقط، وإنما كان رجل عامة، وهذا نادر قل أن تجده في طبقات الرجال، فالإمام أحمد كان رجل عامة، والأوزاعي كان رجل عامة، أما سفيان الثوري فكان رجل خاصة، فكان ينتفع به وبعلمه العلماء والمحدثون فقط، أما الأوزاعي فكان كالبحر يلج إليه كل الناس وينتفعون بعلمه.
وكان أبو إسحاق الفزاري رجل عامة يختلط بعوام الناس، ويعلمهم السنن، ويؤدبهم، ويحملهم على الجادة، ويعلمهم عقيدة أهل السنة والجماعة، وكذلك كان الشيخ ابن باز، كانوا يدخلون عليه في أي وقت.
وهو الشيخ الذي ما تغدى وما تعشى مع أولاده طيلة خمس وأربعين سنة، وفي هذه الفترة كان بابه مفتوحاً لكل الناس، ومائدة الطعام في بيته يأكل منها الناس، فيستفيدون من علم الشيخ ويأكلون من أكل الشيخ.
حدثني الشيخ عمر العيد وهو دكتور في جامعة محمد بن سعود بالرياض يقول: كان الشيخ ابن باز يقترض الآلاف المؤلفة من العام إلى العام، فإذا علمت الحكومة السعودية تدفعها عنه؛ لأنها تعلم أن الشيخ كان ينفق حوالي ثلاثة آلاف ريال على بعض طلبة العلم يخصهم بالنفقة الشهرية.
يقول أحد طلبة العلم: كان الشيخ يعرفني من صوتي، فإذا غبت يرسل إلي من يسأل عن أخباري ويعطيني المال من الفترة إلى الفترة يعينني على الدنيا من غير أن يدري أحد، يقول: إنك تجد الشيخ ابن باز يجلس وسط إخوانه ووسط طلابه يختلط بهم ويعرف حاجاتهم، ويؤدبهم بمخالطته، ويستفيدون من لحظه قبل أن يستفيدوا من لفظه، وهذه غاية عظيمة.
فالشيخ وهو جالس وسط الناس يربيهم ويعلمهم ويحملهم على السنة.
وكان صدر الشيخ ابن باز يتسع للمخالف أيما اتساع، وربما تجد طالب علم متحمساً لنصرة الإسلام، فيقول عن الشيخ الكلام الجاف الذي لا يقوله طالب علم في طالب علم، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك منتقصيهم معلومة.
كان يقول للمخالفين: هذا الأمر يحتاج إلى جهاد أمة بأسرها، وينصح الطلاب المتحمسين المندفعين بالتروي وبسؤال أهل العلم، ولو أن الناس اتبعوه في هذا لوفروا على الدعوات الإسلامية في كافة الأقطار الإسلامية الكثير والكثير.
وينطبق على الشيخ أنه العالم العامل، والإمام الذهبي في السير ترجم لمائتين وخمسين يطلق عليهم لقب شيخ الإسلام، ويقول عن بعضهم: وكان سيد العلماء العاملين في وقته.
فكان الشيخ من أعبد الناس، ومن أشدهم تطبيقاً للعلم.
وأما على مآس المسلمين فتجده بكاء كالأم الشفوق أو كالأب الشفوق، فإذا سمع بمصائب المسلمين في البوسنة أو الهرسك أو كوسوفا يبكي كالطفل، وهذا يعلمه القاصي والداني عن الشيخ ابن باز، فبمجرد أن يخبر عن أحوال المسلمين تجده يبكي بكاء مراً، فهو يحس بواقع المسلمين وليس بعيداً عنهم، ويعلم واقع المسلمين في مصر، وفي الجزائر وفي غيرها من الدول.
وهذا هو الشيخ الذي دان له الجميع بالفضل.(10/4)
القصيدة البازية
هذه القصيدة قيلت في مديح الشيخ عبد العزيز بن باز، وهي قصيدة عظيمة، وتسمى القصيدة البازية.
يا رائد العلم في هذا الزمان ويا مجدد العصر في علم وأعمال وحاتم في عطاياه وجودته في بحركم لا يساوي عشر مثقال في الجود مدرسة في البذل مملكة في العلم نابغة أستاذ أجيال الحق مذهبه والنصح يعجبه والذكر يطربه يحيا به تالي العلم مؤنسه والله يحرسه ما كان مجلسه للقيل والقال بالنص فتواه بالرفق ممشاه من فيض تقواه مخشوشن الحال لم ينتقص أحداً لم يمتلئ حسداً لم يفتتن أبداً بالمنصب العالي العين دامعة والكف ضارعة والنفس خاشعة من خشية الوالي المال ينفقه والوعد ينجزه والشهد منطقه مستعذب حالي يا درة العصر يا بحر العلوم فما رأت لك العين من ندٍ وأمثال حقاً فقد عرف التاريخ كوكبة مضيئة من صناديد وأبطال مثل ابن حنبل أو مثل ابن تيمية أو البخاري في إسناده العالي لكننا يا حبيب القلب نبصرهم كأنما مثلوا في شخصك الغالي فهذا قليل من فيض كثير قيل عن الشيخ عبد العزيز بن باز.(10/5)
رثاء الشيخ ابن باز
هذه قصيدة للشيخ عبد الرحمن العشماوي، وقد رثى بها الشيخ ابن باز فقال: خفقان قلب الشعر أم خفقاني أم أنه لهب من الأحزان ماذا يقول محدثي أحقيقة ما قال أم ضرب من الهذيان ما لي أرى ألفاظه كحجارة ترمي بها الأفواه للآذان يعني: عندما قيل له: الشيخ مات.
الشيخ مات عبارة ما خلتها إلا كصاعقة على الوجدان أو أنها موج عنيف جاءني يقتاد نحوي ثورة البركان يا ليتني استوقفت رنة هاتفي قبل استماع نداء من ناداني أو أنني أغلقت كل خطوطه متخلصاً من صوته الرنان الشيخ مات أما لديك عبارة أخرى تعيد بها اتزان جناني قل لي بربك أي شيء ربما أنقذتني من هذه الأشجان قل لي بربك أي شيء قال لي عجباً لأمرك يا فتى الفتيان أنسيت أن الموت حق واقع ونهاية كتبت على الإنسان أنسيت لا والله لكني إلى باب الرجاء هربت من أحزاني الشيخ مات صدقت إني مؤمن بالله مجبول على الإذعان الشيخ لا بل قلعة العلم التي ملئت برأي صائب وبيان هو قلعة العلم التي بنيت على ثقة بعون الخالق المنان وأمامها هدمت دعاوى ملحد وارتد موت البغي والبهتان وتطايرت شبه العقول لأنها وجدت بناء ثابت الأركان أنست بها نجد ومهبط وحينا واسترشد القاصي بها والداني هو قلعة ظلت تحاط بروضة خضراء من ذكر ومن قرآني صان الإله بها عقيدة أمة في عصرنا المتذبذب الحيران ماذا تقول قصائد الشعر التي صارت بلا سطر ولا أوزان ماذا تقول عن ابن باز إنها ستظل عاجزة عن التبيان ماذا تقول عن التواضع شامخاً وعن الشموخ يحاط بالإيمان ماذا تقول عن السماحة والنهى عن فقه هذا العالم الرباني مات ابن باز للقصائد أن ترى حزن القلوب وأدمع الأجفان في عين طيبة أدمع فياضة تلقى دموع الطائف الولهان والخرج تسأل والرياض ومكة عن قصة مشهورة العنوان عن قصة الرجل الذي منحت له كل القلوب مشاعر اطمئنان ما زالت أذكر صوته يسري إلى أعماقنا بمودة وحنان يفتي وينصح مرشداً وموجهاً ومعلماً للناس دون توان نور على الدرب ارتوى من فقهه وسرت منابعه إلى الظمآن يا رب قد أصغت إليك قلوبنا وتعلقت بك يا عظيم الشان الشيخ مات عليه أندى رحمة وأجل مغفرة من الرحمن ظل الشيخ ابن باز طيلة عمره يدافع عن العقيدة السلفية، وهو الشيخ الكبير الذي ترجع إليه جميع الأمة الإسلامية في الفتوى، فموته كان من المصائب التي أصيب بها المسلمون.
نسأل الله عز وجل أن يجعل شيخنا ابن عثيمين خلفاً عن شيخنا ابن باز، وأن يسير به على دربه، ويرحم شيخنا الشيخ ابن باز أحلى رحمة وأرق رحمة.
اللهم أبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، اللهم اغسله بالثلج والماء والبرد، وأكرم نزله، وأكرم مدخله، واجعله مع العلماء الربانيين.(10/6)
الإمام الألباني خادم السنة
كان الشيخ الألباني إماماً في السنة كما كان إماماً في الحديث.
وقد وضع شيخنا الألباني قواعد في كيفية التصفية والتربية؛ تصفية كل العلوم الإسلامية مما علق بها، وتصفية التوحيد مما شابه من أرباب التأويل والتعطيل والتشبيه، وتصفية التفسير مما شابه من إسرائيليات، وتصفية كتب الحديث وتمييز الصحيح من الضعيف.
قيل لـ عبد الله بن المبارك: هذه الأحاديث الضعيفة والموضوعة ما تصنع فيها؟ قال: يعيش لها الجهابذة من الرجال؛ لقول الله عز وجل: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9].
والتربية هي تربية هذه الأجيال على الإسلام المصفى.(10/7)
محبة الله
إن محبة الله سبحانه وتعالى من أعظم العبادات والقرب التي يتقرب بها إليه، فهي مفرجة للهموم، وكاشفة للكروب، ومعينة على العبادات، ومقربة من رب الأرض والسماوات، ولذا كان لابد على الإنسان أن يعلم الأسباب الجالبة لمحبة الله فيتقرب بها إلى ربه، ويظفر بالنيل من قربه ووده سبحانه وتعالى.(11/1)
فضل محبة الله وأسبابها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71] أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: فاعلم يا أخي! أن منزلة المحبة منزلة عظيمة.
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجيء في الأول المحبة: هي المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون، وإليها شخصت أبصار العاملين، وبروح نسيمها تروح العابدون، هي قوت القلوب، وحياة الأرواح، ونعيم القلوب والنفوس، هذه المنزلة العظيمة هي وسط العقد -كما قالوا- بين مقدماتها وثمراتها، فكل مقام من مقام الإيمان موصل إليها، أو متفرع منها، فما التوبة والمحاسبة والزهد إلا مقدمات المحبة، وما الرضا والشوق إلا ثمرات لهذه المنزلة العظمى، ولقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنها رأس الواجبات، وأصل أصول الحسنات، وما من متحرك في الكون إلا ويتحرك بمحبة مذمومة أو محمودة.
والمحبة لله تبارك وتعالى: هي رأس مال المسلم، وتجارته مع الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).
وحتى يعلم العبد منزلة المحبة ينظر إلى قول سيدنا أنس رضي الله عنه أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: والله يا رسول الله! ما أعددت لها كبير صلاة ولا صوم، ولكني أحب الله ورسوله، قال: أنت مع من أحببت).
قال سيدنا أنس: فما فرحنا بعد الإسلام بشيء فرحنا بقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (أنت مع من أحببت).
وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه وقد صححه الشيخ الألباني، يقول في ثنايا الحديث في إحدى رواياته: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة، فقال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟! قلت: لا أدري أي رب، فوضع يده بين منكبي حتى أحسست بردها بين الثديين، فعلمت كل شيء، قلت: في الكفارات والدرجات، والكفارات: نقل الخطا إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء على المكاره، قال: صدقت يا محمد، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ثم قال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني وتتوب علي، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يبلغني حبك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنهن حق، فتعلموهن وادرسوهن).
أي: هذه الكلمات، أن تدعو الله عز وجل أن يبلغك حبه، قال: (إنهن حق، فتعلموهن وادرسوهن).
ولقد تكلمنا قبل ذلك هاهنا عن الشق الأول من المحبة، فإذا أردت أن تحب فاعقل من تحب، أو إذا أردت أن تخدم فاعقل من تخدم، ثم اخدم بعد ذلك، فحينئذ تصيب الخدمة.
تكلمنا عن الثناء على الله عز وجل، وأن الله عز وجل يحب لشيئين: أولاهما: لذاته، فهو أهل لأن يحب، حتى ولو لم يخلق جنة ولا ناراً، فإن له نعوت الجمال، وصفات الكمال.
السبب الثاني: لنعم الله عز وجل وآلائه الواصلة إلى الإنسان آناء الليل وأطراف النهار، شيئان يدعواك لحب الله عز وجل، وشأن عظيم أن تحب مولاك، وأعظم منه: أن يحبك الله عز وجل.
فما هي الأسباب الجالبة للمحبة؟ أطيب الحياة -كما قال الإمام ابن القيم - أن تكون محباً محبوباً، تتقرب إلى الله عز وجل وهو منك قريب، فتكون متقرباً إلى الله عز وجل وأنت قريب منه، إذا تقربت إلى الله عز وجل في دار الدنيا قربك إليه في دار الدنيا قبل الآخرة، مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها، إنها لذة الأنس بالله عز وجل، إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً، وأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب! لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف، هذا قول أهل العلم وهم قوم تخللهم زهو بسيدهم، والعبد يزهو على مقدار مولاه.
تاهوا به عمن سواه له يا حسن رؤيتهم في حسن ما تاهوا وكما يقول الشاعر: وإذا نظرت إلى حبيبي زادني حباً له نظري إلى الأمراء(11/2)
نعيم أهل محبة الله في الآخرة
أما في دار الآخرة فانظر إلى بصيص من نعيمهم، قال الله تبارك وتعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة:10 - 11].
فهم محمولون على بساط القرب إلى الله عز وجل، ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ)) كما قال الله عز وجل: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق:31] قربت منهم الجنة، والقرب هناك على قدر القرب هنا، من أحسن في ليله كوفئ في نهاره، من أحسن في نهاره كوفئ في ليله، وإنما يكان للعبد كما كان، فهم في جنان العرسان في دار الدنيا، وفي جوار الرحمن في دار الآخرة، شأن عظيم أن تحب، وأعظم منه أن تحب.(11/3)
الأسباب الجالبة لمحبة الله(11/4)
قراءة القرآن بتدبر
فما هي الأسباب الجالبة للمحبة؟ السبب الأول: قراءة القرآن يتدبر وتفهم لمعانيه، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه الألباني: (من سره أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف).
فرحم الله أقواماً قرءوا القرآن على أنه رسائل من ربهم إليهم، فقدروا قدر المرسل، وقدروا قدر هذه الرسائل، ولو طهرت قلوبكم لما شبعتم من كلام ربكم، هذا قول ذي النورين.
فتقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه، وكما يقول ابن الصلاح فيما روى عنه الإمام السيوطي في الإتقان: وقراءة القرآن كرامة اختص الله بها البشر دون الملائكة -إلا سيدنا جبريل؛ لأنه النازل بالوحي- ولهذا تحب الملائكة سماعه من البشر.
ومن رحمة الله عز وجل: أنه سهل الفهم لمعرفة معاني كلامه، وهذا لطف من الله عز وجل: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:22]، فبصيص من معاني القرآن الكريم ينسيك نفسك، كما قيل: مزامير الأنس، من حضرة القدس، بألحان التوحيد في رياض التمجيد، هذا طعم الخبر فكيف طعم النظر؟! آيات منزلة من فوق العرش، الأرض منها سماء، وهي منها كواكب، إذا رقت فأمساس الحياة الآخرة، وإذا هدرت فأمواج البحار الزاخرة كما قال أديب الإسلام الرافعي: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
فضل الله: هو الإسلام، ورحمته: أن جعل لكم من أهل القرآن، كما قال ابن عباس، أو فضل الله: هو القرآن، ورحمته: الإسلام كما قال أبو سعيد الخدري.
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51].
هذه الألسنة تحتاج إلى ملايين المرات من التوبة قبل أن تنطق بآية من آيات الله عز وجل، وهذه الألسن تحتاج إلى آلاف المرات من الطهارة والنظافة قبل أن تنطق باسم الله عز وجل، وليس العجب من قول الله عز وجل: (اذكروني) فهذا حق لله عز وجل، وإنما العجب من قوله تعالى: {أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152].
يا غفول يا جهول! لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمت شوقاً إلى مولاك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكلام أقواماً، ويضع به آخرين).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية كنت تقرؤها).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم آية من كتاب الله فله ثوابها ما تليت).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له به أجران).
يقول أحمد بن أبي الحواري: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن؟! أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا.
وقيل للحسن البصري: إن هنا رجلاً يحفظ كتاب الله ثم ينام عنه، قال: ذاك رجل يتوسد القرآن.
أي: ينام على القرآن ويجعله وسادة وهو كلام يقطع نياط القلوب الطاهرة.
قال محمد بن مسعدة: القرآن بستان العارفين، فأينما حلوا منه حلوا في رياض نضرة.
وقال مالك بن دينار: إن الصديقين إذا تلي عليهم كلام الله عز وجل قربت قلوبهم، واشتاقت إلى ما عند الله عز وجل، ثم يقول: اسمعوا إلى ما يقول الصادق من فوق عرشه: رحم الله أقواماً كان القرآن نعيمهم وعنوانهم، أنسهم وميدانهم، نزهتهم وبستانهم.
يقول شيخ لتلميذه: أتحفظ القرآن؟ قال: لا، فيقول: يا غوثاه! فبم تترنم؟ وبم تشدو؟ وبم تناجي مولاك؟ لو أن الإنسان قرأ القرآن على أنه رسائل نازلة من فوق السموات السبع، كما يقول كعب، يقول: القرآن أحدث الكتب نزولاً من عند ربكم.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم حين ينزل المطر يشمر بثوبه ويقول: (إنه حديث عهد بربه)، فما ظنك بالقرآن؟ وعلى هذا القول يفهم قول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستمع القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليستمعه من ابن أم عبد: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} [فاطر:29]).
قال مطرف بن عبد الله: هذه آية القرآن التي وضعها الله تبارك وتعالى لقراء القرآن.
وفي الصحيح الموقوف على أبي هريرة وابن عمر وله حكم الرفع: (يأتي القرآن يوم القيامة يقول: يا رب! إن لكل عامل عمالة فما عمالتي؟ ثم يقول: يا رب! هذه حلة الكرامة، يا رب! ألبسه تاج الكرامة، يا رب! ارض عنه، فليس بعد رضاك شيء).
وفي الحديث الذي رواه ابن ماجة وسيدنا الشيخ الألباني شفاه الله عز وجل وعافاه، وأمد الله في عمره وفي حياته، وأخرجه من المحنة التي يمر بها، يقول عنه: إن إسناده محتمل للتحسين (إن الرجل حين يخرج من قبره يتلقاه صاحب له فيقول: من أنت؟ يقول: أنا الذي أظمأت هواجرك، وأسهرت ليلك، أنا القرآن، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإني اليوم لك من وراء كل تجارة، ثم يقال: اقبض بهذه الخلد، وبهذه النعيم، ثم يكسى تاج الكرامة، ويحلى والديه حلة لا تقوم لهما الدنيا).
أطيلوا على السبع الطوال وقوفكم تدر عليكم بالعلوم سحاب وفي طي أثناء المثاني نفائس يطيب بها نشر ويفتح باب تلا فصلت لما أتاه مجادل فأبلس حتى ما يكون جواب أقر بأن القول فيه طلاوة ويعلو ولا يعلو عليه خطاب يقول بشر بن السري: مثل القرآن مثل الثمرة، فالثمرة كلما مضغتها وجدت حلاوتها.
قال مالك بن دينار معلقاً رحمه الله: صدق، فإنما أتي الناس من أنهم يريدون آخر السورة، يكون هم الواحد منهم أن ينتهي من السورة، وقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم ربما وقف عند الآية يرددها إلى الصباح مثل قوله: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].
وكم من علماء السلف من وقف الليل بآية يرددها إلى الصباح، كما حدث مع الربيع بن خثيم حيث كان يردد قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21]، وثبت ذلك عن سعيد بن جبير وعن غيره من العباد والعلماء.
فهذه أيام ذكر كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله تبارك وتعالى من أيامكم هذه، فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله عز وجل فيهن من أيامكم هذه، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله يا رسول الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء).
فيكون مطلق الذكر في هذه الأيام أفضل من كل أنواع الجهاد.
يقول ابن رجب: ويستحب للإنسان أن يختم القرآن في يوم وليلة.
وهذا قول جمهور أهل العلم كما نقله الإمام النووي والإمام ابن رجب وغيره من أهل العلم.(11/5)
التقرب إلى الله بالنوافل
السبب الثاني: التقرب إلى الله تبارك وتعالى بالنوافل بعد الفرائض، فإنها توصلك إلى درجة المحبوبية، فتكون محبوباً لله عز وجل، كما قال الله عز وجل: (وما تقرب إلي عبدي بمثل ما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها).
ولابد من أداء الفرائض أولاً قبل النوافل، فصلاة الفجر مقدمة على قيام الليل، فإذا أديت صلاة الفجر فهذا خير وبركة، والناس كلهم يصلون الفجر، ويواظبون عليها، لكن المراد أن النوافل كقراءة القرآن تجعل الرجل من وفد الله، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن لله أهلين من الناس، قالوا: من هم يا رسول الله؟! قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته).
فالتقرب إلى الله عز وجل بأداء الفجر في جماعة يجعلك من أهل وفد الله، وإن الملك ليغدو برايته كما قال سيدنا رسول الله مع أول من يدخل المسجد، يخرج مصاحباً له حتى يدخله المسجد، ثم يخرج معه حتى يوصله إلى بيته.
فبداية التقرب إلى الله عز وجل بالفرائض، ثم بعدها بالنوافل، فيكون هذا دائماً حال الواحد منا.
ثم بعد الفرائض تأتي النوافل، ودرجات القرب من الله عز وجل لا يحيط بها عقل البشر، وإنما مثل الرسول صلى الله عليه وسلم بأمثلة فقط، ولم يذكر درجات، عندما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً) ومن تقرب منه باعاً سكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالقرب درجات لا تحيط بها عقول البشر: (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) و (من أتاني هرولة) سكت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: خل الهوى لأناس يعرفون به قد كابد الحب حتى لان أصعبه أو كما يقول العلامة ابن القيم: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب عند نزوله فدرجات القرب هذه: لا يحيط بها عقل بشري.
يقول: وليس القرب في هذه المراتب كلها قرب مسافة حسية، ولا مماسة، بل هو قرب حقيقي، والرب تبارك وتعالى فوق سمواته، والعبد في الأرض، وهذا الموضع هو سر السلوك، وحقيقة العبودية، وملاك هذا الأمر هو: إخلاص التقرب إلى الله أولاً، ثم التقرب ثانياً، ثم حال القرب ثالثاً، وهو الانبعاث بالكلية إلى الحبيب.
يعني: من تقرب إلى الله عز وجل بالجوارح، (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها).
كذلك نوافل الصيام والصدقة، فمن صلى اثنتا عشرة ركعة في يوم واحد بنى الله له بيتاً في الجنة، وهي السنن الرواتب، ثم بعد ذلك صلاة الوتر والمحافظة عليها، قال الإمام أحمد: واعلم أن من استمر على ترك صلاة الوتر فهو فاسق ترد شهادته.
ثم هناك بعد ذلك تطوعات: كصلاة الضحى، يقول صلى الله عليه وسلم: (من مشى إلى المسجد في نافلة) قال أهل العلم: هي صلاة الضحى (كانت له كأجر عمرة).
ثم يواصل الصيام وليس الإثنين والخميس فقط، أو صوم يوم عرفة فقط، أو عاشوراء فقط، أو صوم يوم وإفطار يوم، بل إن النوافل التي وردت في الصوم كثيرة ومتعددة منها: صيام وإفطار يوم، وهذا صيام نبي الله داود، وهو أفضل الصوم، وكذلك صيام السبت والأحد والإثنين من شهر، والثلاثاء والأربعاء والخميس من شهر كما كانت تفعل السيدة عائشة، أو صيام أربعة أيام في الشهر، أو خمسة، أو سبعة أو تسعة أو عشرة، كل هذا ورد في السنة.
كذلك التقرب إلى الله عز وجل بالصدقات، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك امسح رأس اليتيم، وأدنه منك، وأطعمه من طعامك، وأسقيه من شرابك).
كذلك تعليم العلم وتعلمه، فتعلم الناس مثلاً شرح العقيدة الواسطية، وكثير من طلبة العلم يغفل عن التدريس يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه) يعني: مفروض أنكم تجلسون جلسات لحفظ القرآن وتعليمه، ولابد لكل طالب علم أن يأخذ مجموعة من التلاميذ يعلمهم كتاب الله تبارك وتعالى.
كذلك النساء لابد لهن من دور في ذلك، ولابد أن نصلح مجال المرأة في الدعوة إلى الله عز وجل، فالمرأة المصرية أم إسماعيل شرف الله بها الكون، ونزل جبريل أمين وحي السماء تتويجاً لصدقها يضرب الأرض بعقبه، فتتفجر زمزم فهي ينبوع الرحمة في صحراء الجدب، وقد قالت لإبراهيم: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً: فلن يضيعنا، فهي أعظم امرأة رسمت معاني التوكل على الله.
يا درة حفظت بالأمس غالية واليوم يرجونها للهو واللعب هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقفت خطى حمالة الحطب فلو أن كل أخ عمل لزوجته برنامجاً يقول لها: احفظي آيتين عند الفجر، وآيتين عند الظهر، وآيتين عند المغرب، وآيتين عند العشاء، ثم تقوم الليل وهي ماسكة المصحف تكرر العشر الآيات إن شاء الله ستين مرة يُكتب لها حظها من قيام الليل ومن قراءة القرآن، وعشر آيات تحفظها في اليوم والليلة، ولا يمر عليها سنتان بالضبط حتى تكون حافظة للقرآن كله، وتكون صادقة مع ربها ولا ينفع إلا الصدق مع الله عز وجل.
سئل الإمام أحمد عن الصدق والإخلاص؟ قال: بهذا ارتفع القوم.
فالتصدق بتعليم الناس القرآن والعلوم الشرعية يعتبر أولى من أن يتصدق الرجل ببدنه وجاهه، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (خير الناس عند الله أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم، أو تقضي عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً) أو في رواية: (أو تطرد عنه جوعاً).(11/6)
دوام ذكر الله بالقلب واللسان
السبب الثالث: دوام ذكر الله عز وجل بالقلب واللسان، والعمل والحال، ونصيبك من المحبة على قدر نصيبك من الذكر، قال ذو النون: من شغل قلبه ولسانه بالذكر قذف في قلبه نور الاشتياق إليه.
وقال إبراهيم بن الجنيد: كان يقال: من علامات المحبة لله دوام الذكر بالقلب واللسان والجوارح.
وقال إبراهيم بن أدهم: أعلى الدرجات: أن يكون ذكر الله عندك أحلى من العسل، وأشهى من الماء العذب الصافي عند العطشان في اليوم الصائف.
وقال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42].
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45].
يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب وكما يقول الشاعر: خطرات ذكري تستثير مودتي وأحس منها في القلوب دبيباً لا عضو لي إلا وفيه صبابة فكأن أعضائي خلقن قلوباً يقول ابن معاذ الرازي: عفوه يستغرق الذنوب فكيف رضوانه؟! ورضوانه يسع الآمال، فكيف وده؟! ووده ينسي ما دونه فكيف حبه؟! وحبه يدهش العقول فكيف لطفه؟! يقولون يحيى جن من بعد صحة ولا يعلم العذال ما في حشائيا إذا كان دار المرء حب مليكه فمن غيره يرجو طبيباً مداويا مع الله أقضي دهره متلذذاً تراه مطيعاً كان أو كان عاصيا ألا فاهجروني وارغبوا في قطيعتي ولا تكشفوا عما يجن فؤاديا ألا فاهجروني وارغبوا في قطيعتي وخلوا عناني نحو مولى المواليا يقول يحيى بن معاذ الرازي: لو أدركت القلوب كنه المحبة لخالقها لانخلعت مفاصلها ولهاً، ولطارت الأرواح إليه من أبدانها دهشاً، سبحان من أغفل الخليقة عن كل هذه الأشياء، وألهاهم بالوصف عن حقيقة هذه الأنباء.
ويقول رحمه الله: يا من رباني في الطريق بنعمه! وأشار لي في الورود إلى كرمه، معرفتي بك دليل عليك، وحبي لك شفيع إليك.
هذا الإمام الذاكر العابد لله تبارك وتعالى يقول: إلهي إني مقيم بفنائك، مشغول بثنائك، فقير أخذتني إليك، سربلتني بمعرفتك، وأمكنتني من لطفك، ونقلتني في الأحوال، وقيدتني في الأعمال ستراً وتوبة، وزهداً وشوقاً ورضاً ورضاء وحباً، تسقيني من حياضك، وترويني في رياضك، ملازماً لأمرك، مشغوفاً بقولك، ولما طر شاربي، ولاح طائري، فكيف أنصرف اليوم عنك كبيراً، وقد اعتدت هذا منك صغيراً؟! فلي ما بقيت حولك دندنة، وبالضراعة إليك همهمة؛ لأني محب، وكل محب بحبيبه مشغوف، وعن غير حبيبه مصروف.
وفي الحديث الذي حسنه الشيخ الألباني: (أكثر من ذكر الله حتى يقال إنك مجنون).
إذا كان حب الهائمين من الورى بليلى وسعدى يسلب اللب والعقل فماذا عساه يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى أحن بأطراف النهار صبابة وفي الليل يدعوني الجوى فأجيب وأيامنا تفنى وشوقي زائد كأن زمان الشوق ليس يغيب تملكتمو عقلي وطرفي ومسمعي وروحي وأحشائي وأعضاي باجمعي وتيهتموني في بديع جمالكم ولم أدر في بحر الهوى أين موضعي هذه أيام ذكر، والإنسان يردد بالذكر في هذه الأيام قائلاً: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، لبيك وسعديك والخير في يديك، لبيك والرغباء إليك والعمل، لبيك إله الحق، لبيك إنما العيش عيش الآخرة، لبيك ذا المعارج، لبيك ذا الفواضل.
ومعنى التلبية: متقرب إليك، مخلص لك، محب لك، مقيم على طاعتك، اتجاهي وقصدي إليك.
وقد اختلف أهل العلم هل تشرع التلبية بالتسبيح والأذكار والتهليل والتدبير في هذه الأيام أم لا؟ فاستحبه الإمام أحمد على الإطلاق، وقيده الشافعي برؤية بهيمة الأنعام.
وروى الإمام البخاري أن أبا هريرة وابن عمر كان يدخلان السوق فيكبران ويكبر أهل السوق لذلك.
وكان العلماء سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد يدخلون السوق فيكبرون لا يدخلون إلا لذلك.
فهذه أيام ذكر لله عز وجل.
كما أنها أيام صوم، فهذه الأيام التسع كان يصومها عبد الله بن عمر ويكملها صوماً، والغالب من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يصل الصوم في هذه الأيام، وهذه أيام ذكر لله عز وجل، فأكثر من ذكر الله عز وجل، وسيدنا أبو هريرة كانت له في اليوم والليلة اثنتا عشرة ألف تسبيحة.
وكانت رابعة بنت إسماعيل -زوجة الإمام أحمد بن أبي الحواري تليمذ الإمام أحمد - ريحانة الشام إذا طبخت قدراً من الطبيخ تقول لزوجها: كله يا سيدي، فوالله ما نضج إلا بالتسبيح.
وعندما تجلس زوجة الواحد منا بجوار (البوتجاز) وهي مشغولة بذكر الله عز وجل يغرس لها نخل في الجنة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قال سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة).
وما عرف التاريخ اسم زوجة الإمام البخاري، ولا اسم زوجة سفيان الثوري، ولا أنهما كانتا تجيدان المصطلح، وهذا الكلام لو أجدته لكان شرفاً عظيماً جداً، لكن الأساس أنها تعرف ما يصح به العقيدة، وجانب العبادات، ثم نريدها بعد ذلك عابدة، وبعدما تكون عابدة لو أخذت هذا العلم فهو خير عظيم، لكن أقل شيء أن يكون لها حال مع الله عز وجل في العبادة، فعندما يكثر منها الذكر، وقراءة القرآن، والصيام والقيام، والصمت، تتنزل عليها الرحمات، وتطيع زوجها، بعد هذا ممكن لها أن تطلب العلم، فيكون نزل على أرض صالحة للزراعة، ولكن أن تهتم بالعلم بدون عبادة ما ينفع، هذا ما ينفع عند الرجال فكيف عند النساء؟ نريدها عابدة، كما يقول أحمد بن أبي الحواري: والله إني ليرق قلبي بالنظر إلى وجه امرأتي أكثر مما يرق بالحديث مع إخواني؛ لما أرى عليها من كثرة الذكر والعبادة.
أما في هذا الوقت فإن الواحد منا أول ما تولد له زوجته ولداً ويبدأ يخطو تضيع عليه الركعة الأولى، وأول ما يقرأ ويكتب تضيع عليه الجماعة الأولى، وأول ما يتزوج فقد ركب السفينة، وأول ما يخلف وينجب من زوجته تقول له زوجته: ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الولد مجبنة مبخلة)؟ وهذا شيء مفروض وهو حب الولد، وحصر المساجد قد أخذت منك وقتاً كبيراً، وأنت من زمان تصلي جماعة، والجمهور يقولون بجواز الصلاة جماعة في البيوت، وأنا وأنت جماعة! واسأل الله أن يحفظ لنا ولدنا، ويمكن أن يكون مثل شيخ الإسلام ابن تيمية، أو ابن باز أو الألباني! فالشيطان قد يأتي من هنا، فكيف سيكون كذلك وأبوه استنوق الجمل، وتمخض الجبل فولد فأراً، لما أبوه ناخ هو يطلع ابن تيمية!! وقد قيل: إن فساد البداية علامة على فساد النهاية.
قيل لـ وهيب بن الورد: فلان عرف طريق الله ثم عاد منه، قال: لو وصلوا إليه ما رجعوا.
وتذكر أن امرأة فيها ضعف النساء تقول: يا إبراهيم آلله أمرك بهذا؟ فيقول: نعم.
فتقول: إذاً فلن يضيعنا.
فالأمر يحتاج إلى صدق مع الله عز وجل، هذه الدعوة تحتاج منا إلى الكثير والكثير، سيدنا إبراهيم عليه السلام ضحى بابنه الذي أعطيه على الكبر، فأبقى الله له هذا الولد الطيب، وأعطاه أخاً له وابن أخيه، فمتعه الله بولد ولده في حياته، بل جعل النبوة والكتاب فيهما فقط، وأعطاه يعقوب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده) فيسأل الله عز وجل درجة الإيثار وأعلاها لأولي العزم: للخليلين إبراهيم ورسولنا صلى الله عليه وسلم، فيقوم بدين الله كله كما كان سيدنا إبراهيم عليه السلام، فقد قدم ماله للضيفان، وولده للقربان، وجسمه للنيران، ورسول الله صلى الله عليه وسلم أوقف الأنفاس والحركات والسكنات والهم لله عز وجل، فإيثار محاب الله على محابك عند غلبات الهوى، والتسنم إلى مراقيه وإن صعب المرتقى، ثم بعد ذلك مطالعة القلب للأسماء والصفات، ومشاهدتها ومعرفتها.
يقول الإمام ابن القيم: المعرفة: فعل القلب أن يعلم الإنسان ثم يطبق ما يعلم، فيبقى علمه مصحوباً بعمل، كما قال الإمام ابن القيم علم مصحوب بعمل؛ لما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا أعلمكم بالله).
وفي رواية: (أعرفكم بالله).
قال الإمام البخاري: المعرفة: فعل القلب، أو عمل القلب، أن تعرف أسماء الله عز وجل وصفاته، وأن تعمل بها، وتتقلب في بساتين ورياض هذه المعرفة، وهذا العلم من أشرف العلوم الشرعية، فعلم الأسماء والصفات ليس مجرد ذكر للأسماء والصفات، أو أنك تقول: بدون تأويل ولا تحريف ولا تعطيل، ولا تفويض، فاسم الله الملك يعني: أن الله عز وجل له ملك الدنيا والآخرة، له ملك السماوات السبع، والأراضين السبع وما بينهما، وما تحت الثرى، وما فوق السماوات السبع، فهو المالك وهو الملك، تعلم هذا، وتعلم أن كل من نازع الله عز وجل في كبريائه أو في ردائه قصمه الله عز وجل، عندما تقف طويلاً أمام اسم مثل الملك، وأن ملك الله عز وجل غير محدود، وملك غيره محدود وفانٍ، وملكه سبحانه لا ينقص منه شيء رغم جوده وكرمه، وكيف ينقص ملك هو قيمه، أبخيل فيبخله عبده؟! أليست الدنيا والآخرة والكرم والجود والفضل بيده؟ عندما تنظر في اسم الملك تعرف منه دينونة الكائنات كلها لله عز وجل ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له الفرخ في عشه ونسر السماء الجارح الكاسر يدين له النجم في أفقه(11/7)
الحياء
الحياء خلق عظيم من أخلاق الإسلام، وهو صفة من صفات الصالحين الصادقين، وهو مما أدركنا من كلام النبوة الأولى.
وما انتشرت الفواحش والمعاصي والذنوب إلا بسبب نزع الحياء من قلوب الخلق.(12/1)
رقابة الله على عباده توجب الحياء منه سبحانه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وسلم، وبعد: أخي! اجعل مراقبتك لمن لا تغيب عن نظره، واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك، واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه، وخضوعك لمن لا تخرج عن ملكه وسلطانه.
فالحياء على قدر حياة القلب، وكلما كان القلب أحيا كان الحياء أتم.
وأشد آية باعثة على الحياء قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:14].
وقول الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] أي: وملائكتنا أقرب إليه من حبل الوريد، وهذا بإجماع علماء التفسير.
ويقول الله عز وجل: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:80].
ويقول الله عز وجل: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت:54].
وقال الله عز وجل: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المجادلة:6].
وقال الله عز وجل: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} [الأحزاب:52].
وقال الله عز وجل: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13].
وقال الله عز وجل: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:19].
ومن أسماء الله عز وجل الرقيب والعليم والخبير والحكيم والمحصي والشهيد، وكلها خاصة بعلم الله عز وجل.
فالعليم: الذي يعلم جميع المعلومات.
والحكيم: الذي يعلم دقائق العلم.
والشهيد: الذي يعلم ما غاب وما حضر، والمحصي: الذي لا تغيب عن علمه غائبة.
والخبير: الذي يعلم دقائق العلم، ويعلم الكليات كما يعلم الجزئيات، وكلها خاصة بصفة العلم لله تبارك وتعالى.
وعلم الله عز وجل ليس كعلم المخلوقين، فالله تبارك وتعالى يعلم ما كان وما هو كائن وما لم يكن لو كان كيف يكون.
وهو العليم أحاط علماً بالذي في الكون من سر ومن إعلان وكذاك يعلم ما يكون غداً وما قد كان والموجود في ذا الآن وكذاك أمر لم يكن لو كان كيـ ـف يكون ذا الأمر ذا إمكان فعلم المخلوقين قاصر، مبدوء بجهل ويعتريه النسيان، وأما علم الله عز وجل فهو علم كامل.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد طعم بهن طعم الإيمان: من عبد الله وحده، وعلم أنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة، ولكن من أواسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره)، وزاد البيهقي في روايته التي صححها الشيخ الألباني قال: (وزكى نفسه، فقال رجل: وما زكى نفسه يا رسول الله؟! قال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان).
وقال سيدنا عبد الله بن عمر: لا يجد عبد صريح الإيمان حتى يعلم أن الله عز وجل معه، ويعلم أن الله تعالى يراه، فلا يعمل سراً يفتضح به يوم القيامة.
والحياء رؤية آلاء الله تبارك وتعالى عليك، ورؤية التقصير منك في حق الله عز وجل، فيتولد منهما وبينهما خُلق يبعث على ترك القبيح.
فرؤية الآلاء والتقصير يتولد منهما خُلق يسمى الحياء، يبعث على ترك القبيح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وفي الرواية الأخرى: (آخر ما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت).
وهذه الجملة: (إذا لم تستح فاصنع ما شئت) تندرج تحتها ملايين الأمثلة.
كريمان حمزة كانت مذيعة تلفزيونية، وكانت تقدم البرامج الدينية، ولخصت تجربتها مع التلفاز في كتاب سمته: لله يا زمن.
و (لله يا زمن) هو مثل، فقد كان رجل موسيقار يقف أمام كل بيت يعزف، فتخرج المرأة وتعطيه شيئاً، وفي يوم من الأيام وقف أمام جامع، وهو يظنه قصراً كبيراً لرجل غني، فقال: سأمكث هنا أعزف حتى الصباح، فمكث يعزف طول النهار فلم يعط شيئاً، فقال له شخص: ما هذا؟ قال: أليس هذا قصر كبير من الكبراء؟ قال له: يا عم! إن هذا مسجد! فقال: لله يا زمن، يعني: تعبه ذهب على قلة الصيد مثلما يقولون.
فهي تقول: إنها كانت تعد برنامجاً عن العشرة المبشرين بالجنة، فقال لها رئيس التلفاز السابق الذي ذهب إلى الحضيض: هذا البرنامج لن يمر إلا على جثتي إن مر.
ثم سألها: لماذا تعملين العشرة المبشرين بالجنة كلهم من الصحابة، اعملي خمسة من هنا وخمسة من العشرة، وقد كان هذا أيام عاطف صدقي رحمه الله رئيس الوزراء السابق، فسألنا: لماذا لا يكون وزير الإعلام منهم؟ بل إن هناك مصدراً صحفياً أبلغ الوزير أن العشرة هؤلاء كلهم كانوا من الإرهابيين المتطرفين؛ من أجل ألا تصل هذه المعلومات إلى الناس، وقد سجلت هذا بخطها في كتابها: لله يا زمن.
قال صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إذا لم تستح فاصنع ما شئت)، وهذا مثلما يقول بعض الناس: إن اليهود أبناء عمومته، في حين أن هؤلاء اليهود جاءوا من الاتحاد السوفيتي، ومن الحبشة، وهم ليسوا من بني إسرائيل، وقد كانوا يقولون: إن لنا حقاً تاريخياً في القدس، فإذا سئلوا: لماذا؟ قالوا: نحن بنو إسرائيل -أي يعقوب- وبنو يعقوب قد انقرضوا، أما هؤلاء اليهود فنصفهم أو ثلاثة أرباعهم جاءوا من الاتحاد السوفيتي، ومنهم من أتى من أواسط أفريقيا وأوربا، وليس هناك أي صلة تجمع بينهم وبين نبي الله يعقوب، فهؤلاء ليسوا بني إسرائيل من الناحية التاريخية.
وأما من الناحية الدينية: فيعقوب بريء منهم، فقد قالوا عنه ما قالوا، قالوا: إن يعقوب سرق مواشي حميه وهرب بها ليلاً.
وقالوا: إن رهابيل بن يعقوب الأكبر زنى بامرأة أبيه، وإن يعقوب علم بذلك وسكت.
وقالوا: إن يهوذا بن يعقوب زنى بامرأة ابنه بعد موته، يعني: جعلوا من بيت يعقوب نبي الله بيت دعارة وزنا بالمحارم! ونحن أولى بيعقوب منهم، قال تعالى: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [آل عمران:67].
فسيدنا يعقوب وذريته من بعده مسلمون خلص، وهم أبعد الناس عن يهود هذا الزمان.
وأجمع علماء المسلمين على أن اليهود والنصارى الآن كافرون مشركون، وهذا هو القول الفصل، وفي سورة النساء في الآية مائة وواحد وخمسين حكم فاصل في هذه المسألة ونص واضح صريح جلي.(12/2)
فضل الحياء
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لكل دين خلقاً وإن خلق الإسلام الحياء).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء لا يأتي إلا بخير).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء والإيمان قرنا جميعاً، إذا رفع أحدهما رفع الآخر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإيمان بضع وستون شعبه، والحياء شعبة من شعب الإيمان).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة، والبذاء من الجفاء، والجفاء في النار).
وقال صلى الله عليه وسلم: (الحياء والعي) والعي: سكوت الإنسان كثيراً وعدم نطقه كثيراً؛ خشية الوقوع في الخطأ والمعصية.
(الحياء والعي شعبتان من شعب الإيمان، والبذاء والبيان شعبتان من شعب النفاق).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ما كان الفحش في شيء قط إلا شانه، وما كان الحياء في شيء قط إلا زانه).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يستحي أن يرفع العبد إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إن الله حيي ستير يحب الحياء والستر، فإذا اغتسل أحدكم فليستتر).
فالحياء صفة من صفات الله تبارك وتعالى، وحياء الله تبارك وتعالى لا تكيفه الأفهام ولا تحيط به العقول، فالله حيي ستير، يستحيي أن يعذب عبده المؤمن بعدما شاب في الإسلام، ويستحي من عبده الذي يرفع إليه يديه أن يردهما صفراً خائبتين، ويستر على العاصي والجاني ولا يفضحه.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله: من وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إلى الله عز وجل بزمامه، وأدخلته على ربه، وأدنته وقربته من رحمته، وصيرته محبوباً له، فإن الله حيي يحب أهل الحياء، جميل يحب الجمال، رحيم يحب الرحماء، كريم جواد يحب الجود، قوي يحب المؤمن القوي.(12/3)
أقسام الحياء
والحياء يا إخوتاه! على عشرة أقسام: حياء الجناية، وحياء التقصير، وحياء الإجلال، وحياء الكرم، وحياء الحشمة، وحياء استصغار النفس، وحياء النفوس الكبيرة، وحياء المحبة، وحياء العبودية، وحياء المستحيي من نفسه، وسنشرح هذه الأقسام العشرة قبل أن نتكلم عن الحياء.(12/4)
حياء الجناية
أما حياء الجناية فهو ناشئ عن المعصية، فإذا عصى العبد ربه وعلم أن الله ناظر إليه ومطلع عليه استحيا من ربه، مثل حياء آدم عليه السلام لما أكل من الشجرة وفر في الجنة، فقال له الله عز وجل: يا آدم! أفراراً مني؟ قال: لا، بل حياء منك يا رب! ومن هذا القسم حياء الأنبياء في عرصات القيامة، كما جاء في الحديث الصحيح عن قتادة عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، قال: فيأتون آدم فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا عند ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا، فيقول: لست هناكم، فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي منها).
وهنا لنا وقفة: فقد أخطأ الشيخ طارق حينما نفى النبوة عن آدم، وتكلم في ذلك علماء السعودية الأجلاء الكبار أهل العلم؛ وفي الصحيح أنه سئل صلى الله عليه وسلم: (أنبياً كان آدم يا رسول الله؟! قال: نبياً مكلماً)، يعني: اختصه الله بالتكليم كما اختص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما اختص موسى عليه السلام بالتكليم.
قال صلى الله عليه وسلم: (فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحيي منها)، وفي هذا الحديث أن كل نبي يذكر خطيئته، فقال عن سيدنا نوح عليه السلام: (فيذكره خطيئته التي أصاب فيستحيي منها، فيقول: لست هناكم اذهبوا إلى إبراهيم، ويذكر خطيئته التي أصاب).(12/5)
مذهب أهل السنة في وقوع المعاصي من الأنبياء
ومن قواعد أهل السنة والجماعة في العقيدة: جواز الصغيرة على الأنبياء بعد النبوة، ولكنهم إذا فعلوها أقلعوا عنها في الحال، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا مذهب السلف لا يعرف لهم مذهب سواه.
فلا تجوز الكبيرة أو الكفر على الأنبياء بعد النبوة، ولكنهم تجوز عليهم الصغيرة، والفرق بينهم وبين البشر: أنهم إذا فعلوا الصغيرة تابوا منها في الحال وأقلعوا عنها، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة؛ لقول الله عز وجل: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، والغواية لا تكون إلا عن معصية.
الفضيل بن عياض وهو من سادات أهل السنة والجماعة وكان سيدنا سفيان بن عيينة إذا لقيه يقبل رأسه ويده، وكان صاحب الكلمة الطيبة في هضم النفس، ولما أخذ بيد سفيان بن عيينة إلى خارج الحرم قال له: إن كنت تظن أنه قد بقى على وجه الأرض من هو شر مني ومنك فبئس ما تظن، يعني: أنا وأنت شر اثنين في المسلمين.
هكذا كانت أخلاق السادة، وكان يقول: لو خيرت بين أن أبعث فأدخل الجنة وبين ألا أبعث لاخترت ألا أبعث، فقيل لـ محمد بن أبي حاتم: مم هذا؟ قال: من الحياء، يعني: حياء من الله عز وجل، وحياء من مقابلته عز وجل.
وشهد الفضيل بن عياض عرفات وإذا بدموعه تتساقط على وجنتيه، وكان يقول طيلة اليوم: واسوءتاه منك وإن عفوت! يا خشية العبد من إحسان سيده يا حسرة القلب من ألطاف معناه فكم أسأت وبالإحسان قابلني واخجلتي واحيائي حين ألقاه يا نفس كم بخفي اللطف عاملني وكم رآني على ما ليس يرضاه يا نفس كم زلة زلت بها قدمي وما أقال عثاري ثم إلا هو والأسود بن يزيد عندما احتضر بكى وجزع، فقيل له: لم الجزع؟ قال: ومن أحق بالجزع مني، والله لو أتيت بالمغفرة من ربي لأهمني الحياء منه، إن الرجل ليكون بينه وبين الرجل الذنب الصغير فيعلم أنه قد عفا عنه فيستحيي منه عند لقائه.
وقال الحسن البصري: لو لم يكن البكاء إلا من هذا لكان حرياً أن يطول بنا البكاء.
والإمام أحمد دخل عليه أبو حامد القلقاني فقال له: ما تقول في الشعر؟ قال: مثل ماذا؟ قال: مثل قول القائل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفى الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني فجر الإمام أحمد ثوبه وأخذ نعله، ثم أغلق عليه باب الدار وسمع نحيبه من خلف الباب، وهو يقول: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام على اللذات عيناه أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه؟(12/6)
حياء التقصير
والنوع الثاني من الحياء: حياء التقصير، كحياء الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون، فإذا كان يوم القيامة قالوا: سبحانك! ما عبدناك حق عبادتك.
وكذلك حياء الصالحين من الله عز وجل ورؤيتهم لتقصيرهم في حقه، وأن جنابه عزيز كريم.
وما قدروا الله حق قدره.
من هذا الباب نظروا في أحوالهم بعين الدعاوى، وفي أعمالهم بعين التقصير، وكان إمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي عمره ويجعل أنفاسه وقفاً على الدعوة إلى الله عز وجل، حتى إذا قرب الموت منه قال له الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].
وهذا إعلام من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم بقرب وفاته وأمر له بالاستغفار.
ونوح عليه السلام بعد أن قضى في الدعوة ألف سنة إلا خمسين عاماً يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28].
وكان دعاء نبينا صلى الله عليه وسلم بعد التحلل من الصلاة: (غفرانك، غفرانك)، يعني: كأن هذه العبادة قاصرة عن مقام الله العظيم.
وكان إذا توضأ قال: (اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين).
وقال تعالى لمن انصرف من الحج: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة:199].
وقد كانوا يمدون صلاتهم طيلة الليل، فإذا كان السحر وقرب الفجر أنزلوا أنفسهم منزلة العصاة وكأنهم أسرفوا طيلة ليلهم في الجرائم، يقول الله تبارك وتعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17]، بل إنهم يستغفرون بعد الموت في عرصات القيامة حين مرورهم على الصراط، حين يكون دعاء النبيين والمرسلين والمؤمنين: الله سلم سلم، فهم يقولون: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا} [التحريم:8].
والمؤمن أسير الحق لا يزول عنه خوفه، ولا يسكن اضطرابه حتى يخلف جسر جهنم وراءه، ومن ربك الفضل والكرم.(12/7)
حياء الإجلال
حياء الإجلال، وهذا يكون على قدر العلم والمعرفة، كحياء سيدنا عمرو بن العاص رضي الله عنه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال رضي الله عنه: والله إن كنت لأشد الناس حياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما ملأت عيني من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا راجعته بما أريد حتى لحق بالله عز وجل؛ حياء منه.
ويقول أيضاً في رواية: إنه لم يكن شخص أبغض إلي من النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أسلمت لم يكن شخص أحب إلي منه ولا أجل في عيني منه، ولو سئلت أن أصفه لكم ما استطعت؛ لأني لم أكن أملأ عيني؛ إجلالاً له.
وهذا كما قال الشاعر: أشتاقه فإذا بدا أطرقت من إجلاله لا خيفة بل هيبة وصيانة لجماله الموت في إدباره والسعد في إقباله وأصد عنه إذا بدا وأروم طيف خياله فلم يكن يرفع نظره إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ إجلالاً لمقام النبوة، وحياء من النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذا فعل سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن شجرة تشبه المسلم، فوقع الصحابة في شجر البادية، وقال سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: ووقع في نفسي أنها النخلة، فاستحييت لمقام كبار الصحابة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
فهذا حياء الإجلال.
ومنه حياء سيدنا عبد الرحمن بن مهدي -أمير المؤمنين في الحديث- من شيخه سفيان الثوري، فقد كان عبد الرحمن بن مهدي يحضر درسه تسعون ألفاً ومعهم المحابر، وكان إذا لقي شيخه سفيان الثوري لا يستطيع أن يرفع نظره إليه؛ هيبة وإجلالاً له.
فهذا الذي كان يحضر له تسعون ألفاً ما كان يستطيع أن يرفع نظره في وجه شيخه سفيان الثوري، مع أن سيدنا سفيان الثوري قال عنه يحيى بن أبي غنية: كان أصفق الناس وجهاً في ذات الله عز وجل، يعني: كما يقولون: وجهه منزوع منه الحياء في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يعرف فيه حتى أباه.
ودخل مرة على الخليفة المهدي وهو من هو، فأغلظ له القول، وأمره بالمعروف ونهاه عن المنكر، فقال له وزير الخليفة أبو عبيد الله: لقد شققت على أمير المؤمنين بمثل هذا؟ فقال: اسكت، فما أهلك فرعون إلا هامان، وبعد أن انصرف سفيان الثوري قال الوزير أبو عبيد الله: يا أمير المؤمنين! ائذن لي أن أضرب عنقه، قال: اسكت، وهل بقي في الأرض من يستحيا منه غير هذا؟ يقول: كلما جاءنا رجل أو عالم يعظنا ويزهدنا في دنيانا إذا ما قدمنا له شيئاً من دنيانا قبله، إلا سفيان فإنه ما أخذ من دنيانا شيئاً، فهو أجرأ الناس علينا من أجل هذا.(12/8)
حياء الكرم
وحياء الكرم، كحياء النبي صلى الله عليه وسلم لما صنع وليمة في عرس زينب وأتى الناس إليه وأطالوا عنده الجلوس، فاستحيا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالانصراف حتى عاتبهم الله عز وجل بقوله: {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ} [الأحزاب:53].
وتجد بعض الإخوة مثلاً يعلمون حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا سمر بعد العشاء إلا في حضرة ضيف أو عرس).
ومع ذلك يحضر إخوانه على الشاي والكركديه والحلوى، وإن كان عنده عشاء عشاهم، ونريد أن يترك وقتاً هكذا للتهجد وللخلوة بالله تبارك وتعالى.
وأنت لا تستغل كرم أخيك وتضيع له عمره، كما أتى جماعة إلى عابد من العباد وطولوا عنده الجلوس فقال لهم: إن ملك الشمس يسوقها، فمتى تريدون القيام.
وأتى عابد إلى أخ له فوجد عنده قوماً قد أطالوا الجلوس، فقال له: صرت مناخ البطالين لا أجالسك أبداً! فهذا الوقت جواهر تملأ بها خزائنك يوم القيامة، والتسبيحة الواحدة تغرس لك بها نخلة في الجنة، ولو أن أحداً منعك من نخلة ذهب أو جلس معك خمس دقائق وضيع عليك مثلاً عشرة مليون جنيه، فإنك ستأخذه من يده ورجله وتقول له: اخرج، تضيع علي عشرة مليون جنيه في ربع ساعة؟! فما ظنك بنخل الجنة وهي بتسبيحة واحدة؟ والتسبيحة الواحدة بنفس، فمن قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة.
فداوم على هذا كل يوم، ولا تنفض عنها، فالدنيا كلها عمل.
والعلم موقوف على العمل، والعمل موقوف على الإخلاص لله، والإخلاص لله يورث الفهم عن الله تبارك وتعالى.
فلا تقل إن هذا الأخ أراد أن يتعشى أو يشرب شاياً، وإنما قل له: أنا أعطيتك ما تريد، ثم اذهب فأنا مشغول.(12/9)
حياء الحشمة
حياء الحشمة، وهذا ارتفع تماماً من دنيا الناس إلا من رحم الله؛ بسبب التلفاز، ومن حياء الحشمة حياء سيدنا علي بن أبي طالب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: (كنت رجلاً مذاء فأمرت المقداد أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني، فسأله فقال: فيه الوضوء).
يعني: الشيء المتعلق بأمر النساء والجماع لا تسأل نسيبك عنه، فلا يجلس الرجل يتكلم مع نسبه ويحكي النكت أو يتحدث في الكلام المتعلق بالفراش، فما ظنك بالذي يحضر ابنته بجانبه وهو يشاهد فيلم السهرة! ثم بعد ذلك يظهر منظر خادش للحياء فيقول لها: انهضي حتى لا تشاهدي هذا المنظر، أنت قليلة أدب، وإنما هو قليل الأدب؛ فهي ستقوم وتترك المكان ولكنها ستراه لا زال جالساً، أفلا يستحي هو؟ وقديماً قبل أن تعرف النساء الحجاب أو النقاب كانت الواحدة لا تستطيع أن تمشي في الشارع إلا وهي واضعة للطرحة على رأسها؛ من أجل أن عمها في أول الشارع ومعه بعض الرجال، وفي هذا الوقت من تمام الإيتكيت أن العريس يأخذ عروسه إلى المسرح ويرقص معها، فارتفع حياء الحشمة نهائياً من دنيا الناس إلا من رحم الله تبارك وتعالى.(12/10)
حياء استحقار النفس
حياء الاستحقار واستصغار النفس، وهو أن الإنسان إذا كانت له نفس علية يستحي أن يصدر منه الشيء الصغير، مثل الرجل الذي قدم له غني من أبناء الدنيا مالاً فقال: إني والله أستحي من ربي أن أسأله الدنيا وهو خالقها ومالكها، فكيف أسألها من غير مالكها؟! ويأتي إليك شاب طويل وعريض وهو مكروب مهموم، فتسأله: ما لك يا أخي! هل أنت تعد خطة حربية مثلاً للاستيلاء على مدينة وضاعت منك في آخر لحظة؟ فيقول لك: لا، وإنما في هذا اليوم يمكن أن إبراهيم حسن لن يلعب مع الزمالك.
وهناك إخوة كثيرون يستيقظون الصبح وليس همهم غير المباريات، وسيدنا أبو موسى الأشعري قال لما رأى الناس قد بدت عوراتهم: لأن أموت ثم أنشر ثم أموت ثم أنشر ثم أموت ثم أنشر خير لي من أن أرى عورة رجل أو يرى رجل عورتي.
وقد اختلف العلماء في حد العورة: هل هي من السرة إلى الركبة أو العورة المغلظة فقط؟ والذي لا يهتم إلا بالمباريات هو الرجل الصفر، وكما يقول الشيخ إبراهيم الدويش: الرجل الصفر ليس له مكانة، سواء وضعته على اليمين أو على الشمال، فهو الصفر موضوع على الشمال، وهو ليس مثل أم الشيخ محمد رشيد رضا، فقد كانت إذا لقيت ابنها مهموماً تقول له: ما بك يا محمد! هل مات اليوم أحد من المسلمين في الصين أو فلسطين؟! ومن حقارة النفس أن يشغل الإنسان نفسه بتوافه الأمور، والدنيا تصب جام غضبها على المسلمين في كل مكان: بيروت في اليم ماتت قدسنا ذبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا وعظائم الأمور عندما تحل بالأمم تجعلها تفيق من غفلتها ومن نومها الثقيل، والإنسان عندما يجد بيته قد انهدم واحترق وأولاده في الشارع يصحو، فما باله إذا رأى أن أخوته يقتلون ويذبحون كل يوم لا يحرك ساكناً؟ وإن الرجل يقول: لو فتح باب الجهاد فكلنا سنخرج، وربما خانتك نفسك بسبب المعاصي، ولا تقدر أن تخرج بسبب الذنوب، فاتق الله عز وجل.(12/11)
حياء المحبة
وحياء المحبة بالنسبة لمحبة المبشر مثل شخص عاقد ينظر إلى زوجته أول مرة، ويجلس معها بعد العقد، فهي زوجته ورغم هذا تلقى وجهه أحمر ورجليه تضرب في بعضها وينسى الكلام، فتسأله: ما اسمك؟ فيخرج البطاقة وينظر، وهي زوجته! فهذا يسمى حياء المحبة.
يقول الشاعر: فما هي إلا أن أراها فجاءة فأبهت حتى ما أكاد أجيب وإني لتعروني لذكراك هزة لها بين جلدي والعظام دبيب أعاذنا الله عز وجل وإياكم من المحبة المحرمة.
والمحبة في الله عز وجل لون آخر يليق بقدر الله عز وجل، فمن علم أن الله قريب منه يستحيي منه أن يراه ساكناً إلى خلقه، فيبغض إليه كثرة المخالطة للخلق ويحبب إليه الخلوة بالله تبارك وتعالى وألذ الأوقات عنده أوقات المناجاة وساعات التنزل الإلهي، وقد خلا كل حبيب بحبيبه، وغلقت الملوك أبوابها، وباب ملك الملوك مفتوح لمن دعاه، فمن ذا الذي أملك لنائبة فقطعت به دونها؟ أم من ذا الذي رجاك لعظيم جرمه فلم تغفر له؟ يا مؤنس الأبرار في خلواتهم يا خير من حطت به النزال قيل لعابد: ما أطيب شيء؟ قال: سرداب أخلو به فيه، وكان ابن تيمية رجلاً ربانياً من هذا الطراز، فكان إذا صلى الفجر خرج إلى الصحراء، ويقول: وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك القلب بالسر خاليا وأحلى أوقات المناجاة جوف الليل الآخر، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مؤمن يسأل الله عز وجل شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة) فبعد ما ينام الخليون يقوم العابدون إلى محاريبهم تتقاطر دموعهم على خدودهم، ويشرف الجليل من السماء ويقول كما في الأثر عن الفضيل بن عياض: يا جبريل! بعيني من تلذذ بكلامي، واستراح لذكري، لم لا تنادي فيهم يا جبريل! ما هذا البكاء؟ هل رأيتم حبيباً يعذب أحبابه، أم كيف يجمل بي أن آخذ قوماً إذا جنّهم الليل خلوا بمناجاتي؟ والله لأكشفن لهم عن وجهي وأنظر إليهم يوم القيامة.
فإذا علمت بقرب الله عز وجل منك فيدفعك هذا القرب إلى الاستيحاش من البعيد عنك، ويبغض إليك كثرة المخالطة للخلق، ويحبب إليك الخلوة والمناجاة بمولاك تبارك وتعالى.(12/12)
حياء العبودية
وحياء العبودية هو حياء يجمع ما بين المحبة والخوف ومشاهدة عدم صلاح عبوديته لمعبوده، فيرى أن عبوديته ناقصة قاصرة عرجاء، كالذي كان يقوم الليل حتى تتورم قدماه ولا يأتي فراشه إلا زحفاً، ثم يقول لنفسه: قومي يا مأوى كل سوء! وهل رضيتك لله طرفة عين؟! زين القراء محمد بن واسع لما قال: واشوقاه إلى إخواني، قيل له: أليس قد نشأ شباب يعلمون السنة؟ فتفل ثم قال: أفسدهم العجب، ضيعهم الكبر الذي عندهم.
ومثقال ذرة من كبر تحول بينك وبين دخول الجنة.(12/13)
حياء الشرف والعزة
وحياء التلوم والشرف والعزة: فالنفوس الكبيرة إذا صدر منها ما هو أقل من قدرها تأنف، مثل رجل اعتاد أن يعطي لإخوانه مثلاً من (100 جنيه)، ثم مر على إخوانه فأعطى كل رجل منهم ذات يوم قرشاً فإنه يخجل؛ لأنه قد عودهم على الشيء الكبير العظيم، فكيف يعطيهم التافه؟ فيخجل وكأنه هو الآخذ لا المعطي، فتجده عندما يعطي إخوانه يستحيي منهم، ولا يستطيع أن يرفع نظره إلى إخوانه، فهذا حياء شرف النفس وعزتها.(12/14)
الحياء من النفس
وحياء المرء من نفسه، فالرجل الشريف القدر العظيم النفس يجعل من نفسه نفسين: نفساً تفعل الشيء، ونفساً تحاسبها وتعاتبها وتراقبها: كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى مهجتي وجناني فاجعل من نفسك رقيباً على نفسك، وقل لها: قومي يا مأوى كل سوء! وهل رضيتك لله طرفة عين؛ فاجعل من نفسك على نفسك مخبراً ورقيباً، وراقب الله عز وجل، مثل عمرو بن عبد قيس كان ينام في البرية، فقيل له: أما تخشى الأفعى وأنت نائم في الفلاة هكذا؟ قال: إني أستحي من الله أن أخشى شيئاً غيره وأنا في سلطانه، أي: هذا سلطان الله وملكه، وأنا عبده، والمخلوق لا يملك له ضراً ولا نفعاً.
ومثل عمرو بن عتبة بن فرقد كان يقوم الليل وهو في الجيش فلا يتحارس الجيش؛ لكثرة صلاة عمرو بن عتبة بالليل، فجاء السبع مرة فولى الجيش إلا عمرو فلم ينصرف من صلاته، فلما صلى قال للسبع: انصرف، فقالوا له: أما خفت الأسد؟ قال: إني أستحيي من الله عز وجل أن أخشى شيئاً غيره وأنا بين يديه.
وسقطت حديدة عند مسجد العزيز في جمعة الشيخ محمد حسان، وهذه الجمعة يحضرها اثنا عشر ألفاً أو عشرون ألفاً، فعندما سقطت ظنوا أنها قنبلة، فصاح الذين في المسجد وخرجوا منه، وسقطت الموبايلات، والمحافظ، وجرى من جرى وهرب من هرب، وخرج البعض من المسجد وطلب ماكنة حلاقة من أجل أن يتخلص من لحيته حتى لا يتهم، والشيخ محمد واقف يتعجب منهم، أهؤلاء خلاصة الخلاصة؟ فإذا كان حال هؤلاء هكذا فكيف بغيرهم؟! فالعملية تريد مراجعة كبيرة جداً، والإخوة الذين حضروا هذا لن ينسوه أبداً، والإخوة هم الذين صاحوا وهربوا، وأما الأخوات فلا أخت صاحت، فكانت النساء في هذا الموقف أشجع، وأما الرجال فخمس دقائق ولم يبق منهم أحد.
كان أبو الحسن بنان الحمال شيخ الإسلام عابداً، ذهب إلى ملك مصر أحمد بن طولون فأمره ونهاه، فجوع سبعاً وألقاه إليه، وبعد أيام فتحوا عليه فوجدوا السبع بجانبه يشمه، فقالوا له: أين كان قلبك والسبع يشمك؟ فقال: كنت أفكر في اختلاف العلماء في سؤر السباع، أهو نجس أو طاهر؟ وقد ينكر بعض الناس مثل هذه الحكايات؛ لأنها متعلقة بالأسود، والأسود جبلت على الوحشية، ولكن نقول: هي ثابتة مذكورة في تواريخ الإسلام، مثل: سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، ولها أثر من السلف عن سيدنا سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وخادمه.
وقد حسن الإمام الألباني عليه رحمة الله حديث جابر بن عبد الله من رواية محمد بن المنكدر: أن سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وقع في الأسر، ففر من الأسر، فبينما هو في الطريق إذ طلع عليه الأسد فتقدم منه، وقال له: يا أبا الحارث! -كنية الأسد- أنا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان من أمري كيت وكيت فحكى للأسد الذي حصل له من أنه وقع في أسر الروم وفر منهم، فبصبص الأسد، يعني: حرك ذنبه يميناً ويساراً احتراماً له، وكأنه يقول: أنا أمام رجل كبير القدر، وسار معه حتى أوصله إلى مأمنه.
فإذا علمت أن الله قريب منك مطلع عليك عالم بحالك وأنك في سلطانه فلا تخش شيئاً غيره.(12/15)
مقامات الحياء
إن مقامات الحياء مقامات عظيمة، ولذلك كان الحياء خلق الإسلام، والدرجة الأولى منه: أن تبغض إليك المعصية، فإذا علمت أن الله قريب منك فسيحملك هذا على استقباح الجناية، فتنظر إلى أدنى ذنب بأنه كبير في حق الله عز وجل؛ لأنك تعلم أن الله ناظر إليك في كل لحظة، وأنت مقيم على معصيته وعلى مخالفة أمره دق أو جل، صغر أم كبر، فقل: يا رب! أتراك ترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك! فلا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.
فالدرجة الأولى من الحياء تبغض إليك المعصية، وتحملك على استقباح الجناية، وتمنعك عن الشكوى لغير الله عز وجل، إلى درجة أن إحدى العابدات عندما جاءت إلى الإمام أحمد تسأله الأسئلة التي لا يسأل عنها العلماء اليوم، فقالت له: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ قال: ما سمعت مثل هذا السؤال من قبل، ونرجو ألا يكون كذلك، قالت: يا إمام! إذا مرت الظاهرية -وهم أناس من الأمراء الظلمة- غزلنا غزلنا على ضوئها، فهل نبينه للناس، قال: افعلي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: تتبعها إلى أي البيوت تدخل، فقال له: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع.
فالإمام أحمد غابت عنه هذه المسألة، حتى كان في مرض الموت، فقيل له: إن طاوساً يقول: أنين المريض شكوى، وفي البداية كان الإمام أحمد يقول: نرجو ألا يكون كذلك، فغابت عنه هذه المسألة، ثم فهمها الإمام عند الموت، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات، ولذلك تجد العباد يقولون: تفقهوا في مذاهب الإخلاص.
وأشرف العلوم علم الأسماء الحسنى، فتعرف على كل اسم، وكيف تتعبد لله عز وجل بهذا الاسم والصفة، وانظر الصفات في المخلوقات، فتجد نفسك في وادٍ والناس في وادٍ آخر، فعندما تعرف مثلاً اسم المقيت من أسماء الله عز وجل، وتعرف أن المقيت هو الذي يعطي كل مخلوق قوته الضروري، وتعرف مثلاً أن عدد أنواع النمل 12000 نوع، وتحت كل نوع آلاف الملايين، وهذا صنف واحد، ثم الحشرات أكثر من ألف نوع، والطيور والأسماك كذلك، والنجوم لا يحصى عددها؟ والمجرات مائة ألف مليون مجرة، هذا في الجزء المرئي من السماء فقط، وعدد النجوم في كل مجرة ما يقرب من مائة ألف مليون نجم، وهذه تحتوي على نواة ونوية، وكل شيء حي يحتوي على خلايا حيه، والخلايا فيها سيتوبلازم وجدار للخلية ونواة ونوية، فمن الذي يعطي لكل مخلوق من هذه المخلوقات قوته الضروري في وقت واحد؟ وكم أمات وأحيا في وقت واحد؟ فإذا علمت هذا استحييت أن يراك الله راكناً إلى بعض خلقه، وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، ومن له ملك الدنيا والآخرة، وملك السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى: ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له الزاحف الناشر فكل عبيد له، وكل له قانتون، قهرهم بحكمه وبملكه، وأمره ومشيئته نافذة في خلقه.
إذا علمت أنه قريب منك فيقبح بك الشكوى إلى غيره: وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، والشكوى إلى الله ليست بشكوى.
الدرجة الثانية: علمك بقرب الله عز وجل فتبغض إليك كثرة المخالطة.
الدرجة الثالثة: وهي التي يقول عنها الإمام ابن القيم: شهود الحضرة وانجذاب القلب والروح من الكائنات وعكوفه على رب البريات.
وهناك درجات في القرب من الله عز وجل لا تحيط بها الأفهام، فتطير القلوب إلى الله عز وجل وتسجد تحت العرش، فمثلاً: بالله عليك هل حال قلبك هذا اليوم كحاله وأنت في أيام الاعتكاف وعكوف القلب وجمعيته على الله عز وجل في العشر الأواخر من رمضان؟ وأنت تريد أن تختم المصحف كل يوم؟ ويجوز لك العلماء الوصال إلى قبل أكلة السحور بقليل، فتجمع ما بين السحور والإفطار وأنت في أيام جمعية القلب وعكوفه على رب البريات.
فعندما يكون القلب عاكف على رب البريات في كل لحظه، في رمضان وشوال، وكل الأيام عنده ليلة القدر كيف يكون هذا الراجل! ولو أن شخصاً سمع سيدنا الشيخ المنشاوي يقرأ الزمر أو آل عمران أنه يريد أن يطير طيراناً، فما ظنك إذا كنت كل لحظات حياتك هكذا، فإنك تجد معاني في القرب لا تكيفها الأفهام ولا تحيط بها العقول، وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فهذه لا تحيط بها الأفهام: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب كيف نزوله تضيق بنا الدنيا إذا غبتمُ عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا فكيف بالله عز وجل! بعادكم موت وقربكم حياة ولو غبتمُ عنا ولو نفساً متنا يقول القائل: أما تبصر الطير المقصص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ففرج بالتغريد ما في فؤاده وهيج أرباب القلوب إذا غنى كذلك أروح المحبين يا فتى تهدهدها الأشواق للعالم الأسنى وهل يسجد القلب لله عز وجل؟ قال الإمام ابن القيم: يسجد تحت العرش سجدة لا يقوم منها إلا يوم القيامة، فهذه درجات الحياء الثلاث.(12/16)
من يستحيا منهم
إن مقامات الحياء مقامات عظيمة، ولذلك كان الحياء خلق الإسلام، والدرجة الأولى منه: أن تبغض إليك المعصية، فإذا علمت أن الله قريب منك فسيحملك هذا على استقباح الجناية، فتنظر إلى أدنى ذنب بأنه كبير في حق الله عز وجل؛ لأنك تعلم أن الله ناظر إليك في كل لحظة، وأنت مقيم على معصيته وعلى مخالفة أمره دق أو جل، صغر أم كبر، فقل: يا رب! أتراك ترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك! فلا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.
فالدرجة الأولى من الحياء تبغض إليك المعصية، وتحملك على استقباح الجناية، وتمنعك عن الشكوى لغير الله عز وجل، إلى درجة أن إحدى العابدات عندما جاءت إلى الإمام أحمد تسأله الأسئلة التي لا يسأل عنها العلماء اليوم، فقالت له: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ قال: ما سمعت مثل هذا السؤال من قبل، ونرجو ألا يكون كذلك، قالت: يا إمام! إذا مرت الظاهرية -وهم أناس من الأمراء الظلمة- غزلنا غزلنا على ضوئها، فهل نبينه للناس، قال: افعلي ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ثم قال لابنه عبد الله: تتبعها إلى أي البيوت تدخل، فقال له: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع.
فالإمام أحمد غابت عنه هذه المسألة، حتى كان في مرض الموت، فقيل له: إن طاوساً يقول: أنين المريض شكوى، وفي البداية كان الإمام أحمد يقول: نرجو ألا يكون كذلك، فغابت عنه هذه المسألة، ثم فهمها الإمام عند الموت، فما أنَّ ابن حنبل حتى مات، ولذلك تجد العباد يقولون: تفقهوا في مذاهب الإخلاص.
وأشرف العلوم علم الأسماء الحسنى، فتعرف على كل اسم، وكيف تتعبد لله عز وجل بهذا الاسم والصفة، وانظر الصفات في المخلوقات، فتجد نفسك في وادٍ والناس في وادٍ آخر، فعندما تعرف مثلاً اسم المقيت من أسماء الله عز وجل، وتعرف أن المقيت هو الذي يعطي كل مخلوق قوته الضروري، وتعرف مثلاً أن عدد أنواع النمل 12000 نوع، وتحت كل نوع آلاف الملايين، وهذا صنف واحد، ثم الحشرات أكثر من ألف نوع، والطيور والأسماك كذلك، والنجوم لا يحصى عددها؟ والمجرات مائة ألف مليون مجرة، هذا في الجزء المرئي من السماء فقط، وعدد النجوم في كل مجرة ما يقرب من مائة ألف مليون نجم، وهذه تحتوي على نواة ونوية، وكل شيء حي يحتوي على خلايا حيه، والخلايا فيها سيتوبلازم وجدار للخلية ونواة ونوية، فمن الذي يعطي لكل مخلوق من هذه المخلوقات قوته الضروري في وقت واحد؟ وكم أمات وأحيا في وقت واحد؟ فإذا علمت هذا استحييت أن يراك الله راكناً إلى بعض خلقه، وهو ملك الملوك، وجبار السماوات والأرض، ومن له ملك الدنيا والآخرة، وملك السماوات السبع والأرضين السبع وما بينهما وما تحت الثرى: ورب عليم بذات الصدور يدين لعزته الكابر يدين له النجم في أفقه يدين له الفلك الدائر تدين البحار وحيتانها وماء سحاباتها القاطر تدين النجاد تدين الوهاد يدين له الزاحف الناشر فكل عبيد له، وكل له قانتون، قهرهم بحكمه وبملكه، وأمره ومشيئته نافذة في خلقه.
إذا علمت أنه قريب منك فيقبح بك الشكوى إلى غيره: وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم قال تعالى: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأنبياء:83]، والشكوى إلى الله ليست بشكوى.
الدرجة الثانية: علمك بقرب الله عز وجل فتبغض إليك كثرة المخالطة.
الدرجة الثالثة: وهي التي يقول عنها الإمام ابن القيم: شهود الحضرة وانجذاب القلب والروح من الكائنات وعكوفه على رب البريات.
وهناك درجات في القرب من الله عز وجل لا تحيط بها الأفهام، فتطير القلوب إلى الله عز وجل وتسجد تحت العرش، فمثلاً: بالله عليك هل حال قلبك هذا اليوم كحاله وأنت في أيام الاعتكاف وعكوف القلب وجمعيته على الله عز وجل في العشر الأواخر من رمضان؟ وأنت تريد أن تختم المصحف كل يوم؟ ويجوز لك العلماء الوصال إلى قبل أكلة السحور بقليل، فتجمع ما بين السحور والإفطار وأنت في أيام جمعية القلب وعكوفه على رب البريات.
فعندما يكون القلب عاكف على رب البريات في كل لحظه، في رمضان وشوال، وكل الأيام عنده ليلة القدر كيف يكون هذا الراجل! ولو أن شخصاً سمع سيدنا الشيخ المنشاوي يقرأ الزمر أو آل عمران أنه يريد أن يطير طيراناً، فما ظنك إذا كنت كل لحظات حياتك هكذا، فإنك تجد معاني في القرب لا تكيفها الأفهام ولا تحيط بها العقول، وفي الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، وإن تقرب مني ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة) فهذه لا تحيط بها الأفهام: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب كيف نزوله تضيق بنا الدنيا إذا غبتمُ عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا فكيف بالله عز وجل! بعادكم موت وقربكم حياة ولو غبتمُ عنا ولو نفساً متنا يقول القائل: أما تبصر الطير المقصص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ففرج بالتغريد ما في فؤاده وهيج أرباب القلوب إذا غنى كذلك أروح المحبين يا فتى تهدهدها الأشواق للعالم الأسنى وهل يسجد القلب لله عز وجل؟ قال الإمام ابن القيم: يسجد تحت العرش سجدة لا يقوم منها إلا يوم القيامة، فهذه درجات الحياء الثلاث.(12/17)
الحياء من الله تعالى
والاستحياء يكون من الله عز وجل ومن الناس ومن الملائكة ومن النفس.
فأما الاستحياء من الله تبارك وتعالى، فكما جاء في حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أيها الناس! استحيوا من الله عز وجل، قالوا: يا رسول الله! إنا لنستحيي من الله عز وجل، قال: ليس ذاكم، ولكن من استحيا من الله عز وجل فليحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وليذكر الموت والبلى، ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا).
وأركان الحياء من الله تبارك وتعالى: (فليحفظ الرأس وما وعى)، فالرأس وما فيه من جوارح تحفظها لله عز وجل، حتى الخطرات وحديث النفس تحفظه لله عز وجل، وأول خيانة الصديقين حديثهم مع أنفسهم، فاحفظ حديث النفس لله عز وجل، يقول بعضهم: ظللت عشرين سنة حارساً لنفسي من الخطرات، أي: يحاسب نفسه على الخطرات.
فيا أخي! إذا مرت بك الوساوس والخطرات فاضبطها بضابطين من الكتاب والسنة.
فيحفظ الرأس وما وعى، فلا يتأثر بأفكار الصحف الصفراء التي هي من ضمن الثقافات الضرار.
(والبطن وما حوى) يعني: لا يدخل في بطنه وفي جوفه إلا الحلال، فيبحث عن الحلال ويدقق في هذه المسألة.
(وأن يذكر الموت والبلى)، فمن ذكر الموت هانت عليه شهواته.
(ومن أراد الآخرة ترك زينة الحياة الدنيا)، فيستحي من الله عز وجل أن يراه مرابطاً على مفسدة، مقيماً على جيفة، عاكفاً على دنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضه، فيستحي من الله عز وجل أن يراه ملتفتاً إلى الدنيا، والدنيا لعب ولهو، واللعب واللهو لا يليق بمن شبوا عن الطوق وتركوا دنيا اللعب للصغار، فيعلم أن الملك يدعوه إلى جواره في أرض غرس غراسها الرحمن بيده، فكيف يراه منشغلاً بالدنيا وقد عكف قلبه على محبتها؟ ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره).
قبل سنة (1981م) كنت تجد الأخ يساوي 1000 أخ من هذا الوقت، كنت تجد عشرة فقط في مدينة أو في محافظة أقاموا دعوة، لكن في هذا الوقت نقول: الله المستعان على ضعف الهمم وموت القلوب، فابك على موت قلبك.
فاستح أن يسبقك غيرك إلى الله عز وجل، وأن يدعوك الملك إلى جواره وأنت بعيد بهمك عن مولاك: يا من يشير إليهم المتكلم وإليهمُ يتوجه المتظلم وشغلتم قلبي بكم وجوارحي وجوانحي أبداً تحن إليكم وإذا نظرت فلست أنظر غيركم وإذا سمعت فمنكم أو عنكم وإذا نطقت ففي صفات جمالكم وإذا سألت الكائنات فعنكم وإذا رويت فمن طهور شرابكم وبذكركم في خلوتي أترنم يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي عامر الألهاني: (يأتي أناس بأعمال مثل جبال تهامة بيضاء يجعلها الله هباء منثوراً، فقالوا: يا نبي الله! جلهم لنا، صفهم لنا ألا نكون منهم ولا نعرف، قال: أناس من جلدتكم لهم حظ من الليل، ولكنهم قوم إذا خلوا بمحارم الله انتهكوها)، فاحذر أن تكون ولياً لله في العلانية عدواً له في السر، وأن تكون حالك مثل حال كنيف مزين بالسراميك وباطنه وحشوه القاذورات، فلا تتجمل للناس وتطلع الله على القبيح من أمرك، فلم جعلت الله أهون الناظرين إلك؟ أفكان الله عز وجل أهون عليك من بعض خلقه؟ لا تنظر إلى صغر الذنب ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته به.
وموقف لك لا تنساه أبداً وإن نسيت نفسك، وهو موقفك بين يدي الله عز وجل، كما جاء في حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما منكم أحد إلا سيخلو بربه ليس بينه وبينه ترجمان).
فهذا الموقف لن تنساه أبداً، فليكن ولاؤك المطلق وخوفك المطلق وحياؤك المطلق من الله عز وجل، فاعمل لهذا اليوم حتى لا يموت القلب، وحتى لا يموت الورع، يقول الجراح قائد الجيوش الأموية: تركت الذنوب أربعين سنة حياء من الله عز وجل، ثم أدركني الورع.
أي: بعد أربعين سنة من علي بالورع في النظر، وفي الشم، وفي الكلام.
فهذا المقام إن ذكرته وجعلته منك على بال فلن تقرب المعصية أبداً، ومثلما تميت الذنوب الحياء فكذلك الحياء لا يأتي إلى فاسق أو فاجر أبداً.
يقول ابن دقيق العيد: والله ما تكلمت كلمة ولا فعلت فعلاً منذ أربعين سنة إلا وأعددت له جواباً بين يدي الله عز وجل.
ولذلك كان من مقام المراقبة أن تقول: الله ناظر وشاهد ومطلع علي، وهذا درجة من درجات الحياء، وهذا مثل المرأة التي راودها رجل على الفاحشة، فقالت: انظر هل يرانا من أحد؟ فقال لها: ما يرانا إلا الكواكب، قالت له: فأين مكوكبها؟ ورجل خلا بامرأة بعد أن نام أهل القافلة وكانت في طريقها إلى الحج، وقال لها: ما أتيت في هذه القافلة من أجل حج ولا غيره، وإنما أتيت فيها لتخرجي فيها فأخلو بك، فقالت: انظر هل نام أهل القافلة جميعاً؟ فقال لها: نعم، قالت: انظر فهل نام الله؟ ثم صعقت المرأة وغشي عليها، فولى الرجل هارباً.(12/18)
الحياء من الملائكة
ثم بعد ذلك الاستحياء من الملائكة ومن أخلاقهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم عن سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه: (ألا أستحيي من رجل تستحيي منه الملائكة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحيا أمتي عثمان) رضي الله عنه.
وانظروا إلى التنويريين من اليساريين والشيوعيين، فهذا عبد الرحمن الشرقاوي كتب عن الخلفاء الأربعة، فكتب في سيرة سيدنا عثمان أنه لما تزوج نائلة بنت الأحوص بن الفرافصة الكلبية تكلم مع الصحابة بما كان بينه وبينها يوم البناء بعد أن خلعت تكة سروالها! فيا رجل! خل عندك دم، ومثل ما يقال: الناس تكذب كذباً معقولاً، وأنت كذبك غير معقول، فهلا كنت تقول هذا عن غير سيدنا عثمان؟ فسيدنا عثمان كان يغتسل في ثيابه حياء من الله عز وجل، وما يقيم صلبه إلا وثوبه عليه.
فانظروا مقام الصحابة ومقامنا، فنحن مطالبون أن نستحيي من الملائكة، قال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار:10] أي: فاستحيوا منهم.
{كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:11] يعني: لا ألأم ممن لا يستحي من الكرام.
وقد تلقى رجلاً كبيراً عظيم القدر من الصالحين لا يقدر العاصي أن يعمل عيبه أمامه، ولذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أوصيك أن تستحي من الله كما تستحي من الرجل الصالح من قومك).
وقال تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار:10 - 11].
ويقول ابن أبي ليلى: ما على أحدكم إذا خلا بنفسه أن يقول: أهلاً بملائكة ربي، والله لا أعدمكم اليوم خيراً، خذوا على بركة الله، سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وكان الرجل يستشعر إذا خلا بنفسه أن معه الملائكة، فيقول: يا ملكاي! ادعوا الله لي، فأنتما أطوع لله مني.
وهؤلاء السلف كان عندهم رقة، يعرفها من قرأ كتب التراجم، وأما نحن فخشب مسندة، لا ذوق ولا أدب ولا رقة شعور ولا علم ولا جهاد ولا شجاعة ولا أي شيء.
ذهب الرجال الصالحون وأخرت نتن الرجال لذا الزمان المنتن وكان يقول مالك بن دينار: ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب فنريد أن نرتفع إلى مقام الاستحياء من الملائكة، وما ظنك بالرجل الذي تستحيي منه الملائكة؟! وما ظنك بأناس تشتاق إليهم الجنة؟! فإذا قيل لك: إن الجنة تشتاق لناس، وناس يشتاقون إلى الجنة، فإن بينهما درجات كبيرة، وفي الحديث: (إن الجنة لتشتاق إلى علي وعمار وسلمان) وهو حديث صحيح حسنه الشيخ الألباني.
وهناك أناس يشتاقون للجنة، وأناس لا يشتاقون لها بالمرة.(12/19)
الحياء من الناس
والموقف الآخر الذي لن تنساه إن نسيت نفسك وقوفك بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أمام حوضه يسألك عن ميراثه، هل حفظت شيئاً منه أم ضيعته؟ فلا يعقل أن تكون حافظاً لاحتياطي فريق الكروم وناسياً لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيمن تحرم عليهم النار وأول من يدخلون الجنة، ودرجات القرب من الله عز وجل، والعشرة المبشرين بالجنة، وغافلاً عن كل شيء في حياتك وفي تاريخ الإسلام، وأهم المعارك التي خاضها المسلمون، طالما أن كل حياتنا كرب وانكسار وخيبة أمل، ولم يبق إلا رحمة الله عز وجل.
فاقرأ أيام الرجال العظام مثل معركة الزلاقة وقائدها ابن تاشفين الذي صنع هرماً من رءوس الكفرة، ثم أذن المؤذن من فوقه، واعرف فتوحات المسلمين في أوروبا إلى حدود بودابست في شرق آسيا، واعرف الرجال العظام الذين فجروا معركة ذات الصواري، وفتح الفتوح نهاوند، وكيف أن المسلمين سيطروا على العالم وكيف ضيعوه، وهل يعيد التاريخ نفسه أم لا؟ فهذه أمور كثيرة لابد أن تعرفها، وقف مع نفسك واعرف ما هي علوم القلب، فربما تلطخت بكبيرة أشد عليك من الزنا والسرقة وأنت لا تعرف، واعرف العجب والكبر والفرق بينهما؛ لئلا يكون قلبك متلطخاً بالعجب أو بالكبر وأنت لا تدري.
وتعرف علوم القرب من الله عز وجل، وعلوم القلب من الإخلاص والخشية والرجاء والتبتل والثقة بالله عز وجل والتفويض والتوكل؛ لعل القلب يشيح بصيصاً من نورها.
فاستحي من الرسول صلى الله عليه وسلم إن كنت سادراً في غيك في الدنيا، هملاً مع الرعاع لا تعرف شيئاً، أينما برز إليك بارز من الدنيا طرت إليه زرافات ووحداناً.
فتعرف على رسولك صلى الله عليه وسلم وعلى سنته وسيرته، وتجنب البدع؛ حتى لا يعاتبك النبي صلى الله عليه وسلم عتاباً يقطع نياط القلوب الطاهرة.
وكان السلف ربما رأى أحدهم رؤيا في المنام فتجبه عن المعاصي، فقد كان رجل جاراً للإمام أحمد وكان يفعل السيئات والكبائر، ثم أتى يوماً إلى الإمام أحمد فرآه معرضاً عنه، فقال: لم تعرض عني يا إمام! وقد تركت ما كنت فيه من المعاصي لرؤيا رأيتها؟ قال: وأي شيء رأيت؟ قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم كأنه على علو من الأرض وحوله ناس كثير أسفل منه جلوس، فيقوم الرجل منهم إليه، فيسأله ادع لي، فيدعو له حتى لم يبق في القوم غيري، فأردت أن أقوم فاستحييت من قبيح ما كنت أصنع، وخجلت من أن أقوم بين يدي رسول الله أسأله وأنا قد فعلت ما فعلت، قال: فقال لي: يا فلان! لم لا تقوم إلي فتسألني مثلما سألني الناس فأدعو لك؟ فقلت: يا رسول الله! يقطعني الحياء منك، لا أستطيع أن أقوم؛ لقبيح ما أنا عليه، قال: فإن كان يقطعك الحياء فقم، فسلني أدعو لك، فإنك لا تسب أحداً من أصحابي، قال: فقمت فدعا لي، فانتبهت وقد بغض الله إلي ما كنت عليه، فقال الإمام أحمد: يا جعفر! يا فلان حدثوا بهذا واحفظوه؛ فإنه ينفع.
وربما استحيا الرجل منهم من الصالحين حتى يموت من الحياء، قال أبو الفتح بن مخرق: تعلق رجل بامرأة من أهل الشام فتعرض لها وبيده سكين، ولم يستطع أحد أن يقرب منه، وكلما اقترب منه رجل عقره، والمرأة تصيح ولا يستطيع رجل أن يقرب منها، فتقدم منه رجل شيخ، فحك كتفه بكتفه، فسقط الرجل وهو يتصبب عرقاً مغشياً عليه، وولت المرأة هاربة، ثم لما أفاق الرجل قالوا: ما الذي جعلك تسقط مغشياً عليك؟ قال: اقترب مني رجل فقال: اتق الله! فإن الله ناظر إليك، فخررت من كلمته، فقالوا: أما تعرف هذا الرجل؟ قال: من هو؟ قالوا: بشر بن الحارث الحافي، قال: أوقد رآني بشر على المعصية، فحم من وقته، ومات في اليوم السابع.
فقراءة التراجم تؤدبك في وقت غاب فيه المؤدب والقدوة، ومن أهم وسائل التربية أن تقرأ سير أعلام النبلاء، فتتأدب وتتربى وتعرف مقامك جيداً، وتعرف أين أنت من علوم الناس ودرجاتهم، وكم من العلوم حصلوا وفاتتك، وكم من الآداب تجملوا به وفاتتك، فتعرف قدرك.(12/20)
أفضل الحياء وأكمله
ونهاية الحياء وكماله ألا تستحيي من الحق، وقدم الحياء من الله عز وجل على الحياء من الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول بحق إذا علمه أو شهده أو سمعه) فيؤثر الحياء من الله عز وجل على الحياء من الناس.
فالحياء الشرعي لا يمنعك من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما الذي يمنعك شيء آخر غير الحياء، وهو الجبن والخوف والهلع، فتركك للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حياء من الناس ليس من الحياء في شيء، بل هو من الخور والهلع والجبن.(12/21)
نماذج من الحياء
وانظروا إلى فهم أبي أيوب الأنصاري للحياء، عندما أعرس سالم بن عبد الله بن عمر فصنع أبوه وليمة ودعا الناس، قال: وكان فيمن دعا أبو أيوب الأنصاري، فأتى ورأى بيتنا قد سترناه بنجاد أخضر، أي: جعلنا فيه ستائر وبسطاً، فنادى أبي وقال: يا عبد الله! أتسترون الجدر؟ يعني: المفروض أن تقولوا: (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ستر الجدران) فلا تستر إلا على قدر النافذة فقط، وليس مثل الإيتكيت الذي تغطى فيه الجدران الأربعة بالستائر، فستر الجدران منهي عنه شرعاً.
وانظر إلى حياء كليم الرحمن سيدنا موسى عليه السلام، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن موسى كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء).
وانظر إلى حياء النبي صلى الله عليه وسلم فقد جاء عن بعض الصحابة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم أشد حياء من العذراء في خدرها، فإذا رأى شيئاً كرهه عرفناه في وجهه).
وقد استحيا من ربه بعد أن سأله التخفيف أكثر من مرة، فقال له موسى عليه السلام: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فقال: (لقد استحييت من ربي، ولكني أرضى وأسلم).
ومن حياء الصحابة: حياء سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد قال: أيها الناس! استحيوا من الله، فوالله ما خرجت لحاجة -يعني: لقضاء حاجة- منذ أسلمت إلا وأنا مقنع رأسي حياء من الله عز وجل.
فانظر إلى نفسك وأنت في هذه الحال، تحمل أمعاءك الغليظة ودورة المياه، فأنت كنيف متحرك، أفلا تستحي من الله عز وجل أن تعصيه، فقد خلقك من ماء مهين فاستحي منه، فما زال يخرج منك الغائط وأنت تأنف من رائحته، هذا حياء سيدنا أبو بكر الصديق.
وانظر إلى حياء محمد بن سيرين قال: ما غشيت امرأة قط في يقظة ولا نوم حتى في المنام غير أم عبد الله، وإني لأرى المرأة في المنام، فأعلم أنها لا تحل لي فأصرف بصري.
فهو متحكم في نفسه في المنام.
فيا ليتنا في يقظتنا كـ ابن سيرين في المنام، فهو في منامه إذا رأى المرأة لا تحل له يصرف بصره، وأنت في يقظتك أتصرف بصرك؟ وسفيان الثوري كان يبكي وهو في النوم، أفلم يكفه البكاء وهو في اليقظة حتى يبكي وهو نائم؟ فأي حال غلب على هؤلاء الرجال حتى تحكموا في لحظات نومهم؟ وانظر إلى حياء المرأة في قوله تعالى: {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ} [القصص:25] وكأن الأرض حياء وهي تمشي عليها.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس للنساء وسط الطريق) فالنساء يمشين على جنب.
وحياء سيدتنا فاطمة عليها السلام بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أبيها، حين جاءت تسأله خادماً فاستحيت، فقال: (ما جاء بك يا بنية؟! قالت: جئت أسلم عليك، فاستحيت من أبيها مرة واثنتين وثلاثاً، وربما أتاها وهي في مخدعها وعلي وقد أوشكا على النوم، فتدخل رأسها في المتاع حياء من أبيها رضي الله عنها).
وأما حياء الصديقة بنت الصديق أم المؤمنين فكان كمال الحياء في النساء، تقول: كنت أدخل البيت الذي دفن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي رضي الله عنه واضعة ثوبي، وأقول: إنما هو زوجي وأبي، فكانت تتخفف من بعض ثيابها، قالت: فلما دفن عمر رضي الله عنه كنت أدخل مجموعة معدودة علي الثياب حياء من عمر رضي الله عنه بعد موته.
فهذا هو الحياء في أكمل صوره.
فلا والله ما في المرء خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء أنا العبد الذي كسب الذنوبا وصدته الخطايا أن يتوبا أنا العبد الذي أضحى حزيناً على زلاته قلقاً كئيبا أنا العبد الذي سطرت عليه صحائف لم يخف فيها الرقيبا أنا الغدار كم عاهدت عهداً وكنت على الوفاء به كذوبا أنا العبد المخلف عن أناس حووا من كل معروف نصيبا أنا العبد المفرط ضاع عمري ولم أرع الشبيبة والمشيبا أنا العبد الغريق بلج بحر أصيح لربما ألقى مجيبا أنا العبد السقيم من الخطايا وجئت الآن ألتمس الطبيبا أنا العبد الشريد ظلمت نفسي وقد وافيت بابكم منيبا أنا المضطر أرجو منك عفواً ومن يرجو رضاك فلن يخيبا أنا العبد الفقير مددت كفي إليكم فادفعوا عني الخطوبا فوا أسفى على عمر تقضى ولم أكسب به إلا الذنوبا وأحذر أن يعاجلني ممات يحير هول مطلعه اللبيبا ويا ذلاه من حشري ونشري بيوم يجعل الولدان شيبا تفطرت السماء به ومارت وأصبحت الجبال به كثيبا ويا ذلاه من قبح اكتسابي إذا ما أبدت الصحف العيوبا وذلة موقف وحساب عدل أكون به على نفسي حسيبا ويا خوفاه من نار تلظى إذا زفرت أقلقت القلوبا تكاد إذا بدت تنشق غيظاً على من كان ظلاماً مريبا فيا من مد في كسب الخطايا أما آن الأوان لأن تتوبا وكن للصالحين أخاً وخلاً وكن في هذه الدنيا غريبا إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني يا من تمتع بالدنيا وزينتها ولا تنام عن اللذات عيناه أفنيت عمرك فيما لست تدركه تقول لله ماذا حين تلقاه؟ بارك الله في أيامكم وفي أموالكم وفي مسجدكم هذا وفي جلستكم.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ومعذرة إن كنت قد أطلت عليكم.
والسلام عليكم ورحمة وبركاته.(12/22)
انتصار الدعوة
إن الدعوة الإسلامية تحتاج منا إلى أن ننصرها، وأن نضحي في سبيلها، فإن فعلنا ذلك صار النصر حليفنا.
ولقد نصر الله تعالى رسله وأنبياءه والدعاة الصادقين من الصحابة والتابعين وتابعيهم إلى يوم الدين، وكان نصر الله لهم بوسائل شتى وأساليب متعددة.(13/1)
المفهوم الحقيقي للانتصار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: حين يبدو الشر نافشاً، والخير ضاوياً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق؛ تضطرب بعض المفاهيم عند بعض الشباب العاملين في الساحة الإسلامية، وغياب المعنى الحقيقي لهذه المفاهيم الإيمانية يجعل الناس ينحرفون عن المنهج يمنة ويسرة، ومفهوم الانتصار إذا غاب معناه الحقيقي أو قصر في معناه بعض الشباب فإنهم ينحرفون عن المنهج يمنة ويسرة.
وقد يقول قائل: إن الله تبارك وتعالى يقول: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم:47]، والله تبارك وتعالى يقول: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:171 - 173].
ويقول تبارك وتعالى: {إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7]، فهل تحقق هذا الانتصار؟ وهل تحققت هذه الغاية ليحيى بن زكريا حينما ذبح؟ أو تحقق هذا الانتصار لزكريا حينما شنق؟ أو لإبراهيم حينما هاجر من بلدته؟ أو لنوح وهو لم يستطع أن يقيم دولة إسلامية بالمعنى الضيق الذي يفهمه الناس؟ فغياب المعنى الحقيقي لمفهوم الانتصار، وتقصير بعض الشباب في التمكين لشرع الله في الأرض، وقيام دولة تطبق منهج الله تبارك وتعالى، حصر النصر في هذا المعنى فقط، وجعل بعض الشباب يتصور أن لزاماً عليه أن يقيم هذا المنهج بأي وسيلة وإلا فشلت دعوته، وإن لم يستطع أن يقيم هذا الانتصار، وأن يجعل من هذه الدولة التي تحكم بشرع الله تبارك وتعالى حقيقة قائمة في واقعنا، كانت الهزيمة للدعوة، وتجعله يلجأ إلى وسائل ويستعجل اقتطاف الثمرة.
وآخرون قالوا: إن كان الأمر هو قيام الدولة الإسلامية فلنقمها بأي وسيلة حتى بالترخص أو بالالتقاء مع الباطل في منتصف الطريق، وهذا من باب التفريط.
وقد يقول البعض الآخر: أين هو الانتصار؟ إنا ندعو إلى الله تبارك وتعالى منذ عشر سنوات ونحن مضطهدون ومستضعفون في الأرض، فيشك في دعوته وإخوانه، ويقول: لا بد أن نغير هذا الطريق، ثم يميل إلى تفسير القرآن والسنة بما يوافق حالته المعنوية فيقول: ليس عليك هداهم {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنفُسِكُمْ وَمَا تُنفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ} [البقرة:272]، ثم يقبع في بيته ويعتذر من مخالطة الناس.
فغياب المفهوم الحقيقي لمعنى الانتصار يجعل بعض الناس يستعملون العنف، والبعض الآخر يترخصون بوسائل غير شرعية، ويعملون بقاعدة الغاية تبرر الوسيلة، وهي قاعدة وثنية، أو عن طريق الانتخابات أو بأي شكل من الأشكال، والآخر يقبع في بيته، إذاً: فما معنى الانتصار؟(13/2)
معاني الانتصار
إن الانتصار له ثمانية معاني، فإذا تحقق واحد منها فقد تحقق معنى الانتصار، وقد تتحقق كلها في زمان معين أو في مكان معين، وهي ما يلي: المعنى الأول: وهو المتبادر إلى الذهن، انتصار الدعوة والداعية، فقد تنتصر الدعوة عند الناس ولا ينتصر الداعية كغلام الراهب لما قتل، فقد انتصر منهجه وانتصرت دعوته، ولم يمكن انتصار منهج غلام الراهب إلا بقتله، حيث قال للملك الظالم الطاغية: إنك لن تقتلني حتى تأخذ من كنانتي سهماً ثم تجمع أهل البلدة وتقول: باسم الله رب الغلام، فقتل الداعية وآمنت القرية بأكملها، ووقع المحظور.
ويتحقق هذا المعنى وهو أن الله تبارك وتعالى يهلك الظالمين في حياة الرسل أو في حياة الدعاة، ويمكن للرسل أو الدعاة تطبيق شرع الله تبارك وتعالى في الأرض.
وقد تحقق هذا المعنى لبعض الرسل ومنهم: سيدنا داود، قال تعالى: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} [ص:26]، ويقول المولى تبارك وتعالى: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:251].
وتحقق أيضاً لسيدنا سليمان الذي آتاه الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وتحقق هذا المعنى أيضاً لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله له تبارك وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح:1]، وقال تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3]، واستطاع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم دولة إسلامية بسيطة، ويحقق منهاج الله تبارك وتعالى في الأرض.
هذا هو المعنى الأول وهو المتبادر إلى الذهن، وهو الذي يدون في ذهن أكثر الشباب المنتمي للحركة الإسلامية، وهو أن يمكن المولى تبارك وتعالى لشرعه أن يحكم الأرض وأن يسود، لأن الله تبارك وتعالى فطر النفوس على محبة الخير وعلى استعجاله، {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف:13]، والإنسان يود أن تكتحل عينه بقيام دولة الخلافة، ويود أن يستنشق عبير الطاعة والذكر وتطبيق شرع الله تبارك وتعالى في الأرض، ومع بعد الناس عن دين الله تبارك وتعالى يتمنى الإنسان أنه يغمض عينيه ثم يفتحهما ودولة الإسلام قائمة في الأرض، هذا هو المعنى الأول المتبادر للذهن.
ولكن هل معنى الانتصار هو هذا المعنى فقط؟ ولو قصرنا الانتصار على هذا المعنى فقط فأين نحن من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي يأتي يوم القيامة ومعه الرهط، والنبي يأتي ومعه الرجل والرجلان، والنبي يأتي وليس معه أحد)، وهذا نبي من الأنبياء يقرع أبواب الجنة ولم يستجب له أحد، فهل هو ما استطاع أن يقيم دولة لله في الأرض وأن يطبق فيها منهاج الله تبارك وتعالى؟! هل معنى ذلك أن هذا النبي فشل في دعوته؟ فحصرنا لمفهوم الانتصار في المعنى الأول فقط معناه أن النبي قد فشل في دعوته، ولكن الانتصار له معان كثيرة كما سنوضحها.
فالنصر يكون بغلبة الرسل وأنبياء الله والدعاة على أهل الباطل والمعاندين لدعوة الرسل، ويمكن الله تبارك وتعالى لهم من قيام دولة في الأرض تطبق منهاج الله تبارك وتعالى.
المعنى الثاني: إهلاك الله تبارك وتعالى للظالمين في حياة الرسل، إن المولى تبارك وتعالى ينتقم من الظالمين في حياة الرسل إذا لم يتمكنوا من إقامة دولة إسلامية لهم، كسيدنا نوح عليه الصلاة والسلام، قال الله تبارك وتعالى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ * فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ * وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر:10 - 14].
فما قص الله تبارك وتعالى علينا أن نوحاً عليه الصلاة والسلام استطاع أن يقيم دولة يطبق فيها حكم الله تبارك وتعالى، فكل ما في القرآن أن إهلاك الله تبارك وتعالى للظالمين في حياة سيدنا نوح كان نصراً {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر:10]، واستجاب الله لدعاء نبيه بالنصر، وتحقق هذا النصر بإهلاك الظالمين.
المعنى الثالث: أن ينتقم المولى تبارك وتعالى من أعداء الرسل أو الدعاة بعد موت الرسل أو موت الدعاة ورحيلهم إلى الله تبارك وتعالى، فسيدنا يحيى عليه الصلاة والسلام السيد الحصور الذي قال عنه الله تبارك وتعالى: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم:12] أي: آتاه الله النبوة من الصغر، تأتيه مومسة من مومسات بني إسرائيل -أي: امرأة بغية- وكانت ابنتها عشيقة للملك، فلما امتنع يحيى عليه الصلاة والسلام من مجاراتها قالت لابنتها: إن أراد منك الملك شيئاً فقولي له: رأس يحيى، وفي إحدى جلسات الملك مع العشيقة طلبت منه مطلباً واحداً فقط وهو رأس يحيى عليه الصلاة والسلام، فبعث بالجزارين فأتوا برأسه، ثم أرسلت بهذا الرأس إلى أمها وأرادت هذه أن تقبل الفم الذي ما نالت منه شيئاً في دار الدنيا، وكلما أرادت أن تقبله يطير الفم من بين يديها، ثم أتت الابنة لزيارة أمها فخسف الله بقدمها في الأرض ثم بساقها ثم بحقوها ثم بصدرها فلما رأت الأم أن ابنتها ستغيب تمنت لو يبقى لها تذكار من ابنتها، فقالت: اقطعوا رأسها يبقى هذا الرأس عندي، فكما قتل يحيى قتلت هذه المرأة التي كانت سبباً في قتله، ثم سلط الله بختنصر على اليهود فذبح منهم الآلاف المؤلفة لدم يحيى حتى سكن هذا الدم، فهذا انتقام من الله تبارك وتعالى لرسله بعد موت الرسل، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر:51].
قال الإمام ابن جرير الطبري: إنا بإعلائنا لهم على من كذبهم، أو بانتقامنا في الحياة الدنيا من مكذبيهم بعد وفاة رسلنا، كالذي فعلناه بقتلة يحيى بن زكريا بتسليطنا بختنصر عليهم حتى انتصرنا به من قتلهم له.
فهذا نص من ابن جرير الطبري أن الانتصار قد يحدث لنبي بعد وفاته، وهذا معنى من معاني الانتصار.
المعنى الرابع: أن ما يتصوره الناس هزيمة للرسل أو للداعية هو في ذاته أكبر نصر، فالقتل للداعية نصر، قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185]، فقتل الداعية انتصار له، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فإن كان الله تبارك وتعالى يمن على نسمات عباده المؤمنين -أي: أرواحهم- بقول رسوله صلى الله عليه وسلم: (نسمة المؤمن -يعني روح المؤمن بعد موته- في حواصل طير على نهر بباب الجنة، تلعق من ثمار الجنة).
يعني: أن المولى تبارك وتعالى يأذن لأرواح المؤمنين أن تكون في حواصل طير تكون على شاطئ نهر بباب الجنة، تأكل من ثمار الجنة، ولكن لا يأذن الله لها بأن تسرح في الجنة، فتظل واقفة على باب الجنة وتأكل من الثمار ولا تسرح في أرجاء الجنة، فهذه روح المؤمن العادي أما روح الشهيد فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أرجاء الجنة حيث تشاء، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش)، فأرواح الشهداء تتنقل في الجنة كما تشاء؛ لأنها حبست أقدامها عن الفرار من أرض المعركة في دار الدنيا، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش.
يا ويح شعري وما ارتفعت بنا همم إلى الجنان وتالي القوم أواب إلى كواعب للأطراف قاصرة وظل طوبى وعصر الشدو ينساب إلى قناديل ذهب علقت شرفاً بعرش ربي لمن قتلوا وما غابوا والصادقون يعدون هذا نصراً، فـ حرام بن ملحان حينما طعن في غزوة مؤتة لطخ الدم على وجهه وقال: فزت ورب الكعبة! وعمير بن الحمام ألقى بتمراته وقال: إنها لحياة طويلة إن مكثت في الدنيا حتى آكل تمراتي هذه.
وتغنى جعفر الطيار بقوله: يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها علي إن لاقيتها ضرابها وعامر بن فهيرة راعي الغنم لـ أبي بكر الصديق لما طعنه جبار بن سلمى قال: فزت ورب الكعبة.
فحدوث الشهادة لرجل هذا فضل من الله تبارك وتعالى، وقد يعطي الله تبارك وتعالى بشائر ونسمات الجنة لرجل قبل أن يقتل شهيداً، فـ أنس بن النضر في معركة أحد قال له سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟! قال: واهاً لريح الجنة! أي: شم ريح الجنة قبل أن يدخل المعركة، ثم قال: إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد، فهذا نصر، وأي نصر أشرف من أن يعطي الله تبارك وتعالى ريح الجنة لعبد قبل أن يشرع في أي عمل صالح! قال الله تبارك وتعالى عن الشهداء: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169]، فقد تركوا الصعاليك في دار الدنيا الذين لم يصلوا ولم يصوموا ولم يزكوا، ويتأذى المؤمنين برؤية أجسامهم، فأبدلهم الله تبارك وتعالى بالقرب منه، ومن الملائكة، ومن العرش، فهذا نصر.
وقوله تعالى: {يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] أتى بالفعل المضارع ليدل على التجدد والاستمرار، فرزقهم في الجنة دائم، ورزق الدنيا ينقطع.
كان أحد الصالحين إذا مر بسوق فاكهة يقول: السلام ع(13/3)
وسائل الثبات على دين الله تبارك وتعالى
والمعنى التاسع من معاني النصر: الثبات على دين الله تبارك وتعالى، والوسائل التي تحقق الثبات في هذه الآونة ما يلي: الوسيلة الأولى: وهي تدبر كتاب الله تبارك وتعالى وتلاوته، وأن تنعم العين بالنظر لكتاب الله تبارك وتعالى، وأن تجلي به البصر، وأن تجلي القلب بالتنزه في رياض القرآن الكريم، ورحم الله أقواماً كان القرآن نعيمهم وعنوانهم ونزهتهم وبستانهم وأنسهم وريحانهم كما قال العلماء.
يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان:32].
فالقرآن أعظم وسيلة من وسائل الثبات في كل عصر حين تضطرب الأمور، وتختلط المفاهيم، فيرجع الصادقون إلى كتاب ربهم، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب:41 - 42].
الوسيلة الثانية من وسائل الثبات على طريق الله تبارك وتعالى: الاستقامة والعمل الصالح، يقول الله تبارك وتعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27]، قال قتادة: أما في الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح.
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا} [النساء:66]، فالمؤمن يجدد إيمانه دائماً بالعمل الصالح.
يقول الإمام ابن تيمية قبل وفاته: أنا إلى الآن أجدد إيماني، كان يقول: ما أسلمت إسلاماً جيداً إلى الآن.
وقال ابن دقيق العيد: والله ما تكلمت كلمة منذ أربعين سنة ولا فعلت فعلة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى.
والـ ربيع بن خثيم منذ عشرين سنة ما تكلم بكلمة واحدة في أمر من أمور الدنيا، حتى إن ابنته وهي صبية قالت: يا أبتي! أأذهب ألعب؟ فقال لها: اذهبي يا بنيتي فاصنعي خيراً، ولما سئل عن ذلك قال: والله لا يكتب في صحيفة أعمالي أني أمرت باللعب.
فكيف وحياتنا كلها لعب؟ يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (لست من دد وليس الدد مني).
فالمثابرة على العمل الصالح ثبات على دين الله تبارك وتعالى، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من ثابر على اثنتي عشرة ركعة وجبت له الجنة).
ويقول الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)، ومن أحبه الله تبارك وتعالى ثبته على دينه.
الوسيلة الثالثة: تدبر قصص الأنبياء والسابقين والتأسي بهم، يقول الله تبارك وتعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود:120]، فالإنسان حين ينظر إلى جبروت الظالم ينظر إلى القصص الغابرة في التاريخ: في تاريخ الأنبياء وفي تاريخ الدعوات، كقصة سحرة فرعون الذين كانوا في أول النهار يقولون: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الشعراء:41 - 42]، ويقولون: وعزة فرعون أننا سنغلب، وفي آخر النهار سجدوا لرب هارون وموسى فـ {قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} [طه:70]، {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} [الشعراء:49]، وكأن الإيمان يحتاج إلى إذن حين يدخل القلوب!! الإيمان لا يحتاج إلى إذن فإذا وصلت بشاشته القلوب استجاب القلب، {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} [طه:71]، فلما سجدوا لاحت لهم قصور الجنة، {قَالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ} [الشعراء:50]، وقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73].
يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل لا غرفة التعذيب باقية ولا برد السلاسل وحبوب سنبلة تجف فتملأ الوادي سنابل.
وحين يتدبر الإنسان قصة سيدنا موسى {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62]، فمن فقد الله فماذا وجد؟ ومن وجد الله فماذا فقد؟ ومن كان مع الله فأي شيء عليه؟ الوسيلة الرابعة: الدعاء بتثبيت القلوب: (اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)، {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8]، {رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [البقرة:250].
ومن مواضع استجابة الدعاء: الدعاء في جوف الليل الآخر، والدعاء عند السجود، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.
فالمؤمن يدعو الله تبارك وتعالى أن يثبته على الإسلام حتى يلقاه عليه، ويدعو الله تبارك وتعالى لنفسه ولإخوانه وللمسلمين أن يفرج الله تبارك وتعالى عنهم الكربات.
الوسيلة الخامسة: ذكر الله تبارك وتعالى، فهو الباب الموصل للولاية العظمى، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45]، وذكر الله تبارك وتعالى مطلوب وخاصة في مواطن الفزع، وعند اشتداد الأمر، ومن ذكر الله تبارك وتعالى في كل حين غرس الله غرساً في الجنة، وبنى له قصوراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم ليلة أسري بي فقال: يا محمد! اقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، عذبة الماء، وأنها قيعان، وغراسها سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم) فهذا يغرس لك الغرس وأنت في دار الدنيا.
والذي ثبت سيدنا يوسف من الوقوع في المعصية هو الذكر: {قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف:23]، فقد جعله يثبت ويقاوم هذه الفتنة، فالذكر عامل وعنصر من عناصر التثبيت.
الوسيلة السادسة: الحرص على العقيدة السليمة؛ عقيدة أهل السنة والجماعة: وهم الصحابة والتابعون وتابع التابعين من سلف هذه الأمة.
قال علماء السلف: أكثر الناس شكاً عن الموت أهل الكلام.
وقال سيدنا عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه عرضة للخصومات أكثر التنقل.
فمن كان على اعتقاد سليم ثبته الله تبارك وتعالى.
قال هرقل لـ أبي سفيان قبل إسلامه: هل يرتد أحد منهم سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قال: لا، قال: وكذا الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
الوسيلة السابعة: التربية الإيمانية العلمية الواعية المتدرجة وليست الحماسة الثائرة، فالتربية الإيمانية تحيي القلب والضمير بالخوف والرجاء والمحبة والتوكل على الله تبارك وتعالى، وتغذيه بعناصر تبعده عن الجفاف، وهذه العناصر تستمد من الكتاب والسنة، وهي: الخوف والرجاء والمحبة لله تبارك وتعالى والشوق إلى الله تبارك وتعالى.
فالتربية العلمية القائمة على الدليل الصحيح تكون بعيداً عن التقليد الأعمى، والتربية الواعية التي تفهم منطلق الواقع وتعيشه لا تعيش في غيبوبة عن الواقع، وإنما تعيش بآلام المسلمين، وتعرف أعداء المسلمين ومصائب المسلمين، وتفهم خطط الكافرين، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55]، فلابد أن يعلم المؤمن الواقع الذي تعيشه هذه الأمة.
والتربية الإيمانية متدرجة لا تخضع للحماسة الزائفة، قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة:246]، فانتكس حماسهم الزائف عندما فرض عليهم القتال، ثم لما ولي عليهم طالوت ملكاً {قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] أي: فضله الله تعالى عليهم في العلم والجسم، ثم لما عبر بهم النهر: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249]، {فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ} [البقرة:249]، أما البقية الباقية لما جاء وقت القتال: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا ال(13/4)
الأسئلة(13/5)
حكم بناء المساجد على القبور
السؤال
ما حكم بناء المساجد على القبور؟
الجواب
بوب الإمام البخاري على هذه المسألة فقال: باب حرمة بناء المساجد على القبور، فالتحريم من الرسول صلى الله عليه وسلم حيث قال: (لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد) قالت عائشة رضي الله عنها: يحذر ما فعلوا، ولولا ذلك لأبرز قبره.
وهذه المسألة فيصل بين أهل السنة والصوفية، وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الصلاة في المسجد الذي به قبر فرضاً كانت الصلاة أم نفلاً لا تصح، سواء قصد الصلاة إلى القبر أو لم يقصد، وإن صلاها ولا يعلم أن في المسجد قبراً فتصح ولا يعيدها.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن من شرار الناس من تقوم عليهم الساعة والمتخذين على المساجد قبوراً)، وقال: فاتخاذ القبور مساجد ذريعة للشرك، ولذا قالت عائشة: يحذر ما فعلوا، ولولا ذلك لأبرز قبره.
ثانياً: أن الحسين رضوان الله عليه لم يأت جثمانه إلى مصر؛ لأن مقتله كان في كربلاء، قال الإمام البخاري: دفن جثمانه بالبقيع، وغيره من العلماء قال: الرأس والجسد دفنا في كربلاء.
ولا يصح أن السيدة زينب أخت الحسين وبنت بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تترك هدي جدها، وهي تعلم أن إكرام الميت الإسراع في دفنه، وأن من السنة الإسراع في دفن الميت، فالسيدة زينب لم تخالف هدي جدها صلى الله عليه وسلم وهدي أبيها سيدنا علي رضي الله عنه، حيث قال لـ أبي الهياج الأسدي: ألا أبعثك على ما بعثني عليه الرسول صلى الله عليه وسلم: (ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته).
فالعلماء قالوا: إن رأس الحسين لم يأت إلى مصر.(13/6)
اصدق الله يصدقك
الصدق خلق عظيم، ووسام رفيع، منزلته عالية، وفضله سام في الدنيا والآخرة، فبه يصح العزم، وتعلو الهمة.
وهو خلق شامل لجميع نواحي الحياة، وضروري من أجل استقامتها وسيرتها؛ ولذلك أثنى الله على أصحابه، وأخبر أنه لا ينال جنته إلا أهل الصدق.
ولقد ضرب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل الأعلى في هذا الخلق العظيم في جميع مجالات الحياة، ونحن حتى نعود إلى نفس ما كانوا عليه لابد أن نكون صادقين في أعمالنا، وصادقين في عزمنا، وصادقين في كل شئوننا.(14/1)
فضل الصدق والأمر به وثمرته
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
أما بعد: فأولاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ بلال: (ما بالي أسمع دف نعليك أو خشخشة نعليك قبلي في الجنة).
وثانياً: بارك الله تبارك وتعالى في أهل حلوان وفي جهدهم وفي عملهم الطيب.
تضيق بنا الدنيا إذا غبتم عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا بعادكم موت وقربكم حيا ولو غبتم عنا ولو نفساً متنا نعيش بذكراكم ونحيا بقربكم ألا إن تذكار الأحبة ينعشنا أما تبصر الطير المقفص يا فتى إذا ذكر الأوطان حن إلى المغنى ففرج بالتغريد ما في فؤاده فيطرب أرباب القلوب إذا غنى نسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا وإياكم الصدق في معاملة الله تبارك وتعالى، فالصدق ألا تتكلم إلا بيقين، ومنه تنشأ جميع مقامات السالكين، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح إن صدق)، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن تصدق الله يصدقك)، وقال الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119]، وقال الله تبارك وتعالى: {قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة:119].
ففي يوم القيامة لا ينجي إلا الصدق، لذا أمر الله تبارك وتعالى عباده أن يكونوا مع الصادقين، فالصدق أس مقامات الدين، وبه تميز سكان الجنان من سكان النيران، وأهل الإيمان من أهل النفاق.
ولعظم مقام الصدق قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87].
بل سمى الله عز وجل الدين كله صدقاً، فقال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، فالصدق هنا هو الدين، والذي صدق به هو صديق هذه الأمة الأكبر أبو بكر الصديق.
والله تبارك وتعالى قص علينا في القرآن الكريم أنه طلب من نبيه أن يسأله مدخل الصدق ومخرج الصدق، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80].
وذكر الله تبارك وتعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله لسان صدق، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84]، ووصف الله تبارك وتعالى أهل الجنة بقوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55] وأخبر الله تبارك وتعالى عن عباده بقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [يونس:2].(14/2)
مراتب الصدق(14/3)
معنى مدخل الصدق
فهذه خمسة أشياء: مخرج الصدق، ومدخله، ولسانه، وقدمه، ومقعده، فأما مدخل الصدق: فكل دخول تكون فيه بالله ولله، مثل دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فقد ترك دياره وأحبابه لدين الله عز وجل، ولبناء دولة الإسلام في المدينة، وأثر الصدق من لحظته الأولى في زعيم أحبار اليهود عبد الله بن سلام، فقال: كنت فيمن رأى النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة والناس جنبيه، قال: فلما رأيت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب على الله عز وجل، فكان أول ما سمعته منه: (أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام).
فهذا دخول الصدق.(14/4)
مخرج الصدق ومخرج الكذب
وأما مخرج الصدق فكخروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى بدر هو والصحابة، فقد تركوا وراءهم كل شيء وخرجوا إلى الله عز وجل، فأعطاهم الله عز وجل الغنائم وأحلها لهم، وما أحلت لبشر قبلهم قبل هذا اليوم، وانتصر الإيمان على الكفر.
وأما مخرج الكذب فكخروج أبي جهل لما قالوا له: قد أفلتت العير من محمد فلا داعي لبقائك في بدر، فقال: لا والله، حتى تعزف القيان ونشرب الخمور، وحتى تسمع بنا العرب فلا تزال تخافنا أبد الدهر، فأذله الله عز وجل في هذا اليوم، وفي لحظاته الأخيرة برك على صدره عبد الله بن مسعود، والكذاب كذاب حتى آخر لحظة، ففي لحظة خروج نفسه قال: لمن الدائرة اليوم يا رويعي الغنم! -رويعي الغنم وهو راكب على صدره! - قال: لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، فقد أخزاك الله يا فرعون! هذه الأمة.
فهذا كان خروج كذب.(14/5)
مدخل الكذب
وأما مدخل الكذب: فلدخول عمرو بن عبد ود لما أراد أن يخترق الخندق؛ ليدخل على المسلمين في دارهم، فقتله علي أصغر فارس في المسلمين، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى على علي وقال له: اجلس يا علي! فإنه عمرو، وثلاث مرات يقول: يا رسول الله! وإن كان عمراً، فلما قتل علي عمراً كبر النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:19].(14/6)
الكلام على لسان الصدق
وأما لسان الصدق فهو: الثناء العطر للصالحين من عباد الله عز وجل، ولأنبياء الله ورسله بعد موتهم وبعد أن تغيب أشخاصهم في جوف الثرى، فيلهج الله عز وجل ألسنة الخلائق بمدحهم، وهذا بخلاف من يذمونه، قال النبي صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بالجنازة: (مستريح ومستراح منه، قالوا: يا رسول الله! من المستريح ومن المستراح منه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: المستريح العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وتعبها إلى سعة رحمة الله عز وجل، والمستراح منه العبد الكافر أو الفاجر أو المنافق تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب) وحتى الجماد يستريح منه.
وأما الصالحون فيبكي عليهم ممشاهم ومغداهم إلى المسجد، ومصعد عملهم إلى السماء، قال الله تبارك وتعالى عن فرعون وقومه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29]، وبمفهوم المخالفة يكون معنى هذا: أن الأرض والسماوات تبكي على موت الصالحين.
فموتهم جنازة لأهل الأرض، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون النجم الغابر في الأفق؛ لتفاضل ما بينهم، قالوا: يا رسول الله! تلك منازل الأنبياء لا يبلغها أحد سواهم، قال: والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وأنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وأنا زعيم ببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).
وقال الحارث المحاسبي: الصادق هو الذي لا يبالي ولو خرجت كل محبة له من قلوب الخلق في سبيل أن يصلح ما بينه وبين مولاه قيد أنملة.
قالوا: ومن الصدق ألا يتمنى أن يطلع الناس على مثاقيل الذر من عمله الصالح، ويرجو أن يكون بينه وبين الله عز وجل خبء من عمل صالح لا يطلع عليه أحد من البشر حتى ولو كانت زوجته.
وهذا كما قال القائل: ويبدو لك في مضمر القلب والحشا سريرة حب يوم تبدو السرائر وقال أبو تراب النخشبي: إن الصادق يرزقه الله عز وجل حلاوة العمل قبل الشروع فيه.
يعني: إذا علم الله عز وجل الصدق من قلبك وأنت عازم على العمل رزقك حلاوته قبل أن تبدأ فيه.(14/7)
أمثلة الصدق من سير الأنبياء والصالحين(14/8)
قصة أم إسماعيل لما تركها إبراهيم في مكة
وهذه امرأة مصرية ولا مانع أن نذكر اسمها؛ فأسماء أمهات المؤمنين التسع معروفة، هذه المرأة المصرية التي نفخر بها هي أم إسماعيل، وهي التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فتلك أمكم يا بني ماء السماء) لما أتى بها إبراهيم عليه السلام إلى جبال فاران، وهو موضع مكة الآن قالت له: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذاً فلن يضيعنا.
ولا يوجد أسهل من الكلام، ولكن في المواقف الصعبة فإن الترجمة العملية تكون شيئاً آخر، وتصور أنت امرأة يأتي بها زوجها هي ورضيعها إلى مكان قفر في مكة -ونحن نعرف هجير مكة- ويتركها، وهي تعلم أنه بعد لحظات سيتركها ولا يترك معها إلا جراباً من التمر وسقاء من الماء ينفذ بسرعة، فقالت له: آلله أمرك بهذا؟ فقال لها: نعم.
فتقول: إذاً فلن يضيعنا.
فبالله عليك لو كنت أنا وأنت هل سنقول: إذاً فلن يضيعنا! ثم يرحل عنها إبراهيم، ثم يتضور ويتلبط رضيعها فتبحث له عن الماء، ويجعل الله من خطواتها ما بين الصفا والمروة ركناً من أركان الحج لا يتم الحج إلا به، وهذا ما أورثتكموه أمكم أم إسماعيل يا بني ماء السماء! ثم يتبدى لها جبريل؛ لأنها في موقف يعجز عنه الرجال، فقال لها جبريل: من أنت؟ فقالت: أنا أم إسماعيل وزوج إبراهيم.
فقال لها: إلى من وكلكما؟ يعني: إلى من ترككما؟ فهو لم يترك معهما فاكهة الشتاء ولا فاكهة الصيف، ولا لحوم الشتاء، ولا لحوم الصيف، ولم يترك معهما طعاماً يكفيهما سنة، وإنما ترك لهما شيئاً يسيراً من تمر وماء لا يكفيهما لوقت يسير.
فقالت: إلى الله.
فقال لها: وكلكما إلى خير كاف، لا تخشي الضيعة؛ فإن الله لا يضيع أهله.
ويزعم أنه منا قريب وأنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإخبار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا(14/9)
قصة حفظ الله لموسى عليه السلام أثناء رضاعه
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7]، والأم إذا خافت على ولدها تضمه إلى صدرها، فما بال أم موسى وهي تعلم أن فرعون وملأه يبحثون عن رضيعها -لبلاهة فكرهم وتفاهة عقولهم- ويجندون جنودهم للبحث عنه فتلقيه إلى البحر؟ فسبحان من قال لها: فإذا خفت عليه فبدلاً من أن ترضعيه وتضميه إلى صدرك ألقيه في اليم، فهناك رحمة الله عز وجل.
وسبحان من جعل من موج البحر مستراحاً ومأمناً ومناماً لموسى عليه السلام، وجعل النار برداً وسلاماً على إبراهيم عليه السلام.
ويتهادى التابوت ليصل إلى قصر غريمه فرعون وإلى فم التنين بدون حراسة، ولكنها إرادة الله وعنايته أن يصل إلى تحت القصر، وإنما يؤتى الحذر من مأمنه، فأوتي فرعون من قبل زوجه التي تبيت معه في مخدعه، وبهرها الجمال الموسوي الذي قال فيه الله عز وجل: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فقالت: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، وبهذا حفظ موسى عليه السلام كما حفظ يوسف عليه السلام لما أصبح أجيراً، قال الله عز وجل: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف:21]، فكانت بداية التمكين وهو أجير، وكيف يكون التمكين وهو أجير؟ ولكن مضى وعد الله عز وجل بذلك؛ وهذه مشيئة الله عز وجل ومكره عز وجل لأحبابه.
وانظر كم قتل فرعون من أجل موسى عليه السلام، ومع ذلك فكأن لسان القدر يقول له: لا نربيه إلا في حجرك.(14/10)
قصة عمرو بن عتبة بن فرقد
وهذا عمرو بن عتبة بن فرقد إذا كان في الجيش لم يكن أحد من الجيش يحرس؛ لكثرة صلاة عمرو، وبينما هو قائم في الليل أتى السبع ففر الجيش ولم يفر هو، قالوا: فوالله ما انفلت من صلاته، ثم لما سألوه: أما خفت السبع؟ قال: إني أستحي من الله عز وجل أن أخشى شيئاً غيره.
وهذا ثابت عنه، ثم مات شهيداً.
وذات يوم لبس جبة بيضاء فقال: ما أحلى هذه الجبة وتحدر الدم عليها! ومر ببستان قد أينع ثمره وزهره فقال: ما أجمل هذا الوادي! وأجمل منه لو أن رجلاً صاح: يا خيل الله اركبي! فوالله ما أتم كلمته حتى سمع داعي الجهاد، فكان في طليعة القوم، وأصيب في نفس المكان الذي أشار إليه على الجبة، وتحدر الدم على المكان الذي أشار إليه، ولكن الجرح كان بسيطاً، فجعل يداعب جرحه ويقول: إنك لصغير، وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً.
وثبت في كتاب (بذل الماعون في فضل الطاعون) أن معاذ بن جبل رفع يده إلى السماء لما أصيب بالطاعون وقال: اللهم وفر لأهل معاذ نصيبهم من رحمتك، فأصيب ابنه عبد الرحمن، فقيل له: كيف تجده؟ فقال: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [البقرة:147].
ثم بعد ذلك أصيب هو في إبهامه، فقال: إنك لصغير وقد يبارك الله في الصغير.
فمات عمرو بن عتبة من جرحه الذي ظل يداعبه ويهدهده، بعد أن كبر الجرح الصغير، وعند غروب الشمس خرجت روحه إلى الله تبارك وتعالى وكان صائماً.
فإن تصدق الله يصدقك.(14/11)
قصة سعد بن معاذ في مرضه وحكمه في اليهود
وسعد بن معاذ كان صديق الأنصار، وكانت منزلته في الأنصار في الصدق تساوي منزلة أبي بكر في المهاجرين في الصدق وإن كان بينهما تفاوت عظيم، وكانوا يلقبونه بصديق الأنصار، وقد قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه لصبر في الحرب، صدق عند اللقاء).
وكان قد قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهم ذاهبون إلى بدر: (ولعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك)، فسر النبي صلى الله عليه وسلم واستنار وجهه.
ولما أصيب في أكحله -والأكحل: أكبر شريان في الجسم -نزف الدم حتى أصاب من في الخيمة، فبكى النبي صلى الله عليه وسلم وبكى أبو بكر وعمر، وجعل النبي صلى الله عليه وسلم يحاول أن يرقي له جرحه، ولما كان جرحه ينزف ويصيب من في الخيمة رفع سعد يده إلى السماء وقال: اللهم إن كنت أبقيت رسولك صلى الله عليه وسلم لحرب يهود -وكانوا حلفاءه- فأبقني، قالوا: فوالله لقد انقطع دمه فما قطر قطرة واحدة بعد دعائه الصادق.
ثم كانت حرب النبي صلى الله عليه وسلم لليهود وحصاره لهم، فقالوا: ننزل على حكم سيدنا سعد بن معاذ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يأتي بـ سعد بن معاذ، فلما وصل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (قوموا لسيدكم فأنزلوه)، ومن عظيم أدب سعد العظيم أنه نظر إلى الخيمة التي فيها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: حكمي نافذ على من في هذا؟ -تأدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: نعم، فأخذ الميثاق من اليهود على نفاذ حكمه فيهم؛ لأنه يعرف أنهم قد نقضوا عهدهم مع الله عز وجل، فكيف لا ينقضون عهدهم مع سعد وهو يعرف أنهم قوم بهت، فلما أخذ منهم العهد قال: حكمي فيهم أن تقتل مقاتلتهم، وتسبى نساؤهم وذراريهم، وتقسم أموالهم.
ثم قال سعد: اللهم افجره؛ شوقاً إليه، فانفجر أكحله، فطببوه عند رفيدة الصحابية الطبيبة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأتيه كل يوم ويسأل عن أخباره، فأتاها مرة فقالت: اشتد به الوجع، فأتى قومه بنو عبد الأشهل فحملوه إلى ديارهم، ونزل جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا رسول الله! من هذا الذي قد مات من أمتك؟! لقد نزل إلى الأرض سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبل يومهم هذا لتشييعه).
والحديث صححه الشيخ الألباني.
فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم السير حتى تقطعت نعال من معه من الصحابة، فقالوا: يا رسول الله! تعبنا من هذا السير، قال: (أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة).
فـ حنظلة حملته الملائكة وغسلته ووارته، وهناك قوم تسلم عليهم الملائكة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت أخاه حنظلة)، ولما وصل إلى البيت وجد أمه تنوح عليه وتقول: ويل أمك سعداً حزامةً وجداً وفارساً معداً فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة كاذبة إلا نائحة سعد)، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ)، وفي رواية جودها الحافظ الذهبي: (إن عرش الرحمن اهتز فرحاً بموت سعد بن معاذ).(14/12)
قصة أنس بن النضر في أحد
وانظروا إلى أنس بن النضر رضي الله عنه لما غاب عن أول مشهد شهده النبي صلى الله عليه وسلم مع المشركين، قال رضي الله عنه: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المشركين وأغيب عنه! لئن أشهدني الله مشهداً آخر مع النبي صلى الله عليه وسلم ليرين الله ما أصنع، فلما كان في يوم أحد وبعد انكشاف المسلمين رآه سعد بن معاذ فقال له: يا أبا عمرو! إلى أين؟ قال: إليك عني يا سعد بن معاذ! والله إني لأشم ريح الجنة من دون أحد.
وهذا علم الله منه صدق العزم وهو لم يشرع بعد في العمل، فأراه شم ريح الجنة وهو في أحد، فقال: إليك عني يا سعد بن معاذ! والله إني لأشم ريح الجنة من دون أحد، وصدق الله عز وجل في اللقاء، حتى إنه لم تعرفه إلا أخته ببنانه، ووجدوا في جسمه ثمانين رمية ما بين طعنة بسيف، وضربة برمح، وفيه نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
وبصدقهم على تحمل الضرب في سبيل الله، واستقامتهم، وتوكلهم على الله عز وجل سجلوا في التاريخ أحرف وصفحات من نور لا تكون لغيرهم أبداً.(14/13)
بيان مثلنا في الاستقامة اليوم
ونحن هل صدقنا مع الله عز وجل في استقامتنا؟ أم يصدق فينا قول الشاعر: كل يوم تتلون غير هذا بك أجمل نحن نقول ذلك ولكن عندما تأتي الشدة يكون حالنا كحال الكلب، فقد قيل: إن الكلب أتى إلى السبع وقال له: يا ملك الغابة! غير اسمي؛ لأن الكلب اسم قبيح، فقال له: الكلب اسمك.
فقال: لا، لا أريد هذا الاسم، فقال له: إذاً نعطيك قطعة من اللحم فإن احتفظت بها إلى الليل غيرنا لك اسمك.
فأخذها فلما أتت الظهيرة بقيظها وحرها نظر إلى بطنه وإلى قطعة اللحم، فقال: كلب كلب، إن الكلب اسم جميل، ثم التهم قطعة اللحم، ثم أتى إلى السبع في آخر الليل وقال له: غير اسمي.(14/14)
بيان تعاون العرب مع الإنجليز لإقامة دولة اليهود
إن المسلمين والعرب لم يصدقوا اليوم مع الله عز وجل حتى في دار الدنيا، ولم يصدقوا حتى في قضيتهم التي تجمعهم وهي قضية فلسطين، يقول جمال حمدان -الذي قال عنه محمد حسنين هيكل: إنه العالم المصري الفذ، وله كتاب عظيم اسمه شخصية مصر- يقول: كل الأمر وما فيه أن إسرائيل أرادت قيام دولة فصنعها لها العرب.
فاليهود كانوا يريدون أن يقيموا دولة فجاء العرب وقالوا: نحن سنعمل لك الدولة فلا تتعبي نفسك، وأما كيف حدث هذا فإنه في عام (1917م) قامت الثورة العربية بقيادة الشريف حسين والي مكة، وتحالف مع الجنرال اللنبي قائد القوات البريطانية في مصر لطرد المسلمين الأتراك من فلسطين من القدس، ولم يدخل اللنبي فلسطين إلا ببنادق العرب، فهم الذين قاتلوا وطردوا إخوانهم المسلمين من فلسطين، هذا أول الأمر، وحينما دخل اللنبي فلسطين رطن بالإنجليزية -ولا يعرفها من حوله- وقال: ها قد عدنا يا صلاح الدين! وركز علمه وفيه صليبه هناك على جبل صهيون.
ثم بعد ذلك لما أراد العرب بثوراتهم أن يحرروا فلسطين في عام (1948م) جعلوا الجيوش العربية كلها تحت إمرة الملك عبد الله، وقائد قوات جيشه هو جولوب باشا، وقد كان قائداً إنجليزياً، وهل سيحارب الإنجليز من أجل عيون العرب؟! فكانت أعاجيب! ثم في آخر الأمر أتت منظمة فتح العلمانية، ومن أول يوم من قيامها ألغت ميثاق العمل الفلسطيني وكل ما يسيء إلى إسرائيل من عبارات، مثل رميهم من البحر إلى النهر وغيره من الكلام، ووزير خارجية فرنسا لما قابل عرفات بعد محادثاته في مصر قال له: إنك أعطيت الكثير لوزير الخارجية الأمريكي، أفلا تعطي متران وهو رئيس جمهورية شيئاً؟ فقال: ماذا أعطيه؟ قال: تتنازل عن ميثاق العمل الفلسطيني وما يتعلق بإسرائيل وحرب إسرائيل، فقال له: ماذا يعني هذا الكلام بالفرنسية، فقال: كدوه، فقال للسفير الفلسطيني: ماذا تعني هذه الكلمة؟ قال: تعني الإلغاء، فالرجل وهو ينزل من على درجات السلم لما سألوه عن ميثاق العام الفلسطيني قال: كدوه، كدوه، كدوه بالفرنسية.
وألغوا جهادهم بالفرنسية.(14/15)
بيان تبدل حال المسلمين من العز إلى الذل
قالوا لنا: أرضنا أرض مباركة فيها الهدى والتقى والوحي والرسل ما لي أراها وبحر الزور يغرقها وأكبر الأمر في أرجائها دجل في أي شيء أمام الله قد عدلوا وكلهم كاذب قالوا وما فعلوا هذا جبان وهذا باع أمته وكلهم في حمى الشيطان يبتهلوا من يوم أن مزقوا أحكام ملتهم وثوبنا الخزي والبهتان والزلل عار على الأرض كيف الزور ضاجعها كيف استوى عندها الكذاب والرجل ما زال في القلب يدمي جرح قرطبة ومسجد في كهوف الصمت يبتهل فكم بكينا على أطلال قرطبة وقدسنا لم تزل في العار تغتسل في القدس تبكي أمام الله مئذنة ونهر دمع على المحراب ينهمل وكعبة تشتكي لله غربتها وتنزف الدمع في أعتاب من رحلوا كانوا رجالاً وكانوا للورى قبساً وجذوة من ضمير الصدق تشتعل لم يبق شيء لنا من بعدما غربت شمس الرجال تساوى اللص والبطل لم يبق شيء لنا من بعدما سقطت كل القلاع تساوى السفح والجبل يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة).
يا شام! أين هما عينا معاوية؟ وأين من زاحموا بالمنكب الشهبا؟ فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا يا ابن الوليد! ألا سيف نؤجره فكل أسيافنا قد أصبحت خشبا سقوا فلسطين أحلاماً ملونةً وأودعوها سخيف القول والخطبا وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا؟ يا من يعاتب مذبوحاً على دمه ونزف شريانه ما أسهل العتبا من جرب الكي لا ينسى مواجعه ومن رأى السم لا يشقى كمن شربا(14/16)
فضل الصدق في الجهاد
عن نعيم بن هبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (الشهداء الذين يقاتلون في سبيل الله في الصف الأول لا يلتفتون بوجوههم حتى يقتلوا يلقون في الغرف العلا من الجنة، يضحك إليهم ربك، وإن ربك إذا ضحك إلى عبده المؤمن فلا حساب عليه).
فالصدق الصدق أيها الإخوة! قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.(14/17)
بيان أهمية الصدق مع الإخلاص
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من جعله الله رحمة للعالمين.
أما بعد: فما أحوجنا اليوم إلى الصدق، وكثير من الناس يلتبس عليه أمر الإخلاص بأمر الصدق، فقد يخلص عمله لله ولكنه لا يصدق فيه، فنحن بحاجة إلى أن نصدق مع الله تبارك وتعالى في أعمالنا، وإلى أن نبذل المجهود وأقصى ما نستطيعه فيها.(14/18)
بيان أهمية العمل بالعلم
والعبد بحاجة إلى أن يتعلم، وإلى أن يقرن هذا العلم بالعمل الصالح، ويزينه بالإخلاص لله تبارك وتعالى، ويتوج هذا العلم والعمل والإخلاص بالصدق لله تبارك وتعالى فيه، ونحن إذا أردنا أن نحول علمنا وطلبنا للعلم من مجرد اجتماع وتأثر وقتي فلنجتهد ولنصدق في ذلك.(14/19)
وسائل العلم
أيها الطالب علماً ائت حماد بن زيد فاستفد علماً وحلماً ثم قيده بقيد وهكذا يكون طلب العلم، فليس طلب العلم أن تفتح كتباً فتقرأ فيها فحسب، ولا أن تحشو عقلك ورأسك بمعلومات فحسب، وإنما طلب العلم كما قال الإمام الشافعي عليه رحمة الله: أخي لن تنال العلم إلا بستة سأنبيك عن تفصيلها ببيان ذكاء وإخلاص وصدق وبلغة وصحبة أستاذ وطول زمان فلابد لكي تطلب العلم إلى أن تتحلى بهذه الأمور: ذكاء وإخلاص وصدق وبلغة، وهذه هي إمكانات العلم، وصحبة أستاذ وطول زمان، فصحبة الأستاذ تتعلم منها الأدب قبل العلم، وكيف يكون علمك هذا حجة لك لا عليك، وكيف تجعل هذا العلم نبراساً يضيء لك طريقك، فكم رأينا من علماء صار علمهم وبالاً عليهم، وكم رأينا من علماء استعملوا آلة الدين للدنيا، وكم رأينا من علماء أكبوا على وجههم والعياذ بالله في النار، وقد كان من المفروض أن يقودهم علمهم إلى جنة الله تعالى.(14/20)
فضل العلم وأهمية الصدق فيه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: فيسعدني في هذا اليوم أن أجلس بين إخواني ومشايخي لكي أشارك معهم وقد شاركنا من قبل، وكلما تجددت علينا هذه المجالس ازددنا بذلك غبطة وفرحة، وازداد رجاؤنا في الله عز وجل، حيث نرى كل يوم ونسمع ونشهد إخواناً لنا يطلبون العلم ويجلسون أمام العلماء، فإن في ذلك صحوة للأمة، وهي ثمرة ما يبذله مشايخنا الأفاضل وعلى رأسهم أستاذنا وشيخنا الدكتور سيد حسين العفاني الذي ما كنت لأجرؤ أن أتكلم بين يديه، ولكن كما كان منهج سلفنا رضي الله تعالى عنهم، فقد كان عكرمة يتكلم بين يدي عبد الله بن عباس رضي الله عنه، حتى إذا أخطأ أو مال عن الصواب أرشده وبين له.
إن موضوع الصدق له أهميته ومكانته؛ ذلك أننا لا نستطيع أن نطلب العلم إلا بالصدق، ونحن نسمع كثيراً عن فضل العلم، ويكفي في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)، فهذا من أعظم الفضل والشرف أن يكون الإنسان وريث الأنبياء يحمل العلم من بعدهم.
وقال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
ولكن هذا العلم لكي نتحصل عليه وننال هذا الشرف لابد فيه من الصدق.(14/21)
بيان شمولية معنى الصدق والكذب
وبعض الناس يظن أن الصدق هو مجرد الصدق في الكلام والحديث، أي: أنك عندما تتكلم لا تكذب، وهذا أحد جوانب الصدق وأحد أقسامه، بل ربما يكون أقل أقسامه، وإن كان المتخلف عنها في عداد المنافقين، وهناك أقسام أخرى للصدق: من ذلك الصدق في الإخلاص، فقد يدعي الإنسان الإخلاص وهو كاذب في إخلاصه، والدليل على ذلك: حديث الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار يوم القيامة، (فيؤتى بأحدهم فيسأله الله ويعرفه نعمه فيعرفها، فيقول: ماذا عملت؟ فيقول: قرأت فيك القرآن وتعلمت العلم وعلمته، فيقول الله: كذبت).
والكذب هنا ليس كذباً في الكلام ولكنه كذب في الإخلاص، فهو حقاً قد قرأ القرآن وتعلم العلم وعلمه، لكنه لم يفعل ذلك لله عز وجل، ولكنه قرأ ليقال: قارئ، وتعلم ليقال: عالم، وقد قيل، ثم يؤمر به فيسحب على وجهه حتى يلقى في النار.
ثم ذكر بقية الثلاثة وفيهم الجواد الكريم الذي يقول له الله عز وجل: كذبت؛ إنما أنفقت ليقال: جواد، وفيهم المقاتل في سبيل الله الذي يقول له الله عز وجل: كذبت؛ إنما قاتلت ليقال: شجاع وجريء، فقد قيل.(14/22)
الصدق في العزم وطلب العلم
وهناك الصدق في العزم، مثل أنس بن النضر عندما صدق في عزمه، والله عز جل ذكر الذين يعاهدون الله عز وجل ولا يصدقون في عهدهم، فقال عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [التوبة:75 - 77] أي: كانوا في عهدهم كاذبين، وفي عزمهم غير صادقين.
فينبغي لمن أراد أن يطلب العلم أن يكون صادقاً مع الله عز وجل، فيترك كل شيء من أجل العلم، وهذا يحتاج إلى عزيمة قوية وقرار حاسم، وعندما نتكلم عن طالب العلم لا نقصد بأنك تجلس وتذاكر وتحفظ وتتعلم وتعرف التفسير فقط ثم لا تعرف موعظة توسع بها صدرك، وتنشط بها رجاءك، وتجدد بها نشاطك، ولكننا نريد الثمرة، فنحن محتاجون إلى علماء للأمة يأخذون بيدها إلى الرشاد والحق والهدى، فأين هذه الثمار؟ وأين البذل لله عز وجل؟ فلا ينفع أن تأتي وتسمع محاضرة مدة ساعة أو ساعتين ثم تذهب وتنام، بل لابد أن تكون حياتك كلها للعلم، والعلم لا ينال براحة الجسم، وأما إرادة بعض العلم والتعذر بأنك لست فارغاً أو عندك أشغال أو أتعبك العيال فهذه كلها معاذير، فلماذا لا تعكس المسألة وتقول: عندي درس علم، ولست فارغاً للذهاب في المشاوير؛ من أجل درس العلم، ولست فارغاً لمقابلة الضيوف؛ من أجل درس العلم، ولست فارغاً لأن أفسح على العيال؛ من أجل درس العلم؟! فلماذا جعلنا العلم بل جعلنا أعمالنا كلها التي هي مع الله عز وجل على هامش الحياة، فبعد أن نأكل ونشرب وننام ونتكلم ونصاحب ونمزح ونمرح بعد ذلك نفكر أننا نمسك المصحف ونقرأ، ونفكر أننا نمسك كتاب صحيح مسلم ونحفظ منه حديثاً، أو نفكر أننا نتعلم مسألة من مسائل الفقه؟! والله عز وجل يقول: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، وأبو هريرة لما كانوا ينكرون عليه كثرة الحديث قال: كنت أصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملء بطني، يعني: كان أهم شيء عنده أن يتعلم من النبي عليه الصلاة والسلام.
وكان السلف يذلون أنفسهم من أجل العلم، فـ عبد الله بن عباس -وهو من هو شرفاً ومكانةً وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم- يقول: كنت آتي هذا الحي من الأنصار لما أعلم ما عندهم من العلم، فأقيل عند باب أحدهم وإني لأعلم أني لو استأذنته لأذن لي.
وكان يفعل ذلك ليطيب بها نفسه، ويرقق بها قلبه.
فكانوا يذلون أنفسهم بصدق في العلم.
والإمام الشافعي الذي تربى يتيماً يقول: كنت يتيماً في حجر أمي، وكانت لا تجد ما تعطيه المعلم.
وهذه العادة موجودة حتى الآن في الريف، فالشيخ الذي يحفظ الأطفال في الكتاب منهم من يعطيه خبزاً، ومنهم من يعطيه دقيقاً، ومنهم من يعطيه أشياء يعيش بها، فكانت أم الشافعي لا تجد ما تعطي المعلم.
قال: فرضي مني أن أخلفه في مجلسه، يعني: ينظف المجلس بعدما يقوم المدرس ويمسحه، حتى حفظ كتاب الله عز وجل، ثم جلس في مجالس العلماء، قال: فكنت لا أجد ما أشتري به القراطيس -يعني: الأوراق التي يكتب فيها- فكنت أذهب إلى المزابل فإذا وجدت عظماً يلوح أخذته فكتبت عليه، حتى إذا امتلأ جعلته في جرة لنا قديمة، هذا هو الإمام الشافعي الذي مات وله خمسون سنة وقد ملأ علمه الآفاق، وهو أول من علم الناس علم أصول الفقه، وصنف كتاب الرسالة.
وكان عمر بن عبد العزيز يذهب إلى العلماء فمنهم من يدخله ومنهم من يرجعه.
فكانوا يذلون أنفسهم بصدق في العلم، وكانوا يقولون: من طلب الحديث أفلس، ولا ينال العلم إلا بالفقر، يعني: أنك تفتقر من كثرة الطلب ومن كثر الإنفاق، فإذا علمت أن منزلة العالم منزلة عظيمة عند الله عز وجل فينبغي عليك أن تنفق كل غال ورخيص من أجل أن تنال هذا العلم.(14/23)
تفضيل العلماء على المجاهدين
ويكفي أهل العلم شرفاً أنه عندما ذكر ابن القيم رحمه الله تعالى مكانة العلماء في طبقات المكلفين ذكر مسألة وهي: هل العلماء أعظم منزلة أم المجاهدون؟ وكلنا يعلم منزلة المجاهد عند الله عز وجل، وانتهى في بحثه وتحقيقه إلى أن العالم أفضل مكانةً من المجاهد، فإذا كانت الأبواب مغلقة تمنعك من الذهاب للجهاد ونصرة إخوانك في كل مكان فهناك أبواب مفتوحة فجاهد فيها، ومنزلتها أعظم، ولعل الله عز وجل يغير على يديك وبعلمك من يقود الأمة، فربما يقعد طفل صغير بين يديك لتعلمه وترشده وتثبته على طريق الحق، فيكون سبباً لهداية الأمة.
ونحن نذكر قصة الغلام الذي هداه الله عز وجل على يد راهب، فكان هذا الغلام سبباً لهداية الأمة كلها، حتى قال له الراهب: أي بني! إنك اليوم صرت أعظم مني وأفضل.
وهذا دليل على صدق هذا الرجل في تعليمه للغلام، ولم يدخله غيرة ولا حسد، ولكنه قال للغلام: أنت اليوم أفضل مني.
ولا يتسع الوقت لأن نحكي هذه القصص، فكلها والحمد لله قصص مشهورة، ولكن هذا الغلام كان سبباً هدى الله سبحانه وتعالى الناس على يديه بعدما وصل الأمر إلى الملك، ثم كان ما كان حتى قال الناس جميعاً: آمنا برب الغلام.
فأبواب الخير عند الله عز وجل كثيرة، ولا تدري من أي باب ينصر الله عز وجل دينه، فرب طفل صغير أو إنسان يتعلم على يديك يكون سبباً لنجاة الأمة، ويكون سبباً لفتح باب الجهاد في سبيل الله عز وجل، فلا تترك أنت هذا الباب، وباب العلم مفتوح والحمد لله، وكتب العلم كثيرة، والعلماء بين يديك فاجلس واطلب العلم.
وقد استدل ابن القيم في تحقيقه أن العلماء أعظم منزلة من المجاهدين بقوله صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء)؛ لأن الذي يرث الميت أقرب الناس إليه، فهم أقرب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم ورثوا العلم، وقال صلى الله عليه وسلم: (وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم).
قال: وأيضاً فإن العالم في جهاد مستمر لا كالمجاهد في المعركة، بل حتى وهو نائم يجاهد، فحياته كلها في جهاد مع أهل البدع والفرق، ومع أهل الملل والنحل، فيرد الشبهات عن الأمة ويدفعها عنها.
وقد كانت الشبهات من قريب عن اللحية والنقاب والسواك، ولكن كثر الكلام الآن، فهم الآن يتكلمون في أصول الدين، وفي العقائد، وفي مصادر الإسلام، ويتكلمون عن البخاري ومسلم، وعن كتب السنة التي هي الأصول، ويتكلمون عن الشرائع، وعن الحج، كالذين يقترحون على الناس أن يقسم يوم عرفة على سبعين يوماً؛ من أجل الزحام.
ومنهم من يحاول أن يمنع الناس من أداء الحج والعمرة؛ بحجة أن هذه الأموال التي تنفق صرفها على الفقراء والمرضى أولى، ومن ثم لا يضيع اقتصاد الأمة، حيث تنفق في هذه الرحلة أكثر من مليار، ونحن محتاجون لها؛ إذ علينا ديون، ونسي حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (تابعوا بين الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب)، ومن غير العلماء سيدفع عن الأمة هذه الشبهات إذا كان كل أحد فيها همه جمع الأموال ولا يشبع من المال الذي يجمعه، وكما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لتمنى أن يكون له ثانٍ، ولو كان له واديان لتمنى أن يكون له ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب).
وإذا رزقت القناعة فهذا هو الكنز الذي لا يفنى، فإنك إذا رزقت القناعة فلقمة من كسرة تكفيك، وإن لم ترزق القناعة فمال الأرض كله لا يكفيك، وستظل ترى الفقر أمام عينك.
ومن الشبهات: أن هناك من يقول: إن الهندوس بشر مثلنا، ولهم دين مثل ما لنا نحن دين، ولهم رب يرحمهم مثل ما لنا نحن رب يرحمنا، مع أنهم يتكلمون في العقائد وفي المسائل التي نقول عنها: إنها معلومة من الدين بالضرورة، ويعلمها العامي والعالم والصبي والصغير والكبير.
إذاً: فلابد من الصدق في طلب العلم، وبذل كل أوقاتنا وحياتنا في سبيله.
إن مجيئك إلى المسجد نعمة كبيرة جداً وفضل من الله واصطفاء واختيار منه عز وجل، فربنا اصطفاك من وسط هؤلاء الناس جميعاً لأن تكون في المسجد في طاعة لله عز وجل.
أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقني وإياكم الصدق في القول والعمل، وأن يجعلني وإياكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.(14/24)
بيان ضرورة العلم لكل عمل
الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وبها يرتفع العبد في الدرجات، الحمد لله الذي من علينا وجمعنا في بيته الكريم الطاهر، أما بعد: فإن طلب العلم ضرورة لكل عمل، فأنت إذا أردت أن تدعو الناس إلى الله فلابد أن تكون على علم، وإذا أردت أن تستقيم على طريق الله فلابد أن تكون على علم، وإذا أردت أن تجاهد في سبيل الله فلابد أن تكون على علم، وكل عمل تعمله فلابد وأن يكون على علم وعلى نور يضيء لك الطريق؛ حتى لا تريد طاعة الله فتقع في معصيته.
وقد قال بعض السلف: إنك إذا لم تحسن أن تتقي لقيتك امرأة فنظرت إليها ووقعت في الحرام، وإذا لم تحسن أن تتقي أكلت الربا، وإذا لم تحسن أن تتقي وضعت سيفك على عاتقك، يعني: قاتلت به المسلمين.
فأنت إن لم تتعلم فكيف تحيا بالدين، وكيف تعيش لله تبارك وتعالى، فستقع ولاشك فيما يغضب الله عز وجل.(14/25)
أهمية التدرج في طلب العلم
كان سلفنا الصالح يبدأون بصغار العلم قبل كباره، ونحن نريد أن نخرج من تلك الحالة السيئة التي يعيشها أغلب الملتزمين أو أغلب المتدينين، حيث إنه يأخذ علمه نتفاً ينتفها من الكتب، فقد يروق له هذا الكتاب تارة فيأخذ منه صفحة أو صفحتين أو غير ذلك، ثم ينتقل إلى غيره، ثم إلى ثالث وإلى رابع، ويكون حاله كحال ذلك الرجل الذي قص علي بعض إخواني مثله، قال: إنه منذ ثلاثين عاماً يتعلم لكنه ما حصل شيئاً، فقيل له: كيف ثلاثون عاماً وما حصلت شيئاً؟! قال: إن مثلي كمثل رجل أراد أن يحفر بئراً ليتحصل على الماء، وكان الماء مثلاً على مسافة عشرة أمتار، فجاء وحفر خمسة أمتار في بئر ثم تركه، وانطلق إلى موقع آخر فحفر مترين، ثم إلى ثالث فحفر سبعة وإلى رابع وهكذا حتى حفر ثلاثين بئراً، وهو يحفر فيها ما بين متر ومترين وخمسة، فظل هكذا وما تحصل على الماء، ولو بقي على البئر الأول حتى حفر الأمتار العشرة لتحصل على الماء.
وهذا بالضبط مثل من يأخذ من هذا الكتاب تارة ومن هذا تارة، فلم يحصل علماً ولا أصولاً ولا وقف على أرض صلبة، ولو علم نفسه الصبر، وجلس وزاحم العلماء بالركب، وصبر نفسه ورباها وعودها على أن تتعلم ممن سبقها، وأن تبدأ من حيث انتهى الآخرون، وأن تتعلم ما تحبه وما تكرهه، وما تشتهيه وما لا تشتهيه؛ لأنه إنما يتعلم لله جل وعلا لا لكي يقضي وطره، أو لكي يشبع شهوته، أو يلائم هواه، فلو صبرها على هذا لنال بفضل الله العلم والتربية.
ومسك الختام هو أن نرد الأمر إلى أهله، ونعطي أصحاب الحقوق حقوقهم، وما شكر الله جل وعلا من لم يشكر الناس، وما شكر الله تبارك وتعالى من لم يشكر من أجرى النعمة على يديه.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي صح عنه: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه).
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالأخذ بالأسباب لنتعلم، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فمن تقواك لله جل وعلا أن تسلك سبيل العلم، واعلم أنك لن تصل إلى الله جل وعلا إلا عن طريق العلم، فالسائر على غير علم كالسائر على غير طريق، والذي يعبد الله جل وعلا على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقليل مع العلم خير من كثير بغير علم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع ليتعلموا ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في هذه الأعمال، وأن يجعلها خالصة لوجهه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم في الجنة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(14/26)
أهمية الأخذ بالأسباب في طلب العلم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد: قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الذي صح عنه: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتق الشر يوقه).
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم أمرنا بالأخذ بالأسباب لنتعلم، وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282]، فمن تقواك لله جل وعلا أن تسلك سبيل العلم، واعلم أنك لن تصل إلى الله جل وعلا إلا عن طريق العلم، فالسائر على غير علم كالسائر على غير طريق، والذي يعبد الله جل وعلا على غير علم يفسد أكثر مما يصلح، فقليل مع العلم خير من كثير بغير علم.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق الجميع ليتعلموا ما ينفعهم في دينهم ودنياهم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يبارك في هذه الأعمال، وأن يجعلها خالصة لوجهه، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجمعنا وإياكم في الجنة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(14/27)
البحار الزاخرة في فضل المغفرة
لقد خلق الله الإنسان وجعله معرض للخطأ والتقصير والنسيان، ومن رحمته سبحانه أن فتح باب التوبة والمغفرة لمن عاد إليه وتاب واستغفر من ذنوبه، وحث سبحانه على المبادرة إلى التوبة، ويسر طريقها للسالكين، وسمى نفسه الغفور الرحيم.(15/1)
الحث على المبادرة بالتوبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين، ثم أما بعد: قال تعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين، وكلام الملوك ملوك الكلام {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ * أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر:53 - 60].
يا ابن آدم ابسط الحزن على قراب الأسف، وقل قد قدم الغائب، وقل: قد مسنا وأهلنا الضر.
يا غافر الذنب العظيم وقابلاً للتوب قلب تائب ناجاك أترده وترد صادق توبتي حاشاك تطرد تائباً حاشاك ما لي وأبواب الملوك وأنت من خلق الملوك وقسم الأرزاق ما لي وما للأقوياء وأنت يا رب القوي ولا تحد قواك يا أيها الماء المهين من الذي سواك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد واراك ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جمعيها أنجاك ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي بظهوره أعلاك ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساك قال ابن مسعود الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (وتمسكوا بهدي ابن أم عبد) قال: وددت لو أن الله غفر لي ذنباً واحداً وأني دعيت، ولا يدرى لي نسب.
إن مغفرة الذنب عظيمة، وأرجى آية في كتاب الله عز وجل للعصاة النافرين الشاردين عن باب الله عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]، وليس العجب من نائم لا يدري كم مر من عمره، إنما الأعجب من نائم في يقظته، {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} [مريم:84].
آخر العدد فراق روحك، آخر العدد ركوب نعشك، آخر العدد دخول قبرك، آخر العدد عرصات القيامة، وتطاير الصحف، آخر العدد المرور على الصراط، فاتق الله عز وجل في أيامك التي تذهب هدراً، ولا تدري ما قيمتها، فمغفرة الذنوب لها قدر عظيم عند الله عز وجل، ويكفي من شأنها أن غفران الذنوب صفة من صفات الله عز وجل، قال الله تبارك وتعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3]، والتوب هنا: مصدر، بمعنى أن أقل توبة يقبلها الله عز وجل، فما ظنك بالتوبة النصوح، (يا عبادي، كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم).
ومن أعجب الأشياء: أن تعرفه ثم لا تحبه، وأنت تسمع داعيه ثم تتأخر في إجابته، وأنت تعرف قدر الربح في معاملته ثم تعامل غيره، وتعلم قدر غضبه ثم تتعرض له، وتعلم قسوة القلب عند الخوض في غير حديثه ثم لا ترتاح إلى ذكره، وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت فيما يبعدك عنه راغب، لقد أعطاك ما لم تأمل، وبلغك ما لم تطلب، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام، فكم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك.
يا أهل الموت والفناء! كيف تستنكفون عن عبادته ولا رب لكم غيره، ولا واحد وارث لكم سواه، ينادى بصوت عزته: لا يسأل عما يفعل وهم يسئلون، ويصاح على محجة حجته: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون، وينزل جاسوس علمه: لا يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، ويترنم منشد فضله: لا تقطنوا من رحمة الله، ويهتف بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34]، وكل موافق ومخالف يمشي وفق مشيئته، ويتقلب في قبضته، يا ابن آدم إنه ليس أعز من خالق طلبته بيده، وليس أذل من مخلوق هو بيد طالبه.(15/2)
فضل المغفرة
إن للمغفرة فضلاً عظيماً، فالله عز وجل وصف نفسه بأنه الغفار، فقال سبحانه: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج:14]، وقد كتبها الله تعالى بيده قبل أن يخلق الخلق، فكتب كتاب الرحمة بيده، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تسبق غضبي.
وقد فتح الله عز وجل باب التوبة أمام اليهود -عليهم لعائن الله- وهم الذين قالوا: إن يد الله مغلولة، وقالوا: إن الله فقير ونحن أغنياء، وهم الذين ادعوا له الولد، وقتلوا أنبياءه، وأمام النصارى الذين قالوا: إن ثالث ثلاثة، فقال الله عز وجل: {أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ} [المائدة:74]، فيقتلون أولياءه ثم يدعوهم إلى التوبة!! {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج:10] أي: حرقوا المؤمنين والمؤمنات، {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10].
فأي كرم أفضل من كرم الله عز وجل، وأي نعمة سابغة أفضل من نعم الله عز وجل، هذا فعله بمن عصاه فكيف إرادته بمن أطاعه، إن كان هذا فعل الله عز وجل بالبعيدين عن بابه، فكيف بالمقربين الداعين إلى ثوابه؟! حكى ذو النون المصري أنه رأى ضفدعة كبيرة تسبح في الغدير وعليها أفعى، فقال: إن لهذه الضفدعة لشأناً، فعبر وراءها الغدير فلما وصلت إلى سطح الغدير الثاني إذا برجل سكران مخمور نائم وحية أخرى أرادت أن تلسعه في أذنه، وإذا بالأفعى تنزل من على ظهر هذه الضفدع ثم تستجمع كل قواها فتقتل تلك الأفعى، فيوقظه ذو النون ويقول له: يا غافلاً والجليل يحرسه عن كل شيء دب في الظلم كيف تنام العيون عن ملك تأتيك منه فوائد النعم فبكى الرجل فقال: يا رب، هذه إرادتك بمن عصاك فكيف إرادتك بمن أطاعك؟ إن فضل الله عز وجل في التوبة لا يدانيه فضل، والله تبارك وتعالى يسوي بين دعوته إلى الجنة وبين دعوته إلى المغفرة، قال الله تبارك وتعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [البقرة:221]، فيسوي بين الجنة وبين المغفرة، بل لا يدخلون الجنة حتى يغفر الله عز وجل لهم، قال الله عز وجل: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
وقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد:21].
فالله عز وجل من كرمه وفضله يدعو عباده إلى المغفرة، ويفتح لهم باب التوبة على مصراعيه.(15/3)
حرمان الله الشيطان من المغفرة ومنه بها على ابن آدم
ومن عظم المغفرة: أن الله عز وجل حرمها الشيطان ومن بها على ابن آدم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان قال: وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم.
فقال الرب: وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(15/4)
امتنان الله على نبيه بالمغفرة
من فضل المغفرة: أن الله تبارك وتعالى امتن بها على نبيه، فقال: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح:1 - 2].
وفرح القلب الكبير قلب رسولنا بهذه المغفرة، وبغفران ما تقدم وما تأخر من ذنوبه، فيقول: (لقد أنزلت علي الليلة آيات أحب إلي مما طلعت عليه الشمس) أحب إليه من حمر النعم، وأحب إلي من الدنيا وما فيها، ففرح القلب الكبير وأدى شكر هذه النعمة.
تقول له السيدة عائشة حينما رأته يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، تقول: يا رسول الله! أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر! يقول: (يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً).(15/5)
الشفاعة العظمى هي طلب المغفرة لأًصحاب الكبائر من هذه الأمة
ومن أعظم المغفرة عند الله عز وجل: أن طلب المغفرة هي الشفاعة العظمى، وهي مقام نبينا المحمود، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، والمقام المحمود لم ينله أحد من البشر إلا نبينا.
إن مقام الشفاعة العظمى للخلائق بأسرهم هو مقام طلب المغفرة لأصحاب الكبائر من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هي الدعوة التي خبأها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لكل نبي دعوة مستجابة، فتعجل كل نبي دعوته، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي).
بل إن الله عز وجل يخيره بين أن يدخل شطر أمته الجنة وبين الشفاعة وطلب المغفرة للخلق، فيختار الشفاعة لأمته، وهذا يدل على عظم هذه الشفاعة، ومن هنا نعلم قول سيدنا عبد الله بن مسعود: وددت أن الله غفر لي ذنباً واحداً ولا يدرى لي نسب.
وسؤال المغفرة والعفو عن الذنوب هو: السؤال في أحلى ليالي العمر، فقد يهون العمر إلا ليلة القدر، فأعظم دعاء مأثور عن نبينا: (اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عنا)، وأجمل ما يقوله الإنسان في ليلة القدر سؤال المغفرة، بل يقول النبي صلى الله عليه وسلم لصديق هذه الأمة ولحبيبه: (سل الله العافية، ما من الله تبارك وتعالى على عبده بأكثر من سؤاله العافية، وبأكثر من أن يستجيب الله تبارك وتعالى له).
ودعوة الأنبياء كانت دعوة للتوحيد ولغفران الذنوب، يقول سيدنا نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:10 - 13] أي: ما لكم لا تعظمون الله وتخافون منه.
ويذكر أنه كان هناك امرأة عاقر عقيم لا تلد، فأخذت هذه الآية وجعلت تمسح بها على بطنها وتدعو الله عز وجل، وتستغفر من ذنبها، ثم من الله تبارك وتعالى عليها بأن حملت بعد أن احتار فيها الأطباء، {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح:10 - 13].
إن انكسار القلب وخضوعه وذله واستسلامه بين يدي الله عز وجل، وخضوع الجوارح -كل ذلك لا يحصل إلا بذنب، ثم يتوب العبد منه، وأنين المستغفرين أحب إلى الله عز وجل من زجل المسبحين، تقابل المولى عز وجل بضعفك وذلك وفقرك وتقول: أسألك بغناك عني، وبفقري إليك، أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني، هذه ناصية خاطئة كاذبة بين يديك، أسألك سؤال من رغم لك أنفه، وذلت لك جبهته إلا عفوت عني، ولذلك كان سيد الاستغفار كما جاء عن شداد بن أوس قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت).
هذا الدعاء كان سيد الاستغفار لأنك تسير إلى الله عز وجل بين مشاهدتك لنعم الله عز وجل عليك، وبين ذكرك لعيوب نفسك، فانظر إلى ربك نظرة، ثم انظر إلى نفسك الحقيرة اللوامة نظرة، فستعود إلى الله عز وجل قائلاً (اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي)، فقد خلوت بمحارم الله عز وجل ولم ترك إلا عين الله عز وجل، ثم أقدمت على المعصية وجعلت الله أهون الناظرين إليك.
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني إذا ارتكبت ذنباً واحداً فاعلم أن الله مطلع عليك، وهو يراقبك من فوق سبع سموات، يقول بلال بن سعد: لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلا كبرياء من واجهته بها.
يا رب أتراك تغفر وترحم من لم تقر عيناه بالمعاصي حتى علم أن لا عين تراه غيرك، قدر قيمة هذا الجناب العظيم، وابك بكاء الندم على ما فاتك من طاعة الله عز وجل.
ابن سنة كان تائباً، فلما حسب سنين عمره وجدها إحدى وستين سنة، وعدد أيامها عشرون ألف يوم، فقال: إن كان هذا عدد الأيام فكيف وفي كل لحظة ذنب، كيف تلقى الملك، ثم مات الرجل من ساعته.(15/6)
استغفار حملة العرش للمؤمنين
ومن فضل المغفرة وعظمها: استغفار حملة العرش للمؤمنين، ومن نحن حتى يستغفر لنا أحد حملة العرش الذين قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أحدهم: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش قد مرقت رجلاه الأرض السابعة، وعنقه منثنية تحت العرش، والعرش على كاهله، خفقان الطير ما بين منكبيه مسيرة سبعمائة سنة) صححه الشيخ الألباني.
فهؤلاء يستغفرون لك، يقول الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].
ثم يذكر هذا التائب في الملأ الأعلى، وينادى: هذا التائب قد أقبل على ربه، فسيد القضاة أبي بن كعب يقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يأمرني أن أقرأ عليك: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البينة:1]، قال: وذكرت يا رسول الله هناك في الملأ الأعلى، قال: نعم، فبكى أبي، فقيل له: لم البكاء؟ قال: ولم لا أبكي، {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]).
يقول سيدنا يحيى بن معاذ: يا غفول يا جهول لو سمعت صرير الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند توبتك، وعند ذكرك لمولاك، لمت شوقاً إلى مولاك.
يا جوهرة بمزبلة لا تعرف قدرها! أنت المراد من هذا الكون، كم من ملك في السموات والأرض لا تذوق أعينهم غمضاً ليس لهم مرتبة: تتجافى جنوبهم عن المضاجع، فإذا قمت من الليل ساعة أو نصف ساعة فإنك تحمل صفة: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ} [السجدة:16]، وكم ملك في السموات والأرض ما ذاقوا طعاماً، وما شربوا شراباً ليس لهم مرتبة: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك).
كم من ملك في السموات والأرض مسخرون لخدمتك يدخلون عليك دخول الرجل على سيده: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].
يا ولي الله! إن ربك يستأذنك في زيارتك، هذا قدرك عند الله عز وجل، وينسبك الله عز وجل إلى نفسه، فكفاك جزاءً على الطاعة أن رضيك لها أهلاً حتى لو لم يكن هناك جنة، كفاك ما تجد في صدرك من أحاسيس ومن شوق إلى الله عز وجل، ومن رضاً عنه سبحانه، بل يكفيك نعمة ذهابك إلى المساجد، فهذه نعمة أنت لا تقدرها، ولكن غيرك يحس بألم فقدها، حين يتمتع بكامل صحته، وبكامل عافيته ولا يستطيع أن يذهب إلى المسجد، وأنت تأتي إلى المسجد كل يوم خمس مرات، فكفاك جزاءً على الطاعة أن رضيك لها أهلاً.
وحسبي انتسابي من بعيد إليكم وذلك حظ مثله يتيمم إذا قيل هذا عبدهم ومحبهم تهلل بشراً ضاحكاً يتبسم(15/7)
تيسير الله سبحانه لطريق التوبة
الحمد لله حبيب قلوب التائبين، ومنتهى رغبة السالكين، ومحط آمال الراحلين.
من عظم التوبة عند الله عز وجل: أن الله سهل سبيلها لهذه الأمة، فجعل مجرد الندم توبة، ولم يسهل طريقها على بني إسرائيل لما عبدوا العجل من دون الله عز وجل، فلم يتب الله عز وجل عليهم حتى قام كل رجل منهم على الآخر بسيفه، فلم يأذن الله تبارك وتعالى في التوبة لعبده موسى إلا بعد قتل سبعون ألف يهودي، كما قال الله تبارك وتعالى: {فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} [البقرة:54] يعني: اقتلوا إخوانكم ممن عبدوا العجل، وألقى الله تبارك وتعالى عليهم الظلمة، ثم أمسك الرجل من الذين لم يعبدوا العجل السكين وطعن بها من وجده ممن عبد العجل، سواء كان أباه، أو أخاه، حتى قتل سبعون ألف يهودي، ثم تاب الله تبارك وتعالى عليهم.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الندم توبة)، ويكفي أن يعلم الله عز وجل الصدق من قلبك فيتوب عليك.
وانظر إلى الذين تاب الله تبارك وتعالى عليهم كـ عكرمة بن أبي جهل الذي حاد الله ورسوله، وقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه، ثم بعد ذلك من الله عليه بالتوبة، وقتل شهيداً في سبيل الله عز وجل.
وسيدنا خالد بن الوليد في معركة اليرموك يقول له: يا أبا عمرو استبقنا لنفسك، فيقول: إليك عني يا خالد، لقد قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل معركة أفأفر اليوم عن الجنة!! من يبايع على الموت؟ فقتل، وقتل عمه، وقتل ابنه.
ويتوب الله على سجاح التي ادعت النبوة كما قال العلامة ابن كثير، بل وعلى طليحة الأزدي الذي ادعى النبوة، ولم يسلم إلا في عهد أبي بكر، وكان أحد أبطال معركة القادسية ومات شهيداً بعد القادسية، فماذا تنتظر بعد ذلك وقد فتح باب التوبة على مصراعيها.
والأمر مع الله عز وجل ليس بالأيام، ولا بعدد السنين التي قضيتها في طاعته، فقد يتوب تائب اليوم ويعلي الله تبارك وتعالى درجته، فانظر إلى السحرة الذين كانوا في أول الأمر يقسمون برأس فرعون، ويعدون القرب من فرعون مغنماً، ثم بعد ذلك يتوب الله تبارك وتعالى عليهم، فلما سجدوا نظروا إلى قصورهم في الجنة فقالوا: {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [طه:72 - 73].
أيها المؤمنون! لا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم آلهة، جاء في الأثر: يا داود حببني إلى خلقي، قال: كيف يا ربي؟ قال: ذكرهم بنعمي عليهم، فإنهم لم يعرفوا مني إلا الجميل، يا داود لو يعلم المدبرون عني كيف انتظاري لهم ورحمتي إياهم لتقطعت أوصالهم شوقاً إلي، هذه إرادتي في المدبرين عني، فكيف بالمقبلين علي! ادع إلى الله عز وجل لعل الله ينقذ بك أحد الشباب الضائعين فيكون في ميزان حسناتك، ويكون خيراً لك من الدنيا وما فيها، حبب الله عز وجل إلى خلقه، لا تقنطهم من رحمة الله عز وجل، لا تنظر في ذنب الناس كأنك إله، يسر الأمر على عباد الله عز وجل، ووسع لهم طريق التوبة، وضيق أنت على نفسك بالخوف، كما كان الفضيل بن عياض، فقد رأى أهل الموقف وهم يبكون فبكى رحمه الله إلى قبيل الغروب وهو قابض بيده على لحيته، ثم قال: واسوأتاه منك وإن عفوت، واخجلي منك حتى وإن غفرت لي حتى وإن تبت علي، ثم بعد ذلك يقول لـ شعيب بن حرب: من أسوأ الناس؟ قال: لا أدري، قال: من يظن أن الله عز وجل لا يغفر لهؤلاء، أفترى لو أن جماعة مثل هؤلاء أتوا إلى باب غني فسألوه دانقاً -أي: سدس درهم- أفكان يردهم مع بكائهم؟ قال: لا، قال: فوالله للمغفرة أهون على الله عز وجل من الدانق على هذا الغني.
هذا هو الفضيل بن عياض سيد من سادات الأمة، كان سيدنا سفيان بن عيينة إذا قابله يقبل يده، ويقبل رأسه، وسيدنا عبد الله بن المبارك يقول له: إيه لا يحسن هذا غيرك يا طبيب القلوب.
يقول عبد الله بن المبارك: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل، فجدد لي الحزن، فأمقت نفسي.
وقد كان الفضيل في أول أمره قاطع طريق، وكان عاشقاً للنساء، وبينما هو ذات ليلة يتسلق الجدار ليصل إلى معشوقته، سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد:16]، فقال: آن الأوان، وتاب إلى الله وقبل العلماء يديه، هذا هو الفضيل بن عياض.
وكذلك بشر الحافي، كان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة من مسائل الزهد يقول: أتسألوني عن الورع وفيكم بشر؟! وقد كان في بداية أمره يستمع إلى الغناء وإلى الجواري، ثم مر عابد ببابه فقال لجاريته: لمن هذا القصر؟ قالت: لسيدها بشر، قال: عبد هو أم حر؟ قالت: حر، قال: صدقت يا بنيتي! لو كان عبداً لاستعمل آداب العبودية، ولرأى حق العبودية، فسمعه بشر من بيته فخرج إلى الرجل حافياً وتاب على يديه، ثم بعد ذلك ما لبس نعلاً في رجله، وقال: حالة وصلت إلى الله عن طريقها وعرفت الله بها، لا أفارقها أبداً.(15/8)
حجب التوبة عن المنافقين
من عظم المغفرة: أن الله حجبها عن المنافقين والكافرين، قال الله في شأن المنافقين: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:80].
وقال عن الكافرين: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ} [النساء:168 - 169].
وحجبها عن أصحاب البدع، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله حجب التوبة عن كل صاحب بدعة حتى يدع بدعته).(15/9)
سؤال الأنبياء مغفرة الله
من عظم المغفرة أن الأنبياء يسألونها من الله تعالى، يقول سيدنا نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28].
وقال إبراهيم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].
فعليك أيها المسلم أن تسأل الله المغفرة فإنك من الله بمكان، قال حبيبنا الشيخ أبو إسحاق: لا تحقر نفسك، أنت عند الله بمكان، فقبل أن توجد يستغفر لك الأنبياء، فسيدنا نوح يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].
وأنت داخل في عموم {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].
وسيدنا إبراهيم يدعو لك كما جاء في سورة إبراهيم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم:41].
والنبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لك، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
وأصحاب الأنبياء يسألون الله عز وجل المغفرة، كما قال الله عز وجل: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:146 - 147].
وأولوا الألباب يسألون المغفرة {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ} [آل عمران:193].
وكذلك المتهجدين الذين يقومون الليل بين يدي الله عز وجل، {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].(15/10)
استمرار المغفرة إلى عرصات القيامة
ومن عظم المغفرة: أنها تستمر إلى عرصات القيامة عند المرور على الصراط، وأعظم دعاء للنبي صلى الله عليه وسلم هناك (اللهم سلم، اللهم سلم).
{يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم:8].
فتستمر المغفرة حتى عرصات القيامة.(15/11)
من كذب بالشفاعة فليس من أهلها
ومن عظم المغفرة: أن من كذب بالشفاعة -وهي: سؤال المغفرة- فلا يكون من شفعاء الله عز وجل في عباده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين -أي: الذين يسألون الله عز وجل طرد عباده من رحمته- لا يكونون شفعاء للناس يوم القيامة).
وقال سيدنا أنس: من كذب بالشفاعة فليس من أهلها.
فلا تقبل منه شفاعة.
ولذلك: من آدب الإسلام ومن معتقد أهل السنة والجماعة: أنك لا تدعو على كافر حي على ظهر الأرض باللعنة؛ لأن اللعنة دعاء بالطرد مطلقاً من رحمة الله، وطالما أنه في دار الدنيا فقد يختم الله له بالإسلام، كما ختم لـ عكرمة بن أبي جهل، وباب التوبة مفتوح، ولذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: لا تدعو على معين باللعنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعو على رعل وذكوان حتى نزل عليه قول الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128]، وهم يحاربونه، ويقتلون أصحابه، وبرغم هذا يقول له الله عز وجل: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:128].
وادع على الكافرين بما شئت، قل مثلاً: لعنة الله على الكافرين، لعنة الله على اليهود، لعنة الله على النصارى، أما المعين فلا يجوز لعنه باسمه، ولا تدعو عليه مطلقاً، وإذا قلت: الله يلعن المتبرجات وأنت تقصد واحدة بعينها فهذا لا يجوز، فالدعاء باللعن على المعين لا يجوز، وهذا من رحمة الله تبارك وتعالى بعباده.(15/12)
شفاعة النبي لأهل الكبائر
من أصول أهل السنة والجماعة: أنهم يثبتون الشفاعة لنبينا صلى الله عليه وسلم، وأما الخوارج فيضيقون باب الرحمة، ويحجرون واسعاً، ويكفرون من يأتي بالكبيرة، ويحكمون عليه بالخلود في النار، والمعتزلة يقولون: إن صاحب الكبيرة مخلد في النار، ولكنه في منزلة بين المنزلتين، فلا هو مؤمن ولا هو كافر.
وأما أهل السنة فيقولون: لا نحكم على معين بالنار، فقد يتوب الله تبارك وتعالى عليه، والناس على الإسلام، ولا نستطيع أن نحكم على واحد بالنار، كما لا نستطيع أن نحكم على رجل بالجنة، إلا من حكم له الشارع.(15/13)
الاستغفار شعار الصالحين
شعار الصالحين في كل لحظة هو الاستغفار، وحتى بعد الطاعات؛ لأنهم يعلمون أن لله من العظمة ما هو فوق طاعات الخلق، ولذلك يقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [البقرة:199]، {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
فهم أناس يقومون معظم الليل، فإذا كان السحر مدوا أيديهم مستغفرين، والنبي صلى الله عليه وسلم بعد مشوار من الدعوة والجهاد يأمره الله عز وجل بالاستغفار {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:3].
وسيدنا نوح بعد تسعمائة وخمسين سنة من الدعوة يختم دعوته بالاستغفار {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح:28].
فالباب مفتوح ولا يغلق أبداً، فهيا إلى ظلال الرحمة الندية المحيية لموتى النفوس، يا عفو عفوك عند السكرات، وفي القبور عفوك، وعند العرصات عفوك، وعند تطاير الصحف عفوك، وعند الميزان عفوك، وعلى الصراط عفوك.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين.
رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين، تقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك استعنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولبابك نقرع فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أنت أعلم به منا.
اللهم إنا نسألك لذة العيش بعد الموت، وحسن النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك.
اللهم احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا مفتونين، ولا مبدلين.
اللهم داو أمراض قلوبنا، اللهم لا تجمع بيننا وبين قوم طالما عاديناهم فيك، اللهم اجعل نبينا خير النبيين منزلاً يوم القيامة، اللهم شرف بنيانه، وأعل مكانه، وأتم نوره وتبيانه.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(15/14)
يا قومنا أجيبوا داعي الله
من رحمة الله سبحانه أن شرع لنا صوم شهر رمضان وقيامه، وقد ضاعف الله فيه الأجر والثواب، ولشهر رمضان فضائل تفرد بها على باقي الشهور، فهو شهر الجود والكرم، وشهر قراءة القرآن ففيه أنزل، وهو شهر أعز الله فيه الإسلام وأهله، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام وتابعيهم أسوة حسنة.(16/1)
فضل صيام شهر رمضان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله وعليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
إن في هذه الأيام تعرض النفحات، كما قال رسولنا صلى الله عليه وسلم، ألا فتعرضوا لها، فلعل أحدكم أن تصيبه نفحة من رحمة الله ما يشقى بعدها أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (افعلوا الخير جهرة، وتعرضوا لنفحات رحمة الله، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده).
فيا غيوم الغفلة عن القلوب تقشعي، ويا شمس التقوى والإيمان على القلوب اطلعي، ويا صحائف أعمال الصائمين ارتفعي، ويا أقدام المتهجدين لربك انصبي واركعي واسجدي، ويا عيون المتأدبين في ليل رمضان لا تهجعي، ويا همم المحبين بغير الله لا تقنعي: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف:31].
ضيف أنت حل على الأنام وأبسم المحيا بالصيام يجوب الدهر دواباً وفياً يعود مزاره في كل عام وتقبل كالغمام تفيض حباً فيبقى بعده أثر الغمام مسخت شعائر الضيفان لما قنعت من الضيافة بالمقام ورحت تتم للأزواد شرعاً من الإحسان علوي النظام بأن الجود حرمان وزهد ألذ من الشراب أو الطعام ها قد أتاكم شهر رمضان، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الناس بقدوم رمضان، فيقول: (أتاكم شهر رمضان)، قال العلامة ابن رجب الحنبلي: هذا الحديث أصل في تهنئة الناس بعضهم بعضاً بحلول شهر رمضان، فتقبل الله منا ومنكم الصلاة والصيام.
هذا الشهر العظيم هو شهر الصوم، ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (من ختم له بصيام يوم دخل الجنة).
والغاية من الصيام يحددها الله تبارك وتعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183].
جمهور المفسرين قالوا: ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) أي: لعلكم تصلون إلى الغاية التي شرعت من أجلها العبادات وهي التقوى، ولأديب الإسلام مصطفى صادق الرافعي في قوله تبارك وتعالى: ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) معنى آخر يخالف فيه جمهور أهل العلم، يقول: والتقوى هنا: من الاتقاء والوقاية، أي: يتقي الرجل أن يصير عبداً لجسده ولشهواته، وأن يعامل الناس على حساب الجسد فقط، فيرفرف بروحه بعيداً بعيداً عن عالم اللحم والحمأ المسنون، وثورة البطن والفم والفرج.
والصيام يا إخوتاه! أعظم وقاية من النار، يقول رسولنا صلى الله وعليه وسلم: (الصيام جنة كجنة أحدكم) فالصيام جنة لمن يصوم من النار.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض).
وهذا الأمر قد يقول الناس فيه: هذا أمر سهل، ولكن حين تعلم عن حال النار كما جاء في الحديث: (إن آخر من يخرج من النار يخرج منها حبواً فيقول لمولاه: اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك)، فقد استولى عليه الخوف من النار فيقول ذلك حتى يدخل الجنة، فبدءاً يقول: اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك، ويأخذ الله تبارك وتعالى منه العهد الميثاق ألا يسأله شيئاً غير ذلك، ثم بعد ذلك يغدر ابن آدم.
والشاهد: أن الصرف والزحزحة عن النار فلاح، وبصيام يوم يجعل الله تبارك وتعالى بينك وبين النار خندقاً كما بين السماء والأرض، فكيف بمدرسة الثلاثين يوماً، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صام يوماً في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار مائة عام).
وفي رواية: (سبعين خريفاً) وهذا ثمرة صيام يوم واحد.
ويخبرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام أنه كفارة للذنوب، فيقول: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
ويقول: (من ختم له بصيام يوم دخل الجنة).
فإذا أتى رمضان أتى الصوم بغفران الذنوب، يقول رسولنا صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات ما بينهن إذا اجتنبت الكبائر).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه)، ورجح الإمام النووي ومال إلى ذلك الحافظ ابن حجر: أن غفران الذنوب يشمل الصغائر والكبائر.
وقد يبدو لكم أن هذا الأمر هين، ولكن إذا قارنتموه بقول الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود: وددت أن الله غفر لي ذنباً واحداً وأنه لم يعرف لي نسب، فكيف إذا أتى الصيام بغفران الذنوب كلها ورسولكم صلى الله عليه وسلم يقول: (من صام يوماً في سبيل الله سقاه الله يوم العطش).
تصور أن أناساً يقفون أمام الله تبارك وتعالى في عرصات القيامة خمسين ألف سنة، ما ذاقوا طعاماً، وما شربوا شراباً، ثم يسقيهم الله تبارك وتعالى.
قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل حبك أحب إلينا من الماء البارد على الظمأ) فكيف بالري الذي يأتي بعد خمسين ألف سنة! ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للجنة ثمانية أبواب، منها باب يسمى الريان لا يدخله إلا الصائمون، ولا يدخل معهم أحد سواهم، فإذا دخلوا أغلق من ورائهم، من دخل منه شرب، ومن شرب لا يظمأ أبداً).
يقابل الله تبارك وتعالى ظمأ الناس وعطشهم بالري، واسم الباب: الريان من الري، والري ضد الظمأ، فاسم الباب يبعث الراحة إلى النفس، فما ظنك بالداخل! فطوبى لمن أظمأ نفسه ليوم الري الكامل، وطوبى لمن جوع نفسه ليوم الشبع الأكبر، وطوبى لمن ترك شهوات حياة عاجلة لموعد غيب لم يره، لقد شد عطشك إلى ما تهوى فابسط أنامل الرجاء إلى من عنده الري الكامل، وقل: قد عيل صبر الطبع في سنيه العجاف، فعجل لي العام الذي فيه يغاث الناس ويعصرون.
وقد صمت عن لذات دهري كلها ويوم لقاكم ذاك فطر صيامي من صام عن شهواته أدركها ولو في الجنة، ومن صام عما سوى الله فذلك ستره يوم لقيا ربه، وذلك ستره في يوم المزيد.
يا إخوتاه! يقول رسولكم صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصوم فإنه لا عدل له).
وفي رواية: (عليك بالصوم فإنه لا مثل له)، قال هذا لـ أبي أمامة الباهلي، فما كان هذا الصحابي الجليل يرى في بيته نار إلا في حضرة ضيف، فقد كان يسرد الصوم سرداً، وذلك بعد أن سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (عليك بالصوم فإنه لا عدل له).(16/2)
سبب انفراد عبادة الصوم بهذا الفضل
قال العلماء: لأن في الصوم خواص لا توجد في عبادة غير الصوم، منها: ما جاء في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به).
قال العلماء: إن ثواب أي عمل من العبادات لا يزيد بحال من الأحوال عن السبعمائة ضعف، فيضاعفه الله تبارك وتعالى إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم، فإنه مضاعف فوق سبعمائة ضعف؛ لأنه من الصبر: (والصوم نصف الصبر) كما قال رسولنا صلى الله وعليه وسلم، والله تبارك وتعالى يقول: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر:10].
فاستثني ثواب الصوم إلى سبعمائة ضعف، ويزيد على ذلك بكرم الله تبارك وتعالى وجوده ومنه.
الأمر الثاني: أن الإنسان قد يرتكب عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فيأتي يوم القيامة وقد خلص هذا وهذا، فيأخذ الغرماء من ثواب كل الأعمال؛ من ثواب الصلاة، وقراءة القرآن، والزكاة، والجهاد، والحج إلا ثواب الصوم، فلا يأخذ منه الغرماء شيئاً.
قال الإمام سفيان بن عيينة: يختم الله تبارك وتعالى على ثواب الصوم ولا يأخذ منه الغرماء شيئاً، ويدخل صاحبه به الجنة.
الخاصية الثالثة للصوم: كما جاءت في الرواية الثالثة: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).
فالعبادات كلها لله تبارك وتعالى؛ لأن الله زاد الصيام تعظيماً فنسبه إلى نفسه، كما أن المساجد كلها لله، ويأتي الله تبارك وتعالى إلى مسجد بعينه وينسبه إلى نفسه، فيقول: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج:26]، والمراد به: المسجد الحرام، فهذه زيادة تخصيص وتشريف؛ لأن كل العبادات قد يدخلها الرياء إلا الصوم كما قال الإمام أحمد.
والصلاة قد تصح لك من الناحية الفقهية؛ إذ تأتي بأركانها وبشروطها وبسننها، وبالرغم من هذا قد يقذف بها في وجهك يوم القيامة، وقد قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (يأتي أناس بأعمال مثل جبال تهامة يجعلها الله هباء منثوراً، ثم قرأ الرسول صلى الله وعليه وسلم قول الله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان:23]).
وفي حديث محمود بن لبيد: يقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (إياكم وشرك السرائر! قالوا: وما شرك السرائر يا رسول الله؟! قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه).
وأنتم تعلمون أول من تسعر بهم النار، فكل العبادات قد يدخلها الرياء إلا الصوم، فمتى صح لك من الناحية الفقهية أخذت الأجر كاملاً ولا رياء في الصوم.
فالصوم مداره كله على الإخلاص لله تبارك وتعالى، والإخلاص يا إخوتاه! يورث النصر والعزة، ألم يقل الرسول صلى الله وعليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والنصرة والرفعة والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له في الآخرة من نصيب).
فمفهوم الحديث يدل على أن من راءى بعمله أصابته الذلة والمسكنة والهوان والضعة في الأرض.
ويقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (إنما ينصر الله عز وجل هذه الأمة بضعفائها: بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
ولذلك كثرت الانتصارات في شهر الصوم والإخلاص؛ وذلك لارتباط الناس بالإخلاص، فكانت هناك بدر، وفتح مكة، وغزوة تبوك، ومعركة عين جالوت، وكان هناك فتح عمورية، وكان هناك الاستيلاء على قلعة صدر بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وموقعة الزلاقة، وكان هناك عبور المسلمين إلى الأندلس تحت قيادة خادم لـ موسى بن نصير وهو طارق بن زياد، فاستولى على تلك المناطق حتى وصل إلى جنوب فرنسا.
وعلى الطرف الآخر أبو عبد الله الصغير آخر ملك من ملوك الأندلس، ضيعه الإفراط والترف، فأضاع الأندلس، فقالت له أمه: ابك بكاء النساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال ولم يصل هذا الرجل في إصراره وتمسكه بوطنه وتمسكه بأرضه إلى ما فعلت إيزابيلا ملكة أسبانيا، ففي الأدب الأسباني -وهذه الرواية واقعية في تاريخ إيزابيلا - أن هذه المرأة أقسمت ألا تخلع قميصها الداخلي حتى تدخل غرناطة، وكان لها ما أرادت، فقد ضيع أبو عبد الله الصغير مملكة الإسلام في أسبانيا، وكان قد اشترط أن يتولى ولايات من قبل إيزابيلا ومن قبل فرديناند هو وأولاده وأحفاده، يقول أحد علماء السير: والله لقد رأيت أحفاده عالة يتسولون الناس في شوارع صرف في المغرب العربي، ضيع ملك الأندلس في سبيل أن يبقى الملك له ولأحفاده، فتسول أحفاده في شوارع المغرب.
فالصوم يا إخوتاه! مرتبط بالإخلاص، والإخلاص يؤدي إلى النصر.
يقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (يقول الله تبارك وتعالى: كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به).
لأنك تبتعد عن شهوات جبلك الله تبارك وتعالى عليها، حتى تحس بألم فقدك لهذه الشهوات.(16/3)
ثواب الصائمين
يا إخوتاه! إن الله يعطي أناساً يوم القيامة حتى يملوا، فإذا رفعوا رءوسهم وجدوا أمامهم قوماً قد سبقوهم إلى الدرجات العلى، فيقولون: يا رب! هؤلاء إخواننا الذين فضلتهم علينا؟ فيقول: هيهات هيهات، فإنهم كانوا يجوعون حين تشبعون، ويقومون حين تنامون، ويظمئون حين تروون، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24].
فكل الناس يأكلون، فما ثواب الصائمين؟ قال قتادة: يمد للصائمين موائد إطعام من رب البرية والناس بعد يحاسبون في عرصات القيامة.
وقال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك).
بل يقول مكحول الدمشقي: يروح على أهل الجنة برائحة ما وجدوا خيراً منها، فيقال: يا رب ما هذه الرائحة؟ فيقال: هذه رائحة أفواه الصائمين فتتطيب الجنة من عطر أفواههم.
وهذا إبراهيم بن علي النيسابوري تلميذ الإمام أحمد ظل ستين سنة يسرد الصوم فمات وهو صائم، فقال قبل الموت لابنه: قرب لنا القدح يا بني! ثم قال له: يا بني! هل غربت الشمس قال: لا، قال: تنح عني إذاً، ثم تلا قول الله تبارك وتعالى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] ثم مات.
وعروة بن الزبير أحد فقهاء المدينة السبعة ظل يصوم يوماً ويفطر يوماً أربعين سنة، ومات وهو صائم.
فيا أهل الصيام! كيف حالكم مع الله تبارك وتعالى في هذا الشهر العظيم الذي ميزه الله تبارك وتعالى بخصائص دون باقي الشهور؟! الخير باد فيك والإحسان والذكر والقرآن يا رمضان والليل فيك نسائم هفهافة حنت لطيب عبيرها الرهبان(16/4)
فضل قراءة القرآن في رمضان
شهر الصيام هو شهر نزول كل الكتب السماوية، يقول الله تبارك وتعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة:185].
وفي حديث واثلة بن الأسقع الذي حسنه الشيخ الألباني يقول: قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (أنزلت صحف إبراهيم أول ليلة من رمضان، وأنزلت التوراة من ست مضت من رمضان، وأنزل الإنجيل من ثلاث عشرة ليلة خلت من رمضان، وأنزل الزبور من ثمان عشرة ليلة مضت من رمضان، وأنزل القرآن لأربع وعشرين ليلة خلت من رمضان).
قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
فأين نحن من القرآن؟! يقول أحمد بن أبي الحواري: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن، أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا، ألم يقل رسولكم صلى الله وعليه وسلم: (أبشروا فإن هذا القرآن حبل الله المتين، طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم).
والله لو لم يكن للقرآن إلا هذه الخاصية لكفاه، طرف القرآن بيد الله العظيم، بيد الله الكريمة، وطرفه بأيدي البشر، فاستمسكوا بهذا، استمسكوا بحبل الله تبارك وتعالى، (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
يقول رسولكم صلى الله وعليه وسلم: (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين).
أبو جعفر القارئ أحد القراء العشرة لما مات تعجب مغسلوه من أنهم وجدوا نوراً يملأ ما بين قلبه وترقوته، فقال مغسلوه: والله لقد فضحت القراء من بعدك، فقد وجدوا هذا النور على صورة صفحة، أو ورقة من مصحف، فقال مغسلوه: هذا والله من القرآن.
ونافع أحد القراء العشرة لما مات شموا الطيب من فمه.
فأين نحن من كلام الله تبارك وتعالى، (من مات على شيء بعث عليه)، قال المناوي: أي: من عاش على شيء بعث عليه.
وهذا شيخ القراء في المملكة العربية السعودية يحكي عنه الشيخ عبد الرحمن بن عقيل الظاهري وهو الشيخ عامر يقول: إن هذا الشيخ الجليل أصيب سبع سنوات بسرطان في الحنجرة، فما كان يدرس طلبة الماجستير والدكتوراه إلا بإيماء منه فقط، فلما أذن الله بقرب موت هذا الشيخ وقبل موته بثلاثة أيام اعتدل الشيخ على سريره الأبيض وقطع صوته الجوهري بكلام الله تبارك وتعالى؛ بحيث يسمع السامع تلاوته بصوت ما سمعوا مثله من قبل، فلما انتهى من الختمة قبضت روحه إلى الله تبارك وتعالى.
أما سمعتم قول رسولكم صلى الله وعليه وسلم: (يأتي القرآن يوم القيامة ماحل مصدق).
وفي حديث أبي هريرة وابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يقول القرآن: يا رب! حله حلة الكرامة، يا رب! ألبسه تاج الكرامة، يا رب! ارض عنه فليس بعد رضاك شيء).
ويقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (من سره أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف).
وأينا لا يسره محبة الله ورسوله؟! فلننظر في المصحف.
أطيلوا على السبع الطوال وقوفكم تدر عليكم بالعلوم سحاب وفي طي أسماء المثاني نفائس يطيب بها نثر ويفتح باب فلا فصلت لما أتاه مجادل فأنصت حتى ما يكون جواب أقر بأن القول فيه طلاوة ويعلو ولا يعلو عليه خطاب قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
قالوا للحسن البصري: إن هنا رجلاً يحفظ كتاب الله ثم ينام عنه، قال: ذاك رجل يتوسد القرآن أي: ذاك رجل ينام على القرآن.
ويقول محمد بن واسع: القرآن بستان العارفين، فأينما حلوا منه حلوا في رياض نضرة.
ويقول عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتهم من كلام ربكم.
فهو روح لا تطيب الحياة إلا به، وهو نور يضيء القلوب، وتشرق بنوره.
فاتقوا الله تبارك وتعالى، وأقبلوا على القرآن في شهركم هذا شهر القرآن، لا نقول لكم افعلوا كما كان يفعل الإمام الشافعي، فقد كانت له ستون ختمة في ليل رمضان ونهاره، ولكن على الأقل عشرة أجزاء في كل يوم بدلاً من الجدال، فطيبوا أجوافكم بكلام الله تبارك وتعالى، وطيبوا أفواهكم بكلام الله تبارك وتعالى، إن الصديقين إذا تلي عليهم كلام الله اضطربت قلوبهم، واشتاقت إلى ما عند الله تبارك وتعالى إن كنت تزعم حبي فلم هجرت كتاب أما تأملت ما فيه من لذيذ خطابي والأسد بن يزيد عمي فأذن الله له عند فتح المصحف أن يرتد إليه بصره، فإذا أغلق المصحف وعاد إلى دنيا الناس عاد إلى العمى مرة ثانية.
فأقبلوا على الله تبارك وتعالى، واسألوا الله لي ولكم أن يشغلكم بكتاب الله عن الدنيا وأهلها، وعن الخوض فيها واللعب بها.(16/5)
شهر رمضان شهر الكرم والجود
شهر رمضان يا إخوتاه! هو شهر الكرم، يقول ابن عباس رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله وعليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يأتيه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله صلى الله وعليه وسلم حين يأتيه جبريل أجود من الريح المرسلة).
تعود بسط الكف حتى لو انه ثناها لقبض لم تجبه أنامله هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله وهذا سيدنا ابن عمر رضي الله عنه ما كان يفطر إلا في حضرة اليتامى والمساكين.
وهذا الإمام أحمد يعطي رغيفين أعدهما لفطره لسائل على الباب، ثم يظل طوال الليل صائماً، ويصوم اليوم التالي من غير أكل.
يقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (أفضل الأعمال عند الله سرور تدخله على مسلم)، وسرور هذا الشهر الإطعام، (سرور تدخله على مسلم، أو تطرد عنه جوعاً، أو تطعمه خبزاً).
فلو أن الناس أتوا إلى مسجد من المساجد، فأتى كل منهم بالزائد عن حاجته من البقوليات واللحم وغيره ثم وضعه الناس في كيس ووزعوه على الفقراء لكان في هذا الخير.
يقول الجيلاني: وجدت خير الأعمال إطعام الناس، والله كأن كفي مكتوفة ما تمسك درهماً ولا ديناراً.
وفي الحديث: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، (ومن لا يرحم لا يرحم).
يقول الإمام الشافعي: يسن كثرة الجود في نهار رمضان وليله؛ اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد ذكر العلماء أنه يجوز للرجل أن يقاضي الرجل إذا نزل عليه بمسمى الإسلام فقط، أي: إذا عرف أنه مسلم ولم يطعمه ثلاثة أيام فيجوز له أن يقاضيه بثمن قراه، يقول المصطفى صلى الله وعليه وسلم: (ومن نزل بقوم فلم يطعموه فله أن يعقبهم بمثل قراء ثلاثة أيام).
والرسول صلى الله وعليه وسلم يقول: (أدوى داء البخل)، فإياكم والبخل، انفوه عنكم.
يقول عبد الله بن جعفر: ابذل المعروف، وانثر المعروف نثراً، فإن صادف أهله كانوا له أهلاً، وإن لم يصادف أهله كنت أنت له أهلاً.(16/6)
شهر رمضان شهر التراويح وقيام الليل
شهر رمضان يا إخوتاه! هو شهر التراويح وشهر القيام، (أتى رجل إلى الرسول الله صلى الله وعليه وسلم فقال له: يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، ممن أنا؟ قال: من الصديقين والشهداء).
ويقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة منكم إلى ربكم، ومنهاة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد).
ويقول رسول الله صلى الله وعليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
قال الصحابي الجليل أبو ثعلبة الخشني: والله لا أموت كما تموتون، ولا أخلق كما تخلقون، فلما قام إلى صلاته وتهجده بالليل قبضه الله تبارك وتعالى إليه وهو ساجد، فرأت ابنته وكانت بجواره أن أباها قد مات، فقامت من نومها فزعة مرعوبة، وقالت لأمها: يا أماه! أين أبي؟ قالت: يا بنية! هو في مصلاه، فوجدته ساجداً فحركته فإذا هو ميت.
مات وهو ساجد في قيام الليل.
وكم عند الصحابة من أعاجيب، فهذا صحابي آخر اسمه علبة بن زيد الأوسي البكاء أحد البكائين، في غزوة تبوك قام إلى صلاته من الليل، وقد تخلف عن الغزو؛ لأنه لم يكن عنده ما يسوقه للجهاد، فقال في صلاته: اللهم إنك أذنت لرسولك في الجهاد، وليس عندي ما أخرج به مع رسولك، اللهم إني أتصدق على كل مسلم ظلمني في عرضي أو جسدي الليلة.
فأي واحد شتمه في عرضه ونال من عرضه، أو نال من جسده يتصدق بعرضه عنه، فلما أصبح صلى الله وعليه وسلم قال: (من المتصدق بعرضه الليلة، فقام إليه علبة، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قبلت صدقتك).
فمن منا الذي يتصدق بعرضه على المسلمين؟ ومن منا الذي يعفو ويصفح؟ ومن منا الذي يعفو حتى يعتقه الله تبارك وتعالى في شهر العتق؟ ألم يقل الرسول صلى الله وعليه وسلم: (ولله عند كل فطر عتقاء من النار).
فتجاوزوا عن هفوات الناس، وحاسب نفسك بنفسك، أما غيرها من الأنفس فعليها حسيب غيرك، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة يضحك الله إليهم) ومن ضحك الله إليه فلا يعذبه أبداً، قال: (ويستبشر بهم: رجل يكون في جهة فتنعدم الجهة، فيعلم ما له في الثبات وما عليه في الميزان، فيصبر نفسه بنفسه لله حتى يقتل أو يفتح الله على قومه، ورجل عنده صلاة الليل وامرأة حسناء فيذر شهوته ويقوم في سواد الليل، فيقول الله تبارك وتعالى: يذر شهوته من أجلي ولو شاء لرقد، والرجل يكون في سفر يطول سراهم بالليل فيمسون فينامون، ويقوم أحدهم في سراء وضراء).
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً أيقظ امرأته لصلاة الليل، فإن أبت نضح في وجهها الماء، ورحم الله امرأة أيقظت زوجها لقيام الليل، فإن أبى نضحت في وجهه الماء، فإن قاما من ليلتهما هذه كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات).
يا إخوتاه! شهر رمضان تضاعف فيه الأعمال، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عمرة في رمضان تعدل حجة معي).
فثواب العمرة في هذا الشهر يضاعف حتى يصل إلى ثواب الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأي روحانية في الحج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم! ترتفع فيها ثواب الأعمال حتى تصل إلى أن تأخذ ثواب حجة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن في الليل لساعة لا يوافقها رجل مؤمن يسأل الله عز وجل خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه إياه، وذلك في كل ليلة)، هذا في غير رمضان فكيف برمضان! قم بنا يا أخي لما نتمنى واطرد النوم بالعزيمة عنا قم فقد صاحت الديوك ونادت لا تكون الديوك أطرب منا(16/7)
نماذج من قصص التابعين في قيام الليل
كان علي بن الفضيل لا يأتي فراشه إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لملتصقتان من أثر القيام.
وكانت امرأة مسروق بن عبد الرحمن تجلس خلف مسروق في ظلام الليل وهو يصلي تبكي له؛ رحمة مما يصنع بنفسه، وكان لا يأتي صلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير.
يا إخوتاه! صاح الديك فلم تنتبهوا، وأعاد فلم تفيقوا، فقوى ضرب الجناحين، فلطم خديه حزناً على مصيبتكم.
يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تسبوا الديك فإنه يوقظ للصلاة).
فرحم الله رجلاً أعان الناس على قيام الليل.
يقول صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بألف آية كتب من المقنطرين)، والقنطار خير من الدنيا وما فيها فأين المقنطرون؟ قال الحافظ ابن حجر ألف آية جزء عم وجزء تبارك.
ويجوز لك في رمضان بعد أن تصلي التراويح الإكثار من النوافل، وأرجح الأقوال في قيام الليل: أنه من النوافل المطلقة، فبعد أن تعود من التراويح وتصلي الوتر إن كان عندك ليل طويل فتستغله في العبادة والطاعة والصلاة، وإلا فسيأتي الشيطان فيقول: عليك ليل طويل فارقد، أو كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).
يقول الحسن البصري: إنه والله بول ثقيل.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن، ماذا أنزل الليلة من الخزائن، من يوقظ صواحب الحجرات، يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).
شهر رمضان شهر الجنة، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا كان أول ليلة من رمضان فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، وغلقت أبواب النيران فلم يفتح منها باب، وصفدت الشياطين مردة الجن، ونادى مناد من السماء: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك في كل ليلة).
ففي رمضان تصفد الشياطين ومردة الجن، لكن شياطين الإنس لا يصفدون، وخرس الله تبارك وتعالى أفواههم إن لم يتوبوا، وخرس أفواههم حتى يعودوا إلى رحابه تبارك وتعالى.
نسأل الله تبارك وتعالى أن يشغلهم به عن فجورهم وعن تمردهم على طاعة الله.
عباد أعرضوا عنا بلا جرم ولا معنى أساءوا ظنهم فينا فهلا أحسنوا الظنا فإن خانوا فما خنا وإن عادوا فقد عدنا وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم يا إخوتاه! هذا شهر الجنة، والله ما فتحت الجنة لأمة من الأمم مثلما فتحت لأمتنا هذه، ومع هذا لا نرى لها طالباً، فمهر الجنة طول التهجد في ظلمات الليالي وفي ليالي رمضان خاصة.
إن أهل السماء ليصلون عليكم، وينظرون إليكم أيكم يقال فيه: يا جبريل أقم فلاناً، وأنم فلاناً.
كذب من ادعى محبتي فإذا جنه الليل نام عني.
اتقوا الله تبارك وتعالى، وأمهروا الجنة، وأمهروا حورها، ودع المفرغات من ماء وطيب، وأشغل هواك بالحور العين.
قال أبو سليمان الداراني: نمت ذات ليلة عن وردي فإذا أنا بحوراء من أهل الجنة تأتيني في المنام، وتقول: أتنام والملك يقظان؟! بؤساً لعين آثرت لذة نوم على مناجاة الملك العلام، ثم تقول له: أتنام وأنا أربى لك في الخدور منذ آلاف الأعوام، ثم أنشدته شعراً حفظه: أتخطب مثلي وعني تنام ونوم المحبين عنا حرام لأنا خلقنا لكل امرئ كثير الصلاة براه القيام أين ابن أدهم والفضيل؟ أين رجال الليل؟ ذهب السادة وبقي قرناء اللحاف والوسادة.
قم الليل يا أخي! إذا جن الغاسق حن العاشق، وقلوب المحبين جمرة تحت شحمة الليل، إذا هب عليها نسيم السحر أجج ما فيها من شوق إلى الله تبارك وتعالى.
قالوا للحسن البصري: ما بال المتهجدين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
وهذا الحافظ عبد الغني المقدسي قام إلى صلاته من الليل وكان معه في البيت رجل شمسي -يعبد الشمس-، فلما سمع قراءة عبد الغني المقدسي زفر، وبعد أيام أسلم، فقال للحافظ عبد الغني المقدسي: لما استمعت إلى قراءتك أسلمت.
والحافظ عبد الغني المقدسي كان الناس يصطفون لرؤية وجهه، لسطعات النور التي على وجهه من أثر التهجد، فكذلك كن، فهم لكم سلف ونعم السلف.(16/8)
ذكر بعض انتصارات المسلمين في شهر رمضان المبارك
يا إخوتاه! هذا الشهر رفع الله فيه أهل السنة والجماعة برفعته لإمامهم، لما ابتلي الإمام أحمد في العشر الأواخر من رمضان وصبر خرج من المحنة ذهباً أحمر خالصاً، فقالوا لـ بشر: ألا تقوم لترى ما فيه أحمد؟ فيقول بشر: حفظ الله أحمد من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره، أتريدون مني أن أقوم مقام الأنبياء وورثة الأنبياء! ولذلك فإن الإمام أحمد يقول: الحمد لله الذي ربى بشراً بما صنعنا، فسياط على ظهر ابن حنبل صار بها إمام أهل السنة والجماعة.
وقد سمع الإمام أحمد إلى مقولة رجل، وذلك حين قال للإمام أحمد: إن هو إلا سوط واحد ثم لا تدري أين يقع الباقي، ثم قال الرجل: يا أحمد! اصبر لأمر الله، فإن يقتلك الحق يقتلك شهيداً، وإن تعش تعش حميداً مجيداً، وصار إمام أهل السنة.
في هذا الشهر أيضاً في السابع والعشرين من شهر رمضان أراح الله المسلمين من الحجاج الثقفي المبير، وقتل أيضاً في سنة ثلاثة وستين في هذا الشهر المختار بن عبيد الثقفي الكذاب، فأراح الله الأمة منه.
قال صلى الله عليه وسلم: (يخرج من ثقيف كذاب ومبير)، أما الكذاب فهو المختار الذي ادعى أن جبريل كان ينزل عليه، وأما المبير -المهلك- فهو الحجاج.
وقال عمر بن عبد العزيز: لو تخابثت الأمة فأتت كل أمة بخبيثها وجئنا بـ الحجاج لفقناهم.
فكيف لو رأى ما يسع الناس في القرن العشرين؟!! والحسن البصري لما بلغه موت الحجاج سجد لله تبارك وتعالى.
وكان هناك آلاف من الناس في سجون الحجاج وأراح الله الأمة منه، كذلك أراح الله الأمة من الخرمي صاحب الإباحية، وأراح الله الأمة من المختار بن عبيد الثقفي الذي كان يقول: إن جبريل ينزل عليه، فقتله مصعب بن الزبير بن العوام.
فهذا الشهر يا إخوتاه! شهر الانتصارات، فأين نحن من الانتصارات؟ رسولكم صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من ألف رجل).
ونحن نقول: لنعل أبي طلحة ولقلامة ظفر أبي طلحة خير من ملء الأرض من أمثالنا.
فهؤلاء صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين اشتاقوا إلى الجنة.
هذا عمير بن الحمام يقول: إنها لحياة طويلة إذاً أنا مكثت في الدنيا حتى آكل تمراتي هذه فأين نحن من أيام المسلمين؟! أين نحن من عين جالوت؟! كسرنا قوس حمزة عن جهالة وحطمنا بلا وعي نباله وأضحت أمة الإسلام حيرى وصار رعاتها في شر حالة فلا الصديق يرعاها بحزم ولا الفاروق يورثها فعاله ولا عثمان يمنحها عطاء ويرخص في سبيل الله ماله ولا سيف صقيل من علي يسيرنا إلى عذب زلاله ولا القعقاع يهتف بالسرايا فتخشى ساحة الهيجا نزاله سرى صوت المؤذن في سمانا وقد فقدت مآذننا بلاله ولا حطين يبعثها صلاح طوى الجبناء في خور هلاله اللهم أنعم علينا بالشهادة، اللهم أنعم علينا بالشهادة، اللهم أنعم علينا بالشهادة.
اللهم لا تجعلنا أهون شيء عليك.
اللهم لا تجعل حظنا من ديننا لفظنا.
اللهم متعنا برمضان، اللهم متعنا برمضان، اللهم متعنا برمضان، وارزقنا الخير بعده، وارزقنا حسن العمر بعده، وطول العمر بعده.
رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، تقبل توبتنا، واسلل سخائم صدورنا، بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
اللهم جد بالعتق علينا وعلى إخواننا، اللهم جد بالعتق علينا وعلى إخواننا، اللهم جد بالعتق علينا وعلى إخواننا.
اللهم انصر المسلمين في كل مكان.
اللهم فرج الكرب عنهم، اللهم فرج الكرب عنهم في البوسنة، اللهم فرج عنهم وعن كل مستضعف في كل مكان.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
وصل اللهم وسلم على محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(16/9)
أسود من التاريخ
إن الحق عالٍ رغم كل شيء، ودولة الباطل مهما طالت فهي زائلة، ولكن سنة الله ألا يعلو الحق إلا على أكتاف رجال مخلصين يسطرون بتاريخهم المشرق الصفحات الوضاءة، فهم النبراس الذي يجب أن يحتذى به للخروج من الأزمة الراهنة.(17/1)
لا حل لهذه الأمة إلا بالجهاد
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الإمام أحمد، وابن ماجة، والبخاري في التاريخ عن أبي عنبة الخولاني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعمله في طاعته إلى يوم القيامة).
وفي هذه الأيام تكثر الهمم الساقطة، والعزائم الضعيفة، والأرواح الصغيرة، والنفوس الهزيلة التي يعيش أصحابها على جانب الحياة وعلى هامش التاريخ، فينالهم الذل من كل مكان، وتعلوهم أقدام الغرب الكارهة الكريهة، حتى يقول رأس الكفر ورأس الصليبيين على مرأى من العالم: إنه يعد لحملة صليبية، ثم تراجع وقال: إنه يعد لحملة مقدسة.
يا أيها الشيطان إنك لم تزل غراً وليس لمثلك الميدان أنا ضد أمريكا إلى أن تنتهي هذي الحياة ويوضع الميزان هي ظل دوح الموبقات وكل ما في الأرض من شر هو الأغصان فهي زارعة الشر في الأرض، وهي رأس الإرهاب في الأرض وإلا فمن الذي قتل أطفال المسلمين في العراق في مخيمات العامرية، وضربهم بالقنابل الفسفورية، وكتبوا على رءوس صواريخهم: إن عجز محمدهم عن نصرهم فليدعوا المسيح لينصرهم.
وذلك فيما يسمى بعاصفة الصحراء أو المجد للعذراء، لقد كانت هذه الحرب حرباً صليبية أعلنوها في الخليج، ثم بعد ذلك أزهقوا بسلاحهم من الأرواح ما أزهقوا على ثرى فلسطين.
والله عز وجل قادر أن يبعث من يحيي في هذه الأمة نواتها، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ * إِلَّا تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التوبة:38 - 39].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالجهاد في سبيل الله فإنه باب من أبواب الجنة، يذهب الله به الهم والغم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله).
وقال صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: (أوصيك بتقوى الله؛ فإنها رأس كل شيء، وعليك بالجهاد في سبيل الله؛ فإنه رهبانية الإسلام)، حسنه الألباني.
وقال صلى الله عليه وسلم: (للشهيد عند الله سبع خصال: يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويشفع في سبعين من أهل بيته).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في أرجاء الجنة حيث تشاء، ثم تأوي إلى قناديل من ذهب معلقة بأرجاء العرش).
يا ويح نفسي وما ارتفعت لنا همم إلى الجنان وتالي القوم أواب إلى كواعب للأطراف قاصرة وظل طوبى وعطر الشجو ينساب إلى قناديل ذهب علقت شرفاً بعرش ربي لمن قتلوا وما غابوا وقال الآخر: يا ويحنا ماذا أصاب رجالنا أو ما لنا سعد ولا مقداد أجدادنا كتبوا مآثر عزنا فمحا مآثر عزنا الأوغاد سلت سيوف المعتدين وعربدت وسيوفنا ضاقت بها الأغماد وقال الآخر: قالوا سهرت وفي فؤادك حرقة تدمى وألف تساؤل يتردد وعلى جبينك قصة مكلومة تروي المآسي للجميع وتسرد أنا يا صحاب قضية مسلوبة لعب الدعي بها وغاب السيد أنا يا صحاب مشاعر موتورة للشعر تسلك والمسالك توصد على مدار تاريخ الإسلام كان بين المسلمين وبين الصليبيين في كافة أرجاء الدنيا معارك برز فيها قادة يرصع بأسمائهم جبين التاريخ، أذكر لكم 25 ملكاً أو أميراً أو قائداً هزموا الصليبيين وأوقعوا بهم شر هزيمة، وذلك حتى نقول لكل صليبي: اخسأ فلن تعدو قدرك، فمهما صالوا وعربدوا وظنوا أن لهم الدولة في العالم فوالله إن مصيرهم إلى نهاياتهم، فمن كان يظن أن روسيا ستسقط يوماً من الأيام على يد أناس يعيشون في الجبال؟ ومن كان يظن أن الحضارة الروسية ستنهار؟ يقول كبار الخبراء العسكريين في العالم الغربي ومنهم قائد الطيران الأمريكي السابق: إن أمريكا ستنهار من الداخل مع بداية سنة 2021م، وقال هذا أيضاً محللون اقتصاديون وسياسيون وتربويون وعسكريون.
وانهيارها من الداخل يعني: بدون عامل خارجي, وإن كانوا قد توقعوا سقوط أمريكا سنة 2021م فما ظنك إذا أرسل الله عز وجل عليهم عقوبة وسنة من سننه الكونية جزاء بما قدمت أيديهم من بغي وظلم ودمار عم أرجاء البسيطة؟ ولذا نقول لكم في دعوة للأمل حتى لا ييأس الناس ويظنوا أن شمس الإسلام ستغيب يوماً: شمس الإسلام لن تغيب، وقد مرت على الأمة الإسلامية ظروف أحلك من الظروف التي نعيش فيها، ويشاء الله عز وجل أن يرفع البلاء عن الأمة.
يقول قطز: والله لن أستظل بظل جدار حتى آخذ بثأري وثأر الإسلام منهم.(17/2)
أبطال في عصر الخلافة الراشدة
ولو رجعنا إلى بداية قيام الدولة الإسلامية لوجدنا أسامة بن زيد أسد الله وأسد رسوله، حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يذيق الصليبيين في شمال الجزيرة العربية الذل والهوان، ويوقع الرعب بهم وهم حلفاء الروم، وفي خلافة أبي بكر الصديق يضع فارس الإسلام وسيف الله وسيف رسوله أبو سليمان خالد بن الوليد في أول لقاء له مع صليبي العرب في معركة في الجبهة الفارسية تسمى: معركة أُلَّيس أو نهر الدم.
وقد كانت بينه وبين نصارى العرب من تغلب وبكر بن وائل وبني عجل وأهل الحيرة وقبيلة جذرة العربية، وعلى رأس هذا التجمع الصليبي عبد الأسود العجلي، وكانوا قد تحالفوا مع قوات الفرس وعلى رأسهم جابان 150000 محارب، وكان سيف الإسلام خالد جيشه 18000 مقاتل فقط أمام 150000 مقاتل.
وبلغ من استهزائهم بالمسلمين أنهم مدوا البسط ليتناولوا الطعام فحذرهم جابان من الاستهانة بـ خالد وقال لهم: اتركوا الطعام واستعدوا للصدام، فعصوه فقال: إن القوم سيعاجلونكم قبل أن تطعموا الطعام وإنكم إنما هيأتموه لهم ليأكلوه بدلاً منكم.
ولما أتى خالد بجيشه اضطرهم إلى أن يتركوا طعامهم ودعا خالد للمبارزة، فخرج إليه مالك بن قيس، فقال له خالد: يا ابن الخبيثة ما جرأك علي من بينهم وليس فيك كفاء، يعني: أنت لست بكفء لأن تبارز خالد بن الوليد، ثم قتله واقتتل المسلمون ونصارى العرب والمجوس قتالاً شديداً، حتى إن خالداً رضي الله عنه نذر لله إن منحه الله أكتافهم أن يجري النهر بدمائهم، إذ قال: اللهم إن لك علي إن منحتنا أكتافهم ألا أستبقي منهم أحداً حتى أجري نهرهم بدمائهم، وبعد قتال عنيف وقتل المسلمون ما قتلوا نادى خالد لا تقتلوا أحداً ولكن اضطروهم إلى الأسر.
فاضطرتهم جيوش المسلمين ورجالهم إلى الأسر وقدموهم إلى حافة النهر ليضربوا رقابهم حتى يوفي خالد بنذره، وحبس ماء النهر فقال له القعقاع بن عمرو التميمي: والله لو أنك قتلت أهل الأرض جميعاً لم تجر النهر من دمائهم ولكن أرسل على الدماء قليلاً من الماء فيجري النهر وتبر بيمينك، وكان له ما أراد وجرى النهر أحمر قانياً بدمائهم.
وقال الصديق للناس في المدينة: يا معشر قريش عدا أسدكم على الأسد -يريد أن خالداً عدا على الفرس- فغلبه على خراذيله -يعني: غلبه على اللحم المطيب المعد له-، عجزت النساء أن ينشئن مثل خالد.
وقال خالد للعرب المسلمين: كلوا على بركة الله وباسم الله، فكان الطعام الذي قد أعد لأن يأكله الفرس طعاماً للمسلمين.
وفي معركة عين التمر اجتمع الصليبيون العرب كلهم حنقاً على خالد وقالوا للفرس: لا تقاتلوا خالداً نحن العرب أعلم بقتال خالد منكم فدعونا وخالداً، وجمعوا كل فرسانهم، ونظر خالد إلى الجيش وأراد أن ينهي المعركة دون أن يخسر رجلاً واحداً من رجاله، فقال لعشرة فرسان: احموا جنبي واكفوني ما عنده فإني حامل عليهم، ووسط ذهول الجيشين ينطلق عشرة من الرجال يقودهم خالد حتى دخل في وسط الجيش، ثم ظل خالد يصاول عقة بن أبي عقة ثم يقتلعه من فوق سرجه ويحتضنه، ويعود به على فرسه كالطفل الرضيع، ثم يذبحه ما بين الجيشين لتنتهي المعركة.
هذه ثاني وقعات خالد بالصليبيين.
وأما الثالثة: فكانت معركة الفرات في 15 ذي القعدة 12 هجرية، وكانت بين الفرس والروم والنصارى الموتورين وبين خالد بن الوليد لتقع المعركة بين 150000 أمام 12000 مقاتل، فعبروا نهر الفرات يريدون خالد بن الوليد، ولك أن تتصور الأعداء الفرس والروم الذين كانوا على عداء دائم ولأول مرة يجتمعون على قتال المسلمين، واليوم نسمع أن أسبانيا تستمر في قتل العرب، وألمانيا كذلك، وفرنسا كذلك، وبريطانيا كذلك، والفلبين تصرح أنها قبضت على الإرهابيين، فقامت الدنيا كلها على المسلمين مثلما قام الفرس والروم لأول مرة في التاريخ في معركة الفرات سنة 12 هجرية، وقتل سيف الله خالد بن الوليد منهم في هذه المعركة 100000 في المعركة، وبعد المعركة وأثناء المطاردة 100000، فلما سمع الخليفة أبو بكر بهذه المعارك، قال: لأذهبن وساوس الروم بسيف خالد، وأمر خالداً أن يترك العراق ليساعد المسلمين في جبهة الشام.
وكانت أول معارك سيف الله خالد أنه اضطر النصارى إلى دفع الجزية في بصرى، فكانت أول جزية يقبضها المسلمون على يد البطل خالد بن الوليد، وكان فتح دمشق بعد ذلك في 15 رجب سنة 14 هجرية، وقد وقفت خمسة جيوش إسلامية أمام أسوار دمشق: جيش القائد أبي عبيدة، وجيش شرحبيل بن حسنة، وجيش يزيد بن أبي سفيان، وجيش عمرو بن العاص، وجيش خالد بن الوليد وظلوا أربعة أشهر كاملة أمام أسوار دمشق والجيوش لا تستطيع أن تدخل هذه المدينة.
وكان خالد لا ينام ولا ينيم -يعني: لا ينام هو ولا يترك من أمامه ينامون خوفاً منه وذعراً منه- يعيش على تعبئة كاملة، عيونه ذكية ساهرة، فأخبرته: أن بطريرك الروم نسطار بن نسطور قائد الروم في دمشق ولد له مولود، وأنه سيوزع الخمر على حامية السور في مساء الأحد في 15 رجب سنة 14 هجرية.
وهنا أعد خالد بن الوليد قرباً نفخ فيها الهواء حتى امتلأت، وكأن الروم قد حفروا خندقاً عظيماً وأجروا فيه ماءً كثيراً، فما استطاع خالد وقواته أن يعبروها إلا سباحة على ظهر القرب، وأعد سلالم من حبال الليف منتهية بخطاطيف وحلق، ودعا مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو التميمي فجعلا يلقيان بهذه الحبال فتعلق حبلان في أعلى السور وصعد عليها مذعور بن عدي العجلي، والقعقاع بن عمرو ومعهما بقية الأحبال حتى ثبتوها في أعلى السور، وتسلق خالد وقواده إلى أعلى السور، ثم قال لبقية الجنود: إن سمعتم تكبيراتنا من خلف الأسوار فانهدوا إليهم، وألقى خالد بنفسه مع التكبير من فوق الأسوار هو وقادة الجيش، فقتلوا من قتلوا من جنودهم المكلفين بحراسة الباب الشرقي لدمشق، ثم فتحوا الباب وظل خالد يحصد أرواح الروم حصداً حتى سلموا لـ أبي عبيدة.
وقالوا: أسرعوا بفتح الباب الغربي لـ أبي عبيدة حتى لا يحصدنا خالد حصداً.
والتقى جيش أبي عبيدة بجيش خالد بن الوليد عند سوق الزياتين بدمشق وتم الصلح.
وقد تلت هذه المعركة معركة اليرموك الفاصلة التي أنهت الوجود الصليبي من على أرض الشام، حتى قال هرقل وهو يودع دمشق: سلام عليك يا سورية سلام مودع لا يلقاك بعد هذا اليوم أبداً، وكان الروم قد أعدوا 200000 فارس على رأسهم ماهان أقوى فارس عندهم، أمام 36000 فارس فقط من المسلمين.
وخطب هرقل في الروم فقال: يا معشر الروم إن العرب قد ظهروا على سورية ولم يبقوا بها حتى تعاطوا أقاصي بلادكم، وهم لا يرضون بالأرض والمدائن والبر والشعير والذهب والفضة حتى يسبوا الأخوات والأمهات والبنات والأزواج، ويتخذوا الأحرار من أبناء الملوك عبيداً، فامنعوا حريمكم وسلطانكم أو ذروا مملكتكم.
فكتب أبو عبيدة إلى عمر رضي الله عنه فقال: قد جاء المسلمين ما لا قبل لهم به إلا أن يمدهم الله عز وجل بملائكة أو يأتيهم بغياث من قبله، فقال خالد لـ أبي عبيدة حينما اجتمع بقيادة القوات في الجابية: أرى والله! إن كنا نقالتهم بالكثرة والقوة فهم أكثر منا وأقوى، وما لنا بهم إذاً طاقة، وإن كنا نقالتهم بالله ولله فإن جماعتهم ولو كانوا أهل الأرض جميعاً لا تغني عنهم شيئاً، ثم قال لـ أبي عبيدة: تطيعني فيما آمرك به، قال: نعم.
قال: ولني ما وراء ذلك فإني أرجو الله عز وجل أن ينصرني عليهم، ثم تنازل له أبو عبيدة عن قيادة القوات، ورتب خالد صفوف جيشه، فجعل أبا عبيدة أمين هذه الأمة في القلب، وعلى الميمنة أعلم الأمة بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وعلى الميسرة قباث بن أشيم، وهاشم بن عتبة قاتل الأسود على الرجالة، وعلى الخيل خالد بن الوليد ومعه قيس بن هبيرة فارس الإسلام.
وخطب ماهان في جنوده قبل المعركة فقال: أنتم عدد الحصى والثرى والذر فلا يهولنكم أمر هؤلاء القوم؛ فإن عددهم قليل، وهم أهل الشقاء والبؤس، وجلهم حاسر وجائع، وأنتم من الملوك وأبناء الملوك أهل الحصون والقلاع والعدة والقوة والسلاح، فلا تبرحوا الميدان وفيكم عين تطرف حتى تهلكوهم أو تهلكوا أنتم.
ثم دعا خالداً للكلام معه، فقال: يا خالد! قد علمنا أنه ما أخرجكم من بلادكم إلا الجهد والجوع فهلموا إلى أن نعطي كل رجل منكم عشرة دنانير وكسوة وطعاماً وترجعون إلى بلادكم، فإذا كان من العام المقبل بعثنا لكم بمثلها، فقال له خالد: إنه لم يخرجنا من بلادنا ما ذكرت غير أنا قوم نشرب الدماء، وإنه بلغنا أنه لا دم أطيب من دم الروم فجئنا لذلك.
ولخوف الروم من المسلمين جعلوا يسلسلون كل مائة فارس بسلسلة حتى إذا فر رجل يعود به التسعة والتسعون.
ويقف الجيشان 200000 أمام 36000، ولكن الستة والثلاثين ألفاً هؤلاء منهم ألف صحابي،(17/3)
أبطال في الدولة الأموية
وأرسل موسى بن نصير مولى من مواليه وهو طارق بن زياد ففتح بلاد الأندلس، وظل موسى بن نصير مع طارق بن زياد يجوبا المدينة إثر المدينة حتى قال: أما والله لو انقادت لي العرب لقدتهم إلى روما حتى يفتحها الله تبارك وتعالى على يدي.
يقول موسى بن نصير لـ سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين: يا أمير المؤمنين! كانت الألف شاة تباع بمائة درهم، والعلج -الرجل الصليبي- وزوجته وأولاده يباعون بخمسين درهماً.
يعني: بثمن خمس شياه تشتري عائلة كاملة.
وخاض طارق بن زياد معركة وادي لكة التي استمرت أسبوعاً كاملاً حتى فتح الله للمسلمين بلاد الأندلس، وخاض بفرسه البحر، وقال لـ موسى بن نصير: يا أيها الأمير والله لا أرجع عن قصدي حتى أنتهي إلى البحر المحيط وأخوض فيه بفرسي.
ومن القواد الذين صنعوا تاريخ المسلمين أبو سعيد الجرادة الصفراء مسلمة بن عبد الملك بن مروان، قال عنه الإمام الذهبي: كانت له مواقف مشهودة مع الروم، وكان أولى بالخلافة من إخوته، غزا الصائفة وافتتح حصون الروم وهربت منه الروم إلى أقصى الأرض.
وكانت المرأة من الروم إذا أرادت أن تسكت طفلها تقول له: اسكت وإلا أدعو لك البطال ليأخذك.
وهذا مثل قول بعض الأمهات اليوم لطفلها: نم وإلا أتيت لك بالعفريت.
وقال بعضهم يحكي عن مثل هذا: ذهبت في ليلة داجية في بلاد الروم وإذا أنا بنور خافت يخرج من نافذة، وإذا بامرأة تهدهد صبيها وتقول: نم وإلا قلت: خذه يا بطال، ثم مدت يدها إلى خارج النافذة فأخذته منها، وهذا الشخص الذي كانوا يخوفون به أطفالهم هو عبد الله بن بطال القائد المسلم.(17/4)
أبطال في عصر الدولة العباسية
ثم بعد ذلك جاء هارون الرشيد الخليفة المفترى عليه، الذي كان يصلي مائة ركعة تطوعاً لله عز وجل في اليوم والليلة.
قال منصور بن عمار الواعظ: أكثر من لقيت دمعاً فضيل بن عياض، وهارون الرشيد.
أما فضيل بن عياض فقد قال فيه عبد الله بن المبارك: إذا مات الفضيل ارتفع الخوف من الأرض.
فملك يقارن حزنه وبكاؤه وخوفه من الله عز وجل بخوف الفضيل إنه لملك رشيد! وقد فتح هارون حصن الصفصاف سنة 181 هجرية، وأخذه من ملك الروم قسطنطين بن ليون عنوة.
وأرسل إليه نقفور ملك الروم الذي تولى الحكم بعد الملكة أغسطة ملكة الروم، فكتب إليه: من نقفور ملك الروم إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ -طائر كبير في السماء-، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها ما كنت حقيقاً بحمل أمثالها إليها، ولكن ذاك ضعف النساء وحمقهن.
فإذا قرأت كتابي فاردد ما وصل إليك من أموالها، وافتدي نفسك بمالك.
فغضب هارون لما وصله الكتاب فمزق الكتاب وكتب في ظهره: من هارون ملك العرب إلى نقفور كلب الروم أما بعد: يا ابن الكافرة! فالجواب ما ترى لا ما تسمع والسلام.
وسار بنفسه على رأس الجيش حتى اضطر نقفور إلى دفع جزية قدرها 400000 دينار سنوياً.
وافتدى هارون الرشيد أسارى المسلمين في بلاد الروم وكان عددهم 3700 أسيراً حتى لم يبق أسيراً واحداً في بلاد الروم.
ثم جاء من بعده المعتصم رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم لامست أسماعنا لكنها لم تلامس نخوة المعتصم فبمجرد أن صاحت امرأة في بلاد الروم وامعتصماه، ويسمع المعتصم قصتها وهو يدعو بالشراب لأن يشرب فيقول لساقيه: دع هذا الشراب حتى أفرغ من قتالهم، ثم قال: أي مدنهم أكثر أمناً؟ قالوا: عمورية، فساق الجيش إليها وانتصر واضطر ملك الروم إلى دفع الجزية مرة ثانية.
يقول الشاعر: أما سمعت بأرض الروم مسلمة تشكو لمعتصم ظلم المغيرينا فتسبق الخيل أصوات استغاثتها وتملأ الكون صيحات الملبينا وتصرخ اليوم آلاف مؤلفة فهل سمعت سوى أحزان باكينا ونحن نسمع أصوات استغاثتها وليس نسمعها إلا أغانينا خضر مرابعنا بيض صنائعنا سود وقائعنا حمر ليالينا ويذبح الطهر طهر البكر في دمه ونحن نسبح في أحلام ماضينا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته إلى يوم القيامة)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وكان في المغرب أيام حكم الخليفة العباسي المستعصم فارس يسمى: ابن فتحون، وقد بلغ من ذعر الروم منه أن الرجل كان إذا أراد أن يسقي فرسه الماء فتمتنع عن الشرب فيقول لها: اشربي أم أنك رأيت صورة ابن فتحون في الماء؟ ولك أن تتخيل مدى ذعر الروم من هذا القائد.
وخرج علج رومي ودعا المسلمين للمبارزة، فقتل من المسلمين ثلاثة، ثم نادى في المسلمين أيها المسلمون! رجل لثلاثة منكم، فشق ذلك على الخليفة فقال: علي بـ أبي الوليد بن فتحون فلما أتي به، قال له الخليفة: أما تسمع؟ قال: أسمع، وماذا تريد؟ قال: أن تأتيني به الساعة.
قال: لك هذا، ثم دعا بسوط، فقيل له: أما تخرج إليه بالسيف؟ قال: لا والله ثم دعا بسوط -والسوط هو الذي تؤدب به الكلاب- وعقد فيه عقدة وجعل لها خية في طرف السوط -يدخل فيها عنق فارس- ثم خرج وسط دهشة الرجل الصليبي فظل يصاوله فضربه الرومي على السرج ضربة قاتلة وفي لمح البصر نزل عن سرجه وتعلق برقبة فرسه، وقبل أن يصل ابن فتحون إلى الأرض علا مرة ثانية فوق السرج ثم ضرب هذا الفارس بالسوط ولف السوط على عنقه حتى دخلت الخية في عنق هذا الرجل وشدها إليه، ثم اقتلعه من على سرجه وأتى به إلى وسط صفوف المسلمين.
فكم نحتاج إلى مثل هؤلاء.(17/5)
أبطال في الأندلس وأسبانيا
نأتي بعد ذلك إلى محمد بن عبد الرحمن بن الحكم أمير المؤمنين في الأندلس، صاحب معركة سليط التي قتل فيها 300000 من جيوش أوروبا، ومن بعده أتى عبد الرحمن الناصر فأدب ملك ليون أوردنيو وشانسو ملك ناصار في غزوة موبش واستمر الحريق عشرة أيام، وكان يغزو وربما مكث في غزوته أربعة أشهر، ودخل عاصمة ملك ناصار واستولى عليها.
ومن أبطال المسلمين أيضاً: الحاجب المنصور ملك المسلمين في أسبانيا، وقد بلغ عدد الغزوات التي غزاها 50 غزوة، وكانت له غزوة في الصيف وغزوة في الشتاء، وأراد أن يعبر جبال برينيه -التي هي جبال البرانس- إلى فرنسا، وكان أكثر جنود هذا الملك من السبي الذين اعتنقوا الإسلام بعد ذلك.
وقد غزا الغزوات الكثيرة واستولى على برشلونة، وغزا زامورا حتى دخل في عاصمة المملكة التي كانت تسمى (ليون) أقوى مملكة نصرانية في ذلك الوقت، ووصل إلى شانتياقو ثاني مدينة عندهم -يعني: بعد مدينة بيت المقدس-، ويذكر عنه أنه كان يجمع غبار الحروب لتصنع منه لبنات توضع معه في قبره، وفي مرة من المرات سار بجيشه وسط جبلين وكان الممر الذي سلكه ضيقاً، ففوجئ أن الغزاة قد اجتمعوا خلفه وسدوا الممر بين الجبلين فظل يبني المدن والقرى ويعسكر هو وجنودهـ وهم ينظرون خروجه فلما أطال أخذوا يرسلون إليه: أن عد، واخرج من غير غنائم ولا أسرى.
فرد عليهم: لا، ثم أرسل إليهم: إنا لا نكاد نصل إلى بلادنا إلا وقد جاء وقت الغزوة الأخرى، ولذا سنظل ها هنا إلى وقت الغزوة الثانية فإذا غزونا عدنا.
وظل يحرق في بلادهم ويقتل ويسبي حتى قالوا له: إذاً فعد ومعك غنائمك، قال: لا أحمل الغنائم على دواب وإنما تحملونها أنتم على دوابكم، وتدفعون إلي المال والطعام حتى أصل إلى بلادي، وتنحون جيف قتلاكم عن الطريق.
فكان له ما أراد.
ولما مات الحاجب المنصور استولى ألفونسو ملك أسبانيا على المملكة ونصب سرير ملكه على قبر المنصور، وقال لزوجته: أما ترين أني ملكت ملك ملك العرب، ونصبت سرير ملكي على قبره؟ فقال له أحد العرب ممن كانوا في جواره: لو تنفس صاحب هذا القبر وأنت عليه ما سمع منك ما يكره سماعه.
فهم أن يبطش به، فقالت له المرأة: والله إنه لحق.(17/6)
أبطال دولة المرابطين في المغرب وغيرها
ومن أبطال المسلمين: يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، خاض يوم الجمعة 12 رجب سنة 479 هجرية هو والمعتمد بن عباد معركة من أكبر معارك المسلمين في الأندلس اسمها: معركة الزلاقة، اجتمع له ألفونسو ملك قشتالة وملك أرجون وقوات من كل دول أوروبا بأمر من البابا، فكانت المعركة بين 200000 صليبي أمام 48000 يقودهم يوسف بن تاشفين والمعتمد بن عباد.
وقبل بداية المعركة أرسل يوسف بن تاشفين -وكان خاض البحر من المغرب العربي حتى ينصر المعتمد بن عباد في أسبانيا- إلى ألفونسو: بلغنا أنك دعوت للاجتماع بك وتمنيت أن يكون لك فلك تعبر البحر إلينا عليها فقد جزناه إليك، وجمع الله بيننا وبينك في هذه العرصة وسترى عاقبة دعائك {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} [الرعد:14].
وقد انتهت المعركة بقتل وأسر 180600 وفر فقط 400، ثم جمع أمير المؤمنين يوسف بن تاشفين رءوس هذه الجثث وجعلها على هيئة هرم وأذن المؤذن فوقها بأذان النصر وصلوا المغرب.
وهناك معركة أخرى هي معركة: الأرك كانت بعدها خاضها يعقوب بن يوسف أمام ألفونسو الثامن، وكان الملك الرومي قد كتب إليه كتاباً يدعوه فيه إلى النصرانية، فمزق الكتاب وكتب إليه في ورقة صغيرة: {ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ} [النمل:37].
وكان النصر في هذه المعركة أيضاً للمسلمين، وكان عدد القتلى 146000 قتيل من الصليبيين، وبلغ عدد الأسرى 30000 أسير، والخيام 150000 خيمة، وبلغ عدد الخيول 80000، و100000 من البغال، و400000 من الحمير، و60000 درع، وكانت الفتاة تباع بدرهم.
ومن أبطال المسلمين الظاهر بيبرس الذي أكمل ما بدأه صلاح الدين الأيوبي، ففتح قلعة أرصوف، ودمر ثلث الفرسان المدافعين عنها، حتى قال شاعر صليبي في قصيدة له: المسيح أصبح فيما يظهر مسروراً لما حل بالمسيحيين من مذلة وهوان، وقد هزم الظاهر بيبرس الأرمن وقتل ابن ملكهم وأسر الابن الآخر، ودخل عاصمة ملكهم وأخذ 40000 أسير، وهو الذي حرر يافا، وأخذ قلعة الشقيف، ودمر أنطاكية، وقتل ملكها سيمون وما من جندي من المسلمين إلا وأصبح له أسير من الفرنجة، وأرسل الملك الظاهر بيبرس سفيرهم محيي الدين إلى ملك عكا، فأراد ملك عكا أن يستعرض قواته أمامه، فقال له السفير: إن كل هذا الجيش لا يضارع أسرى الفرنجة عندنا في القاهرة، وسقطت قلعة الحصن -قلعة الأكراد- التي ما استطاع صلاح الدين أن يسقطها على يد الملك البطل الظاهر بيبرس.
ثم أتى من بعده السلطان محمد بن قلاوون فحرر اللاذقية وطرابلس، ثم أتى الملك أشرف خليل ففتح عكا، وهو الملك المسلم الوحيد الذي استطاع أن يدخل عكا؛ لأن صلاح الدين بعد أن استرجعها أخذها النصارى منه مرة أخرى، ولكن الملك الذي استطاع أن يبقي عكا في أيدي المسلمين إلى الأبد هو الملك أشرف خليل حيث دخل عكا سنة 690 هجرية.
ودخل المسلمون في عصره إلى قبرص في رمضان، وأتوا بملكها إلى الإسكندرية مأسوراً وكان يردد: قبرص قبرص قبرص وربما رددها في منامه، إذ كان شغله الشاغل بعد فتح عكا أن يفتح قبرص، وكان قبلها أن أرسل ملك قبرص بعض فرسانه وبعض البحرية فدخلوا مدينة الإسكندرية واستولوا عليها، وذبحوا من المسلمين ما ذبحوا، فنذر أشرف خليل أن يأسر هذا الملك، وتم أسره، فغزا المسلمون قبرص ودارت معركة لمدة سبعة أيام في رمضان، ثم عاد المسلمون بملك قبرص أسيراً.
ومن أبطال المسلمين الملك ألب أرسلان من السلاجقة، وقد خاض سنة 643 هجرية معركة ملاذكرد، وكان عدد جنوده 15000 أمام ملك الروم أرمانوس وكان عدد الروم في هذه المعركة 600000، وقبل بدء المعركة لبس الملك ألب أرسلان كفنه وتحنط بحنوطه وقال للناس: لا أمير لكم اليوم ولا سلطان لكم اليوم، من أراد أن يرجع ويبكي نفسه فليرجع، فلبس جيشه عن بكرة أبيه الأكفان وعرف هذا الجيش في التاريخ باسم جيش الأكفان، فكان النصر بإذن الله، فقد هزم الـ 15000 جيش الروم وعدده 600000 ووقع أرمانوس في الأسر، ونودي عليه في آخر النهار: من يشتري الكلب؟ فصاح أسير من المسلمين: لا نشتري الكلب إلا بكلب، فوضعوا رباط الكلب في عنقه وجروه إلى بلاده، فلما رآه الرومان على هذه الحال سملوا عينيه.
أما في الهند! وأحوال المسلمين فيها فإن السلطان فتح علي خان المشهور بجهاده للإنجليز، قيل له: سيقتلك الإنجليز، فقال: يوم من حياة الأسد خير من مائة سنة من حياة ابن آوى.
وأما سلطان المسلمين في الفلبين فإنه لما قدم ماجلان إلى الفلبين قال: إنني باسم المسيح أطلب منكم التسليم، ونحن العرق الأبيض أصحاب الحضارة أولى منكم بحكم هذه البلاد، فتقدم منه سلطان المسلمين في الفلبين لابولابو وقاتله في معركة حتى ذبحه.
وأما الأتراك فإن السلطان العثماني مراد بن أورخان بلغ من ملكه أنه دخل صوفية عاصمة بلغاريا ودخل بيزنطة، فتجهز إمبراطور القسطنطينية وملك الصرب والبلغار والمجر ليلتقوا معه في معركة تسمى: معركة مارتيزا، فينتصر عليهم ويضطرهم إلى دفع جزية سنوية.
وفي سنة 791 هجرية يفتح جميع بلاد البلغار ويأخذ ملكهم شيمان أسيراً، ثم عاد ليؤدب ملك الصرب لازار في معركة قوصوه حتى يغدر به الصرب ويقتلونه غيلة في هذه المعركة بعد أن انتصر، وكان يدعو قبيلها في صلاة التهجد يقول: إلهي ومولاي إن كان في استشهادي نجاة لأحد من المسلمين فلا تحرمني الشهادة في سبيلك؛ لأنعم بجوارك، ونعم الجوار جوارك، إلهي ومولاي لقد شرفتني بأن هديتني إلى طريق الجهاد في سبيلك فزدني تشريفاً بالموت في سبيلك، وكان له ما أراد.
ومن بعده السلطان العثماني بايزيد الصاعقة الذي انتصر على لازار ملك الصرب وأمراء النمسا وألمانيا وفرسان القديس يوحنا، وفرسان البابا في معركة سنة 798 هجرية.
ومن بعده السلطان مراد الثاني والد السلطان محمد الفاتح الذي استولى على الحكم وسنه حينها 18 سنة، ويهزم المجر وبولندا وفرنسا وألمانيا والزنادقة في معركة فارانا في 28 رجب سنة 848 هجرية ويقتل ملك المجر والكاردينال مندوب البابا في معركة كوسوفا سنة 852 هجرية.
وأتى بعده سليمان القانوني ليفتح بلغراد في رمضان سنة 927 هجرية، ثم يؤدب ملك المجر ويقتله سنة 923 هجرية في معركة موهاس، ويقف بأربعة مليون جندي أمام فيينا عاصمة النمسا، ويصل إلى الميدان الرئيسي فيها.
ثم جاء بعده خير الدين بربروس ليؤدب أساطيل الدولة الأسبانية، وكان أمير البحار في الدولة العثمانية خير الدين بربروس وأخوه عروب الدين بربروس هما اللذان أقاما دولة الجزائر.
ويليه ملك المغرب مولاي عبد الملك الذي انتصر في معركة وادي المخازن سنة 986 هجرية على البرتغال وأسبانيا والفاتيكان والنمسا، وقتل في هذه المعركة ملك البرتغال، ثم مات هذا القائد لمرض ألم به، وقد كان يقود المعركة وهو على محفة من شدة المرض.
ومن الحبشة ظهر بطل مسلم وكان ابن قسيس ثم أسلم بعد ذلك، واستطاع أن يوحد جهود المسلمين ومن ثم ينتصر على جيوش الصليبيين سنة 935 هجرية، وهو يقول: الجهاد بغيتنا ومنانا، ولا نزال نصبر لهم على الضرب والطعن حتى يحكم الله بيننا وهو خير الحاكمين، ويؤسس مملكة للمسلمين في الحبشة.
فأين نحن من هذا كله؟ إنه لا سبيل إلى النصر إلا أن يعود المسلمون إلى الله عز وجل، وحينها تعود لنا العزة والشرف والكرامة والسؤدد، فإن يوماً من حياة الأسد خير من مائة سنة من حياة ابن آوى أو كما قال السلطان فتح علي خان.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، اللهم احم المسلمين المستضعفين في كل مكان، واحم أعراض المسلمين ودماء المسلمين في بلاد أوروبا وأمريكا.
اللهم انصر المسلمين المستضعفين في كل مكان، اللهم احم إخواننا في فلسطين، اللهم عليك باليهود، اللهم عليك بالصليبيين، اللهم وحد صفوف المسلمين، وهيئ لشريعتك أن تحكم الأرض وأن تسود.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
ربنا احشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مبدلين، واجعل خير أيامنا يوم لقياك، وارزقنا لذة العيش بعد الموت، ولذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك.
رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين، وتقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، فبك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم صل على عبدك ونبيك محمد صلى الله عليه وسلم.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك، وموتاً في بلد رسولك، وارزقنا الصدق في معاملتك، واشف مرضانا ومرضى المسلمين.(17/7)
الاتباع بين أصحاب الوجد والعقلانية
فرض الله عز وجل اتباع كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وعلق الفلاح والنجاح على ذلك، فأطاع أمره سبحانه من كتب الله له السعادة في الدنيا والآخرة، وجاء أقوام وفرق استعاضوا عن الكتاب والسنة بعلوم الكلام والجدل وشطحات لا ترجع إلى عقل أو دين، ومنهم من قدم عقله وحكمه على دين الله، ومنهم من اعتمد على منامات وحكايات وأساطير الإسلام بريء منها كل البراءة، ولا نجاح ولا فلاح إلا بالاتباع والاعتصام بالكتاب والسنة، وقد كثرت أقوال الصحابة والعلماء في التنبيه على أهمية الاتباع والتقيد به.(18/1)
وسطية أهل السنة وفضلهم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
إن أهل السنة والجماعة وسط بين العقلانيين والقبوريين، ومذهب أهل السنة والجماعة مذهب أهل الحديث من علماء السلف وسط في شيء، يقول العلامة ابن القيم: واكحل جفون القلب بالوحيين واحـ ذر كحلهم يا كثرة العميان وقال: العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفان ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين النبي وبين قول فلان وقال الشافعي ناصر السنة رحمه الله: لولا أصحاب المحابر لخطبت الزنادقة على المنابر.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: النظر إلى وجه الرجل الذي يدعو إلى السنة ويذب عنها عبادة.
وقال الفضيل بن عياض: الملائكة حراس السماء، وأهل الحديث هم حراس الأرض.
وقال الحسن البصري: استوصوا بأهل السنة خيراً؛ فإنهم غرباء.
وقال سفيان الثوري: لو لقيت رجلاً من أهل السنة والجماعة فأقرئه مني السلام، فما أقلهم في هذا الزمان!(18/2)
المدرسة العقلية وأساسها
إن الأفكار التي قدست العقل وقدمته على النقل، وجعلته مشرعاً يحكم على النص: ينقضه أو يؤوله، أفكار وافدة وبيئة، والحق ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيل.
والمدرسة العقلانية أو كما تسمى أفراخ المعتزلة لها أس من أهل الاعتزال أصحاب واصل بن عطاء، وهذه المدرسة يمثلها في العصر الحديث جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ومحمود شلتوت ومصطفى المراغي ومحمد فريد وجدي وفهمي هويدي ومحمد عمارة وغيرهم، وهي أسماء رنانة، والناس يكنون لها احتراماً كبيراً.(18/3)
بيان حال الأحاديث الواردة في فضل العقل
إن المدرسة العقلية اعتمدت على حديث موضوع واستدلت به، وهو: (أول ما خلق الله العقل، فقال له: أقبل فأقبل، ثم قال له: أدبر فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً أكرم علي منك، فبك آخذ وبك أعطي، وبك الثواب وبك العقاب).
وهو حديث موضوع، وقد ذكر الحافظ أبو حاتم البستي والإمام الدارقطني والشيخ أبو الفرج بن الجوزي: أن الأحاديث المروية عن النبي صلى الله عليه وسلم في فضل العقل لا أصل لشيء منها، وهي أحاديث موضوعة، وذكر ذلك الإمام السيوطي أيضاً، والشيخ الألباني رحمه الله، فقال: مما يحسن التنبيه عليه أن كل ما ورد في فضل العقل من الأحاديث لا يصح منها شيء، وهي تدور بين الضعف والوضع، وقد تتبعت ما أورده منها أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب (العقل وفضله) فوجدتها كما ذكرت لا يصح منها شيء، فالعجب ممن يتكلم في فضلها!(18/4)
ثناء القرآن على العقل
إن المولى تبارك وتعالى أثنى على العقل فقال: {أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44]، وقال الله تبارك وتعالى في آيات كثيرة: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73]، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118]، وقال: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28]، وقال: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43].
ونعى على قوم لا يفكرون بعقولهم ولا يتدبرون، فقال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس:62]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10]، وقال الله تبارك وتعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس:42].(18/5)
ذم السلف للكلام والجدل
وهناك أحاديث كثيرة في مدح العقل والتنويه بشرفه، وأما جعله حاكماً على الشرع مقدماً عليه فهذا أس الوبال والوباء الذي دخل على هذه الأمة، قال الإمام الشافعي: إنما فسد العرب لما تركوا الفطرة واتبعوا منطق أرسطو طاليس.
وعندما دخل المنطق ونشأ علم الكلام ولجأ الناس إلى الجدل ضاعت الأمة الإسلامية.
وحينما دخل استخدام المنطق والجدل وعلم الكلام تنبه إلى خطورة ذلك الإمام الشافعي، فلما قابل بشر المريسي وناظره قال: والله لأن يلقى الرجل الله عز وجل بكل شيء خلا الشرك خير له من أن يلقاه بمثل هذا الكلام.
وقال: رأيي في علماء الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، وأن يطاف بهم في العشائر والأمصار ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة وأقبل على علم الكلام.
وقال الإمام أحمد: الخوض في علم الكلام يفضي إلى الزندقة.
وقال الإمام مالك: أفكلما جاءنا رجل هو أجدل من رجل أراد منا أن نترك ما جاء به جبريل إلى قلب نبينا صلى الله عليه وسلم؟! وقال أبو يوسف لـ بشر بن غياث المريسي: يا بشر! إما أن تتوب أو تفسد علينا خشبة.
يعني: نصلبك على خشبة إن لم ترجع عن أقوالك هذه العفنة.(18/6)
بيان نسبة العقل للشرع وتفاوت العقول وحاجتها إلى الشرع
قال العلماء: إن العقل مع الشرع كالعامي مع المفتي، فالعقل يوصلك إلى باب الملك، ويعلمك أن للكون إلاهاً عظيماً، والعقول لا تسلم إلا للأعقل والأكمل، ولا أعقل من عقل الرسل، فالله عز وجل اختارهم همزة الوصل بين السماء والأرض، وقد وعوا تكاليف الشرع والوحي، ووعوا ما في الملكوت ولم تغب عقولهم لحظة واحدة.
فأين هؤلاء الفلاسفة من أنبياء الله عز وجل ومن خواص رسله؟ وأي عقل يحكمونه في دين الله عز وجل؟ فأهل الاعتزال قدموا العقل على النقل، بل إن الأشاعرة وهم مخنثة المعتزلة قالوا: إن أصول الكفر ستة أشياء، وذكروا أن الأصل السادس من أصول الكفر: هو الأخذ بظاهر النصوص، يعني: لو أنك أخذت بالظاهر الذي يفهمه الناس من الكتاب والسنة ولم تتأوله أو تحرفه فهذا أصل من أصول الكفر عند الأشاعرة.
وأي عقل نحكمه في نصوص الوحي إذا كانت العقول مختلفة؟ فالعقول عند المصريين تختلف عن عقول الهنود والصينيين، فأي عقل نحكمه في دين الله عز وجل وفي شرعه؟ إن العقول هدت الهنود إلى عبادة البقر، وغيرهم ينكر هذا سواء من المصريين أو غيرهم، فلا أحد يقول: إنه يقدس البقرة، لكن أغندي وكان رجلاً عظيماً من عظماء دول عدم الانحياز يقول: إنني أجد نفسي وملايين الهنود نتوجه بالعبادة والإسلام لأمنا البقرة، فهذا شيء معقول عند أغندي أن يعبد البقرة، ويقول: فأمنا البقرة تعدل وتفضل أمنا الحقيقية بأسباب كثيرة.
بل إن عقول الهنود هدتهم إلى عبادة الفئران من دون الله عز وجل، وكما ذكر في مجلة العربي: أن هناك معبداً من الرخام الأبيض كلف أصحابه ملايين الجنيهات، بل المليارات، ويكفيك أن تعلم أن إله هذا المعبد نوع من الفئران البيضاء.
من أنت يا أرسطو! ومن أفلاطون قبلك يا مبلد! ومن ابن سينا حين قرر ما هديت له وأرشد هل أنتم إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد فأي عقل نحكمه في شرع الله عز وجل؟ أهو عقل الخواص من الفلاسفة والمثقفين أم عقل العوام؟ وهل نحكم العقل السلفي أم نحكم العقل الصوفي؟ وهل نحكم العقل الأصولي أم الفلسفي؟ وهل نأخذ بعقل المثاليين من الفلاسفة أم بعقل الواقعيين؟ وهل نأخذ بآراء الماديين من الفلاسفة أم بآراء الإلهيين؟ وهل نحكم عقول الأديان الخاملة أم عقول الأجيال الفاضلة كما قال أهل الفلسفة؟ وهل نأخذ بعقل المسلم المتميز بهويته الحر في تفكيره أم عقل المسلم المأزوم تحت ضغوط الحضارة المعاصرة بجبروتها؟ وهل نأخذ بالعقل الجاهلي أم بالعقل الإسلامي أو بالعقل الأوربي الجاهلي الذي استباح إلغاء الله عز وجل وعبد نفسه مكان العلي العظيم؟ فالعقل الأوربي الجاهلي استحسن اللواط، ونكاح الأمهات والبنات، والعقل العربي الجاهلي استباح وأد البنات، أم هل نحكم العقل الذي انحرف عن منهج الإسلام وعطل السنة، وهو عقل القرآنيين الذي استحسن إلغاء الإسراء والمعراج، بل واستحسن إلغاء كل المعجزات الحسية وأنكر الكثير من المغيبات كالجن والملائكة والدجال؟ إن العقل اليوناني في أيام الفلاسفة دافع عن البغاء الرسمي وعن حرفة المومسات والشذوذ الجنسي الذي ظهر في المجتمع الإغريقي في أيام فلاسفة اليونان، بل إن فلاسفتهم وأصحاب المنطق منهم كانوا يحبذون البغاء والشذوذ الرسميين، فهل نأخذ بهذه المقدمات الباطلة ونحكمها في دين الله ونفضلها حتى على النصوص المتواترة؟! يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الرسل تخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول، أي: أن الوحي والشرع يخبران بالأشياء التي تحتار فيها العقول ولا تستطيع أن تكيفها، مثل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن في الجنة شجرة تسمى شجرة طوبى يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها)، فهذا فوق نطاق العقل.
فالشرع يأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها.
يعني: إن العقول السليمة الصحيحة إذا حكمت باستحالة شيء فلا يأتي الشرع يقرره، والمعقولات الصحيحة لا يصادمها شرع صحيح.(18/7)
جناية المعتزلة على الأمة
وأما جنايات العقل على هذه الأمة وتدميره لها فقد بدأ عندما دخل علم الكلام بمقدماته الباطلة في عقيدة هذه الأمة، ومحاكمه أصحابه لعلماء الأمة وتعذيبهم لهم، وكان أول ظهوره عند المعتزلة عندما قدموا العقل على نصوص الشريعة، وأتوا بأصولهم الخمسة ومنها التوحيد، والتوحيد عند المعتزلة هو: تعطيل صفات الله تبارك وتعالى كلها، فقالوا: هو عليم بلا علم، وسميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، فأثبتوا لله عز وجل الأسماء فقط ونفوا عنه كل صفة، حتى صفة العلم نفوها عن الله عز وجل، وقالوا: عليم بلا علم، وبصير بلا بصر، وقادر من غير قدرة، وعطلوا صفات الله عز وجل، ولم يكتفوا بهذا بل جروا الأمة إلى مسألة خلق القرآن، وعذب فيها إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد، والذي تولى كبر هذه المحنة هو أحمد بن أبي دؤاد شيخ المعتزلة، وقد مات أحمد بن نصر الخزاعي والبويطي وغيرهما من علماء الأمة في هذه المحنة، وعذب الإمام أحمد، واقتادوه إلى السجن في شهر رمضان وعذب وضرب بالسياط؛ بسبب بدع المعتزلة، ولولا السياط التي كانت على ظهره لما صار إمام أهل السنة والجماعة.(18/8)
بيان التوحيد والعدل والوعد والوعيد عند المعتزلة
وقادتهم عقولهم إلى نفي رؤية الله تبارك وتعالى في الآخرة، فهم في أصلهم الأول التوحيد عطلوا صفات الله عز وجل، وقالوا بخلق القرآن، وعذبوا علماء الأمة.
وقد دعا الإمام أحمد بن حنبل على أحمد بن أبي دؤاد كبير المعتزلة، فابتلاه الله بالفالج -الشلل-، فكان نصف جسده لو نهشت منه السباع لا يحس به، والنصف الآخر لو سقط عليه الذباب لكأنما نهشته السباع، فقال أحمد بن أبي دؤاد: أصابتني دعوة أحمد بن حنبل.
وأما الأصل الثاني عند المعتزلة فهو: نفي القدر، وسموه مسألة العدل، وقالوا: إن الله عز وجل لا يخلق الشر، وأثبتوا لهم مشيئة مع الله عز وجل، وقالوا: إن الإنسان يخلق فعل نفسه، ونفوا القدر، وقالوا بخلق أفعال العباد.
وقال أهل السنة والجماعة: إن أفعال العباد مخلوقة لله عز وجل، وهم قالوا: إن العبد يخلق فعل نفسه.
وقالوا: بالتحسين والتقبيح العقليين، حتى إن بعضهم عندما ذكر لـ عمرو بن عبيد -كبير المعتزلة- حديث رواه الأعمش قال: لو قابلت الأعمش لكذبته -مع أن الحديث صحيح-، ولو لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددت عليه هذا الحديث، ولو لقيت الله عز وجل لقلت له: ما على مثل هذا أعطيناك الميثاق.
فأي دمار فوق هذا؟! بل خاضوا في أعراض الصحابة، وكذبوا سمرة بن جندب وأبا هريرة وغيرهما من أهل العلم.
وأما في الوعد والوعيد فهم كما قال أهل العلم: مخنثة الخوارج الذين يكفرون عوام المسلمين ويكفرون مرتكب الكبيرة.
يعني: أن الخوارج قدوتهم، فقالوا: بالمنزلة بين المنزلتين.
ومعنى هذا الكلام: أن مرتكب الكبيرة ليس مسلماً ولا كافراً ولكنه مخلد في النار، وهذا القول أصل من أصول جماعة التوقف والتبين، وأصحاب التوقف يقولون: إنا لا نحكم للرجل بإسلام ولا بكفر حتى نسأله ونتبين حاله، كما كان الأزارقة من الخوارج يقولون: لا نحكم على الناس بردة ولا بكفر حتى نمتحنهم، فالناس الذين يأتون إلينا ولا نعرف خباياهم نجري لهم الاختبار، فإن وافقونا كانوا منا.
والمعتزلة قالوا بالمنزلة بين المنزلتين، يعني: لم يحكموا على مرتكب الكبيرة بأنه مسلم أو كافر، وقالوا: هو في منزلة بين المنزلتين، وهو مخلد في النار، هذا قول أهل الاعتزال في القديم.(18/9)
من أقوال العلماء في الكلام وبيان رجوع بعض علماء الكلام إلى الحق
قال الإمام أحمد عن علم الكلام: لا يفلح صاحب كلام أبداً، علماء الكلام زنادقة.
وقال الإمام الأوزاعي: إذا أراد الله بقوم شراً ألزمهم الجدل ومنعهم من العمل.
ولقد رجع طوائف من علماء الكلام إلى عقيدة أهل السنة والجماعة، فلقد قال الرازي وهو من الأشاعرة: نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال وقال الطوغاني: سمعت فخر الدين الرازي يقول: يا ليتني لم أشتغل بعلم الكلام، وبكى.
وقال أبو المعالي الجويني وهو من علماء الأشاعرة: لقد بلوت أهل الإسلام وعرفت علومهم، وركبت البحر الخضم وخضت في الذي نهوني عنه، وكل ذلك في طلب الحق وهرباً من التقليد، والآن رجعت عن الكل إلى كلمة الحق، فعليكم بدين العجائز، فإن لم يدركني الحق بلطيف بره فأموت على دين العجائز، ويختم عاقبة أمري عند الرحيل بكلمة الإخلاص فالويل لـ ابن الجويني.
وكان يقول لأصحابه: يا أصحابنا! لا تشتغلوا بعلم الكلام، فلو عرفت أن الكلام يبلغ بي ما بلغ بي ما اشتغلت به.
فعلم الكلام جعل المعتزلة تكفر هذه الأمة، بل وتجيز الخروج بالسيف على هذه الأمة.(18/10)
بيان انحرافات جمال الدين الأفغاني
ومدرسة الاعتزال الجديدة أو أفراخ المعتزلة الجدد دمروا الأمة أيضاً، وهم يحملون أسماء رنانة، وفي الزوايا خبايا.
فـ جمال الدين الأفغاني شيخ المدرسة العقلية في العصر الحديث هو جمال الدين بن صفدر الأفغاني، وصفدر من ألقاب الإمام علي عند الشيعة، فقد كان أبوه إيرانياً تزوج بامرأة من الأفغان، فولدت له جمال الدين الأفغاني.
ومن المآخذ التي أخذها أهل العلم على جمال الدين الأفغاني الشيعي: أنه كان من الرافضة، وعندما أتى في تفسيره إلى الربا المحرم في قول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130] قال بجواز الربا المعقول الذي لا يثقل كاهل المديون ولا يتجاوز في برهة من الزمن رأس المال، فهذا الربا لو كان خفيفاً وفوائده خفيفة معقولة فلا مانع منه، وهو جائز عند جمال الدين الأفغاني.
وأما الطوام في هذا الرجل فقد كان زعيماً من زعماء الماسونية، ففي 22 ربيع الثاني سنة (1292 هـ) كتب جمال الدين الأفغاني طلباً للانضمام إلى المحفل الماسوني، وهذا نص الطلب: يقول مدرس العلوم الفلسفية بمصر المحروسة جمال الدين الكابولي الذي مضى من عمره 37 سنة: بأني أرجو من إخوان الصفا، وأستدعي من خلان الوفاء -أعني: أرباب المجمع المقدس الماسون الذي هو عن الزلل والخلل مصون- أن يمنوا علي ويفضلوا إلي بقبولي في ذلك المجمع المطهر، وبإدخالي في سلك المنخرطين في هذا المنتدى المفتخر.
ولكم الفضل.
فهو يستجدي منهم أنه يدخل المجمع الماسوني، وقد دخله، وتم اختياره بعد ثلاث سنوات رئيساً للوب كوكب الشرق، وهو محل من المحافل الماسونية التي كانت موجودة في مصر، ودعوه في 7 يناير 1878م لاستلام القادوم بعد إتمامه، وأن يأتي بلبس الماسون.
وهذا الرجل إذا أردنا أن ندينه من فمه فنقول فيه مثل ما قاله الشيخ الدكتور محمد محمد حسين: إن هذا الرجل كان يثير النعرات القومية عند المصريين فيقول: تناوبتكم أيدي الرعاة واليونان والرومان والفرس والعرب والأكراد والمماليك والفرنسيس، وكلهم يشقون جيوبكم.
يعني: يتكلم ويقول: تناوبتكم أيدي العرب، فأدخل المسلمين أيضاً من ضمن الغزاة الفاتحين أصحاب الظلم والظالمين، هكذا كان كلامه على الفتح الإسلامي.
ثم يقول: انظروا أهرام مصر وهياكل رمسيس وآثار طيبة ومشاهد تيوة وحصون دمياط شاهدة بمنعة آبائكم وعزة أجدادكم.
وتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم إن التشبه بالكرام فلاح هذا ما يقوله هذا الرجل.
ومع أنه كان ينعي على عباد القبور إلا أنه كان إذا وجد وسط القبوريين فإنه يتكلم كما يتكلم المتصوفة القبوريين.
وقد كان يميل إلى أسلوب الاغتيال وإلى تدبير الاغتيالات السرية حتى في وجوده في إيران.
ومما يؤخذ أيضاً على هذا الرجل: اختلاطه الكثير باليهود والنصارى، وكان يحيط نفسه بخليط كبير من اليهود والنصارى مثل سليم النقاش من نصارى الشام وهو ماسوني، وأديب إسحاق وهو أيضاً ماسوني، ولما مات أديب إسحاق قال عنه: إنه كان تراث العرب وزهرة الأدب، وقضى نحبه في شرخ الشبوبة وعنفوان الفتوة، وترك لنا قلوباً آسفة وسبولاً فائضة، إنا لله وإنا إليه راجعون.
يسترجع على موت أديب إسحاق! ومن المآخذ عليه: أن طبيبه الخاص كان هارون اليهودي، ومن يوم أن جاء مصر سكن في حارة اليهود وما فارقها حتى غادر مصر.
وكان يسعى إلى إسقاط الخلافة العثمانية، فقد قال السلطان عبد الحميد في مذكراته: وقعت بين يدي خطة أعدها في وزارة الخارجية الإنجليزية كل من مهرج اسمه جمال الدين الأفغاني وإنجليزي يدعى بـ لنز، قالا فيها بإقصاء الخلافة عن الأتراك.
وكان يشرب الفنيات، ومحمد عمارة كل يوم ثلاثاء يكتب في جريدة الشعب ويقول: غرائب التنوير ومدرسة التجديد ومدرسة المستنيرين وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وشيخ المدرسة كان يشرب قليلاً من الفنيات! وهذا قاله الشيخ محمد رشيد رضا في الجزء الأول صفحة 49 من تاريخ الأستاذ الإمام قال: إنه كان يشرب قليلاً من الفنيات.
ومن المآخذ أيضاً عليه: أن السلطان عبد الحميد استشاره في إرسال بعثة من العلماء لنشر الإسلام في اليابان حسب طلب إمبراطور اليابان، فثناه عن عزمه وقال له: إن العلماء نفروا المسلمين من الإسلام، فأجدر أن ينفروا الكافرين.
يقول الشيخ يوسف النبهاني: إنه جالس جمال الدين الأفغاني من أول النهار إلى آخره فما وجده صلى فريضة واحدة، ذكر ذلك في قصيدته الرائية، وكان شيخ الأزهر في ذلك الوقت الشيخ عليز وعندما كان يتواجد جمال الدين الأفغاني داخل المسجد الأزهر كان يضربه بعكازه حتى يخرجه.
هذا النسبة لـ جمال الدين الأفغاني.(18/11)
بيان انحرافات محمد عبده
ثم أتى من بعده مفتي مصر في عصره الشيخ محمد عبده، وهو التلميذ الأول لـ جمال الدين الأفغاني، فكان أول ما فعل أنه دعا للتقريب بين الأديان، وأنشأ جمعية من أجل ذلك هدفها التقريب بين الأديان الثلاثة: الإسلام والمسيحية واليهودية، وهي جمعية العروة الوثقى، وكانت جمعية دينية سرية سياسية، وكان صاحب الرأي الأول فيها الشيخ محمد عبده، وكان سكرتيرها مرزا باقر، وقد كان مسلماً ثم تنصر وتسمى بـ مرزا يوحنا.
وكتب الشيخ محمد عبده في رسائل له إلى القس الإنجليزي إسحاق تلر، يقول: كتابي إلى الملهم بالحق الناطق بالصدق، حضرة القس المحترم إسحاق تلر، أيده الله في مقصده، ووفاه المذخور من موعده.
ويقول له في هذا الخطاب: ونستبشر بقرب الوقت الذي يسطع فيه نور العرفان الكامل، فتهزم له ظلمات الغفلة، فتصبح الملتان العظيمتان المسيحية والإسلام وقد تعرفت كل منهما إلى الأخرى، وتصافحتا مصافحة اللباب، وتعانقتا معانقة الأنثى.
وهذا موجود في كتاب الأعمال الكاملة لـ محمد عبده، جمع وتحقيق محمد عمارة الجزء الثاني صفحة 363 - 364، قال: وقد دعا الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التقريب بين الأديان لما راسل قيصر الروم ونصارى نجران.
ومن المآخذ التي تؤخذ على الشيخ محمد عبده: أنه كان يقول: إذا تعارض العقل والنقل فقد اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلاً ممن لا ينظر إليه أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل.
يعني: لو اصطدم العقل مع آية فنأخذ بما دل عليه العقل ونترك هذه الآية.
ومما يؤخذ عليه أيضاً: دخوله في الماسونية مع شيخه، وكان يحتفظ بكتب الماسونية في منزله وبالخط الأفغاني، وقد صودرت في أثناء سجنه بمصر، وصدرت منه عبارات لأستاذه الأفغاني تفوح منها رائحة تجاهل الإسلام، والدعوة إلى الفرعونية المصرية.
ومحمد عبده هو الذي كتب بخط يده برنامج الحزب الوطني الحر، وهو غير الحزب الوطني لـ مصطفى كامل، وهذا الحزب هو حزب علماني يجمع رجالاً مختلفي العقيدة والمذاهب.
ويقول محمد عبده: إن خير أوجه الوحدة: الوطن، يعني: إن الإسلام لا يجمع الناس بقدر ما يجمعهم الوطن، يعني: الوطن يجمع الناس أكثر مما يجمعهم دين الله عز وجل، فهو من القائلين بالوحدة الوطنية.
يقول: إن خير أوجه الوحدة الوطن؛ لامتناع الخلاف والنزاع فيه.
وأيضاً مما يؤخذ على محمد عبده: علاقته المريبة بالإنجليز، حتى إن اللورد كرومر الذي قال: جئت لهدم ثلاثة: الكعبة، والقرآن، والأزهر، صرح بأن الشيخ سيظل مفتياً في مصر ما ظلت بريطانيا العظمى محتلة لها.
فأي علاقة كانت تربطه بالإنجليز حتى يدافعوا عنه هذا الدفاع؟! ولما ألف محمد أحمد خلف الله الشيوعي رسالة: الفن القصصي في القرآن الكريم، وقال: إن قصص القرآن عبارة عن أساطير وأكاذيب، رفضت جامعة فؤاد قبول رسالة الدكتوراة هذه، فقال أمين الخوري الذي كان متزوجاً من الدكتورة ابنة الشاطئ: إنها ترفض اليوم ما كان يقرره الشيخ محمد عبده بين جدران الأزهر منذ اثنين وأربعين عاماً.
وقال لهم: لماذا ترفضون هذا الكلام؟ إن هذا هو نفس كلام محمد عبده عندما قال: إن قصص القرآن عبارة عن تمثيل، ومحمد أحمد خلف الله إنما زاد قوله: إنه أساطير، يعني: عبارة عن أكاذيب.
ومما يؤخذ أيضاً على محمد عبده: أنه الواضع الحقيقي لكتاب تحرير المرأة، وهو الذي صاغه الصياغة النهائية، كما يقول محمد عمارة نفسه الذي جمع كلام الشيخ محمد عبده، فقد قال: هناك فصول كاملة في كتاب تحرير المرأة لـ قاسم أمين أعدها الشيخ محمد عبده، وهي فصول: الحجاب الشرعي، والزواج وتعدد الزوجات، والطلاق، فهذه كاملة من صنع الشيخ محمد عبده، والفصول الأخرى من تأليف قاسم أمين، ثم صاغه محمد عبده الصياغة النهائية، وقد ظلوا في مجلة المنار يثنون على هذا الكتاب وقت أن قامت الزوبعة عليه.(18/12)
بيان انحرافات أعلام المدرسة العقلية في هذا العصر
ومن أهم رجال هذه المدرسة أيضاً: مصطفى المراغي ومحمود شلتوت وعبد القادر المغربي، فقد خالفوا الإسلام وانحرفوا في مجال العقيدة وفي الكلام عن أمارات الساعة، فأنكروا أحاديث المهدي، مع أن العلماء حكموا أنها متواترة، فقد رفضوها بتاتاً، وقالوا: إن فكرة المهدي أصلاً اقتبسها المسلمون من اليهود الذين قالوا: بعودة المسيح وظهوره مرة أخرى.
وأنكروا أحاديث الدجال، مع أن الأحاديث فيه متواترة كما قال الحافظ ابن كثير.
وقال الإمام النووي: إن الذي ينكر أحاديث الدجال المتواترة هم الخوارج والجهمية وبعض أهل الاعتزال.
وأنكروا أيضاً ظهور الدجال، وقالوا: إن أحاديثه مضطربة.
وأولوا العرش بالملك في قول الله عز وجل: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة:17]، وقالوا: العرش هنا كناية عن الملك والسيطرة.
وأولوا صحف الأعمال التي يأخذها العبد يوم القيامة باليمين أو بالشمال، وقالوا في قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة:19] يعني: كناية عن التفاؤل، {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة:25] قالوا: كناية عن الانتظار.
ومحمد فريد وجدي كان يقول بعقيدة الجبر، وخالفه الشيخ محمد عبده فكان يقول بالاختيار، وكان محمد فريد وجدي يقول أيضاً: إنه يؤمن بتحضير الأرواح.
وفي مجال المعجزات: أنكروا كل معجزة، وقالوا: إن هذه المعجزات لا يستطيع العقل أن يكيفها، وهي ليست حكراً على الرسل، وأما المعجزات القديمة التي حكاها الله في كتابه عن الأنبياء فقد نقل عنهم الشيخ محمد رشيد رضا: أن وجود هذه المعجزات في القرآن الكريم كانت سبباً في إحجام الناس عن الإسلام، يعني: لو أن القرآن لم تكن به هذه الأشياء لكان مفكرو الغرب وأهل العقل منهم أسلموا، ولكن الذي صدهم عن الإسلام المعجزات القديمة للأنبياء القدامى، قالوا: وكل الأديان السابقة كانت تصادم العقل إلا الدين الإسلامي فإنه أتى في مرحلة وجوب نضوج العقل فلم يحتج دين الله عز وجل إلى معجزة؛ لأن المعجزات يعاقب بها المولى عز وجل منكري النبوات، والله عز وجل جعل المعجزات دليلاً على صحة وصدق الرسل، وهم ينكرونها بتاتاً.
ومحمد حسين هيثم في كتابه: (محمد) أنكر كل معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم إلا القرآن فقط، فأنكر انشقاق القمر، مع أن الأحاديث الواردة في انشقاق القمر لرسول صلى الله عليه وسلم بلغت حد التواتر ومع هذا أنكرها، فهم إما أن يؤولوا المعجزات أو ينكروها.
وخالفوا أهل السنة والجماعة في الأخذ بأحاديث الآحاد في العقيدة وقالوا: إن أحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في العقائد، وإنما يؤخذ بالحديث المتواتر، فخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعة.
واختلفوا في أصل الإنسان هل هو سيدنا آدم أم لا؟ واضطربوا في ذلك اضطراباً عظيماً، ومال محمد عبده إلى أن أصل الإنسان ليس آدم، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كلكم لآدم وآدم من تراب)، وقال: كثير من الناس البشر لا يعرفون آدم ولا حواء كأهل الصين والهند، وأنه يستوي عندهم أن يكون أصل الإنسان آدم أو القرد.
بل نقل محمد رشيد رضا عن الإمامية والصوفية: أنه كان قبل آدم المشهور آدميون كثيرون، يعني: آدم وآدم وآدم وآدم، ونقل عن الإمامية: أن الله تبارك وتعالى خلق قبل آدم ثلاثين آدماً، بين كل آدم وآدم ألف سنة! فهم يأتون بكلام الشيعة ويردون الأحاديث الصحيحة المتواترة.
وأما مقالته في الملائكة فأغرب وأعجب، يقول محمد عبده عن الملائكة: يشعر كل من فكر في نفسه ووازن بين خواطره أنه عندما يهم بأمر فيه وجه للحق والخير ووجه للباطل أن في نفسه تنازعات، فنوازع الخير عند الإنسان هذه هي الملائكة! وأين يأتي بحديث مجيء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أبيض الثياب لا يرى عليه أثر غبار السفر، وجعل يسأله؟! فهل كانت مواد الخير هذه ممثلة في شخص تأتي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتحدثه وتكلمه؟! ويقول في قول الله عز وجل: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]: كل هذا من القصص التمثيلي، يعني: لم يكن هناك سجود ولا شيء، نسأل الله أن يثبت علينا عقولنا.
ويقول: إن الله تعالى لما خلق الأرض ودبرها بما شاء من القوى الروحانية التي بها قوامها ونظامها، جعل كل صنف من القوى مخصوص بنوع من أنواع المخلوقات لا يتعداه ولا يتعدى ما حدد له من الأثر الذي خص به، وخلق بعد ذلك الإنسان وأعطاه قوة يكون بها مستعداً للتصرف في جميع هذه القوى، وتسخيرها في عمارة الأرض، فعبر الله عن تسخير هذه القوى له بالسجود! فهل يصح أن يقال: إن الله عز وجل عبر عن تسخير كل ما في الأرض لابن آدم بسجود الملائكة لآدم؟! هذا القول لا يقوله أحد.
وأما عن عقيدته في الجن فيقول: إن الجن لا يستبعد أن يكونوا عالم الميكروبات.
ويقول في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} [البقرة:275]: المس هو: الصرع والأمراض العصبية، وسببها بإذن الله تلك الجراثيم التي تدخل جسم الإنسان! ويقول في قول الله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27] عن الشيطان وقبيل الجن: تلك الميكروبات ترانا من حيث لا نراها، ولكن الله سبحانه مكننا من رؤيتها بالميكرسكوبات! وأما الحديث الذي رواه الإمام البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه والدارمي وأحمد وفيه: (إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم) فيقول عنه: لا شك أن الجراثيم تلك تجري في خلايا جسم الإنسان وفي دمه، حيث تنقل الأمراض وتسري في البدن! ويقول في الحديث الذي رواه الإمام مسلم وأحمد والدارمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا تثاءب أحدكم فليضع يده على فيه؛ فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب): ولا شك أن الفم من أهم مداخل الميكروبات إلى جسد الإنسان، ولاسيما إذا كان في حال التثاؤب، فقد يلج منه ذباب أو ميكروبات وجراثيم لا نراها، فوضع اليد على الفم من أجل ألا تدخل الميكروبات! ويقول في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم والنسائي وأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا استيقظ أحدكم من منامه فليستنثر ثلاث مرات؛ فإن الشيطان يبيت على خياشيمه): ولا شك أن الخياشيم من مداخل الميكروبات إلى جسم الإنسان! ويقول عن حديث: (فناء أمتي بالطعن والطاعون): والطاعون أيضاً هو من فعل الميكروبات! هذا مما أخذه أهل العلم على محمد عبده.(18/13)
انحرافات العقلانيين في التفسير
وأما انحرافاتهم في التفسير: فمنها في قول الله عز وجل: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:275]، قال علماء أهل السنة والجماعة: الخلود هنا طول المكث وليس التأبيد، أي: ومن عاد إلى حل الربا واستحله فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون.
وأما محمد عبده ومحمد رشيد رضا فذهبوا إلى أن الرجل إذا مات مصراً على الربا فهو مخلد في النار، وخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعةن ومالوا إلى قول أهل الاعتزال في أن الرجل آكل الربا إذا مات مصراً عليه يكون كافراً مخلداً في النار.
وأيضاً في قول الله عز وجل: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء:3]، ذهبوا إلى تحديد الزواج وتقييده بواحدة، بل قال مصطفى المراغي لما اجتمع بعلماء الحنفية: انظروا إلى أحكام توافق العصر وأنا مستعد أن آتي لكم بنصوص من الشرع تؤيد ما ذهبتم إليه.
وقالوا: إن الطلاق لا يقع إلا أمام القاضي؛ حتى يقيدوا الطلاق.
ومن انحرافاتهم أيضاً: قولهم في قول الله عز وجل: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43]: إن العلة هنا مطلق السفر أو مطلق المرض، فقالوا: يجوز للرجل إذا كان مسافراً أو مريضاً ووجد الماء أن يتيمم مع وجود الماء.
وهذا الكلام قاله محمد عبده ومحمد رشيد رضا، ولم يقل به أحد من أهل العلم.
وقالوا في قول الله عز وجل: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا * بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء:157 - 158]، وقوله عز وجل: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [آل عمران:55]: إن عيسى عليه السلام توفاه الله عز وجل وقبضه إليه وأنه قد مات، وخالفوا بذلك عقيدة أهل السنة والجماعة، وأنكروا رجوع المسيح في آخر الزمان، وردوا هذه الأحاديث.
قال الشيخ محمود شلتوت وهو يتكلم عن العلماء الأفاضل الذين حكوا التواتر، وهم (22) عالماً: الإمام الطبري والإمام ابن كثير والإمام القرطبي والحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام السفاريني وشيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم والسبكي والذهبي والألباني والغماري والكوثري غيرهم.
ومحمد عمارة حكم بإسلام اليهود والنصارى، وأنهم لا يخلدون في النار، وهذا القول قاله في كتاباته، ونحن لا نفتري على الرجال، وهذا كله في كتب محمد عمارة بالطبعة وبالصفحة وبرقم السطر كذلك، فقد قال بإسلام اليهود والنصارى، وأن اليهود والنصارى الذين بعد بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتركوا مع المسلمين في أصل التوحيد، فهم ناجون عند الله تبارك وتعالى.(18/14)
بيان ضلالات الترابي
وأيضاً من المدرسة العقلية حسن الترابي زعيم السودان، وهذا الرجل له فكر معوج، فهو يقول: إن المرتد لا يقتل؛ لأنه يمشي تحت قانون الدولة.
ويقول أيضاً: بجواز زواج المسلمة من اليهودي أو النصراني، وقد ناظره الشيخ مناع القطان والشيخ القرضاوي ليلة كاملة في رمضان، ولكن الرجل ظل مقتنعاً بما هو عليه.
بل إنه يقول: ولعل في بعض رقص الغرب الذي هو الباليه معنىً راقياً.
ويقول: إذا وجد في الجنة باباً تاسعاً فسيدخل منه أهل الفن.
وهذا كله في كتابه (تجديد الفكر الديني).
وقال: إن الجن عبارة عن ميكروبات، وفي قوله تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل:3]، إنها الميكروبات.
وقال: إن الملائكة هي نوازع الخير، وأن آدم ليس أبو البشر، وهو يرد الأحاديث الصحيحة والمتواترة، ويقدم العقل على الشرع عند تنازعهما، فأي شيء أبقى في دين الله عز وجل؟!(18/15)
مناظرة بين العقل والنقل
قال القائل: علم العليم وعقل العاقل اختلفا من ذا الذي منهما قد أحرز الشرفا فالعلم قال: أنا أحرزت غايته والعقل قال: أنا الرحمن بي عرفا فأفصح العلم إفصاحاً وقال له بأينا الله في قرآنه اتصفا؟ فأيقن العقل أن العلم سيده فقبل العقل رأس العلم وانصرفا(18/16)
بيان انحرافات الصوفية(18/17)
أولاً: عقيدتهم في الله عز وجل
وأما علماء الصوفية إن كان فيهم علماء فإن عقيدتهم في الله عز وجل وخاصة الفلاسفة منهم: هي القول بالحلول ووحدة الوجود.(18/18)
ثانياً: عقيدتهم في الرسل
وأما عقيدتهم في الرسول صلى الله عليه وسلم فإنهم يقولون بالحقيقة المحمدية، أي: أن الله عز وجل خلق أولاً الحقيقة المحمدية، وقالوا: هي أول الكائنات، ثم من هذه الحقيقة المحمدية أو النور المحمدي خلق الله كل ما في الكون من وجود، وأول من قال هذا محيي الدين بن عربي، ثم تبعه على ذلك الجيلي وابن سبعين وعبد السلام بن حشيش شيخ أبي الحسن الشاذلي، فقالوا: إن نور رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وجد أولاً، قال هذا عبد الكريم الجيلي في كتاب الإنسان الكامل، وقال: إن أول ما خلق الله عز وجل النور المحمدي، ومن هذا النور المحمدي خلق الله كل الكائنات.
واستدلوا بحديث جابر الموضوع الذي حكم عليه الألباني بالوضع.(18/19)
بيان ضلالات ابن عربي
ومن تراهات الصوفية ما قاله محيي الدين بن عربي شيخ الصوفية الأكبر، وكبريتهم الأحمر في كتابه (فصوص الحكم)، قال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيده الكتاب، فقال لي: هذا كتاب (فصوص الحكم) فخذ واخرج به إلى الناس ينتفعون به، فقلت: السمع والطاعة.
وقال: وهذا الكتاب أخذته مباشرة من اللوح المحفوظ، والعلماء لم يكفروه إلا بهذا الكتاب؛ لأنه قال فيه بإسلام قوم نوح، وقال: إن نوحاً مكر بهم ومكروا به، وأنهم كانوا يعبدون الإله الواحد في شخص الصور المتعددة.
وقال فيه بإسلام فرعون وأنه كان أعلم بربه من موسى عليه السلام.
وهذا موجود في كتاب (الفتوحات) وفي كتاب (فصوص الحكم).(18/20)
ثالثاً: عقيدتهم في الجنة والنار
أما عقيدتهم في الجنة والنار فإن الحلاج يقول عن الجنة: ما الجنة؟ إنها لعبة صبيان، ويقول عن النار: ما النار؟ أستطيع أن أبصق عليها بصقة فأطفئها!(18/21)
بيان ضلال الصوفية في أمر الخضر
يقولون: كان الخضر حنفياً ولم يكن شافعياً، ويقولون: إن السرهنتي سأل الخضر: هل تصلون بالمذهب الشافعي؟ فقال له الخضر: لسنا مكلفين بالشرائع، ولكن لأن قطب الزمان شافعي فنحن نصلي وراءه على مذهبه الشافعي.
فقد اختلفوا هل كان الخضر شافعياً أو مالكياً، وهذا من جهلهم، مثل أن يأتي شخص يسأل: هل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحمدياً أو بيومياً؟!(18/22)
نظرية خاتم الأولياء عند الصوفية
وأما عقيدتهم في الولاية فإنهم قالوا: كما أن للأنبياء خاتماً فالأولياء لهم خاتم، وأول من قال بنظرية الختم هذه هو الحكيم الترمذي ثم تابعه على ذلك محيي الدين بن عربي، وزاد محيي الدين بن عربي وقال: إن خاتم الأولياء أفضل من خاتم الأنبياء، ثم تبعهم على ذلك أحمد التيجاني صاحب الطريقة التيجانية، وكان كل واحد منهم يقول: أنا خاتم الأولياء، يعني: أنهم أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم.
ومنهم محمد عثمان المغرني صاحب الطريقة الخاتمية التي اتفقت مع الأعداء على ضرب المسلمين.
وعند الصوفية أن مقام الولاية فوق مقام النبوة.(18/23)
مسألة ديوان الصوفية
وأما ديوان الصوفية فإنهم يقولون: إن هذا الديوان يعقد كل يوم في الثلث الأخير من الليل، وكل يوم والناس الذين هم جالسون في هذا الديوان يقررون مصير الخلائق حتى اليوم التالي: من الأرزاق، وعالم الحجب، وما فوق الحجب، وما يكون في الملكوت! ويقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر هذا الديوان مع زوجاته، وتحضره الملائكة أيضاً.
ويقولون: إن لغة أهل الديوان اللغة السريانية إلا في وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فباللغة العربية؛ احتراماً لقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن هذا الديوان يعقد في غار حراء، ومن الجائز أحياناً أن يعقد في صحراء السودان! ويقولون: إن الأولياء ينظرون في اللوح المحفوظ، وقد قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء، كفتاه من ياقوتة حمراء، قلمه نور، وكتابه نور، عرضه ما بين السماء والأرض، ينظر الله عز وجل فيه كل يوم 360 نظرة، يخلق بكل نظرة ويحيي ويميت، ويفعل ما يشاء.(18/24)
قول المتصوفة بجواز رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة
وتراهات الصوفية هذه امتد أثرها إلى بعض الاتجاهات الإسلامية حتى إن بعض إخواننا في الهند وباكستان يقولون بجواز رؤيتهم للملائكة وللأنبياء يقظة، كما يقول الصوفية بجواز رؤيتهم لرسول صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناماً، وهذا القول ما قال به أحد من أهل العلم، وكان بعض المتصوفة من التبليغ في الهند وباكستان يقولون: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحضر إلى مدرسة العلوم بديوبن، وهي أصل جماعة التبليغ، وأنه يعد الحساب للكشف الختامي لدار العلوم بديوبن.
وهذا قول باطل.(18/25)
الحث على اتباع الكتاب والسنة
قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58]، وفضل الله: الإسلام، ورحمته: القرآن.
وقال الله تبارك وتعالى في محكم آياته: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
وقال رسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمي ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون).
قال ابن المبارك: هم عندي أصحاب الحديث، وكذا قال يزيد بن هارون والإمام ابن المديني، وقال الإمام أحمد: إن لم تكن هذه الطائفة المنصورة هم أصحاب الحديث فلا أدري من هم.
وقال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2].
وحرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتاً كحرمته حياً، فلا ترفع خزعبلات الأذهان ولا نتائج الأفكار العفنة فوق هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن أحالك على غير حدثنا وأخبرنا فإنما يحيلك على قياس فلسفي أو على ذوق صوفي، ولولا حدثنا وأخبرنا ولولا عبد الرزاق وأمثاله لما وصل إلينا من الكتاب شيء.
وقال الله تبارك وتعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} [المائدة:48]، قال ابن عباس: سبيل وسنة.
وقال الله عز وجل: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية:18]، قال الحسن: على السنة.
وقال الله تبارك وتعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} [البقرة:121]، قال عطاء: يتبعونه حق اتباعه، ويعملون حق العمل به.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ} [البقرة:129]، قال الحسن: الكتاب هو: القرآن، والحكمة هي: السنة.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} [طه:82]، قال سعيد بن جبير: ثم استقام ولزم السنة والجماعة.
وقال شمر بن عطية: ((ثُمَّ اهْتَدَى)) أي: للسنة.
وقال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران:106]، قال ابن عباس: أما الذين ابيضت وجوههم فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة.
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59]، قال عطاء: طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم اتباع الكتاب والسنة، وليس اتباع الذوق.(18/26)
بيان انحراف الصوفية عن اتباع الكتاب والسنة
فهم يقولون: حدثني قلبي عن ربي هكذا مباشرة! ويقولون: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله! وهذا البحر هو بحر الشطحات، ويقولون: إنكم تأخذون علمكم من ميت عن ميت، ونحن نأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت! ويقولون: نحن لا نحتاج إلى طريق؛ فقد وصلنا.
قال الجنيد: نعم وصلوا ولكن إلى سقر.
ولسان حالهم كما قيل عنهم: ويقول قلبي: قال لي: عن سره عن سر سري عن قفا أحوالي عن حضرتي عن فكرتي عن بلوتي عن صفو ذاتي عن صفات فعالي دعوى إذا ألفيتها حققتها ألقاب زور لفقت بخيال وكما يقول القائل: وقالوا: سكرنا بحب الإله وما أسكر القوم إلا القصع كذاك البهائم إن أشبعت يرقصها ريها والشبع وقيل: أقال الله: زمر لي وطبل وقل كفراً وسمي الكفر ذكر؟!(18/27)
بيان فضل اتباع النبي صلى الله عليه وسلم
قال الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54].
وقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
قال الحسن: ادعى قوم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فعلامة محبتك لله عز وجل حب اتباعك لرسول صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته حواريون وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره، ثم إنها تخلف من بعدهم خلوف يقولون ما لا يفعلون، ويفعلون ما لا يؤمرون، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل)، فالحواريون من هذه الأمة هم الذين يتبعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {كُونوا أَنصَارَ اللَّهِ} [الصف:14]، وأعظم شيء أن تكون نصيراً لله عز وجل، والرسول صلى الله عليه وسلم رقى المتبع لسنته صلى الله عليه وسلم وخلع عليه اسم الحواري.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن أناساً من أمتي يأتون بعدي يود أحدهم لو اشترى رؤيتي بأهله وماله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد أمتي حباً لي قوم يكونون بعدي يود أحدهم أنه فقد أهله ماله وأنه رآني).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم زمان صبر).
أي: صبر على السنة، وهذا أفضل أنواع الصبر؛ لأنه صبر على الطاعة, وهو أفضل وهو من الصبر عن المعصية ومن الصبر على الفتن.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن من ورائكم زمان صبر، للمتمسك فيه منهم أجر خمسين شهيداً منكم).
أي: من الصحابة، يعني: المتمسك بالسنة في هذا الزمان له أجر خمسين شهيداً من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يأتي على الناس زمان الصابر فيه على دينه كالقابض على الجمر).
وعن ابن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (طوبى للغرباء، أناس صالحون في أناس سوء كثير، من يعصهم أكثر ممن يطيعهم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل بدعة ضلالة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة: (أليس تشهدون أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله؟ قالوا: بلى، قال: إن هذا القرآن طرفه بيد الله وطرفه بأيديكم فتمسكوا به، فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبداً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه)، فالسنة معه، وقد كان جبريل عليه السلام يدارسه السنة كما يدارسه القرآن.
وقال صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن -أي: القرآن فقط-، فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه، وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله).
فقوله: (ألا يوشك رجل شبعان) يعني: لا يقول هذا إلا الشبعانون المترفون.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فيسرى اختلافاً كثيراً).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه عمر وقال له: (يا رسول الله! إنا نسمع أحاديث من يهود فتعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: أمتهوكون أنتم بعدي -يعني: أمتحيرون أنتم بعدي- كما تهوكت اليهود والنصارى؟ لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي).
وفي لفظ الدارمي: (أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى الرسول صلى الله عليه وسلم بنسخة من التوراة فقال: يا رسول الله! هذه نسخة من التوراة، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل عمر يقرأ ووجه رسول يتغير، فقال أبو بكر: ثكلتك الثواكل يا ابن الخطاب! -يعني: ثكلتك الثواكل أن أغضبت رسول الله-، أما ترى ما بوجه رسول الله، فنظر عمر إلى وجه رسول الله، فقال: أعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لو بدا لكم موسى عليه السلام فاتبعتموه وتركتموني لضللتم عن سواء السبيل، ولو كان حياً وأدرك نبوتي لاتبعني).
فلا تأخذ برأيك ولا بعقلك وتقدمهما على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.(18/28)
من أقوال الصحابة في الحث على اتباع الكتاب والسنة والتمسك بهما
قال علي بن أبي طالب: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أحق بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهرهما).
وعن حذيفة بن اليمان: أنه أخذ حجرين وضع أحدهما على الآخر، ثم قال لأصحابه: هل ترون ما بين هذين الحجرين من النور؟ قالوا: يا أبا عبد الله! ما نرى بينهما من النور إلا قليلاً، قال: والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حتى لا يرى من الحق إلا قدر ما بين هذين الحجرين من النور، والله لتفشون البدع حتى إذا ترك منها شيء قالوا: تركت السنة.
يعني: يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً.
وقال ابن مسعود: اتبعوا ولا تبتعدوا؛ فقد كفيتم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: أما تخافون أن تعذبوا وأن يخسف بكم؟ أقول لكم: قال رسول صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وقال عمر؟ يعني: يقول للصحابة: والله لو قلت لكم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلتم: قال أبو بكر وقال عمر فيوشك أن يخسف بكم وأن تعذبوا.
وعبد الله بن عمر رضي الله عنه من رآه في طلبه لآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إنه مجنون، وكان يقول لـ نافع: لعل خفاً يقع على خف، يعني: لعل خفاً من ناقتي يقع على خف ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وثبت عنه أنه حاد في طريق، ولما سئل قال: (وجدت رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى إلى هذا المكان تنحى فأناخ ناقته ثم ذهب إلى الخلاء)، ففعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع ولولا أصحاب المحابر لخطبة الزنادقة على المنابر.(18/29)
من أقوال السلف في الحث على التمسك بالسنة
قال الإمام الزهري: الاعتصام بالسنة نجاة.
وقال سعيد بن جبير: لا يقبل قول إلا بعمل، ولا يقبل عمل إلا بقول، ولا يقبل قول وعمل إلا بنية، ولا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة للسنة.
وقال يونس بن عبيد: أصبح من عرف السنة غريباً، وأغرب منه الذي يعمل بها.
وقال يونس بن عبيد أيضاً وهو تلميذ الحسن البصري: ليس شيء أغرب من السنة، وأغرب منها من يعرفها.
وقال أيوب السختياني: إن من سعادة الحدث والأعجمي أن يوفقهما الله عز وجل لعالم من أهل السنة.
يعني: مثلاً لو أن رجلاً جاء من ألمانيا أول مرة إلى مصر، فإذا أراد الله به خيراً أتى به إلى مسجد من مساجد السنة من أول يوم.
وقال ابن شوذب: إن من نعمة الله على الشاب إذا تنسك أن يؤاخي صاحب سنة يحمله عليها.
وقال الإمام الأوزاعي: ندور مع السنة حيث دارت.
وقال: خمس كان عليهن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والتابعون بإحسان: لزوم الجماعة، واتباع السنة، وعمارة المساجد، وتلاوة القرآن، والجهاد في سبيل الله عز وجل.
وقال أيوب السختياني: إذا حدثت الرجل بسنة فقال: دعنا منها وأنبئنا عن القرآن فاعلم أنه ضال.
وقال مكحول: القرآن أحوج إلى السنة من السنة إلى القرآن؛ لأنها مبينة ومفسرة له.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: المتبع للسنة كالقابض على الجمر، وهو اليوم عندي أفضل من ضرب السيف في سبيل الله عز وجل.
يعني: أن اتباع السنة في عصره أفضل من الجهاد في سبيل الله عز وجل.
قال الألباني: هذا في زمانه، فماذا يقال في زماننا نحن؟! وقال ابن عمر: لا يزالون على الطريق ما اتبعوا الأثر.
وقال سفيان: الملائكة حراس السماء، وأصحاب الحديث حراس الأرض.
وقال الفضيل بن عياض: إن لله عباداً يحيي الله بهم البلاد هم أصحاب السنة، ومن كان يعلم أن ما يدخل جوفه من حل كان من حزب الله.
وقال عبد الله بن المبارك: ما رأيت أحداً ألزم للسنة من أبي بكر بن عياش.
وعن عون قال: من مات على الإسلام والسنة فله البشرى بكل خير.
دين النبي محمد أخبار نعم المطية للفتى آثار لا تعدلن عن الحديث وأهله فالرأي ليل والحديث نهار ولربما غلط الفتى أثر الهدى والشمس بازغة لها أنوار وهكذا أيها الإخوة! رأينا أن هناك شرعاً وهناك عقلاً، والعقل بدون الشرع يضل ويزيغ، والشرع بدون العقل لا قيمة له، والخير كل الخير في اتباع الشرع وليس في اتباع العقل أو الوجد كما رأينا.(18/30)
الأسئلة(18/31)
أسباب قسوة القلوب وأسباب رقتها
السؤال
ما هي الأسباب المؤدية إلى قسوة القلب وما علاجها باختصار شديد؟
الجواب
من ضمن أسباب قسوة القلب: نسيان ذكر الله تبارك وتعالى وإهماله، جاء رجل إلى الحسن البصري فقال له: أشكو إليك قسوة قلبي، فقال: أذبه بالذكر.
وإن كنت قد أوحشتك الذنوب فدعها إذا شئت واستأنسِ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقيت إبراهيم في ليلة أسري بي فقال: يا محمد! أقرئ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة طيبة التربة، وأنها قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سبق المفردون، قيل: وما المفردون يا رسول الله؟! قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات).
يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيبُ أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب ملأ الضلوع وفاض عن جنباتها قلب إذا ذكر الحبيب يذوب ما زال يخفق دائماً بجناحه يا ليت شعري هل تطير قلوب ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أكثر من ذكر الله حتى يقول الجاهل: إنك مجنون)، والحديث صححه الحافظ ابن حجر والشيخ الألباني.
وأتى رجل إلى أبي مسلم الخولاني وكان كثير الذكر لله عز وجل فقال: أمجنون أنت يا عماه؟! قال: لا يا بني! بل هذا دواء الجنون.
ومن حديثي بكم قالوا به مرض فقلت لا أذهب الله عني ذلك المرض ويقول الشاعر: والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تستقل الشمس فيجدها شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم)، فالغبي كل الغبي والغباوة كل الغباوة البعد عن ذكر الله تبارك وتعالى.
وقال الله تبارك وتعالى: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
وأعظم الذكر قراءة القرآن الكريم، فهو مزامير الأنس، من حضرة القدس، بألحان التوحيد، من رياض التمجيد، وهذا طعم الخبر فكيف بطعم النظر! وقال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
فعليكم بأحسن الحديث، والطيب من القول، والأنس بالله عز وجل، وقراءة القرآن.
قال ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري أينما ذهبت فهي معي، إن معي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
وقال: مساكين أهل الدنيا؛ خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها؛ لذة الأنس بالله عز وجل.
ويقول ابن القيم: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً، وأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
فأول شيء يرق به القلب: ذكر الله عز وجل.
وثانياً مما يرقق القلوب: العطف على اليتامى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك امسح رأس اليتيم، وادنه منك، وأطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، يلن قلبك وتدرك حاجتك).
وأما أسباب قسوة القلوب فمنها: التسويف، قال أحد الصالحين: أنذرتكم سوف؛ فإنها جند من جنود إبليس.
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، ويهلك آخرها بالبخل والأمل)، فقوله: (ويهلك آخرها بالبخل والأمل) أي: بالتسويف.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن لله عز وجل آنية في الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
وتقسو القلوب أيضاً بكثرة الطعام، والأصل كما قال الحافظ ابن حجر العسقلاني جواز الشبع أحياناً، وأما أن تأكل كل يوم وتملأ بطنك فهذا لا يصح.
وأتى رجل إلى الحسن فقال له: علمني كيف أقوم الليل، فقال: صف لي أكلك كيف تأكل؟ قال: آكل حتى أشبع، قال: يا بني! ذاك أكل البهائم، قال: صف لي شربك، قال: أشرب حتى أرتوي، قال: ذاك يا بني! شرب الأنعام، اذهب يا بني! فتعلم الأكل والشرب، ثم ائت أعلمك قيام الليل.
ولذلك يقول الإمام ابن القيم في كتاب (الفوائد): قيل لرجل من الصالحين: فلان يأكل في اليوم ثلاث أكلات، فقال: قولوا لأهله: يبنوا له معلفاً.
ومما يرق به القلب كثرة الصوم، وأكثر ما يدر الدمع في العين الصوم.
نزف البكاء دموع عينك فاستعر عيناً لغيرك دمعها مدرار من ذا يعيرك عينه تبكي بها أرأيت عيناً للدموع تعار وأنت جرب عندما تصوم تجد أن القلب يرق وتذرف الدمعة، كما قال العلامة القسطلاني.
وآخر ما قرأت في كتاب (تاريخ أصبهان): أنه كان هنالك رجل من أصحاب الحديث مكث أربعين سنة هو وابنه وامرأته يصومون، وكان يسرد الصوم سرداً.
وما مات عمر وعثمان رضي الله عنهما حتى سردا الصوم سرداً، ومات عثمان رضي الله عنه وهو صائم.
وتجد الأعاجيب في حكايات السلف عن الصوم، فمنهم من صام أربعين سنة لا تشعر به زوجه، فكان يخرج بطعامه من البيت ويتصدق به في عرض الطريق، فإذا أتى إلى حانوته ظن أهل السوق أنه قد أكل في البيت، وإذا أتى إلى بيته بعد المغرب ظنوا أنه قد أكل ما أخذه من طعام.
وأيضاً قيام الليل مما يرق به القلب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بقيام الليل، فإنه دأب الصالحين قبلكم، ومقربة منكم إلى ربكم، ومنآة عن الإثم، ومكفرة للسيئات، ومطردة للداء عن الجسد).
قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وأيضاً مما يرق به القلب: البعد عن المخالطة الكثيرة للناس، فالأنفاس الصادرة من العصاة تعكر الجو وتغبره، والمخالطة الكثيرة للناس والكلام الكثير معهم مما تقسو به القلوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بطول الصمت وحسن الخلق، فوالذي نفسي بيده ما تجملت الخلائق بمثلهما).
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(18/32)
معنى قول المعتزلة سميع بلا سمع وبصير بلا بصر
السؤال
ما معنى: سميع بلا سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم؟
الجواب
معنى هذا الكلام: أنهم أثبتوا الأسماء فقط لله عز وجل، فأثبتوا له مطلق الوجود بدون أي صفة، وعلماء أهل السنة والجماعة قالوا: إن أسماء الله عز وجل اشتقت منها صفاته، فالعليم معناه: ذات علية متصفة بصفة العلم، والحكيم ذات علية متصفة بصفة الحكمة، والخبير ذات علية متصفة بصفة العلم، والقدير ذات متصفة بصفة القدرة، وهم نفوا الصفات وعطلوها تماماً ولم يثبتوا لله تبارك وتعالى صفة.
والله أعلم.(18/33)
بيان حال سيد قطب
السؤال
هناك من يقول: إن الشيخ سيد قطب يقول بوحدة الوجود وأن عقيدته أشعرية، هل هذا صحيح؟
الجواب
بداية يقول الشيخ محمد ناصر الدين الألباني عن الشيخ سيد قطب: إن الشيخ سيد قطب لم يكن عالماً، وحرام على الناس أن يحاسبوه حساب العالم، يعني: الشيخ سيد قطب كان داعية عظيماً، ولكنه لم يكن عالماً كـ ابن تيمية أو الشوكاني أو الشيخ محمد بن عبد الوهاب أو ابن باز أو غيره، فالرجل دخل مؤخراً في الحركة الإسلامية ولم يطلع على عقيدة أهل السنة والجماعة، ومن الإنصاف ألا تبخس الناس ما قدموه للإسلام من خدمات، ثم إن كانت عندهم آثار سيئة أو أخطاء فتذكر الأخطاء، ولكن من الإنصاف أن تذكر بداية الحسنات، وكما قالوا: إن الماء إذا بلغ القلتين لا يحمل الخبث، فلا تأتي إلى داعية مثل الشيخ سيد قطب وتنسفه نسفاً ولا تذكر له حسنة واحدة.
وقال الشيخ محمد إسماعيل المقدم عنه: يكفيه أنه دفع حياته من أجل دينه، وأنه أشار بسبابته وقال: إن هذه السبابة التي نشير بها إلى الله عز وجل لا تسجد لغير الله عز وجل، وهذا من باب إنصاف الشيخ سيد قطب، ولا نقول عليه ما قاله الشيخ ربيع بن هادي المدخلي، والشيخ ربيع بن هادي المدخلي كلامه عن الشيخ سيد قطب وإن كان فيه حقائق إلا أنه كلام جاف، وإن كان أغلبه كلام علمي ولكنه كلام جاف، وظاهر كلامه أنه ليس لـ سيد قطب حسنة واحدة، والشيخ الألباني يقول عن سيد قطب: إن بعض كتاباته عليها نور العلم، مثل كتاب (معالم في الطريق)، ففيه فصل عليه نور العلم، وهو فصل لا إله إلا الله منهج حياة، قال: وأما كتابه العدالة الاجتماعية فلا يساوي شيئاً.
والشيخ سيد قطب له أخطاء جمعها الشيخ أحمد الدويش في كتابه (المورد الزلال في الرد على أخطاء الظلال)، ومن ضمن هذه الأخطاء: أن الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله كان يقول: إن أحاديث الآحاد لا يحتج بها في مجال العقائد، وأخطأ في هذا.
ومن ضمن أخطاء الشيخ سيد قطب عليه رحمة الله عليه: أنه أول بعض الصفات مثل صفة الاستواء في قول الله عز وجل: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5]، وأخطأ في هذا، ورد عليه الشيخ الدويش، وقد زل به قلمه في أوائل سورة الحديد وفي سورة: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1]، ورد عليه الشيخ الدويش، ولأنه لم يكن عالم حديث فقد رد بعض الأحاديث مثل حديث سحر النبي صلى الله عليه وسلم الموجود في البخاري، فللرجل أخطاء نتجنبها ونأخذ من حسناته فقط؛ حتى نكون في إنصاف والله أعلم، أما أن نحاسبه على أنه كان عالماً فالشيخ سيد قطب لم يكن عالماً.(18/34)
المراجع والمصادر لهذه المحاضرة
السؤال الأول: المطلوب من فضيلة الدكتور أن يرشد الإخوة إلى المراجع والمصادرة لهذه المحاضرة لكي يرجعوا إليها؟
الجواب
المراجع هي كتاب (المدرسة العقلية) للدكتور فهد بن زيد الرومي، وكتاب: (المدرسة العقلية وانحرافاتها)، و (منهج المدرسة العقلية الحديثة في التفسير) للدكتور فهد بن عبد الرحمن سليمان، وهناك (طوام وانحرافات في المدرسة العقلية في التفسير والعقائد)، وكتاب: (محمد عمارة في ميزان أهل السنة والجماعة)، ومحمد عمارة يأتي في جريدة الشعب كل يوم ثلاثاء وجمعة، وكتاب: (الفكر الصوفي) للشيخ عبد الرحمن عبد الخالق، وكتاب: (العقلانيون أفراخ المعتزلة)، وكتاب: (المعتزلة بين القديم والحديث) للشيخ محمد عبده وطارق الحليلي، وكتاب: (منهج الأشاعرة في العقيدة) للشيخ سفر الحوالي، وكتاب: (صلاح الأمة في علو الهمة) المجلد الثاني لصاحبكم العبد الفقير إلى الله.(18/35)
الإمام أحمد بن حنبل
لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه مثل وقدوة، فما بلغوا ما بلغوا إليه من توفيق الله لهم ورضائه عنهم إلا بزهدهم وورعهم وخوفهم من الله عز وجل، وممن اقتدى بهم في ذلك الإمام الجليل أحمد بن حنبل، فكانت حياته حافلة بالاستقامة على دين الله، والصبر على محاربة البدع.(19/1)
مولد الإمام أحمد بن حنبل ونشأته
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
نمضي مع سلسلة شيوخ الإسلام.
كن بالخير موصوفاً ولا تكن للخير وصّافاً، فإن الواو والراء والدال لا تشم منها رائحة الورد.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (مثل الذي يعلم الناس الخير وينسى نفسه كمثل فتيلة المصباح تضيء للناس وتحرق نفسها)، واليوم موعدنا مع الإمام حقاً وشيخ الإسلام صدقاً أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني أحد الأئمة الأربعة، وإمام أهل السنة والجماعة.(19/2)
خوف الإمام أحمد من الله
كان الإمام أحمد إذا ذكر الموت خنقته العبرة، وكان يقول: الخوف يمنعني من أكل الطعام والشراب، وإذا ذكرت الموت هان عليّ كل أمر الدنيا، إنما هو طعام دون طعام، ولباس دون لباس، وإنما هي أيام قلائل، ما أعدل بالفقر شيئاً، لو وجدت السبيل لخرجت حتى لا يكون لي ذكر.
قال الإمام أحمد: أريد أن أكون في شعب من شعاب مكة حتى لا أعرف، لقد بليت بالشهرة، إني أتمنى الموت صباحاً ومساءً.
يقول ذلك من خوفه من الشهرة.
قال المروزي: ذكر لـ أحمد أن رجلاً يريد لقاءه، فقال: أليس قد كره بعضهم اللقاء يتزين لي وأتزين له.
التقى سفيان الثوري بـ الفضيل بن عياض فتذاكرا فرقاً فدمعت أعينهما، فقال الإمام سفيان الثوري: إني لأرجو أن يكون مجلسنا هذا خير مجلس جلسناه علينا بركة، قال: ترجو هذا؟ إني أخاف أن يكون أشأم مجلس جلسناه علينا شؤماً.
فقال سفيان للفضيل: لم؟ قال: ألست عمدت إلى أحسن ما عندك من الكلام فأخرجته لي، وعمدت أنا إلى أحسن ما عندي من الكلام فأخرجته لك فتزينت لي وتزينت لك، فراءيتني وراءيتك، فعبدتني وعبدتك! فبكى سفيان وقبّل رأس الفضيل بن عياض وقال: أحياك الله كما أحييتني.
قال الإمام أحمد: ليتنا نترك الطريق ما كان عليه بشر بن الحارث الحافي.
فقلت له: إن فلاناً يقول: لم يزهد أبو عبد الله في الدراهم وحدها، بل زهد في الناس.
فأنت تجد الرجل يملك مليون جنيه، يريد أن يدخل انتخابات الشعب ومجلس الشورى، وهو يعلم أنه لا أحد يعلم، وأنه ساقط ساقط، فينفق منها ربع مليون جنيه.
إذاً: الرجل يبذل المال من أجل الشهرة، فالزهد في المال شيء بسيط جداً، وإن كانت الدنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة وأنت تركتها كلها فإن الزهد قصر الأمل، والزهد الزهد في النفس؛ فلما قيل للإمام أحمد أنت لم تزهد في الدراهم وحدها، بل زهدت في الناس، قال: ومن أنا حتى أزهد في الناس؟ الناس يريدون أن يزهدوا فيَّ.
هذا هو الإمام أحمد، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(19/3)
قراءة الإمام أحمد للقرآن وصبره على مرضه
قال عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبي يقرأ كل يوم سبعاً من القرآن، يختمه كل أسبوع مرة.
وكان الإمام أحمد يخرج لطلب الحديث وهو غلام صغير قبل صلاة الفجر، فكانت أمه تستحلفه بالله أن يمكث في البيت حتى يؤذن المؤذن لصلاة الفجر ثم يخرج لطلب الحديث.
وكان الإمام أحمد يحيي الليل وهو غلام، بات معه رجل من علماء الحديث فأعد له وضوءه من الليل، فلما أصبح أتى فوجد الماء على حاله فقال: طالب علم لا يكون له ورد من الليل! قال: إني على سفر فقال: حج مسروق فما مات إلا ساجداً، يعني ما أتى عليه الليل إلا وهو ساجد متنفل وهو في سفره للحج.
قال صالح: كان أبي إذا دعاه رجل يقول: ليس يحرز الرجل المؤمن إلا حفرته.
الأعمال بخواتيمها، ثم لما كان في مرض الموت قال: أخرج لي كتاب عبد الله بن إدريس وقال: اقرأ عليّ حديث ليث: إن طاوساً كان يكره الأنين في المرض قال: فما سمعت لأبي أنيناً حتى مات.
ودخلت عليه امرأة وهي مخة بنت الحارث الحافي فقالت: يا إمام! أنين المريض شكوى؟ وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم إلى الذي لا يرحم فقال: والله ما سئلت عن مثل هذا السؤال من قبل، ثم قال لها: نرجو أن لا يكون كذلك، وما علم الإمام أحمد بهذه المسألة إلا في مرض الموت فما أنَّ حتى مات.
ثم قالت له: إنا نغزل غزلنا على ضوء مصباح الشارع فإذا مر قوم من الظاهرية -وكانوا ظلمة- ربما غزلنا بعض الغزل على ضوء مصباحهم، فهل نبيّنه للناس؟ فقال: بينيه ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.
ثم قال الإمام لابنه عبد الله: اتبعها يا بني! فانظر أي البيوت تدخل، فقال: دخلت في بيت بشر، قال: من بيتهم خرج الورع.
وكان الإمام أحمد إذا سئل عن مسألة من مسائل الزهد والورع قال: تسألونني عن الزهد وفيكم بشر، مثل هذه لا تخرج إلا من بيت بشر.(19/4)
تبرك الإمام أحمد بآثار النبي صلى الله عليه وسلم
قال عبد الله بن أحمد: كان أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيه يقبِّلها، وربما وضعها على عينه، وربما غمسها في الماء وشربه يستشفي به؛ وهذا خاص بآثار النبي صلى الله عليه وسلم.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: ورأيت أبي أخذ قصعة النبي صلى الله عليه وسلم فغسلها في زير الماء ثم شرب فيها.
قال الإمام الذهبي: قلت: أين المتنطع المنكر على أحمد؟ وقد ثبت أن عبد الله بن الإمام أحمد سأل أباه عن لمس رمانة منبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا أرى بذلك بأساً -أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع-(19/5)
بعد الإمام أحمد عن الولاة وعطاياهم
ذكر أن الإمام أحمد أتت عليه ثلاثة أيام ما طعم فيها شيئاً، فبعث إلى صديق له يلتمس منه دقيقاً، فجهّزوه للإمام أحمد بسرعة وعملوا له عشاءً كي يأكل سريعاً، فقال: كيف ذلك؟ فقالوا: تنور صالح مسجر، فقال: ارفعوا.
ولم يأكل؛ وذلك لأن ابنه صالح كان يقبل هدايا وأعطيات الخليفة، ثم قام فأمر بشد باب بينه وبين صالح لكونه كان يأخذ جائزة المتوكل.
هذا هو الإمام أحمد! كان أبعد الناس عن مجلس السلاطين، يقول سعيد بن المسيب: إذا رأيتم العالم يرتاد أبواب الأمراء فاشهدوا أنه لص.(19/6)
زهد الإمام أحمد بن حنبل وقيامه الليل
قال الإمام أحمد لبعض أصحابه لما ذكر الدنيا: قليلها يجزئ وكثيرها لا يجزئ.
وذكر الإمام أحمد الفقر فقال: مع الفقر الخير، وكان الإمام أحمد يؤثره على الدنيا.
ولو لم يكن للفقر إلا أن فقراء المسلمين يدخلون الجنة قبل أغنيائهم بخمسمائة عام يستريحون من تعب يوم القيامة، والله عز وجل يختار لنبيه دائماً الأكمل، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه معافى في بدنه، عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) (من أصبح منكم آمناً في سربه) أي: مطمئناً على أولاده وعلى نفسه (معافى في بدنه) أي: عنده صحة، (عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها).
وهذا رجل غني جداً كان يقول لهم: وددت لو أتخذ كل ملكي وآكل الأكلة التي أنتم تأكلونها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم اجعل رزق آل محمد قوتاً).
كان يمر الهلال، والهلال، والهلال ولا يوقد في بيته صلى الله عليه وسلم نار، وكان يعيش على الأسودين: التمر والماء.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتلوى من شدة الجوع وما يجد من الدقل ورديء التمر إلا ما يسد به جوفه، وما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم منخلاً قط من يوم أن بعثه الله، ولا رأى شاة سمينة قط.
وسيدنا يوسف عليه السلام ما كان يشبع وهو على خزائن مصر، يقول: أخاف أن أشبع وأنسى الجياع.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما تصدقت فأمضيت، أو لبست فأفنيت، أو أكلت فأبليت).
قال صالح: ربما رأيت أبي يأخذ الكسر (كسر الخبز) ينفض الغبار عنها، ويصيرها في قصعة ويصب عليها ماء ثم يأكلها بالملح، وما رأيته اشترى رماناً ولا سفرجلاً ولا شيئاً من الفاكهة إلا أن تكون بطيخة فيأكلها بخبز وعنب وتمر.
قال صالح: قال لي أبي: كانت والدتك تغزل غزلاً دقيقاً فنبيع الأستار بدرهم أو أقل أو أكثر فكان ذلك قوتنا.
قال: وكنا إذا اشترينا الشيء نستره عن أبي كي لا يراه فيوبخنا، وكان ربما خُبز له فيجعله في فخارة مع عدس وشحم، وقليل من التمر فيجيء الصبيان فيصوت بعضهم فيدفعه إليهم.
فالإمام أحمد يعطيهم الفخارة وفيها قليل من التمر فيضحكون منه ولا يأكلون، وكان يأتدم بالخل كثيراً، وكانت له قلنسوة خاطها بيده فيها خط، فإذا قام من الليل لبسها، وكنا نسمعه كثيراً يقول: اللهم سلم اللهم سلم، أتى إليه رجل وعليه فرو خلق وخريقة على رأسه، وهذا الرجل حاف في برد شديد فسلم عليه وقال: يا أبا عبد الله! قد جئت إليك من موضع بعيد ما أردت إلا السلام عليك، وأريد عبادين، وأريد إن أنا رجعت أسلم عليك، فقال: إن قدر، فقام الرجل وسلم وأبو عبد الله قاعد، فما رأيت أحداً قام من عند أبي عبد الله حتى يقوم أبو عبد الله له إلا هذا الرجل.
فقال لي أبو عبد الله: ما أشبهه بالأبدال، أو قال: إني لأذكر به الأبدال، وأخرج إليه الإمام أحمد أربعة أرغفة وقال: لو كان عندنا شيء لواسيناك.
وقال المروزي: قلت لـ أبي عبد الله: ما أكثر الداعي لك.
قال: أخاف أن يكون هذا استدراجاً بأي شيء.
وقلت: قدم رجل من طرسوس فقال: إنا كنا في بلاد الروم في الغزو إذا هدأ الليل رفعوا أصواتهم بالدعاء لـ أبي عبد الله، وكنا نمد المنجنيق ونرمي عن أبي عبد الله، ولقد رمي عنه بحجر والعلج متترس بدرقة، فلما رموه بالحجر ودعوا باسم أبي عبد الله فذهب الحجر برأس هذا الفارس، فتغير وجه أبي عبد الله وقال: ليته لا يكون استدراجاً ومكراً.
هذا خوف الكبار على أنفسهم.
وقال المروزي: رأيت طبيباً نصرانياً خرج من عند أحمد ومعه راهب فقال: إنه سألني أن يجيء معي ليرى أبا عبد الله.
وقال علي بن أبي فزاره جارنا: كانت أمي مقعدة -أي: مصابة بالشلل- من نحو عشرين سنة، فقالت لي يوماً: اذهب إلى أحمد بن حنبل فسله أن يدعو لي.
فأتيت إلى الإمام فدققت عليه في دهليزه، فقال: من هذا؟ قلت: رجل سألتني أمي وهي مقعدة أن أسألك الدعاء لها، فسمعت كلامه كلام رجل مغضب وقال: نحن أحوج أن تدعو هي لنا، ثم قال: فوليت منصرفاً وأنا حزين، فخرجت عجوز وقالت: قد تركته يدعو لها.
فقال: فدققت الباب، فخرجت أمي على رجليها تمشي.
قال عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبي في كل يوم وليلة يصلي ثلاثمائة ركعة، فلما مرض من تلك الأسواط أضعفته، فكان يصلي كل يوم مائة وخمسين ركعة، وهنا يستفاد شيء فقهي أن صلاة الليل من النفل المطلق؛ وأفضل الصلاة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ما زاد عن إحدى عشرة ركعة، أو عن ثلاث عشرة ركعة، ولكن هذا الحديث لا يدل على المنع من أن تزيد على الثلاث عشرة ركعة أو إحدى عشرة ركعة، وليس في الزيادة ابتداع لأن صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة عشر ركعة كما يقول تميم الداري: كنا نقرأ بالمئين، وكنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا عند طلوع الفجر خشية أن يفوتنا الفلاح (السحور).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن تكثير الركعات كانت عوضاً عن طول القيام؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان ركوعه نحواً من قراءة خمسين آية، وسجوده نحواً من ذلك، وهذا قول شيخ الإسلام ابن تيمية وابن قدامة والإمام النووي وابن عبد البر وجماهير علماء المسلمين، والشيخ ابن باز والشيخ ابن عثيمين، فالمراد: صلاة معظم الليل والله أعلم.(19/7)
منزلة الإمام أحمد بن حنبل عند العلماء المعاصرين له
كان شيخه يزيد بن هارون كثير المداعبة والمزاح، فما كان يترك المزاح إلا في حضور الإمام أحمد فكان يترك المزاح أدباً، وكان يوقره ولا يمازحه.
قال قتيبة: وأشار إلى أحمد بن حنبل: إذا رأيت رجلاً يحب أحمد فاعلم أنه صاحب سنة، ولو أدرك أحمد سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد لكان هو المقدم عليهم.
وقيل لشيخه قتيبة بن سعيد: يضم أحمد إلى التابعين، قال: إلى كبار التابعين، لولا أحمد لأحدثوا في الدين، أحمد إمام الدنيا بأسرها.
وقال الشافعي: خرجت من بغداد فما خلفت بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفقه ولا أتقى من أحمد بن حنبل والإمام أحمد بن حنبل قال عن شيخه الشافعي: ما من رجل مس محبرة ولا تناول قرطاساً إلا وللشافعي في عنقه منة ودين، كان الشافعي كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن؛ فانظر هل عن هذين من عوض؟ هذا أدب الشيوخ وأدب التلامذة مع شيوخهم.
وقال إسحاق بن راهويه رحمه الله: أحمد حجة بين الله وبين خلقه.
وقال علي بن المديني: أحمد أفضل عندي من سعيد بن جبير في زمانه؛ لأن سعيداً كان له نظراء -أي: ناس أمثاله في العلم- ولم يكن لـ أحمد نظراء.
وقال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام حافظ الحديث: إني لأتدين بذكر أحمد بن حنبل، ما رأيت رجلاً أعلم بالسنة منه، وكان أهل الحديث الحفاظ في مجلس فيه يحيى بن معين وأبو خيثمة فجعلوا يذكرون الإمام أحمد فقال رجل بعض هذا: أنتم كل جلسة تقضونها في ذكر أحمد بن حنبل أو ماذا؟ فقال يحيى: وكثرة الثناء على أحمد تستنكر؟ لو جلسنا مجالسنا بالثناء عليه ما ذكرنا فضائله بكمالها.
وقال ابن معين الإمام العظيم: ما رأيت مثل أحمد بن حنبل، وقال: ما رأيت من يحدث لله إلا ثلاثة: يعلى بن عبيد والقعنبي الراوي عن الإمام مالك وأحمد بن حنبل رحمه الله، كان الإمام أحمد أفضل أهل زمانه.
وقال أبو داود: كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة، لا يذكر فيها شيء من أمر الدنيا، ما رأيته ذكر الدنيا قط، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص:46] يعني: ما كان لهم هم ولا شاغل إلا الكلام عن الآخرة، لا يعرفون شيئاً من أمور الدنيا.
قال الشافعي: لو كُلِّفت شراء بصلة من السوق ما استطعت أن أعي مسألة من مسائل العلم.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه).
وكان الإمام أحمد يرهن نعله، ولم يشتر نعله بخمسة وسبعين جنيهاً، أو أكثر، إنما هي نعل استمر في استخدامها ست عشرة سنة كما قال ابن الجوزي ورهنها يتقوت بها.
قال الحميدي: ما دمت بالحجاز وأحمد بالعراق وابن راهويه بخراسان لا يغلبنا أحد، يعني: لا يغلبنا أحد من المبتدعة، كانت مجالس أحمد مجالس الآخرة.
قال أبو عمير بن النحاس الرملي عن الإمام أحمد رحمه الله: ما كان أخبره بالدنيا، وبالماضين ما كان أشبهه، وبالصالحين ما كان ألحقه، عُرضت له الدنيا فأباها والبدع فنفاها.
قال علي بن المديني: أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدث إلا من كتاب، وأنظر إلى أدب الكبار مع الكبار.
وهذا الإمام البخاري يقول: أشتهي أن أدخل بغداد فيحدثني علي بن المديني وأحدثه، وقال: ما استصغرت نفسي بين يدي عالم قط إلا بين يدي علي بن المديني، وعلي بن المديني هذا يقول عن الإمام أحمد: أمرني سيدي أحمد بن حنبل أن لا أحدِّث إلا من كتاب.(19/8)
كتب الإمام أحمد وعلمه
بلغت كتب الإمام أحمد يوم مات حمل اثني عشر جملاً، ما كان على ظهر كتاب منها حديث إلا ويحفظه.
قال الإمام الحافظ إبراهيم الحربي: رأيت أبا عبد الله كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين.
وقال إسحاق بن راهويه شيخ الإمام البخاري: كنت أجالس أحمد وابن معين ونتذاكر فأقول: ما فقه هذا الحديث ما تفسيره؟ فيسكتون جميعاً إلا أحمد.
وقال أبو بكر الخلال تلميذ الإمام أحمد: كان أحمد قد كتب كتب أهل الرأي -وهم الأحناف- وحفظها ثم لم يلتفت إليها.
وقال يحيى بن آدم الإمام الحافظ: أحمد بن حنبل إمامنا.
وكان الإمام أحمد أعلم الناس قاطبة بحديث سفيان الثوري، قال شيخه عبد الرحمن بن عدي: من أراد أن ينظر إلى ما بين كتفي الثوري فلينظر إلى هذا.
وأشار إلى الإمام أحمد.
قال المروزي تلميذ الإمام أحمد: غشي على الإمام أحمد عند ابن عيينة لما زحمه الناس، فقال شيخه سفيان بن عيينة: مات خير الناس، ظن أنه قد مات لما اشتد الزحام، والإمام أحمد يقول: كفى! وهم يدوسون عليه فغشي عليه، ثم أفاق بعد ذلك رحمه الله.
أراد شيخ أن يدخل على الإمام أحمد فقال: كنا عند ابن عيينة سنة ففقدت أحمد بن حنبل أياماً فدللت على موضعه، فجئت فإذا هو في شبيه بكهف في مكان يسمى جياد بمكة بعد الصفا، فقلت: سلام عليكم أأدخل؟ قال: لا، ثم قال بعد ذلك: ادخل.
قال: فدخلت عليه فإذا عليه قطعة لبد خلق -يعني: قطعة من الصوف مقطعة- فقلت له: لم حجبتني؟ فقال: حتى استترت منك، فقلت: ما شأنك؟ قال: سُرقت ثيابي، مثل ما كانوا في مجلس مالك بن دينار فقعد الرجل يقول كلاماً فأبكى الجميع، وبعدها أتى يبحث عن نعله فلم يجده فقال: كلنا يبكي فمن سرق النعل؟ فقال هذا الرجل: فبادرت إلى منزلي فجئته بمائة درهم فعرضتها عليه فامتنع، فقلت: قرضاً فأبى.
وظل ينقصها حتى بلغت عشرين درهماً فأبى، فقمت وقلت: ما يحل لك أن تقتل نفسك، فقال: ارجع، فرجعت، فقال: أليس قد سمعت معي من ابن عيينة؟ قلت: بلى قال: تحب أن أكتبه وأن أنسخه لك؟ قلت: نعم.
فقال: اشتر لي ورقاً فاشترى له الورق، فنسخ له الإمام أحمد من كتابه في هذه الأوراق فكتب بدراهم اشترى منها ثوبين، وهذا يدل على عفّة العلماء وورعهم، وربما جمع أحدهم المرقعات من المزابل فغسلها في نهر دجلة فصنع منها ثوباً يكسو عورته، ثم يبكي ويقول: ما ضرهم ما أصابهم! جبر الله لهم بالجنة كل مصيبة.
واستمع إلى العجب العجاب من إمام أهل السنة: قال الإمام أحمد: قدمت صنعاء أنا ويحيى بن معين فمضيت إلى عبد الرزاق في قريته.
الإمام أحمد اكترى نفسه عند الجمّالين حمالاً يأخذ متاع الناس الحجيج الذاهبين من مكة إلى اليمن، فكان يخدمهم وهو إمام أهل السنة، وذلك لأنه سمع أن عند عبد الرزاق الصنعاني إمام أهل اليمن ومحدثها أحاديث ليست عنده، فأراد أن يأتي إلى عبد الرزاق، ولا توجد وسيلة إلا أن يخدم قافلة للحجيج ذاهبة إلى اليمن.
ذهب الإمام أحمد ووصل إلى بيت عبد الرزاق في قريته، قال: فلما ذهبت أدق الباب، قال لي بقّال: لا تدق فإن الشيخ يُهاب، وعبد الرزاق الصنعاني كانت له هيبة عظيمة مثل الإمام مالك يقولون عنه: يدع الجواب فلا يراجع هيبة والسائلون نواكس الأذقان نور الوقار وعز سلطان التقى فهو المهيب وليس ذا سلطان وكان الملك العادل ملك مصر، كان إذا رأى عبد الغني المقدسي يقوم له فيقولون له: إنه فقير وإنه قارئ، قال: والله ما دخل عليَّ مرة إلا وخُيِّل إليّ أنه سبع، فالبقال يقول للإمام أحمد: لا تدق عليه الباب فإن للمشايخ هيبة، قال: فلما ذهبت أدق الباب قال لي بقال تجاه داره: مه لا تدق فإن الشيخ يُهاب، فجلست حتى إذا كان قبل المغرب خرج، فوثبت إليه وفي يدي أحاديث انتقيتها، فسلمت وقلت له: حدثني بهذه رحمك الله فإني رجل غريب.
فقال: ومن أنت؟ وزبرني -يعني كلمه بشدة- فقلت: أنا أحمد بن حنبل فتقاصر عبد الرزاق وضمني إليه، وقال: بالله أنت أبو عبد الله؟ ثم أخذ الأحاديث وجعل يقرؤها حتى أظلم الليل، فقال للبقال: هلم المصباح حتى خرج وقت المغرب، وكان عبد الرزاق يؤخر صلاة المغرب، ولما ذكر الإمام عبد الرزاق الصنعاني الإمام أحمد دمعت عيناه وقال: بلغني أن نفقته نفدت قال: فأخذت بيده، فأقمته خلف الباب وما معنا أحد فقلت: إنه لا تجتمع عندنا الدنانير، إذا بعنا الغلة أشغلناها في شيء، يعني: القمح أو الذرة أو الشعير قال: وقد وجدت عند النساء عشرة دنانير فخذها وأرجو أن لا تنفقها حتى يتهيأ شيء.
قا عبد الرزاق: فقال لي: يا أبا بكر لو قبلت من أحد شيئاً قبلت منك.
ولم يقبل الإمام أحمد بن حنبل.
وكان أحمد بن حنبل يصلي إماماً بـ عبد الرزاق الصنعاني فسها الإمام أحمد، فسأل عنه عبد الرزاق: لماذا سها في صلاته بالقرآن؟ فأخبر أنه لم يأكل منذ ثلاثة أيام، يعني: من شدة الجوع نسي آيات من كتاب الله عز وجل.(19/9)
مصدر علم الإمام أحمد
قال أبو بكر بن أبي شيبة: لا يقال لـ أحمد بن حنبل: من أين قلت؟ لأنه نهر جار، ولا يقال له: أين دليلك، ودليله على ذلك السمع.
قال ابن نمير: كنا عند وكيع بن الجراح فجاءه جماعة من أصحاب الإمام أبي حنيفة، فقالوا: هل هنا رجل بغدادي؟ يقصدون الإمام أحمد، فلم يعرفه وكيع، فبينما وكيع جالس إذ طلع أحمد بن حنبل فقالوا: هو هذا! قال: هاهنا يا أبا عبد الله، فجعلوا يذكرون عن أبي عبد الله الذي ينكرون، هذا يقول: كذا! وهذا يقول: كذا! وهذا جعل أبو عبد الله يحتج بالأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا لـ وكيع: بحضرتك.
فقال: رجل يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فماذا أقول له؟ ثم قال وكيع: ليس القول إلا ما قلت يا أبا عبد الله! فقال القوم لـ وكيع: خدعك والله البغدادي.
وقال عالم: وضع أحمد بن حنبل عندي نفقته فقلت له: يا أبا عبد الله! بلغني أنك ذو حسب ونسب، فقال: يا أبا النعمان! نحن قوم مساكين.
وقال أبو زرعة الرازي لـ عبد الله بن الإمام أحمد: كان أبوك يحفظ ألف ألف حديث -مليون حديث- قال الذهبي: هذه حكاية صحيحة تدل على سعة علم الإمام أحمد وكانوا يعدون له الأحاديث المقررة والآثار عن الصحابة وفتاوى التابعين وتفسيراتهم، كل هذا كان يحفظه الإمام أحمد، فقد بلغ ما يحفظه من الأحاديث المرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والأحاديث الموقوفة عن الصحابة والمقطوعة وفتاوى التابعين ألف ألف حديث، وفي عصرنا هذا الذي يحفظ رياض الصالحين يقولون عنه: شيخ!(19/10)
زوجات الإمام أحمد وأولاده
رحل إلى الكوفة لطلب الحديث ولم يكن استأذن والدته، فرجع إلى أمه ليستأذنها في الرحلة لطلب العلم فبارك الله له في طلبه.
تزوج الإمام أحمد وهو ابن أربعين سنة فرزقه الله خيراً كثيراً.
إذاً: الإمام أحمد أجّل الزواج لسن الأربعين لشغله بطلب الحديث، وأمر الزواج يختلف من رجل إلى رجل، والأحكام الشرعية للزواج تدور بين الندب والوجوب والإباحة والكراهية والتحريم، فالرجل الذي يتعلم وليس له حاجة في النساء ولا يملك أي مال لا يتزوج؛ لأنه لو تزوج فإنه سيفتن هذه المرأة، وفي نفس الوقت هو لا يستطيع الباءة.
وشيخ الإسلام ابن تيمية لم يتزوج، والإمام النووي لم يتزوج، والإمام أحمد أخّر الزواج لسن الأربعين، فالشاب الذي لا يستطيع الزواج عليه بالصوم فإنه له وجاء، وطالب العلم الأولى له أن يؤخِّر.
تزوج الإمام أحمد عباسة بنت الفضل فولدت له أكبر أبنائه صالح ابن الإمام أحمد.
ثم توفيت فتزوج بعدها ريحانة فولدت له عبد الله، وقيل: إنها كانت عوراء اختارها لدينها.
ثم اشترى جارية اسمها حُسْن، والجارية حين ينكحها تصبح أم ولده، مثل مارية فهي لم تكن من زوجات النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها كانت جارية للنبي صلى الله عليه وسلم، فلما أنجبت إبراهيم صارت أماً لولده، فالإمام أحمد اشترى جارية فولدت له أم علي زينب، ثم ولدت له الحسن والحسين وماتا، ثم ولدت الحسن ومحمداً فعاشا حتى بلغا سن الأربعين سنة، ثم ولدت له سعيداً.
إذاً: هذا حال الإمام أحمد وحال زوجاته.(19/11)
مولد الإمام أحمد
ولد الإمام أحمد في ربيع الأول سنة (164هـ).
مات أبوه شاباً وتولت أمه تربيته.
أم تربي مثل الإمام أحمد وأم تربي مثل الشافعي، وأم تربي مثل سفيان الثوري، فكل أم خلفت ابناً وصنعت منه رجلاً عظيماً.
فقد كانت أم سفيان الثوري تقول: يا بني! تعلم العلم وأنا أكفيك بمغزلي هذا.
وأم الشافعي تبيع له أنقاض بيتها.
كذلك أم الإمام أحمد صنعت من ابنها رجلاً، إذ مات زوجها وهو شاب، فولدت هذه الأم الجبل الإمام العظيم أحمد بن حنبل، ولكن لا يعرف ما اسمها؟ إلا أنه يكفيها أنها صنعت الإمام أحمد.
يقول الإمام أحمد: ثقبت أمي أذني وصيّرت فيهما لؤلؤتين، فلما ترعرعت نزعتهما، فكانتا عندها ثم دفعتهما إلي، فبعتهما بنحو من ثلاثين درهماً.(19/12)
بداية طلبه للحديث
تلقى الإمام أحمد الحديث، وكان بداية طلبه للحديث وهو ابن خمس عشرة سنة، أي: في العام الذي مات فيه مالك وحماد بن زيد.
سمع الإمام أحمد من ابن بشير، وأكثر عنه حتى سمع منه أكثر من ثلاثة آلاف حديث، وقد تأدب الإمام أحمد في مجلس شيوخه غاية الأدب، قال: ما نلنا هذا العلم إلا بالذل ولا نبذله إلا بالذل، ومكث أربع سنوات في مجلس هشيم بن بشير شيخه لا يكلمه في مسألة هيبة له.
ومن شيوخ الإمام أحمد سفيان بن عيينة الهلالي وأيوب بن النجار وأبو خالد الأحمر وعِلي بن ثابت ويزيد بن هارون.
فالإمام أبو خالد كان يجلس له في مجلس الدرس تسعون ألفاً، وقد روى الإمام أحمد في المسند عن مائتين وثمانين شيخاً من شيوخ الحديث، وكتب عنه شيخه هشيم بن بشير ثلاثة آلاف حديث.(19/13)
الدعوة إلى دين رب العالمين
إن الدعوة إلى الله وظيفة الأنبياء والمرسلين وأتباعهم، فقد بذلوا في سبيلها الغالي والنفيس.
وطريق الدعوة طريق طويل، فقد تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وأوذي فيه محمد صلى الله عليه وسلم.
فقم بواجبك أيها المسلم تجاه الدعوة إلى الله تكن من الفائزين.(20/1)
مكانة الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى وأهميتها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: فيقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر:64].
ويقول تعالى: {وَمَا لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:22].
وقال تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ * تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ * لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ * فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:41 - 44].
أناضل إلى دين عظيم وهبته عطاء مقل مهجتي وحياتي وممتثل لله أسلم وجهه يقول أنا وحدي سأحمي ديني بظهري ببطني بالضلاع بمقلتي بجنبي بعظم الصدر حتى التراقي على ذروة التوحيد تخفق رايتي وتحت روابيها تصب دمائي إن الدعوة إلى الله تبارك وتعالى عظيمة كريمة رفيعة في كل ما يمت إليها بصلة، رفيعة لأن الله هو العلي، وكريمة لأنها أتت إلينا: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ * مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس:13 - 16].
والدعوة إلى غير الله دعوة خسيسة لئيمة، يقول الله تبارك وتعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى * عَبْدًا إِذَا صَلَّى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق:9 - 14].
إن الرجل يستطيع أن يعمي ويلبس على كل من في الأرض، لكنه لا يستطيع أن يعمي ويلبس على من في السماء، ويستطيع أن يكذب على أهل الأرض جميعاً، لكنه لا يستطيع أن يكذب على من في السماء، قال تعالى: {وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك:13].
والدعوة إلى غير الله تبارك وتعالى لئيمة، يقول تعالى حاكياً عن فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر:26]، {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
ويقول الله تبارك وتعالى عن قوم لوط: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
فهؤلاء الذين يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل لا تكون دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى أبداً، وإنما هي دعوة إلى الطواغيت المقنعة: هبل رمز السخافة والخيانة والعمالة والدجل هتافه التهريج ما ملوا الثناء زعموا له ما ليس عند الأنبياء ملك تجلبب بالضياء وجاء من كبد السماء هو عالم ومعلم هو عبقري ملهم ومن الجهالة ما قتل وثن يقود جموعهم يا للخجل! لقد بذل الصالحون في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى الكثير، بل بذلوا الأنفس والمهج في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى؛ لأن هذه الدعوة ربها وسيدها ومالك أمرها هو الله تبارك وتعالى.
وقفة: إذا أردت أن تخدم فاعقل من تخدم، وإلى من تدعو، ثم ادع بعد ذلك، فحينئذ تصيب في تلك الخدمة والدعوة.
وإذا تدبرت علمت أن رب هذه الدعوة مستو على العرش، يدبر أمر الممالك، فيعز ويذل، ويداول الأيام بين الناس، ويقلب الليل والنهار، ويذهب بدولة ويأتي بأخرى، له الملك كله، وله الحمد كله، وبيده الخير كله، وإليه يرجع الأمر كله.
إليه يا أهل الموت والفناء! يا من تفني آجالكم ممر الساعات، واختلاف الليل والنهار، وهما شعبة يسيرة من سلطانه، كيف تستنكفون عن عبادته ولا رب لكم غيره، ولا وارث لكم سواه، ينادى على باب عزته: لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويصاح على محجة حجته: لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون؟! قال تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:13 - 14].
وقال تعالى: {وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام:72 - 73].
وقال تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ * يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر:15 - 16].
وقال الله تبارك وتعالى: {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت:47]، {اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد:8].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} [طه:111].
فكل موافق ومخالف يمشي وفق مشيئته، وتحت قبضته، يقول أبو جعفر المنصور لأحد العباد: لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به أعناق الجبابرة.
هذا في دار الدنيا فكيف بقهر الله لعباده في الآخرة؟ {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61 - 62].
إذاً: فهذه الدعوة ربها وسيدها هو الله عز وجل، وإن بذل الناس فيها ما بذلوا.(20/2)
تكفل الله سبحانه بنصر عباده ودعوته ودينه
إن الله تبارك وتعالى قد تكفل بنصر عباده، وبنصر دعوته، قال سبحانه: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
قال جبريل لأم إسماعيل عليها السلام هاجر: لا تخشي الضيعة؛ إن الله لا يضيع أهله.
فلا تنظر إلى الدعوة فإن لها رباً سيحميها ويحفظها، ولكن انظر إلى نفسك أنت، إن الله لا يضيع أهله، فاحرص على أن تكون من أهل الله، واترك الأمر إلى رب السماوات والأرض: لا تدبر لك أمراً فأولو التدبير هلكى سلم الأمر تجدنا نحن أولى بك منكا والله تبارك وتعالى يحفظ عباده بما يغيب عن عقولهم، ويحفظ عباده بالنواميس الأرضية، فالمهم أن يكون عند العباد ثقة، فهذا سيدنا نوح عليه السلام ماذا قال لقومه عندما سحروا منه بقولهم: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} [هود:38]، لم يقل: فإنا سنسخر منكم يوم القيامة، وإنما قال: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود:38] يعني: في لحظتنا هذه وفي وقتنا هذا.
وقال تعالى: {فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:61 - 62].
ويزعم أنه منا قريب وإنا لا نضيع من أتانا ويسألنا على الإقتار جوداً كأنا لا نراه ولا يرانا وقال صلى الله عليه وسلم: (يا أبا بكر! ما ظنك باثنين الله ثالثهما)! وهذا مثال لحفظ الله لدعوته ولأنبيائه ولعباده الصالحين: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:7].
انظر كم قتل فرعون من أجل ذبح موسى، قتل آلافاً مؤلفة من بني إسرائيل، وجعل الجواسيس يبحثون عن أي طفل رضيع فيذبحونه، وعندما ولدت أم موسى موسى ألهمها الله تبارك وتعالى أن تلقي بولدها في لجج البحر وأمواجه، مع أن المرأة إذا خافت على وليدها ضمته إلى صدرها، فما بال أم موسى تلقيه في البحر؟ ثقة بما عند الله تبارك وتعالى، ويقيناً بما عند الله تبارك وتعالى، فألهمها الله تبارك وتعالى أن تضع ولدها في تابوت وتلقيه في البحر، فسبحان من جعل من موج البحر لموسى مستراحاً ومأمناً ومناماً، وجعل النار على إبراهيم برداً وسلاماً.
فيتهادى التابوت ليصل إلى قصر فرعون؛ لتكون المعركة في بيت فرعون، يا فرعون لقد تعبت في سبيل البحث عن موسى فها نحن قد أتينا إليك بموسى رضيعاً فافعل به ما شئت، وحينما يفتح التابوت يرى الذي قال فيه المولى تبارك وتعالى: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، فأسر الجمال الموسوي آسية عليها السلام، وقالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا} [القصص:9].
فماذا قال فرعون البائس؟ قال: أما لك فنعم قرة عين وأما لي فلا، والبلاء موكل بالمنطق، فنفعها الله تبارك وتعالى بهذه الكلمة فآمنت بموسى، وفرعون خذله الله تبارك وتعالى، فانظر يا فرعون كم قتلت من بني إسرائيل من أجل موسى، ونحن نقول لك: لا نربيه إلا في حجرك؛ ليكون هلاكك بعد ذلك على يده.
إن الله تبارك وتعالى يا إخوتاه! لم يحم عبده وكليمه بكوكبة من الملائكة، ولا بفرسان من البشر، وإنما حماه بستر رقيق من المحبة يغلف قلب آسية، ففرعون أهون وأحقر عند الله تبارك وتعالى من أن يوكل عليه ملكاً من الملائكة، هذا الذي طغى وعتا حمى الله تبارك وتعالى كليمه منه بقول امرأة: {لا تَقْتُلُوهُ} [القصص:9]، فيقول لها فرعون: سمعاً وطاعة لا تَقْتُلُوهُ، فينفذ أمر آسية التي بعد ذلك آمنت بموسى، وتخلت عن ملكها وعن أبهات الملك، والمرأة بطبيعتها أضعف ما تكون أمام إغراء المجتمع، ولكن آسية الصامدة تتخلى عن هذا كله، وكانوا يعذبونها، فإذا ذهبوا عنها أظلتها الملائكة، {قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنَ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11].
وقلب الله تبارك وتعالى النعم التي أعطاها لفرعون نقماً عليه، فقد عذب بالماء وبكل ما يتصل بالماء، وبالجراد وبالقمل وبالضفادع، ثم كانت نهايته أن أغرقه الله تبارك وتعالى بالمياه التي افتخر بها.
يقول جبريل للرسول صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد! وأنا أدس في فيه من حال البحر المنتن؛ حتى لا تدركه رحمة الله تبارك وتعالى)، فكونوا على يقين بنصر الله تبارك وتعالى لجنوده وأوليائه وأنبيائه وعباده الصالحين.(20/3)
ضرورة إعطاء الدعوة حقها من التضحية والفداء
لا تسترخصوا الدعوة؛ فالدعوة غالية، فأعطوها كل أوقاتكم، ونهاية الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ومآلها إلى الجنة، ولا مستراح للعابد إلا تحت شجرة طوبى، ولقد أعطي النبيون ما أعطوا، وأعطي العلماء والدعاة ما أعطوا بالدعوة إلى الله، قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة:132 - 133].
ورسول الله صلى الله عليه وسلم في سكرات الموت ما غفل عن الدعوة، تقول السيدة أم سلمة: (جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم، حتى ما يفيض بها لسانه) تعني: حتى ثقل لسانه الطاهر المطهر عن أن ينطق بها، ونحن ما زلنا أحياء أقوياء أفلا نعطي الدعوة حقها؟ إن كان الله تبارك وتعالى يقول لنبيه: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} [الكهف:6] يعني: تكاد تموت من الغم على هذه الدعوة، وعدم استجابة الناس لها.
تقول السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: يوم العقبة، يوم عرضت نفسي على ابن عبد يا ليل بن كلال، فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب).
يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم مشى في الطريق ولم يعرفه ولم يفق إلا في قرن الثعالب؛ وذلك بسبب همه في أمر الدعوة، فقد ينطلق الرجل مهموماً للبحث عن لقمة العيش إذا وجد أولاده يصرخون من الجوع فلا يفيق إلا في منتصف الطريق، فنريد من الرجل أن يمضي في طريقه وهو مهموم يحمل عبء الدعوة، فلا يفيق إلا بعد مدة، هذا حال أنبياء الله تبارك وتعالى.
قال: (فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب، وإذا بسحابة قد أظلتني فيها جبريل، فسلم علي ثم قال: إن الله قد سمع قول قومك لك، وقد بعث معي ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، فسلم ملك الجبال بالنبوة ثم قال: يا رسول الله إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فعلت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا، ولكني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئاً).
(وجاء أعرابي مشرك ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم تحت شجرة وسيفه معلق عليها فاخترط سيفه، ثم لوح بالسيف في وجه رسول الله فقال له: أتخافني؟ قال: لا، قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله، فيبست يده وسقط السيف منها، ثم قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ قال: يا محمد! كن خير آخذ، قال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني لا أكون مع قوم يقاتلونك، ولا أقاتلك أبداً، فلما رجع قال: أيها الناس! جئتكم من عند خير الناس، جئتكم من عند محمد صلى الله عليه وسلم).
فالدعوة الهادئة تصل إلى قلوب الناس بسرعة، ودعوة الفطرة تصل إلى قلوب الناس بسرعة، ويتحمس لها الدعاة إلى الله تبارك وتعالى.
وهذا سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عند أن بلغ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانية وثلاثين رجلاً أصر على رسول الله بالظهور بالدعوة، فقال: (إنا قليل يا أبا بكر) فما زال حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرق رسول الله والصحابة كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر خطيباً بين الناس، فكان أول خطيب يدعو إلى الله تبارك وتعالى ورسول الله جالس يستمع.
قال: فقام المشركون إلى المسلمين وضربوهم ضرباً شديداً، وقام الفاسق عتبة بن ربيعة الكافر إلى أبي بكر بنعلين مخصوفتين يضرب بهما وجه أبي بكر، حتى ما يعرف أنفه من وجهه، وأقبلت بنو تيم فحملوا أبا بكر في ثوب وهم لا يشكون في موته، فأوصلوه إلى البيت ثم عادوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن مات أبو بكر قتلنا به عتبة بن ربيعة، ولم يفق أبو بكر إلا في آخر الليل، فكانت أول كلمة قالها: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فنالوا منه بألسنتهم، ثم وكلوا به أمه أم الخير، فما زالت به، قال: والله! لا أذوق طعاماً حتى أنظر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعث بها إلى أخت عمر بن الخطاب، ثم استند على أمه حتى وصل إلى رسول الله، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم رق له وبكى، وبكى المسلمون.
يقول سيدنا أنس: (ضرب المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى غشي عليه، فدفعهم عنه أبو بكر الصديق وقال لهم: أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله، فقالوا: من هذا؟ قالوا: أبو بكر المجنون، فتلهوا به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوا رسول الله، ثم أتوا إلى أبي بكر رضي الله عنه فظلوا يضربونه حتى حمله قومه إلى دارهم، فجعل أبو بكر لا يمس شيئاً من غدائره إلا وسقط معها لحم الرأس، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام!).
يقول سيدنا علي: والله لساعة من أبي بكر خير من ملء الأرض من مؤمن آل فرعون؛ هذا يكتم إيمانه، وهذا يعلن إيمانه.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد أوذيت في الله ما لم يؤذ أحد، وأخفت في الله ما لم يخف أحد، ولقد أتت علي ثلاثون ما بين يوم وليلة وما لي وبلال ما يأكله ذو كبد إلا ما يواريه إبط بلال)، ورسولكم صلى الله عليه وسلم شد الحجر على بطنه من شدة الجوع، ولله خزائن السماوات والأرض، وقتل عمه حمزة بن عبد المطلب ومثل بجثته، وكسرت رباعيته صلى الله عليه وسلم، وشق رأسه، ولله جنود السماوات والأرض.
ويقول له الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر:1 - 5]، {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر:7].(20/4)
ضرورة نشر الدعوة في كل مكان وعدم اختصاصها بالمساجد
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فلقد كان رسولكم صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الله تبارك وتعالى في السوق وفي الطريق، وكلكم تعلمون حديث ابن عباس: (يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك)، قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس في الطريق.
يقول سيدنا معاذ: (كنت ردف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار يقال له: عفير، فقال: أتدري يا معاذ! ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟) قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، فما بالنا لا ندعو إلا في المسجد، لتنتشر الدعوة حتى تشمل الطرقات، وحتى تشمل تجمعات الناس.
اصرخ بدينك في الطريق اصرخ بجرحك في رءوس لا تفيق قل: إنه الطوفان يأكلنا ويطعم من بقايانا كلاب الصيد والغربان والفئران في الزمن العقيم لا بد من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى في الطريق وفي الأسواق، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يذهب إلى الأسواق يدعو إلى الله تبارك وتعالى، ويقول: (أيها الناس! قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا، ويراه أبو لهب فيحثو التراب على وجهه، ويقول: لا تتبعوا هذا الصابئ، إنه يريد أن يصدكم عن عبادة اللات والعزى) ونحن يا إخوتاه! ما دعونا إلى الله ولم يحث التراب على وجوهنا، ما فعل بنا هذا، وأمامنا طريق طويل، وإن وضع على رءوسنا التراب فإننا على الدرب، فرسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل به هذا ونحن لسنا أكرم على الله تبارك وتعالى من رسوله، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يبشرك إن ذهبت إلى السوق بأنك ستأخذ أجر دعاء السوق، والحديث حسنه الشيخ الألباني، وإن ضعفه الشيخ مقبل.
فاخرج إلى السوق وادع إلى الله تبارك وتعالى، وإن لم يكن عندك علم فقل: أيها الناس! تعالوا إلى المسجد فصلوا تدخلوا الجنة، وأظن الجميع يستطيع أن يقول هذا، إن بائع الفاكهة حين يبيع سلعته يرفع صوته عند الدعوة إلى بضاعته، فما بالنا نستحي من الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ونخجل، وكأنها بضاعة كاسدة، مع أن هذه البضاعة تؤدي بنا إلى الجنة؟! وما بالنا لا ندعو إلى الله تبارك وتعالى في السوق؟ (فرسولكم صلى الله عليه وسلم ركب حماراً له بأرض سبخة، فقال له عبد الله بن أبي بن سلول: ابتعد عني يا محمد! فإن رائحة حمارك تؤذيني، فقال أحد الأنصار: والله لريح حمار رسول الله أطيب من ريحك).
ونحن نقول للعلمانيين وللمنافقين وللزنادقة: لريح حمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب من ريحكم، فما ظنك بنقاب عائشة رضي الله عنها! فالنقاب الذين تتكلمون عنه هو أطهر من الطهر.
ويسخر كل أفاك دعي ديوث من نساء المسلمين ويهزأ بالحرائر بالنقاب وقد لبسته أم المؤمنين فلستم من نقاب وليس منكم فذا شرف لسكن الطاهرين وما عرف العفاف لكم طريقاً وفاح الطهر من بيت الأمين أترم بيوت طهر يا لئيم! وبيتك من زجاج هش لين يعني: هب أن النقاب سنة، ولكن قد لبسته أمهات المؤمنين، فبهذا يصير شعاراً ويجب أن يحترم، وأما أن يسخر منه فهذا شأنهم، فإن كانوا مسلمين فليحكموا بيننا وبينهم الكتاب والسنة، وإلا فليفعلوا ما يشاءون.
فالأمر ليس أمر نقاب وليس تطرف وليس كذا ولا كذا، إنما المتطرف هو الخبيث عادل إمام الذي يطعم كلبه لحم حمام مشوي بمائة وعشرين جنيهاً يومياً، مرتب اثنين من الموظفين، هذا هو المتطرف والله، المتطرفون هم الذين يذبحون المسلمين في البوسنة والهرسك، وهم الذين يحاصرون الآن تسعين ألف مسلم، فهؤلاء هم المتطرفون، ولسنا نحن المتطرفين، وإنما نمضي على طريق الله تبارك وتعالى، فادع إلى ربك إنك على صراط مستقيم.(20/5)
تضحية الأنبياء والمرسلين وأتباعهم في سبيل الدعوة إلى الله
في سبيل هذه الدعوة لاقى الصالحون ما لاقوا، فأين أنت يا مخنث العزم! والطريق طويل، تعب فيه آدم، وناح فيه نوح، وألقي في النار إبراهيم، واضطجع للذبح إسماعيل، وشق بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وعاش مع الوحوش عيسى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار في البكاء داود، واتهم بالسحر والشعوذة والجنون رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل اتهم في عرض زوجته، وذبح سعيد بن جبير وما في الأرض رجل إلا وهو محتاج إلى علمه، وذبح الحسين بن علي، وداست الخيل فمه الذي قبله رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أجل هذه الدعوة ضرب ابن حنبل، يقول شاباص التائب الذي كان يكلف بضرب ابن حنبل: والله لقد ضربت ابن حنبل ضرباً لو كان في فيل لهده.
وقال أيضاً: لقد فاق أحمد بن حنبل الشطار، يعني: صبر أكثر مما يصبر المجرمون، قال: لقد فاق أحمد بن حنبل الشطار، والله لقد ضربته لو أنيخ لي بعير فضربته لنقبت عن جوفه، وتحمل الإمام أحمد بن حنبل ما تحمل، وكانت نفسه عليه مثل ما قالوا عن سعيد بن المسيب: كانت نفسه عليه في الله أهون من ذباب، تلمحوا ببصيرتهم عاقبة ما عند الله تبارك وتعالى، فهان عليهم كل شيء في سبيل دينهم.
كان أحدهم إذا أريد على دينه دارت عينه في حماليقها، وغضب لله تبارك وتعالى، ولولا سياط على ظهر ابن حنبل ما صار إمام أهل السنة والجماعة، وقال له رجل: يا بن حنبل! اصبر لأمر الله، فإن يقتلك الحق تمت شهيداً، وإلا تعش حميداً مجيداً.
وكان الإمام أحمد يدعو لـ أبي الهيثم اللص الطرار، كان يقول: اللهم اغفر لـ أبي الهيثم، اللهم سامح أبا الهيثم، فقال له ولده: من أبو الهيثم يا أبت؟ فقال: أبو الهيثم اللص الطرار، قال: لما مددت للسياط إذا برجل يجذب ثوبي من خلفي وقال: يا ابن حنبل: أما تعرفني؟ قال: قلت: لا، قال: أنا اللص الطرار أبو الهيثم، ضربت ثمانية عشر ألف سوط تحملتها من أجل الدنيا ومن أجل الشيطان، أفلا تصبر أنت لطاعة الرحمن؟ فنفع الله تبارك وتعالى الإمام أحمد بهذه الكلمة.
وهذا أبو نعيم الفضل بن دكين لما أتي به ليتكلم في مسألة خلق القرآن قال: والله لعنقي أهون علي من زري، فقام أحمد بن يوسف وكان بينه وبين الفضل بن دكين شحناء، قام إليه وقبل رأسه، وقال: جزاك الله عن الإسلام خيراً.
وهذا البويطي تلميذ الإمام الشافعي يقول عنه الربيع بن سليمان المرادي: إنه مات في حديده في فتنة خلق القرآن، وكان يقول: والله لأموتن في قيدي؛ حتى يأتي أناس من بعدنا يعلمون أنه في سبيل هذا الأمر مات أناس في حديدهم.
يا دامي العينين والكفين إن الليل دائم لا غرفة التعذيب باقية ولا ضرب السلاسل وحبوب سنبلة تجف ستملأ الوادي سنابل من يتهاون عن الدعوة يظل قلقاً أبداً، ومحروماً أبداً من الطمأنينة الإيمانية، فيا إخوتاه! انشروا الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
قيل للشافعي: يبتلى الرجل أم يمكن؟ قال: لا يمكن حتى يبتلى.
فاصبروا على أمر الله تبارك وتعالى، وادعوا في كل مكان وفي كل طريق وعمارة وشارع، فالدعوة إلى الله تبارك وتعالى لا تدانيها منزلة بعد منزلة النبوة.
يقول الإمام ابن القيم: والدعوة إلى الله أشرف مقامات التعبد: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].
ويقول الحسن البصري: هذا ولي الله، هذا حبيب الله.
يا إخوتاه! إن الداعي إلى الله تبارك وتعالى الذي يفضح شبه العلمانيين والأقزام والزنادقة والمنافقين يأخذ أجر المهاجر في سبيل الله، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، بل ويأخذ أجر المجاهد في سبيل الله، كما قال الله تبارك وتعالى: {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا} [الفرقان:52] أي: بالقرآن، وهذا في سورة مكية.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من أتى إلى مسجدي هذا لعلم يتعلمه أو يعلمه فهو بمنزلة المجاهد في سبيل الله، ومن جاء لغير ذلك فهو بمنزلة الرجل ينظر إلى متاع غيره).
فلا تقيسوا دعوتكم بدعوة الظالمين، فدعوتكم سندها الله تبارك وتعالى العلي الأعلى، ولا تقيسوا دعوتكم بدعوات أرضية ترتبط بأشخاص، تخلقها الضرورات، وتذهب بها الأحداث والليالي، ادعوا إلى الله تبارك وتعالى كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكما دعا نوح، وكما دعا يوسف، فقد دعا يوسف إلى الله تبارك وتعالى وهو في السجن، دعا الرجلين قبل أن يجيب مسألتهما؛ دعاهما إلى الله تبارك وتعالى.
وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان عنك فإنه شغلي وأديم نحو محدثي وجهي ليرى أن قد عقلت وعندكم عقلي ونوح دعا إلى الله تبارك وتعالى ليلاً ونهاراً، ورسولكم صلى الله عليه وسلم وهو مطارد في يوم الهجرة دعا بريدة بن الحصيب الأسلمي وقومه إلى الله تبارك وتعالى، فأسلموا.
يا إخوتاه! إن أنفاس الدعاة وقف لله تبارك وتعالى، فمن أراد المنزلة القصوى من الجنة فعليه بالمنزلة القصوى في الدنيا، وهي الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر، رب اجعلنا لك ذكارين، لك شكارين، إليك أواهين مخبتين منيبين.
اللهم تقبل توبتنا، وأجب دعوتنا، واسلل سخائم صدورنا.
اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، وبباك نقف فلا تطردنا.
اللهم إنا نشهد أن لا إله إلا أنت، لك الحمد كله، ولك الملك كله، اللهم يا حنان يا منان اللهم فك الكرب عن إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم فك الكرب عن إخواننا في البوسنة والهرسك، اللهم احفظ أعراضهم، اللهم احفظ دماءهم، اللهم احفظ دماءهم، اللهم احفظ أعراضهم، اللهم آمنهم في بلادهم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وأقم الصلاة.(20/6)
الرسل والرسالات
الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان لا يتم الإيمان إلا به، وأهمية الإيمان بالرسل نابعة من أنهم الواسطة بين الله وبين خلقه، والمبلغون لشرعه، والأمناء على وحيه، وهم من دلوا الخلق على الله، وعرفوهم بحقوقه، وأقاموا دينه، وجاهدوا فيه.
وقد ضل في باب الرسل والأنبياء طوائف من الناس بين غال فيهم جعلهم فوق رتبتهم، وجاف عنهم متنقص لهم، وهدى الله أصحاب المنهج الحق إلى الصواب في المسألة، فأنزلوا الرسل منازلهم واعتقدوا الحق فيهم.(21/1)
الإيمان بالرسل ركن من أركان الإيمان
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير من ما كثر وألهى، {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
أما بعد: فالإيمان برسل الله تبارك وتعالى والإيمان بالرسالات أصل من أصول الإيمان بالله تعالى، يقول الله عز وجل: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة:285].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيدًا} [النساء:136].(21/2)
تعريف النبي والرسول والفرق بينهما(21/3)
معنى النبي
النبي لغة: مشتق من النبأ، وهو: الخبر، قال الله تبارك وتعالى: {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3].
والنبي صلى الله عليه وسلم مخبرَ من قبل الله تبارك وتعالى، مخبرَ عن الله تبارك وتعالى، ومخبِر عن الله تبارك وتعالى لقومه.
وقيل أيضاً: النبي مشتق من النبوة، والنبوة هي المكان المرتفع عن سطح الأرض.
وتطلق أيضاً على كل علم من أعلام الأرض يهتدي به الإنسان في سيره.
والمناسبة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي: أن النبي له قدر عظيم عند الله تبارك وتعالى وعند الناس، والأنبياء أعلام هدى يخرج الله عز وجل بهم الناس من الظلمات إلى النور.(21/4)
معنى الرسول
والرسول مشتق من الإرسال، والإرسال هو: التوجيه، تقول: أرسلت فلاناً إلى فلان إذا وجهته إليه، وفي قول الله تبارك وتعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} [النمل:35]، أي: إني باعثة بهدية مع شخص.
وقيل أيضاً: الرسول هو الذي يتابع أخبار من أرسله، من قول العرب: جاءت الإبل رسلاً، يعني: جاءت الإبل متتابعة؛ فالرسول هو: من أرسله الله عز وجل إلى قوم بعينهم ليبلغهم أخبار الله تبارك وتعالى ووحيه.(21/5)
الفرق بين النبي والرسول
وأما الفرق بين النبي والرسول: فقال فريق من العلماء: لا فرق بين النبي والرسول، فالنبي هو الرسول.
ويرد عليهم قول الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا} [مريم:54] فلو كان النبي هو الرسول لما ذكر الصفتين.
وأيضاً يقول المولى عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52]، ففرق الله عز وجل بينهما.
وأيضاً فرق المصطفى صلى الله عليه وسلم بينهما، فذكر عدداً للأنبياء وعدداً للرسل، فلو كان النبي هو الرسول لكان عددهم واحداً.
فالقول الأول بأن النبي هو الرسول قول خطأ، وإن ذهب إليه فريق من العلماء.
القول الثاني: إن الرسول أعم من النبي، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسولاً.
وكتب الأزهر تقول: الرسول: هو رجل أرسله الله تبارك وتعالى إلى قوم من البشر وأمره بتبليغ الرسالة، والنبي: هو رجل أوحى الله عز وجل إليه ولم يأمره بتبليغ الرسالة.
وهذا القول قول خطأ، وإن كان موجوداً في أكثر الكتب.(21/6)
ضلال ابن عربي في الرسل والأنبياء
وهذا القول دفع بعض الصوفية مثل محيي الدين بن عربي في كتابه فصوص الحكم، وفي كتاب الفتوحات المكية إلى أن يقول: إن هناك أنبياء خصوا بالتشريع وأنبياء خصوص الخصوص.
يعني: إن كان النبي أوحى الله إليه بوحي ولم يأمره بالبلاغ فإنه من الممكن أن يكون هناك أنبياء بعد المصطفى صلى الله عليه وسلم من أمته، وهذا القول نص عليه صراحة في كتبه هذه، فهو يقول: ومحمد صلى الله عليه وسلم هو آخر الرسل، وليس آخر النبيين.
وربنا أرسله برسالة عامة للناس، ولا يمنع هذا أن يكون من أمته أنبياء.
فالرسول له النبوة العامة، أي: له نبوة التشريع، ولكن يمكن أن يوجد أنبياء بعده، هذا عند محيي الدين بن عربي.
بل إنه قال: إن حديث: (لا نبي بعدي) قصم ظهور الأولياء، وما أبقى للأولياء حاجة.
وذهب أيضاً في كتابه فصوص الحكم إلى أن للأولياء خاتماً، وقال: أنا خاتم الأولياء، وبي ختمت دولة الأولياء.
ثم فضل خاتم الأولياء على خاتم الأنبياء، وقال: إن خاتم الأولياء يأخذ من الله مباشرة، أما خاتم الأنبياء فإنه يأخذ من الملك، أي: يأخذ بواسطة، وأما نحن فنأخذ من المعين الذي يأخذ منه الملك.
وهذا قوله صراحة في فصوص الحكم.(21/7)
الرد على من قال إن النبي غير مأمور بالبلاغ
فأما بطلان القول بأن النبي لم يأمره الله عز وجل بالبلاغ فمن أوجه: الدليل الأول: أن المولى عز وجل نص صراحة في القرآن الكريم أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل، والإرسال يقتضي البلاغ، فعندما أقول لك: أنا أرسلتك إلى قوم، فالمعنى: بعثتك إليهم حتى تبلغهم شيئاً معيناً، فالإرسال يقتضي البلاغ، قال الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} [الحج:52]، فالله عز وجل نص على أنه أرسل الرسل ووجههم كما وجه الأنبياء إلى قوم بعينهم، فالإرسال يقتضي البلاغ.
الدليل الثاني: ما رواه الإمام البخاري والإمام مسلم والإمام النسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (عرضت علي الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط)، أي: النبي يأتي يوم القيامة ومعه جماعة من الناس، قال: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد).
فمعنى قوله: (رأيت النبي ومعه الرهط) أو: (رأيت النبي ومعه الرجل والرجلان) أن النبي تكلم معهم وبلغهم شيئاً من أمر الله، فاستجابوا له وامتنع الباقون، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (رأيت النبي)، لم يقل: رأيت الرسول.
فإذا قال أحد: إن الحديث مروي بالمعنى، قلنا: هذا رواه الإمام مسلم، والإمام مسلم كان يروي الحديث باللفظ دون المعنى.
الدليل الثالث: قول الله تبارك وتعالى عن يوسف: {يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يوسف:39]، ويوسف كان نبياً ومع هذا بلغ الرسالة إلى صاحبي السجن بنص القرآن الكريم.
الدليل الرابع: قول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا} [البقرة:246] وهذا يوحي أن النبي كان يبلغ شيئاً من وحي الله تبارك وتعالى وينفذ تعليمات الملك إلى قومه.
الدليل الخامس: وهو أوضح الأدلة على وجوب البلاغ على الأنبياء، وهو حديث الحارث الأشعري كما في الوابل الصيب: (إن الله سبحانه وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات يعمل بها ويأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، وإنه كاد أن يبطئ بها، فقال له عيسى عليه السلام: إن الله تعالى أمرك بخمس كلمات تعمل بها وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بها، فإما أن تأمرهم وإما أن آمرهم، فقال يحيى: أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب).
ولو كان لا يجب عليه البلاغ لأنه نبي وليس برسول، لما قال: إني أخشى إن سبقتني بها أن يخسف بي وأعذب؛ لأن ترك الأمر المستحب لا يوجب عقاب المولى عز وجل.
إذاً: التعريف الذي نحن نختاره: أن الرسول هو من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله.
فسيدنا موسى عليه السلام نزل برسالة وهي التوراة، وبعد موت موسى عليه السلام قام أنبياء بشريعة التوراة وليس بشريعة جديدة، وإنما قاموا يبلغون ويقررون شريعة رسول الله الذي قبلهم، ولذلك فإن داود وسليمان وزكريا ويحيى -وهم أنبياء- بعثهم الله تبارك وتعالى بشريعة موسى عليه السلام، وهي التوراة، ولذا يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام البخاري: (إن بني إسرائيل كانت تسوسهم -أي: تحكمهم- الأنبياء بشريعة موسى، كلما مات نبي خلفه نبي).(21/8)
عدد الأنبياء والمرسلين وحكمة الله في ذلك
عدد الأنبياء والرسل مائة وأربعة وعشرون ألف نبي ورسول، عدد الرسل منهم ثلاثمائة وخمسة عشر.
والله عز وجل من رحمته بالخلق أرسل عدداً كثيراً من الأنبياء والرسل، يقول المولى عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء:15].
وروى الإمام أحمد في مسنده حديثاً صححه الشيخ الألباني عن أبي ذر الغفاري قال: (قلت: يا رسول الله! كم المرسلون؟ قال: ثلاثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً).
وفي رواية أبي أمامة عن أبي ذر قال: (قلت: يا رسول الله! كما وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً).
وسيدنا أبو ذر يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! كم وفاء عدة الأنبياء؟ قال: مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيراً)، رواه الإمام أحمد، وأورده التبريزي في مشكاة المصابيح، وقال الشيخ الألباني: حديث صحيح.
وهناك رسل قصهم الله عز وجل في القرآن، ورسل قصهم علينا الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة، ورسل لم يخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم عنهم شيئاً؛ يقول الله تبارك وتعالى: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ} [النساء:164]، ومعنى ذلك: أن في رسل المولى عز وجل من لم يقص الله من أخبارهم شيئاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ويقول المولى عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر:78].
فنحن نؤمن بأن الله عز وجل أرسل رسلاً وأنبياء، وقص علينا بضعاً منهم في القرآن الكريم، وقص علينا الرسول شيئاً عنهم في السنة، والله عز وجل تفرد بأخبار رسل لم يقصها على نبيه صلى الله عليه وسلم؛ حتى لا يأتي أحد فيقول: الرسل والأنبياء هم المذكورون في القرآن الكريم فقط، فنقول له: بل هناك رسل غيرهم لا نعرف عنهم شيئاً، فهناك رسل لم يقصهم الله تبارك وتعالى.(21/9)
الأنبياء والرسل الذين ذكرهم القرآن الكريم والسنة النبوية(21/10)
الأنبياء والرسل الذين صرح القرآن بذكرهم
والرسل والأنبياء الذين ذكرهم الله عز وجل في القرآن الكريم بأسمائهم خمسة وعشرون رسولاً ونبياً، ثمانية عشر منهم ذكروا في سورة الأنعام، والسبعة الباقون متفرقون في سور القرآن الكريم.
فالذين في سورة الأنعام قصهم الله عز وجل علينا في قوله تبارك وتعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} [الأنعام:83] {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ} [الأنعام:84 - 86]، فهؤلاء ثمانية عشر.
وقد ذكر أنبياء ورسلاً متفرقين، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ} [آل عمران:33]، وسيدنا آدم عليه السلام كان نبياً مكلماً، واختصه الله بالتكليم كما اختص موسى وكما اختص رسولنا صلى الله عليه وسلم، فسيدنا آدم عليه السلام كان نبياً مكلماً.
وفي الحديث الصحيح: (أنبياً كان آدم يا رسول الله؟! قال: نبي مكلم).
وقال الله عز وجل: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح:29].
وقال تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [هود:50].
وقال تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا} [هود:61].
وقال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا} [هود:84].
وقال تعالى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء:85].(21/11)
الأنبياء الذين ذكرهم القرآن الكريم إشارة
وهناك أنبياء ذكروا في القرآن الكريم إشارة ولم يذكروا بأسمائهم، وهم الأسباط أولاد سيدنا يعقوب، وعددهم: اثنا عشر رجلاً، قص الله عز وجل علينا منهم يوسف فقط.
والأنبياء رسل، وإن لم يقل بهذا الشيخ محمد علي الصابوني، والأسباط كانوا رسلاً بنص قول الله تبارك وتعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ} [البقرة:136]، أي: وما أنزل إلى الأسباط، وهذا يدل على نبوتهم.
ويقول المولى عز وجل: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} [البقرة:140] فالأسباط أنبياء كما في هذه الآية.
ودليل آخر: قوله تعالى: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:84].(21/12)
ذكر نبوة ذي النون والخضر وشيث
وهناك أنبياء مذكورون في السنة ولم يذكروا في القرآن الكريم، ومنهم: ذو النون، وهو يونس عليه السلام، وهو مذكور في القرآن الكريم، وفي الحديث: (لا يقولن أحدكم: أنا خير من يونس بن متى)، وهذا حديث صحيح.
والخضر ما نص النبي صلى الله عليه وسلم على نبوته، وإلا لما اختلف العلماء هل كان نبياً أم لا؟ والراجح وهو جمهور أهل السنة: أنه كان نبياً، ولكن لم ينص النبي صلى الله عليه وسلم صراحة على ذلك.
وشيث ابن سيدنا آدم، أنزل الله عز وجل عليه خمسين صحيفة، كما رواه الإمام ابن كثير في البداية والنهاية، وقال: وكان نبياً بنص الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه عن أبي ذر مرفوعاً: (أنه أنزل عليه خمسون صحيفة).(21/13)
ذكر نبوة يوشع بن نون وبيان الفضيلة التي اختصه الله بها
وسيدنا يوشع بن نون فتى موسى كان نبياً، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60]، ولا يوجد نص على نبوته في القرآن الكريم.
وقد خصه الله بفضيلة عظيمة، حيث إن الله عز وجل ما حبس الشمس إلا له، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد والإمام مسلم: (غدا نبي من الأنبياء -وهو سيدنا يوشع بن نون - فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يلم بها ولما يلم بها)، يعني: رجل عقد على امرأة ولم يدخل بها؛ لأنه سيبقى مشغولاً بها.
قال: (ولا رجل قد بنى بنياناً ولم يرفع سقفه)، أي: لأنه يريد أن يأتي بالحديد والإسمنت فهو مشغول عن الجهاد.
قال: (ولا رجل قد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينتظر أولادها، فغدا فدنا من القرية -بيت المقدس- حين صلى العصر أو قريباً من ذلك، فقال للشمس: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علي شيئاً، فحبست له الشمس).
قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي انفرد بروايته الإمام أحمد -وهو حديث صحيح على شرط البخاري -: (إن الشمس لم تحبس إلا لـ يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس).(21/14)
بيان من اختلف في نبوتهم(21/15)
ذو القرنين
وهناك صالحون مشكوك في نبوتهم، منهم: ذو القرنين وتبع.
يقول الله عز وجل: {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا} [الكهف:86]، فهل قال الله عز وجل هذا القول لـ ذي القرنين مباشرة أو عن طريق نبي؟ يميل سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص إلى الجزم بنبوة ذي القرنين، وجزم بهذا أيضاً الحافظ ابن حجر وقال: وظاهر القرآن يؤيد ذلك، أي: وظاهر القرآن يؤيد نبوة ذي القرنين.
وسيدنا علي بن أبي طالب نفى ذلك بإسناد صحيح عنه، فهذا نتوقف في الحكم له بالنبوة أو عدمها.(21/16)
تبع
وأما تبع فكان ملك اليمن وكان مسلماً؛ لأنه ثبت أنه قال أحاديث حينما أتى إلى المدينة وقال: لو عشت إلى أن يصل أحمد لكنت وزيراً له وابن عمه.
وكان ممن آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعثته، ولكن هل كان نبياً أم لا؟ الأولى أن نتوقف؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم توقف، فلم يقطع بالنبوة ولم ينفها عن ذي القرنين أو عن تبع.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الحاكم والبيهقي وصححه الألباني: (ما أدري أتبع نبي أم لا، وما أدري أذو القرنين نبي أم لا)، فإن كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري فغيره أولى.
فالرسول صلى الله عليه وسلم توقف في الحكم بالرسالة لـ ذي القرنين ولـ تبع، ولم يثبت النبوة لهما ولم ينفها عنهما.(21/17)
الخضر عليه السلام
وبالنسبة للخضر، فهناك رسالة طيبة للحافظ ابن حجر اسمها: النبأ الزهر في شأن الخضر، وهي من ضمن الفتاوى المنيرية، وأظنها في المجلد الثاني ضمن مجموع الفتاوى المنيرية.
والخضر يستدل به الصوفية على أن الولي يجوز له أن يخرج عن ظاهر الشريعة؛ بدليل أن الخضر قتل الغلام، وأن الولي خير من النبي؛ بدليل أن سيدنا موسى قال: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف:60]، والحقب ثمانون سنة، وذلك حتى يذهب إلى الخضر ثم يجلس بين يديه مجلس الطالب المتعلم الذليل المتواضع له، فيقولون: الولي أفضل من النبي، حتى قالوا: مقام الرسالة في برزخ فويق النبي ودون الولي وقال قائلهم أيضاً: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.
وعبد الحق بن سبعين يقول: لقد حجر ابن آمنة واسعاً إذ زعم أن لا نبي بعده.
وأولى الأقوال -وهو ما ندين به لله عز وجل وعليه أهل السنة والجماعة- أن الخضر كان نبياً.(21/18)
الأدلة على نبوة الخضر
ويدل على ذلك سياق القصة، فالله تبارك وتعالى يقول: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف:65]، قال العلماء: هذه رحمة النبوة، والعلم هو علم الوحي الذي اختص الله به نبيه الخضر.
وهذا الدليل ليس واضحاً قوياً.
والدليل الثاني وهو أوضح: أن سيدنا موسى نبي ورسول من أولي العزم، وهو معصوم في تحمل الرسالة وفي أدائها وفي تبليغها، وقد أجمع علماء المسلمين أن الأنبياء معصومون في تبليغ الرسالة، فلا يجوز للنبي أن يزيد في الوحي، أو أن ينقص منه، أو أن يشك فيه، أو أن ينسى شيئاً منه، هذا في جانب التبليغ؛ قالوا: فكيف يجوز لنبي معصوم من أولي العزم مثل موسى عليه السلام أن يتلقى العلم من رجل غير معصوم.
يعني: لو كان الخضر ولياً فيمكن أن يخطئ في العلم ويمكن أن يصيب، فكيف يتلقى المعصوم علمه من رجل غير معصوم في تبليغ العلوم الشرعية، بل ويحرص على لقياه ولو أن يمضي ثمانين سنة، وعندما يقابله يتواضع له ويجله ويجلس منه مجلس المتعلم الذليل، قالوا: وهذا يحق في شأن الخضر؛ لأنه نبي يعلم موسى أن الله عز وجل قد خصه بأسرار من علمه تبارك وتعالى لم يخص بها موسى.
ولذلك جاء في القصة التي يروونها: أن العصفور أتى ونقر نقرة من ماء البحر فوضعها على فخذ الخضر، فقال: أتدري ما يقول العصفور يا موسى؟! قال: علم ذلك عند ربي، قال: يقول العصفور: أنت يا خضر! على علم علمكه الله لا أعلمه أنا ولا موسى، وموسى على علم علمه الله إياه لا أعلمه أنا ولا أنت، وأنا على علم علمني الله إياه لا تعلمه أنت ولا موسى، وما علمي وعلمك وعلم موسى بجانب علم الله إلا كهذه القطرة إلى جانب الماء.
أي: اختص الله عز وجل نبيه الخضر بشيء من الوحي لم يخص به موسى عليه السلام، فاحتاج موسى إلى معرفته؛ حتى يستزيد من هذا العلم.
وأيضاً الخضر أقدم على قتل الغلام وخرق السفينة، ولو كان هذا مجرد خاطر فقد أجمع العلماء على أن الأولياء خواطرهم غير معصومة، ولا يجوز للولي أن يخرق ظاهر الشريعة، ويقول بسقوط التكليف، ولا يقول: أنا ولي ويفعل الفاحشة؛ فضلاً عن أن الخضر يقول: أوحي إلي بالقتل، وزيادة على ذلك يقول: إنه أمر بقتل الغلام، وأنه لو امتد به العمر لكان سبباً في كفر والديه، فكيف يعلم هذا؟ والدليل الرابع: قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82]، ففصل الخضر لموسى أن هذا وحي من الله تبارك وتعالى، قال: {فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا} [الكهف:81]، ويقول المولى عز وجل: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف:82].
وهذا يدل على أن الخضر كان نبياً ولم يكن ولياً.(21/19)
الاختلاف في كون الخضر حياً أم قد مات
وهل الخضر حي الآن أو قد مات؟ اختلف في ذلك أقوال العلماء، حتى اضطرب شيخ الإسلام ابن تيمية في هذه المسألة، فهو يقول عنه في مجموع الفتاوى في صفحة: إنه حي، وفي الصفحة التي بعدها يقول: إنه ميت، وهذه فتوى صريحة لا تحتمل تأويلاً، وهي بحاجة إلى مراجعة في مجموع الفتاوى، وهذا مما اضطرب فيه قول شيخ الإسلام ابن تيمية.
وذهب جمع كثير من العلماء إلى: أن الخضر حي لم يمت، وأن إلياس حي لم يمت، ووردت في ذلك أخبار كثيرة؛ وهي ضعيفة وباطلة لدرجة أن الإمام النووي قال: إن الرجل الذي يخرج من المدينة ويقتله المسيح الدجال ثم يحييه مرة ثانية هو الخضر.
قال هذا في شرح مسلم، وهذا القول قول مرجوح.
وذهب كبار المحدثين ومنهم الإمام البخاري وابن دحية وابن كثير وابن حجر العسقلاني إلى أن الخضر قد ميت.
والدليل على أن الخضر قد مات: ما قاله الإمام أحمد بن حنبل لما سأله إبراهيم الحربي عن تعمير الخضر وإلياس وأنهما باقيان يشاهدان ويروى عنهما؟ فقال: من أحال على غائب لم ينصف.
ثم قال الإمام أحمد: وما ألقى هذا إلا الشيطان.
والدليل الثاني: قول النبي صلى الله عليه وسلم لما كان جالساً في حلقة من أصحابه كما رواه الإمام البخاري: (لا يبقى على رأس مائة سنة ممن هو على وجه الأرض أحد).
والدليل الثالث: أنه لو كان الخضر حياً لكان قاتل في معركة بدر وفي أحد وبعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكان فك الخلاف في سقيفة بني ساعدة ولاستشاره المسلمون، فليس من المعقول أن يذهب إلى البراري والفيافي والقفار والجبال ويترك رسول الله صلى الله عليه وسلم يحارب وحده حتى يشج رأسه في أحد، وكيف والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
وكيف وقد أخذ الله عز وجل الميثاق على النبيين والخضر منهم؛ يقول المولى عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} [آل عمران:81].
فكيف يترك الخضر نصرة الرسول صلى الله عليه وسلم إن كان حياً؟! هذا لا يعقل ولا يجوز.(21/20)
بيان أن الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل
الكفر برسول واحد كفر بجميع الرسل، لا كما يقول أصحاب الأفكار القذرة الذين اخترعوا ديناً اسمه الوحدة الوطنية، وترى الواحد منهم يصعب عليه أن يقول: إن النصارى كفرة، وهذا جاء في آية من آيات القرآن لا من عند أهل السنة ولا أتى به أهل السنة، بل هذا جاء في كتاب الله عز وجل إن كانت لكم عقول وإن كنتم مسلمين، يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا} [النساء:150 - 151].
وإذا أتيت بواحد منهم وقلت: أنت تعترف بالرسول صلى الله عليه وسلم؟ يقول لك: نعم، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
وهذه الشهادة لو قالها نصراني دخل في الإسلام.
ولو أن أحداً ارتد عن الإسلام فإنه لا يرجع إليه إلا بالنطق بالشهادتين وبنقض ما ارتد به وخرج به من الإسلام، يعني: إن كان قال: الصلاة في الإسلام ليست واجبة، فنقول له: أنت مرتد، ارجع إلى الإسلام بالنطق بالشهادتين، ثم بالإقرار بأن الصلاة واجبة، أي: يعترف بما جحده.
وإذا قال: أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول للعرب وليس للناس جميعاً، أي: أنه معترف بالرسول لكن للعرب فقط وليس لجميع الناس؛ فإن علم ذلك من حاله فنطقه بالشهادتين لا يكفي لدخوله في الإسلام، بل لا بد من الإقرار بأن محمداً رسول الله إلى الناس كافة، وأن رسالته ناسخة لما قبلها من الشرائع.
فهؤلاء كفرة بنص القرآن الكريم.(21/21)
نفي وجود رسل بين عيسى ومحمد عليهما السلام
والنبوة لا تثبت إلا بدليل صحيح إما من القرآن وإما من السنة.
وأما من قال: إن قرقيس وخالد بن سنان والرسل الذين أرسلهم الله عز وجل إلى آل ياسين في سورة يس رسل؛ فنسأله: هل هناك رسل بعد سيدنا عيسى عليه السلام، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: (لا نبي بيني وبينه)؟ فليس هناك أنبياء بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين سيدنا عيسى.
فلو قال: إن هؤلاء الأنبياء بين سيدنا عيسى وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم فهذا لا يجوز، فإن كانوا قبل عيسى فخير وبركة كما ذهب إليه الشيخ عمر الأشقر.
وقول من قال: إن خالد بن سنان -وهو عربي- كان نبياً من الأنبياء بين عيسى والمصطفى صلى الله عليه وسلم، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخلت عليه بنت خالد بن سنان قال: (أهلاً بابنة أخي، أهلاً ببنت نبي ضيعه قومه) فهذا الحديث لا يصح.
والأنبياء من العرب أربعة: هود وصالح وشعيب ونبيك يا أبا ذر!(21/22)
موقف العقلانيين اليوم تجاه الأنبياء والوحي والعقل والرد عليهم
والعقلانية تقول: إن الأنبياء الخمسة والعشرين كانت لزمان العيش في الجبال، وأما في القرن العشرين ونحن نركب الصواريخ ونطلق الأقمار فإن الناس غير محتاجة للرسل، وإن العقل بمفرده كاف لهداية البشرية؛ بدليل أنهم يردون الوحي الذي هو حق المولى عز وجل من القرآن ومن السنة ويقدمون عليه العقل، فيجعلون العقل حاكماً على الكتاب والسنة.(21/23)
العقل يقود البراهمة إلى عبادة الحيوان
والبراهمة وهم قوم من المجوس يزعمون أن إرسال الرسل عبث، وأن العقل يغني عن الرسل.
وهؤلاء البراهمة الذين يقولون: إن العقل يغني عن الرسل، كان أحدهم قائداً كبيراً جداً في القرن العشرين ولم يغنه عقله حتى عبد البقرة، فـ غاندي كان يقول للناس: عندما أرى البقرة لا أجدني أرى حيواناً؛ لأني أعبد البقرة، وسأدافع عن عبادتها أمام العالم أجمع.
ثم يقول: وأمي البقرة تفضل على أمي الحقيقية من عدة وجوه: فالأم الحقيقية ترضعنا مدة عام أو عامين وتتطلب منا خدمات طوال العمر نظير هذا، ولكن أمنا البقرة تمنحنا اللبن دائماً ولا تطلب منا شيئاً مقابل ذلك سوى الطعام العادي.
ثم يقول: إن ملايين الهنود يتجهون للبقرة بالعبادة والإجلال، وأنا أعد نفسي واحداً من هؤلاء الملايين.
فهذا زعيم ورجل كبير يعبد البقرة.
وأكبر من هذا ما نقلته مجلة العربي الكويتية عن معبد أنفق عليه ملايين الملايين من الدولارات، وهو مكسو بالرخام الأبيض، وهذا المعبد ينفق عليه آلاف النذور والهدايا، والإله الذي يقدمون إليه هذه النذور هو الفئران، فهم يعبدون الفئران، فانظر كيف قاد العقل البشرية إلى الدمار!(21/24)
عجز العقل عن معرفة قضايا الغيب والأوامر الشرعية وصفات الله تعالى وأفعاله بدون الوحي
وبالنسبة لموقف العقل من الوحي، فهناك أشياء يقف العقل عاجزاً عنها تماماً، كالغيب والجنة والنار والقيامة وصفة النار، ولو أتيت بأي عاقل بدون وحي فإنه لا يستطيع أن يتكلم فيها كلمة واحدة.
والأوامر الشرعية والنواهي والمباحات، وأن هذا واجب، وهذا مستحب، وهذا مندوب، وهذا جائز، لا يستطيع العقل أن يخبرنا عنها شيئاً بدون الشرع، وصفات الله تبارك وتعالى وأسماؤه وأفعاله عز وجل بالأمم الغابرة لا يستطيع العقل أن يتكلم عنها.
وهناك مجالات يقف العقل أمامها عاجزاً، حتى قال القائل: من أنت يا أرسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلد ومن ابن سينا حين قرر ما بنيت له وشيد هل أنتمو إلا الفراش وقد رأى ناراً توهج فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد فلتخسأ الحكماء عن رب له الأفلاك تسجد والعاقل ينهى عن أن يقحم العقل في غير مجاله.(21/25)
عجز العقل عن معرفة حسن وقبح الأفعال تفصيلاً
العقل أيضاً يعلم حسن الحسن وقبح القبيح على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل، فلا يستطيع العقل وحده أن يحدد أن هذا الفعل حسن أو قبيح، نعم يعلم قبيح القبيح وحسن الحسن على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل.
أيضاً: إن كان الفعل فيه مصلحة وفيه مفسدة فكيف يحدد العقل أن المصلحة تربو على المفسدة أو أن المفسدة تربو على المصلحة؟(21/26)
بيان عدم التعارض بين العقل الصريح والوحي الصحيح
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن الوحي يخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول.
والعقل السليم النظيف لا يصطدم بالوحي الصريح الصحيح، فالوحي يخبر بمحارات العقول، أي: عن الحاجات التي يحتار فيها العقل، فالوحي يفسرها له ويوضحها، فهو يخبر بمحارات العقول لا بمحالات العقول، يعني: لو كان العقل نظيفاً وسليماً مائة في المائة فلا تأتي سنة صحيحة بمخالفته كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: درء تعارض المنقول مع صريح المعقول، أو: درء تعارض العقل والنقل.(21/27)
نسبة أهل الكتاب القبائح إلى الأنبياء
وأما موقف الأدعياء من عصمة الأنبياء فهناك قبائح نسبها إليهم اليهود عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين إلى يوم القيامة، وقبائح نسبها إليهم النصارى عليهم لعنة الله ولعنة اللاعنين إلى يوم القيامة.(21/28)
أولاً نسبة اليهود القبائح إلى الأنبياء
فمن هذه القبائح: قال اليهود في الإصحاح (32) عدد (1) من سفر الخروج: نبي الله هارون عليه السلام صنع عجلاً وعبده مع بني إسرائيل.
وقالوا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام في الإصحاح (12) عدد (14) من سفر التكوين: إن إبراهيم خليل الرحمن عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام قدم امرأته سارة إلى فرعون حتى ينال الخير بسببها.
وهذه قبيحة نسبوها إلى سارة، وهي بريئة منها.
وقالوا أيضاً كما ورد في سفر التكوين إصحاح (19) عدد (30): إن لوطاً عليه السلام شرب خمراً حتى سكر، ثم قام على ابنتيه فزنا بهما الواحدة بعد الأخرى! وقالوا: إن يعقوب عليه السلام سرق مواشي حميه وخرج بأهله خلسة دون أن يعلمه! وهذا موجود في سفر التكوين إصحاح (31) عدد (17).
وقالوا: إن روابين ابن سيدنا يعقوب زنى بزوجة أبيه يعقوب، وإن يعقوب عليه السلام علم بهذا الفعل القبيح وسكت! وهذا موجود في سفر التكوين إصحاح (35) عدد (32).
وسبحان الله! حتى الغيرة برءوا منها الأنبياء، وأحد الناس شكته امرأته في محكمة شرعية وكانت منتقبة وادعت أنه ضربها على وجهها، فأمرها القاضي أن ترفع النقاب، فقال له زوجها: ما حصل هذا الكلام ولكن الذي تقوله حق، لكن لا ترفع عنها النقاب، ثم نظر إلى امرأته وقال: أغار عليكِ من نفسي ومني ومنكِ ومن مكانكِ والزمان ولو أني خبأتك في عيوني إلى يوم القيامة ما كفاني فقال القاضي: اكتبوا هذا في ديوان الأدب.
وهم يقولون: إن سيدنا يعقوب علم أن ابنه زنى بامرأته ثم سكت.
وقالوا: إن داود عليه السلام زنى بزوجة رجل من قواد جيشه، ثم دبر حيلة لقتل ذلك الرجل فقتل، وبعدئذ أخذ داود هذه الزوجة وضمها إلى نسائه، فولدت له سليمان.
وقالا: إن سليمان عليه السلام ارتد في آخر عمره وعبد الأصنام وبنى لها الهياكل والتماثيل! هؤلاء هم اليهود.(21/29)
ثانياً نسبة النصارى القبائح إلى الأنبياء
أما بالنسبة للنصارى فليسوا بأفضل من اليهود في هذا، فقد نسبوا إلى الأنبياء والرسل القبائح، منها: ما ورد في إنجيل متى: أن عيسى عليه السلام من نسل سليمان بن داود عليهما السلام، وإن جده فارض هو من نسل الزنا.
وهذا أوردوه في إصحاح متى الأول عدد (10).
وفي إنجيل يوحنا إصحاح (2) عدد (4): أن يسوع أهان أمه في وسط جمع من الناس، أي: شتم أمه في وسط جمع من الناس.
فأين هذا من قول الله تبارك وتعالى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} [مريم:32]؟ وأيضاً في إنجيل يوحنا إصحاح (10) عدد (8): أن يسوع شهد بأن جميع الأنبياء الذين قاموا في بني إسرائيل هم سراق ولصوص.
يعني: أن سيدنا المسيح عليه السلام قال: إن كل الأنبياء سراق، وهذا طبعاً لا يجوز.(21/30)
موقف الفرق من عصمة الأنبياء(21/31)
موقف الشيعة من عصمة الأنبياء
وأما موقف العلماء من عصمة الأنبياء، فالشيعة قالوا بعصمة الأنبياء من الصغائر ومن الكبائر، سهواً أو عمداً أو نسياناً، قبل الرسالة وبعدها، من يوم أن يخلقوا حتى يبعثوا، ووافقهم القاضي عياض على دعوى العصمة قبل النبوة وبعدها من الصغائر ولو سهواً.(21/32)
موقف أهل الكلام من عصمة الأنبياء
وأما المتكلمون ومنهم الآمدي والباقلاني من الأشاعرة فقالوا: إنه لا يمتنع عليهم الكبائر قبل النبوة، وقالوا: ممكن أن الأنبياء قبل النبوة يفعلون الكبائر والصغائر، بل قالوا: لا يمتنع عقلاً أن يرسل الله من أسلم وآمن بعد كفره، يعني: زاد الباقلاني جواز الكفر على الأنبياء قبل الرسالة.
أما بعد النبوة فقالوا: إن الأنبياء لا يجوز عليهم تعمد الكبائر أو فعلها، ويجوز عليهم الصغائر.(21/33)
موقف أهل الحديث وغيرهم من عصمة الأنبياء
ومذهب أهل الحديث ومذهب السلف، وهو قول شيخ الإسلام ابن تيمية: أن الأنبياء معصومون من الكبائر دون الصغائر، إلا صغار الخسة فهم معصومون أيضاً منها، أما باقي الصغائر فغير معصومين منها، وهذا هو قول علماء الإسلام وقول أكثر أهل الكلام وعلماء التفسير وعلماء الحديث وأكثر الأشعرية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: بل لم ينقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول.
يعني: أن الأنبياء معصومون من الكبائر ومن صغائر الخسة، وأما بقية الصغائر فيجوز عليهم أن يفعلوها، ولكنهم إذا فعلوها تابوا منها وأقلعوا عنها في الحال، وكان حالهم بعد التوبة أكمل من حالهم قبل التوبة.
وهذا القول الفصل، وهو الذي عليه أهل السنة والجماعة.
والدليل على ذلك: قول الله تبارك وتعالى: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121]، هذا عن آدم عليه السلام.
وأما عن نوح عليه السلام فإنه لما فقد قال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} [هود:45]، قال له الله عز وجل: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود:46]، فقال نوح عليه السلام: {رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود:47].
وسيدنا داود عليه السلام قال الله عز وجل عنه: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص:24] وذلك لما حكم لخصم دون أن يسمع من الآخر.
ورسول الله صلى الله عليه وسلم قال له الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1].
وقال الله عز وجل: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:2].(21/34)
جواز الخطأ على الأنبياء في الاجتهاد دون التبليغ
ويجوز على الأنبياء أن يخطئوا في الاجتهاد كما مال إلى ذلك صاحب كتاب الموافقات الإمام الشاطبي؛ لقول الله تبارك وتعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال:68].
وأما في تبليغ الرسالة للأنبياء فإن إجماع العلماء على عصمة الأنبياء في تبليغ الرسالة، فلا يجوز للنبي أن يزيد في الوحي ولا أن ينقص منه ولا أن يشك فيه، ولا أن ينسى شيئاً منه، إلا شيئاً ينسيه الله عز وجل إياه.
قال الله عز وجل: {سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى} [الأعلى:6].
وقال الله عز وجل: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة:44 - 46].
والأفعال البلاغية للأنبياء التي علموها القوم على سبيل التعليم، كأن يصلوا أمام الناس حتى يتعلموا الصلاة، هذا لا يجوز عليهم فيه الخطأ ولا السهو ولا النسيان.
فإذا استقر الأمر واستقر هذا الفعل وعلمته الأمة ثم فعله النبي عبادة جاز عليه النسيان، كما نسي النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة.(21/35)
بيان جواز وقوع النسيان والغضب من الأنبياء
والأنبياء يجوز عليهم ما يجوز على البشرية من غضب أو نسيان، كما صح في الحديث: (إن المولى عز وجل حين خلق ذرية آدم نثرهم بين يديه، وجعل بين عيني كل منهم وبيصاً من نور، ثم قال آدم: يا رب! من هؤلاء؟ قال: هؤلاء ذريتك.
فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه، قال: من هذا يا رب؟! قال: نبي من آخر أمتك من ذريتك، قال: ما اسمه؟ قال: اسمه داود، قال: كم عمره؟ قال: ستون سنة، قال: فزده من عمري أربعين، فلما جاءه ملك الموت قال: أوليس قد بقي من عمري أربعين سنة؟ قال: أوليس قد أعطيت ابنك داود، فأخطأ آدم، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: فجحد آدم فجحدت ذريته، ونسي آدم فنسيت ذريته، وأخطأ آدم فأخطأت ذريته)، فإذاً: يجوز عليهم النسيان، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني.
وأيضاً يجوز عليهم الغضب، فإن نبياً من الأنبياء لدغته نملة، فأمر بمتاعه فأخرج من تحت الشجرة، ثم حرق قرية النمل، فعاتبه الله عز وجل فقال: (فهلا نملة واحدة)، ومن هنا جاء النهي وتحريم قتل النمل.(21/36)
ضلال الخوارج في عصمة الأنبياء والرد عليهم
وبعض الفرق الضالة، مثل العجاردة أتباع عبد الكريم بن عجرد من الخوارج قالوا: إن النبي قد يزيد أشياء في الوحي؛ لأن سورة يوسف ليست من القرآن الكريم ففيها العشق والعاشق والمعشوقة، وهذا لا يكون من كلام الله، ليس من عند الله.
والأزارقة جوزوا الكفر على الأنبياء قبل البعثة وبعد البعثة، فقالوا: ممكن للنبي أن يبعثه ربه بالرسالة ويبلغها ثم يكفر.
وهذا قالت به الأزارقة من الخوارج الذين هم جماعة نافع بن الأزرق.
وأما الفضلية من الخوارج فجوزوا الذنب على الأنبياء بعد البعثة، وكل ذنب عندهم كفر، فكفروا الأنبياء، وجوزوا كفر الأنبياء بعد البعثة.
والأزارقة الذين قالوا بجواز الكفر على الأنبياء قبل البعثة وبعدها استدلوا بقوله تعالى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7].
والإمام أحمد قال: من قال بكفر النبي قبل البعثة يعزر ويؤدب، وهذا القول قول سوء، فلم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على دين قومه قط.
وأما قول الله عز وجل: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى:7] فإن الضلال في اللغة يطلق ويراد به أشياء، فيأتي الضلال بمعنى: الاضمحلال، يعني: الذهاب، كما في قوله تعالى: {وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ} [السجدة:10]، أي: إذا غبنا في الأرض، تقول: ضل اللبن في السمن، وضل السمن في اللبن، يعني: غاب السمن في اللبن.
فالضلال يأتي بمعنى الذهاب والاضمحلال.
ويأتي الضلال أيضاً بمعنى: الكفر، ويأتي أيضاً بمعنى: الذهاب عن حقيقة الشيء، كما في قول الله عز وجل: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} [طه:52]، يعني: لا يذهب عن حقيقة الشيء بل يعلم حقيقة كل شيء، وكما في قوله عز وجل: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} [البقرة:282].
إذاً: يكون معنى قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7]، أي: ووجدك غافلاً عن أحكام الشرائع، لا تعرف الظهر كم ركعة، والعصر كم ركعة، والمغرب كم ركعة، والعشاء كم ركعة.
وفي تفسير ثان وإن لم يختره الشيخ الشنقيطي ولكن اختاره قوم كثيرون من علماء التفسير، قالوا: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7]، أي: محباً، أي: ووجدك محباً للهدى فهداك.
وقد جاء القرآن بذلك، فقال إخوة يوسف لأبيهم: {تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف:95]، يعني: في حبك القديم ليوسف.
وهناك قول أصرح وهو قول كثير عزة لـ عزة: هذا الضلال أشاب مني المفرقا والعارضين ولم أكن متحققا يعني: حبك أشاب مني المفرقا.
عجباً لعزة في اختيار قطيعتي بعد الضلال فحبلها قد أخلقا يعني: بعد هذه السنين كلها وبعد شيبي في حبها.
فيكون معنى: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} [الضحى:7] أي: وجدك محباً للهدى فهداك.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(21/37)
الأسئلة(21/38)
حكم قول (سيدنا) لآحاد الناس
السؤال
هل يجوز أن نقول للمرء: سيدنا؟
الجواب
عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أبو بكر سيدنا وأعتق بلالاً سيدنا.
وهذا ثابت عن عمر، فإن كان قاله عمر رضوان الله عليه فأحرى بنا أن نقوله، ولكن لم يستدل به العلماء، ففيما قرأته للحافظ ابن حجر لم يستدل به.
والله أعلم.(21/39)
ضابط صغائر الخسة
السؤال
ما هي صغائر الخسة؟
الجواب
صغائر الخسة مثل لها الشيخ محمد بن سليمان الأشقر بسرقة الأشياء الصغيرة التافهة.
والله أعلم.(21/40)
الفرق بين الهم والعزم
السؤال
ما هو الفرق بين الهم والعزم؟
الجواب
العلماء فرقوا بين الهم والعزم، فقالوا: الهم: بدء الإرادة، والعزم: منتهاها، وقالوا: الهم هو الميل الغريزي أو الميل الطبعي، وقالوا: إن صرفه عنه وازع التقوى كتب له به حسنة؛ لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إذا هم أحدكم بالسيئة فلم يفعلها كتبت لها بها حسنة).
وأما العزم فاختلف العلماء هل يعاقب عليه الرجل أم لا يعاقب؟ ومال الشيخ الشنقيطي إلى أن الرجل يعاقب بالعزم على المعصية؛ لقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج:25]، ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار، قالوا: قد عرفنا القاتل فما بال القتيل؟ قال: لأنه كان حريصاً على قتل صاحبه).
والله أعلم.(21/41)
تعريف الولي
السؤال
من هو الولي؟
الجواب
قال الشافعي: إن لم يكن العلماء أولياء لله تبارك وتعالى فليس على ظهر الأرض لله ولي.
والولاية العامة يدخل فيها صالحو المؤمنين، ولكن الصوفية حينما يتكلمون عن الأولياء يقصدون العابد الذي يجري عليه الله عز وجل الكرامات أو خوارق العادات أو المشهور بالتعبد.
فهم يقولون -وخاصة الذين يميلون إلى الفلسفة منهم كـ العفيف التلمساني وعبد الحق بن سبعين وابن إسرائيل ومحيي الدين بن عربي وعبد الكريم الجيلي -: بأن الأولياء أعلى رتبة من الأنبياء ومن الرسل، وقال أبو يزيد البسطامي: خضنا بحراً وقف الأنبياء بساحله.
وثبت هذا القول عنهم: مقام الرسالة في برزخ فويق النبي ودون الولي والولي يطلق في الاصطلاح على طائفة من العباد من خواص عباد الله تبارك وتعالى الذين هم دون الأنبياء منزلة.
والله أعلم.(21/42)
الفرق بين النبي والرسول
السؤال
ما الفرق بين النبي والرسول؟
الجواب
ما يميل إليه الشيخ عمر سليمان الأشقر: أن الرسول يأتي برسالة جديدة، وأما النبي فلا يأتي برسالة جديدة وإنما يرسله الله عز وجل بشريعة من كان قبله يقررها ويعمل بها ويدعو إليها.
فمثلاً: سيدنا موسى كان رسولاً إلى بني إسرائيل وأتى بشريعة التوراة، والأنبياء ممن أتوا بعده دعوا قومهم إلى الله تبارك وتعالى وبلغوهم وحيه وهو التوراة.(21/43)
مذهب أهل السنة في العمل بأحاديث الآحاد وأدلتهم على ذلك
السؤال
ما حكم العمل بحديث الآحاد؟
الجواب
بالنسبة لحديث الآحاد فالقول الراجح وهو قول الشافعي والبخاري: أنه يعمل به في مجال العقائد.
وهناك رسالة طيبة للشيخ الألباني في حجية خبر الآحاد، والله تعالى يرسل الواحد إلى قومه بالتوحيد، وبعث رسول الله معاذ بن جبل إلى اليمن بالتوحيد، فقال له: (فادعهم إلى عبادة الله تبارك وتعالى، فإن هم أجابوك لذلك) والتوحيد لا يحتمل الشك ولا الظن.
وأيضاً يقول المولى عز وجل في سورة التوبة: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة:122]، والفقه في الدين يشمل الفقه الأكبر وهو التوحيد، والطائفة تطلق على الواحد فما فوقه.
ويقول المولى عز وجل: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]، يقول الإمام البخاري: إن الطائفة تطلق على الواحد فأكثر.
والله أعلم.
فمذهب أهل السنة والجماعة حجية خبر الآحاد في مجال العقائد، وأن الأمة مطالبة شرعاً بالتعبد والعمل بخبر الآحاد.
وبالنسبة لأحاديث عذاب القبر فقال العلماء: هي أحاديث آحاد، ولكن لا يكفر من ينكرها.
والله أعلم.(21/44)
حكم الانتفاع بمال الأب إن كان من حرام
السؤال
ما حكم أكل المرأة وشربها من مال أبيها الذي تعلم أن مصدره حرام؟
الجواب
إن كانت تقيم مع أبويها وينفق عليها والدها، وكان ماله مختلطاً من حلال وحرام، فيجوز لها أن تتورع عنه، وإن كان الغالب على مال أبيها الحلال فيجوز لها من باب الدعوة له أن تأخذ منه، ولكن إن كانت قادرة على الإنفاق على نفسها أو على أهلها من مالها فلا يجوز لها أن تأكل أو تشرب منه.
والله أعلم.(21/45)
حكم مجالسة النصرانية من أجل دعوتها
السؤال
ما حكم مجالسة النصرانية ومحادثتها والأكل من طعامها بقصد دعوتها إلى الإسلام؟
الجواب
يجوز الأكل من مال النصرانية من أجل دعوتها، ويجوز الكلام معها، وإن جاز الأكل جاز الكلام من قبيل الدعوة، ولكن لا تواليها.
والله أعلم.(21/46)
ما ينبغي لطالب العلم من العبادة وطلب العلم
السؤال
ما هي الخصال التي تنصح طلاب العلم بالتحلي بها؟
الجواب
السلفيون المفروض أن يكونوا أرق الناس أفئدة، فالرجل المتحلي بالعلم لا بد أن يكون من أرق الناس، وطالب العلم منوط به حفظ العلوم الشرعية مثل البخاري ومسلم نقول له: طلب العلم أولى، ولكن لو لم تكن كـ البخاري ولا الألباني ولا ابن باز ولا ابن عثيمين، ولا حتى تخطب جمعة، ولا تدرس درساً فعليك أن تحرص على العبادة والطاعات، وعليك الأخذ بقسط وافر من قيام الليل وخاصة في الشتاء، وقد صح عن عمر بن الخطاب أنه قال: الشتاء غنيمة العابدين.
وقال أبو هريرة كما وصح عنه: الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة، فالتعب بالصوم والبرد ينسيك ألم الجوع، ثم تذهب إلى الله عز وجل بيوم قد حكم لك فيه بالصيام.
ويقول الحسن البصري: إن الملائكة لتفرح بالشتاء للمؤمن.
ويقول يحيى بن معاذ: ليل الشتاء طويل فلا تقصره بمنامك، والإسلام نقي فلا تدنسه بآثامك.
فعلى الإنسان أن يكثر من قيام الليل، وعليه أن يكثر من الصيام فيأخذ نفسه ويجربها في صيام الإثنين والخميس، فإن استقامت يجربها في صيام يوم وإفطار يوم، وهذا أفضل الصيام.
وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ما مات حتى سرد الصوم، وكذلك عائشة ومالك بن أنس، لكن لا تأتي اليوم وتقول: أصلي من العشاء إلى الفجر وأصوم يوماً وأفطر يوماً، وبعد أسبوع تبغض نفسك العبادة، فلا تصلي حتى الصلوات الخمس.
فالإنسان يأخذ نفسه بالتدرج حتى يستقيم على حال، فيأخذها بقيام الليل، ثم بالصيام، ثم بكثرة الأذكار، ثم بكثرة ذكر الموت وزيارة المقابر.
ونقول للإخوة: عليكم بصلاة الفجر ولو عرفتم وغلب على ظنكم أنكم لا تصلون الفجر فناموا في المسجد لو كنتم عزاباً، ولو كنتم متزوجين فناموا عند أهاليكم ثم تعالوا إلى المسجد حتى لا تفوتكم صلاة الفجر، يقول صلى الله عليه وسلم: (لو علم الناس ما في ركعتي الفجر لأتوهما ولو حبواً).
وإذا أراد الرجل أن يرطب قلبه فليرطبه عند ثلاث: عند قراءة القرآن، وعند صلاة الفجر، وعند الذكر، فإن وجده وإلا فليعلم أن الباب مغلق، وليسأل الله عز وجل أن يمن عليه بالقلب فليس له قلب.
وبالنسبة للورد القرآني فاجعل لك ورداً تختمه كل أسبوع، تبتدئ من ليلة السبت ثم تختم يوم الخميس، وقد ورد أن الصحابة كانوا يختمون في الأسبوع.
وإن ترقى بك الحال وعظم بك المقام فاختم في كل ثلاثة أيام، ولكن عليك بالوسط، فاختم في الأسبوع، ولا يفوتنك ولو ركعتين من القيام، وعليك بالصيام وكثرة الذكر والصمت وزيارة المقابر وصلاة الجماعة والحرص عليها، والمواظبة على الصف الأول وعلى صلاة الفجر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(21/47)
الرد على مصطفى محمود - تاريخ إنكار السنة
لقد أراد الله الشر كوناً ولم يرده شرعاً، وقدر الله أن يتصارع الخير والشر لحكمة ارتضاها سبحانه وتعالى! وإن من أعظم الشرور في هذا العصر شر القرآنيين الذين أنكروا سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفسروا القرآن بأهوائهم، وحكموا العقل وأعملوه في النصوص، فأقروا ما شاءوا وأنكروا ما شاءوا، فضلوا وأضلوا.(22/1)
الرد على ما ورد من إنكار الدكتور مصطفى محمود للسنة في جريدة الأهرام(22/2)
كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم التي حفظتها المصادر
الشيخ محمد عجاج الخطيب في رسالة الدكتوراه المسماة: (السنة قبل التدوين الفعلي في عهد عمر بن عبد العزيز) قال: حفظت لنا المصادر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوثيقة التي كتبت بينه وبين اليهود وبين مسلمي الأوس والخزرج، قال: وهذه موجودة.
الكتاب الثاني الذي نقله العلماء كتاب أبي بكر لـ أنس بن مالك، حيث كتب له كتاباً فيه الصدقات التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الكتاب الثالث: صحيفة كانت في قائم سيف عمر بن الخطاب فيها صدقة السوائم نقلها عنه عبد الله بن عمر، ثم أخذها سالم بن عبد الله بن عمر فأعطاها لـ عمر بن عبد العزيز.
ثم صحيفة لسيدنا علي بن أبي طالب كان يعلقها في سيفه، كتب فيها أسنان الإبل، وحرم المدينة، وأشياء من الجراحات.
ثم صحيفة عن عبد الله بن مسعود نقلها عنه ابنه عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود، وكان يحلف بالله أن هذا خط أبيه.
ثم صحيفة كتب فيها قيس بن سعد بن عبادة وعبد الله بن أبي أوفى حديث الاستفتاح في الصلاة، دفعها إلى أبي بكر الصديق.
ثم أيضاً كتاب لـ مصعب بن عمير.
وكتاب لـ محمد بن مسلمة الأنصاري وجد في ذؤابة سيفه، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم.
سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إن لربكم في أيام دهركم نفحات؛ فتعرضوا لها).
وكتاب لـ سبيعة الأسلمية تروي فيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بالنكاح بعد وفاة زوجها بقليل لما وضعت، ونقله الخطيب البغدادي في كتاب الكفاية.
وكتاب النبي صلى الله عليه وسلم لـ عمرو بن حزم في الصدقات وفي الأسنان، وفي الديات.
وكتاب سمرة بن جندب نقله عنه ابنه سليمان، قال محمد بن سيرين: في رسالة سمرة إلى بنيه علم كثير.
رواه الإمام البخاري.
وصحيفة جابر بن عبد الله الأنصاري نقلها عنه سيدنا قتادة.
وصحيفة صادقة لـ همام بن منبه موجودة في متحف برلين، ونقلها الدكتور محمد حميد الله فيها مائة وثلاثون حديثاً مروية بسند واحد.
فأين يذهب مصطفى محمود من هذه الكتب؟ وهذه فقط الكتب التي كتبت في عهد النبوة.(22/3)
احتجاج مصطفى محمود بأن السنة إنما جمعها بشر مثلنا والرد عليه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: ففي جريدة الأهرام في يوم السبت الماضي كتب الدكتور مصطفى محمود تحت عنوان: ليس إنكاراً للسنة، قال: أما السنة القولية التي جمعها رواة الأحاديث عن الرسول الكريم فقد جمعها ودونها بشر مثلنا.
فنقول: نعم.
هم بشر؛ لكن ليسوا مثلنا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذي يلونهم)، وسيدنا الإمام أبو حنيفة يقول: ما جاءنا عن رسول الله فعلى الرأس والعين، وما جاءنا عن الصحابة تخيرنا من أقوالهم، وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال؛ لأن العلماء يعدوه من صغار التابعين.
فيقول الدكتور: فهم بشر مثلنا غير معصومين في سلسلة من العنعنات عبر عشرات العصور، لم تدون الأحاديث إلا بعد زمن الخلفاء الراشدين وعلى عهد أيام سلاطين القصور.
وهذا كذب، فقوله: إن السنة لم تدون إلا على عهد سلاطين القصور فيه طعن في عمر بن عبد العزيز فقد كان يلقب خامس الخلفاء الراشدين، وأيامه كانت أيام سنة، ولقد أمر عمر بن عبد العزيز بإحياء السنة وإماتة البدعة، فأيام سلاطين القصور هذه فيها غمز في عمر بن عبد العزيز.(22/4)
احتجاج مصطفى محمود بأحاديث النهي عن تدوين السنة والرد عليه
يقول الدكتور: ولقد أجمع رواة الأحاديث على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن تدوين الأحاديث، وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لـ أبي هريرة.
وهذا أيضاً كذب منه، فالإجماع الذي حكاه الشيخ أحمد محمد شاكر محدث الديار المصرية، والإجماع الذي نقله حافظ الدنيا الإمام الحافظ ابن حجر في فتح الباري على عكس ذلك.
يقول الدكتور: وقد نهى عن تدوين الأحاديث وجاء هذا النهي في أكثر من حديث لـ أبي هريرة وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبي سعيد الخدري وعبد الله بن مسعود في كلمات قطعية لا تقبل اللبس! أقول: أولاً نحسن الظن بكل المسلمين بداية، ونقول: إن الرجل يستفاد منه في مجال عجائب المخلوقات؛ فهذا مجاله، وأما فوق هذا فلا وألف لا، فقد ادعى الإجماع على أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بأخذ الكتب وإحراقها، فمن أين أتت لنا السنة القولية والفعلية؟ والحمد لله أنه قد رد على أمثاله؛ لأن هذا أصل قول المستشرقين، حيث قالوا: إن السنة تأخر تدوينها إلى عهد عمر بن عبد العزيز أو أيام محمد بن شهاب الزهري، فهو أول من دون السنة، وهو رد على ذلك، واستشهد بحديث عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه) رواه الإمام مسلم في كتاب الزهد والرقائق، باب التثبت في الحديث وحكم كتابة العلم.
وقد أجاب العلماء على هذا الحديث بأنه حديث منسوخ بأحاديث أتت من بعده تجوز الكتابة، وحكى ذلك الإمام ابن قتيبة، والإمام أبو سليمان الخطابي في معالم السنن، والشيخ أحمد محمد شاكر شيخ الديار المصرية، وذكر ذلك الحافظ ابن حجر العسقلاني في الفتح، والأحاديث التي فيها أمر بالكتابة وأتت متأخرة عن حديث أبي سعيد الخدري تبين هذا، منها: حديث رواه الإمام البخاري من حديث أبي هريرة: (أن رجلاً من أهل اليمن قال: اكتب لي يا رسول الله! فقال: اكتبوا لأبي فلان).
وفي رواية الإمام مسلم: (اكتبوا لـ أبي شاه) رواه الإمام البخاري في كتاب العلم، باب كتابة العلم، ورواه الإمام مسلم في كتاب تحريم مكة وصيدها.
الحديث الثاني: ما رواه همام بن منبه قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: (ما من أصحاب النبي أحد أكثر حديثاً مني، إلا ما كان من عبد الله بن عمرو -يعني عبد الله بن عمرو بن العاص - فإنه كان يكتب ولا أكتب).
وسيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص له صحيفة تسمى: الصحيفة الصادقة، نقلها علماء الحديث بتمامها، فليس معقولاً أن النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بحرق الأحاديث فيقوم سيدنا عبد الله بن عمرو بن العاص بإخفاء الأحاديث عنه ثم إخراجها بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، وهل يعقل هذا؟ كذلك من الأحاديث في الرد عليه: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه، فنهتني قريش وقالوا: أتكتب كل شيء ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب والرضا؟! فأمسكت عن الكتاب، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فأومأ بإصبعه إلى فيه وقال: اكتب فوالذي نفسي بيده ما يخرج منه إلا حق) رواه الإمام أبو داود والدارمي وأحمد والحاكم في المستدرك والخطيب البغدادي في تقييد العلم، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة.
وقال أبو جحيفة: قلت لـ علي رضي الله عنه: (هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم؟ قال: لا، إلا كتاب الله، أو فهم أعطيه رجل مسلم، أو ما في هذه الصحيفة، قال: قلت: وما هذه الصحيفة؟ قال: فيها العقل -الديات- وفكاك الأسير، وألا يقتل مسلم بكافر) رواه الإمام البخاري ومسلم.
ثم قالوا أيضاً في الرد عليهم: وأين أنتم من كتب النبي صلى الله عليه وسلم إلى هرقل والمقوقس وغيرها؟! فأورد العلماء عدة أقوال في ذلك، منها: أن أحاديث النهي عن الكتابة كانت متقدمة، ثم نسخت بأحاديث إذن النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة أن يكتبوا عنه بعد ذلك.
القول الثاني: أن النهي كان عن كتابة الحديث والقرآن في صحيفة واحدة؛ لئلا يختلط الحديث بالقرآن، كما قال ذلك الإمام أبو سليمان الخطابي والقاضي عياض.
القول الثالث: أن النهي كان خاصاً بوقت نزول القرآن، نقل ذلك الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني.
قال الشيخ شاكر رحمه الله: أجمعت الأمة إجماعاً قطعياً على الأمر بتقييد العلم، والأمر بتقييد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح (1/ 204): الأمر استقر، والإجماع -إجماع الصحابة- انعقد على جواز كتابة العلم، بل على استحبابه، بل لا يبعد وجوبه على من خشي النسيان.
بهذا يكون الكلام الذي قاله الدكتور كذباً حيث يقول: انعقد الإجماع على حرق كل الأحاديث.
ثم يأتي الحافظ ابن حجر العسقلاني الذي هو أعلم الناس في علم الحديث فينقل الإجماع على استحباب تقييد العلم بل على وجوبه ولله الحمد.(22/5)
الأدلة الواردة في وجوب اتباع السنة(22/6)
حرص الصحابة على اتباع السنة وحضهم الناس على ذلك وزجر من خالفها
خير هذه الأمة الذي يعدل إيمانه بإيمان هذه الأمة بأسرها هو سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقد قال: ما كنت تاركاً شيئاً كان يعمل به رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عملت به؛ إني أخشى إن تركت شيئاً من أمره أن أزيغ.
أو أن أضل.
وسيدنا عمر بن الخطاب يقول: أيها الناس! اتهموا العقل على الدين، إن الرأي إنما كان مصيباً من رسول الله؛ لأن الله كان يريه ذلك، وإنما هو منا الظن والتكلف.
وقال سيدنا عمر: إياكم وأصحاب الرأي! فإنهم أعداء السنن، أعيتهم السنن أن يحفظوها فقالوا برأيهم فضلوا وأضلوا.
وقال: أيها الناس! اتهموا الرأي على الدين، فلقد رأيتني يوم أبي جندل وما آلو عن الحق في يوم صلح الحديبية عندما يجيء سهيل بن عمرو إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فيقول لـ علي بن أبي طالب: (اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فيقول سهيل: ما نعرف اسم الرحمن ولكن اكتب مثل ما نكتب: باسمك اللهم) إلى آخر الصلح، فيعترض سيدنا عمر فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أتراني أرضى وتأبى يا عمر؟!) فسيدنا عمر رأى أن الشروط فيها ضرر على المسلمين فقال: (يا رسول الله! أولسنا بالمؤمنين؟ قال: بلى، قال: أوليسوا بالكافرين؟ قال: بلى، قال: أولست برسول الله؟ قال: بلى، قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟) فيقول سيدنا أبو بكر لـ عمر: (الزم غرزه).
وهذا سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: (لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهره).
وهذا سيدنا عبد الله بن عباس يقول للصحابة: أيها الناس! يوشك أن تعذبوا وأن يخسف بكم؛ أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وقال عمر.
وقال: أيها الناس! يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء، أقول لكم قال رسول الله وتقولون قال أبو بكر وقال عمر.
ولما حدث أبو الدرداء معاوية: (أن رسول الله نهى بيع الورق والذهب إلا مثلاً بمثل.
فقال: ولكني لا أرى بهذا بأساً؛ فقال أبو الدرداء: أيها الناس! من يعذرني من معاوية؟! أخبره عن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ويخبرني عن رأيه، لا أساكنك ببلدة أنت فيها).
وعمران بن حصين رضي الله عنه يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الحياء خير كله)، فيقول بشير بن كعب وكان يهودياً فأسلم: ولكنا نجد أن فيه رقة وضعفاً، وأن فيه خيراً، فقال: أحدثك عن رسول الله وتحدثني عن معاريضك! لا آتيك بحديث أبداً، فجعل الصحابة يقولون له: يا أبا نجيد إنه طيب! فما زالوا به حتى سكن عنه غضبه.
وهذا سيدنا عبد الله بن عمر قال عنه سيدنا نافع: لو أن رجلاً رأى عبد الله بن عمر في اتباعه لآثار النبي صلى الله عليه وسلم لقال: جن عبد الله بن عمر، كان يرخي عنان ناقته ويقول لـ نافع: لعل خفاً يقع على خف، أي: لعل خف ناقتي يجيء على خف الناقة التي كان يركب عليها النبي صلى الله عليه وسلم.
وكان يأتي إلى مكان بين مكة والمدينة فيحيد عن الطريق، وعندما يسأل عن ذلك؟ يقول: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك، ويأتي إلى شجرة بعينها يقيل تحتها، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقيل تحتها.
وخير أمور الدين ما كان سنة وشر الأمور المحدثات البدائع(22/7)
الأدلة القرآنية على وجوب اتباع السنة والنهي عن مخالفتها
قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال:24].
الدعوة إلى السنة فيها حياة للقلوب والأرواح: {إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
وقال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:1 - 2].
وقال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].(22/8)
الأدلة من السنة على وجوب اتباع السنة وتحريم مخالفتها
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بين أيديكم أيام الصبر، للمتمسك منهم بما أنتم عليه أجر خمسين شهيداً، قالوا: منهم يا رسول الله؟! قال: بل منكم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية: (عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجد، وإياكم ومحدثات الأمور).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يقول: ما عندنا من كتاب الله أحللنا حلاله وحرمنا حرامه، ألا وإن ما حرم رسول الله كما حرم الله).
وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له عمر بن الخطاب: إنا نجد بعض صحف اليهود فتعجبنا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمتهوكون أنتم بعدي -أي: أمتحيرون أنتم بعدي- وقد جئتكم بها بيضاء نقية؟! والذي نفسي بيده لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
وفي رواية: (أن عمر كانت عنده نسخة من التوراة، فجعل يقرأ فيها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورسول الله يتغير وجهه ويغضب، فقال أبو بكر الصديق لـ عمر: ثكلتك الثواكل إن أغضبت رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال عمر: نعوذ بالله من غضب الله وغضب رسوله! رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمتهوكون أنتم بعدي؟ والله لو كان موسى بن عمران حياً ما وسعه إلا أن يتبعني).
وفي رواية: (والله لو بعث موسى فيكم فاتبعتموه وتركتموني لضللتم).
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما بعد: فإن خير الحديث كتاب الله، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)، وفي رواية: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
فهذه أحاديث وآيات تدل على فضل الاتباع؛ قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:31]، وشأن عظيم أن تحِب وأعظم منه أن تحَب، ولن يحبك الله عز وجل حتى تتبع هدي رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول الله تبارك وتعالى: {وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71] ويقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] فجعل طاعة النبي صلى الله عليه وسلم هي عين طاعة لله عز وجل، وقال الله تبارك وتعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] فهذه طاعة مستقلة لله فيما أمر به من قرآن، ثم طاعة مستقلة لرسول الله فيما حرمه ولم يحرمه الكتاب، ثم لم يفرد طاعة مستقلة لأولي الأمر، وإنما عطف طاعتهم على طاعتهم لله ورسوله كما قال أهل العلم.
وقال تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].(22/9)
مناقشة أقوال من حكموا العقل على النقل والرد عليهم(22/10)
أول معصية سببها تحكيم العقل
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فإن أول من عارض الله بعقله هو أبو مرة إبليس اللعين، فهو أول من عارض الشارع الحكيم، فقد حكم عقله حين أمره الله عز وجل بالسجود لآدم: {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [ص:76] فأول معصية كانت في هذا الكون سببها تقديم العقل وتحكيمه.
يا إخوتاه! العقول بعد مجيء الشرع لا تستقل بتحسين ولا بتقبيح، وإلا فلماذا يزوج الواحد منا ابنته برجل غريب بعدما يجلس طوال عمره يؤكلها ويشربها ويلبسها أحسن الثياب؟! وهناك بعض العقول تقول لك: (جحا أولى بلحم ثوره)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الحمار الأهلي ولم يحرم الحمار الوحشي، أليس هذا حماراً وهذا حماراً، فلماذا يأتي التحريم في هذا والحل في هذا؟ وأكل لحم الخيل حلال، فلماذا يحرم أكل لحم البغال العقول لا تستقل بتحسين أو بتقبيح بعد مجيء الشرع، لكن الشرع هو الحاكم والعقل محكوم عليه، والشرع يأتي بمحارات العقول لا بمحالاتها، أي يأتي بالأشياء التي تحتار العقول فيها من علم الغيب، فيأتي الشرع ليبينها للناس، وسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان همزة الوصل ما بين السماء والأرض.
ونقول للناس: أي عقل نحتكم إليه؟ ألعقل الأوروبي الجاهلي الذي يبيح نكاح المحارم، وزواج الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، ويحل اللواط؟ أنحتكم إلى العقل الأوروبي لأجل أن نخترع القنبلة الذرية؟ أم نحتكم إلى عقل الهندوس الذي أباح لهم عبادة البقر والفئران؟ أم إلى عقل اليابانيين الذين يعبدون بوذا؟ أم إلى عقل عوام المسلمين من بائعي الترمس وبائعي الفول؟ بأي عقل نأخذ؟ عقل الرجل العامي أم الرجل المفكر؟! وفي الفلسفة هل نأخذ بعقل الفلاسفة الإلهيين أم الفلاسفة الماديين؟ وهل نأتي بأقوال لـ أرسطو وهي ما نفعت أمة اليونان ثم نضيع هدينا؟!(22/11)
تاريخ أعداء السنة
يقول الإمام الشافعي: إنما فسد العرب لما اتبعوا لسان أرسطو طاليس.
المعتزلة أتت بالمنطق وحكمته، وأتت بعلم الكلام وتركت لسان الفطرة والهدي القرآني الجميل.(22/12)
تاريخ ظهور المبتدعة الذين ردوا السنة قديماً
وكان أول شيء أنه بدأ تغييب السنة من أيام الخوارج، حيث كفروا سيدنا علياً وحزبه، وسيدنا معاوية وحزبه، وأصحاب الجمل، ومن حضروا موقعة صفين، وقالوا: كل هؤلاء كفرة فكيف يؤخذ منهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟! فأنكروا حد الرجم؛ لأنه أتى من شيعة علي وهم أناس كفار، وأنكروا حدوداً كثيرة لأنها أتت بالسنة عن طريق الصحابة الذين كفروهم.
كذلك الشيعة كفروا الصحابة كلهم، وحكموا بالإسلام لخمسة عشر صحابياً من شيعة علي؛ ولذلك لم يقبلوا الأحاديث المروية عن كل الصحابة الذين كفروهم.
ثم جاء المعتزلة وقالوا: العقل فوق النقل، العقل فوق السنة، وأي حديث يعارض العقل فلا نقبله؛ فقالوا: أحاديث الآحاد لا نأخذ بها في العقيدة، نريد الأحاديث المتواترة، ولذا ردوا حديث رؤية المؤمنين لربهم في الجنة وقد رواه ثلاثون صحابياً، بل إنهم كانوا قليلي أدب، فهذا عمرو بن عبيد شيخ المعتزلة روى له الأعمش حديثاً فقال: لو قابلت الأعمش لقلت له: أنت كذاب، ولو سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لرددته عليه، ولو لقيت الله لقلت له: ما على هذا أخذت الميثاق منا! ويقول النظام: من سمرة بن جندب؟ قبح الله سمرة! ويقول عن عبد الله بن مسعود في حديث انشقاق القمر أنه رآه بعينيه قال: كذب.
ويقول: من علي بن أبي طالب قد أفتى برأيه فضل! ويقول: إن عمر بن الخطاب شك في إيمانه يوم صلح الحديبية.
ويقول: لو شهد عندي علي بن أبي طالب وطلحة والزبير على رابطة بقل ما أخذت بشهادتهم.
إذاً قالوا: إن أحاديث الآحاد كلها لا نأخذ بها؛ وقد حكى الإمام الشافعي في كتابه أنه قابل رجلاً من المبتدعة فقال له الرجل: لو أن رجلاً أخذ بركعتين فقط من الصلاة وأتى بأقل شيء من الصلاة ثبت له حكم الصلاة.(22/13)
ظهور أعداء السنة من القرآنيين في الهند
وقد قتل سنة ألف وتسعمائة واثنين في الهند في قرية تسمى البنجاب رجل مخبول اسمه غلام نبي أو عبد الله الجكرالوي وكان المفروض أن يدخلوه مستشفى المجانين وقد أنشأ جماعة اسمها: جماعة القرآن وقال: لا نأخذ إلا بالقرآن ونرد السنة كلها.
وجاء بعده أحمد برويز جردبوري وأحمد الدين الأمرتسري كل هؤلاء من مبتدعة الهند، وهم موجودون الآن في الهند، ينكرون السنة مطلقاً، فإذا قيل لهم: كيف تصلون؟ قالوا: الصلاة إما فرضان وإما ثلاثة فروض وإما خمسة فروض، المتقدمون منهم قالوا: نصلي خمسة فروض؛ لقول الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [هود:114] فهذه هي الخمسة الفروض.
ثم جاء المتأخرون منهم وقالوا: صلاة الظهر والعصر والمغرب هذه كلها بدعة، فنحن نصلي ثلاث ركعات فقط.
وجاء أناس بعدهم وقالوا: نصلي فرضين فقط، وهما: الصبح والعشاء، والأذان ثابت في السنة لكنهم قالوا: لا يوجد شيء اسمه أذان.
فإن قيل لهم: كيف تصلون؟ يقولون: إن الله كان علياً كبيراً، بدلاً من أن يقول: الله أكبر يقول: إن الله كان علياً كبيراً، ويقرأ الفاتحة ثم يقرأ عدة آيات.
قلنا: فالركوع ستقول فيه: سبحان ربي العظيم وبحمده، يقول لك: بل أركع ثم أقرأ قرآناً بصوت عالٍ.
ستقول له: أذكار الركوع جاءت بها السنة، يقول لك: لا، أنا عندي قرآن.
وفي السجود ستقول: سبحان ربي الأعلى كما جاءت به السنة؟ يقول: لا، أقرأ خمس آيات من كتاب الله، وسجدة واحدة تكفي.
فهذه هي صلاتهم! نأتي إلى الزكاة فنقول: من أين تأخذون نصاب الزكاة؟ قالوا: نكتشفه من القرآن الكريم: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111] فالمال يستوي مع النفس، ثم قال في نصاب البدن: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال:65] فيكون نصاب الأبدان العشر، فكل واحد يشتغل ويأتي فجر اليوم الثاني فيدفع لإمام المسجد عشر ما اكتسبه.
فهذه الزكاة عندهم يومياً.
نأتي إلى الصيام فالمتقدمون منهم قالوا: نصوم شهر رمضان مثل المسلمين، والمتأخرون قالوا: ولماذا شهر رمضان بالذات؟! ثم قالوا: ولماذا نحسب بالحساب القمري؟ فالحساب القمري إنما هو حساب أهل الجاهلية، فنحن نحسب بالحساب الشمسي، ونحدد من واحد وعشرين أكتوبر إلى واحد وعشرين نوفمبر كل سنة فنصومها.
ثم قالوا: ولماذا نصوم الشهر كله؟! (أياماً معدودات) وأياماً هذه جمع قلة، وهي من العدد ثلاثة إلى العدد تسعة، فنصوم من واحد وعشرين رمضان إلى صبيحة يوم العيد، فهذا هو الصوم عند القرآنيين الذين ينكرون السنة! نأتي إلى الشرك فنقول لهم: ما هو الشرك عندكم؟ قالوا: الشرك اتباع السنة، أقسم بالله إنه هذا اعتقادهم، وأما الموت والبرزخ وما بعده فقولون: هذه القبور ما هي إلا مكان لحفظ الأجساد من التعفن، لكن وجد سؤال ملكين، ولا عذاب قبر ولا أي شيء من هذه الأشياء! وعندما قلنا لهم: ما الجنة والنار؟ انقسموا في هذا إلى فريقين: فريق قال: الجنة والنار موجودتان لكن لم يخلقا بعد وسوف يخلقهما الله يوم القيامة.
والفريق الآخر قالوا: الجنة والنار غير موجودتين ولا يوجد بعث، وهذه الحياة ستنقضي، والناس كانوا من قبل يركبون على الحمار والبعير، ونحن الآن في الرقي والتطور، فهذه هي جنة الفردوس بالنسبة للناس.
ولك أن تقول عن هؤلاء ما تريد! اللهم إنا بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا! إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل له من حبك نصيباً.
إلهي! ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله فكن دليلنا.
إلهي! ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه فكن أنيسنا.
إلهي! أتينا أطباء عبادك ليداووا لنا خطايانا فكلهم عليك يدلنا، اللهم عرفنا وجه نبينا في رضوانك والجنة، واحشرنا مع نبينا غير خزايا ولا نادمين، ولا شاكين ولا مفتونين ولا مرتابين.
اللهم اجعل نبينا خير النبيين عندك مكانة، وأعظمهم عندك وسيلة، اللهم اجزه خير ما جازيت نبياً عن أمته، ورسولاً عن دعوته.
اللهم يا ولي الإسلام وأهله! ثبتنا على الإسلام حتى نلقاك عليه، اللهم ثبتنا على القرآن والسنة حتى نلقاك عليهما، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، ولا تشمت بنا الأعداء والحاسدين.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.
إخواني! تبرعات اليوم للفقراء والمساكين وأعمال الدعوة في المركز، ومجلة التوحيد مع فتاوى للشيخ ابن باز هدية، وكتاب الحضارة الإسلامية للدكتور اللواء أحمد عبد الوهاب.(22/14)
مقولات أصحاب حركة التغريب وخطرها على الأمة
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فإن حركة التغريب انتقلت من الهند إلى مصر، والأشاعرة يسميهم العلماء مخانيث المعتزلة؛ لأنهم يقدمون العقل على النقل، ويقولون: أحاديث الآحاد لا نأخذ بها في مجال العقيدة؛ ولذلك فالمدرسة العقلية الحديثة والقديمة ردت أحاديث كثيرة من هذه الأحاديث، كأحاديث نزول المسيح عيسى ابن مريم في آخر الزمان، فقد ردها الشيخ محمد عبده ومحمد رشيد رضا ومحمود شلتوت ومصطفى المراغي ومحمد بخيت المطيعي مع أنهم كانوا مدافعين عن الإسلام في مجالات أخرى، مثل مجال الإصلاح الاجتماعي، لكن في مجال السنة تخبطوا كثيراً، فما أخذوا بأحاديث نزول المسيح عيسى ابن مريم في آخر الزمان، ولا بأحاديث الدجال، فلم يعترفوا بها، ولا بأحاديث انشقاق القمر للنبي صلى الله عليه وسلم، ولا استخراج حظ الشيطان من قلب نبينا صلى الله عليه وسلم، ولا حديث لطم موسى لملك الموت وهو في صحيح البخاري ومسلم.
كذلك ردوا حديث الذبابة، وحكموا العقل حتى في صحيح البخاري ومسلم، وردوا أحاديث كثيرة من السنن وغيرها.
وهذا معمر القذافي بعثت له رابطة العالم الإسلامي رسالة تخاطبه هل هو قال: لابد أن نحذف (قل) من سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] والمعوذتين لأن لفظ (قل) كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر أنه قال هذا الكلام، ولكنه قال أمام الوفد كما هو مسجل: أما السنة القولية فآخذ منها ما يوافق عقلي.
وقد بعث الله الشيخ ابن باز بكتاب يسأله فيه عن حقيقة ما نسب إليه على لسان صحفية إيطالية كتبت عنه كتاباً أسمته: (القذافي نبي الصحراء) وهذه الصحفية قالت له في ضمن ما قالته: كما ينقله الشيخ ابن باز يا نبي الله! هل رعيت الغنم؟ قال: بلى ما بعث الله نبياً إلا ورعى الغنم.
والآن قد تجد رجلاً مثلاً صاحب (مخدرات) يقول لك: أنا (جدع) أنا (ابن بلد) أنا (عترة)، لكن عمرك ما تجد صاحب مخدرات يقول لك: أنا نبي.
محمود أبو رية عدو السنة وعدو أبي هريرة كتب كتاباً اسمه: شيخ المضيرة أبو هريرة كله افتراء على أبي هريرة، وله كتاب اسمه: أضواء على السنة المحمدية أنكر فيه أحاديث كثيرة من البخاري ومسلم، وما مات حتى اسود وجهه، وجعل يصيح في سكرات الموت يقول: ما لي ولـ أبي هريرة! ما لي ولـ أبي هريرة! فانظر كيف انتقم الله منه أشد انتقام، وجعله عبرة في حياته وبعد مماته.
وهناك أناس تبعوا محمود أبو رية في رد السنة مثل: الدكتور أحمد زكي أبو شادي أول رئيس تحرير مجالس العرب الكويتية، حيث قال: إن أحاديث كثيرة في البخاري ومسلم لا يقبلها العقل، ونحكم عليها بالوضع.
وجاء بعده شخص اسمه محمد أبو زيد الدمنهوري قال: إن الاحتكام إلى السنة يصيب الأمة بالصداع، ولن تستريح هذه الأمة من صداعها حتى نبدأ بحرق البخاري ثم بحرق مسلم، وحينئذ ترتاح الأمة من صداعها.
وتبعهم طه حسين، وتوفيق الحكيم وإبراهيم عبد القادر المارزي الذي أنكر حديث الهجرة، ومحمد بخيت المطيعي شيخ الأزهر سابقاً أنكر أحاديث الخلافة، ومحمد عمارة أنكر أحاديث الخلافة وقال: إن هذه الأحاديث دستها قريش لمؤامرة سياسية.
وحسن الترابي أنكر حد الرجم وحد الردة وقال: يجوز في الدولة الإسلامية أن يرتد المسلم أو المسيحي عن دينه، بل يقول بتزويج المسلمة من الكتابي، وهذا موجود في كتابه: تجديد الفكر الديني.
ويقول: ويجوز أن يكون للجنة تسعة أبواب، منها باب يسمى باب الفن، يدخل منه الفنانون إلى الجنة! أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(22/15)
الشفاعة
مسألة الشفاعة من مسائل العقيدة المميزة بين أهل السنة وأصحاب البدع، وقد وردت آيات وأحاديث متواترة تثبت الشفاعة يوم القيامة، ومن الشفاعة ما هو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، ومنها ما هو عام له ولغيره من أمته كالشهداء وغيرهم(23/1)
إثبات أهل السنة للشفاعة وإنكار الخوارج والمعتزلة لها
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: فحديثنا اليوم هو عن الشفاعة.
عن ابن عباس رضي الله عنه قال: خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: إنه سيكون من بعدكم قوم يكذبون بالرجم، وبـ الدجال، وبالشفاعة، وبعذاب القبر، وبقوم يخرجون من النار بعد ما دخلوا.
أي: سيكون في هذه الأمة قوم يكذبون بمسائل من مسائل العقيدة بسبب أنها جاءت عن طريق أخبار الآحاد، وهي عندهم ظنية الدلالة، أي: تفيد الظن ولا تفيد العلم.
والحقيقة: أن أحاديث الشفاعة متواترة عند المحدثين، ولقد جمع العلماء طرق أحاديثها.
أما شبهة أن أخبار الآحاد لا يعمل بها في مجال العقائد فهذه دسيسة من قبل أعداء السنة، ولقد تولى الرد عليهم فأفحمهم الإمام الشافعي في الرسالة، وابن حزم في إحكام الأحكام، وابن القيم في الصواعق المرسلة، وبوب الإمام البخاري في صحيحه فقال: باب أو كتاب أخبار الآحاد، وللشيخ الألباني حفظه الله رسالة مستقلة في أن الحديث حجة بنفسه في مجال العقائد، وللشيخ عبد الله بن جبرين أيضاً رسالة في أخبار الآحاد وفي حجيتها في موضوع العقائد.
أهل السنة في موضوع الشفاعة وسط بين الفرق، فبعض فرق هذه الأمة كالمعتزلة والخوارج أنكرت بعض مقامات الشفاعة، وهي الشفاعة الخاصة بأصحاب الكبائر، وفريق من هذه الأمة غلا في موضوع الشفاعة فأثبتها حتى للأموات، وأطلق إثباتها، وأهل السنة وسط بين الفريقين؛ لأنهم يجمعون بين الأحاديث ولا يأخذون بحديث ويتركون آخر.
فمعنى الشفاعة في اللغة: السؤال في التجاوز عن الذنوب، ويسمى الرجل الذي يشفع: شافعاً أو شفيعاً أو مشفعاً، والذي يقبل الشفاعة يسمى: مشفعاً، وفي الحديث: (إذا بلغ الحد السلطان فلعن الله الشافع والمشفع) فالمعنى اللغوي يوافق المعنى الشرعي في الشفاعة.(23/2)
الجمع بين الأدلة النافية للشفاعة والأدلة المثبتة
وهناك آيات نفت الشفاعة والشفيع، وهناك آيات أثبتت الشفاعة والشفيع، فكيف نجمع بينها؟ فمن الآيات الواردة في نفي الشفاعة قول الله تبارك وتعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة:48].
ويقول الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254].
وقال تعالى: {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ} [يس:23].
هذه ثلاث آيات في نفي الشفاعة.
وهناك آيات في نفي الشفيع، يقول الله تبارك وتعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:51].
وقال تعالى: {وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:70].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس:18].
وقال تعالى أيضاً: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ} [الشعراء:100] فهذه الآيات تنفي الشفيع.
وهناك آيات تثبت الشفاعة والشفيع، يقول الله تبارك وتعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255]، فيكون هناك شفاعة بعد إذن الله تبارك وتعالى.
ويقول الله تبارك وتعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:28].
أما الآيات الواردة لإثبات الشفيع فمنها قول الله تبارك وتعالى: {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} [طه:109].
إذاً: فكيف تجمع بين آيات تثبت الشفاعة وآيات تنفي الشفاعة؟ يقول الله تبارك وتعالى أيضاً: {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86]، (إلا) هنا استثناء ناقص أي: الذين يعبدون الأوثان لا يملكون الشفاعة، لكن يملكها الذين يشهدون بالحق.
مثال للاستثناء الناقص: قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26] يعني: لا يسمعون كلام اللغو والإثم، وإنما قول: (سلاماً).
فنقول: الجمع بين الآيات المثبتة للشفاعة والآيات النافية للشفاعة: أن الآيات النافية للشفاعة المقصود بها نفي الشفاعة التي تطلب من غير الله ابتداءً؛ لقول الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:44].
والآيات التي تثبت الشفاعة نجمع بينها وبين الآيات النافية: أن هناك إثباتاً للشفاعة بشروط وهي: أولاً: قدرة الشافع على الشفاعة، يعني: فلا يستشفع الشخص بأموات لطلب مسألة من مسائل الدنيا! يقول الله تبارك وتعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ:22] يعني: لا يوجد شخص يقول لك: أنا أذهب إلى قبر البدوي وأقول له: اشفع لابني يدخل (بكالوريوس) وينجح في دراسة (البكالوريوس) مجال الطب، هذه لا يملكها.
الشرط الثاني: إسلام المشفوع له، ويستثنى من ذلك عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو طالب.
يقول المولى تبارك وتعالى: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18].
أهل التكفير والهجرة يقولون: هذه الآية تنفي الشفاعة لأن الظالم هو مرتكب الكبائر، فدلت الآية على نفي الشفاعة.
نقول: قال علماء التفسير: الظالمون هنا المقصود بهم الكافرون، قال هذا الحافظ ابن كثير، وقال هذا أيضاً الإمام البيهقي.
قال البيهقي: الظالمون ها هنا هم الكافرون، يشهد لذلك مفتتح الآية، إذ هي في ذكر الكافرين، ويقول الإمام ابن كثير: أي: ليس للذين ظلموا أنفسهم بالشرك بالله من قريب منهم ينفعهم، ولا شفيع يشفع لهم {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر:18] أي: ما للكافرين من حميم ولا شفيع يطاع، يستثنى من ذلك أبو طالب، فالرسول صلى الله عليه وسلم يشفع له يوم القيامة؛ فيجعل في ضحضاح من نار يبلغ إلى كعبيه، وتوضع الجمرة في أخمص قدمه يغلي منها دماغه، فنفعته شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الشرط الثالث: الإذن للشافع: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:255] ولذلك يقول المولى عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: (ارفع رأسك، واشفع تشفع) وذلك حين يأتي للشفاعة العظمى يسجد تحت العرش.
الشرط الرابع: الرضا عن المشفوع له، قال تعالى: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:26] أي: ويرضى عن المشفوع له.
هناك بعض الأحاديث الضعيفة والموضوعة في نفي الشفاعة، ومن الأحاديث التي وضعتها فرقة المعتزلة ونسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليست شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، هذا الحديث لا أصل له، كما ورد في كتاب: أسمى المطالب.
وأيضاً هناك حديث وضعته الشيعة: (ثلاثة أنا شفيع لهم يوم القيامة: الضارب بسيفه أمام ذريتي، والقاضي لهم حوائجهم عندما اضطروا إلي، والمحب لهم بقلبه ولسانه).(23/3)
الشفاعات التي يشفعها الرسول صلى الله عليه وسلم(23/4)
الشفاعة العظمى للنبي صلى الله عليه وسلم
الشفاعة العظمى، وهي شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المحشر، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أنا سيد الناس يوم القيامة، وهل تدرون مم ذاك؟ يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد، فيسمعهم الداعي وينفذهم البصر، وتدنو الشمس، فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون، فيقول الناس: ألا ترون ما قد بلغكم؟ ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض: عليكم بآدم، فيأتون آدم عليه السلام فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأمر الملائكة فسجدوا لك، اشفع لنا إلى ربنا، ألا ترى ما نحن فيه؟! ألا ترى ما قد بلغنا؟! فيقول آدم: إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيته، نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح.
فيأتون نوحاً عليه السلام، ثم بعد ذلك يأتون إبراهيم، ثم بعد ذلك يأتون عيسى، ثم يقول لهم عيسى: اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، فيأتون محمداً فيقولون: يا محمد! أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاتم الأنبياء، قد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك، ألا ترى إلى ما نحن فيه؟ فأقول: أنا لها أنا لها، فأنطلق فآتي تحت العرش، فأسعى ساجداً لربي عز وجل، ثم يفتح علي من المحامد وحسن الثناء ما لم يفتحه على أحد من قبلي، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وسل تعط واشفع تشفع، فأرفع رأسي فأقول: أمتي يا رب! أمتي يا رب! فيقال: يا محمد! أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب)، هذا حديث في شفاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيضاً من الأحاديث الواردة: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (فأنطلق فأستأذن على ربي، فيؤذن لي عليه، فإذا رأيت ربي وقعت له ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأحمد ربي محامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، قل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع، فإذا رأيت ربي وقعت ساجداً، فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، فأحمد ربي بمحامد علمنيها، ثم أشفع، فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة، ثم أرجع فأقول: يا رب! ما بقى في النار إلا من حبسه القرآن، ووجب عليه الخلود).
ومعنى هذا في هذا الحديث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يحد له ثلاثة حدود: أخرج من النار من كان في قلبه مثقال برة من إيمان أخرج من النار من كان في قلبه مثقال خردلة من إيمان أخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان.
وهناك حديث آخر عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يرويه عنه الحسن البصري: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحد له أربعة حدود يشفع فيهم، ثم لا يبقى بعد ذلك إلا قوم نطقوا بالشهادتين، ولم يأتوا بحسنة واحدة، فيأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشفع فيهم فلا يشفع، فيقول الله عز وجل: ليست هذه لك، إنما هي لي هؤلاء عتقائي من النار) يعيرهم أهل النار يقولون: كنتم تعبدون ربكم وكنا لا نعبده، وأنتم معنا في النار؛ فيرسل الله عز وجل ملكاً بكف من ماء فينضحه عليهم، فيخرجون من النار، فلو ضيّفهم واحد من أهل الجنة لوسعهم، وهؤلاء يقال لهم: المحررون.
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: (أرسل إلي أن اقرأ القرآن على حرف، فرددت إلى الله تبارك وتعالى: هون على أمتي.
فرد إلي ثانية: اقرءوا على حرفين، فرددت إليه أن هون على أمتي.
فرد إلي الثالثة: اقرءوا على سبعة أحرف، فلك بكل ردة رددتها مسألة تسألنيها.
فقلت: اللهم اغفر لأمتي اللهم اغفر لأمتي، وأخرت الثالثة ليوم يرغب إلي الخلق كلهم حتى إبراهيم صلى الله عليه وسلم).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا كان يوم القيامة كنت إمام النبيين وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم من غير فخر).
وعن ابن طاوس عن أبيه قال: سمعت ابن عباس رضي الله عنه يقول: اللهم تقبل شفاعة محمد الكبرى، وارفع درجته العليا، وأعطه سؤله في الآخرة والأولى، كما آتيت إبراهيم وموسى.
كل هذه أحاديث في إثبات الشفاعة، والشفاعة العظمى هي المقام المحمود، قال تعالى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء:79]، وقد ورد حديث ضعيف في تفسير المقام المحمود بغير الشفاعة، وأنه الجلوس على العرش.
وقد شنع الكوثري على أهل السنة لأجل هذا الحديث الضعيف الذي ذكر فيه أن المقام المحمود أن الله عز وجل يجلس النبي صلى الله عليه وسلم على العرش، ونسبوا هذا إلى الدارقطني، ومجاهد، وقال في هذا ابن القيم بيتين من الشعر في النونية، ثم حرر هذه المسألة تحريراً طيباً جميلاً الشيخ الألباني رد فيه على الكوثري في مقدمة مختصر العلو وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث صحيح في تفسير المقام المحمود بأنه الشفاعة العظمى.(23/5)
الشفاعات الثابتة للمؤمنين(23/6)
أدلة الشفاعة لأهل الكبائر
ثم هناك شفاعة لأهل الكبائر من أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا النوع من الشفاعة تنكره المعتزلة والخوارج، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لكل نبي دعوة مستجابة يدعو بها، وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيان شفاعته لأهل الكبائر: (إنه خيرني بين أن يدخل نصف أمتي الجنة وبين الشفاعة، فاخترت الشفاعة، قلنا: يا رسول الله! ادع الله أن يجعلنا من أهلها؟ قال: هي لكل مسلم).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم أيضاً في الحديث الذي أخرجه ابن ماجة: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي)، كل هذه أحاديث واردة في إثبات الشفاعة لأهل الكبائر.(23/7)
الشفاعة لقوم قد أمر بهم إلى النار
وهناك شفاعة أيضاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس قد أمر بهم إلى النار، فيستوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم الملائكة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أمر بقوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار فيقولون: يا محمد! ننشدك شفاعة، قال: فآمر الملائكة أن يقفوا بهم، قال: فأنطلق وأستأذن على الله عز وجل، فيؤذن لي، فأسجد فأقول: يا رب قوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار، قال: فيقول: انطلق فأخرج منهم، فأنطلق، فيخرج منهم من شاء الله أن يخرج، ثم ينادي الباقون: يا محمد! ننشدك شفاعة، فأستأذن فيؤذن لي، فأسجد، فيقال لي: ارفع رأسك، وسل تعط، واشفع تشفع، فأثني على الله بثناء لم يثن عليه أحد من قبلي ثم أقول: إن قوم من أمتي قد أمر بهم إلى النار، فيقال: انطلق فأخرج منهم، فيقول: يا رب أخرج منهم من قال لا إله إلا الله ومن كان في قلبه حبة من إيمان؟ قال: فيقول الله عز وجل: يا محمد! ليست تلك لك، تلك لي).
وهؤلاء قوم سيدخلون النار، فيعيرهم أهل النار فيقولون: أنتم كنتم تعبدون الله ولا تشركون به أدخلكم النار، فيحزنون لذلك، فيبعث الله عز وجل ملكاً بكف من ماء فينضح بها في النار، ويغبطهم أهل النار، ثم يخرجون ويدخلون الجنة، فيقال لهم: انطلقوا فتضيفوا الناس لو أن جميعهم نزلوا برجل واحد كان لهم عنده سعة ويسمون: المحررين، وهذا الحديث حديث صحيح.(23/8)
الشفاعة لقوم يدخلون الجنة بغير حساب
وهناك شفاعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم يدخلون الجنة بغير حساب، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أعطيت سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب، وجوههم كالقمر ليلة البدر، وقلوبهم على قلب رجل واحد فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً، فقال أبو بكر رضي الله عنه: فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب حافات وأصحاب البوادي) يعني: غير مكة والمدينة والطائف ثم يصل إلى أن يأخذ بيد قوم من الأعراف.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وعدني ربي سبعين ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب، مع كل ألف سبعون ألفاً وثلاث حثيات من حثيات ربي).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل وعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً بغير حساب، فقال يزيد بن الأخنس السلمي: والله ما أولئك في أمتك يا رسول الله إلا كالذباب الأصهب في الذبان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربي قد وعدني سبعين ألفاً، مع كل ألف سبعين ألفاً مع كل ألف سبعين ألفاً، وزادني حثيات).
وقال: (سألت ربي عز وجل فوعدني أن يدخل من أمتي الجنة سبعين ألفاً على صورة القمر ليلة البدر، فاستزدت فزادني مع كل ألف سبعين ألفاً، فقلت: أي رب! إن لم يكن هؤلاء من مهاجري أمتي؟ قال: إذاً أكملهم لك من الأعراب).
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سألت الله عز وجل الشفاعة لأمتي، فقال: لك سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب قال: قلت: رب زدني، قال: فإنك لك مع كل ألف سبعين ألفاً قال: قلت: رب زدني، قال: فحثا بين يديه وعن يمينه وعن شماله، فقال أبو بكر: حسبنا يا رسول الله! فقال عمر رضي الله عنه: يا أبا بكر دع رسول الله يكثر لنا كما أكثر الله عز وجل قال: فقال أبو بكر: إنما نحن حفنة من حفنات الله عز وجل.
فقال رسول لله: صدق أبو بكر).
كذلك يشفع المصطفى صلى الله عليه وسلم في دخول الناس الجنة يقول: (أنا أول شافع في الجنة)، يعني: يشفع في دخول الناس الجنة، وهذه شفاعة عظيمة.(23/9)
الشفاعة في رفع الدرجات في الجنة
كذلك يشفع في رفع بعض الدرجات لأناس لا يبلغها عملهم، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم عن أبي سلمة رضي الله عنه وقد شق بصره فأغمض عينه ثم قال: (إن الروح إذا قبض أتبعه البصر؛ فصرخ أناس من أهل أبي سلمة فقال: لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، ثم قال: اللهم اغفر لـ أبي سلمة، وارفع درجته في المهديين، واخلفه في عقبه في الغابرين، واغفر لنا وله يا رب العالمين، وأفسح له في قبره، ونور له فيه) فبدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفع الله عز وجل أبا سلمة درجة لا يبلغها عمله.
كذلك دعاؤه صلى الله عليه وسلم لـ عامر بن الأكوع الذي قتل بعد غزوة حنين، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم اغفر لعبيدك عامر اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس)، فهذه الشفاعة تكون لنيل درجات لا تبلغها الأعمال.
وقلنا أيضاً: له شفاعة لعمه أبي طالب، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عله تنفعه شفاعتي يوم القيامة، فيجعل في ضحضاح من النار يبلغ الكعبين؛ فيغلي منهما دماغه).(23/10)
الشفاعات الثابتة للمؤمنين
هل هناك شفاعة لغير رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين؟ نعم، يشفع المؤمنون والشهداء والملائكة.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجل ليس بنبي مثل الحيين: ربيعة ومضر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليدخلن الجنة بشفاعة رجل من أمتي أكثر من بني تميم).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ليخرجن من النار بشفاعة رجل ما هو بنبي أكثر من ربيعة ومضر).
قال الحسن: كانوا يرون أنه عثمان رضي الله عنه أو أويس القرني.
وهناك شفاعة للأولاد يشفعون في آبائهم! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله عز وجل يرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة، فيقول: يا رب أنى لي هذه؟ فيقال: باستغفار ولدك لك).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (أطفال المسلمين الذين يموتون قبل الحلم وصغارهم دعاميص، الجنة يتلقى أحدهم أباه -أو قال: أبويه- فيأخذ بثوبه -أو قال: بيده- كما آخذ أنا بصنفة ثوبك هذا، فلا يتناهى -أو فلا ينتهي- حتى يدخله الله الجنة).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلمين يموت لهما ثلاثة أولاد لم يبلغوا الحلم إلا أدخلهما الله وإياهم بفضل رحمته الجنة، فيقال لهم: ادخلوا الجنة، فيقولون: حتى يجيء أبوانا، ادخلوا الجنة، حتى يجيء أبوانا، ادخلوا الجنة، حتى يجيء أبوانا، فيقولون مثل ذلك؛ فيقال لهم: ادخلوا الجنة أنتم وأبواكم)، وهذا من كرم الله تبارك وتعالى!(23/11)
أسباب الشفاعة يوم القيامة(23/12)
شفاعة القرآن والصيام
هناك أسباب أخرى للشفاعة، فهناك شفاعة للقرآن الكريم والصيام، الصيام والقرآن يشفعان لصاحبهما كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهناك حديث موقوف على أبي هريرة رضي الله عنه، وهو حديث صحيح له حكم الرفع يقول فيه: (اقرءوا القرآن؛ فإنه نعم الشفيع يوم القيامة، يقول القرآن يوم القيامة: يا رب حله حلة الكرامة).
كل أهل الجنة لا يدخلون الجنة إلا وعلى رءوسهم التيجان؛ حتى تقول الملائكة للجنة: طوبى لك يا دار الملوك وحامل القرآن له تاج خاص بالقرآن، وإن كان شهيداً فله كذلك تاج خاص، وقد يلبس ثلاثة تيجان، يقول أبو هريرة: (اقرءوا القرآن؛ فإنه نعم الشفيع يوم القيامة، إنه يقول يوم القيامة: يا رب! حله حلة الكرامة يا رب! اكسه كسوة الكرامة، فيكسى كسوة الكرامة يا رب! أرض عنه، فليس بعد رضاك شيء).
وعن عبد الله بن عمر في الصحيح الموقوف عليه قال: (يجيء القرآن يشفع لصاحبه فيقول: يا رب! لكل عامل عمالة من عمله، وإني كنت أمنعه لذة النوم فأكرمه، فيقال: ابسط يمينك فيملأ من رضوان الله، ثم يقال له: ابسط شمالك فيملأ من رضوان الله، ثم يكسى كسوة الكرامة، ويحلى حلية الكرامة، ويلبس تاج الكرامة).(23/13)
سكنى المدينة المنورة والموت بها
من أسباب الشفاعة أيضاً: سكن المدينة المنورة، والموت بها: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يصبر أحد على لأوائها فيموت إلا كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة إذا كان مسلماً).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من صبر على لأوائها - أي: على شدة المدينة - كنت له شفيعاً أو شهيداً يوم القيامة).(23/14)
الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم
أيضاً من أسباب الشفاعة: الصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطلب الوسيلة له: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون أنا هو، فمن سأل لي الوسيلة حلت له الشفاعة).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سلوا الله لي الوسيلة، فإنه لا يسألها لي عبد في الدنيا إلا كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على محمد صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم أنزله المقعد المقرب عندك يوم القيامة وجبت له شفاعتي)، وهذا الحديث إسناده حسن.
أما قول من قال: (من زار قبري وجبت له شفاعتي) فالحديث ضعيف.(23/15)
شفاعة المصلين على الميت
أيضاً من أسباب الشفاعة شفاعة المصلين على الميت الواحد: يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من ميت يصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون مائة كلهم يشفعون له إلا شفعوا فيه).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل المسلم يقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه).(23/16)
منع اللعانين والمكذبين بالشفاعة من الشفاعة
إذاً: من المسلم الذي لا تقبل شفاعته؟ صنفان من الناس لا تقبل شفاعتهما يوم القيامة وهما: اللعانون والمكذبون بالشفاعة، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن اللعانين لا يكونون شهداء ولا شفعاء يوم القيامة).
فبعض الناس تعودت ألسنتهم على اللعن؛ والجزاء من جنس العمل، فإن اللعن دعاء بالطرد من رحمة الله، فإن لم يكن هو لها أهلاً رجعت عليك.
كذلك من كذب بالشفاعة لا يشفع في الناس، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله: (من كذب بالشفاعة فليس له فيها نصيب)، الذي يكذب بالشفاعة كان جزاؤه من جنس عمله، فلا تقبل شفاعته يوم القيامة.
قد تقبل شفاعته في الدنيا، كأن صادف سارقاً سيذهبون به إلى الحاكم يقول: اتركوه يا جماعة! استروا عليه ربنا يستر علينا وعليكم في الدنيا والآخرة هل تجوز؟ والزبير بن العوام شفع في سارق، لكن هذا إذا لم يصل الأمر إلى السلطان، فإذا وصل الأمر إلى السلطان فلا عفا الله عنا إن عفونا عنه.
كان صفوان بن أمية بن خلف نائماً في المسجد، وثوبه تحت رأسه، فجاء سارق فأخذه، فأتي به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأقر السارق، فقال صفوان: يا رسول الله! أيقطع رجل من العرب في ثوب، قد عفوت عنه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفلا كان هذا قبل أن تجيء به؟ ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: اشفعوا ما لم يصل إلى الوالي، فإذا وصل إلى الوالي فعفا فلا عفا الله عنه، ثم أمر بالقطع من المفصل).
وقال ابن الجوزي في التنقيح: وحديث صفوان حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وابن ماجة وأحمد في مسنده.(23/17)
الذين يؤتون أجرهم مرتين
من الذين يضاعف لهم الله عز وجل الأجر فيعطيهم أجرهم مرتين؟ المولى عز وجل يضاعف الأجر كرماً منه وتفضلاً لبعض خلقه، فيعطيهم الأجر مرتين، ومن هؤلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: فقد صح عن ابن مسعود (أنه دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجده يوعك وعكاً شديداً، فقال له: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً! قال: إني لأوعك كما يوعك الرجلان منكم قال: ذلك أن لك أجرين؟! قال: نعم).
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيه الله عز وجل أجره مرتين.
ومنهم أمهات المؤمنين رضوان الله عليهن: يقول الله عز وجل: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31].
كذلك مؤمن أهل الكتاب الذي آمن بنبيه ثم آمن بالرسول صلى الله عليه وسلم، يعطيه الله عز وجل أجره مرتين: يقول الله عز وجل: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} [القصص:52 - 54].
ويقول علماء الضرار: إن النصارى يدخلون الجنة، فعلماء الوحدة الوطنية يقولون: إن النصارى ليسوا كفاراً، وسيدخلون الجنة؛ لأن هؤلاء مؤمنون برسولهم.
ويحاولوا أن يقرروا كلامهم هذا فيقولون: يقول الله: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة:82]، لكن الآية التي بعدها تبين أنهم آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فالذين يعطيهم الله عز وجل أجراً ومغفرة رجل آمن بنبيه ثم آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، كـ عبد الله بن سلام آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: (يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت، فدخل فاحتبسه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا معشر يهود! ماذا تقولون في عبد الله بن سلام؟ قالوا: حبرنا وابن حبرنا وخيرنا وابن خيرنا! وسيدنا وابن سيدنا! فلما خرج ودعاهم إلى الإسلام قالوا: سفيهنا وابن سفيهنا! وجاهلنا وابن جاهلنا!) فـ عبد الله بن سلام له أجران.
كذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتتعتع فيه وهو عليه شاق له أجران).
كذلك الحاكم المجتهد إذا أصاب الحق له أجران: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد).
كذلك المرأة التي تتصدق على زوجها وهي غنية، فتعطي زوجها ولا تعيره لفقره: يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الصدقة على ذي قرابة يضاعف أجرها مرتين).
وأخرج الشيخان عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما قالت: (جئت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجارات من الأنصار حاجتها حاجتي فخرج علينا بلال فقلنا: له ائت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أن امرأتين بالباب تسألان: أتجزئ الصدقة عنهما على أزواجهما وعلى أيتام في حجرهما، فدخل بلال فسأله فقال صلى الله عليه وسلم: لها أجران؛ أجر القرابة، وأجر الصدقة)، فالحديث جاء يبين فضل الصدقة على الأقارب وأنها تضاعف.
كذلك ممن يؤتيهم الله عز وجل أجرهم مرتين: طالب العلم الذي يبلغه الله عز وجل أمنيته في العلم: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من طلب علماً فأدركه كتب الله له قسمين من الأجر، ومن طلب علم ولم يدركه كتب الله له قسماً من الأجر).
كذلك ممن يعطيهم الله عز وجل أجرهم مرتين: الذي يواظب على صلاة العصر: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم - يعني: العصر - فضيعوها، فمن حفظها اليوم فله أجرها مرتين).
كذلك المجاهد الذي يقتل نفسه خطأ له أجران، كما ثبت في حديث سلمة بن الأكوع قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وكان سيف عامر بن الأكوع فيه قصر، فتناول به ساق يهودي فرجع ذباب السيف فأصاب ركبة عامر؛ فمات منها فقلت: يا رسول الله! زعموا أن عامراً قد حبط عمله فقال: كذاب من قال، إن له لأجرين).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (للماشي في الجنازة قيراطان، وللراكب قيراط).
كذلك الصابرون يعطيهم الله عز وجل أجرهم مرتين، قال تعالى: {أُوْلَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص:54].
فاكظموا الغيظ، فالذي يكظم الغيظ حتى تأتي الفرصة فيعفو له الأجر مرتين، ومن كتم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه له أجر عظيم، قال صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظه وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه نوراً يوم القيامة)، صححه الألباني.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله يوم القيامة فتوجه على رءوس الأشهاد وزوجه من الحور العين ما يشاء).
فاكتموا غيظكم، وحولوه إلى دعوة إلى الله، ولو أن كل أخ دعا عشرة إخوة وكل أخت دعت عشر أخوات إلى الله تبارك وتعالى، وصدقوا الله تبارك وتعالى في دعوة هؤلاء فإن الله يضاعف عدد الإخوة في مصر.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم.(23/18)
الأسئلة(23/19)
وجوب الإيمان بما أخبر الله دون السؤال عن الكيفية
السؤال
ذكرتم في هذا الدرس أن القرآن يشفع لصاحبه ويقول يوم القيامة: يا رب كذا يا رب كذا فهل يتكلم القرآن يوم القيامة وهو ليس بمخلوق؟ وقد سمعت أنه من صفات الله عز وجل ولا يتكلم، فنرجو التوضيح في ذلك وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
مشاهد القيامة مشاهد غريبة لا يتدخل الإنسان فيها بعقله، فتصوروا مثلاً حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه: (يؤتى بالموت على هيئة كبش ويذبح ما بين الجنة والنار).
هل يستطيع إنسان أن يتصور أن الموت يأتي في صورة كبش؟ وهذا مخلوق؛ فكيف بصفات الخالق! القرآن من كلام الله تبارك وتعالى، والكلام صفة من صفات الله تبارك وتعالى، هل يستطيع الإنسان أن يكيف الصفة؟ نحن لا نسأل عن الكيفية، وإنما نؤمن بذلك ونصدقه.(23/20)
حكم تارك الصلاة
السؤال
ما حكم تارك الصلاة؟
الجواب
هذه المسألة اختلف فيها أهل العلم على أقوال، وجمهور أهل العلم منهم الشافعية والمالكية والحنفية وفريق من الحنابلة على رأسهم ابن قدامة الحنبلي ذهبوا إلى أن تارك الصلاة تكاسلاً ليس بكافر، وذهب بعض الحنابلة إلى أن تارك الصلاة كافر، ومنهم الشيخ ابن عثيمين رحمه الله والشيخ ابن باز، والشيخ ابن عثيمين له عندي نص الفتوى التي أرسلها إلي، حيث قال: لو أن عامياً قلد مفتيه وكان مفتيه يقول بأن تارك الصلاة غير كافر ولا يخلد في النار، فقلده في ذلك لا يكفر.
وهذه مسألة مختلف فيها، فجمهور أهل العلم على عدم كفر تارك الصلاة، والذي يرجح هو من يملك أداة الترجيح.
واستدل جمهور أهل العلم بحديث عبد الله بن مسعود أن الرسول صلى الله عليه وسلم: (يأتي قوم لا يعلمون من الإسلام شيئاً لا يدرون ما صلاة ولا زكاة، لا يعلمون إلا قول لا إله إلا الله)، وبأحاديث الشفاعة، وهذا خلاف معتبر، والله أعلم.(23/21)
عدم وجود تعارض بين حديث النهي عن الشفاعة في الحدود وحديث المجيز للشفاعة ما لم تبلغ السلطان
السؤال
قلتم إنه يجوز الشفاعة في الحدود، بينما رفض النبي صلى الله عليه وآله وسلم الشفاعة للمرأة المخزومية وقال لـ أسامة: (أتشفع في حد من حدود الله؟) فهذا يدل على عدم جواز الشفاعة في الحدود، فما قولكم في ذلك؟
الجواب
لا تعارض بين الحديثين، فالحديث الأول الذي ذكرناه يدل على جواز الشفاعة في الحدود ما لم يصل الأمر إلى السلطان، والحديث الثاني يبين أنه إذا وصل الأمر إلى الوالي لا تجوز الشفاعة عند ذلك، فلا تعارض بين الحديثين، فهذا حديث يثبت الشفاعة قبل أن يصل الأمر إلى الوالي، أما إذا وصل الأمر إلى الوالي فليست هناك شفاعة، وفي آخر حديث صفوان: (فإذا وصل الأمر إلى الوالي فلا عفا الله عني إن عفوت) فليس هناك تعارض.(23/22)
إثبات شفاعة الفتاة لأبيها ما لم تبلغ الحلم
السؤال
هل صحيح أن الفتاة التي تموت ولم تتزوج تشفع لوالدها؟
الجواب
الحديث يبين أنهم إن لم يبلغوا الحلم.(23/23)
التنكيس المنهي عنه في قراءة القرآن
السؤال
فضيلة الشيخ! قرأتم في صلاة الجمعة في أول ركعة سورة البروج وفي الثانية بجزء من سورة طه، فهل يجوز ذلك أم أن هذا من التنكيس المنهي عنه؟
الجواب
التنكيس المنهي عنه هو التنكيس في نفس السورة، فلقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل: فقرأ بالبقرة ثم النساء، ثم آل عمران، فهذا فيه جواز التنكيس في غير السورة الواحدة.(23/24)
حال رواية أن عمر بن عبد العزيز قابل الأنبياء عند سكرات الموت
السؤال
حضرت خطبة الجمعة لأحد العلماء، فكان يتكلم عن سوء الخاتمة، وتكلم عن مثالين أو روايتين في حسن الخاتمة: الأولى: عن الخليفة عمر بن عبد العزيز والثانية: عن أبي حامد الغزالي، أما في الأولى فقال: إنه حينما حضرت الوفاة عمر بن عبد العزيز أخرج زوجته فاطمة من الحجرة، فخرجت فوضعت أذنيها على الباب، فسمعت عمر رضي الله تعالى عنه يتكلم مع الأنبياء فيقول: أهلاً بأبي البشر آدم، أهلاً بخليل الرحمن إبراهيم، أهلاً بكليم الله موسى، أهلاً بخير الأنبياء محمد صلى الله عليه وآله وسلم، فهل لهذا أصل ثابت؟
الجواب
لم يثبت هذا، وإنما الثابت في كتب الرقائق كما ذكر ابن الجوزي، وابن رجب الحنبلي، وابن أبي الدنيا، وما ذكر في وصايا العلماء عند الموت: أنه لما جاءته الوفاة أخرج فاطمة من عنده ثم قال: مرحا بوجوه ليست بوجوه إنس ولا جان! ثم تلا قول الله تبارك وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83]، قالت فاطمة: فدخلت عليه فإذا هو ميت، والله وأعلم.
هذا هو الثابت في البداية والنهاية، وصفة الصفوة أو حلية الأولياء أو كتاب ابن الجوزي عن موت عمر بن عبد العزيز ولم يثبت غيره، والله أعلم.(23/25)
حال رواية أن الغزالي رأى ربه قبل الموت جهرة
السؤال
والرواية الثانية ذكرها الخطيب عن أبي حامد الغزالي أنه قال: أحضري لي قميصاً أبيض، ثم اغتسل ونام، ثم مات وترك ورقة مكتوباً فيها أنه رأى الله سبحانه جهرة؛ فهل هذا حقيقي؟
الجواب
يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (واعلموا أنه لن يرى أحد منكم ربه حتى يموت).
أهل السنة والجماعة قالوا في مسألة الرؤية: إنها غير ثابتة لأحد من البشر غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكليم الرحمن موسى عليه السلام من أولي العزم ولم ير ربه، فما ظنك بمن دونه!؟ أما بالنسبة لرؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في دار الدنيا فقد اختلف فيها أهل العلم على قولين، وجمهور أهل السنة والجماعة على أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم ير ربه عياناً، وإنما رآه مناماً، كما ثبت في حديث الترمذي الذي سأل عنه محمد بن إسماعيل البخاري فقال: حديث حسن صحيح، وهو حديث: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة).
فقالوا: إنه رآه مناماً، أما الرؤية الحقيقية فجمهور أهل العلم أنها لم تحدث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنهم عائشة رضوان الله عليها، والذين أثبتوا الرؤيا لرسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ابن عباس رضي الله عنه، وابن عباس جاءت عنه الروايتان، رواية مطلقة ورواية مقيدة، رواية مطلقة تبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه، ورواية مقيدة تبين أنه رأى ربه بعين فؤاده.
والعلماء الذين جمعوا بين الروايتين قالوا: الرواية المطلقة تحمل على المقيدة، فقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بعين فؤاده.
وبعض أهل العلم منهم الحافظ ابن حجر العسقلاني، والإمام القرطبي توقف في مسألة إثبات الرؤية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والرؤيا مناماً لله تبارك وتعالى من أحد البشر كل بكيفيته.(23/26)
حكم الاستمناء باليد للضرورة
السؤال
أعمل في إحدى الشركات، وفي مكان الورشة التي أعمل فيها توجد مواد سامة كلحام من الرصاص والقسطير وغيرها، وقد ذكر الأطباء أن ذلك يسبب أضراراً في الجهاز التناسلي وتشوهاً في المولود، فجرى لنا كشف في الدم، ويريدون تحليل دم ومني، فهل يجوز لي الاستمناء باليد للتحليل، مع العلم أنني لم أتزوج بعد، وأنني أعمل في نفس المكان الذي توجد فيه هذه المواد السامة، أرجو الإجابة؛ لأن آخر موعد للتحليل غداً وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
مذهب الإمام أحمد بن حنبل أنه يجوز ذلك عند الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، والأولى أن تبعث للشيخ ابن عثيمين رسالة في ذلك.(23/27)
زهر البساتين فى فضل الصدق والصادقين
الصدق من صفات المؤمنين، ومن خصال المخلصين، فبه ينال صاحبه رضا ربه، وحب خالقه، فما خاب من صدق، ولا خسر من اتخذ الصدق شعاراً له في حياته.
وللصدق مراتب ودرجات، وقد ورد في فضله الكثير من الأحاديث والآيات.(24/1)
الصدق في القرآن العظيم
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه الإمام أحمد من حديث أبي هريرة وجود إسناده ابن كثير: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة، قيل لـ أبي هريرة: ما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة).
وحديثي اليوم عن الصدق، فالصدق بداية الطريق إلى الله عز وجل، وهو طريق القوم الذي تندرج منه جميع مقامات السالكين، الطريق الواضح الذي من لم يسر عليه لا يصل إلى رب العالمين، به تميز سكان الجنان من سكان النيران، ومحك الأعمال وروحها وأساسها، وهو أساس عمود اليقين، وقد أخبر الله عز وجل أن الفلاح كل الفلاح في مصاحبة الصادقين، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة:119].
وخص الله عز وجل المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ثم قال: {وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69].
وأخبر الله عز وجل أنه لا ينفع يوم القيامة إلا الصدق؛ فقال الله عز وجل: {هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [المائدة:119].
وقسم الله عز وجل العباد إلى صادق ومنافق، قال تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [الأحزاب:24].
وأخبر الله عز وجل أنه لا ينفع إلا الصدق، قال: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد:21].
وأخبر الله عن جميع مقامات الإيمان سواء الظاهرة والباطنة، ثم قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة:177].
كان الفضيل بن عياض يقول: إذا كان الله عز وجل سيسأل الصادقين من أمثال عيسى وموسى ويحيى عن صدقهم، فكيف بالكذابين من أمثالنا؟! ولعظم الصدق أمر الله نبيه أن يسأله أن يهبه مخرج الصدق ومدخل الصدق، فقال تعالى: {وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا} [الإسراء:80].
وأخبر عن خليله أنه دعاه أن يهب له لسان صدق في الآخرين، قال تعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ} [الشعراء:84].
وأخبر عن أهل الجنة أن مقعدهم مقعد الصدق، قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55]، ولله در الصادق شيخ الإسلام ابن تيمية! فقد حبس في سجن القلعة بدمشق وأخذوا منه كل الكتب، ولم يتركوا له إلا المصحف فقط، ففاضت روحه، وكان كثيراً ما يختم القرآن، فقد عكف على ختم القرآن، وفاضت روحه عند تلاوة هذه الآية: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس:2].(24/2)
الأمور المتعلقة بالصدق المذكورة في القرآن
القرآن تكلم عن خمسة أشياء: مخرج الصدق، ومدخل الصدق، ولسان الصدق، وقدم الصدق، ومقعد الصدق.(24/3)
مدخل الصدق ومخرج الصدق
والجامع لهذه الأشياء هو الحق الثابت المتصل بالله ولله، وما كان منها بالله عز وجل وبأمر الله عز وجل، فمخرج الصدق تكون فيه ضامناً على الله عز وجل، متحركاً لأمر من أمور الله عز وجل، كمخرج رسولنا صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، فقد هرب وفر بدينه ليرسي قواعد الإسلام في بلدة أخرى: ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ووده الغرباء ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء كان يلقب بالصادق وما احتملوا صدقه، الحجارة كانت تعلم أنه صادق، كما روى الإمام مسلم يقول سيدنا صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة)، وبرغم هذا ما احتملوا صدقه، فأخذ صدقه ورحل وترك مكة للغوغاء، إذاً: هذا مخرج الصدق.
أما مخرج الكذب فمخرج أبي جهل حينما خرج إلى بدر بعد أن نجت عيرهم، فقالوا: قد نجت العير ولا داعي للقاء محمد، قال: لا، بل نقيم ثلاثة أيام في بدر، ننحر الجزور، ونشرب الخمر، وتعزف القيان حتى تسمع بنا العرب فتخافنا وترهبنا، فكان خروجهم من أجل الكذب ومن أجل الرياء فمات في قليب بدر.
ومدخل الصدق كدخول نبينا صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فقد اعترف زعيم اليهود بنبوته منذ أن رآه، وهذا لأن دخوله صدق، قال عبد الله بن سلام: (لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وكان الناس كنفيه، فلما استبنت وجهه علمت أنه ليس بوجه كذاب على الله عز وجل)، فمن أول نظرة نظرها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أن وجهه لا يمكن أن يكذب على الله عز وجل، بخلاف الكذاب فلو قمت بدهنه مليون سنة بطلاء أبيض فإن ذرات وجهه تنطق بالكذب، قال: (وكان أول ما سمعته منه: أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام تدخلوا الجنة بسلام).
أما دخول الأحزاب المدينة فهذا دخول كذب، فـ عمرو بن عبد ود كان أكبر فارس في الجزيرة العربية، وأراد أن يقفز بفرسه على الخندق وكان عريضاً، ويقول للصحابة: من يبارز؟! من يبارز؟ فقال سيدنا علي: يا رسول الله! أنا لها، وكان سيدنا علي مازال شاباً صغير السن، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (اجلس إنه عمرو)، وفي المرة الثانية يقول عمرو: من يبارز، أما فيكم من يبارز؟ فيقول سيدنا علي: يا رسول الله! دعني له يقول: (اجلس إنه عمراً)، فقال في الثالثة: وإن كان عمرو، فدعا له النبي صلى الله عليه وسلم، فخرج يبارز فقال: من أنت يا بني؟! ينظر إليه نظرة المستهزئ، قال: أنا علي بن أبي طالب، قال: أما كان في أعمامك من يكفيك، إني والله لا أرضى بقتلك! قال: ولكني والله أحب قتلك، فظل يصاوله حتى قتله علي بن أبي طالب، ولما سمع الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك كبر وكبر صحابة رسول الله.
فعندما أراد أبو سفيان ومن معه من الأحزاب دخول المدينة بالزور وبالبهتان وبالكذب، فوالله ما فرقتهم إلا الريح! فما أبقت لهم من كراع ولا خف.
فكل خروج من بيتك تكون فيه ضامناً على الله عز وجل ولأمر من أمور الله عز وجل فهذا مخرج الصدق، وكل دخول في موطن من المواطن تكون فيه ضامناً على الله عز وجل فهذا مدخل الصدق.(24/4)
لسان الصدق
أما لسان الصدق فهو ما يبقيه الله عز وجل من الثناء بعد موت الصالحين، فإن الذرات تنطق بصدقهم بعد أن رحلوا عن الدنيا، كما يقول القائل: كم الفرق بين أناس موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم؟! فيبقي الله عز وجل اللسان العطر، والثناء والمدائح لـ ابن حنبل وبشر بن الحارث الحافي ولغيرهما من العباد ومن الزهاد ومن علماء المسلمين.
فـ بشر بن الحارث الحافي هذا الإمام العظيم الذي قال لما سئل عنه الإمام أحمد قال: مثله مثل رجل ركب على رمح، فهل أبقى مكاناً لغيره، ولما خرجوا بجنازته خرجوا به بعد الفجر وبعد الصلاة عليه، فوالله! ما وصلوا إلى قبره إلا بعد صلاة العشاء، حتى بكى علي بن المديني شيخ البخاري وصاح: هذا والله شرف الدنيا قبل شرف الآخرة، هذا عز الدنيا قبل عز الآخرة.
يقول الشاعر عن الصادقين: والناس موتى وهم يحيون في المقل يعني يحيون في حبات الأعين.
وكما جاء في الأثر: أن الجبل ينادي باسم الصادق: هل مر بك ذاكر لله عز وجل؟ فقال: نعم، قال: أبشر.
بل أكثر من هذا، فإن الجماد يعرف الصادق من الكاذب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مروا عليه بجنازة: (مستريح أو مستراح منه! قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: المستريح العبد المؤمن؛ يستريح من تعب الدنيا ومن نصبها إلى رحمة الله عز وجل، والمستراح منه العبد الفاجر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب)، إذاً: حتى الشجر والجماد والدواب تعرف الصادق من الكاذب: تحيا بكم كل أرض تنزلون بها كأنكم في بقاع الأرض أمطار وتشتهي العين فيكم منظراً حسناً كأنكم في عيون الناس أقمار لا أوحش الله ربعاً من زيارتكم يا من لهم في الحشا والقلب تذكار كم قالوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنه ساحر كذاب وإنه مجنون، بعدما كانوا يلقبونه بالصادق، فلما جاءهم بأمر الله قالوا عنه أنه كذاب، وقد صدقت بنبوته الجمادات: والحق أبلج لو يبغون رؤيته هيهات يبصر من في ناظريه عمى وصرخة الحق تأباها مسامعهم من يسمع الحق منهم يشتكي الصمما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً).(24/5)
مقعد الصدق
جاء في حديث أبي سعيد الخدري قال: (إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف كما تتراءون أنتم النجم الغابر في الأفق من المغرب أو المشرق لتفاضل ما بينهم، قال سيدنا أنس: قلنا يا رسول الله! تلك منازل النبيين لا يبلغها أحد سواهم؟ قال: بلى والذي نفسي بيده! رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين).
ومقعد الصدق هي الجنة سماها الله بذلك، كما سمى الله عز وجل دينه بالصدق: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر:33] فحصر الإسلام كله في الصدق.(24/6)
قدم الصدق
أما قدم الصدق فهو ما تقدمه أنت من الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم، وفسر بعض العلماء قدم الصدق بالإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لا ينجي العبد إلا صدق القلب، وإقرار القلب ويقينه بربوبية الله عز وجل وألوهيته، فقد ينطق الرجل ويعرف بقلبه أن الله عز وجل واحد، وأنه منفرد بالألوهية وأنه هو الرب، قد يعرف بذلك ولا يصدق، فلا يكون عند الله عز وجل إلا كافراً.
قال سيدنا موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا} [الإسراء:102]، ففرعون كان يعلم أن للكون إلهاً، ولم يصدق بذلك.
وأبو طالب كان يعلم بقلبه أن للكون إلهاً، ولم يصدق بذلك: ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً لولا الملامة أو حذار مسبة لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً إذاً: يوجد فرق بين معرفة القلب المعرفة الفهمية بوجود الله عز وجل وألوهيته، وبين صدق القلب، كما قال الله عز وجل عن المنافقين: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:1]، فيؤكد الله عز وجل على كذب نياتهم، وبكذب ما في قلوبهم وإن قالوها بألسنتهم.
ولذلك فإن الصدق أساس كل شيء؛ لأنه إن كان القلب غير مصدق بألوهية الله عز وجل فالعبد يكون بذلك منافقاً، فأساس كل شيء الصدق.(24/7)
كلام أهل العلم في الصدق
ثم تعال بعد ذلك إلى كلام أهل العلم في الصدق، فهناك صدق في الأقوال، ولذلك عندما قال الوليد بن عبد الملك لـ عمر بن عبد العزيز: كذبت، قال: ما كذبت مذ علمت أن الكذب يشين صاحبه.
وقال محمد بن كعب: والله! ما يكذب الكاذب إلا لهوان نفسه عليه! ولذا ذكر من الثلاثة الذين لا يكلمهم الله عز وجل ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم: (ملك كذاب)؛ فالقطر كله ملكه ويكذب، فما الذي يضطره إلى الكذب وهو يستطيع أن يفعل ما يفعل؟! قال عليه الصلاة والسلام: (ملك كذاب، وعائل مستكبر) يعني فقيراً متكبراً.
(وشيخ زان)، أي: بعدما انقطعت أسباب الشهوة ومادة الشهوة من هذا العجوز مازال الفجور فيه.
وقال مطرف بن طريف: والله! ما أود أني كذبت كذبة وأن لي بها الدنيا بأسرها.
وقال إياس بن معاوية بن قرة: والله! ما أود أن أكذب كذبة أعلم أن الله يغفرها وأعطى عليها عشرة آلاف درهم ولا يعلم بها إلا أبي معاوية بن قرة.
ويقول عبد الملك بن مروان لـ إسماعيل بن عبيد الله مؤدب أولاده: علمهم الصدق كما تعلمهم القرآن، وجنبهم الكذب وإن كان فيه القتل.
ومن عظم الصدق وفضله أن الله عز وجل يقول: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ} [آل عمران:95]، ومن عظم الصدق أن الله عز وجل يقول: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} [النساء:122]، {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} [النساء:87]، وأثنى الله عز وجل على أنبيائه بالصدق، قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وقال الله تبارك وتعالى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم:56]، {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} [مريم:54]، وقال الله تعالى عن مريم: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة:75].
قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد:19]، والصديقية أعلى مراتب الدين بعد مرتبة النبوة والرسالة، وهي أعلى من مرتبة التحديث، وعمر كان محدثاً، قال عليه الصلاة والسلام: (إن كان في أمتي محدثون فـ عمر)، والمحدثون أي: أن المولى عز وجل يقذف في قلوبهم الإلهام، فيخبر بشيء في الغد فيحدث مثل حادثة: يا سارية الجبل! ومن استرعى الذئب ظلم.
وأعلى مقامات الصديقية كانت لسيدنا أبي بكر الصديق، قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وصدق به سيدنا أبو بكر الصديق، قال سيدنا علي رضي الله عنه: والذي نفسي بيده! إن الله سمى أبا بكر في السماء صديقاً.
وأكثر الناس لو قلت لهم: أتعرف اسم سيدنا أبو بكر الصديق؟ تجد تسعين في المائة من المسلمين لا يعلمون اسمه الحقيقي، وإنما يعلمونه بكنيته وصفته أبو بكر الصديق، لكن اسمه الحقيقي لا يعلمونه وما ضره ذلك، فقد انتشر بين الناس صدقه فالكل يعرفه بأنه الصديق.
ومسيلمة مدعي النبوة، كل الناس يعلمون أنه مسيلمة الكذاب، إلى درجة أنه عندما ذهب إليه سيدنا عمرو بن العاص قبل أن يسلم، فقال له: أسمعك ما جاء به جبريل، قال: أسمعني، قال له: والذاريات ذرواً فالطاحنات طحناً، فالعاجنات عجناً إهالة وسمناً، ثم قال له: ما رأيك؟ قال: والله يا مسيلمة! إنك لتعلم أني أعلم أنك كاذب، أو قال: إنك -يا مسيلمة! - تعرف أنني أكذبك.(24/8)
درجات الصدق(24/9)
الصدق في القصد
ومن درجات الصدق: صدق القصد، وهو الذي يكون بقلبه مريداً وجه الله عز وجل والدار الآخرة، فالدرجة الأولى: أنه لا يصبر على صحبة ضد، ولا يتحمل داعية تدعوه إلى نقض عقد، ولا يقعد عن الحال بجد.
ومعنى هذا الكلام أن الرجل الصادق الذي يريد وجه الله عز وجل والدار الآخرة، ويريد أن يصحح ما فاته وما فرط من حق الله عز وجل وغفلته عما أريد له من الحياة مع الحق فلا يصبر على صحبة ضد، فعندما يتوب لا يستطيع أن يعيش مع أهل البطالة والغفلة، ولا يصبر على صحبة ضد، كما يقول القائل: والله ما طلعت شمس ولا غربت إلا وحبك مقرون بأنفاسي ولا جلست إلى قوم أحدثهم إلا وأنت حديثي بين جلاسي وقال آخر: وشغلت عن فهم الحديث سوى ما كان عنك فإنه شغلي وأديم نحو محدثي وجهي لأرى أن قد عقلت وعندكم عقلي فالإنسان إذا رضي بصحبة أهل البطالة فليعلم أنه ميت يسعى إلى موتى مثله، زمن يسعى إلى زمنى مثله، قبر يسعى إلى قبور مثله.
ولا يصبر على صحبة ضد، ولا يقعد عن الحال بجد، فيقول: فاتني الكثير مع الله عز وجل وما بقيت إلا بقية قد تكون نفساً أو نفسين أو أنفاساً.
ولا ينقض مع الله عهد، فهذه هي الدرجة الأولى من درجات الصدق.
الدرجة الثانية: لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص.
فلا يتمنى الحياة من أجل أن يستلذ بالشهوة من طعام أو شراب أو نكاح، وإنما يتمنى الحياة من أجل الحق، فكل شيء يقربه إلى الله عز وجل، كما قال سيدنا عمر: لولا ثلاث ما أحببت البقاء في الدنيا: لولا سيري على جياد الخيل في سبيل الله، أو أضع جبهتي في التراب ساجداً، أو أجالس قوماً ينتقون أطايب الكلام كما ينتقى أطايب الثمر، يعني: لولا الجهاد والصلاة في الليل، وحضور مجالس العلم ما أحببت البقاء في الدنيا.
وسيدنا معاذ بن جبل مقدام العلماء يقول: اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لكري الأنهار ولا لغرس الأشجار، وإنما لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
قيل لـ حذيفة بن اليمان: ما تشتهي عند الموت، قال: أشتهي الجنة.
قيل لـ عمرو بن عبد قيس: ما تشتهي؟ قال: ليلة بعيد ما بين طرفيها، -ليلة شتاء طويلة- أحييها تهجداً لله عز وجل، هذه الدرجة الثانية من درجات الصدق.
الدرجة الثانية لا يتمنى الحياة إلا للحق، ولا يلتفت إلى ترفيه الرخص، يعني: إذا أعطاه الله رخصة مثل رخصة قصر الصلاة في السفر، فهو لا يأتيها من أجل الترفيه، وإنما يأتيها رضاء بحكم الله عز وجل وتنفيذاً لأمر الله عز وجل، فلا يلتفت إلى ترفيه الرخص، فقد يأتي شخص ويقول لك في مسألة الحجاب والنقاب، يقول: أبحث عن الأولى، وآخر يقول: أنا آخذ بقول جمهور أهل العلم أن الحجاب ليس بفرض، وآخر يقول: آخذ بقول الإمام أحمد أن النقاب هو فرض، والمصيبة أن يأتي أحد الناس يستوي عنده الراجح والمرجوح فيقول: هات لي أسهل قول قال به عالم، ثم يرقع دينه بأقوال العلماء السهلة، بل وبالأقوال التي ظهر أنها خاطئة.
والغناء لا يوجد شخص قال إنه يجوز، فيترك كل العلماء والأحاديث ويقول لك: قد قال ابن حزم بجوازها وقد خطأه العلماء فيها.
وبعض متأخري الأحناف قالوا: حجاب المرأة -وهذا قول ضعيف جداً ولا يقول به أحد- حجاب المرأة إلى منتصف ساقيها، فلو أتيت بامرأة لابسة إلى منتصف ساقيها وتغني الأغاني على مذهب ابن حزم إذاً: فهذه ممكن تكون أختاً ملتزمة! وكذلك يشرب نبيذ التمر على قول أبي حنيفة والبغداديين، وبعد ذلك لا يوجد التزام بالدين، وهذا يؤدي بصاحبه إلى الزندقة، كما قال أهل العلم: من تتبع رخص العلماء وأقوال العلماء الخاطئة وجعل منها ديناً يدين الله عز وجل به فهذا يؤدي به إلى الزندقة، فإن كان يوجد رخصة شرعية فافعلها فإن هذا من رحمة الله تبارك وتعالى بك، وإن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معاصيه.
الدرجة الثالثة: الصدق في معرفة الصدق: ومعنى ذلك أنك أولاً تعرف الصدق، وما هو المخالف له، وما هي درجاته، ثم بعد ذلك تبدأ في بنيان أمرك على هذا، ونتيجة الصدق أن يرضى عنك ربنا، وتعرف أن الله عز وجل راضٍ عنك قالوا: حتى تصل إلى هذا فإنك تضطر إلى متابعة رسول الله في أي شيء، فإذا رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً ورسولاً وتابعته رضي الله عنك في النهاية.
إذاً: عليك أن تتحرى المتابعة لتفوز برضا الله عز وجل ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم.
وهناك صدق بعد هذا من مقامات الدين، وهو صدق في المحاسبة، فهل أنت فعلاً تحاسب نفسك؟ قال ميمون بن مهران: الصادق في محاسبته يحاسب نفسه على الفلتات والزلات والهفوات مثل الشريك البخيل، يظل قائماً على رأسك فيحاسبك على الشيء اليسير، وكذلك أنت تحاسب نفسك على كل هفوة وغفلة، وعلى كل بادرة بدرت منك في حق مولاك.
يقول عمر: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزن عليكم، وتهيئوا للعرض الأكبر على ربكم، {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18].
كان أحد العباد يأتي في موطن الجهاد يقول: اللهم إن نفسي هذه تزعم في الرخاء أنها تحبك، اللهم إن كانت صادقة فأعطها ما تريد، وإن كانت كاذبة فاحملها على ما تكره، وأطعم لحمي سباعاً وطيراً، وكان له ما أراد.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم للأعرابي: (إن تصدق الله يصدقك)، وقال: (أفلح إن صدق).
وهذا رجل من العباد لبس أحسن ثيابه، وكان ثوباً أبيض وجبة بيضاء، فلما مر بمروج قال: ما أحلى تحدر الدم على هذه الجبة، وأشار إلى منطقة في صدره، فلما مر بهذا المرج قال: ما أجمل هذا الوادي لو أن رجلاً صاح: يا خيل الله اركبي! قالوا: فوالله! ما أتم كلمته حتى دعا داعي الجهاد، وقد رأى هو في المنام قبلها أن امرأة من أهل الجنة تقول له: سيكون إفطارك غداً عندنا في الجنة، فأصبح من يومه صائماً، فلما دعا داعي الجهاد كان في طليعة القوم، فقذف بالرمح في نفس المكان الذي أشار إليه، ولكن كان الجرح صغيراً لا يقتل نملة، فظل يداعب جرحه، ويقول: والله! إنك لصغير وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً، ومع غروب الشمس فاضت روحه إلى بارئها، ومات وهو صائم.
الصدق في محاسبة النفس: توبة بن الصمة كان بالرقة وكان محاسباً لنفسه، وكان عمره اثنتين وستين سنة، فحسب عدد أيام عمره فوجدها (21500) يوم، قال: كيف ألقى الجليل بـ (21500) ذنب، هذا إذا كان في كل يوم ذنب واحد، فكيف وفي كل يوم عشرة آلاف ذنب؟ فغشي عليه فمات من شدة محاسبته نفسه وكان صادقاً، فرأى ابنه من يقول له: يا لك رقدة إلى الفردوس الأعلى! أبوك حاسب نفسه حتى أنه مات في المحاسبة.
والصدق في التوبة: فلا تكون توبتك توبة علة، فقد يكون سن الرجل سبعين سنة، وبعد ذلك يقول: الحمد لله تبنا إلى الله عز وجل، وهو لم يتب بعد، ولكن بسبب انقطاع مادة الشهوة، ولذلك يتمنى الرجوع ويقول: ما أجمل الشباب! ويتذكر حلاوة مواقعة الذنب الفينة بعد الفينة، فهذه علامة أنه كذاب.
رجل يتوب لغرض دنيوي، يقول: أتوب من أجل أن يوسع الله لي الرزق، فهذا يتوب لعز التوبة ولا يتوب لذي الجلال، والرجل الذي يتذكر حلاوة الذنب الفينة بعد الفينة، هذا يدل على أن توبته توبة علة.
أما توبة الصدق مثل توبة ماعز فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: (والله! لقد تاب توبة لو فرقت على أمة لوسعتهم)، ومثل صدق الغامدية في توبتها، عند أن سبها سيدنا خالد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (مهلاً يا خالد! والله! لقد تابت توبة لو فعلها صاحب مكس لوسعته).
ومثل توبة الفضيل بن عياض فقد كان سارقاً، وكان صاحب نساء، وبينما هو ذات يوم يتسلق الجدار ليصل إلى معشوقته سمع قول الله عز وجل: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد:16] قال: آن الأوان يا رب! ونزل من على الجدار وأراد أن يذهب إلى خربة لينام فيها، فسمع التجار الذين كانوا في الخربة قالوا: إن الفضيل اليوم على الطريق، فلا تخرجوا.
فأعلن توبته، وتمر الأيام وسيدنا سفيان بن عيينة شيخ الإمام الشافعي يميل على يد الفضيل ويقبلها، وعندما مات قال هارون الرشيد: بموت الفضيل يرتفع الحزن والورع من الأرض.
سيدنا عبد الله بن المبارك يقول: كنت كلما قسا قلبي نظرت إلى وجه الفضيل فجدد لي الحزن فأمقت نفسي.
الفضيل بن عياض علم وسيد من سادات الربانيين، يثني عليه العلماء، وكان في البداية سارقاً وقاطعاً للطريق، وصاحباً للنساء.
وبشر بن الحارث الحافي فالإمام أحمد عندما ثبت في محنة خلق القرآن قال لهم: ماذا قال عنا بشر؟ قالوا: قد رضي قولك وفعلك، قال: الحمد الله الذي رضى بشراً بما صنعنا، وكان في بداية أمره يعشق اللهو، وكان غنياً من الأغنياء وكان يجمع في بيته مغنيات وقياناً، فمر بالقصر رجل من الزهاد، قال: لمن هذا القصر؛ لعبد أم لحر؟ -يسأل خادمة البيت- قالت: لحر، قال: صدقت يا بنية! والله لو كان عبداً لاستعمل آداب العبودية، أي: لو كان عبداً لله بالفعل فإنه سيتأدب مع ربه، فسمع بشر بن الحارث الحافي، فخرج وراءه وارتمى على الأرض ومرغ خديه على الأرض، وقال: بل عبد، ثم تاب، ولم يلبس حذاء طول عمره، وكان يقول: طريق صالحت به ربي ألتزمه ما حييت.
وعندما أكون صادقاً في التوبة فإن ربنا يعطني بساتين طاعات في القلب لا أشعر بها.
قال ذو النون المصري: رأيت ضفدعة خرجت من غدير وإذا بأفعى ترتقي ظهرها، فقلت: والله إن لهذه الضفدعة والحية لشأنا(24/10)
الصدق في النيات والأعمال
ومن درجات الصدق: الصدق في النيات، في أن تنوي بباطنك أن يكون هذا العمل خالصاً لله عز وجل، لا تبتغي جاهاً ولا منزلة ولا هرباً من ذم الناس، وإنما تريد بباطن عملك وجه الله عز وجل: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21].
ثم بعد ذلك: الصدق في الأعمال، وهو استواء ظاهر العمل على المتابعة لله ولرسوله، أي: أن يكون ظاهر العمل وعلى الكتاب والسنة.
بل قال أبو يعقوب النهرجوري: الصدق استواء السريرة والعلانية بأن يكون ما تبطن مثلما تظهر تماماً، ولذلك بكى أحد العباد وهو أبو عبد الرحمن الزاهد وقال: يا رب! عاملت عبادك فيما بيني وبينهم بالأمانة وعاملتك فيما بيني وبينك بالخيانة.
إذاً: الصدق في الأعمال استواء ظاهر العمل وباطنه، أن يكون ظاهر العمل على الكتاب والسنة واستواء السريرة والعلانية.(24/11)
الصدق في العزم
ثم هناك صدق في العزم، مثلاً: يقول رجل: أعزم لو أعطاني الله عز وجل مالاً لأتصدقن به أو سأخرج لله منه، مثلما قال سيدنا عمر: والله! لئن أتقدم فتضرب عنقي أحب إلي من أن أتأمر على قوم فيهم أبو بكر الصديق، وهو صادق في عزمه هذا.
وهناك كثير من الخطباء يذكر قصة الصحابي الجليل ثعلبة بن حاطب وهذه القصة كلها كذب وحديثها لا يصح، وهي: أن ثعلبة كان يسمى حمامة المسجد، وقال: إن أعطاني الله مالاً لأتصدقن.
والله عز وجل أعطاه مالاً فلم يتصدق، والرسول سأل عنه، فقالوا: لقد غاب عن الجماعة، ولم يخرج زكاة ماله.
وهذا الكلام كله كذب لم يحصل، وإن قال به بعض الخطباء؛ لأن الرجل الذي يمتنع عن الزكاة في الدولة الإسلامية يؤخذ منه شطر ماله، فشطر ماله عزمة من عزمات ربنا كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وصدق على الوفاء بالعزم بأن يعزم قبل أن يعمل الشيء، ثم يوفي بعزمه هذا، لذلك لما غاب سيدنا أنس بن النضر عن أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي غزوة بدر حز ذلك في نفسه، ثم قال: والله! لئن أشهدني الله مشهداً معهم ليرين الله ما أصنع.
أي: سيرى الله ماذا سأعمل بالكافرين، فلما كان يوم أحد واستقبل الجبل، قال له سيدنا سعد بن معاذ: إلى أين يا أبا عمرو؟! قال: إليك عني، واها لريح الجنة! إني لأشم ريحها دون أحد.
ولذلك قال أبو تراب النخشبي: إن الصادق يعطيه الله عز وجل حلاوة العمل قبل الشروع فيه، فسيدنا أنس بن النضر لم يحارب بعد وإذا به يشم رائحة الجنة.
قالوا: ثلاثة لا تخطئ الصادق: الحلاوة والملاحة والهيبة، حلاوة المنطق مثل سيدنا الحسن البصري، والملاحة مثل سيدنا وكيع بن الجراح الذي ينظر إليه الإنسان فيقول: هذا ملك كريم، والهيبة مثل سيدنا مالك بن أنس، فقد كان أمير المدينة يقول: والله! لحملي غبار العقيق على رأسي -أي: أن أحمل غبار جبل على رأسي- أهون علي من لقاء مالك.
فوالله! ما عرفت الذل إلا ببابه.
فسيدنا أنس بن النضر قال: إليك عني واها لريح الجنة! إني لأشم رائحة الجنة من دون أحد، فلما تقدم إلى القتال قاتل حتى قتل، قالت أخته الربيع بنت النضر: فما عرفته إلا ببنانه، وفيه نزل قول الله عز وجل: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب:23].
ومن الصادقين صديق الأنصار سيدنا سعد بن معاذ كما يلقبه ابن القيم يقول: إنه صديق الأنصار، فقد كانت منزلته لصدقه في الأنصار مثل منزلة أبي بكر في المهاجرين، وفي يوم بدر قال لرسول صلى الله عليه وسلم: إنا لصبر في الحرب صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك.
هذا الصديق العظيم ثاني الصديقين في هذه الأمة سيدنا سعد بن معاذ، أصيب في أكحله في غزوة من الغزوات فتناثر الدم -وأكبر شريان في جسمه هو الشريان الموجود في الكاحل- وتقاطر الدم على كل من في الخيمة، وأراد رسول الله أن يعالجه فلم يبرأ الجرح، وكذلك فعل سيدنا أبو بكر وسيدنا عمر حتى بكى سيدنا رسول الله، وضعه في حجره وبكى، قال: (اللهم إني قد رضيت عن سعد، فارض عنه).
ومازال يعالجه والجرح لم يشف، انظر قوة دفع الدم من الشريان فنطق هذا الصديق بكلمة واحدة قال: اللهم إن كنت قد أبقيت رسولك لحرب يهود فأبقني، قالوا: فوالله! ما نزف الشريان وما قطر الشريان قطرة واحدة بعد ذلك، واحتبس الدم وعالجوه عند رفيدة الطبيبة الأنصارية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه كل يوم، ونزل سيدنا جبريل في يوم من الأيام على رسول الله وكان مؤتزراً بعمامته فقال: من هذا الذي مات من أمتك؟ ونزل إلى الأرض من الملائكة سبعون ألف ملك لجنازته ما نزلوا إلى الأرض قبل يومهم هذا، فسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرع إلى رفيدة، فقالت: يا رسول الله! اشتد به الوجع فأتى قومه بنو عبد الأشهل فحملوه إلى ديارهم، فأسرع رسول الله السير لتشييعه، فقالوا: يا رسول الله! أتعبتنا جداً تقطعت شسوعنا، قال: (أخاف أن تسبقنا إليه الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة، فلما وقف رسول الله على بابه وجد أمه تنوح)، وأغلب النساء النائحات يكن كاذبات، فرسول الله صلى الله عليه وسلم وكأن الصدق وصل من قلب سعد إلى أمه، فما ناحت عليه إلا بصدق، قالت له: ويل ابنك سعد حزامة وجداً وفارساً معداً، تبكي فروسيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل نائحة تكذب إلا أم سعد أو إلا نائحة سعد).
ولما وضعوه في قبره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد)، لأنه بعدما حارب رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود فرفضوا أن ينزلوا على حكم رسول الله، وقالوا: ننزل على حكم سعد بن معاذ؛ ظناً منهم أنه سيحابيهم، فسيدنا سعد حكم فيهم وقال: حكمي فيهم أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى نساؤهم وذراريهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والله! لقد حكمت فيهم يا سعد! بحكم الله من فوق سبع سماوات)، وفي رواية: (والله يا سعد! لقد حكمت فيهم بحكم الملك) أي: الحكم الذي يريده الله، وحكم الله هو الذي نطقت به يا سعد، فانظر لرجل موافق حكمه وقوله قول الله عز وجل، أي رجال أعز من هؤلاء؟! ثم بعد أن تم إعدام اليهود على ضوء سعف النخيل، وكان سيدنا علي بن أبي طالب هو الذي يتولى قطع أعناقهم، وبعد أن رجموهم ذهب سيدنا سعد ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم افجره؛ شوقاً إليك، أي: الشريان الذي كان ينزف، فانفجر الشريان؛ لأنه صدق في الدعاء وفي القول، فقال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن عرش الرحمن اهتز لموت سعد)، وفي رواية جود إسنادها الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء قال: (إن عرش الرحمن اهتز فرحاً بموت سعد اشتاق إلى الله عز وجل)، ولما أخذوا في دفنه خرجت روائح المسك من قبره.(24/12)
الصدق في الأقوال
أول درجات الصدق: الصدق في الأقوال: حتى يتم للعبد كمال الصدق، فلابد أن يكون عنده صدق في الأقوال، وصدق في الأحوال، وصدق في الأعمال.
صدق في الأقوال: استواء اللسان على الصدق.
صدق الأعمال: أن يكون ظاهر العمل على المتابعة للكتاب والسنة.
صدق في الأحوال: أن تكون النية لله عز وجل، وأن يكون باطن العمل لله عز وجل.
والصدق مفتاح الصديقية، ولا ينال هذه الدرجة كاذب على الله عز وجل بنفي ما أثبت من الأسماء والصفات، أو إثبات ما نفي، أو بتحريم ما أحل، أو بتحليل ما حرم، ولا ينالها كاذب على الله عز وجل فيما شرعه.
وكمال هذه الدرجة أن يحترز الإنسان عن المعاريض، يعني: لا يلجأ إلى المعاريض إلا إذا علم هلاك عمره، يعني: لا تعلم ابنك وتقول له: قل: أبي ليس هاهنا، بحيث إنه يعمل دائرة ويضع أصبعه في نصف الدائرة، فيقصد: أبي ليس في هذه الدائرة، فلا يلجأ لهذه المعاريض إلا عندما تتيقن أنه سيضيع عمرك، وأنه سيظل السائل عنك يتكلم معك عشر ساعات، أما أن تعلم لابنك أن يقول: أبي ليس هاهنا ويضع أصبعه في نصف الدائرة، ويظن بهذا أنه ليس كاذباً، فيجب أن يراعي حقيقة المعاني التي ينطق بها.
رجل عند أن يدخل في الصلاة يقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً، وقلبه عند مباراة الأهلي والزمالك، فلا ينفع هذا، فهو لم يوجه وجهه ولا شيء من هذا القبيل.
رجل عند أن يدخل في الصلاة يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة:5]، إذاً: لن يتحلى العبد بالعبودية التامة لله عز وجل حتى يتخلص من كل رق: رق الشهوات والأموال والجاه والرياسة، وهنا تحل العبودية الكاملة لله عز وجل.
إذاً: للعبودية معنى، فكل من تقيد بقيد شيء فهو عبد له، قال عليه الصلاة والسلام: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة!).
وكمال الصدق في القول أن تصدق في موطن لا ينجيك فيه إلا الكذب، مثل سيدنا ربعي بن حراش وهو أحد رواة الكتب الستة، وهذا العبد الصادق ما كذب قط، وكان الحجاج يطارد ابنيه، فقالوا للحجاج: لو قلت لـ ربعي عن مكان ولديه لم يكذبك أبداً، فأتى بـ ربعي بن حراش فقال له: أين ولداك؟ قال: الله المستعان! هما في البيت، يعني: مخبئهم في البيت، فأعجبه صدقه فعفا عن ولديه، قال: عفونا عنهما من أجل صدقك.
الجيلاني إمام من أئمة أهل السنة والجماعة، من أئمة الحنابلة، تعلم على يديه ابن قدامة، والإمام ابن قدامة شيخ كبار الحنابلة، قال الجيلاني: خرجت في طلب العلم وأنا ابن سبع، فمررنا بأرض يقال لها همدان، فخرج علينا جماعة من الأعراب -من اللصوص- سرقوا كل ما عندنا، فأتى إلي لص كبير، وقال: ما معك؟ قلت: أربعون ديناراً -يعني: أربعون جنيهاً من الذهب- فتركه، ثم أتى إليه لص آخر قال: ما تحمل؟ قال: أربعون ديناراً، فأتى به إلى كبير اللصوص، قال: ما حملك على أن تقول ذلك، لماذا لم تكذب؟ قال: عاهدت أمي على الصدق فلا أخون عهدها، فبكى كبير قطاع اللصوص وقال: أنت لا تخون عهد أمك وأنا لا أبالي ألا أخون عهد الله عز وجل، فأنا تائب اليوم على يديك، فقال بقية اللصوص: كنت كبيرنا في السرقة، فأنت اليوم كبيرنا في التوبة، وتابوا على يد الجيلاني على يد طفل صادق.(24/13)
الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان
لقد خلق الله السماوات والأرض قبل أن يخلق بني آدم، وقدر فيها الخير والشر، وجعل من عباده الأخيار والفجار، وفاوت بينهم في الأعمال والمنازل في الدنيا والآخرة، فلا يستوي أولياء الرحمن وأولياء الشيطان في كل المراحل والأزمان.(25/1)
محنة في فلسطين في زمن الذل والهوان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى.
{إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: فكل كلمات المعاجم لا تكفي لتصوير ذل المسلمين وبؤسهم في فلسطين: القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا قدساه في اليم ماتت قدسنا ذبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا ولكن لن تعود القدس بالمظاهرات، ولن تعود القدس بالتهييج الفارغ، ولن تعود القدس بخروج بنت مدرسة ثانوية متبرجة غاية التبرج ثم تهيج الناس في الشوارع بأغان أو بكذا، أو برجل لابس بنطلون (شرلستون) أو كذا ويمسك بيده فتاة مثلاً وهم في قلب المظاهرة، وإنما تعود القدس بعودة جيوش صلاح الدين الأيوبي.
والتاريخ يعيد نفسه، وصلت الأمة الإسلامية في أوقات من الذل والهوان إلى أكثر مما نحن فيه في أيام التتر، كان الجندي التتري يقول للمسلم: انتظرني هاهنا حتى آتي بحجر أقتلك به، فينتظره المسلم.
ثم من الله عز وجل بـ قطز، وسيمن الله عز وجل بـ صلاح الدين الأيوبي من جديد يوم أن تكون الأمة مهيأة لذلك، يوم أن يكون الصفوة من الكوادر مهيئين لذلك بالدعوة إلى الله عز وجل، والصبر على الدعوة أفضل من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال القرطبي: تدعو! وتدعو! وتدعو! حتى يأذن الله تبارك وتعالى بالفرج وليس لك إلا هذا، وأن توضح للناس أن عداءنا لهؤلاء القوم عداوة دينية مستحكمة، كما يقول المولى عز وجل: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
والدين كله فرق، سمى الله عز وجل كتابه فرقاناً، وسمى يوم بدر يوم الفرقان، وجعل رسوله صلى الله عليه وسلم فرقاً ما بين الباطل والحق.
ولقد أقسم الله عز وجل أنه لا يسوي بين المتضادين، ويجمع بين المتماثلين، قال الله عز وجل: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار:13 - 14] قولوا للناس: تعالوا إلى رحاب الله عز وجل، إذا أردتم أن تدخلوا فلسطين فاستقيموا على درب الله عز وجل.
إن فلسطين لن تعود إلا بالاتباع، انظر هل أنت مع الله عز وجل؟! هل أنت ممن بقي مع الله عز وجل أو من بقي عن الله عز وجل؟! هل أنت راغب عن الله عز وجل أم راغب إلى الله عز وجل؟! هل أنت منقطع إلى الله عز وجل أم شارد عن طريق الله عز وجل؟!(25/2)
مقارنات بين المؤمن والفاجر(25/3)
الفرق بين المؤمن والفاجر في العيش
كم بين الأولياء والأعداء؟ وهل تستوي الظلمة والضياء، واليقين والتهمة، والوصلة والفرقة، والمعتكف على بساط الأنس، والمنحرف عن الباب، والمتصف بالولاء، والمنحرف عن الوفاء؟ لا يستوي المشغول بهم والمشغول عنهم، والمنقطع إليهم والمحجوب عنهم، لا يستوي من اصطفاه في الأزل ومن ران على قلبه سوء العمل.
أفمن كان في حال القرب يجر أذياله كمن هو في مذلة الفراق يقاسي وباله؟! أفمن كان في روح القربة ونسيم الزلفة كمن هو في هول العقوبة يعاني مشقة الكلفة؟! أفمن هو في روح إقبالهم عليه كمن هو في محنة إعراضهم عنه؟! أفمن بقي مع الله عز وجل كمن رغب عن الله عز وجل؟! أفمن هو في نهار العرفان وضياء الإحسان كمن هو في ليالي الكفران ووحشة العصيان؟! أفمن أيد بنور البرهان وطلعت عليه شموس العرفان كمن اتسم بالخذلان ووسم بالحرمان؟! لا يستويان ولا يلتقيان.
هل يستوي من رسول الله قائده دوماً وآخر هاديه أبو لهب وأين من كانت الزهراء أسوتها ممن تقصت خطى حمالة الخطب فكما لا يجتنى من الشوك العنب، كذلك لا ينزل الله الأبرار منازل الفجار.
هما طريقان: أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي ليس من بات قريراً عينه مثل من أصبح قصراً دارسا ليس من أكرم بالقرب كمن ظل يهذي بلعل وعسى ليس من ألبس أثواب التقى مثل من ألبس ثوباً دنسا ليس من سير به مثل الذي بات يرعى للحمى مبتئسا ليس من شاهد صبحاً واضحاً مثل من شاهد ليلاً غلسا ليس من أشبه غصناً يانعاً مثل من أشبه عوداً يابسا قال الله تبارك وتعالى: {أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ} [السجدة:18].
وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:20 - 22].
وقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص:28].
وقال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الزمر:22].
وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر:58].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت:40].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
وقال تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20].
وقال تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} [الرعد:17].
وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الرعد:19].
وقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36].
وقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21].
من أخصر القضايا في القرآن الكريم: الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، تجد في القرآن أربعمائة وخمسين وجهاً تقريباً للمقارنة بين المقبل على الله عز وجل والمعرض عنه، وهذا يحتاج جمعه لمدة سنتين، فلو أخذنا نقطة واحدة: عيش هذا وعيش هذا، كما قال الله عز وجل: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} [طه:124 - 126].
قال الإمام ابن القيم في الحياة الطيبة: قد فسرت الحياة الطيبة بالقناعة والرضا والرزق الحسن، وغير ذلك والصواب: أنها حياة القلب وسروره، وبهجته ونعيمه، ومعرفة الله ومحبته، والإنابة إليه والتوكل عليه، فإنه لا حياة أطيب من حياة صاحبها، ولا نعيم فوق نعيمه إلا نعيم الجنة.
ألم يقل الإمام ابن القيم: مساكين أهل الدنيا! خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أجمل ما فيها: لذة الأنس بالله عز وجل.
ويقول: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طرباً.
ويقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
ويقول إبراهيم بن أدهم: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من السعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
إن كنت في سعادة حقاً فلم تحرم غيرك من المسلمين من الدعوة إلى هذه السعادة؟! إن كنت في نعيم الأنس بالله عز وجل فلم لا تصبر على دعوة الناس؟! لو أن معك ألف ملتزم فقط، وصبرت على الدعوة إلى الله عز وجل، وتهذيب من معك بالعلم والعمل والصبر على الدعوة، فكم سيكون معك بعد عشر سنوات؟ لو علمت أن هذا الذي تربيه أنت يدعو إلى الله عز وجل، وينشر ما يتعلمه كم سيكون العدد بعد عشر سنوات؟! لو صبرت بدلاً من التهييج الفارغ سيكون هناك عدد كبير جداً، احصره ثم اسأل نفسك كم ضيعت من السنوات مع الله عز وجل؟ اصبر على الدعوة إلى الله عز وجل، واصطبر لعبادته مثلما صبر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.(25/4)
الفرق بين المؤمن والفاجر في الحياة
يقول ابن القيم: قد ذكر غير واحد من أهل العلم منهم أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي وغيره: أن أعمال الرسل والأنبياء والمؤمنين في الدنيا أفضل من نعيم الجنة أي: أن أعمال المؤمنين في الدنيا من صلاة، وزكاة، وجهاد نفس، ومحبة لله عز وجل، وشوق إلى الله عز وجل: أفضل من نعيم الجنة، لماذا؟ قال: لأن نعيم الجنة حظ الناس من الله عز وجل وتمتعهم، فأين يقاس إلى الإيمان؟ حظ الناس من التمتع والأكل والشرب ونكاح الحور العين أين يقاس مع الإيمان وأعماله، والصلوات، وقراءة القرآن، والجهاد في سبيل الله؟! فالإيمان متعلق به سبحانه، وهو حقه على العباد.
ونعيم الجنة متعلق بهم وهو حظهم، فهم إنما خلقوا للعبادة وعلى الطرف الآخر قال الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه:124] جمهور المفسرين فسروها أنها عذاب القبر.
قال ابن القيم: والحقيقة أن المعيشة الضنك في الدور الثلاث، فإن من أعرض عن ذكره الذي أنزله فله من ضيق الصدر، ونكد العيش، وكثرة الخوف، وشدة الحرص والتعب على الدنيا، والتحسر على فواتها قبل حصولها وبعد حصولها، والآلام التي في خلال ذلك ما لا يشعر به القلب لسكرته وانغماسه في السكر، فأي عيش أضيق من هذا العيش لو كان في القلب شعور؟! في قلبه الوحشة والذل والحسرات التي تقطع القلوب، والأماني الباطلة، فهو في جحيم قبل الجحيم الأكبر: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} [النمل:71 - 72] ذقتم قليلاً من العيش النكد قبل الجحيم الأكبر في الدار الآخرة.
يقول ابن القيم: فهذا المتاع ذاته شقوة في الدنيا والآخرة، غصة تعقبه، وعقابيل تتبعه، يتخبط في القلق والحيرة والتكفؤ والاندفاع من طرف إلى طرف، ضنك الانقطاع عن الله عز وجل، وضنك القلق والشك والحرص والحذر والحسرة على كل ما يفوت، هو منكوس موكوس منحوس، عنده غبش ولبس في الرؤية وتأرجح في الخطوة، وحيرة وشرود في الاتجاه، وطريق بهيم لا معالم فيه.
قولوا للناس: من وجد الله فماذا فقد؟! ومن فقد الله فماذا وجد؟!! كما لا يجتنى من الشوك العنب، لا ينزل الله الأبرار منازل الفجار.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كانت الدنيا همه؛ فرق الله عليه شمله، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له منها، ومن كانت الآخرة همه؛ جمع الله عليه شمله، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة) أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(25/5)
الفرق بين المؤمن والفاجر في القرب من الله
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: فهذا مع الله عز وجل، وذاك مع الشياطين هذا في معية الله الخاصة وهذا تتنزل عليه الشياطين!! هذا تتنزل عليه الملائكة تثبته، وربما تسلم عليه، مثلما فعلت مع عمران بن حصين لما صبر على أذى المرض قال: إن الملائكة لتسلم علي.
وكما قال الصحابة: إن السكينة تنطق على لسان عمر، أي: إن الملائكة تنطق على لسان عمر.
أي حال حال هذا الذي يفر الشيطان من وجهه؛ (ما رآك الشيطان في طريق يا ابن الخطاب إلا وسلك سبيلاً غيره).
فاروق الإسلام، سمي الفاروق لأنه فرق بين الحق والباطل.
من وجد الله فماذا فقد؟ ومن فقد الله فماذا وجد؟!! من كان مع الله فإن الله يدافع عنه: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج:38].
ويصلي عليه: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب:43] صلاة الله ثناؤه على العبد، فماذا تريد بعد ذلك؟! كفاك جزاء على الطاعة أن رضي منك أن يستغفر لك حملة العرش ما تساوي الأرض ومن عليها حتى يستغفر حملة العرش لعابد؟! يستغفر لك الأنبياء قبل مجيئك إلى دار الدنيا نوح عليه السلام أول نبي أرسل يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] إذاً: دخلت في الجملة، بل يقيم الله عز وجل رسوله ليستغفر لك قبل مجيئك إلى الدنيا: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
فلو حسبت عملك كله في دار الدنيا مدة سبع سنوات وتخرج منه مكالمة الهاتف والموبايلات والأكل والشرب والذهاب إلى العمل وحصرت العبادة المحضة مدة سبع سنوات لوجدت أنها لا تساوي شيئاً؛ لكن ينمي الله عز وجل هذا العمل القليل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من دخل السوق فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، كتب الله له ألف ألف حسنة - مليون حسنة - ومحا عنه ألف ألف سيئة، ورفعه ألف ألف درجة في الجنة، وبنى له بيتاً في الجنة) قولوا للناس هذا حببوا إلى الناس الإيمان والعمل الصالح ذكروهم بفضل الله يقول الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج:10] يعني: يقتلون أولياءه، ثم يدعوهم بعد ذلك إلى التوبة، وهذه حاله مع من أعرض عنه مع من فتن أولياءه ثم تاب فكيف حاله مع من بقي مع الله عز وجل؟! والآخر يقول عنه المولى عز وجل: {فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة:279] رجل في سلم مع الله عز وجل سلام العقل والضمير والأسرة والمجتمع سلم مع الكون سلم مع الحياة وآخر في حرب مع الله عز وجل! هذا يسلم المولى عز وجل عليه: {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات:78] {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} [الصافات:109] والآخر يقول فيه المولى عز وجل: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود:99].
هانوا عليه فعصوه، ولو عزوا عليه لعصمهم، إنهم وأن طقطقت بهم البغال، وهملجت بهم البراذين، فإن ذل المعصية لا يفارق قلوبهم.
هؤلاء مولاهم الله عز وجل: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11].
هذا تفرح الأرض به، وتشتاق لمشيه عليها، وهذا تشمئز الأرض منه تلعنه حشرات الأرض وهوامها ينادي الجبل باسمه: هل مر بك ذاكر لله عز وجل؟ فإن قال: نعم، قال: أبشر بخير يوم طلع عليك.
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ} [الدخان:29] هذا في شأن العاصي أو الكافر، أما المؤمن فإن الأرض تبكي عليه عند موته، تبكي غدوه ورواحه إلى المسجد، ومصعد عمله من السماء! فما ظنك بنهار هذا ونهار ذاك، وليل هذا وليل ذاك، وسماء هذا وسماء ذاك، وعلم هذا وعلم ذاك، ونوم هذا ونوم ذاك، وثوب هذا وثوب ذاك؟! يعني: حتى لو لم يكن الثوب ملبوساً، فستجد هذا الثوب جلباباً أبيض وطاقية فيها مسك وسواك، وثوب العاصي فيه ضنك، فهذا الثوب يعرف وإن لم يكن ملبوساً، فما ظنك بكل لحظة من لحظات حياته، فهذا في جحيم وهذا في نعيم! انظر إلى قلب هذا وقلب ذاك طمأنينة هذا القلب وريبة هذا القلب سلامة هذا القلب ومرض هذا القلب خشوع هذا القلب وكبر ذاك القلب تقوى هذا القلب وزيغ هذا القلب لين هذا القلب وقسوة هذا القلب وجل هذا القلب وغيظ ذاك القلب! هذا القلب المنيب الصالح، وذاك القلب اللاهي والمغمور في المنكر، طول عمله في استحسان القبائح والركون إلى الظلمة قبول الفتن واطراح الحياء من الخلق والجرأة على الخالق والشح والإعجاب والوهن والاستكانة للعدو والاشمئزاز القلب والصد والشذوذ كل هذا بعد عن الله! يقول الله في الحديث القدسي: (من تقرب إلي شبراً تقربت منه ذارعاً، ومن تقرب إلي ذارعاً تقربت منه باعاً، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة) ومن أتاني هرولة؟! سكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها) هذا في الجوارح فكيف بمن تقرب إلى الله عز وجل بروحه وقلبه؟! قال ابن القيم: وهذه منازل في القرب لا تحيط بها العقول وتكفي الإشارة إليها فقط: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب دون نزوله ما معنى: (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها) وقوله: (من أتاني يمشي أتيته هرولة)، إذاً يأتيه المولى عز وجل كيف؟!! منازل في القرب لا تحيط بها العقول، وهذه منازل في الجفوة والإعراض ووحشة القلب لا يحيط بها شيء.(25/6)
الفرق بين المؤمن والفاجر عند سكرات الموت وما بعدها
وعند السكرات هذا تتنزل عليه الملائكة فتقول له: (اخرجي أيتها الروح الطيبة! كانت في الجسد الطيب، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان) وهو يتقلب في نعيم الجنة، بعد ذاك لا ينسى بشارة ملك الموت له.
وهذا الآخر كما قال الله عز وجل: {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد:27].
انظر إلى هذا وذاك! هذا تصعد روحه في كفن من أكفان الجنة، هل يساوي عمله هذا الكفن؟! والله لا يساويه، وهذا جاءه الكفن خصيصاً من الجنة، بل لا تخرج روحه إلا في ضبائر الريحان يؤتى له: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة:88 - 89] يؤتى له بضبائر الريحان من الجنة يشمها، وعند شمها تقبض روحه.
هذا يشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، بعد ما بين كل سماء وسماء مسيرة خمسمائة عام، وسمك كل سماء خمسمائة عام، يعني: تشيعه الملائكة مسيرة ألف سنة ضوئية أنت لو مشيت في جنازة شخص ست ساعات تقول: ارموا بها في هذا المكان، كفى مشياً! أما الفاجر فلا تفتح له أبواب السماوات هذا يقال له: (أن صدق عبدي) وهذا يقال له: (أن كذب عبدي)؟! والله لو لم يكن من جزاء إلا هذا لكفى.
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد، لا إله إلا أنت المنان بديع السماوات والأرض يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! اللهم صل على محمد وآله.
اللهم إنا لا نملك إلا الدعاء لإخواننا من أهل فلسطين، اللهم ارفع الكرب عنهم، اللهم ارفع الكرب عنهم، اللهم ارفع الكرب عنهم، اللهم ثبتهم، اللهم ثبتهم، اللهم ثبتهم، اللهم احم أعراضهم، واحقن دمائهم، احم أعراضهم واحقن دمائهم، واحفظ أبطالهم، اللهم احفظ أبطالهم، اللهم احفظ أبطالهم.
اللهم ثبت قلوبهم، وسدد رميهم، اللهم عليك بمن ظلمهم، خذ لدينك منهم حتى ترضى، وخذ لأعراض المسلمين حتى ترضى، خذ لبيوت المسلمين حتى ترضى، وخذ لأطفال المسلمين حتى ترضى، خذ لنساء المسلمين حتى ترضى.
إذا أردتم أن تنصروا أهل فلسطين فكونوا من الصالحين وادعوا الناس إلى صراط الله عز وجل، وسيأذن الله عز وجل بالنصر، نحن أحرص على أمن هذا البلد من أي إنسان كائناً من كان، هذه البلدة بلدتنا، حبيبة إلينا؛ لأنها أرض من أرض الإسلام ندعو إلى الله عز وجل فيها، فاملئوا البلاد طولاً وعرضاً بالدعوة إلى الله عز وجل، علموا الناس وادعوهم إلى صراط الله عز وجل، واصبروا على دعوتهم عسى الله عز وجل أن يأذن بنصر من عنده.(25/7)
القدس
إن للقدس مكانة عظيمة عند الله سبحانه وتعالى، فهي مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومجتمع الملائكة، ومهد عيسى، وملك سليمان بن داود، ومهاجر إبراهيم، ومأوى الرسالات، وقد شرفها سبحانه وذكرها في كتابه، وجعل أمرها للمسلمين في كل زمان ومكان، فواجبنا نحوها أن نسعى إلى تحريرها من أيدي اليهود الغاصبين، كما حررها عمر وصلاح الدين.(26/1)
مكانة القدس في الإسلام وواجب المسلمين نحوها
إن الحمد لله نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشدا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
القدس مدينة السلام، ومسرى نبينا صلى الله عليه وسلم، ومجتمع الملائكة، ومهد عيسى، وملك سليمان بن داود، ومهاجر إبراهيم عليه السلام، ومأوى الرسالات والديانات.
هذه القدس التي شرفها الله عز وجل بذكرها في كتابه الكريم، فقال تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} [الإسراء:1] فهي قدسية الفرع والآباء والأجداد، قدسية التراب المبارك حوله، فقد نص القرآن على قدسيتها وعلى طهارتها، وبسببها أوقف الله عز وجل الشمس ليوشع بن نون نبي من أنبياء الله عز وجل، وهو فتى موسى الذي تولى حكم بني إسرائيل بعد وفاة نبي الله موسى، فلما توفي نبي الله موسى بأرض التيه قبل أن يفتح بيت المقدس فتحه فتاه يوشع بن نون نبي بني إسرائيل، فكان يقاتل الكفار الذين في هذه المدينة، فحبس الله عز وجل له الشمس عن المغيب حتى يستكمل فتح هذه المدينة المباركة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حبست الشمس على بشر قط إلا على يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس)، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم عن سليمان عليه السلام: (إن سليمان عليه السلام لما بنى بيت المقدس سأل الله عز وجل خلالاً ثلاثة: سأله حكماً يصادف حكمه فأوتيه) يعني: أن يحكم فيما يتعرض له من الفتاوى بحكم يوافق حكم الله عز وجل، ثم قال: (وسأل الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه، وسأل الله حين فرغ من بناء المسجد ألا يأتيه أحد لا تنهزه -أي: لا تأتي به- إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) هذا الحديث صححه الشيخ الألباني.
يعني: أن سيدنا سليمان بن داود سأل ربه حكماً يوافق حكمه، وملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي أحد بيت المقدس للصلاة فيه لا يخرجه من بيته إلا الصلاة فيه، أن يغفر الله عز وجل له كل ذنوبه، وأن يخرجه من خطاياه كيوم ولدته أمه، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) يعني: لا يأتي أحد للصلاة في بيت المقدس إلا غفر الله له ذنوبه كلها وكل ما تقدم من ذنبه، وهذه كرامة عظيمة ومنقبة لبيت المقدس، والخلافة المقدسة التي ستكون علامة هذه النبوة في آخر الزمان سيكون مقرها بيت المقدس في فلسطين، كما جاء في حديث عبد الله بن حوالة لما وضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على رأسه قال له: (كيف أنت يا ابن حوالة إذا نزلت الخلافة بالأرض المقدسة؟ لساعة يومئذ أقرب إليكم من قرب يدي هذه من رأسك).
هذه المدينة المقدسة وجّه النبي صلى الله عليه وسلم جل اهتمامه -بعد أن حرر الكعبة من الأوثان- وجّه كل همّه تجاه بيت المقدس، فأرسل أعز أحبابه زيد بن حارثة وابن عمه جعفر الطيار الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أشبهت خلقي وخُلُقي) وعبد الله بن رواحة، وجههم إلى مؤتة، وهي من أرض فلسطين، وسالت دماء زيد وجعفر الطيار وعبد الله بن رواحة على ثرى فلسطين في مؤتة، ولم يمت النبي صلى الله عليه وسلم حتى عقد بيده الشريفة اللواء لـ أسامة بن زيد يدفعه لملاقاة الروم، ولما داهمت جيوش المرتدين المدينة وأحاطت بالمدينة كلها، قالوا لـ أبي بكر الصديق: لا تنفذ بعث أسامة، قال: والله! لو أخذت خيول الروم بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذت بعث أسامة، وما كنت لأحل عقداً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده.
ووجّه الصديق الجيوش لفتح بلاد الشام، وفتح سيدنا عمرو بن العاص أكثر مدن فلسطين، فتح غزة ويافا ونابلس، وكانت الجيوش التي وقفت على أبواب فلسطين تحت قيادة أمين هذه الأمة أبي عبيدة عامر بن الجراح، ورفض القساوسة ببيت المقدس أن يسلموا المفتاح إلا لـ عمر، وأرسل أبو عبيدة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بأن يأتي لفتح بيت المقدس، فأتى على دابته، فقال له أبو عبيدة لما تلقاه في الشام: يا أمير المؤمنين! إنك تلقى وجهاء الناس وكبراءهم فلو غيرت دابتك وثوبك، وقد أعطاه ثوب كتان بدلاً من ثوبه المرقع، فضربه عمر في صدره وقال: لو قالها غيرك يا أبا عبيدة! ليس الأمر هاهنا -يعني: ليس الأمر من شأن الأرض ومن عليها- إنما الأمر هناك وأشار إلى السماء، ثم قال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فإن ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله، ثم جعل عمر يقول: أما تنظر إلى هؤلاء ينظرون إلى مراكب قوم لا خلاق لهم، ولما دخل عمر بيت المقدس وجدهم قد جمعوا النجاسات والحيض ووضعوها في بيت المقدس، فجعل عمر رضي الله عنه يجمع بثوبه الشريف هذه النجاسات ويخرجها منه، فلما رأى الصحابة والتابعون فعل أمير المؤمنين عمر جعلوا يفعلون ما يفعل، وأخذ عمر العهد على نصارى إيليا (بيت المقدس)، وهذه الوثيقة العمرية مسجلة في التاريخ، واشترط النصارى على أنفسهم الآتي: أن نوقر المسلمين في مجالسهم، وأن يقام لهم من مجالسنا إذا أرادوا الجلوس، وأن تدق الأجراس في جوف الكنائس دقاً خفيفاً بحيث لا يسمعها المسلمون، وألا نتشبه بالمسلمين في لبس نعل ولا في فرق شعر إلى غير ذلك.
هذه وثيقة فيها كل العز، وكان من نص الوثيقة: أنه لا يسمح لليهود بدخولها.
وهؤلاء اليهود يكذبون ويقولون: إن لنا أصلاً في القدس وإن الهيكل دُمِّر تدميراً كاملاً، والحفريات طوال مائة سنة في الواقع لم تعثر على حجر واحد من حجارة الهيكل المزعوم، ويقولون: إن لنا حضارة في بيت المقدس منذ ثلاثة آلاف سنة، مع أن النصارى بأنفسهم اشترطوا على المسلمين ألا يسكن اليهود في بيت المقدس، وظلت القدس عزيزة عظيمة في أيدي المسلمين، وسيدنا عمر بن عبد العزيز لما أراد البيعة جمع ولاة الأمر وأخذ البيعة له منهم في بيت المقدس، وعبد الملك بن مروان أخذ بيعة الخلافة في بيت المقدس، والوليد بن عبد الملك باني قبة الصخرة أيضاً أخذ الخلافة في بيت المقدس، وزكوات مصر أوقفت في الخلافة الأموية لمدة سبع سنوات كاملة، أوقفها الوليد بن عبد الملك على بناء قبة الصخرة وما حول بيت المقدس؛ فلماذا هان هذا المسجد وهذه الأماكن الطيبة الطاهرة علينا؟ بيروت في اليم ماتت قدسنا ذُبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا أقزامنا ضيعونا حينما فسقوا باعوا المآذن والقرآن والدينا أقزامنا من توارى صوتهم فزعاً والأرض تسبى وبيروت تنادينا أقزامنا من أضاعوا السيف من يدنا وأودعونا سجون الليل تطوينا قم من ترابك يا بن العاص في دمنا ثأر طويل لهيب العار يكوينا قم يا بلال وأذن صمتنا عدم كل الذي كان طهراً لم يعد فينا هل من صلاح يداوي جرح أمته ويطلع الصبح ناراً من ليالينا هل من صلاح لشعب هده أمل ما زال رغم عناد الجرح يشفينا جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني جئنا نداويك تأبى أن تداوينا إني أرى القدس في عينيك ساجدة تبكي عليك وأنت الآن تبكينا ما زال في العين طيف القدس يجمعنا لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا(26/2)
ذكر وقت احتلال الصليبيين للقدس ودور آل زنكي وصلاح الدين في تحريرها منهم
لقد كان أول احتلال للصليبيين للقدس في يوم الجمعة سنة (482هـ) وكان في عهد الفاطميين غلاة الشيعة الزنادقة المارقين بمصر، ويومها سلموا القدس للصليبيين ولم يدافعوا عنها، ولم يقاتلوا في سبيلها، ولم يرفعوا سلاحاً في وجه الصليبيين، فتكالبت الجيوش الصليبية على احتلال بيت المقدس، واحتلوا الرها أول مدينة احتلت من بلاد الشام، ثم احتلوا أنطاكية، ثم دخلوا إلى بيت المقدس بعد حصار أربعين يوماً، ولما دخلوها لم يوفوا للمسلمين بأي عهد، حتى سار القائد الصليبي الذي فتح بيت المقدس في شوارع القدس وصار الدم إلى ركبتيه، وقتلوا سبعين ألف مسلم، وجعلوا الصليب على قبة الصخرة، وجعلوا من المحراب مربطاً لخيولهم وخنازيرهم، وبقي الصليبيون (91) سنة في القدس، وفعلوا بالمسلمين الأفاعيل.
وهناك رسالة دكتوراه محضرة في جامع الأزهر عن الحقد الصليبي تثبت أنه في أثناء احتلال الصليبيين لمدينة معرة النعمان ذبحوا بعض المسلمين وشووهم وأكلوا لحومهم، وهذا ثابت، وهو ينم عن الحقد الصليبي والتعصب الصليبي ضد الإسلام والمسلمين.
ثم بدأ المسلمون يستيقظون في عهد عماد الدين زنكي، واستردوا مدينة الرها، وهي أول مدينة استردوها من الصليبيين، وفرح المسلمون فرحاً عظيماً، حتى سموها فتح الفتوح، ثم مات عماد الدين زنكي قبل أن يكمل تحرير بيت المقدس، فتولى الأمر من بعده ولده نور الدين محمود زنكي سلطان الشام، وكان صلاح الدين الأيوبي عاملاً من عمّاله فأرسله إلى مصر مع عمه أسد الدين شيركوه.
ونور الدين محمود زنكي السلطان الزاهد العابد أعد منبراً ليدخل به بيت المقدس يوم تحريره ليخطب عليه؛ وعندما حاصر الصليبيون مدينة دمياط أرسل إلى أسد الدين شيركوه وصلاح الدين بالجيوش من الشام، واشتد به الأمر واجتمع مع أركان حربه فقالوا له: إن لك حديثاً يروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسلسلة كلها بالتبسم فتبسم أنت حتى تكمل السلسلة لك قال: إني لأستحي من الله عز وجل أن يراني مبتسماً والفرنج محاصرون لدمياط، يقول عنه إمام مسجده: ولقد امتنع والله عن تناول الطعام والشراب من كثرة الغم والحزن الذي اعتراه.
هذا السلطان العظيم سلطان الشام كانت له مواقف عظيمة في صد الصليبيين، منها: موقعة حارم فقد اجتمع له ثلاثون ألف صليبي يتزعمهم كل ملوك أوروبا، فقتل عشرة آلاف وأسر عشرة آلاف، ولما اشتدت الوطأة في موقعة حارم نزل عن فرسه واحتمى خلف تل وجعل يعفر خده في التراب ويقول: اللهم لا تنصر عبدك محموداً وانصر دينك وعبادك، ما شأن محمود الكلب بين الله وبين عباده؟ فلما اشتد حصار الصليبيين لدمياط رأى إمام المسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال: بشِّر نور الدين محمود زنكي بأن الله قد رفع الحصار عن دمياط، قال: قلت: يا رسول الله وما علامة ذلك؟ قال: قل له: العلامة علامة تل حارم؛ قال: فتلقيته عند دخوله المسجد قبيل صلاة الفجر فقلت له: أيها السلطان أبشرك بانتصار المسلمين في دمياط، فقال: وما علامة ذلك؟ قال: إني رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فقال لي: قل لـ محمود: العلامة علامة تل حارم يوم أن عفرت وجهك في التراب وقلت: اللهم انصر بلادك ودينك ولا تنصر محموداً ما شأن محمود بين الله وبين عباده؟ هذه القصة ذكرها ابن الأثير وابن كثير والإمام الذهبي في تاريخه.
فخر نور الدين محمود زنكي ساجداً لله عز وجل فرحاً باكياً.
هذا السلطان العظيم كان يكثر التهجد بالليل، وكذلك كانت زوجته عصمة الدين بنت الأتابك خاتون، ففي ذات ليلة قامت امرأته غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها فقالت: فاتني ورد البارحة فلم أصل من الليل شيئاً، وقال ابن الأثير: إن بعض المسلمين لما دخلوا بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة لها سمعوهم يقولون: إن القسيم بن القسيم -يعنون نور الدين محمود زنكي - لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه بين يدي ربه ليلاً، فلا بد أن ربه ناصره علينا.
قال ابن الأثير: فهذه شهادة الكفار في حقه، شهدوا له أن هذا العبد صالح وسينصره الله تبارك وتعالى.(26/3)
تولي صلاح الدين أمور الحكم ودوره في تحرير القدس
ومات نور الدين محمود زنكي قبل أن يكحّل ناظريه بفتح بيت المقدس، وأكمل المسيرة صلاح الدين الأيوبي سنة (555) هجرية.
قال أبو حميد الطويل: دخلت على إمام الموصل الشيخ عمر الملا فوجدت رجلاً من المصريين يقول له: رأيت فيما يرى النائم أن أرضاً مملوئة بالخنازير وأن رجلاً معه سيف يقتل هذه الخنازير، قال: فظننت أنه المسيح عيسى بن مريم فقلت: المسيح عيسى بن مريم؟ قال: لا، بل يوسف -فـ يوسف هذا هو صلاح الدين الأيوبي - والناس ظنوا أن يوسف بن تاشفين هو الذي سيحرر بيت المقدس، أو ظنوه المستنجد بالله الخليفة العباسي، فلما كان تحرير بيت المقدس على يد يوسف صلاح الدين الأيوبي تذكر هذا العبد الصالح تلك الرؤية الصالحة.
ورأت أم صلاح الدين يوم حملت به من يبشرها: أن بطنك هذه تحمل سيفاً من سيوف الله عز وجل، ألا يا صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر يحاصرنا في اليوم بليون كافر ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر حصانك في سيناء يشرب دمعه ويا لعذاب الخيل إذ تتذكر وتأبى جراحي أن تضم شفاها كأن جراح الحب لا تتخثر تناديك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبر نساء فلسطين تكحلن الأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصّر وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر وأصرخ يا أرض المروآت احبلي لعل صلاحاً ثانياً سوف يظهر مرض صلاح الدين الأيوبي فقال له قاضيه الفاضل ووزيره: انذر لله عز وجل إن شفاك الله من مرضك أن توجه كل همك لتحرير بيت المقدس، فنذر لله عز وجل بذلك، فلما شفاه الله من مرضه وفّى بهذا النذر، وأرسل إليه شاب من دمشق كان سجيناً في بيت المقدس يقول له: يا أيها الملك الذي لمعالم الصلبان نكّس جاءت إليك رسالة تسعى من البيت المقدس كل المساجد طهرت وأنا على شرفي أدنس فتوجه صلاح الدين الأيوبي لفتح بيت المقدس والتقى بالصليبيين في حطين في آخر ربيع الآخر، وكان عدد الصليبيين ستين ألفاً ومعهم ملوك أوروبا، وانتصر صلاح الدين الأيوبي في معركة حطين، وكانت معركة عظيمة لم يُسمع بها إلا في زمن الصحابة والتابعين، فمن رأى الأسرى قال: ليس هناك قتيل، ومن رأى القتلى قال: ليس هناك أسير، فقد أسر ثلاثين ألفاً، وقتل ثلاثين ألفاً، ووقع كل ملوك أوروبا في الأسر ومنهم رجل اسمه البرنس أرناط وكان شديد العداوة لله ورسوله، حتى أنه قبض على جماعة من المسلمين عند قرية الشوبك، فجعلوا يسألونه بالله وبالعهد الذي قطعه مع المسلمين فقال: نادوا محمداً ليخلصكم ثم قتلهم، فنذر صلاح الدين الأيوبي إن مكنه الله من أرناط أن يقتله، فلما وقع ملوك أوروبا كلهم في الأسر قتله، وكان يوماً عظيماً للمسلمين.
قال ابن الأثير: ولقد رأينا الفلاَّح من بلاد الشام يجر بطنب خيمته يسوق ستة وثلاثين أو خمسة وثلاثين من أسرى الفرنجة، ورأينا الرجل من الصليبيين يُباع بـ (زربول) يعني: نعل في لغة الشام -يباع الرجل منهم (بزربول) وهذا يدل على هوانهم في تلك الموقعة.
ولما تقدم الملوك الأسرى فكان من عادة العرب لو سقوا أسيراً أو أطعموه لا يقتلونه، فالسلطان جفري صاحب الكرك أراد أن ينجي أرناط من قتل صلاح الدين له فأعطاه الشراب الذي قدّمه له صلاح الدين ليسقيه من عطشه، فقال له صلاح الدين: أنت الذي سقيته، أنا ما سقيته، ثم قال: أنا نائب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرض عليه الإسلام فأبى، فقتله بسيفه؛ غضبة لله ولرسوله.
وفي السابع والعشرين من رجب سنة (583 هجرية) حاصرت جيوش صلاح الدين بيت المقدس من كل الجوانب، واستعد المجاهدون والمتطوعة برميها بالنفاطات وبالمجانيق، وعند ذلك عرض بليان بن نيزران والي القدس من قبل الصليبيين على صلاح الدين الأيوبي أن يتنازل له بالقدس صلحاً، فقال له صلاح الدين: والله! لا آخذها إلا عنوة كما أخذتموها من المسلمين عنوة، وأقتل رجالكم وأسبي نساءكم، فقال له بليان بن برزان: إذاً والله نقتل كل من معنا من أسرى المسلمين -وكانوا خمسة آلاف أسير- ونقتل نساءنا وأطفالنا، ونهدم المصانع -يعني: البيوت- ونغور نبع بيسان، ثم نخرج إليكم نقاتلكم في الصحراء، لا يقتل منا قتيل إلا قتل منكم عشرة ودون قيامة تقوم القيامة، وهنا استشار صلاح الدين رجال مشورته ورق لأسرى المسلمين، ورضي أن يخرجوا من بيت المقدس وترك لهم مهلة أربعين يوماً، والذي لا يستطيع أن يدفع من الرجال عشرة دنانير ومن النساء خمسة دنانير وعن كل طفل وطفلة ديناران يقع في أسر المسلمين، فوقع في أسر المسلمين بهذا الشرط بعد أربعين يوماً ستة عشر ألف أسير، وضم إلى بيت مال المسلمين مائتا ألف دينار، ودخل المسلمون في السابع والعشرين من شهر رجب بيت المقدس وكان يوم جمعة، ولم يستطيعوا أن يصلوا الجمعة في ذلك اليوم؛ لكثرة ما كان فيه من النجاسات والخنازير، وظلوا أسبوعاً كاملاً يغسلون بيت المقدس بالماء الطاهر، ثم بعد ذلك بماء الورد الفاخر، وأنزل الصليب من فوق قبة الصخرة، وعلا الأذان، وخفت صوت القسيسين والرهبان، وعُبد الواحد، وكثرت السجدات، وتنوعت العبادات، وصدر المنشور من السلطان أن يتولى رجل من قريش الإمامة في المسجد، فأتى بكل آيات الحمد المذكورة في القرآن الكريم؛ وكانت هذه الأيام أياماً عظيمة.
ويا قدس هل أبقيت دمعاً لنائح حنانيك من شوق ومن عبرات ثم قام صلاح الدين الأيوبي بعد تحريره لبيت المقدس بتحرير باقي القلاع، وقبل أن يحرر بيت المقدس فتح عكا وصلى الجمعة في مسجدها في شهر محرم سنة (583 هجرية) بعد غياب صلاة الجمعة مدة اثنين وسبعين سنة عن عكا، وحرر أربعة آلاف أسير مسلم كانوا في عكا، وافتتح خمسين مدينة.
هذا الرجل العظيم صلاح الدين الأيوبي كان يشكو من الدماميل في ظهره وفي وسطه، حتى إنه ما كان يأكل إلا متكئاً على جنبه، وبرغم هذا كان يعتلي صهوة جواده ويظل من الفجر إلى قرب صلاة الظهر، ومن العصر إلى المغرب وهو يطوف على أمراء جيشه، فيقول له قاضيه ابن شداد: إنك لا تستطيع الأكل إلا متكئاً! فيقول: والله إني إذا ارتقيت ظهر جوادي أنسى هذه الدماميل.
هذا السلطان العظيم الذي يقول: ما لنا بالإقامة في دمشق، إنما خلقنا للجهاد في سبيل الله عز وجل ويقول قاضيه ابن شداد عن هذا البطل العظيم الذي قنع بالسكون في ظل خيمة، وترك أولاده ثلاث سنوات في مصر وهو مرابط ومجاهد هناك في حصون الشام، يقول القاضي ابن شداد: لما رأيت البحر في عكا وكان أول يوم أرى فيه البحر قال: لو قيل نعطيك ملك الدنيا كله في سبيل أن تخوض البحر ميلاً واحداً قال: والله ما استطعت ذلك، قال: فلما وقف صلاح الدين الأيوبي قال: أتدري ما أمنيتي؟ قال: لا، قال: إذا أكملت فتح بقية الساحل قسمت البلاد بين أولادي وودعت وأوصيت، ثم ركبت البحر فلا أدع جزيرة يكفر فيها بالله عز وجل إلا وأدخلتهم في دين الله عز وجل.
قلت له: يا أمير المؤمنين! إنك سور الإسلام ومنعته، وفي هذا خطر على الإسلام.
قال: ما هي أشرف الميتات؟ قلت: الشهادة في سبيل الله عز وجل، قال: حسبي هذا.
وظلت القدس في أيدي المسلمين حتى أيام الدولة العثمانية، ولما فككت الدولة العثمانية دخل الجنرال اللنبي قائد القوات الصليبية في (9) ديسمبر سنة (1917م) مدينة القدس، ثم ذهب إلى قبر صلاح الدين وركله بقدمه وقال: الآن انتهت الحروب الصليبية يا صلاح الدين.
وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه رُسم الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب(26/4)
أسباب ضياع القدس من المسلمين
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
ثم أما بعد: لقد كان تقسيم فلسطين بقرار من الأمم المتحدة، وكان تحت الانتداب البريطاني ووعد بلفور، واجتمع الخونة كلهم على بلاد المسلمين، وسقطت القدس، ثم أتت بعد ذلك حرب (1967م) لتكمل على البقية الباقية، وغُيّب دين الله عز وجل عن المعركة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصرة والتمكين في الأرض والنصر، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب)، فعندما يُغيّب الإسلام عن المعركة وتكون المعركة علمانية بحتة يضيع ملك المسلمين.
فضاعت فلسطين وسط الاتفاقيات، ومن المخزي أن في يوم (28) سبتمبر عام (1995م) بعد توقيع اتفاقية توسع الحكم الذاتي الفلسطيني في واشنطن دخل رابين مع عرفات بعض المتاحف، وكانت هناك خطبة لـ رابين وخطبة لـ عرفات؛ فبدأ عرفات بالخطبة ثم تلاه رابين، فأنصت إلى عرفات جيداً، ثم قال: في تراثنا اليهودي قول مأثور: أن رياضة اليهودي هي فن الخطابة، ثم بعد فترة من الصمت وبكثير من الجدية قال مخاطباً عرفات: بدأت أعتقد أيها الرئيس عرفات أنك قد تكون يهودياً! وهنا علا الضحك واستمر التصفيق.
يقول الشاعر عن القدس: سافرت فيك ولم يزل يحلو السفر سفري يصارع كل أشكال الوهن سافرت فيك وأنتِ عذراء الوطن سافرت فيكِ ولستِ خضراء الدمن لا أصل جدكِ ساقط لا فرع أمك هابط لا اسم أهلكِ يغتبن يا عطر كل الأنبياء المخلصين يا زهر كل الأولياء المتقين من قال اسمك ممتهن؟ من قال سيفك يرتهن؟ هذا حديث الإفك مصنوع ومدفوع ومقبوض الثمن قديسة الآباء والأجداد والتاريخ والفرع الحسن قديسة الترب المبارك حوله يا حبنا يا قدسنا قديسة الرؤيا الجليلة والأماني والصور سافرت فيكِ وفوق راحلتي عمر وأنا رفيق ركابه والقدس في مرمى البصر وصهيل خيلكِ في الشمال وفي الجنوب وفي البوادي والحضر وفوارس الجيل العظيم تدق أبواب الظفر وأبو عبيدة والمثنى وابن وقاص وخالد في دمي وسيوفهم نشوى تذود عن الأقصى الخطر عمري على مهري ومهري فوق ساحكِ لا يبالي بالجنود وبالقرود وبالذباب وبالحمر سافرت فيكِ وحبنا ينمو على لهب الطهارة والغضب فلترضعيه من الشرايين التي لم تأكل الثمر المحرم لم تصل للكراسي والركب فلترضعيه من الشرايين التي ما لاكت الكذب الشريف ولا نمت في حضن حاملة الحطب فلترضعيه من الشرايين التي ما حاصرت شعب الصمود ولم تذل للمستبد أبي لهب فلترضعيه من الشرايين التي لم تحتسي بحر السراب ولم تلقن من مسيلمة الكذب فلترضعيه من الشرايين التي ما سلمت لبني قريظة دينها أو أنفها أو سيفها أو حرفها أو أغلى صباح يرتقب لن تعود القدس إلا حينما تكون الراية إسلامية بحتة، ولن تفتح القدس إلا على يد رجال مثل صلاح الدين الأيوبي.
وعندما أرسل إليه الفرنجة يفاوضونه في القدس قال: القدس مسرى نبينا ومجتمع الملائكة، لا أستطيع أن أتلفظ بلفظ واحد بين المسلمين عن القدس.
وذلك عندما قالوا له: ضاعت الدماء بسبب القدس هذه! فالحرب بيننا وبين الصليبيين حرب دينية بحتة.
في سنة (1967م) في كتاب لبنت موشي ديان اسمه (جندي من إسرائيل) تُرجم إلى أغلب لغات العالم، تقول فيه: كان الجنود الإسرائيليون ترتعد فرائصها منا، قالت: ثم أتى إلينا حاخام من اليهود فاستحال الخوف أمناً، بينما كانت إذاعات العدو -يعني: إذاعات مصر- تقول: قاتل وأم كلثوم معك في المعركة، قاتل أعداء الربيع، قاتل أعداء الحياة، قاتل وعبد الحليم معك في المعركة، فكانت الهزيمة السافرة.
وعندما تكون دينية بحتة، فهؤلاء اليهود قتلة الأنبياء وإخوان القردة والخنازير، وهم من غضب الله تبارك وتعالى عليهم، وهم الذين وضعوا السم لنبيك عليه الصلاة والسلام، وأنهم الذين قتلوا زكريا، وقتلوا يحيى حينها تكون للحرب قيمة؛ أما حين تدافع عن الرمل وعن تراب، صحيح هي بلادنا وفي حدقة أعيننا، ولكن يجب أن يكون الشعار لله عز وجل، فيوم أن دوى شعار (الله أكبر) انتصر المسلمون في (1973م)، فلنعد إلى ديننا والعود أحمد.
اللهم أبرم لأمتك من يعلي شأن دينها، اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رشداً يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر.
رب اجعلنا لك ذكّارين، لك شكّارين، إليك أواهين مخبتين منيبين.
تقبّل توبتنا، واغسل حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا.
بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، ولبابك نطرق فلا تطردنا.
اللهم عليك باليهود أعداء دينك، اللهم عليك باليهود أعداء دينك، اللهم عليك باليهود أعداء دينك.
اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تبق منهم أحداً.
اللهم اجعل خلاص البلاد منهم على أيدينا.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك تبيض بها وجوهنا يوم نلقاك.
اللهم أقبل بقلوب شباب المسلمين إلى كتابك وسنة نبيك.
اللهم ارزقنا الفقه والإخلاص.
اللهم اهد حكام المسلمين إلى العمل بكتابك وبسنة نبيك.
اللهم اهد حكام المسلمين إلى تحرير بيت المقدس.
اللهم ارزقنا شهادة في سبيلك.
اللهم أعل هممنا، وانصر المسلمين في الشيشان وفي كشمير وفي الفلبين وفي فلسطين، وانصر المسلمين المستضعفين في كل مكان.(26/5)
واجب المسلمين تجاه نصرة المستضعفين منهم
نقلت وكالات الأنباء في صورة الطفل الذي قتل في حضن أبيه، هذه المأساة التي هزّت المجتمع الغربي الصليبي فما بالها لا توقظ النوّم من المسلمين! يقول الشاعر: وكم من مسجد جعلوه ديراً على محرابه رُسم الصليب دم الخنزير فيه لهم خلوف وتحريق المصاحف فيه طيب فالواحد لا يتصور أن ملياراً وربع مليار مسلم، يعني: ألف مليون ومائتان وخمسون مليون مسلم لا يستطيعون أن ينتصروا على سبعة أو عشرة ملايين من اليهود، فلا يستطيع الإنسان أن يتصور هذا أبداً؛ لأن المسلمين لم يعد لهم إلا بطونهم وشهواتهم، وأما أويس القرني العبد الصالح الشهير، هذا الرجل الذي قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (سيشفع في مثل الحيين: ربيعة ومضر، ولو أقسم على الله لأبره، مروه فليستغفر لكم)، وقد توفي في صفين في جيش علي، هذا الرجل العظيم كان إذا أمسى ما يكون في بيته شيء من الطعام ولا الشراب ولا الثياب إلا الثوب الذي يواري عورته فقط، فكان يقول: اللهم إني أعتذر إليك عن كل كبد جائع للمسلمين، وعن كل بدن عارٍ، اللهم إنك تعلم أنه ليس في بيتي من الثياب إلا ما يواري عورتي، وليس في بيتي من الطعام إلا ما في جوفي.
فلا بد للناس من أن يهتموا بقضية المسلمين المستضعفين في كل مكان، وسل نفسك أنت: ماذا قدمت لدينك؟ وهل بالفعل لو فتح باب الجهاد ستكون على استعداد أن تذهب إلى الجهاد؟! هل صدقت مع الله عز وجل؟! وقبل ذلك كم صليت الفجر في حياتك مع جماعة المسلمين؟ فعندما لا تكون صادقاً في صلاة الفجر كيف ستذهب لتقتل وترمل زوجك وأولادك؟! فأنت الآن تملك أن تسجد لله عز وجل في ظلمات الليل، وتدعوه أن يرفع الله هذا الكرب عن بلاد المسلمين، وأن تكون صادقاً مع نفسك ومع ربك، فماذا قدمت لدينك؟ وكم كنت محافظاً على الصلوات الخمس في المسجد؟ وهل عطفت على يتامى المسلمين وعلى المساكين؟ وهل اهتممت بقضايا المسلمين؟ وهل حفظت آية من كتاب الله عز وجل؟ نسأل الله عز وجل أن يرفع الغمة عن بلاد المسلمين، امرأة في التاريخ دوخت المسلمين، امرأة في تاريخ إسبانيا هي إيزابيلا زوجة فرديناند ملك إسبانيا، هذه الملكة أقسمت أن لا تخلع ثوبها الداخلي حتى يسقط حكم المسلمين في الأندلس، وهناك أشهر رواية في التاريخ الإسباني اسمها (إيزابيلا صاحبة القميص العتيق) فهذه المرأة ظلت وراء أبي عبد الله الصغير آخر ملوك المسلمين في الأندلس حتى سقط ملك المسلمين في إسبانيا، وذلك لأن المسلمين ابتعدوا عن دينهم واقترفوا المحرمات وشربوا الخمر، وقد كانت جيوش المسلمين قبل ذلك قد وصلت إلى جنوب باريس، وكانت جيوش سليمان القانوني قد وصلت إلى وسط فيينا عاصمة النمسا، ودخلت بودابست في بلاد المجر.
فلما بكى أبو عبد الله الصغير بعد ضياع الملك في الأندلس، قالت له أمه عائشة: ابك بكاء النساء ملكاً لم تحافظ عليه مثل الرجال.
والعلمانيون ضيعوا القدس؛ لأن حاميها حراميها، أهؤلاء سيعيدون القدس؟ لا والله! لن تعود القدس على أيدي هؤلاء أبداً، القدس الطاهرة العظيمة مسرى نبينا صلى الله عليه وسلم لا تعود إلا على أيدي إسلامية متوضئة طاهرة، أما الذين بنوا القصور على شاطئ رفيرا، ونهر الراين، والذين تفاوضوا مع اليهود يوم الجمعة فتركوا الصلاة فلما جاء يوم السبت قال اليهودي: لا أستطيع أن أتفاوض معكم في يوم العيد.
انظروا في يوم الجمعة تفاوضوا وترك المتفاوضون من المسلمين الصلاة! أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(26/6)
الكبر والتواضع
لقد حرم الإسلام الكبر والخيلاء؛ فهما لا يليقان بالإنسان لأنه عبد مخلوق، وإنما هما من صفات الخالق جل وعلا، وقد حرم الله كل سبب يدعو إلى الكبر، وفي المقابل حبب الإسلام التواضع، ودعا إليه، ومدح أهله.(27/1)
تعريف الكبر والعجب والفرق بينهما
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإنما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: الكبر عبارة عن خلق في النفس، وهو شعورها بعظمتها وأنها فوق الآخرين.
إذاً: فلابد للكبر من متكبر به ومتكبر عليه، فالمتكبر عليه هو الإنسان الذي تظن نفس المتكبر أنها خير منه.
أما العجب فهو حالة افتخار بالنعمة بدون مقارنة بالغير، فلو أن رجلاً في صحراء بمفرده وعنده حالة عظمة يظن لنفسه قدراً، فهذا معجب ولا نقول أنه متكبر، وإذا عقد مقارنة بينه وبين غيره فإنه يطلق عليه المتكبر.
والكبر شيء دخيل في النفس، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ} [غافر:56]، قال ابن عباس: أي: عظمة، وإذا ظهر هذا على الجوارح من لي للعنق وغرور، ومن تصعير للخد، ومن خيلاء في النفس فهذا يسمى تكبراً.
فالتكبر عمل الجوارح، وثمرة الكبر، نداء الباطل.
فهذا هو الفارق بين العجب والكبر.(27/2)
أسباب التكبر
والعجب سبب من أسباب التكبر، ولكنه ليس السبب الوحيد.
ومن ضمن أسباب التكبر الرياء، فقد يتطاول إنسان على من هو أعلم منه ويتكبر عليه في الملأ: {رِئَاءَ النَّاسِ} [النساء:38]؛ لأنه يريد أن يشار إليه بالأصابع، فهذا يرائي فيتكبر ويتطاول على من هو أفضل منه في الملأ، ولكنه إذا خلا بالمتكبر عليه ذل له واعترف له، فهذا رياء ممزوج بكبر.
السبب الثالث: الحقد، فهو الذي يهيج الكبر ويزيده طامة، وهو أن يحقد إنسان على إنسان غائب إنسان فلا يقبل منه أي نصح ويظن أنه خير منه.
السبب الرابع المهيج للكبر: الحسد: فمن حسد إنساناً لن يتقبل منه أي شيء، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة:206]، فلو وعظه لا يقبل منه هذه الموعظة، فهذه أربعة أسباب مؤيدة للكبر.
والحقد والحسد والعجب تكون في صاحبها سواء خلا بالمتكبر عليه أو لم يخلُ به.
أما الرياء فهو كبر في مواجهة الناس، فإذا خلا به اعترف له بالذنب.
هذه أربعة أسباب مهيجة للكبر: عجب في النفس، ورياء للناس، وحقد، وحسد.(27/3)
آيات قرآنية في ذم الكبر وأهله
والمولى عز وجل ذم الكبر وأهله، فقال تعالى: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146].
فالمولى عز وجل يحول بين آياته وكلماته وعجائبه في الكون وبين الظالمين أن يفهموها، مثلما يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء:45 - 46].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
ويقول الله تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر:35].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15]، فالكبر خيبة في الدنيا والآخرة؛ فهو خيبة في الدنيا بأن يصرفهم الله عز وجل عن فهم آياته في الكون، وخيبة في الآخرة لقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا تسأل عنهم: رجل نازع الله رداءه، ورجل نازع الله كبريائه، ورجل اتخذ الأيمان بضاعة)، يعني: لا تعرف ماذا سينزل عليهم من المصائب؟ ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ينظر الله عز وجل إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: أشيمط زان) يعني: شيخ بينه وبين القبر شبر، ثم يلجأ إلى الفاحشة، (وعائل مستكبر)، يعني: رجل فقير وعنده كبر، (ورجل اتخذ الأيمان بضاعة).
فخيبة الآخرة ألا ينظر الله عز وجل إليه يوم القيامة ولا يزكيه وأن يبشره بالعذاب وهو في دار الدنيا، ولا يحبه، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23].
مر الحسين بن علي بجماعة من المساكين فقالوا له: إلينا يا أبا عبد الله؟! أي: عندهم كثرة من طعام، فقال: نعم: {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} [النحل:23]، ثم نزل وأكل معهم، ثم قال: قد أجبتكم فأجيبوني، فقاموا معه، فقال لامرأته الرباب: إلي ما ادخرت، أي: هات الذي عندك كله من أنواع الأطعمة التي ادخرتها، فأطعمهم.
وطلب صبية معهم كسرة خبز مرة الحسن البصري أن يأكل معهم، فجلس وأكل معهم، ثم استحلفهم بالله أن يقوموا إلى بيته فأطعمهم أجود الأطعمة، ثم قال: لهم الفضل علينا؛ لأنهم جادوا بما يملكون ونحن ما جدنا إلا بأقل شيء مما نملك، لا يوجد عندهم إلا كسرة خبز جادوا بها، ولكن نحن عندنا بقية.
ومن الآيات القرآنية في ذم الكبر والمتكبرين: قول الله تبارك وتعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21].
ويقول الله تبارك وتعالى عن المتكبرين وعن مصيرهم عند الموت: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93]، أي: يضربونهم على أدبارهم: {وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأنعام:93].
ويقول الله تبارك وتعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا} [مريم:69].
ويقول الله تبارك وتعالى: {فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [النحل:22].(27/4)
أنواع الكبر(27/5)
التكبر على الله تعالى وعلى شرعه
وأنواع الكبر ثلاثة: كبر على الله، وكبر على رسل الله، وكبر على عباد الله.
النوع الأول: الكبر على الله: وهو أشد من الكفر كما قال ابن تيمية، فالكافر هو الرجل الذي يشرك مع الله غيره، أما المتكبر فلا يرضى بالله رباً، ولا إلهاً، وكثير من الكفار يرضى بالله رباً، ولكن لا يرضى به إلهاً يحكمه ويحتكم إلى أمره، فيعترفون بالربوبية، ولا يسلمون للألوهية.
والنمرود بن كنعان عندما تكبر على الله فقال: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258]، سلط الله عليه بعوضة سلبته حياته، فدخلت في أحد منخريه وتظل به حتى يضربونه بالنعال على أم رأسه، وطنين البعوضة في أنفه جعله لا يستريح إلا بضرب النعل على رأسه.
وفرعون لما تكبر وقال: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات:24]، وقال: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص:38]، نغص الله عز وجل عليه حياته في الدنيا قبل الآخرة.
ولما قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51]، فعندما افتخر بأنه أجرى النهر نغص الله عز وجل عليه انتفاعه بهذا النهر، فكان لا يتناول قدحاً من الماء ليشربه إلا واستحال دماً عبيطاً، وما ملأ قدحاً من الماء إلا وامتلأ بالضفادع، وتدخل الضفادع الأفران لتأتي على طعامه أو لتمتزج بطعامه، والإنسان الذي يديم الغسل لا تجد عليه القمل، ومع ذلك فقد ابتلاه الله عز وجل بالقمل مع أن معه ماء النهر، وهذه الآيات متصلة بالماء الذي افتخر به.
فالقمل، والدم، والضفادع كلها مرتبطة بجنس ما افتخر به، ثم لما عتا كان غرقه بجنس ما افتخر به.
وعندما كان يقول: {فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ} [القصص:38].
إذا بهذا الفم النجس يمتلئ طيناً نجساً، يقول سيدنا جبريل للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد وأنا أدس في فيه من حال البحر حتى لا تدركه رحمة الله تعالى)، وحال البحر الطين المنتن.
ويدخل في ضمن الكبر على الله تبارك وتعالى، الكبر على شرع الله، وهو مثل التكبر على الله، ومن صور الكبر على شرع الله أنه لا يرضى بدليل نقلي من الكتاب أو من السنة ويستقذره، فإن قلت له مثلاً: هناك حديث: (إذا وقع الذباب في إناء أحدكم فليغمسه ثم ليخرجه)، يستقذر هذا الأمر، ولو قلت له: هناك سنة ثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلعق الإناء بثلاثة أصابع لكي يتبارك الطعام، لا يقبل هذا أيضاً ويستقذره، فهو لا يكتفي بالرد، بل ويستقذره أيضاً.
أو أنه يصادم النقل بالعقل فيقول مثلاً: هؤلاء الناس الذين نزل عليهم القرآن كانت عقولهم ساذجة بسيطة، ونحن أوتينا قسطاً من العقول باطلاعنا على المنطق والفلسفة فيصادم النقل بالعقل.
من أنت يا أرسطو ومن أفلاط قبلك يا مبلد ومن ابن سينا حين قرر ما هديت له وأرشد هل أنتم إلا الفراش رأى الشهاب وقد توقد فدنا فأحرق نفسه ولو اهتدى رشداً لأبعد يقول الإمام الشافعي: ما فسد العرب إلا لما تركوا لسان الفطرة ومنطق القرآن واتبعوا لسان أرسطو طاليس، فكان بداية دمار العالم وضياع الدولة العباسية على يد المأمون.
وهناك أناس يتكبرون على الله تبارك وتعالى بالعقل، وهم أصحاب مدرسة الاعتزال أو المدرسة العقلية، فهنالك من يفسر الطير الأبابيل بالمكروبات والجراثيم، وهنالك من ينكر وجود الجن أو يأتي بهذه المدرسة العقلية التي تحسر العقل في الشرع.
وهناك من يتكبر على الله تبارك وتعالى بالذوق، فيقيس الدليل النقلي أمامه بالذوق، فيقول: ذوقي يمج هذا الدليل ولا يقبله، وإذا استمع إلى الأطلال فإنه يبكي وإذا استمع إلى آيات من كتاب الله تبارك وتعالى فإنه لا يبكي، ويقول: استفت قلبك ولو أفتاك الناس وأفتوك.
وموسيقارنا عبد الوهاب وكوكب شرقنا نبحت سنينا وذاك العندليب أخو الغراب أنتركه لدعوى الطاهرينا ورقص الشرق ذا فن تجلى وذاك الضيق عين الشاكرينا يقول عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم.
فهنالك منن يفضل النقل على العقل، أو يفضل الذوق على النقل، أو يفضل السياسة على النقل، فإن تصادم دين الله تبارك وتعالى بالسياسة يقول: نحن أعلم، ولا نريد دولة كهنوتية ولا دولة دينية ولا نريد كذا، فنحن أعلم بالسياسية، وما شأنكم بالسياسة وأنتم لا تعلمون الكثير منها.
فهذه المعارضات الثلاث من صور الكبر على الله تبارك وتعالى وعلى شرع الله تبارك وتعالى، ونقيضها التواضع.
والتواضع لشرع الله تبارك وتعالى: ألا يقدم على النقل عقلاً ولا ذوقاً ولا سياسة، وأن يرضى بالدليل النقلي، وأن يسلم لهذا الدليل وكل إنسان يؤخذ منه ويرد إلا صاحب الروضة الشريفة.
فالمسلم يسلم للدليل عن رضا وعن اقتناع، وهذا معنى الرضا برسول الله رسولاً، وهو أن تسلم له حتى فقدان الحرج الظاهري والباطني، قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65].(27/6)
التكبر على رسل الله
النوع الثاني من التكبر: التكبر على رسل الله: يقول الله تبارك وتعالى حاكياً على لسان هؤلاء المتكبرين: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف:31 - 32]، فالكفار المتكبرون قالوا: لولا نُزِّل هذا القرآن على عروة بن مسعود الثقفي أو على الوليد بن المغيرة فإنهما سيدا القريتين: مكة والطائف.
فنظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يتيم أبي طالب، ولم ينظروا إليه بميزان النبوة، ونظروا إليه بأنه من البشر، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم:10] فالرسول صلى الله عليه وسلم من البشر، ولكنه زاد عليكم بالوحي وبالإيمان بالله تبارك وتعالى.
ومن المتكبرين من يقول: نحن نعترف ببشرية الرسول، وطالما أنه بشر فيؤخذ من قوله ويرد.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم كان همزة الوصل ما بين السماء والأرض، وتحمل عقله وقلبه ما تندك منه الجبال الرواسي؛ لقول الله تبارك وتعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21]، وقال الله تبارك تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا} [الفرقان:21]، أي: قالوا: لا نريد بشراً يكون مثلنا، نريد أناساً يكونون أنظف قليلاً، هاتوا لنا ملائكة، نحن لا نستطيع أن نتعامل إلا مع الملائكة.
ولذلك تقول السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (هل مر عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: ما لقيت من قومك كان أشد منه يوم العقبة إذ عرضت نفسي على عبد ياليل بن عبد كلال).
وكانوا ثلاثة، فقال له رجل منهم: أما وجد الله من يرسله غيرك؟ وقال الآخر: علي كسوة الكعبة إن كان الله قد أرسلك.
وقال الثالث: أنا لا أكلمك، فإن كنت صادقاً فأنت أجل من أن أكلمك، وإن كنت كاذباً فأنا أجل من أن أكلمك.
يعني: إذا أنت أعلى منا درجة فلا تنزل إلى مستوانا! بل ابحث لك عن أنبياء أو ملائكة -وهذا نوع من السخرية، ونوع من الاستهزاء برسل الله تبارك وتعالى- وإن كنت كاذباً فنحن خير منك ولا نكلم الكاذبين، وهذا نوع من التطاول على رسل الله تبارك وتعالى.(27/7)
التكبر على عباد الله تعالى
النوع الثالث: الكبر والتطاول على عباد الله تبارك وتعالى، رضيهم الله عز وجل عباداً له أفلا ترتضيهم إخوة لك؟ فالمولى عز وجل ارتضاهم عباداً له وهو القاهر، وهو الرب، وهو الإله، ولم ترتضهم أنت إخوة لك في الدين، فتعاليت عليهم.
ومظاهر التعالي كثيرة، فمنها: تصعير الخد، أي: إمالة الخد والإعراض بوجهه عنه، قال تعالى: {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون:5].
المظهر الثاني: النظر شزراً، وهو أن تنظر إليه بنصف عين، وكأنك مستهزئ به.
المظهر الثالث: تشديق الكلام وإخراج الكلام بنغمة معينة بملئ الفم، فيقول مثلاً: أحد الناس السذج نسأل الله ألا يبتليك بهم، فيظل يكلمك في ربع ساعة بما يمكن أن تقوله في نصف دقيقة، من أجل أن يخرج الكلام بطريقة معينة أو بنغمة معينة أو بلفظة معينة، ويمطط الكلام ويظهر الفصحى إن كان فصيحاً كنوع من التعالي على هؤلاء، ويرى الناس وكأنهم بقر.
المظهر الرابع: أنه إذا جلس يقوم الناس بين يديه، وإذا مشى مشوا من خلفه، وحملوا متاعه، فهو لا يحمل متاعه بنفسه، ويرى أن له ديناً في رقاب العباد أن يحملوا متاعه، وإذا جلس يجلس متكئاً، ولا يرتضي بالدون من الثياب ملبساً، ولا يجلس مع الفقراء والمساكين ويزدريهم، فضلاً عن أن يجلس مع المرضى، فكل هذا من مظاهر الكبر.
ومن مظاهر الكبر في المشي ما قاله رسولنا صلى الله عليه وسلم: (إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم، سلط الله بعضهم على بعض).
فالمطيطاء مشية فيها كبر وخيلاء كما قال ابن العربي رحمه الله.
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل ممن كان قبلكم يتبختر في مشيته إذ خسف الله عز وجل به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الذي يجر ثيابه من الخيلاء لا ينظر الله إليه يوم القيامة)، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الإسبال في الإزار والقميص والعمامة، من جرمنها شيئاً خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة)، فالإسبال لا يقتصر في الإزار، بل يكون في الإزار وفي القميص وفي العمامة، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (من وطئ على إزار وطئه في النار).
وقد يقول قائل: أنتم تشددون الأمور، فمسألة تقصير الثوب وإطالته من القشور، والأهم من ذلك هو المعنى الباطن.
ونقول: إن إسبال الإزار من الخيلاء وهو من الكبر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر)، فهو ينظر إلى أن السلفيين يريدون توفير الأقمشة، ولا ينظرون إلى المعنى الباطن، إن هذا المنظر الخارجي يوحي بخيلاء وكبر في الباطن وأنه سيكون أبعد ما يكون عن الجنة.
ومن مظاهر الكبر أن يتبختر في مشيته: قال تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} [القيامة:33].
وقال تعالى: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].
عمر بن عبد العزيز كانت له مشية تسمى المشية العمرية، فقد علموه آداب البرتوكول السياسي، وكانوا يدربون كل عضو منه على هذه المشية حتى تعلمها، فلما مشى بها أمام طاوس قبل أن يتولى الخلافة طعنه في خاصرته وقال: ليست هذه مشية من ملئ بطنه الخراءة.
ورأى محمد بن واسع ابنه يتبختر في مشيته، فقال له: أمك اشتريتها بمائتي درهم، أما أبوك فلا أكثر الله في المسلمين من أمثاله، فهذه المشية يبغضها الناس.
ومشى الناس خلف الحسن البصري فقال: وهل أبقيتم في قلبي من شيء؟ وقال سيدنا عبد الله بن مسعود وقد مشى خلفه الناس: هذه مذلة للتابع وفتنة للمتبوع، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جلس متكئاً، وما مشى خلفه رجلان.
ولبس أحد الولاة ثياباً من خز ثم تاه في المشية أمام الحسن البصري، فقال له: أف أف، مصعر خده، ثاني عطفه، أحيمق يزدري نعمة الله تبارك وتعالى عليه، يا هذا! داو قلبك، فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم.
وقال لآخر: كأن القبر قد وارى بدنك، وكأنك قد لقيت ربك غداً، ثم قال له: {وَلا تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء:37].(27/8)
دواعي الكبر
وهناك أسباب تدعو الإنسان إلى الكبر: أن يظن أن له كمالاً دينياً أو كمالاً دنيوياً، فالكمال الديني منحصر في أمرين: العلم والعبادة، والكمال الدنيوي ينحصر في النفس والجمال والقوة والغنى.(27/9)
التكبر بسبب العلم أو العبادة
أما العلم: فينظر الرجل إلى الناس وكأنهم بهائم، ويقول مثلاً: أنا بخاري العصر وشافعي الزمان، ودرست على فلان وفلان من الشيوخ، أما غيري فعلى من درسوا؟ فيتطاول على عباد الله بما عنده من العلم، وينظر إلى الناس أن له فضلاً عليهم، وأنه فوقهم وهم تحته.
يقول محمد بن كعب: إن للعلم طغياناً أشد من طغيان المال، ويطغى الإنسان بالعلم ويتكبر لسببين: السبب الأول: أن يتعلم علوماً غير نافعة هي إلى الصناعات أقرب منها إلى العلم، فلا تورثه خشية الله تبارك وتعالى، ولا تذكره بنعم الله عز وجل عليه، ولا تقربه من الدار الآخرة، وهذه العلوم كعلم الجبال وعلم المنطق وغيرهما.
السبب الثاني: أن يكون في نفسه خبث وفي طويته شر، والعلم كما قال وهب: كالغيث ينزل على الأشجار فتمتد إليه عروقها، فكل بقدر طعمه، فمن كان مراً زاده مرارة، ومن كان حلواً زاده أريجاً.
ولذلك كان مالك بن دينار يقول: يا أصحاب السورة! ويا أصحاب السورتين! ماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ إن القرآن ربيع قلب المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض، إن الغيث قد ينزل على الحبة في الحش، وما يمنعه نتن موضعها من أن تزهر وتثمر وتربو، فماذا غرس القرآن في قلوبكم؟ ورجل آخر يتطاول على الناس بعلمه ويقول: إني أسهرت ليلي وأظمأت نهاري في تحصيل العلوم الشرعية ولا يلتفت إلي أحد.
وأما العباد فيتطاول الرجل على الناس بعبادته، كأن ينظر إليهم وكأنهم هلكى وهو الناجي فقط، فإذا ما رآهم عبس بوجهه، وينظر إليهم وكأنه في الأعلى وهم في الأسفل، فهذا الرجل فعله يخالف فعل الصالحين.
كان عطاء السلمي إذا غلا السعر أمسك بطنه ودار وكأنه امرأة قد أتاها المخاض ويقول: كل هذا بسبب عطاء، لو مات عطاء لاستراح الناس.
وقف بكر بن عبد الله المزني على عرفة فقال: اللهم لا تردهم من أجلي، أي: لا ترد هذا الجمع خائباً بسبب ذنوبي.
ويقول الآخر: ما أحلى هذا الجمع لولا أنني فيهم.
وقال الإمام مالك بن دينار: والله لو وقف رجل على باب المسجد ونادى: ليقم شر الناس، لقام مالك بن دينار.
وقال أحد الصالحين: ذلي عطل ذل اليهود.
وقال أبو سليمان الداراني: والله لا يستطيع أحد أن يضعني أكثر من وضعي لنفسي، فإني أعلم بمنزلتي.
والتواضع كما قال الحسن البصري: ألا ترى لك فضلاً على أحد من الناس، فإذا رأيت من يصغرك بالسن قلت: والله لقد سبقته إلى المعصية، وإذا رأيت رجلاً كهلاً تقول: والله لقد سبقني إلى الإسلام وسبقني للطاعة، ومن ظن أنه متواضع فقد حاز الكبر بحذافيره؛ لأنه يظن أن له قدراً.
وكان مالك بن دينار يقول: إذا ذكر الصالحون فأف لي وتف! ويقول يونس بن عبيد: إذا ذكر الصالحون كنت عنهم بمعزل.
ويقول الحسن البصري: صاحبت أقواماً كنت بجانبهم كاللص.
فالرجل قد يتطاول على الناس بعبادته ويقول: والله لقد سهرت، وأنا أقوم الليل وأصوم النهار، أما فلان فغفر الله له ثم يغمزه غمزاً خفيفاً، أو ينظر إلى الناس وكأنه المتهجد الوحيد الذي عرف غور العبادة وغيره مشتغل بالعلوم فقط، فيقول: دعهم وعلمهم فهذا كبر خطير، وكأنه ينادي على الناس: أنا العابد، أنا العالم الوحيد، فمن ظن أن الناس هلكى فهو أهلكهم.(27/10)
أمور يغفل عنها العالم عند نصحه للمبتدع
فعندما يعظ العالم مبتدعاً لا يتكبر عليه.
وهنالك ثلاثة أمور قد يغفل العالم عنها عند النصح: الأمر الأول: أن تنسى ذنبه، وتغفل عنه حين تعظه، فربما كان الظاهر من ذنبه أقل من المستور من ذنوبك التي لا يطلع عليها الخلائق، ولو اطلع عليها الخلائق لعكر عليهم الملاذ.
ولذلك كان محمد بن واسع كان يقول: والله إن نتن أخلاقي أشد من نتن جسدي في التراب بعد ثلاث، وغداً يقال: مات الحبر العالم الصالح، ولو قد عرفوني حق معرفتي لنفسي ما دفنوني.
وآخر يعظ شخصاً حليقاً كل يوم ويقول له: ألا تعرف أن اللحية فرض! وربما كان الواعظ يضرب أباه وأمه بالعصا يومياً.
الأمر الثاني: أن تظن أن هذه النعمة التي أقامك الله عز وجل فيها هي منك، يعني: أن تظن أن الله تبارك وتعالى حين أقامك في مجال الدعوة وفي نعمة الطاعة أنها منك لا من الله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21]، وانظر إلى قوله صلى الله عليه وسلم: (لن ينجي أحد منكم من النار عمله)، فهذا يخلصك من داء الكبر.
الأمر الثالث: أن تنسى الخاتمة، فربما ختم الله عز وجل له بالطاعة وختم لك بالبدعة، ونأتي بمثال: كان القصيمي أكبر عالم من علماء نجد، ومن أفضل الدعاة إلى التوحيد، فقد أفحم شيخ الأزهر حتى قال رجل من أهل التوحيد: ما كنت أظن أن شيخ الأزهر في زمانه يعيش بعد نقد القصيمي له، فقد انتقده فيما يزيد عن عشرين ألف ورقة من غرر العلم في العقيدة، ثم بعد هذا ختم له بأن كان قبورياً ومات على قبوريته.
وكتبه موجودة عندنا في الأسواق في موضوع التوسل والشفاعة والاستغاثة لا يعلوها علم، ثم بعد هذا أضله الله على علم، ولعله كان عنده خبث طوية، ثم بعد ذلك ختم الله عز وجل له بسوء الخاتمة، ولذلك فإن سفيان الثوري يقول: بكينا على الذنوب زماناً، ونحن الآن نبكي على الإسلام.
فالإنسان لا يغمط أحداً حتى لا يدل على أحد، ولا يفتخر على أحد حتى يخلف جسر جهنم وراء ظهره، وإذا خلفه قال كما قال أهل الجنة: {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} [الأعراف:43] فهذا قمة التواضع.
ليس كما يقال: إننا كنا في الدنيا نعمل كذا! وكم وعظنا وكم أقمنا دروساً؟ فمثل هذا لا يدخل الجنة؛ لأنه قد امتلأ كبراً، فهو لا يعبر الجسر بداية.(27/11)
كيف يتخلص العابد من الكبر
والذي يخلص العابد من الكبر ويجعله يتواضع بعلمه وبعبادته أمران: الأمر الأول: أن يعلم أن حجة الله تبارك وتعالى على العالم آكد، يقول أبو الدرداء: ويل لمن لا يعلم، وويل سبع مرات لمن يعلم ولا يعمل، فإن نسي قدره عند الله تبارك وتعالى فهو حمار في ميزان الشرع، يقول الله تبارك وتعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة:5]، فهو حمار يحمل علماً.
والمثل الآخر: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176]، فالذي لا ينتفع بعلمه يمثله الله عز وجل بالحمار أو الكلب، والذي يذل بعبادته ينظر إلى أن زجل المستغفرين أحب إلى الله من إجلال المسبحين.
ولذلك فإن محمد بن واسع قال: واشوقاه إلى إخواني، فقالوا: أليس قد نشأ شباب يعلمون السنة؟ فتفل ثم قال: أفسدهم العجب.
لو سلمت لك العبادة من صومك وقيام ليلك من العشاء إلى الفجر لأفلحت.(27/12)
الكبر بسبب الحسب
أما الذي يفتخر بحسبه ونسبه فنقول له: لئن فخرت بآباء ذوي شرف لقد صدقت ولكن بئس ما ولدوا وفي المثل: قرعاء وتفتخر بشعر ابنتها، أو كما يقول القائل: يتعجب بكمال غيره وهو مسلوبه، إن كانت صفاته وذاته خسيسة فلا يجبر خسة ذاته وصفاته كمال غيره.
ثم نقول له: لو كان هذا الذي تفتخر به موجوداً لقال لك: إنما أنت دودة من بولي، والآخر دودة من بول المتكبر عليه، ولا فخر لدودة على دودة، فالاثنان متساويان، فلا يوجد هناك فخر بينهما.
ومع هذا فإننا نقول له: حسبك وهو جدك البعيد تراب بلي، وأبوك القريب ماء مهين، وأنت خرجت من مجرى البول مرتين.
جلس مصعب بن الزبير على سرير الملك في العراق، وقد اتكأ على أريكته ومد رجله، فدخل الأحنف بن قيس فرئي ذلك في وجهه، فقال: لقد خرجت من مجرى البول مرتين.
رأى مطرف بن عبد الله أميراً متبختراً فنهاه، فقال: ألا تعرفني؟ قال: أعرفك كما أعرف نفسي، جدك البعيد تراب بلي، وأبوك القريب ماء مهين، وأنت خرجت من مجرى البول مرتين، أولك نطفة مذرة، وآخرك جيفة قذرة، وأنت بين هذا وذاك تحمل العذرة.
قال الله تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:17 - 22].
وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:77 - 78].
بئس العبد عبد سها ولها ونسى المبدأ والمنتهى! بئس العبد عبد طغى وعصى ونسى الجبار الأعلى! بئس العبد عبد سها ولها ونسى المقابر والبلى! أصلك التراب يوطأ بالأقدام، وفصلك ماء مهين تغسل منه الأبدان، فلا قدر لك، إنما قدرك التقوى، فلا يجوز لأحد أن يتطاول على أحد.(27/13)
الكبر بسبب الجمال
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عباده الذين اصطفى.
أما بعد: فهناك أيضاً من يتطاول على الناس بجماله فيظن أن الميزان عند الله تبارك وتعالى بمسابقات الجمال، أو أنه سيدخل الجنة بزرقة عينيه.
وهذا الأمر في النساء أكثر منه في الرجال، تقول السيدة عائشة للرسول صلى الله عليه وسلم: (حسبك من صفية أنها كذا وتشير إلى أنها قصيرة فقال: لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته).
فالذي يفتخر بجماله ينظر إلى عباد الله تبارك وتعالى منتقصاً لهم، فإذا ما لمسه أحد المساكين ذهب إلى البيت ورش العطر على جسده، فهذا يصدق فيه قول الشاعر: كيف يزهو من رجيعه أبد الدهر ضجيعه وقال آخر: أنف يسيل وأذن كلها سهكٌ والعين مرمشة والثغر ملعوب يا ابن التراب ومأكول التراب غداً قصر فإنك مأكول ومشروب فلا يفتخر بهذا إلا رجل يظن أن المقياس عند الله تبارك وتعالى الجمال.(27/14)
الكبر بسبب القوة
ورجل آخر يتطاول على عباد الله تبارك وتعالى بفضل قوة يعطيها الله عز وجل له، ويظن أن الشرف كل الشرف في شرف تسبق إليه البغال! وأي فضل في هذا، ولابد أن نقول له: أنت أقوى من بغل وأنت أعظم من حمار.
فهذا الرجل الذي يفتخر بقوته أما علم أن الله تبارك وتعالى قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة؟ فقوم عاد عذبهم الله عز وجل بالريح، وأبرهة وقومه عذبهم الله عز وجل بالطير الأبابيل جزاء وفاقاً، وقد يسلبه الله عز وجل هذه القوة التي ما حفظها.(27/15)
الكبر بسبب المال
ورجل آخر يفتخر بكثرة ما عنده من المال، وهذا شرف يسبق إليه اليهود، ويسرق منه اللصوص، فكيف يفتخر به؟ يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى} [سبأ:37]، وهذا لعله نسي قارون وما كان من شأن قارون وأن الله تبارك وتعالى خسف به وبداره الأرض.(27/16)
الكبر بسبب الفصاحة
ومن مظاهر الكبر والتكبر أن الرجل يتخلل الكلام بلسانه ويظهر الفصحى.
يقول عمر بن الخطاب: شقاشق الكلام من شقاشق الشيطان.
ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبغض الرجل البليغ الذي يتخلل بلسانه تخلل البقرة بلسانها).
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبغض الناس عند الله الثرثارون المتشدقون المتفيهقون).
يقال: فهق الرجل إذا امتلأ، والثرثارون هم الذين يكثرون الكلام.
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما نقصت صدقة من مال وما زاد الله عز وجل عبداً بعفو إلا عزاً، وما تواضع عبد لله عز وجل إلا رفعه الله عز وجل).(27/17)
أسباب التواضع
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما استكبر من أكل معه خادمه، وركب الحمار بالأسواق، واعتقل الشاة فحلبها).
أي: فهذه الأشياء تطرد الكبر عن الإنسان، وهي أنه يركب الحمار بالأسواق، ويأكل مع عياله وخدمه، ويعتقل الشاة، أي: يربطها ثم يحلبها على ملأ من الناس.
وهناك أشياء أخرى: وهي أن يخصف نعليه بيده، ويرقع ثوبه، ويرضى بلبس الصوف، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا دخل البيت، فإنما هو في حاجة أهله، وكان يرقع ثوبه ويخصف نعله، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من أحد إلا برأسه حَكَمَة بيد ملك، فإذا تواضع قيل للملك: ارفعها، وإذا تكبر قيل للملك: دعها).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في غير مسكنة، وأنفق مالاً جمعه في غير المعصية، ورحم أهل الذل والمسكنة، وخالط أهل الفقه والحكمة).
(وجلس جبرائيل عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى السماء فإذا ملك ينزل، فقال له جبرائيل: إن هذا ملك لم ينزل قط منذ خلق قبل الساعة، فلما نزل قال: يا محمد! أرسلني إليك ربك، أفملكاً نبيناً يجعلك أو عبداً رسولاً؟ فقال جبرائيل: تواضع لربك يا محمد! قال: بل عبداً رسولاً).
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا عبد آكل أكل العبد وأجلس جلسة العبد).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يأكل متكئاً.
وتقول السيدة عائشة: إنكم لتُغفلون أفضل العبادة التواضع.
فالتواضع هو أفضل العبادة؛ ومن التواضع رثاثة الثياب، كما يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن البذاذة من الإيمان)، والبذاذة هي أن ترضى بأن تلبس الثياب الدون.
وبعض الإخوة ليس عنده إلا ثوب واحد، فلا يرضى أن يخرج من بيته إلا وثوبه مكوى، فإن لم فإنه يصلي في البيت، ويظل حبيس البيت حتى يأتوا له بقميص آخر، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن البذاذة من الإيمان)، وكان في ثوب سيدنا عمر أمير المؤمنين أربع عشرة رقعة منها رقعة من الجلد، فكان يرقع الثوب، وكان في إزاره بين كتفيه أربع رقاع رآها أنس بن مالك وحكاها للناس.
ويدخل سيدنا علي بن أبي طالب في وليمة أعدها أبو موسى الأشعري وليس لقميصه جيوب.
ويدخل رجل إلى المدائن على سلمان الفارسي وعليه كساء ككساء الحمالين مرقوع، فقال له الرجل: تعال احمل معي هذا التبن، فحمل سيدنا سلمان التبن وهو الأمير، فلما رآه الناس قالوا له: أيها الأمير! فقال: والله لا أغير نيتي.
والذي يلبس ثياباً طيبة ولا يخالف الشرع فهو ليس من قبيل الكبر.
وسيدنا عيسى بن مريم يقول: جودة الثياب خيلاء القلب.
ويقول طاوس: والله إني لأغسل ثوبي فيتغير قلبي.
وعندما جاء سيدنا عمر لفتح بيت المقدس لبس ثوباً جديداً فتغير، ثم أتي ببرذون فركبه فشعر بالخيلاء فقال: هذا شيطان، إلي بقميصي وإلي بدابتي! ويقول عون بن عبد الله: من كان في صورة حسنة وموضع لا يشينه ووسع عليه في الرزق، ثم تواضع لله عز وجل، كان من خالص أولياء الله تبارك وتعالى.(27/18)
علامات التواضع
يقول سيدنا الفضيل بن عياض: التواضع أن تنقاد للحق ولو سمعته من صبي أو من جاهل.
والتواضع عند سيدنا عبد الله بن المبارك شيء آخر: وهو أن تكون عندك عزة نفس عما في أيدي الناس.
ويقول: رأس التواضع أن تضع نفسك عند من هو دونك في نعمة الدنيا، حتى تعلمه أنه ليس لك بدنياك عليه فضل، وأن ترفع نفسك عمن هو فوقك في نعمة الدنيا؛ حتى تعلمه أنه ليس له بدنياه عليك فضل.
وهذا هو معنى قولهم: الكبر على أهل الكبر صدقة.
وأتى رجل حسن الصورة من أبناء الدنيا إلى ابن المبارك فقال الرجل: ما أعظمك؟ قال: لا، بل هي عزة الإسلام، قل ما أعزك؟ ولذلك فإن التكبر على أبناء الدنيا تواضع؛ لأنه في الحقيقة عز النفس، وهذا غير مذموم، قال الله تبارك وتعالى: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:146]، ومعناه: أن هناك تكبراً بالحق بأن يترفع المرء بنفسه وقيمته عن أبناء الدنيا.
ومن التكبر بالحق أن ابن دقيق العيد يمد يده لسلطان والسلطان يقبله، فهذا تكبر بالحق، وليس تكبراً مذموماً.
ومن التكبر بالحق أن سيدنا مالك بن أنس كان لا يخص أحداً بالدرس، فيظل فإذا جاءه رجل فإنه يقف ببابه مستشرفاً من أجل أن يخرج عليه، فتخرج إليه جارية سوداء؛ ثم تأتي له بكرسي وتقول له: اجلس هاهنا حتى يخرج الشيخ.
فهذا نوع من التكبر بالحق على أبناء الدنيا.
ودخل ابن السماك على هارون الرشيد وقال: يا أمير المؤمنين! والله لتواضعك في شرفك أشرف لك من شرفك، قال: ما أحسن هذا الكلام! ثم قال له: إن امرأً آتاه الله جمالاً في خلقه وموضعاً في حسبه، وبسط له يده، فعف في جماله وواسى في ماله وتواضع في حسبه كتب في ديوان الله عز وجل من خالص أوليائه، فدعا هارون الرشيد بدواة وقرطاس وكتب هذا الكلام بيده.(27/19)
علامات الكبر
ومن علامات الكبر: أن يفتخر الرجل بكثرة الأتباع من طلبة العلم أو غيرهم، فيحملون له أشياء، أو يمشي ومعه جنود يرافقونه، ويرى أن له منة عليهم، وربما فرح بنفسه فقال للتابع: احمد ربك أنني أحملك متاعي! إنك أقل من أن تحمل متاعي.
فهذه علامة من علامات الكبر.
كان سيدنا أبو عبيدة عامر بن الجراح وهو أمير يحمل سطلاً له من خشب فيه ماء ساخن ويذهب به إلى حمام أبان.
وكان ذو الكلاع قيلاً من أقيال اليمن في الجاهلية، وكان الناس يقفون على بابه الهدايا من أجل أن يدخلوا عليه، فيقال لهم: لم يأت عليكم الدور، انتظروا فإن غيركم قد سبق بهدايا منذ سنة كاملة.
وكان إذا اختفى ثم برز سجد له مائة ألف رجل، فلما أسلم أراد أن يعفو الله عز وجل عنه هذا الذنب فأعتق أربعة آلاف رقبة، وأراد عمر أن يشتريهم، فرفض ذلك وقال: عسى الله أن يغفر لي ذنبي، قال: وما ذنبك؟ قال: اختفيت عن الناس ثم خرجت فسجد لي مائة ألف رجل.
وبعد أن أسلم كان يحمل اللحم بيده، ويأتي به لأولاده، فيقول له أتباعه: دعنا نحمل عنك، فيرفض، وعندما كان يحمل اللحم بيده كان يقول: أف لذي الدنيا إذا كانت كذا أنا منها كل يوم في أذى ولقد كنت إذا ما قيل من أنعم الناس معاشاً قيل ذا ثم بدلت بعيش شقوة حبذا هذا الشقاء حبذا وكان عمر بن الخطاب يعلق اللحم في يده اليسرى، ثم يحمل الدرة بيده اليمنى ويمضي في الأسواق حتى يأتي إلى أهله.
وكان علي بن أبي طالب يحمل التمر بيده ويقول: أبو العيال أحق بالحمل.
وكان الربيع بن خثيم يحمل عكة إلى عمته، أي: قفة من خوخ.
ومن علامات الكبر: أن يأنف المتكبر من جلوسه مع المساكين.
وكان جعفر بن أبي طالب يجالس المساكين حتى سمي بأبي المساكين، أما أم المساكين فهي أم المؤمنين زينب رضوان الله عليها.
وكانت أم الدرداء تجلس إلى المساكين.
ورثاثة الثوب من علامات التواضع وربما ارتضى الرجل أن يلبس الثياب الرثة وفيه من الرياء ما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.
كان سيدنا عبد الرحمن بن عوف من أجل الصحابة، وكان لا يعرف من بين عبيده، لأنه كان يلبس نفس الثياب التي يلبسها عبيده.
ولبس سلمان الفارسي ثياباً بالية، فانتهره الناس، فقال: إنما أنا عبد ألبس لبس العبد، فإذا عتقت -يعني في الآخرة- وفك القيد عني لبست ثياباً لا تبلى حواشيها.
فمن التواضع ألا يمشي الإنسان مشية المطيطاء، ولا يترفع على المساكين، ولا يجعل الناس يحملون متاعه، ولا يترفع على أهل بيته.
رزقني الله وإياكم حسن الخلق وتواضعاً في الصفات الخلقية.
هذا وأستغفر الله لي ولكم.(27/20)
الأسئلة(27/21)
قيام الليل علاج للكبر والرياء
السؤال
هل المرائي والمتكبر يبكيان إذا قاما من الليل؟
الجواب
قيام الليل يطرب الروح ويجلب الراحة للإنسان، يقول لـ قتادة: ما نافق من قام الليل.
أي: فقيام الليل يعلم الناس الإخلاص، فليس في قيام الليل كبر ولا رياء، بل هو علاج الكبر والرياء.(27/22)
نصيحة لرواد المساجد
السؤال
نرجو منكم نصيحة لبعض رواد المساجد والمصلين فيها؟
الجواب
أنصح الإخوة أن يحافظوا على هذا المسجد، ومن لا ينتسب لهذا المسجد ولم يكن من رواد هذا المسجد فعليه أن يتقي الله تبارك وتعالى، ويصرف الأولاد عن اللعب في المسجد، وبعض الناس يريدون أن يهدموا آخر صرح من صروح الدعوة في الجيزة، فاتقوا الله تبارك وتعالى.
فإذا كنت تريد أن تعمل شيئاً فلا تنسبه إلى المسجد، فكل الناس محتاجون لتربية طويلة جداً، ودولة الخلافة التي ننشدها لن نحصل عليها؛ لأننا فيما بيننا لا نقبل الحق ولا التناصح، ومن رحمة الله بنا أنه لم يمكن لنا، ولو مكن لنا لكنا قد قطعنا بعضنا، فواقعنا الذي نعيشه التطاول والكبر.
ومن كان له منهج معين فليطبقه في مسجده بعيداً عن الناس، ولا يحمل الناس ابتلاءات لا يقدرون عليها، فالبعض يقوم الساعة الثانية بعد نصف الليل يريد أن ينشد قصيدة، فبينما كنت ذات مرة مع بعض الإخوة في قراءة قرآن وتعبد وصيام وقيام ليل، إذا برجل منهم يقول: يا فلان اكتب لي قصيده في خصالي! أو في صديق! والمنتقبات سمعن أفضع السباب في الشوارع، ولا أحد يستطيع أن يفتح فمه، والمساجد أخذت على مرأى من الناس ولا أحد يستطيع أن يتكلم، والإخوة لهم ثلاث سنين في السجن، والضرب موجود.
فاتق الله في نفسك، وعليك نفسك، فأنت حر في نفسك، ولكن لست حراً في غيرك حتى تدخله في المآزق والورطات.(27/23)
منوعات شعرية
السؤال
نرجو من فضيلة الشيخ أن يذكر لنا أبياتاً شعرية في صنع الله تعالى؟
الجواب
القصيدة في صنع الله تبارك وتعالى: قل للطبيب تخطفته يد الردى يا شافي الأمراض من أرداكا قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا قل للصحيح يموت لا من علة من بالمنايا يا صحيح دهاكا قل للضرير خطا بين الزحام بلا اصطدام من يقود خطاكا قل للبصير وكان يحذر حفرة فهَوَى بها من ذا الذي أهواكا قل للجنين يعيش معزولاً بلا راعٍ ومرعى ما الذي يرعاكا وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا واسأل بطون النحل كيف تقاطرت شهدًا وقل للشهد من حلاكا بل سائل اللبن المصفى كان بين دم وفرث ما الذي صفاكا وإذا رأيت الحي يخرج من حنايا ميت فاسأله من أحياكا قل للنبات يجف بعد تعهد ورعاية من بالجفاف رماكا وإذا رأيت النبت في الصحراء ير بو وحده فاسأله من أرباكا وإذا رأيت النخل مشقوق النوى فاسأله من يا نخل شق نواكا يا منبت الأزهار عاطرة الشذى هذا الشذى الفواح نفح شذاكا يا مجري الأنهار ما جريانها إلا انفعالة قطرة لنداكا أتراك عين والعيون لها مدى ما جاوزته ولا مدى لمداكا إن لم تكن عيني تراك فإنني في كل شيء استبين علاكا فاقبل دعائي واستجب لرجاوتي ما خاب يوماً من دعا ورجاكا ويقول آخر: سل الواحة الخضراء والماء جارياً وهذي الصحاري والجبال الرواسيا سل الروض مزداناً سل الزهر والندى سل الليل والإصباح والطير شادياً وسل هذه الأنسام والأرض والسما وسل كل شيء تسمع الحمد ساريا فلو جن هذا الليل وامتد سرمداً فمن غير ربي يرجع الصبح ثانيا ويقول ثالث: يا أيها الماء المهين من الذي سواك ومن الذي في ظلمة الأحشاء قد والاكا ومن الذي غذاك من نعمائه ومن الكروب جميعها نجاكا ومن الذي شق العيون فأبصرت ومن الذي أعلاكا ومن الذي تعصي ويغفر دائماً ومن الذي تنسى ولا ينساكا ويقول رابع: يا ذا الذي أمسى الفؤاد بذكره أنت الذي ما إن سواه أريد تفنى الليالي والزمان بأسره وهواك غض في الفؤاد جديد ويقول خامس: إذا كان حب الهائمين من الورى.
يسلب اللب والعقلا فماذا عساه يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى ويقول سادس: أحن بأطراف النهار صبابة وفي الليل يدعوني الجوى فأجيب وأيامنا تفنى وشوقي زائد كأن زمان الشوق ليس يغيب ويقول سابع: أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا فلو أني استطعت غضضت طرفي فلم أنظر به حتى أراكا أحبك لا ببعضي بل بكلي وإن لم يبق حبك لي حراكا إذا اشتبكت دموع في خدود تبين من بكى ممن تباكى فأما من بكى فيذوب وجداً وينطق بالهوى من قد تباكى(27/24)
حكم الصيام على الحامل
السؤال
زوجتي حامل في الشهر السابع، وهي ضعيفة جداً، ونحن على مشارف شهر الصيام، وهي تأبى إلا أن تصوم، وفي رمضان الذي مضى أصرت على الصيام وهي ضعيفة جداً، فنرجو من فضيلتكم النصح لها؟
الجواب
الأخت ليس عليها إلا الإطعام فقط، فتطعم عن كل يوم رحمة بجنينها، والله أعلم.(27/25)
زكاة أرباح الاستثمار
السؤال
إنني أعمل في شركة استثمار وتعطي أرباحاً سنوية، فهل علي زكاة المال؟
الجواب
إذا حال عليها الحول وجبت الزكاة.(27/26)
حكم إطالة الثياب بدون نية التكبر
السؤال
لو كان الرجل يطيل الثياب ولا يريد من ذلك التبختر فهل يجوز؟
الجواب
إطالة الثياب نفسها خيلاء، بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما فعل أبي بكر فهذه خصوصية له، فقد قال له الرسول صلى الله عليه وسلم: (لست منهم)، وبدليل أنه لم يرض عن الصحابة غير أبي بكر.(27/27)
حكم وجود الفرق والجماعات الإسلامية
السؤال
ما رأيكم في وجود الفرق والجماعات في هذا الزمن مع أنهم متفقون في أساس العقيدة؟
الجواب
الذين يتفقون في العقيدة ليسوا فرقاً إنما هم جماعات، أما الفرق فإن بينها اختلافاً في العقيدة، ولله الحمد فإن أهل السنة والجماعة في كل مصر من الأمصار قد قضوا على بدع أهل الباطل، ومنها بدعة الخوارج أو جماعة التكفير والهجرة، أما اختلافهم في العقيدة فنسأل الله الهداية للجميع.(27/28)
تزكية النفس
إن الحاجة شديدة إلى تزكية النفس وتطهيرها مما علق بها من الأدران والشهوات، إذ بالتزكية تسمو النفس، وتعلو الهمة، وتتجه الروح نحو خالقها.
وذلك لا يأتي من فراغ وعبث، وإنما له أسباب توصل إليه، وطرق تدل عليه، وهي مأخوذة من الكتاب والسنة وسير السلف الصالح.(28/1)
أهمية التزكية
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، و {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: بادئ ذي بدء شكر الله لكم حسن استقبالكم لي، وأن مكنتموني من العودة إليكم مرة أخرى، وقديماً قال الشاعر: ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقاً عنهم وهم معي وتبكيهم عيني وهم في سوادها ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي موضوع اليوم موضوع هام متعلق بالدعوة التي تنتسب إلى السلف وترفع راية السلف، وكأنا نقول لكل المسلمين: هذه بضاعتنا ردت إلينا، ومن أولى بالتزكية ممن يقتفون أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم! وعجباً للناس يبكون على من مات جسده ولا يبكون على من مات قلبه، وهو أشد! وموت القلوب يكون بالبعد عن علام الغيوب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي حسنه شيخنا الشيخ الألباني: (من أراد أن يعلم ما له عند الله فلينظر ما لله عنده).
وموضوع التزكية موضوع هام، ونحمد الله، وله المنة والفضل من أن الذنوب لا تفوح رائحتها في دار الدنيا، وهذا من فضل الله تبارك وتعالى علينا، أن ستر علينا الذنوب، فلو فاحت لضجت المشام.
قال محمد بن واسع: لو كانت للذنوب رائحة ما استطاع أحد أن يجالسني من نتن رائحتي.
وهو من هو، هذا الذي كان يسمى بزين القرآن! فإذا ما مات الإنسان وكان صالحاً فإنها تفوح منه رائحة كأحسن رائحة مسك على وجه الأرض؛ حتى تقول الملائكة: روح من هذه الطيبة؟ وإذا كان العبد قد دنس نفسه بالمعصية في دار الدنيا فإنها تفوح منه كأنتن جيفة على وجه الأرض، فتتأذى منها الملائكة، حتى يقولون: روح من هذه الخبيثة وفي أي جسد خبيث كانت؟(28/2)
الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو بالتزكية
وقد كان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها).
وتزكية النفوس عمل شاق، والأمر كله بيد الله عز وجل، وبعد فضله ومنته، فتزكية النفوس بالله لا بالنفس، قال الله تبارك وتعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].
وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم جنبني منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اللهم كما حسنت خلقي فحسن خلقي).
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تزكية النفس إحدى الخصال الموجبة لذوق طعم الإيمان، فإن للإيمان ذوقاً وحلاوةً، كما أن له فرحاً، قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
وقد قال أحد الزهاد: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
وقال الآخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً وأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي، أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما ذهبت فهي معي، إنما هي كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، إن قتلوني فقتلي شهادة، وإن نفوني عن بلدي فنفيي سياحة، وإن سجنوني فأنا في خلوة مع ربي.
إن المحبوس من حبس عن ربه، وإن الأسير من أسره هواه.(28/3)
الفلاح معلق بالتزكية
ولقد أقسم الله تبارك وتعالى أحد عشر قسماً متتالياً ما أتت إلا في موضع واحد من كتاب الله عز وجل، على أن فلاح النفوس منوط بتزكيتها، فقال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس:1 - 10].
وتزكية النفوس ملاك دعوة الرسل بعد التوحيد، فهذا موسى عليه السلام يقول لفرعون: {هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات:18 - 19].
وتزكية النفوس يا إخوتاه! سبب للفوز بالدرجات العلا والنعيم المقيم، قال الله عز وجل: {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} [طه:75 - 76].(28/4)
التزكية ربع الرسالة
إن تزكية النفوس مطلب عظيم من مطالب الرسالة، بل هي ربع الرسالة المحمدية، وهي وظيفة الأنبياء، قال الله تبارك وتعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} [البقرة:151].
وقال الله عز وجل: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [آل عمران:164].
وقال الله تبارك وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
ولقد دعا خليل الرحمن إبراهيم لنبينا صلى الله عليه وسلم فقال: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة:129].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح بمجموع طرقه كما رواه البخاري في الأدب المفرد وأحمد والحاكم والخرائطي في مكارم الأخلاق: (إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق) صححه الحافظ ابن عبد البر.(28/5)
معاني التزكية(28/6)
معنى التزكية في اللغة والشرع
والتزكية -يا إخوتاه- في اللغة تدور حول الطهارة والنماء والبركة.
وهي شرعاً تدور حول هذه أيضاً.
فالتزكية شرعاً: تطهير النفس والقلب من أمراضها ومن ظلماتها ومن نجاستها ومن شهواتها الحسية والمعنوية.
هذا هو المراد بالتزكية، أي: تطهير النفس من أمراض النفوس، من الكفر والنفاق والفسوق والبدعة والشرك والرياء -فمن سمع سمع الله به مسامع خلقه، وصغره وحقره يوم القيامة- ومن حب الجاه والرئاسة.
وإن الرجل قد يزهد في المال ولا يزهد في الجاه، ولهذا كان صفوة الزهاد من عباد هذه الأمة أبعد الناس عن الجاه والرئاسة، فهذا محمد بن يوسف الأصبهاني المسمى بعروس العباد ما كان يشتري خبزه من بقال واحد، ولما سئل عن ذلك قال: أخاف أن يعرفوني فيكرموني من أجل ديني، فأكون ممن يعيش بدينه، أو ممن يأكل بدينه.
ويدخل عبد الله بن محيريز عالم الشام وعابدها -الذي قال فيه الأوزاعي: إني أعد بقاء ابن محيريز أماناً لأهل الأرض- السوق فيشتري من بائع ولا يعرفه البائع، وبعد أن انتهى من الشراء أتى رجل إلى البائع فقال: إنه ابن محيريز عابد أهل الشام، فقال: ما كنت أعرفه، فولى عبد الله بن محيريز تاركاً السوق وقال: إنما نشتري بأموالنا لا بديننا.
وأيضاً التزكية تطهير النفس من الحسد والعجب والكبر والسحت والغرور والغضب وحب الدنيا واتباع الهوى.
وأيضاً تطهير النفس من طول الأمل، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (صلاح أول هذه الأمة بالزهد واليقين، وهلاك آخرها بالبخل والأمل).
وإن سيد التابعين الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (سيد التابعين أويس القرني رجل بار بأمه، لو أقسم على الله لأبره، مروه فليستغفر لكم)، يقول فيه الإمام أحمد: الزهد زهد أويس كان يمنعه العري من حضور الجماعات، فكان يجلس في قوصرة وربما منعه العري أحياناً من حضور الجماعات، وهو سيد التابعين.
وأيضاً التزكية تطهير النفس من حب الدنيا، والعيش للدنيا لا يليق بمن شبوا عن الطوق، قال تعالى: {إِنَّمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36].
فاللعب لا يليق بمن شبوا عن الطوق من الرجال، وأنت عندما تجد رجلاً كبيراً في السن يلعب بلعبة لطفل سنه خمس سنين، تقول له: يا رجل! اتركها للأطفال الصغار.
فالعيش للدنيا والعمل للدنيا لا يليق بمن شبوا عن الطوق، والعيش في المستنقع الآسن والوحل وشهوات هذه الدنيا لا يليق بالرجال.
يقول سيدنا يحيى بن زكريا: أو للعلب خلقنا؟! إنما خلقنا لنحيا مع الخالق في دار غرسها الرحمن بيده.(28/7)
التزكية هي مراقبة الله عز وجل
وفسر رسول الله صلى الله عليه وسلم التزكية بمقام الإحسان، وهو أعلى مقامات الدين، وفسرها بالمراقبة، وجعلها موجبة لذوق طعم الإيمان، ففي الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من فعلهن فقد ذاق طعم الإيمان: من عبد الله عز وجل وحده بأنه لا إله إلا هو، وأعطى زكاة ماله طيبةً بها نفسه في كل عام، ولم يعط الهرمة ولا الدرنة ولا المريضة، ولكن من أواسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيرها ولم يأمركم بشرها، وزكى نفسه، فقال رجل: وما تزكية النفس؟ قال: أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان).
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعةً ولا أن ما تخفيه عنه يغيب وكما قال الشاعر: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني ويقصيني لا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها.(28/8)
التزكية هي التقوى
وتزكية النفوس يا إخوتاه! هي التقوى، ويشهد لذلك قول الله عز وجل: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم:32]، فهذه الآية نص صريح على أن التزكية هي التقوى.
وقال الله عز وجل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} [الليل:17 - 18].
وقال الله عز وجل: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس:7 - 9].
وحديث الرسول صلى الله عليه وسلم أيضاً ينص على أن التقوى هي التزكية، كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: النفس تزكو بترك المحرمات مع فعل المأمورات.
وترك المحرمات مع فعل المأمورات هي التقوى.
وقال ابن عيينة وقتادة في قول الله عز وجل: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]: قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وصالح الأعمال.
وقال ابن قيم الجوزية رحمه الله: زكاها أي: طهرها من الذنوب وأصلحها بالطاعة.(28/9)
موعظة في تكريم الله للإنسان وغناه عنه وفقر الإنسان إليه
يا جوهرة بمزبلة لا تعرف قدرها، أنت المراد من هذا الكون، إن الله يريدك لجواره، كم من ملك في السماوات ما ذاقوا طعاماً وما شربوا شراباً منذ أن خلقهم الله عز وجل ليس لهم مدحة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله تعالى من ريح المسك).
كم من ملك في السماوات ما ذاقوا غمضاً منذ أن خلقهم الله عز وجل، ليس لهم مدحة، وأما المؤمن فقد قال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا} [السجدة:16].
يا من أسجد الله لأبيك الملائكة وأنت في صلبه، يا من أقام الله الأطهار من عباده الذين زكت أنفسهم يستغفرون لك قبل مجيئك إلى دار الدنيا، فهذا نوح عليه السلام يقول: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28] بل يأمر الله نبيه أن يستغفر لك، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19].
بل يجعل الله عز وجل حملة العرش يستغفرون لك.
تطوي المراحل عن حبيبك جاهداً وتظل تبكيه بدمع ساخن كذبتك نفسك لست من أحبابه تشكو البعاد وأنت عين الظالم كيف لا تحب من أنت به، وبقاؤك منه، وتسييرك بيده، ورجوعك إليه؟ وكل مستحسن في الوجود هو الذي حسنه، وهو الذي جمله وزينه وعطف النفوس إليه، فقد أعطاك أيتها النفس مالاً فأملي، وبلغك ما لم تطلبي، وستر عليك من القبيح ما لو فاح لضجت المشام.
كم عدو حط منك بالذم فرقاك، وكم أعطش من شراب الأنام خلقاً وسقاك، وكم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك.
من أعجب الأشياء أن تعرفه ثم لا تحبه، وأن تسمع داعيه ثم تتأخر عن إجابته، وأن تعرف قدر غضبه ثم تتعرض له، وأن تعلم عثرة القلب عند الخوض في غير حديثه ثم لا ترتاح إلى ذكره، وأعجب من هذا علمك أنك لابد لك منه، وأنك أحوج شيء إليه، وأنت فيما يبعدك عنه راغب.
عالج النفس من شهواتها وأمراضها ثم بعد ذلك تحقق بأمهات المقامات القلبية من التوحيد والعبودية والإخلاص له عز وجل، والصدق معه، والزهد والمحبة له، والخوف والرجاء منه وحده، فإن في القلب شعثاً لا يلمه إلا إقبال على الله عز وجل وخوف منه وإنابة إليه وتبتل إليه.
والخوف والرجاء والورع والصبر والرضا والتسليم والمراقبة والتوبة مقامات لابد للإنسان أن يحققها حتى تزكو نفسه، ثم بعد ذلك الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو خير من زكت نفسه.(28/10)
بيان أن التزكية عمل الأنبياء
وتزكية النفوس هو عمل النبيين، يقول الشاعر: ومن لا يربيه الرسول ويسقه لباناً له قد در من ثدي قدسه فذاك لقيط ما له نسبة ولا يتعدى طور أبناء جنسه فكل روح لم يربها الرسل لا تفلح ولا تصلح للأحوال العلية.(28/11)
فساد نظريات التزكية المستمدة من غير الوحي
ومنهج التزكية ليس متروكاً لعلماء الكلام ولا للفلاسفة ولا لأصحاب المواجيد، ولا لنظريات علماء النفس ولا للمجاهدات البوذية، وإن كثيراً ممن كتبوا في أمور التربية من علماء النفس أتوا بنظريات متضاربة ومناهج متصارعة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولو اطلعت عليها -يا أخي- لوليت منها فراراً ولملئت منها رعباً، ولكن دعاتها لا يزالون يلقون عليها من زخرف القول غروراً حتى أحلوا المريدين مستنقعاً وبوراً، واتخذوا من أجلها هذا القرآن مهجوراً.
وقد قال قائلهم: حدثني قلبي عن ربي.
وقال آخر: لكم علم الورق ونحن لنا علم الخرق.
وقال ثالث بإسقاط التكاليف.
وقال الجنيد: من قال هذا فهو أشد كفراً من اليهود والنصارى، أي: الذين قالوا: إنهم وصلوا إلى الله عز وجل بإسقاط التكاليف، نعم وصلوا ولكن إلى سقر.
وما بال الشيخ سعيد حواء -رحمه الله وغفر له- يقول: لقد جربت كثيراً ورأيت كثيراً، ونادراً ما وجدت كمالاً في النفس أو إحساناً في السلوك أو قدرة على التعامل إلا وجدت معها تربية صوفية صافية، وذلك لأن مفاتيح النفس البشرية إنما هي في هذه التربية وأصولها وقواعدها؛ لأن الصوفية هم الذين ورثوا عن الرسول صلى الله عليه وسلم تربية النفس، وتخصصوا في ذلك، وتفرغوا له، وفطنوا لما لا يفطن له غيرهم، وقامت لهم ثروة من التجارب السارة في كل عصر، فما لم يأخذ الإنسان عنهم تبقى نفسه بعيدة عن الحال النبوية؛ لأن الصوفية هم الذين ملكوا العلم الذي تتهذب به النفس البشرية.
هذا قول الشيخ سعيد حواء غفر الله له، ولا يقبل منه هذا الكلام في أي حال من الأحوال.
بل يقول الغزالي رحمه الله: إن الصوفية في رقصاتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ويسمعون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور إلى درجات يضيق عنها نطاق النطق.
وقوله هذا مخالف لحال السلف وعلمهم! قال إسحاق بن راهويه: سمعت أحمد بن حنبل وقد سئل عن الوساوس والخطرات قال: ما تكلم فيها الصحابة ولا التابعون، والكلام في الوساوس والخطرات مثل رجل يمر على جب القاذورات، فإن أراد أن ينفشه لا ينتهي هذا الجب، ففي كل لحظة وفي كل مرحلة يتأذى بأنتان جديدة لا تخطر له على بال، ولكن إذا مر عليه مرور الكرام وعرض له منه عارض غسله فهذا أولى.
وهذه طريقة الكمل كما يقول شيخ الإسلام ابن القيم.
فإن كان الرجل في طب الأبدان لا يذهب إلا إلى الطبيب المتخصص -ولو داوى جسده بمجرد التجارب التي لا تسمن ولا تغني من جوع فإن الناس ينكرون عليه- فما بالك بمرض القلوب؟ والقلب كالملك، والجوارح كالجنود، فهذا الأمر موكول إلى الرسل لا إلى غيرهم.(28/12)
وسائل التزكية(28/13)
الصيام
والصوم تزكية للنفوس، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183]، يعني: تزكو نفوسكم.
فمن منا يكثر من صيام النافلة ويربط على بطنه قليلاً؟ من منا لا يطول شبعه، ويعمل بقاعدة السلف: جواز الشبع أحياناً، والأصل عدم الشبع؟ أي: يجوز لك أن تشبع أحياناً.
وقد قيل لسيدنا يوسف -وكان على خزائن الأرض-: لم لا تشبع؟ قال: أخاف أن أشبع وأنسى الجياع.
وداود بن أبي هند أحد رواة الكتب الستة، صام أربعين سنة لا تشعر به زوجه، كان يأخذ الطعام من البيت بعد الفجر ويتصدق به في عرض الطريق، ثم بعد ذلك لا يصل إلى بيته إلا بعد صلاة المغرب، فتظن زوجته أنه قد أكل ما أخذه من طعام، ويظن أهل السوق أنه قد تناول إفطاره في البيت.
وإبراهيم بن هانئ النيسابوري أخص تلاميذ الإمام أحمد بن حنبل مات وهو صائم، حتى قال الإمام أحمد لابنه إسحاق: ومن يقدر أو من يطيق ما يطيقه والدك؟ وعروة بن الزبير مات وهو صائم.
وأبو طلحة الذي قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (لصوت أبي طلحة في الجيش خير من فئة أو خير من ألف رجل) هذا الصحابي الجليل قال الإمام الذهبي: إنه سرد الصوم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم نيفاً وعشرين سنة.
وقال الحاكم: أربعين سنة.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع(28/14)
الزكاة والصدقة
والزكاة طهارة، فالإنسان يزكي نفسه بالإنفاق ويتخلى عن أدوى الداء، وهو البخل.
قال الله تبارك وتعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103].
ومن منا يدور بخلده أن امرأة يأتي لها ثمانون ألف دينار فتفرقها، ثم لا تجد في آخر النهار طعاماً تفطر عليه وكانت صائمة؟ من منا يفعل هذا؟ ومن منا يفعل مثل ما فعل أويس القرني، كان إذا أتى الليل يتصدق بكل ما عنده، ثم يقول: اللهم إني أعتذر إليك عن كل كبد جائعة من المسلمين، فإنه ليس في بيتي إلا ما في بطني من الطعام، وما يستر عورتي من الثياب.
فهؤلاء الناس وصل بهم الإحساس بالمسلمين إلى هذا، وقد ذكر صلى الله عليه وسلم من السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: (ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه).
علي زين العابدين كان يبخل ويتهم بالبخل، فلما مات وجدوه يقوت أهل مائة بيت من بيوت المدينة، فمن منا يفعل هذا؟(28/15)
الصلاة
الصلاة تزكية، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
ومن مثلك يا ابن آدم! خلي بينك وبين المحراب فتدخل على سيدك أنى تشاء.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من واظب على تكبيرة الإحرام أربعين يوماً كتبت له براءتان: براءة من النفاق، وبراءة من النار).
وسيدنا سعيد بن المسيب يقول: منذ أربعين سنة ما سمعت الأذان إلا بالمسجد، ومنذ أربعين سنة ما نظرت إلى قفا مسلم في صلاة.
وقال عدي بن حاتم الطائي الصحابي الجليل: ما أتى وقت صلاة إلا وأنا إليها بالأشواق.
إن الذنوب رجس، والصلاة تطهر الإنسان من ذنوبه، قال ثابت البناني مسنداً إلى سيدنا أنس بن مالك أنه قال: لا يسمى العابد عابداً ولو كان فيه كل خصلة من خصال الخير حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة؛ لأنهما تأخذان من لحمه ودمه، ولو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39].
فالصلاة والمحافظة على السنن الرواتب وعلى قيام الليل من أسباب التزكية.
إنما قالوا التهجد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة وأذان من بلال ادخلوها آمنين فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعين وأما كون الإنسان ينام إلى الصباح فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن رجل نام حتى أصبح: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه).
وإذا قام إلى الصلاة أصبح نشيطاً طيب النفس كما جاء في الحديث؛ فالصلاة طهارة.(28/16)
الطهارة والوضوء
ويزكي نفسه بالطهارة وبالوضوء، كما قال الله عز وجل: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:108].
والطهارة في كتاب الله تنتظم طهارة القلب والجوارح، كما قال الله عز وجل: {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب:53].
وقال الله عز وجل: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال:11].
وطهارة الأبدان طهارة الظاهر، وقد قرنت بطهارة القلوب، كما قال الله عز وجل: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} [الأنفال:11].
وقال الله عز وجل: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4]، أي: نفسك فطهرها.(28/17)
التوحيد
إن النفوس تزكو بتوحيد الله عز وجل، كما قال شيخ الإسلام الهروي لما سئل: هل كان هناك ولي لله على غير اعتقاد الإمام أحمد بن حنبل؟ قال: ما كان هذا ولا يكون.
فكيف تزكو نفس الجهمي وهو لا يعرف له رباً عليماً ولا قادراً ولا سميعاً ولا بصيراً؟ وإنما بالتوحيد تزكو النفوس.
وأرواح المشركين نجسة ونفوسهم خبيثة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة:28].
وقال الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [المائدة:41].
وقال الله تبارك وتعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى:14]، ولم تكن الزكاة قد فرضت بعد، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية، أي: قد أفلح من تطهر من الشرك.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت:6 - 7] قال ابن عباس: أي: لا يشهدون أن لا إله إلا الله.
والإنسان إذا عرف ربه، وخشع له، وسلم له، ورضي به، وخافه ورجاه فإنه يفعل ما يحبه الله عز وجل، ويبتعد أشد البعد عما ينهى الله تبارك وتعالى عنه، وهل التزكية إلا هذا؟ فالإنسان يزكي نفسه باعتقاد أهل السنة والجماعة، ويزكي نفسه بعقيدة السلف الصالح والقرون الخيرية أفضل تزكية.(28/18)
الالتزام بالشريعة
للتزكية النفس وسائل كثيرة، والشرائع كلها تزكية، فقد كللت العبادات وزينت المعاملات وتوجت العادات بحسن الخلق، ففي الصلاة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أتيتم الصلاة فعليكم بالسكينة)، وقال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45].
وفي الصيام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الصيام جنة).
وفي الحج قال الله عز وجل: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة:197].
وقال في الزكاة: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة:263].
وفي البيوع قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن خياركم أحاسنكم قضاءً).
وفي المعاملات الزوجية قال تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229].(28/19)
حسن الخلق(28/20)
من أقوال العلماء في حسن الخلق
قال يحيى بن معاذ: في سعة الأخلاق كنوز الأرزاق.
وقال الفضيل: لئن يصاحبني فاجر حسن الخلق أحب إلي من أن يصحبني عابد سيئ الخلق.
وأمهات محاسن الأخلاق كما قال العلامة ابن القيم: هي الصبر والعفة والشجاعة والعدل.
فالصبر يحمله على الاحتمال وكظم الغيظ والأناة والرفق وعدم الطيش، والعفة تحمله على الحياء وفعل كل جميل، والشجاعة تحمله على عزة النفس والتحلي بمعالي الأخلاق والشيم وعلى الندى والجود.
وأضف إلى ذلك كما قال الهروي: العلم والعدل؛ فهذه أمهات مكارم الأخلاق.
والخلق -يا إخوتاه- يمكن اكتسابه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (زكها أنت خير من زكاها).
وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم).
فالأخلاق الجميلة يمكن اكتسابها بمجاورة الصالحين وبالتكيف حتى يعتادها الإنسان.(28/21)
فضل حسن الخلق
فكل المقامات وكل الجهود رجعت إلى حسن الخلق، وتزكية النفوس تنقيتها من الرذائل وتحليتها بالفضائل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم خلقاً).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليدرك بحسن خلقه درجة القائم بالليل الظامئ بالهواجر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله تعالى يحب معالي الأمور وأشرافاها ويكره سفسافها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله جميل يحب الجمال، ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الناس لم يعطوا شيئاً خيراً من خلق حسن).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من يرجى خيره ويؤمن شره، وشركم من لا يرجى خيره ولا يؤمن شره).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليك بحسن الخلق وطول الصمت، فوالذي نفسي بيده ما تجمل الخلائق بمثلهما).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان سهلاً هيناً ليناً حرمه الله على النار).(28/22)
مكانة حسن الخلق من الدين
وتزكية النفوس -يا إخوتاه! هي التحلي بخلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبمكارم الأخلاق.
ولقد قال الله تبارك وتعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
قال ابن عباس: وإنك لعلى دين عظيم، -أي: لا دين أحب إلي ولا أرضى عندي من دين الإسلام.
فرضي الله عن ابن عباس الذي جعل الدين كله خلقاً، ومن زاد عليك في الخلق فقد زاد عليك في الدين.
قال الحسن في قوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] قال: آداب القرآن.
وقال ابن القيم: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] الخلق الذي آثرك الله به في القرآن.
وقالت السيدة عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كان خلقه القرآن).
وهذه الآية: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] آية عظيمة، نزلت على نبينا عليه الصلاة والسلام فلم يته على العباد بها.
وسيدنا سعد بن أبي وقاص كان يقول: لقد جمع لي الرسول صلى الله عليه وسلم بين أبويه، وكان يتفاخر على الصحابة بما قاله، فما ظنك بالذي قال له الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4]، وينزل بها كتاب الله عز وجل؟ من قائلها؟ وفي أي الكتب سطرت هذه الشهادة؟ ومع ذلك لم يتأثر بها الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تزده إلا تواضعاً لربه.
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] يبرز أصالة الأخلاق في الإسلام، وأنها مطلب هام من مطالب الرسالة، كما قال أهل العلم.
وأجمع آية لمكارم الأخلاق قول الله تبارك وتعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه).(28/23)
مشاهد حسن الخلق في التعامل مع أذى الخلق
والإنسان تعرض له مشاهد فيما يصيبه من أذى الخلق، وهذا بيت القصيد -إن شاء الله- الذي يمكن أن نقف عليه قليلاً.
فعلى الإنسان أن يتحلى بالعدل مع ما يصيبه من أذى الخلق، وأن يعرف كيف يتعامل مع عباد الله عز وجل، وكما قال القائل: ستعلمي إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار وحسن الخلق أن يحسن الإنسان خلقه بينه وبين ربه، وبينه وبين الخلق، وله في ذلك مشاهد:(28/24)
خامساً مشهد الإحسان
ثم فوق هذا مشهد الإحسان: أي: أن تقابل إساءة المسيء الذي أساء إليك بالإحسان، وأن تحسن إليه كلما أساء إليك، ويهون هذا عليك علمك بأنك قد ربحت عليه وأنه يعطيك من حسناته، والعلماء قالوا: اقتضاء الهبة الثواب، وهذا المسكين قد وهبك أغلى ما عنده، وهي حسناته، فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها حتى تثبت الهبة.
والحسن البصري كان إذا بلغه عن أحد أنه شتمه يهديه طبقاً من التمر ويقول: بلغنا أنك تهدي إلينا من حسناتك، وليس عندنا إلا هذا التمر.
ومما يهون عليك أيضاً مقابلة الإساءة بالإحسان علمك بأن الجزاء من جنس العمل، فإن كان هذا عملك وإحسانك إلى من أساء إليك مع ضعفك وحاجتك وفقرك وذلك، فهكذا يفعل المحسن عز وجل القادر العزيز الغني بك في إساءتك ويقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك، فهذا لابد لك منه.
وانظر إلى الربيع بن خثيم تلميذ سيدنا عبد الله بن مسعود لما سرقت فرسه وكان قائماً بالليل، وكان قد ذهب غلامه ليحتش، فلما أتى الغلام قال: يا ربيع أين الفرس؟ قال: سرقت، قال: سرقت وأنت تنظر إليها! قال: ما كان شغل يشغلني عن الصلاة، ثم رفع الربيع يده وقال: اللهم إنه سرقني ولم أكن لأسرقه، اللهم إن كان غنياً فاهده، وإن كان فقيراً فأغنه.
هؤلاء هم السلفيون، وهذه هي الرقة التي تذوب في الأرض، فتملأ الأرض رياحين وجناناً، فهو يدعو لسارقه.
ونحن عندنا في مصر مثلاً إذا سرق الواحد مثلاً ربع جنيه يقولون له: اقتله، ثم يدخل العناية المركزية؛ من أجل أنه سرق منه ربع جنيه، فيريد منه عشرة آلاف جنيه، والربيع بن خثيم يدعو لسارقه!(28/25)
سادساً مشهد السلامة
والمشهد الذي هو أعلى من هذا السلامة وبرد القلب: فلا تشوش على قلبك بالتفكير في أن تؤذي هذا الرجل أو تنتقم منه، فإن الرشيد لا يرضى بأن يشوش قلبه، ولا يرضى بمجرد التفكير في أذى هذا الرجل، ولا يشغل همه بهذا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من جعل الهم هماً واحداً كفاه الله سائر همومه).(28/26)
رابعاً مشهد الرضا
ثم بعد ذلك مشهد الرضا، وهو: أن ترضى بما قسم الله تبارك وتعالى لك، وتقول: أحبه إليه أحبه إلي.
عذابه فيك عذب وبعده فيك قرب وأنت عندي كروحي بل أنت منها أحب حسبي من الحب أني لما تحب أحب(28/27)
ثانياً الصبر وكظم الغيظ
المشهد الثاني: الصبر: أن تصبر على أذى الخلق؛ لأنك تعلم عاقبة الصبر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رءوس الخلائق حتى يخيره من الحور العين، يزوجه منها ما يشاء).
فلو شتمك أحد مثلاً وأنت تقدر عليه ولكنك رأيت أنك لو كظمت غيظك فستتزوج من الحور العين ما تشاء؛ لأن هذا مهر لها، فلقد أسأت الخطبة إن لم تصبر.
بل قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه ملأ الله قلبه رضاً يوم القيامة).
فكيف لا يدفعك هذا إلى الصبر على أذى الناس؟ وقد شتم رجل سيدنا سلمان الفارسي فقال له: إن خفت موازيني فأنا شر مما تقول، وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول.
وشتم رجل الربيع بن خثيم فقال له: يا هذا! قد سمع الله كلامك، وإن دون الجنة عقبة إن قطعتها لم يضرني ما تقول، وإن لم أقطعها فأنا شر مما تقول.
فعلى الإنسان أن يصبر على أذى الخلق.(28/28)
ثالثاً العفو والصفح والحلم
المشهد الثالث: مشهد العفو والصفح والحلم: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً).
وسيدنا الأحنف بن قيس الذي كان يضرب به المثل في الحلم قال له رجل: علمني الحلم، قال: هو الذل يا ابن أخي! أتصبر عليه؟ يعني: عندما تجد رجلاً يشتمك وأنت ساكت وتستطيع أن ترد عليه وترد له الصاع بمليون صاع، ولكنك تعفو عنه لوجه الله عز وجل، فهذا في ظاهره الذل، ولكن في باطنه كمال العز.
ومن أخبار الأحنف بن قيس أن رجلاً شتمه فسكت عنه، فشتمه الرجل مرة ثانية فسكت عنه، فأعاد فسكت عنه، فبكى الرجل وقال: والهفاه! ما يمنعه أن يرد علي إلا هواني عنده! وشتمه رجل حتى أوصله إلى خيام أهله، أي: إلى منازل أهله، فلما وصل الأحنف بن قيس قال: يا هذا! إن كان بقي عندك شيء فهاته؛ لأنني قربت من منازل الحي، فلا يسمعك بعض سفهائنا فتلقى ما تكره.
وسيدنا قيس بن عاصم المنقري الذي تعلم منه الأحنف بن قيس الحلم قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا سيد أهل الوبر).
قال الأحنف: ما تعلمت الحلم إلا من قيس بن عاصم، فقد قتل ابنُ أخ له بعضَ بنيه، فأُتي بالقاتل مكتوفاً يقاد إليه، فقال: ذعرتم الفتى -أي: خوفتم الفتى- ثم أقبل على الفتى فقال: بئس ما فعلت، أنقصت عددك، وأوهنت عضدك، وأسندت عدوك، وأسأت لقومك، وأثمت بربك، وقطعت رحمك، ورميت نفسك بسهمك، خلوا سبيله واحملوا إلى أم القتيل الدية؛ فإنها من غير قومنا.
ثم انصرف القاتل وما حل قيس حبوته ولا تغير وجهه.
يا من تنهش في أحشائي يا من جزء من أجزائي يا من تبدو للجهال كأنك دائي إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي قل لي هل يأتيك ندائي إنك مثلي إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد إنك فيها من شركائي لكنك دوماً تطعنني من خلفي وفي كعب حذائي حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي ووشاة القوم إذا بانوا تسري الطعنة في أحشائي قل لي هل يأتيك ندائي ابغ العزة عند إلهك ليس العز دمي وبكائي وغداً من قواك يميتك إن أنت أهملت ندائي(28/29)
أولاً مشهد القدر
المشهد الأول: مشهد القدر: فحينما يصيبك أذىً من بعض عباد الله عز وجل فانظر إلى ذلك مثل نظرك إلى ما يصيبك من الحر والبرد الذي يؤذيك، ومثل نزول الأمطار، وقل: إن هذا قدره الله تبارك وتعالى علي، فتفنى عن حق نفسك وتوفي حق ربك.
فإذا ضربك إنسان مثلاً أو اعتدى عليك وشتم عرضك أو تكلم فيك، فانظر إلى أن هذه مصيبة مثل المصيبة التي حلت بك من مثل نزول الأمطار والرياح، وقل: إن هذا حدث بقضاء الله عز وجل وقدره.
ولتكن لك أسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلقد قالت السيدة عائشة: (ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط، ولا نيل منه شيء فانتقم لنفسه إلا أن تنتهك محارم الله، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه شيء حتى ينتقم لله).
وقالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً ولا دابةً ولا شيئاً قط، إلا أن يجاهد في سبيل الله).
وقال سيدنا أنس رضي الله عنه: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلته؟ ولا لشيء لم أصنعه لم لم تصنعه؟ وكان إذا عاتبني بعض أهله قال: دعوه فلو قضي شيء لكان).
فكان الرسول صلى الله عليه وسلم يترك أنساً، وينهى أهله أن يعاتبوه ويقول: (دعوه فلو قضي شيء لكان).(28/30)
سابعاً مشهد الأمن
ثم فوق هذا مشهد الأمن، فإنك إذا تركت مقابلة الانتقام بمثله عشت في أمان، كما يقولون: عش مظلوماً سنة ولا تعش ظالماً يوماً؛ لأنك تأمن وتعيش في أمن إذا كنت مظلوماً.
اللهم ارزقنا رحمةً ترحمنا بها، اللهم اجعل في قلوبنا رأفة ورحمة ووداً للمسلمين.
ونختم بما قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن لم أكن أهلاً لأن أبلغ رحمتك فإن رحمتك أهل أن تبلغني، رحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.(28/31)
تفسير سورة البلد
لقد أقسم الله تعالى بالبلد الحرام؛ مكة المكرمة على أن الإنسان في هذه الحياة الدنيا يكابد أتعابها منذ خلق وإلى أن يموت.
والله سبحانه وتعالى خلق للإنسان أدوات العلم والمعرفة، وأنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وبين له طريق الحق وطريق الباطل، وبين له أن من الأعمال التي تنجي صاحبها من النار إعتاق الرقاب، وإطعام الناس في شدة المجاعة والمخمصة.(29/1)
تفسير قوله تعالى: (لا أقسم بهذا البلد)
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: فكلام الملوك ملوك الكلام، وخير الكلام كلام الله تبارك وتعالى القرآن الكريم؛ مزامير الأنس، من حضرة القدس بألحان التوحيد، من رياض التمجيد، هذا طعم الخبر فكيف طعم النظر! {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
والأنس بالله هو الأنس بالقرآن الكريم، ومعنا اليوم سورة مكية وهي سورة البلد.
يقول الله تبارك وتعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:1 - 4].
والربط بين أواخر سورة الفجر وبين أوائل سورة البلد؛ أن الله تبارك وتعالى لما ذكر النفس المطمئنة في آخر سورة الفجر، وقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
لما ذكر الله تبارك وتعالى المكان الطيب في الآخرة وهو الجنة، وذكر النفس المطمئنة، عقب الله تبارك وتعالى بالربط بين المكان الطيب في الآخرة وأطيب مكان في الدنيا وهي مكة، فأقسم الله تبارك وتعالى بها، ثم أقسم بأنفَس وأطهر نفس في تاريخ البشرية وخير من وطأ على الحصا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}.
يقول الله تبارك وتعالى: {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [القيامة:1]، فهل معنى هذا أن الله لا يقسم بهذا البلد ولا يقسم بيوم القيامة؟ لا، بدليل أن الله تبارك وتعالى أقسم بمكة في سورة التين فقال: {وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:3]، فكيف يقسم في سورة ولا يقسم في سورة أخرى؟ ولذلك قال علماء التفسير: إن (لا) هنا زائدة تفيد التوكيد، وقد أتت شواهد في اللغة العربية وفي القرآن على أن (لا) النافية تأتي بهذا، يقول الله تبارك وتعالى عن إبليس في سورة الأعراف: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ} [الأعراف:12]، وفي نفس السورة يقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ} [ص:75] إذاً: لا هنا زائدة.
أيضاً يقول الله تبارك وتعالى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد:29] لئلا أصلها: لأن لا، فأدغمت النون في اللام فصارت لئلا، والمقصود: لكي يعلم أهل الكتاب، فلا هنا زائدة للتوكيد، كما يقول الشاعر: تذكرت ليلى فاعترتني صبابة فكاد صميم القلب لا يتقطع يعني: فكاد صميم القلب يتقطع.(29/2)
تفسير قوله تعالى: (ووالد وما ولد)
وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد:3] (ووالد) فيه ثلاثة أقوال: القول الأول: هو آدم أبو البشرية، كما أقسم الله بأم القرى مكة -أي: أصل القرى- يقسم بأصل البشرية آدم.
القول الثاني: إبراهيم عليه السلام.
القول الثالث: وهو قول سعيد بن جبير: هو الرجل الذي يولد له.
قوله: (وما ولد) أيضاً فيها ثلاثة أقوال: القول الأول: الرجل العقيم الذي لا ينجب.
القول الثاني: أن (ما) هنا مصدرية، أي: ووالد وولادته، فيقسم الله تبارك وتعالى بعملية خلق الإنسان، بإخراج الولد من صلب الذكر ورحم الأنثى، وبعملية خروج الجنين كما تخرج البذرة في الأرض السوداء، ثم تنفلق ويخرج منها نبات طيب أخضر، ثم بعد ذلك تخرج الثمار والزهور، فعملية خلق الإنسان أشد تعقيداً.
والله تبارك وتعالى يوكل ملكاً بتصوير خلق الإنسان، فيجعل له العنينين والأذنين بأمر الله تبارك وتعالى، ويحدد له الرزق والعمر والشقاء أو السعادة، وكل هذا يتم وهو لا يعلم شيئاً.
والله تعالى أنعم علينا بنعمة الإسلام إذ أخرجنا من بطون أمهاتنا مسلمين، فإن رجاء الجارودي ظل يبحث عن الإسلام في مدن فرنسا ستين سنة من عمره، ولو كانت العملية هكذا كان رجاء الجارودي من أوائل الناس الذين أسلموا، ولكن هذه نعمة من الله تبارك وتعالى علينا بها ما عقدنا عليها من خيل ولا ركاب، وإنما ساق إليك هذه النعمة وجعلك من أهل قبضة اليمين.
ولو سجدنا لله على إبر محمي من الآن إلى يوم لقياه ما كافأناه بهذه النعمة.
القول الثالث: أن (ما) هنا موصولة، والمعنى: ووالد والذي ولد، أو: ووالد ومن ولد، مثل قوله تبارك وتعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} [الليل:3] يعني: والذي خلق الذكر والأنثى، وقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء:3] أي: من طاب لكم من النساء، وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} [آل عمران:36] يعني: والله أعلم بمن وضعت، ولكنها وإن كانت تستخدم لغير العاقل فإنها تستخدم هنا للعاقل، وحين تستخدم للعاقل تدل على صفة، أي: ووالد والعظيم الذي ولده، مثل قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس:5] أي: والسماء والخالق العظيم الذي بناها، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس:7] ونفس والخالق العظيم الذي سواها.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يبق له أولاد ذكور، فالله يقسم بآدم ويقسم بأفضل أبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو يقسم بإبراهيم ويقسم بأفضل أبنائه رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [آل عمران:68].
وهذا الكلام فيه تعريض لأهل مكة المشركين حين يقسم الله به وهم يريدون قتله، فيقسم به مرتين: بإقامته، ويقسم به في المرة الثانية: ((وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ)).
وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4]، الكبد: المشقة والتعب، ومنه يسمى الكبد كبداً لأنه يحوي دماً متخثراً ومتجمداً.
فالمسلم في مشقة، ولا راحة له إلا بعد أن يجتاز جسر جهنم ويدخل الجنة، فلا مستراح للعابد إلا تحت شجرة طوبى في الجنة.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].
فالإنسان يعيش في كبد من أول ما تقطع سرته، فلو أن رجلاً كبيراً جرح جرحاً بسيطاً فإنه يعاني معاناة شديدة، ولا يسكن الألم إلا بفلين أو بيلوفين أو مسكن كذا وكذا، فما ظنك بالطفل الصغير يفصل شيئاً من جسده وهو السرة؟! ثم بعد ذلك يلبس هذه الملابس واللفافات التي توضع على الطفل الصغير، ولو أن شخصاً لبس ثوباً ضيقاً فقد لا يتحمل، فما ظنك بالطفل الرضيع وهو يشد ويربط بتلك الملابس!! ثم يعالج بعد ذلك الرضاع الذي لو فاته لجاع، ثم يعالج بعد ذلك الفطام الذي هو أشد من الوسام، ثم يعالج بعد ذلك نبت أسنانه، ثم يعالج بعد ذلك الوقوف بخطى ثابتة، والمشي بخطى ثابتة، وهكذا، ثم بعد ذلك يعالج بناء الدور وتشييد القصور، ثم بعد ذلك يعالج مشاكل الزواج وأتعابه، ثم بعد ذلك يعالج أمر الزوجات والأولاد، بعد ذلك يعاني من المواصلات وهمّ المواصلات، ثم بعد ذلك يعاني من المرض والأوجاع، ثم بعد ذلك يعاني سكرات الموت، ثم بعد ذلك يعاني من رؤية ملك الموت، ورؤية الملكين وعذاب القبر، ثم بعد ذلك يعالج ويكابد الوقوف أمام الله تبارك وتعالى في ساحة العرض على الله تبارك وتعالى، ثم بعد ذلك الجنة أو النار.
فهذا يكدح بعضلاته، وذاك يكدح بروحه، وهذا يكدح من أجل بناء القصور، وهذا يكدح من أجل الكساء، وكل يكدح، وكل يحمل همه على ظهره ويمضي، ولكن هناك فرق بين من يكدح في سبيل نزوة وشهوة ومن يكدح لعقيدة ودعوة، وهناك فرق بين الرجل الذي يعيش لشهواته والرجل الذي يعيش لدينه، إن من يعيش لنفسه يعيش صغيراً ويموت صغيراً، وأما الذي يعيش إرضاء لربه فما له وللمال وللدعة؟! وما له وللفراش الوثير؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (انتهى عهد النوم يا خديجة)، قم للأمر الكبير الذي ينتظرك، قم لأمر الدعوة لله تبارك وتعالى.
لإسلامي ولو حتى إلى الجدران شدوني لإسلامي ولو حتى إلى النيران دسوني لإسلامي لإسلامي ولو في السلك باعوني وثارات لإسلامي تعايشني تغذيني تبث النور في روحي وتنبض في شراييني وإسلامي له عرقي له نبضي وسكوني أنا ماذا أقول أنا بلا ربي بلا ديني أنا ماذا أقول أنا أجيبوني أجيبوني هناك من يعاني كدح الدنيا ثم ينتهي به الأمر إلى كدح الآخرة وإلى النار، وهناك من يعاني كدح الدنيا من أجل دينه وينتهي به إلى ظل الله تبارك وتعالى، وإلى جوار الله تبارك وتعالى حيث الأمن، وحيث لا خوف ولا حزن.
والذي يكدح في الدنيا فيتعب، ويكدح في الآخرة بمعالجة السلاسل والأغلال والنيران وسرابيل القطران، هذا جمع هماً إلى هم، فمثله كمن يغوص في الأوحال والطين مع أكل الديدان والحشرات.
إذا أنت غمت عليك السماء وضلت حياتك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها ومن تعب في سبيل الدعوة فإنه يحس بأنس وراحة، وطمأنينة بال، ورضا عن نفسه قال أحدهم: والله! إنها لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً.
ويقول الآخر: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
يعني: لو أن حياة أهل الجنة مثل هذه الحياة فإن أهل الجنة في سعادة.
ويقول القائل: لو يعلم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من سعادة لجالدونا عليها بالسيوف.
ويقول أحدهم: العيش الهني العيش مع الله تبارك وتعالى؛ أن يرضى الله تبارك وتعالى عنك.
ومن اشتاق إلى الله اشتاقت إليه جميع الأشياء، ومن قرت عينه بالله قرت به كل عين.(29/3)
تفسير قوله تعالى: (وأنت حل بهذا البلد)
اختلف علماء التفسير في معنى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2] على ثلاثة أقوال: القول الأول: حلال لك ما تفعله في هذا البلد لحظة دخولك إياها، فاقتل من شئت، واعف عمن شئت، وعندما دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة كان يقول: (من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بيته فهو آمن)، والرسول صلى الله عليه وسلم أمر بقتل عشرة من مجرمي الحرب الذين ناصبوا الدعوة العداء وإن تعلقوا بأستار الكعبة، ومنهم: عبد الله بن خطل ومقيس بن صبابة وعكرمة بن أبي جهل وآخرون، ثم بعد ذلك عفا رسول الله عن سبعة، وقتل الصحابة الثلاثة، ومنهم رجل وجدوه قد تعلق بأستار الكعبة فقتلوه وهو متعلق بأستار الكعبة؛ تنفيذاً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله لم يحل مكة لأحد من قبلي، ولا تحل لأحد من بعدي، وما أحلت لي إلا ساعة من نهار، ثم عادت حراماً بحرمة الله إلى يوم القيامة).
وهذه خاصية أعطاها الله عز وجل للمصطفى صلى الله عليه وسلم ساعة دخول مكة فقط، وهذه من الخصائص المؤقتة لرسول الله.
وهذه السورة مكية، نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطهد معذب بمكة، فحينها يقول الله تبارك وتعالى له: ستفتح هذه البلدة التي ناصبتك العداء، وبأمر الله افعل فيها ما شئت، ففي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنه في يوم من الأيام ستفتح له مكة، وتنزل عليه هذه السورة برداً وسلاماً على قلبه.
القول الثاني: ((وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ)) أي: وكل شيء فيك حلال لأهل مكة، فهم لا يصطادون في مكة ولا يقتلون الدواب، ولا يقلعون الشجر ولا الحشيش الرطب في مكة، ويحرمون الصيد فيها، ومع ذلك يجتمعون ويتفقون على قتلك؟! كيف يصح هذا في الأذهان؟! لا يقتلون القاتل إذا دخل في رحاب مكة ثم يتفقون على قتلك أنت؟! ((وَأَنْتَ حِلٌّ)) أي: وأنت مهدر الدم حلال أن يقتلوك، فأي مقياس هذا وأي منطق؟ إنهم يعفون عن المجرم القاتل وألا يقتلوا صيداً وألا يقطعوا شجراً، ثم يستحلون منك ما لا يستحلون من القاتل؟! فهل يعقل أن يقتلوك؟ أو أن يشردوك أو يخرجوك من بلدتك؟ ويح قوم جفوا نبياً بأرض ألفته ضبابها والظباء وسلوه وحن جذع إليه وقلوه ورده الغرباء ونحا المصطفى المدينة واشتا قت إليه من مكة الأنحاء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل البعثة)، فكان كلما مرّ على هذا الحجر قال له: السلام عليك يا رسول الله! فالحجارة تعرف الصالحين، وتسلم على الأنبياء والمرسلين، وتقسو القلوب فتطرد أنبياء الله تبارك وتعالى! قال تعالى: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ} [النمل:56] وذنبهم {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [النمل:56].
وقال تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج:8].
فإذا عرف الشباب طريق المساجد فهذا تطرف وإذا بعدوا عن المساجد وشربوا السجائر فهذا عين الصواب! القول الثالث: ((وَأَنْتَ حِلٌّ بهذا البلد)) أي: وأنت مقيم بهذا البلد، يقسم الله تبارك وتعالى بإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة شرف لها، فهي حرام وأمان، وإقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ظهرانيهم أمان، قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ} [الأنفال:33]، فهو مصدر الأمان لهم ومع هذا يهددون أمنك، ويودون قتلك! إذاً: يقسم الله تبارك وتعالى بإقامة رسول الله في مكة، فقد زادها شرفاً فوق شرفها.
فالمولى تبارك وتعالى يقسم بإقامة الرسول في مكة، ويعلم أنه مضطهد ومعذب ومشرد بين قومه، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يذهب إلى القبائل، فيمشي وراءه أبو لهب فيقول: لا تتبعوا هذا الصابئ، وكان يرشق بالحجارة إذا عرض نفسه على قومه، فكان يقول: (من يجيرني حتى أبلغ رسالات ربي أضمن له الجنة).
فكان أبو جهل وأبو لهب والسفهاء وراءه، يعرض نفسه على القبائل وهو سيد الناس وقد لاقى ما لاقى حتى إنهم كانوا يضعون عليه سلا الجزور وهو ساجد -بأبي هو وأمي- صلى الله عليه وسلم، فعز على سيدنا أبي بكر ما يفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجعل يدفعهم عنه، وقال: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ قالوا: من هذا؟ قالوا: أبو بكر المجنون، فالذي يدافع عنه مجنون، فتركوا رسول الله ثم أقبلوا على أبي بكر، فجعل عقبة بن ربيعة يضربه بنعلين مخصوفتين، وأبو بكر سماه الله تبارك وتعالى في السماء صديقاً، قال: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر:33]، وهو {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} [التوبة:40]، فكان هذا المجرم يضربه بنعلين مخصوفتين حتى انحرف وجهه، ونزا على بطنه برجله، حتى أتت بنو تيم فأنقذته وهم لا يشكون في موته، وغشي عليه، وأول كلمة نطق بها بعد أن أفاق: ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وآخر شيء أنت في كل هجعة وأول شيء أنت عند قبولي فجعل قومه يلوكونه بألسنتهم، ثم قال: والله لا أذوق طعاماً حتى أنظر ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
تقول السيدة أسماء: فجعل أبو بكر لا يمس شيئاً من جدائل شعره إلا سقطت مع لحم الرأس، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، واعتمد على أخت عمر بن الخطاب حتى وصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حال الصديق رق له وبكى، فما ظنك بفعلهم برسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهذا شرف للدعاة أن المولى تبارك وتعالى يقسم بتعب رسول الله واضطهاده وكدحه في سبيل دينه في هذا البلد.(29/4)
أسماء مكة
قوله تعالى: {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:1]: أقسم الله تبارك وتعالى بالبلد الحرام مكة، ومن أسماء مكة: البلد الحرام، والبلد الأمين، وأم القرى، يعني: أصل القرى، فكل القرى لها تبع وهي الأصل، وتسمى بكة بالباء؛ لأنها تدك أعناق الجبابرة، وتسمى بثاق أيضاً: له دفع الحديد إلى بثاق.
وتسمى معاداً قال تعالى: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} [القصص:85]، وتسمى كوثى، والبلدة، والبنية.
لو لم تكن خير البلاد على الثرى ما كان بيت الله فوق ترابها هي قلب هذي الأرض مقلة وجهها والصالحات عرفن من أهدابها فاكحل جفونك يا شريد بمائها أو شح ماء فاكتحل بترابها يعني: لو أن الرجل يكتحل بالتراب فتراب مكة أولى.
ويقول الشاعر أحمد شوقي: على كل أفق بالحجاز ملائك تزف تحايا الله والبركات لدى الباب جبريل الأمين براحه رسائل رحمانية النفحات وزمزم تجري بين عينيك أعيناً من الكوثر المعسول منفجرات ويقول الشاعر أيضاً: هنا النبوة تحيا في أماكنها والطيب يبلى ونوء الدهر تندرس هنا الصحابة من حول النبي رنا أبو هريرة يوم الحل والأنس هنا السماوات تبدو قرب طالبها هنا رحاب فضاء حين يلتمس يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحظة الهجرة على مكة فيقول: (والله إنك لأطيب بلاد الله وأحب بلاد الله إلى الله، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت، أو ما سكنت غيرك)، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس)، ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاها).
وقد يقول قائل: إن الله تبارك وتعالى حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ومع هذا قد يحدث قتل في مكة، فما معنى هذا التحريم؟
و
الجواب
أن التحريم ينقسم إلى قسمين: تحريم شرعي، وتحريم كوني، فالتحريم الكوني كقول الله تبارك وتعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص:12]، وقوله: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأنبياء:95].
والتحريم الشرعي: أن ينهى الله تبارك وتعالى عن شيء، ثم يفعله بعض عباده، مثلما يقول الله تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء:23]، فهذا قضاء شرعي، وإلا لو كان قضاء كونياً لعبد الناس كلهم الله عز وجل، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء:23] أي: قضى الله بالوالدين إحساناً، ولكن مع ذلك تجد أناساً يعقون آباءهم.
فهناك تحريم كوني وتحريم شرعي، وقضاء كوني وقضاء شرعي، وإذن كوني وإذن شرعي، وإرسال كوني وإرسال شرعي، وإرادة كونية وإرادة شرعية.
واسم الإشارة في قوله تعالى: ((لا أُقْسِمُ بِهَذَا البلد)) يأتي للتعظيم وللتنويه بشرف مكة.
وقوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} [البلد:2]، ولم يقل: لا أقسم بهذا البلد وأنت حل به، وإنما قال: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}، فكرر ذكر (بهذا البلد) مرة ثانية ولم يأت بها مضمرة، ليدل ذلك على فضل مكة.(29/5)
تفسير قوله تعالى: (أيحسب الإنسان أن لن يقدر عليه أحد)
قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد:5].
قد يطغى إنسان بقوته وينسى كم أهلك الله من قبله من القرون، قال تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد:13].
قال أبو جعفر المنصور لأحد العلماء: لم خلق الله الذباب؟ قال: ليذل به أعناق الجبابرة فعندما تأتي إليه الذبابة لا يستطيع أن يحضر لها جيشاً مسلحاً من أجل طردها وإبعادها.
ولهذا لما قال النمرود بن كنعان: {قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] أي: أقتل هذا وأعفو عن هذا، ابتلاه الله تبارك وتعالى ببعوضة دخلت في أحد منخريه إلى دماغه، فجعلت تطن، فكان صوت الطنين في دماغه كأنه صوت آلات مصانع حربية، فجعلوا يضربونه بالنعال على أم رأسه، فأذل الله هذا الرجل الذي قال: أنا أحيي وأميت.
فالله يبتلي الإنسان بقوته، قال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} [الكهف:59]، والله تبارك وتعالى يقول: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} [الحج:45]، والله تبارك وتعالى يقول: {وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ} [الرعد:6]، والله تبارك وتعالى يقول: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت:40]، فليتق الله امرؤ في نفسه.(29/6)
تفسير قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً)(29/7)
القراءات في قوله تعالى: (يقول أهلكت مالاً لبداً)
قال الله تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} [البلد:6] وفي قراءة: (يقول أهلكت مالاً لبَّداً) وهذه قراءة متواترة صحيحة.
ومعنى قوله تعالى: ((يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا)) يعني: مالاً كثيراً، فالشعر الملبد هو الشعر المتراكم بعضه على بعض.
إذاً: لبداً مفردها: لبد، لكن لبَّداً مفردها: لابد، كما تقول: قام قائم، ركع راكع، سجد ساجد، شهد شاهد.
ويقال: إن رجلاً أسلم ثم قال: والله منذ أن أسلمت أنفقت مالاً كثيراً في الكفارات، فربما تنتهي أموالي بسبب محمد! فالله تعالى ذم كلامه القبيح، فهذا المدح الكاذب نعرة من نعرات الجاهلية، وذلك مثل رجل يريد أن يفرح بولده، فينفق مائة ألف جنيه على راقصة ومغنية وطبل ومزمار، وكأنه يقول: أريد أن أشتري المعاصي بنقودي، فأصل التمادح الكاذب هذا موجود في الجاهلية.(29/8)
تفسير قوله تعالى: (أيحسب أن لم يره أحد)
قال الله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد:7].
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب إذا ما مضى القوم الذي أنت فيهمُ وخلِّفت في قوم فأنت غريب فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوب قيل للإمام أحمد بن حنبل: ما تقول في الشعر؟ قال: مثل ماذا؟ قالوا: مثل قول القائل: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني فقام الإمام أحمد وأخذ نعله وسمع نحيبه من خلف الباب وهو يبكي ويقول: إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني وتخفي الذنب من خلقي وبالعصيان تأتيني فما قولي له لما يعاتبني فيقصيني ورجل راود امرأة على الزنا وقال لها: لا يرانا إلا الكواكب، فقالت له: فأين مكوكبها؟ أين الله! والراعي عندما قال له ابن عمر رضي الله عنه: أعطني شاة وقل لسيدك: سرقت الشاة مني، قال له: فأين الله؟ فهذه هي الرقابة لله تعالى.
ولو أن إنساناً خلا بمحارم الله فانتهكها فقد جعل الله أهون الناظرين إليه، فلذلك جاء في الأثر: استح من الله كما تستحي من الرجل الكبير من قومك.
فكما لا تستطيع أن تفعل العيب أمام رجل كبير في مدينتك حياء منه، فكذلك استح من الله، والذي يستحي من الله يقربه الله تبارك وتعالى، والذي يرتكب المعصية أقل أمره أنه قليل الحياء؛ لأن فعله حين يرتكب المعصية دائر بين أمرين: فإن قال: إني أرتكب المعصية والله غير ناظر إلي وغير مطلع علي، وأرتكب هذا الفعل بمغيب عن علم الله فهذا كفر وخروج من الإسلام بالكلية، فهو كافر.
وإن قال: إني أفعل هذا وأعلم أن الله ناظر إلي، فهذا يدل على قلة الحياء.
فلا تنظر إلى صغر الخطيئة ولكن انظر إلى كبرياء من واجهته بها، فإذا حرك الريح باب دارك وأنت في منظر معيب، فإنك تخشى من نظر الناس، أفلا تخشى بعد ذلك نظر الله إليك وأنت مقيم على المعاصي؟! يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن مما أدرك الناس من كلام النبوة الأولى: إن لم تستح فاصنع ما شئت).(29/9)
تفسير قوله تعالى: (ألم نجعل له عينين)
يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10].
سبحان من أنطق بلحم، وأسمع بشحم، ولا يقدر على ذلك إلا الله تبارك وتعالى.
فقوله تعالى: ((أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ)) فهذه النعمة لا تستطيع أن تكافئها بسجود دائم إلى يوم القيامة، ولا تدرك عظمتها إلا إذا سلبها الله تبارك وتعالى عنك.
قال الجنيد لابن أخته وهو طفل ابن سبع سنوات: ما أقل الشكر يا غلام؟ قال: ألَّا تعص الله بنعمه.
فالله تبارك وتعالى أعطاك نعمة العينين، فإذا أردت أن تعصيه ولا تغض البصر، فاعمل لك بصراً عند أحد النجارين واعص به ما شئت، ولكن لا تعص الله بنعمه، فإن هذا يدل على قلة الحياء، وهو أن تستخدم هذه النعمة في الشيء المقابل.
وقوله تعالى: {وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد:9]، فالعرب قبل نزول القرآن الكريم كانت تسمي الكلمة بنت شفه، يعني: أنها تخرج من بين الشفتين، ولكن الأسلوب القرآني: ((وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ)) أي: إياك من اللسان، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (عليك بطول الصمت، وحسن الخلق، فوالذي نفسي بيده ما تجملت الخلائق بمثلهما).
وابن دقيق العيد يقول: والله منذ أربعين سنة ما تكلمت كلمة إلا وأعددت لها جواباً بين يدي الله تبارك وتعالى.
فالعينان واللسان والشفتان تشهد على الإنسان يوم القيامة، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت:21]، ويقول الله تبارك وتعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس:65].
وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:10] النجد: هو المكان المرتفع، ومنه سميت نجد نجداً؛ لأنها مرتفعة على تهامة، فسمى الله تبارك وتعالى طريق الحق بأنه نجد وعر، وسمى طريق الشر أيضاً بأنه وعر، يقول الله تبارك وتعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان:3] أي: بينا له طريق الخير، وبينا له طريق الشر.
إذاً: فمعنى هديناه النجدين: وضحنا له طريق الحق وطريق الضلالة، وطريق الحق وعر باعتبار البداية، ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (حفت الجنة بالمكاره).
وطريق الشر وعر باعتبار النهاية؛ لأنه يؤدي بك إلى النار، والإنسان في البداية يريد السرقة من أجل حصول المال ويريد الزنا وغير ذلك، فطريق الشر حلو باعتبار البداية، ولكنه وعر باعتبار النهاية، فتفنى اللذات ويبقى أثرها؟ ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وحفت النار بالشهوات).(29/10)
تفسير قوله تعالى: (فلا اقتحم العقبة)
قال تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:11].
يعني: فهلا اقتحم العقبة، والاقتحام أن ترمي نفسك في الشيء بدون تفكير وبدون روية، والعرب تقول: قحم الفرس فارسه إذا ألقاه من عليه على وجهه، وتقول: أصابت القوم القحمة، يعني: الشدة والجوع.
فمعناه: فهلا اقتحم العقبة، أي: فهلا سارع في فكاك نفسه.
قوله: ((فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)) هناك محذوف، والتقدير: فلا اقتحم العقبة ولا آمن، والعقبة قالوا: إنها الصراط المار على جهنم، وقالوا أيضاً: إنها نار دون الجسر، وقالوا: إنها دركات النار -منازل أهل النار-، وقالوا: العقبة مجاهدة النفس حتى تزكو بأمر الله تبارك وتعالى.
والإمام البخاري قال: ((فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ)) يعني: فلن يقتحم العقبة، وهكذا فسرها مجاهد.(29/11)
تفسير قوله: (وما أدراك ما العقبة)
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} [البلد:12].
يقول سفيان بن عيينة: كل ما قاله الله تبارك وتعالى لنبيه: (وما أدراك) فقد أعلمه به، وكل ما قاله الله لنبيه: (وما يدريك) فلم يعلمه به، قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب:63]، فالله لم يعلمه بها، وأما العقبة فقد أعلمه بها مباشرة.(29/12)
تفسير قوله تعالى: (فك رقبة)
قال تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد:13]، والفرق بين فك الرقبة وإعتاق الرقبة: أن فك الرقبة هو أن تشترك بمال مع غيرك لأجل أن تعتق عبداً، فتشتريه لأجل أن تعتقه ثم تعتقه لوجه الله تبارك وتعالى.
أما عتق الرقبة: فهو أن تشتريه بمالك الخالص ولا يشاركك فيه أحد غيرك.
و ((فَكُّ رَقَبَةٍ)) أن تصنع كما صنع أبو بكر الصديق، فقد كان يشتري العبيد ويعتقهم لوجه الله تبارك وتعالى.
وأعظم ما ينجيك من النار عتق الرقاب، والمستشرقين قالوا: إن الإسلام يدعو إلى الرق، وهم في ذلك كذبة فجرة؛ لأن الإسلام ضيق من الرق ووسع في سبيل الحرية، بدليل أنه جعل كفارة الظهار وكفارة اليمين عتق الرقاب.
وأيضاً: لو أن رجلاً عنده عبد، فقال له هزلاً: أعتقتك لوجه الله، فهذا الكلام ينزل بمنزلة الجد، فالمصطفى صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: النكاح والطلاق والعتق).
وأيضاً: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لطم مملوكه -أو ضربه- بغير حق فكفارته -يعني: فكفارة هذا الذنب- عتق هذا المملوك).
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (من أعتق رقبة مسلمة كانت فداءه من النار؛ عظمه بعظمه حتى فرجه بفرجه).(29/13)
تفسير قوله تعالى: (أو إطعام في يوم ذي مسغبة)
وقال تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد:14].
قوله تعالى: ((في يومٍ ذِي مَسْغَبَةٍ)) يعني: في يوم شديد الجوع، تقول: فلان ساغب، أي: جائع.
وهذا بيت القصيد وهو إطعام الناس لأجل الله تعالى في يوم الفقر، وفي يوم شديد الجوع، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (أفضل الصدقات أن تدخل سروراً على مسلم، أو تفك عنه ديناً، أو تطعمه خبزاً).(29/14)
تفسير قوله تعالى: (يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة)
قال الله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] أي: يتيماً من أهلك، {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد:16] والمسكين هو الفقير.
((ذَا مَتْرَبَةٍ)) يعني: كأنه لصق بالتراب، فلا يوجد لديه شيء.
فقوله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد:15] يدل على أن أول شيء هو صلة الأرحام، ثم صلة اليتامى الأقربين، ثم بعد ذلك صلة يتامى المسلمين.
ومراد الله من عباده لين قلوبهم ورقتها، فإذا رق القلب أتى منه كل خير، وإذا قسا القلب أتى منه كل شر، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله يدخل أقواماً الجنة أفئدتهم مثل أفئدة الطير).
قال الإمام النووي: في رقتها وفي لينها وفي توكلها على الله تبارك وتعالى.
ومن الأسباب لرقة القلب ما قاله المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك -أي حاجة- فامسح رأس اليتيم، واطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، يلن قلبك، وتدرك حاجتك).
وعندما يكون الإنسان صالحاً يتكفل الله بأولاده، قال تعالى: {وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82]، وقد يمر على أولادك ما يمر على يتامى المسلمين فاتق الله تبارك وتعالى، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)، وكما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم)، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (قد غفر الله لبغي -وفي رواية: لمومسة أي: زانية- من بني إسرائيل وجدت كلباً يكاد أن يأكل التراب من شدة العطش، فنزعت موقها -أي: خفها- ثم حملت به الماء حتى سقته، فغفر الله لها).
والله تبارك وتعالى غفر لامرأة زانية؛ لأنها لما وجدت رضيعيها يبكيان أسندتهما إلى صدرها، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله غفر لهذه برحمتها بولديها، وإن الله لا يقدس أمة لا ترحم ضعيفها).
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة)، ومن الذي لا يريد أن يكون قريباً من المصطفى صلى الله عليه وسلم؟! وسيدنا أنس كان يبكي ويقول: (يا رسول الله! إن كنت معنا فرحنا بك، وإن غبت عنا اشتقنا إليك، فتذكرت مقامك في الجنة مع النبيين فآلمني هذا الأمر وشق علي فبكيت، فلما نزل قول الله تبارك وتعالى: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء:69] يقول سيدنا أنس: فوالله ما فرحنا بآية مثل فرحنا بهذه الآية).
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله)، فإذا أردت أن تجاهد في سبيل الله فأد حق اليتامى والمساكين والأرامل.
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (كافل اليتيم له أو لغيره معي كهاتين في الجنة).
فيتامى المسلمين كثيرون، ومن أكل طعاماً أو فاكهة وأطفال جاره يتضاغون من الجوع فليس على سنة المصطفى في ذلك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من بات شبعان وجاره جائع).
وسيدنا عمر سجن الحطيئة لأنه كان يشتم الناس، فبعث إليه بيتين من الشعر فبكى سيدنا عمر بسبب هذين البيتين، وعفا عنه، وهما: ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قاع مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر فسيدنا عمر بكى، وهذا من رقة قلبه، لأنه قال في الشعر: زغب الحواصل لا ماء ولا شجر أي: لا يوجد شخص يسأل عليهم.
ولو كل الناس ينفقون على اليتامى فإن الله تعالى يبارك في المال، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما قل مال من صدقة)، وقال تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد:7].(29/15)
الفرق بين اليتيم والمسكين
الفرق بين الفقير والمسكين: أن الفقير حاله أشد ضنكاً من المسكين، بدليل قول الله تبارك وتعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فهم مساكين ومعهم سفينة، وسمي الفقير فقيراً من الفقرة، والفقرة هي الحفرة التي يحفرونها من أجل أن يضعوا فيها النخلة، وكأن الفقير قد نزل في هذه الحفرة.
وقول آخر: أنه مأخوذ من فقرة الظهر، ومنه العمود الفقري، فعندما تأخذ فقرة من ظهر الإنسان فإنه لا يستطيع أن يتحرك، وهكذا الفقير لا يستطيع الحركة وكأنه قد أصيب بشلل.
والفقير والمسكين لو أتيا في آية واحدة فالفقير له معنى والمسكين له معنى، ولو ذكر أحدهما دون الآخر فإنه يشمل معناه.
إذاً: قوله: ((أَوْ مِسْكِينًا)) يشمل الفقير.
والإسلام يستوصي بالفقراء وبالمساكين خيراً، قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (اللهم أحيني مسكيناً، وأمتني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين)، وتعوذ بالله من الفقر والإسراف.(29/16)
تفسير قوله تعالى: (ثم كان من الذين آمنوا وتواصوا)
وقال تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17].
يعني: لا ينفع إطعام المساكين في الآخرة بدون إيمان وإسلام، والكافر وإن كان منفقاً في سبيل الخير فإن الله تبارك وتعالى يوفي إليه أجره في دار الدنيا، وليس له في الآخرة من نصيب، كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم لـ عدي بن حاتم: (أسلمت على ما أسلفت من خير) أي: أسلمت على ما كان منك من خير.
قوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [البلد:17] يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (والصبر ضياء)، فالمؤمنون يوصي بعضهم البعض بالصبر، لا يوصي بعضهم البعض بالعجلة، يقول الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا} [السجدة:24]، والصبر يكون على طاعة الله، وعلى الأقدار المؤملة، وعن معاصي الله تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد:17] المرحمة: هي رحمة العباد، وتكاد أن تكون رسالة الإسلام في الرحمة، يقول تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وما وإلّا من أساليب الحصر والقصر، يعني: رسالتك الرحمة ودينك الرحمة، والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الله إذا أحب شخصاً ألهمه الرفق، وإن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على غيره).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (المؤمنون هينون لينون كالجمل الأنف إذا انقيد انقاد، وإذا أنيخ على صخرة استناخ).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ألا أدلكم على أقربكم مني مجلساً يوم القيامة؟ أحاسنكم أخلاقاً: الموطئون أكنافاً اللينون).
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (المؤمن يألف ويؤلف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف).
والمصطفى صلى الله عليه وسلم يقول: (في كل ذات كبد حرى أجر) يعني: لو أنك سقيت كلباً أو حيواناً وهو عطشان، فإن الله تبارك وتعالى يثيبه على ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (من لا يرحم لا يرحم).
وسيدنا جبريل يقول للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (لو رأيتني يا محمد وأنا أدس في فيه -يعني: في في فرعون- من حمأ البحر -أي: من طين البحر-؛ حتى لا تدركه رحمة الله تبارك وتعالى)، لأن فرعون لم يرحم الأطفال فقد كان يذبحهم، فلم يرحمه جبريل، فجعل يدس الطين في فمه حتى يموت قبل أن تدركه رحمة الله تبارك وتعالى.
ولما أخذ المؤمنون برأس الأمر وهو الصبر جعلهم الله رءوساً.(29/17)
تفسير قوله تعالى: (أولئك أصحاب الميمنة)
قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [البلد:18].
فهم الميامين على أنفسهم وعلى ذويهم وعلى غيرهم، أي: أنهم خيرة على أنفسهم، وعلى أهليهم، وعلى الناس الذين بجانبهم، وهم الذين نزعوا من شق آدم الأيمن، وهم الذين يكونون يوم القيامة عن يمين العرش، وهم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم.(29/18)
تفسير قوله تعالى: (والذين كفروا بآياتنا هم أصحاب المشأمة)
قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [البلد:19] أصحاب المشأمة: هم المشائيم على أنفسهم وذويهم، يعني: النحس على أنفسهم وعلى ذويهم، وهم الذين يعطون كتبهم بشمائلهم يوم القيامة، وهم الذين يكونون عن يسار العرش، وهم الذين نزعوا من شق آدم الأيسر.
اللهم ارزقنا الرحمة، واملأ قلوبنا رقةً، رب اجعلنا لك بكائين، إليك أواهين مخبتين منيبين، وتقبل توبتنا، واغفر حوبتنا، واسلل سخائم صدورنا، وبك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نسأل فلا تحرمنا، ولجنابك ننتسب فلا تبعدنا، وببابك نقف فلا تطردنا.
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا، وما أسررنا وما أعلنا، وما أسرفنا وما أنت أعلم به منا.
إلهي! عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقة عبد لم يجعل معه من حبك نصيباً.
إلهي! ما أضيق الطريق على من لم تكن دليله، فكن دليلنا.
إلهي! ما أوحش الطريق على من لم تكن أنيسه، فكن أنيسنا.
إلهي! أتينا أطباء عبادك ليداووا خطاينا، فكلهم عليك دلّنا.
اللهم داو أمراض قلوبنا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، والحمد لله رب العالمين.(29/19)
رهبان الليل
لقد سطر التاريخ رجال من سلف هذه الأمة ملئوا الأرض سجوداً وركوعاً ودموعاً، فما عرفوا النوم، ولا تلذذوا بالفراش، ولا ركنوا إلى الدنيا وزخرفها، ليلهم قنوت وطاعة وبكاء، ونهارهم قتال ومجالدة لأعداء الدين، ففازوا بمرضاة ربهم، وسارعوا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، فأصبح الحديث عنهم حلماً وخيالاً، واللحاق بهم عجزاً ومحالاً إلا من رحم الله من هذه الأمة في هذا العصر، وقليل ما هم.(30/1)
فضل قيام الليل في القرآن
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134]، ثم أما بعد: فشكر الله لكم مجيئكم، فقد تكلفتم مشقة المجيء إلى هنا، وشكر الله لكم أن سهلتم لي سبيل المجيء لأحدثكم اليوم، وقديماً قال شعبة: من سمعت منه حرفاً فأنا له عبد.
وابن مندة شيخ الحنابلة يقول: من استمع مني حرفاً فأنا له عبد.
وشكر الله لكم حسن ضيافتكم لنا في هذه الأيام، وينطبق فينا وفيكم قول الشاعر: ومن عجب أني أحن إليهم وأسأل شوقاً عنهم وهم معي وتبكيهم عيني وهم في سوادها ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي موضوع اليوم هو: رهبان الليل.
تتجافى جنوبهم عن لذيذ المضاجع، كلهم بين خائف مستجير وطامع، تركوا لذة الكرى في العيون الهواجع، ورعوا أنجم الدجى طالعاً بعد طالع، واستهلت دموعهم بانفضاض المدامع.
يا إخوتاه! إنما قالوا التعبد فيه أسرار عجيبة في فؤاد المتعبد طعم أذواق غريبة وإذا طال التهجد هبت الريح الرطيبة وأذان لبلال ادخلوها آمنينا فاز من قام الليالي بصلاة الخاشعينا وكلام الملوك ملوك الكلام! ولا أطيب من كلام الله عز وجل، قال تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} [الزمر:9].
وقال تعالى: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة:16 - 17].
وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا} [الفرقان:64].
وقال تعالى: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} [آل عمران:17].
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا * وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل:1 - 8] أي: انقطع إليه انقطاعاً.
إن الذي يعيش لنفسه يعيش صغيراً، ويموت صغيراً، أما الذي يعيش لدين الله عز وجل فما له وللنوم! وما له وللرقود! وما له ولدفء الفراش! قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه الصحابة اثنا عشر شهراً، وأمسك الله خاتمة المزمل في السماء، قالت السيدة عائشة: فلما علم الله صدقهم نزل التخفيف في نهاية السورة.
وقال الله تبارك وتعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح:29]، قال محمد بن كعب القرظي: كنا نعرف قارئ القرآن بصفرة لونه من آثار القيام.
قيل للحسن البصري: ما بال القائمين بالليل من أحسن الناس وجوهاً؟ قال: لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره.
بكى الباكون للرحمن ليلاً وباتوا دمعهم لا يسأمونا بقاع الأرض من شوق إليهم تحن متى عليها يسجدونا قال الله تبارك وتعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ * وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح:7 - 8].
قال ابن مسعود: إذا فرغت من الفريضة فانصب لصلاة الليل.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان:26].
وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس:38 - 39]، قال ابن عباس: نيرة من آثار القيام في دار الدنيا.(30/2)
لماذا الحديث عن قيام الليل(30/3)
الصلاة خير موضوع
لماذا قيام الليل؟ ولماذا الحديث عن قيام الليل؟ أولاً: لكونه صلاة، والصلاة خير موضوع، كما جاء في الحديث الذي حسنه شيخنا الألباني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الصلاة خير موضوع، فمن أراد أن يستكثر فليستكثر)، وإذا أردت أن تزلف إلى الله عز وجل فلا بد أن تدخل عليه من باب الاستقامة، ومكانها المحراب.
إذا توهم الدنيوي جناته في الدينار والدرهم، والقصر المنيف، والزوجة الحسناء، فإن جنة المؤمن في محرابه.
فهذا ثابت البناني تلميذ أنس بن مالك رضي الله عنه يقول فيه أنس: إن للخير مفاتيح، وإن ثابتاً مفتاح من مفاتيح الخير.
يقول ثابت: لو كان شيء أعز من الصلاة لما قال الله عز وجل: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ} [آل عمران:39].
وقال: الصلاة خدمة الله في الأرض.
وقال: لا يسمى العابد عابداً -ولو كان فيه كل خصلة من خصائل الخير- حتى تكون فيه هاتان الخصلتان: الصوم والصلاة، لأنهما تأخذان من لحمه ودمه.
وقال رحمه الله: كابدت قيام الليل عشرين سنة، واستمتعت به عشرين سنة.
قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:45]، قد يضعف الصبر على طول الطريق الشائك، وقلة الناصر، وقساوة القلوب، وأن ترى الشر منتفشاً، والخير منزوياً، ولا شعاع في الأفق، ولا معلم في الطريق، فهنا قد يضعف الصبر، فالله عز وجل أمر الصبر في الصلاة؛ لأنها انطلاقة من حدود الأرض إلى كون الله الفسيح.
إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة! إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود! وعلى أبواب المشقات العظام دائماً يوجه الله عز وجل المسلمين إلى الصلاة: (أرحنا بها يا بلال!) وقيام الليل زاد الدعاة إلى الله عز وجل في كل وقت وفي كل حين.(30/4)
مدرسة الليل هي مدرسة الإخلاص
السبب الثاني: أن مدرسة الليل هي مدرسة الإخلاص، وخليج صاف خير من بحر كدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة في الدين، والتمكين في الأرض، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا فليس له عند الله من نصيب).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما ينصر الله عز وجل هذه الأمة بضعيفها؛ بدعوتهم وصلاتهم وإخلاصهم).
ولما اصطف الناس لفتح كابل قال قتيبة بن مسلم: أين محمد بن واسع شيخ القراء؟ قالوا: في أقصى الميمنة رافع إصبعه إلى السماء، قال: أبشروا قد جاءكم النصر، لهذه الإصبع أحب إلي من ألف سيف شهير، وشاب طرير، فلما جاءه قال له: ماذا كنت تصنع؟ قال: كنت آخذ لك بمجامع الطرق.
ومحمد بن واسع هذا ربما صلى الليل كله في محمله، ويأمر حاديه أن يصوت بالناس.
محمد بن واسع رحمه الله يقول: والله إني لأعرف رجالاً تبتل مخدة أحدهم من أثر دموعه، وزوجه معه في الفراش لا تشعر.
وهذا عبد الله بن المبارك كان في غزوة من الغزوات فتلثم وغطى وجهه، ودعا داعي الروم: من يبارز؟ فخرج عبد الله بن المبارك في لثامه، فقتل فارس الروم، ثم قتل الثاني والثالث والرابع، فتعجب الناس من بطولته، فأتى إليه رجل ورفع لثامه فإذا هو عبد الله بن المبارك وما كانوا يظنون أنه عبد الله المبارك، فقال لمن رفع لثامه: وأنت ممن يشنع علينا يا أبا عمرو! وكان محمد بن أعين رفيقاً لـ عبد الله بن المبارك في غزواته كلها، وكان كريماً عليه، قال محمد بن أعين: فذهب ليرني أنه ينام، قال: فوضعت رأسي على رمح، وذهبت أريه أني نائم، فلما ظن أني قد نمت قام فصلى إلى قبل طلوع الفجر، ثم أيقظني عند الفجر، فقلت له: إني لم أنم الليلة، فعرفت الغضب في وجهه، وما زال مجافياً لي إلى الممات.
واليوم أصيبت الأمة بالرياء، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (غير الدجال أخاف عليكم شرك الصغائر، قالوا: وما شرك الصغائر يا رسول الله؟ قال: أن يقوم الرجل فيصلي فيطيل في صلاته لما يرى من نظر الرجل إليه).
قال قتادة: كان يقال: قلما سهر الليل منافق لم يرد الجاه عند الناس، ومدح الناس إياه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بمائتي آية كتب من القانتين المخلصين) صححه الحاكم وافقه الذهبي وتابعه الألباني.(30/5)
علو الهمة وترك الأماني
السبب الثالث: علو الهمة وترك الأماني، ومن لا أمنية له من الدعاة تجده على ريٍّ دائماً، وتجده سباقاً إلى الخير دائماً، فإن كان قوياً استسقى لنفسه واستسقى لغيره، وإن كان ضعيفاً وجد وريثاً لموسى يسقي له، ويزاحم عنه الرعاع.
سيروا مع الهمم العالية، فلا يزال العبد مقيماً على التواني ما دام مقروناً بوعد الأماني.
التواني والكسل والعجز من المصائب التي تصاب بها الأمة، وعلى الطرف الآخر يبعث قيام الليل على علو الهمة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (علم ربك -وفي رواية: ضحك ربك- إلى رجل ثار عن لحافه وفراشه من بين حبه وأهله، ولو شاء أن يرقد لرقد).
وكان هشام الدستوائي إذا أتى إلى فراشه يقول: والله إنك لطيب، والله إنك لبارد، والله لا علوتك الليلة، فراش الجنة خير منك.
وكان عبد الله بن ثوب سيد من سادات التابعين، وكان له سوط يعلقه في مصلاه، فإذا فتر عن القيام يضرب رجله بالسوط ويقول لها: قومي يا مأوى كل سوء، أيظن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يسبقونا عليك، والله لأزاحمنهم عليها حتى يعلموا أنهم خلفوا بعدهم رجالاً.
وهذا الإمام العظيم مسروق بن عبد الرحمن وهو المعروف بـ مسروق بن الأجدع تقول عنه زوجه: ما كان يأتي لصلاته إلا زحفاً كما يزحف البعير، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام.
تقول عنه زوجه: وكنت أجلس خلفه أبكي له رحمة مما يصنع بنفسه، وإن قدميه لمنتفختان من أثر القيام.
وجارية خالد الوراق كانت شديدة الاجتهاد في الطاعة والعبادة؛ فأخبرها خالد برفق الله وقبوله ليسير العمل، فقالت: يا خالد! إني لأؤمل من الله آمالاً لو حملتها الجبال لعجزت عن حملها كما عجزت عن حمل الأمانة، وإني لأعلم أن في كرم الله مستغاثاً لكل مسلم، ولكن قل لي يا خالد: كيف لي بحسرة السباق؟! فقال: وما حسرة السباق؟ قالت: غداة الحشر إذا ركب الأبرار نجائب الأعمال، وطاروا إلى مولاهم، وخلفت مع المسيئين المذنبين، ثم قالت: وعزة سيدي لا يسبق مقصر مجتهداً أبداً ولو حبا المجد حبواً، ثم قالت: يا خالد! انظر لا يقطعك عن الله قاطع، فإنه ليس بين الدارين دار يدرك فيها الخدام ما فاتهم من الخدمة مع مولاهم، فويل لمن قصر عن خدمة سيده ومعه الآمال، فهلا كانت الأعمال توقظه إذا نام البطالون.
إن قيام الليل باب التزكية الأعظم، والتزكية وضعت للرسالة المحمدية، وقد أقسم الله عز وجل بأحد عشر قسماً متتالية أن فلاح النفوس معلق على التزكية.
والذي يتخرج من مدرسة الليل رقيق، تطيب القلوب وترق من النظر إليه، وقد ذكر شيخنا الألباني حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أولياء الله الذين إذا رءوا ذكر الله تعالى لرؤيتهم)، فكيف بمن عاشرهم؟! كيف بمن تربى على أيديهم؟ فمجرد الرؤية تجعل الرجل يذكر الله، بل والله مجرد سماع كلام بعضهم، فأينا يقرأ كلام ابن القيم ولا يرق قلبه.
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم في الأرض قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
فكم من أناس موتى تحيا القلوب بذكرهم! وأناس أحياء تموت القلوب برؤيتهم! إن كانوا وهم موتى يحيي الله بهم الفئات العظيمة من الناس بكلامهم، فكيف برؤية وجوههم ومعاشرتهم؟! وكان محمد بن سيرين يبحث في النهار ويقول: من يدلني على رجل بسام بالنهار بكاء بالليل؟ قالت جاريته: كان إذا آواه الليل فكأنه قتل أهل القرية جميعاً.
وكان الناس إذا رأوا وجه محمد بن سيرين سبحوا وعظموا الله من آثار النور الذي على وجهه.
وهذا الحافظ عبد الغني المقدسي رفيق الإمام ابن قدامة في العلم وابن خالته، كان إذا خرج من بيته اصطف الناس لرؤية وجهه، وبات معه رجل شمسي -ممن يعبد الشمس- فلما رأى نحيبه طيلة الليل وتهجده زفر الرجل زفرة خرج الكفر بها من صدره.
والذي لا يتخرج من هذه المدرسة تقسو قلوب الناس في النظر إليه، وأدلكم على واقع عملي، هذا سيدنا الشيخ أبو بكر الجزائري أتحدى أي رجل يقول: إنه لا يرق قلبه لرؤية الشيخ الجزائري، ولقد عاشرته شهراً بمصر أقسم بالله ما كان ينام طيلة اليوم والليلة إلا أربع ساعات فقط، وهو شيخ طاعن في السن.
فالمتهجدون بالليل من أحسن الناس وجوهاً؛ لأنهم خلوا بالرحمن فألبسهم من نوره، وسيماهم في كلامهم مثلما هي في وجوههم.
وكلام السلف قليل كثير البركة، وكلام غيرهم كثير قليل البركة، فقد قالوا لـ يوسف بن عبيد: هل رأيت من يعمل بعمل الحسن؟ قال: يا سبحان الله! والله ما رأيت من يتكلم بكلامه حتى أرى من يعمل بعمله! إن الحسن كان إذا تكلم أدمى القلوب، ووعظ غيره لا يبكي العيون.
والجهاد يا إخوتاه يسقى بدمع التهجد، وما عرف الإسلام رجاله إلا كذلك: في الليل رهبان وعند قتالهم لعدوهم من أشجع الشجعان والذي لا ينتصر على نفسه لا ينتصر على عدوه، قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ} [التوبة:123]، وأعدى عدو لك نفسك التي بين جنبيك، والذي لا يستطيع أن يصلي ركعتين لله تهجداً بالليل كيف يستطيع أن يقابل عدوه؟! لا والله لا يستطيع.
وهذا سيدنا عباد بن بشر في غزوة ذات الرقاع تناوب هو وعمار بن ياسر الحراسة، وكانت النوبة على عباد بن بشر، فأتى رجل من المشركين فضربه بسهم من الخلف وهو يصلي، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فضربه بالسهم الثاني، فنزع السهم وأقبل على صلاته، فلما ضربه بالسهم الثالث استيقظ عمار وولى الرجل هارباً، فعاتب عمار رضي الله عباداً وقال: يرحمك الله! ما الذي منعك من أول سهم أن توقظني؟ قال: إني كنت في سورة فكرهت أن أقطعها.
وأسلمت هند زوج أبي سفيان صبيحة الفتح، ولما سألها أبو سفيان قال: قد كنت أراك تكرهين الرجل فما الذي دفعك إلى الإسلام؟ قالت: والله ما رأيت الله عبد قبل هذا اليوم في هذا البيت، لقد رأيت صحابة رسول الله يراوحون بين جباههم وأقدامهم تبتلاً إلى الله عز وجل، فقيام الصحابة بعد فتح مكة أثر في قلبها.
وسيدنا علي يقول: ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد، وما كان فينا أحد إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث تحت شجرة يصلي ويبكي ويدعو إلى الصباح، وبهذا يتنزل النصر.
وفي غزوة الأحزاب قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرط لنسائه، ولقد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على قيام الليل، فقال صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت: (من تعار من الليل فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، الحمد الله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: اللهم اغفر لي -أربعاً- استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته).
وقبول الصلاة قدر زائد على صحة الصلاة، فقد قال الداودي: من قبل الله له حسنة واحدة لم يعذبه، ولهذا قال الحسن: وددت أني أعلم أن الله قبل لي سجدة واحدة، فصلاة الليل مقبولة على الدوام، وهذه البشارة الأولى من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام البخاري عن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم الرجل عبد الله لو كان يقوم من الليل).
قال سالم: فما كان عبد الله ينام من الليل إلا قليلاً، وفي رواية: (إن عبد الله رجل صالح لو كان يكثر من صلاة الليل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا نام ثلاث عقد، يضرب على كل عقدة: عليك ليل طويل فارقد، فإذا استيقظ فذكر الله تعالى انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطاً طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل نام حتى أصبح، فقال: (ذاك رجل بال الشيطان في أذنه)، قال الحسن البصري: إنه والله بول ثقيل.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلاة الليل).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل فقال لي: يا محمد! عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس).
وعن أم سلمة رضي الله عنها قالت: (استيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقال: سبحان الله! ماذا أنزل الليلة من الفتن؟! ماذا أنزل الليلة من الخزائن؟! من يوقظ صواحب الحجرات؟! يا رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة).
وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة ليلة، فقال: ألا تصليان؟ قال علي: قلت: يا رسول الله! أنفسنا بيد الله إذا شاء أن يبعثنا ابتعثنا، قال علي: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مولٍ يضرب فخذه ويقول: {وَكَانَ الإِنسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف:54]).
يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني والطبري: لولا ما علم النبي صلى الله عليه وسلم من عظم فضل الصلاة في الليل ما كان ليزعج ابنته وابن عمه في وقت جعله الله لخلق(30/6)
اجتهاد رسول الله في قيام الليل
ثم نأتي إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عبد الله بن رواحة: وفينا رسول الله يتلو كتابه إذا انشق معروف من الفجر ساطع يبيت يجافي جنبه عن فراشه إذا استثقلت بالمشركين المضاجع وقال أحمد شوقي: محيي الليالي صلاة لا يقطعها إلا بدمع من الإشفاق منسجم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام الليل يقول في دعاء الاستفتاح: (اللهم لك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق، والنبيون حق).
وكان أيضاً إذا قام من الليل افتتح صلاته بهذا الدعاء: (اللهم رب جبرائيل وميكائل وإسرافيل، فاطر السموات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم).
وجبريل هو ملك الوحي، وهو الروح، وميكائيل: هو ملك القطر، وبه حياة الأرض، وإسرافيل: هو الذي ينفخ في الصور، فيدعو بهذا الدعاء ليعلم أن صلاة الليل حياة للقلب.
واعجباً للناس يبكون على من مات جسده، ولا يبكون على من مات قلبه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، فتقول: يا رسول الله! أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً).
وعن عبد الله بن عمير قال: (دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت: حدثينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبكت، فقالت: قام ليلة من الليالي فقال: يا عائشة! ذريني أتعبد لربي، قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما يسرك، ثم قام فتطهر فقام يصلي، فلم يزل يبكي حتى بل حجره، ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بل الأرض، وجاء بلال يؤذنه للصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله! تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟! قال: أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آيات ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ} [البقرة:164]).
رواه أبو الشيخ في أخلاق النبي، وابن حبان في صحيحه، وصححه الألباني.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا نام ثلث الليل قام فقال: (أيها الناس! اذكروا الله، جاءت الراجفة، من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة) يذكر الناس بالموت وبالقيامة لعلهم يقومون لصلاة الليل، وربما قام الليل كله بآية يرددها إلى الصباح: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [المائدة:118].(30/7)
اجتهاد السلف في قيام الليل
نأخذ نماذج من الصحابة ومن التابعين ومن المجاهدين ومن النساء.
أما من الصحابة فقد كان عثمان بن أبي العاص جاراً لـ عمر بن الخطاب، فلما مات عمر تزوج عثمان بإحدى زوجاته، فقال: والله ما تزوجتها رغبة في نكاح ولا ولد، وإنما تزوجتها لتخبرني عن ليل عمر.
أي: أنه تزوج أرملة سيدنا عمر لكي تخبره ماذا كان يفعل سيدنا عمر في الليل! وسيدنا عمر ربما مر بالآية في الليل فيمرض منها حتى يعوده الصحابة شهراً، وحفرت الدموع خطين أسودين في وجهه، فلو أتيت الآن بصنبور ماء وجعلته يقطر على جبينك سنة، فهل سيحفر خط أسود؟ لا؛ لأن الدمع ينزل بحرقة.
من لم يبت والحب حشو فؤاده لم يدر كيف تفتت الأكبادِ وسيدنا عمر بعد توليه الخلافة كان ينعس وهو قاعد، فقيل له: يا أمير المؤمنين! ألا ترقد؟! ألا تنام؟! قال: إن نمت بالنهار ضيعت مصالح الرعية، وإن نمت بالليل ضيعت حظي مع الله.
ولسان حاله يقول: لست أدري أطال ليلي أم لا كيف يدري بذاك من يتقلى لو تفرغت لاستطالة ليلي ولرعي النجوم كنت مخلا روى الإمام الحافظ ابن حجر العسقلاني في الإصابة بإسناد حسنه الشيخ الألباني: (أن رسول الله طلق السيدة حفصة ذات يوم؛ فنثر عمر التراب على وجهه وعلى رأسه، فقال: ما يفعل الله بـ عمر وابنة عمر، فنزل جبريل وقال: يا رسول الله! إن الله يأمرك أن تراجع حفصة؛ لأنها صوامة قوامة، وإنها زوجتك في الجنة).
وهل ينبت الخطي إلا وشيجة ويزرع إلا في منابته النخلُ وسيدنا عثمان بن عفان الذي نزل فيه قول الله عز وجل: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر:9].
انظر إلى هذه الآية فهي طيبة كشأن من أنزلت فيه، لما قتل الثوار المصريون سيدنا عثمان دخلت عليهم نائلة بنت الأحوص بن الفرافصة الكلبية زوجته، وقالت: قتلتموه، وإنه كان يحيي الليل كله بالقرآن كله في ركعة واحدة.
قال الشيخ شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط وغيرهما من المحدثين: إسناده جيد، والعلماء بوبوا باب: من أوتر بركعة واحدة ختم فيها القرآن.
وسيسألني أحدكم ويقول: أين أنت من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث).
قال العلامة ابن رجب الحنبلي في كتابه (لطائف المعارف) هذا إذا كان فعله على الدوام، أما في الأيام التي يرجى فيها الخير، ويستحب فيها كثرة الدعاء فيجوز الختم في أقل من ثلاث، بل ويستحب، وعليه عمل الشافعي وقول أحمد وإسحاق بن راهويه.
ويأتي الآن شخص يقول لك: أنا سلفي، وأنا مشغول عن قيام الليل بالأسانيد والمتون والعلل، أقول له: لا، لا تكون سلفياً أبداً، نام عند الإمام أحمد أحد طلاب العلم فوضع أحمد له ماءً، فلما قام الصباح وجد الماء كما هو، فقال الإمام: بئس طالب العلم لا يكون له ورد بالليل! وسيدنا أبو هريرة قسم الليل أثلاثاً هو وزوجه وخادمه، فإذا قام هذا نام هذا، وكانت له في النهار اثنتا عشرة ألف تسبيحة، ويقول: إنما أسبح بقدر ذنوبي! وفي الصحابة كثيرون منهم: معاذ بن جبل وأبو الدرداء وشداد بن أوس وكان عبد الله بن الزبير إذا سجد يأتي حمام المسجد فيحط على ظهره.
وهذا تميم الداري يقول أبناء الصحابة: أدركنا تميماً الداري فما قمنا ولا قعدنا إلا وهو في صلاة.
وهذا الإمام أحمد كان يحيي الليل هو وغلامه، والإمام الشافعي قسم الليل أثلاثاً، وأبو حنيفة كان يصلي عامة الليل.
ويزيد بن هارون شيخ الإمام أحمد قيل له: ما فعلت العينان الجميلتان يا أبا خالد؟ قال: ذهب بهما بكاء الأسحار.
وهذا شعبة يبس جلده على عظمه من قيام الليل.
وهذا سفيان الثوري يقول عنه عبد الرحمن بن مهدي: ما صاحبت رجلاً من الناس أرق من سفيان الثوري، كنت أرقبه في الليل يقوم فزعاً مرعوباً ويقول: النار النار! ويقول: اللهم إنك تعلم أنه لو كان لي عذر في التخلي ما أقمت مع الناس طرفة عين، اللهم إن كلاً في حاجته وإن حاجة سفيان أن تغفر له.
وهذا نور الدين محمود زنكي وصفه ابن كثير وابن الأثير أنه كان مدمناً على قيام الليل، والناس اليوم يدمنون الآن على (الهيروين) و (الكوكايين) وهذا كان مدمناً على قيام الليل، وكذلك كانت زوجته عصمت الدين بنت الأتابك، فهي كانت زوجة ملك، يقول عنها: هبت ذات ليلة غاضبة من نومها، فسألها عن سر غضبها، قالت: فاتني وردي البارحة فلم أصل من الليل شيئاً.
وهذه المرأة لما مات عنها نور الدين محمود زنكي تزوجها صلاح الدين الأيوبي.
ونور الدين محمود زنكي قال عنه العلامة ابن كثير: إن أحد المسلمين دخل بيت المقدس أيام أخذ الفرنجة فقالوا: نور الدين محمود زنكي لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، لأنه قتل منهم في موقعة حلب ثلاثين ألف، وكان يعد العدة لفتح بيت المقدس قالوا: نور الدين لا ينصر علينا بكثرة عتاده وجنده، وإنما لأنه يصف قدمه ليلاً بين يدي مولاه، فلا بد أن ربه ناصره علينا.
قال ابن كثير وابن الأثير: فهذه شهادة الكفار فيه.
وصلاح الدين الأيوبي يقول عنه ابن شداد: كان يطوف الأمصار وعيناه تذرفان الدموع يقول: يا للإسلام يا لعكا، يا للإسلام فإذا آواه الليل يأتي إلى سجادته وتتقاطر دموعه على جبينه وفي مصلاه، وأسمعه يقول في سجوده: إلهي! قد انقطعت الأسباب الأرضية عن نصرة دينك، وليس لي إلا الإخلاف إلى جلالك، يقول: فوالله ما ينبثق الفجر إلا ومعه خبر النصر على الأعداء الجراحات تستغيث وتشكو ملء سمع الوجود قم يا صلاح وبعد: يا داعية الإسلام! من جد وجد، وليس من سهر كمن رقد، أين رجال الليل؟ أين ابن أدهم والفضيل؟ ذهب الأبطال وبقي كل بطال، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من قام الليل بعشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قام الليل بمائة آية كتب من القانتين، ومن قام الليل بألف آية كتب من المقنطرين) والمقنطرون: من لهم قنطار من الأجر، والقنطار من الأجر خير من الدنيا وما فيها، إما أن يكون من المقنطرين، وإما أن يكون من الذين يحملون الطين.
أنت القتيل بكل من أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: عدد آيات جزء تبارك وجزء عم ألف آية.
اللهم اكفنا من النوم باليسير، وارزقنا سهراً في طاعتك، وبغض إلينا ساعات أكلنا وشربنا ونومنا، واكفنا من النوم باليسير، وسهرنا على ما نامت عنه أعين الغافلين، وارزقنا حبك وحب من أحبك، وحب كل عمل يقربنا إلى حبك.
اللهم بك نستنصر فانصرنا، وعليك نتوكل فلا تكلنا، وإياك نرجو فلا تحرمنا، وببابك نغدو فلا تطردنا، اللهم أنت أصلحت الصالحين، فاجعلنا من الصالحين.
اللهم إني أسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت المنان، بديع السماوات والأرض، يا ذا الجلال والإكرام! اللهم صل على عبدك ونبيك، اللهم وحد صفوفنا على منهاج نبيك، اللهم لا تشمت بنا أعداءنا، ولا تسئ بنا إخواننا.
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.(30/8)
عبودية الكائنات
كل الكائنات خاضعة لأمر الله سبحانه، ولها عبوديتها الخاصة لله سبحانه، فكل الدواب والشجر والحجر تسبح بحمد الله وتقدسه، لكن الإنسان لا يفقه ذلك، وقد ورد في السنة والقرآن أمثلة لذلك يعتبر بها أولوا الألباب.(31/1)
أنواع العبودية لله سبحانه
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: من أراد السعادة الأبدية فعليه بلزوم عتبة العبودية.
والعبودية لله تبارك وتعالى لا ينفك عنها كائن من الكائنات، ولا مخلوق من المخلوقات، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما تستقل الشمس فيبقى شيء من خلق الله إلا سبح الله بحمده، إلا ما كان من الشياطين وأغبياء بني آدم).
هناك عبودية عامة لكل من في السموات ومن في الأرض: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} [مريم:93].
هذه العبودية لا ينفك عنها مسلم أو كافر أو نبات أو شجر أو جماد، هذه العبودية هي عبودية القهر، وهي متعلقة بربوبية الله تبارك وتعالى، عبودية القهر والذل لله تبارك وتعالى، وأن أوامر الله تبارك وتعالى ومشيئته في خلقه نافذة، وأن كلماته التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، فالكل خاضعون لمشيئته، إذا أراد منهم أن يناموا ناموا، يمشي الدم في جسم الإنسان مثلاً بطريقة معينة لا ينفك عنها، ولا يستطيع حتى الشيوعي أن يقول: إني سأصنع لنفسي دورة دموية خاصة بي، حتى ولو لم يعترف بألوهية الله تبارك وتعالى.
فمشيئة الله والنواميس في الكون ينفذها طوعاً أو كرهاً، فهذه عبودية القهر والذل لله تبارك وتعالى، وطاعتهم الابتدائية لله تبارك وتعالى، وهذه العبودية لا تستوجب جنة، بل هي كما يقول العلماء: السجود العام لكل الكائنات، والقنوت العام لكل الكائنات، كما يقول الله تبارك وتعالى: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116].
وهناك قنوت خاص وعبودية خاصة وسجود خاص يترتب عليه دخول الجنة والنار، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب:31].
فالأول: قنوت عام: {كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ} [البقرة:116].
والثاني: قنوت خاص يستوجب دخول الجنة.
وقوله: {كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق:19]، هذا سجود خاص، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج:18].
كثير من الذين كتبوا في العبودية قالوا: هذه العبودية الخاصة للجن والإنس، واختلفوا في عبودية الملائكة الخاصة، هل هم عبيد لله تبارك وتعالى يعبدونه باختيارهم، أم هم مسخرون؟ وكثير من العلماء يذهب إلى أن الجن والإنس -تنشأ عبودياتهم عن اختيار، أما غيرهم فهي عبودية تسيير وقهر، ولقد أثبت بعض من كتب في هذا: أن للكائنات إدراكاً، وأنها تعبد الله تبارك وتعالى طائعة بما في ذلك الحيوانات والجماد، والجن والملائكة والقلم والجنة والنار، والرياح والشمس والقمر.(31/2)
عبودية الدواب لله سبحانه وتعالى
فلو بدأنا مثلاً بكل ما يدب على الأرض، يقول الله تبارك وتعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام:38].
قال مجاهد: أي: إلا أصنافاً أمثالكم، يعني: كل ما يدب على الأرض من دابة أصناف مثل أمم البشر.
يقول العلماء في ذلك: إن حيوانات البروتوزوا مثلاً (7000 نوع)، والحشرات (720000 نوع)، والثديات (15000 نوع)، والبرمائيات (2000نوع)، والحيوانات الأسفنجية (3000 نوع)، والديدان الأسطوانية (6000 نوع)، والديدان المفلطحة (7000 نوع)، وشوقية الجن (8000 نوع)، والرخويات (80000 نوع)، ومفصلية الأرجل ما بين (400 - 700 - 32000 نوع)، كل هذه أمم تسجد لله تبارك وتعالى، وتسبحه، يقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} [الحج:18]، فهذه الآية تنص على سجود الدواب لله تبارك وتعالى.
الأمر الثاني: أن هذه الدواب تشفق من طلوع يوم الجمعة، يقول صلى الله عليه وسلم: (ما من دابة إلا وهي مصيخة يوم الجمعة خشية القيامة) يعني: الدواب تنصت وتستمع إذا بزغ صباح يوم الجمعة خشية طلوع يوم القيامة؛ لأنها تعلم أن العذاب في يوم القيامة، فما من يوم أعظم عند الله تبارك وتعالى من يوم الجمعة، وكل دابة تخاف هذا اليوم عبوديةً منها لله تبارك وتعالى، فهو مالك يوم الدين.(31/3)
موالاة الدواب للمؤمن
أيضاً: الدواب عندها موالاة للمؤمن، وبغض للكافر، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما مرت عليه جنازة: (مستريح أو مستراح منه؟ قالوا: يا رسول الله! ما المستريح وما المستراح منه؟ قال: المستريح العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وتعبها إلى سعة رحمة الله تبارك وتعالى، قالوا: وما المستراح منه؟ قال: العبد الفاجر تستريح منه البلاد والعباد والشجر والدواب).
فالدواب تبغض الكفر وأهله، وتحب الخير وأهله، وجنازة الكافر عيد لأهل الأرض؛ لأنه فساد في هذا الكون المسبح، يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل:82].
وخذ أمثلة من الدواب بما شئت: البقر، وللأسف من البشر من يعبد البقر، والبقرة تعبد الله تبارك وتعالى، ولكن الناس عبدوها وصفقوا وطبلوا لها وبعدها رجل كبير من زعماء الدول، هذا الرجل يقول: إني أتوجه ومعي ملايين الهنود لعبادة البقرة، يقول: غيرها تحتاج منا إلى تعب وطول خدمة، أما البقرة فلا تحتاج إلا إلى عناية بسيطة.
بل أسخف من هذا يقولون: إن هناك معابد في الهند أنفق عليها ملايين المليارات من الجنيهات مختومةً برخام أبيض، ويكفيك عجباً أن تعلم أن الإله الذي تتوجه إليه الآلاف من الهند عبادة هو: الفئران.
فالبقرة تعبد الله تبارك وتعالى كما ورد في صحيح الإمام البخاري قال: (بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فطردها، فقالت له: إنا لم نخلق لهذا، إنما خلقنا للحرث، فقال الناس: سبحان الله! بقرة تتكلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أومن بذلك أنا وأبو بكر وعمر) هذه بقرة تخبرنا أن الله تبارك وتعالى سخرها لمهمة معينة، فهي معبدة ومذللة لمهمة معينة في هذا الكون.
خذ مثلاً: الجمال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس:71 - 72].
فما سمعنا أن رجلاً يختلي بسبع أو نمر أو فيل أو أسد في بيته، أما الجمال فقد يصحبها الصبي الصغير، بل قد يصحب قافلة من الجمال؛ لأن الله سخرها، وذللها لبني آدم، وحين يغضب قد يقتل عشرات الرجال، ويفر الناس من أمامه، وهناك حديث صحيح يدل على عبودية هذا الجمل لله تبارك وتعالى، دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حائطاً لأحد رجالات الأنصار فإذا فيه جمل، فلما رأى هذا الجمل رسول الله صلى الله عليه وسلم حن إليه وبكى، فذهب إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم ومسح ذفراه بيده فسكن الجمل، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (من صاحب هذا الجمل؟ فقال فتى من الأنصار: لي يا رسول الله؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن هذا الجمل يشكو إلي أنك تجيعه وتدئبه) هذا الجمل يعلم أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه مرسل من قبل الله تبارك وتعالى، فيبثه شكواه ويذرف الدموع بين يديه.
وبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضاً في حائط لرجل من بني النجار وفي هذا الحائط حديقة فيها جمل، كلما دخل رجل من الحائط شد عليه، فأشار إليه المصطفى صلى الله عليه وسلم فأتى وبرك بين يديه، فقال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ائتوني بخطامه، ثم خطمه ثم دفعه إلى صاحبه، ثم نظر إلى الصحابة وقال: إنه ليس من شيء بين الأرض والسماء إلا ويعلم أني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عاصي الإنس والجن).
وفي حجة الوداع أتى المصطفى صلى الله عليه وسلم بمائة ناقة لينحرها، فتسابقت النوق بين يديه أيتها ينحر أولها، وكأن الموت بين يديه حياة: أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا المحبوب ذكرك نير تعاودني ذكراك في كل لحظة ويورق فكري حين كنت أفكر تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر نزار قباني يقول لـ عبد الناصر: تضيق قبور الميتين بمن بها وفي كل يوم أنت في القبر تكبر وهذا غير صحيح فيه، وأولى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم: تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر نسينا في ودادك كل حي فأنت اليوم أغلى ما لدينا نلام على محبتكم ويكفي لنا شرف نلام وما علينا ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلونا(31/4)
منهج الإسلام في معاملة الحيوان
هذه هي عبودية العجماوات، والعجيب أن الفساق الذين مسخت الفطر منهم يأتون إلى الجمل ويضعون في أنفه (السيجارة) يريدون أن يغيروا هذه الفطرة التي خلقها الله تبارك وتعالى عليها.
ومن ذلك الفرس، ففي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: (إنه ليس من فرس عربي إلا ويؤذن له عند كل سحر بدعوتين: اللهم إنك خولتني من خولتني من بني آدم فاجعلني من أحب أهله وماله إليه).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (وقد أجيبت دعوة الفرس) هذه دعوة مجابة، فالفرس يتوجه بالعبادة إلى الله تبارك وتعالى وبالدعاء، وما سمعنا أن فرساً يعبد فرساً، ولا نملة تعبد نملة، ولكن سمعنا أن أناساً يعبدون أناساً، ويجعلون منهم طواغيت.
والفرس يدعو الله بقوله: (اللهم إنك خولتني من خولتني من ابن آدم فاجعلني من أحب ماله وولده إليك).
قال الله تعالى في الفرس: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا * فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا * فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات:1 - 5].
بالله عليكم أين سخرت هذه الدعوة أما رفعها الله تبارك وتعالى؟ والنمل كما يقول العلماء: حيوان صغير، يقول فيها المصطفى صلى الله عليه وسلم: (قرصت نملة نبياً من الأنبياء، فأمر بقرية فأخرج من تحت الشجرة، ثم أحرق قرية النمل فأوحى الله إليه: أن قرصتك نملة أحرقت أمة من الأمم تسبح) كما يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء:44].
كل كنى عن شوقه بلغاته ولربما أبكى الفصيح الأعجم فهل النمل حيوان قاتل، هل النمل يعقل؟ يخلق الله تبارك وتعالى فيه إدراكاً قد يغيب عن بعض البشر.
أنت إذا استمعت إلى كتاب في أيامنا هذه فإنها ستختلط عليك الأمور، ويصير المعروف منكراً، والمنكر معروفاً حتى من يصلون معك، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ستأتي على الناس قرون خداعة يصدق فيها الكاذب، ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن، ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة؛ قال: وما الرويبضة؟ قال: السفيه يتكلم في أمر العامة).
فالزنادقة تتكلم في أمر العامة والسفيه يتكلم في أمر العامة، أما النمل فحاله كما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته وأهل السموات وأهل الأرض حتى النملة في جحرها، وحتى الحوت ليستغفرون لمعلم الخلق).
يعني: نملة تسبح لله تبارك وتعالى، وتعلم أن هذا معلم خير فتستغفر له، وأن هذا داعية إلى الضلالة والفسق، فلا تستغفر له، فالنملة وهي في جحرها لتستغفر لمعلم الناس الخير، والحيتان في قاع البحار تقول: اللهم اغفر لعبدك، اللهم اغفر لعبدك، فإنه يدعو إلى قرآنك وإلى كتابك ولا تختلط عليه الأمور، وإن اختلطت على بعض الناس فهو إضرار يجعله الله تبارك وتعالى في خلقه.(31/5)
تسخير الله الحيوانات لخدمة الناس
كذلك الديك يدعو الناس إلى الصلاة، كما ثبت في البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تسبوا الديك فإنه يدعو للصلاة) فهو لا يدعو إلى اللهو إنما يدعو للصلاة، فالذين يغلقون المساجد ألم يعلموا أن هذا الديك يدعو الناس للصلاة، وفي رواية: (فإنه يوقظ للصلاة).
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم صياح الديكة فسلوا الله من فضله؛ لأنها رأت ملكاً، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله؛ لأنها ترى شيطاناً) وهذه من عبودية الديكة وسخره الله لإيقاظ الناس لصلاة الفجر أو للتهجد، تقول السيدة عائشة: (كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم إذا سمع الصارخ) وهو الديك.
قم بنا يا أخي لما نتمنى واطرد النوم بالعزيمة عنا قم فقد صاحت الديوك ونادت لا تكون الديوك أقرب منا كذلك الذئاب تعبد الله تبارك وتعالى كما في الحديث الصحيح: (أن ذئباً عدا على شاة فأخذها فطلبها الراعي فانتزعها منه، فأقعى الذئب على ذنبه وقال: ألا تتقي الله تنتزع مني رزقاً ساقه الله لي؟ فقال الراعي: يا عجبي ذئب يتكلم بكلام الإنس، فقال له الذئب: ألا أخبرك بما هو أعجب من ذلك؟ محمد صلى الله عليه وسلم بيثرب يحدث الناس بأخبار ما قد سبق، فأقبل الراعي يسوق غنمه حتى وصل إلى المدينة فزواها في زاوية من زواياها ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه ما قص).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر أن ينادى: الصلاة جامعة، ثم أمر الراعي أن يقص عليهم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق والذي نفسي بيده).
في هذا الحديث إشارة إلى أن الذئب يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدث ويقص على الناس أخبار من قد سبق من الأمم السابقة، ومعنى هذا أن الذئب يعلم أن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويدرك نوعية الكلام ويخبر به الراعي، ويدرك أن هذه الشاة رزق ساقه الله تبارك وتعالى إليه.
نقول للذين لم يرتفعوا إلى مصاف الصالحين: كونوا كهذه الحيوانات التي تعبد الله تبارك تعالى؛ ولذا يقول الله تبارك وتعالى لهؤلاء الضالين: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الفرقان:44]؛ لأن الأنعام تدرك وتسبح الله تبارك وتعالى وتسجد له.(31/6)
عبودية النباتات لله سبحانه
أما عن النباتات فهي أيضاً تسجد لله تبارك وتعالى، يقول الله تبارك وتعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6].
النجم: هو ضعيف النبات الذي ليس له ساق: يسبحه النبات جمعه وفريده والشجر عتيقه وجديده تمجده رهبان الطيور في صوامع الأشجار فيطرب السامع تمجيده كلما ذرف الهزار دهف سكره فالبلبل بالحمد يعيده وكلما قام خطيب الحمام ينوح على منابر الدوح قلد المستهام تغريده {أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [العنكبوت:19].
ويقول الله تبارك وتعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ} [الحج:18].
فبنص القرآن: الشجر يسجد لله تبارك وتعالى، فالشجر له عبودية خاصة، وهو يشهد للمؤذن يوم القيامة، ألم يقل المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من مؤذن يؤذن فيسمعه إنس ولا جن ولا حجر ولا شجر إلا شهد له يوم القيامة).
فالشجر يشهد للمؤذنين يوم القيامة.
كذلك له عبودية خاصة وهي التلبية، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (ما من ملب يلبي إلا ولبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مدر حتى تنقطع الأرض من هاهنا ومن هاهنا).
ولكن الشجر لا تنقطع، لكن إذا سمعت الملبي لبت معه.(31/7)
مواقف الشجر مع الرسول صلى الله عليه وسلم
إن الشجر له مواقف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله ولاء وبراء للمسلمين، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعرابي: (أتشهد أني رسول الله؟ قال: من يشهد على هذا؟ قال: هذه الشجرة، فأشار إليها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فأقبلت تخط الأرض) يعني: تشق الأرض إليه صلى الله عليه وسلم، ثم أشهدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً أنه رسول الله، فنطقت ثلاثاً أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (بينا أنا نائم رأيت فيما يرى النائم أني أقرأ من سورة السجدة، فلما أتت السجدة سجدت، فإذا بشجرة قبالتي تسجد، فسمعت الشجرة تقول في سجودها: اللهم اكتب لي بها عندك أجراً وحط عني بها وزراً، واجعلها لي عندك ذخراً، فقرأ صلى الله عليه وسلم السجدة، فلما أتى إلى السجدة سجد، وقال ابن عباس: فسمعته يقول ما قالت الشجرة).
فهذه شجرة يتعلم منها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كذلك لما اعتدى المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة وقال لجبرائيل: (أما ترى ما يفعل بي مشركو قريش؟ فقال: ألا أريك آية؟ فأشار إلى شجرة فأتت إليه، ثم جعلها تذهب إلى مكانها مرة ثانية فذهبت، فقال: حسبي).(31/8)
عبودية الجنة والنار لله سبحانه
وإن الجنة لتشتاق إلى علي وعمار وسلمان؛ لأنهم اشتاقوا إلى الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى، كذلك اشتكت الجنة والنار إلى ربها كما في الحديث، وهذا يدل أيضاً على عبودية الجنة لله تبارك وتعالى، وجاء في الحديث أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما توفاه الله كانت امرأة تقول: هنيئاً لك يا ابن مظعون الجنة! فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: (أنا رسول الله، ولا أدري ما يفعل بي ولا بكم).
فالجنة تشتاق إلى الصالحين من عباد الله تبارك وتعالى، أما عبودية النار لله تبارك وتعالى فيقول الله تبارك وتعالى: {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8].
وأيضاً مما يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى: قوله تبارك وتعالى: {إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا} [الفرقان:12].(31/9)
عبودية العرش لله سبحانه
أما عبودية العرش لله تبارك وتعالى فإن عرش الرحمن اهتز لموت سعد بن معاذ الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سموات).
والصحابة لما لمسوا مناديل لينة، قال: (أتعجبون من لين هذه؟ والله لمناديل سعد بن معاذ في الجنة خير من هذه).
وقال المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما مات: (لقد هبط إلى الأرض سبعون ألف ملك ما نزلوا إلى الأرض قبل يومنا هذا، كلهم حملوه معكم).
وتشترك الملائكة في جنازته وحمله، وهذا من عبودية الملائكة لله تبارك وتعالى وطاعته.(31/10)
عبودية الجبال لله سبحانه
كذلك الجبال تتصدع من خشية الله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:74].
فسجود الجبال لله تبارك وتعالى معلوم بنص القرآن الكريم.
وكذلك تشفق الجبال تعظيماً لأمر الله تبارك وتعالى من حمل الأمانة، فإن الله تبارك وتعالى لما عرض الأمانة على السموات والأرض والجبال أبين أن يحملنها، لا عن معصية، وإنما تعظيماً لشأن هذه الأمانة كما قال ابن عباس قال تعالى: {فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب:72].
كذلك الجبال بما فيها من حجارة تخاف من يوم الجمعة، وتسبح الله تبارك وتعالى: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ:10] أي: تسبح الجبال معه لله تبارك وتعالى، كذلك تلبي مع الحاج حين يرفع صوته بالتلبية.(31/11)
ولاء الجبال للمؤمنين وبراءتها من الكافرين
إن الجبال لها ولاء وبراء، ولاء مع المؤمنين وبراء من الكافرين، والمصطفى صلى الله عليه وسلم لما صعد على أحد قال: (هذا جبل يحبنا ونحبه).
ولما اهتز جبل أحد قال: (اسكن أحد فإن عليك نبي وصديق وشهيدان).
هذا يدل على ولاء الجبل للمؤمنين، وبغضه للكفار، والبراءة منهم، ألم يقل الله تبارك وتعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:90 - 91].
فالجبال تأنف من الكفر وأهله، وتفرح بمرور العبد الصالح عليها، كما قال ابن مسعود: ينادي الجبل الجبل باسمه: هل مر بك ذاكر لله تبارك وتعالى، فإن قال: نعم، قال: أبشر.(31/12)
عبودية البحر لله سبحانه
روى الإمام أحمد في مسنده عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات على الأرض، يستأذن الله في أن ينفضح عليهم فيكفه الله تبارك وتعالى).
وفي رواية: (إنه ما من يوم إلا والبحار تستأذن ربها أن تغرق بلاداً والملائكة أن تعاجله فتهلكه، فيقول لهم الله تبارك وتعالى: دعوا لي عبدي).
وفي رواية: (إن كان عبدكم فشأنكم، وإن كان عبدي فمني وإلي).
وقد ورد في الحديث أن الرجل قال لأهله: (إذا أنا مت فذروني ثم ألقوا بنصفي في البحر، ونصفي في البر، فأمر الله تبارك وتعالى البحر أن يجمع ما فيه، والبر أن يجمع ما فيه، ثم أحيا الله تبارك وتعالى هذا الرجل، فقال: لم سألت ما سألت؟ قال: من خشيتك وربي، فغفر الله له).
المهم: أن المولى تبارك وتعالى يأمر البحر أن يجمع ما فيه، فيجيب طاعةً لله تبارك وتعالى.
ويقول الله تبارك وتعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] قال ابن عباس: أي: المكفوف يكفه الله تبارك وتعالى أن يغرق بني آدم؛ لأن مياه البحار والمحيطات ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، واليابسة ربع الأرض فقط، ومنسوب البحار أعلى من البر، ولكن الله تبارك وتعالى يكف البحر أن يغرق هذه البقعة من الكرة الأرضية، فقوله: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور:6] أي: المكفوف عن إغراق بني آدم.(31/13)
عبودية الشمس والقمر لله سبحانه
وانظر إلى عبودية الشمس والقمر، يقول الله تبارك وتعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس:38].
روى الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أتدرون أين تذهب الشمس؟ قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: إنها تذهب فتستأذن فتسجد تحت العرش فيأذن لها فتسجد، ثم تستأذن أن تخرج طالعة فيقول: اطلعي وارجعي من حيث أتيت، فتخرج طالعة من المغرب، حتى إذا كان قبل يوم القيامة تستأذن أن تخرج، فيقال لها: اخرجي طالعة من المغرب، فذاك يوم لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً).(31/14)
عبودية السماوات والأرض لله سبحانه وتعالى
إن علماء الفلك يقولون: إن حجم الشمس مثل حجم الأرض مليون وثلاثمائة ألف مرة، وعلماء الفلك يقولون إن في السماء مجرات، وإن مجرة درب التبانة التي تقع فيها الأرض فيها ثلاثون مليار نجم، يعني: ثلاثون ألف مليون نجم، وإن منكب الجوزاء حجمه مثل حجم الشمس مائة مليون مرة، قال تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن:6].
يقولون: إن أقرب نجم يبعد عن الأرض مسافة أربع سنوات ضوئية، يعني: ثلاثةً وعشرين مليون مليون ميل، وقالوا: إن النجم الذي يسمى سديم المرأة المسلسلة يبعد عن الأرض مليون سنة ضوئية: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْيدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:47 - 48].
فالسماوات بما فيها من نجوم وبما فيها من شمس وبما فيها من قمر، تسبح وتسجد لله تبارك وتعالى.
لما طلب المشركون من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية، أشار إلى القمر فانشق حتى صار فلقتين، فلقة وراء الجبل، وفلقة وراء الجبل من الجهة الأخرى، وهذا من عبودية السموات والأرض لله تبارك وتعالى.
أيضاً السماوات والأرض تبكي لموت العبد الصالح، يقول الله تبارك وتعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان:29].
يقول الله تبارك وتعالى للسماوات وللأرض: {اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11].
والله تبارك وتعالى يقول: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء:44]، فهذا تسبيح السموات، وعرض الأمانة على السموات والأرض والجبال يدل على عبوديتها لله تبارك وتعالى وتعظيمها لأمر هذه الأمانة.
أما عبودية الأرض لله تبارك وتعالى، فلما ورد في حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ووفى بالراهب المائة: (فقال الله لأرض السوء: أن تباعدي ولأرض الخير: أن تقاربي) فأطاعتا أمره، وهذا من موالاة الأرض وبغضها.
وقال تعالى: {تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا} [مريم:90 - 91].
وذكر أن رجلاً من بني النجار حفظ سورة البقرة وآل عمران، ثم ارتد ولحق باليهود فعجبوا منه وقالوا: هذا كان يقرأ ويكتب لمحمد صلى الله عليه وسلم، فدق الله عنقه فمات، فلما واروه التراب لفظته الأرض، فواروه ثانياً فلفظته الأرض، وواروه ثالثاً فلفظته الأرض، فتركوه منبوذاً، وهذا يدل على عبودية الأرض لله تبارك وتعالى.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء) فأطاعت أمره عبودية له سبحانه وتعالى.(31/15)
عبودية الرياح والسحاب لله سبحانه
يقول الله تبارك وتعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13].
سأل اليهود النبي صلى الله عليه وسلم عن الرعد، فقال: (ملك من الملائكة معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب).
ولما سألوه عن الصوت الذي فيه، قال: (هذا صوت ملك بالسحاب)، قال تعالى: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13].
ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينا رجل يمشي في فلاة إذ سمع صوتاً في سحابة يقول: اسق حديقة فلان، قال: فسمع الرجل السحابة فأتت إلى حديقة، فلما توسطتها أفرغت ما فيها من ماء، فرأى رجلاً يحثو بمسحاة فقال: ما اسمك؟ فسماه بالاسم الذي سمعه في السحابة، قال: لم تسألني عن اسمي؟ قال: إني سمعت صوتاً في السحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان باسمك، قال: أما إن قلت ما قلت، فإني كنت أتصدق بثلثها، وآكل أنا وعيالي ثلثها، وأرد الثلث الباقي فيها).(31/16)
تسبيح الطعام وتسليم الأحجار على رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال عبد الله بن مسعود: لقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل في الظلام، وسجودها لله تبارك وتعالى معلوم بنص كتاب الله تبارك وتعالى.
ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إني لأعلم حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن).
ويقول علي رضي الله عنه في الحديث الصحيح: (خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خارج مكة فما استقبله حجر ولا شجر إلا وقال: السلام عليك يا رسول الله!)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني.(31/17)
عبودية الملائكة لله سبحانه
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: تفكروا في كل شيء، ولا تفكروا في الله، فإن بين السماء السابعة وكرسيه سبعة آلاف سنة نور، والله فوق ذلك.
قال الحافظ ابن حجر: إسناده جيد.
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن ديك قد مرقت رجلاه في الأرض السابعة، وعنقه مثنية تحت العرش).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (أذن لي أن أحدث عن أحد حملة العرش قد مرقت رجلاه في الأرض السابعة، والعرش على قرنه خفقان الطير ما بين منكبيه سبعة آلاف سنة) فلماذا يكفر الإنسان؟ {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17].
ومن أعمال الملائكة أنهم يسبحون الله تبارك وتعالى ويصلون: (من وافق تأمينه تأمين الملائكة غفر له ما تقدم من ذنبه).
ولقد قال صلى الله عليه وسلم لما سئل عن البيت المعمور: (يصلي إليه كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه آخر ما عليهم).
والملائكة يحجون ويصلون، ويسبحون الله تبارك وتعالى، ويخافون الله من فوقهم، ويوالون المؤمنين ويستغفرون لهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دعوة الرجل لأخيه بظهر الغيب مستجابة، كلما دعا وكل الله به ملكاً يقول: آمين ولك بمثل).
وقال تعالى: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر:7].(31/18)
فضائل الشام وبيت المقدس
للشام فضائل كثيرة، ومناقب جمة وفيرة، ذكرها الله في كتابه، وأخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام، فهي الأرض المباركة، وهي أرض الرباط والجهاد، ومقر الطائفة المنصورة، وبها عمود الكتاب والسنة.
ويكفيها من الفضائل أن بها بيت المقدس ثاني مسجد عبد فيه الله على وجه الأرض، وللمسجد الأقصى مناقب كثيرة كذلك.(32/1)
رثاء شهداء الأقصى
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى، وإن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين.
ثم أما بعد: شهداؤنا بين المقابر يهمسون: والله إنا قادمون في الأرض ترتفع الأيادي تنبت الأصوات في صمت السكون تتساقط الأحجار يرتفع الغبار تضيء كالشمس العيون والله إنا راجعون شهداؤنا خرجوا من الأكفان فانطلقوا صفوفاً ثم راحوا يهتفون عار عليكم أيها المستسلمون وطن يباع وأمة تجتاح قطعاناً وأنتم نائمون شهداؤنا فوق المنابر يخطبون قاموا إلى نابلس فصلوا في مساجدها وزاروا المسجد الأقصى وطافوا في رحاب القدس واقتحموا السجون شهداؤنا في كل شبر من ثرى الوطن المكبل ينبتون في كل ركن من ربوع الأمة الثكلى أراهم يخرجون شهداؤنا وسط المجازر يهتفون: الله أكبر منك يا زمن الجنون! شهداؤنا يتقدمون أصواتهم تعلو على أسوار نابلس الحزينة في الشوارع في المفارق يهدرون إني أراهم في الظلام يحاربون رغم انتشار الضوء في الوطن المكبل بالمهانة والدمامة والمجون والله إنا عائدون أكفاننا ستضيء يوماً في رحاب القدس سوف تعود تقتحم المعاقل والحصون شهداؤنا في كل شبر يصرخون.
يا أيها المتنصرون! كيف ارتضيتم أن ينام الذئب في وسط القطيع وتأمنون؟! وطن بعرض الكون يعرض في المزاد وطغمة الجرذان في الوطن الجريح يتاجرون أحياؤنا الموتى على الشاشات في صخب النهاية يسكرون من أجهض الوطن العريق وكبل الأحلام في كل العيون يا أيها المتشرذمون! سنخلص الموتى من الأحياء من سفه الزمان العابث المجنون والله إنا قادمون شهداؤنا في كل شبر في البلاد يزمجرون جاءوا صفوفاً يسألون: يا أيها الأحياء ماذا تفعلون؟! في كل يوم كالقطيع على المذابح تصلبون تتسربون على جناح الليل كالفئران سراً للذئاب تهرولون وأمام أمريكا تقام صلاتكم فتسبحون وتطوف أعينكم على الدولار فوق ربوعه الخضراء يبكي الساجدون صور على الشاشات جرذان تصافح بعضها والناس من ألم الفجيعة يضحكون في صورتين تباع أوطان وتسقط أمة ورءوسكم تحت النعال وتركعون في صورتين تسلم القدس العريقة للذئاب ويسكر المتآمرون شهداؤنا في كل شبر يصرخون: القدس تسبح في الدماء وفوقها الطاغوت يهدر في جنون القدس تسألكم: أليس لعرضها حق عليكم؟ أين فر الراقدون؟! وأين غاب البائعون؟! وأين راح الهاربون الصامتون الغافلون الكاذبون؟! صمتوا جميعاً والرصاص الآن يخترق العيون.
وإذا سألت سمعتهم يتصايحون.
هذا الزمان زمانهم -أي: من يقدر على أمريكا؟ - في كل شيء في الورى يتحكمون.
لا تسرعوا في موكب البيع الرخيص فإنكم في كل شيء خاسرون لن يترك الطوفان شيئاً كلكم في اليم يوماً غارقون.
تجرون خلف الموت والنخاس يجري خلفكم وغداً بأسواق النخاسة تعرضون لن يرحم التاريخ يوماً من يفرط أو يخون كهاننا يترنحون فوق الكراسي هائمون في نشوة السلطان والطغيان راحوا يسكرون وشعوبنا ارتاحت ونامت في غيابات السجون نام الجميع وكلهم يتثاءبون فمتى يفيق النائمون متى يفيق النائمون؟(32/2)
فضائل بلاد الشام في القرآن
بيت المقدس كنز الله من أرضه، وفيه كنزه من عباده، والبركة في بيت المقدس وبلاد الشام ثبتت بآيات من كتاب الله عز وجل، فحين نقول: إقليم الشام، فإنا نعني به الإقليم الذي كان إقليماً موحداً في ظل دولة الخلافة العثمانية حتى اتفاقية سايكس بيكو، فجاء الإنجليز والفرنسيون وقسموا ذلك الإقليم إلى أربع دويلات هي: سورية ولبنان والأردن وفلسطين، فعندما يقال في الشرع: الشام، فإن المقصود بها: سورية ولبنان والأردن وفلسطين.
ولهذه البقاع مكانة في كتاب الله عز وجل وفي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففيها سيكون تمام دولة الإسلام وملكه في آخر الزمان، وهي حرز المؤمنين عند وقوع الفتن، وإليها يهاجر خيار أولياء الله.
تعالوا معي في رحلة لفضائل الشام وبيت المقدس.
قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: {وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:71] قال شيخ الإسلام ابن تيمية: معلوم أن إبراهيم إنما نجاه الله ولوطاً إلى أرض الشام من أرض الجزيرة والعراق.
وقال ابن جرير الطبري: لا خلاف بين أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام.
فهذه الآية تثبت البركة لبلاد الشام وفلسطين.
وقال الله تبارك وتعالى عن موسى ومن معه بعد أن نجاه من فرعون: {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف:137].
قال الحسن: هي الشام.
وقال قتادة: هي أرض الشام.
وقال ابن تيمية: معلوم أن بني إسرائيل إنما أورثوا مشارق أرض الشام ومغاربها بعد أن أغرق فرعون في اليم.
وقال الله تبارك وتعالى على لسان موسى لقومه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة:21]، والأرض المقدسة أي المطهرة.
قال قتادة: هي أرض الشام.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: هي أرض الشام.
ومملكة سليمان بارك الله تبارك وتعالى فيها وكانت في بيت المقدس، قال الله تبارك وتعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء:81]، قال ابن زيد: هي بلاد الشام.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما كانت تجري إلى أرض الشام التي فيها مملكة سليمان وبالذات في بيت المقدس.
وقال تعالى في قصة سبأ: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18]، قال مجاهد: القرى التي بارك الله فيها هي الشام.
وقال قتادة: هي أرض الشام.
وقال ابن عباس: هي الأرض المقدسة.
وقال الله تبارك وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّه هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الإسراء:1]، فأيضاً بارك الله حول بيت المقدس.
قد يفت في عضد الناس أن إسرائيل معها قنابل وصواريخ وتستطيع أن تدك المسجد الأقصى في لحظة، فيسقط في أيدي الناس ويخلدون إلى اليأس وإلى النوم العميق.
نقول لهم: إن هذه الأرض مباركة، ومكان المسجد نفسه مبارك، فالمسجد الأقصى ثاني مسجد بني على وجه الأرض، فبينه وبين بناء الكعبة أربعون عاماً كما سنبين.
واختلف العلماء فيمن بناه أولاً هل هو آدم أم إبراهيم أم إسرائيل؟ ثم جدد بناءه سيدنا سليمان، وحينما دخله النبي صلى الله عليه وسلم كان عبارة عن أطلال وبقايا سور تحيط بالمسجد، فحتى لو أن الإسرائيليين هدموا المسجد الأقصى فإنه يبنى مرة ثانية، فقد جدد بناءه عبد الملك بن مروان، وجدد بناءه أبو جعفر المنصور، وجدد بناءه خلفاء عباسيون وزادوا فيه.
العبرة هي أن الأرض التي أقيم عليها المسجد أرض مباركة فلا يفت في عضد الناس، بل هيكل اليهود نسف مرتين ودمر تدميراً كاملاً ولم يبق فيه أثر لطوبة واحدة، وبرغم ذلك يقولون: الهيكل.
والمسلمون يقولون: إسرائيل هدت الجامع إذاً نحن لا نستطيع أن نعمل شيئاً، وسنبقى قاعدين!! فهذه القشة إنما تقصم ظهر المتغافل.
قال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ} [سبأ:18] أي: بين مملكة سبأ.
{وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} [سبأ:18] التي هي بلاد الشام.
{قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ:18].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [يونس:93]، قال الضحاك: هي بلاد الشام.
وقال قتادة: هي الشام وبيت المقدس.
{مُبَوَّأَ صِدْقٍ} [يونس:93] يعني هذه الأرض أرض صدق أقسم الله تعالى بها.
تكلم الله عن الربوة فقال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون:50] هي بيت المقدس.
وأقسم الله عز وجل بمنابت التين والزيتون فقال: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ * وَطُورِ سِينِينَ * وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ} [التين:1 - 3] ومنابت التين في بلاد الشام، ومنابت الزيتون في الجبل الذي عليه بيت المقدس.
وأرض الشام وفلسطين هي أرض المحشر، قال الله تبارك وتعالى: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق:41].
قال ابن جرير الطبري: واستمع يا محمد -صلى الله عليه وسلم- صيحة القيامة يوم ينادي بها منادينا من موضع قريب، وكأنه ينادي بها من صخرة بيت المقدس، وهذا قول قتادة وكعب قال: ملك قائم على صخرة بيت المقدس.
والسور الذي يضربه الله جل وعلا بين المنافقين والمؤمنين في عرصات القيامة هو السور الشرقي لبيت المقدس، الذي يطل باطنه على المسجد الأقصى ويطل على وادٍ يسمى وادي جهنم، وهذا الوادي في القدس، قال الله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13].
قال عبد الله بن عمرو بن العاص عن هذا السور: هو السور الشرقي باطنه المسجد وظاهره وادي جهنم.
فهذه آيات تكلمت عن بركة وطهارة وقدسية هذه الأراضي.(32/3)
فضائل بلاد الشام على لسان الرسول المصطفى(32/4)
بسط الملائكة أجنحتها على الشام
أما الفضائل التي ثبتت لبلاد الشام ولبيت المقدس بالسنة فعظيمة، وكل فضيلة ثبتت لبلاد الشام فهي أيضاً ثابتة لبيت المقدس؛ لأنه جزء من بلاد الشام.
أولاً: بسط الملائكة أجنحتها على الشام.
فعن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يا طوبى للشام، يا طوبى للشام، يا طوبى للشام! قالوا: يا رسول الله! وبم ذاك؟ قال: تلك ملائكة الله باسطو أجنحتها على الشام).
وطوبى تأنيث أطيب، وهو دعاء بطيب العيش والراحة والسعة، قال عز الدين بن عبد السلام: أشار صلى الله عليه وسلم أن الله سبحانه وتعالى وكل الملائكة بالشام يحرسونها ويحفظونها.(32/5)
الشام صفوة بلاد الله
الفضيلة الثانية لبلاد الشام: أنها صفوة بلاد الله من أرضه يُسكنها عز وجل خيرته من خلقه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عليكم بالشام، فإنها صفوة بلاد الله يسكنها خيرته من خلقه، فمن أبى فليلحق بيمنه وليسق من غدره فإن الله عز وجل تكفل لي بالشام وأهله).
(فمن أبى) أي: من أبى السكنى بالشام.
(وليسق من غدره) الغدر جمع غدير، والغدير هو الجزء من الماء الذي يتركه السيل بعد انصرافه من الأرض، وهذا معروف في بلاد الشام كثيراً، يعني: لا يتنازع الناس على الماء وليشرب كل من غديره الخاص به.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن حوالة: (عليك بالشام فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده، فإما إن أبيتم فعليكم بيمنكم واسقوا من غدركم، فإن الله تكفل لي بالشام وأهله).
وجاء في حديث أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الشام صفوة الله من أرضه، وفيها صفوته من عباده).(32/6)
تكفل الله بأهل الشام
المنقبة الثالثة لأهل الشام ومنها أهل فلسطين: أن الله تكفل بأهل الشام: قال سيدنا عبد الله بن حوالة الصحابي الجليل، وسيدنا سعيد بن عبد العزيز إمام أهل الشام: من تكفل الله به فلا ضيعة عليه.
فقد يقول لك قائل: كيف يكون قوله: (فلا ضيعة عليه) وهاهي إسرائيل تدك الأرض دكاً؟! والجواب لمثل هذا: لا تأخذ حقبة معينة من الزمن أو مدة قصيرة من الزمن وتنظر إليها على أنها تاريخ الأمم، وإلا فبالله عليك ماذا تساوي إسرائيل بجانب التتر؟ وماذا تساوي إسرائيل بجانب الحملات الصليبية التي اشتركت فيها كل جيوش الغرب؟ وكلها تحطمت على صخرة بيت المقدس.
سيدنا شيخ الإسلام ابن تيمية كان يعلم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد الشام، فلما جاءت معركة مرج الصفر التي شارك فيها بنفسه أمام جيوش المغول والتتر أشار على السلطان محمد بن قلاوون أن يخرج بالجيش المصري لتكون المعركة على أرض الشام، لكي لا يلتقوا بجيش التتر في مصر، وإنما يخرجون من مصر ويجتمعون مع الجيش الشامي، فاجتمعوا وكانت المعركة على أرض الشام في معركة مرج الصفر وكان فيها انتصار عظيم للمسلمين.
وعندما دُمِّر جيش الخلافة وقتل الخليفة واجتاحت جيوش التتر دولة الخلافة تصدى للتتر الجيش المصري المسلم، فخرج قطز من مصر إلى بلاد الشام لتكون المعركة على أرض الشام وهي معركة عين جالوت، وكان بطلها الجيش المصري ومعه الشامي ولكن المعركة كانت في بلاد الشام.
وكذلك معركة حطين، فعندما جاءت الحملات الصليبية التي قتلت من المسلمين سبعين ألف مسلم يوم أخذوا بيت المقدس، وقد قتلوهم في سبعة أيام أو في ثلاثة أيام حتى غاص القائد الصليبي -الذي أخذ بيت المقدس- في جثث المسلمين وفي دمائهم إلى ركبتيه.
ثم أتى صلاح الدين ليدمر جيوش الصليبيين في معركة حطين الفاصلة، التي كانت نهاية الوجود الرومي كله، وكانت في بلاد الشام.
وقد قال هرقل: سلام عليك يا سورية سلام مودع لا يراك بعد هذا أبداً، وذلك حين خرج من الشام وكانت تصفية الإمبراطورية الرومية من أرض الشام.
وهذا لا يعني أن إسرائيل قوة صغيرة.
ومما يذكر أنه في السبعينات هبطت طائرة شراعية فيها سوري وتونسي وفلسطينيان، وفتحوا رشاشاتهم على قاعدة عسكرية من قواعد الجيش الإسرائيلي فقتلوا العشرات بل بالمئات ثم قتلوا، فوقف قائد الكتيبة الإسرائيلي وعظم هؤلاء الأبطال؛ وأدى لهم التحية العسكرية بعد موتهم اعترافاً ببطولتهم.
فالإنسان لا ينظر إلى وقت الضيق، ولكن نقول: إن العاقبة للمتقين، بل انظر إلى رجل مبتدع دوخ إسرائيل، فما ظنك لو جاء رجل من أهل السنة والجماعة.
فهذا خميني العرب حسن نصر الله، مع أنه مبتدع ويتكلم على الصحابة وعلى السيدة عائشة، وكذلك حزب الله، ولكن على الرغم من ابتداعهم فقد أدبوا إسرائيل، فما ظنك إذاً بالملتزمين من أهل السنة؟(32/7)
عمود الكتاب والإسلام سيكون بالشام
وعمود الكتاب والإسلام سيكون بالشام: قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن حوالة: (رأيت ليلة أسري بي عموداً أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة.
فقلت: ماذا تحملون؟ فقالوا: عمود الإسلام، أمرنا أن نضعه بالشام، وبينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب اختلس من تحت رأسي فظننت أن الله تخلى عن أهل الأرض فأتبعته بصري وإذا هو نور ساطع بين يدي حتى وضع بالشام، فقال ابن حوالة: يا رسول الله! خر لي.
قال: عليك بالشام).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي الدرداء: (بينا أنا قائم إذ رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به فأتبعته بصري فعمد به إلى الشام، ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام) وعمود الكتاب -كما قال عز الدين بن عبد السلام - هو الإيمان.(32/8)
دعاء النبي صلى الله عليه وسلم للشام بالبركة
والنبي صلى الله عليه وسلم دعا بالبركة للشام، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: (صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر ثم أقبل على القوم فقال: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في حرمنا، وبارك لنا في شامنا.
فقال رجل من أهل العراق: وفي العراق؟ فسكت ثم عاد قال الرجل: وفي عراقنا.
فسكت ثم قال: اللهم بارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في مدنا وصاعنا، اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم اجعل مع البركة بركة، والذي نفسي بيده! ما من المدينة شعب ولا نقب إلا عليه ملكان يحرسانها حتى تقدموا عليها).
وفي حديث آخر أن النبي قال: (اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: هناك الزلازل والفتن، وهناك يطلع قرن الشيطان)، وفي رواية: (وفيها تسعة أعشار الشر).
والصوفية قالوا: إن المقصود الشر الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام محمد بن عبد الوهاب، إذاً محمد بن عبد الوهاب شيطان الأمة! وقد فهم الحافظ ابن حجر العسقلاني والإمام الخطابي أن المقصود بقوله: (وفي نجدنا) ما نجد من الأرض، أي: ما ارتفع من الأرض، وهي أرض العراق، ولو لم يكن في العراق إلا صدام لكفى، فقد كان سبباً في موت مليون ونصف طفل، وهو ممن تبنوا دعوى العنترية الجاهلية القومية العربية، ومؤسس حزب البعث، وقد دك المسلمين من الأكراد بالنووي وبالصواريخ ودمّر قراهم تدميراً كاملاً، وهو تلميذ نجيب لـ ميشيل عفلق.
والقومية العربية كانت سبباً في كل الهزايم والدمار، وسبباً في التصاق الناس بالأرض وبعدهم عن السماء، وارتباطهم بالوحي انتهى، وأصبح ارتباطهم بالتعاليم الكاذبة؛ تعاليم الأرض المخالفة لتعاليم السماء، ثم بعد ذلك تكون النهاية المؤسفة، فما انتصر الناس في معركة إلا بالإسلام.(32/9)
الشام ميزان لصلاح الناس
من مناقب الشام: أنها ميزان لصلاح الناس، وميزان للصلاح والفساد في أمة الإسلام: فهي ميزان القسط لأمة الإسلام، وهذا بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن معاوية بن قرة عن أبيه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا فسد أهل الشام فلا خير فيك).
وقال: (لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة).
ويوصي النبي صلى الله عليه وسلم بسكنى بلاد الشام ويفضلها على اليمن وعلى غيرها في آخر الزمان فهذا دليل على أفضليتها.(32/10)
أرض الشام أرض رباط وثغر جهاد
وأرض الشام أرض رباط وثغر وجهاد إلى يوم القيامة كما قال بذلك عز الدين بن عبد السلام، وكما قال بذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، وبنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سلمة بن نفيل الكندي رضي الله عنه قال: (كنت جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رجل: يا رسول الله! أهان الناس الخيل، أهان الناس الخيل وامتهنوها وقالوا: لا جهاد) ولنا هنا وقفة، فقد أقسم الله عز وجل بخيل الحرب فقال: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات:1 - 3] فهل خيلنا خيل حرب؟! والله ما هي بالعاديات ضبحاً، ولا هي بالموريات قدحاً، ولا هي بالمغيرات صبحاً، بل هي خيل لعب ولهو ودنيا.
بعد أن كان يركب عليها أبو سليمان خالد بن الوليد، لصباحه المجد ولذكراه السلام، وكان يركب عليها صلاح الدين، فمن الذي يركب عليها الآن؟! هذا الفرق بيننا وبينهم.
ألا يا صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ حصانك في سينا يشرب دمعه ويا لعذاب الخيل إذ تتذكرُ وتأبى جراحي أن تضم كفاها كأن جراح الحب لا تتخثرُ تأخرت يا أغلى الرجال فليلنا طويل وأضواء القناديل تسهرُ حصانك في سيناء يشرب دمعه وجندك في حطين صلوا وكبروا وتبكيك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيبي وخيبرُ ويبكيك سفساط الشام ودورها ويبكيك ظهر الغوطتين وتدمرُ نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصَّرُ وليمون يافا يابس في حقوله وهل شجر في قبضة الظلم يُثمرُ وأصرخ يا أرض المروءات فاحبلي لعل صلاحاً ثانياً سوف يظهرُ جاء في الحديث: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أذال الناس الخيل ووضعوا السلاح وقالوا لا جهاد قد وضعت الحرب أوزارها، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه فقال: كذبوا؛ الآن جاء القتال، ولا يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم حتى تقوم الساعة، وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة، وهو يوحى إلي أني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني؛ ألا فلا يضرب بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين بالشام) وهذا هو الشاهد.
فيكذِّب النبي صلى الله عليه وسلم من يقول إن الحرب قد وضعت أوزارها، ثم قال: (عقر دار المؤمنين بالشام) يعني: موطن أصل الإيمان سيكون بالشام عند نزول الفتن.(32/11)
خيار أهل الأرض ألزمهم للشام
ومن فضائل أهل الشام: أن خيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم، ومهاجر إبراهيم هي بلاد الشام وخاصة فلسطين.
عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سيكون هجرة بعد هجرة، فخيار أهل الأرض ألزمهم مهاجر إبراهيم).
ألزمهم: يعني من يلتزمون المكان ولا يرحلون عنه، فهم لا يجلسون فيه فترة ويتركونه وإنما يقيمون فيه إقامة دائمة.
قال: (ويبقى في الأرض شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الله وتحشرهم النار مع القردة والخنازير).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لتكونن هجرة بعد هجرة إلى مهاجر أبيكم إبراهيم حتى لا يبقى في الأرض إلا شرار أهلها تلفظهم أرضوهم وتقذرهم نفس الرحمن، وتحشرهم النار مع القردة والخنازير).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: إن رسولنا صلى الله عليه وسلم جعل مهاجر إبراهيم يعدل مهاجره صلى الله عليه وسلم، وقد انقطعت الهجرة إلى مهاجره صلى الله عليه وسلم بفتح مكة ولا تبقى إلا الهجرة إلى بلاد الشام.(32/12)
الطائفة المنصورة في بلاد الشام
وفي بلاد الشام الطائفة المنصورة: فعن عمير بن هانئ رضي الله عنه قال: سمعت معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما على هذا المنبر يقول: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس).
قال مالك بن يخامر السكسكي: يا أمير المؤمنين! سمعت معاذ بن جبل يقول: هم بالشام.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث سعد بن أبي وقاص: (لا يزال أهل الغرب ظاهرين على الحق حتى تقوم الساعة).
قال الإمام أحمد وشيخ الإسلام ابن تيمية: أهل الغرب هم أهل الشام، فهم غرب المدينة المنورة، فلقد كان أهل المدينة يطلقون على الإمام الأوزاعي إمام أهل الشام: إمام أهل المغرب، فالمشرق والمغرب شيء نسبي، كل مدينة لها شرق وغرب، فالشام مغرب بالنسبة للمدينة.
وقد يقول قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدد الطائفة المنصورة هنا بأنها طائفة مقاتلة تقوم بأمر الله وحددها في بلاد الشام، والإمام أحمد بن حنبل وشيخه يزيد بن هارون وعلي بن المديني قرينه في طلب العلم، والإمام البخاري قالوا: الطائفة المنصورة هم أهل الحديث.
فكيف توفق بين القولين؟ قال الإمام النووي: إن الطائفة المنصورة مفرقة بين أنواع المؤمنين، فمنهم شجعان مقاتلون، ومنهم محدثون، ومنهم زهاد، ومنهم آمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، والطائفة باعتبار زمانها، ففي أيام الإمام أحمد بن حنبل كان حفاظ الحديث والمحدثون هم الذين ينافحون عن الإسلام ويدافعون عنه أمام فلسفة اليونان وعلم الكلام، فهم الذين تصدوا للفلسفة اليونانية وحفظوا دين الأمة، ورفعوا النقل فوق العقل، ولولا صمود الإمام أحمد في محنة خلق القرآن لضاع الإسلام كما قال ذلك علي بن المديني، ففي وقت من الأوقات كان حفاظ الحديث هم الدرع الواقي للإسلام، وقد ينخفض صوتهم في زمان وتظل البركة فيهم، ولكن يقوم بأمر الله طائفة أخرى من الأمة وهم المقاتلون الذين يذودون عن الإسلام وعن حمى الإسلام، فهم طائفة مفرقة بين أنواع الطوائف الإسلامية من أهل السنة.(32/13)
كثرة الشهداء ببلاد الشام
ومن فضائل بلاد الشام: كثرة شهداء بلاد الشام وأرض فلسطين، ونوع من شهدائهم أفضل الشهداء عند الله بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي عسيب مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتاني جبريل بالحمى والطاعون فأرسلت الحمى إلى المدينة وأرسلت الطاعون إلى الشام).
فأكثر المناطق في الأمة تعرضاً للطاعون بلاد الشام، وأكثر المناطق تعرضاً للحمى هم أهل المدينة.
قال: (الطاعون شهادة لأمتي ورحمة لهم ورجس على الكافرين).
وطاعون عمواس مات فيه الآلاف، ومنهم أمين هذه الأمة أبو عبيدة، وأعلم الناس بالحلال والحرام معاذ بن جبل.
ومات فيه شرحبيل بن حسنة، وعبد الرحمن بن معاذ بن جبل، دخل عليه والده معاذ بن جبل قبل الموت، فقال: يا عبد الرحمن! كيف تجدك؟ قال: يا أبت {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ} [آل عمران:60]، ثم أصيب معاذ في إبهامه فجعل يقبله ويقول: إنك لصغير وقد يبارك الله في الصغير فيصبح كبيراً، فلما جاءه الموت قال: اخنق خنقك، فوعزتك إنني أحبك، حبيب جاء على فاقة لا أفلح من ندم، اللهم إني كنت أخافك وأنا اليوم أرجوك، اللهم إنك تعلم أني ما كنت أحب البقاء في الدنيا لغرس الأشجار ولا لكري الأنهار، وإنما لظمأ الهواجر ومكابدة الساعات ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.
أما كون أفضل الشهداء هم من أهل الشام فهذا في آخر الزمان وفي يوم الملحمة وفي أكبر معركة بين النصارى والمسلمين في الغوطة، وأرض الغوطة قريبة من دمشق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق، فيخرج إليه جيش من المدينة -والمدينة هنا هي دمشق بنص الأحاديث التي سنذكرها- من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا قالت الروم -أي النصارى الذين هم بنو الأصفر- خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون: لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتتحون القسطنطينية).
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في حديث آخر: (والله! إني لأعرف أسماءهم وأسماء آبائهم ولون خيولهم).
والقسطنطينية تفتح مرتين، والتي هي أسطنبول، مرة على يد محمد الفاتح الذي فتحها وكان عمره اثنتين وعشرين سنة، وكان شيخه الشيخ آغا شمس الدين يغدو به وهو لا زال صغيراً حتى يشرف به على البحر ويقول: أتنظر هذه المدينة يا بني؟ هذه مدينة القسطنطينية سيفتحها أمير مسلم هو خير الأمراء، ويفتحها جيش من خير الجيوش عند الله، ثم يخرج به مرة ثانية بعد ثلاثة أيام أو أربعة أيام كذلك، فكبر الطفل ومعه الأمل أنه ربما يكون هو الفاتح.
وينشأ ناشئ الفتيان فينا على ما كان عوده أبوه وإذا كان رب البيت بالدف ضارباً فشيمة أهل البيت كلهم الرقص والفتح الثاني سيكون آخر الزمان بعد يوم الملحمة الكبرى التي ينتصر فيها المسلمون على الجمع الكبير من النصارى، وهم أربعون لواء تحت كل لواء اثنا عشر ألف مقاتل يهزمهم المسلمون.
وما قاله نبينا على العين والرأس نصدق به ونوقن به، فممكن أن تكون حرب آخر الزمان بالسيوف، ولا تتعجب فإن أكبر علماء الجيولوجيا في الغرب يقولون: إن نجوماً كبيرة تنفجر في الجو بما يسمى موت النجوم، وإذا التصق نجم منها بالأرض وانفجر فسينهي كل ما على الأرض من أدوات إلكترونية.(32/14)
في الشام شجر يشبه شجرة طوبى في الجنة
ومن فضائل الشام: أن بها شجر الجوز يشبه شجرة طوبى في الجنة: ففي حديث عتبة بن عبد السلمي حديث الأعرابي الذي أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: (في الجنة فاكهة؟ قال: نعم، وبها شجرة تدعى شجرة طوبى وهي شجرة تطابق الفردوس.
قال: أي شجر أرضنا تشبه؟ قال: ليس شبه شيء من شجر أرضك، ولكن أتيت بلاد الشام؟ قال: لا.
قال: إن فيها شجرة تسمى الجوزة تنبت على ساق واحدة ثم تتفرع ثم تنتشر ثم ينتشر أعلاها) فهذه الشجرة تشبه شجرة طوبى بنص حديث النبي صلى الله عليه وسلم.(32/15)
الشام آخر ديار الإسلام خراباً
ومن فضائلها: أنها آخر الديار الإسلامية خراباً: كما روى سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خراب بيت المقدس خراب يثرب، وخراب يثرب خروج الملحمة، وخروج الملحمة فتح القسطنطينية) يعني: وبعد فتح القسطنطينية خروج الدجال، آيات يتلو بعضها البعض، والشام كما قلنا أرض المحشر والمنشر.(32/16)
بشرى المولد النبوي كانت من الشام
وهناك شيء جميل من فضائل الشام متعلق بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم.
عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: (قلت: يا نبي الله! ما كان بدء أمرك؟ قال: دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، ورأت أمي نوراً أضاءت منه قصور الشام)، وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني في كتابه صحيح السيرة، والمقصود بقصور الشام أي: التي ببصرى، قال العلامة ابن كثير: وهذه بشرى طيبة ومكانة عظيمة لأهل محلتنا بصرى.
ولذلك كانت أول مدينة من بلاد الشام حررت من قبضة الروم صلحاً، وأول فتح للمسلمين في بلاد الشام كانت مدينة بصرى.(32/17)
فضائل بيت المقدس(32/18)
وجود المسجد الأقصى ببيت المقدس
ثم بعد ذلك خص الله عز وجل بيت المقدس بفضائل منها أن بها المسجد الأقصى.
فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (قلت: يا رسول الله! أي مسجد وضع على الأرض أولاً؟ قال: المسجد الحرام.
قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى.
قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة، وأينما أدركتك الصلاة فصل فإنه مسجد).
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني: إن أول من بنى الكعبة هو آدم عليه السلام، ثم بناه بنوه من بعده.
وقول ثان: إن إبراهيم عليه السلام هو الذي بنى المسجد الحرام ثم ارتحل بعد بناء المسجد الحرام إلى الشام موطنه ومهاجره فبنى بها المسجد الأقصى، فإبراهيم خليل الرحمن هو باني المسجدين.
والقول الثالث: إن إبراهيم بنى الكعبة ثم بنى من بعده حفيده يعقوب المسجد الأقصى، والذي جدد البناء بعد ذلك هو سليمان بن داود عليه السلام.(32/19)
بيت المقدس مهاجر بعض الأنبياء وموطن موتهم
ومن الفضائل: أنها أرض هاجر إليها إبراهيم ولوط، فمات إبراهيم بمدينة الخليل، فهي أرض يموت فيها خليل الرحمن إذاً هي أرض مباركة، ثم بعد ذلك تطؤها أقدام أنجاس الأرض من اليهود الملاعين.
وموسى عليه السلام يسأل ربه عند الموت أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرسل ملك الموت إلى موسى فلما جاءه صكه ففقأ عينه، فرجع إلى ربه وقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت، فرد الله إليه عينه، وقال: ارجع إليه وقل يضع يده على متن ثور فله بما غطت يده من الثور بكل شعرة سنة، قال: أي رب! ثم ماذا؟ قال: ثم الموت.
قال: فالآن، فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة -من فلسطين- رمية بحجر، ولكنه مات بالأردن عليه السلام، قال: فلو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر).
فسيدنا موسى خرج ببني إسرائيل لفتح بيت المقدس ولكن لم يجعل الله تبارك وتعالى الفتح على يديه، فلما جاءه الموت تمنى من ربه أن يدنيه من الأرض المقدسة فمات قريباً منها.(32/20)
حبس الشمس ليوشع بن نون حتى يفتح بيت المقدس
ومن الفضائل: أن يوشع بن نون فتى موسى الذي قال الله فيه: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} [الكهف:60] حبست له الشمس حتى يفتحها.
وهو نبي عظيم من بني إسرائيل صلى الله عليه وسلم، قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (ما حبست الشمس على بشر قط إلا على يوشع بن نون ليالي سار إلى بيت المقدس) أي: أن ربنا حبس له الشمس حتى يتم فتح بيت المقدس؛ لأنه دخل بيت المقدس لأجل أن يفتحه وكان عصر يوم الجمعة، وقد قاربت الشمس على المغيب، فقال: أنت مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا.
فحبسها وأوقف الشمس لهذه المدينة المباركة حتى أتم يوشع بن نون فتحها.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء فقال لقومه: لا يتبعني رجل ملك بضع امرأة وهو يريد أن يبني بها ولما يبن بها) أي: أنه عقد على واحدة ولم يدخل بها، (ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها، ولا أحد اشترى غنماً أو خلفات وهو ينظر ولادها، فدنا من القرية صلاة العصر -أو قريباً من ذلك- فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور، اللهم احبسها علينا فحبست حتى فتح الله عليه).
فهذه من فضائل القدس التي حبس الله من أجلها الشمس.
حدائي حزين ترى هل سئمتم حدائي الحزين وماذا سأفعل قلبي حزين؟ زماني حزين تقاطيع وجهي وجدران بيتي حزين حزين حزين حزين فجدران بيتي دمار وريح وبين الجوانح قلب جريح فحيح الأفاعي يحاصر بيتي ويعبث في الصمت صوت كريه.
متى راح عهد قبيح السمات.
رأينا له كل يوم شبيه حزين الدار يا صاح.
جراحاتي تغذيني.
ودوماً تنزف القدسُ تعاتبنا وتسألنا ويصرخ خلفنا الأمسُ وما يضنيك يا قدساه يا أختاه يضنيني وما يبكيك يبكيني لأنك عشت في دمنا فهذا الجرح في عينيك شيء لا تداريه وجرحي آه من جرحي قضيت العمر يؤلمني وأخفيه وما يضنيك يا قدساه يا أختاه يضنيني وما يبكيك يبكيني لأنك عشت في دمنا فلن ننساك رغم البعد كنت أنيس وحدتنا ونهراً من ظلال الغيب يروينا يطهرنا وقد ننسى أمانينا وقد ننسى محبينا وقد ننسى طلوع الشمس من غدنا وقد ننسى غروب الحلم من يدنا ولن ننسى مآذننا ستجمعنا دماء قد سكبناها وأيام أضعناها ويجمعنا ويجمعنا ولن ننساك لن ننساك يا قدس!!(32/21)
بيت المقدس ديار الأنبياء
ومن فضائل بيت المقدس أنها ديار يعقوب عليه السلام، فإسرائيل هو الذي بنى المسجد الأقصى، على أحد أقوال أهل العلم.
بينما الملاعين من يهود يقولون: إن روابيل بن إسرائيل زنا بامرأة أبيه، وإن يعقوب علم بذلك وسكت، فهذا النبي العظيم أبو يوسف جعلتموه ديوثاً، النبي الكريم بن الكريم جعلتموه قواداً؟ بل قالوا: إن يعقوب سرق مواشي حميهم، وهذا كله كذب وافتراء على أنبياء الله.
ومن الفضائل: أنه كان بالقدس محراب داود عليه السلام قال عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (كان داود أعبد البشر)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أحب الصلاة إلى الله صلاة داود، وأحب الصيام إلى الله صيام داود؛ كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان ينام نصف الليل ثم يقوم ثلثه ثم ينام سدسه).
ولم يسلم داود عليه السلام من اليهود فقد قالوا عنه: إنه عندما كبر داود وشاخ أتوا إليه بفتيات صغيرات يدفئنه، وقالوا: إن ابن داود زنا بأخته.
وقالوا: إن لوط سقتاه ابنتاه الخمر فلما سكر ضاجعهما وحملتا منه.
فهم قتلة الأنبياء، والسفاكون، فالحرب بيننا وبينهم ليست لأجل قطعة أرض فقط، بل هي حرب دينية فقد سموا نبينا وقتلوا أنبياء الله عز وجل، وقالوا في مريم ما قالوا، وهم قتلة يحيى وزكريا.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن سليمان بن داود لما بنى بيت المقدس سأل ربه خلالاً ثلاثاً: سأل الله حكماً يصادف حكمه -أي يوافق حكم الله عز وجل- فأعطيه، وسأل الله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده فأعطيه، وسأل الله حين فرغ من بناء البيت ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمه، أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة) فمن خرج من بيته يريد الصلاة ببيت المقدس غفر الله له كل ذنوبه ما تقدم من ذنوبه.
فكيف تترك هذه الأرض لليهود؟ أفلا يشتاق كل منا إلى غفران ذنبه؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في الحديث الذي سنتلوه: (وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض بحيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا وما فيها).(32/22)
محراب مريم في بيت المقدس
ومن فضائل هذه الأرض: أن فيها محراب مريم التي تولت خدمة بيت المقدس: قال تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ} [آل عمران:37] أي: في المسجد الأقصى، {وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران:37]، والمقصود بالمحراب: محراب المسجد الأقصى، وهو محراب زكريا عليه السلام.
ففي المسجد الأقصى سالت دموع زكريا وانطلقت دعواته خاشعة تبلل أجواء المسجد، فسأل ربه أن يهبه غلاماً يرث به ميراث يعقوب من النبوة فقال: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} [مريم:6] فأعطى الله عز وجل لزكريا ما تمنى في بيت المقدس.
فكان الميلاد الفذ ليحيى، فيعطاه والده وقد كبر وطعن في السن وشاخ، وأمه كانت عاقراً، لكن يعطيه الله تبارك وتعالى جزاء التبتل والطاعة والرغبة والرهبة والخشوع لله تبارك وتعالى.
ويسميه الله جل وعلا يحيى وما سمى قبله أحداً، فهذا الاسم الفريد الذي ما تسمى به أحد سمي الله عز وجل ابن زكريا به، وجعله الله سيداً وحصوراً ونبياً من أنبياء بني إسرائيل، فذبحوه من أجل راقصة تسمى سالومي كانت عشيقة للملك هي وأمها، وأراد الملك أن يتزوج من بعض محارمه فوقف له نبي الله يحيى، وكانت عشيقة الملك تريد شيئاً من الفجور مع يحيى فأبى عليها وهو السيد الحصور، فتمنت أن تكيد ليحيى فقالت لابنتها: إذا قال لك الملك في ساعة صفاء ما تريدين فقولي له: أريد رأس يحيى.
ففعلت، فدعا بقاتلين من بني إسرائيل فذهبا وذبحا نبي الله يحيى، ثم أتت البنت برأس يحيى إلى أمها، ثم أتت إلى أمها فغاصت في الأرض إلى كعبيها، ثم إلى ركبتيها، ثم إلى حقويها، فنادت أمها السياف فقالت: جز رأس بنتي، فقد خافت عليها أن تغوص في الأرض بشكل كامل كما جزت رأس يحيى جُزَّ رأسها أمام أمها، بل وبأمر أمها.
ثم بعد ذلك كان الميلاد الفذ لسيدنا عيسى عليه السلام وقد كان بأرض فلسطين؛ لكن اليهود قالوا في مريم ما قالوا: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا} [النساء:156].
ثم أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس وكان الإسراء بالروح والجسد، فقد رأى المسجد الأقصى رؤيا عين وليست رؤيا منامية.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها، فكربت كربة ما كربت مثلها قط، قال: فرفعه الله إلي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضرب جعد كأنه من رجال شنوءة، وإذا عيسى بن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبهاً عروة بن مسعود، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم -يعني: نفسه- فحانت الصلاة فآذنتهم، فلما فرغت من الصلاة قال قائل: يا محمد! هذا مالك صاحب النار فسلم عليه، فالتفت إليه فبدأني بالسلام).
وقد أنكر صلاته صلى الله عليه وسلم بالنبيين سيدنا حذيفة بن اليمان ولكن هذا القول خالف فيه كل الصحابة، وأنكر كذلك أنه ربط البراق بالحلقة التي كان يربط فيها الأنبياء، ولكن هذا القول لا يصح.
الشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بالأنبياء إماماً في هذه الليلة، والصلاة اختلف فيها أهل العلم فمن قائل يقول: إنه صلى قبل أن يعرج إلى السماء، ولكن الشيخ الألباني يقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أسري به فدخل المسجد ثم صلى فيه ركعتين وربط الدابة بالحلقة التي كانت تربط بها الأنبياء، ثم عرج إلى السماء فعرفه جبريل بالأنبياء كل في سماء، وبعد أن عرفه نزل بهم إلى الأرض فصلى بهم في بيت المقدس.
قال الشيخ الألباني: وهذا هو الصحيح.
والشيخ ابن كثير يقول: سواء كان هذا أو ذاك فهما ثابتان، والأصح أنه صلى بهم بعد أن نزل بهم من فصلى بهم في المسجد الأقصى، يعني: عرفهم أولاً في السماوات ثم أتى فصلى بهم في المسجد الأقصى.
وصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالنبيين إماماً واعترفوا له بأنه نبي هذا الزمان، وإليه صارت ملكية هذا المكان ولقومه من بعده.
خطا موسى على زبد الصحاري تشق عن الرمال هوى دفينا هوى تتفتح الأكمام منه وتنفح من بشائره يقينا دعاء أبيه إبراهيم بشرى يرجع من صداها المرسلونا تفض على صفوف العيب نصراً لأحمد يأخذ العهد الأمينا بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم.(32/23)
فضائل المسجد الأقصى
والمسجد الأقصى قبلة المسلمين الأولى، صلى النبي صلى الله عليه وسلم نحوها وهو في مكة، ثم صلى نحوها ستة عشر وهو في المدينة، فكانت قبلة المسلمين الأولى.
وبيت المقدس أحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى).
والصلاة فيه بمائتين وخمسين صلاة، فعن أبي ذر رضي الله عنه قال: (تذاكرنا ونحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أيهما أفضل، مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أم بيت المقدس؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة في مسجدي هذا أفضل من أربع صلوات فيه، ولنعم المصلى هو، وليوشكن أن يكون للرجل مثل شطن فرسه من الأرض حيث يرى منه بيت المقدس خير له من الدنيا جميعاً)، وهذا الحديث أخرجه الحاكم وصححه ووافقه الذهبي وأخرجه المقدسي في فضائل بيت المقدس، وصححه الشيخ الألباني في تحذير الساجد.
وعن ميمونة بنت كعب مولاة النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (قلت: يا رسول الله! أفتنا في بيت المقدس، قال: أرض المحشر والمنشر ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أحمل إليه؟ قال: من لم يستطع أن يأتيه فليهد إليه زيتاً يسرج فيه؛ فإن من أهدى إليه زيتاً كمن أتاه) صححه البوصيري في مصباح الزجاجة في زوائد ابن ماجة والحافظ العراقي والإمام الطحاوي وأيضاً قواه الإمام النووي في المجموع، وصححه الشيخ الألباني في تخريج أحاديث فضائل الشام ودمشق، ثم عاد وضعفه في ضعيف سنن ابن ماجة، والصحيح أن هذا الحديث ضعيف، ولكن حديث أبي ذر هو الحديث الصحيح.(32/24)
قصيدة في البكاء على القدس
ونختم بهذه القصيدة نحدوها لكم باسم مرثية حزن: دعني وجرحي فقد خابت أمانينا هل من زمان يعيد النبض يحيينا يا ساقي الحزن لا تعجب ففي وطني نهر من الحزن يجري في روابينا كم من زمان كئيب الوجه فرقنا واليوم عدنا ونفس الجرح يدنينا جرح عميق خدعنا في المداوينا لا الجرح يشفى ولا الشكوى تعزينا كان الدواء سموماً في ضمائرها فكيف جئنا بداء كي يداوينا هل من طبيب يداوي جرح أمته هل من إمام لدرب الحق يهدينا كان الحنين إلى الماضي يؤرقنا واليوم نبكي على الماضي ويبكينا من يرجع العمر منكم من يبادلني يوماً بعمري ويحيي طيف ماضينا إنا نموت فمن بالحق يبعثنا لم يبق شيء سوى صمت يواسينا صرنا عرايا أمام الناس يفزعنا ليل تخطى طويلاً في مآقينا صرنا عرايا وكل الأرض قد شهدت أنا قطعنا بأيدينا أيادينا يوماً بنينا قصور المجد شامخة والآن نسأل عن حلم يوارينا نابلس في اليم ماتت قدسنا ذبحت ونحن في العار نسقي وحلنا طينا أي الحكايا ستروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا هذي دمانا رسول الله تغرقنا هل من زمان بنور العدل يحمينا أي الدماء شهيد كلها حملت في الليل يوماً سهام القهر تردينا القدس في القيد تبكي من فوارسها دمع المنابر يشكو للمصلينا أقزامنا ضيعونا حينما فسقوا باعوا المآذن والقرآن والدينا أقزامنا أشعلوا النيران في غدنا ومزقوا الصبح في أحشاء وادينا ما لي أرى الخوف فينا ساكناً أبدا ممن نخاف ألم نعرف أعادينا أقزامنا من أضاعوا السيف من يدنا وأودعونا سجون الليل تطوينا أقزامنا من توارى صوتهم فزعاً والأرض تسبى ونابلس تنادينا أقزامنا أوهمونا آه كم زعموا وكم خدعنا بوعد عاش يشقينا قد خدرونا بصبح كاذب زمناً فكيف نأمل في يأس يمنينا أي الحكايا تروى عارنا جلل نحن الهوان وذل القدس يكفينا من باعنا خبروني كلهم صمتوا والأرض صارت مزاداً للمرابينا هل من زمان نقي في ضمائرنا يحيي الشموخ الذي ولى فيحيينا يا ساقي الحزن دعني إنني ثمل إنا شربناه قهراً ما بأيدينا عمري شموع على درب المنى احترقت والعمر ذاب وصار الحلم سكينا قم من ترابك يا ابن العاص في دمنا ثأر طويل لهيب العار يكوينا قم يا بلال وأذن صمتنا عدم كل الذي كان طهراً لم يعد فينا هل من صلاح يداوي جرح أمته ويطلع الصبح ناراً من ليالينا هل من صلاح يعيد السيف في يدنا أو تبتروها فقد شلت أيادينا جرحي عنيد وجرحي أنت يا وطني جئنا نداويك تأبى أن تداوينا إني أرى القدس في عينيك ساجدة تبكي عليك وأنت الآن تبكينا ما زال في العين طيف القدس يجمعنا لا الحلم مات ولا الأحزان تنسينا وقد ننسى أمانينا وقد ننسى محبينا وقد ننسى طلوع الشمس من غدنا وقد ننسى غروب الحلم من يدنا ولن ننسى مآذننا ولن ننسى مآذننا ستجمعنا دماء قد سكبناها وأمجاد أضعناها وأيام حلمناها ويجمعنا ويجمعنا ويجمعنا ولن ننساك لن ننساك يا قدس(32/25)
برد السماء في فضل الرحمة والرحماء
رحمة الله وسعت كل شيء، وأحاطت بكل حي، لا يعدها عدد، ولا يصدها حد، آثارها على الإنسان معروفة موجودة، وفي كل شيء ليست مفقودة.
وقد ذكر الله الرحمة في كتابه وأطلقها على عدة معانٍ تتجلى من خلالها سعة رحمة الله عز وجل، وقد وردت الكثير من الأحاديث، والغزير من الآثار والتي تحث على الرحمة والعمل بها منهجاً في الحياة.(33/1)
معاني الرحمة
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
الرحمة لغة: الرقة والعطف والرأفة، يقال: رحمه يرحمه إذا رق له وعطف عليه، والرحم والمرحمة والرحمة يقال: رجل مرحوم ومرحم، والرُّحم بالضمة، الرحمة، كما قال أهل العلم، رحمهَ رحماً ورُحماً ورَحمةً ورُحمة كما قال سيبويه.(33/2)
الجنة رحمة
ولقد أطلق الله عز وجل الرحمة في كتابه على أكثر من معنى، فسمى الجنة رحمة، قال الله تبارك وتعالى في محكم آياته وهو أصدق القائلين: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [آل عمران:107]، أي: ففي جنة الله هم فيها خالدون، وقال الله تبارك وتعالى: {أُوْلَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي} [العنكبوت:23]، والجنة أعظم الرحمات، ففي الحديث القدسي يقول الله تبارك وتعالى: (أنت رحمتي أرحم بك من أشاء)، فالجنة رحمة يأمن فيها الناس من الخوف ويأمن فيها الناس من الحزن، هي دار السلام يدخلها الملائكة على عباد الله عز وجل من كل باب، قال تعال: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:23 - 24].
قال الله عز وجل: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلا تَأْثِيمًا * إِلَّا قِيلًا سَلامًا سَلامًا} [الواقعة:25 - 26]، وآخر من يخرج من النار يقول: يا رب! اصرف وجهي عن النار لا أسألك شيئاً غير ذلك، فكيف إذا أدخله الله عز وجل دار رحمته ورضوانه؟(33/3)
الإسلام رحمة
والإسلام رحمة، قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:105]، وقال تعالى: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى:8] فقد كان الإسلام رحمة للعالمين، إذ أنقذهم الله من ذل العبودية لغير الله عز وجل، كما قال ربعي بن عامر: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ذل الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.
قال الله عز وجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف:44] يعني: رفعة لك ولقومك.
إذا أنت غُمَّت عليك السماء وضلت حواسك عن صبحها فعش دودة في ظلام القبور تغوص وتسبح في قيحها وقبل أن يأتي الإسلام كان سابور ذو الأكتاف قد قتل من العرب خمسين ألفاً بنزع أكتافهم، حتى سمي سابور ذو الأكتاف، فقد كان العرب رعاة شياه وماعز لا شأن لهم في الأرض ولا ذكرى، فرحمهم الله عز وجل بالإسلام.
والإيمان رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود:28]، فالإيمان رحمة فما يعطيه الله تبارك وتعالى للعبد المؤمن من ذوق طعم الإيمان، ووجدان حلاوته، والفرح والسرور بالله تبارك وتعالى، وبما يغرس في قلبه من بساتين الطاعة قال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
يقول ابن القيم: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها القلب طرباً ويقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا العيش إنهم لفي عيش طيب.
ويقول ابن تيمية: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، أينما رحت فهي معي.
ويقول ابن القيم: من قرت عينه بالله قرت به كل عين، ومن اشتاق إلى الله عز وجل اشتاقت إليه جميع الأشياء، ومن أنس بالله عز وجل أطاب به كل خبيث، وأنس به كل مستوحش.(33/4)
النبوة رحمة
والنبوة رحمة، قال الله عز وجل: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف:32]، فالرحمة هنا بمعنى النبوة، فقد أتت النبوة رحمةً للعالمين، قال الله عز وجل لنبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، وكأن النبوة كلها قد حصرت في رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباد، أن يبين لهم طريق الخير فيتبعوه وطريق الشر فيجتنبوه، كما قال سفيان بن عيينة رحمه الله: خلقت النار رحمة يخوف الله بها عباده لينتهوا.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر الناس من النار ويرغبهم في الجنة، هل بعد ذلك من رحمة؟(33/5)
القرآن رحمة
والقرآن رحمة قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58].
قال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن ورحمته الإسلام.
وقال ابن عباس: فضل الله الإسلام ورحمته القرآن، قال الله عز وجل: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء:82]، فالقرآن رحمة حفظ الله به حقوق الناس ورحم العباد بدستوره العلوي الذي لا يظلم مثقال ذرة، فرحمهم من ظلم الطواغيت: عجت فروج الناس ثم حقوقهم لله بالبكرات والآصال كم تستباح بكل شرع باطل لا يرتضيه ربنا المتعال والكل في قعر الجحيم سوى الذي يقضي بحكم الله لا لنوال أو ما سمعت بأن ثلثيهم غداً في النار في ذاك الزمان الخالي وزماننا هذا وربك أعلم هل فيه ذاك الثلث أم هو خالي أتى القرآن رحمةً للناس، ورفعهم إلى آفاق ما كانوا يتطلعون إليها، فقد رفعهم من مستنقع الجاهلية الآسن ومن حمأ الأرض المسنون ومن الطين والوحل، ووضعهم في مصاف تتقطع دونها أعناق الملائكة، رحم الله عباده بالقرآن إذ وضع لهم ميدان الناس الحقيقي، ومقادير الناس عنده تبارك وتعالى، فإن توهم ذو الدنيا أن جنته في الدرهم والدينار والقصر المنيف والزوجة الحسناء، فعند الله عز وجل قيم ومعايير أخرى، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].(33/6)
المطر والرزق والعافية رحمة
وسمى الله عز وجل المطر رحمة، قال: {وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [النمل:63]، وقال الله عز وجل: {فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الروم:50]، فيرحم الله تبارك وتعالى عباده بالمطر، ولولا الشيوخ الركع والأطفال الرضع لصب الله تبارك وتعالى العذاب صباً.
كان مالك بن دينار رحمه الله يقول: أنتم تستبطئون المطر وأنا أستبطئ نزول الحجارة.
كان أحد الصالحين يرفع يديه إلى السماء في الاستسقاء ويقول: اللهم لا تهلك بلادك بذنوب عبادك.
وفي الأثر: أن الأرض وهوامها تقول: لعن الله ابن آدم منعنا القطر بشؤم معصيته.
والرزق رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف:10]، وقال الله عز وجل: {يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ} [الكهف:16]، أي: من رزقه، والنعمة رحمة، قال الله عز وجل: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].
والعافية رحمة، قال الله عز وجل: {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر:38].(33/7)
تابع معاني الرحمة
والنصر رحمة، قال الله عز وجل: {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} [الأحزاب:17]، كما جاء في سورة الأحزاب.
فالنصر رحمة والهزيمة ذل ودمار وعار وشنار، انظر إلى الجندي المسلم حين يقع أسيراً في يد الرجل التتري فيقول له التتري: امكث ههنا حتى آتيك بحجر لأقتلك به، وكثير منا شاهد الجندي العراقي وهو يقبل قدم الجندي الأمريكي في حرب الخليج في عاصفة الصحراء حتى لا يقتله، وتتناقلها وكالات الأنباء.
يا شام أين هما عينا معاوية وأين من زاحموا بالمركب الشهبا فقبر خالد في حمص نلامسه فيرجف القبر من زواره غضبا فرب حي تراب القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا ورقة القلب رحمة، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} [الحديد:27]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا أردت أن يلين قلبك وتدرك حاجتك، امسح رأس اليتيم وادنه منك وأطعمه من طعامك واسقه من شرابك).
والمنة رحمة، قال الله عز وجل: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [القصص:46].
ومغفرة الذنوب رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام:54].
والسعة في الأمور الشرعية والأحكام الفقهية رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة:178].
والمودة رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُم} [الفتح:29]، لا تكتمل الصحبة حتى تقول لأخيك: يا أنا.
يا من تنهش في أحشائي! يا من أنت جزء من أجزائي! يا من تبدو للجهال كأنك دائي! إني أعلم أنك حتماً فيك شفائي قل لي: هل يأتيك ندائي؟ إنك مني أنت كأني لست أرائي أنت كأني حين شقائي حين جهلت طريق إلهي من عند الألف إلى الياء حين تصورت الدنيا حسي وغذائي وكسائي إنك مسلم تشهد أن إلهك واحد إنك فيها من شركائي لكنك دوماً تطعنني من خلفي في كعب حذائي حين أراك تقوم بهذا يغرقني خجلي وحيائي ووشاة القوم إذا بانوا تشري الطعنة في أحشائي قل لي هل يأتيك ندائي؟ العزة عند إلهي ليس العز دمي وبكائي وغداً من قواك يميتك إن أنت أهملت ندائي والعصمة من الذنوب رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} [يوسف:53].
وطول العمر رحمة، قال الله تبارك وتعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا} [الملك:28]، يعني: مد في آجالنا وأطال أعمارنا.
وقال الله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم:21]، بعض العلماء قال: الرحمة هنا: هي الولد، فهذه هي المعاني التي ذكرت فيها الرحمة في القرآن الكريم.
ومن أسماء الله عز وجل: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3]، وهما اسمان مشتقان من الرحمة، والرحمن خاص بالله لا يسمى به غيره، ورحمن أبلغ من رحيم، والرحيم يوصف به غير الله عز وجل، فيقال: رجل رحيم، ولا يقال: رحمن، والرحمة من صفات الذات لله تبارك وتعالى، والرحمن: ذو الرحمة الشاملة للخلق، والرحيم خاص بالمؤمنين.
يقول العلامة ابن القيم: من رحمته سبحانه ابتلاء الخلق بالأوامر والنواهي، رحمة لهم وحمية، لا حاجة منه إليهم بما أمرهم به، ومن رحمته أن نغص عليهم الدنيا وكدرها لئلا يسكنوا إليها، ولا يطمئنوا إليها ويرغبوا عن النعيم المقيم في داره وجواره، فساقهم إليها بسياق الابتلاء والامتحان، فمنعهم ليعطيهم وابتلاهم ليعافيهم، وأماتهم ليحييهم، ومن رحمته بهم أن حذرهم نفسه لئلا يغتروا به فيعاملوه بما لا تحسن معاملته به، ومن رحمته أن أنزل لهم كتباً وأرسل إليهم الرسل، ولكن الناس افترقوا إلى فريقين: فأما المؤمنون فقد اتصل الهدى في حقهم بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى ورحمة، وأما الكافرون فلم يتصل الهدى بالرحمة، فصار القرآن لهم هدى بلا رحمة، وهذه الرحمة المقترنة بالهدى في حق المؤمنين رحمة عاجلة وآجلة.
فأما العاجلة فبما يعطيهم الله تبارك وتعالى من ذوق طعم الإيمان ومحبة الخير والبر ووجدان حلاوة الإيمان.
وأما الرحمة الآجلة فهي سكناهم في جواره وفي دار رحمته، ومن عظم الرحمة عند الله تبارك وتعالى أن الله كتب كتابها بيده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب بنفسه يوم خلق السماوات والأرض كتاباً فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي سبقت غضبي).(33/8)
أحاديث تحث على الرحمة وترغب فيها
وهناك آيات وأحاديث كثيرة في فضل الرحمة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أجيبوا الداعي، ولا تردوا الهدية، ولا تضربوا المسلمين).
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم قوله: (إذا سافرتم في الخصب فأعطوا الإبل حظها من الأرض، وإذا سافرتم في السنة فأسرعوا عليها السير)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يقدس أمة لا يأخذ الضعيف حقه من القوي وهو غير متعتع).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحم من في الأرض يرحمك من في السماء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنما يرحم الله من عباده الرحماء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (عرضت علي النار فجعلت أتأخر رهبة أن تغشاني، ورأيت امرأة حميرية سوداء طويلة تعذب في هرة لها ربطتها، فلم تطعمها ولم تسقها ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني نهيت عن قتل المصلين).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أهل السنة ثلاثة: ذو سلطان مقسط متصدق موفق، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى، ومسلم عفيف متعفف ذو عيال).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئراً فنزل فيها فشرب منها ثم خرج، فإذا هو بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي بلغ بي، فنزل البئر فملأ خفه ماءً ثم أمسك خفه بفيه ثم رقى، فسقى الكلب فشكر الله له فغفر له، ثم قال صلى الله عليه وسلم: في كل كبد رطبة أجر).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بينما كلب يصيح بركية كاد يقتله العطش جاءته بغي من بغايا بني إسرائيل فنزعت موقها فاستقت له به فغفر لها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن).
وقال صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من مثل بالحيوان).
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالصبيان والعيال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رحم ولو ذبيحة عصفور رحمه الله يوم القيامة).
وفي الحديث: (أن رجلاً فرق بين امرأة من السبي وبين ولدها فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرده عليها، ثم قال: من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم ومن لا يغفر لا يغفر له ومن لا يتب لا يتب عليه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما دمعت عينه لما مات ابن ابنته: (هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده، وإنما يرحم الله من عباده الرحماء).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (والشاة إن رحمتها يرحمك الله) قاله لرجل يذبح شاة ويرحمها.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تمثلوا بالبهائم).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تنزع الرحمة إلا من شقي).
وفي الحديث: (أنه أتى إليه رجل ورآه يقبل حفيداً من أحفاده قال: يا رسول الله! إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم قط، قال: وما أملك لك إن نزع الله من قلبك الرحمة؟!).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذه الأمة مرحومة جعل الله عذابها بينها، فإذا كان يوم القيامة دفع إلى كل رجل منهم رجلاً من أهل الأديان، فقال: هذا يكون فداؤك من النار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (رحم الله رجلاً سمحاً إذا باع وإذا اشترى وإذا اقتضى).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحداً الجنة عمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟! قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لن تؤمنوا حتى ترحموا قالوا: كلنا رحيم يا رسول الله! قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة الناس ورحمة العامة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لو تعلمون قدر رحمة الله لاتكلتم عليها).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53])، وإسناد هذا الحديث حسن.
وقال سول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، التحدث بنعمة الله شكر وتركها كفر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب).
وعن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر ثم يضمهما، ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للصحابة لما قيل له: يا رسول الله! ادع على المشركين فقال: (إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إني لأقوم في الصلاة أريد أن أطول فيها، فأسمع بكاء الصبي فأتجود في صلاتي كراهية أن أشق على أمه).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة).
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لولا أن أشق على أمتي أو على الناس ما تخلفت عن سرية، ولكن لا أجد حمولة ولا أجد ما أحملهم عليه).
ومن رحمته صلى الله عليه وسلم دعاؤه لمن عذبوه ولمن أرادوا قتله، قال: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً).(33/9)
من مظاهر الرحمة
من مظاهر الرحمة: رحمة الحيوان، وقد كان هناك في دولة الإسلام وقف للكلاب الضالة ينفق منه على الكلاب التي ليس لها صاحب، رحمة بها.
وكان هناك أيضاً وقف في بعض البلدان الإسلامية وخاصة في المغرب يطلق عليه مؤنس الوحشان، وذلك أن الرجل الغريب إذا نزل بأرض أتاه رجل يسامره ويزيل عنه وحشة الغربة ويأخذ من هذا الوقف.
ومن مظاهر الرحمة: بر الوالدين، فأنت تحب أولادك طبعاً فأحبب والديك شرعاً، وارع أصلاً ينبت لك فرعاً، وتذكر خصيب المرعى أولاً وأخيراً: {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، كم من ليلة باتا معك إلى الفجر يداريانك مداراة العاشق في الهجر، والله! إنهما لن يرضيا لك غير الكف والحجر سريراً، {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24]، حياتهما عندك بقايا شمس، لا تشتاق لقاءهما ويشتاقان إلى لقائك، وإن لقيت منهما أذى شكوت شقاءك، والله! لقد سقياك حلواً وسقيتهما مريراً، {وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:24].
وقال الله تبارك وتعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23 - 24].
يقول الشاعر: زر والديك وقف على قبريهما فكأنني بك قد نقلت إليهما لو كنت هما وكانا بالبقاء زاراك حبوا ًلا على قدميهما أنسيت عهدهما عشية أسكنا دار البلى وسكنت في داريهما ما كان ذنبهما إليك وإنما منحاك محض الود من نفسيهما كانا إذا ما أبصرا بك علةً جزعا لما تشكو وشق عليهما كانا إذا سمعا أنينك أسبلا دمعيهما أسفاً على خديهما وتمنيا لو صادفا لك راحةً بجميع ما يحويه ملك يديهما فَلَتلْحقنَّهما غداً أو بعده حتماً كما لحقاهما أبويهما ولتندمنَّ على فعالك مثلما ندما هما أيضاً على فعليهما بشراك إن قدمت فعلاً صالحاً وقضيت بعض الحق من حقيهما من مظاهر الرحمة: صلة أهل رحمك، والرحم تأتي يوم القيامة وهي معلقة بقوائم العرش تقول: اللهم صل من وصلني واقطع من قطعني.
ومن مظاهر الرحمة: إكرام اليتيم، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله عز وجل).
ومن مظاهر الرحمة: العطف على الفقراء والمساكين والخدم، وانظر إلى سالم مولى أبي حذيفة وكان رجلاً صالحاً فزوجه أبو حذيفة من بنت أخيه الحرة القرشية بنت عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن مظاهر الرحمة: عيادة المرضى، ولقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشيةً إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، وكان له خريف في الجنة).
ومن مظاهر الرحمة أيضاً: التعاطف بين الإخوان والجيران، والشفاعة الحسنة، ولين الجانب للإخوان، قال الله تبارك وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه، ولا ينزع من شيء إلا شانه)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب الرفق في الأمر كله).
ومن مظاهر الرحمة: العفو عن المسيء ورحمة النساء، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (هن عوان عندكم)، يعني: أسيرات عندكم، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي).
ومن مظاهر الرحمة: رحمة الصغار وانظر إلى مداعبة الرسول صلى الله عليه وسلم للطفل الصَّغير أبي عمير يقول عليه الصلاة والسلام: (يا أبا عمير ما فعل النغير).
ومن مظاهر الرحمة أيضاً: رحمة العدو، وانظر إلى رحمة النبي بـ ثمامة بن أثال وقد كان من زعماء الجاهلية ومن صناديد الشرك، فلما رحمه رسول الله صلى الله عليه وسلم أسلم وحسن إسلامه.(33/10)
نماذج للرحماء من الصالحين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أرحم أمتي أبو بكر)، ومن في الناس كـ الصديق؟ فهو الإمام العظيم الذي كان يحلب شياه اليتامى.
قال ابن الجوزي في التبصرة: لما استخلف الصديق أصبح غادياً إلى السوق، وكان يحلب للحي أغنامهم قبل الخلافة، فلما بويع قالت جارية من الحي: الآن لا يحلب لنا، فقال: بلى لأحلبنها لكم، وإني لأرجو ألا يغيرني ما دخلت فيه، فهو إنسان عظيم انتهى إليه كل ما في الإسلام من حنان وعطف، قالت عائشة رضي الله عنها: أعتق أبو بكر رضي الله عنه سبعة ممن كان يعذب في الله عز وجل، منهم بلال وعامر بن فهيرة.
وفاروق الإسلام ذو الرحمة السابقة وهو القوي الذي يرهبه ويخافه الشيطان، فعن زيد بن أسلم عن أبيه قال: خرجنا مع عمر بن الخطاب إلى حرة واقد حتى إذا كنا بصرار إذا نار، فقال: يا زيد! إني أرى ههنا ركباً ضربهم الليل والبرد انطلق بنا، فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم؛ فإذا امرأة معها صبيان وقدر منصوبة على نار، وصبيانها يتضاغون -يبكون ويصيحون- فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء! وكره أن يقول: يا أصحاب النار، فقالت: وعليكم السلام، فقال: أأدنو، قالت: أدن بخير أو دع، فدنا منها فقال: ما بالكم؟ قالت: ضربنا الليل والبرد، قال: وما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؛ قالت: الجوع، قال: أي شيء في هذا القدر؟ قالت: ماء أسكتهم به حتى يناموا، والله بيننا وبين عمر، قال: أي رحمك الله! وما يدري عمر بكم؟ قالت: يتولى أمرنا ثم يغفل عنا، قال زيد: فأقبل علي وقال: انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عجلاً من دقيق وقبةً من شحم وقال: احمله علي فقلت: أنا أحمله عنك، قال: أنت تحمل وزري يوم القيامة؟ لا أم لك، فحملته عليه فانطلق وانطلقت معه إليها نهرول، فألقى ذلك عندها وأخرج من الدقيق شيئاً، فجعل يقول لها: ذري علي وأنا أحرك لك، وجعل ينفخ تحت القدر ثم أنزلها، فقال: ابغيني شيئاً، فأتته بصحفة فأفرغها فيها، فجعل يقول لها: أطعميهم وأنا أصفح لهم، فلم يزل حتى شبعوا وترك عندها فضل ذلك وقام، فجعلت تقول: جزاك الله خيراً كنت أولى بهذا الأمر من أمير المؤمنين، فيقول: قولي خيراً، إذا جئت أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله، ثم تنحى ناحية عنها ثم استقبلها فربط مربطاً فقلت: لك شأن غير هذا، فلا يكلمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ثم ناموا وهدئوا، فقال: يا أسلم! إن الجوع أسهرهم وأبكاهم فأحببت ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت.
وعن أنس بن مالك قال: بينا عمر رضوان الله عليه يعس بالمدينة، إذ مر برحبة من رحابها؛ فإذا هو ببيت من شعر لم يكن بالأمس فدنا منه فسمع أنين امرأة، ورأى رجلاً قاعداً فدنا منه فسلم عليه، ثم قال: من الرجل؟ فقال: رجل من أهل البادية جئت إلى أمير المؤمنين أصيب من فضله، فقال: ما هذا الصوت الذي أسمعه في البيت؟ فقال: انطلق رحمك الله لحاجتك، قال: علي ذاك ما هو؟ قال: امرأة تمخض، قال: هل عندها أحد؟ قال: لا، قال: فانطلق حتى أتى منزله، فقال لامرأته أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهما: هل لك في أجر ساقه الله إليك، قالت: وما هو؟ قال: امرأة غريبة تمخض ليس عندها أحد، قالت: نعم، إن شئت، قال: فخذي ما يصلح المرأة لولادتها من الخرق والدهن وجيئيني ببرمة وشحم وحبوب، قال: فجاءت به، فقال لها: انطلقي، وحمل البرم ومشت خلفه حتى انتهى إلى البيت فقال لها: ادخلي إلى المرأة، وجاء حتى قعد إلى الرجل، فقال له: أوقد لي ناراً فأوقد تحت البرمة حتى أنضجها، وولدت المرأة فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين! بشر صاحبك بغلام، فلما سمع بأمير المؤمنين كأنه هابه فجعل يتنحى عنه، فقال له: مكانك كما أنت، فحمل البرمة ووضعها على الباب، ثم قال: أشبعيها ففعلت، ثم أخرجت البرمة فوضعتها على الباب فقام عمر رضي الله عنها فأخذها فوضعها بين يدي الرجل، فقال: كل ويحك! فإنك قد سهرت من الليل، ثم قال لامرأته: اخرجي، وقال للرجل: إذا كان غداً فائتنا نأمر لك بما يصلحك، ففعل الرجل فأجازه وأعطاه.
إنه أمير المؤمنين الذي تفتحت لأعلامه أقطار الدنيا، واستقبلت الدنيا دروسه كلها كأنها البشريات، تدك جيوشه معاقل كسرى وقيصر يؤرقه بكاء طفل ويزلزله حتى يشرق بالدموع وهو يصلي بالناس، تتولى زوجه في الهجيع الأخير من الليل أمر سيدة غريبة أدركها المخاض، يجلس هو خارج الكوخ ينضج لها الطعام، ويوقد تحت البرمة، هذا عمر منارة الله في الدنيا هديته إلى الحياة، على مائدة سيرته أطايب العظمة والرحمة، عبقري صحح مفاهيم الحياة، وأفرغ عليها نوراً من روحه، وكساها عظمة من سلوكه وكان للمتقين إماماً، أعظم آيات التفوق الإنساني، ونبوغ النفس، وبطولة الروح، وإعداد السلوك، هنا ترى ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا يكاد يخطر على قلب بشر.
هنا العظائم تتفوق على نفسها ويزحم بعضها بعضاً، هنا عمر رضي الله عنه، هذا موقفه من الضعيف.
وعثمان الأواب الرحيم التائب، كان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل بيته فيأكل الخل والزيت، عثمان الرحيم الذي تشع الرحمة في حياته نبراساً لكل تصرفاته العادية، والتي يتوقف عليها أمر الحياة والموت، كانت الرحمة نبراس تلك التصرفات جميعها! يغضب على خادم له يوماً فيفرك أذنه حتى يوجعه، ثم سرعان ما يدعو خادمه ويأمره أن يقتص منه فيفرك أذنه، فيأبى الغلام ويأمره عثمان فيطيع، ثم يقول: زد يا غلام! فإن قصاص الدنيا أرحم من قصاص الآخرة.
عثمان رضي الله عنه الخليفة الطاعن في السن الذي يرفض أن يوقظ خادمه كي يعد له وضوءه، ويتحامل على شيخوخة مجهدة في إحضار الماء وإسباغ الوضوء.
ولما اشتد حصار الثوار لداره قال للصحابة الذين تجمعوا حول داره ليواجهوا الثوار بالسلاح: إن أعظمكم عندي غناءً رجل كف يده وسلاحه، ويقول لـ أبي هريرة وقد جاء شاهراً سلاحه مدافعاً عنه: أما إنك والله! لو قتلت رجلاً واحداً لكأنما قتلت الناس جميعاً، ويقول للحسن والحسين وابن عمر وعبد الله بن الزبير وشباب الصحابة الذين أخذوا مكانهم لحراسته: أناشدكم الله وأسألكم به ألا تراق بسبب محجم دم، لله درك يا عثمان! رحمة جامعة تغطي بعطائها المقسط جلائل الأحداث وصغارها، للخادم منها حظه وحقه في أن ينعم براحة النوم، وإن أضنى الخليفة نفسه وشيخوخته في ظلمة الليل البهيم، ولقطرات الدم حظها وحقها في أن تنعم بالسلام والعافية، وإن كان بديل ذلك أن تزهق روح الخليفة الشيخ بيد معتد أثيم وغادر زنيم، توغلت الرحمة في حياته وفي سلوكه حتى اقتضته في آخر الأمر حياته نفسها فجاد بها، ولقد كان من الطبيعي لرجل وسعت رحمته الناس جميعاً أن تغطي رحمته ذوي القربى، قال علي رضي الله عنه: أوصلنا للرحم عثمان، لقد كان عثمان في ذلك نشيجاً وحده.
وانظر إلى عظم الرحمة عند عمر بن عبد العزيز وإلى رفقه بالحيوان، عن أبي عثمان الثقفي قال: كان لـ عمر بن عبد العزيز غلام على بغل له يأتيه بدرهم كل يوم، فجاءه يوماً بدرهم ونصف، فقال: ما بدا لك؟ قال: نفقت السوق، قال: لا، ولكنك أتعبت البغل، فأجمه ثلاثة أيام.
وكتبت إليه امرأة مسكينة تسمى فرتونة السوداء من الجيزة بمصر: أن لها حائطاً متهدماً لدارها يتسوره اللصوص ويسرقون دجاجها، وليس معها مال تنفقه في هذا السبيل، فيكتب عمر إلى واليه على مصر أيوب بن شرحبيل: من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أيوب بن شرحبيل سلام الله عليكم، أما بعد: فإن فرتونة السوداء كتبت إلي تشكو إلي قصر حائطها وأن دجاجها يسرق منه وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب بنفسك وحصنه لها، وكتب إلى فرتونة: من عبد الله عمر بن عبد العزيز أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء سلام الله عليك أما بعد: فقد بلغني كتابك وما ذكرته فيه من قصر حائطك حيث يقتحم عليك ويسرق دجاجك، ولقد كتبت إلى أيوب بن شرحبيل آمره أن يبني لك الحائط حتى يحصنه مما تخافين إن شاء الله.
يقول ابن عبد الحكم راوي هذه القصة الباهرة: فلما جاء الكتاب إلى أيوب بن شرحبيل ركب بنفسه حتى أتى الجيزة، وظل يسأل عن فرتونة حتى وجدها فإذا هي سوداء مسكينة، فأعلى لها حائطها: كم من شريعة حق قد نعشت لهم كانت أميتت وأخرى منك تنتظر يا لهف نفسي ولهف الواجدين معي على العدول التي تغتالها الحفر لو أعظم الموت خلقاً أن يوقعه لعدله لم يصبك الموت يا عمر ويقول القائل: أقول لما نعى الناعون لي عمر لا يبعدن قوام الحق والدين لم تلهه عمره عين يفجرها ولا النخيل ولا ركض البراذين قد غادر القوم في القبر الذي لحدوا بدير سمعان قسطاس الموازين عن الأوزاعي قال: شهدت جنازة عمر بن عبد العزيز؛ ثم خرجت أريد مدينة قنسرين، فمررت على راهب فقال: يا هذا أحسبك شهدت وفاة هذا الرجل، قال: فقلت: نعم، فأرقى عينيه فبكى فقلت له: ما يبكيك ولست من أهل دينه، فقال: إني لست أبكي عليه، ولكن أبكي على نور كان في الأرض فانطفأ.
ولما مات أذهل موته إمبراطور الروم، قال: والله! مات ملك عادل ليس لعدله مثيل، مات الرجل الصالح، لأحسب أنه لو كان أحد يحيي الموتى بعد عيسى بن مريم لأحياهم عمر بن عبد العزيز.
هذه رحمة عمر بن عبد العزيز بالناس، أين هو ممن وسع ا(33/11)
موجبات الرحمة
أما موجبات الرحمة: من ذلك رحمة الناس يقول الله تبارك وتعالى: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن:14]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ارحموا من في الأرض)، وقال الله تبارك وتعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الجاثية:14]، ولقد قال الله تبارك وتعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى:40]، حتى رحمة الخلائق كلها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما من إمام أو والٍ يوليه الله تبارك وتعالى إمارة فيغلق بابه دون ذوي الخلة والحاجة والمسكنة إلا أغلق الله أبواب السماء دون حاجته ومسكنته وفقره يوم القيامة).
ومن موجبات الرحمة: ذكر الله تبارك وتعالى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا نزلت عليهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، وذكرهم الله فيمن عنده).
تضيق بنا الدنيا إذا غبتم عنا وتزهق بالأشواق أرواحنا منا بعادكم موت وقربكم حيا ولو غبتم عنا ولو نفساً متنا نعيش بذكراكم ونحيا بقربكم ألا إن تذكار الأحبة ينعشنا ومن موجبات الرحمة: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما قال الله عز وجل: {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة:71]، وانظر إلى الرجل العظيم الصالح الذي كان سبباً في نصرة الجيش الإسلامي المصري على جنود الصليبين عز الدين بن عبد السلام، لما تحالف سلطان دمشق مع الفرنجة وأجاز بيع السلاح لهم، وقف هذا العالم على منبره وحرم بيع السلاح لهم، وقطع خطبته الحاكم، ومنعوه من الخطابة، ثم أرادوا أن يساوموه على دينه، فيرسل السلطان وزيره آملاً أن يستجيب عز الدين بن عبد السلام قال: إن سلطاننا يرضى منك أن تقبل يده على الملأ، فتعجب عز الدين بن عبد السلام وقال: يا سبحان الله! أنتم في واد وأنا في واد آخر، الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، والله! ما أرضى لسلطانكم أن يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل أنا يده.
ولما جاءت جيوش الفرنجة حبسه سلطان دمشق في خيمة بجواره، فتهدد عز الدين بن عبد السلام وهو يرفع صوته بالقرآن، فقال سلطان دمشق لكبير ملوك الفرنجة: أترون هذا الرجل الذي تسمعون قراءته للقرآن، هذا أكبر قسيسي المسلمين أفتى بحرمة بيع السلاح لكم فكافأته بالسجن، فقال: والله! لو كان هذا القسيس عندنا لغسلنا رجليه ولشربنا مرقته.
ومن موجبات الرحمة: تعليم الناس الكتاب والسنة، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلون على معلمي الناس الخير) والصلاة من الله رحمة.
ومن موجبات الرحمة: السحور، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته ليصلون على المتسحرين) لما فيه من مخالفة لأهل الكتاب من النصارى، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر).
ومن موجبات الرحمة: مسارعة الرجل للصلاة في الصف المقدم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله وملائكته يصلون على الصف المقدم).
أيضاً من موجبات الرحمة: عيادة المرضى، فإن الرجل إذا زاد أخاً مريضاً له صلى عليه سبعون ألف ملك واستغفر له سبعون ألف ملك حتى يمسي.
ومن موجبات الرحمة: رحمة البهائم، ورحمة البنات والإحسان إليهن، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من عال جاريتين كنت أنا وهو كهاتين).
ومن موجبات الرحمة أيضاً: العطف على اليتيم، والجهاد في سبيل الله عز وجل، والهجرة، والاستماع للقرآن الكريم، والاتباع والتقوى والصبر على المرض.(33/12)
ما يضاد الرحمة والرحماء
ويضاد الرحمة قسوة القلب فلقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن لله آنية في الأرض، وآنية ربكم قلوب عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها).
وهناك أناس لعنهم الله تبارك وتعالى وطردهم من رحمته وممن لعنهم الله ولعنهم رسوله صلى الله عليه وسلم إبليس، كما قال الله عز وجل: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} [الحجر:35]، والشياطين.
ومن أتى البهائم قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من أتى البهائم)، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لعن الله من مثل بالحيوان) وفي الحديث: (ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم شارب الخمر وساقيها وبائعها ومبتاعها وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها)، وحديث: (لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه) وحديث: (ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش) وحديث: (ولعن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذبح لغير الله ومن غير تخوم الأرض ومن كمه أعمى عن السبيل ومن عق والديه ومن عمل عمل قوم لوط)، ولعن الله قاطع الرحم، ولعن الله الكافرين والمنافقين والظالمين والكاذبين.
وقال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} [الأحزاب:57]، ولعن الذين يرمون أزواجهم، ولعن الذين يرمون المحصنات الغافلات، ولعن الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
يا رجالَ الدين يا ملح البلد من يصلح الملح إذا الملح فسد وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أكثر منافقي الأمة قراؤها)، ومن الذين لعنهم الله عز وجل: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [الرعد:25]، ومن الذين لعنهم الله ورسوله من قتل مؤمناً متعمداً، ومن فرق بين والدة وولدها ومن أخفى مسلماً في ذمته ومن أحدث أو آوى محدثاً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ومن أشار إلى أخيه بحديده فإن الملائكة تلعنه، ولعن الله من ادعى لغير أبيه، ولعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده، ولعن الله المحلل والمحلل له، لعن الله من أتى امرأة في دبرها، ولعن الله المرأة تبيت وزوجها عليها ساخط، ولعن النائحة والحالقة والصالقة والخامشة وجهها، والشاقة جيبها، وزوارات القبور، والواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنامصة والمتنمصة والمتفلجات بالحسن.
اللهم ارزقنا رحمة ترحمنا بها، اللهم اجعل في قلوبنا رأفة ورحمة ووداً للمسلمين.
ونختم بما قال عمر بن عبد العزيز: اللهم إن لم أكن أهلاً لأن أبلغ رحمتك، فإن رحمتك أهل أن تبلغني، فرحمتك وسعت كل شيء وأنا شيء، فلتسعني رحمتك يا أرحم الراحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم وصلى الله وسلم محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(33/13)
موجبات المحبة
إن أعظم وأجل ما يتمناه أولياء الله هو الظفر بمحبة الله، فهي سعادة العبد وأمانه عند هول المطلع، ولذا من أراد أن يلحق بركب المتنافسين فعليه بمعرفة الأسباب الجالبة لمحبة الله عز وجل، وتطبيقها والعمل بها، فإنها كافية لنيل مرضاة الله، والفوز بمحبته.(34/1)
أهمية المحبة في كتاب الله وسنة رسوله
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102].
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1].
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} [الأحزاب:70 - 71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الأنعام:134].
ثم أما بعد: قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54].
والمحبة لله عز وجل هي المنزلة التي فيها يتنافس المتنافسون، وإليها شخص العاملون، وبروح نسيمها تروح العابدون، وعليها تفانى المحبون، فهي قوت القلوب، وغذاء الأرواح، هي الحياة والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات، ولقد قضى الله بمشيئته وحكمه أن المرء مع من أحب، فيا لها من نعمة سابغة على المحبين أنهم مع الله عز وجل في دار الدنيا بحفظه وكلئه ومعيته، ومع الله عز وجل في دار الآخرة في جواره وفي فردوسه.
قال سمنون المحب: ذهب المحبون لله عز وجل بشرف الدنيا والآخرة.
وعن أنس رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: (يا رسول الله! متى الساعة؟ قال: ما أعددت لها؟ قال: والله يا رسول الله! ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ولا صدقة، ولكني أحب الله ورسوله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت)، قال سيدنا أنس: فما فرحنا بعد الإسلام فرحنا بشيء أشد من فرحنا بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث اختصام الملأ الأعلى من رواية معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت ربي فيما يرى النائم في أحسن حلة، فقال: أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: لا أدري أي رب، قال: فوضع يده بين منكبي حتى أحسست ببردها بين ثديي، فقال: الكفارات، والدرجات، والكفارات: نقل الخطا إلى الجماعات، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، وإسباغ الوضوء في المكاره، فقال له الله عز وجل: صدقت يا محمد! من فعل ذلك عاش بخير، ومات بخير، وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، ثم قال: يا محمد! إذا صليت فقل: اللهم إني أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لي وترحمني، وإذا أردت بعبادك فتنة فاقبضني إليك غير مفتون، وأسألك حبك، وحب من يحبك، وحب العمل الذي يقربني إلى حبك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنهن حق، فتعلموهن، وادرسوهن).
(إنهن حق) أي هذه الوصايا.(34/2)
الأسباب الجالبة لمحبة الله
تكلمنا قبل ذلك أن الله عز وجل أهل لأن يحب؛ لأن له جمال الذات، وجمال الصفات، وجمال الأفعال، ولنعمه وآلائه الواصلة إلى الإنسان آناء الليل وأطراف النهار، ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن القيم في الأسباب الموجبة أو الجالبة لمحبة الله عز وجل، كل الناس يقولون: إنا نحب الله عز وجل، وحتى لا يدعي الخلي حرقة الشجي، جعلت علامات للمحبة، شأن عظيم أن تحب مولاك، وأعظم منه أن يحبك الله عز وجل! ليس شأناً عظيماً أن تحِب، إنما الشأن أن تُحَب.
فما هي الأسباب الجالبة للمحبة؟ العلامة شيخ الإسلام ابن القيم ذكر منها عشرة أسباب، وذكر غيره من أهل العلم خمسة وثلاثين سبباً موصلة إلى حب الله عز وجل لك.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله عز وجل، وأن يكره أن يعود في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يقذف في النار).(34/3)
قراءة القرآن مع التدبر والفهم
السبب الأول الجالب للمحبة: قراءة القرآن بالتدبر لمعانيه، والتفهم لمقاصد كلام الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يحب الله ورسوله فلينظر في المصحف)، صححه الألباني.
وقال الحسن البصري: رحم الله أقواماً قرءوا القرآن على أنه رسائل من الله عز وجل إليهم، فقدروا قدر الرسائل، وقدروا قدر المرسل، قرءوا القرآن على أنه رسائل من الله عز وجل نازلة إليهم في التو، فالقرآن أحدث الكتب نزولاً من عند ربنا، قد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يتلقى المطر بثوبه، ولما سئل عن ذلك قال: (إنه حديث عهد بربه) فما ظنك بالقرآن! يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (من سره أن يستمع القرآن غضاً طرياً كما أنزل فليستمعه من ابن أم عبد) سيدنا عبد الله بن مسعود يقرأ القرآن على أنه رسائل من الله عز وجل إليه، فيتفاعل مع القرآن، وينزل القرآن على واقع عصره لا يغيره عن عصره، ويداوي به أدواء قلبه من الشهوات والشبهات.
وهذا أحمد بن أبي الحواري تلميذ الإمام أحمد وهو المسمى بريحانة الشام يقول: إني لأعجب لقراء القرآن كيف يهنيهم النوم ومعهم القرآن، أما والله لو علموا ما حملوا لطار عنهم النوم فرحاً بما رزقوا! يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من علم آية من كتاب الله فله ثوابها ما تليت).
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه).
(إن الله يرفع بهذا الكلام أقواماً ويضع به آخرين).
يقال لقارئ القرآن يوم القيامة: (اقرأ وارتق، ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية كنت تقرؤها).
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرأ القرآن ويتعتع فيه وهو عليه شاق له به أجران).
ويقول صلى الله عليه وسلم: (عليك بالجهاد والقرآن؛ إنه ذكرك في الأرض، وروحك في السماء).
ويقول سيدنا عثمان بن عفان: لو طهرت قلوبكم ما شبعتم من كلام ربكم.
ويقول خباب بن الأرت: يا هنتاه! تقرب إلى الله ما استطعت، واعلم أنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه.
منع القران بوعده ووعيده مقل العيون بليلها لا تهجع فهموا عن الملك الكريم كلامه فهماً تذل له الرقاب وتخضع قال ابن الصلاح فيما رواه السيوطي في الإتقان: وتلاوة كلام الله عز وجل كرامة اختص الله بها البشر دون الملائكة، فإنهم لا يتلونه، ولكنهم يستمعون إليه من البشر.
قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17] العجب من قول الله عز وجل: (اذكروني)! من نحن حتى يأذن الله عز وجل ويسمح بكرمه ومنه وفضله أن تتلى آياته بألسنتنا الخطاءة الجافية التي تخوض في الباطل؟! هذه نعمة كبيرة من الله عز وجل، فكيف إذا ذكرك الله عز وجل؟! يا كسول! يا جهول! لو سمعت صريف الأقلام في اللوح المحفوظ وهي تكتب اسمك عند ذكرك لمولاك لمت شوقاً إلى مولاك! {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر:23].
وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
وقال تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر:21].
وقال تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] قال أبو سعيد الخدري: فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام.
وقال الله تبارك وتعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت:51] آيات منزلة من فوق العرش، الأرض منها سماء، وهي منها كواكب، إذا هي لانت فأنفاس الحياة الآخرة، وإذا هدرت فأمواج البحار الزاخرة، فلم الإعراض عن القرآن؟ لم أترك القرآن تلاوةً وتدبراً وتحاكماً إليه؟ عجت فروج الناس ثم حقوقهم لله بالبكرات والآصال كم تستباح بكل شرع باطل لا يرتضيه ربنا المتعال والكل في قعر الجحيم سوى الذي يقضي بحكم الله لا لنوال أو ما سمعت بأن ثلثيهم غداً في النار في ذاك الزمان الخالي وزماننا هذا وربك أعلم هل فيه ذاك الثلث أو هو خالي هذه الأيام هي أيام القرآن، هذه الأيام خير أيام الدنيا، كما جاء في حديث جابر عن الرسول صلى الله عليه وسلم: (أفضل أيام الدنيا أيام العشر)، هذه الأيام يجوز فيها ختم القرآن في يوم وليلة، كما قال ابن رجب الحنبلي، وعلى هذا جمهور أهل العلم، فأين أنت من القرآن؛ من تعليمه لزوجتك وأطفالك؟ ومن حفظك إياه؟ لو حفظ كل إنسان فينا آيتين عند الفجر، وآيتين عند الظهر، وآيتين عند العصر، والمغرب والعشاء، وقام بهن الليل حتى من المصحف يرددهن فإنه سيحفظ القرآن ولا ينساه، يحفظ القرآن في عشر آيات يومية مقسمة على خمسة أوقات، يحفظ القرآن في مدة سنتين، فأين نحن من كلام الله عز وجل؟!(34/4)
أداء النوافل والمحافظة عليها
السبب الثاني: أداء النوافل بعد الفرائض، فإنها ترفعك من مقام المحب إلى مقام المحبوب، كما قال الله تبارك وتعالى: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)، ولا يعقل أن يقوم شخص الليل ثم ينام عن صلاة الفجر! إن النوافل جاءت لجبر الفرائض، ورفعة الدرجات، وحال الإنسان الذي لا يهتم بالفرائض ويهتم بالنوافل كحال رجل عليه وحل يقول لك: ضع علي مسكاً، أنت بحاجة إلى أن تغتسل ببرميل ماء، حتى ينزل الوحل الذي عليك، ثم بعد ذلك يطيبونك بالمسك! فلا تنفع النوافل إلا بعد الفرائض، فتأتي بالفرائض كاملة ثم تأتي بنوافل الصلاة والصيام والصدقات والحج والعمرة، نوافل الصلاة كالسنن الرواتب أو التطوع المطلق أو التطوع المقيد، تصلي اثنتي عشرة ركعة يبني الله لك بها بيتاً في الجنة.
ثم التطوعات كصلاة الضحى التي لا يحافظ عليها إلا أواب، والتطوع المطلق كقيام الليل والمحافظة على الوتر، قال الإمام أحمد: من واظب على ترك الوتر فهو سفيه ترد شهادته.
فكيف بالذي لا يصلي الفجر ولا الظهر ولا العصر؟! من واظب على ترك الوتر فهو سفيه ترد شهادته.
هناك أيضاً سنن وتطوعات في الصيام كصيام الإثنين والخميس، وصيام يوم عرفة وصيام عاشوراء وتاسوعاء، وصيام الثلاثة الأيام البيض، وهناك تطوع مطلق بعد ذلك كما قال أهل العلم، كصيام يوم في الشهر أو يومين أو ثلاثة أيام من أول الشهر، أو يوم كل عشرة أيام، أو السبت والأحد والإثنين من شهر، كما كانت تفعل السيدة عائشة، والثلاثاء والأربعاء والخميس من شهر.
صيام أربعة أيام، يوم خمسة وسبعة وتسعة وعشرة وأحد عشر، كل هذا ثابت، كما جاء في سنن النسائي وابن خزيمة وسنن أبي داود، وكذلك صيام يوم وإفطار يوم أو صيام يوم وإفطار يومين.
ثم صدقة التطوع بعد الزكاة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة) إذا أردت أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك، فامسح رأس اليتيم، وادنه منك وأطعمه من طعامك، واسقه من شرابك، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله).
كذلك أن يتطوع الإنسان بجاهه فيخدم المسلمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (خير الناس عند الله أنفعهم للناس)، قد لا يكون عندك المال، ولكن جاهك قد ينفع بعض المسنين: (اشفعوا تؤجروا) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
كذلك التطوع بما هو خير من المال، وهو تعليمك الناس لكتاب الله عز وجل، وتعليمك للقرآن، وتعليمك الناس العلوم الشرعية النافعة، وما يفيدهم في دينهم ودنياهم، فهذا تطوع بالإنفاق، ثم بعد ذلك التطوع بالحج والعمرة وغيرها من النوافل.
فالحرص على أداء النوافل بعد الفرائض يوصلك إلى درجات من القرب لا يعلمها إلا الله عز وجل، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (من تقرب مني شبراً تقربت منه ذراعاً، ومن تقرب مني ذراعاً تقربت منه باعاً) وسكت، وما بعد الباع لم يذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، فهي درجات من القرب لا يستوعبها العقل، كما قال الإمام ابن القيم رحمه الله: خلِّ الهوى لأناس يعرفون به قد كابدوا الحب حتى لان جانبه ويقول المولى عز وجل: (ومن أتاني يمشي أتيته هرولة)، ومن أتاه هرولة ماذا يكون الجزاء؟ درجات من القرب لا يحيط بها العبد، من تقرب إلي بالجوارح (كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها).
فمن تقرب إلي بكليته بروحه بقلبه بكل ما عنده ماذا يكون الجزاء؟ يقول الشاعر: ما زلت أنزل من ودادك منزلاً تتحير الألباب عند نزوله فهذا القرب لا تحيط به العقول، والله عز وجل فوق عرشه، وهو قريب من محبيه: (إن لله أهلين من الناس قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن، هم أهل الله وخاصته).(34/5)
المحافظة على ذكر الله في الدوام
السبب الثالث: دوام ذكرك لله عز وجل على كل حال، باللسان والقلب والعمل والحال، قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب:41]، والذاكرون لله عز وجل كثيراً دعاؤهم مجاب بنص الحديث الذي حسنه الألباني.
وقال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] عنترة كان يذكر عبلة -وهو صعلوك- في المعارك عند صليل السيوف، فما ظنك بمن يحب مولاه، الذي هو عنصر الجمال؟! إذا كان حب الهائمين من الورى بليلى وسعدى يسلب اللب والعقلا فماذا عساه يصنع الهائم الذي ترى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو ملاق قرنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما حسنه الألباني: (أكثر من ذكر الله حتى يقال إنك مجنون) لن تجد شخصاً يقول لك: إنك أنت مجنون، ستجد شخصاً يقول مثلاً: مجنون لعبة الكرة مجنون الممثلين مجنون المغنين لكن لا يوجد أحد يقال عنه: إنه مجنون بذكر الله؛ لأنه كلما زدت من حب الله أفقت من غيبوبتك.
كما قال عتبة الغلام: من عرف الله أحبه، ومن أحبه أكرمه، ومن أكرمه أسكنه في جواره، ومن أسكنه في جواره فطوباه وطوباه وطوباه وطوباه! فما زال يقول: يا طوباه! حتى غشي عليه.
قال يحيى بن معاذ: عفوه يستغرق الذنوب، فكيف رضوانه؟ ورضوانه يستغرق الآمال، فكيف حبه؟! حبه يدهش العقول، فكيف وده؟ ووده ينسي ما دونه فكيف لطفه؟! هذا لا يكون إلا لله عز وجل.
كل محبوب سوى الله سرف وهموم وغموم وأسف كل محبوب منه لي خلف ما خلا الله مالي منه خلف كل إنسان يحب الصالحين ليكسب منهم، أما الله عز وجل فإنه يحبك لتكسب أنت منه: (ابن آدم خلقتك لنفسي فلا تلعب، وتكفلت لك برزقك فلا تتعب، ابن آدم اطلبني تجدني، فإن وجدتني وجدت كل شيء، وإن فتك فاتك كل شيء، وأنا خير لك من كل شيء).
يقول صلى الله عليه وسلم: (أكثر من ذكر الله حتى يقال: إنك مجنون).
العلماء اختلفوا هل يشرع الجهر بالتكبير في هذه الأيام؟ لحديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فأكثروا فيهن من التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير) قال ابن رجب: أنكره طائفة، واستحبه أحمد والشافعي، ولكن الإمام الشافعي قيده برؤية بهيمة الأنعام، والإمام أحمد استحبه على الإطلاق.
وذكر الإمام البخاري أن أبا هريرة وابن عمر كانا يدخلان السوق فيكبران فيكبر الناس لتكبيرهما.
وروى الفريابي في كتاب العيدين: أن سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهد كانوا يدخلون السوق فيكبرون، لا يدخلون إلا لذلك، تقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، تعلن الدينونة في هذه الأيام لله عز وجل، كدينونة الشجر والجماد، ما من ملب يلبي إلا ولبى ما عن يمينه وشماله من حجر أو شجر أو مطر، حتى تنقطع الأرض يميناً وشمالاً.
قال مالك بن دينار: ما تلذذ المتلذذون بمثل ذكر الله، طلبة العلم نقول لهم: سيدنا الإمام أبو هريرة كانت له اثنتا عشرة ألف تسبيحة بعد صلاة الفجر، قيل: كل يوم يقول: إنما أسبح بقدر ذنبي.
خطرات ذكري تستشير مودتي وأحس منها في القلوب دبيبا لا عضو لي إلا وفيه صبابة فكأن أعضائي خلقن قلوبا يا من يذكرني بعهد أحبتي طاب الحديث بذكرهم ويطيب أعد الحديث علي من جنباته إن الحديث عن الحبيب حبيب ملأ الضلوع وفاض عن جنباتها قلب إذا ذكر الحبيب يذوب ما زال يخفق ضارباً بجناحه يا ليت شعري هل تطير قلوب(34/6)
إيثار محاب الله على محابك
السبب الرابع: إيثار محاب الله على محابك عند غلبات الهوى، والتسلم إلى مراقيه وإن صعب المرتقى إلى محابه: إذا عرض لك أمران أمر فيه محبة لله عز وجل، وأمر فيه حظ نفسك، فابدأ بحق الله أولاً، كما قال المحاسبي: البصير الصادق لا يبالي ولو خرجت كل محبة له من قلوب الخلق في سبيل أن يصلح ما بينه وبين مولاه قيد أنملة.
انظر إلى الناس فامقتهم كلهم في جنب الله عز وجل، ثم انظر إلى نفسك تكون أشد مقتاً لها، راع حق الله عز وجل، انظر إلى خليل الرحمن إبراهيم يرزق الولد على الكبر، فتتعلق شعبة من قلبه بحب ابنه، وهذا شيء جبلي وفطري وغريزي، والله عز وجل يغار على قلب خليله، وهذه للخليل ليست لغيره، والله يغار على قلب خليله أن يسكن إلى غيره، فأمره بذبح الغلام.
فلما تحقق صدق عزمه وهم بذبح الغلام حصل المقصود، وطرد المزاحم من قلب الخليل! فأقر الله عينه بولده مثلما قرت عينه بالله عز وجل، سيدنا إبراهيم يأتي برضيعه وبزوجه إلى جبال فاران موضع مكة الآن، تقول له زوجته: يا إبراهيم! آلله أمرك بهذا؟ يقول لها: نعم، تقول: إذاً فلن يضيعنا، كلمات يعجز عنها كل من في الدنيا وقد قالتها امرأة مصرية! الذين يريدون أن يفتخروا بصعاليك الفراعنة نقول لهم: افتخروا بـ أم إسماعيل، هي الطهر كل الطهر، خطواتها جعلها الله ركناً من أركان الحج، هذا ما أورثتكموه أم إسماعيل بصدقها، الخطوات التي مشتها بين الصفا والمروة والهرولة جعلها الله ركناً من أركان الحج لا ينعقد الحج إلا به، بصدق المرأة.
فما ظنك بالرجال! سيدنا إبراهيم لم يتلكأ، ولم يضطرب، والله عز وجل يأمره بترك ولده الرضيع، وبترك زوجه، أنت الآن عندك ثلاجة اثنا عشر قدماً، وتضع فيها لحمة في الفريزر قدر جمل، ولا تقنع بهذا! عندك أكلك وشربك وفي نعمة مرتاح فيها، أما أنت يا هاجر في مكة بين الهجير والحر، إلى من وكلكما إبراهيم؟ إلى الله، وكلكما إلى خير كافل، لا تخشي الضيعة إن الله لا يضيع أهله.
يأمره الله عز وجل بذبح ولده في رؤيا منامية، ورؤيا الأنبياء حق ووحي، ولم يتلكأ ولم يضطرب، ويأمره بأن يباشر هو بنفسه عملية الذبح، وهذا مشهد عظيم لم يتكرر ولن يتكرر، منارة عالية من منارات الإيمان والتضحية والتسليم لأمر الله عز وجل، جعلت من يوم النحر أعظم يوم عند الله عز وجل، أعظم أيام الدنيا، يأمره الله عز وجل بذبح ولده، فيباشر ويهم ببدء عملية الذبح.
ولكن يريد أن يرفع ابنه إلى درجة الإيمان وحلاوته حتى يتذوقه، فقال له: يا بني! إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى؟! {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102].
الشيخ سيد قطب رحمه الله يقول: قد يندفع المجاهد في المعركة ليخفي جبنه وهلعه وخوفه؛ لأنه لو قعد وفكر قليلاً فيمكن أن ينكص على عقبيه، فلم يكن الأمر عند سيدنا إبراهيم اندفاعاً من أجل أن يخلص من الضغط النفسي بذبح ابنه، هذا يريد أن يكون على طمأنينة وتريث، يريد أن يذوق جمال التسليم لأمر الله عز وجل، هو وابنه.
فما كل عين في الحبيب قريرة فدينك عرضك، دينك لحمك، دينك دمك، إن كان هذا الكلام كبيراً علي وعليك، فيبقى مقالة أبي حازم الأعرج حيث قال: قد رضينا من أحدكم أن يحافظ على دينه كما يحافظ على نعله، إن الرجل إذا اتسع خرق نعله قام ليصلحه.
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع العلامة ابن القيم يقول: إيثار الله على غيره، وهذا مقام كان الأوحد فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، آثر الله، وآثر محاب الله عز وجل على من سواه.(34/7)
مطالعة القلب لأسماء الله وصفاته
السبب الخامس: مطالعة القلب لأسمائه وصفاته: قال العلامة ابن القيم: وهذا أشرف أنواع العلوم وأجلها على الإطلاق، تدبرك ومعرفتك، والمعرفة أخص من العلم؛ لأنها إدراك العلم بعد تفكر وتدبر، المعرفة يا إخوة فعل القلب، روى الإمام البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: (أنا أعلمكم بالله وأشدكم له خشية) قال: المعرفة فعل القلب، فرق بين المعرفة والعلم، إنها علم مقرون بعمل.
تدبر أن لك رباً استوى على العرش يدبر أمر الممالك، يأمر وينهى، يعز ويذل، يداول الأيام بين الناس، يقلب الليل والنهار، له الملك كله، وله الحمد كله، وإليه يرجع الأمر كله، قلوب العباد إليه مفضية، والغيب عنده شهادة، والسر عنده علانية، يعلم ما كان وما هو كائن، وما لم يكن لو كان كيف يكون، هو أحق من حمد، وأولى من شكر، وأرأف من ملك، وأعز من استنصر، ينادى على باب عزته، لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، ويصاح على محجة حجته: {لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون:84] ينزل جاسوس علمه {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة:7] يترنم وينشد بفضله {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53] يقول سبحانه: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34].
وباب الأسماء والصفات سيدنا الشيخ فوزي بحر، له خطب كثيرة في هذا الباب.
ثم بعد ذلك مطالعة ومشاهدة نعم الله عز وجل وبره وآلائه وإحسانه، فمن رحمة الله عز وجل أن الإسلام لا يشترى، يعني: لو كان الإسلام يشترى مثل الشقق، فلن يحصل عليه كثير من الناس، يعني: لو ثبت أن الإسلام يشترى بعشرين ألف جنيه، لكان كثير من الناس سيفوتهم الإسلام.
ولو سوينا مسابقة في العقول، والذي يبقى له نسبة (60%) يكون مسلماً، لكان هناك أناس كثيرون سيفوتهم، لأنهم لا يفهمون النصوص والأحكام.
رجاء الجارودي يبحث عن الإسلام مدة سبعين سنة، ولما دخل الإسلام دخل من باب وحدة الأديان، وأنت -ولله الحمد- تموت على ما ماتت عليه عجائز نيسابور، رحمة من الله تبارك وتعالى أن أرسل إليك رسوله، فالله أخبر بأنه بالمؤمنين رءوف رحيم، وأنزل إليك كتابه، وأعطاك مئونة السفر إلى الجنة، وأعطاك سمعاً وبصراً وفؤاداً، وطرد إبليس من جنته إذ لم يسجد لأبيك وأنت في صلبه: كم عدو حط منك للذنب فرقاك؟ كم أعطش من شراب الأماني خلقاً وسقاك؟ كم أمات بعض من لم يبلغ مرادك وأبقاك؟ أعطاك أيتها النفس ما لم تأملي، وبلغك ما لم تطلبي.
كل هذا من نعم الله عز وجل، غير النعم الموجودة في الكون من تسخير الكائنات والحيوانات، فإنه سخر الإبل حيث إن الطفل الصغير يذهب بالجمل إلى المزارع ثم يعود به، ولكن لم يسخر لك الثعبان فلا تستطيع أن تلمسه، ولم يسخر لك الذئب فلا تستطيع أن تأتي بالذئب وتدخله بيتك مثل الجمل.
هذه من نعم الله تبارك وتعالى، وهي نعم كثيرة يعطيها لك الله تبارك وتعالى، يقيم الصالحين من عباده وأنبيائه يستغفرون لك وأنت لم تخلق بعد، سيدنا إبراهيم يدعو لك، وسيدنا نوح يدعو لك، حيث قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح:28].
سيدنا رسول الله يدعو لك، قال تعالى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد:19] من أنت؟! ما قدرك؟! أنت إذا بعدت عن طريق الله عز وجل لا تساوي حشرة في ملك الله، فالنحلة أعلم بما يخرج من بطنها، وأنت أعلم بما يخرج من بطنك.
فما الذي بعد ذلك إلا انكسار القلب وذله بين يدي الله عز وجل وإخبات القلب على عتبة العبودية، أن تفنى عن حقك وعن قدرك، أن تنظر إلى نفسك بعين النقص وإلى مولاك بعين الكمال، تقول لله عز وجل: أسألك بغناك عني وفقري إليك، أسألك بعزك وذلي، إلا رحمتني، هذه ناصية خاطئة كاذبة بين يديك، أسألك مسألة المسكين، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل.
ترى أن ما حباك الله تبارك وتعالى إنما هو محض منة وفضل منه عز وجل، وأنك بالله لا بنفسك: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} [النور:21].(34/8)