سلسلة فقهاء النهوض:
الشيخ عز الدين بن عبدالسلام
سلطان العلماء وبائع الأمراء
د. علي محمد محمد الصَّلاَّبيَّ
الأهداء
إلى كل مسلم حريص على إعزاز دين الله تعالى أهدي هذا الكتاب سائلاً المولى عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العُلا أن يكون خالصاً لوجهه الكريم قال تعالى: "فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً" (الكهف:111)
د.علي محمد محمد الصَّلاَّبي
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل، فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله "يا أيها الذينن ءامنوا اتقوا الله حق تُقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"(آل عمران، آية: 102).
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا" (النساء، آية: 1).
"يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً * يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذُنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيما"(الأحزاب، آية: 70 ، 71).
أما بعد:(1/1)
يارب لله الحمد حتى ترضى ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى، هذا الكتاب "الشيخ عز الدين بن عبدالسلام سلطان العلماء وبائع الأمراء،" جزء من موسوعتي عن الحروب الصليبية وبالتحديد من الحملات الصليبية، الرابعة والخامسة، والسادسة والسابعة، ورأيت نشره على انفراد لتعم الفائدة وقد أدخلت الشيخ عز الدين بن عبدالسلام في سلسلة فقهاء النهوض، حيث توفرت فيه الصفات المطلوبة لهذا النوع من الفقهاء النادرين، لئنه تصدى لقيادة الأمة في فترات حرجة من تاريخها، بل كان من الأسباب الرئيسية في انتصار المسلمين في عهد المماليك على المغول، كما سترى في هذا الكتاب ولقد أثبت هذا العالم الجليل مجموعة من الأمور التي تدل على كونه من فقهاء النهوض والتي منها:
- كونه عارف بشرع الله، متفقه في دينه وعامل على هدى وبصيرة وهو من وهبهم الله الحكمة قال تعالى "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً " (البقرة، آية: 269).
- وهو من الذين جعل الله عماد الناس عليهم في الفقه والعلم وأمور الدنيا والدين.
- وهو من أئمة الدين الذي نالوا هذه المنزلة العظيمة بالاجتهاد والصبر واليقين "وجعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لمّا صبروا وكانوا بآياتنا يوقنون"(السجدة، آية: 24).
- وهو من الفرقة التي نفرت من هذه الأمة لتتفقه في دين الله ثم قامت بواجب الدعوة ومهمة الأنذار "وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينُذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون".
- وقد شهد له علماء عصره بالفقه والعلم وأذنوا له بالتصدي للإفتاء والتدريس.(1/2)
- وهو ممن شافه العلماء وزاحمهم بالركب في الحلق، وأطلع على مجمل الأحكام الشرعية، فهو لم يقرأ نتفاً بل درس العلوم الشرعية دراسة شاملة عامة، فمر على مسائل العلم واستطاع تخريجها على أصولها وأصبحت لديه ملكه فهم النصوص وعرف مقاصد الشريعة وأهدافها العامة، فعلمه لم يأته من قراءة ليلة، بل من سهر الليالي ومعاناة الأيام وديمومة طلب العلم وتعلمه من المحبرة إلى المقبرة.
- لقد عاصر الشيخ عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب ونهاية الدولة الأيوبية وقيام دولة المماليك، فترك لنا آثاراً كبيرة في الشأن العام والسياسة الشرعية وفقه المصالح والمفاسد، والتصدي للغزاة، لقد تحدثت في هذا الكتاب عن سيرته ونشأته وشيوخه في طلب العلم وتلاميذه ومؤلفاته وسمات التأليف عنده، وأعماله في التدريس والإفتاء والقضاء والورع والتقوى و البلاغة والفصاحة، وأهم محاور التجديد عنده، كسعيه لتقنين أصول الفقه، ومجالات التربية والأدب والتصوف وإبداعاته الجميلة فيها وجهاده ثم وفاته وثناء العلماء عليه قديماً وحديثاً.
إن العز بن عبدالسلام مدرسة شامخة في فهم مقاصد الشريعة، وفقه المصالح والمفاسد وفك الاشتباك بين السياسة الشرعية والعقائد، فقد ساهم في نهضة الأمة فقهياً وفكرياً، وجهادياً وسياسياً، وأخلاقياً، فاستحق أن نسجله بماء الذهب على صفحات الزمن في سلسلة فقهاء النهوض.(1/3)
هذا وقد انتهيت من مقدمة هذا الكتاب يوم الأحد الساعة العاشرة والربع صباحاً 13/05/1429هـ 18/05/2008م بالدوحة والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسأله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً ويشرح صدور العباد للإنتفاع به ويبارك فيه بمنه وكرمه وجوده وأن يثيبني على كل حرف كتبته ويجعله في ميزان حسناتي وأن يثيب كل من ساهم على إتمام هذا الجهد المتواضع ونشره، ونرجو من كل مسلم يصله هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه "رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليَّ وعلى والديَّ وأن أعمل صالحاً ترضاه وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" (النمل، آية : 19).
وقال تعالى : "ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده وهو العزيز الحكيم" (فاطر، آية: 19).
وقال تعالى: "سبحان ربك رب العزة عمّا يصفون * وسلام على المرسلين * والحمد لله رب العالمين" (الصافات ، آية: 180-182).
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك وآخر
دعونا أن الحمد لله رب العالمين
الأخوة الكرام: يسرني أن تصل ملاحظاتكم وانطباعاتكم حول هذا الكتاب وغيره من كتبي من خلال دور النشر وأطلب من إخواني الدعاء في ظهر الغيب بالإخلاص لله رب العالمين، والصواب للوصول للحقائق ومواصلة المسيرة في خدمة تاريخ الأمة والمساهمة في النهوض بها
Mail: abumohamad2@maktoob.com
الشيخ عز الدين بن عبدالسلام من مشاهير عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب:(1/4)
أولاً: اسمه ونسبه: هو عبد العزيز بن عبدالسلام بن أبي القاسم بن حسن بن محمد بن مهذب السلمي المغربي أصلاً، الدمشقي مولداً، ثم المصري داراً ووفاة والشافعي مذهباً (1)[1])، يكنى بأبي محمد، ولقب بعدة ألقاب، بعز الدين، وشاع بين الناس، الإمام العز، ولقب بسلطان العلماء، لقبه به تلميذه ابن دقيق العيد، كما لقب بشيخ الإسلام (2)[2])واتفق أنه ولد في دمشق، واختلف في تحديد سنة ولادته، فقيل بدمشق سنة 577هـ.
__________
(1) مقاصد الشريعة عند الإمام العزّ بن عبد السَّلامَ ص 41.
(2) العز بن عبدالسلام، محمد الزحيلي ص 39.(1/5)
ثانياً: نشأته: كان العز بن عبدالسلام بعيش في أسرة فقيرة مغمورة لم يكن لها مجد أو سلطان أو منصب، أو علم، فقد ولد العز بن عبدالسلام في دمشق الشام، وهي وقتئذ مركز هام للعلم والمعرفة وقبلة للعلماء والفقهاء، وخط مواجهة أمامي مع الصليبيين الغزاة الذين احتلوا مدناً وحصوناً عديدة في فلسطين وساحل بلاد الشام كما كانت دمشق ممتليئة بنعم الله وخيراته الوفيرة من ماء عذب وزراعة وصناعة وتجارة درت عليها الرزق الواسع والخير الوفير، في هذه المدنية العريقة ولد العز بن عبدالسلام ونشأ في ربوعها وتنسم هواءها وترعرع في أجوائها، وقد انشغلت أسرته بطلب الرزق عن طلب العلم، إلا أن العز كان منذ نشأته الأولى عفيفاً شريفاً يملك نفساً أبيه، إذ لم يعرف عنه أنه امتهن مهنة تزري بصاحبها، أو تحط من شأنه، وكان رحمه الله شاباً متديناً، متعبداً رغم فقره، وكده على رزقه، ولا أدل على ذلك من مبيته في المسجد الليالي الطوال (1)[3])، ينتظر الصلاة كي لا تفوته الجماعة، أو يغيب عن الصلاة والعبادة فيه، وقد ذكر السبكي ت 771هـ قوة إيمان هذا الشاب وشدة فقره وتدينه حيث قال: سمعت الشيخ الإمام يقول: كان الشيخ عز الدين في أول أمره فقيراً جداً، ولم يشتغل إلا على كبر، وسبب ذلك أنه كان يبيت في الكلاسة (2)[4])من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات برد شديد فاحتلم فقام مسرعاً، ونزل في بركة الكلاسة (3)[5])من جامع دمشق، فبات بها ليلة ذات برد شديد، فاحتلم فقام مسرعاً، ونزل في بركة الكلاسة فحصل له ألم شديد، وعام فنام فاحتلم ثانياً، فعاد إلى البركة لأن أبواب الجامع مغلقة وهو لا يمكنه الخروج، فطلع فأغمى عليه من شدة البرد"...
__________
(1) النجوم الزاهرة (7/209)، مرآة الجنان (4/158).
(2) الكلاسة : زاوية في الجانب الشمالي من جامع دمشق.
(3) فتاوي شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام ص 66.(1/6)
ثم سمع النداء في المرة الأخيرة، يا ابن عبد السلام : أتريد العلم أم العمل؟ فقال الشيخ عز الدين: العلم لأنه يهدي إلى العمل فأصبح، وأخذ التنبيه فحفظه في مدة يسيرة، وأقبل على العلم فكان أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله (1)[6]). في هذه الرواية دلالة واضحة على تدين العز، وقوة إيمانه، ونشأته الصالحة التقية، حيث لا يحتمل مثل هذه المشاق إلا من عرف ربه، وسلك منهج الحق، وتعلق قلبه بالمساجد لا يخرج منها إلا ليعود إليها، فكان مثال الشاب الذي نشأ في طاعة الله، عازفاً عن طيش الشباب، وهوى النفس، فالشاب الذي يتحرج من الاستسلام إلى دفء المفراش جُنُباً في ليلة شديدة البرد، لا شك يعرف قيمة عمله، ويتحلى بوعي ديني كبير، وحس إيماني عميق يجعله يبادر إلى التطهر عقب اكتشاف الأثر دون تباطؤ أو كسل (2)[7]).
__________
(1) طبقات الشافعية.
(2) المصدر نفسه.(1/7)
ثالثاً: شيوخه في طلب العلم: انقطع سلطان العلماء عز الدين بن عبدالسلام للعلم والتعلم بعدما ناهز الاحتلام كما تدل على ذلك حادثة مبيته في الكلاسة من جامع دمشق وشمّر عن ساعد الجد وشحذ الهمة، فحفظ المتون، ودرس الكتب، وتردد على كبار الشيوخ في عصره ليعوض مافاته في صغره، كما أن كبر سنه وذكاءه أعاناه على التفوق في تحصيل العلم وإدراك مسائله الغامضة، وتحليل رموزه والذي ساعده أيضاً على الاستزادة من العلم والمعرفة الجو العلمي الذي كانت تعيشه بلاد المشرق بصفة عامة ومدينة دمشق بصفة خاصة، حيث كانت موطناً لعدد كبير من فحول العلماء ومشاهيرهم فنهل منهم، العلم والمعرفة، وتحلى بمكارم أخلاقهم، واقتدى بحسن سلوكهم حتى أصبح كما قال السبكي رحمه الله: أعلم أهل زمانه ومن أعبد خلق الله تعالى (1)[8])، قال الداوودي ت 945هـ : كان العز بن عبد السلام يقول: ما احتجت في علم من العلوم إلى أن أكمله على الشيخ الذي أقرأ عليه، وما توسطته على شيخ من المشايخ الذين كنت أقرأ عليهم إلا وقال لي الشيخ: قد استغنيت عني، فاشتغل مع نفسك، ولم أقنع بذلك، بل لا أبرح حتى أكمل الكتاب الذي أقرؤه في ذلك العلم (2)[9])، وكان يقول: مضت لي ثلاثون سنة لا أنام حتى أمر أبواب الأحكام على خاطري (3)[
__________
(1) طبقات الشافعية الكبرى (5/83) فتاوى العز ص 69.
(2) طبقات المفسرين للداودي (1/313) المصدر نفسه ص 69.
(3) 10])رفع الإصر عن قضاة مصر ص 70 فتاوى العز ص 70..(1/8)
10])وقد تلقى العز رحمه الله علوم الحديث والفقه والأصول والتفسير والتصوف واللغة على أكابر وجهابذة علماء دمشق التي كانت قبلة طلاب العلم وموطن العلماء الأفذاذ، البارعين في شتى العلوم والفنون فتردد عليهم الشيخ عز الدين فنهل من علمهم الصافي الفياض، فانصقلت مواهبه، وتميزت شخصيته وتأثر بهم وسار على منهجهم في الورع والزهد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (1)[11]) وقال ابن كثير: وسمع كثيراً واشتغل على فخر الدين بن عساكر وغيره، وبرع في المذهب، وجمع علوماً كثيرة، وأفاد الطلبة، ودرَّس بعده مدارس بدمشق، وولي خطابتها، ثم سافر إلى مصر، ودرّس وحكم وانتهت إليه رياسة الشافعية وقصد بالفتوى من الآفاق (2)[12]).
رابعاً: شيوخ العز رحمه الله:
1- فخر الدين بن عساكر: هو أبو منصور عبد الرحمن بن محمد بن الحسن بن هبة الله الدمشقي، الملقب فخر الدين، المعروف بابن عساكر، شيخ الشافعية بالشام، وفقيه زمانه، وكان محدثاً صالحاً، زاهداً كثير التهجد، حسن الخلق والخُلقُ، كثير الأدب والذكر، منقطعاً للعلم والعبادة، وجمع بين العلم والعمل، وهو من أسرة اشتهرت بالعلم والفضل والحفظ، وكان قوياً في الحق لا يهاب سطوة ظالم، ولا يسكت على منكر أو مخالفة للشرع، وتوفي سنة 620هـ وطلب للقضاء فامتنع، وعرضت عليه مناصب ولايات دينية فأباها، وأنكر على الملك المعظم بيع الخمور بدمشق، فمنعه من التدريس في أهم المدارس، وهو ابن أخي الحافظ أبي القاسم علي بن عساكر، صاحب "تاريخ دمشق" لازمه العز كثيراً، وأخذ منه الفقه والحديث، وتأثر به في علمه وأخلاقه وسلوكه(3)[13]).
__________
(1) 11])فتاوي شيخ الإسلام العز بن عبد السلام ص 70.
(2) 12])البداية والنهاية (17/441).
(3) 13])وفيات الأعيان (2/316) العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 57.(1/9)
2- جمال الدين الحرستاني: هو عبد الصمد بن محمد بن أبي الفضل بن علي، قاضي القضاة، جمال الدين، أبو القاسم الخزرجي الأنصاري، الدمشقي، المعروف بابن الحرستاني، قاضي دمشق، من ذرية سعد بن عبادة رضي الله عنه، جمع الحديث، وسمّاه الذهبي : مسند الشام، شيخ الإسلام وكان إماماً فقيهاً عارفاً بالمذهب، ورعاً، صالحاً، محمود الأحكام، حسن السيرة كبير القدر: .. وولي القضاء بدمشق نيابة... ثم إنه ولي قضاء القضاة استقلالاً في سنة 612هـ (1)[14])وكان عالماً صالحاً زاهداً على طريقة السلف في لباسه وعفته وكان صارماً، عادلاً، ولا تأخذه في الله لومة لائم وله حكايات عظيمة مع الملك المعظم عيسى في أحكامه، ولم تفته صلاة بجامع دمشق في جماعة إلا كان مريضاً، وعمَّراً دهراً طويلاً وتوفي سنة أربع عشرة وستمائة وله 95 سنة وكان من أعدل القضاء وأقومهم بالحق تتلمذ عليه الشيخ عز الدين بن عبدالسلام وسمع منه الحديث وأخذ عنه الفقه وقال فيه الشيخ عز الدين : أنه لم ير أفقه منه وعليه كان ابتداء اشتغاله، ثم صحب فخر الدين ابن عساكر ورجح الشيخ عز الدين ابن الحَرستاني – في علمه – على ابن عساكر وكان الحرستاني حفظ "الوسيط" للغزالي (2)[15])وقال سبط بن الجوزي : كان زاهداً، عفيفاً، ورعاً، نزِها، لا تأخذه في الله لومة لائم، اتفق أهل دمشق على أنه ما فاتته صلاة بجامع دمشق في جماعة إلا إذا كان مريضاً، ثم ساق حكايات من مناقبه وعدله في قضاياه، وأتى مرة بكتاب، فرمى به وقال: كتاب الله قد حكم على هذا الكتاب فبلغ العادل قوله، فقال: صدق، كتاب الله أولى من كتابي وكان يقول للعادل: أنا ما أحكم إلا بالشرع وإلا فأنا ما سألتك القضاء، فإن شئت، فأبصر غيري (3)[
__________
(1) 14])سير أعلام النبلاء (22/80 – 82).
(2) 15])المصدر نفسه (22/82).
(3) 16])سير أعلام النبلاء (22/83)..(1/10)
16])وقال أبو شامة : ابنه العماد هو الذي ألحَّ عليه حتى تولى القضاء وحدثني ابنه قال: جاء إليه ابن عُنَيْن، فقال: السلطان يُسلمَُّ عليك ويوصي بفلان فإن له محاكمة، فغضب وقال: الشَّرع ما يكون فيه وصية (1)[17])وقال المنذري : سمعت منه وكان مهيباً، حسن السَّمت، مجلسه وقار وسكينة، ويبُالغ في الإنصات إلى من يقرأ عليه(2)[18]).
__________
(1) 17])المصدر نفسه (22/83).
(2) 18])المصدر نفسه (22/83).(1/11)
3- سيف الدين الآمدي: هو علي بن أبي علي بن محمد بن سالم الثعلبي، أبو الحسن المعروف بسيف الدين الآمدي أحد أذكياء العالم وُلد بعد سنة 550هـ بيسير بمدينة آمد، وقرأ بها القرآن، وحفظ كتاباً في مذهب الإمام أحمد بن حنبل، ثم قَدِم بغداد، فقرأ بها القراءات، وتفقه على أبي الفتح بن المنى الحنبلي، ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، وصحب أبا القاسم بن فضلان، وبرع عليه في الخلاف، وتفنَّن في علم النظر، وأحكم الأصلين والفلسفة وسائر العقليات، ثم دخل مصر وتصدَّر للإقراء وتخرّج به جماعة، ثم وقع التعصَّب عليه، فخرج من القاهرة متخفياً ثم قدم دمشق، ودرس بالمدرسة العزيزية، ثم أخذت منه وتوفي بدمشق سنة 631هـ، له تصانيف تربو على العشرين كلها منقّحة حسنة، منها "الأبكار" في أصول الدين و"الأحكام" في أصول الفقه و"شرح جدل الشريف" وقد درس عليه العزّ الأصول واستفاد منه كثيراً، وتأثر به، ويبدو ذلك في كتاب العزّ "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" وكان من المعجبين به، وبطريقة تدريسه ومناظرته، وقد تفلت عنه عبارات تشيد بذلك منها قول العزّ: ما سمعت أحداً يُلقي الدرس أحسن منه، كأنه يخطب، وإذا غيّر لفظاً في "الوسيط" للغزالي كان لفظه أمسّ بالمعنى من لفظ صاحبه وقال : ما علمنا قواعد البحث إلا من سيف الدين الآمدي (1)[19]). وقال: لو ورد على الإسلام متزندق يشكّك ما تعيّن لمناظرته غير الآمدي لاجتماع أهليّة ذلك فيه (2)[20]).
ولما توفي سيف الدين الآمدي خرج الإمام العز في جنازته وحضر دفنه في سفح جبل قاسيون (3)[21]).
__________
(1) 19])العز بن عبدالسلام العلماء فاروق عبد المعطي ص 18.
(2) 20])طبقات السبكي (8/306 – 308).
(3) 21])النجوم الزاهرة (6/285).(1/12)
4- القاسم بن عساكر: هو القاسم بن علي بن الحسن بن هبة الله وهو الحافظ أبو محمد بن الحافظ أبي القاسم بن عساكر بهاء الدين، كتب الكثير حتى أنه كتب تاريخ والده "تاريخ دمشق" مرتين، وهو من أسرة علمية وله كتاب "فضل المدينة" و "فضل المسجد الأقصى" و"الجهاد" وتولى مشيخة دار الحديث النورية بعد والده، ولم يتناول أجراً على ذلك، بل كان يدفعه للطلبة، وكان ناصر السنة في إماتة البدعة، سمع منه خلق كثير، وأملى كثيراً، وحدث، ودخل مصر وانتفع به أهلها وعاد إلى دمشق ومات بها سنة 600هـ وكان يحب المزح، وكثير النوافل والذكر، معرضاً عن المناصب بعد عرضها عليه، وكان حسن المعرفة، شديد الورع، كثير الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قليل الإلتفات إلى الأمراء وأبناء الدنيا، سمع العز منه الحديث، وانتفع به في منهجه وسلوكه (1)[22]).
5- عبداللطيف بن شيخ الشيوخ: ومن شيوخ العز رحمه الله عبداللطيف بن شيخ الشيوخ وهو: عبداللطيف بن إسماعيل ابن شيخ الشيوخ أبي سعد، وكنيته أبو الحسن، ولقبه ضياء الدين، وهو أخو شيخ الشيوخ صدر الدين عبد الرحيم بن إسماعيل الذي قدم رسولاً على صلاح الدين الأيوبي من بغداد مراراً، سمع الحديث من شيوخ عصره ومن والده وآخرين، كان صالحاً، ثقة، رحل إلى مصر والقدس والخليل، وقدم دمشق ولقي شيوخها وأخذ عنه العز رحمه الله الحديث، وسمع منه، وتأثر بأخلاقه الفاضلة وهمته العالية، توفي رحمه الله في دمشق ودفن فيها سنة 596هـ (2)[23]).
__________
(1) 22])طبقات الشافعية (8/352) الأعلام (6/12).
(2) 23])النجوم الزاهرة (6/159) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 74.(1/13)
6- الخشوعي: ومن شيوخ العز أيضاً أبو طاهر بركات بن إبراهيم بن طاهر الخشوعي عن مسند الشام في عصره وطال عمره، حتى شاخ تلامذته، وقد انتفع به خلق كثير منهم العز بن عبدالسلام الذي تلقى العلم على يديه منذ أيامه الأولى، وقد اختلف في تاريخ وفاته، فذكر ابن كثير أنه توفي سنة 597هـ (1)[24])، وقال ابن تغْري بردي توفي الخشوعي سنة 598هـ(2)[25]).
7- حنبل الرصافي: هو أبو علي حنبل بن عبدالله بن الفرج بن سعادة المكبر بجامع الرصافة، وكان فقيراً جداً في أول حياته ثمّ حصل مالاً طائلاً، وقد سمع مسند الإمام أحمد من ابن الحصين، وهو آخر من رواه عنه، وقد رحل إلى إربل والموصل ودمشق، وأسمع المسند بهذه البلاد وقد سمع منه الملك المعظم عيسى بن العادل في جمع كثير في الجامع الأموي، وكان كثير الأمراض، توفي ببغداد سنة أربع وستمائة وله تسعون سنة وآل ماله إلى بيت المال لأنه لا وارث له وقد سمع منه العز بن عبدالسلام (3)[26]).
8- عمر بن طبر زد: هو أبو حفص عمر بن محمد بن يحي المعروف بان طبرزد الدّار قري، ولد سنة 516هـ وسمع حديثاً كثيراً من أبي غالب بن البنّاء وأبي القاسم بن الحصين وكان معلماً للصبيان بدار القزّ ببغداد، وسافر مع حنبل إلى الشام، ثم عاد إلى بغداد وقد جمعا مالاً كثيراً وتوفي سنة 607هـ وعاد ماله إلى بيت المال، لأنه لا وارث له (4)[27]).
__________
(1) 24])البداية والنهاية نقلاً عن فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 74.
(2) 25])النجوم الزاهرة (6/181) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 74.
(3) 26])تاريخ دول الإسلام (2/111).
(4) 27])النجوم الزاهرة (6/201) العز بن عبدالسلام سلطان العلماء ص 20.(1/14)
9- شهاب الدين السُّهروردي: ومن شيوخ العز الذين أثروا به، وتأثر بهم الإمام العارف أبو حفص عمر بن محمد بن عبدالله بن عمويه بن سعيد بن الحسن السهروردي ينتهي نسبه إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولد سنة 530هـ، بسهرورد، وقدم بغداد، فصحب عمه وأخذ عنه التصوف والوعظ، وسمع الحديث على شيوخ عصره، وتفقه على علماء بغداد، كما صحب الشيخ عبد القادر الجيلاني ت 561هـ رحمه الله فكان عالماً فاضلاً، ومحدثاً حافظاً، وعابداً زاهداً، أقبل على الله، وسلوك طريق الآخرة، واستغرق أوقاته بالعبادات والأوراد والأذكار ولزم باب الله تعالى، ففتح الله عز وجل عليه حتى صار أوحد زمانه، وفريد عصره، دعا الخلق إلى الله تعالى الناس له، كان كلامه آخذاً بمجامع القلوب، ويدخل إلى زوايا النفوس، فيحرك مكامنها ... وإليه المنتهي في تربية المريدين، من أهم كتبه "عوارف المعارف" فانتفع به خلق كثير، منهم إمامنا العز بن عبدالسلام، حيث لازمه وأخذ عنه العفة والورع والزهد والتصوف توفي ببغداد سنة 632هـ فهولاءهم أهم شيوخ العز بن عبدالسلام الذين أخذ عنهم العلم والفقه والحديث والأصول والتفسير واللغة والتصوف، وتأثر بسلوكهم في الحياة وهناك شيوخ آخرون، سمع منهم العز، وأخذ عنهم، لا يمكن حصرهم لكثرتهم (1)[28])وهذا الشيخ شهاب الدين السهروردي يختلف عن الذي قتل في عهد صلاح الدين.
__________
(1) 28])فتاوي شيخ الإسلام عز الدين بن عبدالسلام ص 75 ، 76.(1/15)
خامساً : تلاميذ العز بن عبدالسلام: لقد قصد العز بن عبدالسلام تلاميذ نجباء، اجتمعوا عليه من شتى أقطار الأرض، لينهلوا من علمه، ويتعلموا من فقهه، وليشربوا من نبعه الفياض، حتى تخرج على يديه فحول العلماء، وجهابذة الفقهاء، وساعده على ذلك تفرفه للتدريس والتعليم في شتى فروع علم الشريعة، فألقى دروساً في الفقه والتفسير والأصول والتصوف، والوعظ والإرشاد، فتعلقت به العامة والخاصة، وطمع كل طالب علم أن يرى هذا الشيخ لينال من بركاته وفيوضاته، وعلومه الغزيرة في كل فن، فمن العسير أن نحيط علماً بكل تلامذته وطالبي علمه، فيفترض أن كل طلاب العلم في مصر ومن حولها أو مربها في ذلك العصر تتلمذ على يد الشيخ وذلك لذيوع وانتشار سمعته (1)[29]).
قال العماد: ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد (2)[30])، ومن أهم تلاميذ العز بن عبدالسلام الذين نهلوا من علمه وتربوا على يديه هم:
__________
(1) 29])فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 85.
(2) 30])شذرات الذهب (7/523، 524).(1/16)
1- شيخ الإسلام ابن دقيق العيد: هو تقي الدين أبو الفتح محمد بن مجد الدين علي بن وهب بن مطيع القشيري، وُلد في الخامس والعشرين من شعبان سنة 625هـ وتفقه ببلده قوص – إحد مدن صعيد مصر – على والده وكان مالكي المذهب، ثم رحل إلى القاهرة، وتفقّه على العزّ بن عبدالسلام، فحقَّق المذهبين قال ابن السبكي في ترجمته : شيخ الإسلام الحافظ الزاهد الورع الناسك المجتهد المطلق ذو الخبرة التامّة بعلوم الشريعة الجامع بين العلم والدين والسالك سبيل السادة الأقدمين، أكمل المتأخرين(1)[31])، وقد وُليَّ قضاء القضاة على مذهب الشافعي بمصر بعد تقيَّ الدين عبدالرحمن بن عبدالوهاب ابن بنت الأعزّ بعد إباءٍ شديد، وعزل نفسه أكثر من مرة ثم يُعاد (2)[32])، توفي في حادي عشر صفر سنة 702هـ وكان جرئياً في الحق متأثراً بشيخه العز في هذا المجال، حيث كان ينادي عامة الناس السلطان فما دون "يا إنسان" دون ألقاب ومقدمات، وله مواقف مع ملوك عصره تدل على جرأته وصرامته وقوله الحق لا يخاف في الله لومة لائم، متشبها بشيخه العز بن عبدالسلام وكان يجله ويقتفي أثره ويسير على نهجه توفي رحمه الله سنة 702هـ، ودفن بالقرافة تاركاً خلفه ثروة علمية هائلة أهمها "الإلمام في أحاديث الأحكام" وغيره (3)[33]) وكانت له مواقف شجاعة من السلطان محمد بن قلاوون حينما أراد أن يجمع المال من الرعيّة لحرب التتار، وقد أفتاه بجواز ذلك ابن الخشَّاب ولكن ابن دقيق العيد منعه من ذلك، لأن الأمراء لديهم الأموال والذهب وأن فيهم من جهّز ابنته لتُزَفّ إلى زوجها وأنه عمل في شوارها الجواهر واللآلئ والحليّ والذهب واتخذ فيها الأواني من الفضة، وأن منهم من رصّع مدارس زوجته بالجواهر (4)[
__________
(1) 31])طبقات الشافعية الكبرى (9/207).
(2) 32])العز بن عبدالسلام، سلطان العلماء ص 23.
(3) 33])فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبدالسلام ص 858.
(4) 34])العز بن عبدالسلام، سلطان العلماء ص 24..(1/17)
34])وهذا شبيه بموقف العزّ من الملك المظفر قطز حينما أراد أن يأخذ المال من الرعيَّة لحرب التتار فمنعه العزّ من ذلك حتى يحضر الأمراء ما عندهم من الذهب والفضة والسّروج المذهبية (1)[35])وغيرها.
2- القرافي: هو أحمد بن عبدالرحمن القرافي، أبو العباس، شهاب الدين الصنهاجي، من علماء المالكية، نسبته إلى صنهاجة من برابرة المغرب (2)[36])عالم زمانه، أحد الأعلام، انتهت إليه رياسة المالكية في عصره وبرع في الفقه والأصول والعلوم العقلية والتفسير، ولا عجب فهو تلميذ العز بن عبدالسلام النجيب الذي عاش فقيراً ونشأ في أسرة مغمورة ثم بعلو همته وجده، وعزيمته التي لا تلين ملاء الدنيا علمه، تخرج على يديه عدد من العلماء الأفاضل، وكتب وألف حتى أصبحت كتبه أعلاماً للسالكين ومن أجلها: " الذخيرة" و"الفروق" و"شرح التهذيب" وغيرها.
أ- وقد تأثر القرافي بالعز من خلال الموازنات الفقهية التي عقدها القرافي في الذخيرة بين المذهبين المالكي والشافعي، وحتى في كتابه الفروق، وكان منهج الإمام العزّ الذي تتلمذ على يديه عدد كبير من الطلبة مع اختلاف مدارسهم الفقهية، عدم الإنسلاخ عن مذاهبهم التي يتمذهبون بها والأخذ بمذهبه الشافعي، بقدر ما كان يحاول رسم الطريق والمنهج في التعامل مع الأحكام الشرعية، والنصوص استنباطا واجتهاداً وتعليلاً.
__________
(1) 35])المصدر نفسه ص 24.
(2) 36])مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبدالسلام ص 61.(1/18)
ب- التفريق بين القواعد الفقهية: فكرة التفريق بين القواعد الفقهية أخذها القرافي من العز بن عبدالسلام – رحهمها الله – حيث يذكر في ثنايا كتابه "قواعد الأحكام" فروقاً بين الفروع الفقهية المتشابهة في الظاهر ولكن بينهما وجه مفارقة ومثاله : من سقى الأشجار بماء مغصوب من حين غرسها حين بسَقَت ضَمِن الماء بمثله، ولاحقَّ لمالكه فيما استحال إلى صفات الأشجار لأنه صار ملكاً لصاحب الشجرة، كما صار الغذاء ملكا لصاحب الحيوان لمَّا تعذر وصول مالكه إليه.. حتى قال: فإن قيل: كيف يملك الغاصب ذلك بتعدَّيه بسقي الماء المغصوب للشجر، وإطعام الطعام المغصوب للحيوان، ومن مذهب الشافعي رحمه الله – أن الغاصب لو أتلف أكثر منافع المغصوب لم يملكه؟ قلنا : الفرق بينهما إمكان الرَدَّ إذا أُتلف معظم منافع المغضوب، وتعذر الردَّ ههنا مع حدوث المالية فيما بقي بقوى الأشجار والحيوان، المختصين بملك الغاصب (1)[37]).
ج- النظر إلى سبب تأليف القرافي للفروق: بالنظر إلى سبب تأليف القرافي للفروق على أنه في القواعد خاصة، التي نثرها في الذخيرة ثم جمعها في الفروق، وزاد في شرحها، وبيانها، والكشف عن أسرارها وحِكمها وأمّا كتاب قواعد الأحكام فقد صرّح العز بسبب تأليفه فقال: الغرض بوضع هذا الكتاب بيان مصالح الطاعات والمعاملات، وسائر التصرفات ليسعى العباد في اكتسابها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح المباحات ليكون العباد على خِيَرة منها، وبيان ما يقَدَّم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد عن بعض، مما يدخل تحت اكساب العباد، دون مالا قدرة لهم عليه (2)[38]).
__________
(1) 37])قواعد الأحكام (1/273).
(2) 38])قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدين القراني ص 73.(1/19)
ح- نبذ القرافي للتعصب المذموم للمذهب: تأثر القرافي – رحمه الله – بمنهج شيخه في نبذ التعصب المذموم للمذاهب، والدعوة إلى الاجتهاد المبني على أسس علمية متينة، فاصبغت آراؤه الاجتهادية بمحاربة التقليد، وضرورة مراقبة المذاهب الفقهية، خاصة الفتاوى المبنية على الأعراف والمصالح مما كانت في عصر الأئمة على اعتبار معين، ثم زال ذلك الاعتبار (1)[39]) قال الإمام العز – رحمه الله – والفقيه من رأى الواضح واضحاً، والمشكل مشكلا، ومن تكلف أن يجعل المشكل واضحاً، فقد كلفّ نفسه شططاً، فإن كان عاقلاً كان أوّل ما قتِ لنفسه والتعصب للحق على الرّجال أولى من التعصب للرّجال على الحق (2)[40]) ووضَّح القرافي كلام شيخه غاية التوضيح فقال: تنبيه: كل شيء أفتى فيه المجتهد، فخُرجَّت فتياه فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النَّص أو القياس الجِليَّ السَّالمِ عن المعارض الرّاجح لا يجوز لمقلدّه أن ينقله للنّاس ولا يفتي به في دين الله، فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضاه، حتى قال : فعلى هذا يجب على أهل العصر تفقد مذاهبهم، فكل ما وجدوه من هذا النوع، يحرم عليهم الفتيابه ولا يعرى مذهب من المذاهب عنه، لكنه قد يَقِلُّ وقد يكثر (3)[41]).
__________
(1) 39])المصدر نفسه ص 73.
(2) 40])قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدين القرافي ص 74
(3) 41])المصدر نفسه ص 74.(1/20)
خ- توظيف القواعد المقاصدية في الاجتهاد: لم يَضع القرافي – رحمه الله – كتاباً خاصاً بمقاصد الشريعة وأسرارها، بحيث يعّرفها ويذكر فروعها ويفُصَّلُ القول في قواعدها ومباحثها، كما فعل شيخه العز بن عبدالسلام، لكنه اتجه إلى توظيف هذه القواعد المقاصدية للاجتهاد، وتعليل الفروع الفقهية، وجزئيات الأحكام ويكون بذلك قد فَعَّلَ من مُهمةَّ هذه القواعد وأعطاها صفة عملية وأخرجها من النظرية إلى التطبيق، خاصة في الفروق عندما قصد إظهار هذه النظرة المصلحية بين القواعد الفقهية التي تظهر عند المقارنة بينها مناسبات الأحكام وعللها، أكثر مما إذا كانت فروعاً جزئية، فإذا كان للشيخ العزّ، فضل السبَّق والتنظيم والتبويب فللقرافي – رحمه الله – شرف الاجتهاد والمواصلة والتفعيل:
وهو بسبق حائز تفضيلا
...
مستوجبٌ ثنائَي الجميلا
والله يقضي بهبات وافره
لي وَلَهُ في دَرَجَات الآخرة(1)[42])
س- التمثيل للقاعدة بالفروع الفقهية: على عكس القرافي، يكثر الشيخ عز الدين بن عبد السلام، من التمثيل للقاعدة التي بصَدَدِ دراستها بالفروع الفقهية حتى يقرّرها في ذهن المطالع، ونجد القرافي يكثر من حشد القواعد التي تكون في محل الخلاف بين طرفين متنازعين أو تدعم فرقاً يعتقده أو يدافع عنه، فالعزّ لما مثل لقاعدة رُجحان المصالح والمفاسد ذكر لها 63 مِثالاً ولما مثَّل لقاعدة اجتماع المصالح المجرّدة عن المفاسد ذكر لها 63مثالاً، ولما مثَّل لأنواع الحقوق المتعلقة بالقلوب ذكر لها 29 مثالاً، ولما مثل تساوي المصالح وتعذر جمعها ذكر لها "مثالاً (2)[43]).
__________
(1) 42])المصدر نفسه ص 76.
(2) 43])قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدين القرافي ص 76.(1/21)
ش- حرص القرافي على نقل وتدوين آراء شيخه، حتى لو خالفه في الرأي والاجتهاد ويظهر هذا التأثير البالغ من القرافي عند ما يذكر شيخه العزّ، فيغدق عليه عبارات الثناء والإعجاب، فهو يقول مَثلاً في الفرق الخامس والتسعين: ولم أرَ أحداً حرَّره – هذا الفرق – هذا التحرير إلا الشيخ عز الدين بن عبدالسَّلام – رحمه الله وقدّس روحه الكريمة – فلقد كان شديد التحرير لمواضع كثيرة في الشريعة، معقولها، ومنقولها، وكان يُفْتَحُ عليه بأشياء لا توجد لغيره رحمه الله رحمة واسعة (1)[44])، ورغم المكانة العظيمة التي أحلّها القرافي شيخه من نفسه، فإنه في كثير من المواضع يناقشه في مسائل يختلف معه فيها كل ذلك بأدب وتواضع كبيرين (2)[45]).
ومن القواعد التي ذكرها القرافي في كتاب الفروق:
- تصرف الولي منوطٌ بالمصلحة.
- اعتماد الأوامر المصالح، والنواهي المفاسد.
- خمس اجتمعت الأمم مع الأمة المحمدية عليها وهي وجوب حفظ النفوس والعقول، والأعراض، والأنساب والأموال.
- درء المفاسد أولى من جلب المصالح.
- تقدم المفسدة الخاصة على العامة عند التعارض.
- إذا تعارضت مفسدتان رُوعي أعظمهما بإرتكاب أخفَّهما.
- احتياط الشارع في الخروج من الحرمة إلى الإباحة أكثر من خروجه من الإباحة إلى الحرمة.
- الوسائل لها حكم المقاصد.
- الوسائل أخفض رتبة من المقاصد.
- الوسيلة إذا لم تقض إلى المقصود سقط اعتبارها.
- المقصد إذا كان له وسيلتان يُخيرَّ بينهما.
- ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
- المشقة تجلب التيسير.
- الضرورات تبيح المحظورات.
- الأجر على قدر المصلحة والعقاب على قدر المفسدة.
__________
(1) 44])المصدر نفسه ص 77.
(2) 45])المصدر نفسه ص 77.(1/22)
وقد قام الشيخ قندوز محمد الماحي بتقديم رسالة ماجستير اسمها، قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدين القرافي من خلال كتابه الفروق، فتحدث عن القواعد المتعلقة بجلب المصالح ودرء المفاسد، فتحدث عن صياغة القاعدة وشرحها وأدلتها وضابط القاعدة وفروعها، ومستثنياتها، وتكلم عن قواعد الترجيح بين المصالح والمفاسد وقواعد الوسائل وقواعد المشقة والتيسير، وقام بتعريف المشقة، وبيان القاعدة وأدلتها وأقسامها وضابطها وفروعها (1)[46])... إلخ.
إن ميراث الأمة الإسلامية في عهد العز بن عبدالسلام، والقرافي في ميراث علمي زاخر، مستمد من الأصول التشريعية المعتمدة عند علماء الشريعة ومجتهديها، كان منطلقهم الكتاب والسنة وما يلحق بهما من أصول اجتهادية، بحيث عاشوا واقعهم وتفاعلوا مع أحداث أزمانهم ورسموا لمن يأتي بعدهم رُؤى ومعالم يسيرون عليها حتى لا يحيدوا عن الجادة المستقيمة والمحجة البيضاء الناصعة، فعلى خطاهم يسير الخلف من هذه الأمة وعلى اجتهاداتهم يبنون، فأي محاولة لتخطي التراث العلمي الزاخر وتلك الاجتهادات الفقهية، والمدونات العلمية، تحت دعوة التجديد والتطوير؛ إنما هي ضرب من المسخ لهذه الأمة، وتجريد لها عن سلفها الذين جمعوا بين فقه الواقع وفقه التنظير، وفواجهوا مستجدات عصرهم بالحلول الشرعية السليمة(2)[47]).
- إن دراسة تاريخ الأمة الإسلامية، وأوضاع كل قرن له دورُهُ الفَعَّال في الاستفادة من تاريخ السابقين وتجاربهم حتى لا نقع في نفس الأخطاء التي وقعوا فيها، لأن عدونا قد أحسن قراءة تاريخنا، وأمسك بمفاصل الضّعف فينا، فأخذ يحرّكها كيف يشاء، وواقعنا خير شاهد على ذلك.
__________
(1) 46])قواعد المصلحة والمفسدة عند شهاب الدين القرافي ص 344.
(2) 47])المصدر نفسه ص 344.(1/23)
- التركيز على الشخصيات التي كانت لها قدرات علمية كبيرة، وكانت متحرّرة من ربقة التقليد والجمود بحيث أثرت في واقعها التي عاشت فيه، إما بالجهاد القولي أو العلمي، وهذا ما لمسناه في شخصية الإمام القرافي وشيخه العز بن عبدالسلام، فالأول كان قائد حركة علمية جهادية كبيرة في مصر، والثاني جمع بين الجهاد باللسان والبنان (1)[48]).
- كل اجتهاد فقهي عار عن النظرة المصلحية والبعد المقاصدي ومرتكزات الواقع المعاش لا سبيل إلى التفاعل معه، لأنه أبعد ما يكون عن روح الشريعة ومقاصدها.
- الخروج عن النمط التقليدي في الدّراسات الفقهية والأصولية وهذا ما لمسناه في فروق القرافي – حيث ابتدع نمطاً تعقيديا في الدراسات الفقهية، نلمسه من خلال تفريقه بين القواعد الفقهية في حّد ذاتها، لا بين الفروع الجزئية، وفي هذه العملية تظهر أسرار الشريعة ومقاصدها الكلية.
- لقد جمع الإمام القرافي – رحمه الله – بين معارف عصره الفقهية، والأصولية، واللغوية والمادية والفلكية، بحيث أعطته زاد علمياً فاق به كثيراً من أقرانه وتحرّر من ربقة التقليد، وكانت فتاواه ملائمة ليسر التشريع وسماحته.
- لم يكتف القرافي، بتقعيد القواعد الفقهية بل تعّداها إلى تقعيد القواعد الأصولية والمقاصدية، واللغوية والمنطقية وتفعيل هذه القواعد في عملية الاجتهاد والاستنباط.
- في التكوين العلمي لشخصية القرافي، نلمس التحرّر من المذهبية الضيّقة، والعصبية الممقوته، وهذا ما نعيشه في عصرنا من الانفتاح على الثقافات المختلفة ومحاولة إلزام قوم بمذهب واحد إعنات لهم، فلا بأس من الأخذ من المذاهب السنية – شرط أن يكون الأخذ له أهلية الأخذ والترجيح حتى لا تختلط الأحكام وتتسيب الفتاوى(2)[49]).
__________
(1) 48])المصدر نفسه ص 344.
(2) 49])قواعد المصلحة والمفسدة ص 345.(1/24)
- استخلاص القواعد الفقهية، واستخراجها من بُطون الموسوعات الفقهية وإفرادها بالدّراسة والتدليل لها وإيراد المستثنيات منها، يسهل على الباحث الإطلاع على الفروع الفقهية في كل مذهب من المذاهب الفقهية المعتبرة.
- أهمية إدراج علم الفروق في المناهج الدّراسية، لطُلاب التخصصات الشرعية، لأنه يجمع بين التقعيد والتفريع والتقصيد (1)[50]).
- وفاة القرافي: بعد حياة حافلة بالتدريس والتعليم والتأليف، توفي شهاب الدين القرافي – رحمه الله – بدير الطين؛ وهي قرية على شاطئ النيل قرب الفسطاط بظاهر مصر وكان ذلك سنة 684هـ على أرجح الأقوال ولنا عودة مع القرافي في حديثنا عن الصراع الثقافي في عهد الحروب الصليبية، بإذن الله تعالى.
3- جلال الدين الدشناوي: ومن تلاميذ العز بن عبدالسلام الإمام أحمد بن عبدالرحمن بن محمد الكندي الدشناوي، الفقيه والأصولي ولد سنة 615هـ في صعيد مصر، وأخذ العلم والفقه والحديث والأصول على علماء عصره، وكان صديقاً لابن دقيق العيد، تلميذاً نجيباً عند العز والمنذري وغيرهما من جهابذة العصر حتى بلغ مرتبة الرياسة في المذهب الشافعي، كان ورعاً زاهداً، عابداً، تقيا، له تصانيف عديدة أهمها كتاب في المناسك سماه "مناسك الحج" كما صنّف شرحاً على "التنبيه" وصل فيه إلى الصيام، ومقدمة في النحو، وغيرها، توفي رحمه الله سنة 677هـ (2)[51]).
__________
(1) 50])المصدر نفسه ص 345.
(2) 51])طبقات الشافعية الكبرى (8/20- 22) حسن المحاضرة (1/417).(1/25)
4- أحمد بن فرح الأشبيلي: هو الإمام أحمد بن فرح بن أحمد الأشبيلي، المحّدث الفقيه، العالم العامل ولد بأشبيلية سنة 625هـ، وأسره النصارى، ثم نجاه الله ورحل إلى دمشق، وأخذ من علمائها ثم ارتحل إلى القاهرة والتقى بسلطان العلماء فنهل من معينه، وأخذ من فقهه وعلمه حتى شاخ على أقرانه، ثم استوطن دمشق، كان له سكينة ووقار، قال الذهبي ت 765هـ حضرت مجالسه وأخذت عنه، ونعم الشيخ كان سكينة ووقاراً وديانة واستحضاراً توفي سنة 699هـ رحمه الله (1)[52]).
5- شرف الدين أبو محمد الدمياطي: هو الإمام الحافظ عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسين بن شرف بن الخضر الدمياطي، كان إمام أهل الحديث في عصره، ولد بدمياط سنة 613هـ وقرأ فيها القرآن والأصول والفقه والفرائض على علمائها الأمجاد ثم ارتحل إلى القاهرة، فلازم المنذري واستمع منه الحديث حتى صار إماماً فيه، جمع بين الرواية والدراية بالسند العالي وتتلمذ على سلطان العلماء، وأخذ منه الفقه والأصول وسائر العلوم، وخرج له أربعين حديثاً عوالي، ثم اشتغل بالتدريس وقصده الطلاب في الآفاق، وتتلمذ عليه طلاب العلم فنهلوا من علمه الغزير وصنّف الكتب المفيدة أهمها "الصلاة الوسطى" "وقبائل الخزرج"، وغيرها توفي عام 705هـ (2)[53])رحمه الله.
__________
(1) 52])طبقات الشافعية الكبرى (2/291) النجوم الزاهرة (8/191).
(2) 53])تذكرة الحفاظ (2/118) فتاوى شيخ الإسلام ص 87س.(1/26)
6- شهاب الدين أبو شامة: هو الإمام عبدالرحمن بن إسماعيل بن إبراهيم بن عثمان المكنى بأبي القاسم، وأبي شامة، الملقب بشهاب الدين المقدسي الشافعي، المقري النحوي الأصولي، المؤرخ الذي برع في فنون العلم، وقيل بلغ رتبة الاجتهاد ولد سنة 599هـ وختم القرآن وهو دون العشر سنوات، وتفقه على العز بن عبدالسلام، ولازمه، وأحبه، وحفظ كثيراً من أخباره، ورحل إلى مصر، وتفقه على علمائها، وعاد إلى دمشق وزار بيت المقدس، وحج مرتين، له مصنفات عديدة مفيدة أهمها؛ كتاب الروضتين في أخبار الدولتين، والذيل على الروضتين واختصر تاريخ دمشق، قال الأسنوي : كان عالماً راسخاً في العلم، فقيها مقرئاً محدثاً نحويا، يكتب الخط المليح المتقن، وفيه تواضع (1)[54])، وقد امتحن في موته، بأن دخل عليه رجلان في صورة المستفتيين، فضرباه ضرباً مبرحاً، فاعتل به، إلى أن مات في سنة 665هـ وسجل في تاريخ هذه المحنة، وذكر تفويض أمره لله، وعدم مؤخذة من فعل ذلك رحمه الله (2)[55]).
7- تاج الدين الفركاح: هو الإمام عبدالرحمن بن إبراهيم بن ضياء الشيخ تاج الدين المعروف بالفركاح، ولد سنة 624هـ وتفقه على العز، وسمع من ابن الصلاح وغيره من علماء عصره حتى أصبح فقيه الشام في عصره، وكان إماماً مدققاً نطاراً، توفي سنة 690هـ رحمه الله (3)[56]).
__________
(1) 54])طبقات الأسنوي (2/118) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 87.
(2) 55])فوات الوفيات (1/527) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 88.
(3) 56])شذرات الذهب نقلاً عن فتاوى شيخ الإسلام ص 88.(1/27)
8- صدر الدين ابن بنت الأعز: هو الإمام العادل الورع الصالح القاضي الصارم عمر بن عبدالوهاب بن خلف العلامي ابن قاضي القضاة تاج الدين بنت الأعز أخو تقي الدين سالف الذكر، ولد سنة 625هـ، وسمع من المنذري وغيره من شيوخ عصره وأخذ الفقه والأصول عن الإمام عز الدين وتأثر به وتخلف بأخلاقه وسار سيرته في القضاء والشدة على الظلمة والطغاة وعزل نفسه من القضاء واقتصر على التدريس، توفي سنة 680هـ (1)[57]).
9- أبو أحمد بن زيتون: هو أبو أحمد بن أبي بكر بن مسافر بن أبي بكر بن أحمد بن عبد الرفيع اليمني المالكي الشهير بابن زيتون كان قاضي الجماعة بتونس، ورحل إلى المشرق مرتين، وتفقه على عز الدين بن عبدالسلام، كما تفقه على علماء عصره، وولي قاضي القضاة فعظم أمره وانتفع به الناس، توفي سنة 691هـ ودفن في تونس (2)[58])، كما أن هناك الكثير من تلاميذ العز بن عبدالسلام ذكرنا هؤلاء خوفاً من الإطالة.
__________
(1) 57])البداية والنهاية (17/580).
(2) 58])الديباج ابن فرحون ص 99.(1/28)
خامساً: مؤلفاته: ترك الشيخ عز الدين بن عبدالسلام، ثروة من المصنفات والرسائل المفيدة، والفتاوى السديدة (1)[59])، تبين لنا منزلته الرفيعة، وإطلاعه الواسع على حقائق الشريعة وغوامضها، وباعه الطويل، في معرفة مقاصد الشريعة، وفهمه السليم لمعاني القرآن الكريم ومراميه السامية التي رعاها الشارع الحكيم من أجل إسعاد البشرية عامة بإخراجها من ظلمات المفاسد ومضارها إلى نور المصالح وخيراتها، فاستحق أن يكون من الذين قيل فيهم: علمهم أكثر من تصانيفهم، لا من الذين عبارتهم دون درايتهم ومرتبته في العلوم الظاهرة مع الصادقين في الرعيل الأول، وأما في علوم المعارف والعلم بالله فهو معروف عند أهله، فصنف في شتى العلوم، منها ما طبع ومنها مالا يزال مخطوطاً، وقد أفاضى المعاصرون في الحديث عن هذه المصنفات (2)[60]) المؤلفات تنقسم إلى:
1- التفسير وعلومه: مما ألفه الإمام في التفسير.
أ- مختصر تفسير " النكت والعيون للماوردي"، حققه الدكتور عبدالله الوهيبي كجز لنيل أطروحته في الدكتوراء في التفسير، وقدم له دراسة عن العز بن عبدالسلام، حياته، وآثاره ومنهجه في التفسير، وقدم دراسة عن منهج العز في هذا المختصر(3)[61]).
ب- تفسير القرآن العظيم: بدأ فيه العز بتفسير الاستعاذة، والبسملة، ثم شرع في تفسير سور القرآن الكريم، سورة سورة، مع العناية الواضحة بالنحو والإعراب (4)[62])، ولا يزال هذا الكتاب مخطوطاً، ويوجد منه خمس نسخ خطية في تركياً (5)[63]).
__________
(1) 59])مقاصد الشريعة عند الإمام العزّ بن عبدالسلام ص 48.
(2) 60])المصدر نفسه ص 48.
(3) 61])العز للوهيبي ص 10 ، 117.
(4) 62])طبقات الشافعية (8/248).
(5) 63])شجرة المعارف للعز، مقدمة المحقق ص 21.(1/29)
ج- الإشارة إلى الإيجاز في بعض أنواع المجاز، ويختصر أحياناً باسم "مجاز القرآن" وطبع هذا الكتاب عدة مرّات واختصر هذا الكتاب ابن القيم الجوزية مع زيادات في كتابه "الفوائد المشوق إلى علوم القرآن وعلم البيان" كما لخص السيوطي كتاب العز مع زيادات عليه وسما "مجاز الفرسان إلى مجاز القرآن" ويعتبر كتاب العز هذا مع كتاب قواعد الأحكام، أهم كتبه على الإطلاق (1)[64]).
ح- أمالي عز الدين بن عبدالسلام: وهي تشمل : الأمالي في تفسير بعض آيات القرآن الكريم، والأمالي في شرح بعض الأحاديث المنتقاة، والأمالي في مناقشة بعض المسائل الفقهية، وهذه الأمالي كان العز يلقيها في دروس تفسير القرآن الكريم ووجدت عدة مخطوطات لها وتجمع الأمالي الثلاث، بينما اقتصرت بعض النسخ الخطية على القسم الأول وبعنوان "فوائد العز بن عبدالسلام"، ولذلك قام الاستاذ رضوان الندوي بتحقيق هذا القسم في رسالته للدكتوراه ثم طبعته وزارة الأوقاف الكويتية سنة 1967م، ثم أعيد طبعة في دار الشروق بجدة سنة 1402هـ/1982م اعتماداً على نسخ خطية بعنوان الفوائد في مشكل القران (2)[65]).
2- الحديث والسير والأخبار:
أ- شرح حديث " لا ضرر ولاضرار": نسبه إليه رضوان الندوي (3)[66]).
ب- شرح حديث "أم زَرْع" الذي روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، يوجد منه نسخة خطية بمكتبة الفاتح باسطنبول برقم 1141م ويقع في ثلاث ورقات ملحقة في آخر مجلد كبير لنسخة خطية عن "مختصر صحيح مسلم للحافظ المنذري" (4)[67]).
__________
(1) 64])العز بن عبدالسلام، الزحيلي ص 136.
(2) 65])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 138.
(3) 66])العز للندوي ص 75.
(4) 67])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 138.(1/30)
ج- مختصر صحيح مسلم: ذكره ابن السبكي في كتب العز، وذكره الداودي، ولم يرد له ذكر في فهارس المخطوطات الموجودة، فإما أنه لازال ضمن المخطوطات الخاصة والمبعثرة في أنحاء العالم، أو فقد وضاع مع ما فقد من تراث المسلمين العظيم أيام المحن والنكبات والحروب والاحتلال لبلاد المسلمين.
ح- بداية السول في تفضيل الرسول: وهو رسالة صغيرة طبعت في مصر قديماً، وعلق عليها الشيخ عبدالله بن محمد الصديق الغماري، ثم حققها الدكتور صلاح الدين المنجد، وطبعتها دار الكتاب الجديد ببيروت سنة 1401هـ ثم حققها الشيخ محمد ناصر الدين الألباني، وطبعها المكتب الإسلامي ببيروت سنة 1403هـ، ثم حققها السيد محمد أديب كلكل، وطبعها بدار الدعوة بحماة، وساق العز اثنين وثلاثين وجهاً لتفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم وهي تعداد الخصائص التي خصه الله بها (1)[68]).
س- قصة وفاة النبي صلى الله عليه وسلم: وتوجد منها نسخة في مكتبة برلين برقم 9614 (2)[69]).
ش- ترغيب أهل الإسلام في سكن الشام: وفيها بيان فضل الشام والترغيب بالسكن فيها، وطبعت عدة مرات، الأولى في المطبعة التجارية بالقدس سنة 1359هـ/1940م بعناية أحمد سامح الخالدي الديري، ثم طبعت ببغداد وعمان بتحقيق محمد شكور بن محمود الحاجي أمرير الميادني سنة 1987م، وقام الأستاذ الشاب إياد الطباع بتحقيقها أيضاً (3)[70]) هذه هي أهم الكتب والرسائل في الحديث والسيرة والأخبار.
3- الإيمان والعقيدة وعلم التوحيد: ومن أهم هذه الكتب
أ- رسالة في علم التوحيد.
ب- وصية الشيخ عز الدين.
ج- نبذة في الرد على القائل بخلق القرآن.
س- الفرق بين الإسلام والإيمان.
ش- بيان أحوال الناس يوم القيامة.
د- ملحمة الاعتقاد أو العقائد(4)[71]).
__________
(1) 68])المصدر نفسه ص 139.
(2) 69])المصدر نفسه ص 139.
(3) 70])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 139.
(4) 71])العز بن عبدالسلام سلطان العلماء د. فاروق عبد المعطي ص 52 إلى 55.(1/31)
4- الفقه وأصوله أهم كتبه في هذه العلوم:
أ- قواعد الأحكام في مصالح الأنام: هذا الكتاب اسمه في المصادر القديمة "القواعد الكبرى" ويوجد منه نسخ خطية كثيرة في مكتبات العالم وموضوع هذا الكتاب بيان الأحكام الشرعية باعتبار جلب المصالح ودرء المفاسد وقد أوضح العز مقاصد كتابه بقوله: الغرض بوضع هذا الكتاب بيان مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات ليسعى العباد في تحصيلها، وبيان مقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وبيان مصالح العبادات ليكون العباد على خبر منها، وبيان ما يقدم من بعض المصالح على بعض، وما يؤخر من بعض المفاسد على بعض، وما يدخل تحت اكتساب العبيد دون مالا قدرة لهم عليه ولا سبيل إليه (1)[72]) وقال في بيان حقيقة المصالح والمفاسد: المصالح أربعة أنواع : اللذات وأسبابها، وهي منقسمة إلى دنيوية وأخروية، فأما لذات الدنيا وأسبابها وأفراحها والآمها وأسبابها وعمومها وأسبابها، فمعلومة بالعبادات، ومن أفضل لذات الدنيا لذات المعارف وبعض الأحوال، ولذات بعض الأفعال في حق الأنبياء ، فليس من جعلت قرة عينه في الصلاة كمن جعلت الصلاة شاقة عليه، وليس من يرتاح إلى ايتاء الزكاة كمن يبذلها وهو كاره (2)[73]) وأما لذات الآخرة وأسبابها وأفراحها وأسبابها، وآلامها وأسبابها وغمومها وأسبابها، فقد دل عليه الوعيد والزجر والتهديد، وأما اللذات فمثل قوله: " وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين" (الزخرف، آية: 71) وقوله : "يطاف عليهم بكأس من معين بيضاء لذة للشاربين" (الصافات: 45، 46).
__________
(1) 72])قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/10).
(2) 73])المصدر نفسه (1/11 ، 12).(1/32)
وأما الأفراح ففي مثل قوله: "ولقاهم نضرة وسرورا "(الإنسان، آية 11) وقوله: "فرحين بما آتاهم الله من فضله" (آل عمران: 170) وفي مثل قوله : "يستبشرون بنعمة من الله وفضل" (آل عمران: 171) وأما الآلآم ففي مثل قوله: "ولهم عذاب أليم" (المائدة: 36) وقوله " ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ" (إبراهيم: 17) وأما الغموم ففي مثل قوله: "كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها" (الحج، آية: 22) ثم شرع بعد ذلك يذكر قواعد في المصالح والمفاسد ويقررها بالشرح ثم يوضحها بالأمثلة الكثيرة المتنوعة ومن أمثلة ذلك ما ذكره في اجتماع المصالح المجردة عن المفاسد فقال: إذا اجتمعت المصالح الأخروية الخالصة، فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح، والأفضل فالأفضل لقوله تعالى: "فبشر عباد الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" (الزمر، آية: 17 ، 18).
"واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم" (الزمر:55) وقوله: "وأمر قومك يأخذوا بأحسنها"(الأعراف، آية: 145) فإذا استوت مع تعذر الجمع تخيرنا، وقد يقرع، وقد يختلف في التساوي، والتفاوت، ولا فرق في ذلك بين المصالح والواجبات والمندوبات، لبيان الأفضل وتقديم الفاضل على المفضول (1)[74])وضرب أمثلة كثيرة نذكر منها مثالاً واحداً، كتقديم كل فريضة على نوعها من النوافل كتقديم فرائض الطهارات على نوافلها، وفرائض الصلوات على نوافلها، وفرائض الصدقات على نوافلها (2)[75])، واستمر يذكر أمثلة لتوضيح هذه القاعدة ويفرع عليها فروعاً حتى ذكر ثلاثة وعشرين مثالاً في تقديم الفاضل على المفضول (3)[76]).
__________
(1) 74])العز بن عبدالسلام حياته وآثاره ومنهجه في التفسير ص 136.
(2) 75])المصدر نفسه ص 136.
(3) 76])المصدر نفسه ص 136.(1/33)
وقال في تساوي المصالح مع تعذر جمعها: إذا تساوت المصالح مع تعذر الجمع تخيرنا في التقديم والتأخير للتنازع بين المتساويين (1)[77])ثم ذكر فصلاً في اجتماع المفاسد المجردة عن المصالح فقال: إذا اجتمعت المفاسد المحضة فإن أمكن درؤها درأنا، وإن تعذر درء الجميع درأنا الأفسد فالأفسد والأرذل فالأرذل، فإن تساوت، فقد يتوقف وقد يتخير وقد يختلف في التساوي والتفاوت، ولا فرق في ذلك بين مفاسد المحرمات والمكروهات (2)[78]) ثم ذكر فصلاً في اجتماع المصالح مع المفاسد فقال: إذا اجتمعت مصالح ومفاسد، فإن أمكن تحصيل المصالح ودرء المفاسد فعلنا ذلك امتثالاً لأمر الله تعالى فيهما لقوله سبحانه وتعالى "فاتقوا الله ما استطعتم" (التغابن، آية: 16) وإن تعذر الدرء والتحصيل فإن كانت المفسدة أعظم من المصلحة درأنا المفسدة ولانبالي بفوات المصلحة قال الله تعالى : "يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما، إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" (البقرة: 219) حرمهما لأن مفسدتهما أكبر من منفعتهما، أما منفعة الخمر فبالتجارة ونحوها وأما منفعة الميسر فيما يأخذه المقامر من المقمور، وأما مفسدة الخمر فبإزالتها العقول، وما تحدثه من العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وأما مفسدة القمار، فبإيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهذه مفاسد عظيمة لا نسبة إلى المنافع المذكورة إليها، وإن كانت المصلحة أعظم من المفسدة حصلنا المصلحة مع التزام المفسدة، وإن استوت المصالح والمفاسد فقد يتخير بينهما وقد يتوقف فيهما، وقد يقع الاختلاف في تفاوت المفاسد (3)[
__________
(1) 77])قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/88).
(2) 78])قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/93).
(3) 79])المصدر نفسه (1/98)..(1/34)
79])، ثم ذكر فصلاً في بيان الوسائل إلى المصالح فقال: يختلف أجر وسائل الطاعات باختلاف فضائل المقاصد ومصالحها، فالوسيلة إلى المقاصد أفضل من سائر الوسائل، فالتوسل إلى معرفة الله تعالى ومعرفة ذاته وصفاته أفضل من التوسل إلى معرفة أحكامه، والتوسل إلى الجهاد أفضل من التوسل بالسعي إلى الجمعات، والتوسل بالسعي إلى الجمعات أفضل من التوسل بالسعي إلى الجماعات في الصلوات المكتوبات(1)[80])، ثم ذكر فصلاً في بيان وسائل المفاسد فقال: يختلف وزن المخالفات باختلاف رذائل المقاصد ومفاسدها، فالوسيلة إلى أرذل المقاصد، أرذل من سائر الوسائل، فالتوسل إلى الجهل بذات الله وصفاته أرذل من التوسل إلى الجهل بأحكامه، والتوسل إلى القتل أرذل من التوسل إلى الزنا، والتوسل إلى الزنا أقبح من التوسل إلى أكل بالباطل، والإعانة على القتل بالإمساك أقبح من الدلالة عليه وكذلك مناولة آلة القتل أقبح من الدلالة عليه (2)[81])وقال في آخر الجزء الثاني مؤكداً ما سبق من أن الله أمر بكل خير ونهى عن كل شر فالخير يعبر به عن جلب المصالح والشر يعبر به عن جلب المفاسد، ومن المصالح والمفاسد، مالاً يعرفه إلا كل ذي فهم سليم وطبع مستقيم (3)[
__________
(1) 80])المصدر نفسه (1/123).
(2) 81])المصدر نفسه (1/126).
(3) 82])العز بن عبدالسلام، حياته وآثاره ومنهجه في التفسير ص 138..(1/35)
82])، فقد قال: ولو تتبعنا مقاصد ما في الكتاب والسنة لعلمنا أن الله أمر بكل خير دِقهَّ وجله وزجر عن كل شيء دقه وجله فإن الخير يعبر به عن جلب المصالح ودرء المفاسد، والشر يعبربه عن جلب المفاسد ودرء المصالح وقد قال الله تعالى: "فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره" (الزلزلة : 7 ، 8) وهذا ظاهر في الخير الخالص والشر المحض، وإنما الإشكال إذا لم يعرف خير الخيرين وشر الشرين، أو يعرف ترجيح المصلحة على المفسدة، أو ترجيح المفسدة على المصلحة أو جهلنا المصلحة والمفسدة، ومن المصالح والمفاسد مالا يعرفه إلا كل ذي فهم سليم وطبع مستقيم يعرف بهما دق المصالح والمفاسد وجلهما وأرجحهما من مرجوحهما، .. إلى أن قال : وأجمع آية في القرآن للبحث على المصالح كلها والزجر عن المفاسد بأسرها (1)[83])قوله تعالى : "إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون" (النحل، آية : 90).
__________
(1) 83])قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/189).(1/36)
وأسلوب الشيخ العز خالي من تعقيدات الفقهاء، وفيه سجع غير متكلف وفي بعض المواضع يغلب عليه أسلوب الوعظ ومن أمثلة ذلك ما قاله في كلام طويل نختصر منه: وعلى الجملة فمن أقبل على الله أقبل الله عليه ومن أعرض عن الله أعرض الله عنه، ومن تقرب إلى الله شبراً تقرب منه ذراعاً، ومن تقرب منه ذراعاً تقرب منه باعاً، ومن مشى إليه هرول إليه، ومن نسب شيئاً إلى نفسه فقد زل وضل، ومن نسب الأشياء إلى خالقها المنعم بها كان في الزيادة لأن الله تعالى قال: "لئن شكرتم لأزيدنكم" (إبراهيم، آية: 7) "وسنجزي الشاكرين" (آل عمران: 145) وأفضل ما تقرب به التذلل لعزة الله والتخضع لعظمته والإيحاش لهيبته والتبرى من الحول والقول إلا به، وهذا شأن العارفين ومن خرج عنه فهو طريق الجاهلين أو الغافلين، وقد تمت الحكمة وفرغ من القسمة وسينزل كل أحد في دار قراره حكماً عدلاً وحقاً قصداً وفضلاً، وما ثبت في القدم لا يخلفه العدم، ولا تغيره الهمم بعد أن جرى به القلم وقضاه العدل الحكم، فأين المهرب وإلى أين المذهب، وقد عز المطلب، ووقع ما يذهب فيا خيبة من طلب مالم تجر به الأقدار، ولم تكتبه الأقلام، يا لها من مصيبة، ما أعظمها، وخيبة ما أفحمها، أين المهرب من الله، وأين الذهاب عن الله، وأين الفرار من قدرة الله ؟ بينما يرى أحدهم قريباً دانياً إذ أصبح بعيداً نائياً لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولاخفظاً ولا رفعاً (1)[84]).
__________
(1) 84])قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/13).(1/37)
وروح العز بارزة في كتابه هذا، فالقارئ له يشعر كأن العز أمامه يناقش الأقوال ويرجح ويستدل ويرد قول المخالف، كما يلحظ القارئ سعة علمه وقوة جدله في بيان ما ترجح له والكتاب يركز على الأحكام الفقهية يجمعها تحت قواعد أصولية، فهو من كتب الفقه والأصول ولكنه أحياناً، يستطرد، فيبحث أموراً في العقيدة أو التصوف (1)[85])، ويلاحظ في كتابه تكرار بعض الأمور في مواضع متعددة وقد اعتذر عن ذلك بقوله: وإنما أتيت بهذه الألفاظ في هذا الكتاب التي أكثرها مترادفات، وفي المعاني متلاقيات حرصاً على البيان والتقرير في الجنان، كما تكررت المواعظ والقصص والأمر والزجر والوعد والوعيد والترغيب والترهيب وغير ذلك في القرآن، ولا شك أن في التكرير والإكثار من التقرير في القلوب ما ليس في الإيجاز والاختصار، ومن نظر إلى تكرير مواعظ القرآن ووصاياه ألقاها كذلك، وإنما كررها إلاله لما علم فيها من إصلاح العباد، وهذا هو الغالب المعتاد ولو قلت في حق العباد هو أن يجلب إليهم كل خير، ويدفع عنهم كل ضير لكان ذلك جامعاً، عاماً ولكن مالا يحصل به من البيان ما يحصل بالتكرير وتنويع الأنواع، وكذلك لو قلت في حق الإله هو أن يطيعوه ولا يعصوه لكان مختصراً عاماً ولكن لا يفيد ما يفيده الإطناب والإسهاب، وكذلك لو قتل في بعض حقوق المرء على نفسه هو أن ينفعها في دينها ودنياها ولا يضرها في أولاها وآخراها لكان ذلك شاملاً لجميع حقوق المرء، وقد يظن بعض الجهلة الأغبياء أن الإيجاز والاختصار أولى من الإسهاب والإكثار، وهو مخطئ في ظنه لما ذكرنا من التكرير الواقع في القرآن والعادة شاهدة بخطئه في ظنه، وما دلت العادة عليه، وأرشد القرآن إليه أولى مما وقع للأغبياء الجاهلين الذين لا يعرفون عادة الله ولا يفهون كتاب الله، وفقنا الله لإتباع كتابه وفهم خطابه (2)[
__________
(1) 85])المصدر نفسه (1/140 ، 141).
(2) 86])المصدر نفسه (1/161)..(1/38)
86])، وخلاصة القول: أن العز بحث في كتابه هذا مصالح الطاعات والمعاملات وسائر التصرفات ليسعى العباد في تحصيلها، ومقاصد المخالفات ليسعى العباد في درئها، وطريقته في ذلك أنه يذكر القاعدة الأصولية في المصالح والمفاسد، ويقررها بالشرح، ثم يوضحها بالأمثلة الفقهية الكثيرة المتنوعة، فهو من كتب الفقه التي تربط الفروع الفقهية بالقواعد الأصولية (1)[87]).
ب- الإمام في بيان أدلة الأحكام: وموضوع الكتاب بيان وجه دلالة آيات الأحكام على الأحكام من أمر ونهي وتخيير وإباحة وهو من كتب أصول الفقه، وليس من كتب العقيدة وقد قسم العز الأحكام إلى قسمين في هذا الكتاب فقال: والأحكام ضربان: أحدهما؛ ما كان طلباً لإكتساب فعل أو تركه والثاني: مالا طلب فيه، كالإباحة ونصب الأسباب والشرائط والموانع والصحة والفساد وضرب الآجال وتقدير الأوقات والحكم بالقضاء والأداء والتوسعة والتضيق والتعيين والتخيير، ونحو ذلك من الأحكام الوضعية الخبرية، ثم قسم أدلة الأحكام إلى قسمين، فقال: ثم أدلة الأحكام ضربان. أحدهما: لفظي يدل بالصيغة تارة، وبلفظ الخبر أخرى. والثاني: معنوي يدل دلالة لزوم إما بواسطة، وإما بغير واسطة، فكل فعل طلبه الشارع أو أخبر عن طلبه أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو نصبه سبباً لخير عاجل، أو آجل فهو مأمور به وكل فعل طلب الشارع تركه أو أخبر أنه طلب تركه أو ذمه أو ذم فاعله لأجله أو نصبه سبباً لشر عاجل أو آجل فهو منهي عنه، وكل فعل خير الشارع فيه مع استواء طرفيه أو أخبر عن تلك التسوية فهو مباح، عرض هذا الكلام بعشرة، فصول، الفصل الأول في الدلالة اللفظية: أما الصيغة فقوله تعالى: "خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا" (الأعراف : 31) فخذوا أمر، وكلوا واشربوا إباحة، ولا تسرفوا نهي ... إلخ.
__________
(1) 87])العز بن عبدالسلام حياته وآثاره ومنهجه في التفسير ص 142.(1/39)
والفصل الثاني في تقريب أنواع الأمر: كل فعل كسبي عظمه الشرع أو مدحه أو مدح فاعله لأجله أو فرح به أو أحبه أو أحب فاعله أو رضى به أو رضى عن فاعله أو وصفه بالاستقامة أو البركة أو الطيب أو أقسم به أو بفاعله، أو نصبه سبباً لمحبته أو لثواب عاجل أو آجل أو نصبه سبباً لذكره أو لشكره أو لهدايته أو لإرضاء فاعله أو لمغفرة ذنبه أو لتكفيره أو لقبوله أو لنصرة فاعله أو بشارته، أو وصف فاعله بالطيب أو صفه بكونه معروفاً أو نفي الحزن أو الخوف عن فاعله، أو وعده بالأمن أو نصبه سبباً لولاية الله تعالى أو وصف فاعله بالهداية أو وصفه بصفة مدح، كالحياة أو النور والشفاء، أو دعا الله به الأنبياء فهو مأمور به، فتذكر بعض الأمثلة هذه الأنواع، وهي ثلاثة وثلاثون مثالاً: المثال الأول: تعظيم الفعل وتوقيره "إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه" (فاطر، آية: 10) "هي أشد وطأ وأقوم قيلا" (المزمل، آية : 7) وكذلك الأقسام بالفعل ضرب من تعظيمه وتوقيره "وإنك لعلى خلق عظيم" القلم، آية 4 " ... إلخ. وهكذا استمر في ذكر بقية الأمثلة والفصول، ويتخلل هذه الفصول فوائد كثيرة، ونلاحظ وهذا الكتاب يدل على طول باع العز في أصول الفقه، وسعة علمه بمقاصد كتاب الله تعالى، ومعرفته لدلالة الألفاظ واختلافها وتمكنه من اللغة العربية (1)[88]).
__________
(1) 88])العز بن عبدالسلام حياته وآثار ص 145.(1/40)
ج- مقاصد الصلاة: وموضوعها فضل الصلاة وبيان شرفها وأنها أفضل العبادات بعد الإيمان بالله لأنها قد اشتملت من أفعال القلوب واللسان والجوارح، ندبا وفرضاً مالم تشتمل عليه عبادة أخرى وفيها من الأعمال ما هو خاص لله تعالى وخاص بالعبد وخاص بالرسول صلى الله عليه وسلم وبالمؤمنين، ثم فصل ذلك في سورة الفاتحة التي تقرأ في الصلاة وتكلم عن أفعال الصلاة حتى ختمها (1)[89])وقد حظيت هذه الرسالة النفيسة بعناية السلطان الملك الأشرف فكان يأمر بتلاوتها كلما دخل عليه أحد من خواصّه، ونصح شمس الدين سِبط ابنُ الجوزي الناس بها وهو على المنبر (2)[90])، قال ابن السبكي في : قرئت عليه – أي السلطان الملك الأشرف – "مقاصد الصلاة" في يوم ثلاث مرات، تقرأ عليه، وكُلّما دخل عليه أحد من خواصَّه يقول للقارئ : إقرأ "مقاصد الصلاة" لابن عبدالسلام، حتى يسمعها فلان، ينفعه بسماعها.
- من كتب الشيخ، مقاصد الصوم، ومناسك الحج، وأحكام الجهاد وفضله، والغاية في اختفاء نهاية المطلب في دراية المذهب لإمام الحرمين الجويني، والجمع بين الحاوي والنهاية (3)[91]).
5- الفتاوى: ومن أهم الكتب في هذا المجال.
أ- الفتاوى الموصلية.
ب- الفتاوى المصرية.
6- التصوف:
أ- شجرة العارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال:
وقد تكلم العز في هذا الكتاب على صفات الله وكيفية توحيده وتنزيهه، والوجه الأسلم في ذلك، وكيفية التخلق بصفات الله سبحانه وتعالى، وجاء هذا الكتاب في عشرين باباً، وفصولاً تمهيدية (4)[92]) وقد تحدث في هذا الكتاب عن كيفية التخلق بالأسماء والصفات، فقال:
__________
(1) 89])مقاصد الصلاة ص 3.
(2) 90])المصدر نفسه ص 3.
(3) 91])المصدر نفسه ص 4.
(4) 92])العز عبدالسلام ص 153 حياته وآثاره ومنهجه في التفسير.(1/41)
أ- التخلق بالقدوس: فقال الشيخ عز الدين : القدوس: هو الطاهر من كل عيب ونقصان، وثمرة معرفته : التعظيم، والإجلال، والتخلق به بالتطهير من كل حرام ومكروه وشبهه وفضل مباح شاغل عن مولاك (1)[93]).
ب- التخلق بالسلام: إن أُخِذَ من تسليمه على عباده فعليك بإفشاء السلام، فإنَّه من أفضل خِصال الإسلام وإن أخذ من السلامة من العيوب، فهو كالقدوس وإن أُخِذَ من الذيِ سَلِمَ عباده من ظُلمه، فليسلم الناس من غشمك وظلمك وضَرَّك وشرَّكَ، فإن المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده (2)[94]).
ج – التخلق بالإيمان: المؤمن، إن أخذ من تصديق الله نفسه فعليك بالإيمان بكل ما أنزله الرحمن وإن أخِذ من أمنه العباد من ظلمه فأظهر من بَِرك وخيرك ما يؤمن الناس من شرك وضَيْرِك، وإنَ أخذ من خالق كل أمن فاسع لعباد الله في كل أمن (3)[95]).
ح- التخلق بالهيمنة: المهيمن؛ هو الشهيد، فإن أخذ من مشاهدته لعباده، فهو كالبصير، وثمرته كثمرته، والتخلق به كالتخلق به، وإن أخذ من شهادته لعباده وعليهم في القيامة، فثمرة معرفته خوفك وحياؤك من شهادته عليك إن عصيته، ورجاؤك شهادته لك إن أطعته والتخلق به أن تقوم بالشهادة في كل ما نفع وضرّ، وساء وسَّر، ولو على نفسك أو الوالدين والأقربين.
خ- التخلق بالعزَّة: العزيز؛ إن أخِذَ من العلبة فهو كالقهار وثمرة معرفته الخوف، وإن أخذ من الامتناع من الضيمَّ فلا تخلق به إلا في بعض الضُيوم، كَضْيمْ الكُفَّار الفُجّار، وإن أُخذ من الذي يَعِزُّ وجود مثله فهو سالب للنظير، فلا تخلق به إلا بالتوحد بالطاعة والعرفان على حسب الإمكان، بالنسبة إلى أبناء الزمان (4)[96]).
__________
(1) 93])شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال ص 37.
(2) 94])المصدر نفسه ص 38.
(3) 95])المصدر نفسه ص 39.
(4) 96])المصدر نفسه ص 39.(1/42)
د- التخلق بالجبر: الجبار، إن أُخذ من جبرت العظم والفقير إذا أصلحتهما، فثمرة معرفته رجاءُ جبره وإصلاحه والتخلق به، بأن تعامل عباده بكلَّ خير وإصلاح تقدر عليه، أو تصل إليه وإن أُخذ من العُلُو فهو كالعَليَّ، وثمرة معرفته كثمرات معارف جميع الصفات وإن أخذ من الإجبار فهو كالقهّار (1)[97]).
ذ- التخلق بالتكبر عن الرَّذائل: المتكبر؛ إن أُخذ من تكبره عن النقائص فهو كالقدوس، فتكبّر عن كل خلق دنيء وإن جعل شاملاً لجميع الأوصاف، فثمرة معرفته الإجلال والمهابة في جميع الأحوال الحادثات من سائر الصفات، وكذلك العظيم، والجليل والعلي والأعلى(2)[98]).
ذ- التخلق بالحلم: الحليم هو الذي لا يعجل بعقوبة المذنبين فاحلمُ، عن كلَّ من آذاك وظلمات، وسَبَّك وشتمك، فإنَّ مولاك صبور حليم، بَرُّ كريم، يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون.
ر- التخلق بالصبر: الصبور: هو الذي يعامل عباده معاملة الصابرين، فعليك بالصبر على أذيَّةِ المؤذين، وإساءة المسيئين، فإن الله يحب الصابرين (3)[99]).
ز- التخلق بالإعزاز: المعز: خالق العِزَّ وثمرة معرفته الطمعُ في إعزازه بالمعارف والطاعات والتخلق به، بإعزاز الدين ومن تبعه من عباد الله المؤمنين.
س- التخلقُّ بالإذلال: المذل: خالق الذُّل وثمرة معرفته خوف الإذلال بالمعاصي والمخالفات، والمعاملة به بإذلال الباطل، وأشياعه وإخمال العُدوان وأتباعه (4)[100]).
ش- التخلق بالانتقام: المنتقم : هو المعذب لما يشاء من عباده عدلا وثمرة معرفته الخوف من انتقامه والتخلق به لمن ابتُلي بشيء من الولايات بالانتقام من الجُناة بالحدود والتعزيرات والعقوبات المشروعات(5)[101]).
__________
(1) 97])شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال ص 39.
(2) 98])المصدر نفسه ص 39.
(3) 99])المصدر نفسه ص 41.
(4) 100])المصدر نفسه ص 39.
(5) 101])المصدر نفسه ص 43(1/43)
ع- التخلق بالعدل: الحكم، العدل، المقسِطُ، هو المنصف في وصله وقطعه وبذله ومنعه وضَرَّه ونفعه وثمرة معرفته خوف الظالم من عدله، ورجاء المظلوم لفضله والتخلق به لمن ابتُلى في ذلك أن يَعْدِل فيما حكم به مسَّويا بين الفقير والغنيّ والضعيف والقويّ، والقريب والأجنبي، والعُدوَّ والوليّ، وكذلك يعدل، فيما يختص به من أهله وعياله ورقيقه وأطفاله.
غ- التخلق باللطف : اللطيف: إن أخذ من معرفة الدقائق، فثمرة معرفته خوفُك ومهابتُك وحياؤك من معرفته بدقائق أحوالك، وخفايا أقوالك وأعمالك إذ لا يعزب عن خالق الأشياء مثقالُ ذرَّةٍ في الأرض ولا في السماء " ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير" (الملك، آية: 14) وإن أخذ من الرفق فثمرةُ معرفته رجاءُ رفقهِ فيما قضاه ولطفه فيما أمضاه والتخلق به بالرفق بكل من أُمرت به من عباد الله، فإنّ الله لطيف بعباده " وما كان الرفق في شيء إلا زانه (1)[102]).
ق- التخلق بالشكر: الشكور؛ إن أخُذ من ثنائه على عباده فثمرةُ معرفته رجاؤك الدّخول في مدحته بطاعته ومعرفته والتخلق به بشكر مولاك وشكر أبويْك، وشكر كل من أحسن إليك (2)[103])، "من لا يشكر الناس لا يشكر (3)[104]) الله.
ف- التخلق بالحفظ: الحفيظ؛ إن أُخِذَ من العلم فقد سبق، وإن أخذ من ضبط الأشياء وحفظها، فَثمرةُ معرفتِهِ رجاؤك حفظهَُ في أولاك وأُخراك والتخلق به بحفظ ما أمرت به من الطاعات والأمانات، فإن الله قد مدح الحافظين لحدوده، وبشَّرَهُم بإنجاز وعوده، فقال : "هذا ما توعدُون لكل أوَّاب حفيظ "(ق، آية: 32).
__________
(1) 102])مسلم رقم 2594 .
(2) 103])شجرة المعارف والأحوال ص 45.
(3) 104])سنن أبي داود رقم 4811(1/44)
ص- التخلق بالإقَاته: المقُيتُ : إن أخذ من القُدرة فلا تخلقُّ به وإن أخذ من إقاته الأقوات، فثمرة معرفته رجاء الإقاتةِ والأرزاق والتخلق به بإقاته كل محتاج تقدر على إقاتته من قريب أو أجنبي وضعيف وقويَ، مقدَّماً لمن تلزمُك إقاتته الأقرب فالأقرب (1)[105]). "كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقوت (2)[106])".
ض- التخلق بالحِكمةِ والحُكم: الحكيم؛ إن أُخِذَ من الحِكمة فثمرة معرفته المهابة والإجلال والتخلق به بمعرفة حُكم الكتَاب والسنة " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً"(البقرة، آية 269) وإن أُخذِ من الإحكام والإتقان فثمرة مُعرفته إجلال من غمّت الأشياء حكمته وحيَّرت الألبَّاءَ صنعته، والتخلق به، بإتقان أحوالك وأعمالك، فيما يُصْلحِك في عاجِلِك ومآلكِ.
? التَّخلُّق بالقُوَّة: القوي المتين، وثمرةُ معرفته مهابته وإجلاله والاعتماد على قُوَّتِهِ، والتخلق به بأن تكون قوياً في دينك، متيناً في يقينك، مَليّاً بطاعة مولاك.
? التَّخَلُّق بالتقديم والتأخير: المقدم والمؤخّر، ثمرة معرفتهما المهابة والإجلال والاعتماد عليه في تقديمه وتأخيره، ورجاء أن يُقدَّمَك بطاعته، وخوف أن يؤخَّرك بمعصيته والتخلق بهما بتقديم ما أمرت بتقديمه وتأخير ما أمرت بتأخيره، بأن تقدم الأماثل على الأراذل، وأن تقَّدم أوجب الطاعات على واجبها، وأفضلها على فاضِلِها، ومضيَّقَها على موسَّعها وبأن تقدم القُرُبات والطاعات إلى أوائل الأوقات، فإنّ الله مدح الذين يسارعون في الخيرات (3)[107]).
? التخلُّق بالبَرَّ: البُّر، هو المنعم وثمرة معرفته رجاءُ أنواع برَّه، والتخلق به بأن تبرَّ كُلَّ من تقدر على بَّره بأحبَّ أموالك – إليك وأنفسِها لديك، فإنَّ مولاك يقول : لن تنالوا البِرَّ حتى تتفقوا ممّا تحبون"(آل عمران: آية 92).
__________
(1) 105])شجرة المعارف والأحوال ص 45.
(2) 106])مسلم رقم 996.
(3) 107])شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال ص 47.(1/45)
? التخلق بالتوبة: التّواب، إن جُعل بمعن الموفَّق للتوبة فثمرة معرفته رجاء توبته عليك والتخلق، بأن تَحُثَّ المسيءَ على التوبة وتحرَّضَهُ على الأوْبَة وإن جُعل بمعنى قابل التوبة، فأقبل عذر من أساء إليك وندم على جرأته عليك (1)[108]).
? التخلق بمعنى المغني: والتخلق به بأن تُغني كلّ محتاج بما تقد عليه من علم وغيره، فتذكَّرَ الغافل وتُعلم الجاهل، وتُقيم المائل وتُسَّير العائل.
? التَّخُّلق بالضُّر والنَّفع: الضار والنافع، ثمرةُ معرفتهما خوف الضَّررَّ ورجاءُ النفع والتخلق بهما بنفع كل من أُمرت بنفعه وضرَّ كلَّ من أُمرت بضرَّه، بحدَّ أو قتل أو غيره، والخلق عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله، فعليك ببذل المنافع لكلَّ دان وشاسِع (2)[109]).
? التَّخَلُّق بهداية الضال: النور الهادي؛ ثمرة معرفتها رجاؤك أن يُنَّورَ جَنَاتك بمعرفته ويُزَّينَ أركانك بآثار هدايته، والتخلق بهما بأن تكون نوراً من أنوار الله، هادياً، إلى صراط الله(3)[110]). فوالله لأن يهدي الله بك رَجُلاً واحداً خيرٌ لك من أن تكون لك حُمرُ النَّعَم (4)[111]).
? التخلق بالقبض والبسط: القابض الباسط، ثمرة معرفتهما الخوف من قبض منافع الدُّنيا والآخرة، ورجاء بسط الخيرات العاجلة والآجلة، والتخلق بالبسط بأن تبسط بَّرك ومعروفك على كلَّ محتاج حتى على الدّواب والكلاب والذَّرَّ إذ (5)[112]) " في كل كبد – رطبة أجر" (6)[113])، والتخلق بالقبض بأن تقبض عن كل أحدٍ ما ليس له أهلاً، من مال وولاية وعلم وحكمة فلا تؤتوا السُّفهاء أموالهم فيتلفوها (7)[114]).
__________
(1) 108])المصدر نفسه ص 47.
(2) 109])المصدر نفسه ص 48.
(3) 110])المصدر نفسه ص 48.
(4) 111])البخاري رقم 2942.
(5) 112])شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال ص 48.
(6) 113])البخاري رقم 2363.
(7) 114])شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال ص 49.(1/46)
? التخلق ببذل الهبات: الوهاب، ثمرة معرفته رجاء أنواع هباته وصلاته، والتخلق به بكثرة الهبات والصَّلات مُقَدَّما للآباء والأُمهات، والبنين والبنات.
? التخلُّق بالجود والكرم، الجواد الكريم؛ ثمرة معرفتهما الطَّمعُ في آثار جودهِ وكرمه والتخلق بهما لمن أرادَ الُوصول إليه بأن تَجُود بكلَّ ما يقدِرُ عليه من مال وجاه، وعلم وحكمة، وبِرَّ ومساعدة.
? التخلق بالإجابة: المجيب؛ ثمرةُ معرفته رجاء إجابةِ وعائك لعِلمه بافتقارك إليه واعتمادك عليه وأنه سامعٌ لدعائك عالم ببلائِك، خابر لسرَّائِك وضرَّائِك والتخلق به بإجابة مولاك فيما دعاك إليه من قُرُباته، وبإجابة كلَّ داع إلى ما يُرضي مولاك في طاعاته وعباداته (1)[115]).
? التخلق بالمجد: المجيد الذي كثر شرفه، وتمّ كماله وجلاله في ذاته وصفاته وثمرة معرفته المهابة والإجلال والتخلق به يمكن التخلق به مما سبق ذكره، فإنه شامل لجميع الصفات كما شِملَها ذو الجلال والإكرام (2)[116]).
فهذه إشارات إلى كيفية التخلقُّ بالصَّفات ولا يحصل التخلق بالصفات إلاّ لمن واظب على التحديق إليها والإقبال عليها ولذلك أمرنا الله تعالى بإكثار ذكره لنُلابس ما يثمره ذكره من الأحوال والأقوال والأعمال (3)[117]).
__________
(1) 115])المصدر نفسه ص 49.
(2) 116])المصدر نفسه ص 49.
(3) 117])المصدر نفسه ص 50.(1/47)
ومن أفضل التخلُّقات أن تُحسِن إلى عباد الله بمثل ما أَحسنَ به إليك وأن تنُعم عليهم بمثل ما أنعم به عليك قال الله تعالى : "فأمَّا اليتيم فلا تقهر" (الضحى، آية: 9) أي عامِلُه بمثل ما عامَلناك، فإنّا وجدناك يتيماً فآويناك "وأمّا السَّائل فلا تنهر" (الضحى، آية: 10) أي عامل العائِلَ السائلَ بمثل ما عاملناك، فإنا وجدناك عائلاً فأغنيناك" "وأما بنعمة ربك فحَّدث" (الضحى، آية : 7): أي حَدَّثهم بها أنعمنا به عليك من هدايتنا ليهتدوا بذلك، فإنَّا وجدْناك ضالاً فهديناك (1)[118]).
__________
(1) 118])شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال ص 51.(1/48)
وقد جاء كتاب شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأفعال في عشرين باباً وفصولاً تمهيدية وتكلم عن الفصول التمهيدية عن القربات وآداب القرآن، وبيان فضائل الأعمال الظاهرة والباطنة وبيان رتب الوسائل والأسباب وثمرات المعارف وفوائدها وما يتفاضل به العباد وهذه الفصول موجودة في مقدمة وخاتمة كتابه" قواعد الأحكام في مصالح الأنام" ثم تكلم في الباب الأول في التخلق بصفات الرحمن على حسب الإمكان أما الباب الثاني، فقد تكلم فيه عن كل صفة من صفات الرب مع ذكر دليلها وثمرة معرفتها وكيفية التخلق بها وفي الباب الرابع تكلم عما يتعلق بالقلوب والجوارح من الأحكام من المأمورات والمنهيات والمعفوات والمباحات وأما الباب الخامس ففي المأمورات الباطنية وفيه ستة وخمسون مائة فصل، تتعلق بكل ما أمر الله به من الأعمال الباطنة كالتوكل على الله والتعزز بالله، والتذلل لأولياء الله، وذكر الدليل على كل خُلق من هذه الأخلاق من القرآن والسنة وأما الباب السادس، فقد تكلم فيه عن المنهبات الباطنية كالجهل، بما يجب تعلمه، وانشراح الصدر بالباطل، وفي محبة الكفار والأنداد، وما شابه ذلك، وتكلم فيه في ثلاثة ومائة فصل وأما الباب الثامن عشر في تعرف المصالح والمفاسد وما يقدم فيها عند التعارض وهذا تكرار، لما هو موجود في أول كتاب "قواعد الأحكام" وفي الباب التاسع عشر تكلم عن حسن العمل بالظنون الشرعية وهو تكرار لما هو موجود في قواعده أيضاً، وختم الكتاب بالباب العشرين في الورع في العبادات والمعاملات انتهى باختصار(1)[119])،
هذه هي أهم مصنفات ومؤلفات الشيخ عز الدين بن عبدالسلام.
7- سمات التأليف عند الإمام عز الدين بن عبدالسلام:
يتسم التأليف عند الإمام بسمات أبرزها:
__________
(1) 119])العز بن عبدالسلام حياته وآثاره ص 53.(1/49)
أ- تنوع الموضوعات التي ألف فيها الإمام: كما مر معنا من ذكر مؤلفاته ومن هذه المؤلفات ما هو مطول، كتفسير القرآن العظيم وقواعد الأحكام في مصالح الأنام ومنها ما هو مختصر، كمختصر النكت والعيون ومختصر الرعاية لحقوق الله للمحاسبي والقواعد الصغرى ومنها ما هو على شكل رسائل، كالفرق بين الإسلام والإيمان وملحة الاعتقاد ومنها ما فتاوى كالفتاوى الموصلية والمصرية.
ب- تنوع القضايا التي يتعرض لها الإمام: في المؤلف الواحد من مؤلفاته – غير الرسائل والفتاوى – فنجده أحياناً يتطرق لبحث مسائل تتعلق بالعقيدة، أو التصوف، أو اللغة أو البلاغة وهذا النهج في الاستطراد من الأمور التي اشتهر بها الإمام في تأليفه وتدريسه.(1/50)
ج- تكرير بعض الموضوعات في العديد من مؤلفاته، ولعل ذلك من باب التأكيد عليها تستقر في الأذهان، وترسخ حتى في أضعف العقول، وقد يكون هذا نابعاً من دربته في صحبة القرآن الكريم، فأخذ عنه التكرير لما في التكرير من فوائد، كالتأكيد، وزيادة التنبيه، وتجديد العهد بالموضوع الأول إذا طال الكلام وخشي تناسيه (1)[120])، وها هو الإمام يوضح لنا الغرض من ذلك فيقول: حرصاً على البيان والتقرير في الجنان كما تكررت المواعظ والقصص والأمر والزجر، والوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، وغير ذلك في القرآن، ولا شك أن في التكرير، والإكثار من التقرير في القلوب ما ليس في الإيجاز والاختصار (2)[121])ولا يترك الإمام فرصة للمعترضين على أسلوبه هذا فيرد عليهم قبل أن يواجهوه بأنه: يظن بعض الجهلة الأغبياء أن الإيجاز والاختصار أولى من الأسهاب والإكتار وهو مخطئ في ظنه لما ذكرنا من التكرير في القرآن، والعادة شاهدة بخطئه في ظنه، وما دلت العادة عليه، وأرشد القرآن إليه أولى مما وقع للأغبياء الجاهلين الذين لا يعرفون عادة الله ولا يفهمون كتاب الله (3)[122]).
__________
(1) 120])مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبدالسلام ص 52.
(2) 121])قواعد الأحكام (1/136).
(3) 122])مقاصد الشريعة عند العز بن عبدالسلام ص 52.(1/51)
ح- اهتمامه البالغ بالمقصد العام والأساس للشريعة: وهو، جلب المصالح ودرء المفاسد والتدليل عليه والإكثار من التمثيل له حتى يكون دوماً حاضراً في أذهان المكلفين أثناء أقوالهم وأفعالهم وجميع تصرفاتهم، غير غافلين عنه في أي لحظة من لحظات أعمارهم وهذه الروح – روح المقاصد – تسري في معظم كتبه مثل "قواعد الأحكام" واضحة وضوح الشمس وكذلك في "شجرة المعارف" واضحة بما يعرضه من نماذج وأمثلة تكاد تكون في معظمها وسائل لتحقيق مقاصد الشريعة الغراء وإقامتها في واقع الناس، ولا يقتصر تحقيق المصلحة عند الشيخ العز على المسلم فقط، بل يتعداه إلى الكافر وحتى الحيوان (1)[123])عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: في كل كبد رطبة أجر(2)[124])، قال الشيخ عز الدين: والتخلق بالبسط، أن تبسط برك ومعروفك على كل محتاج حتى على الدواب والكلاب، والذر (3)[125])، وأفرد الباب السابع في كتابه "شجرة المعارف" لبيان أن الإحسان: عبارة عن جلب مصالح الدارين أو إحداهما، ودفع مفاسدهما أو مفاسد إحداهما (4)[126]) وتحدث فيه كذلك عن الإحسان القاصر والمعتدي وبين في كتابه: الإمام في بيان أدلة الأحكام وأن الترغيب في الفعل أو التحذير منه، راجع إلى المنافع والمضار (5)[127])، وهذه نظرة كلية منه – رحمه الله – إلى مقاصد الشريعة التي جاءت لتحكم بسلطان الدين الحياة البشرية تحقيقياً لمصالح العباد، ودرء للمفاسد عنهم (6)[128]).
__________
(1) 123])المصدر نفسه ص 53.
(2) 124])المصدر نفسه ص 53.
(3) 125])المصدر نفسه ص 54.
(4) 126])المصدر نفسه ص 54.
(5) 127])المصدر نفسه ص 54.
(6) 128])المصدر نفسه ص 54.(1/52)
خ- كتبه في متناول العالم والجاهل، ولا تحتاج إلى كبير عناء في فهمها لسلاسة تعابيرها وإشراقة عبارتها وكثرة التمثيل، فيها مما يزيد معانيها توضيحاً وبياناً وبهذا يكون قد فاق الشاطبي الذي جعل كتابه: "الموافقات" لفئة خاصة من الناس كما ذكره في المقدمة (1)[129]).
د- توخي أسلوب الوعظ: أحياناً مع تجنب السجع المتكلف رغم فُشوَّه في عصره وقد تحاشاه الإمام حتى في خطبه.
ذ- اعتماده في مؤلفاته على الكتاب والسنة حرصاً منه على التلقي من النبع الصافي، وقلما نجده يعتمد على آراء من سبقه من العلماء اعتداداً بملكته العلمية المستقلة وبلوغه رتبة الاجتهاد وتحرره من قيود المذهبية الضيقة، وقد نص بعض من ترجم له أنه كان في آخر عمره لا يتقيد بالمذهب، بل اتسع نطاقة وأفتى بما أدى إليه اجتهاده (2)[130])، وما ذلك إلا حرصاً منه على توحيد الأمة واجتناب الخلافات.
س- تمتاز كتبه بالطابع العلمي، والتعليقات الدقيقة على النصوص، والنظرات العميقة فيها، استوحاها الإمام من مقاصد الشريعة وأهدافها النبيلة.
ش- استقلاليته في التأليف، وبروز شخصيته شخصية مميزة في استقلالها، مبرزة في نبوغها، قوية في تأثيرها في المجتمع، يظهر ذلك في نبذه للتقليد ودعوته للإجتهاد، واستفادات العز من غيره لم تذهب بشخصيته (3)[131]).
__________
(1) 129])المصدر نفسه ص 54.
(2) 130])مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبدالسلام ص 55.
(3) 131])المصدر نفسه ص 55.(1/53)
ولقد تبوأت مؤلفات عز الدين بن عبدالسلام مكانه عالية تجلت في اهتمام السابقين واللاحقين بها ومن مظاهر هذا الاهتمام؛ إشادة السابقين واللاحقين بها، والحرص على نسخها في القديم وطبعها بعد تحقيقها في عهدنا، وتدريس مؤلفاته وتداولها والعمل على شرحها، وكثير من العلماء من ينقل من مؤلفاته عند الاستدلال، مثل ابن كثير، والشاطبي، وابن حجر والمناوي والسيوطي والفتوحي (1)[132])وغيرهم كثير
8- الشيخ العز بن عبدالسلام وتطوير الفقه السياسي والعلاقات الدولية: .
رغم أن سلطان العلماء، الفقيه عز الدين بن عبدالسلام لم يقصد عند كتابته لمؤلفاته تخصيصها للقانون الدولي والعلاقات الدولية إلا ن مطالعتها تبين لنا انشغاله، بطريقة أو بأخرى، بأمور تدخل في إطارها سواء تعلقت بها مباشرة أو لكونها تمثل قواعد عامة أصولية تنطبق عليها أيضاً وأهم الوسائل التي عالجها ابن عبدالسلام تتمثل في الأمور الآتية:
أ- السلطة الحاكمة في نظر عز الدين بن عبدالسلام:
عالج الإمام عز الدين بن عبدالسلام السلطة الحاكمة، كعنصر من عناصر الدولة الحديثة من زوايا متعددة أهمها.
- ضرورة توفر العدل لدى الحكام:
__________
(1) 132])المصدر نفسه ص 56 إلى 61.(1/54)
يقرر عز الدين بن عبدالسلام أن العادل من الأئمة والولاة من الحكام، أعظم أجراً من جميع الأنام بإجماع أهل الإسلام، لأنهم يقومون بجلب كل صالح كامل، ودرء كل فاسد شامل (1)[133]) واشتراط العدالة يعد أمراً لازماً لتكون وازعة عن الخيانة والتقصير في الولاية ولأن العدل – وهو التسوية لغة مع إعطاء كل ذي حق حقه – يعتبر عنصراً لازماً لحياة أي مجتمع ومع ذلك يقرر العز بن عبدالسلام، أن اشتراط العدالة في الإمامة الكبرى فيها اختلاف لغلبة الفسوق على الولاة (2)[134])، فيقرر : ولو شرطناها لتعطلت التصرفات الموافقة للحق في تولية من يولونه من القضاء والولاة والسعادة وأمر الغزوات وأخذ ما يأخذونه، وبذل ما يعطونه، وقبض الصدقات والأموال العامة والخاصة المندرجة تحت ولايتهم، فلم تشترط العدالة في تصرفاتهم الموفقة للحق لما في اشتراطها من الضرر العام وفوات هذه المصالح أقبح من فوات عدالة السلطان (3)[135]).
- تولية الصالح أو الأصلح (مع عزل المريب): يعتبر الحاكم رأس الدولة أو الإقليم الذي يحكمه وبالتالي بات من الواجب أن يكون أصلح من تتوافر فيه الشروط اللازمة للقيام بهذه المهمة لذلك يرى سلطان العلماء أن على الإمام أن يعزل الحاكم إذا أرابه منه شيء، لما في إبقاء المريب من المفسدة، إذ لا يصلح في تقرير المريب على ولاية خاصة، لما يخشى من خيانته فيها، وإذا سلم تكن هناك ريبة، وجب التفرقة بين فروض ثلاثة:
الأول: أن يعزله بمن هو دونه، ففي هذا الفرض لا يجوز عزله لما فيه من تفويت المسلمين المصلحة الحاصلة من جهة فضله على غيره، ولأنه ليس للإمام تفويت المصالح من غير معارض.
__________
(1) 133])قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/143).
(2) 134])كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/278).
(3) 135])قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/79).(1/55)
الثاني: أن يعزله بمن هو أفضل منه، وهذا جائز لما فيه من تقديم الأصلح على الصالح، ولتحصيل المصلحة الصالحة للمسلمين.
الثالث: أن يعز له بمن يساويه، وهذا جائز في نظر البعض لما له من حق الاختيار عند تساوي المصالح ولما له من حق التخير بينهما في ابتداء الولاية، بينما يرى آخرون عدم جوازه لما فيه من كسر العزل وعاره بخلاف ابتداء الولاية (1)[136]).
- التصرفات الصادرة من غير ولاية صحيحة: تعرض العز بن عبدالسلام كذلك للتصرفات التي قد تصدر من أشخاص ليس لهم الحق في القيام بها، ولكن نظراً لصدورها في ظروف معينة فإنها تعتبر صحيحة(2)[137])، وقد تعرض لصنفين من التصرفات هما:
- تصرفات الأئمة البغاة: تعتبر هذه التصرفات نافذه مع القطع بأنه لا ولاية لهم، وإنما نفذت تصرفاتهم لضرورة الرعايا، كما أنه إذا نفذ ذلك مع ندرة البغي، فأولى أن ينفذ تصرف الولاة، والأئمة مع غلبة الفجور عليهم وأنه لا انفكاك للناس عنهم (3)[138]).
__________
(1) 136])المصدر نفسه (1/81).
(2) 137])كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي والعلاقات الدولية (13/279).
(3) 138])المصدر نفسه (13/379).(1/56)
أ- تصرف الآحاد في الأموال العامة عند جور الأئمة: إذا كانت القاعدة العامة تقضي بأن الأموال العامة لا يتصرف فيها إلا الأئمة ونواياهم، فإنه إذا تعذر قيامهم بذلك وأمكن القيام بها بواسطة فرد أو أكثر جاز ذلك، على أن ذلك مشروط بصرفه إلى مستحقيه على الوجه الذي يجب على الإمام العادل أن يصرفه فيه: بأن يقدم الأهم فالأهم، والأصلح فالأصلح فيصرف كل مال خاص في جهاته أهمها، فأهمها، ويصرف ما وجد من أموال المصالح العامة في مصارفها أصلحها، فأصلحها لأنا لو منعنا ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال إلى مستحقيها، فكان تحصيل هذه المصالح ودرء هذه المفاسد أولى من تعطيلها.. وإذا جوز الشرع لمن جحد حقه أن يأخذ من مال جاحده، إذا ظفر به إن كان من جنسه، وأن يأخذه، ويبيعه، إن كان من غير جنسه، مع أن هذه مصلحة خاصة فجواز ما ذكرناه مع عمومه أولى (1)[139]).
ب- بعض القواعد التي يمكن تطبيقها في إطار العلاقات الدولية عند الإمام عز الدين بن عبدالسلام:
تتميز العلاقات الدولية الحالية بصفتها الاجتماعية وبترابط وتداخل أواصر العلاقات الموجودة بين مختلف أشخاص القانون الدولي، والعلاقات الدولية أو السياسية الخارجية لأي بلد معين تنبع أو يجب أن تنبع، من المصلحة العليا لشعبه مع مراعاة ظروف البيئة التي يتم في داخلها اتخاذ القرار وسنجد – بإذن الله – بأن الإمام عز الدين بن عبدالسلام قد عالج بطريقة عامة ما قلناه ويمكن أن نركز فكره حول ثلاثة أفكار أساسية نطلق عليها المسميات الآتية، ترابط العلاقات الدولية، ونظرية تدرج العلاقات الدولية، وأخيراً نظرية الضرورة (2)[140]).
- ترابط العلاقات الدولية:
__________
(1) 139])المصدر نفسه (13/380).
(2) 140])المصدر نفسه (13/380).(1/57)
تقوم العلاقات الدولية المعاصرة على أساس فكرة الترابط أو التداخل أو التشابك والتي يرجع تفسيرها أساساً إلى حاجة أفراد المجتمع الدولي بعضهم لبعض، وإذا كان العز بن عبدالسلام لم يتحدث عن المجتمع الدولي صراحة إلا أن ذلك يمكن استنباطه مما قاله في الفقرة الآتية: أعلم أن الله تعالى خلق الخلق وأحوج بعضهم إلى بعض لتقوم كل طائفة بمصالح غيرها، فيقوم بمصالح الأصاغر الأكابر والأصاغر بمصالح الأكابر، والأغنياء، بمصالح الفقراء والفقراء بمصالح الأغنياء، والنظراء بمصالح النظراء، والنساء بمصالح الرجال، والرجال بمصالح النساء، والرقيق بمصالح السادات والسادات بمصالح الرقيق، وهذا القيام منقسم إلى جلب مصالح الدارين أو أحدهما أو إلى دفع مفاسدها أو أحدهما (1)[141]).
- ضرورة تدرج العلاقات الدولية لبلد ما: نحن نعتقد أن العلاقات الدولية إذا كانت تتسم حالياً بصفة الشمولية أو الكلية إلا أنها – بالنسبة لبلد معين – يجب أن يتم تخطيطها في إطار ظروف هذا البلد وعلى ضوء إمكانياته ومقدراته، والنتيجة اللازمة والمترتبة على ذلك المفهوم هو منع التهور أو التخبط في رسم أو اتخاذ سياسة خارجية معينة، ولعل ذلك ما قصده الإمام ابن عبدالسلام حينما قرر أنه إذا اجتمعت المصالح فإن أمكن تحصيلها حصلناها، وإن تعذر تحصيلها حصلنا الأصلح فالأصلح والأفضل فالأفضل (2)[142])، ويضرب لذلك أمثلة دولية من بينها:
- أن الجهاد لو وجب في الابتداء لأباد الكفرة أهل الإسلام لقلة المؤمنين وكثرة الكافرين.
__________
(1) 141])قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/68).
(2) 142])كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/381).(1/58)
- أن القتال في الشهر الحرام لو أحل في ابتداء الإسلام لنفروا منه لشدة استعظامهم لذلك وكذلك القتال في البلد الحرام كل ذلك دلالة قاطعة على أنه لا يجوز تقرير شيء أو اتخاذ قرار إلا على ضوء البيئة التي سيطبق فيها ومع مراعاة كافة الظروف والمواقف وأن اتخاذ قرار في إطار العلاقات الدولية قد تحتم الظروف ضرورة تدرجه (1)[143]).
- نظرية الضرورة: تعتبر حالة الضرورة من المبادئ المسلم بها في إطار النظرية العامة للقانون وهي مبدأ مطبق في مختلف النظم القانونية، بما في ذلك النظام القانوني الدولي (2)[144])، فالضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصالحها، ذلك أنه إذا اجتمعت المفاسد مع تعذر درئها جميعاً درأنا الأفسد فالأفسد والأرذل فالأرذل ويضرب الإمام عز الدين بن عبدالسلام مثالاً لذلك بما جرى في إطار العلاقات الدولية أيام الرسول صلى الله عليه وسلم بخصوص صلح الحديبية : فإن قيل لم التزم في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين وإعطاء الدنية في الدين؟ قلنا : التزام ذلك دفعاً لمفاسد عظيمة وهي قتل المؤمنين والمؤمنات فاقتضت المصلحة إيقاع الصلح على أن يرد إلى الكفار من جاء منهم إلى المؤمنين وذلك أهون من قتل المؤمنين الخاملين(3)[145]).
ج- أسس العلاقات بين المسلمين وغيرهم مع الأعداء في تقدير الإمام عز الدين بن عبدالسلام:
تحدث الإمام عز الدين بن عبدالسلام عن بعض الأسس التي تحكم العلاقة بين المسلمين وغيرهم وأهم هذه الأسس ما يلي:
__________
(1) 143])المصدر نفسه (13/381).
(2) 144])المصدر نفسه (13/382).
(3) 145])قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/95).(1/59)
- الجزية: اتهم كثير من غير المسلمين الإسلام بأنه دين يهدف إلى تقرير أمور مالية على غير المسلمين تعتبر وسيلة لإجبارهم على الدخول فيه؛ ومن بين هذه الوسائل الجزية التي يدفعها أهل الكتب السماوية ويعتبر ما قال الإمام ابن عبدالسلام في هذا الصدد رداً حاسماً : ولا تؤخذ الجزية عوضاً عن تقريرهم على الكفر، وشتمه ونسبته إلى مالا يليق بعظمته، ومن ذهب إلى ذلك فقد أبعد، وإنما الجزية مأخوذة عوضاً عن حقن دمائهم وصيانة أموالهم وحرمهم وأطفالهم، مع الذب عنهم إن كانوا في ديارنا، وليست مأخوذة عن سكن دار الإسلامُ إذ يجوز عقد الذمة مع تقريرهم في ديارهم (1)[146]).
- مراعاة القواعد الإنسانية: تلعب قواعد القانون الدولي الإنساني الآن دوراً هاماً في إطار المنازعات المسلحةن باعتبار أنها تهدف إلى تجنيب المشتركين فيها أو الذُين قد يتورطون، بطريقة أو بأخرى في إرتكابها أو يتعرضون لويلاتها، لمظاهر المعاناة غير المفيدة باعتبار أنهم في النهاية كائنات بشرية يجب احترام آدميتها لذلك يقرر مثلاً الإمام عز الدين بن عبدالسلام: إذا اختلط قتلى المسلمين بقتلى الكفار فإنا نغسل الجميع ونكفنهم توسلاً إلى إقامة حقوق المسلمين من الغسل والدفن والتكفين، وكذلك إذا تعارضت شهادتان في كفر الميت وإسلامه فإنا نغسله ونكفنه ونصلي عليه وندفنه في قبور المسلمين (2)[147]).
ويضيف الإمام في موضع آخر عدم جواز قتل غير المشاركين في الحرب إلا إذا دعت إلى ذلك ضرورة فيقول: قتل الكفار من النساء والمجانين والأطفال مفسدة، لكنه يجوز إذا تترس بهم الكفار بحيث لا يمكن دفعهم إلا بقتلهم (3)[148]).
__________
(1) 146])المصدر نفسه (1/110).
(2) 147])المصدر نفسه (2/20).
(3) 148])كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/384).(1/60)
- أسرى الحرب: غالباً ما يترتب على الحرب وقوع أسرى من الجانبين أو على الأقل من جانب واحد، ودائماً ما تبذل محاولات من أطراف محايدة لحمل الأطراف المتحاربة على إجراء عمليات تبادل الأسرى بالعدد وفي المكان المتفق عليه، وللإمام عز الدين بن عبدالسلام رأي في هذا الصدد، إذ يقول: وقد تجوز المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان لا من جهة كونه معصية، بل من جهة كونه وسيلة إلى مصلحة وله أمثلة منها ما يبذل في افتكاك الأسارى فإنه حرام على آخذيه مباح لباذليه وليس هذا على التحقيق معونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان وإنما هو إعانة على درء المفاسد، فكانت المعاونة على الإثم والعدوان والفسوق والعصيان فيها تبعاً لا مقصوداً (1)[149]).
ح- استيلاء الأعداء على إقليم من أقاليم المسلمين:
- أثر تصرفات سلطة الاحتلال في مجال الإدارة والقضاء:
من آثار الحرب المحتملة قيام أحد الطرفين بالاستيلاء على جزء من إقليم الطرف الآخر، وقد يقوم المحتل بإجراء تغييرات في الإدارة والقضاء والتشريع بما يتفق ونزعته الإحتلالية وبما يضمن له الإستقرار والولاء وقد عالج الإمام عز الدين أحد المظاهر بقوله: ولو استولى الكفار على إقليم عظيم فولوا القضاء، لمن يقوم بمصالح المسلمين العامة، فالذي يظهر، إنفاذ ذلك كله جلباً للمصالح العامة ودفعاً للمفاسد الشاملة، إذ يبعد عن رحمة الشرع ورعايته لمصالح عباده تعطيل المصالح العامة وتحمل المفاسد الشاملة لفوات الكمال فيمن يتعاطى توليتها لمن هو أهل لها، وفي ذلك احتمال بعيد(2)[150]).
- موقف ابن عبدالسلام من احتلال إقليم مسلم:
__________
(1) 149])المصدر نفسه (13/384) نقلاً عن قواعد الأحكام في مصالح الأنام.
(2) 150])قواعد الأحكام في مصالح الأنام (13/385).(1/61)
قدم العز بن عبدالسلام سلطان العلماء سنة 639هـ إلى مصر من دمشق بسبب أن سلطانها الصالح إسماعيل استعان بالفرنج وأعطاهم مدينة صيدا وقلعة الشقيف، فأنكر عليه الشيخ عز الدين وترك الدعاء، له في الخطبة، وساعده في ذلك الشيخ جمال الدين أبو عمر المالكي، فغضب منهما السلطان، فخرجا إلى الديار المصرية، فأرسل السلطان إلى الشيخ عز الدين وهو في الطريق قاصد يتطلف به في العودة إلى دمشق، فاجتمع به ولاينه، وقال له : ما نريد منك شيئاً إلا أن تنكسر للسلطان وتقبل يده لا غير، فقال له الشيخ: يا مسكين، ما أرضاه يقبل يدي فضلاً عن أن أقبل يده يا قوم أنتم في واد وأنا في واد والحمد لله الذي عافانا مما ابتلاكم به (1)[151]).
- ضرورة الإنشغال بالأعداء وعدم محاربة المسلمين: هناك موقف آخر مشهور للعز بن عبدالسلام يتمثل في المبدأ القاضي بضرورة: الإنشغال بالأعداء، ومحاربتهم بدلاً من الإلتفات للمسلمين ومعاداتهم، ذلك أنه لما مرض الملك الأشرف من بني أيوب أرسل للشيخ يتحلل ويسأله أن يعوده ويوصيه بما ينفعه، فأنعم الشيخ وكان السلطان قد وقعت بينه وبين أخيه الكامل وحشة فأمر وهو في مرضه أن ينصب دهليزه صوب مصر: فقال الشيخ للسلطان: إن الملك الكامل أخوك الكبير ورحمك وأنت مشهور بالفتوحات، والتتار قد خاضوا بلاد المسلمين فتترك ضرب دهليزك إلى أعداء الله وأعداء الإسلام وتضربه صوب أخيك؟ غير الحال ولا تقطع رحمك وانو مع الله نصر دينه، وإعزاز كلمته فإن منّ الله بعافيتك رجونا من الله إدالتك على الكفار وكانت في ميزانك هذه الحسنة العظيمة، وإن قضى الله بانتقالك كان السلطان في خفارة نيتك، فقال جزاك الله خيراً عن إرشادك ونصيحتك، وأمر بنقل دهليزه صوب التتر (2)[152]).
__________
(1) 151])كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولية (13/385).
(2) 152])المصدر نفسه (13/387).(1/62)
س- حقوق الإنسان عند الإمام ابن عبدالسلام: تعرض الإمام ابن عبدالسلام للعديد من مسائل حقوق الإنسان، يمكن أن تجمعها في أمرين؛ مسؤولية السلطة الحاكمة، وأنواع حقوق الإنسان.
- مسؤولية السلطة الحاكمة: يقول ابن عبدالسلام: وأما ولاة السوء وقضاة الجور فمن أعظم الناس وزراً وأحطهم درجة عند الله لعموم ما يجري على أيديهم من جلب المفاسد العظام ودرء المصالح الجسام، وإن أحدهم ليقول الكلمة الواحدة، فيأثم بها ألف إثم وأكثر على حسب عموم مفسدة تلك الكلمة، وعلى حسب ما يدفعه بتلك من مصالح المسلمين، فيالها من صفقة خاسرة وتجارة بائرة (1)[153]). ويشير ابن عبدالسلام إلى أمر هام يعاجل نفوس كثير من الحكام وهو وقوعهم في المظالم فيحثهم على فعل العدل وترك الظلم حيث ابن عبدالسلام: أن ما فوتوه من الأموال مضمون عليهم في الدين، فإن فنيت حسناتهم طرح عليهم من سيئات من ظلموه وكذلك الحكم في الدماء والإبضاع والأعراض وفيما أخروه من الحقوق التي يجب تقديمها أو قدموه من الحقوق التي يجب تأخيرها فقد قال رب العالمين : "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئاً".
- تقسيمات الحقوق والأمور التي تتعلق بها:
يقسم ابن عبدالسلام حقوق الرب وحقوق العباد أقسام : أحدها متساوي وثانيها متفاوت، والثالث مختلف في تساويها وتفاوتها.
- فقد تطرق إلى تقديم حقوق بعض العباد على بعض لترجيح التقديم على التأخير في جلب المصالح ودرء المفاسد، مثال ذلك تقديم نفقة زوجه وكسوتها وسكناها على نفقة أصوله وكسوتهم وسكناهم.
- وأشار ابن عبدالسلام أيضاً إلى حالة التساوي في حقوق العباد، فيتخير فيه المكلف جمعاً بين المصلحتين ودفعاً للضررين، مثال ذلك التسوية بين الزوجات في القسم والنفقات وتسوية الحكام بين الخصوم في المحاكمات(2)[154]).
__________
(1) 153])كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/387).
(2) 154])المصدر نفسه (13/387).(1/63)
- وأشار كذلك إلى تقديم حقوق الرب على حقوق عباده إحساناً إليهم في أخراهم، مثال ذلك التغرير بالنفوس والأعضاء في قتال من يجب قتاله.
- وأشار أيضاً إلى تقديم بعض حقوق العباد على حقوق الرب رفقاً بهم في دنياهم، كالأعذار المجوزة لقطع الصلوات ولترك الجهاد (1)[155]).
وتعرض ابن عبدالسلام لأمور أخرى تتعلق بحقوق الإنسان منها:
- قاعدة لا يجوز تعطيل الإنسان عن منافعه وأشغاله إلا ما استثنى كاستدعاء الحاكم للمدعي بناء على طلب خصمه، أو استدعائه للشهود(2)[156]).
- ويقول ابن عبدالسلام: إنما شرعت القرعة عند تساوي الحقوق دفعاً للضغائن والأحقاد، وللرضا، بما جرت به الأقدار وقضاء الملك الجبار (3)[157])، وتعليقاً على قوله تعالى: "ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" يقول ابن عبدالسلام: وإذا كان هذا في حقوق اليتيم فأولى أن يثبت في حقوق عامة المسلمين فيما يتصرف فيه دائماً من الأموال العامة، لأن اعتناء الشرع بالمصالح العامة أوفر وأكثر من اعتنائه بالمصالح الخاصة(4)[158]).
- قواعد ومبادئ أخرى قررها ابن عبدالسلام: يمكن إيجاز بعض القواعد والمبادئ التي قررها ابن عبدالسلام، والتي يمكن الاستفادة منها في مجال القانون الدولي والعلاقات الدولية، كما يلي:
- قاعدة: وأما مصالح الدنيا وأسبابها، ومفاسدها فمعروفة بالضرورات والتجارب والعادات والظنون المعتبرات، فإن خفي شيء من ذلك طلب من أدلته، ومن أراد أن يعرف المتناسبات والمصالح والمفاسد راجحها ومرجوحها، فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن المسرع لم يرد به ثم يبني عليه الأحكام فلا يكاد حكم منها يخرج عن ذلك، وبذلك تعرف حسن الأعمال وقبحها.
__________
(1) 155])المصدر نفسه (13/13/387) نقلاً عن قوعد الأحكام.
(2) 156])المصدر نفسه (13/387) المصدر نفسه.
(3) 157])كتاب الإعلام بقواعد القانون الدولي (13/389).
(4) 158])المصدر نفسه (13/390) نقلاً عن قواعد الأحكام (2/89).(1/64)
- الإمام والحكم: إذ أتلف شيئاً من النفوس أو الأموال في تصرفها للمصالح فإنه يجب على بيت المال دون الحاكم والإمام ودون عواقلهما لأنها لما تصرفا للمسلمين صار كأن المسلمين هم المتلفون ولأن ذلك يكثر في حقهما فيتضررون به ويتضرر عواقلهما..
- ويرى ابن عبدالسلام: أن من أمثلة الأفعال المشتملة على المصالح والمفاسد مع رجحان مصالحهما على مفاسدها؛ وجوب إجارة رسل الكفار مع كفرهم، لمصلحة ما يتعلق بالرسالة من المصالحة الخاصة والعامة، ولعل ابن عبدالسلام يكون – بهذه القاعدة الأخيرة، قد أشار إلى مبدأ حصانة وحرمة السفراء والمبعوثين الدبلوماسيين وهو مبدأ استقر عليه القانون الدولي المعاصر (1)[159]).
هذه بعض الخطوط العريضة فيما يتعلق في جهد الشيخ عز الدين في تطوير قواعد القانون الدولي والعلاقات الدولية.
سادساً: أعماله في التدريس والإفتاء والقضاء والخطابة:
__________
(1) 159])المصدر نفسه (13/391).(1/65)
1- في التدريس: قام العز بن عبدالسلام بالتدريس في مدارس دمشق ومساجدها، وهو أول عمل قام به العز رحمه الله وأول مدرسة عمل بها هي المدرسة العزيزية حيث كان للعز مجلس فيها يدرس فيه العلوم الشرعية، كما كان يدرس فيها الآمدي ت 631هـ واستمر العز في التدريس مع استاذه الآمدي وبعده، كما درس في المدرسة الشبلية، ثم تولى التدريس في الزاوية الغزالية وهي مكان صغير، بجانب الجامع الأموي من جهة الغرب وسميت بذلك نسبة إلى الإمام الغزالي ت 505هـ، كان يعتكف فيها، ثم استعملت للعبادة والتدريس والأذكار، وتولى العز التدريس فيها بعد وفاة شيخها جمال الدين الدولعي سنة 635هـ (1)[160])، ومع علمه ونبوغه وذيوع صيته، وبروزه على الأقران، حتى إنه كان مفتياً قبل هذا التاريخ، والتدريس مرحلة متقدمة على الإفتاء، فلابد أن يكون العز قام بالتدريس قبل تولية الملك الكامل له في سنة 635هـ وبعد هجرته إلى مصر ولاه السلطان التدريس في الصالحية (بالقاهرة) وكانت مدرسة كبيرة خصصت لتدريس المذاهب الأربعةن فأسند تدريس المذهب الشافعي، للإمام العز رحمه الله فبقي إلى أن توفي 660هـ ولم يكتف بالتدريس فيها، بل عقد حلقات العلم في المساجد وقصده الطلاب من الآفاق، وتخرج عليه في هذه الفترة معظم تلامذته الذين بزوا الأقران كابن دقيق العيد، والدمياطي، وغيرهم ممن سبق ذكرهم، وقد عرض عليه الملك الظاهر بيبرس بعد بنائه المدرسة الظاهرية أن يتولى أمر التدريس فيها إضافة إلى تدريسه في الصالحية، فأبى وقال: إن معي تدريس الصالحية، فلا أضيق على غيري، وسأله الملك أن يشترط في وقفها أن يكون التدريس لأولاده فقال: إن في هذا البلد من هو أحق منهم، فقال: لابد أن يكون لهم فيها وظيفة بالشرط، ففكر وقال: إن كان لابد فتكون الإمامة، فشرط لهم (2)[
__________
(1) 160])طبقات السبكي (8/242) فتاوى شيخ الإسلام عز الدين ص 131.
(2) 161])طبقات الفقهاء للأسنوي (2/197)..(1/66)
161])، وقد عرض عليه الظاهر بيبرس أيضاً أن يعين مناصبه لمن يريد من أولاده فقال: ما فيهم من يصلح، وهذه المدرسة الصالحية تصلح للقاضي تاج الدين ابن بنت الأعز (1)[162])، وكان أحد تلاميذه فضرب مثلاً نادراً في الحرص على الدين والورع، وعدم إيثاره أولاده على مصلحة المسلمين، فأسند الأمر إلى أهله ومن هو أهله، وكان العز رحمه الله مجيداً في تدريسه، جاداً في عطائه وقد أثنى أبو الحسن الشاذلي على مجلس العز بن عبدالسلام فقال: ... ما على الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس الشيخ عز الدين بن عبدالسلام (2)[163]). وكان مهيباً وقوراً، مع حسن محاضرة وبشاشة، لا يهتم بمظهر ولا ملبس، فقد كان يلبس قبع لباد، ويحضر فيه المواكب السلطانية، وأحياناً يلبس العمامة دون تكلف أو تصنع (3)[164])، ويعطي درسه مسترسلاً وهو أول من درس التفسير في حلقاته، كما درّس الفقه والأصول وغيرها من العلوم الشرعية وفاق أقرانه حتى قال ابن الحاجب أحد أقرانه: ابن عبدالسلام أفقه من الغزالي(4)[165]).
__________
(1) 162])فوات الوفيات (1/596).
(2) 163])حسن المحاضرة (1/127) فتاوى عز الدين بن عبدالسلام ص 129.
(3) 164])طبقات السبكي (8/214) فتاوى عز الدين بن عبدالسلام ص 129.
(4) 165])طبقات السبكي (8/214) المصدر نفسه ص 129.(1/67)
2- الإفتاء: لقد مارس الإمام العز الإفتاء بدون تعيين من ملك أو سلطان، بل إن هذا المنصب الرفيع لم يكن يخضع لمراسيم الملوك، وإنما هو مهمة يقوم بها العالم إذا رأى نفسه أهلاً لذلك، وقال العز رحمه الله في أيام محنته مع الملك الأشرف: أما الفتيا فإني كنت والله متبرماً منها وأكرهها وأعتقد أن المفتي على شفير جهنم، ولولا أني أعتقد أن الله أوجبها علي لتعينها على في هذا الزمان لما كنت تلوثت بها (1)[166])، والآن قد عذرني الحق، وسقط عني الوجوب وتخلصت ذمتي ولله الحمد والمنة. كان هذا الكلام قاله العز لمن جاء من طرف السلطان يبلغه بعزله عن الإفتاء، وزاد العز فقال لرسول السلطان: يا غرز، من سعادتي لزومي لبيتي، وتفرغي لعبادة ربي والسعيد من لزم بيته وبكي على خطيئته واشتغل بطاعة الله تعالى وهذا تسليك من الحق، وهدية من الله – تعالى – إلىَّ أجراها على يد السلطان وهو غضبان وأنابها فرحان، والله يا غرز لو كانت عندي خلعة تصلح لك على هذه الرسالة المتضمنة لهذه البشارة لخلعت عليك، ونحن على الفتوح، خذ هذه السجادة صلَّ عليها، فَقبِلها وقبَّلها، وودعه وانصرف إلى السلطان، وذكر له ما جرى بينه وبينه فقال لمن حضره، قولوا لي ما أفعل به، هذا رجل يرى العقوبة نعمة اتركوه بيننا وبينه الله (2)[
__________
(1) 166])طبقات السبكي (8/237) المصدر نفسه ص 129.
(2) 167])العز بن عبد السلام حياته وآثاره ومنهجه ص 56..(1/68)
167]) وبقى العز على تلك الحال ثلاثة أيام، ثم إن الشيخ العلامة جمال الدين الحصري شيخ الحنفية في زمانة ذهب إلى الأشرف فقال له: إيش بينك وبين ابن عبدالسلام" وهذا رجل لو كان في الهند، أو في أقصى الدنيا كان ينبغي للسلطان أن يسعى في حلوله في بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده ويفتخر به على سائر الملوك وكان لتدخل الشيخ جمال الدين الحصري أثر في احترام وتقدير الشيخ العز حتى أن السلطان قال: نحن نستغفر الله مما جرى، ونستدرك الفارطة في حقه، والله لأجعلنه أغنى العلماء، وأرسل إلى الشيخ واسترضاه وطلب محاللته ومخاللته (1)[168])، فكان بعد ذلك يأخذ بفتواه ومشورته وقد طلبه في مرض موته كما ذكرنا وسأله محاللته ونصحه، فنصحه العز بأن يحول عسكره الذين استعدوا لقتال أخيه الملك الكامل حاكم مصر إلى جهة العدو المشترك التتار، وكانوا قد ظهروا في شرق بلاد الإسلام في ذلك الوقت، فأمر الأشرف بذلك كما نصحه بإبطال المنكرات التي يرتكبها نوابه من الزنا وإدمان الخمور وتمكيس المسلمين، وظلم الناس، فأمر الأشرف بإبطال ذلك، كما باشر العز بنفسه تبطيل بعضها وبعد هذه النصيحة قال الأشرف: جزاك الله عن دينك وعن نصائحك وعن المسلمين خيراً، وجمع بيني وبينك في الجنة بمنه وكرمه، وأطلق له ألف دينار مصرية، فردها عليه، وقال: هذه اجتماعه لله لا أكدرها بشيء من الدنيا (2)[
__________
(1) 168])طبقات السبكي (8/218) العز بن عبدالسلام للوهيبي ص 56.
(2) 169])العز بن عبدالسلام للوهيبي ص 57 طبقات السبكي (8/241)..(1/69)
169])، ثم لم يمض أخوه الصالح إسماعيل تبطيل المنكرات وكان نائبه يومئذ، ثم استقل بالملك بعد موته ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى قدم أخوه الملك الكامل من الديار المصرية بجيوشه إلى دمشق وحاصر أخاه إسماعيل، ثم اصطلح معه، وأكرم الكامل العز غاية الإكرام وقد اجتمع مع العز بحضور أخيه إسماعيل، فقال الكامل: إن هذا له غرام برمى البندق، فهل يجوز له ذلك؟ فقال الشيخ: بل يحرم عليه، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عنه، وقال: إنه يفقئ العين ويكسر العظم (1)[170])، فيلاحظ أن ملوك بني أيوب كانوا يعزون الشيخ ويكرمونه غاية الإكرام ويحبون مجالسته والاستماع إلى نصحه، والعمل بمشورته، بما فيه خير الإسلام والمسلمين، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ولا يهابهم ولا يجاملهم (2)[171])، وقد اشتهر العز بالإفتاء حتى أن الناس كانت ترد عليه من البلاد لتستفتيه، كما أن شهرته بذلك قد وصلت إلى مصر قبل أن يذهب إليها بدليل أنه لما ذهب إليها سنة (639هـ) امتنع مفتيها الحافظ المنذري من الفتيا وقال: كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين عليه (3)[172])، وقد بادله العز نفس الإكرام والتقدير فامتنع عن التحديث لوجود حافظ عصره المنذري، وكان كل منهم يجل الآخر ويحضر دروسه (4)[173]). وكان العز حريصاً كل الحرص في فتاويه يتحرى الدقة فيها حتى أنه مّرة أفتى بشيء ثم تبين أنه أخطأ فنادى في الأسواق في مصر والقاهرة على نفسه: أنه من أفتاه فلان بكذا فلا يعمل به فإنه (5)[
__________
(1) 170])المصدر نفسه ص 57 نقلاً عن طبقات السبكي.
(2) 171])العز بن عبدالسلام للوهيبي ص 57.
(3) 172])الشيخ العز بن عبدالسلام حياته وآثاره ص 57.
(4) 173])فتاوي الشيخ عز الدين بن عبدالسلام ص 129.
(5) 174])المصدر نفسه ص 133..(1/70)
174])خطأ وهذا يدل على شدة ورعه ومراقبته لله وخشيته منه، وحرصه الشديد أن لا يضل أحد من عباد الله بسببه ولم يأبه لمن سيوصمه بالجهل وعدم المعرفة، لأنه آثر الآخرة على الدنيا، وثواب الله على مدح الناس، لذلك أكرم الله سبحانه، وجعل له القبول في قلوب عباده، فقصد بالفتوى من سائر البلاد (1)[175])، وسارت فتاويه مع الركبان وتحدث الناس بها وعملوا بها من الخلفاء والملوك والسلاطين إلى العامة والضعفاء والمساكين وترك لنا تراثاً في الفتاوى، سميت بعضها بالفتاوى المصرية والأخرى بالفتاوى الموصلية وقد قال عنه ابن كثير: انتهت إليه رئاسة المذهب، وقصد بالفتوى ، سائر الآفاق، ثم كان في آخر عمره لا يتعبد بالمذهب، بل اتسع نطاقه وأفتى بما أدى إليه اجتهاده (2)[176]).
__________
(1) 175])المصدر نفسه ص 123 ، 130.
(2) 176])البداية والنهاية (17/442).(1/71)
3- القضاء: ذكر ابن السبكي عن رسالة ولد العز الشيخ عبداللطيف في أخبار والده، أن الملك الكامل لما حاصر دمشق واستولى عليها من أخيه الملك الصالح إسماعيل ولى والده الشيخ تدريس زاوية الغزالي بجامع دمشق، وذكرَّ بها الناس، ثم ولاة قضاء دمشق بعدما اشترط عليه الشيخ شروطاً كثيرة ودخل في شروطه، ثم عينه للرسالة إلى الخلافة المعظمة، ثم اختلسته المنية رحمه الله في 22 رجب سنة 635هـ، فكانت مدة ملكه دمشق شهرين ونصف تقريباً (1)[177])، وذكر الداودي: أن الكامل وَلىَّ الشيخ تدريس الزاوية الغزالية بجامع بني أمية وعزم على ولايته قضاء دمشق، وإرساله في الرسالة إلى بغداد، فمات دون إمضاء ذلك بدمشق (2)[178])، فعباره الداودي، تفيد أن الشيخ لم يتول منصب القضاء، ولم يقم بالرسالة، لأن الكامل مات قبل تنفيذ ذلك الأمر، بينما عبارة ولده تخالف ذلك حيث أفادت أنه تولى القضاء، وليست قاطعة بذلك، فهي محتملة أنه عينه، ولم يباشر حيث مات الكامل بعد شهرين ونصف وجاء بعده أخوه الملك إسماعيل فلم ينفذ ذلك وهذا الاحتمال هو الراجح ويقويه نص عبارة الداودي، ولو أن الدكتور رضوان أطلع على هذا النص لما قال: ولعل عز الدين بقي في منصب قضاء دمشق برهة من الزمن خلال هذه الفترة القصيرة من حكم الكامل لدمشق، إذ كم بعد أخوه الصالح إسماعيل، ولم يكن يعجب بالشيخ، ولا يرضى أن يبقيه في القضاء، وقد حرم عليه اللعب بالبندق ولعل قصر فترة بقائه بهذا المنصب جعل أصحاب التراجم، وابن طولون لا يذكرونه بين قضاة دمشق (3)[
__________
(1) 177])ذيل الروضتين لأبي شامة ص 166 الشيخ العز بن عبدالسلام للوهيبي ص 58.
(2) 178])العز بن عبدالسلام للوهيبي ص 58.
(3) 179])المصدر نفسه ص 58..(1/72)
179])ولما هاجر إلى مصر أسند إليه الملك نجم الدين أيوب الخطابة، والقضاء حيث توفي قاضي قضاة مصر شرف الدين بن عين الدولة سنة 639هـ، فولى السلطان العز القضاء مكانة وحدد له قضاء مصر والصعيد وأبقى قضاء القاهرة والوجه البحري مع قاضي غيره، كما فوّض إليه مع القضاء الإشراف على عمارة المساجد المهجورة في مصر والقاهرة، وسار بالعدل والإنصاف ورفع الجور والحيف مهما كلفه الثمن (1)[180]).
__________
(1) 180])فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبدالسلام ص 127.(1/73)
4- الخطابة: لما تولى الشيخ عز الدين الخطابة بدمشق أزال كثيراً من البدع التي كان يفعلها الخطباء من دق السيف على المنبر، ولبس السواد، والسجع المتكلف، والثناء على الملوك، بما ليس فيهم، بل كان يدعو لهم، وأبطل صلاتي الرغائب والنصف من شعبان، وقد وقع بينه وبين ابن الصلاح ت 643هـ خلاف ووحشة بسبب صلاة الرغائب، لأنه كان يؤيدها واستمر العز في خطبة بالجامع الأموي سنة ونيفا حتى عزله الصالح إسماعيل بسب إنكاره عليه تحالفه مع الصليبيين سنة 638هـ (1)[181])ولما هاجر إلى مصر استقبلها صاحبها نجم الدين أيوب أعظم استقبال، وقربه وأدناه وأكرمه وولاه خطابة جامع عمرو بن العاص، وقد قام بمهمته أعظم قيام، وأدى رسالة المسجد التي عاش من أجلها على أحسن وجه، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، صادعاً بالحق، منكراً للباطل، وكان حريصاً أن لا يعزل نفسه عن الخطابة، كما فعل في عزل نفسه عن القضاء، لأنه لا يخشى الحيف وظلم الناس في الخطابة خلافاً للقضاء وكان الملك نجم الدين يخشى من سلاطة لسانه وجرأته لذلك سارع إلى عزله عن الخطابة، عندما عزل نفسه عن القضاء بعد حادثة إسقاط عدالة وزيره معين الدين ابن شيخ الشيوخ (2)[182])، وتولى الخطابة بعده المجد الأحميمي (3)[183])، كما سيأتي معنا بإذن الله تعالى.
سابعاً: أهم صفات العز بن عبدالسلام:
تميزت شخصية الشيخ عز الدين بن عبدالسلام بمجموعة من الصفات من أهمها:
__________
(1) 181])المصدر نفسه ص 125.
(2) 182])فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبدالسلام ص 127.
(3) 183])المصدر نفسه ص 127.(1/74)
1- الشجاعة: من الصفات التي لازمت العز بن عبدالسلام طيلت حياته الشجاعة في الحق ذلك لأنه كان مع الحق يدور حيث دار، وما قصته مع نائب السلطان عندما عزم على بيع المماليك إلا دليل ساطع على شجاعته، وجرأته وأنه لا يخاف في الله لومة لائم، ولا يخشى سلطانا، ولا يهاب الموت في سبيل الله وقد ذكر ابن السبكي: أن جماعة من المفسدين قصدوه في ليلة معتمة وهو في بيت عالم في بستان متطرف عن البساتين وأحاطوا بالبيت، فخاف أهله خوفاً شديداً، فعند ذلك نزل إليهم، وفتح باب البيت، وقال: أهلاً بضيوفنا، وأجلسهم في مقعد حسن، وأخرج لهم ضيافة حسنة فتناولوها وطلبوا منه الدعاء، إذ كان مهيباً له موقع حسن في القلوب فهابوه وعصم الله أهله وجماعته منهم بصدق نيته وكرم طويته وانصرفوا عنه (1)[184])ومن المواقف التي تدل على شجاعته.
- إنكاره على الملوك التنازل عن ديار المسلمين وعقد الصلح مع الصليبيين المعتدين:
__________
(1) 184])طبقات السبكي (8/229) فتاوى شيخ الإسلام ص 109.(1/75)
لما تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين، وأسلمهم قلعة صفد وقلعة الشقيف، وصيدا، وبعض ديار المسلمين؛ ليساعدوه على الصالح نجم الدين أيوب، حاكم مصر، لأن الصالح إسماعيل خاف منه، فكاتب الفرنجة، ليساعدوه ضد ابن أخيه حاكم مصر، فكان الثمن تسليم ديار المسلمين، وتطبيع العلاقات وفتح الحدود، فدخل الصليبيون دمشق (1)[185])وكان ذلك في عام 638هـ وزيادة على ذلك أذن الصالح إسماعيل للصليبيين بدخول دمشق لشراء السلاح لقتال المسلمين في مصر، وهذه خيانة عظمى، واستسلام ذليل، وخروج عن الدين والشرع، وجاء دور الشيخ العز الذي يغضب لله، وينتصر لدينه، ويدافع عن أرض الإسلام وحقوق المسلمين، ويجاهر بالنهي عن المنكر لا يخشى في الله لومة لائم، وتصدى كالأسد الهصور للمواجهة والنزال، وشق عليه ما حصل مشقة عظيمة وبدأت الجولة الأولى باستفتاء الشيخ العز في مبايعة الفرنج للسلاح، فقال: يَحْرم عليكم مبايعتهم، لأنكم تتحققون أنهم يشترونه، ليقاتلوا به إخوانكم المسلمين، ثم صعد الشيخ العز منبر المسجد الأموي الكبير، وذمَّ موالاة الأعداء، وقبّح الخيانة وذمَّ الأعمال المشينة التي حصلت، وشنَّع على السلطان، وقطع الدعاء له بالخطبة وصار يدعو أمام الجماهير بما يوحي بخلعه واستبداله، ويقول: اللهم أبرم لهذه الأمة أمراً رَشَداً، تُعِزّ فيه وليَّك وتذل فيه عدوك وُيعمل فيه بطاعتك ويُنهى فيه عن معصيتك والناس يبتهلون بالتأمين والدعاء للمسلمين، والنصر على أعداء الله الملحدين (2)[186]).
__________
(1) 185])صفحات مطوية من حياة سلطان العلماء ص 19.
(2) 186])طبقات الشافعية (8/243) العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 176.(1/76)
وكان الملك الصالح إسماعيل خارج دمشق، فلما وصله الخبر أحسَّ بالخطر الذي يحدق به والثورة المتوقعة عليه، فسارع إلى إصدار الأمر الكتابي بعزل الشيخ العز من الخطابة والإفتاء وأمر باعتقاله، واعتقال الشيخ ابن الحاجب المالكي الذي شاركه الأنكار على فعل السلطان ولما قدم إسماعيل إلى دمشق أفرج عنهما، وألزم الشيخ العز بملازمة داره، وألا يفتي (1)[187]).
- العز يرفض المساومة، ولو قبَّل السلطان يده:
__________
(1) 187])المصدر نفسه (8/243) المصدر نفسه ص 176.(1/77)
توجه الصالح إسماعيل إلى مصر، تحرسه الجيوش الصليبيةَّ الحاقدة، ليحارب الصالح أيوب، وكأنه تأسف لإطلاق الشيخ وأوجس في نفسه خيمته، فأرسل إلى سلطان العلماء بعض أعوانه وأمره أن يستنزله على وجه السياسة في زعمه، ليقع منه مداهنة، ولو في بعض الأوقات أو في بعض الأحوال، فقال السلطان لرسوله : تتلطَّف به غاية التلطَّف، وتستنزله وتعده بالعودة إلى مناصبه على أحسن حال؛ فإن وافقك فتدخل به علي، وإن خالف، فاعتقله في خيمنه إلى جانب خيمتي، فلما اجتمع رسول السلطان مع سلطان العلماء، شرع في مسايسته وملاينته، ثم قال له : بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة، أن تنكسر للسلطان وتقَّبل يده لاغير. فقال له: يا مسكين، ما أرضاه أن يقبل يدي، فضلاً أن أقبَّل يده، ياقوم، أنتم في وادٍ، وأنا في واد والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به، فقال له: قد رسم لي إن لم تُوافق على ما يطلب منك وإلا اعتقلتك فقال: فعلوا ما بدا لكم، فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان (1)[188])، فأخذ سلطان العلماء – رحمه الله – يقرأ القرآن، والسلطان يسمع، فقال يوماً لملوك الصليبيين : أتسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم. قال السلطان – هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته، لإنكاره علي تسليمي لكم حصون المسلمين، وعزلته عن الخطابة بدمشق، وعن مناصبه، ثم أخرجته، فجاء القدس وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم (2)[189]). فقال ملوك الفرنجة: والله لو كان هذا قسيسنا؛ لغسلنا رجليه، وشربنا مرقتها (3)[190])ولله در القائل:
ومَن يَهُن يَسْهُلُ الهوان عليه
...
ما لِجُرحٍ بميَّتٍ إبلام
__________
(1) 188])صفحات مطوية من حياة سلطان العلماء.
(2) 189])المصدر نفسه ص 27
(3) 190])المصدر نفسه ص 26.(1/78)
ثم جاءت الجيوش الإسلامية من مصر، ففرَّقوا عساكر الصليبيين، ونصر الله أهل طاعته، وخذل المنافقين، ونجّى الله الشيخ من كيد الشيطان وحزبه، ودخل مصر (1)[191])آمناً.
- نصحه للملوك: دخل سلطان العلماء العز بن عبدالسلام يوم العيد القلعة، والسلطان نجم الدين أيوب بن الكامل في زينته، وجنوده بين يديه، وأمراء الدولة تقبَّل الأرض له؛ فالتفت سلطان العلماء إليه منادياً باسمه المجرَّد : يا أيُّوبُ؛ ما حُجَّتُك عند الله، إذا قال لك: ألم أُبَوَّئ لك مصر، تبيح الخمور؟ فتجاهل أيوب حقيقة السؤال تجاهل العارف وتنمُّرَ المريب قائلاً: هل جرى هذا ؟ فرفع الشيخ عز الدين بن عبدالسلام صوته: نعم، الحانة الفلانية يُباع فيها الخمور، وغيرها من المنكرات وأنت تتقلب في نعمة هذه المملكة. فقال: سَّيدي هذا أنا ما عملته، هذا من زمن أبي، فأجابه الشيخ عز الدين: أنت من الذين يقولون : "إنا وجدنا آباءنا على أمة ويتسلل الرعب إلى نفس السلطان؛ فيرسم بإبطال بتلك الحانة وبدأ الناس يتساءلون عن سر هذه الجرأة ويوجَّه هذا الاستغراب والتساؤل إلى سلطان العلماء على لسان تلميذه الباجي:
يا سيدي؛ كيف الحال؟ فقال الشيخ – رحمه الله : يا بني رأيته في تلك العظمة، فأردت أن أهينهُ، لئلا تكبر نفسه، فتؤذيه فقال تلميذه، أما خفته؟ قال الشيخ والله يا بني، استحضرت هيبة الله، فصار السلطان قدَّامي كالقط (2)[192]).
__________
(1) 191])المصدر نفسه ص 26.
(2) 192])صفحات مطوية من حياة سلطان العلماء العز ص 28.(1/79)
- سلطان العلماء وبيع الأمراء في المزاد: رأى سلطان العلماء أن المماليك الذين اشتراهم نجم الدين أيوب ودفع ثمنهم من بيت مال المسلمين، واستعملهم في خدمته وجيشه، وتصريف شؤون الدولة يمارسون البيع والشراء وهو تصرف باطل؛ لأن المملوك لا ينفذ تصرفه، فأخذ سلطان العلماء لا يمضي لهم بيعاً ولا شراءً فضايقهم، ذلك وشجر بينهم وبينه كلام حول هذا المعنى فقال لهم بائع الملوك : أنتم الآن أرقَّاء لا ينفذ لكم تصرف، وإن حكم الرق مستصحب عليكم لبيت مال المسلمين، وقد عزمت على بيعكم فاحتدم الأمر، وبائع الملوك مصمَّم، لا يصحَّح لهم بيعاً ولا شراءً ولا نكاحاً، فتعطلت مصالحهم، وكان من جملتهم نائب السلطان الذي اشتاط غضباً، واحمر أنفه، فاجتمع مع شاكلته، وأرسلوا إلى بائع الملوك فقال: نعقد لكم مجلساً، ويُنادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي فرفعوا الأمر إلى السلطان، فبعث إليه، فلم يرجع، فخرجت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ – رحمه الله – في دخوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به (1)[193]).
__________
(1) 193])المصدر نفسه ص 31.(1/80)
وهنا أدرك الشيخ العز أن أعوان الباطل تمالؤوا عليه، ووقفوا في وجه الحق وتطبيق الشرع، وتنفيذ الأحكام التي لا تفرق – في الدين – بين كبير وصغير، وحاكم ومحكوم وأمير ومواطن فلجأ إلى سلاحه الضعيف الباهت في ظاهره، القوي الفعال المدمر في حقيقته وجوهره وسنده، وأعلن الإنسحاب وعزل نفسه عن القضاء وقرر الرحيل عن القرية الظالم أهلها، والتي ترفض إقامة شرع الله، ونفذ العز قراره فوراً، وحمل أهله، ومتاعه على حمار، وركب حماراً آخر، وخرج من القاهرة، وما أن انتشر الخبر بين الناس في مصر، حتى تحركت جموع المسلمين وراءه، فلم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل لا يؤبه إليه يتخلف، ولاسيما العلماء، والصالحين، والتجار، وأمثالهم ولسان حالهم يقول : لا خير في مصر إن لم يكن فيها العز بن عبدالسلام وأمثاله، القائمون بالكتاب والسنة، والآمرون بالمعروف، والناهون عن المنكر، المجاهدين في سبيل الله، لا يخافون لومة لائم، ولا شماته شامت ورُفِعَت التقارير حول هذه الظاهرة إلى القاهرة، وكانت التوصيات : متى راح ذهب ملكك فركب السلطان بنفسه، ولحقه واسترضاه، وطيبَّ قلبه، فرجع بشرط أن يُنادي على ملوك مصر وأمرائها ويبيعهم، فأرسل إليه كبيرهم – نائب السلطان – بالملاطفة والشيخ لم يتغير؛ لأنه يريد إنفاذ حكم الله، عندئذ، انزعج نائب السلطان، وأصدر قراره بتصفية الشيخ جسدياً وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبُيعنا ونحن ملوك الأرض، والله لأضربنَّه، بسيفي هذا، بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ، والسيف في يده صلتاً، فطرق الباب فخرج إليه ولد الشيخ، فرأى أمراً جلداً، فعاد إلى أبيه، وأخبره الحال، فقال بائع الملوك ممتلئاً، إيماناً بربه؛ قائلاً لولده: يا ولدي : أبوك أقلُّ من أن يُقْتل في سبيل الله، فلما رآه نائب السلطان؛ اهتزت يده وارتعدت فراصه وسقط أرضا، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعوا له قائلاً:(1/81)
يا سيدي ! خيرا، أي شيء العمل؟ فقال الشيخ: أنادي عليكم وأبيعكم. قال نائب السلطان: ففيم تصرف ثمننا ؟ قال الشيخ: في مصالح المسلمين. قال نائب السلطان: من يقضيه؟ قال الشيخ: أنا. وأنفذ الله أمره على يد الشيخ – رحمه الله – فباع الملوك منادياً عليهم واحد تلو الآخر، وغالى سلطان العلماء في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير التي تعود بالنفع على البلاد والعباد (1)[194]).
ومن هنا عرف الشيخ العز، بأنه "بائع الملوك" واشتهر أمره في الآفاق، وسجل له التاريخ موقفاً فريداً لم يشهده العالم أجمع، وعلا صوت الحق، وعزَّ العلماء، وتمّ تطبيق شرع الله تعالى، وهزم الباطل وطاشت سهام السلطة والقوة المادية، أمام سلطان الله تعالى، وأحكامه، وصدق على العز حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر (2)[195])، وعاد العز إلى عرينه في كنف الله تعالى ورعايته، وهو القائل: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خّوان كفور" (الحج، آية: 38) والقائل : "والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون"(يوسف، آية 21).
العز يهدم قاعة المنكر، ويسقط عدالة الوزير:
__________
(1) 194])صفحات مطويات من حياة سلطان العلماء ص 33 ، 34.
(2) 195])العز بن عبدالسلام ص 182 للزحيلي.(1/82)
لم تمض سنة واحدة على حادثة بيع الأمراء في المزاد العلني حتى وصل إلى علم الشيخ عز الدين ما فعله أستاذ الدار عند السلطان، وهو ما يعادل اليوم "كبير أمناء الملك أو الرئيس"، وهو معين الدين بن شيخ الشيوخ، والذي كان يجمع إلى منصبه، اختصاصات الوزير، وقائد الجيش في المعارك وفتح دمشق لكنه كان متحللاً وعابثاً ومعتداً بقوته ومنصبه، ولذلك تجرأ على منكر كبير، يخالف أحكام الدين ويسخر بالشرع، ويسيء إلى مشاعر المسلمين، فبنى فوق أحد مساجد القاهرة طبلخانة أي قاعة لسماع الغناء والموسيقى وذلك سنة 640هـ وما أن ثبت ذلك عند الشيخ العز وهو يتولى منصب قاضي القضاة، حتى غضب لله تعالى وإهانة بيت الله، وإعلان المنكر، وإرتكاب الفواحش، وأصدر أمره بهدم البناء، ولكنه خشي من جبن الناس في التنفيذ، أو المعارضة في الهدم، فقام بنفسه، وجمع معه أولاده والموظفين عنده، وذهب إلى المسجد، وحمل معوله معهم، وقاموا بإزالة المنكر، وهدم البناء المستحدث فوق المسجد، ولم يكتف العز بهذا التحدي للوزير والسلطان معاً، بل أسقط عدالة الوزير بما يعني عدم قبول روايته وشهادته، وعزل نفسه عن القضاء، حتى لا يبقى تحت رحمة السلطان، وتهديده بالعزل أو غيره وكان لهذا العمل دوي هائل، أثر عجيب، وتنفس الناس الصعداء من تسلط الحكام، وإرتكاب المخالفات وممارسة التجاوزات الشرعية، ولم يجرؤ أحد أن يمس الشيخ العز بسوء، بل أدرك السلطان نجم الدين أنّ الحق مع الشيخ وتلطف معه للعودة إلى القضاء ولكن الشيخ أصر على ذلك، وظن الوزير رسمياً وشعبياً في ذلك، وأن كلام الشيخ العز سيذهب مع الرياح، ولكن الواقع غير ذلك، وطار الخبر في الآفاق حتى وصل إلى الخليفة في بغداد وأخذ صداه الواسع في العالم الإسلامي (1)[
__________
(1) 196])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 183..(1/83)
196])قال السبكي: واتفق أن جهزّ السلطان الملك الصالح رسولاً من عنده إلى الخليفة المستعصم ببغداد، فلما وصل الرسول على الديوان، ووقف بين يدي الخليفة، وأدى الرسالة، خرج إليه وسأله: هل سمعت هذه الرسالة من السلطان؟ فقال: لا ولكن حملنيّها عن السلطان معين الدين ابن شيخ الشيوخ استاذ داره، فقال الخليفة: إن المذكور أسقطه ابن عبدالسلام فنحن لا نقبل روايته فرجع الرسول إلى السلطان بمصر حتى شافهه بالرسالة، ثم عاد إلى بغداد وأدَّاها (1)[197]).
- معارضته لشجرة الدر سلطنتها على مصر: قال ابن إياس فلما وقع الاتفاق على سلطنتها حضر القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، وبايعها بالسلطنة على كره منه، قال الشيخ عز الدين بن عبدالسلام: لما تولت شجرة الدر على الديار المصرية، عملت في ذلك مقامه، وذكرت فيها بماذا ابتلى الله به المسلمين بولاية امرأة عليهم، وكانت سلطنتها يوم الخميس ثاني صفر سنة ثمان وأربعين وستمائة (2)[198])، وفي هذا رد على من يزعم بأنه لا أحداً من علماء الدين لم يبد اعتراضاً على ذلك(3)[199])وسيأتي الحديث عن حكم تولي المرأة للسلطنة في كتابنا القادم بإذن الله تعالى عن المماليك.
__________
(1) 197])طبقات الشافعية (8/211) العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 184.
(2) 198])بدائع الزهور (1/286).
(3) 199])طبقات السبكي (8/215) فتاوى شيخ الإسلام العز ص 120.(1/84)
- في حرب التتار وفتاويه الشجاعة: ومن مواقفه رحمه الله : في حرب التتار الذين داهموا البلاد الإسلامية ودمروا بغداد، وأبادوا المسلمين وعظم خطرهم على العالم الإسلامي وجبن الناس عن ملاقاتهم وحربهم، وخاف أهل مصر، وضاقت بالسلطان وعساكره الأرض، عندها تدخل الشيخ رحمه الله وبث الهمة في نفوس الناس وذكرهم بضرورة الجهاد، وعندما استشاره السلطان قطز بأمر المملكة وحرب التتار قال رحمه الله: أخرجوا وأنا ضامن لكم على الله النصر، فقال السلطان له: إن المال في خزانتي قليل، وأنا أريد أن أقترض من أموال التجار ما استعين به على قتال التتار (1)[200])، وكان في مجلس السلطان كبار العلماء والفقهاء والقضاة فكان الرأي ما ذهب إليه ابن عبدالسلام حيث قال: إنه إذا طرق العدو بلاد الإسلام وجب على الإمام قتالهم، وجاز لكم أن تأخذوا من الرعية ما تستعينون به على جهادكم بشرط ألا يبقى في بيت المال شيء، وتبيعوا مالكم من الحوائص المذهبة، والآلات النفيسة، ويقتصر كل الجند على مركوب وسلاحه ويتساووا هم والعامة، وأما أخذ الأموال من العامة مع بقائه في أيدي الجند من الأموال والآلآت الفاخرة فلا (2)[201]). فنفذ الملك والأمراء والجند فتوى العز وامتثلوا أمره، فقد أحضر الأمراء كافة ما يملكون من مال وحلي نسائهم، وأقسم كل واحد منهم أنه لا يملك شيئاً في الباطن، ولما جمعت هذه الأموال وضربت سكت ونقداً وأنفقت في تجهيز الجيش، ولم تكف هذه الأموال نفقة الجيش أخذ السلطان قطز ديناراً واحداً من كل رجل قادر في مصر، فجمع بذلك الأسلوب الفريد المال الحلال الذي لا ظلم ولا عدوان فيه، ومع الاستعداد النفسي الذي قام به العز واخوانه من العلماء تنزَّل نصر الله على عباده المؤمنين، وهزم الله التتار في عين جالوت سنة 658هـ (3)[
__________
(1) 200])السلوك (1/428) النجوم الزاهرة (7/72).
(2) 201])المصدر نفسه.
(3) 202])فتاوى شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام ص 120..(1/85)
202]). ومن أساب النصر شعور الناس بقيمة العدل التي ساهمت في جعل روح جديدة تسري في كيان الشعب المسلم تحت قيادة السلطان قطز، من خلال الفتاوى الفذة التي أفتى بها الشيخ عز الدين بن عبدالسلام وهكذا كانت مواقف العز بن عبدالسلام من حكام عصره، في حياته المديدة كلها آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، صادعاً بالحق، حرباً على الباطل وأهله عاش أحداث عصره فأثر به وتفاعل معها، وتأثر بها، فجاهد باليد، كما جاهد بالقلم واللسان، حتى كتب اسمه بأحرف من نور في سجل الخالدين، وترك خلفه مدرسة غنية لكل باحث وسيرة عبقة يقتدي بها الباحثون عن الحق وأنصار الشرع، والعدالة (1)[203]).
__________
(1) 203])المصدر نفسه ص 120.(1/86)
2- زهده: لقد ضرب لنا العز مثلاً للزهد بسيرته ومواقفه، فكان رحمه الله زاهداً في الدنيا مع مشاركته في أحداثها، وانخراطه في حل مشكلاتها ومعضلاتها فلم يكن منعزلاً عن الناس، بل كان يعيش بينهم رافضاً دنياهم يذكرهم بأخراهم، فكان أغنى الناس رغم فقره إذ لم يكن يتطلع إلى ما في أيديهم بل كان يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، عطاء الواثق بربه، يعطي الأغنياء والفقراء رغم فقره ولا يرد سائلاً سأله رغم حاجته، فإذا لم يجد ما يعطي ما في جيبه خلع شيئاً من لباسه، أو جزءاً من عمامته، أو شيئاً من أثاث بيته وأعطى لسائله، كان زاهداً في متاع الدنيا رغم أنه كان ملء سمعها وبصرها، يعمل فيها للآخرة رغم أنها جاءته تسعى راغمة والدليل (1)[204])على ذلك مواقف كثيرة منها، عندما عرض عليه رسول الملك الصالح إسماعيل أن ينكسر للسلطان ويقبل يده ويعتذر إليه من موقفه من التحالف مع الصليبيين وتسليم حصون المسلمين لهم – كما مرّ معنا قال الشيخ: والله يا مسكين ما أرضاه أن يقبل يدي فضلاً أن أقبل يده، يا قوم أنتم في واد، وأنا في واد، والحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به (2)[205])به ومن زهده وورعه رحمه الله أن نصح للملك الأشرف وهو في مرضه الذي مات فيه، امتثل أمره وعمل بنصحه وأمر له بألف دينار مصرية فردها الشيخ عليه ولم يقبلها وقال: هذه اجتماعة لله لا أكدرها بشيء من الدنيا وودع الشيخ السلطان ومضى (3)[206]).
__________
(1) 204])طبقات السبكي (8/230) وما بعدها.
(2) 205])المصدر نفسه (8/243).
(3) 206])طبقات الشافعية (8/240) العز بن عبدالسلام ص 107 للزحيلي..(1/87)
ولما هاجر الشيخ العز من دمشق وقد ناهز الستين لم يحمل شيئاً من حطام الدنيا ومتاع البيت، أو ما كدَّسه من مناصبه وأعماله، ولما استقال العز من القضاء عند فتواه ببيع الأمراء ورفض السلطان لذلك، خرج من القاهرة، وكل أمتعته في الحياة مع أسرته، حمْل حمار واحد، مما يدل على قناعته بالقليل، وزهده في المال والمتاع، ولما مرض الشيخ العز، وأحس بالموت، أرسل له الملك الظاهر بيبرس أن يعين أولاده في مناصبه وقال: .. أن يكون ولدك مكانك بعد وفاتك "في تدريس الصالحية"، فقال العز: ما يصلح لذلك، قال له: فمن أين يعيش؟ قال: من عند الله تعالى، قال له: نجعل له راتباً؟ : قال هذا إليكم (1)[207])، ثم أشار إلى تعيين تقي الدين بن بنت الأعز (2)[208])، والحقيقة أن ولد العز الشيخ عبداللطيف كن عالماً فقيهاً، يصلح للتدريس، ولكن ورع العز وزهده منعه من جعل منصب التدريس وراثة لأولاده (3)[209]).
__________
(1) 207])طبقات الشافعية للأسنوي (2/84) العز بن عبدالسلام ص 107 للزحيلي.
(2) 208])العز بن عبدالسلام ، للزحيلي ص 107.
(3) 209])المصدر نفسه ص 108.(1/88)
3- حبه للصدقة: كان كثير الصدقات، باسط اليد فيما يملك يجود بماله ولو كان قليلاً، طمعاً بالأجر والثواب، وادخار ذلك إلى يوم الدين، حكى قاضي القضاة بدر الدين بن جماعة رحمه الله، أن الشيخ لما كان، بدمشق، وقع مرة غلاء كبير حتى صارت البساتين تباع بالثمن القليل، فأعطته زوجته مصاغاً لها وقالت: اشتر لنا به بستاناً، نَصِيفَ به، فأخذ ذلك المصاغ، وباعه وتصدق بثمنه، فقالت: يا سيّدي اشتريت لنا؟ قال: نعم بستانا في الجنة، إني وجدت الناس في شدة فتصدقت بثمنه، فقالت له: جزاك الله خيراً (1)[210]). فجدد سيرة أصحاب رسول الله والسلف الصالح (2)[211])وحكى ابن السبكي عن حب العز للتصدق: وحكي أنه كان مع فقره كثير الصَّدقات، وأنه ربمَّا قطع من عمِامته، وأعطى فقيراً يسأله إذا لم يجد معه غير عمِمامته (3)[212]).
4- ورعه وتقواه: كان العز صاحب ورع متعد، إذ كان ورعاً ويعلم الناس الورع، بمواقفه أولاً، ثم بعلمه الفياض ثانياً، ومما يدل على ذلك قوله: يجب على الخنثى المشكل أن يستتر في الصلاة كالتستر للنساء احتياطاً (4)[213])، وقوله : من نسي ركعتين من السنن الرواتب، ولم يعلم أهي سنة الفجر أم سنة الظهر، فإنا نأتي بالسنتين لنحصل على المنسية، ولمن نسي صلاة من صلاتين مفروضتين أيضاً (5)[214]).
__________
(1) 210])طبقات الشافعية الكبرى (8/214).
(2) 211])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 108.
(3) 212])المصدر نفسه ص 108.
(4) 213])فتاوى شيخ الإسلام العز بن عبدالسلام ص 106.
(5) 214])قواعد الأحكام (2/25).(1/89)
5- تواضعه وعدم التكلف: كان الشيخ عز الدين بن عبدالسلام متواضع النفس، مع ربه، ومع الناس، ومع نفسه، ولا يتكلف لشيء في حياته، ومعيشته، ولباسه وسلوكه مع الجميع، فعندما كتب له الملك الأشرف رسالته، وفيها ما يَلمْزه بالاجتهاد لمذهب خامس في العقيدة؛ "إن كنت تدّعي الاجتهاد، فعليك أن تثبت ليكون الجواب على قَدْر الدعوى لتكون صاحب مذهب خامس" إجابه العز بكل تواضع، وقال عن هذه النقطة: وأمّا ما ذُكر من أمر الاجتهاد والمذهب الخامس فأصول الدين ليس فيها مذاهب، فإن الأصل واحد (1)[215])، وعندما جاءه نائب السلطنة في مصر حاملاً سيفه ليقتل العز لفتواه ببيع الأمراء المماليك، كما مّر معنا، فقام لاستقباله، فاعترضه ابنه خشية عليه من القتل، فقال له: يا ولدي ، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله (2)[216])، وكان العز يترك التكلف في لباسه، فكان يلبس مرة العمامة ومرة قبعة من لبّاد، بحسب ما يتيسر له، ويحضر بها المناسبات والمواكب، قال: ابن السبكي بعد حكاية تصدقه بالعمامة: وفي هذه الحكاية ما يدل على أنه كان يلبس العمامة، وبلغني أنه كان يلبس قبّع لبّاد، وأنه كان يحضر المواكب السلطانية به، فكأنه كان يلبس تارة هذا، وتارة هذا، على حسب ما يتفق من غير تكلف(3)[217]).
6- بلاغته وفصاحته: كان العز بن عبدالسلام بليغاً فصيحاً قوي العبارة ذات المعاني المتعددة وقد ترك لنا أقوالاً مأثورة منها:
أ- في نصرة الحق: ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق وأخمل الصواب أن يبذل جهده في نصرهما، وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما، وإن عز الحق، فظهر، الصواب، أن يستظل، بظلهما وأن يكتفي باليسير من رشاش غيرهما (4)[218]).
__________
(1) 215])طبقات الشافعية الكبرى (8/231، 233).
(2) 216])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 110.
(3) 217])المصدر نفسه ص 110.
(4) 218])المصدر نفسه ص 110.(1/90)
ب- الشرع هو الميزان: والشرع ميزان يوزن به الرجال، وبه يتيقن الربح من الخسران، فمن رجح في ميزان الشرع، كان من أولياء الله، وتختلف مراتب الرجحات، ومن نقص في ميزان الشرع، فأولئك أهل الخسران، وتتفاوت خفتهم في الميزان , وأخسها مراتب الكفار، ولا تزال المراتب تتناقص حتى تنتهي إلى منزلة مرتكب أصغر الصغائر، فإذا رأيت إنساناً يطير في الهواء ويمشي على الماء، أو يخبر بالمغيبات، ويخالف الشرع بارتكاب المحرمات، بغير سبب محلل، أو يترك الواجبات بغير سبب مجَّوز؛ فأعلم أنه شيطان، نصبه الله فتنه للجهلة، وليس ذلك ببعيد من الأسباب التي وصفها الله للضلال، فإن الدجال يحيي ويميت فتنتة لأهل الضلال، وكذلك يأتي الخربة، فتتبعه كنوزها كيعاسيب (1)[219])النحل، وكذلك يظهر للناس أن معه جنة وناراً، فناره جنة، وجنته نار، وكذلك من يأكل الحيَّات، ويدخل النيران، فإنه مرتكب للحرام بأكل الحيات وفاتن للناس بدخول النيران ليقتدوا به في ضلالته ويتابعوه على جهالته (2)[220]).
__________
(1) 219])ذكور النحل.
(2) 220])قواعد الأحكام (2/194) صفحات مطوية ص 106.(1/91)
ج- الطريق إلى حياة القلوب: والطريق في إصلاح القلوب التي تصلح الأجساد بصلاحها، وتفسد بفسادها؛ تطهيرها من كل ما يبعد عن الله، وتزيينها بكل ما يقرب إليه، ويزلفه لديه، من الأحوال، والأقوال، والأعمال، وحسن الآمال، ولزوم الإقبال عليه، والإصغاء إليه والمثول بين يديه في كل وقت من الأوقات، وحال من الأحوال، على حسب الإمكان من غير أداء إلى السآمة والملال ومعرفة ذلك هي الملقبة بعلم الحقيقة، وليست الحقيقة خارجة عن الشريعة، بل الشريعة طافحة، بإصلاح القلوب بالمعارف والأحوال، والعزوم والنيات، وغير ذلك مما ذكرنا من أعمال القلوب، فمعرفة أحكام الظواهر معرفة بجلَّ الشرع، ومعرفة أحكام البواطن معرفة لدقَّ الشريعة، ولا ينكر شيئاً منهما إلا كافر أو فاجر، وقد يتشبه بالقوم من ليس منهم، ولا يقاربهم في شيء من الصفات، وهم شرُّ من قطاع الطريق، لأنهم يقطعون طرق الذاهبين إلى الله تعالى وقد اعتمدوا على كلمات قبيحات، يطلقونها على الله، ويسيئون الأدب على الأنبياء والرسل وأتباع الأنبياء من العلماء والاتقياء، وينهون من يصحبهم من السماع من الفقهاء، لعلمهم بأن الفقهاء ينهون عن صحبتهم وعن سلوك طريقهم (1)[221]).
كما أن للعز صفات كثيرة تحدثت عنها في ثنايا ترجمته، كالعلم والفقه، والتوكل والهيبة...إلخ.
ثامناً: أهم محاور التجديد عند الشيخ عز الدين بن عبدالسلام:
__________
(1) 221])قواعد الأحكام نقلاً عن صفحات مطوية ص 107.(1/92)
ليس المراد بالتجديد تغيير حقائق الدين الثابتة القطعية لتلائم أوضاع الناس وأهواءهم ولكنه تصحيح للمفاهيم المترسبة في أذهان الناس عن الدين، وتعديل لأوضاعهم وسلوكهم وفقاً لتعاليمه وإرجاعه غضاً طرياً بعد أن تراكمات عليه البدع والإنحرافات وكل هذا ينطبق على الشيخ عز الدين بن عبدالسلام، فقد أمات البدع، وأحيا السنن، كما حارب التقليد وأحيا الاجتهاد، ومارس دور العالم المجاهد في قيادة الأمة، فالتف الناس حوله، واتخذوه إماماً بدون منازع، وهو جدير بذلك، فقد كان يدافع عن مصالح الأمة بيده وبلسانه، وبقلمه ويحفظ حقوقها، ويدرأ عنها كل المفاسد، ومن نقاط التجديد عند الشيخ عز الدين بن عبدالسلام.(1/93)
1- سعيه لتقنين أصول الفقه: يظهر سعي الشيخ عز الدين لتقنين أصول الفقه فيما نلاحظه أثناء دراسة كتابة "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" من تفريعات واستثناءات، وشواهد، وضوابط، انظر مثلاً حديثه عن النسيان، وما يتعلق به، وما يسقط به، ومالاً يسقط به وضابطه (1)[222])، وكذلك في حديثه عن المشقة وأنواعها وضوابها (2)[223])، وكل ما يحتاج إلى ضابط، فإن الشيخ عز الدين لا يغفل عن تجديد ضابطه، فها هو يقول مثلاً: والضابط أن اختلال الشرائط والأركان إذا وقع لضرورة أو حاجة فإن لم يختص وجوبه بالصلاة كالستر، فإن كان في قوم يعمهم العري فلا قضاء عليه لما فيه من مشقة (3)[224])، ويواصل في تحديد ضابط ما يتدارك إذا فات بعذر، وما لا يتدارك مع قيام العذر وهكذا توجهت همة الإمام إلى تجديد بناء العقلية الإسلامية بالتأكيد على العقلية الأصولية التي لا ينبغي أن تفرق في الجزئيات وإنما تختصرها في كليات، وتضبطها في قواعد لمواجهة مستجدات الحياة مهما تعقدت وتشعبت، ويبدو هذا جلياً في الثروة الهائلة من القواعد التي خلفها الشيخ عز الدين – متناثرة في كتبه، هذه القواعد التي تتوجه بالهمم والأنظار نحو المستقبل لتواكب تطور الحياة عن وعي وإدراك، وتلبي احتياجات العصر المتغيرة عبر الزمان والمتنوعة عبر المكان، وأما الفروع فغالباً ما تعني بالماضي لتحكم له أو عليه والقواعد التي ذكرها الشيخ عز الدين كثيرة نذكر منها نماذج
أ- القواعد الفقهية:
- في جلب المصالح ودرء المفاسد:
- تحصيل مصلحة الواجب أولى من دفع مفسده المكروه.
- تصرف الولاة ونوابهم بما هو الأصلح للمَوْلِيَّ عليه.
- لا يُقَدَّمُ في أي ولاية إلا أقوم الناس بجلب مصالحها ودرء مفاسدها.
__________
(1) 222])قواعد الأحكام (2/2 ، 3) مقاصد الشريعة عند الإمام العز ص 519.
(2) 223])المصدر نفسه (2/7 ، 8 ، 12) المصدر نفسه ص 519.
(3) 224])مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبدالسلام ص 520.(1/94)
- حفظ البعض أولى من تضييع الكل.
- حفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود.
- تحمل أخف المفسدتين دفعاً لأعظمها.
- دفع الضرر أولى من جلب النفع.
- الأصل في الأموال التحريم مالم يتحقق السبب المبيح (1)[225])
ويمكن القول بأن الإمام بن عبدالسلام قد ألقى أوسع ما يمكن من الضوء على قاعدة جلب المصالح ودرء المفاسد وأظهر باستقرائه جريانها في مسائل لا تحصى، وأحكام لا تعد أصليها وفرعيها، حتى أستطاع أن يرجع الفقه كله إلى هذه القاعدة الشاملة الجامعة الأصيلة، اعتبار المصالح ودرء المفاسد.
ب- في مراعاة التخفيف ورفع الحرج:
- لا يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه.
- الأشياء إذا ضاقت اتسعت.
- قد وسع الشرع في النوافل مالم يوسعه في الفرائض.
- الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصلحتها.
- ما أحل لضرورة يقدر بقدرها، ويزول بزوالها.
ج- في المقاصد والوسائل:
- مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
- كل ما كان أقرب إلى تحصيل المقصود من العقود كان أولى بالجوز لقربه إلى تحصيل المقصود.
- لا تقدم التتمات والتكملات على مقاصد الصلاة.
- الوسائل تسقط بسقوط المقاصد.
- كل تصرف تقاعد عن تحصيل مقصوده فهو باطل.
- إذا كان المطلوب محرماً فسؤاله حرام.
- يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع (2)[226]).
د- في مقاصد المكلفين:
- مقاصد الألفاظ على نية اللافظين ويستثنى من ذلك اليمين فإنه على نية المستحلف.
- من أطلق لفظا لا يعرف معناه لم يؤاخذ بمقتضاه.
- العقود مبنية على مراعاة المقصود.
- الأغلب على الناس هو الجزم.
هـ- في أمور متفرقة:
- المتوقع كالواقع.
- ما لايمكن ضبطه، يجب، الحمل على أقله.
- القليل يتبع الكثير في العقود.
- من لا يمكن تصرفاً، لا يملك الإذن فيه، وذكر لهذه القاعدة مستثنيات.
__________
(1) 225])مقاصد الشريعة عند العز بن عبدالسلام ص 521 نقلاً عن قواعد الأحكام.
(2) 226])المصدر نفسه ص 522 نقلاً عن قواعد الأحكام.(1/95)
- من ملك الإنشاء ملك الإقرار.
- القواعد الأصولية:
أ- في الأحكام التكليفية:
- لا تكليف بما لا يتعلق به قدرة ولا إرادة.
- لا يجوز تأخير حق يجب على الفور لأمر محتمل.
- إذا كان المطلوب محرماً فسؤاله حرام.
- لا يترك الحق لأجل الباطل.
ب- في تعليل الأحكام:
- الأصل أن تزول الأحكام بزوال عللها.
- الضرورات مناسبة لإباحة المحظورات جلباً لمصلحتها.
- في العموم والخصوص : دلالة العادات وقرائن الأحوال، بمنزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق.
ج- في الدلالات:
- تقدير ما ظهر من القرآن أولى في بابه من كل تقدير.
- يقدم من المحذوفات أخفها، وأحسنها وأفصحها وأشدها موافقة للغرض.
- الكلام الصريح لا يفتقر إلى نية، لأنه بصراحته منصرف إلى ما دل عليه.
هـ- في سد الذرائع:
- يحتاط لدرء مفاسد الكراهة والتحريم، كما يحتاط لجلب مصالح الندب والإيجاب ولهذه القاعدة مستثنيات..
- تنزيل الموهوم (من المصالح والمفاسد منزلة المعلوم (1)[227]).
ز- في العرف والعادة:
- دلالة العادات وقرائن الأحوال بمنزلة صريح الأقوال في تخصيص العموم وتقييد المطلق.
- ينزل الاقتضاء العرفي الاقتصاء اللفظي.
- دلالة العرف كدلالة اللفظ.
ر- في الاستصحاب:
- استصحاب الأصول، مثاله، من لزمه طهارة أو .. ثم شك في أداء ذلك، لزمه ذلك لأن الأصل بقاؤه في عهدته.
- الأصل براءة الذمة، مثاله؛ من شك هل لزمه شيء لا يلزمه شيء من ذلك لأن الأصل براءة ذمته.
س- في الخروج من الخلاف:
- الخروج من الخلاف مستحب.
ط- في الاجتهاد: ويعد الإمام أول من فتح باب التأليف في القواعد، ثم تبعه من جاء بعده.
__________
(1) 227])مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبدالسلام ص 525 بالاعتماد على كتب الشيخ عز الدين بن عبدالسلام وخصوصاً قواعد الأحكام.(1/96)
2- النقطة الثانية: من تجديدات الإمام؛ ربط الأصول بأهدافها الحيوية، وإعادة دمج ثمارها في واقع الحياة، فقد اتجه الإمام بأصول الفقه اتجاها عملياً بعيداً عن التكلُّف النظري، إذ إنه لا يؤمن بأن هناك قضايا فلسفية نظرية، لذا نجده يكثر من التمثيل والتطبيقات الفقهية في قواعد الأحكام ومصالح الأنام خاصة.
3- النقطة الثالثة: تقسيم المصالح والمفاسد تقسيمات كثيرة، الواقف على كلام العز في كتابه، قواعد الأحكام يجده أفاض في المصلحة "وكذلك المفسدة" تقسيماً وتمثيلاً، وأتى في هذا الموضوع بما يأت به غير ممن تكلموا فيها، بل كثير منهم اتخذوه قدوة ورائداً في هذا الشأن (1)[228]).
ومما راعاه الإمام في تقسيمه عظم المصلحة وشر المفسدة، فقدم من المصالح ما هو أعظم خيراً للمكلف، وأبعد من المفاسد ما هو أكثر شراً للمكلف، فجاء ترتيبه حسب نفع المكلف من حيث الإقدام على المصالح والإحجام عن المفاسد، فدفع الكفر – مثلاً وفي أعلى المراتب، ودفع القتل بعده، ثم تترتب فضائل الدفع بمراتب المدفوع في سوئه وقبحه (2)[229])، وعدَّ هذا معروفاً بالعضل قبل ورود الشرع، ومن أراد أن يعرف المصالح والمفاسد راجحها من مرجوحها، فليعرض ذلك على عقله بتقدير أن الشرع لم يرد به (3)[230]).
4- النقطة الرابعة: إبراز تعدد الوسائل وتنوعها لتحقيق مقاصد الشريعة حتى لا يصيب المكلف ملل ولا ضيق، أو يعتريه فتور في تحقيقها والمحافظة عليها.
5- النقطة الخامسة: كثرة الطرق الموصلة إلى معرفة المصالح الدنيوية عند الإمام.
__________
(1) 228])مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبدالسلام ص 256.
(2) 229])شجرة المعارف ص 227.
(3) 230])قواعد الأحكام (1/8) مقاصد الشريعة عن العز بن عبدالسلام ص 527.(1/97)
6- النقطة السادسة: النظرة الشاملة من الإمام لتحقيق المقاصد العامة، إذ يرى إصلاح القلوب، وتزكية النفوس، والتخلق بصفات الله، والاتصاف بها عامل مهم في تحقيق المقاصد، لذا نجده يؤكد على ذلك كثيراً في مؤلفاته، ويعُدُّ أن معيار التمييز بين قصد المكلف الصحيح وقصده السيء هو مدى موافقة القصد المكلف لقصد الشارع.
7- النقطة السابعة: تحريره تحريراً شافياً كافياً لمسألة الثواب في المصائب فكان بذلك استاذ لمن جاء بعده كالشاطبي.
8- النقطة الثامنة: اتسام منهج الإمام التغيير بالشمولية بحيث نجده يتراوح بين اللين والشدة، وبين الموعظة والقتال، ذلك بأن الإمام ينظر إلى كل الظروف التي يحتمل أن تواجه الداعية في دعوته لتطبيق شرع الله وتحقيق مقاصده (1)[231]).
دروس مهمة في مجال التجديد والإصلاح:
- لابد من الاعتراف بجهود هذا الإمام، ولفت الأنظار إلى فضله العظيم في تأسيس المقاصد، واهتمامه بها، الأمر الذي مهد الطريق للذين جاؤوا بعده، ويمكن القول بأن مشروعه هذا يعد مشروعاً تجديدياً إحيائياً لترميم تصدعات الحياة الإسلامية ولكن لم تتهيأ له الأجواء السياسية والثقافية والاجتماعية ليعطي ثماره الحضارية تجديداً ونهضة، ذلك بأن عصره، عصر انقسامات واستعانة بالكفار وإعانة لهم على المسلمين.
- محاربة التقليد والركود والجمود، والدعوة إلى الاجتهاد المتعمق الذي يستوعب كل الحياة بجميع تطوراتها ومتغيراتها الاجتماعية والسياسية – من أسباب نهوض الأمة – ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالتعمق في فهم النصوص الشرعية في أبعادها الأصولية والفقهية والمقاصدية.
__________
(1) 231])مقاصد الشريعة ص 527.(1/98)
- المقاصد العامة ثابتة لا تتغير ولا تختلف باختلاف الأمم والعوائد والأزمنة وإن اختلفت بعض مصالح الناس باختلاف الأمم والعوائد والأزمنة، وإن اختلفت بعض مصالح الناس باختلاف الأزمان والأعراف، ومن هنا كانت دعوة ابن عاشور لفهم مسائل أصول الفقه وإعادة ذوبها في بوتقه التدوين وتسميتها بمقاصد الشريعة (1)[232]).
__________
(1) 232])مقاصد الشريعة الإسلامية ص 8.(1/99)
- تعد مقاصد الشريعة الركن الثان من أركان أصول الفقه – وكنه الأول هو: الفهم الذي يقوم على جانب الاستكشاف والتجريد والتعميم – وهي بمثابة تنزيل الأحكام المجردة على واقع الأحداث ومستجدات الأمور بمعطياتها الزمانية والمكانية وملابساتها الشخصية، فمثل ما يتوقف استنباط الأحكام الشرعية على الألفاظ، فإنه يتوقف على مقاصد اللافظ (1)[233])، ومع كون المقاصد مبحثاً أصولياً إلا أنه يكاد يكون مفقوداً في كتب الأصول، كمبحث مستقل قائم الذات إلا من بعض الإشارات في مباحث العلة أو المناسبة، أو الاستصلاح، وإذا اعتبرنا أصول الفقه قانوناً يتوصل به إلى استنباط الأحكام، وكيفية التطبيق السليم، فإن الاهتمام اليوم بالمقاصد أكثر من ذي قبل يُعدُّ خطوة نحو تلبية متطلبات الحياة، ومسايرة قضاياها المستجدة لاستيعاب جميع متغيراتها، ومن المعلوم أن التشريع وليد الحاجة، فما قام تشريع في أمة ولا نشر فيها قانون إلا وقد قام في البلاد قبلهما حاجة تدعو إليهما، فيأتي التشريع، ويصاغ القانون على قدر تلك الحاجة (2)[234])الداعية، والقونين في جميع أنحاء العالم لا تلبث بعد مدة من وضعها أن تصبح غير وافية بالنسبة لبعض الأحداث، فالاهتمام بالمقاصد يساعد على إيجاد الحلول المناسبة مدخل في استنباط الأحكام أو تطبيقها وقد بين ابن عاشور شدة حاجة الفقيه إلى معرفة المقاصد في مثل هذه الحالة فقال: فاحتياجه فيها ظاهر، وهو الكفيل بدوام الشريعة الإسلامية للعصور والأجيال التي أتت بعد عصر الشارع، والتي تأتي إلى انقضاء الدنيا (3)[235]).
__________
(1) 233])مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبدالسلام ص.
(2) 234])المدخل غلى علم أصول الفقه ص 5.
(3) 235])مقاصد الشريعة الإسلامية ص 15.(1/100)
- المقاصد العامة متداخلة لا يكاد ينفك بعضها عن بعض، ولقد تبين – للدارسين – أنها خادمة لبعضها، فقد يكون المقصد وسيلة مفضية إلى مقصد أعلى منه، كما أن المقاصد الجزئية للأحكام تندرج بدورها في دوائر تنتهي إلى المقاصد الكلية التي تنتهي بدورها إلى المقصد الأعلى وهو تحقيق مصالح العباد في الدنيا والمعاد.
- المقاصد العامة معان حقيقية تهدف الشريعة إلى تحقيقها في واقع الحياة حتى تكون على تلبية حاجيات المسلمين، وساعية نحو الأفضل في تنظيم مختلف جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وإلى تحقيق كل ما ينفع الأفراد والأمة من خير يعود على خدمة الضروريات والحاجيات والتحسينيات.
- المقاصد العامة منسجمة مع الفطرة، وهي أساس هام بني عليه هذا الدين؛ قال تعالى: "فأقم وجهك للدَّين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم"(الروم: 30) ومما يؤكد عليه الإمام أن تقديم الأصلح فالأصلح ودرء المفاسد فالأفسد مركوز في طبائع العباد نظراً لهم من رب الأرباب(1)[236]).
- ينبغي أن تكون الاجتهادات الفردية أو الجماعية المؤقتة أو الدائمة، مرتبطة بواقع الحياة، وبمقاصد الشريعة الإسلامية كضابط لهذه الاجتهادات من الزيغ والانحراف وليكون أقرب ما تكون إلى الصواب، وأجدر بالتطبيق العملي في الحياة (2)[237]).
- ولابد من ربط الاجتهاد بالمقاصد ولذلك قرّر الإمام ابن عبدالسلام: أن المقاصد مرجوع إليها وأن كل غافل عنها في حكمه أو فتواه يلزمه أن ينقضى حكمه، ويرجع عن فتواه وأما من أفتى على ما تقتضي قواعد الشريعة وإقامة مصالحها، فكيف يحتاج إلى نقل جزئي مخصوص من كلي اتفق على إطلاقه من غير استثناء (3)[238])وربط الاجتهاد بالمقاصد يؤدي إلى عدة أمور منها:
__________
(1) 236])قواعد الأحكام (1/5).
(2) 237])مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبدالسلام ص 530.
(3) 238])فتاوى سلطان العلماء ص 145.(1/101)
- إضفاء صفتي الشمولية والاستمرارية على الشريعة، فلا تعرف حدود الزمان ولا للمكان.
- استعمال الأقيسة المعتبرة والاستنتاجات العقلية السليمة بشكل يتلاءم مع واقع الناس ويراعي ظروفهم دون إبطال للنص، أو تحريف له.
- تطلع المتعاملين فيما بينهم إلى أعلى مثل العدل، والإحسان والتعاون لبلوغ المصلحة الشرعية من التعامل فيتوفر بذلك جو من الثقة؛ والنية الحسنة بين الناس، ويؤمن الغش والاحتكار، وأكل مال الغير بالباطل.
- الحد من الخلافات المذهبية بين المسلمين التي منشؤها – في الغالب – سوء فهم مقاصد الشريعة، أو عدم فهمها على الإطلاق وتوحيد المسلمين مقصد من مقاصد هذا الدين، وضرورة من ضرورياته.
- تحديد مفاهيم الحقوق، وتعيين مواقعها حتى لا يبقى الحق الشخصي المطلق، ولا للأنانية البغيضة مكان في نفوس الناس، ذلك بأن المقاصد العاملة شاملة، بحيث تندرج في مضمونها كافة الحقوق، ما كان منها ذا مضمون ديني، أو خلقي، أو سياسي، أو اقتصادي، وما إلى ذلك، مما يتعلق بجميع نواحي الحياة مادياً ومعنوياً، فكانت كل الحقوق الجديدة التي لم يعرفها العالم الغربي إلا في هذا العصر مقررة في الشريعة الإسلامية فيما رسم من مقاصدها وغاياتها وشرع من وسائل علمية لتحقيقها، وتنميتها، والمحافظة عليها.
- تنظيم حياة المجتمع البشري، والموازنة بين حاجيات الناس فلا تطعن حاجة إنسان على آخر، ولا تصطدم حريته مع حرية غيره.
- إيجاد الحلول لكثير من المسائل الطارئة في حياتنا المعاصرة.
- علم المقاصد علم دقيق لا يخوض فيه إلا من لطف ذهنه، واستقام فهمه، لذا أكد الإمام العز بن عبدالسلام على ضرورة الفهم السليم والطبع المستقيم (1)[239]).
__________
(1) 239])مقاصد الشريعة عند العز بن عبدالسلام ص 533.(1/102)
- لا يزال فن المقاصد مهمة مطروحة تنتظر من ينجزها، فعليا، ويتوغل فيها إلى أقصى دلالاتها فهي مادة ثرية لا غنى عنها لأي باحث أو مجتهد، إلا أن هذا الإنجاز يتطلب شيئاً من الإحاطة بثقافة العصر، وقيمة خاصة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
- ضرورة معرفة المقاصد، وإيضاحها في نسق عقلي، ومنهج علمي سليم، وأن يجعل منها مادة تربوية علمية، يُرَبَّي عليها أبناء الأمة وتقام على أساسها كياناتهم النفسية وغذائهم الفكري ووضوح المقاصد يوفر لنا أمرين:
- الوضوح في أولويات العمل الإسلامي، لتطبيق شرع الله في أرضه، وإعلاء كلمته.
- القضاء على الغبش، والتخبط مما لا يدع مجالاً ولا موضعا يعتد به للنظر الجاهل بالنصوص، وأولوياتها، وغايتها.
- الشريعة لعمل على تحقيق المقاصد العامة والمحافظة عليها فهي:
- تحافظ على المصلحة أبداً وفق نظام ثابت لا يتأثر بوجود شخص أو موته (1)[240])، قال تعالى: "أفإن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم"(آل عمران، آية : 144).
__________
(1) 240])المصدر نفسه ص 533.(1/103)
وسواء كانت هذه المصلحة عامة أم خاصة، صغيرة أم كبيرة، حفظاً للحق العام والحق الخاص في آن واحد، وحتى إن الإنسان لا يعتبر حراً في نفسه وأعضائه، فلا يحق له أن يتصرف إلا وفق ما يرضي الله؛ لأن الحق في ذلك مشترك بينه وبين ربه على حد قول الإمام (1)[241]). ومن هنا يمكن القول بأن المصالح متداخلة، فالمحافظة على المصلحة العامة محافظة على مصلحة الأفراد، بحيث يستطيع كل من يتمكن من الانتفاع بها أن ينتفع بها وفقاً للوجوه المعروفة شرعاً، وكذلك القول في المصلحة الخاصة، بها يتحقق صلاح المجتمع تبعاً؛ فحفظ مال اليتيم، - مثلاً – حتى سن الرشد، فيه نفع لليتيم عند رشده إذ يجد ماله كاملاً غير منقوص، وفيه نفع لغيره سواء كان وارثاً أم غير وارث بما يحققه ذلك المال من نفع عام بإقامة مشاريع أو صدقات خاصة أو عامة، ولعل هذا هو معنى قوله تعالى: "ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً "(النساء، آية : 5) فعدَّ أموال اليتيم كأنها أموال من يرعاها وكذلك في حفظ النفس فإنها مصلحة خاصة، ولكن المحافظة عليها محافظة على النظام العام، وإذا نزلت بالأمة نازلة أو طرأت بعض الطوارئ وجب اعتبار مصالح هذه الأمة كلاً متكاملاً لا كدويلات متفرقة: وطريق المصالح أوسع طريق يسلكه الفقيه في تدبير أمور الأمة، عند نوازلها ونوائبها إذا التبست عليه المسالك، كما قال ابن عاشور (2)[
__________
(1) 241])قواعد الأحكام (1/111).
(2) 242])مقاصد الشريعة الإسلامية ص 87..(1/104)
242])، وتداخل المصالح يستدعي إيجاد قواعد وخطط تشريعية يلتزمها المجتهد لإعطاء كل ذي حق حقه فلا يظلم أحد، وأساس هذه القواعد هي: الموازنة بين ما يعود على صاحب الحق من نفع مشروع، وبين ما يلحق الغير من ضرر لازم أو فساد ممنوع وفي هذه الموازنة يتفاوت نظر النظار، وتتعارض فيه الخواطر والأفكار، لذا أكد الإمام على الفهم السليم والطبع المستقيم، ولقد استطاع أن يستنبط من استقرائه للشريعة سلماً للمصالح يندرج بحسب آثارها في دنيا الناس فتحدث عن الضروري، والحاجي، والتحسين، وبنى على ذلك مواقف عملية حتى يتمكن الناس من الموازنة بين المصالح وترتيبها، فلا يقعوا أمام طريق مسدود يجعلهم مخيرين بين مصالح الدنيا أو الآخرة، ولو وضع المسلمون هذا السلم نصب أعينهم قبل اتخاذ بعض القرارات أو تبين بعض المواقف لسلمت الأمة – الآن – من كثير مما هي فيه من المشاكل.
- كما أنها تراعي التخفيف والتيسير، وترفع الحرج عن الناس باعتبارها شريعة عملية واقعية تسعى إلى أن تكون واقعاً حيا في نفوس أتباعها، ولا يتم ذلك إلا بسلوك الرفق والتيسير، ذلك بأن اليسر من الفطرة، والنفوس مجبولة على حب الرفق، والنفور من الشدة والإعنات، ومن هنا كان الحرج مرفوعاً والمشقة منضبطة؛ وليس لمراد بنفي المشقة أن لا مشقة ولا كلفة في شيء من التكاليف الشرعية أصلاً، بل المراد أن تكون المشقة في حدود طاقة المكلفين، كما أن الدعوة إلى التيسير ليست على إطلاقها، بل المراد أن يكون التيسير بقدر لا يفضي إلى انخرام مقاصد الشريعة، وإلا لزم إرتفاع جميع التكاليف أو أكثرها.(1/105)
- وتقيم العدل، وتدعو إلى أن تكون إقامة العدل عن إدراك وتفهم عميق لإبعاده ومراميه، وللمسالك والوسائل المفضية إليه، فمن راعى ذلك وفق إلى جني ثماره، إذ لا ثمرة تجنى دون تصور سليم، وتنفيذ واع حكيم، كما بينت الشريعة أن عاقبة العدل كريمة، وعاقبة الظلم وخيمة (1)[243])، ولهذا نرى : أن الله ينصر الدولة العدالة وإن كانت كافرة، ولا ينصر الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنة (2)[244]).
- شرعت الشريعة من الوسائل ما يتلائم مع تحقيق مقاصدها ويحافظ عليها، ولولا ذلك لفات الكثير، ولذا كان اعتناؤها بالوسائل، كاعتنائا بالمقاصد أولى (3)[245])، واعتبرت الوسائل بمثابة التممات والتكملات (4)[246])، وصارت كل وسيلة تخدم مقتصداً مطلوبة التحصيل، وكل وسيلة لا تؤدي إلى ذلك مطلوبة الترك (5)[247])، كما أنه قد تتحد الوسائل إلى المقصد الواحد، فيقدم أقواها تحصيلاً للمقصد المتوسل إليه، بحيث يحصل كاملاً ميسوراً يقدم على ما هو دونه في هذا التحصيل (6)[248]).
__________
(1) 243])مقاصد الشريعة عند الإمام العز بن عبدالسلام ص 535.
(2) 244])مجموع الفتاوى (28/26).
(3) 245])الفروق 4/35) مقاصد الشريعة عند الإمام العز ص 535.
(4) 246])قواعد الأحكام (1/86) مقاصد الشريعة ص 535.
(5) 247])مقاصد الشريعة عند الإمام العز ص 535.
(6) 248])المصدر نفسه ص 535.(1/106)
إن الله عز وجل قد أكرم الأمة بهذا العالم الجليل صاحب الفهم السليم، والطبع المستقيم، والعلم المتين، في مرحلة حرجة من المراحل التي مرت بها الأمة الإسلامية، من تمزق سياسي، وصراع بين المشاريع، المشروع المغولي، والمشروع الصليبي، وبقايا المذهب الباطني، وكان الابتلاء الكبير بسقوط بغداد في يدي التتار عام 656هـ، فكان للاجتهادات المقاصدية، وفقه المصالح ومراتبه والمفاسد ودراجته أثر كبير في نهوض الأمة من كبوتها وإعادة دورها الحضاري، فبفضل الله ثم جهود العلماء من أمثال العز بن عبدالسلام، وسلاطين المماليك، استطاعت الأمة التصدي للمشروع المغولي والمشروع الصليبي ثم القضاء على المشروعين وانتصار الإسلام العظيم في عهد المماليك وهذا ما سوف نعرف تفاصيله بإذن الله تعالى في كتابنا عن المماليك.
تاسعاً: التربية والآداب والتصوف عند العز بن عبدالسلام:
1- نماذج من المبادئ التربوية عند العز: عرض العز رحمه الله تعالى رؤيته لمبادئ التربية الإسلامية، المستقاة من كتاب الله، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وتمثل جانباً من المنهج الفريد للتربية الإسلامية، وذكر العز هذه المبادئ في مختلف كتبه ويمكن جمعها واستخلاص نظرية متكاملة منها، ونكتفي هنا، بالإشارة إلى جانب منها للإرشاد إليها والعمل بها فمن ذلك.
أ- أصول التربية لمرحلة الحضانة: حيث يقول: وذلك بحسن التربية، واللطف، والرفق والحُنوُ، ودفع المضار، وتحسين الحسن للصغير، وتقبيح القبيح، وتعليم الآداب، وتلقين الكتاب وتعليم الخط والعلم إن كان متأهلاً لذلك، أو صناعة تليق بأمثاله، والأمر بالصوم والصلاة، والنهي عن كل خلق ذميم وعمل غير مستقيم واجتناب الضرب إن تأدب بالقول والتهديد، والضرب الذي لا يصلح إلا به، إلا أنه لا يصلحُ بالضرب الشديد فيجتنب الخفيف والشديد (1)[249]).
__________
(1) 249])شجرة المعارف ص 170، العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 305.(1/107)
ب- تأديب الأهل بآداب الشرع: حيث يقول: تأديب الأهل إنعام عليهم، وإحسان إليهم، وفضيلة الدعاء إلى الآداب مأخوذة من فضل ذلك الأدب، فأفضل التأديبات التأديب بأفضل القربات، وأشرف الطاعات وكذلك الأفضل، فالأفضل، والأمثل فالأمثل (1)[250]).
ج- الوسائل التربوية مع الأطفال والتدرج في الأحوال: حيث يقول: وإذا تعلم الصبي ما ينبغي أن يتعلمه من غير زجر فلا يُزجر، وإن لم يتعلم إلا بالزجر زُجر، فإن لم ينجح فيه الزجر ضُرب ضرباً يحتمله مثله وتغلب فيه السلامة وإن لم ينزجر إلا بالضرب المبَّرح حَرُم المبَّرح لأدائه إلى قتله، ولم يجز غير المبَّرح لأنه إنما جاز لكونه وسيلة إلى الإصلاح، فإن لم يحصل الإصلاح حرم، لأنه إضرار غير مفيد (2)[251]).
ح- المزج بين قواعد الأصول ومبادئ التربية: يقول في هذا المزج: إذا كان الصبي لا يُصلحه إلا الضرب المبَّرح، فهل يجوز ضربه تحصيلاً لمصلحة تأديبه؟ قلنا: لا يجوز ذلك، بل لا يجوز أن يضربه ضرباً غير مبَّرح، لأن الضرب الذي لا يبّرح مفسدة وإنما جاز لكونه وسيلة مصلحة التأديب، فإن لم يحصل التأديب سقط الضرب الخفيف، كما يسقط الضرب الشديد لأن الوسائل تسقط بسقوط المفاسد سقط(3)[252]).
__________
(1) 250])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 306.
(2) 251])شجرة المعارف والأحوال ص 264 العز بن عبدالسلام للزحيلي ص306.
(3) 252])قواعد الأحكام (1/121)(1/108)
د- مداعبة الصبيان والإحسان إلى البنات: ومن هذه الأصول التربوية دعوة العز إلى مداعبة الصبيان، فقد قال: مداعبة الصبيان بَسْط لهم، وتطبيب لقلوبهم وترويح عن نفوسهم ومن هذه الأصول التربوية الدعوة إلى الإحسان إلى البنات، وإبطال عادات الجاهلية الجائرة، فقال العز: لما كان الحمقى ينفرون من البنات، ويكرهونهنَّ، عظّم الله ثواب من خرج من عادة الناس في ذلك بالصبر عليهن والإحسان إليهن(1)[253])، ثم يرشد العز إلى أن من الإحسان إلى البنات المبادرة بهن إلى الأكفاء، فيقول: المبادرة إلى إنكاح الأكفاء، والرغبة فيهم، مسارعة إلى إحصان المرأة، ودفع العار عنها، بالتزويج بالكفؤ، مع أن البعل الصالح يدعوها إلى كل خير، ويزعها عن كل شر (2)[254]). وقام ببيان وظيفة المرأة وأثرها في التربية، فقال: شفقة المرأة على مال زوجها أداء للأمانة، وحُنوُها على طفلها حامل على اللطف به، والإحسان إليه بحسن التغذية والتربية (3)[255]).
__________
(1) 253])شجرة المعارف ص 241.
(2) 254])المصدر نفسه ص 307.
(3) 255])قواعد الأحكام (1/77 ، 78) فتاوى سلطان العلماء ص 151.(1/109)
ذ- الوازع الفطري والشرعي: وبين أن قوة الوازع الفطري عند الإنسان، وأنه أقوى من الوازع الشرعي، لذلك جاءت الأحكام الشرعية منسجمة مع الفطرة وأن الفطرة السليمة بها وازع في داخلها لا يحتاج إلى توجيه الشرع الذي جاء مطابقاً للواقع والفطرة، فأسقط العدالة في بعض الولايات، فعقد العز رحمه الله فصلاً: فيما تشترط فيه العدالة من الولايات، فقال: العدالة شرط في بعض الولايات، وإنما شرطت لتكون وازعة عن الخيانة والتقصير في الولاية ولا تشترط العدالة في ولاية القريب على الأموات في التجهيز والدفن والتكفين والحمل، والتقدم في الصلاة، لأن فرط شفقة القريب ورحمته على المبالغة في الغسل والتكفين والدعاء في الصلاة وكذلك إنكساره بالحزن على التضرع في دعاء الصلاة، فتكون العدالة في هذا الباب من التتمات والتكملات وكذلك ولاية النكاح لا تشترط فيها العدالة على قول؛ لأن العدالة إنما شرطت لتنتزع الولي عن التقصير والخيانة وطبع الولي في النكاح يزعه عن التقصير والخيانة في حق موليته لأنه لو وضعها في غير كف – كان ذلك عاراً عليه وعليها وطبعه يزعه عما يدخله على نفسه ووليته من الأضرار والعار، وكذلك لو كان الولي مستوراً صح النكاح في ظاهر الحكم اعتماداً على العدالة الظاهرة مع قوة الوازع (1)[256])، ولذلك أمثلة كثيرة في الشرع كقبول إقرار الشخص على نفسه ولو كان فاسقاً أو كافر.
__________
(1) 256])شجرة المعارف ص 361 العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 308.(1/110)
س- من القواعد التربوية في الدعوة إلى الله: وذكر العز بعض القواعد التربوية في الدعوة والتي سار عليها الأنبياء ويجب الاقتداء بهم، والالتزام فيها، لأنها المنهج الإلهي في الدعوة، فمن ذلك الموعظة الحسنة، فيقول العز: الموعظة الحسنة أدعى إلى قبول الحق من الموعظة المنفرَّة، وما أغلظ الأنبياء في مواعظهم إلا لمعاندٍ جريء على الله (1)[257])، ومن ذلك الدعوة باللين وعدم الغلظة، فيقول العز رحمه الله تعالى: للّين مواطن لا يليق بها غيره، وللغلظة مواطن لا يُناسبها سواه، فمن استعمل أحد الأمرين في موضع الآخر فقد أخطأ، .. وفيه تأليف القلوب، وتطيب للنفوس، مُوجِب للإتفاق على مصالح الدارين (2)[258])، ويذكر العز الأدلة والأمثلة من القرآن الكريم ويؤكد العز أن الغضب لا يصح من الداعية إلا إذا انتهكت حرمات الله ومقدساته، فيقول: العاقل يعرف مظان الغضب لله، فيها، ويعرف مظان التلطف، فيتلطف فيها، ألا ترى أن موسى تلطف في أول الأمر بفرعون بقوله: "هل لك إلى أن تزكى" (النازعات، آية : 158).
__________
(1) 257])شجرة المعارف ص 361 العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 308.
(2) 258])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 309.(1/111)
"إني رسول من رب العالمين" (الأعراف، آية: 104) وغير ذلك من القول اللًّين الذي أمر به، فلما أصر وأظهر العناد مع تيقنه صدق موسى لقوله "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً" ثم قال لموسى "إني لأظنك يا موسى مسحوراً "(الإسراء، آية: 101)فأجابه بما يقتضيه الحال في الجواب، فقال (لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا ربُّ السموات والأرض بصائر، وإني لأظنك يا فرعون مثبوراً"(الإسراء، آية: 102)، أي مُهْلكاً ثم يقول العز: وكذلك جميع الرسل إذا استقرئ أمرهم في بَدء الإرسال وجدت فيه الرفق واللين والشفقة على قومهم، فإذا أصروا وعاندوا أغلظوا لهم حينئذ، لما ركّب الله تعالى في رسله من العقول الوافرة، والأحلام الكاملة "الله أعلم حيث يجعل رسالته" (الأنعام، آية : 124) بخلاف الغبي يلين في مواطن الإغلاظ، ويغلظ في مظان اللين، معتقداً، أنه مقتد بالرسل في غلظتهم ولينهم، فنعوذ بالله من الجهل بمظان خطابه، ومن تحريف كلامه وتنزيله على غيره مراده (1)[259]).
__________
(1) 259])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 309.(1/112)
ش- تغيير الأحكام بتغير الزمان: يمزج العز رحمه الله تعالى في الأحكام التي تؤدي إلى التطور فإنه يعتد به في تغيير الأحكام بتغير الأزمان، فيقول: فلو حكم الحاكم في محل يسوع فيه الاجتهاد، ثم تغير اجتهاده فحكم بما أدى إليه اجتهاده ثانياً كان ذلك قطعا لما حكم به أولا، ولا يبطل الأول بذلك، بل ينقطع من حين تغير الاجتهاد، ويبقى الأول على ما كان عليه (1)[260]). فالحكم الشرعي يتغير في نفس المجتهد ويشمل السابقة واللاحقة ولكن لا يبطل الحكم الأول إذا أفتى به المفتي أو حكم به القاضي بل يبقى الحكم الأول لوقته فقط، وللسائل أو المحكوم عليه به، لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله، وهذا ما قرَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ميراث المسألة المشتركة بعدما تغير اجتهاده، وطلب أصحاب القضية الأولى بنقض اجتهاده السابق، أجابهم بقوله المشهور : تلك على ما قضينا، وهذه على ما نقضي، وهذا ما قرره الفقهاء في المذاهب الأربعة بعدم نقض الحكم السابق إذا كان مبنياً على اجتهاد، ثم تغير الاجتهاد، وهو المقرر في جميع محاكم النقض في العالم (2)[261]).
وهكذا نلاحظ المبادئ التربوية في فكر العز وذهنه وكتبه وكيف يراعى الفطرة الإنسانية، ويعتد بالوازع الفطري، وأنه أصيل في الإنسان ، وله بواعثه الذاتية، ودوافعه الخفية التي تحرك صاحبها تلقائياً في معظم الحالات، لذلك يخفف الشرع من توجيهه فيها، معتبراً أن الوازع الفطري المطبوع عليه الإنسان داخلياً أقوى من الوازع الشرعي، لذلك اعتبر الشرع الحكيم تناول الطعام والشراب والشبع وغيرها مجرد أحكام مباحة أو مندوبة، مع أنها ضرورية للحياة، لأن الوازع الفطري كفيل بتأمينها ورعايتها، وهذا ما أكده الشاطبي فيما بعد في كتابه الموافقات (3)[262]).
ك- إنسانية الإنسان عند العز بن عبدالسلام:
__________
(1) 260])قواعد الأحكام (2/48).
(2) 261])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 310.
(3) 262])المصدر نفسه ص 310.(1/113)
وضع الشيخ عز الدين نصب عينيه شيئاً واحداً، جنَّد فقهه لتربيته وتهذيبه، وهو إنسانية الإنسان، فأحاطها بالرعاية والرفق والتستر، وأخيراً .. بالجمال (1)[263])، ونذكرَّ أيضاً بكتاب العز رحمه الله تعالى: أحوال الناس، فهو في التربية الإسلامية للروح والنفس ومراقبة الله تعالى، والخوف منه، والاستعداد لملاقاته، ومحاسبة النفس في أعمالها وخطواتها محاسبة ذاتية، ورقابة داخلية "بل الإنسان على نفسه بصيرة" (القيامة، آية: 14) ليزن أعماله قبل أن توزن عليه، ويقدر نتائجه سلفاً، ليحتاط عند التقصير، ويرتدع عند الندم، ويزداد في العمل الطيب ويقول العز فيه : ما من برّ ولا فاجر، ومؤمن وكافر، إلا ينظر في البرزخ إلى منزله بكرة وعشية إن كان من أهل النار فمن أهل النار، وإن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة (2)[264]). ويقول: من الغموم والآلآم وأسبابها وأفراحها أفضل الأفراح، ولذاتها أفضل اللذات وأفضل لذة رضا الرب والنظر إليه، وسماع كلامه والأنس بقربه وجواره(3)[265]).
__________
(1) 263])عز الدين بن عبدالسلام، بائع الملوك، لمحمد حسن ص 141.
(2) 264])أحوال الناس ص 46 العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 311.
(3) 265])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 311.(1/114)
2- التصوف عند العز بن عبدالسلام: اتفقت آراء العلماء والكتاب والمصنفين قديماً وحديثاً على معظم أخبار العز وصفاته وأحواله وكتبه، ولكنهم اختلفوا اختلافاً واسعاً في وصفه بالتصوف أو براءته منه، وتشعب القول في ذلك، لاختلاف الناس في حقيقة التصوف، ومشروعيته، واتفاقه مع الإسلام أو مخالفته، واختلاف صورته في التاريخ الإسلامي، ووجود الجذور الأصيلة لمعاينة في القرآن والسنة من جهة، وخلطه بالمصطلحات والمبادئ الدخيلة من جهة ثانية، والتستر وراءه من ذوي النوايا الخبيثة والماكرين والحاقدين من جهة ثالثة، وهل تتفق هذه الأحوال مع حياة العز ومواقفه وكتبه؟ وذهب معظم المؤرخين القدامى، وبعض المعاصرين إلى إثبات نسبة التصوف للعز، واتفاقه مع الكتاب والسنة، واستندوا إلى أدلة كثيرة، أهمها صلته بكبار علماء الصوفية في زمانه كأبي الحسن الشاذلي والسهروردي وحضور مجالسهم وقراءة كتب الصوفية وممارسته لبعض أعمالهم (1)[266])ونقل ابن السبكي : أن الشيخ عز الدين لبس خرقة التصوف من الشيخ السُّهروردي، وأخذ عنه وذكر أنه كان يقرأ بين يديه "رسالة القشيري" ثم السبكي: وقد كان للشيخ عز الدين لبس خرقة التصوف من الشيخ السُّهروردي، وأخذ عنه، وذُكر أنه كان يقرأ بين يديه "رسالة القشيري" ثم قال ابن السبكي: وقد كان الشيخ عز الدين اليد الطولى في التصوف وتصانيفه قاضية بذلك (2)[267])، وقال ابن العماد الحنبلي : وله مكاشفات، قال الذهبي: كان يحضر السماع، ويرقص (3)[268])، وقال السيوطي : وله كرامات كثيرة ولبس خرقة التصوف من الشهاب السُّهروردي، وكان يحضر عند الشيخ أبي الحسن الشاذلي، ويسمع كلامه في الحقيقة ويعظمّه (4)[
__________
(1) 266])المصدر للزحيلي ص 318.
(2) 267])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 318.
(3) 268])شذرات الذهب نقلاً عن العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 318.
(4) 269])حسن المحاضرة (1/315) العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 319..(1/115)
269]) وذهب فريق من المعاصرين إلى نفي التصوف عن العز بن عبدالسلام رحمه الله تعالى، وأن التصوف يتنافى مع عقلية العز الفكرية والاجتهادية، القائمة على إعمال العقل في النصوص، وتتعارض مع سيرة العز في الحياة ومواقفه وفتاويه وكتبه ومصنفاته، ومما يؤيد أصحاب هذا الرأي ما صدر عن العز رحمه الله تعالى من شدة وصراحة في بعض أمور التصوف، فمثلاً قوله عن بعض الدخلاء: قد يتشبه بالقوم من ليس منهم ولا يقاربهم في شيء من الصفات وهم شر من قطاع الطريق، لأنهم يقطعون طرق الذاهبين إلى الله تعالى، وقد اعتمدوا على كلمات قبيحة (1)[270]). ويندد العز رحمه الله بكثير من اصطلاحات الصوفية والرموز التي يستعملها المتصوفة ويُشكل ظاهرها، ويخفي باطنها فيقول: ولهم ألفاظ يستطعمها سامعها منها: التحلي، وهو عبارة عن العلم والعرفان وكذلك المشاهدة ومنها الذوق، وهو عبارة عن وحدات لذة الأحوال ووقع التعظيم والإجلال، ومنها الحجاب، وهو عبارة عن الجهل والغفلة والنسيان، ومنها قولهم : قال لي ربي، وإنما ذلك عبارة عن القول بلسان الحال دون لسان المقال، كما قالت العرب: امتلأ الحوض ومنها قولهم، القلب بيت الرب، ومعناه القلب بيت معرفة الرب، شبهوا حلول المعارف بالقلوب بحلول الأشخاص في البيوت، ومنها: القرب، وهو عبارة عن الأسباب الموجبة للأبعاد ومنها: المجالسة، وهو عبارة عن لذة يخلقها الرب سبحانه وتعالى مجانسة للذة الأنس، وبمجالسة الأكابر (2)[271])، ويقول: الفناء الناشيء عن الاستغراق ببعض هذه الأحوال، وحقيقة الفناء غفلة وغيبة (3)[
__________
(1) 270])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 323، قواعد الأحكام (2/212).
(2) 271])قواعد الأحكام (2/219 ، 220) العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 223.
(3) 272])المصدر نفسه (2/214)..(1/116)
272])ويصل العز قمة الإنكار والاستهجان لما يصدر عن المتصوفة من الرقص والسماع فيقول: وأما الرقص والتصفيق فخفه ورعونة مشبهة لرعونة الإناث، لا يفعلها إلا راعن، أو متصنع كذاب، وكيف يتأتى الرفض المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه، وذهب قلبه، وقد قال صلى الله عليه وسلم : خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ! ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يقتدي بهم يفعل شيئاً من ذلك، وإنما استحوذ الشيطان على قوم، يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله عز وجل ولقد مالوا فيما قالوا، وكذبوا فيما أدعوا .. ومن هاب الإله وأدرك شيئاً من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق، ولا يصدر التصفيق والرقص إلا من غبي جاهل ولا يصدران من عاقل فاضل (1)[273])ولما سئل العز عن الإنشاد والتواجد والرقص والسماع أجاب: الرقص بدعة، لا يتعاطاه إلا ناقص العقل، ولا يصلح إلا للنساء، وأما سماع الإنسان المحرك للأحوال السنية بما يتعلق بالآخرة، فلا بأس به، بل يندب إليه عند الفتور، وسامة القلوب وهذا شبيه بما يعرف في يومنا هذا بالأناشيد الإسلامية، لأن الوسائل إلى المندوب مندوبة والسعادة كلها في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واقتفاء أصحابه الذين شهد لهم بأنهم خير القرون، ولا يحضر السماع من قلبه هوى خبيث، فإن السماع يحرك ما في القلوب من هوى مكروه أو محبوب والسماع يختلف باختلاف السامعين والمسموع منهم وهم أقسام (2)[274]).
__________
(1) 273])قواعد الأحكام (2/220 – 221) العز بن عبدالسلام ص 324.
(2) 274])فتاوى سلطان العلماء ص 324.(1/117)
إن العز بن عبدالسلام امتداد لمدارس التزكية السنية التي سبقه إليها كبار الصحابة وسادة التابعين، ومن أمثال الحسن البصري، ومالك بن دينار وأيوب السختياني واستمرت مدرسة التصوف السني إلى يومنا هذا، فهي تهتم بالورع والتقوى والزهد والثقة بالله والاعتماد عليه ودوام الصلة به، وشدة مراقبة العبد لربه في الخلوة والجلوة، والسر والعلن ولا يقصد إلا مرضاته في كل ما يصدر عنه ولقد ضرب العز بن عبدالسلام في عصره أروع الأمثلة لهذه المعاني الإسلامية الثابتة في القرآن والتي طبقها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته وعبادته وتربيته، وسار عليها معظم السلف الصالح وأولياء الله، وعبَّاده الأتقياء ويوافق عليها كل مسلم يزداد في هذا المحال وازداد في هذا المجال تعلقاً والتزاماً وقرباً وشوقاً كلما تقدمت به السن وعرف حقيقة الحياة وجرب ما فيها، وأيقن مصيره إلى لقاء الله وحسابه وجنته ورضوانه وهذه المعاني الإسلامية الثابتة والمهمة والجليلة يدعو إليها كل عالم عامل ومسلم صادق وداعية مخلص ومن هذا الإطار صنف العز كتبه التي وصفت من غيره وصُنَّفت بعنوان "كتب التصوف، كما كثرت هذه المعاني في سائر كتبه في التفسير والعقيدة والفقه وأصول الفقه، والتربية، وفضائل الأعمال، وفي الأخلاق والآداب، لأنها انعكاس عن سريرته وما يكنه في قلبه وما يلتزمه في حياته وسلوكه، كما أن المسلم الصادق يقدر من يتصف بهذه المعاني الإسلامية السامية ويحترم أشخاصهم ويتقرب منهم، ويثني عليهم، ومن هذا المنطلق نعلل احترام العز لمعاصريه من علماء التصوف كالسُّهروردي والشاذلي، وأبي العباس المرسي، وصداقته لهم، والتقاءه معهم، وحضور مجالسهم ومشاركتهم في بعض الجوانب التربوية والسلوكية، بل حتى في قبول الشارات الشكلية التي يتعلقون بها، ما دامت لا تخالف الكتاب والسنة، ومن هذا المنطلق نقبل جميع ما ذكره مترجمو العز باعتباره متصوفاً، وأنه كان يقرأ "رسالة القشيري" في(1/118)
التصوف، وأن له اليد الطولى في التصوف وتصانيفه قاضية بذلك، وإن أريد بالتصوف معناه الإصطلاحي، كمذهب وطريقه بحسب السائد والمعروف والمألوف في العصور المتأخرة، فنستطيع أن نجزم أن الشيخ العز لم يكن متصوفاً ولا صوفياً على الإطلاق ونستدل على ذلك بأمور كثيرة وواضحة، منها أن كتب العز الموسومة بالتصوف هي بذاتها إما للرد على المفاهيم الباطلة التي تسربت باسم الصوفية إلى الإسلام، فهدم العز وجودها ونسبتها إلى الدين والإسلام كالقطب والأبدال، وإما لتقريب المتصوفة إلى الطريق الصحيح والإيمان السليم، والعمل بالشرع، مثل كتابه "مسائل الطريقة" إن صحت نسبته إليه، فلعله أراد أن يأخذ بيدهم – وهو يحبهم ويحترمهم – إلى الطريق الأقوم، والمنهج السديد، والإلتزام بالكتاب والسنة والسيرة وأعمال السلف الصالح، وإما للتخفيف من غلواء المتصوفة، لبيان المعنى الصحيح للمصطلحات الشرعية التي عرضها الحارث المحاسبي في كتابه "مقاصد الرعاية" . (1)[275])
__________
(1) 275])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 326 ، 327 ، 328.(1/119)
والخلاصة، إننا نرى أن العز كان صوفياً حسب قواعد الشرع ومن الناحية الفكرية والقلبية والروحية، وبحسب المعنى العام الوارد في الشرع عن هذا الجانب التربوي في الإسلام، وأنه ملتزم بكل ما جاء في القرآن والسنة من التربية الروحية والقلبية والتهذيب النفسي، ولم يكن متصوفاً بالمعنى الإصطلاحي والعرفي ولم يتلزم بطريقة يلتزم طقوسها ومصطلحاتها وقواعدها، ولم يدخل في المتاهات الغامضة التي تحتمل الظاهر والباطن، والصحيح والفاسد وفيها ركام طيب وخبيث وغث وسمين وبساطة وغموض وشك وحقيقة وارتياب، وطعن أو سوء ظن بإطلاق الكلمات، مهما كان معناها، ومهما كان المراد منها.. إلخ فالعز مع الشرع والدين والنصوص والأحكام، فما أجازه الشرع قال بحله، ولو كان سماعاً، وما حرمه الشرع قال بمنعه، ووقف بشكل صلب في وجه البدع والمنكرات وفي وجه التطرف والمغالاة التي تسربت إلى المسلمين بصور عديدة (1)[276])، فالصوفي عند الشيخ عز الدين بن عبدالسلام: من صفت سريرته ونارت بصيرته وعلت همته ونطقت حكمته وارتفعت رتبته، وتعلم العلم وعلمه وطلبته من الله لا من غيره وأن يكون متصفاً بالرضا والسير في الطريق ومراعاة الرفيق، والهدى والتحقيق وفعل الخيرات وترك المنكرات، وإقالة العثرات، وأن يكون مجتهداً في العمل الصالح المرفوع وأن يكون متأدباً مع شيخه وإخوانه، حافظاً غالباً على شيطانه (2)[277]).
وملخص القول في تصوف العز بن عبدالسلام في النقاط الآتية:
- درس الشيخ عز الدين التصوف كعلم من علوم الشريعة في مرحلة الطلب واستفاد منه كثيراً.
- قام العز بحركة إصلاح في التصوف عموماً وصحح الكثير من المفاهيم الموهمة، وجعل مقياسه الشرع الإسلامي في قبول مفردات التصوف.
__________
(1) 276])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 329.
(2) 277])العز بن عبدالسلام للوهيبي ص 97 مسائل الطريقة في علم الحقيقة ص 37.(1/120)
- رفض الشيخ عز الدين بعض السلوكيات التي يمارسها بعض مدعي التصوف، كالرقص وغيرها من الأمور.
- يعتبر تصوف العز بن عبدالسلام امتداد للتصوف السني الذي مارسه الحسن البصري ومالك بن دينار وغيرهم كثير.
وقد قام الاستاذ محمد حسن عبدالله بدراسة جميلة عن عز الدين بن عبدالسلام في كتابه عز الدين بن عبدالسلام بائع الملوك وانتهى إلى القول بأن العز بن عبدالسلام لم ينتسب إلى طريقة صوفية مما شاع في عصره ولم يلبس خرقة الصوفية من السهروردي ولم يبايع الشاذلي وإن كان صديقاً له وإنما كان متصوفاً على طريقة السلف في التصوف وكان بعيد عن الرقص والتواجد والتصفيق لئن ذلك خفه ورعونه، لقد كان العز رجل كفاح ونضال وكان يهتم بالتصوف السني من طهارة القلب وصفاء النفس وخلوص النية لله تعالى وتخلية الذكر من غير الله وتحليته بذكره (1)[278]).
__________
(1) 278])عز الدين بن عبدالسلام ، عبدالرحمن مراد ص 63 إلى 65.(1/121)
3- جهاد العز بن عبدالسلام: نال الشيخ العز بن عبدالسلام شرف الجهاد وكان يدعو إليه ويكتبه في كتبه ورسائله، وهو القائل في رسالة الاعتقاد : الجهاد ضربان، ضرب بالجدل والبيان وضرب بالسيف والسنان.. ولكن قد أمرنا الله بالجهاد في نصرة دينه، إلا أن سلاح العالم علمه ولسانه، كما أن سلاح الملك سيفه وسنانه، فكما لا يجوز للملوك إغماد أسلحتهم عن الملحدين والمشركين، لا يجوز للعلماء إعتماد أسلحتهم عن الزائغين والمبتدعين، فمن ناضل عن الله، وأظهر دين الله كان جديراً أن يحرسه الله بعينه التي لا تنام ويُعزَِّه بعزّه الذي لايضام ويحوطه بركنه الذي لا يُرام، ويحفظه من جميع الأنام وعلى الجملة ينبغي لكل عالم إذا أذل الحق، وأخمد الصواب أن يبذل جُهده في نصرهما وأن يجعل نفسه بالذل والخمول أولى منهما.. والمخاطرة بالنفوس مشروعة في إعزاز الدين، ولذلك يجوز للبطل من المسلمين أن ينغمر في صفوف المشركين وكذلك المخاطرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ونصرة قواعد الدين بالحجج والبراهين مشروعة (1)[279])وقام العز بجهاد العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وعرّض نفسه للمخاطر الشديدة، والأهوال العجيبة، كما مرّ معنا – وعزل بسبب ذلك، وكان مجاهداً جرئياً، ومناظراً قوياً، ومدافعاً صلباً عن دين الله وشرعه، مطبقاً حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رأوه أبو الوليد عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العُسر واليسر والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله تعالى فيه برهان، وعلى أن نقول الحق أينما كنا، لا نخاف في الله لومة لائم (2)[
__________
(1) 279])طبقات الشافعية الكبرى (8/223 ، 226) وما بعدها.
(2) 280])البخاري ، كتاب الفتن (6/2588)..(1/122)
280])وجاهد الشيخ عز الدين في الحياة والمجتمع لإقامة شرع الله ودينه وحارب البدع، ووقف في وجه الفرق المنحرفة والآراء الباطلة، والعقائد الضالة، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، ونصح أئمة المسلمين وعامتهم كما مرّ معنا، وجاهد أمام الظلمة والطغاة والمستبدين، وخاطر بنفسه تطبيقاً لما قال، وامتثالاً للحديث الشريف الذي رواه جابر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيَّدُ الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فأمره ونهاه فقتله (1)[281])وقد قام الشيخ العز بن عبدالسلام بهذا الجهاد والنصح للحكام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولم يعلن الثورة عليهم، ولم يطلب العصيان ضدهم، ما داموا مسلمين ويقيمون الصلاة، ويطبقون الإسلام مع الخطأ أو الانحراف (2)[282])، ويطول بنا الحديث عن جهاد العز بعلمه وبيانه ولسانه وقلمه فالعز رحمه الله لم يتأخر عن الدعوة إلى الجهاد والمشاركة في الإعداد له عندما يهدد العدو بلاد المسلمين وأرضهم وأنفسهم وأموالهم ودينهم، وقد رأيناه لبى دعوة قطز، وهو في الثمانين من عمره، للمشاورة في لقاء التتار، ودعوة المسلمين لذلك، وبيان الحكم الشرعي، وكان الاعتماد في الاجتماع على فتوى العز رحمه الله تعالى التي تحقق أثرها بالنصر المبين في عين جالوت على التتار ولما كانت همة العز أقوى، وجسمه أصلب، وسنه أقل بقليل شارك عملياً في الجهاد والقتال وملاقاة الصليبيين الذين اتجهوا لاحتلال دمياط وسائر مصر بعد أن وصلوا إلى المنصورة، واستظهروا على المسلمين، فهب الجيش المسلم في مصر لمواجهة الغزاة (3)[
__________
(1) 281])المستدرك صحيح الإسناد (3/195).
(2) 282])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 123.
(3) 283])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 124..(1/123)
283])قال ابن السبكي: وكان الشيخ مع العسكر، وقويت الريح، فلما رأى الشيخ حال المسلمين نادى بأعلى صوته مشيراً بيده إلى الريح، يا ريح خُذيهم عدة مرات، فعادت الريح، على مراكب الفرنج فكسرتها وكان الفتح وغرق أكثر الفرنج، وصرخ من بين يدي المسلمين صارخ: الحمد الله الذي أرانا في أمة محمد صلى الله عليه وسلم رجلاً سخّر له الريح (1)[284])وكان النصر المبين للمسلمين، واعتبر المؤرخون هذه الصيحة من كرامات العز رحمه الله (2)[285])والكرامة في معتقد أهل السنة تظهر على يد أولياء الله الصالحين تكريماً من الله تعالى لهم ومصدر الكرامة هو الإيمان الصادق، والإخلاص الكامل، والعبودية التامة، والاعتماد الحقيقي على الله تعالى، والإلتزام بشرع الله تعالى، وكثرة التقرب إليه وقال الله تعالى "ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم، ولا هم يحزنون، الذين آمنوا وكانوا يتقون، لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة" (يونس، آية: 62 – 64) وهذا ما أكده رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن رب العزة فيما رواه البخاري عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى قال: من عاد لي ولياً فقد أذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته، كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه (3)[
__________
(1) 284])حسن المحاضرة (2/35) العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 124.
(2) 285])العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 124.
(3) 286])صحيح البخاري (5/2384) ، كتاب الرقاق ، باب التواضع..(1/124)
286])وكان العز بن عبدالسلام – رحمه الله – لا يبغي إلا رضاء الله تعالى – نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحد – ولا يخاف إلا منه ولا يتوكل إلا عليه، فكان الله معه وكان الله له حافظاً ومعيناً وكان الله عنه مدافعاً من أذي المعتدين وتسلط الظالمين، وسطوه الحكام والأمراء " إن الله يدافع عن الذين آمنوا" (الحج، آية: 38) وكفاه الله هَّم الدنيا والآخرة "وكفى بالله وكيلاً" (النساء، آية : 81) وكفى بالله حسيبا" (الأحزاب/39).(1/125)
وكان العز حريصاً على تطبيق شرع الله والسير على جادته وتفنيد ما أمر به، فكان ينظر بنور الله، ويبصر ببصر الله ويتكلم بقوة الله وجبروته، ويبطش بيد الله، ويمشي في سبيل الله، وعلى بركة الله، كما جاء في الحديث القدسي السابق ومن هنا أكرمه الله تعالى بأمور خارقة للعادة، مر معنا قصته مع اللصوص في البستان، وقصته في تغيير اتجاه الريح بسبب دعائه في معركة دمياط ضد الفرنج وقصته مع نائب السلطنة الذي جاء العز وهو شاهر السيف ليقتله، فحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب، وسقط السيف منها وأرعدت مفاصلة، فبكى وسأل الشيخ أن يدعو له (1)[287]) ونضيف هنا قصة جديدة وطريقة، نقلها ابن السبكي فقال: كان في الريف شخص يقال له : عبدالله البلتاجي من أولياء الله وكانت بينه وبين الشيخ عز الدين صداقة، وكان يُهْدي إليه في كل عام، فأرسل إليه مرة جمل هدية، ومن جملته وعاء فيه جُبْن، فلما وصل الرسول إلى باب القاهرة؛ انكسر ذلك الوعاء وتبددّ ما فيه، فتألم الرسول لذلك، فرآه شخص ذمي، فقال له: لم تتألم؟ عندي ما هو خير منه قال الرسول: فاشتريت منه بَدَله وجئت، فما كان إلا يقدر أن وصلت إلى باب الشيخ، ولم يعلم بي ولا بما جرى لي غير الله تعالى، وإذا بشخص نزل من الشيخ، وقال : أصعد بما جئت به فناولته شيئاً فشيئاً إلى أن سلمته ذلك الجبن، فطلع ثم نزل، فقلت أعطيته للشيخ؟ فقال: أخذ الجميع إلا الجبْن ووعاءه فإنه قال لي: ضعه على الباب، فلما طلعت أنا، قال لي: يا وليد ليْش تفعل هذا؟ إن المرأة التي حَلَبت لبن هذا الجبن كانت يدها متنجسة بالخنزير، وردَّه وقال: سلمّ على أخي (2)[288]).
__________
(1) 287])العز بن عبدالسلام، للزحيلي ص 127 طبقات الشافعية (8/217).
(2) 288])طبقات الشافعية الكبرى (8/213) العز بن عبدالسلام ص 128.(1/126)
4- وفاته: بعد عمر مديد ناهز الثالثة والثمانين عاماً في الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام ونشر دعوته، توفي العز بن عبدالسلام في العاشر من جمادي الأولى سنة ستين وستمائة هجرية 660هـ وقد ذكر ابن السبكي عن ابن العز الشيخ عبداللطيف أن وفاة والده في التاسع من جمادى الأولى 660هـ وذكر في رواية أخرى أنها في 10 جمادي 660هـ (1)[289])، وهو ما عليه عامة المؤرخين، وهناك رواية لتلميذ العز الدمياطي توفق بني الروايتين وهي قوله: توفي العز يوم السبت 9جمادي الأولى 660هـ ودفن من الغد في سفح المقطم حضرت ذلك وكان درسه الأخير، الذي ألقاه على الناس تفسير قول الله "الله نور السموات ... " (2)[290]) قال أبو شامة وهو تلميذ العز أيضاً ومؤرخ حياته : يوم الأحد عاشر جمادي الأولى، أو حادي عشر جمادي الأولى حياته : يوم الأحد عاشر جمادي الأولى أو حادي عشر جمادي الأولى توفي العز بن عبدالسلام في مصر وعمل عزاؤه في جامع العقيبة يوم الاثنين 25 جمادي الأولى سنة 660هـ، حضر جنازته الخاص والعام، وصلى عليه الظاهر بيبرس بالقرافة، ودفن في آخر القرافة مما يلي الجبل من ناحية البركة، وصُليَّ عليه صلاة الغائب في جامع دمشق وغيرها من الجوامع بالشام، يوم الجمعة آخر جمادى الأولى ونادى النصير المؤذن بعد الفراغ من صلاة الجمعة: الصلاة على عز الدين بن عبدالسلام (3)[291])وقال ابن كثير : توفي في العاشر من جمادى الأولى وقد نيف على 80سنة ودفن في الغد بسفح المقطم (4)[292]).
وقال الذهبي : توفي بمصر في جمادى الأولى سنة 660هـ وحضر جنازته الخاص والعام، السلطان فمن
__________
(1) 289])طبقات السبكي (8/248) فتاوى شيخ عز الدين بن عبدالسلام ص 154.
(2) 290])العز بن عبدالسلام ، سلطان العلماء ص 179
(3) 291])الذين على الروضتين ص 216 فتاوى شيخ الإسلام العز ص 154.
(4) 292])البداية والنهاية (13/442).(1/127)
دونه، ودفن بالقرافة في آخرها، ولما بلغ السلطان خبر موته قال: لم يستقر ملكي إلا الساعةن لأنه لو أمر الناس فيّ ما أراد لبادروا إلى امتثال أمره (1)[293])وقال السبكي نقلاً عن ولده الشيخ عبداللطيف: وكانت وفاة الشيخ في تاسع جمادى الأولى في سنة ستين وستمائة فحزن عليه – الظاهر – كثيراً حتى قال: لا إله إلا الله ما اتفقت وفاة الشيخ إلا في دولتي وشيّع أمراءه وخاصته وأجناده لتشييع جنازته وحمل نعشه، وحضر دفنه (2)[294])، وقد اختلف في عمره روايتين احداهما أن عمره: اثنتان وثمانون سنة والأخرى ثلاث وثمانون سنة وهذا الاختلاف راجع إلى الخلاف في ولادته، فمن قال إنه ولد سنة 577هـ جعل عمره 83سنة ومن قال إنه ولد سنة 578هـ جعل عمره 82سنة وأما ما ذكره المقريزي من أن عمره اثنتان وستون فهو خطأ لأنه مخالف لما ذكره عامة المؤرخين، ولعله تحريف من النساخ أو خطأ منهم والله أعلم وبالجمع بين هذه الروايات أرى أن أقربها للصحة والصواب ما ذكره السبكي من أن عمر العز ثلاث وثمانون سنة (3)[295])، والله أعلم.
5- أقوال العلماء فيه: لقد شهد العلماء قبل العامة للعز بن عبدالسلام بالإمامة والرياسة وعلو المقام يدل على ذلك مواقفه التي ذكرنا طرفاً منها ومؤلفاته وتلامذته الذين طبقت شهرتهم الآفاق وقد شهد للشيخ علماء عصره ومن جاء بعدهم من جهابذة العلم ومشاهير الرجال وهذه نبذة من أقوالهم (4)[296]):
أ- ثناء المعاصرين له:
- قال العلامة ابن الحاجب صديق العز ومعاصره ورفيقه في السفر والرحلة عن العز : ابن عبدالسلام أفقه من الغزالي (5)[297]).
__________
(1) 293])العبر (5/260).
(2) 294])طبقات الشافعية (8/245) فتاوى شيخ الإسلام ص 155.
(3) 295])طبقات الشافعية (8/245) فتاوى شيخ الإسلام ص 155.
(4) 296])فتاوى شيخ الإسلام ص 156.
(5) 297])طبقات الشافعية الكبرى (8/214) حسن المحاضرة (1/315).(1/128)
- قال العلامة، جمال الدين الحصري: ت 637هـ شيخ الحنفية في زمانه مخاطباً سلطان دمشق عن العز: هذا رجل لو كان في الهند، أو في أقصى الدنيا، كان ينبغي للسلطان أن يسعى في حُلوله في بلاده لتتم بركته عليه وعلى بلاده، ويفتخر به على سائر الملوك(1)[298]).
- وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي: ت 656هـ معاصر العز يمدح مجلسه في الفقه : ما على وجه الأرض مجلس في الفقه أبهى من مجلس عز الدين بن عبدالسلام(2)[299]).
- وقال الحافظ زكي الدين المنذري ت 656هـ: مفتي الشافعية بمصر ومعاصر العز: كنا نفتي قبل حضور الشيخ عز الدين، وأما بعد حضوره فمنصب الفتيا متعين فيه.
ب- ثناء بعض التلاميذ على العز: قال أبو بكر بن مسدي الأندلسي: 663هـ، تلميذ العز عن شيخه: أحد فقهاء هذا المذهب، ممن فرَّع على أصوله، وهذَّب، ورأس فقهاء بلده(3)[300]).
- قال الشيخ شهاب الدين أبو شامة 665هـ أحد تلاميذة الشيخ: وكان أحق الناس بالخطابة والإمامة وأزال كثيراً من البدع التي كان الخطباءُ يفعلونها، من دقَّ السيف على المنبر، وغير ذلك، وأبطل صلاتي الرغائب ونصف شعبان، ومنع منهما.
- قال القاضي الفقيه الأصولي الأديب الحافظ ابن دقيق العيد 702هـ: تلميذ العز عن شيخه، كان ابن عبدالسلام أحد سلاطين العلماء (4)[301]).
- قال عز الدين الحسيني تلميذ العز عن شيخه: كان عالم عصره في العلم جامعاً لفنون متعددة، مضافاً إلى ما هو عليه من ترك التكلف مع الصلابة في الدين، وشهرته تغني عن الإطناب في (5)[302]) وصفه.
__________
(1) 298])المصدر نفسه (8/237) العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 195.
(2) 299])حسن المحاضرة (1/315) العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 195.
(3) 300])تاريخ علماء بغداد ص 105 العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 195.
(4) 301])حسن المحاضرة (1/315) العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 195.
(5) 302])شذرات الذهب نقلاً عن العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 196.(1/129)
ج- ثناء العلماء والمنصفين على العز:
- قال الذهبي ت 748هـ عن العز: .. بلغ رتبة الاجتهاد وانتهت إليه رئاسة المذهب، مع الزهد والورع، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصلابة في الدين (1)[303]).
- وقال فخر الدين بن شاكر الكتبي ت 764هـ عن العز : شيخ الإسلام، وبقية الأعلام، الشيخ عز الدين .. سمع .. وتفقه .. ودرّس وأفتى، وبرع في المذهب، وبلغ رتبة الاجتهاد، وقصده الطلبة من البلاد، وتخرج به أئمة وله الفتاوى السديدة، وكان ناسكاً ورعاً، وأمّاراً بالمعروف، نهاءً عن المنكر، لا يخاف في الله لومة لائم (2)[304]).
- وقال اليافعي اليمني ت 764هـ عن العز : سلطان العلماء، وفحل النجباء، المقَّدم في عصره على سائر الأقران، بحر العلوم والمعارف، والمعظم في البلدان، ذو التحقيق والإتقان والعرفان والإيقان ... وهو من الذين قيل فيهم: علمهم أكثر من تصانيفهم، لا من الذين عبارتهم دون درايتهم، ومرتبته في العلوم الظاهرة مع السابقين في الرعيل الأول(3)[305]).
- وقال العلامة تاج الدين ابن السبكي ت 771هـ في ترجمته العز: شيخ الإسلام والمسلمين، وأحد الأئمة الأعلام، سلطان العلماء إمام عصره بلا مدافعة، القائم بالأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر في زمانه، المَّطلع على حقائق الشريعة وغوامضها، العارف بمقاصدها لم ير مثل نفسه، ولا رأى من رآه مثله، عِلمْاً وورعاً وقياماً في الحق، وشجاعة وقوة جنان، وسلاطة لسَان (4)[306]).
__________
(1) 303])العبر في أخبار من غير (5/260) العز بن عبدالسلام ص 196.
(2) 304])فوات الوفيات (1/594 – 595) العز بن عبدالسلام ص 197.
(3) 305])مرآة الجنان (4/153) العز بن عبدالسلام ص 197.
(4) 306])طبقات الشافعية الكبرى (8/209) العز بن عبدالسلام ص 197.(1/130)
- وقال العلامة الفقيه الشيخ جمال الدين عبدالرحيم الإسنوي: (772هـ) في ترجمة العز : الشيخ عز الدين ... كان رحمه الله شيخ الإسلام علماً وعملاً، وورعاً، وزهداً وتصانيف، وتلاميذ، آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، يهين الملوك فمن دونهم، ويغلظ القول .. وكان فيه مع ذلك حسن محاضرة بالنوادر والأشعار (1)[307]).
- وقال المؤرخ الفقيه الأديب العماد الحنبلي عن العز: عز الدين، شيخ الإسلام .. الإمام العلامة، وحيد عصره، سلطان العلماء وبرع في الفقه والأصول والعربية، وفاق الأقران والأضراب، وجمع بين فنون العلم من التفسير والحديث والفقه واختلاف الناس ومآخذهم، وبلغ رتبة الاجتهاد، ورحل إليه الطلبة من سائر البلاد، وصنف التصانيف المفيدة (2)[308]).
س- ثناء بعض المتأخرين على العز:
أ- الشيخ عبدالله مصطفى على العز: عبد العزيز .. الملقب بعز الدين، المعروف بسلطان العلماء، شيخ الإسلام والمسلمين وإمام عصره بلا مدافع، وفريد زمانه بلا منازع، كان ابن عبدالسلام علماً من الأعلام، شجاعاً في الحق، آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر فقيها أصولياً، محدثاً، خطيباً، واعظاً، أديباً شاعراً، رقيق الحاشية، حاضر النادرة، محترماً، وقوراً، تخشى السلاطين والأمراء صولته وسلطانه (3)[309]).
__________
(1) 307])طبقات الشافعية للإسنوي (2/84) العز بن عبدالسلام ص 197.
(2) 308])شذرات الذهب نقلاً عن العز بن عبدالسلام للزحيلي ص 199.
(3) 309])الفتح المبين في طبقات الأصوليين (2/73).(1/131)
- وقال العلامة مصطفى السباعي: بعد أن عرض العصر الذي سبق العز، وسكوت أكثر العلماء عن الجهر بالحق، أو مسايرة الحكام، أو اعتزال الحياة العامة قال: في هذا الوسط المضطرب نشأ العالم العظيم "سلطان العلماء" عز الدين بن عبدالسلام، فكان وجوده نسمة من نسمات الرجاء تهبُّ على قلوب اليائيسين, وعزمة من عزمات الإيمان، تنبعث في أوساط المتخاذلين، وومضة من ومضات النور تضيء الطريق للمدلجين في دياجير الظلام، وسوطاً من سياط الحق يلهب الله به ظهور المتكبرين والمتجبرين والظالمين، إن العز بن عبدالسلام من أعظم علماء الإسلام الذين تهزني دراسة آثارهم وسيرتهم هزاً عنيفاً (1)[310]).
- وقال الأستاذ رضوان علي الندوي: ... وهناك جانب لشخصيته آخر مشرق .. وهو ملكته الأصيلة في فهم الشريعة وروحها ومقاصدها فهماً راسخاً شاملاً عقلياً دقيقاً مبتكراً بعض الابتكار وهو من السابقين الأول في حركة "التقعيد" في الفقه الإسلامي وتطويره .. إلى أن قال في الخاتمة :"انتهينا من البحث في حياة سلطان العلماء الشيخ العز بن عبدالسلام، فرأيناه عالماً جليلاً يدرس ويؤلف ويفتي وقاضياً عدلاً يحكم ويقضي، وعرفناه عالماً مجاهداً يوجه ويرشد ويعترض وينتقد الملوك والأمراء والعامة على السواء، وهو في هذا يتحمل الأذى والمشقة ويتعرض للخطر والاضطهاد، فلا يبالي ولا يقف ويواصل النشاط، ويدأب على العمل، ويقيم على الحق ويحاول إقامته في المجتمع حتى قضى ... وكان بذلك رجل عصره وموجّه زمانه وقدوة لمن بعده (2)[311]).
__________
(1) 310])العز بن عبدالسلام للندوي تقديم مصطفى السباعي ص 5 -6.
(2) 311])المصدر نفسه ص 177 ، 178.(1/132)
- وقال محمد حسن عبدالله في ختام بحثه عن عبدالعزيز بن عبدالسلام بائع الملوك: بعد معرفتنا بهذا كله ندرك أيَّ حياة الحركة كان هذا الرجل الذي زلزل قواعد الظلم في زمانه، وجددَّ حياة الحركة العلمية الإسلامية وأعاد الدماء الحارة الحرة إلى شرايينها، فأعاد إلينا ذكر المصطفين الأخيار من علماء صدر الإسلام، وقادته الاجتماعيين، ومتصوفته العارفين (1)[312]).
- العز يعرف نفسه:
وقبل كل هذا الثناء من الآخرين، وبعد هذا الثناء، يأتي ثقة العز العالم الواثق بربه والعارف لما أعطاه الله من علم وفقه وحرصه على نشره بين الناس ابتغاء مرضاة الله تعالى، ولذلك لما هاجر من دمشق، ورحل في طريقه إلى مصر، هرع إليه أمراء المدن لاستضافته في إماراتهم لكي يحظوا بوجوده عندهم، ويسابقوا غيرهم، ويفخروا به؛ ومن بين هؤلاء صاحب الكرك وهي قلعة قوية، ومدينة صغيرة فجاء سلطانها وسأل العز الإقامة عنده، فأجابه بصراحة الرجال، وثقة: بلدك صغير على علمي، وقصدي نشره وتابع سيره إلى أرض الكنانة، وعاصمة الأيوبيين في القاهرة.
وصدق الشاعر عندما قال:
هم الرَّجال وعيبٌ أن يُقال لمن
...
لم يتصف بمعاني وصفِهم رَجُلُ (2)[313])
ك- ما قيل فيه من شعر:
قال فيه تلميذه ابن الطباخ:
مجلسكم بحر وإني أمرؤ
لا أحسن العوم فأخشى الفرق
وقال يحي بن عبدالعظيم الجزار بمدح الشيخ ذكر ابن السبكي بيتين من ذلك هما:
سار عبدالعزيز في الحكم سيراً
لم يسره سوى ابن عبدالعزيز
عمنا حكمه بفضل بسيط
شامل للورى ولفظ وجيز
وقال قاضي أسوان عمر بن عبدالعزيز يمدحه في مجلسه:
مولاي عز الدين عز بك العلا
فخراً فدون حذاك منه الهام
لما رأينا منك علماً لم يكن
...
في الدرس قلنا إنه إلهام
جاوزت حد المدح حتى لم يطق
نظما لفضلك في الورى النظام
__________
(1) 312])من بائع الملوك ص 197.
(2) 313])العز بن عبدالسلام، للزحيلي ص 203.(1/133)
وهذا فيض من غيض مما ذكره العلماء فيه (1)[314])رحمه الله رحمة واسعة وأعلى ذكره في المصلحين وأسكنه فسيح جناته وجمعنا به في دار الخلود مع الأنبياء والصديقيين والشهداء والصالحين.
سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك
وأتوب إليك وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
فهرس الكتاب
المقدمة: ... 3
الشيخ عز الدين بن عبدالسلام من مشاهير عهد الملك الصالح نجم الدين أيوب: ... 6
أولاً: ... اسمه ونسبه ... 6
ثانياً: ... نشأته ... 6
ثالثاً: ... مثابرته في طلب العلم ... 7
رابعاً: ... شيوخ العز رحمه الله ... 8
1- ... فخر الدين بن عساكر ... 8
2- ... جمال الدين الحرستاني ... 8
3- ... سيف الدين الآمدي ... 9
4- ... القاسم بن عساكر ... 10
5- ... عبداللطيف بن شيخ الشيوخ ... 10
6- ... الخشوعي ... 11
7- ... حنبل الرصافي ... 11
8- ... عمر بن طبرزد ... 11
9- ... شهاب الدين السُّهروردي ... 11
خامساً: ... تلاميذ العز بن عبدالسلام ... 12
1- ... شيخ الإسلام ابن دقيق العيد ... 12
2- ... القرافي ... 13
3- ... جلال الدين الدشناوي ... 19
4- ... أحمد بن فرح الأشبيلي ... 19
5- ... شرف الدين أبو محمد الدمياطي ... 20
6- ... شهاب الدين أبو شامة ... 20
7- ... تاج الدين الفركاح ... 20
8- ... صدر الدين ابن بنت الأعز ... 21
9- ... أبو أحمد بن زيتون ... 21
خامساً: ... مؤلفاته ... 21
1- ... التفسير وعلومه ... 22
2- ... الحديث والسير والأخبار ... 23
3- ... الإيمان والعقيدة وعلم التوحيد ... 24
4- ... الفقه وأصوله وأهم كتبه في هذه العلوم ... 24
5- ... الفتاوى ... 30
6- ... التصوف ... 30
7- ... سمات التأليف عند الإمام عز الدين بن عبدالسلام ... 37
8- ... الشيخ العز بن عبدالسلام وتطوير الفقه السياسي والعلاقات الدولية ... 39
سادساً: ... أعماله في التدريس والإفتاء والقضاء والخطابة ... 48
1- ... في التدريس ... 48
2- ... الإفتاء ... 49
3- ... القضاء ... 51
4- ... الخطابة ... 52
سابعاً: ... أهم صفات العز بن عبدالسلام ... 53
1- ... الشجاعة ... 53
2- ... زهده ... 59
3- ... حبه للصدقة ... 60
4- ... ورعه وتقواه ... 61
5- ... تواضعه وعدم التكلف ... 61
6- ... بلاغته وفصاحته ... 62
__________
(1) 314])فتاوى شيخ الإسلام عز الدين بن عبدالسلام ص 158.(1/134)
ثامناً: ... أهم محاور التجديد عند الشيخ عز الدين بن عبدالسلام ... 63
1- ... سعيه لتقنين أصول الفقه ... 63
أ- ... القواعد الفقهية ... 64
ب- ... في مراعاة التخفيف ورفع الحرج ... 64
ج- ... في المقاصد والوسائل ... 65
د- ... في مقاصد المكلفين ... 65
هـ- ... في أمور متفرقة ... 65
- ... القواعد الأصولية ... 65
- ... في الأحكام التكليفية ... 65
- ... في تعليل الأحكام ... 66
- ... في الدلالات ... 66
- ... في سد الذرائع ... 66
- ... في العرف والعادة ... 66
- ... في الاستصحاب ... 67
- ... في الخروج من الخلاف ... 67
- ... دروس مهمة في مجال التجديد والإصلاح ... 68
تاسعاً: ... التربية والآداب والتصوف عند العز بن عبدالسلام ... 74
1- ... نماذج من المبادئ التربوية عن العز ... 74
أ- ... أصول التربية لمرحلة الحضانة ... 74
ب- ... تأديب الأهل بآداب الشرع ... 74
ج- ... الوسائل التربوية مع الأطفال والتدرج في الأحوال ... 75
ح- ... المزج بين قواعد الأصول ومبادئ التربية ... 75
د- ... مداعبة الصبيان والإحسان إلى البنات ... 75
ذ- ... الوازع الفطري والشرعي ... 75
س- ... من القواعد التربوية في الدعوة إلى الله ... 76
ش- ... تغير الأحكام بتغير الزمان ... 77
ك- ... إنسانية الإنسان عند العز بن عبدالسلام ... 78
2- ... التصوف عند العز بن عبدالسلام ... 78
3- ... جهاد العز بن عبدالسلام ... 83
4- ... وفاته ... 85
5- ... أقوال العلماء فيه ... 86
المؤلف في سطور
- ولد في مدينة بنغازي بليبيا عام (1383هـ/1963م).
- حصل على درجة الإجازة العالية (الليسانس) من كلية الدعوة وأصول الدين من جامعة المدينة المنورة بتقدير ممتاز. وكن ترتيبه الأول على دفعته عام (1413هـ/1414هـ -1992/1993م).
- نال درجة الماجستير من جامعة أم درمان الإسلامية في السودان عام 1999م وكانت الرسالة العلمية: في الماجستير : الوسطية في القرآن الكريم وأما الدكتوراه فكانت؛ فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم.
- البريد الإلكتروني abumohamed2@maktoob.com
كتب صدرت للمؤلف:
1- السيرة النبوية: عرض وقائع وتحليل أحداث.
2- سيرة الخليفة الأول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: شخصيته وعصره.(1/135)
3- سيرة أمر المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه شخصيته وعصره. ...
4- سيرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه شخصيته وعصره.
5- سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه شخصيته وعصره.
6- سيرة أمير المؤمنين الحسن بن علي بن أبي طالب. شخصيته وعصره.
7- الدولة العثمانية: عوامل النهوض والسقوط.
8- فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم. ...
9- تاريخ الحركة السنوسية في إفريقيا.
10- تاريخ دولتي المرابطين والموحدين في الشمال الإفريقي.
11- عقيدة المسلمين في صفات رب العالمين.
12- الوسطية في القرآن الكريم.
13- الدولة الأموية، عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار.
14- معاوية بن أبي سفيان، شخصيته وعصره.
15- عمر بن عبدالعزيز، شخصيته وعصره.
16- خلافة عبدالله بن الزبير.
17- عصر الدولة الزنيكة.
18- عماد الدين زنكي.
19- نور الدين زنكي.
20- دولة السلاجقة.
21- الإمام الغزالي وجهوده في الإصلاح والتجديد.
22- الشيخ عبدالقادر الجيلاني.
23- الشيخ عمر بن المختار.
24- عبدالملك بن مروان بنوه.
25- فكر الخوارج والشيعة في ميزان أهل السنة والجماعة.
26- حقيقة الخلاف بين الصحابة.
27- وسطية القرآن في العقائد.
28- فتنة مقتل عثمان.
29- السلطان عبدالحميد الثاني.
30- دولة المرابطين.
31- دولة الموحدين.
32- عصر الدولتين الأموية والعباسية وظهور فكر الخوارج.
33- الدولة الفاطمية.
34- حركة الفتح الإسلامي في الشمال الأفريقي.
35- صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير البيت المقدس.
36- إستراتيجة شاملة لمناصرة الرسول صلى الله عليه وسلم دروس مستفادة من الحروب الصليبية.
37- الشيخ عز الدين بن عبدالسلام سلطان العلماء.
38- الحملات الصليبة (الرابعة والخامسة والسادسة والسابعة) والأيوبيون بعد صلاح الدين.
---(1/136)