موقف النجاشي ملك الحبشة والمنذر بن ساوى ملك البحرين من رسائل النبي صلى الله عليه وسلم
لقد جاءت أفضل الردود من النجاشي ملك الحبشة، ومن المنذر بن ساوى ملك البحرين، وهؤلاء الاثنان أسلما دون تردد.
واحد أسلم وأخفى إسلامه وهو النجاشي ملك الحبشة؛ لأن وضع الدولة النصراني كان صعباً جداً، فهو لا يستطيع أن يعلن إسلامه، ولأنه لو أسلم فإن الشعب سيقتلعه اقتلاعًا من كرسيه، وقد حصل قبل ذلك عندما ساند المسلمين أن الشعب أقام عليه ثورة وكاد أن يقتلع النجاشي من كرسيه، من أجل ذلك أخفى إسلامه، وآثر أن يساعد الدولة الإسلامية الناشئة الجديدة هناك في المدينة المنورة، وهو يعلن النصرانية في الظاهر ويبطن الإسلام.
أما المنذر بن ساوى رحمه الله فقد أعلن إسلامه وأسلم شعبه، وكانوا يدينون بعبادة الأصنام، لكن يبدو أن المنذر بن ساوى رحمه الله كان قوياً ممكناً في قبيلته ومحبوباً بين شعبه، وكان الناس تبعاً لقائدهم كعادة العرب في ذلك الوقت، فزعيم القبيلة أخذ قرار الإسلام فأسلمت قبيلته وأسلم شعبه.
وهذا الوضع غير الوضع في بلاد الحبشة حيث كان بلدًا نظامياً كبيراً له تاريخ طويل، ومن الصعب على النجاشي أن يغير أفكار الناس كلها في لحظة واحدة.
إذاً: هذا هو الوضع بالنسبة لملك الحبشة وبالنسبة لملك البحرين وهذه أفضل ردود.(33/5)
موقف المقوقس ملك مصر من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له
أما المقوقس فقد أحسن استقبال الوفد الإسلامي وأكرمه بالهدايا، إلا أنه لم يسلم، وإني لأتعجب جداً من عدم إسلامه؛ لأن المقوقس ذكر في رده لـ حاطب بن أبي بلتعة الذي كان رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر في رده له أنه كان يعلم أن نبياً سيظهر في هذا الزمان، ولكنه كان يحسب أن هذا النبي سيظهر في الشام، فهو كانت عنده تهيئة نفسية لظهور النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك لم يسلم، بل إنه لم يفكر أصلاً في التأكد من كونه نبياً أم لا، مع أنه كان يعرف أنه نبي فعلاً، وإلا لما أكرم سفارته وحملها بالهدايا كما نعلم جميعاً؛ لأنه ليس من الممكن أن يفعل هذا الأمر مع كذاب يدعي النبوة، وخاصة أن رسول الله عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت لم تكن له قوة كبيرة أو بأس، ولم يكن يحكم دولة ضخمة يخشاها المقوقس فيحتاج إلى مهادنته، بالعكس فإن قوة مصر المادية كانت أضعاف أضعاف قوة المدينة المنورة في ذلك الوقت، لكن على كل حال إكرام المقوقس لوفد رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أثراً إيجابياً للدولة الإسلامية في كل مكان، أكد على شرعيتها في النظام الدولي الجديد، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
إذاً: هذا كان رد المقوقس رد بأدب وحمل الهدايا لكن لم يسلم.(33/6)
موقف هرقل ملك الروم من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له
أما هرقل زعيم الدولة الرومانية التي كانت تسيطر تقريباً على نصف مساحة العالم في ذلك الوقت، فإن موقفه من الرسالة يحتاج إلى وقفة ويحتاج إلى تحليل، فهو يفسر لنا الكثير من أحداث التاريخ، سواء في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم أو في الأيام التي تلت الرسول عليه الصلاة والسلام، وحتى إنها تفسر لنا أحداثاً كثيرة جداً من الواقع الذي نعيشه؛ لأنكم تعرفون أن التاريخ يتكرر.
فعندما استلم هرقل رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ الموضوع بمنتهى الجدية، مع أنه زعيم أكبر دولة في العالم، ويستلم رسالة من زعيم دولة لم يسمع بها أحد إلى الآن، وهذه الدولة الجديدة خرجت في بلاد العرب، والرومان بصفة عامة كانوا ينظرون إلى بلاد العرب نظرة دونية، يرونهم دائماً أقل من أن يهتموا بشأنهم، لم يدرسوا أحوالهم أو عاشوا ظروفهم؛ لأن هؤلاء العرب قوم يعيشون حياة البداوة في أعماق الصحراء، بعيدون كل البعد عن كل مظاهر الحضارة والمدنية، متفرقون مشتتون متنازعون، أحلامهم بسيطة جداً، طموحاتهم قليلة جداً، عددهم محدود، أسلحتهم بدائية، والفارق بينهم وبين إمبراطورية الرومان الهائلة كالفارق بين السماء والأرض.
وكلنا نعرف كيف كان الصراع يدور بين دولة فارس والروم وكل ما عمله العرب هو الاكتفاء فقط بمراقبة الأحداث، وأنهم يتراهنون من الذي سيكسب من الدولتين العظيمتين فارس والروم، ولم يكن أحد فيهم عنده طموح في مشاركة القوى العالمية لا من قريب ولا من بعيد في الأحداث الجارية في العالم، ومع كل هذا فـ هرقل زعيم الروم عندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إليه رسالة أخذ الأمر بمنتهى الجدية، ولم ينكر أن يكون ذلك الرجل نبياً حقاً، ولم يكن ينقصه إلا التأكد فقط، ويريد دليلاً، ونحن عندما نسمع عن هرقل أو نقرأ عنه نشعر أنه كان زعيماً نصرانياً متديناً ملتزماً إلى حد كبير بتعاليم دينه، وكان يقدر كثيراً أن الله عز وجل يساعده في معاركه، وكلنا نعرف أنه نذر أن يحج إلى بيت المقدس ماشياً على قدميه من حمص إلى القدس شكراً لله على نصره للرومان على الفرس، فمثله يتأكد أنه قرأ في التوراة والإنجيل أن هناك رسولاً سيأتي، وأن هذا الرسول بشر به موسى وعيسى عليهما السلام، وكان ينتظر هذا الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا الرجل الذي أرسل له رسالة وهو الرسول صلى الله عليه وسلم يذكر له في هذه الرسالة أنه نبي آخر الزمان، وقبل هرقل الفكرة، بل لعله مشتاق إلى رؤية ذلك النبي، وقبل هذا هرقل كان قد سمع عن النبي صلى الله عليه وسلم، بل إن الله عز وجل يسر له لقاء غريباً عجيباً؛ فقبل استلام الرسالة هيئ هرقل نفسياً تماماً لاستلام مثل هذه الرسالة العجيبة، وذلك أنه سمع أن نبياً ظهر في بلاد العرب، فقال لجنوده: ائتوني ببعض العرب أسألهم عن هذا النبي الذي ظهر في بلادهم، فأتى الجنود ببعض التجار الذين كانوا يتاجرون في غزة في فلسطين، وكان هرقل في بيت المقدس في ذلك الوقت، وذهبوا بهم إلى هرقل من أجل أن يتأكد من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان من بين هؤلاء التجار أبو سفيان بن حرب زعيم قريش، وحصلت هذه القصة بعد صلح الحديبية مباشرة، يعني: بعدما تم صلح الحديبية سافر أبو سفيان إلى غزة وأخذه الجنود إلى هرقل في بيت المقدس، وكان التوقيت توقيتاً عجيباً جداً من كل النواحي، وكأن الله سبحانه وتعالى بعث أبا سفيان الكافر في ذلك الوقت ليقيم الحجة على هرقل، وهذا اللقاء ورد في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما سمعه من أبي سفيان رضي الله عنه بعد إسلامه.
فلما مثل التجار عند هرقل سألهم: أيكم أقرب نسباً لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً إليه، فقال هرقل: أدنوه مني وقربوه وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائل هذا - يعني: أبا سفيان - عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه.
يعني: يريد هرقل أن يعرف بجدية كل شيء عن هذا النبي، فهو سيسأل أقرب الناس إليه نسباً؛ لكونه أعرف الناس به، وفي نفس الوقت سيجعل وراء أبي سفيان التجار الآخرين كحكام على صدقه.
فالتجار تحت تأثير إرهاب هرقل وبطشه كل واحد منهم يخاف أن يكذب، وكذلك أبو سفيان يخاف أن يكذب.
لكن العرب حتى في أيام الجاهلية كانت تستنكر صفة الكذب، وتعتبرها نوعاً من الضعف غير المقبول، من أجل ذلك كان أبو سفيان يقول تعليقاً على كلمة هرقل هذه: فوالله لولا الحياء من أن يؤثروا علي كذباً لكذبت عليه.
فهو في تلك اللحظة مع أنه يكره رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية شديدة،(33/7)
موقف هرقل بعد قراءة رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودعوته فيها للإسلام
لقد كان هرقل على استعداد لاتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن في المقابل كانت هناك ثورة كبيرة جداً في داخل البلاط الملكي ترفض تماماً فكرة الإسلام، وأدرك هرقل أنه إذا أعلن رغبته في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم فإن عليه أن يغامر بملكه، وعليه أن يخاطر بسيادته على شعبه، وقد ينزعه الأمراء نزعاً من رئاسة البلد، حتى إنه في رواية قال لـ دحية بن خليفة الكلبي الذي هو رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظر، ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته.
وفي رواية أخرى ذكرها ابن كثير رحمه الله: أن هرقل اتبع الأسقف الأكبر للرومان فدخل عليه، فعرض عليه هرقل الكتاب، فلما قرأ الأسقف الكتاب، قال: هو والله الذي بشرنا به موسى وعيسى، الذي كنا ننتظره.
قال هرقل: فما تأمرني؟ قال الأسقف: أما أنا فإني مصدقه ومتبعه.
الأسقف الأكبر آمن.
فقال قيصر: أعرف أنه كذلك، ولكني لا أستطيع أن أفعل.
يعني: أنا أعرف أنه نبي، لكن لا أستطيع أن أتبعه، وإن فعلت ذهب ملكي وقتلني الروم.
وفي رواية أخرى: أن هذا الأسقف كان اسمه صغاطر وأنه خرج إلى الرومان، ودعا جميع الرومان إلى الإيمان بالله تعالى، وإلى الإيمان برسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأعلن الشهادة أمام الجميع: أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله.
فماذا عمل الناس؟ قام الناس كلهم إليه فضربوه حتى قتلوه.
وهذا الأسقف كان أعظم شخصية في الدولة الرومانية، وهو أعلم من هرقل عند الناس، وعلم هرقل بقتل هذا الرجل الأسقف الكبير فلم يستطع أن يفعل أي شيء مع من قتله، وهذا دلالة على ضعفه الشديد أمام الكرسي الذي يجلس عليه.
إذاً: هرقل عقد مقارنة سريعة جداً بين الملك والإيمان، وبين الحياة ممكناً وبين الموت شهيداً، فأخذ القرار بمنتهى السهولة، واختار الملك والحياة، ورفض الإيمان والشهادة، لم يكن ذلك لعدم تيقنه من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنه ضن بملكه وضحى بالإيمان.
فأمر الإيمان واضح جداً، وإعجاز القرآن ظاهر، وطريق الإسلام مستقيم، والدلائل على صدق هذا الدين بينة وقاهرة وظاهرة للجميع، والإنسان هو الذي يختار، وعلى قدر قيمة الشيء في نفس الإنسان يضحي، والناس كلها تضحي، ولا أحد يستطيع أن يجمع كل شيء، والواحد قد يضحي بالإيمان من أجل أن يأخذ الملك، وآخر قد يضحي بالملك من أجل أن يأخذ الإيمان، فـ هرقل وأمثاله ينطبق عليه قول الله عز وجل: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14].
ويقول الله عز وجل: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [يونس:108].
وهرقل لا يمكن أن يعذر في عدم إسلامه مهما كانت فتنته، ومهما كان راغباً في الملك راهباً من الموت؛ لأن الإيمان لا يوزن إلى جواره شيء.
ويعلق الإمام النووي رحمه الله على موقف هرقل فيقول: ولا عذر له في هذا؛ لا عذر له في ترك الإيمان مهما كان سيضيع منه أو سيقتل، لأنه قد عرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما شح بالملك وطلب الرئاسة.
ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله أيضاً تعليقاً على هذا الحديث: ولو تفطن هرقل لقوله صلى الله عليه وسلم في الكتاب: (أسلم تسلم)، وحمل الجزاء على عمومه في الدنيا والآخرة وأسلم، لسلم له كل الدنيا وكل الآخرة، لسلم من كل ما يخافه، ولكن التوفيق بيد الله عز وجل.
وهرقل بعد كل هذا اليقين اكتفى بأنه يُحمِّل دحية الكلبي بعض الهدايا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفكر في قضية الإيمان، مع أنه كان يعلم أنه في يوم من الأيام سيئول كل ملكه الذي يحكمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوقن بذلك؛ لأن ذلك موجود في التوراة والإنجيل، وقد قال قبل ذلك بوضوح في حواره مع أبي سفيان: (إنه سيملك موضع قدمي هاتين) وعندما غادر بيت المقدس إلى القسطنطينية، قال وقد أشرف على الشام حين طلع فوق ربوة عالية وأطل على الشام بكاملها، ثم قال: السلام عليك يا أرض سوريا.
يسلم عليها تسليم الوداع، وأنه لن يرجع إليها مرة أخرى.
أدرك أن هذه البلاد لن تبقى بعد هذا الظهور لهذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم تحت سيطرته، وبعد كل هذه القناعة برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكل هذا اليقين بنبوته لم يقف هرقل عند حد عدم الإيمان، ولم يقبل بالحياد، ولكن سير الجيوش تلو الجيوش لحرب المسلمين، مع إحس(33/8)
موقف كسرى ملك فارس من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له
أما كسرى فارس وكان اسمه إبرويز بن هرمز، وقد ظهر عداؤه للإسلام من أول لحظة قرأ فيها الخطاب، وكان ينوي تدمير هذا الدين الجديد وحرب هذا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وكان خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم لكسرى هو نفس خطاب هرقل إلى حد كبير، بدأ فيه بالبسملة، ثم بعد ذلك قال: (من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كسرى عظيم فارس)، ثم بعد ذلك دعا صلى الله عليه وسلم كسرى إلى الدخول في الإسلام، لكن مع تغيير يسير في بعض الألفاظ لتناسب كسرى فارس والديانة التي هم عليها، قال صلى الله عليه وسلم: (سلام على من اتبع الهدى وآمن بالله ورسوله، واشهد أنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأدعوك بدعاية الله، فإني رسول الله إلى الناس كافة، {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس:70]، فأسلم تسلم، فإن أبيت، فإن إثم المجوس عليك) خطاب في منتهى القوة.
فغضب كسرى غضباً شديداً عندما سمع هذا الخطاب، وتعامل معه بسطحية بالغة، لم يلتفت إلى المعاني التي فيه، ولا إلى الرسالة التي يشير إليها الخطاب، لكن كل الذي نظر إليه الشكليات التي في الخطاب، فأمسك الخطاب ومزقه، وقال في غطرسة: عبد من رعيتي يكتب اسمه قبلي، وسب الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما وصلت هذه الكلمات إلى النبي عليه الصلاة والسلام، قال صلى الله عليه وسلم: (مزق الله ملكه)؛ لأنه مزق الكتاب.
وبالفعل ففي غضون سنوات قليلة جداً من هذه الأحداث مزق الله عز وجل ملك كسرى تماماً، وامتلك المسلمون كل الأراضي الفارسية، وسقطت الإمبراطورية الفارسية تماماً، وكانت تسيطر على مساحات هائلة من الأرض.
هذه هي النبوة في مواجهة الغطرسة المجوسية الكافرة، لكن كسرى فارس إبرويز لم يكتف بهذه الكلمات وبتقطيع الخطاب، لا، بل إنه حاول أن يعتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن يعاقبه بنفسه، فأرسل رسالة إلى عامله الفارسي على بلاد اليمن، وكانت اليمن مستعمرة فارسية، وهي قريبة من المدينة المنورة، فأرسل رسالة إلى عامل اليمن واسمه باذان وكان فارسياً، وطلب منه أن يبعث رجلين من رجاله ليأتيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة فارس.
انظروا يبعث اثنين فقط من الرجال ليأتيا بزعيم المدينة المنورة، وانظروا كيف كانت نظرة كسرى فارس للعرب، بعث اثنين من الرجال ولم يبعث جيشاً ليأتيا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدائن عاصمة الدولة الفارسية، وقال لهما: أخبراه إن هو رفض فسيقتل، وسيهلك كسرى قومه ويخرب بلاده، فذهب الرسولان إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالا له هذا الكلام، فطلب الرسول عليه الصلاة والسلام طلب منهما في أدب جم أن ينتظرا إلى اليوم التالي وسيرد عليهما، وجلسا في المدينة تلك الليلة، وفي هذه الليلة التي جاء فيها رسولا كسرى أتى الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بنبأ عجيب، أخبره أن هذا الزعيم الفارسي المتغطرس إبرويز قتل في نفس الليلة، ومن الذي قتله؟ قتله ابنه شيرويه بن إبرويز، وكانت هذه الوقعة في ليلة الثلاثاء (10) جمادى الآخرة سنة (7) هـ، وفي اليوم التالي أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرسولين وجلس معهما وقال لهما: (إن ربي سبحانه وتعالى قتل ربكما الليلة، ففزع الرسولان وقالا: هل تدري ما تقول؟ إنا قد نقمنا عليك ما هو أيسر من ذلك، أنكتب عنك بهذا ونخبر الملك باذان الذي هو ملك فارس في اليمن؟ فقال صلى الله عليه وسلم في منتهى الثقة: نعم أخبراه ذاك عني)، ليس هذا فحسب، بل قال لهما في يقين: (وقولا له أيضاً: إن ديني وسلطاني سيبلغ ما بلغ كسرى، وينتهي إلى الخف والحافر، وقولا له: إن أسلمت -يخاطب باذان - أعطيتك ما تحت يديك وملكتك على قومك)، والرسول عليه الصلاة والسلام عاملهما معاملة الملك الكريم وحملهما بالهدايا، وأعادهما إلى باذان مرة أخرى، ووصل الرسولان إلى باذان ملك اليمن الفارسي، وقالا له ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان باذان رجلاً عاقلاً؛ فإنه عندما سمع هذه الكلمات، قال: (والله ما هذا بكلام ملك، وإني لأرى الرجل نبياً كما يقول، وليكونن ما قال، فلئن كان هذا حقاً فهو نبي مرسل)، يعني: كيف عرف أن هناك شيئاً حصل في المدائن، وهي على بعد مئات الكيلو مترات في ذلك الزمن؟ ثم قال: (وإن لم يكن الذي قاله فسنرى فيه رأينا).
وذهبت الأيام وجاء خطاب من الزعيم الجديد في بلاد فارس شيرويه بن إبرويز جاء خطاب إلى باذان عامل اليمن يقول له فيه: إنه قد قتل أباه إبرويز؛ بسبب أنه قتل الكثير من أشراف فارس، وكاد أن يودي بفارس إلى الهلاك.
سوع(33/9)
موقف هوذة بن علي صاحب اليمامة من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له
أما هوذة بن علي صاحب اليمامة، فإنه عندما وصلت إليه الرسالة لم يفكر في الإسلام؛ لأنه أعجب بالإسلام، لكنه فكر فيه لأنه شعر بقوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنبأ لدولة الرسول صلى الله عليه وسلم بمستقبل كبير، من أجل ذلك قرر أنه يفاوض الرسول عليه الصلاة والسلام وأرسل له رسالة، قال فيها: (ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله، والعرب تهاب مكاني، فاجعل لي بعض الأمر أتبعك)، هذه مساومة.
والرسول صلى الله عليه وسلم في رسالته إلى هوذة بن علي وعده أن يعطيه ما تحت يديه من اليمامة إن أسلم، لكن هوذة بن علي رغب في مساومة الرسول عليه والصلاة والسلام حتى يأخذ ملكاً أكبر، وعلق إسلامه على هذا الشرط، والرسول صلى الله عليه وسلم يرفض أن يطلب أحد الإمارة، ويرفض أن يعطي الإمارة لمن يطلبها، كما جاء في البخاري ومسلم عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه قال: (إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله ولا أحداً حرص عليه)، لماذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمنع الإمارة لمن يطلبها؟ لأنه يعلم أن من سيتولى الإمارة وهو حريص عليها فلن يعود ضرره عليه فقط، ولكن سيعود الضرر على كل من يقود؛ لأنه مفتون بالإمارة، وسيضحي من أجلها لا من أجل الإسلام، ولأنه لو تعارض الإسلام مع استمراره في الإمارة سيترك الإسلام ويتمسك بالإمارة، وهنا قد يتبعه قومه، وستكون كارثة ومشكلة كبيرة؛ من أجل ذلك لم يكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الإمارة لأحد طلبها، ومن أجل ذلك علق الرسول عليه الصلاة والسلام على موقف هوذة بن علي وقال: (لو سألني قطعة من الأرض ما فعلت)، ثم تنبأ له بالهلكة، قال: (باد وباد ما في يديه)، وتحقق تنبؤ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أقل من سنتين، حيث مات هوذة بن علي وفقد ملكه ولم يسلم.(33/10)
موقف الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم له
من الزعماء الذين أرسل إليهم الرسول عليه الصلاة والسلام الرسائل الحارث بن أبي شمر الغساني أمير دمشق، وكان هذا الرجل نصرانياً تابعاً لـ هرقل قيصر الروم، وكان رده تقريباً نفس رد كسرى زعيم فارس، ألقى الخطاب وقال: من ينزع ملكي مني؟ وأنا سائر إليه، وبدأ في تجهيز الجيوش من أجل أن يغزو المدينة المنورة، لكن قبل أن يفعل هذا أحب أن يستأذن هرقل وبعث له برسالة، فتزامن وصول رسالة الحارث مع وصول رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، فـ هرقل قال له: لا، انتظر، لا ندري ماذا سيحدث بعد ذلك من الأحداث؟ فأمره ألا يرسل الجيوش، فانصاع الحارث إلى كلام هرقل ولم يرسل الجيوش، وعندما علم الرسول صلى الله عليه وسلم رد فعل الحارث قال: (باد ملكه)، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ما لبث أن مات وباد ملكه تماماً، بل دخل ملكه بعد ذلك في ملك المسلمين.
إذاًَ: هذه كانت ردود الأفعال المختلفة لدعوة الرسول عليه الصلاة والسلام للعالمين، وكما رأينا اختلف رد الفعل من إيمان سريع، إلى تفكير ثم إسلام، إلى حياد مؤدب، إلى رفض للإسلام، إلى حرب الإسلام، ردود مختلفة والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
ونخلص من كل هذه الرسائل إلى أنه ليس من واجب الداعية أن يفتح قلوب الناس إلى الإسلام أبداً، لكن من واجب الداعية أن يصل إليهم بدعوته بيضاء نقية، ثم بعد ذلك فإن الله سبحانه وتعالى سيفتح قلوب من يشاء إلى الهدى والإيمان، قال تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99] والرسول عليه الصلاة والسلام عمل هذا البلاغ على أتم ما يكون.(33/11)
نظرة تحليلية حول رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زعماء ورؤساء وملوك العالم
بقي لنا في موضوع هذه المراسلات العظيمة أن ننظر نظرة تحليلية في السفراء الكرام الذين اختارهم الرسول عليه الصلاة والسلام لإيصال الرسائل إلى زعماء وأمراء العالم.
سنلاحظ عدة ملاحظات جميلة جداً: أولاً: هؤلاء الرسل جميعاً عندما تنظر إلى أسمائهم تجد أنهم من قبائل مختلفة، فـ عمرو بن أمية من بني ضمرة، وهو الذي أرسل إلى النجاشي.
والعلاء بن الحضرمي من حضرموت اليمن، وأرسل إلى المنذر بن ساوى أمير البحرين.
وعبد الله بن حذافة من بني سهم، وأرسل إلى كسرى فارس.
ودحية بن خليفة من بني كلب، وأرسل إلى قيصر الروم.
وحاطب بن أبي بلتعة من بني لخم، وأرسل إلى المقوقس في مصر.
وسليط بن عمرو من بني عامر، وأرسل إلى هوذة بن علي باليمامة.
وشجاع بن وهب من بني أسد، وأرسل إلى الحارث بن أبي شمر في دمشق.
وهذا الاختلاف في القبائل لا شك أنه إشارة واضحة جداً من الرسول عليه الصلاة والسلام إلى كل المسلمين سواء في المدينة أو في خارج المدينة، وإلى كل العرب المراقبين للأحداث، وإلى كل دول العالم التي أرسل إليها السفراء، وإلى كل المحللين والدارسين للسيرة على مدار السنين إلى يومنا هذا وإلى يوم القيامة، أن هذه الدعوة ليست قبلية أبداً، بل هي دعوة تضم بين طياتها أفراداً من كل قبائل العرب، وهؤلاء السفراء كانوا بمثابة الصورة الجديدة المرجوة لهذه الأمة، ووحدة العناصر المختلفة على رباط واحد فقط هو رباط العقيدة الإسلامية.
إذاً: هذه كانت ملحوظة في منتهى الأهمية.
الملحوظة الثانية: أن قريشاً لم يمثلها في هذه السفارات إلا صحابي واحد فقط، وهو عبد الله بن حذافة السهمي القرشي رضي الله عنه، وبقية السفراء جميعاً ليسوا من قريش.
وهذه إشارة من الرسول عليه الصلاة والسلام أن الأصلح هو الذي يعطى العمل ويكلف بالمهمة، بغض النظر عن النسب والمكانة العائلية والقبلية وما إلى ذلك، مع أن الجميع يعرف أن قريشاً هي أعلى العرب نسباً، وقد يقول البعض: لعله من الأصلح والأفضل أن نجعل كل السفراء من قريش؛ لأجل رفع قيمتهم عند زعماء العالم، لكن مثل هذا سيترك رسالة عكسية سلبية وهي أن السفارة لا تكون إلا في الأشراف، وهذا ليس صحيحاً، الأكفأ والأفضل هو الذي يحمل الرسالة.
الملحوظة الثالثة: أن التمثيل القرشي لم يكن فقط يسيراً في هؤلاء السفراء، وإنما كان التمثيل في بني هاشم منعدماً تماماً، وهذه إشارة واضحة جداً من الرسول صلى الله عليه وسلم أنه لا يجب أبداً أن تعطى المناصب الهامة إلا للأكفاء بغض النظر عن قرابتهم أو علاقتهم بالقائد، فالقائد المتجرد حقاً هو الذي ينظر إلى مصلحة الأمة لا مصلحة القبيلة، ويهتم بقضايا الشعب لا قضايا العائلة.
إذاً: هذه كانت الملحوظة الثالثة.
الملحوظة الرابعة في هؤلاء السفراء الكرام: أنهم جميعاً من المهاجرين لا يوجد فيهم أنصاري واحد، وهذه الملحوظة ليست خاصة بهؤلاء السفراء، لا، سنجدها تقريباً في كل مواطن السيرة، قلما تقلد أنصاري منصباً هاماً أو قيادياً في الدولة الإسلامية؛ ولعل ذلك ليبقى الأنصاري رمزاً في المسلمين يعطي ولا يأخذ، وأنتم تعرفون أهم سمة تميز الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم: أنها صفة الإيثار، كما وصفهم الله تعالى وقال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر:9]، لابد أن يبقى مثلاً يؤثر على نفسه وهو راض مطمئن.
والأنصار رضي الله عنهم أجمعين ما نالوا من الدنيا شيئاً يذكر، لا في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام ولا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، كانوا مثلاً رائعاً للعطاء بلا حدود؛ للإيثار دون تردد، فمن الأفضل أن يظلوا بهذه الصفة دائماً؛ من أجل ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم السفارة ولا القيادة، جاء في البخاري عن أنس رضي الله عنه وأرضاه عن أسيد بن حضير أخبره: (أن رجلاً من الأنصار جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: يا رسول الله! ألا تستعملني كما استعملت فلاناً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ستلقون -يخاطب الأنصار عامة- بعدي أثرة، فاصبروا حتى تلقوني على الحوض).
يعني: أمر الأنصار ألا يبحثوا أبداً على الإمارة؛ حتى يبقى دائماً مثل الإيثار واضحاً نقياً عندهم رضي الله عنهم.
وليس معنى هذا أن المهاجرين كانوا يتشوفون للإمارة أو يرغبون في السفارة أبداً، بل على العكس المهاجرون باعوا الدنيا تماماً، وهذه السفارات على شرفها خطيرة جداً، وقد يكون ثمنها حياة السفير، وسنرى هذا الكلام فعلاً بعد ذلك مع الحارث بن عمير رضي الله عنه وأرضاه عندما يقتل على يد شرحبيل بن عمرو الغساني، وسيكون قتله سبباً في غزوة مؤتة، وسنرى هذا في الدروس القادمة.
إذاً: نخلص من ذلك الأمر: أن الأنصار لا(33/12)
سلسلة السيرة النبوية_فتح خيبر
من آثار صلح الحديبية العظيمة فتح خيبر، فقد سارع الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته إلى المدينة من صلح الحديبية إلى خيبر، لتأديب اليهود ومعاقبتهم على دسائسهم ومؤامراتهم، واصطفى للقتال من بايع بيعة الرضوان، فأجرى الله تعالى على أيديهم فتح خيبر وغنم المسلمون أموالها، وكان ذلك فتحاً مبيناً.(34/1)
أسباب فتح خيبر
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس السادس من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
تحدثنا قبل ذلك عن صلح الحديبية، وذكرنا أن صلح الحديبية يعتبر نقطة تحول حقيقي ويعتبر نقلة نوعية في تاريخ الأمة الإسلامية بكل المقاييس، ولذلك بدأ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد هذا الصلح الهام يرتب أوراقه من جديد، فقد قام بخطوتين كان من الصعب جداً أن يقوم بهما قبل هذا الصلح: الخطوة الأولى: خطوة مراسلة زعماء وملوك العالم، وهي خطوة ما كان يستطيع أن يقوم بها أبداً قبل صلح الحديبية؛ لأن دولة الإسلام في ذلك الوقت كانت دولة غير مستقرة، غير معترف بها حتى في محيط الجزيرة العربية، فكيف يعترف بها على مستوى العالم، أما بعد صلح الحديبية فقد استقرت الأوضاع إلى حد كبير جداً في المدينة المنورة، وأمن الناس من احتمال الحرب، واعترفت قريش بالدولة الإسلامية، وكذلك اعترفت القبائل العربية الكبرى بهذه الدولة الجديدة، بدليل دخول بعض القبائل -كخزاعة- في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ونتيجة هذا الاستقرار بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في نشر الإسلام عالمياً عن طريق مراسلات عديدة إلى زعماء وملوك العالم كما فصلنا.
إذاً: هذه كانت هي الخطوة الأولى بعد صلح الحديبية، وتقريباً بدأت في أول محرم سنة سبع أو في أواخر سنة ست في آخر ذي الحجة.
الخطوة الثانية: فتح خيبر، وقد قام به صلى الله عليه وسلم بمجرد أن انتهى من صلح الحديبية.
وخيبر كما نعلم جميعاً من أكبر التجمعات اليهودية في الجزيرة العربية، وملف اليهود بصفة عامة مع الرسول صلى الله عليه وسلم أسود شديد السواد، وهذا السواد شمل كل فترات المعاملات، سواء في السلم أو في الحرب، أو في وقت المعاهدة التي عقدها مع يهود المدينة بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، كان الأصل عند اليهود في التعامل هو الخيانة المتكررة، والتشكيك المستمر في دين الإسلام، ومحاولة إثارة الفتنة على الدوام، ثم تطور الأمر إلى معارك حقيقية بين المسلمين وبين يهود القبائل الثلاث، وانتهى الأمر بإجلاء قبيلتي بني قينقاع وبني النضير، وقتل رجال القبيلة الثالثة بني قريظة، ولم يبق من تجمعات اليهود الكبرى في الجزيرة إلا تجمع خيبر وما حولها من تجمعات أصغر مثل تجمع تيماء، وتجمع فدك، وتجمع وادي القرى، لكن التجمع الرئيس كان تجمع خيبر، وهذا التجمع الكبير من أقوى التجمعات اليهودية مطلقاً، وقد ازداد قوة بعد إجلاء يهود بني النضير؛ لأنهم انضموا بكل طاقتهم إلى يهود خيبر، وإذا كنا رأينا قبل ذلك أن كل التعاملات اليهودية مع الرسول عليه الصلاة والسلام كان فيها خيانة وغدر وكيد وتدبير مؤامرات تلو المؤامرات، فإن يهود خيبر لم يخالفوا هذه القاعدة، مع أن علاقة يهود خيبر بالرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن مباشرة كالقبائل اليهودية الثلاث التي ذكرناها قبل ذلك، إلا أنهم لم يكفوا عن محاولتهم للكيد للدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وأخطر محاولات ومؤامرات خيبر كانت مؤامرة جمع القبائل العربية المختلفة لحرب المسلمين في المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، فيهود خيبر بعثوا وفداً كبيراً جداً مكوناً من عشرين زعيماً من زعماء خيبر، بالاشتراك مع بعض زعماء قبيلة بني النضير، وبدءوا يجوبون القبائل العربية الكبرى مثل: قريش، وغطفان وغيرهما؛ لتحفيز هذه القبائل على الاجتماع لحرب المسلمين، ولم يكتف يهود خيبر بالدور التنسيقي للأحزاب، بل بذلوا المال وثمار خيبر لقبائل غطفان؛ لكي يدفعوها دفعاً لاستئصال المسلمين، وقبائل غطفان مرتزقة يحاربون بالأجر، فخيبر ضحت بنصف ثمارها؛ لكي تدفع غطفان لحرب المسلمين، وليس هذا فحسب، بل كان لهم دور كبير جداً في إقناع بني قريظة بخيانة عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا الفعل كان سيؤدي إلى كارثة حقيقية بالمدينة المنورة، لولا أن الله عز وجل لطف بعباده المؤمنين، كما فصلنا وشرحنا في غزوة الأحزاب.
رغم فشل الأحزاب في غزو المدينة إلا أن يهود خيبر لم يكفوا أبداً عن محاولتهم المضنية لإيذاء المسلمين، وثبت أنهم قاموا بالتجسس مع المنافقين في المدينة المنورة؛ لكي يدبروا مؤامرات كيدية للمسلمين، ووصل الأمر إلى محاولة اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا التاريخ الطويل من الكيد والدس والمؤامرات يحتاج إلى وقفة من المسلمين، وكان من الأفضل والمناسب أن تكون هذه الوقفة بعد غزوة الأحزاب مباشرة، لكن لم يكن ذلك ممكناً ومتيسراً؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يخشى أن تباغت قريش المدينة المنورة في أي لحظة، وما غزوة الأحزاب عنه ببعيد، لأنه قد يجتمع الناس من جديد لمحاصرة المدينة واقتحامها، فالرسول عليه الصلاة والس(34/2)
أهداف سرعة خروج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر
خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى خيبر بعد أقل من شهر من عودته من صلح الحديبية في محرم سنة سبع، وكانت هذه السرعة لأهداف، منها: أنه يريد حفظ كرامة الأمة الإسلامية بالرد على اليهود الغادرين.
ومنها: أنه لا يأمن غدر قريش وحلفائها؛ من أجل ذلك بادر إلى هذه الخطوة قبل أن تفكر قريش في الغدر أو تستعد له.
ومنها: أن خبر صلح الحديبية وصل حتماً إلى يهود خيبر، وقد يتوقعون هجوماً من المسلمين، لذلك كلما كان أسرع كان أفضل قبل أن يستعد اليهود.
ومنها: أنه أراد أن يرفع معنويات المسلمين المنكسرة بعد صلح الحديبية، فهم لم يكونوا قد رأوا الخير الذي ترتب على صلح الحديبية، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يعوضهم بهذا الفتح القريب.
وفوق كل هذه الأهداف أن رب العالمين سبحانه وتعالى كان قد بشر المؤمنين أن هناك مغانم كثيرة سيحققونها بعد صلح الحديبية، كما جاء في سورة الفتح التي نزلت مباشرة بعد الصلح، ولعل هذه الغنائم تكون غنائم خيبر، وقد كان كما قال الله عز وجل في سورة الفتح: {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح:20].
فقوله تعالى: (مَغَانِمَ كَثِيرَةً) هي مغانم خيبر وغير خيبر من الفتوحات الإسلامية التي جاءت بعد هذا الصلح العظيم.
وقوله: (هَذِهِ) يعني: صلح الحديبية.(34/3)
سبب عدم قبول الرسول صلى الله عليه وسلم خروج المنافقين معه إلى خيبر
كانت هناك مشكلة كبيرة جداً، وهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان خائفاً من خيانة المنافقين داخل المدينة المنورة، وكما ذكرنا أن المنافقين يتعاملون مع اليهود، والعلاقة بينهم كانت حميمة من أيام بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، والآن ثبت أنهم يتعاملون مع يهود خيبر، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن يخرج معه المنافقون في هذا الجيش، فماذا يفعل؟ هو لا يستطيع أن يقف ويقول: المنافق لا يخرج؛ لأن النفاق أمر قلبي، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلن أنه لا يخرج إلى قتال أهل خيبر إلا من شهد صلح الحديبية، وبذلك يضمن أن كل من شارك في هذا الفتح سيكون من المؤمنين؛ لأن هذه المجموعة التي شاركت في صلح الحديبية جميعاً مؤمنون كما قال الله عز وجل عنهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18]، فخرج الرسول عليه الصلاة والسلام بألف وأربعمائة مقاتل، وهم الذين كانوا معه في صلح الحديبية.
وكما هو معلوم إذا رأينا الصف المؤمن خالصاً نقياً مؤمناً؛ فإن الله عز وجل يمنحه النصر والتمكين.
فخرج هذا الجيش العظيم بهذه الروح الطيبة المتفائلة، ولنتذكر أن ألف وأربعمائة مقاتل سيحاربون أعداداً ضخمة هائلة؛ لأن أعداد اليهود كانت أضعاف أضعاف الجيش الإسلامي، ومع ذلك كانوا خارجين بتصميم ويقين على أن النصر من عند الله سبحانه وتعالى، قال الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249].
وكما توقع الرسول عليه الصلاة والسلام فقد أرسل المنافقون إلى يهود خيبر يخبرونهم بقدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى خيبر، بل وشجعوهم على قتال الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا لهم: لا تخافوا منهم؛ فإن عددكم وعدتكم كثيرة، وقوم محمد شرذمة قليلون عزل لا سلاح معهم إلا القليل.(34/4)
قرارات الرسول صلى الله عليه وسلم في تأمين عملية اجتياح خيبر
لما وصلت رسالة المنافقين إلى أهل خيبر بخروج الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم واستعد أهل خيبر، ولم يكتفوا بالاستعداد والتحصن، بل أرسلوا أحد زعماء اليهود واسمه كنانة بن أبي الحقيق، وهو أخو سلام بن أبي الحقيق الذي قتل قبل عدة أشهر على أيدي المسلمين، أرسلوا كنانة بن أبي الحقيق إلى قبائل غطفان المرتزقة وعرضوا عليهم المال؛ لكي يساعدوهم ويعاونوهم في حرب المسلمين، وعرضوا عليهم نصف ثمار خيبر، وبالفعل بدأت قبائل غطفان في التجهز للخروج في اتجاه خيبر وأعدوا جيشاً كبيراً جداً لهذا الأمر، وبفضل الله اكتشفت مخابرات الرسول صلى الله عليه وسلم هذا التحرك لغطفان، وبسرعة أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام عدة قرارات لكي يؤمن عملية اجتياح خيبر: أولاً: أخرج صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة أبان بن سعيد رضي الله عنه باتجاه أعراب نجد حول المدينة؛ لكي يثير الرعب في هذه المنطقة فلا تجرؤ غطفان ولا غير غطفان على مهاجمة المدينة المنورة؛ لأنها خالية تقريباً من الرجال في ذلك الوقت.
إذاً: أول شيء: أنه قام بتأمين المدينة المنورة.
ثانياً: أرسل سرية إلى ديار غطفان، فالمسلمون متجهون إلى الشمال باتجاه خيبر، والرسول صلى الله عليه وسلم أرسل سرية إلى الشمال الشرقي إلى ديار غطفان؛ لكي يوهم جيش غطفان أنه سيغزو ديارهم لا ديار اليهود، وأمر هذه السرية أن تظهر أمرها ولا تتخفى، وتحدث لغطاً وصوتاً عالياً، لكي يلفت أنظار جيش غطفان فيعود مرة ثانية إلى دياره، ولا يشترك مع أهل خيبر في الدفاع عن حصون خيبر، وفعلاً هذا الذي حصل، فجيش غطفان لما سمع الصوت رجع سريعاً عائداً إلى قبائله وإلى دياره، وترك يهود خيبر يواجهون الرسول عليه الصلاة والسلام منفردين.
ثالثاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم غير اتجاهه، حيث أخذ بعض الأدلة لتدله على طريق آخر ليدخل خيبر من شمالها وليس من جنوبها، والمدينة المنورة في جنوب خيبر، وبدلاً من أن يدخل من الجنوب دخل من الشمال، ويكون بذلك حقق شيئين، وضرب عصفورين بحجر: أولاً: سيحول بين غطفان وبين خيبر بجيشه، فجيشه سيفصل بين قبائل غطفان وبين مدينة خيبر.
ثانياً: سيمنع اليهود من الفرار إلى الشام، فيحصر اليهود في منطقة خيبر، وسيكون الطريق إلى الشمال مغلقاً بالجيش الإسلامي.
وهذا تخطيط عسكري على أحسن مستوى.(34/5)
عوامل ومقومات النصر في جيش الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر
نستطيع بهذا أن نتبين بعض ملامح الجيش المنصور من الخطوات السابقة: أولاً: الجيش بكامله من المؤمنين وهذا أهم عامل، فالرسول عليه الصلاة والسلام حدد الخروج في أولئك الذين شهدوا صلح الحديبية، حتى لو كان هؤلاء قلة، فإنهم سينتصرون بإذن الله عز وجل.
فكل الجيش كان مؤمناً، وكان مرتبطاً ارتباطاً وثيقاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، ويجمعهم رباط العقيدة، وقد تخلت غطفان عن اليهود؛ لأنه لا يربطهم ببعضهم إلا المصالح الدنيوية، أما الجيش الإسلامي بشتى فروعه: قبائل الأنصار، وقبائل المهاجرين، وغير ذلك من القبائل التي دخلت مع الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة، كل هذا الجيش كان وحدة واحدة، وهذا من أهم عوامل النصر.
وكذلك الأخذ بالأسباب: إعداد العدة، والخطة، والخطط البديلة، وتغيير الاتجاه، والعيون، فكل شيء يستطيع أن يفعله عليه الصلاة والسلام من أسباب النصر فعله صلى الله عليه وسلم، فهو سيدخل منطقة خيبر وعنده مقومات النصر للمسلمين.
واقترب الرسول عليه الصلاة والسلام من خيبر جداً، وكان هذا الاقتراب في الليل، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يقاتل بالليل، كان ينتظر حتى يأتي الفجر، ثم يقاتل بعد الفجر صلى الله عليه وسلم، فاختار صلى الله عليه وسلم مكاناً وعسكر فيه قريباً من مجموعة حصون اسمها حصون النطاة، على وزن حصاة، وكانت مجموعة حصون كبيرة في منطقة خيبر، وعندما اختار الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك المكان جاء إليه الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه وقال: (يا رسول الله! إن هذا المنزل قريب من حصن نطاة، وجميع مقاتلي خيبر فيها، وهم يدرون أحوالنا ونحن لا ندري أحوالهم، وسهامهم تصل إلينا وسهامنا لا تصل إليهم، ولا نأمن من بياتهم، وهذا بين النخلات، ومكان غائر، وأرض وخيمة) يعني: هذا مكان بين النخلات قد يتسلل اليهود من خلال النخيل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولا يدركون هذا التسلسل.
(فلو أمرت بمكان آخر نتخذه معسكراً، فقال صلى الله عليه وسلم: الرأي ما أشرت به) وغير عليه الصلاة والسلام المكان إلى المكان الذي أشار به الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه، والحباب قبل ذلك أشار بمثل هذه المشورة في موقعة بدر، ورأينا سعة صدر الرسول عليه الصلاة والسلام لقضية الشورى وسماع آراء الآخرين، وكيف كان ذلك سبباً للنصر في بدر، وسيكون سبباً من أسباب النصر في خيبر، وهي سنن ثابتة كما نرى.(34/6)
إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم الراية في خيبر لعلي رضي الله عنه
بعد أن استقر الجيش الإسلامي في مكانه الجديد، قام صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس وقال لهم: (لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه).
واضح جداً من هذا الوصف أن من يفتح الله عز وجل على يديه البلاد، ويمكن له في الأرض وينصره على أعدائه لا بد لهذه الشخصية أن تكون محبة لله عز وجل ولرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، وأن تكون محل حب الله عز وجل وحب رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، هذه الصفة لا تأتي إلا بموافقة تامة للشرع وبصدق كامل في النية، والله عز وجل مطلع على القلوب، ولا يعطي نصره إلا لمن أحب سبحانه وتعالى.
وهذا الأمر ينطبق على كل مراحل التمكين في حياة الأمة الإسلامية، وعلى كل انتصارات الأمة الإسلامية، فأنت إذا رأيت الله عز وجل نصر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، أو نصر عمرو بن العاص، أو نصر صلاح الدين الأيوبي، أو سيف الدين قطز، أو يوسف بن تاشفين أو أي إنسان مكن له في الأرض ونصر، فاعلم أن هذه علامة من علامات حب الله عز وجل للعبد.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لما قال هذه الكلمات وأصبح في اليوم الثاني جاء الناس جميعاً متشوفين لحمل هذه الراية، فقال صلى الله عليه وسلم: (أين علي بن أبي طالب؟ فقال الناس: يا رسول الله! هو يشتكي عينيه، فأرسل إليه) فسيدنا علي بن أبي طالب كان عنده رمد في عينيه، وكان لا يرى إلا بصعوبة، فهم قالوا: يا رسول الله! إنه مريض به رمد في عينيه، فالرسول صلى الله عليه وسلم أصر على الإتيان بـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، فلما جاء بصق صلى الله عليه وسلم في عينيه فبرئ علي بن أبي طالب كأن لم يكن به أي مرض، وأعطاه صلى الله عليه وسلم الراية، وكان الجميع يرى أن ظروف علي بن أبي طالب لا تسمح له بالقيادة، ولكن رب العالمين سبحانه وتعالى يسر له ذلك الأمر، فإن كنت صادقاً فسيفتح الله لك أبواب العمل، وأبواب التوفيق إلى عمل، حتى وإن كانت الظروف صعبة والمعوقات كثيرة، قال الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
فأخذ سيدنا علي الراية وقال: (يا رسول الله! أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا؟) فقال صلى الله عليه وسلم موضحاً الغاية من الحرب في الإسلام: (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم، ثم ادعهم إلى الإسلام، وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فيهم، فوالله! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
يبين الرسول عليه الصلاة والسلام أن إسلام هؤلاء أحب إليه من أموالهم ومن ديارهم ومن سلطانهم ومن كل شيء، فمع كل التاريخ الأسود لليهود، ومع كل المحاولات المضنية التي بذلوها لاستئصال المسلمين في المدينة المنورة، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما زال إلى هذه اللحظة حريصاً تمام الحرص على إسلامهم وهدايتهم إلى رب العالمين سبحانه وتعالى.(34/7)
بدء تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه تجاه حصون خيبر بعد إصرار اليهود على الحرب
بدأ الجيش الإسلامي في التحرك باتجاه خيبر، وخرج اليهود كالعادة من حصونهم إلى مزارعهم، وفوجئوا برسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش معه، فقالوا: محمد والخميس.
و (الخميس) يعني: الجيش الكبير، ورجعوا هاربين بسرعة إلى حصونهم، وأغلقوا الأبواب عليهم، وصاح الرسول عليه الصلاة والسلام صيحة عالية سمعها الجيش بكامله وسمعها اليهود، قال صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر! خربت خيبر، الله أكبر! خربت خيبر، الله أكبر! خربت خيبر) قالها ثلاثاً صلى الله عليه وسلم ثم قال: (إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
فهذه الكلمات كانت آثارها هامة على الجيشين: الجيش الإسلامي، والجيش اليهودي، فهو يذكر المسلمين بأن النصر من عند الله عز وجل، وأن الله عز وجل أكبر من أي عدو، فإن كنتم ترون حصون خيبر وسلاح خيبر وأعداد خيبر أكثر بكثير منكم فاعلموا أن الله عز وجل معنا وهو ناصرنا عليهم، ففيها رفع الروح المعنوية عند المسلمين، وذكر المسلمين بأيام الله عز وجل، ذكرهم ببدر وذكرهم بالأحزاب، وذكرهم بما حدث قبل ذلك من قتال مع اليهود في المواقع الثلاثة التي ذكرناها قبل ذلك.
وهذه الكلمات أيضاً وصلت إلى أسماع اليهود وأوقعت الهزيمة النفسية في قلوبهم.
(الله أكبر! خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين).
و (المنذرون) هم اليهود؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام بلغهم الرسالة مرات عديدة فأبوا أن يستمعوا إلى كلامه، ثم أعاد عليهم الرسالة على لسان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كما فصلنا.(34/8)
فتح الرسول صلى الله عليه وسلم لحصون خيبر واحداً تلو الآخر
خيبر عبارة عن منطقة ذات حصون كثيرة جداً، فيها حصون كبيرة وفيها حصون صغيرة، لكن الحصون الكبيرة عبارة عن ثمانية حصون رئيسة، خمسة منها في منطقة، وثلاثة في منطقة ثانية، والخمسة الحصون هي خط الدفاع الاستراتيجي الأول لليهود، وهذه الحصون مقسمة إلى ثلاثة حصون وحصنين، ثلاثة حصون في منطقة اسمها النطاة، واثنان في منطقة اسمها الشق، والحصون الثلاثة التي في منطقة النطاة أسماؤها: ناعم، ثم الصعب بن معاذ، ثم قلعة الزبير، أول حصن منها قابل الرسول عليه الصلاة والسلام كان حصن ناعم، وهو من الحصون القوية جداً في خيبر، والرسول عليه الصلاة والسلام اقترب كثيراً من هذا الحصن، وأرسل علي بن أبي طالب ليدعوهم إلى الإسلام كما ذكرنا قبل ذلك، وهنا لا ينبغي أن يقول قائل: إنه لا إكراه في الدين؛ لأن الحرب هنا ليست عقاباً لهم على تركهم للإسلام، وليست عقاباً لهم على رفضهم الدعوة الإسلامية، ولكن جاء الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة المنورة إلى خيبر ليعاقب اليهود على جرائمهم المتعددة السابقة، ليعاقبهم على تحزيبهم الأحزاب وحصار المدينة المنورة، وعلى تجسسهم مع المنافقين في داخل المدينة المنورة، وعلى محاولتهم اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلى تحفيزهم لغطفان أكثر من مرة لحرب المسلمين، فلذلك قرر الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعاقبهم، ولكنه أعطى لهم فرصة أخيرة ليرفعوا عن أنفسهم العقاب الذي يستحقونه، فهو أخبرهم إن أسلمتم رفعنا عنكم العقاب وتناسينا كل ما سبق، وهذه سعة صدر ورحمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن اليهود رفضوا هذه الدعوة، رفضوا دعوة علي بن أبي طالب رضي الله عنه لهم بالإسلام، وقرروا الحرب، واغتروا كثيراً بقواتهم وأعدادهم وحصونهم.(34/9)
فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحصن ناعم بعد قتل مرحب وأخيه ياسر
عادة الحروب القديمة أن يبدأ القتال بمبارزة بين أحد الفرسان من فريق، وأحد الفرسان من الفريق الآخر، والمنتصر في هذه المبارزة يعطي دفعة معنوية كبيرة للفريق الذي انتصر في هذه اللحظات الأولى من القتال، فاليهود أخرجوا أحد أبطالهم وأشد فرسانهم وكان اسمه مرحباً، وكان عملاقاً ضخم الجثة، وخرج وطلب المبارزة فخرج له عامر بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، وسرعان ما دارت المبارزة بين الاثنين، وضرب عامر بن الأكوع مرحباً اليهودي ضربة كبيرة، ولكن طاشت الضربة ولم تصل إلى مرحب، لكن هذه الضربة أكملت الطريق ووقع سيف عامر نفسه في ركبته، فقتل عامر بسيفه خطأ، واستشهد رضي الله عنه وأرضاه، فقال الناس: قتل نفسه، وتأثر الناس جداً من هذا الموقف، بل وصل الأمر إلى أن بعض الصحابة قالوا: حبط عمله، وكأنه قد قتل نفسه بإرادته، وهذا لم يحدث، ودليل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام علق بعد ذلك على هذه الحادثة، وأثنى على عامر بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، فقال: (إن له لأجرين، وجمع بين إصبعيه صلى الله عليه وسلم، ثم قال: إنه لجاهد مجاهد) يعني: مجتهد جداً في العلم والعبادة والعمل، مجاهد في سبيل الله.
(قل عربي مشى بها مثله) يعني: نادر جداً من العرب من مشى في أرض المعركة أو مشى في الأرض بصفة عامة مثل هذا الرجل المجاهد عامر بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه، لكن في أرض المعركة أحدث قتل عامر بن الأكوع هزة عند المسلمين، ورفع الروح المعنوية عند اليهود، فوقف مرحب القائد اليهودي يطلب المبارزة من جديد بعد أن ارتفعت معنوياته في اللحظات الأولى من القتال، فخرج له من المسلمين البطل الإسلامي علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه حامل راية المسلمين في موقعة خيبر، ودار بينهما قتال شديد عنيف، ثم من الله عز وجل على علي بن أبي طالب بالنصر، كما تنبأ بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، (رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، يفتح الله عليه)، وبالفعل فتح الله عز وجل على علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقتل مرحباً، وقتل مرحب فيه إشارة كبيرة إلى أن النصر سيكون للمسلمين؛ لأن مرحباً كان أقوى رجل في اليهود، وكان اليهود لا يتصورون أبداً أن يقتله أحد المسلمين، وخرج أخو مرحب واسمه ياسر، وأراد الثأر لأخيه، وكان أيضاً من العمالقة اليهود، خرج يطلب المبارزة فخرج له الزبير بن العوام رضي الله عنه وأرضاه، واستطاع الزبير رضي الله عنه وأرضاه أن يقتل ياسراً أخا مرحب، وكانت بداية الانتصار للمسلمين واحتدم اللقاء بين الفريقين، واللقاء لم يتم في ساعة أو ساعتين ولكن استمر عدة أيام منفصلة، وهذا غريب في عرف القتال عند العرب؛ لأن العادة -كما رأينا قبل ذلك في بدر وفي أحد وفي غيرهما- أن يكون اللقاء يوماً واحداً، لكن في هذا اللقاء الشديد دارت المعركة أكثر من يوم، حتى تسلل اليهود من حصن ناعم وتركوه فارغاً للمسلمين, وكان هذا التسلل ليلاً في أحد الأيام، وانتقلوا إلى الحصن الذي وراءه وهو حصن الصعب بن معاذ، واحتل المسلمون حصن ناعم، وكان ذلك رافداً قوياً للجيش الإسلامي في موقعة خيبر.(34/10)
فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحصن الصعب بن معاذ
لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا النصر الجزئي في هذه المعركة، بل استمر في القتال مع اليهود، فهو جاء لينتقم من أفعال اليهود المتكررة، وليخرج اليهود من هذه البلاد كما أخرج قبل ذلك يهود بني قينقاع وبني النضير، وحاصر الرسول عليه الصلاة والسلام حصن الصعب بن معاذ حصاراً شديداً، وحصن الصعب بن معاذ كان أشد صعوبة من الحصن الذي قبله حصن ناعم.
ومع أن الحصار شديد، ومع أن فتنة الحرب كبيرة، إلا أن الله عز وجل أراد أن يبتلي المؤمنين أكثر وأكثر، فأوقعهم في أمر صعب إلى جوار صعوبة الحرب، وهو أمر الجوع، لقد جاع المسلمون جوعاً شديداً، حتى قالوا: لقد جهدنا وما بأيدينا من شيء.
ولما ازداد الجوع بالمسلمين قام بعض رجال الجيش الإسلامي بذبح بعض الحمير للأكل، والعرب كانت تأكل الحمير في ظروف معينة، ولم يكن هذا الأمر محرماً على المسلمين في ذلك الوقت، ونصبوا القدور ولم يكن هذا بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام النيران مشتعلة، قال: (على أي شيء توقدون؟) وهو يعلم أنه ليس مع الجيش لحم يوقد عليه النار، فقالوا: (يا رسول الله! على لحم) يعني: نوقد هذه النيران على لحم.
(قال: أي لحم؟ قالوا: لحوم الحمر الإنسية) يعني: لحوم الحمر التي نعرفها وتستخدم في النقل، وهذه الحمير لم تكن محرمة على المسلمين حتى تلك اللحظة، ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف الصعب قام ونهى عن أكل لحوم الحمر الإنسية، حيث قال: (إنها لا تحل لامرئ مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر).
هذا موقف صعب، الناس في ضائقة وفي مخمصة شديدة، كما وصف أحد الصحابة أنه جوع شديد جداً، وبدأت اللحوم تنضج، ورائحة اللحوم بدأت تظهر عند الناس ونفوسهم متشوقة إلى الأكل، ثم أتى النهي من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا ابتلاء كبير لا ينصاع له إلا مؤمن كامل الإيمان، وبفضل الله نجح الجيش بلا استثناء في هذا الاختبار، والكل لم يأكل من هذه اللحوم؛ بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بتحريم الأكل من لحوم الحمر الإنسية، وإنما قال (أريقوها واكسروها) يعني: أريقوا ما في القدور من اللحوم والمرق واكسروا القدور؛ ليختفي كل أثر لهذه اللحوم، فسأل بعض الصحابة: (أنريقها ونغسلها؟) يعني: بدل الكسر نغسل القدور، (فقال: أو ذاك) يعني: قبل صلى الله عليه وسلم بغسل القدور.
وهذا التحريم جاء في وقت يحتاج فيه الجيش لهذا الأكل، وواضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يرى أن موقف الصحابة لم يصل بعد إلى موقف الاضطرار، وما زال بهم قوة أن يبقوا بدون طعام فترة من الزمان، وإلا لو كانوا مضطرين لجاز لهم أكل أي شيء حتى الميتة كما يعلم الجميع.
هذه تربية إيمانية عالية جداً، ونجاح عظيم للجيش المؤمن، وهذه من أعظم أسباب النصر.
وهذا يلفت أنظارنا لمسألة مهمة نحب أن نقف عليها، وهي أن هذا التحريم الذي جاء على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأت في القرآن الكريم، والله سبحانه وتعالى ذكر في الكتاب أنواعاً كثيرة من المحرمات على المسلمين، منها: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة:3]، وغيرها من المحرمات التي ذكرت للمسلمين.
وتحريم الحمر الإنسية لم يأت في كتاب الله عز وجل، وإنما جاء فقط في السنة النبوية، ومع ذلك على المسلمين ألا يأكلوا من الحمر الإنسية، والرسول عليه الصلاة والسلام بعد رجوعه إلى المدينة المنورة قال في خطبة ذات يوم للصحابة بعد أن ادعى بعض المنافقين أنه يكتفي فقط بالقرآن الكريم، أو أن الرسول عليه الصلاة والسلام تنبأ أنه سيأتي زمان على المسلمين فيدعي بعضهم أن القرآن الكريم يكفيهم دون السنة، فروى أبو داود رحمه الله عن المقدام بن معدي كرب رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني أوتيت الكتاب ومثله معه).
و (الكتاب) يعني: القرآن الكريم.
(ومثله معه) يعني: السنة المطهرة، والسنة وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.
(ألا يوشك رجل شبعان على أريكته يقول: عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحلوه، وما وجدتم فيه من حرام فحرموه) يعني: يقصد هذا الشخص الجالس على أريكته الاكتفاء بالقرآن والابتعاد عن السنة.
ثم قال: (ألا لا يحل لكم لحم الحمار الأهلي، ولا كل ذي ناب من السباع)، وذكر صلى الله عليه وسلم أنواعاً أخرى من المحرمات، وهذه المحرمات لم تأت في كتاب رب العالمين سبحانه وتعالى، ومع ذلك فهي محرمة على المسلمين بتحريم الرسول صلى الله عليه وسلم لها، فثبت الحكم عند المسلمين، وهذا من أبلغ الأدلة لكون السنة النبوية مصدراً هاماً من مصادر التشريع.
بعد هذه الأزمة التي حصلت للمسلمي(34/11)
فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لحصن قلعة الزبير
بعد أن سقط حصن ناعم، ثم سقط حصن الصعب بن معاذ، وفيه وجدوا الكثير من الطعام كما ذكرنا، انتقلوا بعد ذلك إلى حصن قلعة الزبير، وهو الحصن الثالث في المنطقة، وحصن قلعة الزبير من أمنع الحصون في هذه المنطقة، وكما يقول الرواة: لا تقدر عليه الخيل والرجال؛ لأنه فوق قمة جبل، ويصعب الوصول إليه، ففرض الرسول عليه الصلاة والسلام عليه الحصار مدة ثلاثة أيام، ثم ألقى الله عز وجل الرعب في قلب رجل من اليهود، فأتى وتسلل من الحصن، وجاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وطلب الأمان، ثم قال له: يا أبا القاسم! إنك لو أقمت شهراً ما بالوا، إن لهم شراباً وعيوناً تحت الأرض، يخرجون بالليل ويشربون منها ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك.
يعني: هناك شراب يدخل إلى الحصن عن طريق عيون تدخل من تحت الأرض، وهم في كل ليلة يخرجون دون أن يشعر المسلمون ويأخذون من هذا الشراب، فيقول اليهودي: فإن قطعت مشربهم عليهم أصحروا لك.
يعني: لو قطعت هذه العيون لا بد أن يخرجوا؛ لأنهم لن يستطيعوا أن يعيشوا بدون ماء، فقطع صلى الله عليه وسلم الماء عن اليهود، فخرجوا وقاتلوا أشد القتال، واستمر القتال فترة من الزمان حتى انتصر المسلمون، وافتتحت قلعة الزبير.
وهذه من أشد المعارك ضراوة في تاريخ المسلمين، فهم عند كل حصن يقاتلون أياماً، ثم يهربون من الحصن إلى الحصن الذي يليه، وهكذا وهذه الحصون مبنية بمهارة عجيبة جداً، فكل حصن متصل بالآخر.
وهكذا انتهى الرسول عليه الصلاة والسلام من فتح الحصون الثلاثة الأولى، التي هي: حصن ناعم، وحصن الصعب بن معاذ، وحصن قلعة الزبير، وكانت في منطقة تسمى النطاة.
وقبل أن ننتقل ونعرف ماذا عمل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح حصون منطقة النطاة، لا بد أن نقف وقفة ونقول: إن نصر الله سبحانه وتعالى يأتي بعد أن يستنفد المسلمون كل أسباب النصر، وقد لا تؤدي هذه الأسباب إلى النصر بذاتها، بل كثيراً ما يحدث أن يعجز المسلمون بعد بذل الأسباب، ثم يأتي النصر من حيث لا يتوقعون، كما فعل الله عز وجل قبل ذلك في بدر وفي الأحزاب وفي مواطن كثيرة، وجنود الرحمن كثيرون، كما قال سبحانه: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر:31].
وأحد جنود الرحمن سبحانه وتعالى في موقعة خيبر كان ذلك اليهودي، وهو ما زال على يهوديته، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكشف له الطريق الذي به استطاع المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة الذين معه أن يفتحوا هذا الحصن الصعب: قلعة الزبير، {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126].(34/12)
فتح الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته لحصني أبي والنزار من الشق
بعد هذه الفتوح انتقل اليهود إلى الحصن الذي يليه، الذي هو: حصن قلعة أبي، وهو أحد حصون منطقة الشق، فبعد أن فتحت منطقة النطاة كلها بقيت منطقة الشق وفيها حصنان: أبي، والنزار، ودار قتال عنيف حول قلعة أبي إلى أن فتحت بنفس الطريقة، حصار ثم قتال، ثم هرب اليهود إلى الحصن الذي يليه، الذي هو حصن النزار.
وهذا الحصن الخامس وقف الرسول عليه الصلاة والسلام محاصراً له عدة أيام؛ لأنه كان أمنع الحصون الخمسة، لذلك وضع اليهود في ذلك الحصن الذراري والنساء، وظنوا أنه من المستحيل أن يفتح، ولذلك استمر الحصار فترة طويلة من الزمان بالقياس إلى ما قبله، وما استطاع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يفتح الحصن، فلجأ عليه الصلاة والسلام إلى طريقة جديدة في الحرب، أتى بالمنجنيق، وكان المسلمون قد استولوا عليه من بعض الحصون اليهودية السابقة، يقال: كان في حصن الصعب بن معاذ، فنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم المنجنيق وبدأ يقصف الحصن بقذائف من بعد، حتى أحدث خللاً في بعض الجدران لهذا الحصن، ومن هذا الخلل تسلل المسلمون إلى داخل الحصن ودار قتال من أعنف أنواع القتال في داخل الحصن، وكتب الله عز وجل النصر للمسلمين، وفتح الحصن العظيم حصن النزار، وهرب منه بقية اليهود إلى حصون المنطقة الأخرى التي اسمها الكتيبة، وتركوا خلفهم النساء والأطفال وكل شيء.(34/13)
حصار الرسول صلى الله عليه وسلم لحصن القموص وتسليم حصني الوطيح والسلالم
انتقل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى منطقة الكتيبة، ومنطقة الكتيبة منطقة واسعة فيها ثلاثة حصون كبيرة: حصن القموص، وحصن الوطيح، وحصن السلالم، هذه الحصون الثلاثة كانت من الحصون المنيعة، وتحصن فيها اليهود، لكنهم كانوا قد أصيبوا بهزيمة نفسية كبيرة نتيجة الهزائم المتلاحقة في أكثر من موقعة سابقة في خبير.
ففتح خيبر ليس مجرد لقاء عابر، وليس مجرد موقعة واحدة، بل هو عبارة عن عدة مواقع متتالية في مكان واحد، حصن وراء حصن، حتى فتح المسلمون خمسة حصون صعبة دون هزيمة واحدة؛ لذلك كانت خيبر محفورة في أذهان اليهود، ومحفورة في أذهان المسلمين، فهي من أعظم انتصارات المسلمين مطلقاً، وسماها ربنا في كتابه الكريم فتحاً: {وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18] أي: فتح خيبر.
انتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى منطقة الكتيبة وحاصر أول حصن الذي هو حصن القموص، واستمر الحصار أربعة عشر يوماً متصلة، واختلف الرواة فيما حدث في هذا الحصن، هل دار قتال بعد هذا الحصار، أم أنهم سلموا بدون قتال؟ الثابت أن الحصنين الآخرين اللذين هما حصن الوطيح وحصن السلالم سُلِّما دون قتال، لكن المختلف فيه هو حصن القموص، لكن سواء دار قتال أو لم يدر قتال، فقد طلب اليهود بعد عدة أيام أن ينزلوا على الصلح، وقاموا بعمل المفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقبل صلى الله عليه وسلم أن يتفاوضوا في هذا الأمر، وكان الذي نزل للمفاوضة هو كنانة بن أبي الحقيق، فدار بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم حوار طويل خلاصته أن المفاوضات في صالح المسلمين (100%)، فقد صالح اليهود على حقن دماء كل من في الحصون من المقاتلة والذرية والنساء، على أن يتركوا الديار والثياب والأموال والذهب والفضة وكل شيء، فسيخرجون في أكبر هزيمة من هزائم اليهود مطلقاً، والحقيقة أنه كان انتصاراً مهولاً بالنسبة للمسلمين، والرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المعاهدة شرط عليهم شرطاً هاماً جداً، قال: (وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم إن كتمتموني شيئاً) يعني: لو أخفى اليهود شيئاً من الأموال أو من الذهب والفضة، فإنه يجوز للرسول عليه الصلاة والسلام أن يعاقبهم؛ بسبب إخفائهم للمال أو للذهب أو الفضة.
وقبل اليهود بذلك الشرط، وبدءوا في الخروج من خيبر.(34/14)
وقفة مع قتال الرسول صلى الله عليه وسلم لليهود بخيبر ومقارنة ذلك بقتال غير المسلمين
نقف وقفة ونقول: يجب ألا ينسى المحلل لهذه الغزوة أنها من أولها إلى آخرها جاءت عقاباً لليهود على خياناتهم المتكررة، وتأليبهم القبائل العربية على حرب المدينة المنورة، ومحاولاتهم المستمرة لاستئصال أهل المدينة المنورة، واغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، وكون الرسول عليه الصلاة والسلام يقبل بخروجهم أحياء؛ فهذا تفضل منه صلى الله عليه وسلم، وكان من حقه أن يعاملهم بالمثل وبالقصاص بأن يقتل المقاتلة الذين يقاتلون منهم، لكن أقيمت المعاهدة على هذا النمط.
وكل الغربيين الذين حللوا موقعة خيبر يقولون: إن هذا من الظلم لليهود، وهذا من الشر في الحروب، وهذا من التجاوز في المعاملة! نقول: هذه طبيعة الحروب، وكان اليهود حريصين تمام الحرص على قتل المسلمين، والناظر إلى تاريخ الحروب في الأرض يجد أن حروب الرسول عليه الصلاة والسلام هي من أرحم الحروب مطلقاً في تاريخ الإنسانية، ولو نظرتم إلى حال الإنجليز والفرنسيين في الحروب، وإلى حال ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، فخسائر ألمانيا في الحرب العالمية الثانية (20) مليون قتيل، منهم (850) ألفاً من الجنود، يعني: أقل من مليون من الجنود، و (19) مليوناً من المدنيين قتلوا في الحروب، بينما في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقتل مدني أبداً، بل كان يأمر الناس أن (اغزوا في سبيل لله، على بركة الله، لا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا طفلاً صغيراً، ولا امرأة، ولا منعزلاً في صومعة) ولا أي إنسان لم يقاتل المسلمين، وكان يفرق صلى الله عليه وسلم بين الكافر الذي يقاتل المسلمين، والكافر الذي لا يقاتل المسلمين، بل أمر الله عز وجل أن يبلغ الكافر الذي لا يقاتل المسلمين مأمنه، ويعلم الدين، فالأمر ليس على إطلاقه أننا نحارب كل الكفار ونقتل كل الكفار، بل نقاتل من قتل المسلمين أو وقف أمام نشر الدين، فهذا أمر لا بد أن نضعه في حساباتنا عند تحليل غزوة خيبر وفتح خيبر، فقد كان فيها رحمة كبيرة، وبرغم الهزيمة القاسية التي وقعت على اليهود؛ إلا أنه لم يقتل من اليهود غير ثلاثة وتسعين مقاتلاً، واستشهد من المسلمين ستة عشر إلى ثمانية مجاهداً حسب اختلاف الروايات.(34/15)
مصالحة الرسول صلى الله عليه وسلم ليهود خيبر
لقد ترك اليهود غنائم ضخمة جداً، تركوا أموالاً ودياراً، وتركوا أهم من ذلك النخيل، وكانت خيبر بلاداً غنية جداً بالزراعة، فتركوا كل هذا وراءهم وبدءوا في عملية الخروج.
ثم إن اليهود بعد قرار المعاهدة وقرار الخروج من خيبر قدموا عرضاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: (يا محمد! دعنا نكون في هذه الأرض نصلحها ونقوم عليها، فنحن أعلم بها منكم).
وقد كانت أراضيها كبيرة جداً، والصحابة لم يكن لهم علم كبير بالزراعة، وهي بعيدة عن المدينة المنورة، واليهود يستطيعون أن يصلحوا هذه الأراضي ويخرجوا منها الثمار، فقالوا: دعنا نقوم على إصلاح هذه الأراضي، ثم نقيم معاهدة بيننا وبينك على اقتسام هذا الثمار، فوجد الرسول عليه الصلاة والسلام أن هذا العرض عرض مناسب للمسلمين، فأقر اليهود على أن يعطيهم الشطر من كل زرع ومن كل ثمرة، ما بدا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقرهم في خيبر، فإذا أمر صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام دون تحديد في هذه المعاهدة بخروج اليهود من خيبر فعليهم أن يخرجوا، وهو ما تم بعد ذلك في عهد عمر بن الخطاب كما يعلم الجميع.
انتهت المعركة بهذا الأمر، وبدأ عليه الصلاة والسلام يقسم غنائم خيبر الكثيرة جداً على المسلمين غير الزراعة، كان هناك سلاح، وكان هناك أموال، فهذه الغنائم كانت كثيرة، حتى إن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول -كما روى البخاري -: ما شبعنا حتى فتحنا خيبر.
وتقول السيدة عائشة رضي الله عنها -كما جاء في البخاري -: لما فتحت خيبر قلنا: الآن نشبع من التمر.
وكان من بنود المعاهدة أن من كتم مالاً من اليهود عن المسلمين برئت منه ذمة الله عز وجل وذمة رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه يقتل لإخفائه ذلك المال.
فاكتشف الرسول عليه الصلاة والسلام أن كنانة بن أبي الحقيق أخفى مالاً، ذكر له ذلك أحد اليهود، فأتى بـ كنانة بن أبي الحقيق، وبدأ باستجوابه فقال له صلى الله عليه وسلم: (هل أخفيت مالاً؟! فقال: لا.
فقال صلى الله عليه وسلم: أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟ قال: نعم)، فأمر صلى الله عليه وسلم بالبحث في أرضه، وكان أحد اليهود قد عين مكاناً معيناً، قال: إن كنانة قد أخفى في هذا المكان شيئاً، فبحثوا في ذلك المكان فوجدوا كنزاً كبيراً من المال، وقتل كنانة بن أبي الحقيق نتيجة مخالفته للمعاهدة التي كانت مع المسلمين، وسبيت امرأة كنانة بن أبي الحقيق، وكانت امرأة كنانة هي صفية بنت حيي بن أخطب، وكما نعلم جميعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها بعد ذلك وأصبحت من أمهات المؤمنين.(34/16)
الحكمة من زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بصفية بنت حيي رضي الله عنها
لنا وقفة مع زواج الرسول عليه الصلاة والسلام من السيدة صفية رضي الله عنها وأرضاها.
بداية الأمر أن السيدة صفية أخذت في السبي وكانت مع أحد أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وهو دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، فأتى أحد الصحابة إلى رسول لله صلى الله عليه وسلم وقال له: إن هذه بنت ملك، ولاينبغي أن تكون إلا لك، فأخذها صلى الله عليه وسلم.
وفي زواجه صلى الله عليه وسلم من السيدة صفية حكم، من هذه الحكم أنه رفع درجة السيدة صفية، فهي بنت ملك أو بنت زعيم من زعماء اليهود، وزوجة زعيم من زعماء اليهود، فلا يليق أن تعطى لأي إنسان من المسلمين، فرفع من قدرها وعظم من شأنها، وتزوجها صلى الله عليه وسلم بعد أن أعلنت إسلامها.
ثم إن هذا الزواج فيه استمالة لقلوب اليهود، فعندما يكون بينهم وبين زعيم الدولة الإسلامية نبي هذه الأمة علاقة مصاهرة؛ فإن هذه العلاقة قد ترقق قلوب اليهود وتفتح قلوبهم للإسلام.
ثم إن هذا سيمنع الخلاف بين الصحابة؛ لأن أحد الصحابة -كما ذكرنا- جاء إليه وقال: أعطيت دحية الكلبي هذه، فقد ينظر بعض الصحابة إلى أنه أعطى أحد الصحابة شيئاً قد يناسب غيره من عموم الصحابة، وبذلك قطع الخلاف بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين، وكانت هذه بداية خير كبير للسيدة صفية، فقد أصبحت أم المؤمنين رضي الله عنها وأرضاها، وروت الكثير والكثير عن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم.
إذاً: هذه كانت غزوة خيبر.(34/17)
مؤامرات اليهود ضد المسلمين بعد غزوة خيبر
هل امتنع كيد اليهود بعد هذه الغزوة، وبعد هذا القتال المرير الذي دار عدة أيام بلغ شهراً أو أكثر من القتال؟ هل سكنوا لذلك الأمر؟ لم يكتف اليهود بذلك، بل استمروا في المؤامرات وفي الكيد وفي الدس، حتى إنهم فكروا في قتل الرسول عليه الصلاة والسلام قبل أن يغادر خيبر.
وكلنا نعرف قصة الشاة المسمومة، ونحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذه الشاة، لنرى رد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع هذا الأمر، حيث اجتمع اليهود على محاولة اغتيال الرسول عليه الصلاة والسلام بعد انتصار المسلمين في خيبر، وقصة الشاة المسمومة ليست تفكيراً من امرأة واحدة كما تروي بعض الروايات، بل كان بتدبير من كل اليهود، والروايات كلها صحيحة، ولا بد من الجمع بينها كما سنذكر.
هذه رواية في صحيح البخاري تقول: (إن امرأة يهودية أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بشاة مسمومة، فأكل منها صلى الله عليه وسلم، فجيء بها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فسألها عن ذلك؟ قالت: أردت قتلك، قال: ما كان الله ليسلطك على ذلك).
وفي بعض الروايات أن هذه المرأة هي زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم الذي قتله المسلمون قبل ذلك، فأرادت أن تنتقم لزوجها القتيل، ولقومها بصفة عامة.
وهناك رواية أخرى في صحيح البخاري أيضاً وفي صحيح مسلم كذلك، يروي هذه الرواية أبو هريرة رضي الله عنه، يقول: (لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجمعوا لي من هاهنا من اليهود، فجمعوا له اليهود، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: إني سائلكم عن شيء فهل أنتم صادقوني عنه؟ فقالوا: نعم، يا أبا القاسم، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: من أبوكم؟ قالوا: أبونا فلان، فقال صلى الله عليه وسلم: كذبتم، بل أبوكم فلان) ذكروا رجلاً معيناً، فذكر لهم خلافه.
(فقالوا: صدقت وبررت).
بهذا السؤال أثبت الرسول عليه الصلاة والسلام لهم أنه يستطيع أن يكتشف الكذب الذي يكذبونه بواسطة الوحي، فسألهم سؤالاً آخر، وقال: (هل أنتم صادقوني عن شيء إن أنا سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم يا أبا القاسم، وإن كذبناك عرفت كما عرفته في أبينا، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: من أهل النار؟ فقالوا: نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها) يعني: يمكث اليهود فيها قليلاً ثم يدخل المسلمون فيها إلى الأبد، هذا كلام اليهود.
فقال صلى الله عليه وسلم: (اخسئوا فيها، والله لا نخلفكم فيها أبداً، فقال لهم بعد ذلك: هل أنتم صادقوني عن شيء إن سألتكم عنه؟ فقالوا: نعم، فقال: هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ فقالوا: نعم) يعني: أن اليهود اجتمعوا على جعل السم في الشاة ليقتلوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم أعطوا هذه الشاة لامرأة سلام بن مشكم لتهديها لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال لهم صلى الله عليه وسلم: (ما حملكم على ذلك؟ فقالوا: أردنا إن كنت كذاباً أن نستريح منك، وإن كنت نبياً لن يضرك).
فالرسول صلى الله عليه وسلم بعد اعتراف اليهود اعترافاً صريحاً جازماً بأنهم دبروا محاولة لقتله عفا عنهم جميعاً.
فهذه من أبلغ مواطن الرحمة في حياته صلى الله عليه وسلم، وعفا عن المرأة التي قدمت له الشاة، وسئل مباشرة صلى الله عليه وسلم: (ألا تقتلها؟ قال: لا) ولم يقتل المرأة.
ثم إن أحد الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم -وهو بشر بن البراء بن معرور - أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت أكله من الشاة المسمومة، وكما هو مشهور أن الشاة المسمومة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تأكل مني فإني مسمومة)، فالرسول صلى الله عليه وسلم لفظ الشاة وأمر الصحابة ألا يأكلوا، لكن هذا الصحابي بشر بن البراء كان قد ابتلع قطعة من اللحم من هذه الشاة المسمومة فمات بها، فلما مات بشر بن البراء بن معرور رضي الله عنه أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد على المرأة التي قدمت الشاة فقتلها به.
يعني: من كل أرض خيبر لم تقتل إلا امرأة واحدة؛ لأنها قتلت رجلاً من المسلمين بالشاة المسمومة، وإذا قارنا هذه المعركة العظيمة بكل معارك الأرض، كما ذكرنا أن ألمانيا قتل منها (20) مليوناً منهم، (19) مليون مدني، وهذا تكرر في معظم المعارك الأخرى، ففي (ناجازاكي) و (هيروشيما) قتل ربع مليون وكلهم من المدنيين، رجال ونساء وأطفال، فشتان بين حروب المسلمين وبين حروب غير المسلمين.
من الأشياء الهامة جداً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام في غزوة خيبر غنم مجموعة من صحائف التوراة، ومع أنه صلى الله عليه وسلم يعلم أنها محرفة تمام التحريف، وأنه قد أزيلت منها البشارات التي تبشر به صلى الله عليه وسلم، وأنه قد اعتدي فيها كثيراً على حرمات الله عز وجل، إلا أنه سلم هذه الصحائف كاملة لليهود عندما طلبوها من(34/18)
الآثار المترتبة على غزوة خيبر
كانت غزوة خيبر غزوة مهولة من غزوات المسلمين، وتركت أثراً ضخماً جداً على الجزيرة العربية، وأشد هذه الآثار على اليهود القريبين من خيبر أو البعيدين عن خيبر، فكل اليهود في المنطقة بعد أن سمعوا أنباء خيبر بدءوا يفكرون تفكيراً جدياً في التسليم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن هؤلاء يهود فدك فقد قبلوا أن ينزلوا على نفس الصلح الذي نزلت عليه يهود خيبر، على أن يكون لهم النصف من الثمار كنفس المعاهدة التي تمت في خيبر.
كذلك يهود وادي القرى قاوموا في البداية بعض المقاومة، ثم إنهم بعد ذلك قبلوا أيضاً بنفس الصلح.
وكذلك يهود تيماء، وبذلك حيد جانب اليهود تماماً في الجزيرة العربية.
فعاد الرسول عليه الصلاة والسلام بعد هذه الغزوة إلى المدينة المنورة في أواخر صفر، أو أوائل ربيع الأول سنة سبع، يعني: بقي أكثر من شهر في منطقة خيبر، كما توقع صلى الله عليه وسلم أنه سيبقى وقتاً طويلاً هناك.
فيكون الرسول عليه الصلاة والسلام قد تخلص نهائياً من خطر اليهود، فإذا أضفنا إلى هذا التخلص ما حدث في صلح الحديبية مع قريش فسنجد أن معظم القوى الموجودة في الجزيرة قد تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يبق من قوى الجزيرة إلا قوة غطفان، وإن وجه إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض السرايا، لكنها تحتاج هي الأخرى إلى وقفة جادة وتصرف حكيم سريع من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ترى ماذا فعل صلى الله عليه وسلم مع غطفان؟ وماذا كان موقف الجزيرة العربية بعد هذا الفتح العظيم، فتح خيبر؟ وما هي الآثار الضخمة لصلح الحديبية التي بدأ المسلمون في جنيها في العام السابع من الهجرة؟ وما هي عمرة القضاء التي اتفق رسول الله صلى الله عليه وسلم مع قريش على أن تكون بعد عام من صلح الحديبية؟ هذه الأحداث وغيرها سنتحدث عنها في درسنا القادم.
نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(34/19)
سلسلة السيرة النبوية_قوة الإسلام
لقد ظهرت قوة الإسلام وعزته بعد صلح الحديبية في عمرة القضية وغيرها من الأحداث، وبسبب ظهور هذه العزة دخل كبار فرسان قريش في الإسلام، فقد أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة بعد عمرة القضية؛ وذلك لما رأوا من عزة الإسلام والمسلمين، وتناقص الأرض على قريش، ودخول القبائل المجاورة لها في الإسلام، وهذا يدل على الحكمة التي ظهرت في سياسة النبي صلى الله عليه وسلم مع الأحداث.(35/1)
الوضع العام بعد فتح خيبر
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد.
فمع الدرس السابع من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
تحدثنا في الدروس السابقة عن بعض آثار صلح الحديبية المجيدة، ومن هذه الآثار -كما ذكرنا في الدرس السابق-: فتح خيبر، والآن نقف وقفة لتحليل الوضع بعد فتح خيبر.
تحليل الوضع في أوائل العام السابع من الهجرة: أولاً: حيّد جانب قريش، وبدأت الأرض تتناقص من حول قريش، وشعرت قريش بعظمة الدولة الإسلامية وخاصة بعد فتح خيبر، وكانت قريش تعتبر خيبر من أقوى حصون الجزيرة العربية مطلقاً، وكانت تعتبر اليهود من أشد الناس قتالاً ومن أقواهم عدة، فكانت هزيمة اليهود في خيبر ضربة كبيرة جداً ليس لليهود فقط، ولكن لقريش في عقر دارها، لم تتصور قريش أن المسلمين بلغوا من القوة إلى الدرجة التي تمكنهم من فتح خيبر.
ثانياً: أمن المسلمون جانب اليهود بعد هزيمتهم في خيبر، وأصبح للمسلمين اليد العليا بلا منازع في الصراع الذي بينهم وبين اليهود بصفة عامة، ورأينا قبل هذا أن المسلمين لم يكتفوا فقط بفتح خيبر، ولكنهم فتحوا أيضاً وادي القرى وتيماء وفدك، يعني: جميع التجمعات اليهودية الموجودة في شمال المدينة المنورة.
ثالثاً: ازدادت قوة المسلمين بشكل ملحوظ، وكان ارتفاع الروح المعنوية عند المسلمين عالياً جداً؛ لأن فتح خيبر كان فيه خير كثير جداً للأمة الإسلامية، ليس من الجانب العسكري فقط، ولكن من الجانب الاقتصادي أيضاً، وذكرنا قول السيدة عائشة رضي الله عنها عندما قالت: ما شبعنا من التمر إلا بعد فتح خيبر.
وكذلك قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وفوق ارتفاع الروح المعنوية انضم المسلمون من أماكن مختلفة في الجزيرة العربية إلى قوة المدينة المنورة، وجاء المسلمون من الحبشة، وهذا حدث تزامن مع فتح خيبر ولم نذكره في الدرس الماضي، ففي أواخر خيبر بعد أن تم فتح خيبر جاء جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه والمهاجرون من الحبشة، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام أسهم لهم من أسهم خيبر؛ لأنه اعتبرهم مشاركين في الغزوة حيث جاءوا بهذه النية من الحبشة، فكانت إضافة كبيرة جداً للدولة الإسلامية، وقدم أيضاً الأشعريون وعلى رأسهم أبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه من اليمن، وقدم كذلك الدوسيون وقبائل دوس قبائل كبيرة من اليمن، جاءت أيضاً في ذلك الوقت وعلى رأسهم الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وأرضاه، وقدم المسلمون من قبائل أخرى كبيرة إلى المدينة المنورة، وازدادت أعداد المسلمين بعد فتح خيبر أو بعد صلح الحديبية، بل إن المسلمين قدموا أيضاً من مكة المكرمة ذاتها، بعد أن تنازلت قريش عن بند إعادة المسلمين المهاجرين من مكة إلى المدينة، بعد الحرب التي شنها عليهم أبو بصير رضي الله عنه وأرضاه وأصحابه، كما ذكرنا في الدروس السابقة، وبدأت قوة الدولة الإسلامية تنمو، وفي نفس الوقت بدأت قوة قريش تقل، ثم إن هناك عدداً كبيراً من العرب بعد صلح الحديبية أسلم ودخل في صف المسلمين، لم يكن يقوى على إعلان إسلامه قبل صلح الحديبية.
إذاً: بعد أن وضعت الحرب في الجزيرة العربية أوزارها وأمن الناس جانب قريش دخل في الإسلام من كان متردداً.
رابعاً: بقي من الأعداء القدامى للمسلمين قبيلة غطفان، وقبيلة غطفان مجموعة من المرتزقة يؤجرون للهجوم على الغير، استأجرهم قبل ذلك اليهود لحرب المسلمين في الأحزاب، وحاصروا المدينة المنورة بستة آلاف مقاتل مع أربعة آلاف من قريش، وكان الجميع عشرة آلاف، وكانوا يريدون استئصال الدولة الإسلامية تماماً، ولهم تاريخ معقّد مع المسلمين، ففي أكثر من مرة يحدث منهم نوع من الغدر بالمسلمين وقتل عدد من المسلمين، وما أحداث بئر معونة وغيرها من الأحداث ببعيدة من المسلمين، وآخر الأحداث التي حصلت من غطفان كان حصار الأحزاب، ثم محاولة معاونة يهود خيبر في حربهم ضد المسلمين لولا أن فرّق رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا التحالف الذي كان بين اليهود وبين غطفان، عن طريق إرسال سرية إلى غطفان كما فصلنا في الدرس السابق.
لقد تخلص المسلمون من عدوين: من قريش عن طريق المصالحة والمهادنة، ومن اليهود عن طريق الحرب كما في فتح خيبر، ولم يبق أمامهم سوى عدو واحد كبير وهو غطفان، بهذا التحليل أستطيع أن أحدد أهداف المرحلة القادمة.(35/2)
أهداف الرسول صلى الله عليه وسلم في مرحلة ما بعد فتح خيبر
ما هي أهداف الرسول صلى الله عليه وسلم في العام السابع، أهداف المرحلة التي بعد فتح خيبر؟ لقد كان للرسول صلى الله عليه وسلم هدفان رئيسان في العام السابع من الهجرة، أو في الفترة التي تلت فتح خيبر.
الهدف الأول: هو نشر الدعوة، واستغلال الهدنة التي حصلت بين المسلمين وبين قريش بعد صلح الحديبية.
الهدف الثاني: إيقاف خطورة قبيلة غطفان وتأمين جانبهم، والانتقام لكرامة الأمة الإسلامية من حصار غطفان ومن حرب غطفان المرة تلو المرة للمسلمين.
من اللافت للنظر أن الرسول عليه الصلاة والسلام لتحقيق هذين الهدفين سلك مسلكاً واحداً وهو إظهار القوة والعظمة والعزة للإسلام والمسلمين، فكما أن الإسلام دين وشريعة وقرآن يتلى يؤثر في قلوب الكثير من الناس، إلا أن هناك الكثير من الناس لا يتأثرون إلا بمظاهر القوة، ولا ينبهرون إلا بعزة الإسلام وسيادته على الغير، والطابع الذي كان يغلب على السنة السابعة هو إظهار القوة الإسلامية والعظمة الإسلامية والعزة الإسلامية، وقد ظهر ذلك في مراسلات الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهر ذلك في حروب الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهر ذلك في عمرة القضاء، وظهر تأثر الكثير من أهل مكة وأهل الجزيرة بصفة عامة -بل والعالم أجمع- بمظاهر القوة الإسلامية التي ظهرت في العام السابع من الهجرة.
لننظر هنا كيف حقق النبي صلى الله عليه وسلم الهدفين في السنة السابعة من الهجرة عن طريق إظهار القوة الإسلامية.(35/3)
نشر الدعوة
الهدف الأول: نشر الدعوة، تكلمنا قبل هذا على الرسائل للزعماء والملوك، وفصّلنا فيها كثيراً، وهذه الرسائل أضافت للمسلمين قوة كبيرة جداً، وليست قوة معنوية، ولكن قوة عددية؛ لأن بعض هذه الرسائل أدت إلى دخول عدد جديد من المشركين في الإسلام، ومن أبرز هؤلاء مملكة البحرين بكاملها، دخل زعيمها المنذر بن ساوى ودخل جميع شعب البحرين في صف المسلمين، وكذلك دخلت دولة اليمن في الإسلام بعد إسلام باذان قائد اليمن الفارسي عندما آمن برسول الله صلى الله عليه وسلم، وآمن معه شعبه الفارسيون الذين يعيشون في اليمن وأهل اليمن الأصليين، الجميع تقريباً آمن ودخل في صف الدولة الإسلامية، نعم هم بقوا في مكانهم في اليمن، ولكن هذه إضافة قوية جداً للدولة الإسلامية، ولا ننسى أن اليمن في جنوب قريش والمدينة المنورة في شمال قريش، بهذا تكون مكة المكرمة محاصرة بين مناطق إسلامية، وهذا بلا شك إضافة كبيرة للدولة الإسلامية الجديدة.
إذاً: أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم الدعاة هنا وهناك يدعون الناس إلى الإسلام، وبدأت القبائل تفكر في الإسلام بطريقة جديدة دون خوف أو وجل من قريش، فهناك أعداد كبيرة من العرب دخلت في الدين الإسلامي بعد صلح الحديبية.(35/4)
إيقاف خطورة قبيلة غطفان
الهدف الثاني: إيقاف خطورة قبيلة غطفان، وقد أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام ليوقف خطورة غطفان ويؤمن جانبها عدة سرايا قرابة ست سرايا، ثم خرج إليها في غزوة ذات الرقاع، وكانت هذه الغزوة في شهر ربيع الأول سنة سبع، يعني: كانت بداية فتح خيبر في أول محرم سنة سبع، واستمر أكثر من شهر، فالرسول صلى الله عليه وسلم خرج في أواخر شهر صفر سنة سبع أو أوائل ربيع الأول سنة سبع إلى غطفان، فهو خرج إلى غطفان بمجرد أن عاد من فتح خيبر، كان في حركة دائبة وفي جهاد مستمر في سبيل الله، وذكرت بعض كتب السير أن غزوة ذات الرقاع كانت في السنة الرابعة، وهذا لا يستقيم؛ لأن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه ثبت في البخاري أنه شارك في غزوة ذات الرقاع، وأبو موسى الأشعري باتفاق لم يأت إلا في العام السابع من الهجرة مع قدوم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه إلى خيبر، فمن المؤكد أن غزوة ذات الرقاع تمت في السنة السابعة من الهجرة.
وهذه الغزوة كانت موجهة إلى قبائل غطفان، وقبائل غطفان لم تكتف بحصار المدينة المنورة في غزوة الأحزاب ولا بمساعدة اليهود في خيبر، بل كانوا يعدون العدة لغزو المدينة المنورة مرة أخرى بعد غزوة الأحزاب؛ وذلك لأنهم علموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل إليهم سرية قبل ذلك وهو يفتح خيبر، فلذلك أرادوا أن يغزوا المدينة المنورة من جديد، فكان على الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقف وقفة جادة تجاههم، ويخرج إليهم صلى الله عليه وسلم بنفسه بدلاً من أن ينتظرهم في المدينة المنورة؛ لكي لا يُظَن أن المسلمين يخافون من غطفان وأنهم لا يجرءون على المواجهة المباشرة معهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد وجود هذا الانطباع السلبي لا عند غطفان ولا عند أهل الجزيرة العربية بصفة عامة؛ ولهذا جهز عليه الصلاة والسلام جيشاً وخرج فيه بنفسه صلى الله عليه وسلم، ويبدو أن جيوش المسلمين في ذلك الوقت كانت موزعة في أماكن مختلفة، فهناك جيوش في خيبر وفي وادي القرى وفدك وتيماء وفي غيرها من الأماكن الملتهبة في ذلك الوقت؛ فلذلك لم يأمن الرسول عليه الصلاة والسلام أن يترك المدينة بلا جيش يحميها، فهو لا يأمن غدر قريش، وقد تلف قبائل غطفان من هنا أو هناك لتدخل إلى المدينة المنورة، واليهود كذلك قد يغدرون، فهناك أمور خطيرة جداً تجعله يترك حامية في داخل المدينة المنورة، وهذه الأمور جعلت الرسول عليه الصلاة والسلام يخرج في جيش صغير نسبياً، هذا الجيش كان تقريباً أربعمائة وفي بعض الروايات سبعمائة من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولم يكن معهم من الإبل إلا القليل، حتى إن الستة من الصحابة كانوا يتناوبون ركوب البعير الواحد، وذهب الرسول عليه الصلاة والسلام مسافة كبيرة جداً بجيشه في عمق الصحراء، توغل جداً حتى بلغ ديار غطفان، وغطفان إلى الشمال الشرقي من المدينة المنورة على مسافة عدة ليال من المدينة، ولكون المسافة كبيرة والصحابة يسيرون على أقدامهم فقد أثّر ذلك جداً عليهم رضي الله عنهم أجمعين، روى البخاري رحمه الله عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ستة نفر بيننا بعير نعتقبه)، أي: أن الستة يتناوبون على بعير واحد فقط، يقول: (فنقبت أقدامنا ونقبت قدماي وسقطت أظفاري، فكنا نلف على أرجلنا الخرق، فسميت ذات الرقاع لما كنا نعصب الخرق على أرجلنا).
نحتاج إلى أن نقف وقفة مع هذا الموقف، فهذا الحديث وأمثاله يوضح لنا مدى التضحية والبذل والعطاء الذي تميز به هذا الجيل النادر، وهو جيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، لقد كانوا في حركة دائبة مستمرة في سبيل الله.
ففي الأشهر الأخيرة من السنة السادسة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة إلى مكة المكرمة لأداء العمرة، مع التضحية التامة بالنفس والذهاب إلى عقر دار قريش، وبيعة على عدم الفرار وعلى الموت، واستعداد تام للقتال حتى النهاية، ثم عودة للمدينة المنورة بعد صلح الحديبية، وانطلاق مباشر إلى حصون وقلاع خيبر وقتال شرس أكثر من شهر متصل في خيبر، وانتصار مهيب لا مثيل له، ثم عودة للمدينة لعدة أيام ثم الخروج والسير في الصحراء مسافة طويلة لقتال قبيلة غطفان، وهي من أقوى وأشرس قبائل العرب.
فالصحابة كانوا في حركة دائمة في سبيل الله، وبذل وتضحية في كل دقيقة، وسبق أن رأينا كيف أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه عاد من الحبشة ووجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد غادر المدينة إلى خيبر فترك المدينة مباشرة واتجه إلى خيبر ليشترك في القتال، وأبو موسى الأشعري رضي الله عنه وأرضاه يأتي من اليمن في أيام خيبر، فيخرج بعد قدومه بعدة أيام إلى هذه الغزوة الشديدة غزوة ذات الرقاع، لم تكن هناك لحظة ضائعة في حياة هذا الجيل، ولعل ذلك هو الذي يفسر الكم الهائل من الأحداث التي تمت في زمن البعثة النبوية، و(35/5)
قصتان وقعتا بعد غزوة ذات الرقاع
عاد الرسول عليه الصلاة والسلام دون قتال، لكن ترك أثراً لا يُمحى من قلوب غطفان، وشاء الله عز وجل أن يضاعف من هذا الأثر بقصتين حدثتا مباشرة بعد هذه الغزوة أثناء عودة الرسول صلى الله عليه وسلم من غطفان إلى المدينة المنورة.(35/6)
القصة الأولى
القصة الأولى: جاء في البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: أن الجيش الإسلامي وهو عائد من غطفان إلى المدينة المنورة نزل في مكان ليستريح، فتفرق الناس في ظلال الشجر ليستظلوا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة، فعلّق بها سيفه، قال جابر: فنمنا نوماً، أي: الرسول صلى الله عليه وسلم وجميع الصحابة ناموا؛ فالطريق متعب، قال: فجاء رجل من الأعراب المشركين فاخترط سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفعه فوق رأس الرسول صلى الله عليه وسلم، وفجأة استيقظ الرسول صلى الله عليه وسلم ووجد الأعرابي واقفاً على رأسه بالسيف، فقال له الأعرابي المشرك -وهو من غطفان-: أتخافني؟ الأعرابي يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: أتخافني؟ وهذا السؤال غريب، وكان من المتوقع من هذا الرجل أن يقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبذلك ينال شرفاً كبيراً جداً عند أهل غطفان، لكن الرجل لم يفعل ذلك، وإنما بدأ في حوار مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا لمنع رب العالمين سبحانه وتعالى رسوله الكريم من أذى الآخرين، قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] قال له: أتخافني؟ فرد الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: لا.
يعني: ما اهتز له جسم ولا دخل في قلبه أي خوف، فتعجب الأعرابي من هذا الموقف، السيف في يده والرسول عليه الصلاة والسلام أعزل وليس معه أحد ومع ذلك لا يخاف، فقال الأعرابي: فمن يمنعك مني؟ فقال صلى الله عليه وسلم: الله.
وفي رواية أن الأعرابي كرر السؤال ثلاث مرات: من يمنعك مني؟ من يمنعك مني؟ من يمنعك مني؟ وفي كل مرة يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: الله.
الله، فوقع السيف من يد الأعرابي، وفي رواية البخاري أيضاً يقول: إن الأعرابي شام السيف، أي: أنه أغمد السيف ولم يقع منه رغماً عن إرادته؛ تعجباً من ثبات الرسول عليه الصلاة والسلام، وفي الرواية التي ذكرها الإمام أحمد بن حنبل وابن إسحاق رحمهما الله: أنه عندما وقع السيف من يد الأعرابي، فأمسك رسول الله عليه الصلاة والسلام بالسيف ورفعه على الأعرابي وقال له: من يمنعك مني؟ فالأعرابي كافر ما استطاع أن يقول: الله، وما استطاع أن يلجأ إلى آلهته المزعومة من الأصنام، لكن طمع في كرم الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له: كن خير آخذ، فقال صلى الله عليه وسلم: تشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ فقال الأعرابي: أعاهدك ألا أقاتلك، ولا أكون مع قوم يقاتلونك.
أي: أنه لم يسلم، لكنه وعد الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يقاتله بعد ذلك، وعلى الرغم من الموقف الشديد إلا أن الأعرابي لم يستطع أن يأخذ قرار الإسلام، ومع ذلك أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم سراحه ولم يعاقبه، وثبت ذلك في البخاري أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يعاقب هذا الرجل، وعاد الرجل إلى أهله سالماً وقال لهم: جئتكم من عند خير الناس، وفي رواية: أن عدداً كبيراً من أهله أسلم، وأن هذا الرجل اسمه غورث بن الحارث.
فهذه القصة وإن كانت في ظاهرها عابرة، إلا أنها تركت أثراً كبيراً جداً في أعراب هذه المنطقة من قبائل غطفان، وأدركوا بهذه القصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس رجلاً كريماً فقط، وليس قائداً شجاعاً جريئاً فقط، وإنما هو أيضاً نبي مرسل؛ لأنه ليس من عادة الملوك والقادة أن يتركوا من وقف على رءوسهم بالسيف مهدداً هكذا، ليس من عادتهم الرحمة والكرم والتسامح إلى هذا الحد، فهذا ليس من طبع الملوك والقادة.
ولا شك أن هذه القصة بالإضافة إلى غزو الرسول صلى الله عليه وسلم لهم بجيشه الصغير البسيط دون خوف ولا وجل؛ كان لها أبلغ الأثر في تفكير هؤلاء الأعراب جدياً في قضية الإسلام.(35/7)
القصة الثانية
هذه قصة أخرى عجيبة حدثت في أثناء رجوع هذا الجيش المبارك إلى المدينة المنورة، ورواها أبو داود عن جابر رضي الله عنه وأرضاه: أن جيش المسلمين نزل بأحد الأماكن للراحة، فعيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين للحراسة: عباد بن بشر الأنصاري رضي الله عنه، وعمار بن ياسر المهاجري رضي الله عنه، فقسم الليل بينهما، فكانت نوبة عباد بن بشر، فأراد أن يقطع الليل بالصلاة، ووقف يصلي قيام الليل، فجاءه أحد المشركين أيضاً من غطفان، ورماه بسهم، فنزع عباد السهم وأكمل صلاته، والدم يسيل منه ويتفجّر، فرماه المشرك بسهم آخر فنزعه عباد وأكمل صلاته، فجاءه السهم الثالث فنزعه عباد ثم ركع وسجد وأنهى صلاته، ولم يقطع الصلاة فجأة ولكنه أكمل صلاته، ثم أيقظ عمار بن ياسر، فلما وجد عمار بن ياسر الدماء في كل مكان ورأى الأسهم الثلاثة، قال لـ عباد: هلا أيقظتني أول ما رمى؟ فيرد عباد بن بشر رضي الله عنه في يقين وخشوع ويقول: كنت في سورة أقرؤها، فلم أحب أن أقطعها.
وفي رواية ابن إسحاق: قال عباد: وايم الله لولا أن أضيّع ثغراً أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظه لقطع نفسي قبل أن أقطعها أحب إلي من قطعها.
أي: لقطع هذا الرجل حياتي قبل أن أقطع هذه السورة، ولك أن تتصور مدى استمتاع عباد بقراءته، ومدى حبه لقيام الليل، ومدى استغراقه في عبادته، ومدى خشوعه وتركيزه في الصلاة رضي الله عنه وأرضاه.
والشاهد في هذه القصة هو أن هذا الرجل المشرك الذي أطلق السهام هرب عندما رأى عمار بن ياسر استيقظ وفر إلى قومه، ولا ندري عنه شيئاً بعد ذلك، إلا أنه انبهر لرؤية أولئك الذين كانوا منذ قليل يغزونهم بشجاعة ويحاربونهم بضراوة يقفون في عبادتهم بهذه الصورة الخاشعة، لا شك أن جمع الصحابة بين الجهاد والصلاة، وبين القتال والعبادة، وبين القوة والرحمة، وبين الثأر للكرامة والعفو عند المقدرة، لا شك أن ذلك كان لافتاً للنظر جداً لكل الناس، ولا شك أنه كان يترك انطباعاً إيجابياً عند عموم البشر، بغض النظر عن جنسياتهم أو أعرافهم أو قبائلهم.(35/8)
إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم للسرايا بعد غزوة ذات الرقاع
كانت غزوة ذات الرقاع غزوة بلا قتال، لكنها غيّرت كثيراً في أوساط قبائل غطفان، وعدّلت كثيراً من سلوكهم، وهذا سوف يفسّر لنا أحداثاً كثيرة ستأتي بعد هذا.
لم يكتف الرسول عليه الصلاة والسلام بعد غزوة غطفان بهذا الإنذار القوي الموجه لها، لكن أرسل بعد غزوة ذات الرقاع ست سرايا متتالية كلها في العام السابع من الهجرة، أرسل هذه السرايا إلى عدة مناطق مهمة في الجزيرة العربية، وهي: منطقة كديد، ومنطقة تربة، ومنطقة بني مرة، ومنطقة ميفعة، ومنطقة يمن، ومنطقة الغابة، ست مناطق، والقاسم المشترك بين كل هذه المناطق أنها كلها أرض لغطفان.
إذاً: هناك تركيز واضح على قبيلة غطفان في العام السابع الهجري، وواضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام يسير بخطة محكمة، ليست هناك عشوائية أبداً في الأداء، فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد صلح الحديبية وتحييد جانب قريش وجه كامل الطاقة لردع بقية الأحزاب، ولصد بقية أعداء الأمة، ولهذا رأينا الحرب ضد اليهود والحرب ضد غطفان، فالأمور في غاية الترتيب، ونجح الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحملات المتكررة في ردع اليهود وغطفان تماماً، وبذلك أصبحت القوة الإسلامية في أواخر العام السابع الهجري هي القوة الأولى في الجزيرة العربية، ومع نجاح هذا الجانب العسكري للدولة الإسلامية إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يترك مهمته الأولى كرسول وهي مهمة البلاغ ونشر الدعوة إلى الله عز وجل في كل مكان في الجزيرة العربية، بل خرج خارج الجزيرة العربية كما ذكرنا، ودعا إلى الإسلام صراحة وبقوة وعزة حتى وصل الإسلام إلى معظم ممالك العالم في ذلك الوقت.
إذاً: كملخص للعام السابع الهجري: نجد أنه كان عاماً جهادياً ودعوياً، بدأ فيه المسلمون في جني ثمرات صلح الحديبية، وصلت في هذا العام دعوة الإسلام إلى كل مكان، وانتصر المسلمون فيه انتصاراً باهراً على اليهود في خيبر ووادي القرى وفدك وتيماء، وانكمشت غطفان وتضاءلت جداً، وعرفت أن قوة المسلمين أعلى بكثير من قوتها، حتى وإن كان عدد المسلمين قليلاً، وزاد عدد المسلمين بشكل ملحوظ بعد قدوم المسلمين من كل مكان، فقد جاء مهاجرو الحبشة وجاء الأشعريون والدوسيون وغيرهم، بل وأسلم الكثير والكثير في العام السابع الهجري، وكان عاماً حافلاً بالدعوة والجهاد، وتوج هذا العام في آخره بتحقيق شيء فرح المسلمون به كثيراً، وهو دخول مكة المكرمة لأداء العمرة؛ لأن من بنود صلح الحديبية أن المسلمين يرجعون دون دخول مكة للعمرة في العام السادس الهجري، على أن يأتي المسلمون بعد عام، أي: في نهاية العام السابع الهجري ليدخلوا مكة معتمرين، ليس معهم إلا سلاح المسافر، ويخرج أهل مكة من مكة تماماً، ويتركون البلد الحرام للمسلمين مدة ثلاثة أيام متواصلة، وبالفعل مرت السنة كما رأينا وجاء شهر ذي القعدة من العام السابع الهجري، وأُعلن في المدينة المنورة عن العمرة العظيمة، وأمر الرسول عليه الصلاة والسلام ألا يتخلف عنها أحد شهد الحديبية، وستبدأ تفصيلات هامة لهذه العمرة المباركة، وفي الحقيقة تحتاج منا إلى وقفة مهمة جداً.(35/9)
عمرة القضاء وآثارها الإيجابية على المسلمين
لقد خرج في هذه العمرة المباركة ألفان من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم من غير النساء والصبيان، يعني: كل من شهد الحديبية خرج إلا من استشهد، وخرج معهم أيضاً آخرون، فالصحابة الذين كانوا في الحديبية هم ألف وأربعمائة، وفي هذا الوقت خرج ألفان، وخرجوا بالسلاح الكامل في موكب مهيب، ومع أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان متفقاً مع قريش أنه لا يدخل مكة إلا بسلاح المسافر فقط، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يأمن من غدر قريش، فخرج بالسلاح الكامل والعدة الكاملة، بالرماح وبالسهام والدروع وبكل شيء وكأنه مستعد لحرب، لكنه سيترك كل هذه الأشياء خارج مكة ليدخل مكة بسلاح المسافر فقط، وفاء لعهده صلى الله عليه وسلم، فجمع بين الأمرين: الأخذ بالأسباب والحماية لهؤلاء الخارجين إلى مكة المكرمة للعمرة، وفي نفس الوقت يدخل بعهده مع قريش إلى مكة بسلاح المسافر، وأحرم صلى الله عليه وسلم من ذي الحليفة (أبيار علي)، وظل يلبي من ذي الحليفة إلى أن وصل إلى مكة المكرمة، عشرة أيام تقريباً من التلبية المتواصلة، ووصل إلى مكة، وهذه اللحظة من أعظم لحظات السيرة النبوية؛ فهي لحظة مهيبة فعلاً، بعد سبع سنوات كاملة من الهجرة، وبعد أن ترك الرسول صلى الله عليه وسلم أحب البلاد إليه يعود الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى بلده مكة.
فالأيام تمر بحلوها ومرها، تمر بسعادتها وأحزانها، الأيام تمر دوماً: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
شتان بين حال المسلمين منذ سبع سنوات وحالهم الآن، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة منذ سبع سنوات مهاجراً يترقب ويستخفي بنفسه ويختبئ هنا تارة وهنا تارة، يخفي آثاره قدر ما يستطيع، واليوم يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة معلناً للجميع أنه داخل، وليس هذا الإعلان لأهل مكة فقط، بل لأهل الجزيرة جميعاً، بل لعله للعالم أجمع.
خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة منذ سبع سنوات هو وصاحبه الصديق وعامر بن فهيرة والدليل المشرك عبد الله بن أريقط، أربعة نفر لا يكاد يراهم أحد، والآن يعود الرسول عليه الصلاة والسلام بألفين من الرجال دون النساء والصبيان، في مظاهرة إيمانية عظيمة، وتلبية تقطع صمت الصحراء، تُعلن لكل الخلق أن: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، حقاً لا شريك لك، حقاً إن الحمد كله لله، وحقاً إن الملك كله لله، والدليل أن هذه العمرة التي نتحدث عنها قبل سبع سنوات منها يخرج أهل مكة جميعاً يبحثون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل بقعة ليقتلوه، والآن خرج أهل مكة جميعاً إلى جبال مكة وإلى أودية مكة يفسحون الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ليدخل مكة معتمراً ملبياً، رافعاً رأسه، محاطاً بكوكبة من المسلمين المسلحين بالسيوف في أعظم تشريفة رأتها مكة في كل تاريخها، اكتفى أهل مكة بالمراقبة له ولأصحابه وهم يؤدون شعائر العمرة على طريقة المسلمين.(35/10)
مظاهر قوة المسلمين في عمرة القضاء
هذا حدث من أعظم أحداث السيرة النبوية، وهذه العمرة تمهيد نفسي رائع لما سيحدث بعد ذلك بعام، عندما يدخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً، ولعل قضية فتح مكة تكون غير متوقعة عند كثير من الصحابة؛ لأن مكة أعظم مدن الجزيرة، بل أعظم مدن العالم، وقريش هي أعز قبيلة في العرب، فكون المسلمين سيأتون في جيش لاقتحام مكة، ويغزون قريشاً في عقر دارها هذا أمر بعيد جداً في تصور الكثيرين، لكن بعد هذه العمرة أصبح الوضع مختلفاً، رأى المسلمون أهل مكة يفسحون لهم الطريق دون مقاومة، وليس هذا فقط، بل إنهم يتركونهم ثلاثة أيام متواصلة في داخل مكة، يكتفون فقط بالمراقبة بحسرة، وهم لا يستطيعون فعل أي شيء، لا شك أن المسلمين لاحظوا الانبهار الذي كان عند القرشيين من رؤية قوة المسلمين؛ ولنا مع هذا الانبهار من أهل قريش وقفة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف أن هناك أناساً كثيرين لا ينبهرون إلا بالقوة، ولا يحترمون غيرهم إلا إذا وجدوه صلباً شديداً عزيزاً، وصدق عثمان بن عفان رضي الله عنه إذ يقول: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
فأهل مكة عند سماع الآيات الجليلة الباهرة للقرآن الكريم لم يرتدعوا، مع تمام علمهم أن القرآن معجز وأنه فوق طاقة البشر، وأنهم لا يستطيعون الإتيان بسورة من مثله ولو اجتمعوا لذلك، لم يرتدعوا بهذا القرآن العظيم، لكن على الناحية الأخرى وقفوا منبهرين تماماً أمام قوة المسلمين وجلد المسلمين، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرف هذا جيداً، وحرص تمام الحرص على إبراز قوة المسلمين قدر المستطاع صلى الله عليه وسلم، ومن ذلك مثلاً: أولاً: جاء عليه الصلاة والسلام بالسلاح الكامل من المدينة المنورة، لكنه أبقى السلاح خارج مكة مع سرية من الصحابة، وكانوا مائتي رجل، وكان عليهم محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وبعد أن انتهى صلى الله عليه وسلم ومن معه من العمرة تبادل هؤلاء الحراس مع مجموعة أخرى من المسلمين وأدوا العمرة كغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فالمسلمون جاءوا من المدينة إلى مكة بالسلاح؛ لأنهم يعرفون أن هناك عيوناً لقريش ترقب الموقف، فلما رأت قريش الرسول صلى الله عليه وسلم معه قوة السلاح وقوة جيوش غير معتمرة، أرسلوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر، وأخبروه أنه قد وعدهم أن يدخل مكة فقط بسلاح المسافر، فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنه عند وعده، وأنه سيترك السلاح خارج مكة، ولكنه لا يأمن على نفسه ولا على جيشه من غدر قريش؛ فلذلك أخذ بالأسباب صلى الله عليه وسلم، فأتى بعدة كاملة؛ ليلقي الرهبة في قلوب المشركين.
ثانياً: دخل الرسول عليه الصلاة والسلام مكة راكباً ناقته القصواء، والمسلمون حوله يشهرون سيوفهم لحمايته، تصور كون الرسول صلى الله عليه وسلم في وسط المسلمين وهم محيطون به كما يحيط السوار بالمعصم؛ حماية له من المشركين أو من غدر قريش.
إذاً: هذا منظر مهيب جداً.
ثالثاً: دخل المسلمون مكة وهم يلبون جميعاً في صوت واحد: لبيك اللهم لبيك، وأنا أريد منك أن تتصور أن ألفين من الرجال الأشداء يلبون ويرفعون أصواتهم بالتلبية وهم يدخلون مكة، أول مرة ترى مكة منظراً كهذا.
رابعاً: يتقدم صفوف المسلمين عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه وهو ينشد الشعر، نحن نستغرب ونقول: لماذا هذا الشعر في مثل هذا الموقف؟! لقد كان الشعر عند العرب وسيلة الإعلام الأولى، إذا قيل الشعر وقف الجميع ليستمع، وكان عبد الله بن رواحة يعرف جيداً هذا الموقف، واختار من شعره ما يناسب إظهار القوة، ومما قاله في شعره ما جاء في سنن الترمذي والنسائي عن أنس رضي الله عنه وأرضاه، والحديث حسن صحيح قال: خلوا بني الكفار عن سبيله اليوم نضربكم على تنزيله ضرباً يزيل الهام عن مقيله ويذهل الخليل عن خليله إلى آخر الأبيات، والمضمون لهذا الشعر أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه يفسح الطريق لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعلنها واضحة صريحة أنه سيضرب كل من سوّلت له نفسه الغدر به صلى الله عليه وسلم.
فـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه لم يستوعب هذا الذي فعله عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، فقال له: (وفي حرم الله تقول الشعر؟) لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كان موافقاً لفعل عبد الله بن رواحة؛ لأنه مدرك لعقلية العرب عامة ولعقلية قريش خاصة، فقال له: (خل عنه يا عمر، فلهي أسرع فيهم من نضح النبل) يعني: هذه الأبيات أسرع في قريش من رمي النبل والسهام، فكان هذا الأمر فعلاً من أقوى الأسلحة التي وجهت لقريش.
خامساً: صلى الرسول عليه الصلاة والسلام بالمسلمين الصلوات الخمس في الأيام الثلاثة بصورة جماعية في الحرم، وتصور صلاة ألفين من الرجال غير النساء والصبيان بطريقة واحدة بتكبير وتحميد، وبقيادة منظمة ل(35/11)
قصة إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة
لقد حدث شيء مهم في شهر صفر سنة ثمان، يحتاج إلى وقفة كبيرة ومهمة، وهو من أعظم ثمار صلح الحديبية وعمرة القضاء، وهذا الحدث يعتبر نقطة تحول ليست في تاريخ مكة المكرمة ولا في تاريخ الجزيرة العربية ولا في تاريخ العالم في ذلك الوقت، ولكن في تاريخ الإنسانية وإلى يوم القيامة، فأنت عندما تتدبر في هذا الحدث وآثار هذا الحدث على الأرض بصفة عامة في عمق الزمان والمكان تجد له آثاراً لا تنتهي، هذا الحدث العظيم هو إسلام خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم أجمعين، ثلاثة من عمالقة مكة، بل من عمالقة الأرض بصفة عامة، هؤلاء الثلاثة لم يسلموا فقط في شهر صفر سنة ثمان، بل أسلموا في يوم واحد من شهر صفر سنة ثمان، فهذا نصر كبير جداً للإسلام والمسلمين، فقد عبّر صلى الله عليه وسلم عن إسلامهم بقوله: (إن مكة قد ألقت إلينا أفلاذ كبدها) وفي رواية: (أفلاذ أكبادها) يعني: خلاصة ما في مكة هم هؤلاء الثلاثة رضي الله عنهم وأرضاهم.
انظر إلى الآثار التي حدثت في الأرض على يد خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وعلى يد عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، من الآثار أنها فُتحت العراق، وفُتحت فارس، وفُتحت بلاد ما وراء النهر، وفُتحت أرمينية، وفُتحت بلاد كثيرة جداً في آسيا، وفُتحت الشام، كل ذلك على يد البطل خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، وكذلك فُتحت فلسطين وفُتحت مصر على يد عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، فكم من المسلمين الذين في هذه البلاد؟ وكم من الأعمال الصالحة؟ وكم من الجهاد في سبيل الله؟ وكم من الدعوة إلى الله عز وجل؟ وكم من العلم؟ وكم الإضافات الإنسانية؟ كل هؤلاء دخلوا بجهاد هذين البطلين العظيمين: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص رضي الله عنهما، فهو إنجاز هائل للمسلمين في العام الثامن من الهجرة، فإضافة هذين الاثنين في الدولة الإسلامية من أقوى الإضافات في تاريخ الإسلام، وأعطى الرسول عليه الصلاة والسلام هذين الرجلين أهمية خاصة جداً في أحاديثه وفي معاملاته صلى الله عليه وسلم، حتى إنه أعطى خالد بن الوليد رضي الله عنه لقباً ما أعطاه لأحد قبله ولا بعده، وسماه سيف الله المسلول، وقال عن عمرو بن العاص كلمات ما قالها لأحد غيره رضي الله عنه، قال عنه: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) والحديث صحيح كما رواه الإمام أحمد والترمذي رحمهما الله عن عقبة بن عامر رضي الله عنه وأرضاه، وحسّن هذا الحديث الألباني رحمه الله.
فقوله: (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) كلمة كبيرة جداً في حق هذا البطل العظيم، ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه الترمذي عن طلحة رضي الله عنه وصححه الألباني، يقول: (عمرو بن العاص من صالحي قريش) وهذا الكلام فيه أبلغ الرد على كل من يطعن في هذين الصحابيين الجليلين العظيمين اللذين فتحا بلاداً شتى، لا أقول: دخل مئات الآلاف في الإسلام على يديهما فقط، وإنما دخل الملايين من البشر في زمانهم وإلى الآن، فكل المسلمين في فلسطين وفي العراق ومصر والشام، كل هؤلاء يدينون بالفضل لهذين البطلين.
هذا أمر خارج عن التصور، ويعتبر من أعظم أحداث التاريخ الإسلامي، لا بد أن ندرس إسلام هذين البطلين، لا بد أن نفهم لماذا أسلما بعد سنوات طويلة جداً من الصد والبُعد عن دين الله عز وجل؟ فإسلام هذين البطلين وغيرهما يحتاج منا إلى وقفة وتحليل، فالذي دفع هؤلاء إلى الإسلام هو الانبهار بقوة الإسلام، والانبهار بعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم كقائد، فهؤلاء جميعاً من القادة العسكريين، ومن الفرسان المشهورين في بلاد العرب، لكنهم وجدوا أنفسهم أمام قائد بارع عظيم من القواد لم يروا مثله قبل ذلك، حتى في موقعة أحد فشل سيدنا خالد في إحباط الخطة التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن خالف الرماة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد كانت الخطة في تمام الإحكام، وكان سيدنا خالد يدرس هذا الكلام جيداً، ويعرف أنه لا يستطيع الغلبة على الرسول عليه الصلاة والسلام، ولولا مخالفة الرماة لما استطاع أن يأتي المسلمين من خلفهم، ولهرب مع من يهرب، فـ خالد قد فشل أكثر من مرة أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، مما جعله ينبهر تمام الانبهار بقوة وبأس وتخطيط الرسول صلى الله عليه وسلم، وفوق ذلك ينبهر بأخلاق الرسول عليه الصلاة والسلام كداعية وكإنسان يعيش وسط الناس بمبادئ وقيم معينة لا يخالفها، وعادة العسكريين أنهم يدوسون على كل القيم والأخلاق، ويحققون الأهداف بغض ا(35/12)
كيفية إسلام خالد بن الوليد
لقد وقف خالد بن الوليد رضي الله عنه في جمع من المشركين بعد خروج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة المكرمة في عمرة القضاء، في أواخر العام السابع من الهجرة، وقف وقال للجميع كلاماً عجيباً غريباً يُستغرب جداً من مثله في هذا الموقف، قال لهم: لقد استبان لكل ذي عقل أن محمداً ليس بساحر ولا شاعر، وأن كلامه من كلام رب العالمين، وقف هذا الموقف مع أنه كان قد سمع كثيراً من القرآن الكريم وكثيراً من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام قبل ذلك، لكن الآن جوبه بقوة وعزّة الإسلام فانبهر رضي الله عنه فقام هذا المقام وقال هذه الكلمات وهو من هو، وهو من أعظم زعماء مكة مطلقاً، وكان قائد الفرسان في معارك قريش، ولعل هذا هو الذي أخّر إسلامه إلى هذا الوقت، فعندما أسلم كان عمره سبعاً وأربعين سنة، ففي هذه الفترة كان قائداً في قريش، فكان يخشى على مكانته إذا انضم إلى الإسلام، وكانت له مكانة مرموقة جداً في الجيش المكي، وله مكانة مرموقة في وسط العرب، فخاف على هذه المكانة أن تضيع، وبالإضافة إلى أن أباه الوليد بن المغيرة كان من أشد أعداء الدعوة الإسلامية، لكن خالد بن الوليد في هذا الوقت تغير وانبهر بقوة الإسلام، وانبهر بالرسول عليه الصلاة والسلام أكثر وأكثر، وهذا الذي جعله يقول هذه الكلمات التي تعبر عن رغبته في دخول الإسلام، ثم علّق على هذه الكلمات وقال: فحق لكل ذي لب أن يتبعه.
ولما علم أبو سفيان ما قال خالد بن الوليد ناداه حتى يتأكد من أنه قال هذا الكلام أم لم يقله، فأكد له خالد صحة ما قال وكرر نفس الكلمات أمام أبي سفيان، فاندفع أبو سفيان إلى خالد بن الوليد يريد أن يضربه، فحجز بينهما عكرمة بن أبي جهل، وكان عكرمة في ذلك الوقت لا يزال مشركاً، وكان من أكثر الرجال قرباً إلى قلب خالد بن الوليد، وكانت بينهما صداقة قديمة جداً، فحجز عكرمة بين أبي سفيان وبين خالد وقال كلمات عجيبة هو الآخر لـ أبي سفيان قال: مهلاً يا أبا سفيان، فوالله لقد خفت للذي خفت أن أقول مثل ما قال خالد وأكون على دينه.
يعني: كما أنك تخاف من أن كلام خالد يؤثر في الناس، فأنا أيضاً قد خفت من هذا الكلام، بل إنني خفت أن أكون على دين محمد بعد هذا الذي رأيت في عمرة القضاء، ثم قال له: أنتم تقتلون خالداً على رأي رآه، وهذه قريش كلها تبايعت عليه؟ والله لقد خفت ألا يحول الحول حتى يتبعه أهل مكة كلهم.
أي: ليس خالد وحده منبهراً بمحمد وأصحابه، وهذا كلام صريح جداً، لكن كما قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل:14]، الجميع يعلم أن هذا الدين حق، وأن هذا الرسول حق؛ فلذلك كسر بعضهم كبرياءه واتبع الرسول عليه الصلاة والسلام، وبعضهم ظل في كبريائه وفي غيه إلى أن مات على ذلك، والحمد لله أن كل هؤلاء الذين دخلوا في الحوار أسلموا بعد هذا، لكن تأخر إسلام بعضهم عن بعض.
إذاً: هذا كان موقف خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، ولا ننسى أن خالد بن الوليد في يوم الحديبية قال كلمة عظيمة في حق المسلمين، قال: إن القوم ممنوعون، وذلك عندما نزلت صلاة الخوف كما ذكرنا ذلك في درس الحديبية، فـ خالد بن الوليد يعلم أن القوم ممنوعون من الله عز وجل، وأن الله عز وجل يحيطهم برعاية وعناية خاصة جداً، وهذا كله كان له أثر كبير جداً في قلب خالد بن الوليد.
لكن هناك شيء آخر أيضاً أثر في خالد كثيراً، وهو أن خالد بن الوليد عندما رأى جيش المسلمين داخل مكة المكرمة للعمرة في العام السابع من الهجرة، لم يستطع أن يحتمل هذا المنظر في بدايته، وخرج من مكة وتركها، وكان له أخ اسمه الوليد بن الوليد رضي الله عنه وهو من الصحابة الذين دخلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة للعمرة، فعندما دخل بحث عن أخيه خالد بن الوليد ليخبره عن أمر الإسلام فلم يجده، فكتب له كتاباً قال له فيه: بسم الله الرحمن الرحيم.
أما بعد: فإني لم أر أعجب من ذهاب رأيك عن الإسلام، وعقلك عقلك، ومثل الإسلام جهله أحد؟ ثم كتب كلاماً عجيباً بعد ذلك، قال: وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك فهذه الكلمات كانت من أبلغ الكلمات أثراً في إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه.
قال له أخوه الوليد بن الوليد: (وقد سألني رسول الله صلى الله عليه وسلم عنك قال: أين خالد؟ فقلت: يأتي الله به، فقال: ما مثله جهل الإسلام؟).
أي: كيف لـ خالد(35/13)
كيفية إسلام عمرو بن العاص
لقد ظل عمرو بن العاص فترة طويلة جداً من حياته يرفض فكرة الإسلام، فـ عمرو بن العاص عندما أسلم كان عمره سبعاً وخمسين سنة، بقي فترة طويلة جداً من حياته يحارب الإسلام والمسلمين، فقد ظل أكثر من عشرين سنة من عمره وهو يرفض فكرة الإسلام، فما الذي غيّر فكر عمرو بن العاص؟ كانت عند عمرو بن العاص موانع كثيرة جداً، فقد كان له قيمة كبيرة في قريش كـ خالد بن الوليد، وكان أبوه العاص بن وائل من أشد أعداء الدعوة الإسلامية، فقد تربى في بيت يكره الإسلام والمسلمين، فهذا الذي جعله يتأخر هذه الفترة الطويلة من الزمن، وانظر إلى بداية التغير في فكر عمرو بن العاص، يقول: لما انصرفنا مع الأحزاب عن الخندق جمعت رجالاً من قريش كانوا يرون رأيي ويسمعون مني، فقلت لهم: تعلمون -والله- أني أرى أمر محمد يعلو الأمور علواً عظيماً، فبدأ عمرو بن العاص وهو من دهاة العرب، فكان يرقب بعينه أن الأيام القادمة للمسلمين وعلى قريش، فقال: وإني قد رأيت أمراً فما ترون فيه؟ قالوا: وماذا رأيت؟ قال: رأيت أن نلحق بالنجاشي، وقد كان النجاشي صديقاً حميماً لـ عمرو بن العاص، فيقول: رأيت أن نلحق بالنجاشي فنكون عنده، فإن ظهر محمد على قومنا كنا عند النجاشي.
فإنا أن نكون تحت يديه أحب إلينا من أن نكون تحت يدي محمد.
انظروا إلى أي مدى بلغت الكراهية في قلبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: لأن يحكمهم النجاشي خير من أن يحكمهم محمد صلى الله عليه وسلم، مع أن محمداً صلى الله عليه وسلم قرشي، ومن نفس القبيلة التي منها عمرو بن العاص، وقد كان عمرو بن العاص سهمياً قرشياً، وكان الرسول عليه الصلاة والسلام هاشمياً قرشياً، لكن عمرو بن العاص يقبل بحكم النجاشي ولا يقبل بحكم بمحمد صلى الله عليه وسلم! ثم يقول: وإن ظهر قومنا فنحن من قد عرفوا، فلن يأتينا منهم إلا كل خير، أي: أنه لو انتصرت قريش على المسلمين فسيعود بعد ذلك عمرو بن العاص وله من المكانة المحفوظة ما له في قريش.
وهذا موقف سلبي؛ لأنه يترك الحرب تثور بين قريش وبين المسلمين، فإن انتصرت قريش عاد إليها وإن لم تنتصر بقي هناك عند النجاشي، هذا موقف سلبي من عمرو بن العاص في ذلك الوقت، وسبحان الذي أعزه بعد ذلك بالإسلام.
المهم أن أصحابه وافقوه على هذا الرأي، وقالوا: إن هذا هو الرأي، قال: ثم قلت: فاجمعوا لنا ما نهديه له، وكان من أكثر ما يحبه النجاشي هو الجلود، ولذلك جمعوا له كمية كبيرة من الجلود وأخذوها وسافروا إلى النجاشي، وكما يقول عمرو بن العاص: فوالله إنا لعنده إذا جاءه عمرو بن أمية رضي الله عنه الصحابي الجليل أرسله الرسول عليه الصلاة والسلام إلى النجاشي ليأتي بـ جعفر بن أبي طالب وأصحابه بعد صلح الحديبية، فعندما رأى عمرو بن العاص عمرو بن أمية عند النجاشي فكّر في شيء، وهو أن يطلب قتل عمرو بن أمية، فإن قتله أصبحت له يد كبيرة عند قريش، فدخل عمرو بن العاص على النجاشي فقال له: أيها الملك! إني قد رأيت رجلاً خرج من عندك وهو رسول رجل عدو لنا، فأعطنيه لأقتله، فإنه قد أصاب من أشرافنا وخيارنا، لكن رد فعل النجاشي كان خارج تصورات عمرو بن العاص تماماً، لقد غضب النجاشي غضباً شديداً، حتى قال عمرو بن العاص: لو انشقت لي الأرض لدخلت فيها فرقاً منه، ثم قلت له: أيها الملك! والله لو ظننت أنك تكره هذا ما سألتك، وكان النجاشي قد أسلم وأخفى إسلامه، لكن وجد فرصة لأن يدعو عمرو بن العاص، فهو يخاف أن يدعو بدعوته في داخل الحبشة حتى لا يخلعه قومه من كرسيه، لكن عمرو بن العاص صاحبه وبينهما علاقة قديمة جداً، فأراد أن يصل إليه بالخير الذي وصل إليه قبل ذلك، النجاشي، فقال النجاشي: أتسألني أن أعطيك رسول رجل يأتيه الناموس الأكبر الذي كان يأتي موسى لقتله؟ ثم قال عمرو بن العاص: قلت: أيها الملك! أكذلك هو؟ قال: ويحك يا عمرو أطعني واتبعه، فإنه والله لعلى الحق، وليظهرن على من خالفه كما ظهر موسى على فرعون وجنوده، وفجأة ألقى الله عز وجل في قلب عمرو بن العاص الإسلام.
وهذه تراكمات كثيرة، فهو منبهر كما ذكرنا قبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم، منبهر بكامل حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن تنازعه نفسه ألا يؤمن؛ بسبب العادات والتقاليد، ومعاداة أبيه للرسول عليه الصلاة والسلام، فهذه أمور كثيرة جداً كانت مانعة له عن الإسراع إلى الإسلام، لكن فجأة اكتشف الحق أمام عينيه، فقال للنجاشي: أفتبايعني له على الإسلام؟ قال النجاشي: نعم، فبسط يده فبايعته على الإسلام، أي: أن إسلام عمرو ب(35/14)
كيفية إسلام عثمان بن طلحة
بعد أن تحدثنا عن عمرو بن العاص وعن خالد بن الوليد سنتحدث عن عثمان بن طلحة، فـ عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه من بني عبد الدار حامل مفتاح الكعبة، وإسلام عثمان بن طلحة يعتبر إضافة سياسية في منتهى القوة للدولة الإسلامية؛ فهؤلاء هم عمالقة مكة بالفعل، وعظماء مكة: خالد بن الوليد بن المغيرة، وعمرو بن العاص بن وائل، وعثمان بن طلحة العبدري رضي الله عنهم أجمعين، هؤلاء الثلاثة من أعظم الفرسان في تاريخ مكة جميعاً، فكان هذا هو الحدث الهائل الذي حدث في صفر سنة ثمان، وهو من أعظم آثار الحديبية وعمرة القضاء مطلقاً، وآثار هذا الحدث ما زلنا نجنيها إلى هذه اللحظة، وسنظل نجني في هذه الآثار إلى يوم القيامة، فهذا الحدث هائل لن تدركوا عظمته إلا بدراسة الفتوح الإسلامية، ورؤية الآثار العظيمة التي تركها هؤلاء العمالقة رضي الله عنهم وأرضاهم للإسلام والمسلمين.
في الدرس القادم -إن شاء الله- سوف نتعرف على بداية إسلام هؤلاء العمالقة الثلاثة، وما هو دورهم الفعّال المباشر في خط سير الدولة الإسلامية؟ وما هي أعظم المهمات التي قام بها كل من هؤلاء الثلاثة في تاريخ الإسلام وفي تاريخ الدولة الإسلامية؟ نسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(35/15)
سلسلة السيرة النبوية_نصر مؤتة
بعد التأمل الدقيق لما حصل في معركة مؤتة يجد المؤمن مدى معية الله عز وجل لعباده المؤمنين، ففي هذه المعركة غير المتكافئة يواجه ثلاثة آلاف من المسلمين مائتي ألف من الرومان ومن نصارى العرب، ومع ذلك يكون النصر حليف المسلمين، وهذا يدلنا دلالة واضحة على أن الله عز وجل ناصر دينه وعباده الصالحين، وأن النصر لا يخضع للقوة المادية، فعلى المجاهدين أن يبذلوا جهدهم ويصدقوا مع ربهم وسيكون النصر حليفهم.(36/1)
إرهاصات غزوة مؤتة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثامن من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
وضح لنا في الدرس السابق أن الدولة الإسلامية في العام السابع من الهجرة كانت تسير من ارتفاع إلى ارتفاع، ومن مجد إلى مجد، فمن فتح خيبر إلى انتصارات متتالية على غطفان، إلى عمرة القضاء بكل أبعادها السياسية والدعوية، إلى إسلام أبطال مكة الثلاثة: خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة رضي الله عنهم أجمعين.
هكذا كانت الدولة الإسلامية، وكان الوضع يسير في تقدم ملموس واضح لكل الناس، لكن هذا النمو المتزايد لفت أنظار الكثيرين ممن لم تكن لهم علاقة مباشرة بالدولة الإسلامية، فأحسوا بخطر قيام هذه الدولة الفتية في المدينة المنورة، ومن ثم بدءوا في التحرش بالدولة الإسلامية، وتفاقم الأمر حتى وصل إلى إراقة دماء مسلمة.
هذه المشاكل في مجموعها كانت تأتي من شمال الجزيرة العربية، وشمال الجزيرة العربية كان موطناً لعدة قبائل كبرى من قبائل العرب، ومن أشهر هذه القبائل: لخم، وجذام، وبلقين، وبهراء، وبلى، وغسان، وقضاعة، وغيرها من القبائل، وكان الكثير من هذه القبائل يدين بالنصرانية، ويوالي الدولة الرومانية القريبة من هذه الأماكن، فالدولة الرومانية كانت تحتل بلاد الشام، ولها هيمنة على هذه المنطقة بكاملها، وزعماء هذه القبائل على عظمها كانوا عبارة عن مجرد عمال لـ هرقل على بلادهم، كعادة الدولة الصغرى في التعامل مع الدولة العالمية العملاقة.
ولما بدأت الدولة الإسلامية في الظهور، وبخاصة بعد غزوة الأحزاب، بدأت هذه المنطقة الشمالية في التحرش بالدولة الإسلامية.
عندما نقوم بمراجعة سريعة لتاريخ هذه المنطقة، نجد أن الأمور تتصاعد وتنذر بصدام كبير بين قبائل المنطقة الشمالية من الجزيرة العربية وبين الرسول عليه الصلاة والسلام في خلال السنتين السابقتين سنة ست وسبع من الهجرة، وقد ذكرنا أنه في شهر جمادى الآخرة سنة ست اعترضت قبيلة جذام دحية الكلبي رضي الله عنه وأرضاه، وأنهم سلبوه كل ما كان معه من هدايا موجهة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا سبباً في إرسال سرية زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه إلى منطقة حسمى، وتكلمنا عليها من قبل، وكانت سرية ضخمة عددها خمسمائة رجل، وهذه السرية هزت هذه المناطق وحققت نجاحاً كبيراً للمسلمين.
وأيضاً مر بنا رد هرقل لفكرة الإسلام مع إيمانه الجازم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أنه ضن بملكه وآثر أن يكون ملكاً على أن يكون مؤمناً.
وأيضاً مر بنا موقف الحارث بن أبي شمر زعيم دمشق، وعزم هذا الرجل على تجهيز الجيوش لغزو المدينة لولا أن هرقل منعه كما ذكرنا.
كانت هناك حوادث كثيرة تنبئ عن قرب الصدام بين المسلمين وبين هذه المنطقة الشمالية.
أيضاً كانت هناك أحداث جديدة، فقد قامت قبيلة قضاعة في ربيع الأول سنة ثمان باغتيال مجموعة من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وعددهم خمسة عشر رجلاً، وكان على رأسهم كعب بن عمير الأنصاري أو عمرو بن كعب الغفاري رضي الله عنهم أجمعين.
اعترضت قبيلة قضاعة طريقهم وقامت بقتلهم جميعاً إلا رجلاً واحداً فقط، وهذه السرية التي خرجت للدعوة إلى الله عز وجل تعرف بسرية ذات أطلاح، وقد ذكرنا أن قبيلة قضاعة لم يكن لها علاقة سابقة بالمسلمين فاعتدت على مجموعة من رعايا الدولة الإسلامية.
ثم تفاقم الأمر جداً عندما أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام رسالة إلى عظيم بصرى بالأردن يدعوه فيها إلى الإسلام، وحامل الرسالة كان الحارث بن عمير رضي الله عنه، وهو في الطريق اعترض طريقه شرحبيل بن عمرو الغساني، وهو عامل هرقل على منطقة البلقاء أيضاً في الأردن، وقيد الحارث بن عمير ثم ضرب عنقه.
وقتل الرسل جريمة شنيعة؛ لأن الأعراف كانت تقضي بعدم قتل الرسل، وكان هذا تجاوزاً خطيراً جداً من هذه القبائل، وكما ذكرنا أن معظم هذه القبائل كان يدين بالنصرانية ويتبع الدولة الرومانية.
بعد هذا الحدث زاد الأمر سوءاً، وبدأت الدولة الرومانية ونصارى الشام يتعقبون كل من أسلم ويقتلونه، حتى وصل الأمر إلى قتل والي معان في الأردن؛ لأنه كان قد أسلم، فقتلوه لإسلامه.
إزاء هذه الأوضاع المتردية كان لا بد للدولة الإسلامية من وقفة جادة للدفاع عن هيبة الدولة الإسلامية والثأر لكرامتها.
وقفة لتأمين حركة الدعاة المسلمين لهذه المناطق الشمالية من الجزيرة.
ووقفة لتأمين خط سير التجار المسل(36/2)
الإجراءات التي اتخذها الرسول صلى الله عليه وسلم بين يدي غزوة مؤتة
قام الرسول صلى الله عليه وسلم بعدة خطوات مهمة لمواجهة قبائل الشمال المتحالفة مع الرومان: أولاً: كون أكبر جيش إسلامي خرج من المدينة حتى تلك اللحظة، وعدد هذا الجيش ثلاثة آلاف مقاتل، فهو أكبر رقم يحارب في التاريخ الإسلامي إلى تلك اللحظة.
ثانياً: ولى على الجيش زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وزيد بن حارثة كان قد قضى فترة تدريبية هامة جداً في السنة السادسة من الهجرة، فقد قاد خمس سرايا متتالية، وكان زيد بن حارثة قد جاء إلى هذه المنطقة قبل ذلك، جاء إلى شمال الجزيرة العربية في سرية حسمى سنة ست، وكانت من السرايا الضخمة الكبيرة، فهو أعلم بهذه المنطقة من غيره من الصحابة.
ثالثاً: لم يجعل الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الغزوة أميراً واحداً، بل عين ثلاثة من الأمراء، إن قتل واحد تولى الآخر، فقال: (إن قتل زيد فـ جعفر بن أبي طالب، وإن قتل جعفر فـ عبد الله بن رواحة)، وواضح من هذه التولية المتتالية للأمراء أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتوقع حرباً ضروساً في هذه المنطقة، حرباً يقتل فيها الأمراء الثلاثة، وهي المرة الأولى والأخيرة في حياته صلى الله عليه وسلم التي يولي فيها ثلاثة من الأمراء على جيش واحد، ولعل ذلك كان بوحي من الله عز وجل.
رابعاً: أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم مع الجيش البطل الإسلامي الفذ خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولم يكن مر على إسلام خالد إلا ثلاثة أشهر فقط، ولعل حداثة إسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه هي التي منعت الرسول عليه الصلاة والسلام من تولية خالد على ذلك الجيش؛ لأنه لا يعرف جنود المسلمين ولا يعرف طاقاتهم، كما أنه لم يختبر بعد مع الصف المؤمن، فهذه أول مهمة يختبر فيها خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه بعد أن أسلم.
ومهمة قيادة ثلاثة آلاف مسلم مهمة كبيرة، تحتاج إلى رجل له تاريخ مأمون مع المسلمين، وعمر خالد في الإسلام ثلاثة أشهر فقط، وعمره في الجاهلية أكثر من عشرين سنة، فلا بد من اختبار.
تجهز الجيش الإسلامي بهذه الصورة القوية، ومع أن المهمة صعبة والطريق طويلة جداً، أكثر من ألف كيلو من المدينة المنورة، والطريق في صحراء قاحلة، والخروج كان في حر شديد؛ لأن خروج المسلمين كان في جمادى الأولى سنة ثمان وهذا يوافق أغسطس سنة (629) م، يعني: في شدة الحر.
مع كل هذه المصاعب إلا أن معنويات الجيش الإسلامي كانت مرتفعة جداً، وخاصة أن الرسول عليه الصلاة والسلام خرج بنفسه لتوديع الجيش، واستمر يمشي معهم حتى بلغ ثنية الوداع.(36/3)
مهمة الجيش الإسلامي الخارج إلى مؤتة
حرص الرسول عليه الصلاة والسلام أن تكون مهمة هذا الجيش واضحة تمام الوضوح، فالمسافات بين المدينة وبين الأردن كبيرة جداً، ولم تكن هناك فرصة للاستشارة أو أخذ الرأي، من أجل هذا حدد الرسول صلى الله عليه وسلم مهمة الجيش في أمرين: الأمر الأول: دعوة هذه القبائل إلى الإسلام كما ذكرنا أكثر من مرة، إسلامهم أحب إلينا من أموالهم، أحب إلينا من غنائمهم، فكان دائماً يقدم الدعوة صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: قتال شرحبيل بن عمرو الغساني ومن عاونه؛ لأنهم قتلوا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحارث بن عمير رضي الله عنه، ومع أن القتال كان لرد الهيبة والاعتبار، وانتقاماً لكرامة الدولة الإسلامية، وثأراً للحارث بن عمير رضي الله عنه، وتأديباً لـ شرحبيل بن عمرو وقومه، مع كل هذا إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام حرص على ألا تخرج الحرب الإسلامية عن ضوابطها الشرعية، وحرص أن يلتزم المسلمون تماماً بأخلاقهم حتى في أشد حروبهم.
هذه صورة رائعة حضارية من أرقى الصور في التاريخ، قال لهم صلى الله عليه وسلم عند خروجهم من المدينة كما روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه، قال لهم: (انطلقوا باسم الله وبالله، وعلى ملة رسول الله، ولا تقتلوا شيخاً فانياً، ولا طفلاً، ولا صغيراً، ولا امرأة، ولا تغلوا، وضموا غنائمكم، وأصلحوا وأحسنوا إن الله يحب المحسنين).
وفي رواية مسلم زاد: (ولا تمثلوا) أي: بالجثث بعد القتل.
هذه هي الحرب في الإسلام، صورة راقية جداً تحتاج إلى تفصيل، لكن لا يتسع المجال لهذا الآن، لكن كل هذه النصائح وجهت لجيش خرج للانتقام لكرامة الأمة الإسلامية.
المهم في هذا المقام أن نذكر: أن هذا الجيش الإسلامي لم يكن خارجاً لحرب الدولة الرومانية؛ لأن إسلام الدولة الرومانية كان متوقعاً، أو على الأقل أن تبقى على الحياد؛ وذلك للاستقبال الطيب والحسن الذي قابل به هرقل دحية الكلبي رضي الله عنه، وللقناعة التي أظهرها هرقل برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان من المتوقع أن تتغير قلوبهم للإسلام، وخاصة أنهم أهل كتاب، ومن النصارى، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث هذا الجيش لحرب شرحبيل بن عمرو الغساني الذي قتل رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، والجيش الإسلامي الذي خرج باتجاه شمال الجزيرة العربية يعتبر من الجيوش الكبيرة في عرف ذلك الزمن، وخاصة أن القبائل العربية لم يكن من عادتها أن تتوحد في حروبها، وليس من المتوقع أن يلقى هذا الجيش الإسلامي جيوشاً أكبر منه بكثير، وهذه الخلفية لا بد أن نضعها في أذهاننا قبل أن نحلل موقعة مؤتة، حتى نعلم أن هذا الجيش لم يلق به إلى التهلكة أبداً، إنما كان بحسابات ذلك العصر من الجيوش القوية الضخمة.
وأيضاً من الخلفيات المهمة جداً لهذا الجيش: أنه كان جيشاً أخروياً بمعنى الكلمة، يعني: أن هذا الجيش بكامله كان من المؤمنين الصادقين الراغبين حقيقة في الموت في سبيل الله، المشتاقين حقيقة للشهادة في سبيل الله، الطامعين في الجنة، الخائفين من النار، كان جيشاً رائعاً بمعنى الكلمة.
عبر عن ذلك أحد أفراد هذا الجيش عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، لما خرج الجيش من المدينة المنورة بكى هذا القائد الجليل رضي الله عنه بكاءً شديداً، فظن الناس أنه خائف من الموت، فقالوا له: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا ولا صبابة بكم، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار.
يعني: أنا لست خائفاً من الموت، ولا خائفاً من البعد عنكم، لكن أنا خائف أن يكون مصيري النار، يقول: ولكني سمعت سمع الرسول عليه الصلاة والسلام يقرأ قول الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:71]، يقول عبد الله بن رواحة: فلست أدري كيف لي بالصدور بعد الورود.
هذا يعبر عن مدى خشية وتقوى عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، مع جهاده وبذله بداية من بيعة العقبة الثانية، فقد كان من الخزرج في بيعة العقبة الثانية، ومروراً بكل المشاهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان من أهل بدر، ومن الثابتين في أحد، ومن أهل الأحزاب، ومن أهل بيعة الرضوان، وهو من الذين عاشوا حياتهم يجاهدون بالسنان واللسان، فسيفه مرفوع في كل المعارك، ولسانه ينزل بالقوارع الشعرية على رءوس أعداء الإسلام، ورأينا قبل هذا أنه كان يقول الشعر بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام في عمرة القضاء في داخل الحرم، فتاريخه طويل جداً، وتاريخه مجيد فعلاً، ومع ذلك يخشى أن يسقط في النار إذا مر على الصراط.
فسماعه لهذه الآية العظيمة دفعه إلى أن يقول هذه الكلمة الإيمانية العظيمة: لست أدري كيف لي بالصدور(36/4)
كثرة عدد الجيش الروماني ومن معه وموقف الجيش الإسلامي من ذلك
وصل الجيش الإسلامي الكبير إلى منطقة معان بالأردن في رحلة طويلة شاقة، ووصل هناك في جمادى الأولى سنة ثمان، وعند وصول الجيش الإسلامي وجد هناك في انتظاره مفاجأة غير متوقعة، وجد أن الدولة الرومانية قد ألقت بثقلها في هذا الصراع، فقد أعدت جيشاً هائلاً عدده مائة ألف مقاتل، وأعد العرب النصارى الموالين للرومان مائة ألف مقاتل أيضاً، فصار مجموع جيوش العدو مائتي ألف مقاتل، هذا رقم مهول لا يتصور، وخاصة أن الجيش الإسلامي ثلاثة آلاف مقاتل فقط، فماذا سيفعل أمام كل هذه الجيوش الجرارة؟ وتجمع الرومان بهذه الأعداد الهائلة أمر عجيب حقاً، ليس العجيب في أن الرومان كثرة، نحن تعودنا على هذه الأرقام في حروب الرومان، لكن العجب أن يجمع الرومان هذا العدد المهول لحرب ثلاثة آلاف مقاتل فقط.
ومن الممكن أنهم لم يدركوا عدد المسلمين فأعدوا عدداً يكافئ أي إعداد للمسلمين.
أو أنهم أدركوا فعلاً عدد المسلمين وأرادوا استئصال المسلمين تماماً؛ حتى لا تقوم لهم قائمة، لا مجرد هزيمة، بل استئصال.
أو لكون هرقل يدرك أنه يحارب نبياً فأراد أن يعد قوة خارقة لعله يهزم هذا الجيش المؤمن.
المهم أن الدولة الرومانية جهزت مائة ألف واستعانت بمائة ألف من العرب النصارى؛ لتحارب ثلاثة آلاف مقاتل مسلم، وإذا كان هذا التجمع غريباً من الرومان فهو كذلك أيضاً غريب من العرب؛ لأن العرب لم يكن من عادتهم التجمع والاتحاد، بل كان يحارب بعضهم بعضاً، لم تجمعهم قضية مطلقة من قبل ومع ذلك جمعوا مائة ألف في موقعة واحدة.
هذا الموقف له تفسير واحد، وهذا التفسير هو إشارة هرقل لهم بالنهوض معهم؛ لأن الكثير من القبائل والدول العربية لا تتحرك عند داعي القتال إلا إذا أخذت إذناً من القائد الأعظم للدولة الأولى في العالم، عندها يهب الجميع لتنفيذ الأمر كأنهم إلى نصب يوفضون.
لقد تجمع في أرض معان مائتا ألف مقاتل غالبهم من النصارى سواء من الرومان أو من العرب ينتظرون قدوم الجيش الإسلامي من المدينة المنورة، وإزاء هذا الوضع الخطير عقد المسلمون مجلساً استشارياً، مثل عادتهم دائماً، وبدءوا في تبادل الرأي، وخرجوا بثلاثة آراء: الرأي الأول: أن يرسل المسلمون رسالة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة المنورة يخبرونه بأن الأعداد ضخمة وهائلة، إما أن يمدهم بمدد، وإما أن يأمرهم بقتال، أو يأمرهم بانسحاب، لكن هذا الرأي لم يكن واقعياً؛ لأن المسافة بين معان وبين المدينة لا تقطع إلا في أسبوعين على الأقل ذهاباً فقط، معنى هذا: أن الجيش سينتظر شهراً كاملاً قبل أخذ القرار، وهذا مستحيل، وإن قبل المسلمون بذلك لم تقبل قوات التحالف الرومانية العربية.
الرأي الثاني: أن زيد بن حارثة رضي الله عنه قائد الجيوش ينسحب بالجيش ولا يدخل في أي قتال، وقال أصحاب هذا الرأي لـ زيد بن حارثة: قد وطئت البلاد وأخفت أهلها فانصرف، فإنه لا يعدل العافية شيء.
فأصحاب هذا الفريق يرون أن هذه الحرب مهلكة ولا داعي لدخولها.
الرأي الثالث: الدخول في المعركة دون تردد، ومواجهة هذه الأعداد المهولة في الحرب الفاصلة.
وكان صاحب هذا الرأي عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه، فقد قام وقال في منتهى الوضوح: يا قوم! والله إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة.
يعني: ما تخافون منه الموت وهو الذي نريده، وهو الذي خرجنا من أجله.
قال: إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون: الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا، فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة.
كان كلامه في منتهى الوضوح، فقد لخص في كلمته القصيرة جداً أساسيات الجهاد في سبيل الله، فالجيش المسلم المؤمن جيش يطلب الشهادة ويحرص عليها، والنصر لا يأتي بعدد ولا عدة، إنما يأتي من عند الله عز وجل، وليس معنى هذا أن يترك المسلمون الإعداد، لا، ولكن يجب أن يفعلوا ما عليهم والله عز وجل بعد ذلك ينصرهم، وفعلاً قام المسلمون وأعدوا ما عليهم في حدود الطاقة، أعدوا جيشاً قوامه ثلاثة آلاف مقاتل، وهذا شيء كبير جداً بالنسبة لهم.
ونستنبط من كلام عبد الله بن رواحة أن العدة الرئيسة للمسلمين في القتال هي دين الإسلام، قال: وما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به.
وأيضاً نأخذ من كلامه أن المعركة عند المسلمين لا تخلو من أمرين: إما نصر وإما شهادة، أما الرضا بالهزيمة فليس اقتراحاً مطروحاً عند المسلمين، بل هو مرفوض.
ولما قال عبد الله بن رواحة هذه الكلمات قال الناس جميعاً: صدق -والله- ابن رواحة.
يعني: اجتمعوا جميعاً على قرار القتال، ولنا مع هذا القرار وقفة.
لا شك أن إقدام الصحابة رضي الله عنهم على هذا الأمر بهذه الصورة الجماعية لهو خير دليل على أنهم طلاب آخرة وليسوا طلاب دنيا، وأن الصدق والإخلاص والتجرد يملأ قلوبهم جميعاً، وأن شجاعتهم بالغة، وأن قوتهم(36/5)
احتمالات انتهاء المسلمين إلى خوض غمار الحرب
يرى المسلمون أن القتال أمر ممكن، وأن النصر أمر محتمل، وأن الوسيلة واقعية جداً لمجابهة الظرف الصعب الذي وضعوا فيه، لكن كيف يكون أمراً واقعياً أن يلتقي ثلاثة آلاف بمائتي ألف؟ تفسير هذا الكلام عندي بثلاث احتمالات: الاحتمال الأول: أن المسلمين لم يحصروا أعداد المقاتلين الرومان والعرب حصراً دقيقاً، وإنما قدروهم مثلاً بخمسة أو عشرة أضعافهم أو أكثر من ذلك بقليل أو أقل من ذلك، فوجدوا أن القتال مع صعوبته ممكن مع هذه الأعداد، وكل معارك المسلمين السابقة كانت بأعداد أقل بكثير من أعداد المشركين، يقول الله عز وجل في كتابه: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:249].
وذكر سبحانه وتعالى أيضاً في سورة الأنفال: أن الجيش المؤمن قادر على مواجهة عشرة أضعافه إن كان قوي الإيمان حقاً، قال سبحانه وتعالى: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [الأنفال:65].
نعم نزل التخفيف بعد ذلك وجعل المسلم باثنين من الكفار، لكن من الممكن أن يصل المسلم الواحد إلى عشرة من الكفار، بل قد يزيد على ذلك ويصبح الرجل بألف من الكفار، كما قال الصديق رضي الله عنه في حق القعقاع بن عمرو التميمي رضي الله عنه، وفي حق عياض بن غنم رضي الله عنه، وكما قال عمر بن الخطاب في حق عبادة بن الصامت والزبير بن العوام ومسلمة بن مخلد والمقداد بن عمرو قال: إن الواحد منهم بألف.
وهذا الجيش الإسلامي في مؤتة من المؤمنين الصادقين، والواحد فيهم يوزن بعشرات بل مئات من الكافرين، من أجل ذلك كان قرار الحرب مقبولاً عند المسلمين، وخاصة أنه من المحتمل أنهم قدروا أعداد النصارى بعشرين أو ثلاثين ألفاً فقط، وليس أكثر من ذلك، وهذا أمر محتمل؛ لأن تقدير هذه الأرقام المهولة قد يكون مستحيلاً في هذه الظروف، وخاصة أنهم في أرض مجهولة للمسلمين لا يعرفون خباياها ولا كمائنها ولا طرقها ولا غير ذلك.
إذاً: هذا احتمال، هو أنهم قدروا أعداد الرومان والعرب بأقل من عددها الحقيقي.
الاحتمال الثاني: قد تكون هناك مبالغة في أعداد الرومان والعرب، وإنما هم أقل مما ذكر من الأرقام المهولة التي ذكرت في الكتب، يعني: لم يصلوا مائتي ألف، لكن لا شك أنهم كانوا أضعاف أضعاف المسلمين.
الاحتمال الثالث وهو مهم جداً: هو أن قادة المسلمين وجدوا أن الانسحاب لن ينجيهم من جيوش التحالف الرومانية العربية، وأنه إن بدأ الجيش الإسلامي في الفرار فقد يحاصر من كل الجهات، وفي هذه الحالة ستكون المعركة عبارة عن مجزرة حقيقية للجيش الإسلامي بكامله، فكان الأفضل الثبات والمقاومة؛ لأن هذا سيعطي دفعة نفسية إيجابية للجيش المسلم في أن يهاجم ويخطط لهزيمة الآخرين بدلاً من أن يفكر في الهرب والدفاع فقط، والعكس سيكون بالنسبة لقوات التحالف الرومانية العربية، فهذه القوات قد تهتز من رؤية أناس يطلبون الموت.
وقد يكون الانسحاب في معركة من هذا القبيل نجاة للطرف المسلم، ويؤيد هذا الكلام أن الانسحاب مشروع، ذكره سبحانه وتعالى في كتابه بوضوح كما في سورة الأنفال، قال الله: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الأنفال:16].
في هذه الآية حدد ربنا سبحانه وتعالى سببين للانسحاب لا يأثم المسلم فيهما: الأول: أن ينسحب بخطة حربية ليعاود الحرب من جديد.
الثاني: أن تعود فرقة من الجيش إلى جيشها؛ لكي تستعد بصورة أكبر للقتال، ثم تعاود القتال من جديد، وفئة المسلمين في هذه المعركة كانت في المدينة المنورة، فانسحاب الجيش الإسلامي سواء إلى الأردن أو إلى الجزيرة العربية، أو حتى عودته إلى المدينة المنورة ليس فيه خطأ شرعي، ولذلك كان أخذ الصحابة بهذا الرأي أمراً ممكناً إن وجدوا أنه يفيد المسلمين.
وعلى العكس؛ ليس من المقبول شرعاً أن يدخل المسلمون في معركة وهم يعلمون أنهم جميعاً سيستشهدون ويفنى الجيش الإسلامي بكامله، لأن هذا يعد تهوراً وليس إقداماً، ومن هنا نقول: إن الجيش الإسلامي وجد أنه لا أمل في الانسحاب ولا نجاة في الفرار، وأنه يجب عليهم أن يواجهوا هذا الظرف برجولة؛ لكي يخرجوا منه على الأقل بأقل خسائر ممكنة، ومن ثم كان قرار الحرب وعدم الانسحاب.
كذلك نضيف أن سمعة الدولة الإسلامية كانت ولا شك ستتأثر سلباً إذا انسحب الجيش الإسلامي من المعركة، بعد أن قطع كل هذا الطريق الطويل مسافة (1000) كيلو، ومن ثم كان قرار الحرب حافظاً لكرامة الدولة الإسلامية.
إذاً: أخذ المسلمون قرار الحرب بشورى أو قل بإجماع، وانطلقوا ليختاروا م(36/6)
مزايا وخصائص اختيار مكان معركة مؤتة
مكان معركة مؤتة عبارة عن سهل منبسط ليس فيه جبال ولا عوائق طبيعية من مياه أو أشجار أو أي شيء، وفيه من المزايا ما ييسر على المسلمين عملية القتال.
أولاً: كونه سهلاً منبسطاً يحرم الفريقين من المناورة ومن وضع الكمائن.
يعني: لو أتيح للرومان فعل الكمائن والمناورات لكان هذا الفعل مصيبة بالنسبة للجيش الإسلامي.
ثانياً: أنه عبارة عن أرض صحراوية، والعرب قد اعتادوا على القتال في الأرض الصحراوية، بخلاف الجيوش الرومانية التي اعتادت على القتال في الأراضي الخضراء في الشام وفي تركيا وفي الأراضي الكثيرة الأشجار.
ثالثاً: السهل مفتوح من جنوبه على الصحراء الواسعة، فالرومان لا تجرؤ على التوغل في هذه الصحراء، وبهذا يقدر الجيش الإسلامي أن ينسحب إذا أراد الانسحاب.
رابعاً: في جنوب السهل خلف الجيش الإسلامي بعض التلال، فمن الممكن أن تستغل هذه التلال في إخفاء الجيش الإسلامي وراءها إذا أراد الانسحاب ليلاً.
خامساً: هذا السهل ليست به أي عوائق طبيعية كما ذكرت، ليس هناك أي نوع من الحماية للجندي إلا أن يحتمي وراء سيفه ودرعه، ومن ثم في هذا المكان المفتوح سيظهر أثر الشجاعة والإقدام والتجرد، وهذا الجانب بلا شك يتفوق فيه الجانب الإسلامي تماماً.
الجنود في الجيش الإسلامي يقاتلون على قضية هامة، وعندهم هدف سام جداً، فهم يبحثون عن الموت في سبيل الله، بينما يفتقد جيش الرومان هذا الهدف، فجنود الرومان كالقطيع من الحيوانات لا يدري لماذا يقاتل، ولا يدري ماذا يجني من وراء القتال، وإنما إذا جاء الأمر من القيادة العليا بالقتال فليس عليهم إلا التنفيذ، وإن كان هناك نصر فالذي سيحتفل بالنصر والذي سيسعد به هم القادة والقيصر، وإن كان هناك هزيمة فالجنود هم الذين سيدفعون الثمن من أرواحهم وأبدانهم.
هذا كان شأن الجيوش الرومانية وهو شأن كل الجيوش العلمانية في العالم اليوم.
أما العرب النصارى المشاركون في المعركة فلم يشاركوا فيها إلا طاعة لـ هرقل لا حباً في القتال، ولا يرغبون في ثواب ولا جنة، منتهى أحلامهم أن يرضى عنهم هرقل، وشتان بين من يبحث عن رضا هرقل وبين من يبحث عن رضا رب العالمين سبحانه وتعالى، بين من يقاتل ليعيش، وبين من يقاتل ليموت.
إن اختيار الأرض المنبسطة بهذه الصورة ستجعل اليد العليا للشجاع على الجبان، وللمقدم على المدبر، وهذا كله في صالح المسلمين، واقتربت ساعة الصفر.(36/7)
معركة مؤتة
هي بحق أشرس موقعة في السيرة النبوية، أمواج بشرية هائلة من الرومان ونصارى العرب تنساق إلى أرض مؤتة، ورجال كالجبال من المسلمين يقفون ثابتين في واجهة أقوى قوة في العالم آنذاك، وارتفعت صيحات التكبير من المسلمين.
وحمل الراية زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه، وأعطى إشارة البدء لأصحابه واندفع كالسهم رضي الله عنه وأرضاه صوب الجيوش الرومانية، ولم يشهد المسلمون قتالاً مثله قبل ذلك، وارتفع الغبار في أرض المعركة في ثوان معدودات، ولم يعد أحد يسمع إلا أصوات السيوف أو صرخات الألم، لا يتخلل ذلك من الأصوات إلا صيحات تكبير المسلمين، أو بعض الأبيات الشعرية الحماسية التي تدفع المسلمين دفعاً إلى بذل الروح والدماء في سبيل إعلاء كلمة المسلمين، وسالت الدماء غزيرة في أرض مؤتة، وتناثرت الأشلاء في كل مكان، ورأى الجميع الموت مراراً ومراراً، كانت فعلاً ملحمة بكل المقاييس، وسقط أول شهداء المسلمين البطل الإسلامي العظيم والقائد المجاهد زيد بن حارثة رضي الله عنه حب رسول الله صلى الله عليه وسلم، سقط مقبلاً غير مدبر بعد رحلة جهاد طويلة جداً، بدأت مع أول أيام نزول الوحي، فهو من أوائل من أسلم على وجه الأرض، وصحب الرسول عليه الصلاة والسلام في كل المواطن، وكان هو الوحيد الذي ذهب معه إلى الطائف، والله كأني أراه وهو يدافع بكل ما أوتي من قوة عن حبيبه صلى الله عليه وسلم، حتى شج رأسه وسالت دماؤه غزيرة رضي الله عنه وأرضاه، هجرة وجهاد ودعوة وعبادة وقيادة وتجرد.
رأيناه في العام السادس من الهجرة يقود السرايا تلو السرايا في جرأة عجيبة وثبات ناجح، وكأنه يعد لهذا اليوم العظيم، يوم أن يلقى ربه شهيداً مقبلاً غير مدبر، فهذه أسعد لحظة مرت عليه منذ خلق.
وحمل الراية بطل جديد، إنه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وهذا البطل الشاب المجاهد كان عمره أربعين سنة، وكان قد قضى معظم هذه السنوات في الإسلام، أسلم في أوائل أيام الدعوة، وقضى ما يقرب من خمس عشرة سنة في بلاد الحبشة مهاجراً بأمر الرسول عليه الصلاة والسلام، ورجع من الحبشة إلى المدينة المنورة في محرم سنة سبع، وعند وصوله وجد أن النبي صلى الله عليه وسلم توجه إلى خيبر فخرج من فوره إلى خيبر ليجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنها رغبة حقيقية صادقة في البذل والتضحية.
لقد حمل الراية بعد سقوط أخيه في الإسلام زيد بن حارثة، وقاتل رضي الله عنه قتالاً لم ير مثله، وأكثر الطعن في الرومان، ثم تكالبوا عليه، وكان يحمل راية المسلمين كما ذكرنا، فقطعوا يمينه رضي الله عنه وأرضاه فحمل الراية بشماله لكي لا تسقط، فقطعوا شماله رضي الله عنه، فاحتضنها بعضديه قبل أن يسقط شهيداً رضي الله عنه وأرضاه، ليأخذ الراية من بعده بطل ثالث ألا وهو عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه.
يقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كما جاء في البخاري: وقفت على جعفر يومئذ وهو قتيل فعددت به خمسين ما بين طعنة وضربة ليس منها شيء في دبره، أي: ليس منها شيء في ظهره.
فهو لم يفر ولو للحظة واحدة رضي الله عنه وأرضاه، بل من أرض المعركة إلى الجنة مباشرة، لا يسير فيها بل يطير.
روى الحاكم والطبراني بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت جعفر بن أبي طالب ملكاً في الجنة، مضرجة قوادمه بالدماء، يطير في الجنة).
وروى البخاري أيضاً: أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان إذا حيا ابن جعفر رضي الله عنه قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين.
رضي الله عنه وأرضاه، فربنا سبحانه وتعالى أبدل جعفر بن أبي طالب جناحاً بدلاً من يديه اللتين قطعتا في سبيل الله عز وجل.
إنها حياة جهادية طويلة جداً والمكافأة الجنة.
ثم حمل الراية عبد الله بن رواحة الخزرجي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه المجاهد الشاب الذي شارك في كل الغزوات السابقة، وجاهد -كما ذكرنا- بسيفه وبلسانه، وهو الذي كان يحمس المسلمين لأخذ قرار الحرب، وهو الذي كان يتمنى ألا يعود إلى المدينة، بل يقتل شهيداً في أرض الشام، حمل الراية وقاتل قتالاً عظيماً مجيداً حتى قتل رضي الله عنه وأرضاه.
ما تردد أبداً كما أشيع عنه رضي الله عنه، وكيف يتردد من يدفع الناس دفعاً للقتال، كيف يتردد من يحمس الناس على طلب الشهادة؟ كيف يتردد من يثق به رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجعله على قيادة هذا الجيش الكبير؟ كيف يتردد من شهد له صلى الله عليه وسلم أنه شهيد، ومن دعا له صلى الله عليه وسلم قبل ذلك بالثبات؟ وهذا التردد الذي أشيع عنه لم يتفق عليه عامة أهل السير، لم ينقله الكثير من كتاب السيرة، لم ينقله موسى بن عقبة في مغازيه، ولم ينقله ا(36/8)
خطة خالد بن الوليد في تدبير أمر الجيش في معركة مؤتة
بدأ خالد بن الوليد بتنفيذ خطة بارعة عبقرية للوصول بالجيش إلى بر الأمان، وهذه الخطة لها هدف واضح، الهدف هو إشعار الرومان أن هناك مدداً كبيراً قد جاء للمسلمين؛ حتى يدخل جنود الرومان والعرب المتحالفين معهم الإحباط والخوف والذعر، فهم بصعوبة بالغة صمدوا أمام ثلاثة آلاف مجاهد في اليوم الأول، فكيف إذا جاءهم مدد؟ فماذا عمل خالد بن الوليد حتى يخيف ويرهب الجيش الروماني العربي الذي أمامه؟ أولاً: جعل الخيل أثناء الليل تجري في أرض المعركة، لتثير الغبار الكثير، فيخيل للرومان أن هناك مدداً قد جاء للمسلمين في الليل.
ثانياً: غير من ترتيب الجيش، فجعل الميمنة ميسرة والميسرة ميمنة، وجعل المقدمة مؤخرة والمؤخرة مقدمة، فلما رأى الرومان هذه الأمور في الصباح، رأوا الرايات والوجوه والهيئة قد تغيرت أيقنوا أن هناك مدداً قد جاء للمسلمين فهبطت معنوياتهم تماماً.
ثالثاً: جعل في آخر الجيش على بعد كثير من الجيش على أحد التلال مجموعة من الجنود المسلمين منتشرين على مساحة عريضة، ليس لهم دور إلا إثارة الغبار لإشعار الرومان بالمدد المستمر الذي يأتي المسلمين.
رابعاً: بدأ خالد بن الوليد في اليوم الثاني من المعركة يتراجع تدريجياً بجيشه إلى عمق الصحراء، فظن الرومان أن خالد بن الوليد يسحبهم ويستدرجهم إلى كمين في الصحراء، فترددوا في متابعته، ووقفوا على أرض مؤتة يشاهدون انسحاب خالد دون أن يجرءوا على مهاجمته أو على متابعته.
وبالفعل نجح مراد خالد بن الوليد وسحب الجيش بكامله إلى عمق الصحراء، ثم بدأ الجيش في رحلة العودة إلى المدينة المنورة سالماً.(36/9)
أقوال العلماء في نتائج معركة مؤتة وبيان الراجح منها
لنا مع هذا الموقف وقفات: هل كانت موقعة مؤتة هزيمة للمسلمين أم كانت نصراً للمسلمين؟ هل كانت مجرد انسحاب ناجح؛ لكونه أفضل النتائج التي يمكن أن نتوقعها في مثل هذه الظروف، أم أنها كانت نصراً جليلاً للمسلمين وهزيمة منكرة للرومان؟ تباينت آراء المحللين القدامى والمحدثين حول هذه المعركة، تباينت تبايناً عظيماً فعلاً، فمنهم من رأى أن المعركة كانت انتصاراً للمسلمين، وممن يرى هذا الرأي موسى بن عقبة والزهري والواقدي، ورجح ذلك البيهقي وابن كثير فهؤلاء جميعاً رأوا أن المسلمين انتصروا انتصاراً جليلاً في موقعة مؤتة.
ومن العلماء من عدها هزيمة منكرة للمسلمين كما أشار إلى ذلك ابن سعد في طبقاته.
ومنهم من قال: إن كل فئة قد انحازت عن الأخرى، يعني: هناك تعادل بين الكفتين، مال إلى هذا ابن إسحاق في سيرته، وابن القيم في زاد المعاد.
والحقيقة أني أميل وبشدة مع الرأي الأول القائل بأن هذا كان انتصاراً حقيقياً للمسلمين، وعندي على هذا الكلام أدلة كثيرة: أولاً: ما جاء في البخاري عن أنس رضي الله عنه يحكي عن معجزة من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخبر أصحابه عن نبأ أهل مؤتة قبل أن يعودوا إلى المدينة المنورة، قال صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذها جعفر فأصيب، ثم أخذها ابن رواحة فأصيب.
يقول أنس: وعيناه تذرفان) يعني: يبكي صلى الله عليه وسلم على استشهاد الثلاثة، وكانوا جميعاً من أحب الناس إلى قلبه صلى الله عليه وسلم.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: (حتى أخذ الراية سيف من سيوف الله حتى فتح الله عليه)، وكلمة: (حتى فتح الله عليه) هذه لا تحتمل معاني كثيرة، وإنما تحمل معنى النصر والفتح والعلو، فالله عز وجل لا يفتح عليهم بمجرد الانسحاب، لكن الواضح أن المسلمين فتح الله عليهم بالنصر.
ثم قرر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه أن ينسحب وأن يكتفي بهذا الانتصار دون محاولة متابعة الجيش الروماني؛ لأن خالد بن الوليد كان واقعياً جداً إلى أبعد درجة، فهو علم أنه لا يستطيع أن يتوغل في أرض الروم بهذا الجيش الإسلامي الصغير، فكان هذا فتحاً من الله عز وجل على المسلمين كما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يذكر أنهم انسحبوا فقط دون انتصار لقال كلمة تدل على هذا المعنى، كأن يقول: حتى أنجاهم الله، أو نحو ذلك من الكلمات، وهو صلى الله عليه وسلم أبلغ البشر وأوتي جوامع الكلام، ويستطيع أن يصف بكلمة واحدة الحدث تماماً كما تم في أرض مؤتة: (حتى فتح الله عليه).
الدليل الثاني: روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح، وكذلك النسائي والبيهقي عن أبي قتادة رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه قبل أن يعود أهل مؤتة إلى المدينة: ألا أخبركم عن جيشكم هذا الغازي؟ إنهم انطلقوا حتى لقوا العدو فأصيب زيد شهيداً فاستغفروا له، فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء جعفر بن أبي طالب فشد على القوم حتى قتل شهيداً فاشهدوا له بالشهادة واستغفروا له، فاستغفر الناس له، ثم أخذ اللواء عبد الله بن رواحة فأثبت قدميه حتى أصيب شهيداً فاستغفروا له) هذه الرواية صحيحة تشهد لـ عبد الله بن رواحة بالثبات وتشهد له بالشهادة.
(فاستغفروا له، فاستغفر له الناس، ثم أخذ اللواء خالد بن الوليد فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم إصبعيه وقال: اللهم هو سيف من سيوفك فانصره)، يقول عبد الرحمن بن مهدي أحد رواة الحديث وهو شيخ الإمام أحمد بن حنبل: فانتصر به.
هذا دعاء من الرسول عليه الصلاة والسلام لسيف الله المسلول خالد وللجيش الإسلامي بالنصر، ودعاؤه صلى الله عليه وسلم مستجاب، وهذا الحديث من معجزاته، فهو يخبر به عن الغيب، ومحال أن يتحقق خلاف ما ذكره صلى الله عليه وسلم للصحابة، فهو ذكره على سبيل الحجة الدامغة لنبوته صلى الله عليه وسلم والحجة الدائمة لإنبائه بالغيب، فحين يدعو فيه بالنصر فلا بد أن يحصل النصر، وهذا صريح في هذه الرواية وهي صحيحة.
الدليل الثالث: كم عدد شهداء المسلمين في هذه الموقعة الطاحنة؟ رقم لا يتصوره أحد مطلقاً، إنهم اثنا عشر شهيداً فقط، منهم الأمراء الثلاثة، وفي حرب مع مائتي ألف ولم يقتل ويستشهد سوى اثني عشر رجلاً، دليل دامغ على انتصار المسلمين؛ لأن الجيش المهزوم مستحيل أن يقتل منه غير اثني عشر رجلاً فقط، بينما خسر الرومان أضعاف ذلك، ويكفي مَنْ قتلهم خالد بن الوليد(36/10)
سلسلة السيرة النبوية_الطريق إلى مكة
هناك أحداث كثيرة هيأت للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه فتح مكة، من أهمها اعتداء بني بكر على قبيلة خزاعة المحالفة للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعاونة قريش لبني بكر، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن اتخذ القرار لفتح مكة؛ اغتناماً لهذه الفرصة السانحة بنقض قريش عهدها بمعاونتها لبني بكر.(37/1)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من قبيلة قضاعة التي اعتدت على أصحابه رضي الله عنهم
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس التاسع من دروس السيرة النبوية: العهد المدني، فترة الفتح والتمكين.
حديثنا اليوم عن حدث من أعظم الأحداث في تاريخ الأرض مطلقاً، وهذا الحدث يعتبر لحظة فارقة فرق بين مرحلة ومرحلة أخرى مختلفة تماماً عن المرحلة التي سبقت، وله تداعيات كبيرة جداً، ليس فقط في الجزيرة العربية ولكن في العالم، وليس فقط في زمانه ولكن إلى زماننا الآن.
هذا الحدث العظيم الكبير: هو فتح مكة.
ولا شك أن هناك أحداثاً كثيرة جداً قادت إلى هذا الفتح العظيم، ومقدمات طويلة، وستكون -إن شاء الله- هذه المقدمات هي موضوع درس اليوم.
لكن قبل أن نبدأ في هذه التفصيلات نريد أن نكمل نقطة هامة تحدثنا عنها في الدرس السابق ولم نتناولها بالشرح والتفصيل.
هذه النقطة: هي أنه في بداية العام الثامن من الهجرة حدثت مشكلتان كبيرتان للأمة الإسلامية: المشكلة الأولى: هي قتل الحارث بن عمير الأزدي رضي الله عنه وأرضاه سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم لعظيم بصرى، والذي قتله شرحبيل بن عمرو الغساني.
وهذه المشكلة كان من جرائها أن أخرج صلى الله عليه وسلم جيشاً كبيراً، وهو الجيش الذي دخل في معركة مؤتة بقيادة الأمراء الثلاثة: زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة كما فصّلنا في الدرس السابق، وكان من ورائه النصر العظيم الذي تم في موقعة مؤتة، وبذلك تقريباً انتهت مشكلة قتل الحارث بن عمير، واستعادت الأمة الإسلامية هيبتها إلى حد كبير، ذاع صيتها ليس فقط في أرض مؤتة ولكن في الجزيرة بكاملها.
المشكلة الثانية: حدثت هذه المشكلة في وقت متزامن مع مقتل الحارث بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وهي مشكلة اعتداء قبائل قضاعة على مجموعة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا (15) رجلاً من الصحابة، وقتلوا منهم (14) رجلاً، وعاد رجل واحد منهم إلى المدينة المنورة وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بتفاصيل الخيانة التي قامت بها قضاعة مع صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، فكان لا بد للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقف وقفة جادة مع قبيلة قضاعة؛ لكي لا تهتز صورة الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية.
وبالفعل قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبعث جيشاً كبيراً إلى مناطق قضاعة، وكان هذا بمجرد عودة الجيش الإسلامي من مؤتة إلى المدينة المنورة، ومؤتة وقعت في جمادى الأولى سنة (8) هـ والرسول عليه الصلاة والسلام في جمادى الآخرة سنة (8) هـ بعث الجيش الثاني إلى قبائل قضاعة.
والمنطقة التي تعيش فيها قضاعة كان اسمها السلاسل، وهي عبارة عن ماء أو عين أو بئر اسمه السلاسل، وسميت المنطقة بكاملها بذات السلاسل، فعرفت هذه الغزوة في التاريخ بغزوة ذات السلاسل.(37/2)
سبب اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص لقيادة الجيش في غزوة ذات السلاسل
من سيختار النبي صلى الله عليه وسلم لقيادة هذا الجيش الهام الذي سيخرج لحرب قبيلة كبيرة قوية وهي قبيلة قضاعة، وعلى مسافة كبيرة من المدينة المنورة شمال الجزيرة العربية، وليس لها مدد، ولها ظروف صعبة كظروف موقعة مؤتة؟ اختار الرسول صلى الله عليه وسلم لقيادة هذا الجيش شخصية قد يعجز الكثيرون عن اختيارها، وعندما تأتي لتحلل هذا الاختيار ستجد أنه اختيار في منتهى الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد اختار الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، وعمرو بن العاص لم يكن قد مر على إسلامه إلا شهور قليلة جداً، فقد أسلم في صفر سنة (8) هـ، لم يمر على إسلامه سوى ثلاثة أو أربعة أشهر، ثم اختير ليكون قائداً للجيش الهام في حرب عظيمة للمسلمين.
اختار الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص لتأليف قلبه؛ لأن عمرو بن العاص شخصية محورية جداً في مكة المكرمة، وانضمامه إلى المعسكر المسلم وإلى جيش المدينة المنورة يعتبر إضافة كبيرة جداً لا بد أن يحافظ عليها المسلمون قدر المستطاع, وعمرو بن العاص له تاريخ طويل جداً في العداء مع المسلمين، من أوائل أيام مكة، ومروراً بسفره إلى الحبشة لإعادة المسلمين المهاجرين من هناك إلى مكة المكرمة، ثم خروجه بعد ذلك في مراحل متعددة من القتال التي دارت مع المسلمين، وعمرو بن العاص في ذلك الوقت شخصية ليست فقط كبيرة في المقام، ولكن أيضاً كبيرة في السن، فقد كان عمره وقت إسلامه (57) سنة، أي: أنها شخصية من كبار قادة قريش ومن دهاة العرب، فلا بد أن يُحفظ له مكانه في داخل الدولة الإسلامية؛ لكي يستمر في المسيرة معها.
ورأينا كيف أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعظّم من قدر خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه عندما استلم القيادة في غزوة مؤتة، وسماه سيف الله المسلول، ورُفع قدره جداً في الدولة الإسلامية، ولا شك أن أقدام خالد بن الوليد رضي الله عنه كانت أثبت بعد موقعة مؤتة عنها قبل موقعة مؤتة، وله دور وضع في الدولة الإسلامية، والناس بصفة عامة تنظر إليه على أنه قد حقق نصراً مهيباً، وأصبحت له مكانة جميلة تثبت أقدامه إن شاء الله.
كذلك أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل مع عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه، يعطيه قيادة جيش فيحقق انتصاراً فتصبح له مكانة في داخل الدولة الإسلامية، ومن ثم تثبت أقدامه، ليس هذا فقط، فإن هناك شيئاً مهماً جداً يعبر عن مدى عمق النظرة للرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم، ألا وهو أن أم عمرو بن العاص من قبيلة قضاعة، وذهاب عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه وأمه من نفس القبيلة يُعطي بعداً هاماً جداً في القتال، فقد يتألف قلوب هؤلاء القوم، وهم عندما يجدون على رأس الجيش الذي أتى أن أمه منهم قد يحدث بينهم حوار ومفاوضات للقبول بفكرة الإسلام، ولا يأخذهم الكبر والعناد والفجور في الخصام، فتزداد الهوة بينهم وبين الإسلام.
والرسول صلى الله عليه وسلم كما تعلمون كان دائماً يقرب قلوب الناس للإسلام، وكان إسلام الناس أحب إليه من أموالهم.
وأيضاً كون أم عمرو بن العاص رضي الله عنه من قضاعة فمن المؤكد أن عمرو بن العاص قد ذهب إلى قضاعة أكثر من مرة، فهو أعرف بديار قضاعة ومساكن قضاعة، والطرق والدروب التي تؤدي إلى هناك أكثر من بقية الصحابة.
فاختياره عسكرياً؛ لأنه عبقرية عسكرية، وقيادة فذة، واختياره دعوياً مهم جداً؛ لأنه سوف يؤلّف قلوب قضاعة أكثر من غيره، وفي نفس الوقت هو أعلم بالطريق من غيره.
إذاً: كل هذه الأمور تجعل اختيار عمرو بن العاص لهذه المهمة خاصة في منتهى الحكمة.
روى ابن حبان والحاكم وأحمد بسند صحيح: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يبلغ عمرو بن العاص بهذه المهمة العظيمة فأرسل إليه ثم قال له: (خذ عليك ثيابك وسلاحك ثم ائتني، قال عمرو بن العاص: فأتيته وهو يتوضأ صلى الله عليه وسلم، فصعّد فيّ النظر ثم طأطأ، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلّمك الله ويغنمك، وأرغب لك من المال رغبة صالحة) أي: أنك ستذهب إلى هذه الموقعة وبإذن الله ستنتصر فيها، وستكون لك غنائم فيكثر مالك، وتقسم أربعة أخماس الغنائم على الجيش، فقال عمرو بن العاص واستمع إلى كلامه رضي الله عنه وأرضاه وهو يقول هذه الكلمات أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم إذا كان الكلام غير سليم فإن الوحي سوف يخبره بذلك، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل منه هذه الكلمات، قال عمرو: (يا رسول الله، ما أسلمت من أجل المال ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم) وه(37/3)
عبقرية عمرو بن العاص في قيادة الجيوش
خرج عمرو بن العاص بالجيش ومن أول لحظات الخروج ظهرت عبقريته رضي الله عنه في الحروب، من أول الطريق قرر أن يسير بالمسلمين ليلاً ويكمن نهاراً، حتى لا ترصده عيون العدو إن كانت على الطريق.
وبالفعل وصل جيشه دون أن تدري عيون قضاعة أنه قد جاء إليهم، وبدأ أيضاً بعبقرية واضحة وبحكمة عسكرية لافتة للنظر يبث العيون هنا وهناك، حتى يستطلع أعداد العدو، فوجد أن أعداد العدو كبيرة، وعلم رضي الله عنه وأرضاه أن طاقته هذه الصغيرة ستكون غير قادرة على مواجهة هذه الأعداد الكبيرة من قضاعة، وفي الحقيقة كان عمرو بن العاص في منتهى الواقعية، وما كان يندفع أبداً بجيشه إلا بعد دراسة متأنية، ولم يكن متهوراً على الإطلاق رضي الله عنه وأرضاه، وسنجد هذا الكلام كثيراً جداً في فتوح عمرو بن العاص في فلسطين وفي مصر، ما كان يندفع إلا بدراسة حقيقية للواقع الذي هو مقبل عليه.
وجد رضي الله عنه أن أعداد قضاعة كبيرة فأرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة أنني أحتاج إلى مدد، وأمر الجيش الإسلامي ألا يقاتل حتى يأتيه المدد، وبالفعل أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليه (200) من الصحابة من وجوه الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، على رأس هؤلاء أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه أمين هذه الأمة، ومن السابقين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، وله تاريخ طويل جداً مع المسلمين، وتحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح عدد كبير جداً من السابقين، في مقدمتهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه وعمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكفى بهما، ومعظم المائتين من السابقين، وكلهم على هذا المستوى الراقي جداً، قدم في الخبرة والتاريخ والإسلام وسبق في أشياء كثيرة جداً، فهؤلاء كانوا مدداً لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه.
فعندما وصلوا إلى هناك انضم المائتان إلى الثلاثمائة وأصبح الجيش كله (500)، لكن من هو أمير هذا الجيش؟ عندما أرادوا أن يصلوا الفريضة تقدم أبو عبيدة بن الجراح ليؤم الناس، وكان من المعروف أن قائد الجيش هو الذي يؤم الناس، وأبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه اعتبر أنه هو الأمير؛ لأنه جاء على رأس (200) من وجوه الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم، وفيهم أبو بكر وعمر، فتقدم أبو عبيدة ليؤم الصفوف، ولكن عمرو بن العاص تقدم وقال: إنما قدمت عليّ مدداً لي، وليس لك أن تؤمني وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إليّ مدداً، وعمرو بن العاص لا يزال حديث عهد بالإسلام، لكنه كما ذكرنا كان كبيراً في السن عمره (57) سنة، أي: أنه أكبر من أبي عبيدة بن الجراح بعشر سنوات كاملة تقريباً، وله تاريخ عسكري معروف، ومن فرسان قريش ومن دهاة العرب، وأيضاً أبو عبيدة بن الجراح له مكانة كبيرة جداً عند الصحابة، وتاريخ طويل جداً كما ذكرنا، لكن عمرو بن العاص رأى أنه أحق بالإمارة، ليس لكونه فقط عسكرياً وعبقرياً في إدارة الجيوش وما إلى ذلك؛ ولكن لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وضعه على إمارة الجيش الأصلي، فله حجة، وعادة الصحابة أنهم ما كانوا يتنازعون الإمارة بهذه الصورة، ومن الواضح أنه لا يزال جديداً في الإسلام، فعرض هذا الكلام فقال: المهاجرون، والمهاجرون كانوا يميلون إلى أبي عبيدة بن الجراح، وأبو عبيدة رجل حيي جداً فاستحى أن يتكلم عن نفسه، فتكلم المهاجرون فقالوا: كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه.
يعني: إذا كنا سنختلف في الأمير، فيكون عمرو بن العاص أمير الثلاثمائة الأوائل، وأبو عبيدة بن الجراح أمير المائتين الذين أتوا مدداً، لكن لا ينبغي أن يكون للجيش الواحد قائدان.
فقال عمرو: لا، بل أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، وكان أبو عبيدة لين الطبع جداً، فخاطب عمرو بن العاص وقال له كلمات جميلة جداً تعبّر عن عمق فهم أبي عبيدة بن الجراح لقضية الإمارة في الإسلام، قال له: (لتطمئن يا عمرو! وتعلمن أن آخر ما عهد إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنك)، فأطاع أبو عبيدة وكان عمرو بن العاص يصلي بالصحابة وهم (500) شخص، فيهم أبو عبيدة وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وفيهم الكثير والكثير من المهاجرين والأنصار، وكان الجميع يصلي وراء عمرو بن العاص حديث الإسلام الذي لم يسلم إلا منذ أربعة أشهر.
هذه صورة حضارية رائعة في تاريخ المسلمين، وم(37/4)
إرسال الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إلى ملك عمان وأخيه لدعوتهما إلى الإسلام
بعد غزوة ذات السلاسل ارتفعت ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم جداً بصدق وذكاء وأمانة وقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، فأرسله صلى الله عليه وسلم إلى مهمة أخرى عظيمة جداً، وهي مهمة السفارة إلى دولة عمان، وكانت عمان دولة مشركة في ذلك الوقت، وكان يحكمها رجل اسمه جيفر وأخوه عباد، والاثنان كانت لهما سيطرة على منطقة واسعة من الأراضي في عمان وما حولها، فأرسل الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص إليهما يدعوهما إلى الإسلام وإلى الانضمام إلى الدولة الإسلامية.
وبعد حوار طويل مع جيفر وعباد وبحكمة شديدة وذكاء شديد من عمرو بن العاص رضي الله عنه استطاع أن يقنع عباداً وجيفراً بالإسلام وبالفعل أسلما، بل وأسلم شعبهما بالكامل، ودخلت دولة عمان بكاملها في دولة المسلمين، ولم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم فقط بجعل عمرو بن العاص سفيراً منه إلى جيفر وعباد، بل عينه جامعاً للزكاة هناك، وكان عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم هناك في بلاد عمان، مع تثبيت جيفر وعباد على زعامة البلاد، يعني: وثق الرسول عليه الصلاة والسلام في عمرو رضي الله عنه، وجعله جامعاً للزكاة من تلك البلاد، ولم يكن من السهل أبداً أن يقبل الرسول صلى الله عليه وسلم بولاية إنسان إلا إذا اطمأن تماماً إلى دينه وإلى كفاءته رضي الله عنه ورضي الله عن الصحابة أجمعين.
فهذه هي قصة عمرو بن العاص في بداية إسلامه.
إذاً: كان الوضع الإسلامي في أوائل رجب سنة (8) هـ في غاية الاستقرار، وفي رهبة وهيبة، وفي انتصارات متكررة، وفي صورة جديدة جداً لدولة ناشئة في المدينة المنورة، تبسط سيطرتها على أطراف واسعة من الجزيرة العربية.
هذه الأحداث كانت نهاية لفترة معينة، وستبدأ الآن فترة جديدة من أحداث السيرة النبوية، وهي كما ذكرت في أول هذه المحاضرة مقدمات فتح مكة.
عندما نأتي لنتكلم عن فتح مكة لا بد أن نعلم أن فتح مكة يعتبر لحظة فارقة حقيقية في تاريخ المسلمين، بل في تاريخ الأرض، حتى إنه إذا ذُكر الفتح معرفاً هكذا (الفتح) عُرف أنه فتح مكة، مع أن كل انتصارات المسلمين كانت فتحاً، فانتصار المسلمين على أهل خيبر كان فتحاً، وعلى الرومان في مؤتة كان فتحاً، وعلى المشركين في بدر كان فتحاً، فكل هذه كانت فتوحات من رب العالمين، لكن إذا ذُكر الفتح معرفاً هكذا (الفتح) عُرف أنه فتح مكة، وهو أمر ليس بعده شيء آخر، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية) يعني: قبل الفتح يمكن للناس أن تهاجر إلى المدينة المنورة، وبعد الفتح انتهت الهجرة، ولكن جهاد ونية، يقول الله سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد:10] أي: أن ما كان قبل الفتح شيء وما كان بعد الفتح شيء، فإنفاق قبل الفتح شيء وإنفاق بعد الفتح شيء آخر، وقتال قبل الفتح شيء وقتال بعد الفتح شيء آخر.
ما معنى الفتح؟ معناه: التمكين لدين رب العالمين سبحانه وتعالى، ومعناه: النصر والسيادة والعلو في الأرض.(37/5)
سنن التغيير والنصر والتمكين المستنبطة من فتح مكة
أنا أريد أن أستغل هذا الحدث لأتكلم معكم عن بعض سنن التغيير وسنن النصر والتمكين في الأرض، وجميعها سنستخلصها من فتح مكة.(37/6)
حكمة الله تعالى في تقدير الأمور بأزمانها
السنَّةُ الأولى: هو أن الله عز وجل لا يعجل بعجلة عباده، وانظروا مرت (21) سنة من أصل (23) سنة من عمر البعثة بكاملها واللات والعزى ومناة وهبل تعبد من دون الله عز وجل في داخل مكة المكرمة.
البعض كان يتمنى ويقول: يا ليت مكة فُتحت مبكراً، والرسول صلى الله عليه وسلم حكم الدولة الإسلامية الواسعة فترة طويلة من الزمان؛ لنرى فعله وحكمه وأثره صلى الله عليه وسلم على العالمين وهو ممكن في الأرض، لكن لو حدث هذا فقد تكون مخالفة للسنة الإلهية، فهذا لا يكون أبداً: {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:43].
فرب العالمين سبحانه كان قادراً أن يفتح مكة من أول لحظات الدعوة، وأن يجعل أهل مكة جميعاً مؤمنين من أول لحظات الدعوة، وعلى الأقل بعد سنة أو سنتين من بناء الدولة في المدينة المنورة، لكن هذا الانتظار الطويل؛ لكي نعلم جميعاً أن الله عز وجل لا يعجل بعجلة عباده.
وهذا الموضوع في الحقيقة يحتاج إلى محاضرة خاصة، إن شاء الله سنفرد له محاضرة بعنوان: استعجال النصر، وسنتكلم فيها عن مشكلة العجلة التي عند المسلمين في رؤية التمكين والسيادة لدين الله عز وجل في الأرض.
وتغيير المنكر يحتاج إلى وقت وإلى حكمة ويحتاج إلى تدرج، وهكذا رأينا في السيرة النبوية، وهذه أول سنة من السنن الثوابت.(37/7)
مجيء التغيير والنصر والتمكين للمسلمين من حيث لا يحتسبون
السنة الثانية: يأتي التغيير ويأتي النصر ويأتي التمكين من حيث لا يحتسب المسلمون، أي: أنه لو راود المسلمين حلم أن يفتحوا مكة كيف سيفكّرون في هذا الأمر؟ من المؤكد أنهم سيضعون سيناريو لهذا الأمر، ولو وضع المسلمون ألف سيناريو للتغيير ولفتح مكة سيأتي التغيير بالسيناريو رقم (1001).
أي: أن هناك سيناريوهات متوقعة لكي نفتح مكة، مثلاً: أن تخالف قريش عن طريق غزوها المدينة المنورة، فيرد المسلمون بحرب على مكة المكرمة، أو تحاول قريش قتل الرسول صلى الله عليه وسلم، أو تتعدى قريش على قافلة إسلامية، أو تنتهي السنوات العشر سنوات الهدنة فيحدث بعدها قتال ويدخل المسلمون مكة! فهناك افتراضات كثيرة جداً، لكن لم يحدث الفتح بأي أمر من هذه الأمور، ولا بأي شيء خطر على ذهن أي مسلم، لكن حصل شيء غريب جداً وهو أن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة مشركة أخرى فتم الفتح للمؤمنين، سبحان الله ما علاقة هذا بهذا؟! إذاً: هذا الذي حصل فعلاً في فتح مكة، ولنأتي لنراجع الأحداث: في صلح الحديبية كان من بنود الصلح البند الثالث في الصلح هو: أنه إذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف المسلمين انضمت، وإذا أرادت قبيلة أن تنضم إلى حلف قريش انضمت، فبعد انتهاء المعاهدة دخلت خزاعة في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخلت بنو بكر في حلف قريش، وهذا الدخول لهاتين القبيلتين في قضية المعاهدة هو الذي كان سبباً في فتح مكة المكرمة، أي: أن القضية كانت بين المسلمين وبين قريش، فخزاعة وبنو بكر ليس لهما أي دخل في القضية، ومع ذلك دخولهما في الحلف المعاهدة هو الذي سيؤدي للفتح كما سنرى.
ودخول خزاعة في حلف الرسول عليه الصلاة والسلام أمر يحتاج إلى وقفة؛ لأن الله سبحانه وتعالى دفع خزاعة دفعاً للدخول في حلف الرسول صلى الله عليه وسلم، وخزاعة قبيلة مشركة، نعم هناك علاقات قديمة حميمة بين خزاعة وبين بني هاشم، لكن كان من المتوقع أن تدخل خزاعة في حلف المشركين من بني هاشم، وليس في حلف المسلمين من بني هاشم؛ لأن خزاعة مشركة دينها كدين قريش، فلماذا تترك بني هاشم المشركة وتتحالف مع بني هاشم المسلمة المتمثلة في الرسول صلى الله عليه وسلم؟ هذا أمر عجيب فعلاً! وهذا الدخول العجيب لخزاعة مع حلف المسلمين هو الذي سيؤدي بعد ذلك إلى نتائج كبيرة جداً منها فتح مكة.
وعندما نراجع قصة القبيلتين اللتين دخلتا في المعاهدة نجد أن قبيلة بني بكر وقبيلة خزاعة كان بينهما ثأر قديم، ولعل هذا الثأر هو الذي دفع بني بكر إلى الدخول في حلف قريش، فعندما دخلت خزاعة في حلف المسلمين دخلت بنو بكر في الحلف المعاكس؛ لتكون ضد خزاعة، مع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش ليست على أفضل ما يكون، بدليل أن قريشاً عندما خرجت من مكة المكرمة لحرب المسلمين في موقعة بدر كانت تخشى من غزو بني بكر لمكة المكرمة، ثم ظهر لهم الشيطان في صورة سراقة بن مالك يقول لهم: إني جار لكم من كنانة، وكنانة تشمل بني بكر، فالقصة معقدة جداً، وأحداث القصة فعلاً لا يمكن أن تفسر إلا أن الله عز وجل أراد لها أن تتم على هذه الصورة.
ومع أن العلاقة بين بني بكر وبين قريش معقدة إلا أنها دخلت في حلفها، وخزاعة مع أنها مشركة إلا أنها دخلت في حلف المسلمين، وهذا سيؤدي إلى شيء معين كما سنرى.
وبنو بكر التي نتحدث عنها ليست قبيلة بني بكر بن وائل المشهورة؛ لأن بني بكر بن وائل هذه هي قبيلة من قبائل ربيعة، بينما بنو بكر التي نتحدث عنها هي بنو بكر بن عبد مناف بن كنانة، وهي من مضر.
وكان بين بني بكر وبين خزاعة خلاف قديم جداً وثأر طويل، وهناك ضحايا قتلتهم خزاعة من بني بكر، وبعد مرور سنوات وسنوات على هذه الجريمة التي قامت بها خزاعة في حق بني بكر تذكرت بنو بكر ثأرها مع خزاعة، فأرادت أن تنتقم، وكان هذا بعد صلح الحديبية، فأغارت بنو بكر على خزاعة وقتلت منهم رجالاً بعد صلح الحديبية، ومعلوم بعد المعاهدة أن من أغار على خزاعة فكأنه أغار على الدولة الإسلامية، وموافقة قريش على إغارة بني بكر على خزاعة هذا نقض صريح لمعاهدة صلح الحديبية التي بينها وبين المسلمين.
ولو أن بني بكر أغارت على خزاعة قبل الحديبية لما أحدث ذلك أي نفع للمسلمين؛ لأن قبيلة مشركة أغارت على قبيلة مشركة أخرى ولا دخل للمسلمين، ولو أن هذا الأمر حدث بعد الحديبية مباشرة لعل المسلمين لم تكن لهم طاقة لغزو مكة أو فتحها، ولو ضبطت بنو بكر أعصابها ولم تخالف لما مُهّد الطريق للفتح، ولو وقفت قريش لبني بكر وعارضتها في ذلك الأمر واعتذرت للمسلمين لكان الموقف قابلاً للحل السلمي، ولكنَّ قريشاً أعانت بني بكر على حرب خزاعة في تهور عجيب.
ولعل الموقف هذا لو تكرر ألف مرة مع قريش لن تأخذ هذا الرأي، ولن تعمل هذا العمل، لكنها مدفوعة لذلك من رب العالمين سبحانه وتعالى، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق:15 - 16].
فهجمت بنو بكر على خزاعة، وخزاعة غير مستعدة للقتال؛ لأن صلح الحديبية فيه هدنة والحرب موضوع(37/8)
مجيء النصر والتمكين للمسلمين من حيث يكرهون
السنة الثالثة: لا يأتي النصر فقط من حيث لا يتوقع المسلمون، بل يأتي من حيث يكرهون.
وهذا غريب جداً، لكنه متكرر حتى صار سنة، فـ طالوت رحمه الله ومن معه من المؤمنين كرهوا لقاء جالوت وجنوده، لكن جعل الله عز وجل النصر في هذا اللقاء، كذلك كره المسلمون لقاء المشركين في بدر، فجعل الله عز وجل فيه النصر، يقول الله عز وجل في كتابه الكريم: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} [الأنفال:5] فكان يوم الفرقان.
وكره المسلمون تحزب الأحزاب حول المدينة قال تعالى: {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] لكن كان فيه خير، والرسول صلى الله عليه وسلم بعد الأحزاب قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا).
وكره المسلمون صلح الحديبية، وقالوا: (لم نُعط الدنية في ديننا؟)، وكان فيه الخير كل الخير، وقد رأينا تفصيلات الخير الذي تلا صلح الحديبية.
وكره المسلمون قتل أخيهم وصاحبهم وحبيبهم الحارث بن عمير رضي الله عنه سفير الرسول عليه الصلاة والسلام إلى عظيم بصرى، ولكن كان من وراء هذا القتل انتصار مؤتة.
كذلك في قصتنا الآن كره المسلمون نقض بني بكر وقريش للعهد، لا شك أنهم كرهوه، لا شك أنهم يريدون الهدنة أن تمتد عشر سنوات وأكثر؛ لأنهم رأوا في أقل من السنتين خيرات كثيرة جداً، فكيف إذا امتد الأمر لأكثر من ذلك؟ رأوا أعداد المسلمين تتزايد بكثرة في زمن الهدنة والأمن وغياب الحرب، لكن الآن بعد هذا النقض قد تحدث حرب وقد يحدث اضطراب وقلق في الجزيرة، وقد يخاف الناس، وقد تتأثر الدعوة، وقد تغزو قريش المدينة، ويمكن أن تحدث مشاكل لا حصر لها.
ونحن نكره القتال الآن، ولا نريد أن يحدث أي حرب في هذا الوقت، ونحب الهدنة، لكن أن يحدث ما نكره قصراً ورغماً عن أنوفنا، ثم يأتي النصر والفتح والتمكين من خلال الحدث الذي نكرهه هذا أمر عجب!! لماذا هذه السُّنة؟ لماذا يأتي النصر من حيث نكره؟ لماذا لا يأتي النصر من حيث نحب، أو بالطريقة التي نريد، أو بالطريقة التي نخطط لها؟ لهذه السنة هدف واضح جداً، وهذا الهدف هو أن الله عز وجل لا يريد لنا أن نُفتن بنصرنا، ولا يريد لنا أن نعتقد أن النصر إنما جاء لحسن تدبيرنا، ولدقة خطتنا، ولبراعة أدائنا، ولذكاء عقولنا، ولسرعة تصرفنا، وحتى لا ننسى أن الذي نصرنا هو الله القوي سبحانه وتعالى، لذلك يأتي النصر من حيث لا نحتسب، بل ومن حيث نكره؛ ليعترف الجميع أن الناصر هو الله عز وجل، ويأتي النصر من طريق عكس التخطيط الذي رسمت، ومن طريق عكس الطريق الذي رجوت.
وهذا ليس معناه أننا لا نخطط أبداً، بل على العكس إذا لم تخطط وتجتهد لا يأتي النصر مطلقاً، لا بد أن تضع ألف خطة جادة لتحقيق النصر؛ لأن النصر سيأتي بالخطة رقم (1001) كما تقدم، أي: يأتي النصر بالخطة التي لم تخططها.
فالألف خطة هذه مطلوبة لإثبات أنك قد أخذت بالأسباب، ولتكون مستحقاً لرضا رب العالمين سبحانه وتعالى، ومن ثم تستحق نصر الله عز وجل، لكن النصر يأتي بالخطة التي لم تحسب لها حساباً؛ لكي تعود بالفضل في النهاية لله عز وجل، ولهذا يقول الله عز وجل: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] النصر نصر الله عز وجل، والفتح فتح رب العالمين للمسلمين، {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر:1 - 2].
كيف سيكون رد المسلمين في حالة رؤيتهم للفتح والنصر؟ وضح لنا سبحانه وتعالى في هذه السورة القصيرة المعجزة سورة النصر أن على المسلمين عند رؤية النصر عمل شيئين: أولاً: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:3] يعني: سبح بحمد ربك الذي نصرك والذي أيدك بقوته، والذي مكّن لك في الأرض.
ثانياً: {وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] يعني: تأتي بالاستغفار بعد النصر والتمكين، لاحتمال أن يكون قد دخل في روعك أنك قد انتصرت بقدرتك وبقوتك وبتخطيطك وبتدبيرك، تقول: أنا فعلت كذا، أنا خططت، وأنا دبّرت!! فاستغفر من هذا الأمر؛ لأن الله عز وجل هو الذي فعل، وسوف نفهم بعد هذا كيف دخل الرسول صلى الله عليه وسلم مكة وهو في حالة شديدة من التواضع؛ لئلا يُفهم أنه قد فعل ذلك بقدرته البشرية، لكن رب العالمين هو الذي أراد التمكين والنصر والعزة للمسلمين، فلا بد من التواضع الكامل له سبحانه وتعالى.
إذاً: يأتي النصر من حيث نكره؛ لكي لا يدّعي مدع أنه انتصر بقوته، ولكن يُنسب الفضل والنصر لله عز وجل {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17].(37/9)
طول فترة الإعداد وقصر فترة التمكين
السنة الرابعة: وهذه السنة قد تكون محبطة للبعض إذا درسوا الموضوع بصورة سطحية، لكن التدبر في هذه السنة سيثبت إن شاء الله عكس ذلك.
فالسنة الرابعة أن فترة الإعداد طويلة جداً للدولة الإسلامية؛ لأجل أن نقيم دولة إسلامية نحتاج إلى فترة إعداد طويلة، لكن فترة التمكين لهذه الدولة قصيرة جداً.
فقد كان الإعداد لفتح مكة والتمكين كما في السيرة مدة (21) سنة كاملة، فأول البعثة كان في رمضان قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، والفتح كان في رمضان بعد الهجرة بثمان سنين.
وفترة التمكين سنتان ونصف، من فتح مكة إلى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام حدثت الردة، وانتهى التمكين.
فترة الإعداد (21) سنة من أصل (23) سنة، سنتان ونصف، يعني (89%) من فترة السيرة، ولتكن (90%)، وفترة التمكين (10%) فقط.
ولتراجع معي قصص التمكين في القرآن الكريم التي سبقت الرسول عليه الصلاة والسلام، لتراجع قصة نوح عليه السلام وفترة الدعوة إلى الله كم ظل يدعو الناس؟ (950) سنة، (1000) سنة إلا (50) عاماً، وفترة التمكين يسيرة جداً وقصيرة جداً.
هود وصالح كذلك عليهم السلام جميعاً.
وموسى عليه السلام ظل في فترة إعداد طويلة جداً، إعداد له شخصياً، ولبني إسرائيل فترة تعذيب وتشريد واضطهاد طويلة جداً، وبعد ذلك فترة التمكين قصيرة.
هذا أمر متكرر جداً سواء قبل الرسول عليه الصلاة والسلام أو بعد الرسول عليه الصلاة والسلام، راجع قصة صلاح الدين الأيوبي حوالي (80) أو (90) سنة إعداد، وفترة التمكين (15) أو (20) سنة على الأكثر.
وبعد موقعة الزلاقة والتمكين الكبير لدولة المرابطين في الأرض، إعداد طويل جداً حوالي (60) سنة ثم التمكين في الأرض فترة قصيرة من الزمان.
هذا الكلام يحتاج إلى وقفة، لماذا تستمر فترة التمكين لمدة قصيرة بينما يكون الإعداد طويلاً جداً؟ هذا من أجل سببين رئيسيين: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين بعد التمكين، الوضع الاقتصادي جيد، والأوضاع الاجتماعية كذلك تتحسن، فالدنيا كلها تنفتح على المسلمين فتحدث الفتنة، ويحدث التصارع في زمن التمكين على المال والسلطان.
والنبي صلى الله عليه وسلم كان يخشى على المسلمين من هذا الأمر، وذكرنا أكثر من مرة هذا الحديث لخطورته وأهميته في تكوين الدولة الإسلامية، قال صلى الله عليه وسلم: (والله ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم الدنيا أن تُبسط عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتُهلككم كما أهلكتهم)، بينما في أثناء فترة الإعداد لا توجد دنيا عندها ولا توجد فتنة، لكن في فترة التمكين تحدث الفتنة سريعاً، والمعصوم من عصمه الله عز وجل، والقليل جداً من الأمة الذي لا يقع في هذه الفتنة.
إذاً: السبب الأول: هو انفتاح الدنيا على المسلمين، والتصارع بين المسلمين على المال والسلطان.
السبب الثاني: عدد هائل من البشر سيدخل الإسلام لقوته لا اقتناعاً بمبادئه.
في زمن التمكين يرى الناس الدولة قوية وممكنة في الأرض، فينضم الجميع إلى هذه الدولة، المقتنع وغير المقتنع بالمبادئ الإسلامية، هذه ليست قضية تشغل الناس في ذلك الوقت، وتتزايد أعداد المسلمين بكميات كبيرة جداً، وهذه الأعداد المتزايدة لم تخضع للتربية كما خضع لها الأولون، وإنما أخذت قسطاً يسيراً جداً من التربية، وعند أول أزمة من الأزمات يسقط هؤلاء جميعاً فيختفي التمكين، وانظر إلى أعداد المسلمين بعد إعداد (19) سنة، فقد كان العدد (1400) مؤمن في صلح الحديبية، ثم فتح خيبر زاد العدد، وفي فتح مكة بعد أقل من سنتين من الصلح وصل عدد المسلمين إلى عشرة آلاف رجل، وبعد فتح مكة بسنة واحدة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم في تبوك بثلاثين ألف مقاتل، العشرة آلاف الذين أتوا عام الفتح أصبحوا (30000) مقاتل، وهؤلاء العشرة آلاف منهم تقريباً (5000) أو (6000) أسلموا قبل الفتح بشهور وأيام قليلة، وبعد الفتح اجتمع (20000) بعد سنة واحدة، وبعد سنة أخرى من سنة (9) هـ إلى سنة (10) هـ سنرى أن الناس مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وصل عددهم تقريباً مائة وثلاثين ألفاً في بعض التقديرات، يعني: زدنا مائة ألف مسلم في السنة العاشرة من الهجرة النبوية.
هذه أعداد ضخمة جداً التحقت بالدولة الإسلامية وهم في محاضن بعيدة جداً عن المدينة المنورة، وليست هناك الطاقة الكاملة الكافية لتربية هؤلاء، فعندما حصلت أزمة وفاة النبي عليه الصلاة والسلام حصلت ردة في مناطق واسعة في الجزيرة العربية، والردة وقعت عند الذين لم يتربوا، ولا يوجد أحد من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ارتد، بل كلهم ثبت على الإسلام، لكن عموم الناس الذين دخلوا في وقت الفتح ووقت التمكين هؤلاء لم يُعطوا القسط الكافي من التربية، لذلك وقت التمكين عادة ما يكون قصيراً، ووقت الإعداد يكون طويلاً.
هل هذا الكلام محبط؟ هل يمكن أن يقول أحد المسلمين بعد كل هذا الإعداد والجهد والبذل لا نمكن إلا فترة قصيرة فقط(37/10)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من اعتداء بني بكر على خزاعة
ماذا يفعل الرسول عليه الصلاة والسلام إزاء اعتداء بني بكر على قبيلة خزاعة عمرو بن سالم وبديل بن ورقاء الخزاعي يستغيثان برسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لكي ينجد خزاعة من الأذى والظلم الذي وقع عليها.
هنا حدثت أزمة وهي أزمة نقض العهد، وأزمة احتمال الحرب، وأزمة اهتزاز صورة الدولة الإسلامية إذا لم يكن هناك رد فعل مناسب.
هذه أزمة كبيرة جداً، ولكن كيف نحول الأزمة إلى فرصة.
هذا الكلام يفهمه علماء الإدارة، فعندما تقع عليك مصيبة كبيرة لا يخبرك فقط كيف تخرج من المصيبة، ولكن كيف تحاول أن تستفيد من المصيبة، فتحوّلها إلى مصلحة، وإلى فرصة سانحة تحقق من ورائها فائدة كبرى للمسلمين، أو على الأقل الخروج بأقل الخسائر.
فالرسول عليه الصلاة والسلام يريد أن يكسب من هذا الموقف، كيف يحقق نجاحاً من هذه الأزمة الكبيرة؟ كيف يستفيد من الأزمة ويجعل منها وسيلة لرفعة الأمة وسيادة الأمة؟ هل يبعث ألف جواب استنكار أو شجب وندب؟ لن يسمع صوته أحد، فما الذي يعمل؟ هل يذهب إلى هيئة الأمم المتحدة أو هيئة القبائل المتحدة؟! لن تنفع بشيء، بل من الممكن أن تحكم لقريش الدولة الأولى في المنطقة فما هو الحل؟ لا بد أولاً من دراسة واقعية للموقف، نأتي لندرس الواقع الذي يحيط بالرسول صلى الله عليه وسلم، ما هو حال الجزيرة العربية في ذلك الوقت؟(37/11)
الوضع السياسي والعسكري للمسلمين
أولاً: الوضع السياسي والعسكري للمسلمين.
لقد كان الوضع السياسي والعسكري للمسلمين بعد مؤتة وذات السلاسل وضعاً ممتازاً فأعداد المسلمين تتزايد، والجيش الإسلامي مدرب تدريباً جيداً جداً، ليس مدرباً في لقاءات وهمية، ولكن في لقاءات حقيقية مع اليهود والمشركين، بل ومع الرومان في مؤتة كما رأينا.
فمعنويات الجيش الإسلامي في السماء، والانتصارات المتتالية في كل مكان رفعت معنويات الجيش الإسلامي.
سمعة المسلمين طيبة على مستوى الجزيرة بكاملها، بل على مستوى العالم.
والدولة الإسلامية لها علاقات قوية جداً مع أكثر من مملكة من ممالك الأرض، فاليمن دولة مسلمة، وعمان دولة مسلمة، والبحرين دولة مسلمة، وهناك علاقات مع الحبشة ومع مصر.(37/12)
الوضع العسكري لقريش
ثانياً: الوضع العسكري لقريش.
كان الوضع العسكري لقريش ضعيفاً، ويزداد ضعفاً مع مرور الوقت، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يرى هذا من سنتين وأكثر، ولا ننسى في صلح الحديبية أنه قال في المفاوضات: (وإن قريشاً قد وهّنتهم الحرب وأضرت بهم)، وبعد الأحزاب قال صلى الله عليه وسلم: (الآن نغزوهم ولا يغزونا) يعني: نحن نسير إليهم، فهو صلى الله عليه وسلم يرى أن الدولة الإسلامية في علو واضح، وقريش في هبوط واضح، والوقت الذي مر بعد صلح الحديبية لم يكن في صالح قريش، ورأينا تحول الرجال والنساء من الكفر إلى الإيمان، فهذا إضافة إلى الدولة الإسلامية، وفي نفس الوقت هو نقص في الدولة الكافرة.
وأحلاف قريش تكاد تكون محصورة فقط في بني بكر، وعلاقة قريش بهذا الحليف ليست قوية؛ لأنه كان بين قريش وبين بني بكر خلافات من أيام بدر، وهذه العلاقة بين أهل الباطل بين قريش وبين بني بكر أو أي حليف قد تتغير من حال إلى حال أخرى في وقت سريع وعاجل إذا تغيرت المصالح.
ولعل قريشاً إذا اتخذت موقفاً عسكرياً معيناً فقد تأتي بنو بكر وتخالف هذا الموقف، وتعتذر لخزاعة وللمسلمين وتفك الحلف بينها وبين قريش، فهذا كله وارد وممكن جداً، ورأته قريش قبل هذا في تاريخها أكثر من مرة، والحلف بينهما حقيقة ليس قوياً، والدليل على أنه عندما فُتحت مكة لم نجد أي مساعدة من أي نوع من بني بكر لقريش ضد المسلمين، مع أن مقتضيات معاهدة الحديبية تلزم بني بكر بالدفاع عن قريش إذا داهمها المسلمون، فما بالك لو كانت بنو بكر هي السبب في المشكلة، فهي التي خانت العهد، وهي التي هجمت على خزاعة، وما بالك لو كانت قريش أعانت بني بكر! فكل هذا كان من المفروض أن يجعل بني بكر تساعد قريشاً في أزمة الفتح، لكن لم نر ذلك وهكذا المعاهدات العلمانية القائمة على غير عقيدة صحيحة.
وعلى العكس كان الجيش الإسلامي وحدة مترابطة، يجمعها رباط واحد وهو رباط العقيدة، والرسول عليه الصلاة والسلام يرى هذه العلاقات متينة وقوية.
إذاً: كان الموقف العسكري لقريش في أزمة كبيرة جداً؛ فقريش فقدت مجموعة من أعظم قادتها منذ شهور قليلة فقط، وهذا تمهيد رباني للفتح، فهذا خالد بن الوليد رضي الله عنه الذي كان سبباً في انتصار المشركين في أحد، فقد كان قائد الفرسان الفذ الذي له سمعة في الجزيرة بكاملها، فهذا الرجل انضم إلى المعسكر الإسلامي، وليس فقط خسارة على قريش، بل كسبه المسلمون، وصار إضافة هائلة للدولة الإسلامية.
وهذا عمرو بن العاص أيضاً من أعظم دهاة العرب فقدت قريش قوته وأُضيفت قوته للمسلمين.
وهذا عثمان بن طلحة أيضاً ليس فقط من الفرسان الأشداء، ولكنه من بني عبد الدار، وحامل مفتاح الكعبة فإضافته للدولة الإسلامية إضافة في منتهى القوة، وقد رأينا عائلة عثمان بن طلحة جميعها أُبيدت حول راية المشركين في غزوة أحد تدافع عن راية المشركين، وقبيلة بني عبد الدار لها تاريخ طويل جداً في الدفاع عن حرمات قريش، والآن زعيم هذه العائلة وعميدها عثمان بن طلحة ينضم إلى المسلمين، وليس من البعيد أن جميع بني عبد الدار تنضم إلى المسلمين، فهذا يسبب اهتزازاً واضحاً جداً للصف المشرك.
إذاً: الوضع مستقر جداً للدولة الإسلامية، وفي الناحية الأخرى وجود ضعف عند قريش، ومع مرور الوقت يزداد هذا الضعف، وتقل الأحلاف، والجنود يقلون، والقادة يُفقدون ولصالح المسلمين.(37/13)
تناقص أعداء المسلمين وضعف شوكتهم
ثالثاً: تناقص أعداء المسلمين جداً في ذلك الوقت وضعف شوكتهم.
رأينا أن اليهود انتهى خطرهم تقريباً بعد فتح خيبر، ورأينا غطفان لم ينته خطرهم فحسب، بل جاءت وفودهم تُعلن الإسلام، وتُعلن انضمامها إلى قوة المسلمين، وغطفان هي التي شاركت منذ سنتين في حصار المدينة المنورة المؤمنة، والآن سوف تشارك في حصار مكة المكرمة المشركة في ذلك الوقت.(37/14)
الوضع القانوني والشرعي للمسلمين إزاء قريش
رابعاً: الوضع القانوني والشرعي للمسلمين.
إذا أراد المسلمون فتح مكة فالوضع سليم، ولا ينكر عليهم أحد، فهذه فرصة سانحة لفتح مكة، وقد لا تتكرر بسهولة، ولذلك لا يجب أبداً أن تُضيّع هذه الفرصة، وفتح مكة مطلب هام جداً، ومعاهدة الحديبية كانت تعوق فتح مكة، أما الآن فقد نُقضت المعاهدة، وديار المسلمين وأموالهم في داخل مكة ما زالت منهوبة، وهناك فرصة لاستعادة كل هذه الأمور المنهوبة من المسلمين، كما أن هناك فرصة لتعليم عوام الناس في داخل مكة الإسلام إذا أُزيحت الطغمة الحاكمة من كراسيها في مكة؛ ولهذا نجد عدم تفاعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع محاولات قريش لتجنب الحرب، فالنبي صلى الله عليه وسلم قرر أن ينتهز هذه الفرصة الثمينة ويفتح مكة، فهذه حكمة سياسية في منتهى الروعة.(37/15)
رفع المسلمين للظلم عن المظلومين واجب أخلاقي وقانوني وسياسي
خامساً: هناك واجب أخلاقي وقانوني وسياسي على المسلمين أن يقوموا بفتح مكة؛ وذلك لرفع الظلم عن المظلومين، فخزاعة ظُلمت ولا يجب أن تُترك هكذا دون مساعدة، ثم إن هذا الواجب ليس أخلاقياً فقط، بل هو واجب شرعي وقانوني، أي: أنه فرض على المسلمين أن يساعدوا خزاعة؛ لأن هذا التزام إسلامي مؤكد في صلح الحديبية، فكيف يتخلى عنه المسلمون، المسلمون؟ ليس لهم اختيار في ذلك الأمر، ما داموا قد عاهدوا على شيء عليهم أن يفوا بعهودهم، والمعاهدة مع خزاعة على أن ينصروهم إذا انتُهكت حرماتهم، وقد انتُهكت وفي داخل الحرم، فلم لا يتحرك المسلمون؟ لا بد أن يتحركوا؛ لأن المعاهدة تقول: إن الاعتداء على خزاعة هو اعتداء على المسلمين، حتى وإن كانت خزاعة مشركة.
إذاً: هناك واجب شرعي قانوني على المسلمين أن يجتهدوا في رد الحق إلى أصحابه، في رد الحق إلى خزاعة، وفي رفع الظلم عنهم.
وفي نفس الوقت هذا واجب سياسي هام جداً؛ لأن كرامة الدولة الإسلامية انتهكت أيضاً؛ ولأن هؤلاء الذين قُتلوا حلفاء المسلمين وإن كانوا مشركين، فلا بد لحفظ كرامة الدولة الإسلامية أن تكون الوقفة مناسبة، والرسول عليه الصلاة والسلام رأى أن هذه الوقفة يجب أن تكون فتح مكة.
وهنا تضافرت أمور كثيرة جداً تفيد أن الوضع مناسب جداً لفتح مكة.
وعندما نعيد هذه الأوراق ونحلل الموقف سنجد الآتي: أولاً: الوضع العسكري والسياسي للدولة الإسلامية ممتاز ويتقدم.
ثانياً: الوضع العسكري والسياسي للدولة الكافرة في مكة ضعيف ويتأخر.
ثالثاً: الأعداء الآخرون للدولة الإسلامية استكانوا اليهود وغطفان وغيرهم.
رابعاً: الوضع القانوني إذا أراد المسلمون فتح مكة سليم تماماً.
خامساً: هناك واجب أخلاقي وشرعي وسياسي على المسلمين لصالح خزاعة لا بد من القيام به.
هذا هو الواقع الذي حلله الرسول عليه الصلاة والسلام في لحظة واحدة، فقال: (نصرت يا عمرو بن سالم) وبدأ التجهيز لفتح مكة المكرمة.
إذاً أخذ قرار فتح مكة المكرمة في هذه الظروف سيكون قراراً حكيماً يحقق عدة مصالح دعوية وسياسية وعسكرية وأخلاقية، وغير ذلك، لكن هذا ليس قراراً سهلاً، بل هو من أصعب القرارات؛ لأن مكة ليست كأي بلد، مكة هي عقر دار قريش ولها تاريخ طويل، وقريش ليست بالقبيلة السهلة، هي أعز قبيلة في العرب، والعرب جميعاً يوقّرونها، وقد يغير الكثير من الناس مواقفهم إذا هُددت قريش في عُقر دارها، وبالذات أن عقر دار قريش هو البلد الحرام مكة، وله مكانة هائلة في قلوب جميع العرب.
لقد كان القرار جريئاً جداً وقد تكون له تبعات هائلة، وفي نفس الوقت كثرة التفكير والتروي أكثر من اللازم قد تضيع الفرصة، لا بد أن نأخذ قراراً حاسماً، والقرار قد اتخذ فعلاً وبحسم وبقوة، فقد قرر النبي صلى الله عليه وسلم أن يفتح مكة.(37/16)
وقفة مع قرار الرسول صلى الله عليه وسلم فتح مكة
لا بد أن نقف وقفة مع هذا القرار: هذا القرار السريع ليس قراراً متهوراً حاشا لله، فالقرار مدروس وبحكمة، وذكرنا الواقع الذي كان فيه المسلمون والمشركون، لكن نريد أن نلفت الأنظار إلى أمر في غاية الأهمية، ساعد الرسول عليه الصلاة والسلام على اتخاذ القرار، وهذا الشيء نسميه: الجاهزية الدائمة، اجعل هذا شعار حياتك: كن مستعداً، هناك فرص كثيرة جداً تأتي للإنسان، ولكن لا يستغل هذه الفرص؛ لأنه غير جاهز وغير مستعد، فالرسول صلى الله عليه وسلم وشعبه المؤمن كان جاهزاً بصفة مستمرة، وكان الجيش مدرباً ومنظماً وعلى أُهبة الاستعداد دائماً، الشعب مهيأ لقضايا القتال والبذل والتضحية، والزوجات يدفعن أزواجهن للتضحية والجهاد، حتى الأولاد الصغار يعيشون هذا الجو باستمرار، ويتشوقون إلى الجهاد كما يتشوق إليه الكبار.
لو فُرض على الناس حرب وهي غير مستعدة نفسياً وقضايا الجهاد غير مطروحة في حياتها لا يمكن أن تجد أحداً سيقف معها، فالشعب المترف المرفه الذي يعيش بالملذات والأغاني والكرة صعب عليه أن يقف موقفاً محترماً في أزمة، فهذه الناس تحتاج إلى تربية، وكان شعب الرسول عليه الصلاة والسلام في جاهزية دائمة؛ ولهذا عندما يأتي ظرف مثل هذا يستطيع صلى الله عليه وسلم أن يستغله، فالوضع الاقتصادي للدولة الإسلامية كان في تحسن مستمر، والتنمية في كل المجالات على أحسن ما يكون، والبلد تنتج الذي تريده لا تخاف من أحد، والعلاقات الدبلوماسية له كانت مستقرة وكثيرة، والمخابرات الإسلامية كانت هنا وهناك تقوم بدورها على أفضل ما يكون، والحاكم والمحكوم والوزير والغفير والكبير والصغير الرجل والمرأة الكل يشعر بانتماء حقيقي غير مفتعل للبلد وللدين، وليس مجرد أغنية ليس لها أي معنى ولا تطبيق في حياة الناس! وليس مجرد شعار أجوف يقوله هذا أو ذاك! وليس مجرد خطاب سطحي مخادع للمحكومين! لا، الانتماء ليس أنك تذهب لتمثل بلدك في لعب الكرة وتحزن لو دخل هدف على بلدك، الانتماء أن تكون قابلاً لأن تدفع روحك من أجل بلدك ودينك، الانتماء أنك لا تضيع الدقيقة من شغلك في عمل ليس فيه فائدة للبلد والمسلمين، الانتماء أنك تصنع الذي تحتاجه ولا تستورد كل شيء، الانتماء أنك تحب الجيش وليس أن تهرب منه، الانتماء أنك تحافظ على أموال البلد وليس أن تختلسها وتعتبرها مالاً سائباً.
الانتماء قصة كبيرة جداً، قصة لا تقاس أبداً في الأستاد أو في السينما، لكن تقاس في ميدان الجهاد وفي المصنع والجامعة، وفي الحقول والمعامل في هذه الأشياء كلها، هذا هو الانتماء.
فشعب المدينة كان يعيش قصة الانتماء بطريقة صحيحة؛ ولهذا استطاع أن يقف ويجاهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم عندما احتاج الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا الانتماء الحقيقي.
وهذه الجاهزية الدائمة من أهم مفاتيح استغلال الفرص السانحة، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم استطاع أن يأخذ القرار من غير تردد؛ لأنه علم أن شعبه وجيشه معه بجد، وعلاقاته الدبلوماسية على أكمل وجه، وتعتبر السيرة منهجاً عملياً واقعياً للتغيير فعلاً.
إذاً: أُخذ قرار فتح مكة، وهو من أخطر القرارات في تاريخ الجزيرة، بل في تاريخ العالم، وسوف نرى آثار هذا الفتح الذي سيشمل تقريباً جميع مساحة الأرض وإلى الآن وإلى يوم القيامة.
كان هذا هو الوضع في المدينة المنورة، فكيف كان الوضع في مكة المكرمة؟ كيف تفكر قريش بعد المصيبة التي وقعت عليها؟ وما الذي تعمله بنو بكر مع قريش، وما الذي تعمله القبيلتان مع المسلمين بعد هذا؟ وكيف سيتعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع محاولات قريش بعد ذلك لتجنب الحرب؟ وكيف يجهز الرسول عليه الصلاة والسلام جيشه ويخرج به إلى هذا المشوار الصعب؟ فمكة المكرمة تبعد عن المدينة بمقدار (500) كيلو في الصحراء.
هذه التفاصيل في غاية الأهمية، وهي عماد بناء الدولة الإسلامية، فينبغي أن تدرس بعناية، وهذا إن شاء الله سيكون موضوع الدرس القادم.
أسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه، وأن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
وجزاكم الله خيراً كثيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(37/17)
سلسلة السيرة النبوية_فتح مكة
يعتبر فتح مكة من أعظم لحظات السيرة النبوية عند النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم، فقد كان بمثابة اللحظة التي مسحت آثار المعاناة والألم، واللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة، واللحظة التي سيحكم فيها حرم الله بشرعه ودينه، بعد معاناة الصحابة بمكة قبل الهجرة مدة ثلاث عشرة سنة لاقوا فيها التعذيب والاضطهاد والتشريد والقتل، فهاهم اليوم يدخلون مكة منتصرين مستبشرين بهذا النصر المبين.(38/1)
مقدمة بين يدي فتح مكة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد.
فأهلاً ومرحباً بكم في هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله عز وجل أن يجعل هذا اللقاء في ميزان حسناتنا أجمعين.
مع الدرس العاشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
في الدرس السابق تحدثنا عن خيانة ونقض بني بكر وقريش للعهد الذي بينها وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقتل عدد من رجال خزاعة المحالفة للدولة الإسلامية في ذلك الوقت، ومن ثم أخذ صلى الله عليه وسلم القرار بفتح مكة، وتجهيز أكبر عملية عسكرية في تاريخ المسلمين حتى تلك اللحظة.
والواقع أن قريشاً بعد أن قامت بهذه الجريمة وساعدت بني بكر على قتل الرجال من خزاعة في داخل الحرم جلست قريش مع نفسها تتشاور في هذه القضية، فهي قضية خطيرة جداً: قضية نقض الصلح مع المسلمين، فزعماء قريش عقدوا مجلساً استشارياً كبيراً واجتمع في هذا المجلس أبو سفيان مع قادة مكة، اجتمع مع عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو وغيرهم من رجال مكة وزعمائها، وبدءوا يفكرون فيما سيفعلونه نتيجة هذا الأمر الذي حدث وهو نقض المعاهدة، وقد كان هناك تصور عند قريش وخاصة عند أبي سفيان عن المسلمين وصل في تلك اللحظة إلى درجة الانبهار، فصلح الحديبية نفسه كانت الغلبة فيه للمسلمين، والقوة والبأس في صالح المسلمين، والتفريط والتنازل في صف قريش، وتحدثنا عن ذلك بالتفصيل، وقريش ما كانت لتسلّم بذلك الأمر لولا أنها رأت قوة المسلمين، وكان هذا منذ سنتين عندما كان عدد المسلمين (1400) فقط في بيعة الرضوان أو في صلح الحديبية، ثم سافر أبو سفيان بعد الصلح إلى غزة للتجارة، وهناك التقى مع هرقل في اللقاء الذي تحدثنا عنه قبل ذلك ودارت بينهما المحاورة العجيبة، وخرج أبو سفيان من هذه المحاورة بتصور هائل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إنه ضرب يداً بيد وقال: (لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه ليخافه ملك بني الأصفر -يعني: هرقل - فما زلت موقناً أنه سيظهر) الشاهد أن أبا سفيان كان يرى أن أمر النبي صلى الله عليه وسلم سيظهر في يوم من الأيام، ثم إن أبا سفيان ومن معه من أهل قريش شاهدوا الانتصارات الإسلامية المتتالية هنا وهناك، وبالذات في خيبر ثم في مؤتة، وكانت هذه الانتصارات كبيرة جداً وضخمة جداً، ثم أسلمت الدول والقبائل المحيطة بمكة المكرمة، أسلمت اليمن، وأسلمت البحرين، وأسلمت عمان وغير ذلك من القبائل، وكل هذا ترك تصوراً بالرهبة والهلع عند قريش من مواجهة المسلمين، أضف إلى ذلك أن قريشاً بدأت تبحث في الفوائد المتحققة من مساعدتها لبني بكر في الخيانة التي تمت بقتل مجموعة من رجال خزاعة، فلم تجد أي نوع من الفائدة تحققت؛ لأن هذه معركة داخلية بين بني بكر وبين خزاعة، فإعانة قريش لبني بكر على حرب خزاعة يعتبر تهوراً ملحوظاً، بالإضافة إلى هذه الأمور خلفية عمرة القضاء، فقبل أقل من سنة واحدة رضي أهل مكة بمنتهى الضعف أن يدخل إليهم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وهو الذي طردوه وعذّبوه وأساءوا إلى سمعته، وحاربوه بكل طاقتهم، وافقوا أن يدخل إلى مكة ومعه (2000) من أتباعه لأداء العمرة، وأخلوا مكة له، وهذا لا شك ترك انطباعاً وتصوراً نفسياً قاسياً عند أهل قريش، ولا ننسى مظاهر القوة التي حرص صلى الله عليه وسلم أن يظهرها في هذه العمرة، ولا ننسى انبهار قريش بقوة المسلمين وتعليقات قريش عندما رأوا جيش المسلمين وقوة المسلمين، وعمرة القضاء كانت تمهيداً نفسياً إيجابياً للمسلمين، وكانت تمهيداً نفسياً سلبياً للمشركين، وهذا كله من تدبير رب العالمين سبحانه وتعالى.
إذاً: قريش في اجتماعهم أدركوا أن احتمال الحرب وارد، واحتمال غزو مكة مع صعوبة تصور هذا الأمر على الذهن أمر محتمل، وبناء على هذا الاجتماع أخذت قريش قراراً صعباً، بل من أصعب القرارات في تاريخ قريش، وهو الذهاب إلى المدينة المنورة لاستسماح الرسول عليه الصلاة والسلام أن يتغاضى عن هذا الخطأ، وأن يطيل الهدنة، وهذاً تنازل كبير جداً، وطعن كبير جداً في كرامة قريش، وخاصة أن الذي اختاروه للذهاب هو أبو سفيان شخصياً، أي: زعيم مكة وسيد مكة، ليس مجرد سفير ترسله مكة ولكن زعيم مكة بكاملها وزعيم بني أمية، وله تاريخ طويل مع المسلمين، وله حروب متتالية مع المسلمين، وهاهو أبو سفيان يتنازل عن كبريائه وعن كرامته ويذهب إلى المدينة المنورة؛ ليطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطيل الهدنة، وهذا شيء كبير جداً، ولعل هذه هي ولعل(38/2)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته من أبي سفيان حين جاء إلى المدينة ليطيل مدة الهدنة
ذهب أبو سفيان إلى المدينة المنورة يحاول قدر المستطاع أن يمنع الرسول عليه الصلاة والسلام من الانتقام لخزاعة والثأر لكرامته وكرامة الأمة الإسلامية، وأن يطيل المدة بأي ثمن.
ومن هذا الحدث سنأخذ قاعدة مهمة جداً، وهذا القاعدة ليست فقط في أيام الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنها ستظل معنا إلى يوم القيامة وهي: إذا كان عدوك حريصاً على السلام وحريصاً على تجنب الصدام بكل ما أوتي من قوة ويدفعك إليه دفعاً فاعلم أنه ضعيف، أو على الأقل يخشى قوتك فلا تضعف ولا تجبن.
فأتى أبو سفيان كي يحاول قدر المستطاع أن يتجنب الصدام، وسنجد الوقفة الإسلامية أمام أبي سفيان، في بداية دخوله إلى المدينة المنورة ذهب إلى ابنته، وبنت أبي سفيان كانت زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام وهي أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها أم المؤمنين، والتقى أبو سفيان مع أم حبيبة رضي الله عنها، وكان هذا اللقاء بعد غياب (16) سنة متصلة، فقد كانت أم حبيبة رضي الله عنها هاجرت إلى الحبشة، وبقيت في الحبشة فترة طويلة من الزمان، ثم تزوجها الرسول عليه الصلاة والسلام وأتت إلى المدينة المنورة، ولم تمر بمكة منذ (16) سنة متصلة، فالعلاقة بينها وبينه منقطعة فترة طويلة، فكان أبو سفيان يظن أن أم حبيبة ستستقبله استقبالاً حافلاً فهو أبوها، ومنذ فترة طويلة من الزمن لم ير أحدهما الآخر، لكن عندما أراد التحدث معها وأراد الجلوس على الفراش، فإذا بها تطوي الفراش وتمنعه من الجلوس، فاستغرب أبو سفيان فقال: يا بنية ما أدري أرغبت بي عن هذا الفراش، أو رغبت به عني؟ فقالت السيدة أم حبيبة في صلابة وفي قوة: هو فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت مشرك نجس، فلم أحب أن تجلس على فراشه، فقال أبو سفيان: يا بنية والله لقد أصابك بعدي شر، ثم خرج.
لنا وقفة مع موقف السيدة أم حبيبة، فقد يقول المحلل لهذا الموقف، إن هذا الموقف فيه نوع من الغلظة غير المقبولة من السيدة أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان، والواقع أن في مثل هذه الظروف تكون الغلظة؛ فـ أبو سفيان ليس إنساناً عادياً، بل زعيم مكة، والجميع في المدينة المنورة يعلم أن هناك نقضاً للمعاهدة التي تمت بين المسلمين وبين قريش، وأنه قد جاء إلى المدينة المنورة لكي يطيل المدة، والرسول عليه الصلاة والسلام قد أنبأهم بذلك قبل أن يأتي أبو سفيان في معجزة نبوية ظاهرة، قال صلى الله عليه وسلم: (كأنكم بـ أبي سفيان قد جاءكم يشد في العقد ويزيد في المدة)، فعرف المسلمون أنه أتى لهذا الغرض، لذلك أرادت أم حبيبة رضي الله عنها وأرضاها أن تقف هذه الوقفة الصلبة الجريئة القوية مع أبيها؛ ليعلم أبو سفيان أن المسلمين جميعاً صف واحد، وأنهم جميعاً على قلب رجل واحد، حتى إن ابنته أم حبيبة رضي الله عنها وقفت مع الرسول عليه الصلاة والسلام ضد أبيها أبي سفيان، فهذا ترك انطباعاً وتصوراً سلبياً كبيراً جداً عند أبي سفيان، فقد عرف أنه يقف أمام أناس من الصعب أن يحاربهم، وليس هذا السلوك الإسلامي العام مع الرحم المشرك أو الرحم غير المسلم؛ لأن الله عز وجل أمر بمصاحبة الآباء والأمهات المشركين بالمعروف، قال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان:15]، والذي يؤكد على هذا المعنى ما جاء في البخاري عن السيدة أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت: (قدمت عليَّ أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم)، أي: أنها جاءت في نفس فترة صلح الحديبية، فالسيدة أسماء سألت الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت له: (يا رسول الله إن أمي قدمت عليَّ وهي راغبة أفأصلها؟ قال: نعم صليها)، وهذا هو الأصل في المعاملة، لكن موقف أم حبيبة مع أبيها أبي سفيان موقف مختلف، كان موقفاً صحيحاً بدليل سكوت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا التصرف من السيدة أم حبيبة رضي الله عنها.
ثم خرج أبو سفيان من عند السيدة أم حبيبة بهذه الصدمة الكبيرة، واتجه مباشرة إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليحاول أن يطيل المدة كما ذكرنا، فتحدث أبو سفيان مع الرسول صلى الله عليه وسلم وذكر له رغبته، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض أن يرد عليه، حتى مجرد الرد لم يرد الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس هو التصرف المعتاد من رسو(38/3)
استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه لفتح مكة
أعلن الرسول صلى الله عليه وسلم استنفاراً عاماً على كل المستويات لكل أهل المدينة المنورة، وإرسال استدعاءات للمسلمين في القبائل المختلفة، وممن أرسل إليهم غطفان، وأرسل إلى بني سليم، وإلى فزارة، وهؤلاء هم الأحزاب الذين حاصروا المدينة منذ ثلاث سنوات، والرسول صلى الله عليه وسلم اتفق مع هذه القبائل على التلاقي عند مر الظهران، ومر الظهران على بعد حوالي (22) كيلو من مكة المكرمة، أي: أن هذه القبائل ستأتي من طرق مختلفة؛ لكي لا تستطيع عيون قريش تقدير عدد الجيش المسلم، وفي نفس الوقت أخرج الرسول عليه الصلاة والسلام سرية على رأسها أبو قتادة رضي الله عنه للتمويه، أرسل هذه السرية إلى اتجاه بعيد عن اتجاه مكة المكرمة؛ ليلفت أنظار القرشيين إلى أنه لا يريد مكة المكرمة، وأمر صلى الله عليه وسلم المسلمين جميعاً بالسرية التامة، وبعدم إخبار أي إنسان خارج المدينة المنورة بأمر هذا الغزو لمكة المكرمة، ثم رفع يده إلى السماء ودعا وقال: (اللهم خذ على أسماعهم وأبصارهم فلا يرونا إلا بغتة، ولا يسمعون بنا إلا فجأة) وبدأ الإعداد الضخم للخروج من المدينة المنورة.
في ذلك الوقت حدثت قصة لا أريد أن أقف عندها كثيراً؛ لأني سأحيلها إن شاء الله إلى مجموعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين، لكن نمر سريعاً على هذا الحدث، فالحقيقة أن حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه وأرضاه أخطأ خطأ كبيراً بإرادته بكشف سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لمشركي قريش، فهو أرسل إليهم رسالة يخبرهم فيها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قادم إليهم، ولماذا فعل هذا؟ لأن له عائلة بمكة المكرمة وخشي عليها من بطش قريش، وليست له قبيلة كبيرة بمكة تدافع عن أسرته، فهو رجل حليف ليس من أهل مكة الأصليين، وهذا الأمر لا يبرر أبداً له هذا الخطأ الكبير، لكن هذا هو الذي حصل، ونزل الوحي يكشف للرسول عليه الصلاة والسلام هذا الأمر، واستطاع الرسول عليه الصلاة والسلام أن يرسل من يأتي بالرسالة التي أرسلها، وأحبطت هذه المحاولة، وهذا الصحابي الجليل لم يرتكب هذا الخطأ لأنه من المنافقين، بل هي لحظة ضعف خاف فيها على أسرته، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام عفا عنه وتجاوز عن هذا الخطأ؛ لسابق تاريخه رضي الله عنه في الإسلام، وكما هو معروف أن حاطباً رضي الله عنه من أهل بدر، ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام منع عمر من إيذائه وقال له: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطّلع على قلوب من شهد بدراً، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، هذا الحدث يحتاج إلى تفصيل، ولكن كما قلنا سنتحدث عنه بالتفصيل في مجموعة أخطاء المؤمنين.
خرج الرسول عليه الصلاة والسلام من المدينة المنورة وكان هذا الخروج في (10) رمضان سنة (8هـ)، واتجه مباشرة إلى مكة المكرمة، وفي الطريق بدأت البشريات تتوافد على المسلمين أولاً في طريقه وبمجرد أن خرج من المدينة المنورة لقي العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أحب الناس إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، فقد كان تأخر إسلام العباس رضي الله عنه وأرضاه علامة استفهام كبيرة جداً، حتى إن هناك من قال: إنه قد أسلم أيام بدر، ولم يفسّر تفسيراً واضحاً بقاءه في مكة المكرمة دون هجرة كل هذه السنوات، وهناك من قال: إنه بقي في مكة لنقل الأخبار للرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يقم أحد الأدلة على ذلك، لكن الحمد لله أنه هاجر قبل أن يصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مكة المكرمة، وذلك أسعد الرسول عليه الصلاة والسلام جداً، وسر سروراً عظيماً برؤية العباس رضي الله عنه وأرضاه، وانضم العباس إلى قوة المسلمين، وسيكون له دور إيجابي كما سنرى ذلك في فتح مكة المكرمة.
ثم أكمل الرسول عليه الصلاة والسلام الطريق وقد زادت قوة المسلمين بـ العباس رضي الله عنه، فوجد رجلين آخرين: أبا سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية، أحدهما ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، والآخر ابن عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذان الرجلان كانا من أشد الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاءا من مكة المكرمة إلى المدينة ليعلنا إسلامهما بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام، وتخيل من شدة إيذائهما للرسول عليه الصلاة والسلام رفض عليه الصلاة والسلام أن يقابلهما، مع أنه صلى الله عليه وسلم كان يفرح كثيراً بمن أتى إليه مسلماً، إلا أنه رفض في البداية مقابلتهما من شدة إيذائهما له في فترة الفترة المكية، لولا أن السيدة أم سلمة رضي الله عنها وكانت مصاحبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتح فتوسطت لهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقابلهما الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل منهما الإسلام بعد أن أعلنا التوبة الكاملة بين يديه صلى الله عليه وسلم.(38/4)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم حين شق الصوم على أصحابه بكراع الغميم
أكمل الرسول صلى الله عليه وسلم الطريق، وكما ذكرنا أن هذا الخروج كان في رمضان سنة (8 هـ)، وصام الجيش معظم الطريق حتى وصلوا إلى كراع الغميم، وكراع الغميم تقريباً على بعد (60) كيلو أو أكثر من مكة المكرمة، وفي كراع الغميم جاء بعض الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه أن الناس قد شق عليهم الصيام، وكان هذا بعد صلاة العصر، فماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ دعا صلى الله عليه وسلم بقدح فيه ماء ورفعه حتى نظر الناس إليه، ثم شرب صلى الله عليه وسلم، وهذا في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
نجد في هذا الموقف أن الرسول عليه الصلاة والسلام عقد مقارنة سريعة هامة بين الصوم وبين الجهاد في سبيل الله، فالصوم عبادة عظيمة جداً، كما قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به) رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة، كذلك الجهاد عبادة عظيمة جداً، وهو ذروة سنام الإسلام، وصرّح الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لا يعدله شيء أيضاً كما في البخاري عن أبي هريرة، فهو في هذا الموقف يقارن بين عبادتين عظيمتين، وهذا الموقف كان محيّراً للبعض إلا أن الرؤية كانت واضحة جداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلذلك دعا بقدح فيه ماء فشرب وهو صائم، مع أن الموقف كان بعد صلاة العصر، ولم يبق إلا قليل ويدخل وقت المغرب، لكن فعل ذلك عليه الصلاة والسلام ليزرع أكثر من معنى في نفوس المسلمين: أولاً: هناك ما يسمى بواجب الوقت، بمعنى أن هناك أشياء لا بد أن تتم الآن، وأشياء أخرى من الممكن أن تؤخر إلى وقت لاحق، فتأخير الصيام لا يضر، لأننا من الممكن أن نقضيه بعد انتهاء فتح مكة، لكن الجهاد الآن لا يؤخر، وخاصة أن الجيش على بعد (60) كيلو من مكة المكرمة.
ثانياً: ليس من الممكن أن تأتي بكل أنواع الخير، أو تتجنب كل أنواع الشر، هذه من المثاليات غير الممكنة في الدنيا، لكن المسلم الحكيم يوازن بين العمل الفاضل والعمل المفضول، فيقدم الفاضل ويؤخر المفضول، ولا يكون هذا إلا بترتيب جيد للأولويات، وواقعية في الفكر والأداء، وتوفيق من رب العالمين سبحانه وتعالى.
ثالثاً: أن الإسلام ليس شعائر تعبدية فحسب، ومع ذلك ترى الكثير من المسلمين يقصر التزامه بالإسلام على الصوم والصلاة وقراءة القرآن والذكر ونحو ذلك من الشعائر، نقول: الإسلام دين جاء ليحكم كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس، ونحن رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يؤخر عبادة وشعيرة هامة جداً ليقوم بأمر آخر من الإسلام أيضاً في صالح الأمة ألا وهو الجهاد في سبيل الله، فالجهاد من الإسلام، والسياسة من الإسلام، والتجارة من الإسلام، والمعاملات من الإسلام وهكذا؛ ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام أفطر وأمر الناس بالإفطار وهذا بعد وقت صلاة العصر، بل إن في صحيح مسلم: (أن بعض الصحابة جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا: إن بعض الصحابة لم يفطروا مع الناس)، ماذا علّق صلى الله عليه وسلم على هذا الفعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: (أولئك العصاة أولئك العصاة) مع أنهم لم يرتكبوا ذنباً، لكن هذه المخالفة في ذلك الوقت ستجعل قوتهم ضعيفة لا يستطيعون الجهاد مع المسلمين، فهنا خالفوا واجب الوقت، وخالفوا تقليد الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الأمر، فسمّاهم صلى الله عليه وسلم العصاة، مع أنهم يصومون رمضان في رمضان، وهذا يحتاج إلى تدبر عميق وفقه؛ لكي نستطيع فهم الأبعاد التربوية عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.(38/5)
التقاء القبائل عام الفتح بالرسول صلى الله عليه وسلم بمر الظهران وموقف زعماء مكة منها
وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى مر الظهران، ومر الظهران على بعد (22) كيلو من مكة المكرمة، وهناك التقت الجنود من القبائل المختلفة من قبائل فزارة ومن قبائل بني سليم ومن غطفان ومزينة وجهينة ومن المدينة المنورة من كل مكان، عشرة آلاف جندي، هذه هي الطاقة الإسلامية، وهذا الوضع كنفس الوضع الذي كان في غزوة الأحزاب ولكن بصورة عكسية، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] قبل الفتح بثلاث سنوات حوصرت المدينة بعشرة آلاف مشرك، والآن تحاصر مكة بعشرة آلاف مسلم، العدد هو العدد لكن شتان بين الفريقين.
أراد الرسول عليه الصلاة والسلام لقريش هزيمة نفسية؛ لكي يدخل مكة بأقل الخسائر الممكنة، فأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في فكرة نبوية عبقرية رائعة أن يشعلوا النيران جميعاً، أي كل فرد منهم يشعل شعلة ويرفعها بيده، فأصبحت عشرة آلاف شعلة من النيران، فالنيران بحد ذاتها مرعبة، فإذا رآها الناس شعروا بالرهبة، وهذه الفكرة كانت مثيرة ومرعبة لأهل قريش، وشاهدوها جميعاً؛ لأن المسافة (22) كيلو بين جيش المسلمين وبين مكة فهي مسافة قريبة يستطيع أهل قريش أن يروا فيه النيران، ومع هذا كان من قريش المراقبين والجواسيس على مقربة من مر الظهران، ورأوا هذه النيران عن قرب، ومن هؤلاء أبو سفيان شخصياً، وتصور مدى الهلع والرعب عند سيد قريش وعند زعيم مكة الذي يدفعه أن يخرج بنفسه ليراقب أحوال المسلمين، وكان معه بديل بن ورقاء الخزاعي، وذكرنا قبل هذا أن بديل بن ورقاء كان صديقاً شخصياً لـ أبي سفيان ومع أن بديلاً استغاث بالرسول عليه الصلاة والسلام إلا أنه لم يكن يتوقع أبداً أن يأتي الرسول عليه الصلاة والسلام بجيش يفتح مكة المكرمة عقر دار قريش، كان كل أحلامه أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيطلب من قريش أن تدفع دية المقتولين من خزاعة، لكن الآن يشاهد جيشاً كبيراً أتى إلى مكة المكرمة.
وهنا يأتي كلام العباس رضي الله عنه وأرضاه عن هذا الموقف العجيب، وهذا في الطبراني بسند صحيح عن العباس رضي الله عنه، فـ العباس عندما رأى عشرة آلاف جندي على أبواب مكة المكرمة، ومع ذلك فـ العباس لا يزال حديث الهجرة، بل قد يكون حديث الإسلام، وقريش قبيلة قوية جداً، وإسلامها لا شك أنه أفضل من قتلها، ثم هم الرحم والأهل والعشيرة، فأول ما رأى هذا العدد يقترب من مكة المكرمة قال: وا صباح قريش، والله لئن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة قبل أن يستأمنوه إنه لهلاك قريش إلى آخر الدهر.
فبدأ يبحث عمن يخبر قريشاً أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد جاء ليخرجوا ليستأمنوه، فهو الآن لا يدل على أسرار الجيش؛ لأن الجيش قد كشف أمره، فقد أشعل عشرة آلاف شعلة حول مكة المكرمة، فليس هناك أي نوع من التخفي، فالآن هو يريد لقريش أن تستأمن لنفسها، فركب بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام وبدأ يبحث عن أي إنسان يصل بخبر إلى مكة المكرمة، فسمع همسات من رجلين يتحدثان فأحدهما كان يقول: ما رأيت كاليوم قط نيراناً ولا عسكراً، فرد عليه صوت آخر وقال: هذه والله نيران خزاعة حمشتها الحرب.
أي: أن خزاعة جاءت لتنتقم لنفسها من قريش، فقال الأول: خزاعة! والله أذل وألأم من أن تكون هذه نيرانها وعسكرها، فسمعهم العباس بن عبد المطلب فعرف الصوت فناداهما، فكان الصوت الأول أبا سفيان والصوت الثاني بديل بن ورقاء الخزاعي، وكما ذكرنا أن بديل بن ورقاء يعيش في داخل مكة المكرمة؛ فهو لا يعرف أحوال خزاعة، وهل خزاعة جاءت بجيش أو غير خزاعة؟ المهم أن العباس رضي الله عنه لما ناداهما فعرف أبو سفيان صوته فقال: أبو الفضل؟ -أي: العباس بن عبد المطلب - فقلت: نعم، قال: ما لك فداك أبي وأمي، فقلت: ويحك يا أبا سفيان هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الناس، وا صباح قريش والله، قال: فما الحيلة فداك أبي وأمي؟ قال: قلت: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب معي هذه البغلة حتى آتي بك رسول الله صلى الله عليه وسلم أستأمنه لك، فوافق أبو سفيان دون تردد؛ لأن موقفه صعب جداً فهو زعيم قريش.
فوافق دون تردد وانصاع لنصيحة العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه، وركب خلفه على بغلة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وانطلق إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ورجع بديل بن ورقاء إلى مكة المكرمة، وفي ذهابهما إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كانا كلما مرا على نار من نيران المسلمين قالوا: من هذا؟ فيقولون: هذه بغلة الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا عم الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى أن مرا على نار عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه(38/6)
قصة إسلام أبي سفيان ودوره في فتح مكة
لقد عرض الرسول عليه الصلاة والسلام الإسلام على أبي سفيان بمنتهى القوة، فهو يعرض عليه الإسلام لنجاته وإلا فالأصل أن الرسول عليه الصلاة والسلام في حل من دماء قريش؛ لأنهم خالفوا صلح الحديبية وقتلوا رجالاً من قبيلة خزاعة حليفة المسلمين، فعرض عليه الإسلام بصيغة فيها ترهيب واضح قال: (ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟) تهديد واضح، ذهب وقت الإقناع والمحاورة، والآن نحن على أبواب حرب، وأبو سفيان ليس بالرجل السهل فهو من دهاة العرب، واستطاع أن يقوّم الموقف بأسرع وقت وبصورة واقعية، ولذلك تلطّف في الحوار وأجاب بصورة تجمع بين الموافقة وعدم الاقتناع الكامل، فقال أبو سفيان: (بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله غيره لقد أغنى عني شيئاً)، وبعد مدح الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجاوب إجابة مباشرة قائلاً: أشهد أن لا إله إلا الله، ولكن قال: لو كان هناك آلهة أخرى كاللات أو هبل أو غيرهما لدافعت عنا، فانتقل معه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى النقطة الأصعب: وهي الاعتراف بنبوة الرسول عليه الصلاة والسلام: لأن العرب ما كانوا ينكرون أن الله عز وجل هو الخالق، ولكنهم كانوا يشركون معه أصنامهم، أما قضية النبوة والرسالة فهذه كانت مرفوضة عندهم تماماً، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: (ويحك يا أبا سفيان ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟) فـ أبو سفيان حتى هذه اللحظة لم يقتنع بقضية الإيمان، وهو لا يريد في نفس الوقت أن يكذب وهو سيد قريش، وكان كما يقول عن نفسه: وكنت امرأ أتكرم على الكذب، وفي نفس الوقت لا يريد أن يأخذ موقفاً حاداً تكون فيه نهايته، وإنما قال أبو سفيان: (بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، هذه والله كان في نفسي منها شيء حتى الآن)، أي: أنه وإلى هذه اللحظة لم يكن مقتنعاً بنبوته صلى الله عليه وسلم، فهو متردد، لا يتصور أبو سفيان أن تنهار مقاومته كلها في لحظة، وهنا تدخل العباس رضي الله عنه ليدرك أبا سفيان فـ العباس مدرك صعوبة الموقف، واحتمال قتل أبي سفيان وغزو مكة وإهلاك قريش احتمال وارد جداً، وعمر بن الخطاب صرّح بذلك في اليوم الذي قبيل هذا اليوم، فقال العباس في منتهى القوة: (ويحك يا أبا سفيان أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله قبل أن تضرب عنقك)، وهذا ليس إكراهاً في الدين، بل هو رحمة؛ لأن قتل أبي سفيان في هذا الموقف لا يستنكره أحد؛ فهو يسمى في أعراف الدول: بمجرم الحرب؛ لأنه دبر اغتيالاً جماعياً قبل ذلك لسكان المدينة المنورة في غزوة الأحزاب، هذا غير فتنة الناس عن دينهم طول سنوات مكة والمدينة، غير نقضه العهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام في صلح الحديبية، فقد أصبح حلال الدم، وهذا في عرف الجميع مقبول، وإسلامه يرفع عنه عقوبة مستحقة وله الخيار، فـ أبو سفيان رجل واقعي فقد أدرك خطورة الموقف ولذلك نطق بالشهادتين مباشرة: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأعلن إسلامه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام، والعباس رضي الله عنه صديق قديم لـ أبي سفيان، ويرى الأزمة التي وضع فيها أبو سفيان، ويرى الانهيار الذي تعرض له، ولهذا طلب العباس رضي الله عنه من الرسول عليه الصلاة والسلام طلباً ليخرج أبا سفيان من هذه الأزمة، فقال: (يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً)، هنا بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام يفكر في الأمر، ومن الواضح أن إسلام أبي سفيان كان إسلام اضطرار، فهو لم يقتنع بعد بالنبوة، ولم يشعر بالانتماء الحقيقي للنظام الجديد، فقد ينتهز أي فرصة للانقلاب على المسلمين، وأبو سفيان عظيم مكة لعدة سنوات، فإن لم ينزله صلى الله عليه وسلم منزله فإن هذا سيؤثر سلباً لا شك على أبي سفيان وعلى أهل مكة جميعاً، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام إذا أعطى أبا سفيان شيئاً فهو سوف يستخدمه لصالح الإسلام، وسيكون أبو سفيان من رجاله وولاته بدلاً من أن يكون من أعدائه، وقد يرى ذلك بقية زعماء مكة فيطمعون في شيء من سلطان المسلمين كما أخذ أبو سفيان؛ ولهذا الرسول عليه الصلاة والسلام قرر أن يعطيه شيئاً، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت لا يملك مالاً كثيراً يليق بزعيم مكة، ولا يستطيع أن يعده بإمارة؛ لأنه لم يستوثق بعد من صدق إيمانه؛ لأن الظاهر أنه أسلم مضطراً، وقد يؤذي المسلمين بإمارته سواء على(38/7)
خطة الرسول صلى الله عليه وسلم العسكرية لدخول مكة
عند اقتراب الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة بدأ يضع الخطة العسكرية لدخول مكة، فقسّم جيشه إلى أربعة فرق: فرقة على رأسها خالد بن الوليد رضي الله عنه، وهذه تدخل من جنوب مكة، وهي فرقة فرسان قوية جداً.
الفرقة الثانية: على رأسها الزبير بن العوام رضي الله عنه وتدخل من كداء شمال مكة المكرمة، وهي أيضاً فرقة فرسان.
وهاتان الفرقتان تحاصران مكة كأنها بين فكي كماشة.
الفرقة الثالثة: هي فرقة من الرجّالة المشاة بقيادة أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه.
أما الفرقة الرابعة: فهي فرقة الأنصار رضي الله عنهم وعلى رأسها سعد بن عبادة رضي الله عنه وأرضاه، وفي هذه الفرقة كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام أمر الفرق الأربع بالالتقاء عند الصفا، كل فرقة تأتي من ناحية وتدخل مكة المكرمة ثم يلتقون جميعاً عند جبل الصفا بالقرب من البيت الحرام.
فمعظم الناس في مكة استمعوا لكلام أبي سفيان ودخلوا الأماكن الآمنة، إما أنهم دخلوا المسجد الحرام، أو دخلوا بيوتهم، أو دخلوا دار أبي سفيان، لكن بعض زعماء قريش غير أبي سفيان قرروا القيام بمحاولة يائسة للمقاومة لعلها تنجح مع جمع أوباش قريش، يعني: العبيد والفقراء وعوام الناس، فهؤلاء الزعماء يدفعون بهؤلاء الأوباش إلى قتال الجيش الإسلامي، وكان يرأس هؤلاء عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وهما من أشهر فرسان قريش، وكانت النتيجة في حسابات زعماء قريش أحد أمرين: إما نصر، وسيكون هذا النصر للسادة، وإما هزيمة فعندها سيسلمون للرسول عليه الصلاة والسلام ما يريده، ولو كانت الهزيمة قاسية وفقد الجيش؛ لأن الجيش هم من الأوباش الذين لا قيمة لهم عندهم، وهكذا هي الجيوش العلمانية، النصر للسادة، والتضحية والبذل للعبيد، أقصى أحلام الجندي المنتصر في الجيوش العلمانية أن يعطى نيشاناً أو عدة عشرات أو مئات من الجنيهات، وعند الهزيمة يضحون بالآلاف والملايين، أما السادة في الجيوش العلمانية فيحتفلون بالنصر ولا يدفعون أثمان الهزائم، وهذا الكلام خلافاً للجيوش الإسلامية تماماً، فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يقاتل مع جنوده كأحدهم تماماً، يعاني كما يعانون ويتعرض للخطر كما يتعرضون، والغنائم في حالة الفوز توزّع على جيش المنتصر، والهزيمة يشترك في دفع ثمنها الجميع.
وهذا الأمر يزرع الانتماء في قلوب الجميع بصورة تلقائية طبيعية، فهذا هو الوضع في الجيوش الإسلامية، لكن الوضع في مكة كان غير هذا، فقد كان الوضع في مكة عبارة عن قبول المعظم من الناس بدخول البيوت وتجنب القتال، إلا فرقة من العبيد والفقراء يقودهم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، وكانت متمركزة عند منطقة تسمى الخندمة في جنوب مكة، وهذه الأخبار تصل الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ثم أصدر الرسول عليه الصلاة والسلام عدة أوامر، أصدر ثلاثة أوامر رئيسية: الأمر الأول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم، فليس الغرض من الفتح هو الانتقام من أهل مكة، رغم كل التاريخ الأسود لكفارها، لكن الغرض هو حكم هذه البلدة الطيبة بالإسلام، وتعليم الناس دين رب العالمين سبحانه وتعالى، وهذا حكم عام ينطبق على كل الحروب الإسلامية، ورأيناه في جميع الفتوحات الإسلامية.
الأمر الثاني: إذا لقيتم أوباش قريش الذين يقاتلون فاحصدوهم حصداً.
في مقابل الرحمة في الأمر الأول هناك الحزم والقوة في الأمر الثاني، فلا بد أن يرى أهل الباطل قوة المسلمين وبأسهم، وعندها ستلين قناتهم، وسيسلس قيادهم، وهذا أحفظ لدمائهم ودماء المسلمين.
الأمر الثالث: إهدار دم مجموعة من كفار مكة، وهذه المجموعة ارتكبت جرائم شنيعة في حق الدولة الإسلامية، وهي جرائم لا تغتفر، حتى إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المشهور بالرحمة والمعروف بالرفق واللين يقول في حقهم: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة) وكانوا بضعة عشر رجلاً وامرأة، وكانت هذه دلالة واضحة جداً على جدية الدولة الإسلامية، وعدم قبول الدولة الإسلامية بأي حال من الأحوال أن يسخر أحد منها أو من رموزها، وخاصة أن معظم هؤلاء الذين أُهدر دمهم كانت جريمتهم هي سب الرسول صلى الله عليه وسلم والسخرية منه، والتعريض به والتهكم عليه، ولا يخفى على أحد أن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كالطعن في أي قائد؛ لأنه ليس مجرد زعيم للدولة الإسلامية، بل هو ناقل عن رب العزة، ورسول من رب العالمين سبحانه وتعالى، فالطعن فيه طعن في دين وشرع وقانون وكيان الدولة الإسلامية، وهو ما لا يجب أن ينسى بسهولة؛ ولهذا كان الأمر الصارم: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة)، وبعضهم قتل فعلاً وبعضهم تاب، وعاد إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وأعلن التوبة الصريحة بين يديه وقبل منه الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: فقد كانت هذه هي أوامر الرسول ع(38/8)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من إرادة سعد بن عبادة مقاتلة أهل مكة يوم الفتح
دخلت الجيوش الإسلامية مكة كما خطط لها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكث معظم أهل مكة في بيوتهم وكانت شوارع مكة في الأغلب خالية من المارة، وكانت رغبة الرسول صلى الله عليه وسلم الأكيدة ألا يحدث قتال، وخاصة في هذا البلد الحرام، فهي أحب البلاد إلى قلبه صلى الله عليه وسلم، ومع وضوح هذه الرغبة في كلام وأفعال الرسول عليه الصلاة والسلام إلا أن بعض الصحابة كانت تراودهم أحلام الانتقام ممن أذاقوا المسلمين العذاب ألوانه، من ذلك أن سعد بن عبادة رضي الله عنه سيد الأنصار وقائد كتيبة الأنصار قال في حماسة عند دخوله مكة: اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الكعبة، وهذه الكلمات تعبر عن رغبة في القتال، مع أن هذه الكلمات لها خلفية شرعية ولها منطق مقبول إلا أنها لم ترض الرسول صلى الله عليه وسلم، فالخلفية الشرعية أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: (إن مكة قد أحلت له ساعة من نهار) يعني: القتال في ذلك الوقت قتال شرعي، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يريده فقط عند الاضطرار، وأن الأصل ألا نقاتل، ولكن منطق سعد بن عبادة هذا منطق مفهوم ومقبول، فالمنطق كان يؤيد هذا الأمر في رأي العموم من الناس؛ فمكة الآن محكومة بأهل الكفر وقتالهم واجب، فهؤلاء هم الذين عذّبوا المؤمنين، وهم الذين أخرجوا الرسول عليه الصلاة والسلام آذوه وأصحابه قبل ذلك، بل إن سعد بن عبادة قد تعرض لأذى قريش بصورة مباشرة، وارجعوا إلى درس بيعة العقبة الثانية ففي آخر البيعة أمسك المشركون بـ سعد بن عبادة وضربوه ضرباً مبرحاً مع كونه سيد الخزرج، ومن الشخصيات الهامة جداً في الجزيرة العربية، ولا شك أن هذه الحادثة تركت في نفسه أثراً وأراد أن يعاملهم بالمثل فقال مثل هذه الكلمات، ومع كل هذه المبررات إلا أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يريد قتالاً فعلاً، ووصلت إليه كلمة سعد بن عبادة عن طريق أبي سفيان، وأبو سفيان ارتعب عند سماع كلمة سعد بن عبادة هذه، وأسرع إلى الرسول عليه الصلاة والسلام يستوثق من أمر الأمان لأهل مكة، فقال صلى الله عليه وسلم عندما سمع هذه الكلمات: (اليوم يوم المرحمة) يرد على كلمة سعد: اليوم يوم الملحمة، قال عليه الصلاة والسلام: (اليوم يوم المرحمة، هذا يوم يعظّم الله فيه الكعبة ويوم تكسى فيه الكعبة) فالرسول صلى الله عليه وسلم صحح المفاهيم ولم يكتف بذلك، لقد خشي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ سعد بن عبادة فرقته من الأنصار بهذه الروح القتالية فيتساهل في أمر القتال، لذلك نزع الراية منه وأعطاها لغيره، لكن بفقه دعوي رائع جداً أراد أن يطيب خاطر سعد بن عبادة ولا يؤثر على نفسيته وخاصة أنه زعيم الخزرج، فأعطى الراية لـ قيس بن سعد بن عبادة، فكان قراراً في منتهى الحكمة وأرضى به كل الأطراف، أرضى سعد بن عبادة وأرضى نفسه صلى الله عليه وسلم بتنفيذ القرار ألا يقاتل إلا من قاتل، وأرضى أبا سفيان الذي اشتكى إليه هذه الكلمة القاسية عليه، وخاصة أنه قد أعطى أماناً لأهل مكة.(38/9)
موقف الجيش الإسلامي من مقاومة بعض كفار قريش ومكانة الفتح في نفس الرسول وصحابته
دخلت الجيوش الإسلامية مكة من كل مكان، ولم تلق قتالاً يذكر إلا في جنوب شرق مكة كما ذكرنا عند منطقة اسمها الخندمة، حين تزعم عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أوباش قريش وقاتلوا في هذه المنطقة، والذي دخل من الجنوب من المسلمين خالد بن الوليد رضي الله عنه بفرقة قوية من الفرسان، ومع كون خالد رضي الله عنه صديقاً قديماً وحميماً لـ عكرمة ولـ صفوان إلا أنه كان متجرداً تمام التجرد، وقاتل قتالاً شديداً رائعاً تطاير من حوله المشركون، وما هي إلا لحظات حتى صارت الفرقة المشركة ما بين قتيل وأسير وفار، وهرب صفوان بن أمية وكذلك عكرمة بن أبي جهل هربا من مكة بكاملها، وخمدت المقاومة تماماً في مكة المكرمة، وفتحت مكة أبوابها لخير البشر صلى الله عليه وسلم ليدخلها آمناً مطمئناً عزيزاً.
لعل هذه هي أعظم لحظات السيرة النبوية فهي اللحظة التي مسحت آثار المعاناة والألم، واللحظة التي انتظرها المسلمون أكثر من عشرين سنة، واللحظة التي سيحكم فيها حرم الله بشرع الله عز وجل، ثلاث عشرة سنة متصلة في مكة من الألم والتعذيب والاضطهاد، أين أولئك الساخرون من الإسلام؟ أين أولئك المتهكمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين الذين كانوا يقولون: شاعر، أو مجنون؟ أين الزعماء والأسياد والأشراف والقواد؟ أين الجبابرة والطواغيت؟ لا تسمع منهم اليوم إلا همساً.
لا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام عند دخوله مكة كان يستعرض شريطاً كاملاً للذكريات، ومر على ذهنه صلى الله عليه وسلم وهو يدخل مكة بهذا الدخول العظيم الفاتح، تذكر هنا كانت الطفولة والشباب، وهنا نزل عليه جبريل عليه السلام للمرة الأولى، وهنا كانت خديجة رضي الله عنها، ذكريات (25) سنة كاملة، ذكريات الجهاد والصبر حتى الوفاة.
هنا مرت لحظات سعيدة جداً على المسلمين، لحظة يوم أسلم الصديق ويوم أسلم عمر ويوم أسلم عثمان وعلي وحمزة وأبو عبيدة وسعد ذكريات جميلة، هنا دار الأرقم بكل ذكرياته الجميلة أيضاً.
وهنا في نفس الوقت الصبر والكفاح والثبات، فمن هنا خرج المهاجرون إلى الحبشة، ومن هنا خرج المهاجرون أيضاً إلى المدينة المنورة، ومن هنا خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق في هجرة صعبة في مطاردة شرسة، وزعماء الكفر جميعاً قد جندوا أنفسهم لحربه أو لقتله، يلتفت إلى مكة حال خروجه منها ويقول: (والله إنكِ لأحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت) وبعدها تمر الأيام وتمر السنين، أحداث ساخنة، ومواقف صعبة، جهاد ومشقة، وعناء وكفاح، لكن ما غابت مكة عن الذهن لحظة واحدة، وهنا يتحقق حلم السنين، أصبح الأمل واقعاً، وصار الحلم حقيقة، وهناك أناس كثيرون يظنون أن هذا أمر مستحيل، لكن تبقى الحقيقة الواضحة: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر:44] إنه نصر الله وتدبير الله وتوفيق الله، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك ذلك تمام الإدراك؛ لذلك لم يدخل مكة دخول المنتصرين المتكبرين، رافعاً رأسه متعالياً على غيره، ناسباً النصر لنفسه، حاشا لله، ولكنه دخل مكة دخول المتواضعين لله عز وجل الخاشعين له، خفض رأسه صلى الله عليه وسلم في تواضع حتى كادت أن تمس ظهر دابته، دخل وهو يتلو سورة النصر، فيذكر نفسه ويذكر المؤمنين حوله ويذكر المؤمنين إلى يوم القيامة، بل ويعلم الناس جميعاً أن النصر من عند الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى إذا قضى شيئاً فلا راد لقضائه: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر:1 - 3].
وصار الموكب المهيب الجليل حتى دخل صحن الكعبة، ليبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم ومن اللحظة الأولى في إعلان إسلامية الدولة وربانية التشريع، وليرسّخ القاعدة الأصيلة {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57].
ونسأل الله عز وجل أن يعز الإسلام والمسلمين، وأن يرفع رايات الموحدين، وأن يرينا يوماً تفتح فيه بلاد الأرض بالإسلام ويظهر فيه الدين، ويعز الله عز وجل فيه المؤمنين، ويذل فيه المشركين، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
كما نسأله سبحانه وتعالى أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا.
ونسأله سبحانه وتعالى أن يجمعنا على الخير دائماً.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44](38/10)
سلسلة السيرة النبوية_إسلام مكة
كان يوم فتح مكة يوماً مشهوداً، وفيه من الدروس والعبر الكثير، من ذلك: احتواء الموقف، وإحقاق الحق، وإزهاق الباطل بتكسير الأصنام، وتأليف القلوب، والصفح والعفو عن ألد الأعداء وإدخالهم في حظيرة الإسلام بالأخلاق الرفيعة العالية، وغير ذلك من المواقف العظيمة التي فعلها صلى الله عليه وسلم في يوم فتح مكة.(39/1)
الخطوات التي قام بها الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة مباشرة
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الحادي عشر من دروس السيرة النبوية في العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
في الدرس السابق تحدثنا عن لحظة من أهم اللحظات في تاريخ الدعوة الإسلامية، بل وفي تاريخ الأرض عندما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة فاتحاً عزيزاً منتصراً صلى الله عليه وسلم، ودخل كما تعلمون في عشرة آلاف من أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وكما ذكرنا لم يلق مقاومة تذكر في مكة المكرمة إلا مجموعة واحدة من كفار قريش أرادت المقاومة، فاستطاع خالد بن الوليد رضي الله عنه مع فرسان معه أن يقضوا على هذه المقاومة في لحظات، ودانت مكة المكرمة لحكم المسلمين بعد أقل من يوم واحد من فتحها، والرسول عليه الصلاة والسلام دخل بموكبه المهيب مخترقاً مكة بكاملها حتى وصل إلى صحن الكعبة.(39/2)
تكسير الأصنام
أول ما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة أمر بتكسير الأصنام التي حولها داخلها، فقد كان حول الكعبة (360) صنماً غير هبل أعظم آلهتهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين بتكسير كل هذه الأصنام وشاركهم في ذلك.
وهذا الأمر كان بعد صبر دام (21) سنة كاملة، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة مدة (13) سنة متتالية.
أي: الفترة المكية، ولم يفكر مرة واحدة في كسر صنم واحد، وطاف في عمرة القضاء قبل الفتح بعام واحد ولم يفكر لحظة واحدة في كسر صنم واحد من هذه الأصنام، وهذه المفارقة وهذه المقارنة بين الموقفين تحتاج منا إلى وقفة.
بعد صبر (21) سنة الآن لا يصبر عليه الصلاة والسلام لحظة واحدة، فهو لم يقم الصلاة ولم يكلم الناس ولم يعمل أي شيء قبل أن يكسر الأصنام ويأمر بذلك.
عندما نأتي لندرس سيرة الرسول عليه الصلاة والسلام لابد أن نأخذ اهتماماً خاصاً بالأعمال التي قام بها صلى الله عليه وسلم، بمعنى أنه إذا بدأ بشيء ما فهذا الأمر مقصود، فكل خطوة من خطواته صلى الله عليه وسلم متابعة بالوحي، وفيها رعاية كاملة من رب العالمين سبحانه وتعالى، وهي تشريع للمسلمين، فالرسول عليه الصلاة والسلام يوم الفتح لا يصبر دقائق على وجود صنم يعبد من دون الله عز وجل، هذا ما أسميه بـ: فقه الموازنات، وفقه الواقع، وفقه دفع أكبر الضررين، وجلب أكبر المنفعتين، لو كان الرسول عليه الصلاة والسلام كسر هذه الأصنام في فترة مكة المكرمة لقامت الدنيا ولم تقعد، ولاستئصل المسلمون بكاملهم من مكة المكرمة.
أما الآن وبعد أن صار صلى الله عليه وسلم حاكماً لمكة المكرمة، بل ولأجزاء كبيرة جداً من الجزيرة العربية، وصار في هذه القوة فإنه لا يصبر على وجود مثل هذا المنكر الشنيع من صنم يعبد من دون الله عز وجل، فكسر كل الأصنام، وكسرها وهو يقول: (جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً).
بالإضافة إلى كونه لا يرضى عن وجود هذا المنكر، فتكسيره للأصنام كان خطوة سياسية في منتهى الروعة؛ لأن هذه الخطوة كسرت تماماً كل معنويات أهل مكة، وهذه الأصنام ظلت تعبد من دون الله لا أقول عشرات السنين بل مئات السنين في داخل مكة المكرمة، أجيال وراءها أجيال تعبد هذه الأصنام، فهاهي الآن تكسر هذه الأصنام، وكل مشرك كان يعتقد في داخله أن هذه الأصنام ستصيبه صلى الله عليه وسلم وأصحابه بضرر أو بسوء؛ لأنهم فعلوا معها ذلك، ومع ذلك لم يحدث له شيء، وكذلك الجيش الإسلامي بكامله لم يحدث له شيء، فظهرت الحقيقة واضحة أمام أعين المشركين من أنهم كانوا في ضلال مبين كل هذه السنوات السابقة.
إذاً: هذه خطوة رائعة وهامة جداً لكسر معنويات كفار قريش، فبعد هذا التكسير لهذه الأصنام خارت قواهم تماماً وفقدوا كل أمل في المقاومة، والرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بتكسير الأصنام في مكة المكرمة، بل حرص صلى الله عليه وسلم على تكسير الأصنام في كل المناطق المحيطة بمكة المكرمة، فأرسل صلى الله عليه وسلم سرية بقيادة خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه لكسر العزى، وهي من أكبر الآلهة التي كانت تعبد من دون الله عز وجل، فذهب خالد بسرية وكسر هذا الصنم الضخم صنم العزى.
وأرسل سرية بقيادة سعيد بن زيد رضي الله عنه وأرضاه لكسر صنم مناة وهو من أشهر أصنام العرب.
وأرسل سرية بقيادة عمرو بن العاص لهدم صنم سواع، وصنم سواع من الأصنام المشهورة عند العرب أيضاً.
إذاً: الرسول عليه الصلاة والسلام بنفسه كسر هبل في صحن الكعبة، وأرسل خالد بن الوليد لكسر العزى، وسعيد بن زيد لكسر مناة، وعمرو بن العاص لكسر سواع، لكن بقي صنم مشهور جداً من أصنام العرب وهو صنم اللات، وصنم اللات هذا كان موجوداً في مدينة الطائف عند قبيلة ثقيف، وهو من أعظم الأصنام عند العرب، ولم يكسر إلا بعد إسلام ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة.
لقد كسر الرسول عليه الصلاة والسلام كل الأصنام الكبرى التي استطاع أن يكسرها في ذلك الوقت، سواء في داخل مكة أو في المناطق التي حول مكة.
وبذلك كما ذكرنا سقطت كل معنويات قريش، وحطم تماماً كل أمل عندهم للمقاومة.
إذاً: هذه كانت أول خطوة عملها الرسول صلى الله عليه وسلم: تكسير الأصنام في الكعبة وما حولها.(39/3)
أذان بلال يوم الفتح على سطح الكعبة
الخطوة الثانية كانت هامة جداً، وتضيف معنى مهماً جداً عند قريش في ذلك الوقت؛ ليفقهوا الإسلام على حقيقته، وهي: أن الله عز وجل يعز من انتمى إلى هذا الدين، بصرف النظر عن جنسه وعن لونه وعن قبيلته وعن أي شيء، فمن انتمى لهذا الإسلام فهو عزيز ومن لم ينتم إليه فهو ذليل.
رأى المشركون من أهل قريش بعيونهم في ذلك اليوم عندما نادى صلى الله عليه وسلم على بلال رضي الله عنه وأرضاه، وأمره أن يصعد فوق الكعبة ليؤذن الأذان للصلاة، وهذه هي المرة الثانية التي يفعل فيها الرسول عليه الصلاة والسلام هذا الفعل، أمر بلالاً رضي الله عنه أن يؤذن في الكعبة في عمرة القضاء، والآن يأمر بلالاً أن يقوم بنفس الأمر، ويصعد بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق أشرف بقعة في الأرض، فوق الكعبة البيت الحرام؛ ليرفع الأذان لله عز وجل، الله أكبر، الله أكبر إلى آخر الأذان.
وبلال رضي الله عنه وأرضاه عندما كان يعذب في مكة قبل الهجرة كان يقول: أحد، أحد، في ذلك الوقت كان يهمس بها همسات لا يسمعها إلا من يعذبه، أما الآن فهو يصدح بالتكبير في كل أرجاء مكة المكرمة، والجميع مسلمهم ومشركهم يستمع إليه رضي الله عنه وأرضاه.
وهذا الأمر كما ذكرنا كان له أشد الأثر على المشركين، ودليل ذلك ما حدث على سبيل المثال من أبي سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام، فهؤلاء الثلاثة كانوا قاعدين في فناء الكعبة يستمعون إلى بلال وهو يؤذن، فـ أبو سفيان كان قد أعلن إسلامه قبل ذلك بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن عتاب بن أسيد كان أحد الشباب في قريش، فقد كان عمره حوالي (20) سنة ما زال مشركاً، والحارث بن هشام أيضاً كان ما زال مشركاً، والحارث بن هشام هذا هو أخو أبي جهل، فهو أحد كبار الزعماء في مكة المكرمة، وأحد زعماء بني مخزوم، فقال عتاب معلقاً على أذان بلال رضي الله عنه وأرضاه فوق الكعبة: أكرم الله أسيداً -أي: والده أسيد - ألا يكون سمع هذا فسمع منه ما يغيظه، ما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً، فقال الحارث بن هشام: أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته، فقال أبو سفيان: لا أقول شيئاً، لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى.
يعني: أدرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم نبي، وسوف يصل إليه الأمر عن طريق الوحي.
فجاءهم صلى الله عليه وسلم بعد هذه الكلمات وقال: (قد علمت الذي قلتم، ثم قال: أما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، وأما أنت يا فلان فقد قلت كذا وكذا، فقال أبو سفيان: أما أنا يا رسول الله فما قلت شيئاً، فضحك صلى الله عليه وسلم، وقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله! ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول: أخبرك).
كذلك بنو سعيد بن العاص لما رأوا بلالاً يؤذن على الكعبة قالوا: لقد أكرم الله سعيداً إذ قبضه قبل أن يرى هذا الأسود على ظهر الكعبة.
وقال رجل من قريش للحارث بن هشام: ألا ترى إلى هذا العبد أين صعد؟ فرد عليه الحارث بن هشام: دعه فإن يكن الله يكرهه فسيغيره.
أعتقد أن هذا الكلام قاله بعد أن أسلم رضي الله عنه، ولكن كان هذا في بداية إسلامه.
وصار بعض قريش يستهزئ ويقلد صوت بلال غيظاً، فقلده أحد الشباب واسمه أبو محذورة الجمحي، وأبو محذورة كان عمره (16) سنة، وكان صوته جميلاً جداً، كان من أحسن قريش صوتاً، فلما رفع صوته بالأذان مستهزئاً سمعه الرسول صلى الله عليه وسلم، فاكتشف طاقة موجودة عند هذا الشاب، فناداه، فمثل هذا الشاب الصغير بين يديه صلى الله عليه وسلم وهو يظن تمام الظن أنه مقتول؛ لأنه كان يستهزئ بالأذان، فمسح صلى الله عليه وسلم صدر وناصية هذا الشاب بيديه الشريفة، فقال أبو محذورة: فامتلأ قلبي إيماناً ويقيناً، فعلمت أنه رسول الله.
فالرسول عليه الصلاة والسلام بعد أن آمن هذا الشاب علمه الأذان، وأصبح هو الذي يؤذن لأهل مكة بعد رحيله صلى الله عليه وسلم، وظل الأذان في أبي محذورة وعقب أبي محذورة بعد موته إلى فترة طويلة من الزمان.
والرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الأذان وضح لقريش أن الله عز وجل يعز من يشاء ويذل من يشاء، وأن العزة الحقيقية لا تكون إلا بالإسلام، هكذا فهم القرشيون في هذا الموقف العظيم.
إذاً: الفتح تم كما رأينا بحرب عسكرية وحرب سياسية وحرب معنوية، والرسول صلى الله عليه وسلم أتقن كل هذه الحروب بمنتهى الدقة، الحرب عسكرية أعد إعداداً قوياً جداً للجيش، ووضع خطة محكمة فقد أخفى سيره إلى مكة قدر المستطاع، حتى وصل إلى قريش دو(39/4)
أخلاقه صلى الله عليه وسلم في امتلاك القلوب
الخطوة الثالثة: وسيلة امتلاك القلوب، فالشعب الذي فتح بلده الآن على يدي الرسول صلى الله عليه وسلم يكون في داخله غيظ كبير جداً من المحتل له، سواء كان هذا المحتل من الشرفاء أو من غير ذلك، وكانت هناك حرب طويلة بينهم وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم ما في داخلهم؛ لذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يؤلف قلوبهم، فماذا فعل؟ نحن رأينا قبل ذلك أن الرسول عليه الصلاة والسلام ألف قلب أبي سفيان بإعطائه الفخر، وأبو سفيان كما ذكرنا زعيم قبيلة بني أمية، وبنو أمية قبيلة كبيرة في داخل قريش، فهو صلى الله عليه وسلم ألف قلب زعيم أكبر القبائل القرشية في داخل مكة المكرمة.
وهذا موقف ثان رائع منه صلى الله عليه وسلم في تأليف قبيلة ثانية كبيرة، وهذا الموقف عندما دخل صلى الله عليه وسلم الكعبة المكرمة وصلى فيها، ثم خرج ودعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وعثمان بن طلحة أسلم في أوائل العام الثامن من الهجرة قبل فتح مكة بعدة شهور، أسلم مع عمرو بن العاص ومع خالد بن الوليد، وعثمان بن طلحة من بني عبد الدار، وبنو عبد الدار من أعظم القبائل القرشية أيضاً وفيها شرف كبير جداً، فهي حاملة مفتاح الكعبة أباً عن جد لعشرات السنين قبل ذلك.
فالرسول عليه الصلاة والسلام دعا عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأمره أن يأتي بمفتاح الكعبة، فظن الجميع أن الرسول عليه الصلاة والسلام سيأخذ منهم مفتاح الكعبة؛ ليعطيه لأحد أقاربه ليعطيه شخصاً من بني هاشم، بل إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه طلب ذلك صراحة، طلب أن يضم مفتاح الكعبة إلى شرف بني هاشم من السقاية والحجابة، فيكون عندهم مفتاح الكعبة، فيكون ذلك شرف الدهر، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ المفتاح ووضعه في يد عثمان بن طلحة رضي الله عنه وأرضاه، وهذا الكلام في منتهى العظمة والحكمة، وحتى تعرف مدى العظمة والحكمة راجع موقفاً من المواقف التي مرت قبل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة قبل أن يهاجر، ويومها كان عثمان بن طلحة هذا من الكفار، وكان قد دار بينه وبين عثمان بن طلحة حوار وطلب منه الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطيه مفتاح الكعبة ليدخل الكعبة، لكن عثمان بن طلحة في ذلك الوقت رفض، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: (يا عثمان لعلك ترى هذا المفتاح يوماً بيدي أضعه حيث شئت فقال عثمان: لقد هلكت قريش يومئذ وذلت، فقال صلى الله عليه وسلم: بل عمرت وعزت يومئذ)، ومرت الأيام وجاء الرسول عليه الصلاة والسلام فاتحاً مكة المكرمة وطلب المفتاح، وعثمان بن طلحة دون تردد أتى بالمفتاح، فهو الآن أصبح من الصحابة المؤمنين البررة، فأتى بالمفتاح ووضعه في يد الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو يظن أن الأمر سيصير إلى ما قاله صلى الله عليه وسلم، وسيعطي المفتاح إلى إنسان غيره، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وضع المفتاح مرة ثانية في يد عثمان بن طلحة، وقال: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء، اليوم يوم بر ووفاء، خذوها خالدة تالدة لا ينزعها منكم إلا ظالم).
وظل مفتاح الكعبة مع بني عبد الدار، وهو إلى الآن في نسل بني عبد الدار بكلمة الرسول عليه الصلاة والسلام: (خذوها خالدة تالدة).
إذاً: هذا الموقف من أروع المواقف التي استطاع بها الرسول عليه الصلاة والسلام أن يكسب قلوب بني عبد الدار جميعاً، فبنو عبد الدار رأت أن الرسول عليه الصلاة والسلام أنزل الناس منازلهم حين أبقى لهم على الفخر الذي كان لهم.
وبذلك استطاع صلى الله عليه وسلم أن يسيطر على الموقف إلى درجة كبيرة في داخل مكة المكرمة.
وقبل ذلك كسب قلوب بني أمية، والآن يكسب قلوب بني عبد الدار.
لقد كان صلى الله عليه وسلم يسير بخطة محكمة، فقد فعل صلى الله عليه وسلم أمراً من المستحيل أن تجده في تاريخ أي دولة من الدول حاربت دولة أخرى ولو يوماً واحداً لا عدة سنوات سابقة، لقد وقف الرسول عليه الصلاة والسلام في صحن الكعبة في يوم فتح مكة ودعا أهل مكة جميعاً أن يأتوا إلى الكعبة، فأتوا جميعاً، وقد كان موقفهم في منتهى الحرج، بعد صراع طويل جداً وإيذاء للرسول عليه الصلاة والسلام، ومصادرة للأموال وللديار، وقتل لبعض الأصحاب، وجلد وتعذيب للبعض الآخر وكذا وكذا من الأمور التي نعلمها، وفصلنا فيها كثيراً في الفترة المكية، وفي الحروب المتتالية بين المسلمين وبين المشركين، بعد كل هذا التاريخ الطويل من العناء مع أهل مكة يسألهم صلى الله عليه وسلم سؤالاً واحداً فيقول: (ما تظنون أني فاعل بكم؟)، يعني: ماذا سيكون رد فعلي معكم بسبب ما فعلتموه معي ومع أصحابي من إيذ(39/5)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع زعماء مكة المشركين يوم الفتح
لقد بقي من أهل مكة بعض الزعماء وبعض الكبراء لم يسلموا، ففر بعضهم خارج مكة المكرمة، وبعضهم اختفى في بيته، وبعضهم طلب الإجارة من بعض الناس، وهؤلاء الذين هربوا جميعاً كان لهم تاريخ طويل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان على رأس هؤلاء عكرمة بن أبي جهل الذي فر خارج مكة المكرمة واتجه إلى اليمن، وفر صفوان بن أمية بن خلف الجمحي إلى البحر الأحمر؛ ليلقي بنفسه في البحر منتحراً بعد فتح الرسول عليه الصلاة والسلام لمكة المكرمة، وبعد أن فقد كل أمل في أن يكون له موضع أو مكان في مكة المكرمة، وهو من الزعماء.
كذلك سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وكان له تاريخ طويل مع الرسول عليه الصلاة والسلام.
كذلك هند بنت عتبة هناك ناس كثير هربوا من وجه الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت، وكل واحد منهم له قصة، وكل واحد منهم شاء ربنا سبحانه وتعالى شاء أن يدخل الإسلام في قلبه، ولكن بطريقة جميلة جداً على يد الحبيب صلى الله عليه وسلم مباشرة.(39/6)
موقفه صلى الله عليه وسلم مع سهيل بن عمرو
تعالوا بنا نرى قصتهم واحداً واحداً وفيها من العبر ما فيها، فهذا سهيل بن عمرو من بني عامر بن لؤي، وهو من كبار زعماء قريش، ومن كبار زعماء مكة في التاريخ، وكبير جداً في السن، وعنده الكثير من الأولاد، وهؤلاء الأولاد معظمهم من المسلمين وفي جيش المسلمين الفاتح لمكة المكرمة، فهو بعد أن فتحت مكة المكرمة لم يجد له عوناً من الزعماء الذين كانوا معه؛ فكل واحد فر، ففر هو الآخر ودخل بيته، يقول: فانقحمت في بيتي وأغلقت علي بابي، ثم يقول: وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل وابنه كان من جنود الجيش الفاتح كان قد أسلم قبل ذلك بزمن، فقال سهيل: وأرسلت إلى ابني عبد الله بن سهيل أن اطلب لي جواراً من محمد صلى الله عليه وسلم، وإني لا آمن من أن أقتل.
فـ سهيل بن عمرو ظل يتذكر تاريخه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول: تذكرت أثري عند محمد وأصحابه، فليس أحد أسوأ أثراً مني، وإني لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية بما لم يلقه أحد، وكنت الذي كاتبته المعاهدة التي تمت في صلح الحديبية، لو تذكرون كان سهيل بن عمرو ممثل قريش وزعيم قريش الذي أرسلته ليتفاوض مع الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديبية، فيجد أنه أثر تأثيراً سلبياً على الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى أصحابه، ويظن أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يتذكر له هذه المواقف.
ثم يقول سهيل بن عمرو: ومع حضوري بدراً وأحداً، وكلما تحركت قريش كنت معها، فهو يخاف أن يقتل، فذهب عبد الله بن سهيل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: (يا رسول الله هل تؤمن أبي؟ فقال صلى الله عليه وسلم نعم، هو آمن بأمان الله؛ فليظهر)، انظروا إلى هذا التعامل مع أحد كبار زعماء مكة المكرمة، ومدى العظمة في هذا التعامل، بينما عند احتلال أي دولة لدولة ثانية تجد أن الأمراء والوزراء والكبراء في البلد يتتبعون في كل مكان؛ ليقتلوا، أو يسجنوا في السجون فترات طويلة، أو يمثل بهم أو كذا أو كذا، لكن النبي صلى الله عليه وسلم يعطي سهيل بن عمرو الأمان، ويقول: (فليظهر).
وانظروا إلى ما سيأتي من حوار بعد ذلك بينه وبين سهيل بن عمرو أحد كبار الزعماء في مكة المكرمة.
ثم قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه الذين حوله في ذلك الوقت: (من لقي سهيل بن عمرو فلا يشد النظر إليه)، احذروا أن تروعوا سهيل بن عمرو حين يأتي للتحاور معي، (لا يشد أحدكم النظر إليه، فليخرج، فلعمري إن سهيلاً له عقل وشرف، وما مثل سهيل جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضع فيه أنه لم يكن له بناء) فـ سهيل عرف المشكلة التي كانت عنده، والآن هو يريد أن يعود إلى الله عز وجل وإلى رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، فلا يرفع أحد إليه النظر، ولا يتهكم أحد عليه بكلمة، ولا يعلق أحد عليه تعليقاً سلبياً بأي صورة من الصور.
إن له عقلاً وشرفاً.
هكذا يذكر صلى الله عليه وسلم صفة سهيل بهذا التعظيم والتكريم له، مع أنه من ألد أعدائه قبل ذلك.
انظروا إلى الرحمة النبوية وإلى فن امتلاك القلوب وعبد الله بن سهيل عندما استمع إلى هذه الكلمات طار بها إلى أبيه، فلما ذكر له هذه الكلمات قال سهيل: كان والله براً صغيراً وكبيراً، وأتى سهيل بن عمرو وأعلن إسلامه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكما يقول الرواة بعد ذلك: كان سهيل بعد هذا الإسلام كثير الصلاة والصوم والصدقة، وخرج مجاهداً في سبيل الله، وكان أميراً على إحدى فرق المسلمين في موقعة اليرموك.
بهذه المعاملة الحسنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم امتلك قلوب الناس، فعلاً هو فن الدعوة إلى الله عز وجل، ليس أبداً تصرف قائد متغطرس احتل دولة من الدول يسوم أهلها العذاب، ولكن هو التصرف الرحيم من النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وهو قدوة لنا أجمعين، ولا يخفى على أحد أن الرسول صلى الله عليه وسلم امتلك قلوب بني عامر جميعاً بتساهله وتسامحه مع سهيل بن عمرو زعيم بني عامر.(39/7)
موقفه صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية
تعالوا نرى موقفه صلى الله عليه وسلم مع صفوان بن أمية، صفوان بن أمية بن خلف كان أبوه من أشد المعاندين لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن الذين قتلوا في بدر، وورث صفوان بن أمية هذه الكراهية للإسلام والمسلمين من أبيه، وحارب الرسول عليه الصلاة والسلام بكل طاقته، وكان ممن التف على المسلمين في أحد هو وخالد بن الوليد رضي الله عنه، واشترك اشتراكاً كبيراً في قتل سبعين من شهداء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، واشترك أيضاً في الأحزاب، بل ومن الذين شاركوا في عملية القتال في داخل مكة المكرمة، بل إن صفوان بن أمية قبل ذلك دبر محاولة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، كأنه عداء شخصي بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، وكما تذكرون هذه المحاولة كانت بينه وبين عمير بن وهب رضي الله عنه وأرضاه، وذكرناها بعد درس بدر، وفيها تعهد صفوان بن أمية لـ عمير بن وهب أن يتحمل عنه عياله وأن يسدد عنه دينه، في نظير أن يقتل عمير رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ذكرنا القصة بتفصيلاتها بعد غزوة بدر، ورأينا كيف أسلم عمير بن وهب في المدينة المنورة، ومرت الأيام وجاء فتح مكة المكرمة وفر صفوان بن أمية لما لم يجد له أي مكان في مكة المكرمة، وعلم أنه لن يستقبل في أي مكان في الجزيرة العربية، فقرر أن يلقي نفسه في البحر؛ ليموت فيه، فخرج في اتجاه البحر الأحمر ومعه غلام اسمه يسار، وليس معه أحد غيره حتى وصل إلى البحر الأحمر، ثم إنه من بعيد رأى أحد الرجال يتتبعه فخاف، وقال لغلامه: ويحك انظر من ترى، قال: هذا عمير بن وهب، وكان عمير بن وهب صديقاً حميماً لـ صفوان بن أمية قبل أن يسلم، فقال صفوان: ما أصنع بـ عمير والله ما جاء إلا يريد قتلي، فهو الآن مسلم قد ظاهر محمداً علي، فقال صفوان بن أمية لما لحقه عمير: يا عمير ما كفاك ما صنعت بي، حملتني دينك وعيالك، ثم جئت تريد قتلي.
فقال عمير: جعلت فداك، أنا ما زلت صديقك، وجئتك من عند أبر الناس وأوصل الناس إلى آخر الحكاية فـ عمير بن وهب عندما علم أن صفوان بن أمية هرب من مكة المكرمة، تذكر صديقه القديم صفوان بن أمية، فخاف عليه وخشي عليه وأحب له الإسلام، وأحب له أن يدخل فيما دخل فيه عمير رضي الله عنه ورضي الله عن الصحابة أجمعين، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وطلب لـ صفوان بن أمية الأمان، فقال: (يا رسول الله! سيد قومي خرج هارباً؛ ليقذف نفسه في البحر، وخاف ألا تؤمنه فداك أبي وأمي فقال صلى الله عليه وسلم: قد أمنته، فخرج عمير بن وهب حتى وصل إلى صفوان بن أمية كما ذكرنا فقال عمير لـ صفوان: إن رسول الله قد أمنك، فخاف صفوان وقال: لا والله لا أرجع معك حتى تأتيني بعلامة أعرفها تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمنني، فرجع عمير بن وهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مرة أخرى، وقال: يا رسول الله! جئت صفوان هارباً يريد أن يقتل نفسه فأخبرته بما أمنته، فقال: لا أرجع حتى تأتي بعلامة أعرفها، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام: خذ عمامتي)، انظروا إليه صلى الله عليه وسلم يحاول قدر المستطاع أن يأتي بكل إنسان إلى الإسلام: (فأخذ عمير العمامة وذهب إلى صفوان بن أمية وقال له: يا أبا وهب جئتك من عند خير الناس وأوصل الناس وأبر الناس وأحلم الناس مجده مجدك، وعزه عزك، وملكه ملكك، فقال له صفوان: أخاف أن أقتل، قال: قد دعاك إلى أن تدخل في الإسلام، فإن رضيت وإلا سيرك شهرين).
انظروا كرم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: تعال لو أردت أن تسلم الآن فأسلم، ولك ما للمسلمين وعليك ما على المسلمين، وإن أردت أن تأخذ شهرين كاملين لتفكر فيهما فأنت في أمان.
فهو أوفى الناس وأبرهم صلى الله عليه وسلم، وقد بعث إليك بعمامته العلامة التي كان يريدها صفوان بن أمية قال عمير بن وهب: تعرفها؟ قال: نعم.
فرجع صفوان بن أمية مع عمير بن وهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ليس أمامه أي طريق آخر، ليس أمامه إلا أن يقبل بهذا الأمان، وهو يعرف أن الرسول عليه الصلاة والسلام دائم الحفظ لوعده وعهده فهو الصادق الأمين، فعاد مع عمير بن وهب إلى مكة المكرمة ودخل في الحرم والرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بالناس صلاة العصر، فوقفا سوياً حتى ينتهي الر(39/8)
موقفه صلى الله عليه وسلم مع عكرمة بن أبي جهل
نأتي إلى قصة واحد من أشد أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم في التاريخ كله، هذا هو عكرمة بن أبي جهل وليس فقط مشكلة عكرمة أنه ابن أبي جهل وأنه شرب العداوة هذه المدة الطويلة من أبيه أشد أعداء الإسلام مطلقاً وفرعون هذه الأمة، لكن عكرمة استمر وزاد في العداوة، حتى إن الرسول عليه الصلاة والسلام أهدر دمه، وهناك مجموعة من المشركين أهدر الرسول عليه الصلاة والسلام دمهم، وقال: (اقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة)، وكان من هؤلاء عكرمة بن أبي جهل، ولعله علم ذلك فكان ممن قاتل في الخندمة يوم الفتح ضد خالد بن الوليد رضي الله عنه، ولكنه بعد هزيمته فر من مكة المكرمة، وحاول أن يصل إلى اليمن، وذهب إلى البحر ليأخذ سفينة وينطلق فيها إلى اليمن، وكانت زوجته أم حكيم بنت الحارث بن هشام ابنة عمه قد أسلمت في يوم الفتح على جبل الصفا مع من أسلم من أهل مكة، فذهبت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام لتستشفع عنده لـ عكرمة بن أبي جهل أن يؤمنه كما أمن صفوان بن أمية، لكن موقف عكرمة كان مختلفاً، وكما ذكرنا هو مهدر الدم، قالت أم حكيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (قد هرب عكرمة منك إلى اليمن وخاف أن تقتله فأمنه، فالرسول عليه الصلاة قال: هو آمن) لم يذكر لها أنه مهدر الدم، ولم يذكر لها التاريخ الطويل له في العداء، بل قال: (هو آمن)، فخرجت أم حكيم الزوجة الوفية تبحث عن زوجها ذهبت حتى وصلت إلى عكرمة بن أبي جهل وهو يحاول أن يركب سفينة في ساحل البحر الأحمر متجهاً إلى اليمن، فكان في حوار مع ربان السفينة التي سيركبها، لقد كان ربان السفينة مسلماً، فقال له قبل أن يركب: أخلص، فـ عكرمة بن أبي جهل لا يعرف ما معنى أخلص، قال: أي شيء أقول؟ قال: قل: لا إله إلا الله، فقال عكرمة: ما هربت إلا من هذا، وهو لا يزال في هذا الحوار مع ربان السفينة إذا بـ أم حكيم رضي الله عنها تأتي في هذه اللحظة، فقالت له: يا ابن عم جئتك من عند أوصل الناس وأبر الناس وخير الناس لا تهلك نفسك، وتدعوه إلى العودة معها إلى مكة المكرمة، فوقف لها عكرمة بن أبي جهل، فقالت له أم حكيم: إني استأمنت لك محمداً صلى الله عليه وسلم، قال: أنت فعلت؟ قالت: نعم، أنا كلمته فأمنك، فـ عكرمة بن أبي جهل ضاقت عليه الدنيا كلها، أين يذهب؟ هو يريد أن يذهب الآن إلى اليمن، واليمن بكاملها مسلمة كما ذكرنا قبل ذلك في الدروس السابقة، وغير ذلك من بقاع الأرض تتناقص حوله الآن، فالجميع الآن يدخلون في دين محمد صلى الله عليه وسلم فماذا يفعل؟ فبمجرد أن قالت له هذه الكلمات أخذ قراراً سريعاً بالعودة معها دون تفكير طويل، وعاد إلى مكة المكرمة وقبل أن يدخل مكة المكرمة إذا بالرسول عليه الصلاة والسلام يقول لأصحابه كلمات جميلة جداً، كما ذكرها قبل ذلك في حق سهيل بن عمرو قالها في حق عكرمة بن أبي جهل قال: (يأتيكم عكرمة بن أبي جهل مؤمناً مهاجراً فلا تسبوا أباه، فإن سب الميت يؤذي الحي ولا يبلغ الميت).
أي أخلاق كريمة كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أبو جهل فرعون هذه الأمة ولعنه صلى الله عليه وسلم صراحة قبل ذلك، ودعا عليه، وجاء ذكره في أكثر من موضع في القرآن الكريم باللعن عليه، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ألا يلعنوا هذا الرجل فرعون هذه الأمة أمام عكرمة بن أبي جهل؛ لكي لا يؤذوا مشاعر عكرمة، مع أن عكرمة حتى هذه اللحظة لم يسلم بعد، ودخل عكرمة بن أبي جهل إلى مكة المكرمة، فلما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم وثب إليه وما عليه رداء فرحاً به.
انظروا إلى أسارير الرسول عليه الصلاة والسلام كيف انبسطت عندما رأى عكرمة بن أبي جهل يعود إليه ويأتي إليه وهو على أبواب الإسلام، هو لم يسلم بعد، ومع ذلك كان هذا الاستقبال الحافل من رسول الله صلى الله عليه وسلم لواحد من أكبر أعدائه قبل ذلك، وكان من أكبر الذين قاوموه ومنعوه من دخول مكة المكرمة قدر ما يستطيع، فهو الآن يستقبله هذا الاستقبال الحافل.
فجلس عكرمة بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: (يا محمد! إن هذه أخبرتني أنك أمنتني -يعني: زوجته- فقال صلى الله عليه وسلم: صدقتك فأنت آمن، فقال عكرمة: فإلى ما تدعو يا محمد، قال أدعوك إلى أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وأخذ يعدد عليه أمور الإسلام، حتى عد كل الخصال الحميدة، فقال(39/9)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم مع فضالة بن عمير الليثي
نأتي أيضاً إلى قصة إسلام واحد من أشد أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام وهو فضالة بن عمير الليثي، وهذا الرجل من شدة عدائه للرسول عليه الصلاة والسلام أنه قرر أن يقتل الرسول عليه الصلاة والسلام في يوم الفتح والرسول عليه الصلاة والسلام في وسط الجيش الكبير عشرة آلاف، وإذا قتله فضالة بن عمير فلاشك أنه مقتول، ومع ذلك سيضحي بنفسه ليقتل الرسول عليه الصلاة والسلام من شدة كراهيته له، بجوار الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يطوف بالبيت، فلما دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يحمل السيف تحت ملابسه، قال له صلى الله عليه وسلم: (أفضاله؟ قال: نعم فضالة يا رسول الله، فقال: ماذا كنت تحدث به نفسك؟ قال: لا شيء، كنت أذكر الله، فالرسول عليه الصلاة والسلام ضحك وقال: استغفر الله يا فضالة، ثم وضع يده على صدر فضالة فسكن قلبه، فكان فضالة يقول: والله ما رفع يده عن صدري حتى ما من خلق الله شيء أحب إلي منه)، وأسلم فضالة رضي الله عنه وأرضاه وحسن إسلامه، حتى إنه لما عاد من عند الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أهله فمر بامرأة كان يتحدث إليها في الجاهلية، فقالت المرأة له: هلم إلى الحديث، فقال: لا، يأبى عليك الله والإسلام.
انظروا تغير (180) درجة، بعد هذا الإسلام أصبح رجلاً آخر غير الرجل الأول.
هكذا يصنع الإسلام الرجال والنساء على نهجه، بصورة تكاد تكون مختلفة تمام الاختلاف عن حياته قبل الإسلام.(39/10)
موقفه صلى الله عليه وسلم مع هند بنت عتبة
من الذين نحب أن نقف مع إسلامهم وقفة هامة وطويلة، ليس مع إسلام أحد رجال مكة أو أحد زعماء مكة، ولكن مع إسلام إحدى نساء مكة، إحدى النساء اللاتي حاربت الإسلام طويلاً ولمدة سنوات كثيرة، ولها ذكريات مؤلمة جداً مع المسلمين ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً، سنقف مع إسلام هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان رضي الله عنه.
لقد كان هند بنت عتبة موتورة من المسلمين، قتل أبوها عتبة بن ربيعة في بدر، وقتل عمها شيبة بن ربيعة كذلك في بدر، وقتل ابنها حنظلة بن أبي سفيان أيضاً في بدر، وقتل أخوها الوليد بن عتبة بن ربيعة أيضاً في بدر، فتصور أربعة من أقرب الأقرباء إليها قتلوا جميعاً في بدر، وهم جميعاً من سادة قريش.
فالحقيقة موقفها كان في غاية الصعوبة، فقد حملت في قلبها كراهية لم يحملها أحد مثلها إلا القليل، وظلت على هذا الأمر سنوات طويلة منذ بدر وإلى فتح مكة، ست سنوات متصلة، وقبل ذلك أيضاً كانت معادية للإسلام، ولكن ظهرت العداوة بشدة بعد مقتل هؤلاء الأربعة في بدر، وخرجت بنفسها مع الجيش الكافر في موقعة أحد، وحمست الجيش قدر ما تستطيع لحرب المسلمين، ولما فر الجيش من أمام المسلمين في أول المعركة كانت تحثو في وجوههم التراب وتدفعهم دفعاً إلى حرب المسلمين، ولم تفر كما فر الرجال، ثم إنه بعد انتصار أهل مكة على المسلمين في نهاية موقعة أحد قامت بفعل شنيع، قامت بالتمثيل بالجثث، وبدأت تمثل بواحدة تلو الأخرى بنفسها، حتى وصلت إلى حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فبقرت بطنه رضي الله عنه وأرضاه وأخرجت كبده ولاكت من كبده، يعني: أكلت من كبده قطعة، فما استساغتها فلفظتها، لكن هذا الموقف أثر بشدة في الرسول عليه الصلاة والسلام، وخرجت مع المشركين في غزوة الأحزاب، بل واستمرت في حربها ضد الإسلام حتى اللحظات الأخيرة من فتح مكة، رفضت هند بنت عتبة ما طلبه زوجها من أهل مكة من أن يدخلوا في بيوتهم طلباً لأمان الرسول صلى الله عليه وسلم، ودعت أهل مكة لقتل زوجها عندما أصر على مهادنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ودفعتهم دفعاً إلى القتال، يعني: تاريخ طويل شرس جداً مع المسلمين، ومع ذلك عندما جلس صلى الله عليه وسلم عند جبل الصفا ليبايع الناس على الإسلام جاءت هند بنت عتبة وهي منتقبة متنكرة لا يعرفها صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يبايع النساء في ذلك اليوم مشافهة ما وضع يده في يد امرأة أجنبية قط صلى الله عليه وسلم، وكانت بيعة النساء على ألا يشركن بالله شيئاً ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن، ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، ولا يعصين في معروف، فبدأت النساء تبايع وقال صلى الله عليه وسلم لهن: (بايعنني على ألا تشركن بالله شيئاً، فقالت هند: والله إنك لتأخذ علينا ما لا تأخذه من الرجال) يعني: علينا تفصيلات كثيرة بينما الرجال بايعوا بيعة واحدة فقط، ثم قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ولا تسرقن، فوقفت هند وقالت: يا رسول الله! إن أبا سفيان رجل شحيح لا يعطيني ما يكفيني ويكفي بني، فهل علي من حرج إذا أخذت من ماله بغير علمه؟ فقال صلى الله عليه وسلم: خذي من ماله ما يكفيك وبنيك بالمعروف)، ثم انتبه صلى الله عليه وسلم وعلم أن هذه التي تتكلم معه زوجة أبي سفيان فقال: (وإنك لهند بنت عتبة)، فهو صلى الله عليه وسلم تذكر في تلك اللحظة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه وما حدث له من هند بنت عتبة، قالت هند: (نعم، هند بنت عتبة فاعف عما سلف عفا الله عنك)، فهي تعرف تاريخها مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم دائماً يعفو ويصفح، وأكمل البيعة مع النساء، وقال: (ولا يزنين، فقالت هند: يا رسول الله! وهل تزني الحرة؟! فقال صلى الله عليه وسلم: ولا تقتلن أولادكن، فقالت هند قد ربيناهم صغاراً وقتلتهم كباراً فأنت وهم أعلم، هل تركت لنا ولداً إلا قتلته يوم بدر -يعني: أنت قتلت آباءهم يوم بدر وتوصينا بأولادهم- فتبسم عليه الصلاة والسلام، وضحك عمر رضي الله عنه حتى استلقى على قفاه)، فالرسول صلى الله عليه وسلم قدر موقف هند بنت عتبة ومدى صعوبة الإسلام عليها، ومع ذلك هي الآن تسلم عن قناعة، فلما قال صلى الله عليه وسلم: (ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن، فقالت هند: والله إن إتيان البهتان لقبيح، فقال صلى الله عليه وسلم: ولا يعصينني في معروف، فقالت هند: والله ما جلسنا هذا المجلس وفي أنفسن(39/11)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من إجارة أم هانئ يوم الفتح لبعض المشركين
نريد أن نذكر بموقف من المواقف الرائعة في فتح مكة لإحدى نساء المسلمين، وهي السيدة أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها وأرضاها أخت سيدنا علي بن أبي طالب، لما نزل الرسول عليه الصلاة والسلام بأعلى مكة ودارت الحرب في أسفل مكة بين مجموعة من المشركين وبين سرية خالد بن الوليد رضي الله عنه وأرضاه، هرب رجلان من بني مخزوم ولم يجدا أي ملجأ في ذلك الوقت إلا أن يدخلا عند السيدة أم هانئ بنت أبي طالب رضي الله عنها؛ لأن زوجها هو هبيرة بن أبي وهب المخزومي، فهم من أقارب زوج السيدة أم هانئ، وطلبا منها أن تجيرهما.
فهذا شيء فيه إهانة كبيرة جداً عند العرب، لكن في نفس الوقت هذان الاثنان لم يجدا لهما أي سبيل غير أن يطلبا الإجارة من امرأة، فأجارتهما أم هانئ رضي الله عنها، فما لبث أن دخل علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو يقول: والله لأقتلنهما، فأغلقت عليهما الباب رضي الله عنها، وقالت: قد أجرتهما، فسيدنا علي مصر على أن يقتلهما، فقالت: نذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فسيدنا علي لما سمع ذلك سكت وذهب معها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وعرضت السيدة أم هانئ أمرها عليه وقالت: (يا رسول الله زعم ابن أمي -الذي هو علي بن أبي طالب - أنه قاتل رجلاً أجرته، فقال صلى الله عليه وسلم: قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت).
يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام قبل بإجارة أم هانئ في اثنين كانا يقاتلان المسلمين، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يجير من أجارت السيدة أم هانئ رضي الله عنها وأرضاها: (قد أجرنا من أجرت، وأمنا من أمنت).
هذه هي قيمة المرأة في الإسلام، وكما ذكرنا أن أم حكيم بنت الحارث بن هشام تؤمن عكرمة بن أبي جهل مع أنه كان مهدر الدم.
وكذلك أم هانئ الآن تؤمن الرجلين بعد أن كانا على مقربة من القتل على يد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه.
قبل ذلك أم سلمة كما ذكرنا في الدرس السابق توسطت عند الرسول عليه الصلاة والسلام ليقبل توبة أبي سفيان بن الحارث وعبد الله بن أمية بعد أن رفض صلى الله عليه وسلم في البداية.
إذاً: هذه مكانة عظيمة جداً وراقية جداً للمرأة في الإسلام، ومنذ الأيام الأولى للإسلام.(39/12)
بعض الأحداث والمواقف التي وقعت بعد فتح مكة(39/13)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من المرأة المخزومية التي سرقت
إن الأحداث في فتح مكة من الصعب أن تحصى في لقاء واحد؛ لأن الأحداث كثيرة جداً، وكنت أود أن أتكلم فيها، لكن الوقت لا يتسع؛ لذلك سأختار بعض الحوادث القليلة التي أعلق عليها تعليقاً سريعاً، ونسأل الله عز وجل أن يجمع بيننا في اللقاءات الأخرى لنفصل في موقف من أهم المواقف اللافتة للنظر في فتح مكة، وهذا الموقف: هو الموقف من المرأة المخزومية التي سرقت، هذه المرأة سرقت بعد أن فتحت مكة، وكانت من النساء اللاتي أسلمن، فهي من بني مخزوم شريفة من الأشراف، وقبيلة بني مخزوم قبيلة كبيرة جداً، وكما يعلم الجميع أن العلاقة بين بني مخزوم وبني هاشم كانت علاقة حساسة جداً، وكان التنافس بينهما على كل الأمور تقريباً، وكان أبو جهل زعيم بني مخزوم، وكان الموقف حرجاً جداً مع هذه القبيلة بالذات، ويخشى من أن تنقلب على المسلمين انقلاباً قد لا يحمد عقباه، ومع أننا رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يحاول قدر المستطاع أن يؤلف قلوب القبائل، فألف قلوب بني أمية، وألف قلوب بني عبد الدار، وألف قلوب بني عامر كما ذكرنا في الدرس، لكن هذا حدث مهم مع بني مخزوم، وقد يفهمه الفاهمون أنه ليس فيه نوع من التأليف لبني مخزوم، لكن نحتاج أن ندرس الموضوع بدقة.
فهذه امرأة من أشراف بني مخزوم سرقت، فقرر صلى الله عليه وسلم أن يقيم عليها الحد وهو أن يقطع يدها؛ لأنها سرقت واكتملت أركان جريمة السرقة، وهنا الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقل: أريد أن أتألف قلوب بني مخزوم بالعفو عن هذه المرأة التي سرقت، لكنه أقام عليها الحد مضحياً بما قد يحدث من أحداث دامية في داخل مكة نتيجة تطبيقه لهذا الحد، لأجل أن يرينا معنى مهماً جداً ويزرع فينا معنى لازماً ينبغي أن نفهمه جميعاً فهماً جيداً دقيقاً، ألا وهو: أنه لا يمكن أبداً لأي إنسان مهما كان نسبه ومهما كان شريفاً ومهما كان عظيماً أن يتغاضى عنها أو يعطلها، أو يقوم بأمر من الأمور يمنع من إقامتها في الدولة الإسلامية، حتى لو كانت العواقب وخيمة، وقرر صلى الله عليه وسلم ذلك الأمر وشاع بين الناس أن المرأة المخزومية ستقطع يدها، فذهب بنو مخزوم إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليستشفعوا عنده، لكن لم يستطيعوا أن يكلموه مباشرة، فذهبوا إلى أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما فقد كان يسمى بين الصحابة: الحب بن الحب، كان حب الرسول عليه الصلاة والسلام زيد بن حارثة، وأسامة بن زيد هو الحب بن الحب، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يحبه حباً جماً، ففي أثناء دخوله مكة المكرمة في يوم الفتح أردفه خلفه، من شدة حبه له رضي الله عنه وأرضاه.
فذهبوا إلى أسامة وقالوا له: استشفع لهذه المرأة ألا تقطع يدها؛ فهي امرأة عزيزة شريفة من بني مخزوم، فـ أسامة بن زيد رضي الله عنهما أخذ الموضوع بسهولة ويسر وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليستشفع لهذه المرأة في حد من حدود الله، فلما كلمه أسامة، تلون وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وغضب غضباً شديداً، وقال لـ أسامة: (أتشفع في حد من حدود الله أتشفع في حد من حدود الله؟!) حتى إن أسامة بن زيد رضي الله عنهما لم يجد أي مبرر إلا أن يقول: (يا رسول الله استغفر لي يا رسول الله استغفر لي).
فالنبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد على السيدة المخزومية التي سرقت لم يقبل شفاعة أسامة بن زيد ولا أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين، ولكنه في آخر اليوم قام وخطب خطبة ليفهم المسلمين هذا المعنى الدقيق؛ ليضع لهم أسس بناء دولة إسلامية، ليوضح لهم أن العدل أساس الملك حقاً، وتطبيقاً واقعياً في حياة المسلمين، قام صلى الله عليه وسلم وقال: (إنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم سرقت لقطعت يدها) هكذا في منتهى الوضوح، فحدود الله سبحانه وتعالى لا يمكن أبداً أن نقترب منها، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا} [البقرة:187] وقال عز وجل: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229]، هكذا ينبغي أن نكون مع حدود رب العالمين سبحانه وتعالى.
فهو صلى الله عليه وسلم تألف قلوب الناس بأمور مالية وبأمور مادية هذا أمر ممكن، أما أن يتألف قلوب الناس بتعطيل حد من حدود الله فهذا لا يقبل مطلقاً، مهما كان هذا الذي أخطأ عزيزاً أو شريفاً كبيراً أو صغيراً، رجلاً أو امرأة، فأي إنسان وقع في حد من حدود الله لابد أن يقام عليه الحد.
وهذه الكلمات التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبته: (لو سرقت فاطمة بنت محمد لقطعت يدها)، حتى يفهم بني مخزوم أن هذا أمر ليس خاصاً بهم، و(39/14)
موقفه صلى الله عليه وسلم من خزاعة في قتلها لرجل من هذيل ثأراً لقتيل لها في الجاهلية
هذا موقف آخر ففي نفس الغزوة غزوة الفتح حدث أمر آخر يثبت به الرسول عليه الصلاة والسلام نفس المعنى في قلوب المسلمين، فبعد مرور يوم واحد من الفتح بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن خزاعة حلفاءه عدت على رجل من هذيل فقتلوه، وهذا الرجل الذي قتل مشرك، وقتلوه برجل قتله في الجاهلية، فغضب صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً وقام بين الناس خطيباً فخزاعة الآن تأخذ بالثأر لقتيل لها في الجاهلية، وهذا عكس تعاليم الإسلام، وخزاعة تدخل مكة الآن وهي رافعة رأسها؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام فتح مكة من أجل خزاعة، ومع ذلك لا يغفر لها هذا الذنب، (قام صلى الله عليه وسلم وخطب في الناس وقال: يا أيها الناس إن الله قد حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً، ولا يعضد فيها شجراً، وهي لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحل لي إلا هذه الساعة، ثم قد رجعت كحرمتها بالأمس، فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاتل فيها، فقولوا: إن الله أحلها لرسوله ولم يحلها لكم، ثم قال: يا معشر خزاعة ارفعوا أيديكم عن القتل، لقد قتلتم قتيلاً لأدينه فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله) يعني: بعد هذه الحادثة سيخير أهل القتيل بين أمرين: إن شاءوا أن يقتل الذي قتل صاحبهم، وإن شاءوا أن يأخذوا الدية، فهم بخير النظرين فليختاروا ما شاءوا.
إذاً: الحدود نفذت على هذا الملأ الواسع وفي هذه الظروف؛ ليعلم أنه لا تفريط أبداً في حدود الله عز وجل.
فهذه كانت من المواقف الهامة جداً في فتح مكة.(39/15)
موقفه صلى الله عليه وسلم من إقامة وال على مكة بعد الفتح
كان من عادة الرسول عليه الصلاة والسلام إذا فتح بلداً أو دخل الإسلام إلى بلد أن يولي عليها أحداً من رجاله، لكن المشكلة أن أبا سفيان كان قبل ذلك زعيم مكة بعد مقتل أبي جهل، ولم يطمئن الرسول عليه الصلاة والسلام بعد إلى إسلامه حتى يعطيه إمارة مكة، وبالذات أن مكة أعظم مدن العرب على الإطلاق، فهو لا يستطيع أن يعطيها لرجل لم يثق بعد في إسلامه، ونحن علمنا أن في الحوار الذي دار بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن فيه أبو سفيان حتى اللحظات الأخيرة مقتنعاً تمام الاقتناع بقضية النبوة، فكيف يتصرف الرسول عليه الصلاة والسلام؟! إذا أعطى الرسول صلى الله عليه وسلم الإمارة لغيره قد يحزن أبو سفيان وينقم على ذلك الأمر ويثور، وقد تثور بنو أمية التي منها أبو سفيان، والرسول عليه الصلاة والسلام لا يريد أن تحدث قلاقل أو اضطرابات في مكة وقد أسلمت بكاملها من لحظات قليلة أو أيام قليلة، فالرسول عليه الصلاة والسلام في لفتة بارعة أعطى إمارة مكة لـ عتاب بن أسيد رضي الله عنه، وكما ذكرنا أن عتاب بن أسيد كان من شباب مكة، فقد كان عمره حوالي (20) سنة تقريباً، وكان من بني أمية من نفس قبيلة أبي سفيان، فإذا أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام إمارة مكة فسيكون فيه تأليف لقلوب بني أمية، ولن تقف بنو أمية طويلاً عند تنحية أبي سفيان عن إمارة مكة؛ لأن الأمير الجديد منها أيضاً، وعتاب بن أسيد شاب لم يتلوث كثيراً بعقائد المشركين، وليس هناك تاريخ عداء طويل بينه وبين المسلمين فيسهل قياده، وبالفعل فإن عتاب بن أسيد حسن إسلامه جداً، وكان كثير الصلاة والصيام والصدقة، وكان من المقربين جداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، واستطاع فعلاً بحكمة أن يحفظ الأمن والأمان في داخل مكة، فلم نسمع عن أي قلاقل في حياته في فترة حكمه لمكة المكرمة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن عتاب بن أسيد معلوماته عن الإسلام قليلة جداً؛ لأنه لم يسلم إلا منذ أيام قليلة؛ فلذلك ترك معه معاذ بن جبل الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه؛ ليعلم الناس دينهم، لقد ترك معهم بحراً من بحور العلم معاذ بن جبل، فهو إمام العلماء يوم القيامة وأعلم الناس بالحلال والحرام رضي الله عنه، وأهل مكة فيهم الكثير من العقليات والمفكرين والمبدعين، فهم يحتاجون إلى رجل من علماء الأمة ليجادلهم فيما يختلفون فيه، ولا ننسى أن لهم تاريخاً طويلاً جداً مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وعندهم شبهات كثيرة قالوها قبل ذلك، وأعلم الناس في الرد عليهم في ذلك الوقت هو معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، بذلك استقر الوضع في داخل مكة المكرمة، ودخل الناس جميعاً في الإسلام بفضل الله عز وجل.(39/16)
موقف الأنصار رضي الله عنهم بعد فتح مكة وما كان من الرسول صلى الله عليه وسلم تجاههم
يتبقى لنا موقف نحب أن نعلق عليه في ختام هذا الدرس وهو مهم جداً، وهو موقف الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.
رأى الأنصار الأحداث التي تجري في داخل مكة المكرمة وإسلام الجميع، وهؤلاء جميعاً هم أهل وعشيرة ورحم الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاشك أنهم شاهدوا فرحة وسعادة الرسول عليه الصلاة والسلام بهذا الإسلام، وشاهدوا أيضاً استقرار الأوضاع في داخل مكة المكرمة، وإسلام عكرمة بن أبي جهل، وإسلام سهيل بن عمرو، وإسلام فضالة بن عمير، وإسلام قادة مكة بصفة عامة.
فالوضع بدأ يستقر جداً في داخل مكة المكرمة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقف على الصفا يدعو الله عز وجل، والأنصار يقفون تحته يفكرون في وضعهم بعد هذا الفتح، قال بعض الأنصار لبعض: أما الرجل -يقصدون الرسول صلى الله عليه وسلم- فأدركته رغبة في قريته ورأفة بعشيرته؛ لأنهم يرون تفاعله صلى الله عليه وسلم مع الأحداث في داخل مكة.
قال أبو هريرة راوي الحديث كما عند مسلم: (وجاء الوحي، وكان إذا جاء لم يخف عليهم فليس أحد من الناس يرفع طرفه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ينقضي، فلما انقضى الوحي رفع رأسه صلى الله عليه وسلم ثم قال: يا معشر الأنصار، قلتم: أما الرجل فأدركته رغبة في قريته ورأفة في عشيرته، قالوا: قلنا ذلك يا رسول الله، قال: فما اسمي إذاً؟ كلا إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم فالمحيا محياكم والممات مماتكم) يعني: أنني سوف أعيش معكم حياتي كاملة، وليس معنى أنني تعاطفت مع هذه الأحداث التي تجري في مكة المكرمة، وأنني فرحت بإسلام هؤلاء العشيرة والأهل والرحم أنني سأبقى في مكة وأترككم.
وقد ذكرنا في بيعة العقبة الثانية أن الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بيننا وبين القوم حبالاً وإننا قاطعوها) فقد بايعوه صلى الله عليه وسلم على حرب الأحمر والأسود من الناس، وصرحوا بأنه بعد هذه البيعة هل إذا استقرت الأوضاع في مكة سيعود إليها صلى الله عليه وسلم ويتركهم مع اليهود أو غيرهم من الناس، فقال صلى الله عليه وسلم: (بل المحيا محياكم والممات مماتكم، أنا منكم وأنتم مني)، فالرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد على نفس المعنى الآن ويقول: (ما اسمي إذاً؟ كلا إني عبد الله ورسوله)، يعني: مستحيل أن أخالف ما تعاهدت معكم عليه قبل ذلك، (إني عبد الله ورسوله هاجرت إلى الله وإليكم، فالمحيا محياكم والممات مماتكم، قال أبو هريرة: فأقبل الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يبكون رضي الله عنهم وأرضاهم ويقولون: والله يا رسول الله! ما قلنا الذي قلنا إلا ضناً بالله ورسوله) يعني: ما قلنا هذه الكلمات إلا لأننا نريد الله ورسوله، نريدك أن تكون معنا يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: (فإن الله ورسوله ليصدقانكم ويعذرانكم)، قبل منهم صلى الله عليه وسلم هذا الأمر، وقبل منهم هذا الظن الذي ظنوه برسول الله صلى الله عليه وسلم وعذرهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
والأنصار رضي الله عنهم لهم قيمة عالية جداً في ميزان الإسلام، وبذلوا الكثير والكثير رضي الله عنهم، ولم يأخذوا شيئاً لا في الفترة المكية بعد البيعة ولا في الفترة المدنية من أولها حتى هذه اللحظة وإلى آخر حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام شرفهم بكلماته العظيمة، فقال في حقهم: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار).
إذاً: نحن نعذر الأنصار تماماً في هذا الأمر الذي وقعوا فيه، وعذرهم ربهم سبحانه وتعالى ورسولهم الكريم صلى الله عليه وسلم.
وكل بذل الأنصار قبل الفتح وبعد الفتح له قيمة عالية جداً؛ لأنه كان في وقت الشدة ووقت العناء ووقت المشقة، ولا يمكن أبداً أن يساويه بذل بعد الفتح، بأي صورة من الصور، ومما يؤكد هذا المعنى الأخير هذه القصة التي أختم بها هذا الدرس، وهي عندما جاء مجاشع بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه بأخيه مجالد بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين جاء ليعلن إسلامه بين يدي الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الفتح، فـ مجاشع من الذين أسلموا قبل الفتح ومجالد أخوه من الذين أسلموا بعد الفتح، فجاء بأخيه ليبايع بعد الفتح، وقال: (جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة فقال عليه الصلاة والسلام: ذهب أهل الهجرة بما فيها، فقال: على أي شيء تبايعه، قال: أبايعه على الإسلام والإيمان والجهاد).
إذاً: فالأنصار مكانة عظيمة جداً، كما قال ربنا سبحانه وتعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَ(39/17)
سلسلة السيرة النبوية_يوم حنين
كانت غزوة حنين نتاج انتصارات الرسول صلى الله عليه وسلم المتتالية على قبائل العرب، وكان آخر هذه الانتصارات فتح مكة، الأمر الذي أغاظ قبائل هوازن، فأعدت العدة لمقاتلة المسلمين، وكانت الغلبة في أول الغزوة للمشركين، وانهزم المسلمون، ثم عادوا والتفوا حول نبيهم صلى الله عليه وسلم فكانت الغلبة لهم، والعاقبة للمتقين.(40/1)
بين يدي غزوة حنين
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثاني عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني فترة الفتح والتمكين.
تحدثنا في الدروس السابقة عن الفتح العظيم فتح مكة، وإسلام معظم أهل مكة، وإضافة قوة هائلة للدولة الإسلامية، قوة مكة، وهي ليست قوة بشرية أو اقتصادية فقط، بل في الأساس قوة دينية واجتماعية وسياسية وأدبية، فحين أصبحت الكعبة المشرفة في يد المسلمين، فإنه لا يخفى أثر ذلك على العرب الذين كانوا يعظمونها جداً حتى في زمان الجاهلية، وعادت إلى المسلمين الكثير والكثير من أملاكهم المسلوبة، ومن جديد توثقت العلاقات بين الأسر التي فرقت الهجرة إلى المدينة وقبلها إلى الحبشة بينها وبين بقية أفرادها في مكة المكرمة، وأصبح للمسلمين وضع متميز ألقى الرهبة في قلوب كل العرب، وبدأت الكثير من القبائل تحسب للمسلمين ألف حساب.
ليس من السهل أن تهزم قريش، ليس من السهل أن تفتح مكة، ليس من السهل أن يقبل سدنة الأصنام وكهنة هبل والعزى ومناة أن يدخلوا في الإسلام.(40/2)
دوافع تجمع قبائل هوازن لمقاتلة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بحنين
لقد كان فتح مكة فتحاً مجيداً بكل المقاييس، ومع أن هذا الفتح دفع الكثير من أهل الجزيرة إلى التفكير في الإسلام، إلا أن هناك بعض القوى الأخرى في الجزيرة العربية أخذت موقفاً معادياً جداً من الإسلام ومن الدولة الإسلامية، فقد شعرت وأحست أن هذا النمو اللافت للنظر للدولة الإسلامية معناه اقتلاع القبائل الأخرى خلال زمن قليل، من أجل ذلك بدأت هذه القبائل في إعداد العدة لحرب الدولة الإسلامية، قبل أن يتفاقم الوضع ويصبح خارجاً عن السيطرة، فكان من أخطر القبائل التي أخذت هذا النهج وهذا الأسلوب قبيلة هوازن.
يعلم الجميع مدى الروح القبلية عند العرب، ومدى انتماء كل فرد لقبيلته بغض النظر عن الحق أو العدل، وكان هذا من الأمراض الخطيرة التي حاربها الإسلام منذ اللحظة الأولى لنزول الرسالة.
من أجل أن نفهم قصة هوازن مع المسلمين لا بد أن نرجع قليلاً إلى ذاكرة التاريخ، من أجل أن ندرس جذور هذه القبيلة وعلاقة هذه القبيلة بقريش.
ينقسم العرب بصفة عامة إلى قسمين رئيسيين: ينقسمون إلى عدنانيين وقحطانيين، العدنانيون ينقسمون إلى: ربيعة، ومضر، ومضر تنقسم إلى: إلياس وعيلان، وقبيلة قريش تأتي من فرع إلياس بعد تفرعات كثيرة، وتأتي قبيلة هوازن من عيلان أيضاً بعد تفرعات كثيرة، وكلما بعدت الأنساب ازدادت الحزازيات بين القبائل، ويفقد الناس الشعور بالرحم التي ينتمون إليها.
إذا كان يحصل تنافسات وصراعات بين البطون القريبة من بعضها البعض بسبب القبلية، فما بالك لو كانت القبائل بعيدة الأنساب عن بعضها البعض؟ يعني مثلاً: كلنا يعلم ما كان يحدث من صراع بين بني هاشم وبني مخزوم، ومخزوم وقصي كانا أولاد عم مباشرة، ومخزوم هو الذي جاء منه قبيلة بني مخزوم، وقصي الذي جاء منه بنو هاشم بعد ذلك، ومع ذلك كان الصراع شديداً بين القبيلتين، تنافس قبلي، وقد يصل الأمر إلى المنافسة العسكرية الدموية.
كذلك كلنا يعلم الصراع بين الأوس والخزرج مع أن الاثنين أولاد حارثة بن ثعلبة من فروع قحطان، لكن داء القبلية كان يعصف بالجزيرة العربية.
والرسول عليه الصلاة والسلام من قريش؛ فلهذا القبائل البعيدة عن قريش ستفكر في الإسلام بصورة أكثر تحفظاً من القبائل القريبة من قريش، فهذا أبو جهل لم يرض أن يدخل الإسلام من أجل القبلية، مع أنه قريب من الرسول عليه الصلاة والسلام.
عندما نرجع لشجرة الأنساب مع وضع النظرة القبلية هذه سنفهم أحداثاً كثيرة جداً في السيرة، ستجد مثلاً أن القبائل البعيدة جداً عن قريش هي من أواخر القبائل التي أسلمت، ومن أشد القبائل قسوة على المسلمين، فأبعد الفروع عن قريش هي الفروع التي خرجت من قحطان، فهؤلاء لم يسلموا إلا متأخرين مثل: قبائل قضاعة، طي، مذحج، بجيلة ومنهم من كان شديداً جداً على المسلمين مثل: بني لحيان، لكن يشذ عن هذه القاعدة قبائل الأوس والخزرج فقد أسلموا قديماً، ويبدو أن ذلك للجذور اليمنية لهذه القبائل، ثلاث قبائل: الأوس والخزرج وأسلم من قبيلة الأزد اليمنية.
وأهل اليمن يتميزون برقة القلب وقوة العاطفة، يقول: الرسول عليه الصلاة والسلام: (أتاكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً) رواه البخاري ومسلم.
إذاًَ: فروع قحطان كانت من أواخر القبائل إسلاماً، باستثناء الأوس والخزرج وأسلم.
أيضاً من الفروع البعيدة جداً عن قريش ربيعة، فربيعة هي الفرع الموازي لمضر، والخلاف بين ربيعة وبين مضر كبير جداً وطويل، فربيعة تأخر إسلامهم جداً، مثل: بني بكر بن وائل، بني تغلب، بني عبد القيس، ومنهم من كان شديد العداء للمسلمين ولم يسلم إلا مضطراً، وسارع بالردة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، وبعضهم حتى قبل وفاته صلى الله عليه وسلم مثل: بني حنيفة.
إذاً: تأتي بعد كذا مضر تنقسم إلى قسمين رئيسين: إلياس وعيلان.
وعيلان مشهورة في التاريخ بقيس عيلان، فقيس هذا أشهر أبناء عيلان فاشتهرت القبيلة بكاملها بكلمة (قيس عيلان).
وقريش كما ذكرنا هي من إلياس؛ من أجل ذلك تجد قبائل عيلان تنافس بشدة قبائل إلياس ومنها قريش.
وقبائل عيلان كثيرة جداً، لكن أشهر هذه القبائل ثلاث قبائل، وعندما تسمع أسماء هذه القبائل الثلاث ستفسر لك مواقف كثيرة جداً في السيرة رأيناها ولا زلنا سنراها.
فأهم ثلاث قبائل في عيلان هم: غطفان، وبنو سليم، وهوازن، ونحن رأينا مدى المعاناة التي عاناها المسلمون من غطفان على مدار سنوات مختلفة، وكذلك عانوا من بني سليم، وبعد ذلك أسلمت غطفان وأسلم بنو سليم، وكان من الواضح جداً أن إسلامهم كان إسلام المضطر، فهم انبهروا جداً بقوة الإسلام، وشعروا أنهم لا طاقة لهم بالمسلمين، وقد يجتاحهم المسلمون اجتياحاً مدمراً لذلك آثروا السلامة، آثروا أن يعيشوا تحت كنف الدولة الإسلامية، وجاءت الوفود كما رأينا إلى المدينة المنورة وبايعت على الإسلام بعد انتصار مؤتة وقبيل فتح مكة المكرمة، والإسلام لم(40/3)
قيام مالك بن عوف بتوحيد قبائل هوازن لمقاتلة المسلمين
كان من عادة العرب في ذلك الوقت أنهم يعيشون حياة التفرق حتى في بطون القبيلة الواحدة، وما أكثر ما حدثت الحروب -كما ذكرنا- في داخل الفرع الواحد من القبيلة، كما يقولون أحياناً: على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا.
وقبيلة هوازن كانت تسير بنفس النمط، ففروعها كثيرة، لكن في زمنها كله ما توحدت في كيان سياسي اقتصادي عسكري واحد، بل عاشت حياة الفرقة كما عاشها بقية العرب قبل الإسلام، وكما يعيشها العرب دائماً كلما بعدوا عن الإسلام، لكن ظهر في قبيلة هوازن في هذه الفترة وهي الفترة التي سبقت فتح مكة مباشرة وأثناء فتح مكة ظهرت شخصية قلبت الموازين في هذه القبيلة الكبيرة وغيرت كل شيء، هذه الشخصية هي شخصية مالك بن عوف النصري من بني نصر من هوازن، وأمثال هذه الشخصية كثير في التاريخ.
فمن هو مالك بن عوف هذا؟ مالك بن عوف كان شاباً لم يبلغ الثلاثين من عمره بعد، لكنه كان يملك ملكات قيادية متميزة، عنده علم كبير جداً بالخطط العسكرية وبالفنون القتالية، وكان خطيباً مفوهاً له قدرة كبيرة جداً على التأثير على الناس، وكان يتميز بقدرته الفائقة على الحشد وتجميع الطوائف المختلفة لأداء مهمة معينة، كانت لديه طاقات هائلة، لكن للأسف كل طاقاته هذه كانت موظفة في الشر.
بدأ مالك بن عوف يجمع كل فروع هوازن تحت راية واحدة، وهذا حدث فريد في تاريخ هوازن، فهذه هي المرة الأولى تقريباً التي تتجمع فيها بطون بني نصر وبني سعد وثقيف تحت راية واحدة، وهذا يدلنا على مدى كفاءة هذا القائد، ومع أنه من بني نصر ومعروف أن ثقيفاً هي أكبر وأعز وأعظم قبيلة من قبائل هوازن ومع ذلك قبلت أن تسير تحت راية مالك بن عوف النصري.
لقد جمع مالك بن عوف منهم أكثر من (25.
000) مقاتل، وهذا أكبر رقم تجمع في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبة، جيش هائل، فهو جمع هذه الأعداد الكبيرة باسم القبيلة: نحن من هوازن ومحمد من قريش، هذا هو المنطق مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام ما سعى أبداً إلى تجميع القرشيين ضد القبائل العربية الأخرى، بل على العكس كان العدو الأكبر للرسول عليه الصلاة والسلام في خلال السنوات العشرين السابقة قبيلة قريش، وكان جيشه يضم أفراداً من كل قبائل العرب، والجانب الأعظم من جيش فتح مكة لم يكن من القرشيين، كان من أوس وخزرج وأسلم وغفار والأزد ومزينة وجهينة وغطفان وبني سليم وبني تميم وغير ذلك من الفروع القريبة والبعيدة جداً من قريش، وغطفان وبنو سليم هم أكثر قرباً لهوازن كانوا في جيش الرسول عليه الصلاة والسلام الذي فتح مكة، مع كل ذلك إلا أن المحفز الوحيد الذي استخدمه مالك بن عوف هو قضية القبيلة، وأقنع الناس بما نشأ عليه العرب من أن القبيلة فوق كل شيء وقبل كل شيء، وأن عز القبيلة مقدم على الحق وعلى العدل وعلى القيم وعلى المثل العليا وعلى أي شيء، فنفس فكرة القومية التي ينادي بها الكثيرون في زماننا، أو في الأزمان التي سبقت أو الأزمان التي ستأتي بعد ذلك، ففكرة القومية أو فكرة الوطنية هي تقديم مصلحة القوم أو الوطن أو العنصر بغض النظر عن الحق، إذا خاض الوطن أو القوم حرباً ظالمة فأنا معه؛ لأن مصلحة الوطن مقدمة على الحق والعدل، هذا منطقهم.
إذا رأى البعض أن مصلحة القوم أو الوطن تتعارض مع قانون شرعي أو عرف دولي أو قاعدة أخلاقية يترك القانون الشرعي أو العرف الدولي أو القاعدة الأخلاقية وتقدم مصلحة القوم أو مصلحة الوطن.
هذا الكلام لا وزن له عند رب العالمين سبحانه وتعالى، وليس معنى ذلك أن حب القوم أو الوطن مرفوضة إسلامياً، لا، بل على العكس حب الأهل والعشيرة فضيلة يحض الإسلام عليها، لكن بشرط ألا تكون على حساب الدين والحق والعدل، يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ} [التوبة:24] ماذا يحصل؟ {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة:24].
في هذه الآية الجامعة وضح لنا ربنا سبحانه وتعالى أن تقديم الأهل والعشيرة، وهم القوم، وتقديم المساكن وهي الوطن، أن تقديم هذه الأشياء على أمر الدين هو نوع من الفسق، ومن فعله فعليه أن ينتظر العقاب من رب العالمين سبحانه وتعالى، والعقاب مخوف جداً، حتى إن الله سبحانه وتعالى أخفى هذا العقاب ولم يعينه لزيادة الرهبة، قال: {فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [التوبة:24] لكن ليس معنى الآية أن حب الآباء والأجداد والعشيرة أو القوم والقبيلة والوطن والتجارة مذموم، حاشا لله، ليس هذا هو المعنى مطلقاً، بل أمرنا الله عز وجل أن نصل آباءنا وأ(40/4)
النقاط السلبية الموجودة عند مالك بن عوف وتغليط دريد بن الصمة له
هناك نقاط سلبية كانت عند مالك بن عوف أولها: أنه يدعو إلى قومية وقبلية بغض النظر عن مواطن الحق والعدل.
النقطة السلبية الثانية خطيرة جداً: وهي أنه يستخدم البلاغة وحسن البيان في خداع الناس، فقد كان يوهم الناس بخلاف الواقع ويغرر بهم، فقد وقف مالك بن عوف يخطب في الناس في الشعب ويقول لهم: إن محمداً لم يقاتل قط قبل هذه المرة، وإنما كان يلقى قوماً أغماراً لا علم لهم بالحرب فينصر عليهم.
يعني: لو نحن قابلناهم سنرميهم في البحر.
فهذا الخطاب من الخداع غير المقبول بالمرة لشعب ساذج حقاً، شعب هوازن يبدو أنه كان شعباً معزولاً عن العالم الخارجي، لا يقرأ ولا يكتب ولا يرى ولا يسمع، وإلا لما صدق مالك بن عوف، أي أقوام أولئك الذين لاقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أغماراً لا علم لهم بالحرب؟ هل قريش التي هزمت منذ أيام في عقر دارها أو قبل ذلك في بدر والأحزاب لا علم لها بالحرب؟ هل غطفان التي اكتسحت في ديارها فأذعنت وأطاعت وسلمت وأسلمت لا علم لها بالحرب؟ هل اليهود في بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة بل وفي خيبر لم يكن لهم علم بالحرب؟ بل هل الرومان وأعوان الرومان من نصارى العرب بأعدادهم المهولة وبأسلحتهم المتقدمة وتاريخ طويل في الحروب وخبرة فائقة لم يكن لهم علم بالحرب؟ إن شعباً لا يدرك أحوال الدنيا حوله لجدير أن يضحك عليه، لجدير أن يسخر منه، لجدير أن يهزم ويذل.
فـ مالك بن عوف خدعهم بكلامه المعسول وبالخطاب البلاغي، فهو شعب قابل للخداع، فقد قبل هذا الشعب الساذج أن يرى الدنيا بعيون مالك بن عوف، من أجل ذلك لا بد أن يدفع الثمن.
النقطة السلبية الثالثة في مالك بن عوف: أنه لم يقم وزناً يذكر لشعبه، فليس عنده أي مانع أنه يضحي بشعبه كله بكل ممتلكاته من أجل تحقيق مجد شخصي له.
ماذا عمل مالك بن عوف بشعبه؟ أمر أن تؤخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال وكل ممتلكات شعب هوازن تؤخذ معهم إلى أرض القتال فتوضع في خلف الجيش، لماذا هذا؟ من أجل أن يحفز الجيش على القتال.
يقول لهم: لو انهزم جيش هوازن أو فر من أرض القتال سيستولي المسلمون على كل ممتلكات هوازن، فـ مالك بن عوف لم ينظر أبداً إلى احتمالية الهزيمة، وهذا أمر وارد في أي معركة، لكن لا مانع أن يدفع الشعب كله ثمن تحقيق النصر لـ مالك بن عوف، أن الشعب كله من رجال ونساء وأطفال يحقق المجد الشخصي لـ مالك بن عوف.
النقطة السلبية الرابعة في قائد هوازن مالك بن عوف: أنه كان ديكتاتوراً لا يستمع لرأي الآخرين ولو كانوا من الخبراء: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر:29].
بعض الخبراء العسكريين في هوازن حاولوا أن يبعدوا هذا القرار عن ذهن مالك بن عوف، قرار أخذ النساء والأطفال والأنعام والأموال إلى أرض المعركة، لكنه أصر إصراراً عجيباً، فقد ورد في كتب السيرة حوار دار بينه وبين دريد بن الصمة، ودريد بن الصمة أحد المخضرمين عسكرياً في هوازن فقد كان عمره فوق مائة سنة، فتعجب لاصطحاب كل ممتلكات هوازن في أرض القتال فسأل مالكاً عن ذلك، فقال مالك: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم.
فغضب دريد غضباً شديداً وقال: راعي ضأن والله، ما لك والحرب.
يعني: أنت لا تعدو أن تكون إلا راعياً للغنم لا تصلح للقيادة العسكرية.
وبعد ذلك أخبره بوجهة نظره وكانت وجهة نظر صحيحة، قال: هل يرد المنهزم شيء؟ إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك.
ثم قال: إنك تقاتل رجلاً كريماً قد أوطأ العرب وخافته العجم وأجلى اليهود، يعني: دريد قدر قوة الرسول عليه الصلاة والسلام تقديراً سليماً وقال الرأي الأصوب، لكن مالك بن عوف لم يسمع له، ولم يأخذ بمشورته، ولم يكن يرى غير رأيه فقط، ومع ذلك دريد لم ييئس، بل استمر معه في الحوار وسأله: ما فعلت كعب وكلاب أفضل بطون هوازن عسكرياً وفيهم العدد والعدة؟ قال مالك: لم يشهد منهم أحد، قال دريد وقد ازداد يقيناً برأيه: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغب عنه كعب وكلاب.
ثم نصح مالك بن عوف مرات لكن مالك بن عوف رفض بإصرار شديد؛ لأن نفسية الديكتاتور لا تقبل أبداً أي رأي معارض لرأيه ولو على سبيل الاقتراح أو المشورة، فالشورى عنده تصبح طاعنة للكبرياء وللكرامة، ومن ثم فالدكتاتوريون لا يريدون الخير إلا إذا جاء منسوباً لهم.
إذاً: هذه كانت نقطة خطيرة جداً أيضاً في مالك بن عوف: أنه كان ديكتاتوراً لا يستمع أبداً للشورى.
النقطة السلبية الخامسة في(40/5)
سلاح اكتشاف رسول الله صلى الله عليه وسلم
لقد نقلت المخابرات الإسلامية إلى الرسول عليه الصلاة والسلام الأخبار عن هوازن، أنها تستعد لحرب المسلمين، فقد أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام الصحابي الجليل عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عنه ليأتيه بخبر هوازن، وجاء عبد الله بتأكيد الخبر أن هوازن تتجمع من أجل حرب المسلمين، وأنها قد جاءت عن بكرة أبيهم بنسائهم وبنعمهم وشائهم، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله) يقين بالنصر.(40/6)
استعداد الرسول صلى الله عليه وسلم لمواجهة قبائل هوازن
بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في إعداد العدة لهذا الموقف الخطير، وكان إعداده على أعلى مستوى؛ فقد كان على النحو التالي: أولاً: قرر الخروج للقتال في مكان متوسط بين هوازن ومكة، وآثر ألا ينتظر بمكة، وهذا فيه حكمة كبيرة جداً؛ لأنه لو بقي في مكة وغزاها مالك بن عوف بجيشه فقد يتعاون أهل مكة معه؛ لأن أهل مكة حديثو عهد بشرك وجاهلية فقد يتعاونون مع المشركين من هوازن لحرب المسلمين فتصير كارثة، قد تصير الحرب من داخل ومن خارج، لذلك فضل الرسول عليه الصلاة والسلام أن يخرج بجيشه إلى مكان مكشوف بعيداً عن مكة.
ثانياً: قرر أن يخرج بكامل طاقته العسكرية، سيأخذ معه العشرة آلاف مقاتل الذين فتح بهم مكة المكرمة، لأن أعداد هوازن ضخم وكبير.
ثالثاً: أخذ معه من داخل مكة المكرمة المسلمين الطلقاء الذين أسلموا عند الفتح.
وهذا فيه بعد نظر كبير من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فهؤلاء إن تركوا في مكة قد ينقلبون إلى الكفر مرة ثانية، وقد ينفصلون بمكة عن الدولة الإسلامية، وخاصة لو تعرض المسلمون لهزيمة من هوازن؛ وأيضاً خروجهم مع المسلمين فيه دلالة على أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقربهم ويثق بهم، وهذا سيثبت أقدامهم أكثر في الإسلام، وأيضاً قد تكون هناك غنائم كثيرة؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام نفسه كان يقول: (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله) فلو وزع عليهم هذه الغنائم لكان في ذلك تأليف لقلوبهم، وأضف إلى كل ذلك أن أعدادهم الكبيرة ستوقع الرهبة في قلوب هوازن، ولا شك أن قريشاً لها مكانة في قلوب العرب، فعندما يخرج منها عدد في داخل هذا الجيش فقد يوقع الرهبة في قلوب هوازن، فيكون النصر حليفاً للمسلمين، فالرسول عليه الصلاة والسلام لأجل ذلك كله أخذ معه من مكة (2000) من الطلقاء وأصبح الجيش الإسلامي (12.
000) مقاتل.
وهذا أكبر عدد في تاريخ المسلمين في ذلك الوقت.
رابعاً: لم يكتف الرسول عليه الصلاة والسلام بسلاح الجيش الإسلامي الذي فتح به مكة المكرمة، مع كون هذا السلاح من الأسلحة الجيدة جداً والقوية جداً، بدليل انبهار أبي سفيان عند رؤيته للجيش الإسلامي، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكتف بهذا السلاح ولا بسلاح المسلمين من الطلقاء، وإنما سعى لعقد صفقة عسكرية كبرى لتدعيم الجيش الإسلامي، فذهب بنفسه إلى تجار السلاح في مكة المكرمة، وكان على رأس هؤلاء التجار صفوان بن أمية ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب وهذان الاثنان لا زالا مشركين.
فطلب منهما السلاح على سبيل الاستعارة بالإيجار والضمان، حتى إن صفوان بن أمية سأل الرسول عليه الصلاة والسلام: (أغصباً يا محمد؟ فقال صلى الله عليه وسلم: بل عارية مضمونة) يعني: أنا أستعيرها بالإيجار وأضمن عند ضياع بعضها أن أعوضك عنها، هذا مع أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو الزعيم المنتصر، وصفوان بن أمية هو أحد القادة المهزومين، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عادلاً في كل أموره، لم يكن يستحل مال عدو بأي صورة من الصور، وصفوان كان في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لمدة أربعة شهور يفكر فيها في أمر الإسلام كما فصلنا قبل ذلك.
الشاهد من القصة: أن إعداد الجيش الإسلامي كان على أفضل الصور الممكنة، ومن الجدير بالذكر أن نشير إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام اصطحب معه في هذه الغزوة بعض المشركين، وكان منهم صفوان بن أمية وكان منهم نوفل بن الحارث تجار السلاح في مكة المكرمة فخرج هؤلاء ليحملوا أسلحتهم للمسلمين.
قد يسأل شخص ويقول: لماذا قبل صلى الله عليه وسلم أن يستعين في هذه المعركة بالمشركين ورفض أن يستعين بهم في بدر قبل ذلك، ففي بدر قال لهم: (لا أستعين بمشرك)؟
الجواب
أن الظرف مختلف، فالنصر ببدر قد ينسب إلى المشركين لقلة أعداد المسلمين وعدم استقرار دولة المسلمين، أما الآن فلن يدعي أحد أبداً أن نصر المسلمين وعددهم (12.
000) مقاتل كان بسبب الأفراد المشركين المعدودين في الجيش الإسلامي، فمن أجل هذا لم ير الرسول عليه الصلاة والسلام مشكلة أن يأخذ معه بعض المشركين، وهؤلاء المشركون لن يأخذوا من الغنيمة، ولكن سيعطيهم صلى الله عليه وسلم أجراً على عملهم هذا بالاتفاق.
خامساً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام اهتم جداً بالحراسة الليلية للجيش الإسلامي؛ لئلا يباغت فجأة، فوضع على الحراسة أنس بن أبي مرثد رضي الله عنه.
سادساً: اهتم الرسول عليه الصلاة والسلام اهتماماً كبيراً جداً بالحالة المعنوية للجيش الإسلامي، فقد بشرهم أن جيوش هوازن ستصبح غنيمة للمسلمين إن شاء الله، ولا ننسى أن المسلمين دخلوا موقعة حنين ومعنوياتهم مرتفعة جداً؛ لأنهم حققوا انتصاراً مهيباً منذ أيام عندما فتحوا مكة المكرمة أعظم المدن وأشرف الأماكن.
إذاً: يتبين مما سبق أن إعداد المسلمين لمعركة حنين كان إعد(40/7)
سبب هزيمة المسلمين في أول غزوة حنين
خرج الجيش الإسلامي في (6) من شوال سنة (8) هجرية، ووصل إلى وادي حنين في (10) من شوال سنة (8) هجرية، وفي أثناء الطريق والجيش يسير بهذه الصورة البهية قال بعض المسلمين الجدد من الطلقاء، قالوا كلمة تعبر عن مرض خطير، وسرعان ما انتشرت هذه الكلمة في الجيش بكامله، انتشرت هذه الكلمة كما تنتشر النار في الهشيم، وهذه الكلمة في ظاهرها بسيطة يسيرة لكن كان لها من الأثر ما لم يتخيله المسلمون أبداً.
قال المسلمون: لن نغلب اليوم من قلة.
كما ذكرنا أن المسلمين كانوا قد فتحوا مكة وهزموا قريشاً بعشرة آلاف فلا شك أنهم سينتصرون في حنين على هوازن بـ (12.
000) مقاتل، هكذا اعتقد المسلمون، بل وصرح المسلمون بألسنتهم بهذا الاعتقاد، وهذا لم يكن أمراً قلبياً، بل خرج على الألسنة.
وعندما قال المسلمون هذه الكلمة شق ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحس أن مشكلة ستحصل، وظهر على وجهه الحزن، وأحس أن هناك شيئاً خطيراً سيحدث لهذا الجيش الكبير.
حسناً: لماذا كل هذه التداعيات لهذه الكلمة البسيطة اليسيرة؟ الجملة في ظاهرها صحيحة، وتركيبها ومعناها صحيح، بل إن هذه الجملة مستنبطة من حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، رواه أبو داود والترمذي وحسنه ورواه الدارمي والحاكم وصححه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال صلى الله عليه وسلم: (لا يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة) فمعنى الحديث: أن الجيش الذي وصل إلى (12.
000) مقاتل لن يهزم بسبب قلة العدد، لكن قد يهزم لأسباب أخرى، قد يهزم لأسباب مادية أو أسباب قلبية، يعني: قد يوجد (12.
000) مقاتل وليس هناك إعداد عسكري، أو ليس هناك قوة سلاح، أو عندهم خلل في الخطة، أو عدم مهارة في القيادة أو غير ذلك من الأمور المادية، فهذه كلها قد تكون سبباً في الهزيمة، لكن هذه الأشياء في جيش المسلمين الخارج إلى حنين كانت على أحسن مستوى، لكن قد يغلب الجيش لأسباب قلبية، وهذا أمر خطير جداً.
فهذه الكلمة التي قالها بعض المسلمين تعبر عن مرض قلبي خطير، وهذا المرض هو العجب بالنفس وبالعدد وبالإعداد المادي، وهو الاعتماد على الأسباب ونسيان رب الأسباب، وهو الظن أنني أنا الذي فعلت وليس الله الذي فعل، ولا شك أن الصحابة وغيرهم من الصالحين لو سئلوا سؤالاً مباشراً: هل النصر من عندك أم من عند الله؟ لا شك أن الجميع سيجيب بلا تردد: بل هو من عند الله عز وجل.
لكن هذا الشعور الخفي، شعور الإعجاب بالنفس والغرور يتسلل إلى النفس بلطف شديد، لا يشعر به المؤمن إلا وقد تفاقم.
والإعجاب بالنفس ليس هو الثقة بالنفس، الثقة بالنفس أمر محمود، أما الإعجاب بالنفس فأمر مذموم، والثقة بالنفس أمر مطلوب؛ لأن الجيش لا ينتصر ولا ينجح بغير الثقة بالنفس، لكن لا يجب أن تزيد الثقة بالنفس حتى تصل إلى درجة التوكل على النفس، وليس التوكل على الله عز وجل.
والفارق بين الثقة بالنفس والإعجاب بالنفس شعرة، والموفق من وفقه الله عز وجل.
الواضح من النبرة التي عند الصحابة حين قالوا: لن نغلب اليوم من قلة.
أنها كلمة تعبر عن ثقة زائدة عن الحد بالنفس، من أجل ذلك غضب الرسول عليه الصلاة والسلام لما سمعها وحزن حزناً ظهر على وجهه صلى الله عليه وسلم، ولو قيلت نفس الجملة على سبيل تبشير المسلمين وطمأنة المسلمين لكانت جملة مناسبة وجميلة ومستحسنة، لكن هذا الكلام لم يحصل، وإنما أُعجب المسلمون بعددهم وتوكلوا على كثرتهم، وهذا هو المرض الذي ذكره سبحانه وتعالى في الكتاب الكريم في حق هؤلاء، قال: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25].
لا يقولن أحد أبداً: إن هذا المرض كان عند الطلقاء حديثي الإسلام فقط، لا، للأسف انتقل المرض من الطلقاء إلى عامة أفراد الجيش الإسلامي، حتى وصل إلى معظم السابقين، وهذا أمر خطير، وسنرى أثر هذا الكلام بعد قليل.
إن الأمراض القلبية كالعجب والكبر وحب الدنيا والحسد أمراض معدية، إن ظهرت في طائفة ولم تعالج جيداً تنتشر كالوباء، من أجل ذلك كان دور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكان واضحاً أن هذا الدور لم يؤد على الوجه الأكمل في هذه المعركة، فحدث أن هذه الكلمة انتشرت في الجيش كله، وكان لهذه الكلمة الخطيرة أثر على كل الناس، وغريب أن البعض القليل قد يؤثر على الكثير، ومن الخطر جداً أن يخرج ضعيف الإيمان في وسط الجيش المؤمن، لكن لولا ظروف مكة حديثة الإسلام وخطورة انقلاب مكة كما ذكرنا قبل ذلك لكان الأفضل ألا يخرج للقتال متذبذب الإيمان، لكن هذه كانت ظروفاً قهرية اضطر المسلمون فيها إلى اصطحاب الطلقاء، مع أن الله تعالى يقول في الكتاب: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47]، لكن غالب الطلقاء لم يكونوا منافقين محترفي النفاق، وإنما(40/8)
موقف الطلقاء من هزيمة المسلمين في أول غزوة حنين
ماذا كان موقف الطلقاء في هذا الموقف الصعب؟ تباينت مواقف الطلقاء، منهم من صرح بكفره بعد أن كان ظاهره مسلماً مثل: كلدة بن حنبل، لكن بعد ذلك أسلم وله صحبة، فهذا الرجل قال في ذلك الوقت: ألا بطل السحر اليوم.
يعني: يتهم الرسول عليه الصلاة والسلام بالسحر مع أنه خارج مع المسلمين على أنه مسلم.
ومنهم من لم يكتف بالكفر بل حاول قتل الرسول عليه الصلاة والسلام مثل: شيبة بن عثمان وأيضاً هذا أسلم وحسن إسلامه.
ومنهم من أظهر الشماتة دون أن يظهر الكفر كـ أبي سفيان زعيم مكة قال: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر.
فقد كان مسروراً بهزيمة المسلمين، فهو لم يثبت على الإسلام، لكن الحمد لله حسن إسلامه بعد ذلك ومنهم من تردد في الأمر فلم يدر أين الحقيقة مثل سهيل بن عمرو.
ومن الطلقاء الذين لم يكمل إسلامهم أسبوعين ثلاثة من ثبت على الإسلام ولم يتردد لحظة مثل: عكرمة بن أبي جهل رضي الله عنه.
ومما يدل على الفهم الراقي الذي كان عند عكرمة رضي الله عنه وفهمه للإسلام وللنصر وللهزيمة أنه حدث لطيف جداً دار بينه وبين سهيل بن عمرو في أثناء فرار المسلمين يوم حنين، قال عكرمة عندما رأى المسلمين يفرون، قال: هذا بيد الله ليس إلى محمد صلى الله عليه وسلم منه شيء.
يعني: ليس هو السبب، أي: أن النصر والهزيمة بيد الله عز وجل، وليس معناه عدم صدق محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم قال كلمة جميلة جداً لا يقولها إلا من عاش سنوات وسنوات في الإسلام قال: إن أديل عليه اليوم فإن له العاقبة غداً.
يعني: لو هزم اليوم فلا شك أن النصر سيكون حليفه غداً أو مستقبلاً، أوهذا مثل قول الله سبحانه وتعالى: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].
فـ عكرمة رضي الله عنه لم يسلم إلا منذ أسبوعين أو ثلاثة، وهذا اليقين منه أدهش سهيل بن عمرو قال: والله إن عهدك بخلافه لحديث.
يعني: أنت لا تزال من أسبوعين أو ثلاثة كنت تعبد هبل فكيف توقن هذا اليقين؟ قال عكرمة: يا أبا يزيد! إنا كنا على غير شيء وعقولنا ذاهبة، نعبد حجراً لا يضر ولا ينفع.
إذاً: تباينت مواقف الناس، فالغالب الأعم من الناس فر من أرض المعركة والقليل هم الذين ثبتوا.
ومعركة حنين في تقييمي كانت شديدة الشبه بمعركة أحد، فكلاهما كان مصيبة، وكلاهما كان لمرض قلبي، ففي أحد المرض القلبي كان حب الدنيا، وفي حنين المرض القلبي كان العجب، لكن الفارق بين أحد وحنين أن أحداث الموقعتين تمت بصورة معكوسة، ففي أحد بدأت المعركة بنصر للمسلمين ثم حدثت المصيبة، وفي حنين بدأت المعركة بمصيبة للمسلمين ثم تم النصر لهم.(40/9)
عوامل رجوع المسلمين وثباتهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
كيف تم النصر للمسلمين مع وجود هذه الأزمة الطاحنة؟ كيف خرج المسلمون من هذه الكارثة؟ في مثل هذه الأزمات الهائلة وحين يتخلى الجميع أو المعظم عن المسئولية في عمل من الأعمال الهامة للأمة، سواء كان جهاداً أو غيره من الأعمال، ماذا نعمل في مثل هذه المواقف؟ لقد ضرب لنا الرسول عليه الصلاة والسلام القدوة في ذلك، وتركنا على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقدم لنا منهجاً عملياً واضحاً للخروج من مثل هذه الأزمات، فماذا عمل الرسول عليه الصلاة والسلام؟!(40/10)
ثبات النبي القائد صلى الله عليه وسلم
أول نقطة: ضرب القدوة من نفسه، فلم يفر؛ لأنه إذا فر القائد فلا أمل في ثبات الجنود، وإذا تخلى القائد عن المسئولية فلن يحملها أحد.
فالرسول عليه الصلاة والسلام ثبت في هذه الموقعة ثباتاً عجيباً، بل إنه لم يكتف بالثبات وعدم الفرار، بل كان يركض بدابته ناحية الكفار، حتى أن العباس رضي الله عنه وأرضاه وكان من الثابتين إلى جواره صلى الله عليه وسلم كان يمسك بلجام الدابة ليمنعها من التقدم خوفاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام استمر في الدخول وسط جيش الكفار، وكان الجيش يمشي عكس اتجاه الرسول عليه الصلاة والسلام، كله يفر إلى الوراء والرسول صلى الله عليه وسلم متقدم إلى الأمام ويقول وينادي بأعلى صوته: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب، هلموا إلي أيها الناس، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبد الله.
لن تجد مثل الرسول عليه الصلاة والسلام مهما قرأت في التاريخ، ومهما قرأت في السير، ومهما قرأت في المعارك لن تجد مثل ذلك الموقف أبداً، إذا فكر القائد في النجاة بنفسه لا شك أن الجنود سيحبطون إحباطاً يمنعهم من أي مقاومة، أما إذا ثبت القائد وتقدم وجاهد وضحى بنفسه فهذه أعظم الدروس التربوية لجيشه ولأمته؛ ولذلك تجد أن الراية تعطى في المعارك لأفضل الناس وأقوى الناس وأشجع الناس؛ لأن الناس تبع لرايتهم وتبع لقائدهم، فإذا هرب الشجاع الذي يحمل الراية فلا شك أن غيره سيهرب وسينهزم، لذلك تجد أن أشد القتال دائماً يدور حول الراية، ليس لمجرد قتل رجل شجاع؛ ولكن لأن سقوط الراية سيؤثر معنوياً على كامل الجيش؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يدرك ذلك تمام الإدراك، فلذلك حرص صلى الله عليه وسلم كل الحرص على عدم التراجع خطوة واحدة، مع كل الخطورة التي قد يتعرض لها، لكن هذه هي الفرصة الأخيرة لجيشه ولأمته أن تراه ثابتاً فتثبت بثباته، وفعل رجل في ألف رجل خير من قول ألف رجل في رجل، وألف خطة في الثبات والتضحية لا تساوي موقف الرسول عليه الصلاة والسلام يوم حنين.
هذه رسالة لكل المسئولين عن أعمال جماعية للأمة الإسلامية، ثبات القائد يعني ثبات الجنود وتضحية الرئيس تعني تضحية المرءوسين.
إذاً: هذه كانت أول نقطة عملها الرسول عليه الصلاة والسلام: ضرب القدوة من نفسه كقائد.(40/11)
اعتماده صلى الله عليه وسلم على الموثوق بهم من الجنود
النقطة الثانية: الاعتماد على الموثوق فيهم من الجنود، القائد كفرد لا يستطيع أن يفعل شيئاً بلا جنود، حتى لو ثبت لابد أن يكون في جنود؛ فالزعيم لا يأتي بالنصر إلا إذا كانت معه أمة، لكن يتفاوت الناس في إمكانياتهم، يتفاوت الناس في أخلاقهم، في تربيتهم، في تاريخهم، كذلك يتفاوت الناس في درجة الاعتماد عليهم، فهناك من يعتمد عليه في أمور، وهناك من يعتمد عليه في أمور أخرى، وهناك من لا يعتمد عليه أصلاً.
فالقائد المحنك والرئيس الذكي هو الذي يدرك بوضوح إمكانيات من حوله، يعرف الأعمال البسيطة السهلة التي يستطيع الجميع القيام بها، ويعرف الأعمال الصعبة التي لا يقوم بها إلا بعض الرجال، كما يعرف الأعمال شديدة الصعوبة التي لا يفلح في أدائها إلا القليل من الرجال، فكلما ازدادت حكمة القائد أدرك المستوى الدقيق لكل من حوله، وبالتالي لا يكلف أحداً من جنوده فوق ما يطيق، حتى ممكن يحقق نسبة نجاح كبيرة.
فتعالوا لننظر كيف طبق الرسول عليه الصلاة والسلام هذا؟ لقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام أفضل من يميز الرجال، وأفضل من يقدر إمكانياتهم، فهو الرسول عليه الصلاة والسلام لم يناد في هذه المعركة على (12.
000) مقاتل الذين معه؛ لأن فيهم أناساً حديثو عهد بالإسلام، ويصعب عليهم أن يثبتوا في هذه المواقف، بل إنه صلى الله عليه وسلم لم يناد على (10000) مقاتل الذين فتح بهم مكة، مع أن الذي دخل الإسلام قبل الفتح له درجة عالية جداً في ميزان الإسلام، ومع ذلك لم يناد عليهم كلهم؛ لأنه يعرف أن منهم من آمنوا رهباً من الدولة الإسلامية أو رغباً في ثرواتها بعد الانتصارات المتتالية مثل: قبائل غطفان وسليم وتميم وغيرهم.
فماذا عمل صلى الله عليه وسلم؟ ركز النداء في أولئك الذين يثق بدينهم، ويطمئن لعقيدتهم، ويعلم تماماً أنهم وإن فروا في أول يوم حنين إلا أنهم سيعودون سريعاً إلى حالتهم الأولى من البذل والعطاء والجهاد بمجرد التذكير؛ لأن معدنهم شديد النقاء.
فمن هؤلاء الذين وثق فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ إنهم أصحاب الشجرة، أصحاب بيعة الرضوان الذين شهدوا صلح الحديبية، الذين فتحوا خيبر بعد ذلك، الذين قال الله عز وجل في حقهم: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح:18].
فهؤلاء بايعوا قبل ذلك على عدم الفرار.
ولا شك أنهم لو تذكروا هذه البيعة -بيعة الرضوان- لعادوا فوراً إلى القتال؛ لأنهم يقيناً لم يبايعوا هذه البيعة نفاقاً ولأنه سبحانه وتعالى ذكر في كتابه أنه علم ما في قلوبهم، وهؤلاء نزلت عليهم السكينة قبل ذلك وهم على أبواب مكة في سنة (6) هجرية، وكما تعلمون لم يكن معهم إلا سلاح المسافر، ونزول السكينة عليهم في هذا اللقاء في حنين سيحدث إن شاء الله بشرط أن يعودوا.
وهؤلاء وإن كانوا (1400) فقط، إلا أن الواحد منهم بمائة والواحد منهم بألف والواحد منهم بأكثر من ألف، فهؤلاء لو ثبتوا فكل الناس بعد ذلك ستثبت لثباتهم، من أجل ذلك ركز الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم.
أمر صلى الله عليه وسلم العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه وأرضاه وكان من الثابتين إلى جواره، لم يفر العباس ولا لحظة واحدة، أمره أن ينادي على هؤلاء المبايعين على عدم الفرار، فرفع العباس صوته ونادى بكل ما فيه من قوة: يا أصحاب الشجرة! يا أصحاب السمرة، يا أصحاب الشجرة هكذا.
ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام خص النداء أكثر، فلم يعد ينادي على كل أصحاب الشجرة، فأمر العباس أن ينادي على الأنصار، فخص الأنصار من أصحاب الشجرة، فرفع العباس صوته ونادى: يا أنصار الله، يا أنصار رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إنه خص أكثر وأكثر فنادى على الخزرج: يا بني الخزرج، يا بني الخزرج.
ثم إنه خص أكثر وأكثر وأكثر، فنادى على بني حارثة من الخزرج وهم من خير دور الأنصار، كما قال في الحديث عن أبي أسيد الساعدي في البخاري ومسلم.
فماذا كان رد فعل أصحاب الشجرة والأنصار والخزرج وبني حارثة؟ نترك العباس رضي الله عنه يصور لنا رد فعل هؤلاء رضي الله عنهم أجمعين.
يقول العباس: فوالله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها.
يعني: عادوا مسرعين كالبقر التي تدافع عن أولاها الصغار، وقال الأنصار في لحظة واحدة وبصورة جماعية وبحماس: يا لبيك، يا لبيك، لبيك يا رسول الله أبشر نحن معك، فجاءوا من كل مكان في أرض الموقعة، مع كل الأزمة التي يعيشها المسلمون إلا أنهم أتوا من كل مكان، حتى إنهم كانوا لا يرون الرسول عليه الصلاة والسلام من شدة تزاحم الناس، وكان الرجل يجد صعوبة في العودة؛ لأن الدابة التي يركب عليها في عكس الاتجاه، لكن كان يترك الدابة وينزل ويترجل على قدميه حتى يلح(40/12)
تذكير الصحابة بأن النصر من عند الله عز وجل
الخطوة الثالثة: أنه صلى الله عليه وسلم ذكر العائدين بما نسوه، ألم تحدث المصيبة ويحدث الفرار؛ لأنهم أعجبوا بقوتهم وعددهم ولم يذكروا نصر الله عز وجل لهم؟ إذاً: فليتذكر الجميع الآن أن النصر من عند الله عز وجل، فرفع صلى الله عليه وسلم صوته يطمئن المسلمين ويقول: انهزموا ورب محمد، انهزموا ورب الكعبة، ثم رفع يده إلى السماء وابتهل إلى الله في الدعاء وقال في إلحاح: اللهم أنزل نصرك، اللهم إني أنشدك ما وعدتني، اللهم لا ينبغي لهم أن يظهروا علينا، اللهم أنزل نصرك.
في هذه اللحظات العظيمة عولج المرض الخطير الذي أصيب به المسلمون يوم حنين، وأدركوا بما لا يدع مجالاً للشك أن الناصر الحقيقي هو الله عز وجل، واستوعبوا بكل ذرة في كيانهم قول الله عز وجل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10] وانتقلت هذه الآية في لحظات يسيرة وسريعة جداً من المفاهيم النظرية إلى الوقائع العملية.
عندما تغير واقع المسلمين بهذه الصورة أذن الله عز وجل للنصر أن ينزل على المسلمين، وكما تعودنا أن ينزل النصر ينزل بصورة لا يتوقعها المسلمون، ليعلم الجميع أن النصر من عند الله عز وجل.(40/13)
وسائل تحقيق النصر للمسلمين في غزوة حنين
كانت وسائل تحقيق النصر في حنين عجيبة، كما كانت عجيبة قبل ذلك في بدر والأحزاب وخيبر ومكة وغيرها وغيرها.
لقد أنزل سبحانه وتعالى على المؤمنين السكينة، فقاتلوا بثبات وقوة، قال تعالى: {ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة:26] ما عادوا يرون (25.
000) مقاتل قدامهم، فثبتوا في أرض القتال، وأنزل الله عز وجل الرعب في قلوب الكافرين فولوا مدبرين، متنازلين بسهولة شديدة عما حققوه من نصر، وعن كل تقدم وصلوا إليه، وأنزل الله عز وجل الملائكة، كما قال سبحانه: {وَأَنزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة:26].
في لحظات يسيرة يفر الجيش المشرك من الجيش المسلم، فر أكثر من (25.
000) مقاتل في عدة حسنة وفي مواقع إستراتيجية جيدة وفي حالة معنوية عالية من (12.
000) مجاهد، وتفرقوا هنا وهناك، لا تسأل عن الأسباب المادية، فقط قل: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [الأنفال:10].
يقول أحد الصحابة: فما ثبتوا لنا حلب شاة يعني: مدة قصيرة جداً، انطلقوا في كل اتجاه يفرون، الرعب يملأ قلوبهم، تركوا وراءهم أموالهم وأنعامهم وأكثر نسائهم وأولادهم.
ووصف الله عز وجل موقف المشركين بعد عودة المسلمين إلى ربهم سبحانه وتعالى بقول بليغ مختصر معجز، قال سبحانه وتعالى: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ} [التوبة:26] من العذاب أن تأخذ قرار الفرار من العذاب أن تهرب وأنت الأكثر عدداً وعدة من العذاب أن تتنازل عن حصاد السنين من المال والأنعام في لحظة واحدة هكذا من العذاب أن تتخلى عن زوجتك وأولادك؛ لأن الرعب يملأ قلبك من العذاب أن تشعر أن كل شيء يطاردك حتى الجماد.
وهذه حقيقة فهذا عمرو بن سفيان الثقفي كان من المشركين الذين فروا في حنين والحمد لله أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه، يقول: فانهزمنا، فخيل إلينا أن كل حجر وشجر فارس يطلبنا.
قال: فأعجرت -أي: أسرعت- على فرسي حتى دخلت الطائف.
هذا هو العذاب بعينه: {وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [التوبة:26] فر الجيش المشرك في ثلاثة اتجاهات، فر جزء إلى أوطاس جانب من وادي حنين، والجزء الثاني فر إلى منطقة نخلة، والجزء الثالث والأساسي فر إلى مدينة الطائف، هرب الجميع بهذه الصورة المخزية المشينة، وهرب معهم قائدهم مالك بن عوف الذي دفعهم إلى هذه المهزلة العسكرية، واندفع المسلمون خلفهم هنا وهناك، وطردوا المشركين في كل مكان، وتوجهت سرية إلى أوطاس، وأخرى إلى نخلة، وتوجه الجيش الرئيسي بقيادة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الطائف لحصار هوازن وثقيف في داخل الطائف.
وأوقف الرسول عليه الصلاة والسلام توزيع الغنائم الهائلة التي حصلوها حتى يعود من الطائف، وجعل كل هذه الغنائم في وادي اسمه وادي الجعرانة إلى جوار حنين، وكانت هذه أكبر وأعظم غنائم تحصل في معركة واحدة في تاريخ العرب قاطبة؛ لأن مالك بن عوف أتى بكل صغيرة وكبيرة في قومه ليجعلها بعد ذلك في أيدي المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم (تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله).
لقد بلغ السبي من النساء في هذه الموقعة (6000) امرأة، هذا عدد هائل، وتجاوز عدد الإبل (24.
000)، وتجاوز عدد الأغنام (40.
000)، والفضة تزيد على (4.
000) أوقية، يعني: حوالي (150) كيلو جرام من الفضة.
هذا نصر هائل، لم يتوقعه ولم يحلم به أحد، فمعركة حنين غريبة جداً، وعجيبة بكل المقاييس، وكان شهداء المسلمين في هذه الموقعة الضروس خمسة شهداء فقط، وقتلى المشركين (70) قتيلاً، ومن يشاهد الأعداد الهائلة المشتركة في هذه الموقعة (12000) مجاهد يحاربون أكثر من (25.
000) يظن أن الضحايا سيكونون بالمئات أو بالآلاف، لكن هذا الكلام لم يحصل.
أول المعركة فر المسلمون دون قتال تقريباً، وآخر المعركة فر المشركون دون قتال تقريباً كذلك، وهذه النتائج الهائلة والغنائم العظيمة جاءت دون قتال يذكر، وإنما فر وكر من المسلمين ثم كر وفر من المشركين، هكذا تغيرت الأحداث في دقائق، انقلب النصر للمشركين إلى هزيمة لهم وتحولت الهزيمة للمسلمين إلى نصر لهم، والفارق تغير قلبي لا يراه أحد من البشر، لكن الله عز وجل يراه، فانحراف في الفهم ولو للحظات أدى إلى الفرار، وعودة إلى الفهم الصحيح في لحظات أدى إلى النصر؛ لتبقى الحقيقة واضحة في الذهن وراسخة في أعماق المسلمين: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:10].
لا يخفى علينا أن حنيناً تتكرر كثيراً في حياتنا، ما أكثر توكلنا على الطبيب الماهر المشهور للدرجة التي تمنعنا أحياناً من رفع الأيدي إلى الله عز وجل لطلب الشفاء من الله الشافي، لا أقصد عدم التداوي، التداوي أمر نبوي، لكن الاعتماد على الطبيب ونسيان رب الطبيب هذا لا يقبل.
كثيراً ما نثق بمال الأغنياء من الب(40/14)
سلسلة السيرة النبوية_بين حنين والطائف
كان فتح مكة ضربة خاطفة دهش لها العرب، وسلمت القبائل المجاورة بالأمر الواقع الذي لم يكن يمكن لها أن تدفعه، ولم تمتنع عن الاستسلام إلا بعض القبائل الشرسة القوية المتغطرسة، وهي بطون هوازن وثقيف، حيث رأت هذه البطون من نفسها عزاً وأنفة تأبى أن تقابل انتصار المسلمين بالخضوع، فاجتمعت تحت قيادة مالك بن عوف النصري لمقاتلة المسلمين، فكان اللقاء في حنين، وكانت العاقبة للمتقين، والنصر حليف المؤمنين.(41/1)
أهم الآثار المترتبة من غزوة حنين
أعوذ بالله بالسميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الثالث عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.
تحدثنا في الدرس السابق عن يوم حنين العجيب جداً أنه لم يَدُرْ فيه قتال يذكر، ومع ذلك كان له من الآثار ما لا يحصى.
من أهم هذه الآثار: أن المسلمين فقهوا جيداً حقيقة النصر في الإسلام، وعلموا تمام العلم أن المسلم الذي يعد العدة دون أن يرتبط بالله عز وجل أن نصره بعيد، وثباته محال.
فكان هذا الدرس من أبلغ الدروس التي تعلمها المسلمون في كل حياتهم السابقة.(41/2)
مطاردة جيش هوازن
رأينا فرار جيش هوازن بكل بطونها أمام جيش المسلمين عندما عاد المسلمون إلى ربهم سبحانه وتعالى، وعندما عادوا إلى الفقه السليم، فرت جيوش هوازن حتى واصلوا فرارهم إلى مدينة الطائف، وفر معهم زعيمهم القومي مالك بن عوف النصري.
بعد هذا الأمر أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم معظم الجيش وذهب لحصار مدينة الطائف، وحرب جيش هوازن، واستغلال فرصة انهزام هوازن من أجل مقابلتهم في معركة فاصلة، من أجل ذلك ترك الرسول صلى الله عليه وسلم توزيع غنائم حنين الهائلة حتى ينتهي من قضية هوازن وثقيف، وتستقر الأوضاع.
سار الرسول عليه الصلاة والسلام بجيشه الضخم متجهاً إلى الطائف، وسبحان الله المقارنة عجيبة جداً بين هذا المسير المهيب للطائف، وبين مسيره صلى الله عليه وسلم إليها من إحدى عشرة سنة، أيام العهد المكي، من إحدى عشرة سنة كان صلى الله عليه وسلم متجهاً إلى الطائف وهو في أشد حالات الحزن والضيق، وكان ماشياً على قدميه ليس معه إلا غلامه زيد بن حارثة رضي الله عنه، طردته مكة وأخرجته وتنكرت له، وكانت السيدة خديجة رضي الله عنها قد ماتت، وكذلك مات عمه أبو طالب أيضاً، وليس معه في مكة إلا قليل من المؤمنين لا يتجاوزون مائة واحد من الصحابة، وكانوا مشردين في الحبشة، وكان الوضع في غاية المأساة، ولم تخفف الطائف من آلامه، بل عمقت الآلام، فرفضت الدعوة الإسلامية بتكبر، وحاربت الرسول صلى الله عليه وسلم بشدة، واستقبلته استقبال اللئام لا استقبال الكرام، وطردوه وصاحبه زيداً رضي الله عنهم، وقد أمطروهما بوابل من الحجارة والتراب والسباب، حتى ألجئوهما إلى حائط عتبة وشيبة ابني ربيعة.
وأنتم تعلمون الدعاء المشهور الذي دعا به هناك، وهو دعاء يعبر عن درجة الألم والأسى والحزن الشديدة التي وصل إليها صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت.
وغادر الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم الطائف وعاد متجهاً إلى مكة مهموماً على وجهه في ظروف لا يتحملها عامة البشر، ومع كون حالته النفسية قد وصلت إلى أقصى درجات الألم إلا أنه رفض تدمير هذه القرية الطائف وغيرها من القرى ممن كفر بالله عز وجل، مع أن ملك الجبال عرض عليه هذا الأمر، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في منتهى التجرد: (بل أرجو أن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يعبد الله عز وجل وحده ولا يشرك به شيئاً).
وسبحان الله مرت الأيام، والأيام دول، {وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ} [آل عمران:140] وغير الله عز وجل الأحوال، وجاء صلى الله عليه وسلم الآن بعد إحدى عشرة سنة بما لم يتصوره أحد، لا من الطائف ولا من مكة، ولا من أهل الجزيرة بكاملها، جاء صلى الله عليه وسلم الآن عزيزاً منتصراً ممكناً رافعاً رأسه، محاطاً بجيش مؤمن جرار يزلزل الأرض من حوله، يرفع راية لا إله إلا الله، محمد رسول الله، أحد عشر عاماً فقط فرقت بين الموقفين.
وتحقق ما ذكره صلى الله عليه وسلم لصاحبه زيد بن حارثة رضي الله عنه يوم قال له بيقين بعد عودتهم المحزنة من الطائف: يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجاً ومخرجاً، وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه.
وجاء الفرج والمخرج على صورة أعظم بكثير من تصور الجميع، ونصر الله الدين، وأظهر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
لاشك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ذاهب إلى الطائف كانت تجول في خاطره ذكريات لا حصر لها، يخرج بجيش يقطع الصحراء باتجاه الطائف للمرة الثانية في حياته، فماذا كان يفكر به صلى الله عليه وسلم؟ لعله تذكر صاحبه زيد بن حارثة حبه رضي الله عنه، الآن زيد لا يسير معهم قد سبق زيد إلى الجنة رضي الله عنه وأرضاه، استشهد في مؤتة كما ذكرنا قبل ذلك، لعله تذكر أهل الطائف وهم يرفضون دعوته جميعاً بلا استثناء في تعنت أشد من تعنت أهل مكة.
لعله تذكر عبد يا ليل بن عمرو بن عمير الثقفي -هذا الذي انتهت إليه الآن زعامة ثقيف- عندما وقف يسخر من النبي صلى الله عليه وسلم، ويقول: إنه يمرط -أي: يمزق- ثياب الكعبة إن كان الله عز وجل قد أرسله.
وعبد يا ليل فر فراراً مخزياً من أرض حنين، وذهب ليختبئ في جبن ظاهر في داخل حصون الطائف.
لعله تذكر عداس النصراني رضي الله عنه الغلام الصغير الذي آمن، واختفى ذكره من السيرة بعد ذلك، ولا نعلم من حاله شيئاً، لكن الله عز وجل يعلمه.
لعله تذكر عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة صاحبي الحديقة التي لجأ إليها صلى الله عليه وسلم عندما طردوه من الطائف، فالآن عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة يرقدان في قليب بدر يعذبان مع قادة الكفر في قبورهم.
لعله تذكر وهو يمر من وادي نخلة مجموعة الجن التي آمنت به ف(41/3)
حصار الطائف
وصل الجيش العملاق إلى الطائف، وتوقع الجميع معركة هائلة ستقع بين تجمع هوازن وثقيف في حصون الطائف في عقر دارهم وبين جيش المسلمين الضخم، وكما ذكرنا أن عدد قتلى المشركين في موقعة حنين (70) رجلاً فقط، يعني: الجيش بكامله لا زال موجوداً في الطائف (25000) مقاتل أو يزيدون والجيش المسلم (12000) مجاهد، فتوقع الجميع معركة هائلة، لكن رفض المشركون الخروج للحرب، فظلوا في حصونهم دون قتال، وحصون الطائف كانت شديدة المنعة، وإذا قرر أهل ثقيف وهوازن عدم الخروج فسيكون القتال صعباً للغاية.
ومع أن عددهم وعدتهم أضعاف المسلمين.
ومع أنهم يقاتلون في بلادهم التي خبروها، وهم في ظروف اعتادوا عليها، لكن ألقى الله عز وجل الرهبة في قلوبهم، فما استطاعوا أن يأخذوا قرار الحرب مرة ثانية، بل اكتفوا بفضيحة حنين.
ولاشك أن في هذا خزياً كبيراً جداً وصغاراً شنيعاً؛ لأن نساء وأموال وأنعام هوازن في يد المسلمين الآن، ومع ذلك فضلوا ألا يخرجوا لاستخلاص هذه الأنعام والأموال والنساء والأولاد من أيدي المسلمين، هذا خزي كبير جداً وذل ليس بعده ذل، فالرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى أهل الطائف من هوازن وثقيف يرفضون الخروج للقاء الفاصل لم يتنازل صلى الله عليه وسلم بسهولة، بل جمع الجيش الإسلامي وقرر ضرب الحصار على حصون الطائف المنيعة، لعلهم يفقدون الأمل ويخرجون، لكن أول ما فرض الحصار بدأ أهل الطائف بإطلاق السهام والرماح على المسلمين، وكانت حصونهم عالية وكبيرة، واشتد رميهم واستشهد من المسلمين اثنا عشر رجلاً، ولم تكن سهام المسلمين تصل إلى داخل الحصون، وأصبحت المشكلة كبيرة على المسلمين، فأشار الحباب بن المنذر رضي الله عنه وأرضاه أن يبتعد المسلمون عن الحصن حتى لا تصيبهم السهام، وبالفعل عسكر الرسول صلى الله عليه وسلم في مكان بعيد عن حصون الطائف، لكن أيضاً استمر الحصار على مدينة الطائف.(41/4)
الوسائل التي استخدمها رسول الله لإخراج المشركين من حصون الطائف
الرسول صلى الله عليه وسلم فكر في خطة لإخراج المشركين من الحصون، فأمر سلمان الفارسي رضي الله عنه بصناعة المنجنيق لقذف حصون الطائف بالحجارة، وأمر بصناعة دبابات خشبية لكي يختبئ تحتها الجنود ليصلوا إلى القلاع وإلى الحصون دون أن تصيبهم السهام، وبالفعل بدءوا في قذف أسوار الطائف بالمنجنيق الذي صنعه سلمان رضي الله عنه، وصار المسلمون تحت الدبابات الخشبية، وبالفعل كسروا جزءاً من السور، وكانوا على وشك الدخول داخل أسوار الطائف لولا أن أهل الطائف فاجئوا المسلمين بإلقاء الحسك الشائك المحمى بالنار، والحسك الشائك هو عبارة عن أشواك حديدية ضخمة أوقدت عليها النار حتى احمرت، فألقوها على المسلمين فصارت مأساة كبيرة، أصيب المسلمون إصابات بالغة، مما دفعت المسلمين إلى العودة من جديد إلى معسكرهم، وما قدروا أن يقتحموا حصن الطائف.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام لم ييئس فقرر أن تحرق حدائق العنب المحيطة بالطائف، وكانت جنات ضخمة فيها مزروعات كثيرة، وأهم هذه المزروعات العنب.
فأخذ رسول صلى الله عليه وسلم القرار بحرق هذه الأعناب حتى يدفع أهل الطائف أو يجبرهم على الخروج للقتال، هو لا يحرق هذه الأشجار أو هذه الأعناب بغرض التدمير أبداً، لكن بغرض إجبار أهل الطائف على الخروج للقتال.
وبدأ المسلمون بحرق كمية ضخمة من العنب، فنادت ثقيف الرسول صلى الله عليه وسلم من وراء الأسوار وقالت: لم تقطع أموالنا إما أن تأخذها إن ظفرت علينا، وإما أن تدعها لله وللرحم.
يعني: لو غلبتمونا تأخذونها، ولو لم تغلبونا فاتركوها لله وللرحم، فقال صلى الله عليه وسلم: فإني أدعها لله وللرحم التي بيني وبينكم.
ذكرنا فيما مضى أن العلاقة بين ثقيف وقريش سيئة جداً، لكن كانت إحدى جدات الرسول صلى الله عليه وسلم لأمه من ثقيف، كانت الجدة الخامسة للرسول عليه الصلاة والسلام واسمها: هند بنت يربوع الثقفية؛ فلذلك ترك صلى الله عليه وسلم حرق الأعناب وقطعها للرحم التي بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم.
ولم يفعل صلى الله عليه وسلم كما تفعل الجيوش الكافرة العلمانية مثل: جيوش فارس والرومان والتتار واليهود، وجيوش العصور الحديثة التي تفسد في الأرض لمجرد الإفساد؛ حتى إن الله سبحانه وتعالى يصفهم في كتابه الكريم بقوله: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} [البقرة:205].
يعني: الإفساد عند غرض، أما المسلمون فإنهم لم يفعلوا ذلك إلا لغاية محددة، فلما لم تحقق وقفوا عن الحرق كما رأينا، إذاً: هذه الوسيلة لم تفلح في إخراج أهل الطائف.
الوسيلة الأولى: الضرب بالمنجنيق.
الوسيلة الثانية: حرق الأعناب.
الوسيلة الثالثة: محاولة تفكيك الصف داخل الحصون، فقد نادى صلى الله عليه وسلم على العبيد في داخل الحصون وقال: (أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حر) وكان العبيد كثيرين في المجتمع العربي القديم، وسياسة الإسلام أتت بتحرير العبيد في كل مناسبة ممكنة، فكانت هذه فرصة طيبة لتحرير بعض العبيد من صفوف المشركين، فهؤلاء العبيد في الغالب سيسلمون، وبذلك يستنقذون من ظلمات الكفر، وسيفقد أهل ثقيف طاقة هؤلاء العبيد، وسوف ينقل هؤلاء العبيد الأخبار من داخل الطائف إلى خارجها، فهناك أكثر من فائدة، فقد كان قراراً سياسياً دعوياً عسكرياً بارعاً من الرسول عليه الصلاة والسلام.
وبالفعل بدأ يخرج بعض العبيد من داخل الحصون، حتى وصل عددهم إلى ثلاثة وعشرين من العبيد، واكتشفت ثقيف الأمر وشددت الحصار على الأسوار، ومنعت خروج بقية العبيد، واستفاد المسلمون من خروج هؤلاء الثلاثة والعشرين عبداً وأهم استفادة كانت أمرين: وأعظم الأمرين: هو إضافة ثلاثة وعشرين رجلاً إلى أمة الإسلام، (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم).
الأمر الثاني: معرفة بعض المعلومات العسكرية الخطيرة.
فقد أخبر هؤلاء العبيد الرسول عليه الصلاة والسلام أن الطعام والشراب الذي في داخل الطائف يكفي للمطاولة والصبر على الحصار سنة على الأقل أو عدة سنوات، فهذه معلومة في غاية الأهمية، فالحصار لن يكون يوماً أو يومين ولا شهراً ولا شهرين، بل عندهم طعام يكفي لسنة أو أكثر، والمسلمون لا يستطيعون أن يبقوا في هذا المكان؛ لأن القوات الإسلامية ليست مجرد فرقة إسلامية من الجيش الإسلامي، وليست مجرد جيش لدولة، بل القوات الإسلامية هي المجتمع المسلم بكامله، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك في المدينة المنورة التي هي عاصمة الدولة الإسلامية إلا القليل من الرجال لحراسة النساء والأطفال والديار، وهناك الكثير من القبائل التي دخلها الإسلام حديثاً، فهي تحتاج إلى متابعة مستمرة خوفاً من انقلابها إلى الكفر، والهجوم على المدينة المنورة.
وهناك الكثير من القبائل لم تسلم بعد في الجزيرة العربية، وهناك اليهود في خيبر على مقربة من المدينة، وهم على(41/5)
استشارة الرسول صلى الله عليه وسلم لأحد أصحابه بعد طول حصار الطائف
استشار الرسول عليه الصلاة والسلام أحد أصحابه من أصحاب الخبرة العسكرية والرأي السديد، عندما تسمع اسم هذا الصحابي الذي استشاره الرسول عليه الصلاة والسلام سينتابك العجب لا محالة، من هذا الذي استشاره صلى الله عليه وسلم؟ إنه نوفل بن معاوية الديلي رضي الله عنه وأرضاه، هذا نوفل بن معاوية الديلي زعيم بني بكر القبيلة التي كانت متحالفة مع قريش بعد صلح الحديبية، وهو الذي قاد قومه لقتل خزاعة، والذي كان سبباً في نقض صلح الحديبية، والذي دخل الحرم المكي ليستمر في عملية قتل رجال خزاعة، والذي رد بالرد الكفري على قومه عندما قالوا له: يا نوفل إلهك إلهك، فقال: يا بني بكر! لا إله لكم اليوم، هذا هو نوفل بن معاوية الذي ارتكب كل هذه الجرائم منذ شهرين أو ثلاثة، والذي كان سبباً في خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فتح مكة المكرمة ثم حنين، ثم الطائف، وسبحان مقلب القلوب ومصرفها سبحانه وتعالى.
أسلم نوفل بن معاوية بعد هذا التاريخ الأسود مع المسلمين، أسلم وحسن إسلامه، وانضم إلى الجيش المسلم، وأصبح مستشاراً أميناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإن كنا نعجب من تحوله من الكفر إلى الإيمان، ومن الغدر إلى الأمانة، ومن حلفه لقريش إلى دخوله في الإسلام، إن كنا نعجب من كل ذلك فالعجب كل العجب والإبهار كل الإبهار في الدروس التي يعطيها لنا معلم البشرية وسيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم!.
فنحن نرى هذا التوظيف الرائع منه صلى الله عليه وسلم لكل الطاقات التي حوله، وهذا الاستغلال المفيد لكل من دخل في صف المؤمنين، وهذه القيادة المبهرة لكل هذه الأنواع المختلفة من البشر، وهذا الأمر لم يكن حدثاً عارضاً في حياته صلى الله عليه وسلم، لا، بل كان أمراً متكرراً وثابتاً في حياته كلها صلى الله عليه وسلم، ولعلكم تذكرون توليته عمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه إمارة معركة ذات السلاسل ولم يمر على إسلامه إلا شهور قليلة، وكذلك تقريبه خالد بن الوليد في كل أموره، حتى قال خالد: فوالله ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم أسلمت يعدل بي أحداً من أصحابه فيما حزبه! فهذا إحساس صادق من خالد بن الوليد، مع أنه من المؤكد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان كثيراً ما يستشير أصحابه الآخرين مثل: أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير وغيرهم وغيرهم أكثر من استشارته لـ خالد بن الوليد، لكنه كان صلى الله عليه وسلم يشعره دائماً بقيمته وأهميته واحتياجه لرأيه.
وكلنا يذكر توليته عتاب بن أسيد رضي الله عنه على مكة المكرمة، ولم يكن قد أسلم إلا منذ أيام، هكذا يكون التعامل مع الرجال، وبالذات الذين يتمتعون بملكات قيادية.
والقواد إذا همشوا لا تضيع قواتهم فقط، بل قد يكونون وبالاً على الأمة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بلغ قمة الحكمة في التعامل مع الناس، وقمة الحكمة في إنزال الناس منازلهم، وقمة الحكمة في احترام أرائهم واستغلال قدراتهم.
ومن هذه السياسة الحكيمة نرى نوفل بن معاوية القائد المحنك يدلي برأيه في قضية تنفع الإسلام والمسلمين، لو كان القائد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فلعله كان يتتبع قواد الجيش المعادي بالقتل والإبادة والسجن والتعذيب، مثل ما نرى في كل مكان، لكن الرؤية كانت واضحة جداً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم)، إنها سياسة نبوية ثابتة مستقرة، فماذا قال نوفل بن معاوية لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: هم ثعلب في جحر، إن أقمت عليه أخذته، وإن تركته لم يضرك.
يعني: هو يشبه أهل ثقيف بالثعالب، وهذا حقيقي ومشتهر عنهم وسط العرب، حتى قال عنهم عيينة بن حصن: إنهم قوم مناكير.
يعني: أصحاب دهاء وفطنة.
ورأينا من هذه الفطنة وهذا الدهاء في هذا الحصار الصعب، وهذه المقاومة الشرسة.
ثم إنه يؤكد أنهم لا مهرب لهم من هذه الحصون (إن أقمت عليه أخذته) غير أنه يشير إلى شيء في غاية الأهمية، يقول: إن شوكة ثقيف وهوازن قد كسرت ومعنوياتهم هبطت إلى الحضيض، لن تكون لهم قائمة بعد اليوم، فقد طارت فضيحتهم في الآفاق، لذلك قال نوفل في نظرة عميقة وتحليل دقيق: (وإن تركته لم يضرك).
يعني: لو صبرت على الحصار، فستصل إلى مرادك وستفتح الحصن، لكن تضييع الوقت في حصارهم قد يكون ضاراً بالجيش الإسلامي أكثر من ضرره بثقيف.
فهنا عقد الرسول صلى الله عليه وسلم موازنة بين الأمرين، فوجد أن بقاءه في هذه البلاد أكثر من ذلك سيوقع الدولة الإسلامية في أضرار أكثر من الفوائد المحصلة، فأخذ الرسول عليه الصلاة وال(41/6)
واقعية الرسول صلى الله عليه وسلم في المواقف
يعلمنا الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الموقف أموراً مهمة جداً، يعلمنا الواقعية في الحياة، ليس عيباً أن نفشل في أمر من الأمور، وليس بالضرورة أن تكون كل معاركنا وكل مشاريعنا ناجحة، لكن المهم لا نغرق في العمل دون إدراك أن الهدف غير قابل للتحقيق، وليس معنى هذا سرعة اليأس، فالرسول صلى الله عليه وسلم بذل كل ما في الوسع، فقد استخدم كل وسيلة لفتح الحصن، ولكن لم يقدر، فقبل في واقعية أن ينسحب، وفرق كبير جداً بين المثابرة وبين تضييع الوقت، فالمثابرة على أداء عمل أمر مطلوب، لكن لابد أن تكون هناك مؤشرات للنجاح، لابد أن تكون هناك مقاييس تشير إلى أن هذا العمل ممكن التحقيق، ولابد أن تكون الخسائر أقل من الفوائد، من أجل هذا لابد من المتابعة والملاحظة والتقييم المستمر.
أما تضييع الوقت فهو الاستمرار في عمل يستحيل تحقيقه بالإمكانيات المتاحة، أو يتسبب في خسائر أكبر من الفوائد.
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يحقق الفائدة العظمى حتى وإن حصلت بعض الخسائر.
فنحن نلاحظ رد فعل الرسول عليه الصلاة والسلام مع الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد أذن لهم بالقتال مع علمه أن فتح الحصن صعب جداً، لكن ليعيشوا معه في واقعيته صلى الله عليه وسلم.
ولما أيقن الصحابة بعد بصعوبة المهمة، ووافقوا على الرحيل وهم راضون، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليفك الحصار ويغادر الطائف وهو يضحك.
هذه القيادة الهادئة تبث الأمن والراحة في قلوب الجنود، لا يوجد انفعال ولا عصبية، ولا تحميل الآخرين أخطاء لم يعملوها، ولا حالة غضب، ولا حالة يأس وإحباط، ولا حزن، ولا كلمة (لو)، لو فعلنا كذا لكان كذا أو كذا، بل هدوء أعصاب، ورزانة، وثقة، وقدرة على التكيف في ظل كل الظروف.
أنا سعيد بعدم فتح الطائف، قد تستغرب الناس هذا الكلام، لكن الأمر المفرح من وجهين: الأول: لو فتحت الطائف في هذه الظروف الصعبة والقتال الشرس، والمطاردة لهوازن وثقيف، والقتال في داخل الحصون، لقتل منهم ما لا يتصور، ولفقد الإسلام قوة هؤلاء جميعاً؛ لأن هوازن وثقيف أسلموا بعد ذلك، فلو قتلوا لفقد الإسلام قوتهم، ولكان عاقبتهم النار، وهذا أسوأ ولاشك.
الثاني: أن هذا الانسحاب دون إتمام المهمة فتح لنا باباً أن نفعل المثل إن تعرضنا لنفس الموقف، لكن لو أصر الرسول عليه الصلاة والسلام على عدم الانسحاب حتى يفتح الحصن، لكان في هذا إحراج كبير جداً للأمة الإسلامية؛ لأنه سيكون لزاماً علينا أن نفعل مثله، لكن بهذا الفعل منه صلى الله عليه وسلم ترك الأمر لقادة المسلمين، ولرأي الشورى، إن رأى المسلمون أن الحصار يجدي صبروا كما حدث في فتح خيبر، وإن رأوا أنه أمر غير ممكن أو خسائره كبيرة انسحبوا، كما حدث في الطائف، ولهم في كلتا الحالتين أُسوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم.(41/7)
من مواقفه صلى الله عليه وسلم مع مخالفيه
هنا موقف في منتهى الرقي من مواقفه صلى الله عليه وسلم وهو يغادر الطائف، قال له بعض الصحابة: يا رسول الله، ادع الله على ثقيف، فقال في حب وفي أمل: اللهم أهد ثقيفاً وائت بهم.
روى الترمذي وأحمد وقال الترمذي: حسن صحيح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم أهد ثقيفاً وائت بهم) ما غابت عنه أبداً رسالته في الحياة، فرسالته أن يصل بدعوته إلى الناس لا أن يقتلهم، ما على الرسول إلا البلاغ، حتى وإن رفض أهل الطائف الإيمان واستكبروا عنه وقاوموا وقاتلوا، فهو ما زال يرجو إسلامهم، حتى مع مرور السنين تلو السنين ما زال يرجو إسلامهم، حتى مع ذكريات الطائف في المرة الأولى، ومع واقع الطائف في المرة الثانية، ما زال صلى الله عليه وسلم يرجو إسلامهم.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجز الناس عن النار، وهم يقتحمون فيها).
وأهل الطائف يدفعون أنفسهم دفعاً إلى النار ويقتحمون فيها، والرسول عليه الصلاة والسلام حريص عليهم أكثر من حرصه على نفسه صلى الله عليه وسلم.
كذلك عندما ناداه ملك الجبال أن يطبق عليهم الأخشبين أبى صلى الله عليه وسلم أن يهلك الطائف ومكة المكرمة حتى بعد أن عرض عليه ذلك ملك الجبال.
كذلك فعل ذلك أيضاً مع قبيلة دوس لما رفضوا الإسلام قال: (اللهم أهد دوساً، وائت بهم).
وفعل ذلك مع قريش بعد أن قتلت (70) من خيار الصحابة في أحد، قال: (اللهم أهد قومي فإنهم لا يعلمون).
فصدق الله العظيم إذ يقول: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]، ليس رحمة للمسلمين فقط، ولكن رحمة للعالمين لكل البشرية لكل الإنسانية.(41/8)
قسمة غنائم معركة حنين بالجعرانة
رجع الرسول صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام من الطائف بعد أربعين يوماً كاملة، ووصل إلى وادي الجعرانة ليبدأ في مهمة أخرى عظيمة، وهي مهمة تقسيم الغنائم المهولة على الجيش المنتصر.
نريد أن نقف وقفة سريعة مع الغنائم، الغنائم خصيصة لهذه الأمة العظيمة الأمة الإسلامية، فهي لم تكن مشروعة للأمم السابقة، روى البخاري عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي.
وذكرها منها: وأحلت لي الغنائم)، يعني: هي نعمة من الله عز وجل وحافز قوي للمجاهد، فهي عوض للمجاهد عن تركه للديار وللأعمال وللأسرة وللوطن، ولاشك أن الجيش الذي توزع عليه الغنائم يقاتل بحمية تختلف عن الجيش الذي لا يتجاوز فيه راتب الجنود دراهم معدودة.
يقول الشرع الإسلامي: إن أربعة أخماس الغنيمة توزع على أفراد الجيش المقاتل، وخمس الغنيمة المتبقية يذهب للدولة تتصرف فيه حسب المصلحة، لكن في هذا الوقت في زماننا يستكثر القادة الكبار والزعماء هذا العطاء الضخم للجنود، ويحتفظون به للدولة أو لهم، فيسلبون بذلك حق الجنود.
ولاشك أن ذلك سيكون له انعكاس كبير على قتال الجنود في المعارك، وعلى أداء الجنود في الحروب.(41/9)
أقوال العلماء في غنائم حنين وبيان الراجح منها
فماذا عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين الهائلة؟ الفقهاء وكتاب السير اختلفوا فيما فعله صلى الله عليه وسلم في غنائم حنين خاصة؛ أما المعارك السابقة بدءأً من بدر وحتى هذه اللحظة فقد اتفق الجميع على أن أربعة أخماس الغنائم توزع على الجيش وخمس للدولة، إلا أن الأمر بالنسبة لحنين كان موضع خلاف بين الفقهاء.
فمنهم من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزع الغنائم بكاملها على المؤلفة قلوبهم.
والمؤلفة قلوبهم: هم الذين أسلموا حديثاً سواءً من أهل مكة الطلقاء، أو من الذين أسلموا من الأعراب قبل فتح مكة مباشرة.
ومن قال بهذا الرأي: ابن حجر العسقلاني رحمه الله كما في فتح الباري.
ومنهم من قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزع أربعة أخماس الغنيمة على الجيش بكامله، ثم أعطى المؤلفة قلوبهم من الخمس المتبقي المملوك للدولة.
وممن قال بهذا الرأي: القرطبي، وأبو عبيد القاسم بن سلام صاحب كتاب الأموال، وابن خلدون، والقاضي عياض وغيرهم.
وأنا أميل إلى هذا الرأي الأخير؛ لأن هذا الرأي يتفق مع الشرع والعقل والنقل، وعندي أكثر من دليل على ذلك: الأول: هذه الغنائم ليست ملكاً للرسول عليه الصلاة والسلام ليوزعها بطريقة تخالف التوزعة الشرعية، بل هذه الغنائم ملك للجيش، ولا تؤخذ منه إلا باستئذان خاص، وأيضاً هذا ما حصل.
ومن قال: إن هذا أمر خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام يلزمه الدليل على ذلك، وإلا يصبح من حق أي زعيم أن يقول: إن ظرفي يماثل ظرف يوم حنين، فيأخذ الغنائم كلها لينفقها حسب ما يرى.
الدليل الثاني: لو كان هناك تغيير في تقسمة الغنائم لتوقعنا أن يذكر صلى الله عليه وسلم أن ذلك أمر خاص بهذه الواقعة، حتى لا يعتقد البعض أن ما فعله في حنين قد نسخ التقسيم السابق للغنائم، خاصة وأن هذه المعركة هي آخر موقعة حربية مع العرب، حتى موقعة تبوك التي لم يحدث فيها قتال، ولم تكن فيها غنائم.
الدليل الثالثة: ما رواه أبو داود والنسائي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، وكذلك عن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لأعرابي عند توزيع غنائم حنين بعد أن أمسك وبرة أو شعرة بين إصبعيه قال: (إنه ليس لي من الفيء شيء، ولا هذه) أي: ولا مقدار هذه الشعرة، (إلا الخمس، والخمس مردود فيكم) فهذا تصريح من الرسول عليه الصلاة والسلام، وقاله بعد توزيع الغنائم، ولا أدري كيف خفي هذا الحديث عمن قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم وزع الغنائم بكاملها على المؤلفة قلوبهم، والحديث أيضاً رواه الإمام أحمد عن عبادة بن الصامت، وأخرجه كذلك مالك والشافعي، وحسنه ابن حجر في الفتح.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يصرح أنه لا يملك في يوم حنين إلا الخمس فقط من الغنائم.
يبقى هذا الدليل الثالث.
الدليل الرابع: لو نظرت إلى من وزع عليهم الغنائم لأدركت أنه من المستحيل أن يكون قد قسم كل هذه الغنائم على المؤلفة قلوبهم، فعدد الذين أعطاهم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا العطاء السخي لا يزيدون في أي كتاب من كتب السيرة على عشرين رجلاً، ولو جمعت الأسماء من الكتب المختلفة قد تصل إلى أربعين أو خمسين رجلاً بالكثير.
إذاً: إذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعطي الناس مائة من الإبل فعطاؤه لأربعين رجلاً سيبلغ أربعة (4000) بعير فقط، مع أنه كان يعطي بعضهم خمسين لا مائة، فسيكون أقل من (4000) أو أقل من (5000) بعير.
فهذه (4000) بعير فأين ذلك من (24000) بعير هي غنائم حنين من غير الشياه فقد بلغت (40000) شاة، وغير الفضة (4000) أوقية من الفضة، وغير (6000) من السبي، ولم يرد أنه صلى الله عليه وسلم أعطى أرقاماً كبيرة كمائة بعير أو خمسين بعيراً إلا لهذه المجموعة من المؤلفة قلوبهم فقط.
الدليل الخامس: هل كان سيرضى أفراد القبائل من الأعراب ومن قريش إعطاء زعمائهم فقط، أم أنهم لا يرضون أبداً إلا إذا أخذوا ولو شيئاً يسيراً؟ يعني: لو أنا أعطيت لزعيم قبيلة غطفان مائة من الإبل، هل سيرضى (2000) أو (3000) غطفاني دون إعطائهم؟ لاشك أن قلوب الجميع كانت تهفوا إلى الغنيمة، وكل الناس تحتاج إلى تأليف قلوبهم.
أنا أرى أن (99%) من المسلمين الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية وبعد فتح خيبر يحتاجون إلى تأليف لقلوبهم، ولن يترفع منهم عن هذه الغنيمة إلا القليل، أمثال: خالد بن الوليد، عمرو بن العاص، وعثمان بن طلحة، والعباس، أمثال هؤلاء الكبار وبعض الأفراد المعدودين.
أما الباقي فسيحتاج إلى تأليف، ودليل ذلك أن الرسول عليه السلام عند الهزيمة أول المعركة في حنين لم ينادِ على أولئك الذين أسلموا قبل الفتح؛ لأ(41/10)
مقدار غنائم حنين
نتحدث عن غنائم حنين بالأرقام: كانت غنائم (24000) من الإبل، و (40000) شاة، و (4000) أوقية من الفضة، هذا غير (6000) من السبي.
إذاً: أربعة أخماس الغنيمة تساوي (19200) من الإبل، و (32000) شاة، و (3200) أوقية من الفضة، و (4800) من السبي، فهذه الغنائم توزع على (12000).
كانوا يقيمون الجمل الواحد بعشر من الشياه، يعني: أن كل واحد من أفراد الجيش سيأخذ إما جملين، وإما عشرين من الشياه.
وجاء في بعض الكتب تقول: أن الواحد من (12000) كان يأخذ أربعة جمال أو أربعين شاة، لكن عندما تحسبها ستجد أن هذا غير صحيح، وأن الصحيح أن الواحد كان يأخذ جملين أو عشرين من الشياه، إلا أن تكون عدد الغنائم أكثر من ذلك، لكن الثابت والصحيح أن عدد الغنائم مثل ما ذكرناه: (24000) من الإبل، و (4000) وأربعة آلاف أوقية من الفضة.
فتكون هذه التقسيمات إما جملين أو عشرين من الشياه لكل فرد.
أما تقسيم الفضة فكل واحد سيأخذ ربع أوقية من الفضة.
أما السبي فتقسم بمعرفة الزعيم أو الإمام أو رئيس الدولة، وبما أن السبي (4800) وعدد الجيش (12000) فهناك من سيأخذ وهناك من لا يأخذ، فكان صلى الله عليه وسلم يقرع بين الصحابة رضي الله عنهم أحياناً، وكان يعوضهم بالمال أحياناً، وكان يعطي البعض أحياناً، والبعض الآخر يعطى من الغزو اللاحق بعد ذلك.
إذاً: القاعدة التي ستحكم هو التقسيم بالتساوي بالنسبة لأربعة أخماس الغنائم، أما بالنسبة للخمس المتبقي، فهذا المال هو مال الدولة، والرسول عليه الصلاة والسلام كقائد يوجهه في الوجه الأصلح للدولة، قد يشترى به السلاح، قد يفتدى به الأسرى، قد تكون منه الهبات لأهل البأس في الحرب، قد تعطى منه رواتب وأجور، قد يدخل في مشروعات الدولة المختلفة.
المهم أن القائد سينفقه في الوجه الأصلح للدولة، فما هو الأصلح للدولة في ذلك الوقت؟ الرسول صلى الله عليه وسلم رجل عمل يعيش أرض الواقع، ويعلم صلى الله عليه وسلم أن في جيشه من الرجال من يقف على شفا حفرة، فمنهم من هو متردد جداً في الإسلام.
ومنهم من دخل الإسلام رهباً من قوته، أو رغباً في أمواله.
ومنهم من كان سيداً مطاعاً في قومه ليس لأحد في العرب أو في العالم كلمة واحدة عليهم، فأصبح الآن تابعاً له صلى الله عليه وسلم.
ومنهم من لو أمر قبيلته بالردة ومحاربة المسلمين لفعلوا ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم يعلم كل هذه الأمور ويدركها تماماً، فهو صلى الله عليه وسلم يعلم أن هناك من لم يكن مقتنعاً تمام الاقتناع بالإسلام، ولم يكن الإيمان قد تغلغل في قلوبهم، وأن نور الإسلام لم يكن قد محا تماماً ظلمات الكفر التي عاشوا فيها سنوات طويلة.(41/11)
سبب تأليف الرسول صلى الله عليه وسلم زعماء القبائل والمؤلفة قلوبهم بغنائم حنين
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن الدولة الإسلامية تقف الآن على بركان خطير، فلو خطر على ذهن كل سيد من سادات العرب، وكل زعيم من زعماء القبائل المختلفة أن يثور وينقلب على الدولة الإسلامية، فإن هذا قد يؤدي إلى دمار شامل للدولة الجديدة؛ الدولة الجديدة لم تستقر بعد بصورة جيدة، وخاصة أن أموال وأملاك الدولة الإسلامية قد اتسعت جداً، وكثر أتباع المسلمين، وليس هناك وقت كاف لتربية كل هؤلاء المسلمين الجدد.
فماذا يعمل الرسول صلى الله عليه وسلم؟ عرف الرسول عليه الصلاة والسلام أنه لن يؤمن جانبهم إلا بترضية سخية ومجزية من الدولة الإسلامية، فلو أحسوا أن حالتهم المادية استقرت، وأن أموالهم كثرت، وأن وضعهم الاجتماعي تحسن بعد انتمائهم للدولة الإسلامية، فسيحبون هذه الدولة التي حققت لهم هذا الرخاء، ويحاولون بكل طاقة أن يدعموا هذه الدولة؛ ليستمر وضعهم في التحسن، وهؤلاء أصحاب مادة من البداية إلى أن يحسن إسلامهم بعد ذلك.
نعم، الإيمان الذي يكون سببه حب المال إيمان ضعيف، لكن قد يكون هذا في البداية، ثم إذا دخل في محاضن التربية الإسلامية يبدأ الإيمان في الرسوخ تدريجياً حتى يصبح الإيمان أغلى عنده من المال.
والرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن النظام القبلي المترسخ في الجزيرة العربية منذ قرون يجعل لقائد القبيلة الكلمة العليا المطلقة في قبيلته؛ من أجل ذلك أراد صلى الله عليه وسلم أن يشتري رضا هؤلاء الزعماء واستقرار هؤلاء الزعماء بالمال.
فعلاً هؤلاء الزعماء سوف يؤثرون تأثيراً إيجابياً على أتباعهم من القبائل المختلفة، ومن ثم هو يشتري استقرار الدولة الإسلامية، لكن هناك معوق لهذا الأمر، وهذا المعوق يحتاج إلى دراسة.
فالذين بذلوا الجهد في معركة حنين، والذين كانوا سبباً مباشراً من أسباب النصر هم قدامى المهاجرين والأنصار، وهؤلاء بفضل الله عز وجل ثابتون في الإسلام دون شك، لا يحتاجون لإغراء بالمال أو بغيره، وتاريخهم معروف جداً، ومواقفهم مشرفة وأياديهم بيضاء عن الإسلام والمسلمين.
وكان صلى الله عليه وسلم من عادته أن يعطي عطاءً أكبر لأهل البلاء ولمن بذل جهداً زائداً في القتال، وعمل ذلك في أكثر من موقعة قبل حنين.
فهو لو أراد أن يكافئهم على جهدهم سيعطيهم من الخمس الذي تمتلكه الدولة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف المحايد، هل يعطي زعماء القبائل الذين أسلموا حديثاً ولم يبذلوا الجهد المطلوب في حنين، ولم يعودوا إلى الصف إلا بعد رؤية الأمور تتجه لصالح المسلمين؟ هل يعطي هؤلاء ليشتري استقرار الدولة الإسلامية، أم يعطي الأنصار والمهاجرين ليكافئهم على جهدهم؟ لقد عقد الرسول عليه الصلاة والسلام مقارنة بين الوضعين، واختار دون تردد الرأي الأول؛ لأن استقرار الدولة الإسلامية هدف تتضاءل إلى جواره الأهداف الأخرى، لو تزعزع هذا الاستقرار فسيدفع الجميع الثمن، سواء من قدامى المسلمين، أو ممن أسلموا حديثاً، الجميع سيعاني من هذا الاضطراب في استقرار الدولة الإسلامية.
ولا ننكر أن هناك ضرراً نفسياً ومادياً سيقع على الأنصار والمهاجرين، لكن الضرر الأكبر هو اضطراب الدولة الإسلامية وعدم استقرارها، ولتصديق قاعدة: دفع أكبر الضررين، وجلب أكبر المنفعتين.
رأى الرسول عليه الصلاة والسلام أن شراء زعماء القبائل وسادتهم بالمال مقدم على مكافأة الأنصار والمهاجرين، بل وجد صلى الله عليه وسلم أنه لا يستطيع أن يعطي جزءاً لسادة القبائل وجزءاً للأنصار والمهاجرين؛ لأن هذا سيؤدي إلى نقص المعطى لسادة القبائل، وقد يستصغرونه أو يستحقرونه فلا يتحقق المطلوب، هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية: هؤلاء الزعماء قد لا يشعرون بشيء من التميز، ومن ثم قد لا يرضون تمام الرضا.
وأنا أعلم أن كلامي هذا قد لا يرضي عواطف المستمعين، لكن لاشك أنه يقنع عقول المستمعين، هذا الكلام عليه تطبيقات عملية كثيرة جداً سنراها بعد ذلك في الفتوح وعند مواجهة أحداث الفتنة، وفي مواقف كثيرة، ولاشك أن هذا هو الأفضل والأحكم؛ لأنه في الأساس اختيار نبوي أقره رب العالمين سبحانه وتعالى، ولم ينزل وحي يعارض هذا القرار.
ونحن رأينا ممن عاصر هذا الموقف بعض الاستغراب وعدم الفهم، وكان ممن استغربه مؤمنون شديدو الإيمان كالأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، وسنأتي لقصتهم في الدرس القادم إن شاء الله.
كذلك استغربه بعض الذين لم يتمكن الإيمان من قلوبهم، وليسوا من السادة، ووصل استغرابهم إلى درجة غير مقبولة، من هؤلاء أحد الأعراب جاء إلى الرسول عليه الصلاة والسلام كما روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه حيث جاء هذا الرجل وقال في غلظة: (والله إن هذه القسمة ما عدل فيها، وما أريد بها وجه الله عز وجل فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينسب العدل في هذه القسمة له وحده، إنما قال: (فمن يعدل إن لم يعدل الله ورسوله) وهذا(41/12)
إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي سفيان وولديه يزيد ومعاوية من غنائم حنين
تعالوا بنا ننظر ما فعله الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا الخمس مع زعماء مكة وقادة القبائل، مع العلم أن هذا الخمس يمثل رقماً كبيراً جداً من الغنائم، فالخمس كان (4800) من الإبل، و (8000) شاه، و (800) أوقية من الفضة، و (1200) من السبي.
فكان أول لقاء مع زعماء مكة وأولهم أبو سفيان زعيم مكة الأول، فقد حكم مكة ست سنوات متصلة بعد مقتل أبي جهل، منذ غزوة بدر حتى فتح مكة، وهو من أصحاب رءوس الأموال الضخمة في مكة، وهو قد حصلت له مواقف مهينة في غضون الشهرين السابقين بدءاً من زيارته للمدينة المنورة كما رأينا قبل ذلك لمحاولة إطالة مدة الحديبية، ومروراً بموقفه في الطريق من المدينة إلى مكة، وكان إيمانه في ظروف قاسية جداً على قلب أي زعيم، وكذلك عند دعوته أهل مكة إلى عدم الدفاع عنها وفتحها لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون قتال، وانتهاءً بنزع زعامة مكة منه، وإعطاء هذه الزعامة لأحد الأمويين، كان في مثل عمر أولاده وهو عتاب بن أسيد رضي الله عنه.
لاشك أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقدر كل هذه المعاناة التي يشعر بها أبو سفيان، كما أنه يعلم أنه لن يرضى بقليل من العطاء؛ لأنه من كبار زعماء مكة؛ من أجل هذا أعطاه الرسول عليه الصلاة والسلام عطاء ضخماً.
جاء أبو سفيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو في وادي الجعرانة، وحين رأى أبو سفيان الغنائم الهائلة قال: يا رسول الله، أصبحت أكثر قريش مالاً.
يعني: صرت أغنى رجل فينا.
فقد كان يلمح بوجود المال الكثير، فتبسم صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم، فلما رأى أبو سفيان أن التلميح غير نافع، قال: أعطني يا رسول الله من هذا المال.
هكذا تصريحاً.
لا تتعجبوا؛ فهذه كميات هائلة من المال، ولعله إن لم يصرح أن توزع على غيره وعندها سيندم حيث لا ينفع الندم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا بلال زن لـ أبي سفيان أربعين أوقية من فضة، وأعطه مائة من الإبل.
بلال الذي كان يباع ويشترى ويعذب هو الآن المقرب من زعيم الدولة، وهو الذي يعطي هذا وذاك من الزعماء السابقين، فكان أبو سفيان ينظر إلى العطايا وهو لا يصدق نفسه، فكل هذه الأغنام، وكل هذه الإبل، وكل هذه الفضة تصبح ملكه، في لحظة واحدة أصبح أبو سفيان يمتلك أربعين أوقية من الفضة.
يعني: حوالي كيلو ونصف فضة، ومائة من الإبل، وهذا رقم ضخم هائل، فدية القتيل مائة من الإبل، وهذا هو نفس الرقم الذي رصدته قريش لمن يأتي بالرسول عليه الصلاة والسلام أو الصديق رضي الله عنه حياً أو ميتاً عند الهجرة إلى المدينة، ومع أن هذا رقم مهول إلا أن أبا سفيان وجد نفسه يطلب المزيد قبل أن يفنى هذا المال الغزير، قال أبو سفيان: ابني يزيد يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطه مائة من الإبل، فقال أبو سفيان: ابني معاوية يا رسول الله، وهذان كانا مسلمين من أبنائه، فقال صلى الله عليه وسلم: زن له يا بلال أربعين أوقية، وأعطه مائة من الإبل، فذهل أبو سفيان وقال في صدق -واسمعوا هذا الكلام الذي سيقوله-: إنك الكريم فداك أبي وأمي، ولقد حاربتك فنعم المحارب كنت، ثم سالمتك فنعم المسالم أنت، جزاك الله خيراً.
تشعر بالصدق في كل كلمة من كلماته، ما الذي غيره من رجل يشك في نبوة الرسول عليه الصلاة والسلام إلى رجل مؤمن مادح لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟ ما الذي ثبته بعد تردد؟ ما الذي أسعده بعد حزن؟ أليست الثلاثمائة من الإبل والمائة والعشرين أوقية من الفضة، وما هذه الأموال إلى جوار هداية إنسان؟ وما هذه الأموال إلى جوار استقرار الدولة الإسلامية؟ وما هذه الأموال إلى جوار تأليف قلوب بني أمية، وما هذه الأموال إلى جوار ثبات أهل مكة على الإيمان.
صحيح أن المال حلو خضر، لكن يتصاغر جداً إلى جوار هذه المعاني، فهذه كانت نظرة الرسول عليه الصلاة والسلام، من أجل هذا كان يعطي صلى الله عليه وسلم بلا حساب، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، كان يعطي وكأن المال لا ينتهي، وانتهت قصة أبي سفيان مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وجاء غيره وغيره وغيره.(41/13)
إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لحكيم بن حزام من غنائم حنين مع درس تربوي نبوي
جاء حكيم بن حزام رضي الله عنه وهو أيضاً من مسلمة الفتح، ودار بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام حوار رواه البخاري ومسلم، والذي يروي الحوار هو حكيم بن حزام نفسه، يقول حكيم رضي الله عنه: (سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطان) يعني: أعطاه مائة من الإبل، ثم يقول حكيم: (ثم سألته فأعطاني) يعني: أعطاه مائة ثانية، (ثم سألته فأعطاني) يعني: أعطاه مائة ثالثة، فأراد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يعطي حكيم بن حزام درساً تربوياً في منتهى العظمة، قال له: (يا حكيم، إن هذا المال حلوة خضرة) ولم يقل: حلو خضر؛ لأن المقصود هنا الدنيا، كما في الحديث: (إن الدنيا حلوة خضرة).
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (فمن أخذه بسخاوة نفس) يعني: بغير شره وبغير إلحاح، (بورك له فيه، ومن أخذه بإشراف نفس) يعني: بطمع وتشوف، (لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفلى).
لما سمع حكيم بن حزام الدرس دخل في قلبه مباشرة، وفقه مراد الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة، وأسرع برد المائة الثانية والثالثة وأخذ الأولى فقط، ثم قال في صدق: (يا رسول الله، والذي بعثك بالحق لا أرزأ أحداً بعدك شيئاً حتى أفارق الدنيا) يعني: لا آخذ من أحد شيئاً، ولا أنقص أحداً من ماله، فكان صادقاً في قسمه هذا رضي الله عنه، ما كان يأخذ من أحد شيئاً أبداً، حتى إنه كان يرفض العطاء الذي يستحقه من أبي بكر ثم عمر بعد ذلك؛ لأنه أقسم أنه لا يأخذ من أحد شيئاً أبداً.
كان هذا درساً نبوياً عظيماً جداً، والمنهج الإسلامي العظيم كيف يبني الناس على صورة أشبه بالملائكة منها بالبشر.(41/14)
إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لبقية زعماء القبائل من المؤلفة قلوبهم من غنائم حنين
غدا صلى الله عليه وسلم يوزع على بقية زعماء مكة، أعطى من يعتقد أن في قلبه ضغينة للإسلام وحقد على الدولة الجديد، إما لدوافع قبلية، أو أن أقارب بعضهم قتلوا على يد المسلمين، أو أنهم نزعت زعامتهم الشخصية، فأعطى سهيل بن عمرو رضي الله عنه وهو أحد كبار زعماء مكة، والمفاوض القرشي الشهير في صلح الحديبية، والذي أسلم منذ أيام قليلة فقط في فتح مكة.
وأعطى الحارث بن هشام أخا أبي جهل وذلك ليلين قلبه، ويهون عليه مصابه في أخيه زعيم مكة سابقاً أبي جهل، وليتألف قلوب بني مخزوم.
وأعطى النضير بن الحارث أخا النضر بن الحارث شيطان قريش المعروف، والذي كان من ألد أعداء الرسول عليه الصلاة والسلام، والذي قتل في أعقاب غزوة بدر، أعطاه ليتألف قلبه، ويتألف قلوب بني عبد الدار.
وأعطى صلى الله عليه وسلم كثيراً من زعماء مكة ليضمن استقرار الأوضاع في مكة.
بعد ذلك بدأ يعطي زعماء القبائل من الأعراب من أجل أن يضمن ولاءهم وانتماءهم للدولة الإسلامية، فقد أعطى عيينة بن حصن زعيم قبيلة بني فزارة، أعطاه مائة من الإبل، وهذا الرجل كان غليظاً جداً سيئ الخلق، اشتراه صلى الله عليه وسلم بالمال في هذا الموقف، فسكن عن إحداث فتنة، وإن كانت أخلاقه لم تتغير كثيراً، فهذا الرجل ارتد بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكنه عاد وتاب أيام أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
وأعطى كذلك زعيم بني تميم: الأقرع بن حابس وأيضاً كان من غلاظ الطباع، وحديث الإسلام، وقبيلته بنو تميم قوية أعطاه مائة من الإبل ليتألف قلبه وقبيلته.
وكذلك أعطى العباس بن مرداس زعيم قبيلة سليم، يبدو أنه قدر قيمة العباس أقل مما قدر قيمة عيينة والأقرع فأعطاه خمسين ناقة فقط، ومع أن خمسين ناقة كثيرة جداً إلا أن ذلك لم يعجب العباس بن مرداس فطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب المزيد والمساواة مع عيينة والأقرع زعيمي فزارة وتميم، وقال العباس بن مرداس شعراً: فأصبح نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع العبيد الذي هو: الفرس حقه، يعني: يكون نصيبه أصبح هو لين بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في المجمع.
فـ حصن والد عيينة وحابس والد الأقرع ومرداس والد العباس هذا.
وما كنت دون امرئ منهما ومن تضع اليوم لا يرفع يعني: من تضع قدره يا رسول الله اليوم لن يرفع بعد ذلك، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمات قال: اقطعوا عني لسانه وزيدوه إلى مائة، فزادوا له في العطاء فزادوه إلى المائة.
وتعليق الرسول عليه الصلاة والسلام يشعر أن هؤلاء ما دخلوا في الإسلام إلا رغباً في هذه الأموال أو رهباً من الدولة الإسلامية.
وبعد ذلك حسن إسلام العباس بن مرداس وصار من فضلاء الصحابة رضي الله عنه.
إذاً: نجحت سياسة إعطاء المال لتأليف القلوب بتثبيت هؤلاء المسلمين الجدد على الإسلام، وبالتالي تثبيت أركان الدولة الإسلامية.
روى مسلم عن أنس رضي الله عنه أنه قال: إن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يسلم حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها.(41/15)
إعطاء الرسول صلى الله عليه وسلم لصفوان من غنائم حنين مع كونه مشركاً في ذلك الوقت
إن الرسول عليه الصلاة والسلام عند توزيع غنائم حنين أعطى من غنائم حنين بعض المشركين، ومن أشهر من أعطاهم: أحد زعماء مكة الكبار صفوان بن أمية وكان مشركاً.
وصفوان هو ابن الزعيم المكي المشهور أمية بن خلف، وأمية بن خلف قتل كافراً في بدر، وصفوان من زعامات مكة الذين اشتركوا في الحروب المتتالية ضد المسلمين، وممن فر من مكة بعد الفتح صفوان بن أمية، والرسول عليه الصلاة والسلام قبل ذلك كان قد أعطاه مدة أربعة شهور ليفكر في أمر الإسلام، ثم استأجر منه صلى الله عليه وسلم السلاح في غزوة حنين، وخرج صفوان مع الجيش المسلم إلى حنين؛ ليحمل الأسلحة للمسلمين على جماله، وظهرت منه بعض الكلمات توضح ميلاً إلى الإسلام، لما انهزم المسلمون في أول الأمر وهربوا قال كلدة بن حنبل: ألا بطل السحر اليوم، فاعترض صفوان على شماتة كلدة وقال: اسكت فض الله فاك، فوالله لأن يربني -أي: يملكني- رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن.
وإن كان قال هذا الكلام من ناحية قبلية بحتة إلا أنه عبر عن اختفاء الضغينة الشديدة للرسول عليه الصلاة والسلام من قلبه.
ويبدو أن الرسول عليه الصلاة والسلام أحس منه فرصة إسلام، فأراد أن يجزل له العطاء بصورة أضخم من كل التصور.
فـ صفوان بن أمية كان واقفاً يشاهد الناس تأخذ الغنائم، ولكونه من المشركين بقي يشاهد متحسراً، فنادى الرسول عليه الصلاة والسلام صفوان بن أمية وأعطاه مائة من الإبل، كما أعطى زعماء المسلمين من أهل مكة، وبعد أن أعطاه الإبل نظر إلى واد في حنين فيه إبل كثيرة وشياه كثيرة، فظهرت عليه علامات الانبهار من كمية الأنعام، فقال له صلى الله عليه وسلم: أبا وهب يعجبك هذا الشأن؟ يعني: أعجبتك هذه الأغنام وهذه الإبل؟ قال صفوان في صراحة شديدة: نعم، فقال صلى الله عليه وسلم في سهولة وكأنه يتنازل عن جمل أو جملين: هو لك وما فيه.
فذله صفوان بن أمية من هذا التصرف العجيب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلم يملك صفوان بن أمية نفسه أن قال: ما طابت نفس أحد بمثل هذا إلا نفس نبي، أشهد أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله.
فأسلم صفوان في مكانه.
يقول صفوان بن أمية كما روى الإمام مسلم في الصحيح: (والله لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطاني وإنه لأبغض الناس إلي، فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي) صلى الله عليه وسلم.
أي خير أصاب صفوان رضي الله عنه وأرضاه؟ أي خير تحقق لقبيلة بني جمح عندما أسلم زعيمها؟ أي خير حقق لمكة؟ أي خير تحقق للمسلمين عندما أضيفت إليهم قوة الزعيم المكي المشهور صفوان بن أمية والذي حسن إسلامه بعد ذلك، وصار من المجاهدين في سبيل الله؟ كل هذا الخير حصل بمجموعة من الإبل والشياه، فأي قيمة لهذه الإبل والشياه؟ هذه الإبل والشياه إما تؤكل أو تموت، بل الدنيا بكاملها ستفنى، لكن الذي لا يزول هو نعيم الجنة، كم من البشر سيذوق نعيم الجنة ويخلد فيه؛ لأنه أعطي مجموعة من الإبل والشياه؟ أليس هذا فهماً راقياً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وحقيقة الغنائم وحقيقة البشر؟! أليس هذا تقديراً صائباً من الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم؟(41/16)
نتائج تقسيم خمس غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم
هذه هي المقارنة التي عقدها المصطفى صلى الله عليه وسلم الغنائم مقابل الإسلام، الدنيا مقابل الآخرة، فهو صلى الله عليه وسلم هانت عليه الدنيا بكاملها وأعطاها دون تردد؛ لأن الدنيا عنده لا تعدل جناح بعوضة، والدنيا عنده قطرة في يم واسع، والدنيا عنده أهون من جدي أسك ميت.
هذا لم يكن كلاماً نظرياً فلسفياً، شاهده الناس جميعاً بعيونهم كان واقعاً في حياته وحياة الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وكان هذا الواقع بارزاً في أبهى صوره في قصة غنائم حنين، حيث أعطى ما لم يعط أحد من العالمين، حتى بعدما أعطى هذا العطاء لم يتبق في يده شيء لنفسه صلى الله عليه وسلم، لم يتبق ما يعوض به فقر السنين وتعب العمر، وقد بلغ الستين من عمره، بل تجاوز صلى الله عليه وسلم الستين، لم يحتفظ بشيء لنفسه، بل وزع هنا وهناك على الأعراب، وعلى حديثي الإسلام، حتى إنه لم يبق معه شيء أبداً، وحاصره الأعراب الجفاة يطلبون المال والأنعام حتى اضطروه -وهو الزعيم المنتصر والقائد الأعلى والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم- اضطروه إلى شجرة ونزعوا رداءه، فقال في أدب وفي رفق وفي لين يليق به كنبي، ويجدر به كمعلم صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس ردوا علي ردائي، فو الذي نفسي بيده لو كان لكم عندي عدد شجر تهامة نعماً لقسمته عليكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً)! وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان بخيلاً ولا جباناً ولا كذاباً، كان هذا هو فقه النبي صلى الله عليه وسلم يوم حنين، كان هذا هو قراره صلى الله عليه وسلم بتوزيع خمس الغنائم بالكامل على المؤلفة قلوبهم، وكانت هذه هي تبعات هذا القرار ونتائجه، وكانت هذه هي الصورة في ذهن الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن هل استوعب كل الصحابة هذه الصورة؟ هل فهموا جميعاً هذه الأبعاد، وأدركوا هذه النتائج؟ هل اقتنعوا بهذا القرار حيث أعطى المؤلفة قلوبهم ولم يعط السابقين شيئاً؟ لا، ليس كل الصحابة اقتنعوا بهذا القرار، نعم هناك من أدرك هذه الأبعاد والنتائج، لكن هناك من لم يستطع أن يدرك هذه الأبعاد النبيلة في فكر الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان لابد لهم من الاستفهام والتساؤل، ومن هؤلاء مثلاً: سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، فقد أبدى الاستغراب لهذا الأمر، قال سعد: يا رسول الله، أعطيت عيينة والأقرع مائة مائة وتركت جعيل بن سراقة الضمري.
وجعيل بن سراقة من أهل الصفة من فقراء المسلمين.
فأجاب صلى الله عليه وسلم الإجابة التي تفسر وتوضح ما فعله، قال: أما والذي نفس محمد بيده لـ جعيل بن سراقة خير من طلاع الأرض خير مما يملأ الأرض كلهم مثل عيينة بن حصن والأقرع بن حابس، ولكني تألفتهما ليسلما، ووكلت جعيل بن سراقة إلى إسلامه.
رضي الله عنه وأرضاه.
هذه الكلمة تعدل عند جعيل مال الأرض كله، ليس معنى أنني أعطيت واحداً ومنعت الآخر أن الأول أفضل من الثاني، بل العكس فقيمة جعيل بن سراقة عند الرسول عليه الصلاة والسلام أغلى من ملء الأرض من مثل عيينة والأقرع مع أن جعيلاً أقل مالاً وأقل سلطة وأقل شهرة وأقل وضعاً اجتماعياً، لكنه أعلى إيماناً وأرسخ قدماً في الإسلام.
وجعيل رضي الله عنه وأرضاه فقه ذلك المعنى، وكانت هذه الشهادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده أغلى ليس فقط من غنائم حنين، ولكن أغلى من كل مال الأرض.
إذاً: هذا كان استغراب بعض الصحابة مثل: سعد بن أبي وقاص من إعطاء حديثي الإسلام وترك السابقين من المهاجرين والأنصار.
لكن هناك استغراب كان أكثر أهمية وأكثر خطورة من مجموعة أخرى من المسلمين، هذه المجموعة كانت الأنصار.
ووجه الأهمية ومكمن الخطورة أن هذا الاستغراب والإنكار لم يكن فردياً في الأنصار، إنما كان جماعياً من مجموعة كبيرة من الأنصار، هذا موقف مشهور معروف وفيه دروس لا تحصى، ويحتاج إلى تحليل كبير، وإلى استخراج عبر وعظات وتعلم نهج نبوي راق جداً في إدارة الأمور، وكيف يخرج صلى الله عليه وسلم من الأزمات الطاحنة بأفضل النتائج التي لا تخطر على بال إنسان؟ إنه فقه نبوي حكيم رباني في تربية البشر وفي قيادة العالمين.
وبما أن هذا محتاج إلى تفصيل وأشعر أن الوقت قد لا يتسع لهذا التحليل؛ لذلك سنتكلم عنه بالتفصيل وعن غيره من الأحداث إن شاء الله في الدرس القادم.
أسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(41/17)
سلسلة السيرة النبوية_إسلام هوازن
بعد هزيمة هوازن أمام المسلمين في حنين، وبعد تقسيم الغنائم على الجيش وما وقع بسببها من مواقف متباينة، ومعالجة الرسول صلى الله عليه وسلم لتلك المواقف بحكمة وحنكة، بعد ذلك كله جاء وفد هوازن وأعلن إسلامه، وطالب برد السبي، فقام صلى الله عليه وسلم بخطة رائعة في إرجاع سبي هوازن، فكانت خطة ناجحة بكل المقاييس والمعايير، وانضمت قبيلة هوازن إلى جماعة المسلمين مجاهدة في سبيل الله تعالى، وكل هذا يبين لنا أن دين الإسلام دين رحمة وهداية للناس.(42/1)
موقف الأنصار من توزيع غنائم حنين على المؤلفة قلوبهم
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الرابع عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.
في الدرس السابق تحدثنا عن توزيع غنائم حنين، وعن تقسيم أربعة أخماس الغنيمة على الجيش بكامله، ثم توزيع الخمس المتبقي على المؤلفة قلوبهم من طلقاء مكة وزعماء مكة وزعماء القبائل العربية المختلفة، وكان كما رأينا توزيعاً سخياً بلغ مائة من الإبل للبعض، وتجاوز هذا الرقم للبعض الآخر، وذكرنا علة ذلك وأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يريد استقرار الدولة الإسلامية، ووازن بين مصلحة هذا الاستقرار، وبين مفسدة حرمان المجاهدين الذين بذلوا الجهد، وكانوا سبباً مباشراً في النصر يوم حنين، فوجد صلى الله عليه وسلم بعد هذه الموازنة أن استقرار الدولة الإسلامية أثقل، ولذلك أعطى المؤلفة قلوبهم ومنع السابقين، وتفهم كثير من الصحابة هذا الموقف، لكن هذا التفهم لم يكن من الجميع، بل غضبت مجموعة من الصحابة لهذا الفعل، وشعرت هذه المجموعة أنها حرمت ما تستحقه، بينما أعطي من لا يستحق، فهذه المجموعة من الأصحاب هم الأنصار، غضب كثير من الأنصار؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعطهم من الخمس المملوك للدولة، مع أنه أعطى بسخاء مجموعة حديثة الإسلام، ما قدمت شيئاً للإسلام، وما خدمت الدولة الإسلامية خدمة تذكر.
وقبل أن تأخذوا موقفاً من الأنصار، وقبل أن توجهوا اللوم على الأنصار بأي صورة من صور اللوم، فتعالوا بنا نراجع بعض الحقائق التاريخية الهامة: أولاً: على أكتاف الأنصار قامت الدولة الإسلامية الأولى، قبل ظهور الأنصار في الصورة كان المسلمون متشتتين في الأرض، ناس في مكة وناس في الحبشة وناس في غيرها من القبائل، فجعل الله عز وجل الأنصار سبباً في جمع شمل المسلمين، وفي إقامة الدولة الإسلامية، وذلك عندما استضافوا الرسول عليه الصلاة والسلام والمسلمين في مدينتهم، المدينة المنورة.
ثانياً: أخذ الأنصار منذ الأيام الأولى لإسلامهم القرار بمواجهة الأحمر والأسود من الناس، كانوا يعرفون تماماً أن الإسلام يعني: مفارقة العرب قاطبة، يعني: قطع الحبال التي بينهم وبين اليهود، يعني: مواجهة العالم، هكذا كانوا يعرفون، وهكذا أخذوا القرار بمنتهى التشرف القوة.
ثالثاً: أن قيمة المال في عيون الأنصار قليل جداً، بل لعله منعدم، فأحياناً قد لا يرون لأنفسهم حقاً في أموالهم الشخصية، فتجدهم يعطون هذه الأموال للآخرين بطيب نفس، قل أن يوجد مثلهم في البشر، ورأينا كيف كانوا يقسمون الأموال بينهم وبين المهاجرين رضي الله عنهم، بغض النظر عن الحالة المادية للأنصاري الذي ينفق، وقد ذكر سبحانه وتعالى ذلك في كتابه الكريم، ووصف الأنصار بصفة الإيثار، قال سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9]، حتى الفقير من الأنصار كان ينفق في سبيل الله ويؤثر غيره على نفسه وهو محتاج.
هذه هي نفسية الأنصار بشهادة رب العالمين سبحانه وتعالى.
رابعاً: اشترك الأنصار في كل غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كانوا الجانب الأعظم من الجيش في بدء أول مواقع المسلمين، وبدء المسلمين كانوا (313) أو (314) والأنصار كانوا يمثلون ثلثي الجيش تقريباً، (231) من الأنصار، و (83) أو (84) من المهاجرين، واستمر الأمر على ذلك في بقية الغزوات إلا الغزوات المتأخرة التي زاد فيها عدد المسلمين جداً، لكن في الغزوات الأولى كان معظم الجيش من الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولديهم من المواقف المشرفة في التاريخ ما لا يحصى، ومن أشهر المواقف موقف أحد، ففي أحد فر بعض المسلمين، وصار إحباط من بعض المسلمين، لكن الثبات كل الثبات كان في جانب الأنصار رضي الله عنهم وأرضاهم، فرأينا في غزوة أحد استشهاد شباب الأنصار حول الرسول صلى الله عليه وسلم الواحد تلو الآخر، كانوا واقفين حوله تسعة، سبعة من الأنصار واثنين من المهاجرين: سعد، وطلحة رضي الله عنهما، مات السبعة كلهم تحت أقدام الرسول صلى الله عليه وسلم دفاعاً عنه صلى الله عليه وسلم، ورأينا أمثلة سعد بن الربيع وحنظلة وأنس بن النضر وعبد الله بن حرام وخيثمة وعمرو بن الجموح وغيرهم.
وشهداء أحد كانوا سبعين، وكان فيهم (66) أنصارياً، يعني نسبة (94%)، بذل، تضحية، جهاد في سبيل الله بالمال وبالنفس.
خامساً: أن الأنصار على خلاف(42/2)
خوف الأنصار من ترك الرسول صلى الله عليه وسلم للمدينة والإقامة بمكة
على الرغم من كل ما ذكرناه، وعلى الرغم من المثل الذي وضحنا به هذه الصورة، فهذا الموقف وهذه الكلمات لم تكن من عامة الأنصار، إنما كانت من بعض شباب الأنصار، ودليل ذلك ما جاء في الصحيحين في البخاري ومسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل عن الذي قال هذا الكلام وأعلن بهذا الاعتراض، فقال فقهاء الأنصار وعلماؤهم وسابقوهم: (أما ذوي رأينا يا رسول الله فلم يقولوا شيئاً، وأما أناس حديثة أسنانهم قالوا: يغفر الله لرسول الله يعطي قريشاً ويتركنا، وسيوفنا تقطر من دمائهم) يعني: أن هذا الكلام كان من بعض الشباب، لكن سعد بن عبادة رضي الله عنه كما سيتبين في الأحداث القادمة كان موافقاً على هذا الكلام، مع أنه لم يقله، وهذا الكلام واضح في رواية الإمام أحمد رحمه الله: قال سعد بن عبادة رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إن هذا الحي من الأنصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفيء الذي أصبت، قسمت في قومك، وأعطيت عطايا عظاماً في قبائل العرب، ولم يكن في هذا الحي من الأنصار منها شيء، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال سعد: يا رسول الله! ما أنا إلا من قومي) يعني: أنني أشعر بما يشعرون به وإن كنت لم أقل مثل ما قالوا.
ولا تنسوا أن الأنصار بشر وليسوا ملائكة، والبشر جبلوا على حب المال، فإذا كان هذا المال حلالاً صرفاً فما المانع من طلبه، وخاصة إذا كانوا يشعرون أنهم هم السبب في تلك الثروة، فلماذا لا يأخذون جزءاً منها.
ثم إن هناك بعداً آخر مهماً جداً وهو أن الأنصار كانوا يخشون أن يتركهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيش في مكة المكرمة خير بقاع الأرض، وأحب بلاد الله إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وفيها الآل والعشيرة، وفيها الطفولة والشباب والذكريات، وفيها أعز قبائل العرب قريش، وأهم مركز من مراكز التجارة في الجزيرة العربية، ويأتي لها الناس جميعاً طول السنة من كل مكان، وفيها من المقومات الكثيرة ما يجعل اختيارها كعاصمة جديدة للدولة الإسلامية أمراً مقبولاً جداً ومتوقعاً، فلما حدث توزيع الغنائم بهذه الصورة ثارت الشكوك في قلوب الأنصار، ولا ننسى أن الأنصار قالوا هذا الكلام قبل ذلك منذ أقل من شهرين عندما فتحت مكة، وطمأنهم صلى الله عليه وسلم أنه سيعود معهم إلى المدينة ولن يبقى في مكة المكرمة، وقال: (المحيا محياكم، والممات مماتكم) غير أنهم خافوا أن يكون الظرف قد تغير، والأحداث الجديدة غيرت من الصورة، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام أصبح له رأي جديد في هذه القضية، وأنه سيعود إلى مكة المكرمة ولن يعود معهم إلى المدينة المنورة، والرسول عليه السلام كان يشعر بأن الأنصار يشعرون بهذا المعنى؛ لأن في الحوار الذي دار بينهم كما سنرى أكد على أنه سيعود معهم إلى المدينة المنورة، فشعر أن الأنصار كانوا خائفين من بقاء الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة ويترك المدينة مع كل المشاكل التي ممكن أن تحصل في المدينة المنورة نتيجة خروج الرسول عليه الصلاة والسلام والجيش الإسلامي الأساس من المدينة.
أيضاً ينبغي أن نذكر عظمة سعد بن عبادة رضي الله عنه والأنصار رضي الله عنهم أجمعين، الذين كانوا صرحاء إلى أبعد درجة، وهذه الصراحة هي التي عالجت الموقف، فلو أخذ الأنصار بمثاليات غير واقعية، وأنكروا وجود مشكلة لتفاقمت هذه المشكلة، وحينها سيكون الحل والعلاج صعباً أو مستحيلاً.(42/3)
كيفية تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأنصار في موقفهم من توزيع غنائم حنين
تعالوا بنا ننظر كيف تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع بوادر هذه الأزمة الخطيرة؟ وإن سريان مثل هذا الشعور في هذه الطائفة المهمة جداً من الجيش قد يؤدي إلى كوارث مستقبلية، هذه الكوارث بكل وضوح قد تعصف بالدولة الإسلامية.
ماذا نفعل إذا كانت هناك بوادر انسلاخ مجموعة من الجنود عن الصف العام للمسلمين؟ فهيا بنا لنرى المنهج النبوي الرفيع في علاج مثل هذا الأمر، هذا العلاج يجمع بشكل فريد فعلاً بين إقناع العقل وإرضاء العاطفة: أولاً: عدم التغافل عن النار التي تحت الرماد، كان الموقف الشرعي والعقلي للرسول صلى الله عليه وسلم في قضية الغنائم سليماً تماماً، وهو الأولى بلا جدال، بدليل أن الوحي لم ينزل بخلاف ذلك، ومع ذلك الرسول عليه الصلاة والسلام حرص على علاج الموقف من البداية، لم يقل مثل ما يقول الكثير من الناس: ما دام أنني على الصواب لا يهمني كلام الناس، لم يقل: ما دام الله سبحانه وتعالى راضياً وعالماً ليس هناك داع إلى أن أسترضي الناس أو أبين لهم الأمر.
لم يقل: إن الأنصار مؤمنون شديدو الإيمان، وهذا كلام عارض لن يؤثر في مستقبل الدولة الإسلامية.
لم يقل: إن الأيام كفيلة بحل هذه القضايا، بل إنه لم يقل: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وواجب عليهم الطاعة.
لم يقل هذا الكلام ولا غيره من الكلام، بل انتقل إلى حل المشكلة بموضوعية، وأخذ الموضوع بمنتهى الجدية، ولم يؤجل الموضوع يوماً واحداً، ولا حتى ساعة واحدة، كان حاسماً تماماً في قراره، سريعاً في حل الأزمة، قال لـ سعد بن عبادة مباشرة: (فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة).
إذاً: الملمح الأول في حل المشكلة: عدم التغافل عن الأزمة وهي ما زالت في بدايتها.
ثانياً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام أراد أن لا ينتشر الأمر بين المسلمين، فقصر الحديث فيه مع أهل المشكلة وهم الأنصار، فهو لم يشأ أن يعلم به عامة الناس؛ لئلا يفتن بعضهم بالشبهة التي أثيرت، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لكي لا يأخذ الناس موقفاً سلبياً من الأنصار إذا تبين خطأ الأنصار، لكي تظل صورة الأنصار جميلة ومحفوظة عند عامة الناس، ولذلك عندما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم بعض المهاجرين يدخلون إلى الحظيرة التي سيتم فيها اللقاء في البداية تركهم، لكن عندما رآهم يزيدون منع دخول المهاجرين، وسمح بدخول الأنصار فقط، فهو حصر المشكلة في إطار محدود، بل إنه في رواية في البخاري ومسلم عن أنس سألهم تصريحاً قال: (أفيكم أحد من غيركم؟ قالوا: لا، إلا ابن أخت لنا، فقال صلى الله عليه وسلم: ابن أخت القوم منهم).
الشاهد أن معظم الذين حضروا أو كلهم من الأنصار.
ثالثاً: أن وسائل حل مثل هذه المشاكل الضخمة من أبلغ الوسائل، فقد حرص الرسول عليه الصلاة والسلام على لقاء أصحاب المشكلة بنفسه صلى الله عليه وسلم، ليسمع منهم ويسمعوا منه دون واسطة؛ لأن الواسطة قد لا تحمل الكلمات تماماً كما قيلت، وهذا الكلام ليس طعناً في الواسطة أو تقليلاً من إمكانيات الواسطة، أبداً، لكن شعور الجنود عامة بالقرب من قائدهم يحل الكثير جداً من المشاكل التي ممكن أن تحصل.
أحياناً الحوار المباشر بين القائد والجنود يخرج بعض القضايا التي يكتمها الجنود عادة، ويفتح باب التحاور، ويناقش الفرعيات، وكل هذا الكلام يساهم في احتواء الأزمة في أولها.
رابعاً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام علل بوضوح وصراحة التقسيم الذي قسمه للغنائم، وذكر لهم السبب الذي من ورائه أعطى هؤلاء وترك الأنصار، قال لهم: (فإني أعطي رجالاً حديثي عهد بكفر أتألفهم) يعني: ليس تقديمي لهم؛ لأني أحبهم بصورة أكبر، أو لأني أقدر موقفهم البطولي، أو أداءهم المتميز، بل على العكس أنا وبكل صراحة أعلم أن قلوبهم مترددة، وأن أقدامهم ليست براسخة بعد في الإسلام، ولذلك أعطيهم.
فهذه الكلمات جاءت في منتهى الوضوح وبدون تورية حتى تحل المشكلة حلاً جذرياً.
خامساً: أن الرسول عليه الصلاة والسلام لفت أنظار الأنصار إلى النظر أيضاً إلى النصف المملوء من الكوب، هذا هو النظر الواقعي، لو كان هناك كوب مملوء إلى النصف، فليس من الصواب أن تنظر إلى نصفه الفارغ، فتكون شديد التشاؤم، وليس من الصواب أيضاً أن تنظر إلى نصفه المملوء فتكون شديد التفاؤل بصورة غير واقعية، لكن الصواب أن تكون متوازناً وترى الأمر على حقيقته، نصف مملوء ونصف فارغ، نعم أنتم لم تأخذوا من هذا المال ومن هذه العطايا السخية، لكن ألم تأخذوا شيئاً؟! هل ألفتم النعمة فنسيتموها؟! ألم يقدم لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً قبل ذلك؟! ألم ينفعكم الإسلام؟! ألم تستفيدوا من انضمامكم إلى هذا الكيان الجديد في الدولة الإسلامية؟! انظروا نظرة متوازنة حتى لا تشعروا بالغبن أو الظلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك هذا الكلام عائماً دون توثيق، بل ذكر طرفاً مما حصله الأنصار من الإسلام، ولم يذكر كل النعم، ذكر بعض النعم، وكان(42/4)
قدوم وفد هوازن مسلماً
بعد انتهاء توزيع الغنائم بكاملها ورضا كل فريق بما أخذ، سواء من الجزء الرئيسي من الغنيمة أو من الخمس الذي وهب للبعض، بعد انتهاء هذا التوزيع حدثت مفاجأة ضخمة غير متوقعة، جاء وفد من قبيلة هوازن أو بالتحديد من بطون بني نصر وبني سعد وكل بطون هوازن الأخرى باستثناء قبيلة ثقيف، جاءوا جميعاً إلى وادي الجعرانة.
لماذا جاءوا إلى هذا المكان الآن؟ هل جاءوا للتهديد والوعيد، أم جاءوا للمفاوضات مع الرسول عليه الصلاة والسلام، أم جاءوا لتحديد موعد جديد للقتال والثأر؟ لم يأتوا لهذا كله، وإنما جاءوا للإسلام، جاء وفد هوازن يعلن إسلامه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الوفد مكوناً من أربعة عشر نفراً، يمثلون بطون هوازن المختلفة باستثناء ثقيف كما قلنا.
وجدوا أنفسهم خسروا كل شيء، خسروا نساءهم وأبناءهم وأموالهم وأنعامهم، خسروا حاضرهم وسيخسرون أيضاً مستقبلهم إن هم بقوا على الشرك، ومثلما ذكرنا قبل ذلك أنهم كانوا قد فروا إلى الطائف مع ثقيف، وما استطاعوا الخروج لحرب المسلمين، وكان أمامهم بعد فقد كل هذه الممتلكات أن يفقدوا أيضاً ديارهم، ويعيشوا عمرهم لاجئين عند ثقيف في الطائف، كان موقفهم صعباً جداً، ففكروا لو أنهم عادوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد يقبل منهم إسلامهم، وقد يعيد إليهم بعض الممتلكات، وواضح جداً أنهم لم يأتوا حباً في الإسلام، لكن معظم الذين يدخلون الإسلام لأجل شيء دنيوي يحبونه بعد فترة من الزمان تقصر أو تطول، فهم في النهاية بعد أن يعيشوا الإسلام سيشعرون بقيمته.
جلس وفد هوازن مع الرسول عليه الصلاة والسلام وأعلنوا إسلامهم، ثم قالوا: (يا رسول الله! إنا أصل وعشيرة، وقد أصابنا من البلاء ما لم يخف عليك، فامنن علينا منّ الله عليك) ثم قام خطيبهم زهير بن صرد فقال: (يا رسول الله! إنما في الحظائر من السبايا خالاتك وحواضنك اللاتي كن يكفلنك - يعني منهم بنو سعد الذين أرضعوا الرسول صلى الله عليه وسلم - ثم أنشد شعراً كان منه: امنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر) فماذا يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم في موقف مثل هذا؟ الموقف في غاية الحرج، ها هي القبيلة الضخمة هوازن تأتي لتعلن إسلامها، وكما ذكرنا أنهم ما أتوا حباً في الإسلام، ولكنهم جاءوا لأنهم خسروا كل شيء، ولم يعد أمامهم من سبيل إلا أن يسلموا، فيستردوا شيئاً من ممتلكاتهم، فماذا يحدث إن لم تعد لهم نساؤهم وأموالهم؟ إن ردتهم محتملة جداً، بل هي الأغلب، وهذا هو المتوقع، في نفس الوقت الرسول عليه الصلاة والسلام قسم كل شيء في الغنائم على الجيش، أربعة أخماس الغنائم تقسمت على أفراد الجيش العام، وقسم كذلك الخمس المتبقي على سادة القبائل والزعماء وطلقاء مكة وغيرهم من المؤلفة قلوبهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام أعطى هذه العطايا ليتألف قلوب الناس، لو أخذ منهم هذه الأشياء فقد يرتدون عن الإسلام، فماذا يعمل؟ هو يريد إسلام هوازن، وفي نفس الوقت يريد ثبات أهل مكة وزعماء القبائل، كيف الخروج من هذه الأزمة؟(42/5)
خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم في استرجاع سبي هوازن من المسلمين
تعالوا لننظر إلى المنهج الإسلامي الذي رأيناه من حبيبنا صلى الله عليه وسلم لحل مثل هذه المعضلة، فقد تحرك الرسول عليه الصلاة والسلام في ثلاث خطوات رائعة: الخطوة الأولى: حاول أن يصل مع هوازن إلى حل في منتصف الطريق، ليس من الممكن أن يرجع لهم كل شيء، وحاول أن يصل معهم إلى أكبر تنازل ممكن، بحيث يقبلون به مع ثباتهم على الإسلام، فقال لهم صلى الله عليه وسلم في وضوح: (أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟) حتى في رواية البخاري يقول: (أحب الحديث إلي أصدقه، فاختاروا إحدى الطائفتين: إما السبي وإما المال، وقد كنت استأنيت بهم) يعني: أنا أخرت توزيع الغنائم لعلكم تأتون، لكنكم تأخرتم، وهو بهذا يحاول أن يلطف قلوبهم.
وهنا يتصرف الرسول صلى الله عليه وسلم بوضوح وبتعقل وبواقعية، لا يندفع بعاطفته إلى أمر قد لا يقدر عليه، ونحن لا بد أن نلاحظ أن السبي والأموال ليست أموراً مسروقة أو منهوبة من هوازن، وإنما هي حق للمسلمين، وتطلب هوازن أن يتنازل عنها المسلمون كرماً منهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم خيرهم بين السبي أو المال، فماذا كان رد فعل هوازن؟ كانوا واقعيين، قالوا: (يا رسول الله! خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا، فلترد إلينا نساءنا وأبناءنا، فهو أحب إلينا) فاختاروا السبي دون الأموال.
الخطوة الثانية: إشعار هوازن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصياً معهم قلباً وقالباً، وأنه متعاطف معهم إلى أقصى درجة، وسوف يضحي هو شخصياً من أجلهم، وسيبذل قصارى جهده لاسترداد السبي من أفراد الجيش الإسلامي، أي: أن الرسول عليه الصلاة والسلام وضع نفسه في خندق هوازن، وصار مدافعاً عن قضيتهم، ولا شك أن الرسول عليه الصلاة والسلام قد ثبت أقدامهم بهذا العرض، فقد قال لهم في تجرد: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) يعني: أنا متنازل عما كان في نصيبي من السبي، وبصفتي عميد لعائلة عبد المطلب فسوف أطلب منهم رد السبي الذي أخذوه منكم، لكن في نفس الوقت أنا لا أستطيع أن أجبر بقية أفراد الجيش على رد ما معهم، لكني سأحاول.
هنا نجد ما نسميه بواقعية العطاء عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو لم يعد إلا بما يستطيع، وكان كريماً واسع الكرم صلى الله عليه وسلم، تنازل عن نصيبه وأقنع بني عبد المطلب بالتنازل عن حقوقها، لكنه لم يعط ما لا يملك.
الخطوة الثالثة خطوة هائلة مذهلة، لا أعتقد أن لها مثيلاً في تاريخ الأرض: اتفق الرسول صلى الله عليه وسلم مع هوازن على القيام بمحاولة لطيفة أمام المسلمين، يقنع فيها أفراد الجيش المسلم بإعادة السبي إلى هوازن.
هذه المحاولة من الرسول عليه الصلاة والسلام يبذل فيها هذا الجهد من أجل قبيلة كانت تحاربه منذ شهرين فقط، بل كانت حريصة تمام الحرص على استئصاله وأصحابه، فالرسول صلى الله عليه وسلم لقنهم ما يقولونه تماماً باللفظ، قال صلى الله عليه وسلم: (إذا صليت الظهر بالناس فقوموا وقولوا للناس: إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا، فسأعطيكم عند ذلك، وأسأل لكم).
لاحظ العظمة النبوية، هو لم يتنازل عن حقه في السبي وحق بني عبد المطلب بينه وبينهم فقط، بل أراد أن يكون ذلك الأمر في العلن، ليقتدي به بقية المسلمين فيتنازلون عن السبي الذي ملكوه، ثم إنه يعلم وفد هوازن ألفاظاً ترقق من مشاعر المسلمين: (إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله) وهنا الرسول عليه الصلاة والسلام سيقبل شفاعة المسلمين، وليس من المعقول أن المسلمين لن يقبلوا بشفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم إن الرسول عليه الصلاة والسلام يؤكد لهم على واقعية الطلب، ينصحهم ألا يطلبوا الأموال والشياة، وإنما يطلبون السبي فقط؛ لكي لا يصعبوا الأمر على المسلمين فتفشل المحاولة، وفوق كل ذلك وعد الرسول عليه الصلاة والسلام وفد هوازن أنه سيسأل بنفسه المسلمين أنهم يرجعون السبي إلى هوازن.
ولاحظ مدى الرقي والتوازن والتعامل الحضاري من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مع كونه زعيم الأمة الإسلامية ورئيس الدولة والرسول المطاع صلى الله عليه وسلم، إلا أنه لا يريد أن يجبر المسلمين على رأي يرى أنه لا يجوز له تأميم ما لا يملك، وأن هذا حق المالكين الآن، وليس له دخل فيه، إنما سيدخل في القضية في صورة شفيع أو وسيط يريد الخير بصدق للطرفين.
هل جاء في التاريخ كله شيئاً مثل هذا؟! وعظمة الموقف لم تنته بعد، ما زال هناك فصول في القصة.(42/6)
موقف المسلمين من طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم إرجاع سبي هوازن
لما صلى الرسول صلى الله عليه وسلم الظهر بالمسلمين، ثم كما هو متفق عليه مع هوازن، قام وفد هوازن يخاطب المسلمين جميعاً، وكأنهم لم يجلسوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم قبل ذلك، وقالوا مثل ما نصحهم الرسول عليه الصلاة والسلام تماماً، قالوا: (إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين، وبالمسلمين إلى رسول الله، في أبنائنا ونسائنا).
فقام صلى الله عليه سلم قابلاً شفاعة المسلمين وقال: (أما ما كان لي ولبني عبد المطلب فهو لكم) وكأن هذا الكلام لأول مرة يقوله، فالرسول عليه الصلاة والسلام قام بما ينبغي عليه تجاه هوازن، وبقي أن يقوم المسلمون برد سبيهم كما فعل صلى الله عليه وسلم وأن يقبلوا بشفاعته كما قبل هو بشفاعتهم، لكن تعالوا لنر رد فعل المسلمين، والحقيقة أن رد المسلمين كان متبايناً، فالبعض وافق والبعض رفض.
قام المهاجرون فقالوا: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: نعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم مطلق الحرية في التصرف فيه، وبالتالي سيرد إلى هوازن سبيهم، وقام الأنصار كذلك وقالوا: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك دليل على أن المهاجرين والأنصار أخذوا من الغنائم، وإلا ماذا سيعيدون؟ فواضح أنهم أخذوا أربعة أخماس الغنيمة، والآن يعيدون ما أخذوه.
فهذا سبي أعيد من قسم هام من أقسام الجيش من المهاجرين والأنصار، لكن تبقى أقسام كبيرة من الجيش وخاصة الأعراب؛ لأنهم غالب الجيش، وهم في الأساس قبائل تميم وفزارة وسليم، فقام الأقرع بن حابس زعيم بني تميم وقال: أما أنا وبنو تميم فلا.
وقام عيينة بن حصن زعيم بن فزارة وقال: وأما أنا وبنو فزارة فلا.
وقام العباس بن مرداس زعيم بني سليم وقال: وأما أنا وبنو سليم فلا.
هذه ثلاث مشاكل كبيرة، فقامت بنو سليم وقالت: ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني: بنو سليم رفضت كلام زعيمهم العباس بن مرداس وقالت: سنعيد السبي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
موقف هذه القبائل الثلاث يحتاج إلى وقفة وتحليل.
قبيلة تميم وفزارة رفضتا إعادة السبي إلى هوازن، بينما قبلت قبيلة سليم، فبقيت مشكلتان أمام الرسول عليه الصلاة والسلام: المشكلة الأولى: هي رفض قبيلة فزارة وتميم إعادة السبي، وهذا الموقف قد يؤثر على إسلام هوازن.
المشكلة الثانية: الخلاف الذي ظهر بين رأي العباس بن مرداس زعيم قبيلة سليم وبين أفراد القبيلة.
أما المشكلة الأولى: وهي مشكلة رفض قبيلتي فزارة وتميم إعادة السبي، فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ييئس من ذلك الأمر، لكن النظرة مادية بحتة عند تميم وفزارة، ولذلك دخل معهم الرسول صلى الله عليه وسلم في مساومة مادية تجارية تناسب طبيعتهم في هذه المرحلة، فكان صلى الله عليه وسلم واقعياً إلى أبعد درجة، لم يلمهم على أنهم لم يقبلوا شفاعته؛ لأن هذا حقهم ورفضوا أن يتنازلوا عنه، وليس هذا أمراً مباشراً منه صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: (أما من تمسك منكم بحقه من هذا السبي فله بكل إنسان يتنازل عنه من السبي ست فرائض من أول شيء نصيبه).
سبحان الله! هل وقع في التاريخ كله موقف مشابه لهذا الموقف؟! أنا والله لا أجد له مثيلاً إلا موقفه صلى الله عليه وسلم من طلقاء مكة.
فالرسول عليه الصلاة والسلام سيدفع لهم قيمة ما عندهم من السبي مضاعفاً ست مرات من أول سبي يحصل عليه المسلمين بعد ذلك.
والنبي عليه الصلاة والسلام يدافع عن هوازن وكأنها أقرب الأقربين إليه صلى الله عليه وسلم، مع أنها لم تسلم إلا منذ ساعة من الزمان، وقبلها كانت من ألد أعدائه صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه سيغرم الدولة الإسلامية ستة أضعاف قيمة السبي؛ من أجل الحفاظ على عقيدة هؤلاء القوم الجدد، فهو يتفاوض مع جيشه ليعيدوا السبي لهوازن لا يوجه لهم أمراً؛ لأنه يعلم أن ذلك حقهم.
وهو صلى الله عليه وسلم يفهم طبيعة النفس البشرية، ويفهم حدود العدل، ويفهم أسس القيادة، ويفهم قواعد الإدارة، ويفهم طرق الحكم، ويفهم فنون التعامل مع الناس بصفة عامة، إنه بلا جدال بحر لا ساحل له، وقدوة لا مثيل لها، من المستحيل أن نحيط بعظمته صلى الله عليه وسلم، ولو قضينا الأعمار في تحليل السيرة النبوية.
فماذا فعلت تميم وفزارة إزاء هذا العرض المغري من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! لقد قبلت القبيلتان بالكامل إعادة السبي إلى هوازن، ونجح العرض النبوي في الخروج من الأزمة، وعاد كل السبي إلى هوازن، إلا عجوزاً كانت في يد عيينة بن حصن الفزاري رفض أن يرجعها في أول الأمر كيداً لهوازن، ثم أعادها بعد ذلك، وبذلك حلت المشكلة الأولى، وعاد جميع السبي إلى هوازن.
المشكلة الثانية: أن هناك تعارضاً بين رأي زعيم القبيلة وبين جمهور الأتباع من القبيلة.
هذا السبي حق شخصي لكل فرد، ليس حقاً عاماً للقبيلة، بمعنى أنه لو اعترض فرد أو اثنان أو أكثر من أفراد القبيلة ما جاز هـ(42/7)
موقف الرسول صلى الله عليه وسلم من مالك بن عوف النصري بعد إسلام قبيلته هوازن
بقي في قصة هوازن فصل عجيب جداً يحتاج إلى وقفة وتحليل واستفادة، يحتاج أن نحمله ليس فقط للمسلمين، ولكن إلى أهل الأرض جميعاً لنقول لهم: هذا هو قدوتنا صلى الله عليه وسلم، فأي قدوة تتبعون؟! هذا الفصل العجيب هو أنه صلى الله عليه وسلم اكتشف أن مالك بن عوف النصري الزعيم الشاب قائد هوازن الذي جمع الجموع للحرب، والذي كان يريد أن يستأصل المسلمين، اكتشف أنه ليس مع الوفد المفاوض، وهو زعيم الناس ولم يأت معهم، ولم يسمع عنه كلمة، فسأل عنه، فقالوا له: إنه في الطائف في حصون ثقيف يخشى على نفسه من القتل، فقام صلى الله عليه وسلم في موقف رائع لا يقل عن المواقف الرائعة السابقة فقال: (أخبروا مالكاً أنه إن أتاني مسلماً رددت عليه أهله وماله) يعني: ليس أهله فقط، وإنما أهله وماله، ثم قال: (وأعطيته مائة من الإبل).
هل ترون كم هو عظيم صلى الله عليه وسلم؟! لقد كان الهدف الأسمى في حياة الرسول عليه الصلاة والسلام هداية الناس لرب العالمين سبحانه وتعالى، بغض النظر عن تاريخهم وعن عداوتهم السابقة له وللمسلمين، فهو صلى الله عليه وسلم لم يغب عن ذهنه هذا الهدف, فهو حتى مع مالك بن عوف ما زال يحرص على إسلامه وهدايته.
فالرسول صلى الله عليه وسلم قائد محنك حكيم مجرب، يقدر الأمور بحكمة، ويزن الأشخاص بميزان الذهب أو أدق، فـ مالك بن عوف النصري قوة لا يستهان بها، ولا يمكن أبداً أن تتجاهل، فهو رجل استطاع أن يجمع ويحرك أكثر من (25000) ألف مقاتل، واستطاع أن يقنعهم أن يضحوا بكل ثرواتهم من أجل قضية ما، فوجود هذا الرجل خارج الصف أمر خطير فعلاً، وخاصة أنه في ثقيف، وثقيف لم تسلم بعد، وخطر ثقيف لم ينقطع عن المسلمين، ووجود شخصية خطيرة مثل هذه في داخل حصون ثقيف أمر لا تؤمن عواقبه، ثم إن هذا الرجل استطاع تحريك الجموع الكثيرة من أجل قضية قبائلية تافهة بالقياس إلى أهداف القتال في الإسلام.
فماذا سيحصل لو انضم هذا القائد الخطير إلى صفوف الجيش المسلم؟ ماذا سيفعل لو أصبح مقاتلاً في سبيل الله بدلاً من أن يكون مقاتلاً في سبيل هوازن؟ لذلك حرص الرسول عليه الصلاة والسلام كل الحرص على إسلامه، وحرص في نفس الوقت على حفظ كرامته، فرفع قيمته فخصه بوضع غير الناس، خصه بإعادة المال له مع الأهل، وليس فقط الأهل، ووعد بإعطائه مائة من الإبل كنوع من تأليف القلب؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن إسلام هوازن ضربة كبيرة جداً لـ مالك بن عوف، ومع ذلك لم يرد أن يكسر معنوياته، ولم يرد أن يذله وأن يعيره بانضمام جنوده إلى جيش المسلمين، وإنما عرض عليه عرضاً مغرياً جداً، وهو يعلم أن وضع مالك الآن أصبح صعباً للغاية، ومن ثم فتح له باب الرجوع إلى الله، والانضمام إلى دولة الإسلام.
هذه هي الحكمة، لو تريد أن تعرف ماذا تعني كلمة حكمة، فادرس سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وصل الخبر إلى مالك في الطائف، وكما توقع الرسول عليه الصلاة والسلام كان وضع مالك صعباً جداً شديد الصعوبة، كان يتخوف على نفسه من قبيلة ثقيف، فقد أصبح وضعهم في مأزق خطير، كتب عليهم أن يحصروا في مدينتهم، ومالك هو الذي وضعهم في هذا الموقف الصعب، فأصبح خائفاً منهم، ومالك لم يعد لديه أتباع، فقد أسلمت قبيلته، وأصبح موقفه في غاية الحرج، فجاءت دعوة الرسول عليه الصلاة والسلام منقذة له من أزمة خطيرة، جاءت هذه الدعوة لتخرجه من موقف لا يحسد عليه، وبالفعل لم يتردد مالك بن عوف لحظة ولم يفكر كثيراً، بل أسرع من فوره إلى لقاء الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه بين يديه.
هل يوجد أحد في الدنيا كان يتوقع نتيجة مثل هذه بعد شهرين من موقعة حنين؟! أرأيتم المنهج الإسلامي في التعامل مع البشر؟! أي قائد غير الرسول عليه الصلاة والسلام ممن لا ينهج نهجه يكون همه الأول بعد النصر البحث عن قواد عدوه، لكي يحكم عليهم بالحبس، أو بالنفي، أو بالقتل، ويضع لهم صوراً على الإنترنت، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على كل البشر بغض النظر عن تاريخهم أو مواقفهم السابقة، فكانت نتيجة موقفه ذلك أن أسلمت هذه الشخصية القيادية الفذة مالك بن عوف، فقوة مالك بن عوف التي تكلمنا عليها قبل ذلك، وقدرته على الحشد سيكون في صالح المسلمين.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم أن مالك بن عوف إنما أسلم في ظروف صعبة، وقد يكون إسلامه رغبة في المال والأهل والإبل، أو رهبة من ثقيف أو من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف نثبت أقدامه في الإسلام؟ كيف نستفيد من طاقاته وقدراته؟ هل بمائة من الإبل أم أن هناك وسائل أخرى؟ انظروا إلى فعل النبي الحكيم صلى الله عليه وسلم، قام بخطوتين مبهرتين: الخطوة الأولى: أعاد مالك بن عوف إلى زعامة هوازن.
ومثل(42/8)
سلسلة السيرة النبوية_غزوة تبوك
غزوة تبوك اسم لامع في سماء الغزوات التي ربت المؤمنين، ومحصت الصفوف من المنافقين، وأعطت للدولة الإسلامية هيبتها، ووضعتها بحذاء قوة الروم والفرس، فرغم الأزمة الاقتصادية التي كان يعيشها المسلمون، واشتداد الحر، وقرب موسم جني الثمار، إضافة إلى بعد المسافة، أعلن صلى الله عليه وسلم الجهاد وتجهيز الجيش؛ ليضع أهل الإيمان أياديهم البيضاء في يد الرسول صلى الله عليه وسلم لينطلق الجيش مخلفاً آثار فضائح المنافقين وصفات المتخلفين عن الجهاد، مظهراً طبقة عمالقة الإيمان الذين قادوا الأمة بعد نبيها، وعلى أكتافهم حمل الدين، وبسعيهم وبفضل جهودهم انتشر الإسلام.(43/1)
تحليل للأوضاع السياسية بعد فتح مكة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس الخامس عشر من دروس السيرة النبوة: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.
بعد فتح مكة وانتصار حنين دانت قبائل عربية كثيرة في الجزيرة العربية للمسلمين، ومن أشهر هذه القبائل هوازن، وأصبحت الجزيرة العربية أشبه بدولة إسلامية، لها وضعها وكيانها وهيبتها، ليس فقط في الجزيرة العربية، ولكن حول الجزيرة العربية أيضاً.
لا شك أن ذلك لفت أنظار الدول المحيطة بالدولة الإسلامية الجديدة، ومن أهم هذه الدول: الدولة الرومانية العظمى التي تقبع في شمال الجزيرة العربية في الشام وما فوقها، وبالنظر إلى الوضع في نظر الرومان يظهر لنا التحليل الآتي، مع العلم أن الرومان يراقبون الأحداث المتطورة في الدولة الإسلامية الجديدة.
الأمر الأول: الدولة الإسلامية تتنامى قواتها بشكل لافت للنظر، فقد تحولت من حركة مضطهدة في مكة المكرمة إلى دويلة صغيرة في المدينة المنورة، ثم إلى دولة عظمى تأخذ مساحة ضخمة في الجزيرة العربية بكاملها، وأنتم تعرفون أن اليمن وعمان والبحرين كانت في نطاق الدولة الإسلامية؛ لذا فالدولة الرومانية ستحصر شرقاً بالدولة الفارسية، وجنوباً بالدولة الإسلامية الجديدة، وهذا الشيء خطير بالنسبة للدولة الرومانية.
الأمر الثاني: الرومان يعرفون القوة الذاتية العظيمة في داخل الدولة الإسلامية؛ لأنهم يعرفون أن هذه الدولة تتبع نبياً، ويدينون بدين سماوي صحيح غير محرف، وهرقل أدرك ذلك بوضوح في حواره مع أبي سفيان قبل فتح مكة، ولو ترك لهذا الدين العنان فسوف يملك ما تحت أقدام هرقل نفسه، كما قال ذلك في الحوار مع أبي سفيان.
كما أن هذا الكلام يفسر لنا رعب الدول الكبرى في العالم الآن وفي كل زمن من أي حركة إسلامية تنمو وإن كانت ضعيفة في بدايتها؛ لأنهم يعرفون أن عندهم القابلية لا لحكم بلاد فقط، ولكن لحكم العالم أجمع، وهذا كان نص كلام هرقل زعيم الدولة الرومانية.
إذاً: كان الرومان يعرفون أن الدين الإسلامي فيه ذاتية تجعل العرب أقوياء، وتجعل كل من اتبع هذا الدين قوياً للدرجة التي يستطيع بها أن يبتلع قوى ضخمة عالمياً مثل الدولة الرومانية أو الدولة الفارسية أو غيرها.
الأمر الثالث: أن الحدود الرومانية المتاخمة للجزيرة العربية هي: الشام من الشمال، ومصر من الغرب، ولو ترك لهذه الدولة الإسلامية أن تقوى من نفسها، فإنه لا يستبعد أبداً أن تَضُم إليها هاتين المستعمرتين، واعلم أن مصر والشام في ذلك الوقت كانتا تتبعان الرومان، وهذا يعد خسارة كبيرة للرومان، خاصة أن مصر والشام في ذلك الوقت كان فيهما من الخيرات ما لا يعد ولا يحصى، بل كانت تسمى في ذلك الوقت بمخازن الغلال للدولة الرومانية.
الأمر الرابع: منطقة الشام ملأى بعملاء الدولة الرومانية خاصة من نصارى الشام، ولو تركوهم للمسلمين فليس من المستبعد أبداً أن يسلموا، لا سيما أنهم أهل كتاب، فـ هرقل نفسه كان يفكر في الإسلام؛ لولا أن بطانة السوء منعته من ذلك، فهؤلاء النصارى في الشام كان من الممكن أن يسلموا -وهذا ما حدث بعد ذلك بالفعل- ومن المؤكد أن هذه خسارة ضخمة أخرى للدولة الرومانية.
الأمر الخامس: ذكريات مؤتة، فمؤتة لم يمض عليها إلا سنة تقريباً.
وثبات ثلاثة آلاف مقاتل وانتصارهم على مائتي ألف رومي وعربي في هذه الموقعة الشرسة أمر يستحق النظر، ولابد أن يؤخذ بالاعتبار.
الأمر السادس: كان من الواضح أن الرسول عليه والسلام جاد في التعامل مع الإمبراطوريات والممالك المحيطة بالدولة الإسلامية، فقد أرسل رسالة دعوة بالإسلام إلى هرقل عظيم الروم، ولم يتردد في مراسلته ودعوته إلى ترك دينه ودين آبائه لاعتناق الدين الإسلامي، والرسالة وإن كانت في لهجتها لطيفة، وأعطت هرقل وضعاً ومكاناً، إلا أنه لا يخفى على أحد التهديد غير المباشر الذي كان فيها، حين قال صلى الله عليه وسلم: (فإن عليك إثم الأريسيين) أي: الأتباع من الفلاحين، فلا يستبعد أبداً أن يسعى الدين الجديد لاكتساب الأتباع الرومانيين المقهورين على طاعة واتباع هرقل وحاشية هرقل.
الأمر السابع: أن من طبيعة أهل الأديان الأخرى: أنهم لا يرضون عن دين الإسلام أبداً، كما قال رب العالمين سبحانه وتعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120]، يعني: بعد أن تبين لهم الحق الذي في الإسلام فهم بين أمرين: إما أن يكيدوا للإسلام، وإما أن يدخلوا فيه.
فالدولة الرومانية بدون أي مصالح ولا أسباب لن ترضى عن الدولة الإسلامية إلا في حالة واحدة، وذلك عندما تترك الدولة ا(43/2)
مرجح خروج النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى تبوك
تجمعت هذه الجيوش في منطقة البلقاء -وهي الأردن الآن- يريدون دولة الإسلام.
كل السيناريو الذي نتكلم عليه الآن، وكل التفكير الذي كان في ذهن الرومانيين وغيرهم كان يتوقعه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان يخبر به أصحابه رضوان الله عليهم، وكان يعد العدة لذلك، ودليل ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما آلى من نسائه جاء أحد الصحابة وطرق الباب بشدة على عمر بن الخطاب فخرج وهو مفزوع، قال: أجاءت غسان؟! فكان عمر بن الخطاب يتوقع قدوم غسان لغزو المدينة المنورة، وهذا أمر ممكن وقريب الحدوث، ولا شك أن الرسول عليه والسلام كان يجهز الناس لهذا الاحتمال، من أجل ذلك كان أصحاب المدينة المنورة يتوقعون حرباً قوية مع الدولة الرومانية في الفترة القادمة.
ومن أجل ذلك أيضاً كانت العيون الإسلامية تراقب بدقة منطقة شمال الجزيرة العربية، ومنطقة الأردن والشام، وبمجرد أن حدث هذا التجمع على بعد مئات الكيلو مترات من المدينة المنورة عرفه صلى الله عليه وسلم، وبدأ يأخذ القرار في ضوء هذه المعرفة المبكرة.
كان عنده اختيار من اثنين: إما أنه ينتظر الرومان في المدينة المنورة، وإما أن يذهب إليهم في شمال الجزيرة العربية، وانتظار الرومان في المدينة المنورة كان أسهل على المسلمين؛ لأنهم لو انتظروهم ما كانوا ليقطعوا تلك المسافة الضخمة في الصحراء، مع ما تتطلبه من تجهيز المؤن والزاد الذي يكفي مسافة مئات الكيلو مترات، ومن المحتمل أن يهلك الجيش الروماني في الصحراء؛ لأنه غير معتاد على قتال الصحراء؛ فهو يعيش طوال عمره في أماكن خضراء في أوروبا والشام، وفي غيرها من المناطق الباردة، ولم يعايش من قبل أي نوع من التجارب في داخل الصحراء، ومع ذلك قرر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخرج بجيشه من المدينة المنورة إلى الشام لأمور: أولاً: ليأخذ عنصر المبادأة، فيختار بنفسه مكان وزمان الحرب، بدل أن تفرض عليه.
ثانياً: حتى يكون عنده خط دفاع بعد ذلك، فلو أنه غزي في المدنية المنورة فإلى أين يذهب؟ فعقر دار المسلمين المدينة المنورة، ولو سقطت المدينة المنورة سقط الإسلام في الجزيرة العربية، وكلنا يعلم أن معظم العرب لم يدخلوا الإسلام إلا منذ قليل.
ثالثاً: ليظهر عزة الإسلام وقوته، وعدم جبنه أو رهبته من القتال، وهذا الثبات والإقدام له أثر ضخم كبير على نفوس الأعداء، سواء كانوا من الرومان أو الفرس أو غيرهم، عندما يجدون الجيوش الإسلامية لا تهاب الموت، وتأتي إلى بلادهم لتحاربهم في ظروف صعبة؛ فإن هذا -ولاشك- يلقي الرهبة في قلوبهم من المسلمين، والرسول عليه الصلاة والسلام نصر بالرعب مسيرة شهر صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم له شعب في شمال الجزيرة العربية، والرسول عليه الصلاة والسلام كزعيم مسئول لا يترك شعبه هكذا دون حماية، ومعلوم أن شمال الجزيرة العربية بعد غزوة مؤتة كان قد دخله الإسلام، وجاءت القبائل تبايع على الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يترك الشعب هكذا بدون حماية، لا يفعل مثلما يفعل كثير من الزعماء بتأمين حدود العاصمة فقط، وترك الشعب بعد ذلك يعاني ويلات العدو، ثم الفرار بعد ذلك من العاصمة إذا ما حوصرت، بل خرج صلى الله عليه وسلم بنفسه على رأس أعظم جيوشه فيه أقرب خاصته ليلقى أعتى قوة في العالم في ذلك الوقت؛ ليحفظ دماء شعبه صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا فقراء بسطاء يعيشون في أطراف الصحراء.(43/3)
مظاهر العسر في غزوة تبوك
إن قرار الخروج إلى تبوك لم يكن سهلاً، بل كان عسيراً بمعنى الكلمة، ولم نأت بهذا اللفظ من عند أنفسنا، بل هذا كلام رب العالمين سبحانه وتعالى لما قال: {فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117]، يصف هذه الموقعة بأنها العسرة، لماذا؟ لأكثر من أمر: أولاً: أن المدينة المنورة في ذلك الوقت كانت تعيش ضائقة اقتصادية، ولم تجن الثمار منذ فترة، وهذا الوقت الذي سيخرج فيه الجيش يعتبر موسم جني الثمار، ولو انتظر الجيش قليلاً لأمكن أن يكون هناك فرصة لإصلاح الأزمة الاقتصادية، ومع ذلك لو انتظرنا فمن المحتمل أن تهجم جيوش الرومان على الدولة الإسلامية، فلا ينبغي الانتظار.
إذاً: عندي مشاكل اقتصادية، ولا أستطيع الانتظار لإصلاح هذه المشاكل الاقتصادية مع احتمال الإصلاح إن انتظرنا، ولكن المشاكل ستكون أكبر مع الدولة الرومانية.
ثانياً: الحر الشديد.
فهذه الغزوة تمت في آخر شهور الصيف، وتخيلوا وضع جيش يخترق الصحراء القاحلة في هذا الجو الشديد الحرارة في الجزيرة العربية، إن الواحد منا يذهب إلى العمرة أو الحج في داخل المدينة، وتكون أموره ميسرة إلى حد كبير، ومع ذلك فإن الحر لا يُحتمل، فما بالك باختراق الصحراء على الجمال أو سيراً على الأقدام؟! كانت المسافة من المدينة المنورة إلى تبوك (700) كيلو متر، هذا بالقياسات الحديثة في الطرق المستقيمة، أما طرق الصحراء فمن المؤكد أنها كانت أطول من ذلك، طرق ملتفة وملتوية وصعبة.
ثالثاً: بعد هذه المسافة الطويلة أنا لن أقابل قبيلة من القبائل، أو فرقة من فرق جيش ضعيف، لا، بل كان الخروج لمحاربة جيش أكبر دولة في العالم في ذلك الوقت، جيش الدولة الرومانية العظمى، وهذا العدو ما كان العرب يتخيلون حتى لقاءه، فهي دولة ضخمة، ولها تاريخ طويل في الحروب.
في هذا الجو الصعب، وفي هذه الظروف الاقتصادية، مع وجود العدو القوي، في كل هذه الظروف يطلب من المسلمين أن يجاهدوا في سبيل الله، كان فعلاً امتحاناً عسيراً، ولماذا يعسر الله عز وجل الامتحان على المسلمين إلى هذه الدرجة؟ لسبب هام جداً، وهو تمييز المؤمن من المنافق.
والدعوة الإسلامية في ذلك الوقت وصلت من القوة إلى درجة لم يتخيلها أحد قبل ذلك، فقد كثر أتباعها، واتسعت مساحة الرقعة التي تحكمها، وكثرت الأموال، وأصبحت دولة ذات هيبة وسيادة وتمكين في الجزيرة العربية، كل ذلك جعل الكثير من العرب يسارعون إلى الدخول في الدولة الإسلامية وليسوا منها، يعني: يبطنون الكفر، أو الكراهية للدولة الإسلامية، ولكن يظهرون الإسلام، وهذا ما نسميه: بالنفاق، وكلما زاد تمكين الدولة صعب الله عز وجل الامتحان على المسلمين لإظهار المنافقين، أما الدولة الضعيفة فلا ينافق فيها إلا القليل، لكن الدولة الإسلامية الآن وصلت إلى قمة المجد -حتى هذه اللحظة- في السيرة النبوية، وعدد المسلمين سيصل إلى ثلاثين ألفاً أو أكثر في داخل المدينة المنورة، وهذا عدد هائل بالنسبة للعرب، من أجل ذلك اختلط الحابل بالنابل، واختلط الصادق بالكاذب، والمؤمن بالمنافق، فكان لابد من تمييز، فليكن الامتحان في قوة صعوبته؛ لكيلا ينجح فيه إلا الصادق حقيقة.(43/4)
أهداف النبي صلى الله عليه وسلم من الخروج إلى تبوك
كيف كانت الدعوة إلى مثل هذا الامتحان الصعب من الخروج إلى القتال في سبيل الله في تبوك في هذه الظروف الصعبة؟ كان الرسول عليه الصلاة والسلام يريد تحقيق هدفين رئيسين من هذا الامتحان: الهدف الأول: أن المؤمنين الصادقين ينجحون في الامتحان، فهو لا يريد لهم الفشل في هذا الامتحان الصعب، نعم هو امتحان صعب، لكن في نفس الوقت كان عنده أمل كبير أن ينجح أكبر عدد من المؤمنين.
الهدف الثاني: أن يكشف أوراق المنافقين في داخل المدينة ويعرفهم جميعاً.
وإن كان الرسول عليه الصلاة والسلام يستطيع معرفة المنافقين عن طريق الوحي، لكن لابد أن يتعلم المسلمون الطريقة التي يستطيعون بها اكتشاف المنافقين في داخل الصف؛ لأنه بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام لن يكون هناك وحي.
فماذا صنع النبي عليه الصلاة والسلام لتحقيق هاتين الغايتين؟ قرر صلى الله عليه وسلم القيام بعمل يحقق المصلحتين سوياً، وهو فتح باب الجهاد علنياً، ودعوة الجميع للجهاد في سبيل الله بالمال والنفس على العلن، فكانت دعوة عامة لكل من يستطيع أن يجاهد بماله لتجهيز الجيش الضخم الذي يخرج في تبوك، وهذا حدث غير متكرر في السيرة النبوية؛ لأن هذه الفترة تميزت بوجود عدد كبير من المنافقين في الدولة الإسلامية على خلاف الفترات السابقة.
وحدث ما توقعه صلى الله عليه وسلم وتمايز الصف تمايزاً واضحاً، وهذا ما يحدث دائماً عند الأزمات الخطيرة التي تمر بالأمة، فعندما يرى المؤمن إخوانه المؤمنين بدءوا بالدفاع سيدفع معهم، ومن ثم يحاول أنه ينجح في الامتحان، وربما يوفق وينجح إن شاء الله، والمنافق لا يستطيع المشاركة علناً مع الناس؛ لأنه منافق وضعيف وإيمانه مهزوز فيعلن صراحة أنه لا يستطيع أن يجاهد في الصف، وبذلك يتمايز الصف.(43/5)
طبقات عمالقة الإيمان
المسلمون عادة يتكون صفهم من خمس طبقات، هذه الطبقات الخمس تكون متداخلة في أيام الراحة والرخاء، أو في غياب الأزمات، ثم إذا ما حدثت أزمة كبيرة يتمايز الصف وتتميز بداخله الطبقات الخمس بوضوح، وهذا الأمر ليس خاصاً بتبوك، بل هو خاص بكل مراحل التاريخ الإسلامي، وخاص بواقعنا الذي نعيش فيه، وسيظل معنا إلى يوم القيامة، أي مجتمع مسلم في التاريخ كله، خاصة إذا كانت هناك دولة ممكنة فيها خمس طبقات، فما هي هذه الخمس الطبقات؟ الطبقة الأولى: طبقة عمالقة الإيمان، وهي طبقة في غاية الأهمية، الرجل منهم بألف أو يزيد، وعلى أكتاف هؤلاء تقام الأمم، هؤلاء هم الذين يحركون الخير في قلوب العوام، ويقودون حركات التغيير إلى الأصلح والأنفع، ويضحون بأموالهم وأوقاتهم وجهدهم -بل وبأرواحهم- لنفع الآخرين ولنفع الأمة الإسلامية؛ فقد خلصت نفوسهم من حظ نفوسهم فعاشوا لله عز وجل بكل ذرة في كيانهم، هؤلاء هم الصفوة الحقيقية في المجتمع، ليست الصفوة في أصحاب المال ولا السلطة ولا الجاه ولا الشهرة، الصفوة هم: دعاة الخير ومصلحوا الأمم.
كانت هذه الطبقة العظيمة -طبقة عمالقة الإيمان- في يوم تبوك، ووجد منهم عدد كبير من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم، كان على رأس هؤلاء في ذلك اليوم: عثمان بن عفان، وأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعبد الرحمن بن عوف وغيرهم من الصحابة، هؤلاء الذين حملوا على أكتافهم هموم الأمة بكاملها، تعالوا لنرى ماذا فعل هؤلاء لكي ندخلهم في طائفة عمالقة الإيمان؟(43/6)
عثمان بن عفان أنموذجاً
أما عثمان رضي الله عنه وأرضاه فكان هذا اليوم يومه؛ ما إن فتح الرسول عليه الصلاة والسلام باب الجهاد بالمال حتى كان أسرع وأسبق الناس إلى الدخول فيه رضي الله عنه، قام في تجرد واضح، وفي تضحية عميقة يقول: علي مائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها.
يعني: بكامل عدتها.
وكنا قد ذكرنا في الدروس الماضية نماذج ممن كان يطلب مائة من الإبل ليثبت على الإسلام، والآن نتكلم على شخص يدفع مائة من الإبل في سبيل الله بنفس راضية مطمئنة، هذا هو مقياس الدنيا في عين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه، في لحظة يدفع بمائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله.
فـ عثمان ليس مكلفاً بدفع كل هذا في إعداد الجيش الإسلامي، لكنه يشعر أن القضية فعلاً قضيته، والهم همه، لا يضيره في ذلك أن قعد آخرون، المهم عنده أن يعمل لله عز وجل، لم ينتظر أن يسبقه أحد أو أن يشجعه أحد، ليست النائحة كالمستأجرة، فهو يعيش القضية، فلما رأى الرسول عليه الصلاة والسلام عثمان بن عفان يدفع مائة من الإبل سر سروراً عظيماً صلى الله عليه وسلم حتى ظهر ذلك على وجهه، وانبسطت أساريره صلى الله عليه وسلم، ثم فتح باب الجهاد من جديد.
فيقوم آخر ليبذل من ماله فيحدث العجب، لقد قام عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه مرة ثانية يزايد على نفسه هو، فقد دفع في الأولى، وكذلك يدفع في الثانية، لا ينتظر أحداً من المسلمين ليساعده في عملية الإنفاق على جيش العسرة رضي الله عنه وأرضاه، قام وقال: علي مائة أخرى من الإبل بأحلاسها وأقتابها! تفشل كثير من الأمم في الخروج من أزماتها لافتقادها إلى رجل مثل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه.
ويرقب الرسول عليه الصلاة والسلام ذلك بسعادة لا تخفى على أحد، إلى الدرجة التي قال فيها كلمة عجيبة جداً، قال صلى الله عليه وسلم: (ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم)، أي: أن الحسنات التي حصلها عثمان رضي الله عنه وأرضاه في هذا اليوم لا تضر معها معصية أبداً، وهذا الكلام ليس استنتاجاً، بل هو نص كلام الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد ينجو الإنسان طيلة حياته بموقف واحد وقفه لله عز وجل.
(ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم) ليست هناك سيئة إن فعل عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه أي سيئة بعد ذلك، لن يكون هناك تأثير على ميزانه يوم القيامة.
وليست هذه دعوة لفعل السيئات، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول الكلمة وهو يعرف في حق من يقولها، يقولها في حق عثمان بن عفان ذي النورين رضي الله عنه وأرضاه.
وعثمان بن عفان بعد أن سمع هذه الكلمة العجيبة التي علق بها صلى الله عليه وسلم على فعله العظيم لم يكتف بهذا العطاء، بل قام للمرة الثالثة في بساطة وهو يقول: علي مائة ثالثة من الإبل بأحلاسها وأقتابها، ماذا نرى؟! إنه إنفاق غير طبيعي، لا يرى للدنيا أي حجم في عينه رضي الله عنه وأرضاه.
والرسول صلى الله عليه وسلم يسمع هذا الكلام ويقول: (اللهم اغفر لـ عثمان ما أقبل وما أدبر، وما أخفى وما أعلن، وما أسر وما جهر)، بل إن البعض يصل بنفقة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه في ذلك اليوم إلى تسعمائة من الإبل بأحلاسها وأقتابها! ولم يكن عطاؤه من الإبل فقط رضي الله عنه، بل عاد إلى بيته وأتى بألف من الدنانير نثرها في حجر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى رفع الرسول عليه الصلاة والسلام يده إلى السماء وقال: (اللهم ارض عن عثمان؛ فإني عنه راض).
سبحان الله! ماذا يساوي هذا؟! إن مال الدنيا بأكمله لا يساوي هذا الدعاء العظيم من الحبيب صلى الله عليه وسلم.
لم تكن عظمة عثمان رضي الله عنه وأرضاه فقط في أنه أنفق أو أعطى، لكن العظمة الحقيقية في أنه سبق، لم ينتظر تشجيعاً من أحد، بل هو الذي شجع الآخرين، لم يقل: كل الناس لم يتحركوا، بل هو الذي تقدم وسبق؛ من أجل أن يقلده الناس بعد ذلك.
هذا بيت القصيد في بناء الأمم؛ أن يحمل أناس الهم على أكتافهم ويتحركوا به حتى وإن قعدت الأمة بأكملها، كل من أعطى بعد عثمان بن عفان رضي الله عنه تقليداً لفعله واتباعاً لهديه هو في ميزان حسنات عثمان بن عفان، وهذا أمر يعجز عن حسابه العقل.
روى مسلم عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء).
لماذا يعمل عثمان بن عفان هذا كله وينفق تسعمائة بعير، ويأتي بألف دينار، ويتحمل كل هذه المسئولية وحده رضي الله عنه وأرضاه؟ إن قلبه وعينيه على الجنة: (ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة)، يشتري الجنة(43/7)
أبو بكر أنموذجاً
كان من عمالقة الإيمان أيضاً في ذلك اليوم: أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وهو من عمالقة الإيمان من أول يوم آمن فيه إلى آخر يوم في حياته رضي الله عنه وأرضاه؛ أتى بأربعة آلاف درهم، لكن قد يقول قائل: هذا المبلغ يعتبر بسيطاً بالنسبة لعدد الإبل التي قدمها عثمان بن عفان رضي الله عنه.
أقول: انتبه، فنحن نتكلم على أعظم شخصية في تاريخ الأرض بعد الأنبياء، هذه الأربعة آلاف هي كل ما يملك، فهل يستطيع أحد أن يعمل مثل هذا؟ هل يمكن أن تتخيل ذلك مع نفسك ولو مرة واحدة في حياتك؟ صعب جداً، ويكاد يكون مستحيلاً، مع مراعاة أن أبا بكر الصديق فعل ذلك أكثر من مرة في حياته؛ في بداية الدعوة، وفي وسط الدعوة، وفي الهجرة وفي تجهيز الجيوش بصفة مستمرة حتى وصل إلى هذا الأمر في تبوك، وكان خليفة للمسلمين بعد ذلك، ومات وليس في بيته دينار رضي الله عنه وأرضاه.
كل حياته إنفاق في سبيل الله، كل الذي عنده أتى به، أتى بكل ثروته لنصرة الإسلام والمسلمين، من أجل ذلك فـ الصديق درجته مختلفة عن درجة بقية المسلمين، لا لشيء إلا ليقينه العميق فيما عند الله عز وجل، لا لمنصب ولا لعرق ولا لنسب؛ بل لدرجة الإيمان والصدق الذي في قلبه.
وقد سأله الرسول عليه الصلاة والسلام سؤالاً واضحاً فقال: (هل أبقيت لأهلك شيئاً؟ فقال -في يقين عجيب-: أبقيت لهم الله ورسوله)، سبحان الله! هل يضيع الله عز وجل من استودعناه إياه؟ هل يترك ربنا سبحانه وتعالى من تركناه له؟ هذا مستحيل، وكلنا يؤمن بذلك، لكن إيمان بعضنا إيمان نظري، ليس له تطبيق في واقع حياتنا، أما أبو بكر فكل معنى آمن به كان له انعكاس مباشر على حياته، وعلى حياة المسلمين، وعلى واقعه وعلى واقع المسلمين.
هذا هو الفهم الذي تصلح به الأمم.(43/8)
عمر بن الخطاب وابن عوف أنموذجاً
عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان أيضاً من عمالقة الإيمان في ذلك اليوم، فقد أتى بنصف ماله رضي الله عنه، جاهد في سبيل الله بنصف ثروته.
وإياك أن تنتقصه بعد أن رأيت فعل أبي بكر رضي الله عنه، فإن عمر بن الخطاب أتى بما لا يستطيع عامة البشر أن يأتوا به، ولولا أنك تقارنه بـ الصديق لما شعرت أبداً بقلة عطائه رضي الله عنه، وإلا فقارن عمر بن الخطاب بغيره من البشر، فمن يستطيع أن يتنازل في موقف واحد عن نصف ممتلكاته في سبيل الله؟! احسبها مع نفسك وكن صادقاً، قرار صعب، لو كان معك عشرة آلاف جنيه، أو مائة ألف جنيه أتستطيع قسمه نصفين: نصف تتبرع به للجيوش الإسلامية، ونصف تبقيه معك؟ هذا صعب، بل لعله مستحيل في حق الكثيرين من أبناء الأمة بدون هؤلاء العمالقة الذين يستطيعون أن يأخذوا مثل هذا القرار.
وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه فعل نفس الشيء الذي فعله عمر رضي الله عنه وأتى بنصف ماله، ونصف ماله كان مائتي أوقية من الفضة، والرسول عليه الصلاة والسلام قال له آنذاك: (بارك الله لك فيما أنفقت وفيما أبقيت)، وصدق الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فقد بارك الله عز وجل في مال عبد الرحمن بن عوف، فما أفقرته الصدقة التي دفع، ما نقص ماله، ما ضاع أولاده، ما شردت نساؤه، بل قسمت ثروته الذهبية بالفئوس بعد موته، بورك في ماله حياً وميتاً، هذا وعد الله عز وجل، والله عز وجل لا يخلف الميعاد، وهذا الكلام ليس خاصاً بـ عبد الرحمن بن عوف فقط، بل هو لأي إنسان ينفق في سبيل الله.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقسم في الحديث ويقول: (ثلاث أقسم عليهن وأحدثكم حديثاً فاحفظوه.
وذكر منها: ما نقص مال عبد من صدقة).
والله عز وجل يقول في كتابه الكريم: {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} [سبأ:39]، هذا وعد الله عز وجل، والمسألة في النهاية مرجعها إلى اليقين.(43/9)
من صفات طبقة عمالقة الإيمان
هكذا قام هؤلاء العمالقة وغيرهم بمعظم أمر الأمة، لم تكن عظمة هؤلاء -كما ذكرنا- فيما أنفقوه، ولكن كانت العظمة الحقيقية في بذلهم لكل ما في الوسع، كانت عظمتهم في قيامهم لا بدورهم فقط، ولكن بأدوار أولئك الذين لا يستطيعون، أو بأدوار أولئك الذين تخلفوا عن نصرة الدين مع قدرتهم على ذلك، لم يقترح هؤلاء أن تقسم الأعمال على أغنياء الأمة، بل شعروا أنهم معنيون تماماً بهذا الأمر، ولو تقاعس الجميع فليس هذا مبرراً لتقاعسهم، الجيش جيشهم، والنصر أملهم، وعزة الإسلام هدفهم، والله عز وجل غايتهم وهو مطلع عليهم ويرى أعمالهم، وهذا يكفيهم.
قد يقول قائل: ألا يصل إلى درجة عمالقة الإيمان إلا أغنياء الأمة فقط الذين يملكون المال الوفير فيقدرون على هذه العطايا السخية؟ والإجابة على العكس تماماً، فليس المهم هو كمية الإنفاق، لكن المهم هو استنفاذ الوسع، وبذل الطاقة، ورب درهم سبق ألف درهم، وقد ينفق منافق نفقة عظيمة مردودة عليه لفساد نيته، وقد ينفق فقير درهماً واحداً فيصل به إلى أجر الأغنياء الذين بذلوا الألوف؛ من أجل ذلك تسابق عمالقة الإيمان من الفقراء لبذل الوسع في يوم تبوك، والوسع قد يكون مكيالاً من التمر، قد يكون دريهمات معدودات، هو جزء قليل في عدة وعتاد جيش ضخم، لكن هذا ما يستطيعونه ويقدرون عليه، فبلغوا بهذا القدر اليسير منازل كبار المنفقين في سبيل الله.
كل واحد مهما كانت إمكانياته، ومهما كانت قدراته يستطيع أن يكون من هؤلاء العمالقة، ليس هذا فقط، بل إن المسلم قد لا يملك شيئاً أصلاً ويتمنى في داخله أن لو استطاع أن يشارك أو يساهم أو يجاهد فيعطى أجر الشهداء وأجر المجاهدين وأجر المنفقين في سبيل الله، يريد أن يجاهد بماله، ولكنه معدم لا يملك درهماً ولا ديناراً، يريد أن يجاهد بروحه، ولكنه معتل ومريض ولا يقوى على حمل السلاح، يريد أن يشارك بجسده ولكنه لا يملك راحلة تصل به إلى أرض الجهاد، هؤلاء المعذورون الصادقون في نيتهم لهم من الأجر مثل ما للقادرين المجاهدين بأموالهم وأرواحهم، هذا هو العدل الإلهي فعلاً، يعامل الناس على قدر الوسع، وليس على ما يمتلكون من أموال أعطاها لهم رب العالمين سبحانه وتعالى، أو حرمهم إياها، اسمع إلى هذا الحديث في مسند أحمد بن حنبل رحمه الله، وسنن ابن ماجه عن أبي كبشة الأنماري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مثل هذه الأمة كمثل أربعة نفر)، ثم ذكر منهم صلى الله عليه وسلم: (رجل آتاه الله مالاً وعلماً فهو يعمل بعلمه، وفي ماله ينفقه في حقه، ورجل آتاه الله علماً ولم يؤته مالاً فهو يقول: لو كان لي مثل هذا عملت فيه مثل الذي يعمل، قال صلى الله عليه وسلم: فهما في الأجر سواء)، يتمنى أن ينفق فيعطي أجر المنفقين في سبيل الله وليس معه شيء، أي رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى! هؤلاء قال الله عز وجل في حقهم: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:91].(43/10)
البكاءون
إن بعض هؤلاء الفقراء المعدمين بلغوا من الصدق في النية والشوق إلى الجهاد بالنفس والمال أن بكوا تأثراً أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يجد راحلة يحملهم عليها إلى تبوك، تخيل شخصاً يحرم من الجهاد فيبكي؛ لأنه لا يستطيع أن يجاهد في سبيل الله لا بمال ولا بنفس، لم يقولوا: الحمد لله الذي عافنا من هذا المجهود، ولكن حزنوا حزناً شديداً وصل إلى حد البكاء لحرمانهم من الجهاد، هؤلاء عرفوا في السيرة بالبكائين، وكانوا سبعة، وفيهم نزل قول الله عز وجل: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ} [التوبة:92] انظر التصوير: {وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ} [التوبة:92] حزن حقيقي صادق، تدبر بإمعان في مقدار الإخلاص والتجرد والتضحية التي كانت في قلوبهم إلى الدرجة التي تصل إلى تخليد ذكراهم في كتاب رب العالمين بقرآن يقرأ ويتعبد به إلى يوم القيامة.
كل هذا وهم من الفقراء الذين لا يملكون شيئاً مطلقاً، ولا حتى مكيال تمر، بل إن بعضهم بلغ به الشوق إلى الجهاد في سبيل الله، وإلى خدمة الإسلام ونصرة الدين درجة لا نتصورها أصلاً.
هذا هو علبة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه أحد البكائين السبعة رضي الله عنهم وأرضاهم، عاد يوماً إلى بيته، وذلك بعدما رده صلى الله عليه وسلم، وصلى في هذه الليلة ما شاء الله له عز وجل أن يصلي، ثم بكى في آخر صلاته ودعائه، وقال: اللهم إنك أمرت بالجهاد ورغبت فيه، ثم لم تجعل عندي ما أتقوى به، ولم تجعل في يد رسولك ما يحملني عليه، وإني أتصدق -وانتبه فهذه أعجب صدقة في التاريخ- على كل مسلم بكل مظلمة أصابني فيها في مال أو جسد أو عرض.
هذا يريد أن ينفع الجيش المجاهد والأمة الإسلامية بأي شيء، لكن ليس معه أي شيء، ففكر في شيء عجيب يتصدق به ما تصدق به أحد قبله، وما أحسب أن أحداً فعل ذلك بعده، إنه يتصدق من حسناته، هذه المظالم التي ارتكبت في حقه يوماً من الأيام تتحول إلى حسنات في ميزانه يوم القيامة، وهو يريد مساعدة المسلمين بأي شيء، وليس معه، فليساعدهم بالعفو عن ظلمهم إياه ورد حسناتهم إليهم، وما أحسب أن أحداً في العالم بلغ هذه الدرجة من السمو في حب العمل لله، وحب الخدمة للناس والمجتمع والأمة.
يا ترى هل كان هناك مردود لأمنية علبة بن زيد رضي الله عنه؟ هذا الرجل ذهب إلى صلاة الصبح مع المسلمين، والتفت الرسول عليه الصلاة والسلام بعد الصلاة إلى الناس وسأل: (أين المتصدق هذه الليلة؟ لم يقم أحد، فقال: أين المتصدق مرة ثانية فليقم، فقام إليه علبة وأسر إليه في أذنه وأخبره بما كان من ليلته بالأمس، فقال صلى الله عليه وسلم: أبشر؛ فوالذي نفسي بيده كتبت في الزكاة المتقبلة).
استحق علبة بن زيد رضي الله عنه برغم فقره الشديد أن يكون من كبار المتصدقين الذين تقبل الله عز وجل منهم صدقاتهم، وأصبح علبة بن زيد رضي الله عنه وأرضاه من عمالقة الإيمان الذين يقودون الأمة إلى كل مجد وعز وشرف رضي الله عنه.
والرسول عليه الصلاة والسلام من شدة إعجابه بهذه الطائفة العملاقة من المؤمنين والتي لا تملك شيئاً في يدها، هذه الطائفة الباكية ظلت في فكره صلى الله عليه وسلم منذ ذهب إلى تبوك وحتى عاد إلى المدينة المنورة وقال لأصحابه عن أولئك الصادقين الذين ما استطاعوا أن يخرجوا إلى الجهاد في سبيل الله وهم يتمنونه بصدق، قال: (إن أقواماً بالمدينة خلفنا ما سلكنا شعباً ولا وادياً إلا وهم معنا فيه حبسهم العذر).
هذا الكلام يعطي إشراقة أمل لكل من حيل بينه وبين الجهاد في سبيل الله لأي سبب، لكن يتمنى بصدق، فيصل فعلاً إلى درجة المجاهدين في سبيل الله، ويصبح الجيش المجاهد كلما خطا خطوة في سبيل الله يكتب له الأجر وهو في مدينته مثلما يكون للجيش المجاهد في سبيل الله، بل قد يصل إلى درجة الشهداء في سبيل الله! روى مسلم والنسائي وابن ماجه عن سهل بن حنيف رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء، وإن مات على فراشه).
هذا هو الإسلام، الإسلام ليس ديناً للأغنياء فقط، كل إنسان يمكن أن يساهم حتى المعدم الفقير الذي لا يجد شيئاً، ويصبح كأعظم الناس نفقة في سبيل الله إذا أخلص نيته لله عز وجل: أنه إن كان معه مال فسينفقه في سبيل الله، رحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى.
ختاماً: طبقة عمالقة الإيمان هذه لم تكن من الرجال فقط، بل أتت بعض النساء من عمالقة الإيمان بحليهن وبكل ما يملكن لتجهيز الجيش المسلم مع أنهن لسن مكلفات بالجهاد في سبيل الله، ولكن لقوة إيمانهن فهن يعتبرن أنفسهن مسئولات عن قضايا الأمة، ولذلك كن فعلا(43/11)
طبقة عامة المؤمنين
الطبقة الثانية: طبقة عموم المؤمنين، وإذا كانت الطبقة السابقة هي طبقة القادة في الخير، فهذه طبقة الأتباع في الخير أيضاً، هؤلاء هم أصحاب الفطرة السليمة، والأخلاق الحميدة، والروح الإسلامية النقية، هؤلاء يستجيبون لنداء الجهاد دون تردد، يتحركون دون تكاسل، يرفعون راية الحق ما دام قد طلب منهم ذلك، هذه هي الطبقة الرئيسية في الأمة المنتصرة الممكنة.
هذه الطبقة وإن كانت تأتي خلف طبقة عمالقة الإيمان إلا أنها عماد الدولة، وكيانها الرئيس، وعموم الناس فيهم خير كثير، وأمل كبير، نعم هم ليسوا قادة الناس ومحركيهم، ولكن ليس كل الناس أبا بكر أو عمر، فقادة الناس ماذا يفعلون بغير شعوبهم وجنودهم؟ أي قيمة لقائد متميز إن كان شعبه فاسداً؟ والعكس كذلك، لا قيمة لشعب متميز إن كان قائده فاسداً، لذلك من سنة الله عز وجل أن الحكام يكونون على شاكلة شعوبهم، والشعوب تكون على شاكلة حكامها، الشعب الطيب يحكمه قائد طيب، والشعب الفاسد لا يفرز إلا حاكماً فاسداً.
فعامة الناس تولد على الفطرة، تولد على حب الله عز وجل وحب الدين، وهذا الحب مزروع تلقائياً في قلوب عامة الآباء، لكن تأتي عوامل التربية والبيئة التي تغير من طبائع الناس، كما أن الطفل يولد على الفطرة، ثم يتغير حسب تربيته، كذلك الشعوب: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه)، كذلك الشعوب يستطيع الحاكم الصالح أن يحول شعبه بسهولة إلى شعب صالح طيب؛ لأن عامة الناس في فطرتها الخير، وفي نفوسها سياق طبيعي للفضيلة، لكن المؤثرات الخارجية تخرجهم عن جادة الطريق.
ووظيفة الحاكم هي قمع المؤثرات الخارجية الفاسدة التي تسبب انحراف الناس وتغير الفطرة، والقائد الذي لا يستطيع أن يمنع المفاسد والشرور والمعاصي والظلم والبغي هو قائد لا يستحق القيادة، لا ينبغي له أن ينال شرف الإمارة، وعليه أن يترك الأمر لمن يصلح البلاد والعباد، وهناك أمثلة لقادة غيروا شعوبهم في وقت قليل في التاريخ وهي كثيرة جداً، منهم: عمر بن عبد العزيز رحمه الله، صلاح الدين الأيوبي، قطز ألب أرسلان، محمود الغزنوي، يوسف بن تاشفين، عبد الرحمن الداخل، عبد الرحمن الناصر، محمد الفاتح وغيرهم، وغيرهم، وقبل كل هؤلاء معلمهم ومعلمنا وقدوتهم وقدوتنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم حرك بواعث الخير الموجودة في داخل نفوس الناس، فاستجابت لدعوة الحق وآمنت وتحركت وجاهدت وضحت وسعدت بذلك في الدنيا والآخرة.
ثم ليعلم أنه ليس مطلوباً من القائد الصالح أن يجعل شعبه كله من عمالقة الإيمان، ذلك أمر لا يستطيعه، لكن المطلوب منه أن يجعل قلوب العامة من شعبه تميل إلى الحق، وتحب الخير، وتقبله وتتمناه، تطيع الله عز وجل فيما أمر، ومن هؤلاء سيخرج قليل من عمالقة الإيمان، وهؤلاء العمالقة سيحركون الآخرين ويقودونهم، وبذلك تسير البلاد من وضع سيئ إلى وضع حسن، ومن حسن إلى أحسن منه، وهكذا.
ومن كلامنا الذي مضى نستطيع أن نستنتج كيف تقوم الأمم وتبنى، فالأمر يبدأ بمرب مخلص يربي مجموعة مختارة على الإيمان والعمل الصالح، يزرع فيهم الفكرة التي من أجلها ستقوم الأمة، ثم يزداد هذا العدد الذي يربيه قائدهم، ولكن يبقون في تعداد القليل بالنسبة لعامة الناس، وهؤلاء هم طبقة عمالقة الإيمان، ثم يأذن رب العالمين بالتمكين لهذا القليل بعد مراحل متعددة من الابتلاء والاختبار، ويأتي التمكين كما رأينا في دروس السيرة بصورة لا يتخيلها عمالقة الإيمان، ومن طريق لا يتوقعونه، فإذا مكنوا في الأرض، فإنهم حينئذ يستطيعون -بفضل الله عز وجل- أن يغيروا معظم العامة من الشر إلى الخير، ومن الفساد إلى الصلاح، وعادة ما يكون هذا التغيير سريعاً، فالجهد كل الجهد والوقت كل الوقت يكون في تربية طبقة عمالقة الإيمان.
أما طبقة عامة الشعب فإنها تربى في وقت سريع، وكما قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وهكذا تقوم أمة الإسلام: مرب يربي عمالقة إيمان، ثم ابتلاء، ثم تمكين، ثم تربية سريعة لعامة الناس.
فإذاً: هاتان طبقتان من أهم الطبقات في الأمة الإسلامية: طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عامة المؤمنين الصالحين، وفي كلٍّ خير، وهاتان الطبقتان هما اللتان جاءتا في قول الله عز وجل: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد:10].
الذين أنفقوا من قبل الفتح وقاتلوا هم طبقة عمالقة الإيمان، والذين أنفقوا من بعد الفتح والتمكين وقاتلوا هم طبقة عامة المؤمنين.
وعلى الرغم من أن كلتا الطبقتين على خ(43/12)
طبقة المؤمنين الصادقين القاعدين عن أمر الله مؤقتاً
الطبقة الثالثة في المجتمع المسلم الصالح: وهي طبقة من المؤمنين الصادقين، ولكن من الذين غلبتهم شهواتهم، وانتصر عليهم شيطانهم في لحظة، فأقعدهم عن أمر الله عز وجل مع إيمانهم به، وهؤلاء أحياناً يكونون من طبقة عمالقة الإيمان، لكن كل إنسان يخطئ، كل إنسان يقعد ويفتر.
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه عن أنس رضي الله عنه: (كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون)، (كل بني آدم) على الإطلاق هكذا، كل الناس يخطئ ويعصي إلا المعصومين فقط من الأنبياء والمرسلين، هؤلاء المخطئون قد يقعدون عن الجهاد في سبيل الله في وقت تعينه، ليس إنكاراً لأهميته، وليس استهزاءاً بالتشريع، ولكنها لحظة من لحظات الضعف البشري المتوقع، وكلما ارتفع مستوى التربية في المجتمع، وكلما حرصت القيادة على أخلاقيات ومبادئ وقيم الأمة، قلت أعداد هذه الطائفة الثالثة.
فطائفة المؤمنين القاعدين مؤقتاً، أو طائفة المؤمنين المتخلفين عن الجهاد بدون عذر سائغ، مهما كان مستوى التربية راقياً ومتميزاً، لابد أن توجد هذه الطائفة، ويستحيل أن يوجد مجتمع إسلامي مهما كان بدون هذه الطائفة.
لو كان هناك إمكانية لوجود مثل هذا المجتمع الخالي تماماً من معصية بين صفوف المؤمنين لكان هذا المجتمع هو مجتمع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا يستحيل فعلاً؛ لأن البشر ليسوا ملائكة، ولا يطلب منهم أن يكونوا ملائكة، ولكن يطلب منهم أن يتوبوا بسرعة إذا أذنبوا، وأن يشعروا بغصة في حلوقهم، وألم في قلوبهم عند ارتكاب الذنب، وهذا الكلام يمهد بعد ذلك للتوبة؛ لكون التربية كانت متميزة فعلاً في أيام تبوك، بل باهرة، فإن إعداد هذه الطائفة قلت إلى درجة لا يتصورها إنسان.
أتعلمون كم كان عدد المتخلفين من المؤمنين الصادقين؟ تخلف عن الركب ثلاثة فقط، من أصل ثلاثين ألف مجاهد، وهي أقل نسبة تخلف عن الجهاد في العالم كله بين صفوف المؤمنين.
هؤلاء الثلاثة هم أيضاً من طبقة عمالقة الإيمان الذين سبقوا بإيمانهم وجهادهم وعملهم الصالح، لكنها كانت هفوة لن تتكرر، ذنب تابوا منه سريعاً، هؤلاء الثلاثة كانوا: كعب بن مالك رضي الله عنه، ومرارة بن الربيع رضي الله عنه، وهلال بن أمية رضي الله عنهم، أقعدهم النظر في أموالهم، والتسويف في أمر الخروج للجهاد، ولا يقول أحد: ليتهم خرجوا لكي تكون نسبة الخروج في الصف المؤمن 100%؛ لأن هذا مستحيل، لو خرج هؤلاء لقعد غيرهم، وهذه رحمة من رب العالمين بنا، ولماذا أقول: رحمة؟ لكي نرى أحداث السيرة بعد مرور مئات السنين وفي الصف المؤمن قدوة لنا في كل موقف، فيمكن أن يحصل في يوم من الأيام أن واحداً فينا يتخلف عن الجهاد لسبب أو لآخر، فتكون عنده فرصة أخرى للرجوع، عنده فرصة أخرى ليتوب، عنده فرصة أخرى ليخدم الإسلام والمسلمين، فلا تكون كارثة نقف أمامها مكتوفي الأيدي.
فالسيرة النبوية صيغت بعناية، ورسمت بقدرة إلهية عجيبة؛ ليحدث فيها كل ما يحدث في الأرض وإلى يوم القيامة، ومن ثم نرى تصرف الرسول عليه الصلاة والسلام في كل المواقف، ونستطيع التأسي به صلى الله عليه وسلم، ولتحقق الآية الكريمة الشاملة الجامعة: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21].
فإذاً: هؤلاء ثلاث طوائف مؤمنة برزت وبوضوح في أزمة تبوك، وهي موجودة بدرجات متفاوتة في أي مجتمع مسلم: طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عامة المؤمنين الصادقين، وطبقة المؤمنين المتخلفين عن أمر الله بصفة مؤقتة، وتقل أو تزيد نسبة كل طبقة حسب طريقة التربية، ومستوى الفهم عند الجيل.(43/13)
طبقة عامة المنافقين ومردتهم
الطبقات الثلاث السابقة هي طبقات مسلمة مؤمنة، والطبقتان الباقيتان هما طبقتان مسلمتان، ولكن منافقتان، ولابد من وجودهما، ليس هناك دولة مسلمة في الأرض بغير منافقين، مهما بلغت درجة التربية، ومهما ارتفعت درجة تطبيق الشرع، فقد وجدوا في أيام الرسول عليه الصلاة والسلام، ووجدوا بعد أيامه، وهم معنا في زماننا، وسيبقون إلى يوم القيامة، فالمنافقون طبقة خطيرة جداً، لعلها أخطر من طبقة الكافرين ظاهري الكفر؛ لأنها طبقة في ظاهرها أنهم مسلمون يتكلمون بكلام المسلمين، ويتوجهون إلى قبلتهم، ولكنهم يبطنون الكفر بالله والكراهية للإسلام، ويخططون ويدبرون ويكيدون لهدم دعائم الدين.
هؤلاء المنافقون ينقسمون إلى طبقتين: الطبقة الأولى: طبقة عامة المنافقين، وهم يقابلون درجة عامة المؤمنين الصادقين، فطبقة عامة المنافقين هم الذين يتأثرون بقول غيرهم، ويسمعون أوامر أسيادهم فيصبحون سوطاً في يد الجلاد، وعصاً في يد الظالم، وقلماً في يد المزور، وهذه طبقة خطيرة وكثيرة.
الطبقة الثانية: طبقة مردة المنافقين، وهم الذين يقودون حملات التشكيك في الدين، ويتزعمون فرق المنافقين الضالة التي تضمر الشر كل الشر للإسلام والمسلمين، هؤلاء أخبث فعلاً من الكفار والشياطين؛ لذلك قال الله عز وجل في حقهم: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} [النساء:145].
هم أسفل طبقات المجتمع، وفي أسفل طبقات النار، وهذه الفرقة المنحرفة من البشر موجودة في كل زمان، فإن الله عز وجل لم يشرع لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم أن يصرح بأسمائهم لعامة المؤمنين، لماذا؟ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام سيموت وينقطع الوحي، إذاً: لابد من وجود وسيلة أخرى نعرف بها المنافقين؛ لذا وضح الله عز وجل ورسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في الكتاب والسنة الصفات والعلامات التي يتصف بها هؤلاء؛ لكي يتعرف المؤمنون على المنافقين في كل زمان، ولا يعتمدون على الوحي الذي سينقطع بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم وإلى يوم القيامة.(43/14)
صفات المنافقين
هذه الصفات تمتلئ بها صفحات القرآن الكريم، وتكثر في أحاديث الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم.
من صفاتهم: أنهم يعتادون على الكذب في كل صغيرة وكبيرة.
ومن صفاتهم: أنهم يستأذنون في عدم المشاركة في كل عمل يخدم الإسلام والمسلمين، يعتذرون عن الجهاد والعمل وقول الحق والدعوة والإصلاح وأي شيء فيه مصلحة.
ومن صفاتهم: إثارة الفتن بين صفوف المؤمنين؛ لينشب بينهم الصراع والضغينة.
ومن صفاتهم: أنهم يفرحون إذا أصاب المسلمين مصاب أو أذى، ويحزنون إذا حصل لهم خير.
من صفاتهم: أنهم يتكاسلون عن الصلوات، فلا يصلون الفجر ولا العشاء في جماعة.
ومن صفاتهم: أنهم لا ينفقون إلا وهم كارهون، فهم شديدوا البخل في الإنفاق على أمور الإسلام، مع كونهم كثيري الإنفاق على لهوهم ولعبهم.
ومن صفاتهم: أنهم دائمي السخرية من الملتزمين بالدين.
ومن صفاتهم: أنهم يتحدثون بغير أدب ولا توقير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن صفاتهم: أنهم يكرهون -وأحياناً يسبون- أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن صفاتهم: أنهم يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا، وينهون الناس عن كل معروف، ويثبطونهم عن فعل كل خير، ويأمرون الناس بفعل المنكر ويشجعونهم على المعاصي.
من صفاتهم: أنهم يخلفون الوعد، وينقضون الميثاق.
من صفاتهم: أنهم يفجرون في الخصام والشقاق.
ومن صفاتهم: أنهم يخونون الأمانة.
ومن صفاتهم أنهم يتحالفون مع أعداء الأمة ضد إخوانهم المسلمين.
من صفاتهم: أنهم يتشبهون بالكفار، ويفخرون بذلك، ويستحيون من الانتماء إلى أمة الإسلام والمسلمين.
ومن صفاتهم: أنهم يكثرون من الخطب الرنانة التي تحمل معاني عظيمة جداً، وأخلاقاً رفيعة، ولكن لا يفعلون منها شيئاً، يتحدثون عن الأمانة والشرف والإصلاح والحرية والعمل والشورى والجهاد، ولكنهم لا يفعلون من ذلك شيئاً أبداً.
ومن صفاتهم: أن ذكر الله عز وجل لا يأتي على ألسنتهم إلا قليلاً.
ومن صفاتهم: أنهم لا يحتكمون إلى كتاب الله عز وجل إلا إذا كان سيحكم لهم، فإن كان سيحكم لغيرهم رفضوا حكمه.
ومن صفاتهم: أنهم يفرون في المعارك وعند الأزمات، ويظهر عليهم الهلع الشديد والرعب الدفين عند أول احتمال للحرب؛ وذلك لشدة جبنهم وضعف يقينهم.
ومن صفاتهم: أنهم يتوقعون دائماً أنهم مقصودون بالحديث عند الحديث عن الأشرار والمنافقين، لعل كلامك عام، ولكنهم يحسبون كل صيحة عليهم.
ومن صفاتهم: أنهم دائماً يتهربون من المسئولية، وينسبون الأخطاء إلى غيرهم.
ومن صفاتهم: أنهم يمدحون دائماً السلطان، فإن ترك السلطان منصبه انقلبوا بألسنتهم عليه.
ومن صفاتهم: تضارب الأقوال؛ لأنهم كثيرو الكذب، فلا يعرفون ماذا قالوا قبل ذلك وبماذا وعدوا.
ومن صفاتهم: أنك إذا أعطيتهم صاروا أصدقاءً وأحباباً لك، وإن منعتهم لسبب أو لآخر انقلبوا عليك ونسوا ما فعلته من معروف.
ومن صفاتهم: أنهم يقطعون أرحامهم، ولا يحفظون حقاً لوالد ولا لأخ ولا لابن ولا لعشيرة.
ومن صفاتهم: أنهم يكثرون من الحلف؛ لأنهم يعرفون أن الناس لا يصدقونهم، فيقسمون بسهولة على الكذب، ويحلفون بالله دون اكتراث، هذه ثلاثون صفة كاملة.
أنا أريد منك أن تعود مرة أخرى لتسمعها مرة واثنتين وثلاثاً وتبحث جيداً في نفسك، إياك أن يكون فيك واحدة منهن، إياك أن يكون في قلبك صفة من صفات المنافقين، حتى ولو كانت واحدة من هذه الثلاثين، ويمكن أن تجد أكثر وأكثر عندما تفتح القرآن الكريم، وتغوص بين صفحات السنة المطهرة لرسولنا صلى الله عليه وسلم، فمن الممكن أن تجد كثير جداً من الصفات، وإياك أن تكون فيك صفة واحدة من صفات المنافقين، فالواحدة تجر إلى الثانية، ثم يجد الإنسان نفسه في عداد المنافقين، نعوذ بالله من ذلك! هاتان الطبقتان من المنافقين كانوا في منتهى الوضوح عند المسلمين، وهذه الصفات الكثيرة الموجودة في الكتاب والسنة وضحت صورة كل منافق عند المسلمين بشكل أكبر، بل إن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعرفهم بالوحي، ومع ذلك لم يقم حداً، أو عقوبة على منافق، ليعلمنا أن نعامل الناس على الظاهر، ونترك القلب لله عز وجل، لكن في نفس الوقت عرفنا بصفاتهم؛ لكي نأخذ جانب الحذر في التعامل معهم، لا نثق بوعودهم، ولا نبني أحكاماً على آرائهم، ولا نأمن جانبهم، ولا نصدق تحليلاتهم، الأمر كما قال الله عز وجل في إيجاز معجز: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون:4] ماذا نعمل معهم؟ {فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون:4]، جعلهم الله عز وجل (العدو) بالتعريف هكذا بالألف واللام، وكأنه ليس هناك عدو غيرهم، قال: ((هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ))، هذا هو نهجه صلى الله عليه وسلم في التعامل مع المنافقين في كل حياته، يحذر المنافقين، ولكن لا يجري الأحكام إلا على الظاهر.(43/15)
دور المنافقين في غزوة تبوك
ماذا فعل المنافقون في أزمة تبوك؟ أولاً: قرروا جميعاً التخلف عن الجهاد سواء بالمال أو بالنفس: {وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة:86].
ثانياً: لم يترك هذا التخلف أي ألم في قلوبهم، ولا أي حزن في مظهرهم، بل على العكس، كانوا سعداء بهذه المعصية، ملأ السرور بجريمتهم قلوبهم إلى الدرجة التي قال الله عز وجل في حقهم: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ} [التوبة:81].
ثالثاً: لم يكتفوا بالتخلف ولا بالفرح بهذا التخلف فقط، ولكن بدءوا يثبطون المؤمنين الصادقين عن الخروج، واستخدموا في ذلك دعايات شتى، ووسائل متعددة، وذلك مثل قولهم: {وَقَالُوا لا تَنفِرُوا فِي الْحَرِّ} [التوبة:81]، ومثل قولهم للصحابة: أتحسبون جلاد بني الأصفر -الرومان- كقتال العرب بعضهم بعضاً؟! والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال.
رابعاً: كان موقفهم من المؤمنين الذين أنفقوا في سبيل الله موقفاً شديد الخبث، وقفوا يطعنون في كل المتمسكين بالدين مهما كان فعلهم، إذا أتى غني من المسلمين بمال قالوا: إنما أنفقه رياء، وإذا أتى فقير بمال قليل بحسب قدرته سخروا منه، وسخروا من قلة عطائه واستهزءوا به.
قال الله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79]؛ فمن أنفق كثيراً سخروا منه، ومن أنفق قليلاً سخروا منه.
خامساً: تجاوز فعلهم ذلك، وبدءوا يبحثون عن أدلة شرعية -أو يوهمون الناس أنها شرعية- للتخلف عن الجهاد، ولإثارة الشبهات بين المسلمين، مثلما فعل الجد بن قيس من بني سلمة عندما رفض الخروج إلى تبوك لقتال الروم بزعم أنه يحب النساء، ونساء الروم جميلات، ويخشى أن يفتن بهن، فادعى أنه من ورعه وتقواه وتقويمه للأضرار اختار أخف الضررين، وهو التخلف عن الجهاد؛ ليحمي نفسه من فتنة النساء! وفيه نزل قول الله عز وجل: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
وهذا كلام خطير جداً؛ لأن الكثير من المنافقين يستخدمون (قال الله) و (قال الرسول) في ثني المجاهدين في سبيل الله عن جهادهم، ولابد أن ينتبه المؤمنون لهذا الكلام.
سادساً: أن منهم من قام بخطة أشد خبثاً من ذلك، وهي أنه قرر الخروج مع الجيش لمسافة ما، ثم يرجع من منتصف الطريق، لعله يسحب معه عند الرجوع عدداً من المسلمين الصادقين، مثلما عمل عبد الله بن أبي بن سلول في غزوة أحد وكرره مرة أخرى في تبوك.
سابعاً: أشد المنافقين شراً قرروا الخروج فعلاً مع المسلمين إلى آخر المطاف لبث الفتنة طوال الرحلة، وللكيد للمسلمين في كل مراحل القتال، والكيد لرسول صلى الله عليه وسل قدر المستطاع.
ونلاحظ في الكلام الماضي أن المنافقين كانوا يحاولون الالتزام بالقانون العام في الظاهر، لا يتخلفون عن الجهاد إلا باستئذان؛ لكي يوهموا الجميع أنهم لا يزالون مسلمين منقادين لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يأذن لهم بالقعود؛ لأنه مقتنع تمام الاقتناع أنه لن يجاهد إلا من رغب في الجهاد حقيقة، لكن رب العالمين سبحانه وتعالى عاتبه في ذلك، قال سبحانه وتعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43].
ولو أنه صلى الله عليه وسلم رفض أن يأذن للمنافقين لقعدوا برغم الرفض، وهنا كانت ستكشف أوراقهم للمسلمين؛ فيعلم المسلمون أمرهم عن بينة.
هذا كان وضع المنافقين في أزمة تبوك.(43/16)
خطر المنافقين على المجتمع
مع كل الأضرار التي قلناها إلا أنه يبقى أشد خطر لهم هو تغيير قناعة المسلمين الصادقين بكفرهم، قد يصل الأمر إلى أن يطيع بعض المؤمنين كلام المنافقين ظناً منهم أن هذا هو الصواب، وفي ذلك يقول الله عز وجل: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا} [التوبة:47]، اضطراباً وضعفاً وخوراً وجبناً، {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [التوبة:47].
فبعض المؤمنين لا يستمع فقط إلى كلام المنافقين، بل يكثر السماع، كما قال تعالى: (سماعون) أتت الكلمة بصيغة المبالغة لتفيد كثرة السماع، وليس ذلك لضعف يقين، أو لشك في القلب، ولكن لقوة الشبهة ومهارة الصياغة، وحلاوة اللسان، وبلاغة القول قد يقع المؤمنون الصادقون بسبب هذه الشبهات في أخطاء جسيمة، قد يقعون في كبائر عظيمة، ما كانوا يتخيلون أبداً أن يقعوا فيها في يوم من الأيام، لكن أحياناً للقول فعل السحر في الإنسان، من أجل ذلك يقول الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (وإن من البيان لسحراً).
إذاً: فقصة المنافقين في الدولة الإسلامية قصة خطيرة فعلاً، فآثارهم جسيمة على المجتمع المسلم، ومع ذلك لا يصح أن يحزن المؤمن إذا شاهد كثرة المنافقين في زمن من الأزمان، إذا شاهد تبجحهم وظهورهم في وسائل الدعاية والإعلان، والكلام بشكل فاضح معلن، فمثل هذه المواقف تحمل خيراً عظيماً، فهي تكشف أوراقهم، وتظهر نياتهم المختفية في صدورهم، فيحذرهم المسلمون.
من هذا الخير أيضاً: أن ظهورهم بكثافة دليل على قوة الأمة الإسلامية، دليل على صلابة الأمة الإسلامية، الدولة الضعيفة -كما ذكرنا قبل ذلك- لا تُنَاَفق، ولكنهم ينافقون الدولة القوية، إذا رأيت هناك كثرة في المنافقين، فاعلم أن الإسلام بخير، واعلم أن قوته قد بلغت حداً يدفع الآخرين إلى نفاق المسلمين، هكذا كان الوضع في غزوة تبوك؛ تميز الصف بوضوح إلى هذه الطبقات الخمس التي يتألف منها أي مجتمع مسلم في أي زمان وفي أي مكان، ولكن بنسب متفاوتة مثلما قلنا.
طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عامة المؤمنين، وطبقة المؤمنين المتخلفين عن الجهاد بصفة مؤقتة، طبقة عامة المنافقين، وأخيراً: طبقة مردة المنافقين.
وبرغم كل معوقات المنافقين إلا أن الجيش العملاق بفضل الله تجهز، وكان تعداده ثلاثون ألف مقاتل مسلم، وهو أكبر جيش إسلامي حتى هذه اللحظة، وخرج هذا الجيش بالفعل إلى تبوك في رجب سنة تسع من الهجرة.
ترى ماذا فعل هذا الجيش العملاق في طريقه من المدينة المنورة إلى تبوك؟ وماذا فعل الرومان هناك في أرض تبوك؟ وما هي الآثار العظيمة التي تحققت من وراء هذه الغزوة العظيمة غزوة العسرة، أو غزوة تبوك؟ هذا ما سنعرفه -إن شاء الله- وغيره في الدرس القادم.
وأسأل الله عز وجل أن يفقهنا في سننه، وأن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
{فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].(43/17)
سلسلة السيرة النبوية_ما بعد تبوك
كان لغزوة تبوك أعظم أثر في بسط نفوذ المسلمين وتقويته على جزيرة العرب، فقد أخذت قبائل العرب في التوافد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الغزوة، فمنهم من وفد لإعلان إسلامه إما اقتناعاً، وإما رهباً، وإما رغباً، ومن آثار هذه الغزوة ظهور حقيقة المنافقين ظهوراً جلياً، مع أمر الله عز وجل بالتشديد عليهم والتضييق، وهناك آثار أخرى كثيرة يجدها من تأمل في واقع المسلمين بعد هذه الغزوة المباركة غزوة تبوك.(44/1)
ملخص ما حدث في غزوة تبوك
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس السادس عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.
في الدرس السابق تكلمنا عن الأزمة الخطيرة التي مر بها المجتمع المسلم في المدينة المنورة في السنة التاسعة من الهجرة، عندما علم صلى الله عليه وسلم بتجمع الرومان في البلقاء في الشام، فقرر الخروج إليهم في ظروف صعبة جداً، من الضائقة الاقتصادية الشديدة، والمسافة البعيدة، والحر الشديد، والعدو الرهيب، في هذه الأزمة الطاحنة برزت بوضوح الطبقات الخمس لأي مجتمع مسلم ممكن في الأرض، وكما ذكرنا في الدرس السابق فهذه الطبقات الخمس موجودة بصفة دائمة في أي دولة إسلامية ممكنة في الأرض، غير أنها تبرز بوضوح عند الأزمات الشديدة كأزمة تبوك مثلاً، هذه الطبقات الخمس: هي طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين، وطبقة المتخلفين عن أمر الله بصفة مؤقتة، وطبقة عموم المنافقين، وأخيراً طبقة مردة المنافقين، وأنا أحب أن أؤكد على معنى هام جداً هو أن هذه الطبقات الخمس وإن كانت موجودة دائماً إلا أنها تتفاوت في الحجم بحسب طريقة التربية وقوة التربية، ولأن التربية الإسلامية ما شاء الله كانت على أعلى درجات التربية وأبهى الصور في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام لم نجد في طبقة المنافقين بشقيها سواء كان عموم المنافقين أو مردة المنافقين، لم نجد في غزوة تبوك أكثر من ثمانين منافقاً، أو أكثر من ثمانين بقليل، وهذه نتيجة الجهد الطويل والعظيم من المربي الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم.
وذكرنا في الدرس السابق أن الجهد العظيم الذي قام به المؤمنون من طبقة عمالقة الإيمان، وطبقة عموم المؤمنين، ساعد على تجهيز الجيش الإسلامي الكبير الذي خرج إلى تبوك في رجب سنة (9) هجرية، وكان عدد الجيش الإسلامي ثلاثين ألف مقاتل، وذكرنا أن نسبة التخلف كانت يسيرة جداً لا تتجاوز واحداً من عشرة آلاف، تصور ثلاثة من أصل ثلاثين ألف مقاتل، وبرغم كل المعوقات التي حاول المنافقون أن يضعوها إلا أن الجيش العملاق خرج بالفعل بفضل الله عز وجل.
ترك الرسول عليه الصلاة والسلام على إمارة المدينة المنورة محمد بن مسلمة رضي الله عنه، وترك على أهله علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وبدأ الجيش المناضل في رحلة طويلة جداً شاقة جداً وفي صبر جميل، صبر على الجوع، وصبر على التعب، وصبر على الحر، وكان الزاد قليلاً جداً، حتى إن الرجلين والثلاثة كانوا يقسمون التمرة بينهم، وكان يتعاقب الرجلان والثلاثة على البعير الواحد، وكانوا يدخرون الماء لندرته، حتى كانوا ينحرون الإبل ليشربوا الماء الذي تدخره الإبل بطونها، إنه ابتلاء كبير جداً، ويبتلى المرء على قدر دينه.
وكأن هذا الابتلاء ليس كافياً، فيأتي ابتلاء جديد؛ لاختبار الطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما وصل المسلمون إلى منطقة الحجر، منطقة الحجر هي الآن موجودة في شمال السعودية، وهي المنطقة التي كانت بها ديار ثمود قوم صالح عليه السلام، وقوم صالح كما تعرفون أهلكوا في هذه المنطقة لما كفروا بربنا سبحانه وتعالى، في هذه المنطقة أبيار للماء، ورأى المسلمون أبيار الماء وأسرعوا إليها قبل استئذان الرسول صلى الله عليه وسلم، وملئوا الأوعية بالماء وعجنوا العجين بهذا الماء؛ ليصنعوا خبزاً يشبعهم بعد طول جوع، فلما علم الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك الأمر أمرهم بأمر شاق جداً على نفوسهم قال لهم: (لا تشربوا من مائها شيئاً، ولا تتوضئوا منه للصلاة، وما كان من عجين عجنتموه فأعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئاً)؛ لأن هذا الماء غير مبارك، فهو ماء الذين ظلموا، والأمر مباشر وصريح بعدم الشرب منه، وليس على المسلمين إلا الطاعة.
قد يأتي من يجادل ويقول: إن هذا الماء ليس له علاقة بشاربه فيشرب منه البر والفاجر، ويشرب منه المؤمن والكافر، ونحن في حاجة للماء والطريق صعب.
وقد يأتي مجادل آخر ويقول: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشرب من ماء مكة وغيرها ولا يسأل أهو ماء كفار أم ماء مسلمين؟ كل هذه الحجج والشبهات قد تثار، لكن الغرض كان واضحاً؛ وهو الطاعة المطلقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليست الأوامر يتضح لنا فيها الحكمة، بل إن بعض الأوامر قد يخفي الله عز وجل حكمتها عنا ليختبر مدى طاعتنا له، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِينًا} [الأحزاب:36] ونجح المسلمون الصادقون في الاختبار ولم(44/2)
الرجوع إلى المدينة بعد غزوة تبوك(44/3)
إحباط محاولة المنافقين قتل الرسول صلى الله عليه وسلم عند عودته من تبوك
قرر الرسول عليه الصلاة والسلام بعد هذه الغزوة قرر العودة إلى المدينة المنورة، وعاد في شهر رمضان في سنة (9) هـ، وفي أثناء العودة كانت هناك محاولة لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل المنافقين عند منطقة العقبة، ولكن كان بصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، ودافعا عن رسول الله عليه الصلاة والسلام دفاعاً شديداً، وهرب المنافقون دون أن يتبين الصحابيان الجليلان ملامح المنافقين؛ وذلك لأن المنافقين كانوا ملثمين، ومع أن الرسول عليه الصلاة والسلام عرف بعد ذلك عن طريق الوحي أسماء المنافقين الذين قاموا بمحاولة القتل، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يقم عليهم حداً، ولم يأمر قبائلهم بالإتيان بهم، وذلك لأمور: أولاً: حتى لا يتحدث الناس أن محمداً صلى الله عليه وسلم يقتل أصحابه.
ثانياً: أنه لا يملك بينة على أنهم هم الذين حاولوا قتله.
والبينة المقصودة هنا هي البينة الشرعية، وليست البينة عن طريق الوحي، يعني: كدليل محسوس أو قرينة أو شهادة شهود، كل ذلك ليعلمنا ألا نقيم حداً أو حكماً على أحد إلا ببينة، مع أنه متأكد تمام التأكد من أسمائهم عن طريق الوحي، لكن هذا هو العدل، ولا أعتقد أن هناك مستوىً من العدل في أي دولة من دول العالم أرقى من هذا المستوى الذي رأينا في موقف الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم نرى في الأرض زعيماً يعلم علماً يقينياً أن هناك مجموعة دبروا محاولة لاغتياله ثم هو يتجاوز عنهم ولا يؤذيهم بأي صورة من صور الإيذاء؛ لأنه لا يملك أدلة قوية تدينهم أو تثبت الجريمة عليهم.(44/4)
تعامل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد عودته من تبوك إلى المدينة مع المخلفين
وصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بسلام، ولا بد لنا من وقفة، أين القتال الضروس الذي تخيله المسلمون يوم خرجوا؟ أين الفتنة الرهيبة التي توقعها الخارجون في سبيل الله؟ أين الامتحان الدقيق الذي سيختبر فيه الصادق والكاذب والمؤمن والمنافق؟ ألم نقل قبل ذلك: إن تبوك امتحان عسير للمسلمين! وتم الامتحان فعلاً، لكن تم في المدينة المنورة على بعد (700) كيلو متر من المكان المتوقع للامتحان، لم يكن الامتحان في تبوك كما توقع الجميع، لكن الامتحان كان في المدينة المنورة قبل الخروج إلى تبوك، الامتحان كان عبارة عن القدرة على أخذ قرار الجهاد، من تغلب على نفسه وعلى ظروفه وعلى شهواته وعلى المعوقات التي في حياته، وعلى شياطينه وعلى أقوال المرجفين، من تغلب على كل ذلك وأخذ قرار الجهاد نجح يوم أخذ هذا القرار، حتى وإن لم يحدث بعد ذلك جهاد، ومن فشل في الاختبار فهو الذي هزم داخلياً، فلم يستطع أن يأخذ هذا القرار، ولم يستطع أن يخرج من أزمته النفسية، ولم يستطع أن يتجاوز جبنه المقعد، قد تكون نجاتك في قرار تأخذه، فإن أخذته كفاك الله عز وجل ما كنت تتوقع من مصائب وإيذاء وألم، قال تعالى: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} [الأحزاب:25]،ونسأل الله عز وجل الثبات عند الفتن.
لما وصل الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، وعرف الناس الآثار الحميدة والنتائج العظيمة لهذه الغزوة المباركة جاء إليه كل من تخلف عن الجهاد بغير عذر ليعتذر منه، وكان المعتذرون فريقين في الأساس: الفريق الأول: فريق المؤمنين الصادقين الذين تخلفوا عن الجهاد بغير عذر، ووقع التخلف منهم كهفوة عابرة أو خطأ غير متكرر، وهؤلاء هم الثلاثة الذين خلفوا ولم يقبل الرسول عليه الصلاة والسلام اعتذارهم حتى نزل فيهم وحي من رب العالمين سبحانه وتعالى.
ونزل بعد ذلك الوحي بمقاطعة هؤلاء الثلاثة عقاباً لهم، وتحذيراً لكل المسلمين أن يقعوا في مثل خطئهم وتحدث القرآن الكريم عن هؤلاء الثلاثة، وهم: كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، وكانت المقاطعة هذه لمدة خمسين ليلة كاملة، ثم تاب الله عز وجل بعد ذلك عليهم وأوقفت المقاطعة.
هذه قصة فيها دروس وعبر كثيرة جداً، وسوف يتم الحديث عنها بالتفصيل بإذن الله في مجموعة الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين.
الفريق الثاني: كان فريق المنافقين سواء من أهل المدينة أو من الأعراب حول المدينة، وهؤلاء جاءوا يحلفون أنهم كانوا معذورين، ويعدون أنهم سيخرجون بعد ذلك مع المسلمين في أي قتال قادم، وهؤلاء قيل منهم صلى الله عليه وسلم الاعتذار، وأجرى أمورهم على الظاهر، ولم يقم عليهم أي تعزير من أي نوع؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه ليس فيهم أمل، فقلوبهم فاسدة، وأعينهم لا تبصر، لذلك فإن التعزيز لا ولن يأتي بنتيجة معهم، فلا داعي له، وقد يستغرب بعض الناس ويقول: لماذا أقام الرسول عليه الصلاة والسلام التعزيز أو العقاب على المؤمنين الصادقين ولم يقمه على المنافقين؟ نقول: المنافقون لم يعترفوا بالذنب، وقالوا: عندنا أعذار، فقبل منهم ذلك صلى الله عليه وسلم، أما المؤمنون الصادقون فقد اعترفوا بذنبهم، وقالوا: لقد أخطأنا، فكان لا بد من عقاب، والعقاب لم يكن من عند رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولكن أنزله رب العالمين سبحانه وتعالى.(44/5)
حال المنافقين بعد غزوة تبوك
كانت غزوة تبوك ضربة قاصمة للمنافقين، اضطروا جميعاً إلى كشف أوراقهم، وعلم المسلمون كل من كان منافقاً ويخفي ذلك، بل بعد تبوك تلقى المنافقون ضربتين من نوع آخر، وهاتان الضربتان حجمتا إلى حد كبير من قوة المنافقين داخل المدينة المنورة.
أما الضربة الأولى: فكانت هدم مسجد الضرار، ومسجد الضرار هو الذي بناه المنافقون لتشتيت المسلمين؛ ولبث أفكارهم الهدامة وفتنتهم الخطيرة في المدينة، وقد نزل الوحي يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بهدم هذا البناء الفاسد، مع كونه في الظاهر مسجداً، فأمر صلى الله عليه وسلم فرقة من الصحابة بهدم المسجد وتحريقه، فكانت ضربة مباشرة للمنافقين.
أما الضربة الثانية القاصمة: فكانت موت زعيمهم عبد الله بن أبي بن سلول رأس النفاق، والذي تولى كبر الفتنة بشتى أنواعها من بعد بدر وإلى غزوة تبوك، مات الرجل على نفاقه، ورفض الدعوى الكريمة التي وجهها له صلى الله عليه وسلم ليحسن إسلامه، بعد هذه الرحلة الطويلة من الصد والإعراض عن سبيل الله عز وجل، وأصر عبد الله بن أبي بن سلول على معتقده الفاسد، ومع ذلك عامله صلى الله عليه وسلم بمنتهى الرفق والرحمة؛ وذلك ليتألف قومه، وليخفف عن ابنه الصحابي الجليل عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول، وكان من صالحي الصحابة رضي الله عنه، فاستغفر صلى الله عليه وسلم لـ عبد الله بن أبي بن سلول بعد موته، وأعطاه قميصه ليكفن فيه، بل وصلى عليه على الرغم من معارضة عمر بن الخطاب رضي الله عنه لذلك، وقد نزل القرآن بعد ذلك موافقاً لرأي عمر رضي الله عنه، قال الله عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ} [التوبة:84]، وبموت عبد الله بن أبي بن سلول انحسرت حركة النفاق جداً في المدينة المنورة، بل وفي الجزيرة العربية، ولم نسمع لهم صوتاً يذكر في العام العاشر من الهجرة.(44/6)
أثر غزوة تبوك
بعد غزوة تبوك حصل انتصار كبير للمسلمين، وحصل انحسار كبير لحركة النفاق، ولا شك أن العرب في كل الجزيرة العربية كانوا يراقبون الأحداث، وقد علموا أنه لا طاقة لهم أبداً بحرب المسلمين، فها هي قريش قد سلمت وأسلمت وفتحت أبواب مكة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وها هي كذلك هوازن قد دخلت في الإسلام، وها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ جيشاً قوامه (30000) مقاتل لمواجهة أعتى قوة في الأرض -وهي الدولة الرومانية- للمرة الثانية في غضون سنة ونصف.
فهذا ما لا يتصوره العرب في أحلامهم فضلاً عن أن يكون واقعاً يرونه رأي العين؛ من أجل هذا بعد عودة الرسول عليه الصلاة والسلام من تبوك أخذت القبائل العربية قراراً شبه جماعي بالقدوم إلى المدينة المنورة للتواصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء بعض هذه القبائل ليعلن الإسلام مقتنعاً به ومحباً له، وجاء بعضهم مسلماً؛ لكونه يرهب الدولة الإسلامية، أو يرجو ودها، ومنهم من جاء ليتفاوض ويطلب لنفسه شيئاً، ومنهم من جاء ليعقد عهداً ويظل على دينه.
إذاً: جاء الجميع ولم يستطع أحد منهم أن يتجاهل القوة الإسلامية الجديدة، وبدأت الوفود الكثيرة في التوافد على المدينة المنورة في أواخر العام التاسع من الهجرة، وأثناء العام العاشر أيضاً، ولذلك عرف العام التاسع الهجري بعام الوفود؛ لكثرة الوفود التي أتت فيه بعد تبوك.
كان عدد هذه الوفود على الأقل ستين وفداً، ووصل في بعض التقديرات إلى أكثر من مائة وفد، ولن نستطيع أن نقف في هذه المجموعة على تفاصيل مقابلة الرسول عليه الصلاة والسلام لكل وفد من هذه الوفود، مع أنه فيها من الفوائد والعظات ما لا يقدر بثمن، ونحتاج إلى تفريغ جهد خاص ودراسات متأنية؛ لنقف على الدروس العظيمة التي نستخرجها من حوارات الرسول عليه الصلاة والسلام مع هذه الوفود الكثيرة.(44/7)
وفد ثقيف
لكن في هذه المحاضرة أريد التعليق على ثلاثة وفود في غاية الأهمية: أول هذه الوفود قدوماً بعد تبوك، وأهم هذه الوفود من ناحية الأثر كان وفد ثقيف، فثقيف كانت لها ذكريات سيئة جداً في نفوس المسلمين؛ أولاً: ردت الرسول عليه الصلاة والسلام في العام العاشر من البعثة، وكان الرد رداً يخلو من كل أدب أو مروءة أو أخلاق، وفعلت معه ما لم تفعله الكثير من قبائل العرب.
ثانياً: أن ثقيفاً اشتركت مع هوازن في حرب المسلمين في غزوة حنين، وبعد هزيمتها رجعت إلى الحصون في الطائف وفشل المسلمون في فتح الحصون، وعادوا دون نتيجة بعد حصار أكثر من شهر.
ثالثاً: قتلت ثقيف زعيمها عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه بعد إسلامه، في قصة طويلة مؤثرة ليس المجال يسمح بتفصيلاتها، لكنها تركت أثراً سلبياً حزيناً في نفوس المسلمين، ومع كل هذه الصدمات إلا أن ثقيفاً أتت بعد تبوك لتعلن إسلامها في المدينة المنورة.(44/8)
سبب إسلام ثقيف
لماذا أسلمت ثقيف؟ لم تفكر ثقيف في الإسلام حتى هذه اللحظة اقتناعاً به أو حباً له، لكن فكرت في أحوالها التي وصلت إليها، فكيف كان وضع ثقيف في السنة التاسعة من الهجرة؟ أولاً: أسلمت معظم القبائل العربية الكبرى ومنها فروع قيس عيلان الكبرى مثل: غطفان وسليم وهوازن، ولم يبق من هوازن إلا فرع ثقيف فقط، ولن يكون لثقيف قدرة على حرب العرب كافة.
ثانياً: أن مالك بن عوف النصري كان يقوم بحصار الطائف هو وقبيلته هوازن بعد أن أسلم وأسلمت القبيلة، فضيق ذلك عليهم بشدة.
ثالثاً: بدأ الوضع الاقتصادي في الطائف في التردي نتيجة هذا الحصار، وفقدت الطائف مكانتها التجارية؛ لأنها أصبحت مكاناً غير آمن، ولا يطمئن إليه عامة تجار العرب.
رابعاً: فقدت ثقيف أحد زعمائها المعدودين وهو عروة بن مسعود الثقفي، وليس من المستبعد أن تفقد رجالها واحداً تلو الآخر.
هذه الأسباب دفعت ثقيفاً إلى التفكير الجاد في أمر الإسلام، وقررت ثقيف أن ترسل وفداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام مكوناً من ستة أشخاص، على رأسهم عبد ياليل بن مسعود؛ لكي يعلنوا إسلامهم وإسلام ثقيف بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، وذهب الوفد إلى المدينة المنورة والتقوا بالرسول صلى الله عليه وسلم.
والأيام دول، فهاهي الأوضاع تتبدل، وهاهم الزعماء الآن يتبادلون الكراسي، قبل اثني عشرة سنة ذهب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الطائف يطلب النصرة من ثقيف، وكان عبد ياليل هذا من أشد الناس على الرسول عليه الصلاة والسلام في الطائف، وكان على رأس الطائف، وهاهو الآن يأتي إلى المدينة يطلب من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يقبل إسلامه وإسلام ثقيف، فاستقبل الرسول عليه الصلاة والسلام وفد ثقيف استقبالاً طيباً، يليق بنبي كريم، لم يذكرهم أبداً بما فعلوه قبل ذلك معه في زيارتيه للطائف، وضرب لهم خيمة في المسجد؛ لكي يشاهدوا أحوال المسلمين ويسمعوا خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، ويتعلموا ما هو الإسلام، فكانوا يجلسون في المسجد بضعة أيام ثم يذهبون إلى رحالهم ما بين حين وآخر، فهم تركوا الرحال خارج المدينة المنورة، وكانوا قد تركوا عند رحالهم أصغرهم سناً، واسمه عثمان بن أبي العاص، كان عمره أقل من عشرين سنة، وكانوا إذا ذهبوا إليه لفترة القيلولة تركهم عثمان بن أبي العاص وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليتعلم على يديه بإخلاص، وكان إذا وجد الرسول صلى الله عليه وسلم نائماً ذهب إلى الصديق رضي الله عنه فيتعلم منه، حتى أعجب به صلى الله عليه وسلم إعجاباً جماً، ورأى فيه خيراً كثيراً.(44/9)
إسلام وفد ثقيف
بعد عدة أيام استمع وفد ثقيف إلى الإسلام، ورأى أحوال المسلمين، وطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يسلموا، لكن كان عندهم بعض الشروط يريدونها من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذه الشروط توضح أنهم لم يريدوا الإسلام حباً فيه، ولكن جاءوا رهباً منه ورغباً في المصالح من ورائه.
قال زعيمهم عبد ياليل بن مسعود: أفريت الزنا، فإنا قوم نغترب ولا بد لنا منه؟ يعني: هم يريدون أن يستحلوا الزنا، مع علمهم أن من تعاليم الإسلام تحريم الزنا، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام هو عليكم حرام؛ فإن الله عز وجل يقول: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا} [الإسراء:32].
يعني: هذا حد من حدود الله سبحانه وتعالى، ولا يمكن أبداً أن يتنازل عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، مع أن إسلام ثقيف إضافة ضخمة جداً للدولة الإسلامية، لكن لا يمكن أبداً أن يفرط الرسول صلى الله عليه وسلم في أي أمر من أوامر الله سبحانه وتعالى.
فقال عبد ياليل: أفريت الربا؛ فإنه أموالنا كلها؟ قال صلى الله عليه وسلم: لكم رءوس أموالكم، فإن الله تعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة:278].
أيضاً رفض تحليل الربا.
فقال زعيمهم: أفريت الخمر؛ فإنه عصير أرضنا لا بد لنا منه؟ يعني: يريدون أن يحلوا أي شيء من المحرمات التي في الإسلام، فهذا يدل على أنهم لم يسلموا رغباً في الإسلام، لكن ظروف الجزيرة العربية في ذلك الوقت دفعتهم إلى هذا الإسلام، قال صلى الله عليه وسلم: إن الله قد حرمها.
وقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة:90].
هذه أمور ثلاثة حاولوا أن يحذفوها من الإسلام، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان واضحاً تمام الوضوح، وكان حازماً تمام الحزم، لا مساومة في الدين، ولا التقاء في منتصف الطريق إذا كان الأمر يخص العقيدة والحلال والحرام، ولم يسع إلى تأليف قلوبهم عن طريق حذف أو تبديل في الشريعة.
قام وفد ثقيف للتشاور، سنعمل فقال بعضهم لبعض: ويحكم إنا نخاف -إن خالفناه- يوماً كيوم مكة.
يعني: لو رفضوا أن يأخذوا الإسلام كاملاً دون حذف ولا تبديل فقد يغزوهم في يوم من الأيام، ويحدث لهم ما حدث لأهل مكة، فأتوا الرسول عليه الصلاة والسلام وقالوا: نعم لك ما سألت، ثم قالوا: أرأيت الربة؟ لا زالت هناك محاولات أخرى لحذف بعض الأمور من الدين الإسلامي، قالوا: أريت الربة ماذا نصنع فيها؟ الربة هي اللات وهي الصنم المعبود في الطائف، وكانت من أعظم أصنام العرب، والجميع كان يقسم بها ويهدي إليها ويذبح عندها ويعتقد فيها، فأجاب الرسول عليه الصلاة والسلام إجابة حاسمة لا مجاملة فيها، قال: اهدموها.
ففزع أهل ثقيف وقالوا: هيهات لو تعلم الربة أنك تريد هدمها لقتلت أهلنا.
فكان عمر بن الخطاب حاضراً هذه المفاوضات فقال: ويحك يا عبد ياليل إن الربة حجر لا يدري من عبده ممن لا يعبده، فرد عليه عبد ياليل وقال: إنا لم نأتك يا عمر.
يعني: ليس هذا من شأنك.
لكن لم يجد أهل ثقيف بداً من هدم اللات، وأصر الرسول عليه الصلاة والسلام على هدمها، لكنهم بدءوا يسامون على توقيت هدم اللات، فطلبوا من الرسول عليه الصلاة والسلام أن يدع اللات ثلاث سنين قبل أن يهدمها، فأبى صلى الله عليه وسلم، فقالوا: سنتين، فأبى، فقالوا: سنة، فأبى، فقالوا: شهراً واحداً، فأبى صلى الله عليه وسلم، فأسقط في أيدهم، وقالوا في يأس: تولى أنت هدمها، أما نحن لا نهدمها أبداً، فقال صلى الله عليه وسلم: فسأبعث إليكم من يكفيكم هدمها.
وقبل أن يقوموا طلبوا طلباً أخير وهو أن يعفيهم صلى الله عليه وسلم من الصلاة يعني: مفهوم الدين عندهم غير واضح، وهذا نتيجة أن الأصنام لا تشرع منهجاً ولا تضع قانوناً، فكان عليهم أن يضعوا قوانينهم بأنفسهم، وهو الشيء الذي يسمونه الآن: القوانين الوضعية، لذلك جاءت أسئلة ثقيف مضحكة طفولية؛ لغياب مفهوم الدين الصحيح من أذهانهم، فهم كانوا يفهمون أن الدين مجرد قرابين وذبح ومجرد عبادة للات دون التدخل في حياتهم، لكن الدين الصحيح حقيقة كما أراده الله عز وجل، هو ما جاء في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162]، فكل دقيقة وصغيرة وكبيرة في الحياة يدخل فيها الدين وله فيها رأي، وهو ما لم تفقهه ثقيف في هذه اللحظة.
لكن الرسول عليه الصلاة والسلام رفض الإعفاء من الصلاة، وقال لهم: (لا خير في دين لا صلاة فيه)، وبهذا أقر وفد ثقيف بكل ما أمر به صلى الله عليه وسلم، وقرروا العودة إلى الطائف على أن(44/10)
تأمير الرسول صلى الله عليه وسلم لعثمان بن أبي العاص على الطائف
هذا موقف لا بد أن نعلق عليه لأهميته، وهو أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمَّر على هذا الوفد وعلى ثقيف بكاملها عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه مع أنه أصغر القوم؛ وذلك لشدة حرصه على التعلم، وحسن فهمه ودقة نظرته، وكفاءته القيادية.
فالرسول عليه الصلاة والسلام تعامل مع قضية الطائف تماماً كما تعامل مع قضية مكة، ولى شاباً لم يتلوث فكره كثيراً بالأفكار الوثنية القديمة، وعزل عبد ياليل صاحب التاريخ الطويل في الصد عن سبيل الله؛ ولأنه قد وضح من خلال الحوار أنه غير مقتنع تمام الاقتناع بتشريعات الإسلام، ومن ثم قد ينحرف بثقيف عن الفهم الصحيح للإسلام؛ من أجل هذا عزله وولى عثمان بن أبي العاص تماماً كما عزل أبا سفيان وولى عتاب بن أسيد رضي الله عنه الشاب الصغير على إمارة مكة.
وهذا يوضح لنا قيمة الشباب في الإسلام، وإمكانيات الشباب الهائلة التي كان يقدرها صلى الله عليه وسلم.
أيضاً تعامل الرسول عليه الصلاة والسلام مع ثقيف كما تعامل مع شعب مكة فقد عفا عنهم أجمعين برغم التاريخ السيئ الذي مر به المسلمون مع الطائف، ليثبت لنا وللجميع أن منهج العفو هو منهج أصيل في الإسلام، ولم يكن حدثاً عابراً خاصاً بمكة المكرمة.(44/11)
هدم صنم اللات بالطائف
عاد وفد ثقيف إلى الطائف، وبعد محاورات وجدال مع ثقيف قبلت ثقيف بالإسلام، وبعدها بقليل جاءت السرية الإسلامية المكلفة بهدم صنم اللات، وكان على رأسها ثلاثة من أبطال المسلمين، كل واحد منهم له دلالة خاصة جداً.
البطل الأول: خالد بن الوليد رضي الله عنه، سيف الله المسلول وأعظم القواد للجيش الإسلامي؛ ولأن المهمة شديدة الخطورة تحتاج إلى رجل كفء لا يهاب الموت، ودخول الطائف وهدم صنم اللات أمر غير مأمون مطلقاً؛ لذلك لا بد أن يكون هناك أحد صناديد الإسلام على رأس هذه السرية.
البطل الثاني: المغيرة بن شعبة الثقفي وهو من ثقيف، وأهل الطائف أدرى بشعابها، وسيقف البطن الذي ينتمي إليه المغيرة بن شعبة الثقفي من قبيلة ثقيف، وهو بطن بني معتب سيقف في حراسة المسلمين وهم يهدمون الصنم؛ لكي لا يتهور أحد ويقتل المغيرة بن شعبة، كما حدث قبل ذلك مع عروة بن مسعود الثقفي، يعني: هناك أخذ بالأسباب لحماية الوفد قدر المستطاع.
البطل الثالث: أبو سفيان بن حرب رضي الله عنه، وكان قد حسن إسلامه، وأصبح قوة أدبية وسياسية كبيرة جداً في الدولة الإسلامية، وفي هذا إشارة واضحة جداً لكل العرب أن يذهب زعيم الوثنية السابق في الجزيرة العربية أبو سفيان بعد أن أسلم لهدم صنم الطائف، بعد أن هدمت أصنام مكة وغيرها قبل ذلك.
ودخلت السرية الإسلامية الطائف، واجتمع أهل الطائف جميعاً لرؤية ما سيحدث لصنمهم، وهناك أناس كثيرون كانوا يظنون أن الربة (اللات) ستنتقم لنفسها، فهم ما زالوا إلى الآن في شك من الإسلام واعتقاد في اللات، وما هي إلا لحظات حتى سقطت اللات تحت معاول أبطال المسلمين، وتجلت الحقيقة التي غابت عن عيون وأذهان أهل الطائف عشرات بل مئات السنين، وأدركوا أنه قد آن الأوان للانتقال من الظلمات إلى النور، ومن الكفر إلى الإيمان.
إذاً: إسلام الطائف كان جائزة كبيرة جداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد صبر سنوات طويلة جداً، وأوذي من الطائف أشد الإيذاء، ومع ذلك ظلت رسالته نقية، والعاقبة للمتقين.
ومرت الأيام والسنوات وذهب الألم وبقي الأجر إن شاء الله، وأثمر جهدُ السنين إسلامَ مدينة عظيمة ثابتة على الإسلام وهي الطائف.
وبعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام ارتدت جزيرة العرب إلا ثلاث مدن فقط في الجزيرة العربية، كان منها الطائف، لتحقق الأمنية الصادقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يخرج الله عز وجل من أصلابهم من يشهد أنه لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
ما أعظمها من أمنية، وما أسعده من نصر تحقق ورآه صلى الله عليه وسلم بعينيه، وما أجملها من نهاية لقصة إسلام مدينة الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إذاً: كان هذا هو الوفد الأول الذي جاء إلى المدينة المنورة بعد عودة الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة من تبوك.(44/12)
وفد بني سعد بن بكر من هوازن
الوفد الثاني في غاية الأهمية أيضاً، مع أن الذي جاء فيه رجل واحد فقط، ومع أنه مكون من رجل واحد إلا نفعه كان عظيماً جداً، ويؤكد على هذا المعنى عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: ما سمعنا بوافد قوم كان أفضل من هذا الوافد.
وهذا الوافد كان وافد بني سعد بن بكر من هوازن، ومعظم قبيلة بني سعد أسلمت بعد موقعة حنين، لكن بقيت منها بعض البطون، كان منها هذا البطن الذي جاء منه هذا الوافد، وهذا الوافد كان أعرابياً فيه شيء من الغلظة والجفاء، إلا أنه كان ذكياً جداً، كان عاقلاً، وكان إيجابياً على مستوى عال من الفهم وحسن التصرف.
وقصة هذا الوافد جاءت في صحيح البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأحمد والحاكم وأبي داود.
وحاولت أن أجمع لكم قدر المستطاع تفاصيل القصة من هنا وهناك لتكمل الفائدة: جاء هذا الرجل إلى المدينة المنورة والرسول عليه الصلاة والسلام جالس وسط أصحابه، فقال: أيكم محمد؟ هكذا باسمه، يقول أنس بن مالك: وكان النبي صلى الله عليه وسلم متكأ بين ظهرانيهم.
انظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو القائد المهاب والزعيم المنتصر، والذي دانت له كل القبائل، وواجه الرومان، يجلس بين أصحابه في تواضع، بحيث إن الغريب لا يميزه من بين عامة الأصحاب والجنود والأتباع.
لا نرى مثل هذه المواقف إلا في أمة الإسلام.
نحن لا نعرف من هو هذا الرجل، ولا الصحابة أنفسهم يعرفونه، قال الرجل: (يا ابن عبد المطلب! قال صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، قال الرجل: إني سائلك فمشدد عليك في المسألة فلا تجد علي في نفسك -يعني: لا تغضب مني، فهو يتكلم بحدة وبشدة- فقال صلى الله عليه وسلم في تواضع جم: سل عما بدا لك، قال الرجل: يا محمد! أتانا رسولك فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك، قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فمن خلق السماء؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فمن خلق الأرض؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال صلى الله عليه وسلم: الله، قال الرجل: فبالذي خلق السماء وخلق الأرض ونصب هذه الجبال آلله أرسلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا زكاة في أموالنا، تؤخذ من أغنيائنا فتقسم في فقرائنا، قال صلى الله عليه وسلم: صدق، قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا صوم شهر رمضان في سنتنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: صدقك.
قال الرجل: فبالذي أرسلك آلله أمرك بهذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال الرجل: وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً، قال صلى الله عليه وسلم: صدق.
قال أنس بن مالك رضي الله عنه: فقال الرجل: آمنت بما جئت به، وأنا رسول من ورائي من قومي، وأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر.
قال أنس: ثم قال: والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن، ثم ولى، فقال صلى الله عليه وسلم: لئن صدق ليدخلن الجنة).
هذه الفروض إن قام بها الرجل دون نقص فإنها طريق إلى الجنة، أما النوافل فهي ترفع من درجات العبد في الجنة، أو تجبر كسر الفروض المنقوصة، وهذا هو يسر الإسلام، وهذا هو جمال الإسلام.
فذهب ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه إلى قومه بهذه المعلومات التي يعرفها عامة المسلمين رجالاً ونساءً بل وأطفالاً، فماذا فعل؟ لقد عاد ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه وأرضاه مسرعاً إلى قومه، فاجتمع حوله الناس فكان أول ما تكلم به أن قال: بئست اللات والعزى، قالوا: مه يا ضمام! اتق البرص والجذام، اتق الجنون، قال: ويلكم إنهما والله لا يضران ولا ينفعان، إن الله عز وجل قد بعث رسولاً وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، إني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه.
فماذا كانت النتيجة؟ يقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: فوالله ما أمسى من ذلك اليوم وفي حاضره رجل ولا امرأة إلا مسلماً.
تصوروا بهذه المعلومات اليسيرة القليلة غيّر ضمام من واقع قبيلة بكاملها، وهدى الله عز وجل به أقواماً، فهم جميعاً في ميزان حسناته، والدال على الخير كفاعله.
هذا الذي فعله ضمام يمنع أياً منا من أن يعتذر؛ بأنه غير مؤهل للدعوة، ولا يمتلك العلم الكافي، ولا نقول لك: أفتِ الناس بما لا تعلم، لكن ما تعلمه وتظنه قليلاً هو بالنسبة لغيرك كثير كثير، ولنا في(44/13)
وفد نصارى نجران
الوفد الثالث: هو وفد نصارى نجران، نجران بلد كبيرة في جنوب الجزيرة العربية، وكان أهل نجران يدينون بالنصرانية، فأرسلوا وفداً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا الوفد كان فيه أربعة عشر وافداً، وتقول بعض الروايات: إن الوفد وصل إلى ستين رجلاً.
وصل هذا الوفد بهيئة منظمة جداً، وفي صورة منمقة وصلت حد المبالغة، فقد لبسوا الثياب الحريرية وتحلوا بالذهب، والرسول عليه الصلاة والسلام يحرم هذه الأمور على الرجال، فكره صلى الله عليه وسلم أن يتكلم معهم وهم بهذه الصورة، وأجلهم يوماً، فجاءوا في اليوم الثاني وهم يلبسون لبس الرهبان، فبدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في الحوار معهم، وهذا الوفد لم يكن من نيته ولا من همه أن يسلم أو يفكر في الإسلام، وإنما أتى ليناظر الرسول عليه الصلاة والسلام ويجادله من ناحية، وأتى ليبهره ويبهر المسلمين من ناحية أخرى؛ لهذا فالحوار معهم كان على صورة مختلفة كثيراً عن الحوار مع الوفود الأخرى.
فقد عرض الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم الإسلام، ولكنهم رفضوا وقالوا: كنا مسلمين قبلكم، هذه الكلمة صحيحة لو كانوا متبعين لكتبهم الأصيلة دون تبديل ولا تحريف، وفي هذه الكتب غير المحرفة بشارة برسولنا صلى الله عليه وسلم، وعلامات واضحة لنبوته، وأدلة دامغة على صدقه، لذلك فعلماء اليهودية والنصرانية يعرفون الرسول صلى الله عليه وسلم، ويعرفون علاماته، ويوقنون بصدقه وبوجوب اتباعه، من أجل هذا يقول سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الشعراء:197]، لكن منعهم الكبر والمصالح والدنيا والهوى والحسد، وأشياء كثيرة جداً منعتهم من الإسلام.
من أجل هذا أنكر الرسول عليه الصلاة والسلام عليهم كلمة (كنا مسلمين قبلكم)، وذكر لهم أنهم يحرفون دينهم في أمور كثيرة، وهذا التحريف يتنافى مع الإسلام، والإسلام معناه: أن يسلم الإنسان نفسه تماماً لله عز وجل، ويسلم نفسه لتشريعات الله عز وجل وقوانينه، ولا يسلم نفسه لأهوائه الشخصية أو مصالحه الخاصة.
قال لهم الرسول عليه الصلاة والسلام: (يمنعكم من الإسلام ثلاثة: عبادتكم الصليب، وأكلكم لحم الخنزير، وزعمكم أن لله ولداً)، هذه أمور ثلاثة حرفتموها في الإنجيل، ولن تسلموا فيها لله رب العالمين، ولا يستقيم أن تطلقوا على أنفسكم مسلمين قبل أن تتركوا هذا الاعتقاد الفاسد، وللأسف هذا اعتقاد جازم عند معظم النصارى، وهو يمنعهم من التفكير في الإسلام.
وهناك أمر غريب جداً كنت دائماً استقربه ولم أفهمه إلا بعدما قرأت حوار الرسول صلى الله عليه وسلم مع وفد نصارى نجران، وهو أنه عند نزول المسيح عليه السلام قبل يوم القيامة يجعل من مهمته أن يصحح هذه الأمور التي ألصقت بدينه ولم تكن فيه.
انظروا إلى الحديث الذي رواه أحمد وابن حبان عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً مقسطاً، يكسر الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).
وكما ذكرنا أن وفد نجران لم يكن يريد الإسلام، من أجل ذلك كثر الجدال بينه وبين الرسول عليه الصلاة والسلام، وكثر إلقاء الشبهات والرد عليها، وكان مما قالوه: (ما لك تشتم صاحبنا؟ -يقصدون عيسى عليه السلام- وتقول: إنه عبد لله عز وجل، فقال صلى الله عليه وسلم: أجل إنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول).
هذا ليس انتقاصاً أبداً من عيسى عليه السلام، بل العبودية لله تشريف، وهو رسول من أولي العزم من الرسل، وهو كلمة الله ألقاها إلى مريم عليها السلام، والتي نكرمها ونجلها، وننفي عنها أي شبهة سوء، فنقول: إنها مريم العذراء البتول، لكن النصارى يبالغون في تكريم المسيح عليه السلام حتى خرجوا به عن طبيعته إلى طبيعة أخرى، فقالوا: هو الله، وقالوا: هو ابن الله، وقالوا: ثالث ثلاثة، وكلها مبالغات غير مقبولة، إنها عقيدة فاسدة دفعهم إليها الحب والتقديس الزائد عن الحد المطلوب، من أجل هذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام حريصاً عند موته على إبراز هذا المعنى؛ حتى لا يتجاوز المسلمون الحب المفروض له إلى الحب الذي يقود إلى ضلال وكفر، فيخرجون بطبيعة الرسول إلى غيرها، فقد كان الرسول عليه الصلاة والسلام وهو على فراش الموت يقول: (لعن الله اليهود والنصارى؛ اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)، رواه البخاري ومسلم.
ولكون النصارى في وفد نجران لا يتنازلون عن هذا الاعتقاد الفاسد، فإنهم غضبوا من وصف عيسى عليه السلام بالبشرية والعبودية وقالوا: هل رأيت إنساناً قط من غير أب، فإن كنت صادقاً فأرنا مثله؟ فأنزل الله عز وجل الحجة الدامغة، حيث ضرب لهم مثلاً يوضح حقيقة عيسى عليه السلام، قال الله عز وجل: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَ(44/14)
حج أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالناس
في آخر السنة التاسعة من الهجرة أرسل الرسول عليه الصلاة والسلام وفداً من المسلمين للحج، وأمر على الناس أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، والسبب في أنه صلى الله عليه وسلم لم يذهب بنفسه: أن الحج في تلك السنة كان مفتوحاً للمسلمين والمشركين سوياً، وأُخبر عليه الصلاة والسلام أن المشركين يحضرون ويطوفون بالبيت عراة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك.
وخرج وفد الحج إلى مكة المكرمة بقيادة الصديق رضي الله عنه، وبعد خروج الوفد سبحان الله! نزل صدر سورة براءة ببعض التشريعات الهامة جداً في تعامل المسلمين مع المشركين، فيها إعلان مصيري بالنسبة لكل مشرك في الجزيرة العربية؛ من أجل هذا أمر الرسول عليه الصلاة والسلام علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يحمل هذه الآيات وينطلق بها إلى مكة المكرمة؛ ليقرأها على أسماع المشركين في الجزيرة العربية، يقول سبحانه: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ * وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التوبة:1 - 5].
تستمر الآيات على هذا النسق تحمل تشريعات تلو التشريعات في بيان في غاية الأهمية.
وبعد قراءة هذه الآيات كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه ينادي في الناس بأمور أربعة: كان يقول: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته، ولا يحج بعد العام مشرك.
هذه الآيات تحتاج إلى تفصيل كبير وتعليقات كثيرة، لكن بإيجاز: هذا إعلان مباشر للمشركين أنه بعد انقضاء الأجل المضروب في الآيات، فإن الحرب معلنة عليهم بوضوح وقوة، وليس أمامهم إلا خيار من اثنين: إما القتال ومواجهة المسلمين، وإما الإسلام.
إذاً: المقصود بهذه الآيات هم مشركو الجزيرة العربية، فقد كانت الحرب بينهم وبين المسلمين معلنة ومستمرة لأكثر من عشرين سنة متصلة، فقد اجتمعوا جميعاً على حرب المسلمين، قال الله عز وجل: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة:36]، وعلة قتال المشركين كافة أنهم يقاتلون المسلمين كافة، ومن هنا فإنه لا يجوز للمسلم أن يقاتل من لم يقاتله إلا بعلة واضحة، كسلب أو نهب أو اغتصاب لحقوق المسلمين، أو بسبب منعهم للمسلمين من نشر دينهم وإيصاله إلى غيرهم، وبدون هذه الأمور يصبح قتال المشركين غير جائز، ومن ثم فقتال مشركي العالم جميعاً ليس منطقياً، وإنما يقاتل المسلمون بعض مشركي العالم الذين قاموا بما ذكرناه من أمور.
وواقع المسلمين بعد نزول هذه الآيات وفي زمن الخلفاء الراشدين بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام يصدق هذا الأمر، فالمسلمون في فتوحاتهم لم يقاتلوا كل المشركين الذين قابلوهم، وإنما كانوا يقاتلون من قاتلهم من جيوش البلاد المفتوحة، وكانوا يتركون بقية المشركين على دينهم إلى أن يختاروا هم بإرادتهم الإسلام إن أرادوا ذلك.
هذا واقع رأيناه بأنفسنا في كل الفتوحات الإسلامية، وما وجدنا رجلاً واحداً -فيما أعلم- قتل فقط لكونه مشركاً، وعلى هذا يحمل حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أنه لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله)، يحمل على قتال مشركي العرب.
ولا تعارض بين هذه الأحكام الخاصة بمشركي العرب والآية الكريمة: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة:256]؛ فقوله: (لا إكراه في الدين) عام في كل البشر إلا هؤلاء المشركين من العرب، ليس لأنهم العرب، ولكن لكونهم محاربين للرسول عليه الصلاة والسلام ولدولته، وهذه الحرب كما ذكرنا معلنة منذ قديم.
والأصل في الأمور أن الحرب ما زالت مستمرة، وقد أعلن المسلمون أنهم سيستمرون في الحرب مع مشركي العرب، ولن يتم إيقاف الحرب حت(44/15)
سلسلة السيرة النبوية_الوداع
تمت أعمال الدعوة وإبلاغ الرسالة، وبناء مجتمع جديد، وشعر صلى الله عليه وسلم أن مقامه في الدنيا قد أوشك على النهاية، وشاء الله أن يري رسوله صلى الله عليه وسلم ثمار دعوته التي عانى في سبيلها ألواناً من المتاعب ثلاثة وعشرين عاماً، فاجتمع بأفراد قبائل العرب وممثليها في حجة الوداع، ليأخذوا منه شرائع الدين وأحكامه، وليشهدوا له أنه أدى الأمانة، وبلغ الرسالة، ونصح الأمة.(45/1)
حجة الوداع
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم.
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد: فمع الدرس السابع عشر من دروس السيرة النبوية: العهد المدني: فترة الفتح والتمكين.
في الدرس السابق تعرفنا على النتائج العظيمة لغزوة تبوك ورأينا قدوم الوفود الكثيرة إلى المدينة المنورة لتعلن إسلامها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لكل شيء نهاية، ولكل أجل كتاب، ولكل قصة خاتمة، وكثيراً ما نرى أن عمر الإنسان ينتهي دون أن يرى حلمه يتحقق، أو دون أن يشاهد خطة تنجح، لكن من سعادة الإنسان حقاً أن يطيل الله عز وجل في عمره حتى يرى ثمار عمله، ونتيجة جهده، فيسعد لذلك أيما سعد، ويشعر أن تعب السنين لم يذهب هباء منثوراً، نعم، لا يشترط للإنسان المخلص أن يرى نتيجة كده وتعبه، ولكن لا شك أنها نعمة من الله عز وجل ومنة عظيمة لا تقدر بثمن.
وقد عاش الرسول عليه الصلاة والسلام حتى رأى الجزيرة العربية بكاملها تقريباً تدخل في الإسلام، وتقر به، بعد حرب ضروس، بعد مقاومة عنيفة شديدة، ها قد دخل الناس في دين الله أفواجاً، ها قد مكن للإسلام وارتفعت راية التوحيد في كل مكان، ها قد عادت الكعبة المشرفة إلى حقيقتها، صارت كما كانت أيام إبراهيم عليه الصلاة والسلام يوحد فيها الله عز وجل، ولا يشرك به أحد أبداً.
لا أستطيع وصف سعادة الرسول عليه الصلاة والسلام الصلاة والسلام بكل هذا الخير.
وكان الرسول عليه الصلاة والسلام يسعد إذا رأى رجلاً واحداً يؤمن، كان يقول: (لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم).
فها هو الآن لا يرى رجلاً ولا رجالاً يؤمنون، بل يرى الجموع الغفيرة والقبائل العظيمة والبلاد الكثيرة تدخل في دين الله أفواجاً.
فهذا التمكين يحمل معنى آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولعموم المسلمين وهو أن مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم قد أشرفت على الانتهاء، ومهمة الرسول عليه الصلاة والسلام كانت البلاغ، وها قد تحققت مهمته على الوجه الأكمل، ووصلت رسالته بيضاء نقية إلى كل الجزيرة العربية، بل وتجاوزت ذلك إلى ممالك العالم القديم، ووصلت الدعوة إلى فارس والروم ومصر واليمن والبحرين وعمان وغيرها، واكتملت كل بنود الشرع الحكيم.
وإذا كان قد حدث ذلك فمعناه: أن حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قاربت هي الأخرى على الانتهاء.
ومع كل الألم الذي يصاحب النفس عند تصور ذلك، إلا أن الواقع يخبر أن لكل شيء نهاية، ولكل أجل كتاباً، ولكل قصة خاتمة.
ففي أواخر العام العاشر من الهجرة كان واضحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولصحابته أن أجل الحبيب صلى الله عليه وسلم قد اقترب، ومن رحمة رب العالمين سبحانه وتعالى أنه مهد لهذا الموت بأحداث ومواقف وبعبارات كثيرة؛ وذلك ليهون على المسلمين مصابهم الفادح، ففتح مكة وإسلام هوازن وثقيف وقدوم الوفود تلو الوفود على المدينة المنورة كل ذلك علامة من علامات اقتراب الأجل، وأن المهمة قاربت على الانتهاء.
كذلك في شهر رمضان من السنة العاشرة من الهجرة اعتكف صلى الله عليه وسلم عشرين يوماً بدلاً من عشرة أيام كان معتاداً عليها، كل هذا كان تمهيداً لأمته أنه سيعتزلها ويبتعد عنها مدة أطول من المدة المعتادة، سيأتي وقت يبعد عنها بجسده تماماً، وإن كان سيظل بروحه وسنته وأقواله وأفعاله وتوجيهاته معهم إلى يوم القيامة.
وفي شهر رمضان أيضاً راجعه جبريل عليه السلام القرآن مرتين، بدلاً من مرة واحدة.
وفي شهر شوال توفي ابنه إبراهيم عليه السلام، ومع أن البعض كان يتمنى أن لو بقي شيء من عقبه صلى الله عليه وسلم ليذكرنا به، لكن هذه حكمة ورحمة من رب العالمين سبحانه وتعالى، فنحن رأينا مغالاة الشيعة في أحفاد الرسول صلى الله عليه وسلم من ابنته فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، ما بالك لو عاش له ولد، وكان له عقب ينتهي نسبهم إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لا شك أنها كانت ستتحول إلى فتنة عصمنا الله منها، ولله الحمد والمنة.
أيضاً في هذه الأيام بعث صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه إلى اليمن، وقال له: يا معاذ إنك عسى ألا تلقاني بعد عامي هذا، أو لعلك أن تمر بمسجدي هذا أو قبري.
هذه إشارات في منتهى الوضوح إلى أن أجله صلى الله عليه وسلم قد اقترب.
وفي شهر ذي القعدة من نفس السنة العاشرة بدأ صلى الله عليه وسلم في الاستعداد للقيام بالحج، للمرة الأولى والأخيرة في حياته صلى الله عليه وسلم، وهي الحجة التي عرفت في التاريخ بحجة الوداع.
ودعا إليها القبائل المختلفة من كل أنحاء الجزيرة العربية، وتجاوز المسلمون الذين حضروا هذه الحجة مائة ألف مسلم، وذكر بعض الرواة أن عدد المسلمين في هذه الحجة كان يزيد على (14000) من المس(45/2)
وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم في خطبه في حجة الوداع
كانت حجة الوداع من أهم المعسكرات الإيمانية التي عاشها الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم مع الرسول عليه الصلاة والسلام لعدة أيام، ومن أسعد اللحظات، فقد علمهم وأدبهم وأرشدهم ووضح لهم الطريق وبين لهم المعالم فيها، فهذه الحجة لم تكن مجرد أداء لفريضة، بل وضعت فيها وبوضوح القواعد التي عليها تبنى الأمة الإسلامية، والأمور التي بها تحافظ الأمة الممكنة على تمكينها في الأرض.
وخطب الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الحجة ثلاث خطب، في ثلاثة مواضع مختلفة، في هذه الخطب بصر صلى الله عليه وسلم الأمة التي كتب الله عز وجل لها التمكين بما يحفظ لها هذا التمكين ويقويه، وهذه الحجة العظيمة، تحتاج إلى دراسة خاصة، وإلى تفريغ جهد ووقت، لعل في هذه المحاضرات لا يتسع الوقت لتحليل حجة الوداع، وسنفرد إن شاء الله لها محاضرة خاصة أو محاضرتين، نتحدث فيهما عن الدروس المستفادة والقواعد الهامة المستنبطة من هذه الحجة العظيمة.
لكن في هذا الدرس سنمر سريعاً على بعض الوصايا التي حرص صلى الله عليه وسلم أن يوجهها إلى أمته.
الوصية الأولى: دستور المسلمين هو الكتاب والسنة، والاعتصام بهما يحمي من الضلال ويحفظ الأمة، ويقود إلى الجنة، يقول صلى الله عليه وسلم: (وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي).
الوصية الثانية: الوحدة بين المسلمين على أساس الدين والعقيدة، لا على أساس العرق والعنصر، يقول صلى الله عليه وسلم: (تعلمون أن كل مسلم أخ للمسلم).
ويقول: (يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى).
الوصية الثالثة: العدل، والعدل المطلق، فلا تقوم أمة ولا تستمر وهي ظالمة، مع وصية خاصة بالنساء، فقال صلى الله عليه وسلم: (أيها الناس إن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً).
الوصية الرابعة: التحذير من الذنوب، والتنبيه على أن ما يحتقره العبد من الذنوب قد يؤدي إلى هلكته، والتحذير من الشيطان، قال صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكن ستكون له طاعة فيما تحتقرون من أعمالكم، فسيرضى به، فاحذروه على دينكم).
الوصية الخامسة: أن الاقتصاد الإسلامي ليس فيه مشروعية للربا، يقول صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن ربا الجاهلية موضوع).
وفي رواية يقول: (قضى الله أنه لا ربا).
هكذا وضع ربا الجاهلية جميعها.
الوصية السادسة: البلاغ، مهمة هذه الأمة البلاغ، وأن تحمل رسالة رب العالمين سبحانه وتعالى إلى العالمين، قال صلى الله عليه وسلم: (فليبلغ الشاهد الغائب، فرب مبلغ أوعى من سامع).
وأكثر صلى الله عليه وسلم من قوله: (ألا هل بلغت، اللهم فاشهد، ألا هل بلغت اللهم فاشهد).
إذاً: مهمة الأمة الإسلامية: أن تحمل الرسالة إلى كل العالم.
الوصية السابعة: تأصيل مبدأ التيسير في الدين، وأن الشريعة كلها يسر، فقد أكثر صلى الله عليه وسلم في هذه الحجة من قوله: (لا حرج، لا حرج، افعل ولا حرج، افعل ولا حرج).
وليت المسلمين يفقهون طبيعة هذا الدين، إن طبيعة هذا الدين هي اليسر: (إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه).
الوصية الثامنة: السمع والطاعة لأمير المسلمين ما دام يحكم بكتاب الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (اسمعوا وأطيعوا، وإن أمر عليكم عبد حبشي، ما أقام فيكم كتاب الله عز وجل).
الوصية التاسعة: أن الشرع يطبق على الحاكم كما يطبق المحكومين، ليس هناك استثناء أمام القانون قال صلى الله عليه وسلم (ودماء الجاهلية موضوعة، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب).
ابن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقال عن الربا: (وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبد المطلب، فإنه موضوع كله).
إذاً: تطبق الشريعة على الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه، وهو زعيم هذه الأمة، وعلى عموم الشعب بكامله ليس هناك استثناء.
الوصية العاشرة: على الدولة الصالحة أن تأخذ بيد شعبها إلى الجنة، وليس فقط أن توفر لهم سبل المعاش المريح، والحياة الرغيدة، قال صلى الله عليه وسلم: (وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت).
الدولة العلمانية لا تنظر مطلقاً إلى هذه النقطة، فليذهب الشعب إلى الجحيم إن أراد ذلك، المهم عندها قيم في الدنيا، لكن الدولة الإسلامية لا تنظر للشعب هذه النظرة الآنية السطحية التافهة، وإنما وظيفتها الأولى أن تسعى حثيثاً لهداية الناس إلى رب دين العالمين سبحانه وتعالى، ومن أدوارها أن تدعو شعبها بل وتدعو العالم كله إلى دخول الجنة، فتلك عشر كاملة.
لا شك أن كل وصية من هذه الوصايا تحت(45/3)
رجوع الرسول صلى الله عليه وسلم من حجة الوداع وتجهيزه جيش أسامة
بعد هذه الحجة رجع الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة المنورة، ومكث فيها بقية ذي الحجة والمحرم وصفر من السنة الحادية عشرة للهجرة، وفي شهر صفر بدأ الرسول عليه الصلاة والسلام في إعداد بعث حربي جديد للشام، لقتال الرومان؛ لأن الرومان قتلوا والي معان عندما أسلم، فكان لا بد من رد حاسم، وهذا هو الإعداد الثالث لمجابهة الدولة الرومانية العظمى: الأول: كان في مؤتة، والثاني: كان في تبوك، والثالث: بعث جيش أسامة بن زيد هذا.
وأمر صلى الله عليه وسلم على هذا البعث أسامة بن زيد بن حارثة رضي الله عنهما، فالرسول صلى الله عليه وسلم يلفت أنظارنا بهذا الفعل إلى أمرين مهمين: الأول: ليس من المهم من هو القائد، ولا نسب القائد، ولا عمر القائد، المهم هو كفاءة القائد، وأنه يحتكم في كل أموره إلى كتاب الله عز وجل، وإلى سنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
والقائد في هذه المعركة أسامة بن زيد هو ابن مولى كان يباع ويشترى، وهو زيد بن حارثة رضي الله عنه وأرضاه.
وفي نفس الوقت كان عمره ثماني عشرة سنة، أو حتى لم يبلغ الثامنة عشرة سنة، ومع ذلك يتولى قيادة هذا الجيش العظيم.
الأمر الثاني: أن طاقات الشباب هائلة، والرسول عليه الصلاة والسلام بأي حال من الأحوال لا يضيع جيشه، ولا يخاطر بمصير أمته بزعامة لا تتصف بكفاءة، وبخاصة أن الصراع القادم سيكون مع أعتى قوة في الأرض في زمانهم، ولو لم يكن صلى الله عليه وسلم موقناً تمام اليقين أن أسامة بن زيد رضي الله عنهما أهل لهذه المهمة لما ولاه، لا سيما أنه كان تحت إمرة أسامة مجموعة فذة من القادة العسكريين، ومن السابقين، ويكفي أن من جنود أسامة رضي الله عنهم في هذه المعركة عمر رضي الله عنه.
وهذا الفعل يبين لنا قيمة وإمكانيات الشباب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وجهز الجيش الهام، وخرج من المدينة المنورة في اتجاه الشام في أواخر شهر صفر سنة إحدى عشرة للهجرة، لكن بعد خروجه مسافة خمسة أميال من المدينة المنورة سمع الجيش بمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتظروا في مكانهم، لم يكملوا الطريق؛ حتى يطمئنوا على صحة الحبيب صلى الله عليه وسلم.(45/4)
إلى الرفيق الأعلى
بدأ مرض الرسول عليه الصلاة والسلام الذي كان في نهايته الوفاة، ويصعب على النفس أن تتصور موت الرسول صلى الله عليه وسلم، فسبحان الله الذي ثبت أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في هذه الفاجعة.
ونحن بعد مرور أكثر من (1400) سنة على موت الرسول عليه الصلاة والسلام لا نستطيع أن نتمالك أنفسنا عند سماع أو قراءة قصة وفاة الحبيب صلى الله عليه وسلم، فقد كانت بلا مبالغة أكبر مصيبة، وأعظم كارثة في تاريخ الأرض منذ خلقها الله عز وجل وإلى يوم القيامة.
ومع كون وفاة الأنبياء بصفة عامة مصيبة كبيرة على أقوامهم، إلا أن مصيبة وفاة الرسول عليه الصلاة السلام كانت أعظم وأجل، ليس فقط لكونه صلى الله عليه وسلم أعظم الأنبياء أو سيد المرسلين وإن كان كذلك صلى الله عليه وسلم، لكن كانت المصيبة الكبرى هي انقطاع الوحي بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم انقطاعاً أبدياً إلى يوم القيامة؛ لأنه لا يوجد نبي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى مدار ثلاثة وعشرين سنة كاملة تعود الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم على نزول الوحي من السماء في كل لحظة، وفي كل ظرف وفي كل أزمة.
رحلة طويلة من الأحداث الساخنة والصاخبة والمعقدة كان الوحي فيها دليلاً للمسلمين وهادياً لهم، ومبصراً لعقولهم، ومطمئناً لأفئدتهم.
فما أعجب الحياة في ظل الوحي! ولا شك أن البشر جميعاً يخطئون، والمؤمن الصادق يعتذر سريعاً عن خطئه ويتوب من قريب، لكن أحياناً تختلط الحقائق مع الأباطيل، فيتوه الصواب بين طرق الخطأ المتشعبة، فتجد الإنسان المسلم يأخذ أحياناً قراراً يحسبه سليماً صحيحاً شرعياً، بينما يكون الحق في خلاف ذلك، يحدث هذا مراراً وتكراراً معنا ومع الناس جميعاً، حتى إننا لا ندري أكنا على حق أم اخترنا الباطل؟ لكن في أيام الوحي كان الوضع مختلفاً عن وضعنا، كان إذا أخطأ الصحابة نزل الوحي يبين لهم الخطأ، ويبصرهم بالطريق، ويوضح الحق من الباطل، فيعلم الصحابة علماً يقينياً حدود الحق وحدود الباطل، حتى عندما كان صلى الله عليه وسلم يختار رأياً خلاف الأولى، كان الوحي ينزل بالتصويب وبترتيب الأوليات، وبتوضيح الفروق الدقيقة جداً بين الصحيح والأصح، وبين الفاضل والمفضول، كانت حياة عجيبة.
نعم، ترك الله عز وجل لنا منهجاً قيماً عظيماً نعرف به الحلال من الحرام ونرتب به الأوليات ترتيباً شرعياً سليماً، لكن ليس ذلك كما كان أيام الوحي.
وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يحبون الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر من حبهم لأبنائهم وإخوانهم وأزواجهم، بل أكثر من أنفسهم، وكلنا نعلم قصة امرأة بني دينار وذكرناها في غزوة أحد، عندما علمت باستشهاد أبيها وأخيها وزوجها في موقعة أحد، فقالت في لهفة: (ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو بخير كما تحبين، قالت: أرونيه، فلما رأته سالماً قالت: كل مصيبة بعدك جلل) يعني: صغيرة يسيرة؛ لذلك كانت مصيبة موت الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم من كل المصائب التي حدثت في الأرض منذ خلقت وإلى يوم القيامة.(45/5)
طلائع التوديع
كيف كانت الأيام الأخيرة في حياته صلى الله عليه وسلم؟ لقد حرص صلى الله عليه وسلم في أيامه الأخيرة على توديع الجميع، حتى إنه لم يودع الأحياء فقط، بل ودع الأموات أيضاً، فقد خرج صلى الله عليه وسلم في أوائل شهر صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة إلى أحد فصلى على الشهداء هناك وودعهم، ومن ثم رجع إلى المدينة المنورة، وصعد المنبر وأوصى الناس كما روى البخاري عن عقبة بن عامر قال: (إني فرطكم - يعني: أنا سابقكم إلى الله عز وجل-، وإني شهيد عليكم، وإني والله لأنظر إلى حوضي الآن، وإني أعطيت مفاتيح خزائن الأرض، وإني والله ما أخاف أن تشركوا بعدي، ولكني أخاف عليكم أن تنافسوا فيها).
وصايا من الرسول عليه الصلاة والسلام إلى أمته في آخر حياته.
وفي أواخره شهر صفر، خرج صلى الله عليه وسلم إلى البقيع حيث يدفن الموتى من أهل المدينة المنورة هو وأبو مويهبة وهو مولى للرسول عليه الصلاة والسلام، روى الإمام أحمد بن حنبل في مسنده والدارمي في سننه عن أبي مويهبة: (أن الرسول صلى الله عليه وسلم جاءه من جوف الليل ذات ليلة فقال: يا أبا مويهبة إني قد أمرت أن أستغفر لأهل البقيع فانطلق معي، يقول أبو مويهبة رضي الله عنه: فانطلقت معه، فلما وقف بين أظهرهم قال: السلام عليكم يا أهل المقابر، ليهن لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح فيه الناس).
يعني: ما أنتم فيه الآن أفضل مما يعيش فيه الناس، ومما هم قادمون عليه.
ثم قال: (لو تعلمون ما نجاكم الله منه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أولها آخرها، الآخرة شر من الأولى، يقول أبو مويهبة رضي الله عنه: ثم أقبل علي صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا مويهبة إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، وخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي عز وجل والجنة، فقال أبو مويهبة: قلت: بأبي وأمي فخذ مفاتيح الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال صلى الله عليه وسلم لا والله يا أبا مويهبة لقد اخترت ربي عز وجل، ثم استغفر لأهل البقيع وبشرهم بقوله: إنا بكم للاحقون، ثم انصرف إلى بيته صلى الله عليه وسلم).(45/6)
بداية مرضه صلى الله عليه وسلم
في اليوم التاسع والعشرين من صفر شهد الرسول صلى الله عليه وسلم جنازة في البقيع، وعند رجوعه من البقيع بدأ المرض الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم، وكان قبل أسبوعين تماماً من وفاته صلى الله عليه وسلم، فقد أصابه صداع شديد في رأسه، وارتفعت درجة حرارته جداً، حتى ربط عصابة على رأسه، وكان الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يشعرون بالحرارة من فوق العصابة.
كان مرض النبي صلى الله عليه وسلم في منتهى الشدة، وكانت السيدة عائشة رضي الله عنها تشعر هي الأخرى بصداع في رأسها، فقالت: (وا رأساه، فقال صلى الله عليه وسلم: بل أنا وا رأساه).
ولعلها المرة الأولى في حياته صلى الله عليه وسلم التي لا يلتفت فيها إلى مرض السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لشدة مرضه هو صلى الله عليه وسلم، ومع مرور الوقت اشتد المرض برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان كعادته ينتقل كل يوم من بيت زوجة إلى بيت أخرى، بحسب دورهن، لكنه مع اشتداد المرض عليه أصبح من الصعب عليه فعلاً أن ينتقل بين الحجرات، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يستقر في بيت إحداهن إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يستقر في بيت أحب زوجاته إلى قلبه، السيدة عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما، لكنه استحيا صلى الله عليه وسلم أن يطلب ذلك من زوجاته؛ لئلا يكسر نفوسهن، فكان يقول صلى الله عليه وسلم: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟ حتى جاء يوم عائشة فسكن صلى الله عليه وسلم).
ففهمن أمهات المؤمنين رضي الله عنه، ومن أدبهن وحبهن له أذن له بالبقاء حيث يحب، فبقي صلى الله عليه وسلم في بيت السيدة عائشة من يوم خمسة من شهر ربيع الأول إلى آخر حياته صلى الله عليه وسلم يعني: بقي: أسبوعاً كاملاً.(45/7)
الأسبوع الأخير
في هذا الأسبوع كان لا يقوى صلى الله عليه وسلم على المسير، فكان يتحامل على الفضل بن عباس وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وكانت قدماه تخط في الأرض لا يقوى على المشي، وكان صلى الله عليه وسلم عاصباً رأسه، وقضى هذا الأسبوع الأخير كما ذكرنا كله في بيت عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
وكان صلى الله عليه وسلم لا يكاد يتكلم في هذا الأسبوع إلا بصعوبة شديدة، حتى قالت السيدة عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت رجلاً اشتد عليه الوجع من رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (أنه دخل على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً، فيقول عبد الله: فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول الله إنك لتوعك وعكاً شديداً؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، فقلت: ذلك أن لك أجرين؟ فقال صلى الله عليه وسلم: أجل.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما من مسلم يصيبه أذى من مرض فما سواه إلا حط الله به سيئات كما تحط الشجرة ورقها).(45/8)
قبل الوفاة بخمسة أيام
في يوم الأربعاء سبعة ربيع أول سنة إحدى عشرة هجرية قبل الوفاة بخمسة أيام ارتفعت درجة حرارة الرسول صلى الله عليه وسلم جداً، واشتد ألم الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أغمي عليه أكثر من مرة، فلما أفاق في إحدى المرات أراد أن يخرج إلى المسلمين حتى يوصيهم، فما استطاع أن يتحرك صلى الله عليه وسلم.
فقال لأهله: (هريقوا علي سبع قرب من آبار شتى، حتى أخرج إلى الناس فأعهد إليهم، فأقعدوه في مخضب عليه الماء، حتى طفق يقول صلى الله عليه وسلم: حسبكم حسبكم، وشعر عند ذلك صلى الله عليه وسلم بخفة، فدخل المسجد وهو معصوب الرأس، وصعد المنبر والناس مجتمعون حوله فقال: لعنة على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد).
هذه إشارة شديدة الوضوح باقتراب أجله صلى الله عليه وسلم.
ثم إنه صلى الله عليه وسلم عرض نفسه للقصاص، فقال: (من كنت جلدت له ظهراً فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عرضاً فهذا عرضي فليستقد منه).
يقول ذلك صلى الله عليه وسلم وهو الذي لم يظلم في حياته قط، بل كان دائم التنازل عن حقه، وما غضب لنفسه قط صلى الله عليه وسلم.
يقول ذلك وهو الذي كان يحب الرفق في كل شيء، وهو الذي لم يتلفظ بفحش ولا سوء، ولا طعن حتى في أشد مواقف حياته صعوبة صلى الله عليه وسلم.
ثم أوصى صلى الله عليه وسلم بالأنصار، فقال: (أوصيكم بالأنصار؛ فإنهم كرشي وعيبتي).
يعني: خاصتي وموضع سري: (وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي لهم، فاقبلوا من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم).
ثم قال صلى الله عليه وسلم بعد ذلك كلاماً مؤثراً غاية التأثير، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن عبداً خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده، فاختار ما عنده، يقول أبو سعيد رضي الله عنه: فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فتعجب الصحابة رضي الله عنهم من بكاء الصديق رضي الله عنه، قال أبو سعيد الخدري: فعجبنا له، قال الناس: انظروا إلى هذا الشيخ -يقصدون أبا بكر الصديق - يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد خيره الله أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا).
لم يدرك الصحابة في هذه الساعة ولم يتصوروا أن الرسول عليه الصلاة والسلام هو العبد المقصود بالتخيير، ولكن الصديق رضي الله عنه بما له من حس مرهف وعلم واسع أدرك ذلك الأمر فبكى رضي الله عنه وقال: (فديناك بآبائنا وأمهاتنا، يقول أبو سعيد فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخير وكان أبو بكر أعلمنا، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن أمن الناس عليَّ في صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليلاً غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن أخوة الإسلام ومودته، ثم قال: لا يبقين في المسجد باب إلا سد، إلا باب أبي بكر).
فلما انتهى صلى الله عليه وسلم من هذه الوصايا المؤثرة في ذلك اليوم دخل بيته.(45/9)
قبل الوفاة بأربعة أيام
في يوم الخميس الثامن من ربيع أول يعني: قبل الوفاة بأربعة أيام حدث موقف هام، روى البخاري عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: (أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما اشتد به الوجع قال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده -وفي البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه- فـ عمر رضي الله عنه أشفق على الرسول عليه والسلام، فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم غلبه الوجع، حسبنا كتاب الله)، يعني: عمر رضي الله عنه وأرضاه كان يرى أنه لا داعي لإرهاق الرسول صلى الله عليه وسلم بالكتابة، وقد حفظ الله عز وجل لهم القرآن، لكن بعض الصحابة اعترضوا على ذلك، وأرادوا أن يكتب لهم الرسول عليه الصلاة والسلام الكتاب الذي يريد، فاختلف أهل البيت واختصموا وكثر اللغط، وارتفع الصوت، فلما حدث ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (قوموا عني).
من الواضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يكن يرى أن كتابة هذا الذي يريد كتابته أمر واجب ضروري، إنما هو أمر اختياري تقديري؛ لأنه صلى الله عليه وسلم عاش بعد هذا أربعة أيام ولم يطلب الكتاب مرة أخرى ليكتب، ولو كان ضرورياً لأمر به صلى الله عليه وسلم، لكن على الرغم من أن كتابة الكتاب لم تكن أمراً حتمياً، إلا أنه كان لغرض الإيضاح، وكان فيه خير ما، لكن منع المسلمون هذا الخير؛ بسبب اختلافهم وكثرة لغطهم.
والاختلاف دوماً يمنع كثيراً من الخير.
ضحى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخير الذي كانوا سيحصلونه في سبيل أن يمنع عنهم التنازع؛ ولأن وحدتهم كانت مقدمة عنده على ما دونها من مصالح.
وفي نفس هذا اليوم ثمانية ربيع أول سنة إحدى عشرة هجرية أوصى صلى الله عليه وسلم بثلاث وصايا: قال صلى الله عليه وسلم: (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب).
والوصية الثانية: (وأجيزوا الوفد، بنحو ما كنت أجيزهم به).
يعني: أعطوا الوفد جائزة كما كنت أعطيهم، يعني: أقروهم وأحسنوا ضيافتهم.
أما الوصية الثالثة: فنسيها أحد رواة الحديث، واختلف العلماء في تحديدها، فبعضهم قال: القرآن، وبعضهم قال: تجهيز جيش أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وبعضهم قال: الصلاة.
وكان صلى الله عليه وسلم حتى ذلك اليوم وبرغم مرضه يصلي بالناس كل الصلوات، فصلى بهم ذلك اليوم الصبح والظهر والعصر، وبعد ذلك صلى بهم المغرب وقرأ في المغرب بـ (المرسلات عرفاً) ثم عاد إلى بيته صلى الله عليه وسلم وقد ثقل عليه المرض جداً، وأغمى عليه أكثر من مرة، ثم أفاق فقال: (أصلى الناس؟ قال الصحابة: لا، هم ينتظرونك، فقال صلى الله عليه وسلم ضعوا لي ماء في المخضب).
مكان يغتسل فيه صلى الله عليه وسلم، أراد الاغتسال لتخفيف درجة الحرارة حتى يقوم لتأدية صلاة العشاء، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (ففعلنا، فاغتسل فذهب لينوء فأغمي عليه صلى الله عليه وسلم، ثم أفاق، فقال أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول الله، هم ينتظرونك، قال: ضعوا لي ماء في المخضب، قالت: فقعد فاغتسل ثم ذهب لينوء فأغمي عليه، ثم أفاق، فقال: أصلى الناس؟ قلنا: لا يا رسول الله، هم ينتظرونك، فقال للمرة الثالثة: ضعوا لي ماء في المخضب فقعد فاغتسل، ثم ذهب لينوء فأغمي عليه للمرة الثالثة، ثم أفاق: فقال: أصلى الناس؟ فقلنا: لا، وهم ينتظرونك يا رسول الله).
أرأيتم الحرص على صلاة الجماعة، والحرص على الذهاب إلى المسجد مع هذا المرض الثقيل وهذا الإغماء المتكرر؟! يا حسرتاه على أقوام أصحاء يتخلفون عن صلاة العشاء وغيرها من صلوات الجماعة، والمساجد على بعد خطوات معدودات من بيوتهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله؟! بعد هذه المحاولات المضنية من رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك أنه لن يستطيع الخروج لصلاة الجماعة، وللمرة الأولى في حياته صلى الله عليه وسلم -ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها- لم يستطع أن يتحرك، لكنه مع ذلك كان حريصاً على أمته حتى في أشد حالات مرضه صلى الله عليه وسلم، فما زال يردد: (أصلى الناس؟ أصلى الناس؟).
تقول عائشة رضي الله عنها: (والناس عكوف في المسجد ينتظرون النبي صلى الله عليه وسلم لصلاة العشاء الآخرة) في هذا الوقت قرر صلى الله عليه وسلم أن ينوب عنه واحد من المسلمين لإمامة المسلمين في الصلاة، فقال صلى الله عليه وسلم: (مروا أبا بكر فليصل بالناس) فخافت السيدة عائشة أن يتشاءم الناس بأبيها لو وقف مكان الرسول عليه والسلام، فقالت: (إن أبا بكر رجل أسيف -وفي رواية-: رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء) فلما أصر صلى الله عليه وسلم على اختيار أبي بكر لهذا الأمر أعادت عليه عائشة رضي الله عنها ومن معها من أمهات المؤمنين الاقتراح بتغيير أبي بكر(45/10)
قبل الوفاة بثلاثة أيام
في يوم الجمعة، صلى أبو بكر جميع الصلوات بالمسلمين وخطب بهم الجمعة في ذلك اليوم أيضاً، ولم يستطع صلى الله عليه وسلم الحركة مطلقاً في ذلك اليوم، وكان مما أوصى به في ذلك اليوم ما رواه مسلم عن جابر رضي الله عنه قال: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بثلاثة أيام يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل).
في يوم السبت العاشر من ربيع أول صلى أبو بكر جميع الصلوات بالناس، لكن في أثناء صلاة الظهر وأبو بكر يصلي بالناس شعر صلى الله عليه وسلم في نفسه خفة، فقرر ألا يضيع الفرصة، فحاول أن يصلي مع الجماعة مرة ثانية، فخرج يهادى بين رجلين: العباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما، ورجلاه تخطان في الأرض، حتى وصلا به إلى الصف الأول، فكان أبو بكر يؤم الناس في ذلك الوقت، فلما أحس أبو بكر بقدوم الرسول عليه والسلام، أراد أن يتأخر فأومأ إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن مكانك، ثم أتي به صلى الله عليه وسلم حتى جلس إلى جنب أبي بكر الصديق رضي الله عنه من ناحية اليسار، يعني: كان الرسول صلى الله عليه وسلم في موضع الإمام، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي جالساً لا يستطيع القيام، وأبو بكر يصلي بصلاته، ويرفع صوته فيصلي الناس بصلاة أبي بكر.
مجهود هائل من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لا يفوت صلاة واحدة مع الجماعة وهو يستطيع، مع أنه قد وصل إلى هذه الحالة التي وصفنا من التعب والمرض والإغماء.(45/11)
قبل يوم من وفاته صلى الله عليه وسلم
في يوم الأحد الحادي عشر من شهر ربيع أول، يعني: قبل الوفاة بيوم واحد صلى أبو بكر بالمسلمين كل الصلوات، وتخلص صلى الله عليه وسلم من كل بقايا الدنيا التي عنده على بساطتها وقلتها، فأعتق ما تبقى من غلمانه، وتصدق بسبعة دنانير كانت عنده، ووهب للمسلمين أسلحته، ولم يترك في بيته عند موته من الطعام إلا القليل.
روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: (توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما في بيتي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي، فأكلت منه حتى طال علي، فكلته ففني).
يقول أنس رضي الله عنه: (ما أمسى عند آل محمد صلى الله عليه وسلم صاع بر ولا صاع حب، وإن عنده لتسع نسوة) يعني: كل بيوته صلى الله عليه وسلم لم يكن فيها الطعام الذي يكفيهم.(45/12)
آخر يوم من حياته صلى الله عليه وسلم
جاء يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول إحدى عشرة هجرية، وهو اليوم الذي شهد أعظم مصيبة في تاريخ البشرية.
يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: (ما رأيت يوماً قط كان أحسن ولا أضوأ من يوم دخل علينا فيه صلى الله عليه وسلم يوم أن هاجر من مكة إلى المدينة، وما رأيت يوماً كان أظلم من يوم مات فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم).
وشتان بين بداية هذا اليوم وبين نهايته، فأول هذا اليوم صلى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه صلاة الصبح بالناس، وكانت هذه الصلاة هي السابعة عشرة التي يصليها أبو بكر بالناس في وجود الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول أنس رضي الله عنه: (كان أبو بكر يصلي بنا في وجع النبي صلى الله عليه وسلم الذي توفي فيه، حتى إذا كان يوم الإثنين وهم صفوف في الصلاة، كشف النبي صلى الله عليه وسلم ستر حجرة عائشة رضي الله عنها ينظر إلينا، ونظر إلى الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم ثم تبسم يضحك صلى الله عليه وسلم) سعيد برؤيتهم وهم يصلون مجتمعين وراء أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
يقول أنس (فهممنا أن نفتتن من الفرح برؤية النبي صلى الله عليه وسلم، فنكص أبو بكر على عقبيه ليصل الصف، وظن أن النبي صلى الله عليه وسلم يريد أن يخرج إلى الصلاة، فأشار النبي صلى الله عليه وسلم أن أتموا صلاتكم، ثم دخل الحجرة وأرخى الستر).
لم يستطع صلى الله عليه وسلم أن يصلي معهم، ولم يأت عليه في الدنيا صلاة أخرى صلى الله عليه وسلم، لما ارتفع الضحى من ذلك اليوم دعا صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة رضي الله عنها، ثم أسر في أذنها أمراً فبكت بكاءً شديداً رضي الله عنها وأرضاها، قال لها: (لا أرى الأجل إلا قد اقترب فاتقي الله واصبري؛ فإني نعم السلف أنا لك، فلما رأى صلى الله عليه وسلم بكاءها قال: يا فاطمة ألا ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين، فضحكت رضي الله عنها وأرضاها)، وفي رواية: (أنه بشرها بأنها أول أهل بيته لحوقاً به صلى الله عليه وسلم).
لكن السيدة فاطمة رضي الله عنها كانت تشاهد الألم والمعاناة التي يشعر بها الحبيب صلى الله عليه وسلم فدفعها ذلك إلى أن تقول: (وا كرب أبتاه فقال صلى الله عليه وسلم: ليس على أبيك كرب بعد اليوم).
وصدق صلى الله عليه وسلم كيف يشعر بالكرب من رأى مقعده من الجنة وهو حي على وجه الأرض؟! فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول قبل أن يمرض: (إنه لم يقبض نبي حتى يرى مقعده من الجنة، ثم يخير).
أي: يخير بين الموت، وبين البقاء في الدنيا.
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (لما نزل به ورأسه على فخذي غشي عليه ساعة ثم أفاق، فأشخص بصره إلى السقف) يعني: نظر إلى السقف وكأنه يرى مقعده من الجنة، وكأنه يعرض عليه التخيير في هذه اللحظة، ثم قال: (اللهم الرفيق الأعلى).
فاختار لقاء الله عز وجل، تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: (إذاً لا يختارنا، وعرفت أنه الحديث الذي كان يحدثنا به وهو صحيح).
يعني: أنه صلى الله عليه وسلم كان أخبرهم بالتخيير.
واقتربت اللحظات الأخيرة من حياته صلى الله عليه وسلم وهو يريد أن ينصح أمته حتى آخر أنفاسه صلى الله عليه وسلم، فكانت عامة وصية الرسول صلى الله عليه وسلم حين حضره الموت: (الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم، الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانكم، حتى جعل صلى الله عليه وسلم يغرغر بها صدره، وما يكاد يفيض بها لسانه).
يوصي الرسول صلى الله عليه وسلم يوصي بحاجتين في غاية الأهمية، الأولى: الصلاة، ثم كذلك يوصي بالرقيق والعبيد مما ملكت أيمانكم، ويجمع بينهما، لكي يؤكد على وجوب الإحسان إلى الرقيق.
يروي البخاري أن السيدة عائشة رضي الله عنها كانت تقول: (إن من نعم الله علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي في بيتي وفي يومي، وبين سحري ونحري).
السحر هو الصدر أو الرئة، والنحر هو الرقبة.
يعني: كان الرسول عليه الصلاة والسلام يسند رأسه على صدر ورقبة السيدة عائشة رضي الله عنها، ثم تكمل عائشة رضي الله عنها وتقول: (وإن الله جمع بين ريقي وريقه عند موته دخل عبد الرحمن بن أبي بكر وبيده السواك، وأنا مسندة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته ينظر إليه، وعرفت أنه يحب السواك، فقلت آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فتناولته، فاشتد عليه، وقلت: للرسول عليه الصلاة والسلام، لم يستطيع من صلابة السواك الجاف أن يحركه بين أسنانه صلى الله عليه وسلم فقالت السيدة ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم، فلينته.
فأمره- وفي رواية-: أنه(45/13)
تفاقم الأحزان على الصحابة
أظلمت مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان رسول الله عليه السلام قد نورها يوم دخلها، فتحولت من يثرب إلى المدينة المنورة، والآن أظلمت نفس المدينة يوم مات الحبيب صلى الله عليه وسلم، وكان موته فتنة حقيقة للأمة الإسلامية.
لقد اضطرب المسلمون اضطراباً شديداً حتى ذهل بعضهم ولم يستطع التفكير، وقعد بعضهم ولم يستطع القيام، وسكت بعضهم ولم يستطع الكلام، وأنكر بعضهم ولم يستطع التصديق.(45/14)
موقف عمر من خبر موته صلى الله عليه وسلم
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسنح، فقام عمر رضي الله عنه وأرضاه، يقول: والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم).
كان يعتقد تماماً بعدم موته، حتى إنه يقول في رواية أخرى: (والله ما كان يقع في نفسي إلا ذاك).
أي: أنني كنت لا أعتقد إلا أنه لم يمت فعلاً، ثم قال عمر رضي الله عنه: (وليبعثنه الله عز وجل فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم يزعمون أنه مات).
ويقول في رواية: (إن رجالاً من المنافقين يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما مات، لكن ذهب إلى ربه كما ذهب موسى بن عمران، فغاب عن قومه أربعين ليلة ثم رجع إليهم بعد أن قيل: قد مات).
كان هذا موقف عمر رضي الله عنه وأرضاه، وما أدراك من هو عمر.
يقول صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث عن أصحابه ويصف أصحابه قال: (وأشدهم في أمر الله عمر).
هذه هو أثر المصيبة على أشد الصحابة في أمر الله عز وجل.
انظروا إلى موقف عمر رضي الله عنه وأرضاه؛ لتعلموا عظم أثر المصيبة على الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.(45/15)
موقف أبي بكر الصديق من خبر موته صلى الله عليه وسلم
ظل المسلمون على هذه الحال يتمنون صدق كلام عمر رضي الله عنه، حتى جاء الصديق رضي الله عنه، ودخل مسرعاً إلى بيت الرسول عليه الصلاة والسلام، بيت ابنته عائشة رضي الله عنها، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراشه قد غطوا وجهه، فكشف عن وجهه، فلما أدرك الحقيقة المرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات، بكى الصديق رضي الله عنه وأرضاه بكاء مراً؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان بالنسبة لـ أبي بكر كل شيء، لم يكن رسولاً فقط بالنسبة له، لكن كان صاحباً وموطن سر، ومبشراً ومطمئناً، وزوجاً لابنته، ورئيساً لدولته، وهادياً لطريقه، كان كل شيء، ومع كل ذلك أنزل الله عز وجل علي الصديق ثباتاً عجيباً، لو لم يكن له من المواقف في الإسلام إلا هذا الموقف لكان كافياً على عظمته رضي الله عنه وأرضاه.
فأكب الصديق رضي الله عنه وأرضاه على حبيبه صلى الله عليه وسلم فقبله في جبهته، ثم قال وهو يضع يده على صدغي الرسول عليه الصلاة والسلام: وا نبياه، وا خليلاه، وا صفياه، ثم تماسك قائلاً بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقك الله عز وجل الموتتين أبداً، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متها، ثم أسرع رضي الله عنه وأرضاه خارجاً إلى الناس، فوجد عمر يقول ما يقول، ويقسم على أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما مات، فقال: أيها الحالف على رسلك، وفي رواية قال: اجلس يا عمر، لكن عمر لم يكن يسمع شيئاً، فتركه أبو بكر الصديق رضي الله عنه واتجه إلى الناس، فأقبل الناس عليه وتركوا عمر.
فخطب فيهم خطبته المشهورة الموفقة، التي تعتبر على قصرها من أهم الخطب في تاريخ البشرية، ثبت الله عز وجل بها أمة كادت أن تضل، وأوشكت أن تفتن.
قال رضي الله عنه وأرضاه في حزم بعد أن حمد الله وأثنى عليه: ألا من كان يعبد محمداً صلى الله عليه وسلم فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت.
ينبه الصديق بفقه عميق على حقيقة الأمر، ويضعه في حجمه الطبيعي، فبرغم عظم المصيبة إلا أنها لا يجب أبداً أن تخرج المسلمين عن شعورهم وعن حكمتهم وعن إيمانهم، فحقيقة الأمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشر، وحقيقة الأمر أن البشر جميعاً يموتون، وحقيقة الأمر أننا ما عبدناه لحظة واحدة، ولكننا جميعاً عبدنا معه رب العالمين سبحانه وتعالى، والله حي لا يموت، فلا داعي للاختلاط، ولا داعي للفتنة، ولا داعي للاضطراب، وما حدث أمر متوقع، وربنا حي لا يموت، وهو الذي سيجزينا على صبرنا ويعاقبنا على جزعنا.
ثم قرأ الصديق رضي الله عنه وأرضاه في توثيق عجيب آية من سورة آل عمران، تبصر المسلمين بالحقيقة كاملة، وتعرفهم تماماً بما يجب عليهم تجاه هذا الأمر.
قرأ الصديق رضي الله عنه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِينْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144].
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: والله لكأن الناس لم يعلموا أن الله عز وجل أنزل هذه الآية حتى تلاها أبو بكر، فتلقاها الناس كلهم، فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها.
في هذه اللحظة أدرك الناس حقيقة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات.
أخرجت هذه الآية الكريمة المسلمين من أوهام الأحلام إلى حقيقة الموت، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه: والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت، حتى ما تقلني رجلاي، وحتى أهويت إلى الأرض حين سمعته تلاها، وعلمت أن النبي صلى الله عليه وسلم قد مات.
يعني: عمر العملاق رضي الله عنه وأرضاه لم يتحمل المصيبة، فسقط مغشياً عليه، وارتفع البكاء في كل أنحاء المدينة.
قال أبو ذؤيب الهذلي رضي الله عنه: قدمت المدينة ولأهلها ضجيج بالبكاء، كضجيج الحجيج أهلوا جميعاً بالإحرام، فقلت: مه؟ ماذا حصل؟ فقالوا: قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأثرت المصيبة تأثيراً شديداً على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فكانت تقول: (مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري، وفي دولتي لم أظلم فيه أحداً، فمن حداثة سني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبض وهو في حجري، فوضعت رأسه على وسادة وقمت ألتدم) يعني: أضرب صدري ووجهي مع النساء.
مصيبة كبيرة أخرجت معظم الحكماء عن حكمتهم، لكن الحمد لله الذي من على هذه الأمة بـ الصديق رضي الله عنه وأرضاه، فثبت الله عز وجل به الأمة بكاملها، وبدأت الأمة في أخذ خطوات عملية للخروج(45/16)
ما بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم
كان أمام المسلمين أمران في غاية الأهمية، لا بد من حسمهما بسرعة، وهما: من يلي أمور المسلمين بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ فهذه دولة كبرى الآن لا بد لها من زعامة، وبرغم فداحة المصاب إلا أن واقعية الصحابة حتمت عليهم أن يختاروا من بينهم من يحكمهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاجتمع الصحابة في سقيفة بني ساعدة وبعد مشاورات ومداولات اختاروا الصديق رضي الله عنه وأرضاه، ثاني اثنين، والصاحب الأول لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلم الصحابة وأتقى الصحابة وأفقه الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
وقد فصلنا كثيراً هذا الأمر عندما تكلمنا عن الصديق رضي الله عنه وأرضاه في مجموعة المحاضرات الخاصة به.
أما الأمر الثاني فهو قضية تغسيل وتكفين ودفن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي قضية حساسة جداً ومحيرة، ومن القضايا الأولى التي سيأخذ فيها الصحابة رضي الله عنهم قراراً في غياب الرسول صلى الله عليه وسلم.
هناك من الأحكام الفقهية ما قد يكون خاصاً به صلى الله عليه وسلم، وهناك ما قد يكون عاماً على عموم المسلمين، أما الغسل لجسده الشريف فقد احتار الصحابة في أمره، قالوا: والله ما ندري أنجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ثيابه كما نجرد موتانا، أم نغسله وعليه ثيابه؟ فلما اختلفوا ألقى الله عز وجل عليهم النوم، حتى ما منهم رجل إلا ورأسه على صدره، ثم كلمهم متكلم من ناحية البيت لا يرون من هو: أن اغسلوا النبي صلى الله عليه وسلم وعليه ثيابه، فقاموا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فغسلوه وعليه قميصه، يصبون الماء من فوق القميص، ويدلكونه بالقميص دون أيديهم.
وهذا حديث صحيح رواه أبو داود وأحمد وابن حبان والحاكم وابن ماجة والبيهقي وغيرهم.
وقام بعملية الغسل مجموعة من الصحابة معظمهم من آل البيت، كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يغسله، وأسامة بن زيد وشقران مولى الرسول عليه الصلاة والسلام يصبان الماء، والعباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وسلم وولداه قثم والفضل يقلبونه، وأوس بن خولي الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه يسنده على صدره، ثم بعد ذلك كفن صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أثواب يمانية من كتان يعني من قطن، ليس فيها قميص ولا عمامة.
كان هذا الغسل والتكفين في صباح يوم الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول، وكان الصحابة في هذا اليوم مشغولين بقضية الاستخلاف.
وبعد الغسل والتكفين وضعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على فراشه، ثم بدءوا في الصلاة عليه، ودخل الناس أرسالاً، يعني: كانوا يدخلون عشرة عشرة، صلى عليه أولاً أهل البيت، أهل بيته صلى الله عليه وسلم وعشيرته، ثم المهاجرون، ثم الأنصار، ثم بقية الرجال في المدينة، ثم دخلت النساء فصلت عليه، ثم بعد ذلك الصبيان، حتى صلى عليه جميع من بالمدينة من المؤمنين.
ثم كانت بعد ذلك قضية الدفن، واختلف الصحابة في مكان الدفن وفي كيفيته، أما مكان الدفن فقد قال بعضهم: يدفن في مسجده، وقال آخرون: يدفن مع أصحابه في البقيع فقال الصديق رضي الله عنه وأرضاه إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما قبض نبي إلا دفن حيث يقبض).
فقرروا أن يدفنوه صلى الله عليه وسلم في المكان الذي مات فيه في حجرة عائشة رضي الله عنها وأرضاها.
أما في كيفية الدفن فقد اختلفوا أيضاً في الدفن هل يشق له في قبره أم يلحد؟ على أن يلحدوا له، فجاء أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه ورفع فراش الرسول عليه الصلاة والسلام وحفر تحت الفراش، وأصلح اللحد الذي سيدفن فيه الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي ليلة الأربعاء بدأ الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم في إنزال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قبره.
ونزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل بن العباس وقثم بن عباس، وشقران مولى الرسول صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين، وقيل: نزل معهم عبد الله بن عوف وقيل: أوس بن خولي.
وبعد أن وضع صلى الله عليه وسلم في قبره أهالوا عليه التراب، لتغلق أهم صفحة من صفحات التاريخ البشرية، لم يصدق الصحابة أنفسهم من كونهم يعيشون في الحياة بدون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن كونهم يمشون على الأرض وهو يرقد تحتها صلى الله عليه وسلم.
يقول أنس بن مالك: (ولما نفضنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الأيدي، وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا).
القلوب وكأنها ليست القلوب، كان الرسول صلى الله عليه وسلم يمدها بنور وهدى وأمان وراحة واطمئنان، أما الآن فقلوبنا ليست هي القلوب التي كانت يوم كان(45/17)
سلسلة السيرة النبوية_خاتمة السيرة
بعث النبي صلى الله عليه وسلم في أمة متفرقة فجمع شملها، وأنار ظلمتها، وأقام معوجها، وعاش حاكماً وقائداً بين أصحابه كواحد منهم، لم يفضل نفسه عليهم بطعام ولا شراب ولا بسكن ولا بمال، وتحمل من الأذى والجوع والحصار أكثر منهم، وكان في ذلك يبني دولته رويداً رويداً على أسس عقدية متينة، ولم يأبه بكل من حاربه من قريب وبعيد، وجعل من دولته مثلاً يحتذي به كل من أراد أن يشيد دولة وينشئ مجتمعاً؛ لذا كان حقاً علينا اتباعه وطاعته وحبه والسير على منواله والدعوة إلى دينه.(46/1)
مراحل دعوة النبي عليه الصلاة والسلام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا؛ إنه من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أما بعد: فمع المحاضرة الثامنة عشرة من محاضرات السيرة النبوية، وهي -في الحقيقة- المحاضرة الأخيرة من هذه المجموعة: مجموعة الفتح والتمكين، وإنه لمن الصعب على النفس أن نتحدث عن خاتمة للسيرة، فإن أنفسنا قد تعلقت تعلقاً كبيراً بالحديث عن رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فحديثنا عنه كان أسعد حديث، وتدبرنا لسيرته كان أجمل تدبر، واستفادتنا منها كانت أقصى استفادة، لكن لا بد من تعليق ختامي على هذه السيرة العظيمة، وعزاؤنا أن هذا لن يكون -إن شاء الله- آخر حديثنا عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، بل ستتوالى بعد ذلك دراسات ودراسات تتناول جوانب شتى من حياته صلى الله عليه وسلم.
إن سيرته كانت مثالاً يحتذى به في كل شيء، كانت مثالاً للفرد والجماعة، مثالاً واضح المعالم للمجتمعات الصغيرة والكبيرة لبناء الأمم، فقد استطاع صلى الله عليه وسلم بالمنهج الرباني الذي أوحي إليه أن يبني أمة من لا شيء، وأن يجمع العرب والعجم على دين واحد ومبدأ واحد، وأن يقيم حضارة استحال على الزمان أن يجود بمثلها.
بعث صلى الله عليه وسلم في أمة مفرقة مشتتة، فشا فيها الظلم، وتعددت فيها صور الباطل، وكثرت فيها الآثام والشرور، وتمكن فيها المتكبرون والمتجبرون، فبدأ في أناة عجيبة وصبر رائع يغير الأوضاع، يعدل من المسار، يقوم المعوج، يوضح الطريق، يكمل الأخلاق، ما ترك معروفاً إلا وأمر به، ولا منكراً إلا ونهى عنه، مع العلم أن طريقه لم يكن سهلاً، بل كان مليئاً بالصعاب والأشواك، فقد عارضه الكثيرون، وحاربه القريب والبعيد، حتى حاربته عشيرته وقاومه أهله، ومع هذا ما لانت له قناة، وما فترت له عزيمة صلى الله عليه وسلم.
مر صلى الله عليه وسلم في بنائه لأمته بمراحل محددة لا بد أن تمر بها كل أمة لكي تبنى، وكان له سنة ثابتة في كل مرحلة.(46/2)
مرحلة الإعداد
المرحلة الأولى التي مر بها صلى الله عليه وسلم أسميها: مرحلة الإعداد، هذه المرحلة بدأت منذ نزول الوحي، واستمرت حوالي خمس عشرة سنة من حياته صلى الله عليه وسلم، وهي فترة بقائه في مكة وسنتين من المدينة المنورة إلى قبيل موقعة بدر.
في هذه الفترة بدأ صلى الله عليه وسلم بانتقاء الأفراد الصالحين لحمل الأمانة الثقيلة، ونجح صلى الله عليه وسلم في تربيتهم وإعدادهم لهذه المهمة الضخمة، مهمة حمل الدين الإسلامي، ليس فقط إلى أهل مكة أو إلى العرب، بل إلى العالم أجمع.
كان بناءً صعباً شاقاً، كان بناءً للإنسان من جديد حرص فيه صلى الله عليه وسلم على توجيه نيات وقلوب الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم إلى ربهم سبحانه وتعالى الواحد الأحد الذي بيده مقاليد السماوات والأرض، خلصت قلوبهم لله عز وجل، عظموا قدره، أحبوا جنته، خافوا من ناره؛ فتحركت كل ذرة في كيانهم له سبحانه وتعالى، أصبح منتهى آمالهم أن يعملوا له سبحانه وتعالى، وأن يرضى عنهم، وأن يقبل منهم، وأن يغفر لهم ويرحمهم، فلما أصبحوا على هذه الصورة هانت عليهم كل المصاعب، وهانت عليهم كل المشكلات، صغرت في أعينهم جبابرة الأرض ومن ثم حملوا رسالة الإسلام العظيمة، وقاوموا بإصرار كل من حاول أن يثنيهم عن الوصول بهذه الرسالة إلى آفاق الأرض وإلى كل العالمين.
واعلموا أنه بدون جيل كجيل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يستحيل بناء الأمة الإسلامية.
هذه كانت أول خطوة: إعداد الطائفة التي تحمل على أكتافها الأمة الإسلامية.
لم يتركه أهل مكة يفعل هذا دون مقاومة أو صد، بل حاربوه هو وأصحابه صلى الله عليه وسلم بكل طريقة، عذبوهم، قهروهم، بطشوا بهم، وقتلوا منهم حتى اضطروهم إلى الهجرة إلى بلاد الحبشة مرة ثم الثانية، ومع ذلك كان المؤمنون في ازدياد في العدد وازدياد في الإيمان، اضطر المشركون أن يحصروهم في شعب أبي طالب ثلاث سنين كاملة فما ضعفوا وما استكانوا، وخرجوا من الشعب أشد قوة وأعظم بأساً.
مات نصيره من أعمامه أبو طالب، وماتت زوجته الوفية خديجة رضي الله عنها؛ فاشتد إيذاء قومه له أكثر من ذي قبل، حتى خرج إلى الطائف يبحث عن النصرة فما وجدها، بل وجد الصد والإعراض والتكذيب والشقاق وسوء الأخلاق، ثم عاد مرة ثانية إلى مكة صلى الله عليه وسلم يكلم كل صغير وكبير في الإسلام، يخاطب كل وافد على مكة في حج أو في غيره ليشرح له رسالة ربه سبحانه وتعالى، فكذبته عامة القبائل ورفضوا دعوته بكل إصرار، حتى شاء الله عز وجل له أن يقابل ستة من الخزرج من أهل يثرب -المدينة المنورة- فآمنوا به وصدقوه وعادوا إلى قومهم بالدين الجديد يدعون إلى الإسلام في المدينة المنورة، فآمن معهم آخرون وجاءوا بعد عام إلى مكة ليبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة العقبة الأولى، ثم عادوا إلى المدينة ومعهم مصعب بن عمير فما تركوا بيتاً ولا شارعاً ولا حديقة ولا مجتمعاً إلا وعرفوه بالدين، فانتشر الإسلام في المدينة انتشاراً باهراًً، وجاء منهم بعد عام آخر ثلاثة وسبعين من الرجال وامرأتان، جاءوا ليبايعوا الرسول عليه الصلاة والسلام بيعة العقبة الثانية ليصبحوا بذلك أنصار الله ورسوله، وما هي إلا أشهر قليلة بعد تلك البيعة حتى ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة بكفرها، وهاجر إلى المدينة المؤمنة التي صارت بعد ذلك معقل الإسلام، ونواة الدولة الإسلامية الأولى، وهاجر الصحابة المكيون إلى المدينة مع رسولهم صلى الله عليه وسلم، وعرفوا بعد ذلك بالمهاجرين، واجتمع المهاجرون والأنصار بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم على بناء الدولة الإسلامية كما ينبغي أن تبنى الدول.
بنى صلى الله عليه وسلم دولته بشمول عجيب، بناها بتوازن لافت للنظر، استكمل كل جوانب دولته السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والعلمية وقبل ذلك العقائدية، وصارت دولته مضرباً للمثل لأي دولة في العالم في الرقي والحضارة والسمو والأخلاق، ومع صغر حجم دولته وقلة إمكاناتها المادية لم يتركه أعداؤهم من المشركين من أهل قريش أو من الذين لم يؤمنوا من أهل المدينة، بل تعاونوا مع الأعراب ومع اليهود على حربه والكيد له صلى الله عليه وسلم، لكنه قاومهم بحكمة وحنكة لافتة للنظر، تارة بالمعاهدات، وتارة بالإعراض، وتارة بالسرايا، وظل في كل ذلك محافظاً على نهجه التربوي للمهاجرين والأنصار حتى أذن الله عز وجل للصدام الأول بين الكفر والإيمان، وبين أهل الحق وأهل الباطل، أذن الله عز وجل أن يحدث هذا الصدام فدخل المسلمون بسببه في مرحلة جديدة.
كانت غزوة بدر الكبرى أو يوم الفرقان، وحدث فيها ما لا يتخيله عامة البشر، فقد انتصرت الفئة القليلة المؤمنة على الكثرة المشركة، وتحقق وعد الله عز وجل، وارتفع شأن المسلمين في الجزيرة العربية، وسمع بهم كل العرب، وخضع مشركو المدينة ودخلوا في الإسلام إما اقتناعاً به وإما نفاقاً له، فظهرت بذلك طائفة المنافقين الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام، وصارت هذه الفئة أخطر(46/3)
مرحلة وضوح الرؤية
بعد غزوة بدر دخل المسلمون في مرحلة جديدة هامة أسميها: مرحلة زمن وضوح الرؤية، وهي عبارة عن سلسلة مضنية من الأزمات والابتلاءات والمعارك، فقد وقعت غزوة بني قينقاع بعد أقل من شهر من غزوة بدر، وحدثت مفاصلة مع اليهود مع شدة احتياج المسلمين في ذلك الوقت لمال وسلاح اليهود، لكن المؤمن الصادق لم يكترث بهذا، بينما ظهر ولاء المنافقين لليهود، ثم كانت مصيبة أحد ومأساة بئر معونة وحادثة ماء الرجيع، فكان لهذه الأزمات المتتالية أبلغ الأثر في تمييز الصف.
هذه المصائب لم يخترها الرسول عليه الصلاة والسلام، بل هي السنة الإلهية في اختبار المجتمع المسلم، فيثبت الصادقون وينجحون، ويهتز المنافقون ويفشلون، ومع هذه الفترة العصيبة كانت الانتصارات التي تبشر المؤمنين، فقد كان الانتصار المهيب على بني قينقاع وعلى بني النضير وغير ذلك من بعض الانتصارات التي رأيناها في بعض السرايا والغزوات، حتى شاء الله عز وجل أن يحدث التمحيص الكبير والابتلاء العظيم، والتفرقة الواضحة بين المؤمنين الصادقين والمنافقين الكاذبين، فكان اجتماع المشركين من قريش وغطفان وغيرهما على حرب المسلمين بمساعدة يهود خيبر، وعرف ذلك في السيرة بغزوة الأحزاب أو غزوة الخندق.
هذه كانت واحدة من أشد الأزمات التي مرت بالأمة الإسلامية إن لم تكن أشدها على الإطلاق، وبفضل الله ثبت المسلمون وصبروا وتحملوا الجوع والخوف والبرد، وكتب الله لهم في النهاية النصر بعد أن كشفت لهم تماماً أوراق المنافقين، وعلا نجم المؤمنين بعد هذه الغزوة، حتى قال صلى الله عليه وسلم بعد رحيل الأحزاب كلمته المشهورة التي تعبر عن دخول مرحلة جديدة، قال: (الآن نغزوهم ولا يغزونا)، نحن نسير إليهم.
ثم كتب الله عز وجل النصر للمسلمين في غزوة بني قريظة، وهي القبيلة اليهودية الثالثة بالمدينة بعد بني قينقاع وبني النضير، وبذلك أمنت المدينة من شر يهود في الداخل، ولم يبق من اليهود إلا التجمع الكبير خارج المدينة وهو تجمع خيبر، وكان العام السادس الذي تلا غزوة الأحزاب عاماً عسكرياً بحتاً انتشرت فيه سرايا المسلمين هنا وهناك، ودانت لهم السيطرة على بقاع كثيرة في الجزيرة، وانتهى هذا العام بحدث جليل مهيب سماه رب العالمين سبحانه وتعالى فتحاً مبيناً، ألا وهو صلح الحديبية، والذي اعترفت فيه قريش وللمرة الأولى بدولة المسلمين، وازدادت هيبة المسلمين في الجزيرة بشكل واضح، وأعقب ذلك تحركات سياسية وعسكرية ودعوية من المسلمين على أعلى مستوى، وانتقل المسلمون من المحلية إلى العالمية، ومن الجزيرة العربية إلى كافة الممالك والإمبراطوريات المعاصرة في ذلك الوقت.
وراسل صلى الله عليه وسلم ملوك وأمراء العالم يدعوهم إلى الإسلام، وأعقب ذلك بانتصار جليل على اليهود في خيبر، ثم انتصار أجلّ على الرومان في مؤتة، وأسلم الكثير من عظماء وفرسان العرب حتى توجت الانتصارات الإسلامية بالفتح العظيم في العام الثامن من الهجرة، حيث فتحت مكة أحب بلاد الله عز وجل إلى الله ورسوله، وآمن أهل مكة بعد رحلة طويلة من الصد عن الإيمان.
وبعدها مباشرة انتصر المسلمون انتصاراً باهراً على قبيلتي هوازن وثقيف في موقعة حنين المشهورة بعد هزة وانكسارة أولى بهجوم ساحق وسيطرة كاملة على مجريات الأمور، وغنم المسلمون في هذه الغزوة ما لا يتخيلونه من الأموال والأنعام، وذاع صيت المسلمين في كل مكان، وجاءت الوفود من كل ناحية إلى المدينة المنورة تبايع على الإسلام، وأشرقت الأرض بنور ربها، وقرت عين الحبيب صلى الله عليه وسلم برؤية الإسلام يدخل كل بيت، وبرؤية الناس يسعدون بإيمانهم وينقذون من النار.
وتخلل هذا الإقبال على دين الإسلام دعوة جريئة من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جهاد الرومان في تبوك، وكان التجمع الإسلامي الرائع في ثلاثين ألف مقاتل مؤمن يقطعون الصحراء في ظروف صعبة قاسية دون تردد ولا وجل، فأنزل الله عز وجل عليهم نصره دون قتال، وفرت جحافل الرومان من جيوش الإيمان، وارتفعت راية الإسلام في كل ربوع الجزيرة، بل وفي أطرافها وما حولها.
ثم ختم رسول الله صلى الله عليه وسلم حياته بحجة الوداع في العام العاشر من الهجرة بمظاهر إيمانية رائعة حضرها ما يزيد على مائة ألف مؤمن، فكانت هذه الحجة تتويجاً لجهود مضنية، ولتضحيات سخية، واطمأن صلى الله عليه وسلم على اجتماع أمته وعلى فقهها في دينها، وكمل الدين وتمت النعمة بنزول قوله تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا} [المائدة:3] ومن ثم انتهت مهمة رسول الله صلى الله عليه وسلم في تبليغ الرسالة وبناء الأمة، وحان وقت رحيله لينتقل بعد ذلك إلى حياة لا تعب فيها ولا نصب في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
حياة حافلة يظل البشر إلى يوم القيامة ينهلون من خيرها، ويستفيدون من دروسها، ويتعلمون من مواقفها، ويستمتعون بأحداثها، إنها سيرة خير البشر، وسيد المرسلين، وإمام الدعاة، وخاتم النبيين، حبيب الرح(46/4)
السمات العامة للسيرة النبوية
بعد هذا العرض السريع لهذه السيرة العظيمة سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، لا بد لنا من وقفة أو وقفات معها نستخرج منها بعض السمات العظيمة -لا كل السمات- التي تظهر في عموم البعث النبوي لا في موقف عابر وليس في حدث معين، سمات عامة تصاحب كل مواقف السيرة من أولها إلى آخرها، ونسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها جميعاً.(46/5)
شخصية النبي صلى الله عليه وسلم الباهرة العظيمة
أول سمة نلاحظها في السيرة النبوية هي: الشخصية الباهرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، إنها فعلاً شخصية باهرة، هذه الشخصية ظلت محافظة على هذا الإبهار منذ الميلاد وإلى الممات، وهذا أمر في منتهى العجب لا يفسر إلا بكون هذا الرجل صلى الله عليه وسلم رسولاً من رب العالمين سبحانه وتعالى، معصوماً من الآثام والشرور، لا أثر للشيطان عليه من قريب ولا بعيد، لا سبيل إلى غوايته بصورة من الصور صلى الله عليه وسلم، هذه أعظم شخصية في تاريخ الخلق، ليس فقط في السابقين، ولكن إلى يوم القيامة، وليس فقط في عموم البشر بل في الأنبياء والمرسلين.
فرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن رسولاً فقط، بل كان حاكماً وقائداً وزعيماً، ومع هذا عاش مع أصحابه وأتباعه كواحد منهم، ما فضل نفسه عليهم بطعام ولا بشراب ولا بسكن ولا بمال، تحمل معهم الأذى في كل موضع، وجاع معهم كما يجوعون بل أكثر، وتعب معهم كما يتعبون بل أشد، وحوصر معهم وهاجر وقاتل، بل كان أقربهم للعدو، ما فر يوماً في حياته لا في أحد ولا في حنين ولا في غيرهما، لم يزده كثرة الأذى إلا صبراً، ولم يزده إسراف الجاهلين إلا حلماً، ما غضب لذاته قط صلى الله عليه وسلم، وما انتقم لنفسه أبداً، إلا أن تنتهك حرمة الله عز وجل فينتقم حينئذ لله.
كان كريماً واسع الكرم، جاءت له الدنيا راغمة فأنفقها كلها في سبيل الله، كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في ثلاثين صاعاً من شعير، مع كونه في ذلك الوقت كان يرأس دولة تشمل الجزيرة العربية بكاملها، لم يورث درهماً ولا ديناراً، ولا عرف عنه قط أنه خص نفسه بشيء دون أصحابه وأتباعه، كان كثير المخالطة لشعبه، لم ينعزل عنهم أبداً، كان يجالس الفقراء ويرحم المساكين وتسير به الأمة في شوارع المدينة لحاجتها أينما شاءت، وكان يعود المرضى ويشهد الجنائز، ويخطب الجمع، ويعطي الدروس، ويزور أصحابه في بيوتهم ويزورونه في بيته صلى الله عليه وسلم، وهو في كل ذلك دائم الابتسام، منبسط الأسارير، متهلل الوجه صلى الله عليه وسلم.
كان رحيماً بأمته تمام الرحمة، ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، فإن كان إثماً كان أبعد الناس عنه، كان كثير العفو حتى عمن ظلمه وبالغ في ظلمه، كان واصلاً للرحم حتى لمن قطع رحمه وبالغ في القطع.
لم تكن عظمته صلى الله عليه وسلم في معاملاته مع الناس أو في أخلاقه الكريمة فقط، ولكنه كان سياسياً بارعاً، وقائداً حكيماً، وخطيباً مفوهاً لا تفوت عليه صغيرة ولا كبيرة، أوتي جوامع الكلم، يتكلم بالكلمات القليلة فيمكث العلماء والحكماء الأعوام والقرون يستخرجون المعاني الهائلة منها، يحاور كأفضل ما تكون المحاورة، ويفاوض فما يتنازل أو يزل أو يظلم أو يغضب، يستعين بأصحابه ويشاورهم مع رجاحة عقله عنهم، وارتفاع منزلته فوقهم، ما يسفه رأياً ولا ينتقص أحداً، الحكمة ضالته أينما وجدها أخذها ما دامت في حدود الشرع.
كانت حياته كلها على هذه الصورة البهية النقية، حتى انبهر به أعداؤه قبل أصحابه، وحتى عظمه وبجله وقدره من سمع عنه ولم يره، بل الذين لم يعاصروه أصلاً، بل حتى من هم من غير المسلمين.
يقول بسمارك زعيم ألمانيا المشهور في القرن التاسع عشر: إني أدعي أن محمداً صلى الله عليه وسلم قدوة ممتازة، وليس في الإمكان إيجاد قدوة كمحمد ثانياً.
صلى الله عليه وسلم.
برناردشو الأديب البريطاني المشهور كان يقول: لو كان محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - بيننا الآن لحل مشاكل العالم كلها وهو يشرب كوباً من القهوة.
يقول لامارتين الشاعر الفرنسي المتميز: من ذا الذي يجرؤ من الناحية البشرية على تشبيه رجل من رجال التاريخ بمحمد؟ - صلى الله عليه وسلم- ومن هو الرجل الذي ظهر أعظم منه عند النظر إلى جميع المقاييس التي تقاس بها عظمة الإنسان.
ويقول تولستوي الأديب الروسي المشهور: أنا واحد من المبهورين بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم الذي اختاره الله الواحد لتكون آخر الرسالات على يديه، وليكون هو أيضاً آخر الأنبياء.
ويقول جوته الشاعر الألماني الشهير: بحثت في التاريخ عن مثل أعلى لهذا الإنسان فوجدته في النبي العربي محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا هو رسولنا صلى الله عليه وسلم، تعرفنا في هذه السلسلة على طرف ضئيل جداً من شخصيته العظيمة، ولن نستطيع بأي حال من الأحوال أن نحيط بعظمته؛ لأن محاولة الإحاطة بعظمته تدخل فعلاً في باب المستحيل، هي هذه السمة الأولى البارزة من خلال دراسة السيرة النبوية.(46/6)
عظمة جيل الصحابة
السمة الثانية في السيرة النبوية هي: روعة وعظمة ورقي الجيل الذي عاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المؤمنين، وهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.
الصحابة هم خير البشر بعد الأنبياء، يقول صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم) إلى آخر الحديث.
لقد اختار الله عز وجل الصحابة لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم تماماً كما اختار نبيه صلى الله عليه وسلم، والرسول عليه الصلاة والسلام كان أمياً لا يكتب ولا يقرأ، فكان لا بد من وجود جيل صالح ورع حكيم دقيق لينقل بأمانة وبدقة ما قاله أو فعله أو أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظهر لنا منذ أول لحظات هذه السيرة وحتى خاتمتها أن هذا الجيل كان جيلاً أميناً مضحياً مجاهداً متجرداً لله عز وجل، حريصاً على كل خير، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، باذلاً الوسع كل الوسع لنصرة الله ورسوله ودين الإسلام.
رأينا في هذه المحاضرات مواقف مشرفة لا تحصى في كل المواقف، في مكة والمدينة، في بدر وأحد والأحزاب والحديبية ومكة وتبوك وغيرها وغيرها، وليس فقط في الغزوات أو المعارك ولكن في كل مواقف السيرة، وليس معنى هذا أنهم جيل بلا أخطاء أو أنهم معصومون من الزلل، ولكن كما يقولون: أخطاؤهم تذوب في بحار حسناتهم، كما أنهم بفضل الله كانوا سريعي التوبة من ذنوبهم، سريعي الأوبة إلى الله عز وجل، وفوق ذلك لم يتهم واحد منهم بالكذب أو الخيانة أو التضليل.
هؤلاء هم صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، والذين وصفهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بقوله: كانوا أفضل هذه الأمة، وأبرها قلوباً، وأعمقها علماً، وأقلها تكلفاً، اختارهم الله لصحبة نبيه ولإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم وسيرهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.(46/7)
السنة مصدر أساسي للتشريع
السمة الثالثة: السنة مصدر أساسي للتشريع: ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أن السنة النبوية مصدر رئيس لا غنى عنه أبداً من مصادر التشريع في الإسلام، والسنة التي أقصدها هنا هي منهجه صلى الله عليه وسلم في الحياة، هي كل قول أو فعل صدر منه، كل تقرير أقره صلى الله عليه وسلم، ليس القرآن وحده هو المصدر التشريعي الوحيد كما يدعي بعض المنكرين للسنة، بل رأينا بوضوح في السيرة النبوية من خلال هذه الدراسة: أن حياته صلى الله عليه وسلم كانت تشريعاً كاملاً للأمة، كانت تفسيراً جلياً لآيات القرآن الكريم، كانت تفصيلاً لما أجمل في القرآن، كانت بسطاً لما اختصر في القرآن، بل كانت أحياناً مشرعة لأحكام لم تأت أصلاً في القرآن، رأينا ذلك في غزوة خيبر عندما حرم الرسول صلى الله عليه وسلم الحمر الإنسية.
رأينا بوضوح في السيرة النبوية أن قصة الرسول عليه الصلاة والسلام لم تكن مجرد قصة لعابد يصلي ويصوم ويقوم ويقرأ القرآن، لكن حياته كانت تشريعاً كاملاً متكاملاً، قام فيها صلى الله عليه وسلم بتوضيح موقف الشرع من كل قضية من قضايا الحياة.
هذا ما يجعلنا نقول وبصدق: إن الاستغناء عن السنة يعني الاستغناء عن الدين، والطعن في حجية السنة هو الطعن في الإسلام ذاته، ودراسة السيرة أكبر دليل على الموضوع.(46/8)
شمولية الإسلام
السمة الرابعة: شمولية الإسلام: الإسلام ليس كما يعتقده الكثيرون صيام وصلاة؛ إذ ليس موطن تطبيق الإسلام المسجد فقط، ولكن الإسلام دين يحكم كل دقائق الحياة، كما يتضح من اسمه، فالإسلام هو إسلام كامل لله رب العالمين، ويظهر معنى الإسلام الذي نقصده في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام:162 - 163] فالعبادة والحياة والممات كلها لله عز وجل، وليس معنى هذا أن التشريع جمود يمنع من مواكبة تغيرات الزمان، لكن التشريع فيه مرونة كبيرة جداً تجعله صالحاً لكل ظرف، قابلاً للتطبيق في الجزيرة العربية وفي غيرها من بقاع العالم المختلفة، قابلاً للتطبيق في زمان الرسول عليه الصلاة والسلام وفي الأزمان التي لحقته وفي زماننا وإلى يوم القيامة.
واجه الرسول عليه الصلاة والسلام ظروفاً متباينة تماماً في مراحل حياته المختلفة، ومع ذلك كان هناك قانون لكل فترة حسب الظروف والمتغيرات، وكان هذا القانون من الشمول بحيث إنه غطى كل جوانب الحياة الإيمانية والتعبدية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والعسكرية وغير ذلك من الجوانب، استوعب القانون الإسلامي معاملات الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في فترة مكة، فترة الاضطهاد والتعذيب والتنكيل، كما أنه استوعب معاملات الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه في المدينة المنورة في كل مراحلها، سواء في فترة الإعداد، أو في فترة الصدام مع العدو، أو في فترة التمكين والعلو في الجزيرة، في فترة دعوة العالم، في كل هذه الفترات استوعب القانون الإسلامي كل المتغيرات والظروف.
ما يجعلنا نجزم بشمول المنهج الإسلامي، وأنه منهج بلا ثغرات مطلقاً، وكيف يكون به ثغرات وهو منهج رب العالمين سبحانه وتعالى؟! كيف يصل المخلوق إلى ما هو أبدع وأروع مما صنعه الخالق؟! هذا مستحيل، هذا هو منهجنا منهج الإسلام، وكان هذا واضحاً تمام الوضوح في دراسة السيرة النبوية.(46/9)
الوسطية في منهج النبي صلى الله عليه وسلم
السمة الخامسة البارزة في السيرة النبوية هي: الوسطية في منهجه صلى الله عليه وسلم: ولا بد أن نتحدث عن الوسطية بعد حديثنا عن الشمول؛ فالذي يدرس السيرة النبوية ويتجول بين صفحاتها يدرك تماماً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تعامل مع قضايا حياته المختلفة بتوازن رائع، فليس معنى أنه كان يجد قرة عينه في الصلاة أن يهمل بيته، بل كان يأمر الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم الذين يبالغون في العبادة إلى درجة إهمال شئون حياتهم الأخرى، يأمرهم أن يقللوا من العبادة، وأن يأخذوا من وقت الصلاة والصيام ويعطوا زوجاتهم وأولادهم، نعم كان يحب الإنفاق في سبيل الله ويحض عليه، لكنه ما كان يترك أصحابه ينفقون كل أموالهم في سبيل الله دون أن يتركوا شيئاً لأولادهم، بل أمرهم أن يتركوا ورثتهم أغنياء، ولم يقبل منهم صلى الله عليه وسلم إنفاق المال كله في سبيل إلا في ظروف معينة، ومن أفراد بأعيانهم كـ الصديق رضي الله عنه في قصة الهجرة وتبوك.
وليس معنى أنه كان يحب الموت في سبيل الله صلى الله عليه وسلم حتى قال: (لوددت أن أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل) ليس معنى هذا أن يلقي بنفسه في المهالك دون اكتراث أبداً، بل رأيناه صلى الله عليه وسلم يلبس درعين من حديد، ويضع الخطة المناسبة للمعركة، ويرسل العيون، ويأخذ بجوانب الحيطة والحذر، ويؤمن ظهره، ويحمي جيوشه وشعبه، هكذا رأيناه في دروس السيرة النبوية صلى الله عليه وسلم.
حياة متوازنة راقية لا إفراط ولا تفريط، لا تشدد وتطرف، وكذلك لا تسيب وتنازل، حياة متوازنة عبر عنها ربنا سبحانه وتعالى بقوله وهو يصف هذه الأمة العظيمة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة:143].(46/10)
البعد الأخلاقي للتشريعات الإسلامية
السمة السادسة، وقد رأيناها واضحة في السيرة النبوية: البعد الأخلاقي العظيم في كل التشريعات الإسلامية، قال الرسول عليه الصلاة والسلام فيما رواه البيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه وهو يصف بعثته صلى الله عليه وسلم، ويقصرها صلى الله عليه وسلم على إتمام مكارم الأخلاق، يقول: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).
عند النظر إلى كل شعائر الإسلام تجد أنها في المقام الأول تسمو بالأخلاق، الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، الصوم ينهى عن قول الزور والشقاق والعراك والتشاحن، الصدقة تطهر النفس وتوطد العلاقات الطيبة في المجتمع، وهكذا في كل التشريعات.
في أحداث السيرة النبوية رأينا أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على هذا الجانب الأخلاقي في كل مواقفه وفي كل معاملاته صلى الله عليه وسلم.
يكفي فقط أن نذكر مجالين يتعجب الكثير في زماننا الآن من ارتباط الأخلاق بهما: أما المجال الأول فهو: المجال السياسي، ألف الناس في زماننا الآن وقبل ذلك تصوير السياسة على أنها خبث وكيد وخيانة وغدر ونفاق وعنف، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام أثبت لنا عكس ذلك تماماً، رأيناه في مكة وفي المدينة يحاور ويفاوض، ولكنه ما كذب ولا غدر ولا خان صلى الله عليه وسلم، بل إنه لم تخرج منه كلمة سوء واحدة يندم عليها صلى الله عليه وسلم، لم يكن فاحشاً ولا متفحشاً حتى مع أعتى الأعداء، بل كان واسع الصدر صلى الله عليه وسلم، كان مبتسماً هادئاً حيياً، كان خلوقاً صلى الله عليه وسلم في سياسته الداخلية مع شعبه وحكومته وأعوانه وأنصاره بل ومع معارضيه، بل حتى المنافقين معلومي النفاق بالوحي كان يحسن صحبتهم ويعفو عن سبابهم أو قطيعتهم صلى الله عليه وسلم.
وكان خلوقاً كذلك في سياسته الخارجية مع رسل وأمراء وملوك العالم، حتى من حاربه منهم فإنه لم يخرج أبداً عن حدود اللياقة والأدب وحسن الخلق صلى الله عليه وسلم، وراجع -إذا أحببت- محاوراته صلى الله عليه وسلم مع كفار مكة أمثال عتبة بن ربيعة والوليد بن المغيرة ووفود قريش المتتالية.
أيضاً انظر إلى مباحثاته صلى الله عليه وسلم مع بني عامر وبني شيبان وغيرهما، وراجع بيعتي العقبة الأولى والثانية، راجع المعاهدات والمحاورات مع اليهود ومع مشركي المدينة، راجع صلح الحديبية، راجع استقباله صلى الله عليه وسلم للوفود المختلفة على مدار السنوات المتعاقبة، راجع الرسائل إلى ملوك العالم، والخطب السياسية والمكاتبات إلى العمال والأمراء، ولا نبالغ إذا قلنا: إن علينا أن نراجع حياته بكاملها لأنه ما خلت لحظة من لحظات حياته، ولا مرحلة من المراحل التي مر بها في سياسته من أخلاق رفيعة وخلال حميدة في كل المواقف.
هذه كانت أخلاقه في الجانب السياسي من حياته صلى الله عليه وسلم، والكلام يستغربه سياسيو العصر الحديث ومحللو العالم ومفكروه، لكن هذا واقع رأيناه في السيرة النبوية.
المجال الآخر -وهو صعب أن تجد زعيماً من زعماء العالم إلا من رحم الله عز وجل- يفلح في التحلي بالأخلاق في الجانب العسكري والواقع أن الضوابط الأخلاقية التي وضعها صلى الله عليه وسلم في حروبه من المستحيل فعلاً الإلمام بها في هذه العجالة، فهي تحتاج إلى بحث مفصل ودراسة متأنية، ويكفي أن نذكر أنه كان دائماً يجعل الحروب آخر الحلول، لم يكن أبداً -كما يشاع عنه في بعض الكتابات أو الرسوم- متعطشاً للدماء كما نرى الكثير الآن من قادة وعسكري العالم، لكن كان كثير العفو صلى الله عليه وسلم عن عدوه في حالة تسليم العدو ورضوخه، وراجعوا فتح مكة، راجعوا موقعة حنين وغيرهما، وكان يحرم صلى الله عليه وسلم الخيانة في الحرب، أو نقض العهود، أو الهجوم دون إنذار، وكان يحرم قتل النساء والأطفال وكبار السن ورجال الدين غير المحاربين، وكان يكرم الأسرى ويوصي بهم، وكان يحرم قطع النخيل والأشجار إلا بضرورة عسكرية، وكان لا يهدم الديار ولا يخرب الأراضي صلى الله عليه وسلم، كان لا يعيث في الأرض فساداً بما اعتدنا أن نراه في الحروب غير الإسلامية سواء في القديم أو الحديث، دعوة الإسلام دعوة أخلاق في المقام الأول، والذي يدرس أحداث السيرة سيجد أن هذه السمة بارزة لا تخفى على أي محلل، ولن يجهلها أي منصف، وصدق الله عز وجل عندما وصف حبيبنا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] إذاً: هذه هي السمة السادسة من السمات البارزة في السيرة النبوية.(46/11)
أبدية الحرب والصراع بين الكفر والإيمان في الحياة
السمة السابعة: أن الحرب بين الحق والباطل وبين الإيمان والكفر حرب أبدية يستحيل أن تخلو منها فترة من فترات الحياة، فالحق من وظيفته أن يقاوم الباطل، وكذلك الباطل لن يرضى أبداً أن يبقى الحق في الأرض دون مقاومة، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يدرك ذلك جيداً، وكان يجاهد الكفار بطرق مختلفة حسب المرحلة، فأحياناً يجاهد باللسان والقرآن، وأحياناً بالسلاح والسنان، قد تختلف الوسيلة ولكنه في كل الأحوال يجاهد صلى الله عليه وسلم، أحياناً يختلف العدو حسب المرحلة، لكن دائماً هناك عدو، تارة يكون الأعداء من قريش، وتارة من مشركي المدينة، وتارة من المنافقين، وتارة من الأعراب، وتارة من اليهود، وتارة من النصارى، وتارة من المجوس، يتنوع أعداء الأمة حسب المكان والزمان، لكن يغلب على صفة كل الحروب أنها حرب عقائدية تدور في محورها الرئيس حول قضية الدين، يدخل فيها أحياناً عوامل أخرى مثل الاقتصاد أو بعض الأمور الاجتماعية أو حب السلطة، لكن يظل العامل الرئيس في المعركة هو الدين، في هذا المعنى قال ربنا سبحانه وتعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة:217]، وهذا أمر رأيناه في كل مراحل السير، طالما أن المسلمين مستمسكون بدينهم ستظل الحرب دائرة بينهم وبين أعدائهم.
كان الرسول عليه الصلاة والسلام يعلم أن هذا الصراع ليس صراعاً شخصياً معه صلى الله عليه وسلم، إنما هو صراع عقائدي سيستمر مع أصحابه وأتباعه إلى يوم القيامة، لذا كان من آخر وصاياه صلى الله عليه وسلم إنفاذ بعث أسامة بن زيد رضي الله عنهما إلى حرب الرومان، وأوصى بإخراج المشركين من جزيرة العرب، وجعل الجهاد صلى الله عليه وسلم ذروة سنام الإسلام، ولن يأتي زمان أبداً على الأرض يختفي فيه الشر وينتهي الباطل، أو يرضى فيه أهل الباطل عن أهل الحق فتكون حالة من الحوار فقط دون قتال.
وقد وعد الله عز وجل الشيطان بالبقاء إلى يوم يبعثون، وسيظل للشيطان محاولات ومحاولات لإضلال الخلق، ولن يقبل المؤمن الصادق بهذا الإفساد في الأرض، وستبقى أيضاً محاولات الإصلاح مستمرة إلى يوم القيامة، ومن ثم فالجهاد ماض إلى يوم القيامة.
هذا ما رأيناه في السيرة ورأيناه بعد ذلك بعد أحداث السيرة، ونراه في زماننا هذا، وسيبقى إلى يوم القيامة، سنة من سنن رب العالمين: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:40].(46/12)
بث الأمل في المسلمين
السمة الثامنة من السمات البارزة في السيرة النبوية هي: سمة الأمل الذي كان يبثه صلى الله عليه وسلم في المسلمين في كل المواقف وبلا استثناء.
إن المؤمن لا يقنط أبداً من رحمة الله عز وجل، ولا يقنط أبداً من فضله وكرمه سبحانه وتعالى، قال الله تعالى: {قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ} [الحجر:56].
لذا فإن المؤمن مع رؤيته للظروف القاسية التي تمر بها الأمة الإسلامية لا يتأثر مطلقاً بذلك، ويعلم دائماً أن الميزان في صالحه ما دام الله عز وجل معه، من هذا المنطلق يمكننا فهم الروح المتفائلة التي كان يتصف بها المجتمع المسلم في كل مراحل السيرة النبوية حتى في أشد هذه المراحل ظلاماً، رأينا ذلك في كل سنوات مكة الصعبة، بل رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يبشر سراقة بن مالك بسواري كسرى وهو مطارد في هجرته من مكة إلى المدينة، ورأيناه يبشر بنصر المسلمين في بدر مع كون المشركين ثلاثة أضعاف المسلمين، ورأيناه يطمئن المسلمين بعد مصيبة أحد أن الدولة الأخيرة ستكون للمؤمنين، ورأيناه يبشر المؤمنين ليس بفك الحصار عن المدينة أيام الأحزاب فقط، ولكن أيضاً بفتح فارس والشام واليمن، منهج حياة كامل رأيناه بارزاً في السيرة النبوية في كل المراحل.
لم يكن هذا التبشير فقط في المواطن الصعبة أو في مواقف الأزمات، بل كان سياسة عامة انتهجها صلى الله عليه وسلم في كل أحاديثه وخطبه وحواراته وتعليقاته صلى الله عليه وسلم.
يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام مسلم عن ثوبان رضي الله عنه وأرضاه: (إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)، إلى غير ذلك من الأحاديث الكثيرة مما يجعل هذه البشرى وهذا الأمل منهجاً واضحاً من مناهج رسول الله صلى الله عليه وسلم في بناء أمته.(46/13)
سعادة المسلمين بالمنهج الإسلامي
السمة التاسعة من السمات البارزة في حياته صلى الله عليه وسلم هي: سعادة المسلمين بمنهجهم الإسلامي حتى في أشد حالات التعب والمعاناة.
ولعلنا نفسر سبب السعادة بعد بدر والأحزاب وفتح مكة وغير ذلك من الانتصارات والإنجازات، لكن قد يتساءل أحد ممن يدرسون السيرة فيقول: هل هناك سعادة في تعذيب أهل مكة للمؤمنين؟ هل هناك سعادة في مصيبة أحد؟ هل هناك سعادة في أزمة حنين؟ الحق: أنه ليس هناك فترة من فترات السيرة النبوية إلا وتلحظ فيها لوناً من ألوان السعادة، حتى ولو كان الظاهر حزناً وألماً؛ فالمسلم الصادق يعاني ويتألم وهو يعلم أن العاقبة للمتقين، وأنه سيأتي يوم يمكن الله عز وجل فيه للإسلام ويعز فيه الدين، وهذا الأمل يبعث في نفسه الراحة والسعادة والاطمئنان، إضافة إلى سعادة المؤمن بعدم خصامه مع الكون والأرض والمخلوقات، فالكل يعبد الله عز وجل في تناسق جميل، وانسجام طبيعي.
أما الكافر فهو يعيش في تناقض مع نفسه ومع الكون، الكون كله يشهد بكل ذرة فيه بعظمة الخالق ووحدانيته وحكمته، والكافر لا يقر بذلك، فأي تعاسة تكون في نفسه؟ وأي سعادة يعيش فيها المؤمن بتوافقه مع الكون في عبادة رب العالمين سبحانه وتعالى؟! والمسلم فوق ذلك ينتظر جنة في الآخرة، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويعلم يقيناً أنه سيعوض يوم القيامة عن كل ظلم وقع عليه، وعن كل ألم تحمله، وعن كل هم أو غم عاش فيه، هذا التعويض المنتظر يخفف عليه كثيراً من ألمه ونصبه، حتى رأينا من يفقد حياته، ومع ذلك يقول كلمات تعبر عن منتهى السعادة، مثل حرام بن ملحان رضي الله عنه وأرضاه وهو يطعن بالحربة في ظهره فتخرج من صدره وهو يقول: فزت ورب الكعبة، فزت ورب الكعبة.
سبحان الله! هذه أيضاً سعادة.
وأمثلة ذلك كثيرة في السيرة النبوية، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا: إن في باطن كل ألم سعادة؛ لأن المسلم يستشعر وقت وقوع الألم أنه قد كفر عنه جانب من خطاياه، ورفع قدره بدرجة معينة في الجنة، فانتظار المؤمن للجنة وحب المؤمن للجنة يجعله يقبل الألم، بل ويرضى به، وهذا نوع من أنواع السعادة لا تجده إلا عند المؤمنين حقيقة.
كانت هذه السمة التاسعة من سمات السيرة النبوية: السعادة في كل مواقف السيرة حتى وإن كانت مواقف مؤلمة.(46/14)
وضوح مهمة البلاغ في الدعوة
السمة العاشرة والأخيرة هي: وضوح مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن ثم مهمة الداعية من بعده، هذه المهمة كانت من أول يوم في البعثة إلى آخر يوم في حياته صلى الله عليه وسلم واضحة تماماً، ألا وهي البلاغ، يقول ربنا سبحانه وتعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ} [المائدة:99].
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم ما يريد من أول أيام الدعوة، وحرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تبليغ كل من يعرف ومن لا يعرف، واختلفت وسائل البلاغ في كل مرحلة، لكن البلاغ كان سمة عامة في كل مراحل السيرة، في أول أيام الدعوة كان البلاغ سراً وعن طريق الانتقال، واستمر ذلك ثلاث سنوات كاملة، ثم أعلن الرسول عليه الصلاة والسلام الأمر على الناس، وبلغ أهل مكة جميعاً، وناداهم قبيلة قبيلة ورهطاً رهطاً، وصدوه عن دعوته وقاوموه، لكنه ما قصر صلى الله عليه وسلم في البلاغ أبداً، بل كان يذهب إليهم في اجتماعاتهم وبيوتهم، وكان لا يترك زائراً يدخل مكة إلا وحدثه عن الإسلام وبلغه إياه، وكان لا يترك وفداً أتى للحج إلا وشرح له الرسالة الإسلامية وبشره وأنذره، وكان يجد إعراضاً كثيراً وسخرية مرة، ومع ذلك ما توانى لحظة عن إيصال رسالته للناس صلى الله عليه وسلم.
وفي فترة المدينة المنورة اجتهد في نشر دعوته وتبليغ الناس، ليس فقط في المدينة ولكن في كل أرجاء الجزيرة، ووصل الأمر في السنة السابعة من الهجرة إلى مكاتبة زعماء وملوك العالم لتبليغهم دعوة الإسلام، كانت المهمة واضحة تمام الوضوح في ذهنه صلى الله عليه وسلم، إنه البلاغ مهمة الرسل، ومهمة أتباعهم الذين يسيرون في طريقهم.
الرسول عليه الصلاة والسلام كان متفانياً في أداء هذه المهمة النبيلة إلى درجة أنه كان يحزن حزناً شديداً يكاد يهلكه عندما لا يهتدي إنسان بكلمات القرآن، مع أن مهمة الرسول عليه الصلاة والسلام هي البلاغ فقط وليست الهداية، إلى الدرجة التي رفق الله عز وجل به وأنزل آيات في مواطن عدة من القرآن الكريم تنهاه عن الحزن الشديد، قال تعالى: {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ} [النحل:127] وأمثال ذلك كثير في القرآن الكريم.
إذاً: على المسلم الفاهم الواعي أن يلتقط هذه المهمة النبيلة ليجعلها مهمة حياته، لا يرضى أبداً بأقل منها رسالة، لا يرضى أبداً بأبسط منها قضية، هذه هي قضية المسلم في حياته بكاملها، وهذا ما فهمناه بوضوح من خلال السيرة النبوية.
كانت هذه السمة العاشرة من السمات البارزة في السيرة النبوية، فتلك عشرة كاملة.(46/15)
سمات أخرى في السيرة النبوية
هل هذا كل شيء أردنا أن نذكره عن رسولنا صلى الله عليه وسلم؟ لا، فالبعض يتعجب من الحديث عن السيرة النبوية في ست وأربعين محاضرة متتالية، شملت الفترة المكية والمدنية، ويظن أن هذا يعتبر كثيراً، ولكني أقول: إن هذه بداية وليست نهاية؛ لأن السيرة النبوية فيها جوانب هائلة من المستحيل أن نحيط بها في مئات المحاضرات، ونحن أتينا على بعض الجوانب في هذه السيرة النبوية من حياته صلى الله عليه وسلم فقط.
هناك جوانب أخرى كثيرة من جوانب عظمته صلى الله عليه وسلم تحتاج إلى تفريغ وقت، وإلى بذل جهد لكي تدرس وتفهم؛ لذا سنحاول إعداد بعض المحاضرات الخاصة بحبيبنا صلى الله عليه وسلم، فعلى سبيل المثال: سنتكلم عن الرسول عليه الصلاة والسلام وأخطاء المؤمنين، وعن الرسول عليه الصلاة والسلام والدولة الشاملة، والرسول عليه الصلاة والسلام وحل مشكلات العالم، والرسول عليه الصلاة والسلام وفقه المعاملات، وأخلاق الرسول صلى الله عليه وسلم، والجانب الأخلاقي في التشريعات الإسلامية المختلفة، والرسول عليه الصلاة والسلام وفن امتلاك القلوب، والرسول عليه الصلاة والسلام وما تميز به عن عموم المسلمين، وخصائص حياة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعجزات الرسول عليه الصلاة والسلام سواء كانت القرآن الكريم أو المعجزات الحسية التي رآها معاصروه، أو الإنباء بالغيب، أو الإسراء والمعراج، إلى أشياء كثيرة جداً نحتاج أن نفصل فيها في حياة حبيبنا صلى الله عليه وسلم.
بالإضافة إلى جوانب كثيرة متعلقة بخصائص حياته صلى الله عليه وسلم، مثل فن الإدارة، فن القيادة، فن التغيير، فن الخطابة، فن تربية الأطفال، وغير ذلك من فنون إبداعية تحتاج إلى تفصيل ودراسة وتعمق.
هذه بعض البحوث التي سنعملها إن شاء الله في الفترات القادمة، وهي مجرد فصول من كتاب ضخم كبير يستحيل إتمامه أبداً، وسيظل الدعاة والعلماء ينهلون من هذا النبع الصافي إلى يوم القيامة.(46/16)
واجباتنا تجاه نبينا صلى الله عليه وسلم
هناك وقفة مهمة بعد دراسة هذه السيرة الرائعة: لا بد أن يظهر علينا في سلوكنا وحياتنا -بل وفي اعتقادنا- أثر لهذه الدراسة، لا بد أن هناك أمانة علقت في رقابنا، لا بد أن هناك واجباً حمل علينا.
في إيجاز شديد: يجب على كل مؤمن ومؤمنة بعد قراءة هذه السيرة أن يقوم بالأمور التالية، وهي واجبات في غاية الأهمية: أولاً: أن يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فهذه قضية مصيرية فعلاً، وهي علامة من علامات اكتمال الإيمان، فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الحديث الشريف كما في البخاري عن أنس رضي الله عنه: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين).
والذي يعرف السيرة ولا يحب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسان مجنون لا عقل له، أو منافق لا إيمان في قلبه، أو عاصٍ غمرت المعاصي قلبه، أو متكبر ينكر الحق وهو يستيقنه، كل مواقف السيرة بلا استثناء تدفع دفعاً إلى حب الرسول صلى الله عليه وسلم، بل وإلى تقديم حبه على أي حب آخر، وهذا من أهم أهداف دراسة السيرة النبوية.
ثانياً: أن تعرفه صلى الله عليه وسلم بأن تدرس تفاصيل سيرته، فنحن تكلمنا في ست وأربعين محاضرة عن لقطات سريعة من حياته صلى الله عليه وسلم، وما أكثر ما كتب عنه وما سيكتب، وسيرته لا تنتهي عجائبها صلى الله عليه وسلم، ما أكثر من تكلم عنه صلى الله عليه وسلم من الدعاة والعلماء ومن المسلمين ومن غير المسلمين، نحتاج أن نجعل لأنفسنا يومياً ورداً ثابتاً نعرف فيه شيئاً عن حبيبنا صلى الله عليه وسلم، هذا الواجب الثاني: أن نعرفه صلى الله عليه وسلم.
ثالثاً: أن نعرف به الآخرين ممن لا يعرفونه، أو يعرفونه بصورة مشوهة مغايرة للحقيقة، وأن نحبب فيه خلق الله عز وجل، وأكثر من أوصيك بهم أولادك وأطفال المسلمين، فهؤلاء إن تربوا على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلوا إلى كل نجاح في الدنيا والآخرة، ووصلت بهم الأمة إلى أعلى الدرجات.
رابعاً: أن تتبعه وتقلده صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة وكبيرة في حياتك.
فنحن استمعنا إلى السيرة، وعرفنا منهجه صلى الله عليه وسلم، واطلعنا على سلوكه وأخلاقه، وأدركنا جهاده وصبره وكفاحه، نريد أن نسقط كل موقف من مواقفه صلى الله عليه وسلم على واقع حياتنا، نريد أن نطبق كل سنة من سننه ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
واعلم أن علامة الحب الرئيسة هي الاتباع، وأن حباً بلا اتباع يعني غروراً وبطراً وجهلاً وحماقة.
خامساً: أن تصدقه في كل ما قاله أو أخبر عنه صلى الله عليه وسلم.
اقبل كل ما قاله صلى الله عليه وسلم دون تردد، صدق أحاديثه دون ريب، اعلم أنك قد تفتن بعقلك فترد حديثاً صحيحاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا هو طريق الهاوية، ومنحدر الهلاك فلا تلقين أبداً بنفسك فيه.
سادساً: أن تدافع عنه الحملات الشرسة التي تحاول النيل منه صلى الله عليه وسلم، وهي حملات لا تنتهي.
رأينا في السيرة النبوية الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم رجالاً ونساءً وشيوخاً وأطفالاً يدافعون بالغالي والثمين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأينا الرجل يتمنى أن يقتل ولا يشاك رسول الله صلى الله عليه وسلم شوكة في قدمه، رأينا الأطفال يقاتلون الفرسان، والنساء يحملن السيوف، ورأينا الأموال تنفق، والجهود تبذل حتى يتم الدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا هو المنهج الذي نريد أن نسير عليه في حياتنا كلها: أن ندافع عن الرسول عليه الصلاة والسلام بكل ذرة في حياتنا، بكل أموالنا، بكل جهدنا، بكل فكرنا، بكل حياتنا.
سابعاً: أن نشتاق إليه صلى الله عليه وسلم.
والذي هو مشتاق فعلاً لإنسان يتمنى أن يقابله، وهذا في الدنيا يكون في عمرة أو حج إن كنا مستطيعين لذلك نذهب ونزوره في مسجده صلى الله عليه وسلم ونسلم عليه في قبره، وسيرد عليك السلام حتماً كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف، لكن الأهم من ذلك والأعظم: أن نشتاق إلى لقائه عند حوضه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، ولا يكون ذلك إلا بإيمان عميق، وبعمل صالح، وباتباع دقيق لسنته صلى الله عليه وسلم، وإلا قال لنا يوم القيامة: سحقاً، سحقاً.
ونسأل الله عز وجل أن يسقينا من حوضه شربة هنيئة مريئة لا نظمأ بعدها أبداً.
ثامناً: أن تحب آل بيته صلى الله عليه وسلم.
هذا أمر هام جداً وعظيم، وللأسف فالكثير من المسلمين لا يظهر ذلك خوفاً من التشبه بمغالاة الشيعة في أمر أهل البيت، لكن الصواب أن يقف المسلم موقف الاعتدال الذي أراده لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو قد أوصى بآل بيته وبحبهم، وفي نفس الوقت ربط هذه المحبة بطاعتهم لله عز وجل وعدم مخالفتهم له، هذا هو الميزان الأمثل في التعامل.
يقول الرسول عليه الصلاة والسلام في حديث زيد بن أرقم رضي الله عنه في صحيح مسلم: (أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي) قالها ثلاثاً صلى الله عليه وسلم، كل هذا لا يتعارض مع وجوب اتباع(46/17)
اعتذار
في النهاية بعد أن عشنا هذه اللحظات السعيدة في ظلال السيرة النبوية أحب أن أختم هذه اللحظات برسالة أوجهها بكل ذرة في كياني إلى حبيبي وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، أقول له: عذراً يا رسول الله، عذراً إن كنا نجهل الكثير والكثير من حياتك، فسيرتك الإحاطة بها أمر مستحيل، لكن عزاؤنا أننا نحاول ونحاول ونقرأ ونبحث ونجمع ونحفظ ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، عذراً -يا رسول الله- إن كنا قد قصرنا في الكثير من سننك، فليس هذا -أبداً- تقليلاً من شأنها أو إهمالاً لقدرها، فإنا -والله- نعلم أن الخير كل الخير فيها، وأن الرحمة كل الرحمة في باطنها، ونعدك أن نأتي منها ما استطعنا كما أمرتنا، وأن ندرب أنفسنا وأزواجنا وأولادنا وإخواننا وكل أهلنا ومن وصلنا إليه من أتباعك وأحبابك، ندرب كل هؤلاء على تطبيقها واتباعها والتحلي بها.
عذراً -يا رسول الله- إن كانت تمر علينا أيام فلا نذكر طرفاً من سيرتك، ولا موقفاً من مواقفك، ولا حديثاً من أحاديثك، فإنا -ولا حول ولا قوة إلا بالله- قد شغلتنا أموالنا وأهلونا عن تذكر كلماتك العاطرة، وتوجيهاتك الحكيمة، ليس هذا -والله- نفاقاً ولا جحوداً، ولكن تقصير نرجو له تداركاً إن شاء الله، وخطأ نرجو له إصلاحاً، فنحن -والله- نحبك، بل نحب الثرى الذي مشيت عليه، والديار التي سكنت فيها، والبلاد التي عشت فيها، ولا نصبر على فراقك والبعد عنك، وأملنا أن نلقاك على الحوض إن شاء الله.
عذراً -يا رسول الله- إن جهل عليك بعض الجاهلين من أبناء أمتك فتطاولوا عليك باعتراض، أو تهجموا عليك بشبهة، فهذا الجهل منهم لا يقلل إلا من شأنهم هم، ولا يحط إلا من قدرهم هم، وحلمك -كما نعلم- أوسع من جهلهم، وعلمك أشمل من علمهم، وما جرأهم عليك إلا سوء تربيتهم، وفساد مناهجهم، وجريهم وراء كل غربي، وفتنتهم بشركائهم من الجن والإنس، وسوف يعلمون في يوم قريب من السعيد ومن الشقي، ومن الذي يرحب به ويسقى من حوضك، ومن الذي يقال له: سحقاً سحقاً.
عذراً -يا رسول الله- إن كانت أمتك الآن ليست على الصورة التي تحب، وليست في المكان الذي تريد؛ فهذه تراكمات سنين وأخطاء أجيال، لكن عزاؤنا أننا عدنا بفضل الله إلى جادة الطريق، فقامت الصحوة الإيمانية، وازدهرت الدعوة الإسلامية، وحرص الكثير من أبناء أمتك على تدارك ما فاتهم واللحاق بركب الصالحين، ولا نشك أبداً أن هذا طريق العزة لهذه الأمة، فنحن -إن شاء الله- فيه سائرون صابرون مجاهدون، وبشارتك معنا أنه لا تزال طائفة من أمتك ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك، نسأل الله أن نكون منهم.
وختاماً: نسأل الله عز وجل أن يشفعك فينا، وأن ييسر لنا أن نشرب من حوضك يوم القيامة شربة هنيئة لا نظمأ بعدها أبداً، وأن يجعلنا ممن يدخلون الجنة معك، ويرفعون إلى صحبتك، فقد بشرتنا بأن المرء يحشر مع من أحب، ونحن -والله- نحبك ونحب أصحابك وإن لم نعمل بأعمالكم.
نسأل الله أن يغفر لنا تقصيرنا، وأن يستر عيوبنا، وأن يكفر عنا سيئاتنا، وأن يرفع لنا درجاتنا، وأن يجعلنا مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم صل على محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم، اللهم صل على محمد وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وأهل بيته كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم اجعل صلاتك ورحمتك وبركاتك على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين محمد عبدك ورسولك إمام الخير وقائد الخير ورسول الرحمة، اللهم ابعثه مقاماً محموداً يغبطه به الأولون والآخرون، اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، اللهم جازه عنا وعن المسلمين وعن العالمين خير الجزاء، وصل اللهم عليه في الأولين، وصل اللهم عليه في الآخرين، وصل اللهم عليه في الملأ الأعلى إلى يوم الدين، آمين، آمين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.(46/18)