دعوى الأصولية والرد عليها
ويستمر الكاتب ولا ينتهي ويقول في العدد [4373] في جريدة الشرق الأوسط يوم الأحد مقالاً بعنوان: أيها الأصوليون الصداميون!
اسمعوا وعوا، مَن هُم الأصوليون؟ أتدرون مَن الأصوليون؟ الأصوليون في دوائر المخابرات الغربية هم أبناء الجزيرة العربية، هم أبناء (لا إله إلا الله) هم أنتم أيها الساجدون المصلون المتوضئون الطاهرون! هم أنتم يا حَمَلة (لا إله إلا الله) يامن عبدت أكتافهم للسيوف عبر التاريخ!
وكأن ظل السيف ظل حديقة خضراء تنبت حولنا الأزهارا
لم نخش طاغوتاً يحاربنا ولو نصب المنايا حولنا أسوارا
فيقول: الأصوليون، وكلمة (الأصوليين) سرت على كل من انتهج نهج الاستقامة والالتزام من شباب الصحوة في العالم الإسلامي، وأكثر من يحارب الأصوليين إسرائيل عليها غضب الله، وكذلك الغرب عليهم لعنة الله؛ لأن كلمة (الأصوليين) مشتقة من الأصل، والأصل هو الكتاب والسنة، وسُموا بذلك لأنهم ركَّبوا منهجهم على الكتاب والسنة، وأصلوه من (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) ويقف الأصوليون على حدود الجزيرة أمام دبابات صدام وطائراته وجيوشه، ويأتي هذا من الداخل فيلدغهم بحجة أنهم مع صدام، ونحن -والله- قبل الحادثة وبعد الحادثة نعرف من هو هذا الرجل صدام، عقيدته، ومنهجه، وولاؤه، وسيرته، وسلوكه، وما أحببناه يوماً وما واليناه يوماً، وإنما أعلنَّا حربه وعداءه.
يقول: أيها الأصوليون! من أتباع عبد الله المؤمن مؤخراً -أي: صدام حسين، هل تعرفون الهدف الذي يسعى قائدكم إلى تحقيقه؟!
قائدنا محمد عليه الصلاة والسلام وليس صدام حسين، ونبرأ إلى الله منه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فمَن هُم الأصوليون؟
أيها الكاتب! أيها الأديب! أسألك بالله أن تراجع حسابك، وأن تتأمل، وتتفكر في من هم الأصوليون؟ إنهم الذين حفظوا مبادئهم، يوم ضيعها غيرهم في شوارع الغرب، إنهم الذين لبسوا زِيَّهم الإسلامي يوم ارتدى غيرهم الزي الكافر، إنهم الذين توضئوا بالماء النمير، يوم توضأ غيرهم بماء الخمر في ليالي العُهر وفي آخر الليل، إنهم الذين بكوا من آيات الله البينات، يوم دندن غيرهم على الأغاني الماجنات.
الأصوليون هم الذين يحمون المقدسات، ولا يسمحون لأي مستعمر أو غازٍ بأن يصل إلى المقدسات إلا على جماجمهم، والأصوليون يقدمون جماجمهم تسحقها الدبابات؛ لتبقى (لا إله إلا الله) ويقدمون أعناقهم تقطعها المجنزرات؛ لترتفع (لا إله إلا الله).
إذا محاسني اللآتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
كيف نعتذر أمام رأي العالَم، يا أيها الكاتب! أما تعرف أن العالم الإسلامي به مئات الألوف من الأصوليين! بل ملايين من شباب الصحوة، كلهم يود أن يقدم روحه فداءً لـ (لا إله إلا الله) من مقدسات في الجزيرة العربية، ثم تأتي بشخطة قلم تلغي جهودهم وسطوعهم ولموعهم، وتحاربهم من الخلف في وقت شُغل فيه وُلاة الأمر والناس وشباب الصحوة بالعدو الخارجي، هذه والله لا يُقرها عقلٌ ولا نقل!
فمَن هُم؟! مَن هُم الذين يتبعون صداماً؟! إنهم الذين يؤمنون بأفكار صدام العلمانية الكافرة، إنهم الذين لا يحترمون (لا إله إلا الله) يقول سبحانه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ} [النساء:60] يزعمون ولا يعتقدون: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [النساء:60] يتبجحون بالإسلام في المجالس والإسلام بعيد عنهم، ويتظاهرون بحب الإسلام وهم يذبحون الإسلام صباح مساء {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ} [النساء:60](377/4)
خطر العلمانيين على الإسلام والمسلمين
ولَطالَما سمعنا هذا الكاتب وقرأنا له، وعندي له قصاصات وملفات ووثائق عن ماذا يريد، وكيف ينفث، وإلى أي حد سوف يصل إذا ترك له الميدان، إنه خطير على الإسلام والمسلمين، وخطير على القبلة {يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً} [النساء:60] لأن الشيطان يتولاه صباح مساء.
يقول العلمانيون القدامى:
وكنت امرأً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
يقول: كنتُ جندياُ مع الشيطان فتطورت في المراتب حتى صرت أدير الشيطان وأذناب الشيطان {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ} [النساء:61] تعالوا إلى القبلة، تعالوا إلى القرآن، تعالوا إلى (صحيحي البخاري ومسلم) تعالوا إلى المبادئ {رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً} [النساء:61] عجيب! {أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] أي: ليس هناك إلا احتمالات ثلاثة:
الأول: إما مرض خطير اكتسبوه من تراثهم الذي تعلموه، ومن مائهم الذي شربوه، ومن جلبابهم الذي لبسوه، حقدٌ على الإسلام، وعداء لأولياء الله.
الثاني: {أَمِ ارْتَابُوا} [النور:50] أي: أم شكوا في مصداقية الرسالة، ومصداقية الرسول عليه الصلاة والسلام.
الثالث: {أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ} [النور:50] أي: ويمكن أن يظنوا أن الله لا يريد بهم خيراً يوم أنزل لهم شريعة، ولا يريد بهم نصراً يوم أعطاهم هذه المبادئ، ولا يريد بهم فلاحاً ولا تطوراً يوم سنَّ لهم دستوراً، ويرون أن الدستور الإسلامي رمز التخلف والرجعية، والواجب الانقضاض عليه؛ لكن بذكاء كالذئب:
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
قال الله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} [النساء:62] كيف إذا أُخِذت رءوسهم بسيف ولي الأمر الذي يحمي رسالة التوحيد، فصلبهم بعد صلاة الجمعة وقطَّف رءوسهم؟!
هذه مصيبة، لماذا؟ لأنهم يفسدون في الأرض، ويسعون فيها خراباً، ويدمرون معالمها، ومن أعظم ما ينتظرون: سيف العدل المشهور الذي أخذ رءوس قُطاع الطرق والمدبرين للفتن، والمروِّجين للجرائم، وهم أعظم من يروج الجرائم ويدبر الفتن، فجدير بالسيف أن يحصد رءوسهم.
قال الله سبحانه: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62] أي: كيف إذا ابتُلوا بمصيبة؟! وكيف إذا أظهر الله عليهم الصف الإسلامي ثم جاءوا وقالوا: لا.
إنما أردنا بالكلام والقصائد والمنشورات إحساناً وتوفيقاً بين الأمزجة وبين الردود، والله ما أردنا إساءة؛ ولكن أردنا أن نتحدث للرأي العام وأن نوافق بين المشارب والشرائح الاجتماعية!
أبين الإسلام والكفر إحساناً وتوفيقاً؟! أبَيْن (لا إله إلا الله) و (لا إله والحياة مادة) إحساناً وتوفيقاً؟!
أبَيْن المسجد والخمَّارة إحساناً وتوفيقاً؟! أبَيْن محمد صلى الله عليه وسلم وماركس إحساناً وتوفيقاً؟!
أبَيْن أبي بكر رضي الله عنه وهتلر إحساناً وتوفيقاً؟! أبَيْن عمر رضي الله عنه وصدام إحساناً وتوفيقاً؟!
أتضحكون على لحى المسلمين؟! {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً} [النساء:63] أي: حاول أن تردعهم قبل أن يُلقوا بالأمة في هُوَّة، وأن يصدموا الأمة على دمائها، وأن يضربوها على أكتافها ضربة مهلكة.
يقول سيد قطب في الظلال وهو يعلق على أولئك: إنها حالٌ مخزية حين يعودون شاعرين بما فعلوا، غير قادرين على مواجهة الرسول صلى الله عليه وسلم بحقيقة دوافعهم، في الوقت ذاته يحلفون كاذبين أنهم ما أرادوا بالتحاكم إلى الطاغوت إلا رغبة في الإحسان والتوفيق، كيف؟! وهي دائماً دعوى كل من يحيدون عن الاحتكام إلى منهج الله وشريعته.
ثم يقول: إنهم يريدون اتقاء الإشكالات، والردود الاجتماعية، وكلام العلماء وفتاوي الدعاة، فيتفكرون في الثياب وهم ذئاب، ويتخذون العكاز وهم رأس المصائب.
إن الإشكالات والمتاعب والمصاعب تنشأ من الاحتكام إلى غير شريعة الله.
ويريدون التوفيق بين العناصر المختلفة، والاتجاهات والعقائد المختلفة، ما عندهم تميز وليس لهم باع في الشريعة، ولا يعرفون شيئاً، عندهم ذكاء وعندهم بيان لكن هذا لا يكفي {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون:4].
في هذا الوقت الحرج؟!
أنحن أعداؤك؟! أنحن الآن الذين نقف ضدك؟! أما تكلمت؟! أما نظمت الأشعار؟! أما صبرنا؟! أما سكتنا؟! أما رأينا أشعارك تنفث سماً وفجوراً وعداءً للإسلام؟! وقلنا منطق الحكمة أن يُناصَح؛ ولكن:
أخي جاوز الظالمون المدى فحق الجهاد وحق الفدا
أنتركهم يغصبون الجزيرة أرض الأبوة والسؤددا؟!
فشَهِّر حسامك من غمده فليس له اليوم أن يُغمدا
نفخت شموسنا غضباً علينا وقد نسجت ثيابَكمُ يدينا
وسيفك في بني الإسلام ماضٍ وجذعك بيننا أضحى متينا
تُغَنِّينا وتسخر إن عثرنا كأنك ما دريت ولادرينا!
كأننا لا نعرف المخططات! ولا نعرف الكلمات! وإننا مستعدون بلسان طلبة العلم والعلماء الحكماء الذين يعرفون التصرف وضبط النفس أن نحاورك الحوار علنياً أمام الرأي العام؛ ليثبت الصادق من الكاذب، والجاد من الهازل، والراشد من الضال.
تُغَنِّينا وتسخر إن عثرنا كأنك ما دريت ولادرينا!
تُسر إذا أصبنا بالرزايا مخادعة وتضحك إن بكينا
توكلنا على الرحمن إنا رأينا النصر للمتوكلينا
وهل يُخذل جند الله؟! وهل يُضرب حزبُه؟! وهل يتقهقر أولياؤه؟! وهل يتعثر أنصارُه؟! بل هم الطليعة دائماً، والكوكبة النيرة؛ لأنهم يحملون فكراً سديداً سليماً.(377/5)
نداءات إلى أهل العلمنة
إنا نطالب هذا الكاتب ورموز العلمنة جميعاً أن يتوبوا إلى الله، وأن يقدروا وُلاة الأمر، وأن يعرفوا أن من حق والي الأمر ألا يُخالَف فيما يُطاع الله فيه ورسوله، وألا يُعتدى على قداسة الدين، وحرمة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ولا يُسخر بأولياء الله، ولا يُستهزأ بالقيم {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] ولعلنا نسمع منتقداً يقول: هذا ليس من الحكمة! فما هي الحكمة بالله؟! وكيف نفسرها؟! وأروني الحكمة، وأخرجوا لي الحكمة، إذا كان هذا يتكلم أمام الملايين ويهاجم الإسلام بطريقة علنية، ثم يُقال: اسكت، لا تتكلم، إن الحكمة تقتضي أن تسكت! هذا ليس بصحيح، وما علَّمنا علماؤنا ومن قبلهم ولا الكتاب والسنة ولا أسلافُنا ولا الصحابة ولا التابعون إلا منهج الحق، أن نقول الحق ولا نخشى في الله لومة لائم.
أسأل الله أن يهدي ضال المسلمين، وأن يردنا إليه رداً جميلاً، وأن يحفظنا ويحفظ علينا ديننا وبلادنا ومقدساتنا، إنه نعم الحافظ وهو المستعان، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(377/6)
خصائص أهل السنة
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أيها الناس: نحن أهل (لا إله إلا الله) لنا مصادر عدة، لنا انتماءات خالدة، لنا خصائص ربانية لا يشاركنا فيها أحد، هذه نقف بها أمام أهل العلمنة، ونحن فخورون جداً أن نكون من أولياء الله إن شاء الله، وواثقين من مبادئنا.
فمن خصائصنا:(377/7)
أولاً: أننا أمة وحي
دستورنا وعقيدتنا وشريعتنا وسلوكنا وأخلاقنا من الوحي {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4] غيرنا وأعداؤنا يأخذون قوانينهم من التراب والطين ومن جزمات مستعمريهم، ونحن نأخذ عقيدتنا وشريعتنا من رب العالمين {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] أعلون عقيدة، ومنهجاً، وعبادة، وأخلاقاً، وسياسة، واقتصاداً، وإعلاماً، ما دمنا نتحاكم لشرع الله، فنحن أمة وحي.(377/8)
ثانياً: أن ولينا الله
الله مولانا ولا مولى لهم {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] فمن مثلنا -المسلمين- من الناس، تولينا الله والله تولانا، وأحببنا الله والله أحبنا إن شاء الله، فنحن إذا ضاقت بنا السبل مددنا أكفنا بين يدي علام الغيوب، فاتصلنا به مباشرة {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186] إذاً هذه الأمة ربانية، أمة خرجت من الصحراء؛ لكنها اتصلت برب الأرض والسماء، فأجلسها على الجوزاء.(377/9)
ثالثاً: أن قدوتنا محمد عليه الصلاة والسلام
هل سمعت بقوم مثلنا قدوتهم محمد صلى الله عليه وسلم؟!
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
هل سمعت بقوم قدوتهم محمد عليه الصلاة والسلام يضلون، أو يُخذَلون، أو يتراجعون؟! لا.(377/10)
رابعاً: أننا أمة وسطية
ولسنا متطرفين، فنحن لا نغلو ولا نجفو، بل نعرف كيف نتعامل مع الشريعة، ونعي صروحها، ونؤسسها في الناس، لا نغلو فنصبح مثل الذين غلوا في فعلهم فغضب الله عليهم، ولا نجفو فنصبح مثل الذين تمردوا على معالم الدين.
بل ننطلق من منطلقات الإسلام الصحيح، ومن شاء فليحاور شباب الصحوة وعلماءها ودعاتها.(377/11)
خامساً: أننا أمة معطاءة
رجاء شقيق عارض رمحه إن بني عمك فيهم رماحُ
معطاءة دائماً، يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {أمتي كالسيل، لا يُدرَى الخير في أوله أو في آخره} لم تعقم أرحام نسائنا، ولم تقف الأمهات عن إنجاب العظماء، فلا زال يلد فينا الزعماء الأبرار، والعلماء الأخيار، والأدباء، والشهداء، والصديقون، والدعاة، والصالحون، فنحن دائماً سوف نقدم:
ثمنُ المجد دمٌ جُدنا به فاسألوا كيف دفعنا الثمنا(377/12)
سادساً: أننا أمة الخلافة
الله جعل هذه الأمة خليفة في الأرض، تتولى الخلافة، وتقود العالم، وتوجه البشرية من وسط الدنيا، من أم القرى مكة من الجزيرة، ومن حولها من العالم الإسلامي، فالخلافة لهذه الأمة التي تحمل (لا إله إلا الله).(377/13)
سابعاً: هذه الأمة وارثة
وما معنى وارثة؟ أي: أنها سوف ترث العالم إن شاء الله، وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أنها سوف تتبوأ منزلتها، وتحكم بعقيدتها وشريعتها، ويُطوِّق الأرض عقلُها، ويحكم الكون برها وسلامها وخيرها وفضلها، فأبشروا! الغد لكم، والفجر لكم، والمنتظر لكم.
يا أمة المجد قومي مزقي الحُجُبا وأعلني في ليالي دهرك الشهبا
أتذكرين صلاح الدين سفسطة من غير بذل صلاح الدين قد ذهبا
قبر العظيم إذا ما زاره ذنبٌ رغا وأزبد لا حييت يا ذنَبا
لو أخبروا عمر الفاروق نسبتهم وأسمعوه الرزايا أنكر النسبا
أبواب أجدادنا منحوتة ذهباً وذي هياكلنا قد أصبحت خشبا
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنَّا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأُسْد تزأر في غاباتها غضبا
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جُنُبا
عباد الله: صلوا على معلمنا صلى الله عليه وسلم، وأكثروا عليه من الصلاة والسلام في هذا اليوم، فإن صلاتكم معروضة عليه، فصلى الله عليه وسلَّم تسليماً أبداً ما دامت الليل والنهار جزاء ما قدم وما أنتج وأعطى للأمة، وارضَ اللهم عن أصحابه الأطهار من المهاجرين والأنصار، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.(377/14)
كيف فرضت الصلاة؟
الصلاة الركن الثاني من أركان الإسلام، وهنا بيان لكيفية فرض الصلاة على أمة محمد صلى الله عليه وسلم مع عرض لكثير من المسائل التي تخص الصلاة ومتعلقاتها، كصلاة المسافر، والضحى، والوتر وتحية المسجد وغيرها.
إضافة إلى ترجمة بسيطة لصحابيين جليلين هما أبو ذر الغفاري، وسلمة بن الأكوع.(378/1)
وقفات مع أبي ذر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
نستأنف كتاب الصلاة مع الإمام البخاري، حيث يستهل كتاب الصلاة بتبويب رائع، حيث يقول: باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء.
ثم يقول: وقال ابن عباس رضي الله عنهما: حدثني أبو سفيان في حديث هرقل فقال: {يأمرنا -يعني: النبي صلى الله عليه وسلم- بالصلاة والصدق والعفاف}.
ثم ساق حديث أنس، قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {فُرج عن سقف بيتي وأنا بـ مكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم، ثم جاء بطستٍ من ذهبٍ ممتلئ حكمةً وإيماناً، فأفرغه في صدري ثم أطبقه، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا} الحديث.
هذا أول حديثٍ في كتاب الصلاة يأتي به الإمام البخاري ويستهل به هذا الكتاب العظيم، وفي هذا الكتاب مسائل، وقد تعودنا أن نعيش مع صحابي يكون راوياً أو يذكر في الحديث لنروح به مجلسنا، وقد يتكرر في الترجمة أو سيرة الصحابي شيء ولا بأس بذلك، فحياة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم هي الحياة:
أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره كما المسك ما كررته يتضوع
وأبو ذر هو صاحبنا هذه الليلة، ونحن أصحابه، ونسأل الله أن يحشرنا في زمرته وزمرة أمثاله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.(378/2)
وصية النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر
أبو ذر إذا ذكرته ذكرت الزهد، والعبادة، والإنصاف، والتضحية، والعدل، وكلمة الحق.
يقول: {أوصاني صلى الله عليه وسلم بسبع، ذكر منها: وعلى قول الحق ولو كان مراً، وذكر منها: وأن أُكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله}.
فما معنى أن يكثر أبو ذر من لا حول ولا قوة إلا بالله؟ ذكر صلى الله عليه وسلم أبا ذر بهذه الوصية وقال له: {أكثر من لا حول ولا قوة إلا بالله} لأنه كان سريع الغضب، وفيه حدة، يندفع ولا يتمالك أعصابه رضي الله عنه، فأوصاه صلى الله عليه وسلم أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله.
أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء حديثاً فيه ضعف قال: {يُحشر أبو ذر مع عيسى عليه السلام يوم القيامة} لجهده ولعبادته ولما فيه من كلمة حقٍ كان يقولها، عرف الإسلام -كما تعرفون- ودخل مكة، والتمس مكان الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما رآه قال: السلام عليكم ورحمة الله يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذه تحية المسلمين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فتبسم صلى الله عليه وسلم، والعرب كانت تحيي بعضها بقولها: " عم صباحاً " يقول امرؤ القيس:
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وهل يعمن من كان في العُصُر الخالي
فقال صلى الله عليه وسلم: {لقد أبدلني الله تحيةً خيراً من تحيتك السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته} ودخل في دين الله، وجعله صلى الله عليه وسلم من أقرب أصحابه إلى قلبه.(378/3)
زيارة النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر
كان النبي صلى الله عليه وسلم يزوره في بيته في أقصى المدينة، يوم أن يتكبر الجبابرة أن يزوروا متبوعيهم أو بعض تلاميذهم وطلابهم، ينطلق محمد صلى الله عليه وسلم أعظم إنسان عرفته البشرية، وأروع مربٍ عرفته الإنسانية، إلى زيارة هذا التلميذ البار والطالب النجيب أبي ذر رضي الله عنه فيزوره في بيته، بل أعظم من ذلك كان يزور العجوز، ويزور الأطفال صلى الله عليه وسلم.
قال أبو ذر: {وتأخر عني محمد صلى الله عليه وسلم مرة من المرات فلما أتاني التزمني فكان أحسن، أو أطيب} يعني: عانقني، فكانت أطيب من غيرها يعني: أعلى وأروع، واستمر رضي الله عنه وأرضاه مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم مربياً وحكيماً يلحظ المواهب في الناس، فكان يؤهل كل موهبةٍ في مكانها المناسب.
فلم يأتِ بـ خالد بن الوليد ليجعله مفتياً في المسجد، وما لـ أبي سليمان والفتوى؟! وهو يجيد ضرب الرءوس وقطعها، فيجعله صلى الله عليه وسلم في العسكرية، قائداً في الجيش.
وأتى حسان بن ثابت رب القوافي، وصانع الأبيات والقصائد، فلم يأت به صلى الله عليه وسلم ليجعله إماماً في المسجد وما لـ حسان وللإمامة؟! بل جعله شاعر الدعوة الإسلامية، ينصب له المنبر ويقول: {اهجهم وروح القدس معك}.
وأتى زيد بن ثابت فلم يعينه صلى الله عليه وسلم قائداً عسكرياً، بل عينه في الفرائض؛ لأنه يجيد الفرائض.
هذه تخصصات: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] فالله أعلم سبحانه وتعالى كيف يُخدم هذا الدين، ولذلك لا يأت الطبيب ليجعل نفسه مفتياً، ولا يأتِ المفتي ليتطبب، ولا يأتِ الأستاذ الذي يجيد الفقه والحديث ليجعل نفسه مهندساً، ولا يأتِ المهندس ليفتي في الفرائض ويقسم بين أهل الفروض وأهل العصبة؛ ما له ولذلك؟! لكن أين أبو ذر من هذه المواهب وهذه الميزات؟
ميزته في الزهد والانقطاع والخلوة عن الناس، ولذلك بيَّن صلى الله عليه وسلم هذا لـ أبي ذر.
قال أبو ذر للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! أمّرت فلاناً وفلاناً، وتركتني}.
أول الدعوة يظن أن الأمر بالأغلبية أو أن المسألة مسألة اغتنام، فعلمه صلى الله عليه وسلم أن المسألة ليست هكذا، وقال له: {يا أبا ذر! إني أحب لك ما أحب لنفسي، وإنك رجلٌ ضعيف، وإن الإمارة خيبة وندامة يوم القيامة إلا من أدى حق الله فيها} فمنعه صلى الله عليه وسلم أن يتأمَّر، بل أوصاه أن إذا بلغ التقدم الحضاري في المدينة إلى جبل سلع أن يخرج من المدينة، فقال له صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: {إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة} فبلغ البناء سلعاً فخرج من المدينة رضي الله عنه إلى الربذة حيث صفاء الصحراء الذي يناسب صفاء أبي ذر رضي الله عنه، حيث إن أبا ذر لا يعرف الدجل ولا التدليس ولا النفاق رضي الله عنه وأرضاه.(378/4)
موقف أبي ذر في تبوك
وفي تبوك يتقدم صلى الله عليه وسلم إلى منزله في تبوك فيتفقد الجيش؛ قال: {من تخلف؟ قالوا: فلان، قال: إن يرد الله به خيراً يأتِ به} وإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يفقد أبا ذر، فيقول: {أين أبو ذر؟ قالوا: تخلف يا رسول الله! قال: إن يرد الله به خيراً يأتِ به، وما هي إلا لحظات وإذا بـ أبي ذر كالصقر من آخر الصحراء في وهج الشمس، وفي حرارة الصحراء التي تتوقد، يقتلع خطاه من على الرمال، فيقول صلى الله عليه وسلم: من هذا؟ قالوا: ما ندري يا رسول الله! قال: كن أبا ذر -كن أيها المقترب الحبيب أبا ذر - فيقترب رويداً رويداً فإذا هو أبو ذر، فيقول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: رحم الله أبا ذر يعيش وحده، ويموت وحده، ويبعث وحده} فيقدم رضي الله عنه وأرضاه.
فلما توفي صلى الله عليه وسلم خرج أبو ذر من المدينة بطهره وزهده وعبادته، ونصب خيمة في الصحراء يعبد الله ويناجيه ويتلو كتابه، وأتته الوفاة فمات وحده، ثم أدركته عصابة من المؤمنين على رأسهم معلم العراق وداعية الإسلام فيها ابن مسعود رضي الله عنه فدفنوه فعاش في آخر حياته وحده في الصحراء، ومات وحده، ويبعث يوم القيامة أمة وحده، حسناته تزاحمه بجانبيه فلا يطرق مزاحماً معه رضي الله عنه وأرضاه، هذا هو أبو ذر الغفاري رضي الله عنه وأرضاه حينما يُذكر يذكر معه الزهد والعبادة والعزلة والانقطاع عن هرج الناس وخلطتهم وكلامهم.(378/5)
حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم وتغسيله بماء زمزم
قال صلى الله عليه وسلم: {فرج عن سقف بيتي وأنا بـ مكة، فنزل جبريل ففرج صدري، ثم غسله بماء زمزم} الرسول عليه الصلاة والسلام شُقَّ صدره في حياته مرتين عليه أفضل الصلاة والسلام، مرة وهو طفل في بادية بني سعد، ومرة حيث بلغ من الكبر عتياً حيث خولَّه الله حمل الرسالة إلى أدائها إلى العالمين.(378/6)
حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم الأولى
المرة الأولى ذكرت في صحيح مسلم، وإذا عرض الحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم فلا يتعقب.
يروي صلى الله عليه وسلم أنه كان غلاماً فيما يقارب الثامنة من عمره، خرج يرعى البْهم مع أخيه من الرضاعة، وأمهما من الرضاعة هي حليمة السعدية، وأخواله بنو سعد، وذهب صلى الله عليه وسلم فلما أصبح مع زميله وأخيه في الصحراء وإذا بملكين من السماء ينزلان لباسهما البياض، فيأخذان الرسول صلى الله عليه وسلم فيضجعانه في الأرض، فلما أصبح مضطجعاً على الأرض على قفاه، شقَّا عن صدره الكريم صلى الله عليه وسلم، وأخرجا المرارة السوداء التي هي في كل إنسانٍ منَّا، حيث يجتمع فيها الحسد والحقد والغش والغضب، أما هو صلى الله عليه وسلم فأخرج من صدره كل هذا الغل، والغش، والحقد، والحسد، وبقي صدره سليماً، ثم أتوا بطستٍ مملوء حكمة وإيمانا فأفرغوه في صدره الشريف، أما أخوه فذهب إلى بيت أمه خائفاً وجلاً وهو يرتعد ويقول: يا أماه! أخي محمد قد قتل، أتى رجلان من السماء فقتلاه وهو مقتول في وادي كذا وكذا، فتذهب أمه وأبوه -وهما خائفان- إلى ذلك المكان، فيجدانه صلى الله عليه وسلم قد قام وهو ممتقع اللون متغير، فقالوا: ما لك؟ قال: جاء رجلان من السماء أضجعاني وأخرجا شيئاً من قلبي، ثم أفاضا في قلبي شيئاً، لذلك يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1] قال بعض أهل العلم: هذا هو الشرح، وقيل: شرحنا لك صدرك: وسعناه وجعلناه واسعاً رحباً، جعلناه ممتلئاً حكمةً وإيماناً فلا تهتم، ولا تحزن، ولا تغتم.(378/7)
فضل ماء زمزم
قال ابن حجر: والصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم شق صدره مرتين.
قال: {ثم غسله بماء زمزم} ولماء زمزم ميزة، يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح الذي رواه أحمد والبيهقي وغيرهما: {ماء زمزم لما شرب له} قال بعض أهل العلم: إن شربته للمال أغناك الله، وإن شربته للعلم علمك الله، وإن شربته للشفاء شافاك الله، لكن لا بد من النية والإخلاص والصدق في شرب ماء زمزم، أما إن كان يأتي يتعبط ويلعب ويستهزئ، ويقول: أشرب وأجرب هل أغتني وأعود وأنا من التجار الأثرياء، فهذا لا يحصل على شيء لأنه مستهزئ، إنما يحصل على هذا الخير من يشربه صادقاً، قال حجاج بن منهال فيما يرويه عن ابن المبارك: شرب ابن المبارك من ماء زمزم ثم أخذ حفنة وقال: اللهم إن فلاناً حدثني عن فلان عن فلان عن رسولك صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ماء زمزم لما شرب له} اللهم إني أشربه لظمأ ذاك اليوم، فشربه، رضي الله عنه وأرضاه.
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ماء زمزم شفاء سقمٍ وطعام طعم} يشفي السقيم بإذن الله، ويشبع الجائع، ولذلك لمَّا دخل أبو ذر مكة ما كان له مضيف، فتستر بأستار الكعبة أربعين يوماً، ما كان يأكل إلا من ماء زمزم، فسمن حتى تكسرت عكن بطنه من السمن، هذا من ماء زمزم، وليس لماءٍ على وجه الأرض ميزة أنه يشبع إلا ماء زمزم.
ولذلك ابن هبيرة -جازاه الله بما صنع- كانوا يأتون له بماء زمزم فلا يشربه ويشرب الماء الآخر، ويقول: هذا ماء الخنافس، فدعا عليه بعض أهل العلم، قال: اللهم إن كان محقاً في كلامه فأنت أعلم به، وإن كان مبطلاً فأسألك أن تعذبه في الدنيا وفي الآخرة، فأخذ وقطعت يده اليمنى وهو أمير، وعوقب في العراق ثم قطعت رجله اليسرى ثم عذب حتى مات.
ولا يمتاز إلا بهذه الميزة فيجوز أن يتوضأ منه ويغتسل منه، ولو كان على الإنسان نجاسة فإنه يتوضأ من ماء زمزم ويغتسل منه خلافاً لقول بعضهم قال علي رضي الله عنه في أول مسنده في مسند أحمد: {أتى صلى الله عليه وسلم إلى زمزم فشرب من ماء زمزم وتوضأ عليه الصلاة والسلام} وهو من حديث أسامة كذلك، وكان المسلمون يريدون أن يكسبوا عليه الصلاة والسلام بالإهداء له، فورد في السيرة الحلبية أنه كان ينقل له ماء زمزم هدية، فيشربه صلى الله عليه وسلم ولذلك عُظم ماء زمزم في هذا الموضع، فقال: {ثم غسله -أي: صدره- بماء زمزم، ثم جاء بطستٍ من ذهب}.(378/8)
حادثة شق الصدر الثانية
أماالمرةالثانية فهذه المرة التي شق فيه اصدره عليه الصلاة والسلام بعد النبوة، قال أنس: {كنا نرى أثر المخيط في صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم} ولذلك كان صدره رحباً واسعاً، فما كان يأتيه الغضب إلا في حدود الله إذا انتهكت، فكان كثيراً ما يحلم، بل هو صلى الله عليه وسلم رسول الحلم والكرم والعظمة، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].(378/9)
قصة الإسراء والمعراج
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {ثم أخذ بيدي فعرج بي} في قوله: أخذ بيدي، فيها الأنس والصحبة، وفيها الملاطفة للأصحاب، وإذا أردت أن تلاطف صاحبك أو صديقك فخذ بيده، وقد كان عليه الصلاة والسلام يأخذ بأيدي أصحابه إذا أراد أن يلاطفهم ويوانسهم، يقول معاذ رضي الله عنه كما في سنن أبي داود: {أخذ صلى الله عليه وسلم بيدي ثم قال: يا معاذ! والله إني لأحبك، لا تدع في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} ويقول ابن عمر كما في صحيح البخاري: {أخذ صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} فمن الملاطفة أن تؤانس صاحبك بأخذ يده في يدك ليتم الأنس، قال جرير بن عبد الله البجلي: {كان صلى الله عليه وسلم إذا رآني تبسم في وجهي، وكان ربما ضرب في صدري صلى الله عليه وسلم} حتى لما أرسله صلى الله عليه وسلم يهدم الأصنام قال: {يا رسول الله! أنا لا أثبت على الخيل} لأن جرير بن عبد الله البجلي من قبائل الجنوب وهم لا يعرفون الخيل بل يعرفون الإبل فقط، والأرض لا تناسب معيشة الخيول في هذه الجبال، فليسوا بأهل خيول، فلما أرسل صلى الله عليه وسلم جرير بن عبد الله قائد جيش معه خمسمائة فارس، قال: {اركب الخيل، قال: يا رسول الله! أنا لا أثبت على الخيل -يعني: إذا ركب هرب به- فقال صلى الله عليه وسلم: تعال، فلما قرب منه ضرب في صدره وقال: اللهم ثبته واجعله هادياً مهدياً} فما سقط مرة ثانية من على الخيل، فجعله الله هادياً مهدياً، وانتصر مع المسلمين، وهو شيخ قبيلة بجيلة التي يقول فيها الشاعر لما فرت يوم القادسية:
لولا جرير هلكت بجيلة نعم الفتى وبئست القبيلة
بل نعم الفتى ونعمت القبيلة رضي الله عنهم وأرضاهم.
فمن الملاطفة الأخذ بالأيدي.(378/10)
المكان الذي ابتدئ الإسراء فيه
قال: {ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا فلما جئت إلى السماء الدنيا}.
هذه قصة الإسراء والمعراج حيث يقول سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء:1].
و
السؤال
كيف يقول سبحانه وتعالى: من المسجد الحرام، وقد أسري به من بيت أم هانئ كما يقول أهل السير؟ والصحيح أنه أسري به عليه الصلاة والسلام من الحرم، فقد خرج من بيت أم هانئ أو من بيته، ثم دخل الحرم فأسري به من الحرم صلى الله عليه وسلم.
وسبب الإسراء أن الرسول صلى الله عليه وسلم طرده أهل مكة وأهل الطائف وكذبوه فعاد في وادي نخلة يناجي ربه في ليلة ظلماء ليس معه إلا الله، وليس له مؤنس إلا الله، فلما رفع أكفَّ الضراعة أدخله الله الحرم فطاف فيه، ثم أذن له بالإسراء والمعراج.
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتدم أعظم بمثلك من هادٍ ومؤتم
لما خطرت به التفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلمِ
حتى بلغت مكاناً لا يطار له على جناحٍ ولا يسعى على قدمِ
وقيل كل نبيٍ عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلمِ
ووصل صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس في ليلة مظلمة، ودخل في عجلة، وربط الفرس هو وجبريل عند الباب، ثم صلى ركعتين، قال أهل العلم: إن الأنبياء صلوا معه صلى الله عليه وسلم وكان هو الإمام في تلك الليلة.(378/11)
النبي يُعرج به إلى السماء الدنيا
ثم عرج به صلى الله عليه وسلم، فلما أتيا إلى السماء الدنيا طرق الباب، وهذا فيه حكمة مشروعية الاستئذان، وأن الداخل الأجنبي لا يجوز له الدخول إلا بعد أن يطرق الباب أو يستأذن، وهذا أصله في كتاب الله عز وجل وفي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما طرق جبريل عليه السلام الباب قالوا: من معك؟ وهذا فيه فائدة أخرى: أن أهل البيت لا يفتحون حتى يستفسروا من الداخل؛ لأنه قد يكون عدواً أو مجرماً، أو غير ذلك فلهم أن يقولوا: من؟ ومن السنة أن يقول الطارق أو المستأذن: أنا فلان بن فلان، ولا يقول: أنا فقط؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يعلم أصحابه ذلك، ولذلك يقول جابر: {طرقت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: من؟ فقلت: أنا، قال: أنا أنا، كأنه كرهها صلى الله عليه وسلم} يقول ابن الجوزي: محتمل في كراهيته صلى الله عليه وسلم أمران: الأمر الأول: كراهيته لأنا أنا، وكأنه يقول: أنا الرجل المشهور الذي لا يحتاج إلى تعريف، وهذا عجبٌ ومدح وغرور، والأمر الثاني: أن فيه إبهاماً على أهل البيت؛ لأنه ما علمهم باسمه، فكان عليه الصلاة والسلام يطلب من أصحابه أن يعلم أحدهم باسمه، أو بكنيته، يقول أنس: {استأذن رجلٌ على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: من؟ قال: أنا، أأدخل؟ فقال صلى الله عليه وسلم لمولاه: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان قل له: قل: السلام عليكم أأدخل؟ فعلمه فقال: السلام عليكم، أأدخل؟ قال: ادخل}.(378/12)
موقف قريش من قصة الإسراء
وبعد أن وصل صلى الله عليه وسلم السماء السابعة وتجاوزها إلى سدرة المنتهى وكلمه الله، وفرض عليه الصلوات الخمس، عاد إلى الدنيا في تلك الليلة، وأصبح في الصباح، ونزل إلى الحرم، وجمع الكفار وأخبرهم أنه أسري به تلك الليلة، كان معه في أول القصة أبو جهل قال: أصدق أسري بك؟ قال: نعم، قال: إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس، ثم عرج بي إلى السماء السابعة، فضحك أبو جهل وقال: اصبر حتى أجمع كفار قريش، أي: يسمعوا هذا الخبر، وهو لا يريد أن يفيدهم، لكنه يريد أن يستهزئ ويضحك، فجاءوا ورئيسهم آنذاك الوليد بن المغيرة وقد يكسو الكعبة سنة، وتكسوها قريش سنة.
فلما جلسوا تكلم صلى الله عليه وسلم، فقال الوليد بن المغيرة: يا محمد! إننا نصل بيت المقدس في شهر، ونعود منه في شهر، فكيف وصلت أنت في جزءٍ من ليلة إلى بيت المقدس ثم إلى السماء السابعة ثم عدت في نفس الليلة؟!! فإن كان لك من العلامات فأخبرنا بها، فقال صلى الله عليه وسلم: وماذا تريدون من علامات؟ قالوا: صف لنا بيت المقدس نحن نعرف أبوابه ونوافذه وأسياجه ومداخله ومخارجه والرسول عليه الصلاة والسلام ما تسنى له أن يقف على عدد أبوابه وأسياجه ومداخله ومخارجه، فأخذه من الكرب ما الله به عليم حتى تغشاه العرق، ولما وقف نكس صلى الله عليه وسلم رأسه ثم رفع وإذا بصورة بيت المقدس أمامه، فأخذ يصفه باباً باباً ونافذة نافذة ومخرجاً مخرجاً ومدخلاً مدخلاً {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] ورفع الوليد بن المغيرة قشة من الأرض، وقال: والله ما زاد على ما وصفت لنا كهذه، فآمن بعضهم وكفر بعضهم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: وهل أزيدكم؟ وسوف تقدم عليكم غداً قافلتكم في أولها الجمل الأورق عليه غرارتان، أي: كيسان، وسوف يقدم رعاتكم الذين رعوا في وادي كذا وكذا، فمررت بهم أنا وجبريل وقد كسرت رجل ناقة من نوقهم، قالوا: ننتظر، وفي الصباح صعدوا على شرفات بيوتهم وانتظروا وإذا بالقافلة داخلة وفي أولها الجمل الأورق عليه غرارتان، وأتى الرعاة فقالوا: أحدث عليكم شيء؟ قالوا: ما حدث شيء إلا أن ناقة فلان كسر رجلها، وصدق الله إذ يقول: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15].
وعاد صلى الله عليه وسلم وأخبرهم بهذا فكفروا وعتوا عن أمر ربهم: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} [الحجر:14 - 15].
قال عليه الصلاة والسلام: {قال جبريل لخازن السماء: افتح.
قال: من هذا؟ قال: هذا جبريل قال: هل معك أحد؟ قال: نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا: أُرسل إليه؟ قال جبريل: نعم أرسل إليه} فالناس والملائكة والجن والإنس يتحرون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فوصل عليه الصلاة والسلام قال: {وإذا أنا برجلٍ في السماء الأولى وهو آدم عليه السلام، إذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل يساره بكى، فقلت: من هذا يا جبريل؟ قال: هذا آدم، إذا نظر عن يمينه رأى هؤلاء الخلق إلى أهل الجنة فضحك استئناساً وفرحاً وسرورا، وإذا نظر إلى ميسرته من أهل النار بكى، فسلَّم عليه صلى الله عليه وسلم وعرَّف به جبريل، فقال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح} ثم عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى الثانية والثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، حيث وجد عليه الصلاة والسلام ابنا الخالة يحيى وعيسى قيل: في الثانية أو في الثالثة، فسلم عليهم صلى الله عليه وسلم وحيوا مقدمه وباركوا رسالته، ووجد إدريس في الرابعة {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57] فسلَّم عليه صلى الله عليه وسلم، ووجد هارون في الخامسة فسلَّم عليه ورحب به، وأما في السادسة فوجد موسى الكليم فلما سلَّم عليه صلى الله عليه وسلم قال صلى الله عليه وسلم: {من هذا يا أخي يا جبريل؟ قال: هذا موسى عليه السلام} والرسول صلى الله عليه وسلم يصف الأنبياء، رآه لحظات لكن أخذ أوصافه- قال: {أما موسى فكأنه من رجال أزدشنوءة} وهي من قبائل جبال الجنوب من جبل الطائف إلى هذا الجبل جبل آسيا، يعني: في السمرة وفي الجعد وفي القوة؛ لأنه وصف بأنه القوي الأمين وأعطاه الله الشجاعة عليه السلام، فما صلح لبني إسرائيل ولا دوخ رءوسهم، ولا أذهب الوسوسة من رءوسهم إلا هو، ولذلك إذا غاب عنهم أو ذهب عبدوا العجل، أو لخبطوا في العبادة أو قالوا أو تكلموا، فإذا دخل عليهم خافوا، وهو لا يعرف عليه السلام المداهنة معهم، بل كان قوياً حازماً معهم فكانوا يخافون منه، وهو الذي قتل نفساً ونجاه الله من الغم وتاب عليه، وهو الذي رفع الصخرة وتعرفون قوة الصخرة، وهو الذي شهد أكبر صراع في التاريخ مع فرعون، وانتصر عليه بإذن الله.
ثم واصل صلى الله عليه وسلم فلما عرج به إلى السادسة بكى موسى فقال صلى الله عليه وسلم لجبريل: {ما لموسى يبكي؟ قال: يقول: نبيٌ بعث من بعدي يدخل الجنة من قومه أكثر مما يدخل الجنة من أمته} يقول ابن تيمية في فتاويه: هذا من التنافس المحمود، فإن موسى لم يبكِ حسداً، ولا حقداً، وإنما بكى تنافساً يريد أن تكون لأمته من المرتبة كما لأمة محمد عليه الصلاة والسلام.
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدمِ
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأممِ
ثم عرج بالرسول صلى الله عليه وسلم إلى السابعة، وهناك وجد أفضل الأنبياء بعده صلى الله عليه وسلم وهو إبراهيم فسلم عليه، وقال: {مرحباً بالنبي الصالح، والابن الصالح} وإبراهيم أبو الأنبياء والرسول صلى الله عليه وسلم من أبنائه.
وإذا هو مسند ظهره إلى البيت المعمور، وهذا البيت يطوف به كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه، أي لا يأتي دورهم مرة أخرى.(378/13)
وصول النبي صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى
وواصل صلى الله عليه وسلم رحلته؛ أما جبريل عليه السلام فتوقف، فقال صلى الله عليه وسلم: معي؟ قال: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات:164] ومقام جبريل عليه السلام ذاك المقام لا يتجاوزه، فصعد صلى الله عليه وسلم {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:14 - 16].
قيل للرسول صلى الله عليه وسلم: ما هو الذي يغشى السدرة؟ قال: {ألوان لا أعرفها الآن} ثم كلمه الله عز وجل وفرض عليه خمسين صلاة، والصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير ربه لما أسري به أو عرج به إلى السماء، والذين قالوا: إنه رأى ربه خالفوا النصوص، والمسألة خلافية لكن الصحيح مع الذين قالوا: لم يره، فقد قال موسى عليه السلام لربه: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] يعني: في الدنيا، والمعتزلة قالوا: لا في الدنيا ولا في الآخرة، وقالوا: لن هنا للتأبيد وكذبوا قال ابن مالك:
ومن رأى النفي بلن مؤبدا فقوله اردد وسواه فاعضدا
أي: اردد قول من قال: إن النفي بلن مؤبد، فهي ليست إلا في الدنيا، وأما في الآخرة فإن الله يراه المؤمنون كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة.
وقد سئل صلى الله عليه وسلم: {هل رأيت ربك؟ قال: نورٌ أنَّى أراه} أي: ما رأيته، وقالت عائشة لما قال الأسود بن يزيد: [[هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ قالت: لقد قف شعري مما قلت -قف شعر رأسه أي: انتفش، واستقام أو تحرك من ثقل هذه الكلمة- من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم الفرية على الله]].
فهو لم ير ربه، والذين قالوا: إنه رأى ربه، مثل ابن عباس فقد ورد عنه أنه قال ذلك كما في صحيح مسلم ولكن الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه وقال: {نورٌ أنَّى أراه}.(378/14)
فرض الصلوات الخمس
أما الصلاة ففرضت عليه خمسين صلاة كما تعرفون، فلما عاد أخبر موسى عليه السلام -جزاه الله عن أمة محمد خير الجزاء- فقال: إني جربت بني إسرائيل وإنهم اختلفوا عليَّ وشقَّ عليهم ذلك، وقد أوتوا من الفرائض أقل مما كتب عليك فراجع ربك، فراجع ربه، فوضع عنه شطراً، قيل: الشطر ليس النصف، إنما تقدير محدد وعدد معين، فراجعه مرة ثانية فوضع عنه، فراجعه مرة ثالثة فوضع عنه، حتى أقرها سبحانه وتعالى خمساً، قال: {لا يبدل القول لدي هي خمسون في الأجر وخمس في الفرضية} أو كما قال سبحانه وتعالى، وهو في هذا الحديث، فكل فريضة بعشر فرائض، والحسنة بعشرة أمثالها، وعاد صلى الله عليه وسلم.(378/15)
لا صلاة مفروضة غير الصلوات الخمس
والسؤال هنا: هل فرض على الأمة شيء غير الصلوات الخمس؟ فالوتر هل هو فريضة أو واجب؟ وسنة الضحى، وتحية المسجد، والصلوات الطارئة كالعيدين، والكسوف، والخسوف، وغيرها مما ورد في السنة.
الصحيح أن ما فرض عليه صلى الله عليه وسلم إنما هي خمس صلوات، ولذلك ما سوى هذه إما سنة مؤكدة، وإما سنة وإما مندوبٌ يُعمل بها من باب النفل المطلق الذي يتنفل به الإنسان ليتزود به الحسنات عند الله.
فالصلوات الخمس هي المفروضة في الكتاب والسنة، قال ابن عباس رضي الله عنه: [[أنا أستخرج الصلوات الخمس من القرآن]] ولا يغوص عليها إلا غواص -يقول عن نفسه- قال في قوله سبحانه وتعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم:17 - 18] فذكر الله عز وجل صلاة الفجر في القرآن، وصلاة الظهر، والعصر على قول من يرى أن القسم في سورة العصر يقصد به الفريضة لا الدهر.
وقد أتى رجل من أهل نجد ليؤكد أنه لم يفرض على الرسول صلى الله عليه وسلم إلا خمس صلوات، كما في حديث طلحة بن عبيد الله يقول: {كنا جلوساً مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأقبل رجلٌ من أهل نجد ثائر الرأس، نسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول -يعني: يتمتم في الكلام- فدنا من الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا هو يسأل عن الصلاة، فقال له صلى الله عليه وسلم: خمس صلواتٍ في اليوم والليلة، قال: هل عليَّ غيرها؟ قال: لا.
إلا أن تطوع} فليس غيرها بواجب إذن.(378/16)
صلاة الوتر سنة مؤكدة
أما الذين قالوا: إن الوتر واجب فليس بصحيح، بل هو سنة مؤكدة، ما تركه صلى الله عليه وسلم في حضرٍ ولا سفر، وكان إذا ترك الوتر صلى الله عليه وسلم صلاه من النهار شفعاً لا وتراً، وعند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقضي الوتر كهيئته في النهار} لكن هذا الحديث لا يقاوم حديث مسلم عن عائشة: {كان صلى الله عليه وسلم لا يزيد في رمضان ولا في غير رمضان على إحدى عشر ركعة، فإذا فاته الوتر من الليل صلى من النهار ثنتي عشر ركعة} فدل ذلك على أن الوتر لا يقضى على هيئته وتراً، وإنما يقضى شفعاً، من كان وتره ثلاثاً فليصل أربعاً، ومن كان وتره خمساً فليصل ست ركعات هذا هديه صلى الله عليه وسلم في الوتر، أما ركعتا الفجر فما تركها لا في سفر ولا حضر، فالنوافل كلها تترك في السفر إلا الوتر وركعتي الفجر، ولك أن تصلي الضحى في السفر.
والأحناف ذهبوا إلى أن الوتر واجب، ولكنه ليس بواجب للأدلة هذه ولأنه خالف الفريضة في أحكامه، فإنه يجوز أن يوتر المسلم على الدابة وفي السيارة ولا يجوز أن يصلي الفريضة كذلك إلا للضرورة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوتر على دابته، وأوتر الصحابة، فلو كان الوتر فريضة لما أوتروا على دوابهم، ولنزلوا وصلوا على الأرض.
هذه هي الصلوات الخمس التي فرضت عليه صلى الله عليه وسلم، أما في السفر فركعتان كما قال عمر رضي الله عنه: {صلاة السفر ركعتان تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم} هذه هي الصلوات الخمس التي فرضت عليه صلى الله عليه وسلم.
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم كما يقول ابن القيم: أن يصلي في اليوم والليلة أربعين ركعة، ما بين فريضة ونافلة، قال ابن القيم: ومن قرع الباب كل يوم أربعين مرةً فيوشك أن يفتح له، فكان عليه الصلاة والسلام يصلي أربعين ركعة ما بين الفريضة والنافلة، منها إحدى عشرة ركعة وتراً، ومنها اثنا عشرة ركعة سنناً رواتب، ومنها الفريضة سبع عشرة ركعة، هي في زاد المعاد، هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة.(378/17)
حكم صلاة الضحى
أما الضحى فالصحيح أنها سنة مطلقة، للإنسان أن يصليها كما يشاء، ركعتين وأربعاً، وستاً، وثمانياً، ويزيد ما شاء الله، فالرسول صلى الله عليه وسلم أوصى أبا ذر وأبا هريرة في الصحيح أن يصلوا ركعتين، قال أبو ذر وقال أبو هريرة والحديث لـ أبي هريرة في المسند وفي صحيح مسلم: {أوصاني صلى الله عليه وسلم بثلاث وقال: لا أدعهن حتى أموت: ركعتي الضحى، وصيام ثلاث أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام}.
وعند أبي داود في الصحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما دخل يوم الفتح صلى ثمان ركعات} قال أهل العلم: هذه صلاة الضحى، فللمسلم أن يصلي ركعتين وأربعاً وستاً وثمانياً، لكن المقصود أن يصلي الإنسان شيئاً ويداوم عليه، فقد ينشط الإنسان أن يصلي في بعض الأيام أربعين ركعة، ثم يفتح الله عليه، ويسهل فيداوم ثلاثة أشهر أو أربعة أو سنة، لأن المقصود بالإسلام هو القصد والمداومة، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين من حديث أبي هريرة وحديث أبي ذر: {يصبح على كل سلامى من الناس صدقة؛ فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وكل تهليلة صدقة، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ويجزي عن ذلك ركعتان يركعهما أحدكم من الضحى}.
وبعض الناس أوجب الضحى، ولكن هذا قولٌ شاذ خالف إجماع الأمة على أن ركعتي الضحى ليست بواجبة، وقائل هذا ما عند أثارة من علم ولا دليل.(378/18)
حكم تحية المسجد
أما تحية المسجد فالصحيح أنها سنة مؤكدة، وأن المسلم لا يجلس حتى يصلي ركعتين، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام للداخل في الجمعة: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} وقال صلى الله عليه وسلم للداخل لما دخل: {أصليت ركعتين -وهو يخطب بالمسلمين-؟ قال: لا.
قال: قم فصل ركعتين}.
وهل تصلى بعد العصر أو بعد الفجر؟ الصحيح أنها تصلى، وأنها من ذوات الأسباب التي تصلى في مثل هذا الوقت، وبعض الناس من الفقهاء يقولون: لا يُصلى في هذا الوقت، ولكن الصحيح أنها تصلى في مثل هذا الوقت لأنها من ذوات الأسباب.(378/19)
أقوال الناس في رؤية الله عز وجل
قال النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك: {ثم عرج بي بعد ذلك حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام} قد ذكرنا أن الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، وأنه ما رآه في الدنيا ولا رآه أحد من الناس، وهذه عقيدة قالها كثير من أهل السنة والجماعة، وموسى عليه السلام إنما وجهه الله على مستحيل؛ لأن الرؤية ممتنعة في الدنيا، والناس في الرؤية ثلاثة أقسام:
قومٌ قالوا: يرى في الدنيا والآخرة وقد كذبوا، وقومٌ قالوا: لا يُرى في الدنيا ولا في الآخرة وقد كذبوا.
وقومٌ قالوا: يرى في الآخرة ولا يُرى في الدنيا وهم أهل السنة والجماعة.(378/20)
قول الصوفية في رؤية الله
فأما الذين قالوا: يرى في الدنيا والآخرة فهم غلاة الصوفية، يقولون: يُرى في الدنيا والآخرة، ولذلك يجلس أحدهم ثلاثة أيام لا يأكل ولا يشرب فيتخيل أشباحاً وصوراً أمام عينيه فيقول: رأيت ربي، وكلمني قال الذهبي: والله ما كلمك، ولا أوحى إليك، ولكن طاش عقلك وفاش من الجوع، يعني: لعب الشيطان بعقولهم فقالوا: رأينا الله، ولذلك لما خالفوا منهج ما الرسول صلى الله عليه وسلم ابتلوا بهذه الخرافات، وإذا رأى أحدهم طيراً في السماء قال: هذا الملك أتى يخبرني، وإذا سمع صريراً بالليل قال: هذه كرامة من كرامات الأولياء.(378/21)
قول المعتزلة في رؤية الله عز وجل
وأما المعتزلة فقالوا: لا يُرى في الدنيا والآخرة وخالفوا النصوص، قال سبحانه وتعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] فهذا خلاف {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22 - 23] وهي وجوه أهل السنة وأهل التسامح وأهل الخير والثناء، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، فنفى المعتزلة أن يُرى سبحانه وتعالى.(378/22)
قول أهل السنة والجماعة
وأما أهل السنة فقالوا: يرى في الآخرة ولا يرى في الدنيا، وأما يوم المزيد فهذا موقف الفصل، ففي الجنة خصص الله سبحانه يوم المزيد، والصحيح أنه يوم الجمعة، فيدعو سبحانه وتعالى، عباده فيدنو سبحانه وتعالى فيري عباده وجهه الكريم، وأما في العرصات فإن الله سبحانه وتعالى يراه المؤمنون كما في حديث جرير بن عبد الله، يقول: {نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر قال: إنكم سترون ربكم كما ترون القمر لا تضارون في رؤيته -وفي لفظ: لا تضامون-} تضارون: تألمون وتتألمون، وتضامون: أي تتزاحمون.
فعقيدة أهل السنة والجماعة: أن الصالحين يرون الله عز وجل في العرصات، وفي الجنة من باب أولى، أما المعتزلة فقالوا: لا في العرصات، ولا في الجنة.
قال عليه الصلاة والسلام: {فمررت على موسى عليه السلام قال: ما فرض الله لك على أمتك؟ قال: فرض خمسين صلاة، قال: فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك، فراجعني فوضع شطرها فرجعت إلى موسى قلت: وضع شطرها، فقال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك} قال أهل العلم: جزى الله موسى عن أمة محمدٍ خير الجزاء فإنه أحسن عليه السلام في طلب المعذرة والتخفيف عن الأمة المحمدية، ومقصود البخاري من باب كيف فرضت الصلاة أن يبين متى فرضت وفي أي مكانٍ فرضت، وكم عدد ركعاتها، وقد رتب كتابه ترتيباً عجيباً، ولذلك يقول ابن رجب: استفتح البخاري هذا الكتاب بباب: (كيف فرضت الصلاة في الإسراء) ليبين أن أول ما يتكلم في الموضوع أو في الباب لا بد أن يبين فرضية هذا الباب وهي الصلاة.(378/23)
مسائل في صلاة السفر
ثم قال البخاري رحمه الله: وعن عائشة أم المؤمنين قالت: {فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر فأقرت صلاة السفر وزيد في صلاة الحضر} هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة السفر ألا يزيد على ركعتين إذا كانت الصلاة رباعية، ولم يؤثر عنه صلى الله عليه وسلم أنه أتم في السفر فجعلها أربعاً، وإنما كان يصلي المغرب ثلاثاً، ويصلي الرباعية ركعتين، وكان يوتر ويصلي ركعتي الفجر، وأما الذين ذهبوا إلى الإكمال فليس لهم حديثٌ صحيح، وحديث الدارقطني عن عائشة أنها قالت: {يتم ويقصر صلى الله عليه وسلم ويصوم ويفطر} ليس بصحيح، ولكن هديه صلى الله عليه وسلم أن يقصر في السفر، وأما الصيام فباب آخر.(378/24)
السفر يقدر عرفاً
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما هي مدة السفر الزمنية؟ وما هي المسافة للسفر.
هل تقدر بالأميال والكيلو مترات؟
الصحيح -كما يقول ابن تيمية رحمه الله- أنها لا تقدر بالأميال، وأن من قدر المسافة المكانية بالأميال فقد أخطأ وليس له دليل، وأن ما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقصر في ثلاثة أميال، أو في ثلاثة فراسخ، أو في كذا فرسخ فليس بوارد؛ لأن ما فعله صلى الله عليه وسلم اتفاقاً لا يكون دليلاً على التحديد للمسافة، يعني: لا يطلق على كل سفر، والصحيح: أن ما يسمى سفراً في اللغة فنقصر فيه، وإذا تعارف الناس أن هذا سفر قصرنا فيه، فإذا تعارف الناس أنك إذا كنت تريد الطائف أنك مسافر ولم ينكروا عليك إذا قلت: إنك ستسافر إلى الطائف فهذا سفرٌ في العرف وفي اللغة فتقصر فيه، ومثله إلى جدة، وإلى الرياض، أما إذا قلت: أسافر إلى السودة فإن هذا ليس بسفر، وينكر عليك الناس استخدام هذه الكلمة أو أسافر إلى الخميس هذا ليس بوارد، فالصحيح أن السفر لا يقيد بمسافة من الأميال ولا بالكيلو مترات؛ بل ما سمي سفراً عند المسلمين وفي عرفهم، فتقصر فيه الصلاة، ويجوز لك أن تقصر من وقت انطلاقك من بيتك، أو من ركوبك سيارتك، إذا أدركتك الفريضة وأنت على جناح سفر، هذا هو هديه صلى الله عليه وسلم في السفر.(378/25)
مسألة الجمع في السفر
وأما مسألة الجمع في السفر، فكان هديه صلى الله عليه وسلم أنه يجمع بين الصلاتين إذا جدَّ به السير وكان على جناح سفر جمع بين الصلاتين، بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، أما إذا نزل صلى الله عليه وسلم منزلاً في أثناء السفر فإنه ما كان يجمع، كان يصلي كل صلاة وحدها، مثلاً: إنسان يريد أن يسافر إلى الطائف، فلما ارتحل من هنا أدركه الظهر والعصر وهو راكب في السيارة فله أن يقدم العصر مع الظهر فيصليهما جمع تقديم، أو يؤخر الظهر مع العصر فيصليهما جمع تأخير قصراً وجمعاً، ولا يصلي الظهر قصراً ثم يمشي قليلاً ثم يصلي العصر قصراً، لا.
الأفضل أن يجمع بين الصلاتين إما تقديماً وإما تأخيراً قصراً وجمعاً، وأما إن نزل يوماً أو يومين مثلاً في الباحة وجلس هناك، فالأفضل أن يصلي المغرب في وقتها، ويصلي العشاء قصراً في وقتها ويصلي الفجر قصراً في وقتها، ويصلي العصر في وقتها؛ لأنه مسافر لكنه نازل، وأما المسافر الذي على جناح السفر، فإنه يقصر ويجمع.(378/26)
صلاة المسافر إماماً أو مؤتماً
وإذا صلى المسافر وراء المقيم فإنه يصلي بصلاة المقيم ويتم صلاته، وله أن يتنفل إذا صلى وراء مقيم أو يترك النافلة، فإن النافلة لا تصلى في السفر.
وهنا مسألة: إذا صلى إماماً وهو مسافر والمصلون مقيمون؟
وإن صلَّى هو إماماً بالناس فإنه يصلي القصر ويقول للناس: أتموا صلاتكم؛ فإني في سفر كما فعل عليه الصلاة والسلام في أهل مكة فإنه صلى بهم ثم قال: {أتموا صلاتكم فإنَّا قوم سفر} هذا في السفر.(378/27)
حكم الوتر والرواتب في السفر
كان صلى الله عليه وسلم يؤخر الوتر في السفر إلى آخر الليل كما كان يصلي ركعتي الضحى، قال ابن تيمية: وللمسلم أن يتنفل ما شاء في بقية الأوقات، لكنه لا يتنفل السنة الراتبة ولا يصليها في السفر؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصل السنة الراتبة وقيل لـ ابن عمر رضي الله عنه: [[ألا تتنفل؟ قال: لو كنت مسبحاً لأتممت]] أي: لو كنت متنفلاً لأتممت صلاتي وهذه من فتاويه رضي الله عنه وأرضاه.(378/28)
الجمع بين الصلوات أفضل وأولى
وليس بواجب على الإنسان أنه إذا جد به السير أو نزل في منزل أنه يصلي كل صلاة وحدها بل له أن يجمع، لكن الأفضل كما قال ابن تيمية -في مجلد كامل عن القصر والجمع في السفر، وأثبت في الأخير- أن الأولى والمعروف من هديه صلى الله عليه وسلم: أنه إذا كان على جناح سفر وجدَّ به السير يصلي الصلاتين جمعاً وقصراً، وإذا نزل منزلاً يصلي كل صلاة وحدها.(378/29)
بداية قصر الصلاة للمسافر
أما متى يبدأ المسافر بالقصر في الصلاة، وهل هو من حين ينوي السفر وهو ما زال عند أهله، أم من بعد الخروج من الديار؟
والجواب على ذلك أنه إذا كان المسافر نوى السفر وهو ما زال مع أهله فليس له أن يقصر، وإذا خرج فله أن يقصر، فقد كان الصحابة إذا ركبوا دوابهم، ثم فارقوا شيئاً من بيوتهم قصروا وأفطروا، فهذا معلوم إلا إن الإمام مالكاً يقول: حتى يفارق عمران البلدة، ولكن هذا ليس عليه حديث صحيح، بل سن الله سبحانه وتعالى للمسافر، ولو كان في البلدة وقد خرج من بيته عازماً على السفر أن يقصر؛ لأن المقصود وسر المسألة موجود وهو السفر، والعلة ليست في المشقة، وبعض الناس إذا سافر يقول: أنا لا أجد مشقة في الطائرة وأنا راكب، فيظن أن هذا من باب الحساب والزيادة عند الله عز وجل، والله عز وجل إنما جعله تخفيفاً للأمة، وجعله سبحانه وتعالى لحكمة أرادها، وهو رخصة، فعليك أن تقبل رخصة الله التي أهداها لك، وهذا هو هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس في القصر ولا في الفطر مسألة مشقة، إنما المسألة رخصة وهدية أهداها لنا سبحانه وتعالى.(378/30)
كيفية الصلاة في الطائرة للمسافر
وأما إذا كان المسلم في الطائرة وأتى وقت الفريضة وهو غير مستقبل للقبلة، فالأولى له في هذه الحالة أن يستقبل القبلة، يعني: أن يجتهد اجتهاداً حتى يعرف القبلة ثم يصلي، كأن يسأل أحداً أو تكون عنده بوصلة، أو يتحرى {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:16] ثم يصلي؛ لأنه لا يجوز أن يصلي الفريضة لغير القبلة، أما النافلة فلك أن تستقبل القبلة بداية التكبير، ثم تنحرف حيث اتجهت بك الطائرة أو السيارة أو الدابة، أما الفريضة فلا بد من استقبال القبلة فيها، فيستقبل ويتحرى حتى يظن أو يكون عنده غالب ظن أن هذه وجهة القبلة، ولا يشترط أن يصيب عين الكعبة لكن جهة الكعبة، {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة:144].(378/31)
حكم من صلى جمعاً وقصراً ووصل قبل دخول وقت الثانية
هناك سؤال ورد عند أهل العلم أن رجلاً حضر بلده وقت صلاة العصر، فهل عليه أن يصلي العصر مرة ثانية وقد صلاها جمعاً مع الظهر؟
الجواب
لأهل العلم في ذلك روايتان:
فمنهم من قال: يقاس على حديث الذي صلى الفجر في بيته ثم أتى والناس يصلون فالرسول صلى الله عليه وسلم في سنن أبي داود قال للأسود بن يزيد: {صلِّ فإنها لك نافلة} وقال لـ أبي ذر في صحيح مسلم: {إذا صليت وأتيت والناس يصلون فصلِّ ولا تقل: إني صليت} وتحتسب له نافلة.
ومنهم من قال: يكتفي بتلك الفريضة التي صلاها في السفر ولا يصلي، والأحوط والأحسن له أن يصلي مع الناس ويحتسبها نافلة.(378/32)
الأذان والإمامة في السفر
أما في السفر فإنه يؤذن للصلاتين إذا جمعهما وقصرهما أذاناً واحداً ويقيم إقامتين، وهذا هديه صلى الله عليه وسلم، ومن ترك الأذان والإقامة في السفر فلا عليه، لكن هذه هي السنة، يقول الإمام أحمد كما في المغني للحنابلة: أمر الأذان سهل، يعني: أنه ليس بذاك التي تتوقف عليه الصلاة.
أما الأذان والإقامة على المرأة فليست عليها لقوله صلى الله عليه وسلم كما في سنن البيهقي بسندٍ صحيح: {ليس على المرأة أذان ولا إقامة}.(378/33)
قضاء صلاة السفر في الحضر
وهنا مسألة: من أتى البلدة وقد خرج وقت الصلاة ولم يكن قد صلاها قصراً في سفره فعليه أن يصليها قضاءً لصلاة السفر يعني: قصراً، وإن أتى والوقت لا زال قائماً فيصليها إتماماً؛ لأنه وصل في وقتها؛ لأنها تعتبر صلاة حضر.(378/34)
بعض مخالفات الناس في الصلاة(378/35)
الزيادة في الأوراد التي في الصلاة
كثير من الناس خاصة العوام لا يعرفون ماذا يقولون في صلاتهم، فيزيدون في بعض السنن وفي بعض الفرائض وبعض المنقولات والمقولات، وينقصون في بعض المأثورات عنه صلى الله عليه وسلم.
يقول الإمام: استووا فيقولون: استوينا واستعنا بالله، من أين أتت؟ من رءوسهم، وهذه صلاة تعبدية، يقول صلى الله عليه وسلم: {من أحدث من أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وبعضهم يقول: استوينا توجهنا إلى الله الحي القيوم، فإذا قال: الله أكبر قالوا: الله أكبر كبيرا، فزادوا كبيرا، فإذا قال: الحمد لله رب العالمين، قالوا: الحمد لله رب العالمين، فإذا قال: الرحمن الرحيم، قالوا: سبحانه، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قالوا: استعنا بالله، وهذه بدعة ما أنزل الله بها من سلطان، وأهم شيء في الصلاة والحج والعمرة والصيام الأذكار؛ لأنها وردت من الشارع الحكيم صلى الله عليه وسلم فلا يزاد فيها، خاصة الصلاة، وليس هناك حل إلا أن طلبة العلم يخبرون الناس بهذه الأمور ويعلمونهم السنة، والعجيب أن الكثير من الناس يحفظ من الأحاديث الموضوعة عشرات لكن إذا أتى إلى أحاديث صحيحة لا يحفظها.(378/36)
الجهر بالنية
ومن البدع في الصلوات أن بعض الناس إذا جاء يصلي قال: نويت أن أصلي العصر لله أربع ركعات، ونويت أن أصلي المغرب ثلاث ركعات، وهذا خالف المنقول والمعقول، فأما المنقول فلم يرد ذلك عنه صلى الله عليه وسلم فهو مبتدع، وأما المعقول فإنه ما أتى من بيته، ولا توضأ، ولا دخل المسجد إلا يريد أن يصلي العصر، وهو سبحانه وتعالى قد علم، فهذه ليست بواردة، بل هي بدعة.
ومن البدع في الصلاة كذلك تكرار الفاتحة، فإن بعض الناس يقرءون الفاتحة كثيراً من الوسوسة ويكررها متعمداً، فهذا مبتدع جاهل، فنسأل الله أن يعافيه.(378/37)
كتب تصف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم
وعلى من لم يعرف صفة صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، أن يقرأ وصفها في ثلاثة كتب: كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد فإنه من أحسن ما كتب العلماء في هديه صلى الله عليه وسلم في العبادات، وكتيب للشيخ عبد العزيز بن باز سهلٌ وميسر، وكتاب للشيخ محمد ناصر الدين الألباني، هذه الثلاثة من قرأها فقد عرف الصورة الكاملة للمسنونات والمبتدعات التي تقع في الصلوات، فلننشر هذه الكتب بين الناس.(378/38)
ترجمة سلمة بن الأكوع
قال الإمام البخاري: باب وجوب الصلاة في الثياب، وقول الله تعالى: {خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] ومن صلى ملتحفاً في ثوبٍ واحد.
ويذكر عن سلمة بن الأكوع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يزره ولو بشوكة} وفي إسناده نظر.(378/39)
كان سلمة من أسرع الصحابة في الجري
سلمة بن الأكوع رضي الله عنه وأرضاه أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأحد العدائين بل هو أسبق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإطلاق، روى عنه أهل السير أنه كان يصيد الغزلان والأرانب لسرعته بيده، فما كان يسبقه أحد، بل كان يسبق الخيل، تنطلق الفرس ثم ينطلق سلمة بن الأكوع فيسبقها بنفسه رضي الله عنه وأرضاه.
وفي السيرة أن أعرابياً جاء يسابق فقال: من يسابق؟ فقال سلمة: فاستحييت لعظمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال الأعرابي: أقول من يسابق؟ قال: ائذن لي يا رسول الله أن أسابقه، فتسابقا وكان سلمة على الأرض والأعرابي على فرس، فمضى أمام الناس حتى ارتفع نقع الغبار بينهما، وحجز بين الرؤية وبين الناس فانكشف الغبار، وإذا بـ سلمة قد سبق الأعرابي بزمنٍ طويل وبمسافة مديدة.(378/40)
سلمة يأسر خمسة من المشركين
يقول سلمة: جلست يوم الحديبية وقد توزعنا تحت شجر، قال: فلما توزعنا نمت تحت شجرة، وإذا بخمسة من الكفار جلسوا بجانبي ووقعوا في عرض الرسول صلى الله عليه وسلم في الشتيمة، يشتمونه وكان معهم سلاح، قال: فتركتهم حتى ناموا وقد علقوا سلاحهم في الشجرة وما يعرفون من أنا.
قال: فلما علقوا سلاحهم قمت عليهم وجمعت سيوفهم بيدي اليسرى ثم سللت سيفي باليد اليمنى، قال: ثم أوقفتهم واحداً واحداً وليس عندهم سلاح، قلت: والذي شرف محمداً صلى الله عليه وسلم بالرسالة إما أن تذهبوا معي الآن إليه وإما أن أضرب الذي فيه عيونكم -يعني: رءوسهم- فقاموا معه قال: فأخذت أسوقهم قبلي كما تُساق الماعز، حتى وقفت أمام الرسول صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! ائذن لي أن أضرب أعناق هؤلاء؛ فإنهم شتموك، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: اجلسوا، من أين أتيتم؟ قالوا: نحن ثمامنون رجلاً أتينا ونزلنا من جبل نريد اغتيالك.
فأخبروه قبل أن يستخبرهم وهو صلى الله عليه وسلم لم يدر أنهم ثمانون، ولم يعلم صلى الله عليه وسلم بهذا، فطوق صلى الله عليه وسلم المكان، وأنزل الثمانين وأخذ سلاحهم، قال سبحانه وتعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} [الفتح:24] فلما نزلوا على حكمه صلى الله عليه وسلم عفا عنهم، فسلم الله رسوله والمؤمنين من محاولاتهم وسلمهم من الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين.(378/41)
سلمة بن الأكوع يبايع النبي صلى الله عليه وسلم عدة مرات
قال سلمة بن الأكوع: فقام صلى الله عليه وسلم يبايعنا لماذا؟ لأنه أرسل عثمان إلى مكة ليشهد الخبر، فأتاه أهل مكة وبيتوا عثمان بـ مكة، فحبسوه عن الرسول صلى الله عليه وسلم حتى أتت الشائعات أن عثمان قد قتل، فقال صلى الله عليه وسلم: بايعوني، قيل في رواية: على الموت، فقام سلمة: قال: فكنت آخذ أغصان الشجرة من على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: بايع يا سلمة! فبايعته، فلما انتصف الناس قال: بايع يا سلمة! فبايعته، فلما أتى في آخر الناس قال: بايع يا سلمة! قلت: قد بايعت يا رسول الله! قال: وأيضاً وأيضاً، فبايعته صلى الله عليه وسلم فأنزل الله {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18].
وهو من الذين رضي الله عنهم وأرضاهم، وهو من السباقين إلى كل مكرمة، سبق إلى المسجد بقلبه، وسبق إلى التقوى بروحه، وسبق الناس في ميدان المصارعة برجليه رضي الله عنه وأرضاه.(378/42)
موقف بين الحجاج وسلمة
دخل العراق واعتزل في الصحراء ودخل يوم الجمعة والحجاج يخطب على المنبر فقطع الحجاج خطبته غضبان وقال: أتعربت بعد الهجرة؟ قال سلمة: لقد أذن لي صلى الله عليه وسلم، في البادية، وقد كان الحجاج يؤذي أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم والرجل له حسنات مغمورةٌ في بحر سيئاته، نبغضه ونعتقد أن بغضه من أوثق عرى الإيمان، ولكن علمه عند ربي في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى.
هذا سلمة بن الأكوع صحابي محمد عليه الصلاة والسلام الذي علمه على علمٍ وبصر.
نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وأن يفقهنا في الدين، وأن يلهمنا رشدنا، ويقينا شر أنفسنا، وأن يتولانا في الدارين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.(378/43)
اتقاء الشبهات
إن الله سبحانه وتعالى أنزل هذا الدين وجعله كاملاً قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) [المائدة:3] فبين الله الحلال وجعل له حداً، وبين الحرام وجعل له حداً، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى هذه الشبهات استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع فيها وقع في الحرام.
وفي هذه المادة بيان لهذه الكلمات مع التعرض إلى الأحكام والمسائل التي تدور حولها.(379/1)
شرح حديث: (الحلال بين والحرام بين)
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً
أما بعد:
فيقول الله تبارك وتعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:156 - 157] فالنور الذي أُنزل مع محمد صلى الله عليه وسلم هو الكتاب والسنة، فمن استنار بهما أنار الله طريقه وأنجاه، وأفلح في الدنيا والآخرة، ومن عدل عنهما أو تركهما؛ فقد أعمى الله بصيرته.
يقول ابن تيمية رحمه الله: " أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض ملعونة، وقلب لا يُشرق عليه هذا الدين فهو قلب مغضوب عليه " فإن الله عز وجل إذا غضب على القلوب فلن يوصل إليها هذا النور من الكتاب والسنة، وسجعلها في حجاب لا ترى ولا تسمع، ولا تبصر ولا تفقه، وإذا رضي الله عن قلب حبَّب إليه الكتاب والسنة، فأوصل إشعاع هذا الكتاب وهذه السنة إلى هذا القلب، وإذا غضب الله على أرض ولعنها من الدنيا لم تشرق عليها شمس الرسالة.
فشمس الرسالة -أيها المسلمون- هي الكتاب والسنة! فمن استنار بنورهما اهتدى وقاده الله سبحانه وتعالى إلى جنات عرضها السماوات والأرض نسأل الله أن يجعلنا وإياكم ممن يستضيء بنورهما، ويتمسك بحبلهما، وممن يمشي على طريقهما، إنه على كل شيء قدير.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الحلال بيِّن، والحرام بيِّن وبينهما مشتبهات، لا يعلمُها كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى يُوشكُ أن يُواقعهُ، ألا وإنَّ لكل ملكٍ حمىً، ألا إن حِمى الله في أرضه محارمه، ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدتْ فسدَ الجسدُ كلُّه ألا وهي القلب}.(379/2)
ترجمة النعمان بن بشير
النعمان بن بشير: هو أحد شباب محمد صلى الله عليه وسلم من الأنصار، ربَّاهم صلى الله عليه وسلم على سمع وبصر، فكانوا خير أمة أخرجت للناس، وكان يكفي المسلم أن يجلس مع الرسول صلى الله عليه وسلم ساعةً واحدة، فيُغير حياته ظهراً لبطن، وينقله من الجاهلية والوثنية إلى الإسلام.
ولذلك كان يأتي الأعداء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يريدون قتله، فيجلس الواحد منهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم ساعة، فتتحول حياته فإذا هو من أهدى عباد الله، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب الناس إليه، بل أحب إليه من أهله وماله ونفسه.
هذا الشاب حفظ الكثير، ويكفيه فخراً أنه حفظ هذا الحديث للأمة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قَسَّم طوائف الأمة إلى ثلاث طوائف بحسب الدين والعلم والهدى:
فطائفة قبلت هذا الهدى الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم فعلَّمته أنفسها، وعلَّمته الناس.
وطائفة استفادت هي من نفسها وهي طائفة خيرة مباركة.
والثالثة: طائفة ما استفادت ولا أفادت ولا رفعت بهذا الدين رأساً وهي طائفة مغضوب عليها.
فهذا من الذين رفع الله رءوسهم وبلَّغوا هذه الشريعة.
يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: {بلغوا عني ولو آية} ويقول: {نضَّر الله امرأً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها؛ فرب مُبلَّغ أوعى من سامع} فالذي يبلغ عن الرسول صلى الله عليه وسلم آية أو حديثاً هو من الذين رفع الله رءوسهم، وأيقظ قلوبهم، وأحيا أرواحهم.
فأوصي نفسي وإياكم بهذا الدين، ونشره في المجالس مع الأحبة والزملاء في أماكن العمل والوظائف والمدارس لينتشر، ولتكونوا من المشاركين لمحمد صلى الله عليه وسلم في دعوته، وترفعوا علم دينه.
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
فعليه أفضل الصلاة والسلام.(379/3)
فوائد من حديث: الحلال بيِّن والحرام بيِّن
قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الحلال بيِّن والحرام بيِّن} أي: أن الله بين في كتابه: الحلال والحرام، فكل شيء واضح للأمة؛ فالحلال نعرفه من المطاعم والمشارب، ومن الذبائح والصيد، ومما ينكح المسلم ويتسَّرى، فهذا بيِّن.
والحرام كذلك بيِّن، من المحرمات التي نهى الله عنها في الأقوال والأعمال والأحوال والكلام والصفات، فحرَّم الله سبحانه وتعالى الشرك: وهو أكبر ذنب عُصي الله به في تاريخ الإنسان، وهو أكبر ظلمٍ على وجه الأرض، وحرم الزنا، وشهادة الزور، وهذه الأمور كلها حرام، وهي بينه ولا تحتاج إلى كثرة تفصيل.
-وأمَّا المشبهات- وفي لفظ للبخاري عن أبي موسى (المشتبهات) -فهذه التي قال عنها أهل العلم: إنها تعارضت فيها النصوص، لا يُدرى هل هي حلال أو حرام؟ أو التي لم يرد نص فيها، فلا يعلم الإنسان هل هي حلال أو حرام؟ فالورع كل الورع أن تتقيها وأن تتركها وأمثلتها كثيرة، وقد مثَّل لها بعض أهل العلم في هذا العصر بهذه الأطياب التي انتشرت عند الناس، وفعل بعض الأمور التي دخلت على المسلمين ولم يكن فيها نصوص، فإذا اشتبهت عليك ولم تعرف ما هو النص، ولم يفتك عالم فيها، فالورع كل الورع أن تتركها؛ لتتقي وتستبرئ لعرضك ودينك.
والاستبراء للعرض والدين مأخوذ من البراءة أي: تتنظف من سمعة السوء ومن أن يُقدح في عرضك ودينك؛ لأن من قرب من حمى الله يوشك أن يقع فيه.
ومن الاستبراء للعرض ما فعله صلى الله عليه وسلم مع صفية بنت حيي وهي زوجته صلى الله عليه وسلم، فقد أتت تزوره وهو معتكف في المسجد، فكلمته وكلَّمها صلى الله عليه وسلم في الليل، فلما أرادت أن تنصرف ودَّعها ومضى معها مشيعاً، وهو قائم معها في باب المسجد، فمر رجلان من الأنصار، فلما رأى الأنصاريان المرأة مع الرسول صلى الله عليه وسلم استعجلا في سيرهما، فقال صلى الله عليه وسلم: {على رسلكما إنها صفية أي: لا تشكوا -قالوا: غفر الله لك يا رسول الله! - أي: هل نشك في أطهر من خلق الله؟ وأبر من خلق الله؟ وأحلم وأتقى وأخشى لله ممن خلق الله؟ -قال صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يجري من الإنسان مجرى الدم}؛ ولذلك نهى أهل العلم أن يقف الإنسان موقف التهم ولو كان أبرأ من أي بريء، ولو كان أطهر من ماء المزن، فلا يليق به أن يقف في مواقف التهم، مثل: سوق يجتمع فيه النساء، أو مكان فيه شبه أو مجلس فيه ريبة فلا تجلس فيه ولو أنك طاهر مُطَّهر، لأن هذا يقع في عرضك ودينك، ثم لا يصدقك بعدها الناس أبداً.
قد قيل ما قيل إن صدقاً وإن كذباً فما اعتذارك من قول إذا قيلا
صحيح أنك ما قصدت! لكن الناس لا يبرئون الإنسان، وقد تُلِحق به السمعة والتهمة فتلصق به حتى يلقى الله، ولذلك يقول عقبة بن الحارث: {أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله! أنا أرضعت عقبة بن الحارث وأرضعت زوجته -يعني: أنه هو وزوجته أخوان من الرضاعة- فاستدعاه صلى الله عليه وسلم، فقال: فارق زوجتك؟ قال: ولم يا رسول الله؟ قال: تقول فلانة أنها أرضعتك وزوجتك، قال: يا رسول الله! ما صدقت.
قال صلى الله عليه وسلم: كيف وقد قيل؟} كيف وقد وقع هذا الكلام؟ مادام أنه وقع هذا الكلام وانتشر؛ ففارقها، رواه البخاري.
ولذلك فإن من أكبر ما يحافظ عليه المسلم هو ألا يتزيا بزي يُخالف الإسلام، فإنه مهما بلغ من تقوى ومن ورع فإن الناس يتهمونه، والاستبراء للدين وللعرض يمنعك أن توقف نفسك في مواقف الريبة والتهم نسأل الله العافية.
والإنسان يعرف بجليسه، فبعض الناس فيه خير وتقوى وهدى واستقامة ومروءة؛ لكنه يجالس الأنذال، فيعرف بمجالسته لهم، فيوقع في دينه وعرضه تهمة وثلمة لا تُسد، ووصمة لا ترفع إلا بالتوبة وبالرجوع إلى أهل الخير، ولذلك يقول الشاعر:
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه فكل قرين بالمقارن يقتدي
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يعلمها كثير من الناس} أي: أن الذي يعلم الحلال والحرام ويعلم (المشبهات) القليل القلة، ودائماً القليل معهم الخير، يقول الله عز وجل: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116].
وقد أسلفنا أن عمر رضي الله عنه وأرضاه خرج إلى السوق فسمع أعرابياً يقول: اللهم إني أسألك أن تجعلني من عبادك القليل، فانتهره عمر، وقال: ما هذا الدعاء الذي ما سمعنا به؟
قال: يا أمير المؤمنين! أما يقول الله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13]؟
فقال عمر: [[كل الناس أفقه منك يا عمر]].
وهذا تواضع منه رضي الله عنه، فالقليل معهم الخير، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {لا يعلمها كثير من الناس} أي: لا يعلمون هذه الأمور المشتبهات؛ لأنها لا تظهر لهم؛ إما لتعارض النصوص، أو لعدم ورود النص في هذه المسألة، أو اختلاف أهل العلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه} أي: أن من ترك هذه الشبهات فقد برأ الله عرضه ودينه، ويقول أهل العلم: اجعل بينك وبين الحرام حاجزاً، وإن لم تجعل حاجزاً فسوف تقع لا محالة في الحرام نسأل الله العافية.
ومن استرسل في كثرة المباحات، وكثرة اللباس، والمطاعم، والمراكب، يوشك أن يقع في الحرام؛ لأن ذلك يستدعيه لكثرة الدخل، ثم يقع في التعامل بالربا، وقد يأخذ عملاً إضافياً، ثم يقع في الكذب والزور والانتدابات، وبعدها يوقعه في الحرام:
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل
فهو أول مسئول عن نفسه؛ لأنه أوقع نفسه في كثرة المباحات.
ثم قال صلى الله عليه وسلم: {ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام} أي: أنه يقع في الحرام.
ثم مثَّل صلى الله عليه وسلم: {كالراعي يرعى حول الحمى} أي: هناك رجل معه غنم يرعى حول حمى لأحد ملوك الدنيا؛ لأن من عادة ملوك الدنيا أن يحموا لهم محامي، فيجعلون لهم حمى ويمنع أن يمر به هذا، ومن مر في هذا واقترب منه ضربت عنقه وسجن وجلد، فالله عز وجل مثله صلى الله عليه وسلم بأن له حمى وهي المحارم، ممنوع أن يستبيحها الإنسان أو أن يقترب منها.
فهذا الراعي كلما أصبح الصباح أخذ غنمه ثم اقترب من مرعى الملك، ليس معه مرعى إلا هناك، ضاقت به الدنيا، كالأعرابي الذي ضاقت به الدنيا إلا أن يبول بمسجده صلى الله عليه وسلم.
فدائماً يرعى حول الشبك وحول حائط هذا الملك، كلما أصبح الصباح يطردونه فيعود، فهذا لا يأمن أن تدخل شاة من غنمه، أو قطيع منها فترعى فيقع في الحرام، فيجلد ظهره، ويضرب عنقه، ويسجن حتى أبد الآبدين، هذا في الدنيا.
أما عند الله عز وجل فوضع الله المحرمات في دائرة، ووضع المباحات عز وجل، فإنه ما حرم شيئاً إلا أباح شيئاً، فمن أكثر من المباحات واقترب دائماً من الحرام يوشك أن يقع ولو مرة من المرات.
فيقول صلى الله عليه وسلم: {ألا وإن لكل ملك حمى! ألا وإن حمى الله في أرضه محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب}.
كل صلاح في الظاهر وكل صلاح في الباطن، وكل صلاح في الأقوال والأعمال والصفات والأحوال مصدره القلب، إذا رأيت الإنسان صلح في أمرٍ وكلامه صحيح وطيب، فاعرف أن قلبه طيب.
حتى الصلاة إذا رأيت الإنسان يخشع في صلاته فاعرف أن قلبه خاشع.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم دائماً يُركز على القلوب، وقد قرأت في بعض الكتب أن بعض الحكماء -والحكمة ضالة المؤمن يأخذها أنى وجدها إذا وافقت أصول وقواعد الدين- يقول أحد الحكماء من الهنود: " الذي ينتصر على نفسه أعظم من الذي يفتح مدينة " فالانتصار على النفس وتربية القلب هو المقصود، ولذلك يكثر بعض الناس من العبادات لكن قلبه خراب؛ لأنه لم يعتن بتربية قلبه، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ألا وإن في الجسد مضغة} والسبب أنه يقول: مضغة! كأنه يقول: العجيب أن هذا القلب صغير، وعليه مدار الأعمال، وعليه ترد الأقوال؛ فمن صغره الواجب أن نهتم به، والمضغة: هي اللقمة -المتوسطة- التي يمضغها الإنسان ويأكلها، فيقول صلى الله عليه وسلم: {إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت -هذه المضغة التي هي القلب- فسد الجسد كله}.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا من أتعب جسمه في انتقاء الملابس والمطاعم والمشارب ودمرت روحك! لقد أخطأت العمار، هنا الدمار ليس العمار.
ولذلك ينظر الله إلى القلوب، ونظر الناس إلى الأجسام، يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم} وفي لفظ هناك: {إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم؛ ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم} فالقلب والعمل هو موطن نظر الرب تبارك وتعالى.
قال ابن حجر: إنما سمي القلب قلباً لأنه مقلوب على رأسه في جوف الإنسان.
وقيل: لسرعة تقلبه.
قال سفيان الثوري: [[قلبي يتقلب عليَّ في اليوم خمسين مرة]] أي: تريد من نفسك -دائماً- أن تعتزل فيأتيك بمكان الشبهات، تريد أن تعبد الله فيأتيك بالرياء، تريد أن تختفي فيأتيك بحب الظهور، تريد الإنطواء والعزلة فيأتيك بالشبهة والوسوسة، فدائماً القلب يتقلب، وإنما سمي القلب قلباً لتقلبه.(379/4)
وفد عبد القيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ثم قال البخاري رحمه الله: وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: {إن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم، قال: من القوم؟ قالوا: ربيعة -هم من قبائل ربيعة؛ لأن العرب: ربيعة ومضر، أو أكثر من ذلك هم عدنان وقحطان- قال: مرحباً بالقوم -أو الوفد- غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله! إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كفار مُضر، فمرنا بأمر فصل، نخبر به من وراءنا وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة، فأمرهم بأربع ونهاههم عن أربع: أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم، ونهاهم عن أربع: عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت، وربما قال: المقير، وقال: احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم}.(379/5)
التعارف وحكمه
هذا حديث جميل وعظيم وهو من أجل الأحاديث في الإسلام، رواه ابن عباس.
أما وفد عبد القيس فهم من البحرين، التي تسمى الآن: الأحساء، وليست البحرين المعروفة الآن.
أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضمن وفود العرب، فقال: {مرحباً بالقوم} وقبل أن يقول: مرحباً بالقوم، يقول: {من القوم؟} وهذا من حسن الضيافة.
ومن فقه هذا الحديث: أنك تسأل ضيفك إذا دخل بعد أن يجلس ويشرب ويرتاح تقول له: من أنت؟ لا توقفه عند الباب وتأخذ بتلابيبه، وتقول: من أنت؟ وما رقم سيارتك؟ وما رقم تابعيتك؟ ومتى ولدت؟!!
فهذا ليس بوارد عند المسلمين، لكن المقصود أنك تسأله سؤال استئناس، يقول الله عز وجل لموسى عليه السلام: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه:17] الله يعلم أنها عصا، ويعلم من أين أتت العصا! فقال: هي عصاي، وارتاح للخطاب واستأنس، قالوا: ملاطفة الله سبحانه لموسى لأن من أدب الضيافة أن تلاطف الضيف، يقول الأزدي:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
يقول: من عادتي ومن كرمي أنني أُحادِث الضيف وهو يحط رحله عن الجمل أو الفرس، فأقول: كيف حالكم وكيف أصبحتم؟ وهل أتاكم من أمطار ومن خير؟
أما أن يسكت الإنسان ويصمت ويقطب جبينه، فلو ذبح ما في الدنيا ما ارتاح له الضيف، سيضطر للرحيل:
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
وعند الترمذي بسند فيه ضعف: {إذا عرف أحدكم أخاه، فليسأله عن اسمه ونسبه فإنه واصل المودة} أي: أنك إذا عرفت شخصاً تقول له: ما اسمك يا أخي؟ وأين تسكن؟ ومن أي قبيلة؟ ولا مانع أن تسأله عن قبيلته، وليس هذا من التعصب ولا من التمييز العنصري الذي في جنوب أفريقيا، لكن هذا من آداب الإسلام، لأن الله يقول: {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فعندما تعرف القبيلة.
فهذا من التعارف، فكان صلى الله عليه وسلم يسأل الطارق إذا طرق: من أنت؟
يقول جابر: {طرقت على بابه صلى الله عليه وسلم قال: من؟ قلت: أنا.
قال: من؟ قلت أنا، فغضب صلى الله عليه وسلم وفتح الباب، وقال: أنا أنا} أي: كل الناس يقولون: أنا، لكن من أنت؟ والرسول يعلم أنه جابر، لكن ليس من الأدب أن يقول الإنسان: أنا.
قال: ابن الجوزي: وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك لسببين اثنين:
الأول: أن في كلمة (أنا) كبر؛ فكأنه يقول: أنا المشهور المعروف عند الناس، وكأنه علم في رأسه نار، لا يحتاج إلى تعريف.
الثاني: أن فيه إيهاماً على الأهل والأسرة.
فالرسول صلى الله عليه وسلم ينهى أن تتطرق الشبهة والارتياب والتهمة إلى أحد وأن يدخل من هذه المداخل، فسدَّ صلى الله عليه وسلم الذريعة الموصلة إلى هذه الأمور.(379/6)
اختيار عقلاء الناس في الوفود
قال صلى الله عليه وسلم: {من القوم؟ -أو من الوفد؟ -} وجوابهم هنا يختلف عن جواب الأزد، قبائلنا التي مرت معنا، لأنه لما سأل صلى الله عليه وسلم عن أسمائهم قال: {من القوم؟ قالوا: المؤمنون} وهو صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يعرف أنهم مؤمنون، لكن يريد أن يقول: أأزديون أم من ربيعة، أم من مضر أم من غطفان؟ لكنهم قالوا: مؤمنون، فتبسم صلى الله عليه وسلم.
أما القوم: فهم القوم الكثير الذين قامت بهم قوامة الحياة أو مجتمعهم، وأما الوفد: فهم العدد القليل الذين وفدوا وهم خيرة الناس، ولذلك كان العرب من عادتهم أنهم إذا أرسلوا وفداً اختاروا العقلاء الذين يحسنون الكلام والأخذ والعطاء؛ لأن العاقل يحسن التصرف.
روى أهل العلم في ترجمة أبي حنيفة -رحمه الله- أنه دخل عليه رجل، وكان هذا الرجل حسن الزي واللباس -وهذا ينفعنا في التربية، أننا نعتني بظواهرنا، لأن عقول الناس في ظواهرهم، ولذلك يقدرك الناس على قدر لباسك وشارتك، فإذا تكلمت قدَّروك على قدر كلامك- فدخل رجل على أبي حنيفة حسن الزي والحلية، عليه لباس فاره، وعمامة، فكان أبو حنيفة ماداً رجله، ولما رأى هذا الرجل قبض رجله، فجلس الرجل فلم يتكلم، فهابه أبو حنيفة وأخذ يُوقره، فلما طال المجلس قال أبو حنيفة والتفت إلى الرجل: ألك مسألة؟ قال: نعم.
لي مسألة، قال: وما هي؟ قال: متى يفطر الصائم؟ قال: يفطر الصائم إذا غربت الشمس.
قال: فإذا لم تغرب الشمس إلا منتصف الليل فمتى يفطر؟
فقال أبو حنيفة: آن لـ أبي حنيفة أن يمد رجليه كلتيهما، لا يأتي الليل والظلام إلا بغروب الشمس.
فالعرب من عادتهم أنهم كانوا يختارون عقلاءهم.
وقد روى صاحب مروج الذهب أنه لما أتى النعمان بن المنذر يطلب وفود العرب اختاروا عشرة أشخاص، منهم: الشاعر، والخطيب، والعاقل العربي، وأحلم العرب، فأرسلوهم في موكب، قال الراوي: فدل ذلك على أن عادة العرب أنهم يُرسلون خيارهم، فكان وفد عبد القيس من خير وفود العرب.(379/7)
الإكثار من الترحاب بالضيف
قال عليه أفضل الصلاة والسلام: {مرحباً بالقوم}.
وهذا يؤخذ منه: أن من الألفاظ: مرحباً، ومنها: أهلاً وسهلاً، ومنها: حيهلاً بكم، وقال الإمام البخاري في كتاب الأدب المفرد: دخل عدي بن حاتم على عمر فقال: [[حيَّاك الله من معرفة]] والرسول صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- كان يغتسل بعد أن فتح الله عليه مكة وفاطمة تستره بثوب، فدخلت عليه ابنة عمه أم هانئ، قال: من هذه؟ قالوا أوقالت أم هانئ، قال: مرحباً بـ أم هانئ؟ وهو يغتسل صلى الله عليه وسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يرحب بالناس.
يقول عمرو بن العاص: وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآني هش وبش في وجهي؛ وقال: مرحباً حيهلا، أهلاً وسهلاً بك.
فمن ألفاظ التحية أن ترحب وأن تكثر الترحاب، لأنه مما يؤنس الضيف إذا دخل، ولو لم يأتِ هناك قرىً ولا غداء ولا عشاء ولكن يكفي أنك ترحب، ولعل الله أن يسهل، وابن الزبير سأله سائل فقال: ما هو الفرج بعد الشدة؟
قال: أن تعزم الضيف، فيقول: إني صائم.
فقد يكون هذا الضيف صائماً، فأنت ترحب ولا تخسر شيئاً، لا عشرة ولا خمسة، إنما ترحب ترحيباً كبيراً، والله عز وجل: {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً} [الأحزاب:38].
قال: {مرحباً بالقوم -أو بالوفد شك الراوي- غير خزايا ولا ندامى} أما خزايا: فجمع خزيان، أي: أنكم مرحباً بكم، لا تعودون إن شاء الله من عندنا وقد أصابكم خزي أو عار.
وأما الندامى: فجمع نادم، وقال أهل العلم: جمع ندمان وفيه خلاف ولا يهمنا هذا، إنما يقول صلى الله عليه وسلم: لا تخزون في مسيركم ولا يصيبكم وصمة عار ولا ذم ولا تندمون إن شاء الله من قراكم معنا.
قال: {مرحباً بالقوم -أو الوفد- غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله! إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام} هم في الأحساء فقالوا: لا نستطيع أن نأتيك من هناك إلى هنا إلا في الشهر الحرام؛ لأن العرب كانت تتقاتل إلا في الأشهر الحرم فترفع السيف، فقريش ومن معها من العرب كانوا إذا أرادوا أن يقتلوا رجلاً من العرب قد قتل منهم قتيلاً أخروا الشهر الحرام، قالوا: نترك الشهر المحرم إلى صفر ونقتله إن شاء الله؛ فيأتي ويظن أنه في الشهر الحرام، فإذا وصل مكة قتلوه، فإذا سألهم الناس؟
قالوا: لقد أخرناه، قال الله عز وجل: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة:37] ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة:36] فهذه الأربع حدَّدها الله؛ لئلا يقتل العرب بعضهم بعضاً فيها ويؤخرونها، ثم أتى الله بالإسلام فرفع السيف والقتل والدم عن الأمة.
قالوا: {إنَّ بيننا وبينك مُضر} أي: أنهم يقتلوننا.
والرسول صلى الله عليه وسلم كان إما أن يأتيه الوفود جماعة وإما أن يأتوه فرداً فرداً.
بعض الناس يأتيه وحده فيُكلم الرسول صلى الله عليه وسلم ويكلمه، إلا بعض القبائل وهي القبائل العظيمة في العرب فإنها تأتيه جُملة، أو ترسل إليه.
يقول أهل السير: إن السبب في ذلك أن بعض القبائل ترفع رءوسها؛ لأن عندها نخوة وعجباً وكبراً، فما ترى أن ترسل واحداً، وأكبر قبيلة من قبائل العرب هي قبيلة: بني تميم، وهم أكثر قبيلة يقولون: كالذر، فلما أرادوا أن يرسلوا وفداً من وفودهم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ماذا فعلوا: اجتمعوا وهم في البادية وفي الحاضرة، فاجتمعوا عند شيخهم ورئيسهم قيس بن عاصم المنقري حليم العرب، يقول فيه صلى الله عليه وسلم: {أنت سيد أهل الوبر}.
فقالوا: نريد أن نرسل وفداً منا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال قيس بن عاصم: أعطوني أشعر شاعر في بني تميم، فقالوا: الزبرقان بن بدر، قالوا: أعطوني أشجع رجل عندكم؟ قالوا: عطارد بن حاجب بن زرارة، فقال: أعطوني أخطب خطيب؟ فقالوا: عمرو بن الأهتم، قال: وأنا أظن أني أحلم حليم في العرب فقام هو.
فلما اجتمع الوفد فإذا هم سبعة أو ثمانية، فأخذوا حُلَّة من أحسن الحلل، شروها بثمانين ناقة من كسرى أو من حاشيته، وأتوا بهذه الحُلة إلى رسول الله ودخلوا، فاستقبلهم الرسول صلى الله عليه وسلم استقبالاً حافلاً، وجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار.
فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم فاستعرض الوفد! فقال: من هذا؟
قالوا: قيس بن عاصم المنقري، قال صلى الله عليه وسلم: {أنت سيد أهل الوبر، وأنت حليم العرب} ثم أخبروه صلى الله عليه وسلم بالوفد جمعياً.
وفي إحدى المرات قال قيس بن عاصم: {يا رسول الله! رق عظمي -عمره سبعون سنة- ودنا أجلي، وشاب رأسي، فأوصني بوصية جامعة، فقال: يا قيس! إن مع الغنى فقراً، وإن مع القوة ضعفاً، وإن مع العزة ذلة، وإن مع الحياة موتاً، وإن لكل حسنة ثواباً، ولكل سيئة عقاباً، وإن معك كريماً يدفن معك وأنت ميت، وتدفن معه وهو حي وهو عملك، فأقلل منه وأكثر} فبكى قيس بن عاصم.
ثم قال: يا رسول الله! نريد أن نناظرك -والمناظرة عند العرب أي: المغالبة- قبل أن نسلم -قبل أن يُسلموا يريدون أن يروا من الذي يغلب- فقال: بماذا تغالبوني؟ قالوا: عندنا شاعر وخطيب، فنريد أن تظهر لنا شاعرك وخطيبك، فهذه كانت من عادة العرب إذا وفد أناس عند أناس -أي: مثل المصارعة والكرة، فريق وفريق، منتخب ومنتخب- فقال صلى الله عليه وسلم: على الرحب والسعة عليّ بـ حسان بن ثابت وحسان صاحب اختصاص أعطا القوس باريها! فأتى حسان بن ثابت، فقال: ما تريد بأبي أنت وأمي يا رسول الله؟! قال: قدم وفد بني تميم وعندهم شاعرهم، يريد أن يغالبنا فرد عليهم ثم قال: علي بـ ثابت بن قيس بن شماس، خطيب العرب وخطيب الأنصار، كأنه الصواعق، فأتى صلى الله عليه وسلم فقال: كيف أنت؟ قال: يا رسول الله! دعهم لي، فجمع صلى الله عليه وسلم الناس فاجتمعوا حتى أصبحوا على الشرفات وفي المسجد وعلى البيوت وعلى السكك، وقال: ليقم شاعركم، فقام الزبرقان بن بدر، فقال:
نحن الملوك فلا حي يغالبنا منا الملوك وفينا تنصب البيع
فقال قصيدة ما يقارب الخمسين بيتاً، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى حسان فقام حسان وهو لم يعد لها من قبل ولم يكتب ولم يُفكِّر، قال:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم قد بينوا سنناً للناس تتبعُ
يرضى بها كل من كانت سريرته تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا
إلى أن قال في آخرها:
كأنهم في الوغى والموت مكتنع أسد بحلية في أرساغها فدع
فالتفتوا وقد سال العرق من وجوههم، وقالوا: غلب شاعرك شاعرنا! صدقوا، لأن ذاك أعد للشعر من قبل، وهذا إجحاف، وهذا أتى بخمسين، وهذا أتى بما يقارب الثمانين.
فقام خطيبهم عمرو بن الأهتم، وقيل: عطارد بن حاجب فتكلم بكلام من أعجب الكلام! مدح فيه قومه، فقال صلى الله عليه وسلم: قم يا ثابت! فقام ثابت فألقى عليهم كلاماً كالصواعق فدمغهم، فقالوا: غلب شاعرك شاعرنا، وخطيبك خطيبنا، فأسلموا.
فكان صلى الله عليه وسلم يتبسم إلى الناس وينزل الناس منازلهم، ولأنه عليه الصلاة والسلام أمر بلين الجانب ولو أنه قال: ليس عندي مغالبة ولا مفاخرة؛ لرجعوا وتركوا الإسلام، لكن يقول الله عز وجل فيه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(379/8)
معنى الحنتم والنقير والمزفت والدباء
فقالوا: إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من كُفَّار مُضر، فمرنا بأمر فصل، نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة، وسألوه عن الأشربة -لأنهم هم أهل أشربة وقد كثرت النخيل والأعناب في بلادهم، فاضطرتهم أن يسألوا عن الأشربة- فأمرهم صلى الله عليه وسلم بأربع ونهاهم عن أربع -وهذه هي مفاتيح النجاة في الدنيا والآخرة- أمرهم بالإيمان بالله وحده قال: {أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان} هذه الأربع وأما أداء الخمس؛ فإنه لا يدخل في الأربع، لكنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم ألحقه بها لأنهم أهل أموال من المغانم.
{ونهاهم عن أربع: عن الحنتم} الحنتم: هي جرار الخمر، وجرار جمع جرة، ينتبذون فيها، فيضعون فيها التمر والعنب فيتخمر، ثم يسكر، ثم يشربونه، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن هذه الآنية.
نهاهم {عن الدباء} الذي هو القرع، يجوفون ما في داخله فيخرجونه ثم يجعلونه آنية كالصحاف وكالآنية المعروفة فيضعون فيه الزبيب والتمر والعنب فيتخمر فيشربونه.
{والنقير}: هو أصل النخلة، يأخذون أصل النخلة فينقرونه، ثم يضعون فيه هذه السوائل، فتتخمر، ثم يشربونها.
{والمزفت}: هي الآنية من الخشب التي تُطلى بالزيت.
والمقير: هي التي تُطلى بالقار، القار: نوع من أنواع الزفت، فيُطلى به؛ فإذا وضع فيه السائل تخمر، فإذا تخمر شربوه، فيصبح الإنسان كالدابة لا يعرف شيئاً، لأعقله ذاهل، فيقول صلى الله عليه وسلم -هناك زيادة في الحديث- قال: {إنكم تأخذونه، قالوا: يا رسول الله! من أخبرك بالحنتم والنقير والمزفت والمقير؟ قال: أنتم تفعلون ذلك، فتبسموا! قال: فتشربون الخمر، فيعمد أحدكم بسيفه إلى ابن عمه فيضربه} قال وفد عبد القيس: وكان فينا رجل ضربه ابن عمه بالسيف، ورسول الله لم يدرِ، فكان يُغطي بعمامته جبهته أمام الرسول صلى الله عليه وسلم، فنهاهم صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال: {احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم} والصحيح في مسألة الآنية أنها منسوخة؛ كما قال الإمام أحمد أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر العهد لما فقه الناس وفهموا، قال: {اشربوا في كل إناء -غير الذهب والفضة- ولا تشربوا مسكراً} فالمسكر حرام، وأما بعض أهل العلم، فقالوا: الحرمة مستمرة وليس هناك ناسخ، والصحيح: أنها منسوخة، وأن الإنسان المسلم يشرب في كل إناء إلا إناء الفضة والذهب ولا يشرب مسكراً.(379/9)
وفد النابغة الجعدي إلى النبي صلى الله عليه وسلم
ثم عاد البخاري رحمه الله إلى حديث عمر: {إنما الأعمال بالنيات} يرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع العلم أن وفد عبد القيس وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم في السنة التاسعة، وغالب وفود الإسلام -أكثر من عشرة وفود إلى عشرين وفداً- كانوا يأتون جماعات إلى الرسول صلى الله عليه وسلم- في ذاك الوقت، وأما بنو جعدة فأوفدوا رجلاً واحداً هو نابغة بني جعدة، فوفد إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: ما عندك يا نابغة؟ قال: يا رسول الله! عندي كلام مدحتك به ومدحت قومي؟ قال: قل: فذكر تلك المقطوعة التي تقول:
تذكرت والذكرى تهيج على الفتى ومن عادة المحزون أن يتذكرا
ثم مدح قومه، قال:
بلغنا السما مجداً وفخراً وسؤدداً وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قال: {إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة.
فقال صلى الله عليه وسلم: لا فض فوك، فقال: وفوك يا رسول الله!} فعاش مائة وعشرين سنة، وما سقط له ضرس ولا سن، وهذا من بركات دعواته صلى الله عليه وسلم.
وعدد الذين وفدوا على الرسول صلى الله عليه وسلم ما يقارب السبعة أو الثمانية على الانفراد.(379/10)
فوائد من حديث أبي مسعود في احتساب الأجر
وعن أبي مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أنفق الرجل على أهله نفقة يحتسبها فهو له صدقة}.
أي: هذا العمل له صدقة، وفي لفظ: {فهي له صدقة} أي: أنها تُكتب له صدقة، والشاهد الذي يريده البخاري، أي: أنه يحتسبها، فالاحتساب: أن يجعلها عند الله عز وجل أو يريد ثوابها من عند الله.
وفي حديث سعد بن أبي وقاص {إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أُجِرَت عليها؛ حتى ما تضعه في في امرأتك} يعني: في فم امرأتك من الطعام.
إن المسلم لا يدخل طعاماً في فم امرأته على سبيل المدح والمداعبة، إلا أُجر على ذلك، حتى من أتى شهوته في الحلال له أجر، وكذلك من نام يريد بذلك طاعة الله له، ومن أكل يريد بذلك التقوى على ما يرضي الله له أجر، يقول معاذ: [[والله إني لأنام النومة فأحتسبها على الله سبحانه وتعالى]] فهذه هي النية التي تُصيِّر العادات إلى عبادات.(379/11)
مبايعة جرير للنبي صلى الله عليه وسلم
وعن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، قال: {بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم جرير بجلي من قبيلة خثعم، وهو سيد قومه، وهو يوسف هذه الأمة، كأن على وجهه مسحة ملك، وكان يُغطَّي وجهه في بعض الأوقات خوفاً من العين.
ويقول عمر: [[أما أنت يا جرير! فأنت يوسف هذه الأمة]] وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فلما رآه قال: {من هذا؟ قالوا: جرير بن عبد الله، قال: على وجهك مسحة ملك}.
أي: ملك من ملائكة السماء، ما ذكر لي رجل إلا وكان أقل مما ذكر لي إلا أنت فكنت أعظم، وكان شاباً، أخذه صلى الله عليه وسلم بيده ودخل به بيته، فقرب وسادة يجلس عليها كما فعل بـ عدي، فقال: لا.
أجلس على الأرض، فقال صلى الله عليه وسلم: {أشهد أنك من الذين لا يُريدون علواً في الأرض ولا فساداً ثم قال: بايعني؟ فبايعه على: شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة -واشترط عليه شرطاً لم يكن يشترطه صلى الله عليه وسلم دائماً- قال: والنصح لكل مسلم} والسبب في ذلك: أنه كان سيد قبيلته، والسيد والوالي والمسئول يشترط عليه هذا الشرط، لأنه مظنة أن يغشهم، أو يظلمهم أو يجور عليهم، فشرط النبي صلى الله عليه وسلم عليه النصح لكل مسلم.(379/12)
شرح حديث: (الدين النصيحة)
قال أهل العلم: والنصح لكل مسلم، يؤمر به كل مسلم، لأن تميماً الداري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم}.
يقول محمد بن أسلم وهو من أولياء الله الصالحين، ومن أكبر عباد الله، وهو من علماء القرن الثالث، وكان من الذين بلغوا الإمامة في الدين، يقول: ما سمعت والحمد لله بسنة إلا طبقَّتها -أي: عمل بها- كان يقرأ الحديث فيتوقف، ولا يقرأ الحديث الثاني حتى يعمل بهذه السنة.
فيقول كلاماً أورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم، قال: أما النصح لله: كأن تؤدي الفرائض كما أمرك الله عز وجل وأن تجتنب المحارم، وأن تحسن الأدب مع الحي القيوم، فتتأدب معه في الخلوة كما تتأدب معه في الجلوة أمام الناس، ثم يقول: كيف تستحي من الناس ولا تستحي من الله؟ والله يقول: {أنا جليس من ذكرني} فالنصح لله عز وجل: أن تأتي كل أمر يحبه، وأن تكره وتبغض كل عمل يكرهه ويبغضه سبحانه وتعالى، وأن تجعله معه حيث ما حللت وارتحلت، فإنه سبحانه الذي معك ولا يُفارقك.(379/13)
النصح لكتاب الله
وأما النصح لكتاب الله عز وجل، فهو يقول: أن تقرأه وتقيم حروفه، أي: أن تتعلم التجويد وتتعلم كيف تقرأ، لأننا نجتهد في أعمال وأغراض الدنيا، ولا نجتهد ذاك الاجتهاد -إلا من رحم الله- في أمور الدين.
قال: وأن تقيم حروفه وحدوده، وإقامة الحدود أن تتمثل كل قضية فيه وتطبقها وتعمل بها.
قال: وأن تتلوه للتفهم والتدبر لا للتكسب، ولا للزهو ولا للرياء، نعوذ بالله من ذلك.
ولذلك من القراء من يدخل النار، وأول من تُسَّعر بهم النار: قارئ قرأ القرآن، فيؤتى به، فقال الله عز وجل: لِمَ قرأت القرآن؟ قال: تعلمته يا رب فيك، فعلمت الجاهل، قال: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت! وإنما تعلَّمت ليقال: عالم أو قارئ خذوه إلى النار، فيجرونه على وجهه حتى يُلقى في النار، فهذا الذي طلب القرآن وتعلَّمه لغير وجه الله سبحانه وتعالى.(379/14)
النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم
النصح لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هو أن نلتزم سنته وسيرته، وأن ندمن القراءة في السنة والسيرة، وأن نقرأ في كتب الحديث، ونتفهم ونتزود أكثر مما نقرأ في تأليف الناس.
ومن النصيحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نُحيي سنته وننشرها بين الناس، وخاصَّةً في أهلنا وبيوتنا، إذا دخلت بيتك فسلم، وهذا من السنة، وإذا طرقت باباً، فقالوا: من؟ فقل: فلان، والسلام عليكم أأدخل؟ فإنَّ أطفالك وبناتك وأخواتك وإخوانك يعلمون ذلك فتحيي بإذن الله بيتك على السنة، فيكون بيتك من بيوت أهل الجنة، وإذا جلست فاجلس جلسة أهل السنة.
وإذا أكلت فابدأ بيمينك، وسم الله، وإذا شَربِت فعلم طفلك وولدك كيف تشرب وتُقسِّم الشرب ثلاث مرات، وتحمد الله عز وجل.
وكذلك إذا خلعت ثوبك ولبست، وليكن بيتك بيتاً إسلامياً من الذين يرضى الله سبحانه وتعالى عنهم في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} [التحريم:6].(379/15)
النصح لأئمة المسلمين وعامتهم
والنصح لأئمة المسلمين: قال ابن رجب: أئمة المسلمين في الحديث إما أنهم ولاة الأمور، والنصح لهم: أن تُطيعهم في طاعة الله، وأن تعصيهم في معصية الله، وأن تنصحهم بالتي هي أحسن؛ لأن الله أرسل موسى عليه السلام إلى فرعون، فقال له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
فلذلك أورد بعض أهل العلم، كصاحب العقد الفريد وصاحب عيون الأخبار، قال: دخل أحد الناس على هارون الرشيد فقال: يا هارون الرشيد ائذن لي أن أقول لك كلاماً؟ قال: قل.
فرفع صوته وأغضبه، وقال: إنك ظلمت وجرت وفعلت وفعلت، فغضب هارون الرشيد حتى احمر وجه، ثم قال: يا هذا أرسل الله من هو خير منك إلى من هو شر مني، فقال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
أما أنت فلا أقبل نصيحتك، وأقبلها من غيرك.
فالمقصود أن يكون النصح بأن يُلان لهم في النصيحة وفي الكلام.
والمعنى الآخر: أنهم أهل العلم؛ وقيل: هم أئمة الاجتهاد الذين بلغوا الاجتهاد، فالنصح لهم: أن يُدعى لهم بظهر الغيب، وأن ينصحوا إذا رأوا منهم خللاً، فإنهم ليسوا معصومين.
والنصح لعامة المسلمين: أن تُحبَّ لهم ما تُحب لنفسك، فتكره أن ترتفع الأسعار، ولو كنت صاحب بضاعة، قالوا: من غش الناس أن ترفع الأسعار، أو أن تُحب أن ترتفع الأسعار، أو ألا توجد إلا عنده.
ومن الغش لهم: أن تحب أن تقحط وتجذب تلك البلاد، يمكن أن أهل قرية في مرة من المرات لم يضيفوك، فتقول: اللهم أصبهم بقحط عاد وثمود، ولا تنزل عليهم القطر، فهذا من الغش.
ومن الغش كذلك: أن تكره أن يعم الخير في البلاد ولا تحب مجالس الخير والذكر، ولا تحب أن تنتشر حلقات العلم، ولا من يدعو إلى الكتاب والسنة أو يأمر بالمعروف أو ينهى عن المنكر، وهذا من الغش العظيم ومن النفاق الجسيم، أن الإنسان يبغض مثل هذه؛ لأنه يظن أنها تُكدر عليه صفو الحياة، أو أنها تناقض بعض الأمور في ذهنه، وأخطأ لعمر الله! بل إن القطر لا ينزل من السماء ولا الخير ولا الهداية ولا النور إلا بمثل هذه المجالس، وبعودة الناس إلى الله.
فالإنسان يُحب النصيحة للمسلمين عامة، ويُحب لهم ما يُحب لنفسه، يقول عمر بن عبد العزيز كما يروي عنه ابن رجب في جامع العلوم والحكم: " والله لوددت أنه يعمل كل يوم بسنة من السنن، ويسقط مني كل يوم عضو".
ويقول رضي الله عنه وأرضاه -اسمع الناصح والأواب- على المنبر: " والله لوددت أنه يُغلى بي في القدور وأنتم تعملون بكتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
ويقول الإمام أحمد: " يا ليتني كنت فداءً لأمة محمد صلى الله عليه وسلم"، ولذلك كان الأئمة -دائماً- إذا دعوا في صلواتهم، يدعون للأمة المحمدية، للمسلمين والمسلمات -دائماً وأبداً- بالهداية والنصح والتوفيق والرعاية، وهذا من النصح.
وعن جرير رضي الله عنه قال: {بايعت النبي صلى الله عليه وسلم على: إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والنصح لكل مسلم}.
قال أهل العلم: فكان جرير بن عبد الله البجلي دائماً وأبداً ينصح لعباد الله.
باعه رجل فرساً فقال: بكم بعتني هذا الفرس؟ قال: بثلاثمائة، قال: أتريد فيه أربعمائة؟ فزايده حتى بلغ ثمانمائة، فقال: خذ هذه الثمانمائة، فإني بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على النصح لكل مسلم، وأنا -والله- لك ناصح.(379/16)
فضل تعلم العلم وأنواعه
ثم قال الإمام البخاري رحمه الله: "كتاب العلم".
فهو بدأ بكتاب الوحي؛ لأنه بداية هذا الخير والنور والإشراق، وبداية رفع رءوسنا، واستنهاضنا من الجاهلية والوثنية والردى والعمى، ثم ثنىَّ بالإيمان؛ لأنه المنجي عند الله عز وجل، ثم ثلث بالعلم؛ لأنه طريق الحياة لمن أراد الحياة.
يقول الشافعي رحمه الله: " من أراد الحياة فعليه بالعلم ومن أراد الآخرة فعليه بالعلم ".
قال ابن أبي الزعد -وهو مولى من الموالي-: أعتقني سيدي؛ لأنني كنت كلاً عليه، أي: كان لا يجد فيه خيراً ولا ينفعه في شيء، فقال: كنت لا أحسن النجارة ولا النساجة ولا الصناعة، فقال: أنت عتيق لوجه الله، فقلت وأنا أودعه: بماذا تأمرني؟ قال: عليك بطلب العلم، قال: فطلبت العلم سنة كاملة، فاستأذن عليّ أمير المدينة في القيلولة، فلم آذن له.
وهذا من شرف علم رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك لا يُطلب العلم للتباهي -نعوذ بالله- أو للصيت أو للسمعة، وإنما يُطْلَب لينُجى به في الآخرة، وأفضل عمل تتقرب به إلى الله أن تتقرب بهذا العلم.(379/17)
العلم الممدوح
والعلم منه ما هو ممدوح ومنه ما هو مذموم، فالممدوح: هو العلم الذي يُوصلك إلى الله عز وجل، ويرزقك خشية الله، يقول تبارك وتعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فعلَّق قيام الليل بالعلم، ويقول سبحانه وتعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
قالوا: آمنوا وأوتوا العلم مع الإيمان، لا يَكفي العلم بلا إيمان نعوذ بالله من علم لا ينفع، أو من معلومة لا تفيد صاحبها، فهذا ليس من الممدوحين.
ويقول عز من قائل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18] فاستشهدهم على أعظم شهادة، في أعظم مشهود.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] ووصفهم بالفهم والفقه والعقل.
ويقول عزَّ من قائل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فوصفهم بكثرة الخشية لله، فمن لم يكثر من خشية الله على حسب علمه بالله، تقل خشيته وتكثر.
ويقول جلَّ من قائل: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80] فوصفهم بالزهد، ووصفهم بمعرفة مصائر الأمور، ومستقبل الأحداث.(379/18)
العلم المذموم
أما العلم المذموم: فهو الذي لا يعمل به صاحبه، نعوذ بالله من ذلك، ونسأل الله العافية والسلامة.
يقول سبحانه وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:175 - 176] فهذا لم ينفعه علمه، فلعنه الله في الدنيا والآخرة، نعوذ بالله من ذلك.
ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:102] يقول هنا: (يتعلمون) علم السحر المذموم أو علم الشعوذة أو علم النجوم، {فمن تعلَّم علم النجوم فقد استزاد شعبةً من الشرك زاد ما زاد} أي: أنه كُلَّما زاد من علم النجوم أو من هذه العلوم، فقد زاد شعبة من الشرك والنفاق؛ إلا من يتعلمها لمعرفة أوقات الصلاة، أو لأمور تهمَّ المسلمين.
أما من يقطع عُمره في مثل هذه العلوم التي لا تنفع، أو العلوم المحرمة، فإن بعض أهل السنة يقولون: " من تعلم السحر كفر".
و {حد الساحر ضربة بالسيف} نعوذ بالله من ذلك، وليس هذا محل بسطها.
ومن العلم المذموم أيضاً: أن يذهب الإنسان حياته كلها في علم لا ينفع كثيراً، كعلم الأنساب، فيعرف أن هذه القبيلة تنتسب إلى قحطان، وقحطان إلى فلان، وفلان إلى علان، فهذا علم يذهب الأعمار ولا ينفع أبداً، ولذلك {دخل صلى الله عليه وسلم المسجد فرأى قوماً مجتمعين في حلقة، قال: ماذا يتعلَّم هؤلاء؟ قال: يتعلمون الأنساب.
قال: هذا علم لا ينفع وجهل لا يضر} وما يضرك يوم القيامة؟ هل تظن أنه يسأل الإنسان في القبر، أو يسأل يوم القيامة عن قبيلة قحطان أو غيرها ماذا تنتسب إليه؟ هذا ليس من العلم الذي يُحمدِ، إنما الذي يُحمد كما يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {تعلَّموا من أنسابكم ما تصلوا به أرحامكم} تعرف أن هذه قريبة فتصلها، وهذا قريب، وهذا عم، وهذا خال.
ومن العلوم التي إذا أذهبت الأعمار وأصبحت مذمومة: علم الشعر والأدب، وهو قضية الساعة عند العلماء، وقضية التركيز في الساحة، وأكثر ما شغل الناس خاصَّة المثقفين في المجالس، الشعر الحداثي، والشعر المقفى، وهذا الأدب، فمن أذهب عمره في هذا فهو مذموم، مأزور غير مشكور ولا مأجور، ماذا قدم للإسلام؟ يحفظ قصائد الناس جميعاً، ولم يشتغل بالكتاب ولا بالسنة، وإنما يُطلب من الأدب ما جمل في الدعوة، وبمجالس العلم فحسب، أما من أذهب عمره في هذه الأمور فهو مذموم.
ومن العلوم المذمومة من أذهب عمره وليله ونهاره في بعض الأمور الجزئية كالجغرافيا، الناس يتهجدون وهو يبحث عن عاصمة أسبانيا، وأهم المنتجات فيها وماذا تصدر؟ وماذا تنتج؟ ومن هو وزير خارجيتها؟ ومن تولى؟ ومتى استقلت؟ ثم يذهب عمره ويشيب وهو على هذا المستوى، وأين تقع جبال الهملايا وكم قدماً ترتفع عن البحر؟ فهذا علم إنما يُعرض للناس، ليبين قدرة الله في الأرض، فمن أذهب عمره فيه فهو مأزور لا مشكور ولا مأجور.
لكن هناك علوم قد يحتاج إليها المسلمون.
يقول الشافعي: " العلم علمان: علم الأبدان وعلم الأديان ".
علم الأديان: الكتاب والسنة ويكفينا.
وعلم الأبدان: علم الطب، وهو من أشرف العلوم إذا استصحب صاحبه تقوى الله عز وجل والعمل الصالح، فإن الطب من أحسن ما يكون لحاجة المسلمين؛ حتى إن بعض أهل العلم أوجبه إيجاباً؛ أن يتعلم الناس الطب؛ لأنه إذا كان أطباؤنا يهوداً ونصارى لا نأمن أن يقتلونا وقد فعلوا، حتى إنهم عملوا عملية لبعض المرضى وكان عنده زكام فبتروا رجله، وقالوا: هذا مرض مستعصٍ.
وكذلك العلم المحمود: مثل علم الهندسة، بشرط أن يكون صاحبه مقيماً لشرع الله، وصالحاً في ذات الله عز وجل، حسب حاجة المسلمين إلى هذا العلم، وقد أُثِرَ عن ابن تيمية أنه قال: " لو احتاج المسلمون إلى إبرة تصنع، ثم لم تصنع عندهم ولم توجد لأثموا جميعاً" لكن نحن لا ننتج لا إبرة ولا أكبر ولا أصغر؛ حتى الطباشير التي نكتب بها على السبورة تأتي من دولة مستوردة إلينا، حتى القليل والكثير، ملبوسنا ومشروبنا، ومركوبنا، وبيوتنا، وكتبنا، ودفاترنا، وحقائبنا، كلها مستوردة والحمد لله، إنما نحن نجيد الأكل والشرب والجلوس وغير ذلك من هذه الأمور، لكننا نسأل الله عز وجل أن يُوفقنا لطاعته.(379/19)
الأسئلة(379/20)
حكم تحية المسجد
السؤال
إذا دخل الرجل المسجد وهناك درس علمي يُلقى فهل يجلس مباشرة؛ لأن طلب العلم فريضة، أم يصلي ركعتين تحية المسجد؟
الجواب
الأولى -وهو السنة والوارد- أن يصلي ركعتين، يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يُصلي ركعتين} ولأنه صلى الله عليه وسلم لم يعذر الرجل يوم الجمعة وهو يخطب بالناس، فقال صلى الله عليه وسلم: {أصليت؟ قال: لا.
فقال له: قم فصلِّ ركعتين} وخطبة الجمعة أولى، وكذلك حلقة الدرس، وإذا كان وقت نهي؛ فإنه يُصلي ركعتين؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين} لأنها من ذوات السبب ولو كان الوقت وقت نهي.(379/21)
نصيحة لمدراء الأعمال
السؤال
كيف ينصح الشخص الذي يعمل تحت إدارته مجموعة من الناس، حيث إن الشيطان يوسوس له، فيشعر بالعظمة والكبرياء، على أساس أنه نوع من أنواع السيطرة في العمل؟
الجواب
أولاً: عليه أن يتقي الله عز وجل، ويتذكر الموت، ويعرف أنه عبدٌ حقيرٌ فقير، ليس عنده شيء من القدرة ولا من أسباب القوة، فلماذا يتكبر على الله سبحانه وتعالى؟!
فعليه أن يتقي الله سبحانه وتعالى، وعليه أن يهضم نفسه، فإذا كان من عادته أنه إذا سُلِّم عليه أنه يعطيه يده وهو جالس، فليهضم نفسه فيقوم، ويرد عليهم، وإذا دخلوا وكان من عادته أن يقطب وجهه؛ فعليه أن يلتفت؛ لأنهم يقولون: إذا قطب الإنسان وجهه تحركت فيه تسعة عشر عضلة، وإذا ابتسم تحركت فيه عضلة واحدة فقط، فلذلك يُوفر ثماني عشرة عضلة.
ولذلك يقول محمد قطب في كتاب النفس والمجتمع: لا تكلفك الابتسامة لا درهماً ولا ديناراً، ولا تكلفك حتى تسديد فواتير، إنما تحدث لك قلوباً وتكسب أرواحاً وإخواناً في الله عز وجل.
وعمر رضي الله عنه شعر مرة من المرات بطائف من العجب، ما دخل قلبه: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فشعر بشيء من العجب! أي: داخله الشيطان، وقال: أنت أمير المؤمنين! وقد كنت راعي غنم في الجاهلية، وأصبحت الآن الأقطار كلها تعود إليك، قال: الصلاة جامعة، عليّ بالناس! فاجتمعوا، فلما أصبحوا ملء المسجد؛ ووقف على المنبر، وقال: أيها الناس! هل تعرفونني؟ قالوا: نعم.
قال: من أنا؟ قالوا: أنت أمير المؤمنين! قال: [[كان اسمى في الجاهلية عُميراً، كنت أرعى لبني أبي معيط غنمهم على حفنة من التمر، فأكرمني الله وهداني وأرشدني فأصبحت فيكم خليفة]] فلما نزل قال له ابنه عبد الله يا أبتاه! فضحتنا هذا اليوم، كيف جمعت الناس ثم ألقيت هذه الخطبة؟ قال: إن نفسي حدثتني بشيء من العجب، فأحببت أن أكسرها، فهكذا المجاهدة؛ على الإنسان أن يُمرِّن نفسه أنه إذا كان هناك اجتماع أن يقول: دعوني أسكب الشاي، لكن بعض الناس لا يرضى بذلك، حتى إن بعض الناس كان يتكلم في مجلس من المجالس، فقال: أيها الناس! اعملوا عملاً صالحاً، والله إن الإنسان لا يضمن لنفسه الجنة مهما عمل، حتى أنا ما ضمنت لنفسي الجنة.
ورد في ترجمة أبي هريرة أنه أخذ حزمة من الحطب، فحملها ومشى في السوق وكان السوق مزدحماً، فقال: افتحوا للأمير طريقاً.
كان أبو هريرة أمير المدينة، فقالوا: لماذا يا أبا هريرة؟
قال: أعجبتني نفسي وكنت فقيراً من آل دوس معي أمي، نزلنا المدينة ولم نجد كسيرة حتى كدت أسقط من الجوع، وأصبحت الآن أميراً، فحدثتني نفسي فأردت أن أكسرها، فالكسر له طرق وأسباب وعلاجات.(379/22)
حكم لفظة: (أوصيك ونفسي بذلك)
السؤال
إذا أمر الإنسان بالمعروف ونهى عن المنكر، هل يقول للمأمور أو المنهي: أوصيك ونفسي بذلك؟
الجواب
لا بأس أن يقول: أوصيك ونفسي بذلك، لأنه من باب التواضع وهضم النفس، وكلنا بحاجة إلى الوصايا، نسأل الله العافية.(379/23)
ارتكاب المعاصي والنية الحسنة
السؤال
ادعى بعض الناس في هذا العصر أن العمل بالنية، فتجده يربط كل شيء بالنية، ويرتكب المخالفات والآثام، وعندما تنصحه يبادرك بقوله: أهم شيء النية؟
الجواب
نعم.
أهم شيء النية، وأهم شيء النار -نعوذ بالله من النار- فسوف يعلم: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15]؛ ولذلك يقول ابن تيمية لأحد الناس وهو جالس معه من أهل الفرق المخالفة: لماذا لا تصلي؟ قال: لأن الله قدَّر عليَّ أني لا أصلي، قال: فما لك تشرب الخمر؟ قال: لأن الله كَتَبَ علي أني أشرب الخمر، فقام ابن تيمية وضرب في صدر ذاك المبتدع، وقال: جبري في المعصية قدري في الطاعة؟
ولذلك كثير من الناس جبريون، ولذلك إذا سألتهم لمَ يُخالفون وينامون عن الصلاة؟
قالوا: الأعمال بالنيات، والله غفور رحيم، وقد نمنا والله مطلع على السريرة.
وهذه السريرة سيئة ونتنة؛ لأنه لو كان علم الله عز وجل أن سريرته طيبة لجعله من أهل الخير، أما أنه يخالف أمر الله وتكون نيته طيبة وقلبه سليماً فمن أين له السلامة والطيب؟ بل قلبه أسود.
نسأل الله العافية.(379/24)
أسباب عدم الخشوع في الصلاة
السؤال
إذا صليت الظهر أتاني الخشوع، وإن صليت العصر في نفس اليوم لا أخشع، فما سبب ذلك؟
الجواب
هذا يختلف باختلاف الظروف التي مرت بك، ولها أسباب الله أعلم بها، لكن قد يكون هذا من بعض المصائب التي حدثت أو الشواغل التي شغلتك؛ أو بعض الأمور، فإن بعض الناس قد يشتغل ببعض الأمور السهلة، قد يكون ما تغدَّى، فهو يُحدِّث نفسه بالغداء في الصلاة، ولذلك أمرنا ألاَّ نصلي وقت حضور الطعام، وإذا حضر العِشاء والعَشاء أن نقدم العَشاء قبل العِشاء، بشرط ألا نأخذها عادة، وألا نجعل الطعام -دائماً- لا يجهز إلا وقت الأذان، فإذا أذن قال: نزلوا العشاء، قالوا: هذا وقت صلاة؟ قال: يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا أتى العَشاء والعِشاء فابدءوا بالعَشاء} ما أفقهه في الدين! ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم!
فهذه من الحيل المحرمة، وقد يكون هذا الذي لم يخشع في صلاة العصر أفرط في تناول الغداء، فتشتت ذهنه، والإمام مالك يقول: " أرى أن يسدَّ رمقه" فبعض الناس يجوع جوعاً عظيماً، فقد يكون ما أفطر؛ فإذا أتت صلاة العصر وهو ما أفطر ولا تغدَّى، فيمكن أن يقرأ التحيات في القيام.
فالمقصود أنه يسدَّ رمقه بشيء.
ولا صلاة بحضرة طعام، هذا نص، وهذه رخصة نأخذها، فنأكل ما تيسر ثم نقوم، أما أن يأكل الإنسان الغداء ثم يأكل فاكهة، ثم يشرب بيبسي، ثم يشرب قهوة، ثم يخرج يصلي العصر مع المغرب، فهذا ليس بوارد.(379/25)
التوبة من المعاصي
السؤال
أنا رجل أتوب من المعاصي، ثم أعود إليها إلى درجة أنها تثقل علي بعض العبادات؟
الجواب
الرجل الذي يتوب ويعود؛ فليعد وليتب في اليوم ولو سبعين مرة، فهو عند الله قريب بإذن الله وسوف يتوب الله عليه، وهذا علامة صدقه، وإقباله وإنابته، وسوف يُكفِّر الله خطاياه دائماً فليفعل العبد ما شاء، مادام أنه يتوب ويستغفر وينيب، لكن بشرط ألا يعتقد ذلك، فيقول: سوف أذنب، وسوف أتوب بعد ذلك إن شاء الله، فهذه من الحيل، لكنه يتوب، ثم يقول: لا نعود إن شاء الله ويندم.
أما أن تثقل عليه بعض العبادات، فالفرائض لا تثقل، هذه الفرائض دونها ضرب الرءوس، فمن تركها فهو كافر، أما بعض العبادات التي تثقل على نفسك فالدين يسر: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق:7].
بعض الناس يهتم بالنوافل أكثر من الفرائض، وهذا منهج من مناهج الصوفية، فالمقصود أنك تُخفِّف على نفسك وتسلك العبادة التي تناسبك كالذكر والتسبيح، لا نلزمك بأن تقرأ في المصحف؛ لأن نفسك قد تفتر، وما ألزمك الله سبحانه وتعالى بذلك.
وإن كان الصيام يضعفك ويحدث عندك ارتباكاً حتى في الطاعة وفي بعض الأمور، فعليك أن تتقي الله عز وجل، وتنتقل إلى عبادة أخرى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].(379/26)
فساد الأخوة وعلاجها
السؤال
لي أخ في الله، ولكنه يغضبني في بعض الأحيان في حركات وسكنات تورث عندي الحقد والغضب، فماذا توصيني؟
الجواب
أوصيك وأوصي هذا الأخ بتقوى الله عز وجل وحسن الخلق وأن تتحمل منه، وأن تريه من نفسك الخلق الحسن؛ علَّ الله سبحانه وتعالى أن يهديه، ولك أن تُعرِّض ببعض الأمور في الكلام بحيث لا يشعر أنك تنصحه: " إياك أعني واسمعي يا جارة" ويقال: اضرب العي يدري الجمل، فتقول مثلاً: دعنا نقرأ في ذم الحسد، فتأتي بكتاب فتقرأ في ذم الحسد، أو دعنا نتكلم عن صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسعة حلمه وتعامله مع أصحابه، فحينها يعرف من قريب أو من بعيد، ويتعظ بإذن الله وتدعو له.(379/27)
العلماء وخشيتهم لله
السؤال
يقول الله عز وجل: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] يقول أحد العلماء: المراد بالعلماء: علماء الفلك والطبيعة، وليس الذين يعلمون علم الكتاب والسنة؟
الجواب
إذا كان علماء الفلك والطبيعة هم الذين يخشون الله فما في الأرض من يخشى الله؛ لأن من علماء الفلك والطبيعة دنمركيون ومنهم فرنسيون!! فيصبح أهل ورثة الأنبياء والكتاب والسنة لا يخشون الله، ويصبح الذي كالكلب والخنزير هو الذي يخشى الله! صحيح أن بعض المسلمين من الذين أجادوا في هذا الجانب، وعندهم قدر من الكتاب والسنة ثم خشي الله عز وجل فهو محبوب ومأجور ومشكور، أما أن تُطِلقَ الكلمة على كل عالم فلك أو طبيعة؛ أنه يخشى الله أكثر من المسلم الذي ما عرف هذه العلوم، فلا.
وهذا ليس بوارد، والأصل في الخشية: (أن يأتي أوامره وينتهي عن نواهيه).
والعلماء إذا أُطلقوا فهم العلماء بالله عز وجل وبأمره، فالعلم بالله هو العلم بصفاته وما يجب له من كمال، والعلم بأيام الله؛ أي: ما أحدثه في الأمم، والعلم بأمر الله: هو علم الفقه في الدين وما يدور حول ذلك، وما زادك خشية فهو علم بالله.
إذا نظرت إلى السماء فتفكرت وزادك هذا علماً، أو اكتشفت شيئاً وزادك علماً، فهو علم يقودك إلى الله سبحانه وتعالى.(379/28)
كل علم مفيد فهو مطلوب
السؤال
هل ترى أن كل علم مفيد مطلوب في حدود الحاجة والفائدة؟ هل توافقنا على ذلك؟
الجواب
نعم.
أوافقك وأوقع على ذلك، فكل علم مطلوب للمسلمين يستفاد منه، وهو مطلوب بقدر الحاجة، وما زاد عن الحاجة فلا يستفاد منه.
نسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بما سمعنا، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم.
والحمد لله رب العالمين.(379/29)
السمو
إن السمو الحقيقي والرفعة؛ إنما هو في ظل الشريعة الإسلامية، وإنما هي في سمو الأرواح عن الماديات، وارتباطها بالملأ الأعلى شوقاً ورجاء وخوفاً ومحبة، وفي التعالي عن الدون؛ ببذل الروح والمال في سبيل طلب الراحة الحقيقية والعيش الهنيء، ولقد ضرب السلف الصالح أروع الأمثلة في سمو الذات عن جميع الملذات.(380/1)
تحية السمو
اللهم لك الحمد؛ لكن أجله وأعظمه.
اللهم لك الشكر؛ لكن أحسنه وأجمله.
اللهم لك الثناء؛ لكن أكمله وأتمه.
اللهم لك المدح؛ لكن أبلغه وأحلاه.
والصلاة والسلام على الصفوة المصطفى، والأسوة المرتضى، والسيف المنتضى، والإمام المجتبى، ما هدى نوق، وقام سوق، وأُديت حقوق، وعلى آله ومن سار على منهجه إلى يوم الدين.
فتالله لو أن السماء صحيفة بها الشكر يُروى والثناء يرتبُ
وأشجارنا الأقلام والبحر حبرنا ونحن طوال الدهر نملي ونكتب
لما بلغوا في كنه شكرك ذرة ولو دبَّجوا فيك المديح وأغربوا
أشكركم شكراً جزيلاً على حسن الضيافة والاستقبال أشكر دعاتكم وأمجادكم وخطباءكم، وأسأل الله أن يجعلني خيراً مما تظنون، وأن يغفر لي ما لا تعلمون.
عناصر المحاضرة:
-تحية السمو.
-بطاقة السمو.
-برقيات عاجلة.
-نفوس سمت شوقاً إلى الله.
-التعالي عن الصغائر والترفع عن الرذائل.
-تحدي المصاعب والانتصار على الأزمات.
-صعودٌ أبداً وتفوقٌ دائماً.
ولأن خطيبكم قال شعراً، ولأن مُقدمكم قال كلاماً جميلاً، فجزاء التحية تحيةٌ مثلها أو أحسن منها، اخترنا لكم هذا العنوان، ليوافق سموكم، ويناسب قدركم، ويحيي جهادكم، ويهتف بسجاياكم، ولأنكم من أهل السمو، فأحببنا أن نحدو لكم حداء الأبطال، وأن نُتحفكم يا صفوة الرجال، لتسافر الآمال إلى آفاق الجلال.
ولأنكم أبناء الفاتحين، وأحفاد المجددين، وسلالة القادة، وأتباع الأبرار، وبقية الأخيار، حرصنا على إلهاب هممكم الماضية، والإشادة بهاماتكم العالية، وعزائمكم السامية.
وهذه مقطوعة المسك من أريجها فوَّاح، والبلبل من نغمتها صدَّاح، يا أهل الفلاح والصلاح والنجاح.
كل شهم منكم رمز فتوه السما تروي إلى الأرض سموه
همم لو أن للدهر بها معهداً لم يملك الدهر عتوه
غيركم في لهوه قد جمحت نفسه يهوي بها سبعين هوه
وأراكم صفوة صادقة فيكم الحق وآثار النبوه
دعوة بل صحوة بل وثبة في صفاء ووفاء وأخوه(380/2)
بطاقة السمو
ولأنكم أهل الحجاز جيران محمد عليه الصلاة والسلام، وفيكم ديار أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، ومن عندكم انطلق خالد وعمرو والمجددون والمصلحون، قلنا لكم في بطاقة سلام:
حيث الشهامة مضروب سرادقها بين النقيضين من عفو ومن نقمِ
وللرسالة أنوار مُقدسةٌ تجنو البغيضين من ظُلْمٍ ومن ظُلَمِ
وللأخوة آيات تنص لنا على الخفيين من حُكْمٍ ومن حِكَمِ
وللمكارم أعلامٌ تُعلَّمنا مدح الجزيلين من باكٍ ومن كرمِ
وللعلا ألسن تثني محامدها على الحميدين من فعلٍ ومن شيمِ(380/3)
برقيات عاجلة
يا أصحاب سمو المعالي إلى العزيز العالي جلَّ في علاه، بإيمانهم وجهادهم وصبرهم ودعوتهم:(380/4)
برقية النمل
لَمَّا أنذر النمل وحذَّر ودعا بني جنسه، سُطِّرت في حقه سورةٌ من القرآن تُتلى باسمه، فخذ من النمل ثلاثاً:
1 - الدأب في العمل.
2 - محاولة التجربة.
3 - تصحيح الخطأ.(380/5)
برقية النحل
لَمَّا أكل النحل طيباً، ووضع طيبا، ً أوحى الله إليه، وجعل له سورة تُذكر باسمه، فخذ من النحل ثلاثاً:
1 - أكل الطيب.
2 - كف الأذى.
3 - نفع الآخرين.(380/6)
برقية الأسد
لَمَّا جلَّت همة الأسد، وظهرت شجاعته، أسَمته العرب مائة اسم، فخذ من الأسد ثلاثاً:
1 - لا ترهب المواقف.
2 - لا تتعاظم الخصوم.
3 - لا ترض حياة الذل.(380/7)
برقية الذباب
لَمَّا سقطت همة الذباب، ذُكِر في الكتاب على وجه الذم، فاحذر ثلاثاً في الذباب:
1 - الدناءة.
2 - الخسّة.
3 - سقوط المنزلة.(380/8)
برقية العنكبوت
لَمَّا هزُلت العنكبوت وأوهنت بيتَها، ضُرِبَ بيتُها مثل الهشاشة، فاحذر في العنكبوت ثلاثاً:
1 - عدم الإتقان.
2 - ضعف البنيان.
3 - هشاشة الأركان.(380/9)
برقية الكلب
لَمَّا عاش الكلب دنيئاً لئيماً، ضُرِب مثلَ العالِم الفاجر الغادر الكافر، فاحذر ثلاثاً في الكلب:
1 - كفر الجميل.
2 - خسة الطباع.
3 - نجاسة الآثار.(380/10)
برقية الهدهد
لَمَّا حمل الهدهد رسالة التوحيد، تكلَّم عند سليمان، ونال الأمان، وذكره الرحمن، فخذ من الهدهد ثلاثاً:
1 - الأمانة في النقل.
2 - سمو الهمة.
3 - حمل هم الدعوة.
قال أبو معاذ الرازي: " مسكين من كان الهدهد خيراً منه ".
والهدهد احتمل الرسالة ناطقاً أهلاً بمن حمل اليقين وسلَّما(380/11)
نفوس سمت شوقاً إلى الله
إذا أتى جعفر الطيار بجناحين، ودُعي أبو بكر من الأبواب الثمانية، وكلَّم عبد الله الانصاري ربه بلا تُرجمان، فبماذا تأتي أنت؟!
ما هي بضاعتك؟!
ماذا أعددت لذلك اليوم؟!
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي نُجيب به إذ ذاك والأمر أعظمُ
إنها نفوس تاقت إلى الله، وسمت إلى الحي القيوم!!
كنت أعددت طرحاً شعرياً لهذه المحاضرة، فتذكرت أني قدمت ألبوماً بعنوان: (القمم لأهل الهمم) فآثرت أن أُمازجه بكثير من الأدب، فسماحاً للقافية، وعذراً للبيت والروي، ولنسافر مع أدب؛ لكنه صادق، ومع شعر؛ لكنه مؤمن، ومع قافية؛ لكنها مسلمة.
وقف مجاهد مؤمن في عصر الصحابة على جبال الأفغان، على مشارف كابل، فقال:
فيارب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجع يُعلى بخضر المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يُصابون في فجٍّ من الأرض خائف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وساروا إلى موعود ما في المصاحف
يقول: يا رب! لا تعدني إلى غرفتي الضيقة، إلى سريري المزين بالمطارف، إلى زوجتي الجميلة، لكن قطِّعني في سبيلك إرباً إرباً، وهذه في أبجديات الموحدين، وفي دواوين المخلصين، قالها طلحة وغيره، فيقول أحدهم مستلهماً جلال الله وعظمته، ثم تفيض دموعه ثم يقول: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]].(380/12)
سمو نفس البراء بن مالك
دخلوا على رجل اسمه: البراء بن مالك، سمت روحه إلى الواحد القيوم، وقد اضطجع على ظهره، وقد رفع رجله اليمنى على اليسرى، ورفع عقيرته بالنشيد، فقال له أنس: [[أتنشد وتغني وأنت من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، قال: اسكت، فوالله الذي لا إله إلا هو، لقد قتلت من الكفار مائةً مبارزةً، ووالله الذي لا إله إلا هو لأموتنَّ شهيداً]] لماذا يُقسم؟
لأن الرسول عليه الصلاة والسلام قال فيه وقد رآه بذّ الهيئة رثَّ الثياب: {رُبُّ أشعث أغبر ذي طمرين، لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك}.
فأقسم على الله يوم تستر أن يُقتل شهيداً، فقتل شهيداً.(380/13)
عمر بن عبد العزيز والنفس التواقة
وعمر بن عبد العزيز سمت روحه يوم تولَّى الخلافة، جلس على المنبر الدمشقي ليحكم ثنتين وعشرين دولة إسلامية، ففاضت دموعه وبكى، وأُجهِش الناس بالبكاء، قال المحدث الراوية الثقة رجاء بن حيوة: " والله لقد كنت أنظر إلى جدران المسجد هل تبكي معنا".
ثم قال عمر: " اللهم إن لي نفساً تواقة -معناها: صاحبة سمو- توليت يا رب الإمرة فطمعت في الخلافة فنلتها، فهأنا أطمع في الجنة، اللهم بلغني الجنة " هذا هو السمو.(380/14)
سمو عبد الله بن رواحة
ومن أبجديات السالكين: قولهم على لسان عبد الله بن رواحة وقد قال له الصحابة: تعود بالسلامة، قال:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرغ تقذف الزبدا
وقتل في مؤتة، والقبر هناك، ولكن سريره دخل إلى جنات النعيم، ورآه بعينيه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.(380/15)
سمو ثابت بن عامر وتمنيه الموت وهو ساجد
والعباد يشاركون أيضاً مع المجاهدين في سمو الهمة، فأما أحدهم وهو ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير، فيقول: [[اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قالوا: ما هي؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد]] فقبض الله روحه وهو ساجد في آخر سجدة في صلاة المغرب.
وقِسْ على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن لـ عمر وقد رآه لبس ثوباً أبيض قال: {البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً} فرزقه الله سمواً في الدنيا؛ عدلاً في الرعية، ورحمة بالأمة، وزهداً في نفسه، ثم توفاه شهيداً في المحراب، وعلى ذلك سار السلف.(380/16)
سمو إسحاق بن منصور
حتى إنه في ليلة من ليالي أهل السمو العلمي كان إسحاق بن منصور تلميذ أحمد بن حنبل في خراسان، فرجع بعدما روى الحديث سبع سنوات، وكتبه في قراطيس، فأخذ القراطيس معه في السفر، فأمطرت السماء، فوضع الكتب والقراطيس والدفاتر تحت بطنه، واحتضنها في الليل والبرد يصب على ظهره، والمطر البارد والريح تَسُفُّ على وجه، وهو يحتضن دفاتره؛ لئلا تبتل بالماء، بعد رحلة سبع سنوات، ثم عاش طويلاً، ثم مات فرآه أحد الصالحين في الجنة، قال: ما فعل الله بك؟ قال: غفرَ لي بليلة المطر، يوم انحنيت على الدفاتر، يوم حضنت أوراقي، غفر الله لي بتلك الليلة.
وانظر إلى بعض الصالحين، يُرسل نشيداً إلى الواحد الأحد، لكن ينظمه بحبات قلبه، يقول أولاً نثراً:
يا رب! إن أحبَّ كُثَيِّرٌ عَزَّة، وأحبَّ غيلان مية، فاجعل حبي فيك.
يا رب! إن أحب عنترة عبلة، وأحب قيس ليلى، وأحب الآخر سلمى، فاجعل حُبي لك وحدك، ثم نظَمَها شعراً فقال:
إذا كان حُبَّ الهائمين من الورى بـ ليلى وسلمى يسلب اللب والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالم الأعلى
أُفٍّ على الوتر أُفٍّ على الناي أُفٍّ على الغناء أُفٍّ على الضياع أُفٍّ على حياة اللهو والغرام والهيام، إن لم تكن المحبة للواحد العلام، الذي بنى دار السلام، فلما انتهى من بنائها قال: تكلمي وعزتي وجلالي، قالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون:1 - 2] قال: وعزتي وجلالي، لا يجاورني فيك بخيل.
هذه مسيرة الصالحين، ولكن ينحرف بعض الناس إلى هواه، إلى العيون السود، إلى الخدود، فيقول ابن زُريق في بغداد وهو هائم بامرأة:
لا تعذليه فإن العذل يوجعه قد قلت حقاً ولكن ليس يُسْمِعه
ثم يقول: آه، ثم يموت.(380/17)
سمو مسلم بن الحجاج
ولكن مسلم صاحب الصحيح -جمَّل الله حال مسلم وبيَّض وجهه- الذي قدَّم لنا ميراث محمد عليه الصلاة والسلام، أبو الحسين العالم الرباني، بحث في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة كاملة، يبحث عن حديث، فقلب المصنفات ولم ينم، فلمَّا صلَّى الفجر قال: آه، آه، آه، ثم مات، قالوا: شهيد الحديث.(380/18)
سمو النابلسي وموقفه تجاه الفاطميين
والنابلسي تقدم إليه طاعن يهودي ليطعنه بالخنجر، وهو المحدث العالم الزاهد، الذي أفتى بفتيا شجاعة في الفاطميين المنحرفين الكفرة عند كثير من أهل العلم فقال: من عنده عشرة سهام فليرمِ الفاطميين بتسعة والنصارى بسهم، فطُعن، قال الذهبي: كان دمه يصب في الأرض ويُسكب، وهو يقول: الله، الله، الله.
سؤال نُقدِّمه لأهل السمو، وأهل العزائم والهمم؟!
قالوا الهوى والحب هل تعنو له أم أنت في أرض الهوى متجلد
قلت المحبة للذي صنع الهدى فحبيب قلبي في الحياة محمد
اللهم اجعله حبيبنا، بعد حبك لنا وحبنا لك يا أرحم الراحمين!
قال عز وجل: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119].
يقول ابن عمر وروحه تُسافر في مجمع من الناس، وقد حدَّثته بالخلافة وهو زاهد عابد، قال: [[قام فينا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه في المدينة على المنبر، ونحن جلوس أمامه وقد تولى الخلافة، قال: من أولى مني بالخلافة؟ قال: فحللت حبوتي لأرد عليه وأقول: أولى منك المهاجرون والأنصار، فتذكرتُ قوله سبحانه وتعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً} [القصص:83]]].(380/19)
التعالي عن الصغائر والترفع عن الرذائل
اسمع إلى الوحي يُخاطبك بأن ترتفع: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] لا يصيبنك إحباط ولا يأس ولا فشل، وأنت تسجد لله، ومعك القرآن، وأنت تُهدَى إلى تكبيرة الإحرام، ومعك إخوة صالحون، ومعك دعاة وعلماء قال عليه الصلاة والسلام: {إن الله يحب معالي الأمور} واسمع إلى علي بن عبد العزيز الجرجاني الفقيه المُحدِّث القاضي الواعظ، وهو يُخبرك بعصارة حياته، ترك الناس، أغلق على نفسه في البيت، يدعو في المسجد ويعود، لا يخالط كبيراً ولا صغيراً، ويقول:
أنست بوحدتي ولزمت بيتي فدام لي الهنا ونما سرور
وأدبني الزمان فلا أبالي هُجِرت فلا أُزار ولا أزور
فلست بسائلٍ ما عشت يوماً أسار الجيش؟ أم ركب الأمير؟
هذا الذي يقول:
يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما
إلى أن يقول:
ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما
ولكن أهانوه فهانوا ودنسوا مُحياه بالأطماع حتى تجهما
ممن سمو البخاري صاحب الصحيح رحمه الله، يقول: " رأيت الرسول عليه الصلاة والسلام في المنام، وكأنه يرفع خطوة، وأضع قدمي مكان قدمه، فسألت أهل العلم وأنا شاب، فقالوا: أنت تحفظ سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ".
ويقول: " ما اغتبت مسلماً منذ احتلمت! "
منذ أن احتلم ما اغتاب مسلماً، فقل لي بالله، يا من أكثر من الغيبة والوشاية والنميمة واستحلال الأعراض: كيف نُقارن بينك وبين البخاري؟!
وقال الشافعي صاحب الهمة العالية: " ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله ".
ما كذب في هزلٍ ولا جدٍ ولا ليلٍ ولا نهار.
ويقول: " ما حلفتُ بالله صادقاً ولا كاذباً ".
وقد كان على كسرة الخبز، وامتلأ بيته باللخاف والجريد والصحف حتى كاد هو وأمه يخرجون خارج البيت وهو يطلب العلم، يقول وقد عُرضت له القناطير من الذهب من هارون الرشيد.
أمطري لؤلؤاً سماء سرنديب وفيضي آبار تكرور تبرا
أنا إن عشت لست أعدم خبزاً وإذا مت لست أعدم قبرا
همتي همة الملوك ونفسي نفس حر ترى المذلة كفرا
ما هو المجد إذاً؟
قال أهل العلم: المجد والسمو في ثلاث:
1/ أن تمرغ وجهك ساجداً لله.
2/ وأن تأكل الحلال.
3/ وأن تكون سليم الصدر، ثم لا يضرك ما فاتك من الدنيا، من دورها، وقصورها، وذهبها، وفضتها.
جلس مُحدِّث من المحدثين الكبار -ذكره الذهبي وغيره- فرأى ألف محبرة، وألف عمامة أمامه، كلهم يطلبون الحديث، مع كل عمامة قلم مع كل قلم محبرة مع كل محبرة كتاب مع كل كتاب دفتر؛ فدمعت عيناه، وقال: هذا والله الملك، لا ملك المأمون والأمين، ثم أنشد فرحاً:
إني إذا احتوشتني ألف محبرة يروون حدثني طوراً وأخبرني
ناديت في الجمع والأقلام مشرعة تلك المكارم لا قعبان من لبن(380/20)
السمو في مجابهة الأعداء
ز البيت الثاني تضمين رائع جميل ضمنه كثير من أهل العلم قصائدهم، وأذكر على سبيل سمو أهل الهمم: صلاح الدين، شب فلم يُمزح ولم يتبسم، قالوا: ما لك؟ قال: لا أمزح ولا أتبسم حتى أفتح بيت المقدس، وفتح بيت المقدس وصفَّ معه العلماء والأمراء والوزراء، وقام الخطيب شمس الدين الحلبي على المنبر، فافتتح خطبته وأشار بعد الحَمْدَله والحَوْقَلة لـ صلاح الدين، وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبنِ وهكذا السيف لا سيف بن ذي يزن
يقول: أنت السيف! أنت المنتصر بإذن الله، أنت فخر الإسلام! لا سيف بن ذي يزن الجاهلي المشرك.(380/21)
السمو في إيثار الآخرين
وهنا يأتيك السمو من أهل الجاهلية، لكن يُرشِّده الإسلام تحت مظلة التعالي عن الصغائر والترفع عن الرذائل، والرسول عليه الصلاة والسلام، يقول لابنة حاتم: {لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه}.
حاتم قصة من البذل قصة من السمو قصة من الجود حاتم تهب الرياح النجدية فتلعب بالبيوت، وينضوي البخيل كالكلب في بيته؛ ويخرج حاتم، ويقول لغلامه: التمس لي ضيفاً، فإن أتيت هذه الليلة الشاتية -ليلة الجوع والفقر والجدب والقحط والسنة- إن أتيت بضيف فأنت حر وأنت طليق، ثم يقول له:
أوقد فإن الليل ليل قرُّ
والبرد يا غلام برد صِرُّ
إذا أتى ضيف فأنت حُرُّ
يقول:
أمَا والذي لا يعلم الغيب غيره ويُحيي العظام البيض وهي رميمُ
من هو؟
إنه الواحد الأحد.
لقد كنت أطوي البطن والزاد يُشْتَهى مخافة يومٍ أن يقال: لئيم
فهل طوينا بطوننا لآلاف الجائعين في أفغانستان وفلسطين وفي كشمير وفي البوسنة؟
هل اقتصدنا في نفقاتنا؟
وهذا حاتم في الجاهلية يقول: والله إني أطوي بطني وأنام جائعاً، وأترك الخبز، وأترك اللحم؛ لئلا يُقال: بخيل، وهو لا يرجو ثواباً ولا يخاف عقاباً، فكيف بمن صلَّى الخمس، وصام الشهر، وحج البيت؟!
هذه من مدرسة حاتم.
يقول في أخلاقياته الشريفة التي ذكره بها صلى الله عليه وسلم: أنا من صفاتي أني لا أُسابق حتى بالبغلة، أُعلِّمها الإيثار، بغلتي لا أُقدمها تشرب الماء من الحوض قبل أصحابي، بل أعلمها الأدب، لئلا تشرب قبل بغال الناس، فقل لي عن نفسي ونفسك ونحن في دائرة الإسلام ودائرة السنة: هل آثرنا جيراننا والفقراء والمساكين؟!
واسمعوها نظماً من نظم حاتم:
وما أنا بالساعي بفضل لجامها لتشرب ماء القوم قبل الركائبِ
ثم يقول في أدب آخر، أنثره ثم أنظمه، يقول: إذا مشيتَ مع قوم وأنت على ناقة، ومعك زميل يمشي على الأرض فاحذر! أرْكِبْه أو انزل معه، لا تركب وهو يمشي، أين الأخلاقيات؟! أين السمو؟! قال:
إذا كنت رباً للقلوص فلا تدَعْ رفيقَك يمشي خلفها غير راكبِ
أنخها فأركبه فإن حملتكما فذاك وإن كان العقاب فعاقبِ
وأنخها: أي: الناقة.
وقد جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم بالأخلاق ناصعة مشرقة طاهرة زكية لوجه الله، فقال في صحيح مسلم: {من كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له، ومن كان له فضل ظهر فليعد به على من لا ظهر له}.
حدثني دكتور البارحة في مكة قال: وجدتُ أن الثراء الفاحش مع قلة الدين والفسق، إنما هو طغيان على الأمة.
ثم قال: كان طالب في مكة من تشاد معه سيارة مهلهلة مفلفلة، كأنها من الحرب العالمية الأولى، ولا تساوي خمسة آلاف، وكان من حسن أدبه وسلامة صدره، يوصل إخوانه وزملاءه إلى حاراتهم بهذه السيارة، فأين أهل الشبع وأهل الغنى والثراء؟ الذين يعيشون فحشاً وظلماً وفسقاً في الضمائر، إنها القلة مع الجود، وليست الكثرة مع البخل، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول فيما يُروى عنه: {لا يُؤمن من بات شبعان وجاره جائع}.
أما عروة بن الورد، وقد ذكر قصته وأبياته عالمنا وشيخنا الإمام المجدد عبد العزيز بن باز رحمه الله في كتاب القومية العربية ويضربها لنا -مثلاً- فيقول عن عروة: هذا جاهلي وأنت طالبُ حديثٍ ويُقرأ عليك صحيح البخاري وصحيح مسلم صباح مساء، فاستشْهِد بهذا وانظر إلى هذه المُثُل- فيقول عروة:
أُوَزِّع جسمي في جسومٍ كثيرةٍ وأحسو قراح الماء والماءُ باردُ
أتهزأ مني أن سمنتَ وأن ترى بوجهي شحوبَ الحق والحق جاحدُ
يقول: أتهزأ مني لأنك سمين وأنا نحيف؟
نعم! أنا نحيف وأنت سمين، لكن -والله- طعامي يحضره سبعة وثمانية وأنت تأكل الكبسة وحدك، والكبش المُضَبَّى وحدك، فيقول:
أُوَزِّع جسمي في جسومٍ كثيرةٍ وأحسو قراح الماء والماءُ باردُ
صُنِعَ للربيع بن خثيم طعاماً خبيصاً، والخبيص إذا أكلته رأيت مصر، فهو شيء مذهل، معه فستقٌ وزبيبٌ وعسلٌ ولبابُ البُرِّ ولحمُ الماعزِ الفاخرِ يُقَدَّم لك في جفنة، بعد أن تجوع ثلاثة أيام، فإذا أكلت قلت: آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل!
قُدِّم للربيع بن خثيم العابد الزاهد وهو جائع، تكاد أضلاعه تختلف، فلما قدموا له الجفنة، وإذا بمسكين يطرق على الباب، وهذا امتحان وابتلاء من الله، إما أن يُقدمه للمسكين أو لنفسه، فقال: تفضَّل كُلْ! فقدم المسكين، فأكل أكل والي اليتيم ولاية السوء، قال: فصنع له أهله مرة ثانية خبيصاً وتعبوا، ولما قدموه ليأكل إذا بمسكين يطرق الباب، والربيع بن خثيم آية في الصدق والصلاح والطهارة والزهد، فقال: أدخلوه، فأكل، فلما أكل الثاني وقد كان أعمى، قال له أهله: والله ما يعلم هل هو خبيص أو لا؟ -أي: الأعمى- قال: لكنَّ الله سبحانه يعلم، فقالوا له: كيف؟
قال: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9] ثم قال: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران:92].
يقول أحد الخطباء في العصر العباسي: إذا أعجبتك وجبة شهية، فقدمها للفقير فإنك سوف تأكلها في الجنة، ولا تأكلها أنت، فإنك سوف تُلقيها في بيت الخلاء، وهذا من فقهيات سمو الهمم.(380/22)
تحدي المصاعب والانتصار على الأزمات
بعض العلماء قُيَّد كـ المظفر الأبيوردي على روايته للحديث، وصدعه بكلمة الحق، لكنه صَبَر واحتسب في ذات الله عز وجل، وعُدَّ ذلك مكسباً عظيماً، قال:
تنكر لي خصمي ولم يدرِ أنني أَعُّز وأحداث الزمان تهونُ
فبات يريني الخصم كيف اعتداؤه وبت أُريهِ الصبر كيف يكونُ
تلوت هذين البيتين على فضيلة الشيخ محمد بن عثيمين رحمه الله، فصحح لي مساراً في البيتين، لأن فيها خطأ فقلت:
تَنكَّر لي دهري ولم يدرِ أنني أعز وأحداث الزمان تهون
وصدق ابن عثيمين وأنا معه، وأنسخ من الآن البيتين، وأرد كلمة (دهري) والبيتان في ديوانه، وأقول:
تنكر لي خصمي ولم يدرِ أنني أعز وأحداث الزمان تهونُ
فرحم الله ابن عثيمين، ورحم الله المظفر الأبيوردي الشاعر الكبير المطبق.
وابن رشيد الأندلسي وعَظَ النصارى في الأندلس، فقيدوه فلطموه وجلدوه وحبسوه، فقال:
إن كان عندك يا زمان بقية مما يهان بها الكرام فهاتِها
يقول: بقي القتل تعال بالقتل، حيَّا الله القتل في سبيل الله {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36].(380/23)
سؤال لأصحاب السمو والمعالي
أما السؤال الذي يُوجه لأصحاب السمو والمعالي من أهل الهمم العالية، والعُبَّاد، والزُّهَّاد، وأهل الجهاد، فهذا هو:
قيل لـ ابن عباس: كيف حصلت على هذا العلم؟
قال: [[بتوسد ردائي في القيلولة، والريح تَسُفُّ على وجهي، وتهب عليه من الرمل ومن وهج الصحراء ثلاثين سنة]].
وقيل لـ عطاء -وقد ذكر هذا الذهبي -: [[كيف حصلت على هذا العلم؟ قال: بتوسدي فراشي في المسجد الحرام ثلاثين سنة]].
لا يعرف بيته ثلاثين سنة، وهو يطلب العلم.
وأحدنا يدخل في الكلية سنتين أو ثلاثاً ثم يخرج وهو جاهل، ثم يرى أنه إمام الدنيا، وحافظ العصر، وخاتمة المجددين!! حتى يقول أحدهم:
ودخلت فيها جاهلاً متواضعاً وخرجت منها جاهلاً دكتورا
يقول: كنت في الأول جاهلاً متواضعاً، أُسلِّم على رأس أبي، وأُقبِّل كف أمي، وأجلس مع زملائي، فلما درستُ أربع سنوات، تكبرت مع جهلي فصرت جاهلاً متكبراً أحمل شهادة الدكتوراه.
حتى إن أحدهم هنَّأ أحد الدكاترة وهو يمزح معه فقال:
يا شيخ قد سُمِّيت دكتورا والثور يبقى وإن ألبسته ثَورا
وسامحونا على هذا اللغط الخطابي، فلا بد فيه من المسيرة، وأنا أحترم هذا اللفظ خاصة بعدما أعطيناه وإلا فقد كنا نهاجمه قبل، ونقول عنه: إنه لا يصلح، ويقولون: حامض يا عنب، فلما حصلوا عليه مدحوه.
وقيل للشعبي: بِمَ حصلت على هذا العلم؟
قال: بسهرٍ طَيَّر النوم من عيني، وبسهاد، وبتبكير كتبكير الغراب.(380/24)
كيف تطاعن خيلاً كخيل المتنبي
ظمة جهاد وسهاد وجلاد، دموع ودماء وأشلاء، قال المتنبي وهو على دنيا رخيصة، ليس على تكبيرة إحرام، ولا على عبادة:
أطاعن خيلاً من فوارسها الدهرُ وحيداً وما قولي كذا ومعي الصبرُ؟!
إلى أن يقول:
فلا تحسبن المجد دُفَّاً وقَينة فما المجد إلا السيف والفَتْكة البكرُ
إلى أن يقول:
وتركك في الدنيا دوياً كأنما تداول سمع المرء أنمله العَشْرُ
لكنَّ الموحدين لهم نظام في الأمنية غير نظام المتنبي وأبي مسلم الخرساني والحجاج قاتلهم الله، أنت أمنيتك أن تموت على (لا إله إلا الله) ولو كنت غريباً وحيداً معزولاً كما في دفتر الزبيري:
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريبا
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليبا(380/25)
لا يُدْرَكُ المجد إلا بالمشقة
وأنا قلت لكم لولا أنني قدمت محاضرة السمو بسلسلة القمم لأهل الهمم لأكثرتُ من الأدب؛ لكن كلا الطريقين تُوصِل بإذن الله إلى رضوان الله متى حسنت النية، يقول المتنبي:
لا يدرك المجد إلا سيدٌ فطنٌ لما يشق على السادات فعَّالُ
لولا المشقة ساد الناسُ كلهمُ الجود يفقر والإقدام قتاَّلُ
إن طريق السمو فيه مشقة وأول السمو يبدأ عندنا بصلاة الفجر، فمن لا يحضر صلاة الفجر فليس من أهل السمو ولا المعالي ولو زُفَّت له الدنيا، وصفقت له البنود، وهتفت له الجنود، وارتفعت عليه الأعلام، وسُدِّدت أمامه السهام.
أبداً أبداً تبدأ رحلتنا من صلاة الفجر، انطلاقتنا الكبرى من صلاة الفجر من تكبيرة الإحرام، من حديث جندب بن عبد الله البجلي في صحيح مسلم: {من صلَّى الفجر فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه، ومن أدركه كبَّه على وجهه في النار}.
مِن المحراب ننطلقُ وللخيرات نستبق
مِن صلاة الفجر، مَن لا يصلي الفجر جماعة بلا عذر شرعي فلا تظنه من أهل السعادة والسمو إلا أن يشاء الله.(380/26)
تحدي المصاعب في طلب العلم
هنا سمو في طلب العلم: سافر جابر بن عبد الله شهراً كاملاً بِجَمَل إلى العريش، مدينة بـ مصر، فلما وصل هناك طرق على عبد الله بن أنيس الباب، وعبد الله بن أنيس هو الذي قتل خالد بن سفيان المشرك، فأعطاه صلى الله عليه وسلم عصاً، وقال له: {توكأ بها في الجنة، فالمتوكئون بالعصي في الجنة قليل} وأُدْخِلَت عصاه معه في قبره وسوف يُبعث في العرصات وعصاته معه، يقول: لبيك اللهم لبيك، وسوف يحضر الزحام عند الصحف والميزان والصراط وعصاته معه، ويدخل بها الجنة يتوكأ بها.
طرق عليه جابر بيتَه في مصر فخرج الصحابي لـ جابر بن عبد الله فسأله عن حديث الحوض؟ فأخبره، وقال: ادخل، وتفضل، حيهلاً بك وسهلاً، قال جابر: رحلتي إلى الله، والله لا أجلس أبداً وأعود، فمشى شهراً وعاد شهراً، غدوُّه شهر، ورواحُه شهر.
وموسى ضرب أروع الأمثلة في طلب العلم وهو نبي معصوم يُوحى إليه {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60].
يقول الزمخشري المعتزلي، لكن أنت حوِّلها إلى سُنِّية سلفية هادية، يقول:
سهري لتنقيح العلوم ألذُّ لي من وصل غانية وطيب عناقِ
في قصيدة ماتعة، يقول: لأن أسهر مع الأوراق ومع الكتب أحسن عندي من أن أُعانق امرأة جميلة، أو أخلو بجارية جميلة حلَّت، وإن تاقت نفسي.
فالسني خلوته مع صحيح البخاري وصحيح مسلم أحسن من ملك الدنيا جميعاً.
طلب شريك العلمَ أربعين سنة، قال: طلبتُ العلم والله ما كان زادي في اليوم إلا كسرة خبز، فحضر في مجلس فيه وزير عباسي، والوزير قد غاص في الركايا والكنبات والطنافس، فأتى شريك بحديث عن الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال الوزير: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون:24] قال له شريك وكان سريع البديهة: من أين تسمع بهذا وأنت تأكل الخبيص، وتجلس على الطنافس، وتغنيك الجواري؟!
وهذا ليس من طريق أهل المعالي.
وشريك سريع البديهة! يقول لأحد خلفاء بني العباس، وقد عرَّض به الخليفة بقوله: أنت تحب علياً؟ قال: أُحبه حتى النخاع أو الدماغ أو كما قال.
قال: أُوَّاه من يوم عليك، أظنك زنديقاً؛ لأن المهدي إذا أراد نسف رأس رجل، أو جعله كأنه مخلوق بلا رأس، أو إعدامه بالمقصلة، قال: أنت زنديق.
قال: الزنديق له ثلاث علامات قال: ما هي؟
قال:
-يترك صلاة الجماعة.
-ويشرب النبيذ.
-ويستمع الجواري.
يقصده، قال: كأنك تعرِّض بي! أي: تلمِّح، قال: لا أُعرِّض بك بل أقصدك.
هذا من فقهيات شريك رحمه الله.
يقول ابن عبد البر عن نفسه: "مكثت مع كتاب التمهيد ثلاثين سنة".
اسمعوا الصبر يا أهل الصبر! ثلاثون سنة مع الكتاب، يكتبه ينسخه، يشرحه، ثم يقول:
سميرُ فؤادي من ثلاثين حِجة وصيقل ذهني والمفرج عن همي
إلى آخر ما قال.
وقد نظَمت أربعة أبيات من باب التشبه كما يفعل الكتكوت أو الفرُّوخ الصغير من الدِّيَكة، إذا سمع ديكاً كبيراً يصيح فيقلده، فسامحونا على جهدنا وطاقتنا وضعفنا، فقد قلت قصيدة أكثر من مائتي بيت، هي مذكرة للحياة اسمها: (يوم يغني الدمع) قلت:
ثلاثون عاماً والكتاب مرافقي وقد صانني عن كل لهو وغفلةِ
طبعاً كلكم يقرأ مثلما أقرأ، لكن الشاعر لا بد أن يقول كلاماً:
ثلاثون عاماً والكتاب مرافقي وقد صانني عن كل لهو وغفلةِ
ثلاثون عاماًَ والدفاتر صحبتي وأُنسي دواتي واليراع مطيتي
ثلاثون عاماً كلما قلتُ قد كفى لأرتاح في داري وأحصو معيشتي
أبت همتي إلا صعوداً إلى العُلا إذا انهد جسمي صار في القلب قوتي
فاحسبوها مزاحاً إن شئتم، ومَن أحْسَنَ بنا الظن فليَعُدَّها جِدَّاً.(380/27)
صعودٌ أبداً وتفوقٌ دائماً
دُريد بن الصمة جاهلي من أهل الطائف، خرج مع أخيه عبد الله، ونصحه ألا يواجه العدو، فلمَّا حضرت المعركة اجتمع العدو على أخيه عبد الله فقتلوه، فسمع دُريد الشاعر أخاه عبد الله في النَّفَس الأخير، وهو يقول: يا دُريد، يا دُريد، يا دُريد! فتنبعث هذه الصرخات إلى دُريد وهو في آخر المعسكر، وبينه وبين أخيه سيوف ورماح، فأخذ دريد في يمينه سيفاً وفي يساره رمحاً، فشق الصفوف، ووصل إلى أخيه، وطعن عنه الخيل، وضارب الأبطال حتى جرح ثم حُمل، فإذا أخوه ميت وهو حي، فقال في قصيدةٍ وهو يبكي عند أمه يخبرها بخبره وبخبر أخيه:
دعاني أخي والخيل بيني وبينه فلما دعاني لم يجدني بقعدد
فطاعنتُ عنه الخيل حتى تبددت وحتى علاني حالك اللون أسود
حالك اللون أسود: أي: الدم.
وهذه من أرقى وأجمل القصائد، حتى أن أبا تمام جعلها في الحماسة.
طعان امرئ آسى أخاه بنفسه ويعلم أن المرء ليس بمخلدِ
وخفف وجدي أنني لم أقل له كذبتَ ولم أبخل بما ملكَت يدي
وجدي: أي حُزني على أخي.
فبكى هو وأمه حتى كادت روحه تذهب.
هذه من قيم الجاهلية؛ أما قيم أهل الإسلام فإنها متمثلة في سير الصالحين رضوان الله عليهم، في سبعة أسياف تُكسَّر في يد من؟
في يد خالد بن الوليد، وفي تسعة أسياف يُطعن بها محمد بن حميد الطوسي، فيقول له أبو تمام:
تردَّى ثياب الموت حُمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ
فتى كلما فاضت عيون قبيله دماً ضَحِكَت عنه الأحاديث والذكرُ
أختم كلامي بقصة قصيرة في سمو الهمم عند بعض الناس:
عمر بن أبي ربيعة: شاعر غزل، يظن أن الدنيا اختُصِرت في امرأة، ويظن أن العالم يقف معه، ويبكي من أجل العيون السود، يظن أن الكون بأجمعه مُوَلَّه معه بفتنة النساء، ولم يدرِ بجنات ونَهَر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
حورٌ، وأرائكُ، ولباسٌ، ونعيمٌ، وأجلُّه النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى في دار الكرامة.
وابن أبي لهب: أيضاً شاعر في صدر الإسلام.
وابن عمر: من مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام.
هؤلاء ثلاثة.
يقول ابن عبد البر: مر الثلاثة بالشيب، وقد أمر معاوية ألا يدخل أحد إلى الحرم إلا بإذنه، والجنود حرَّاسٌ على الأبواب، عندهم أمر من الخليفة معاوية ألا يدخل أحدٌ إلى الحرم؛ لأنه يريد أن يطوف هو قبل الناس؛ لأنه خليفة وملك، فمرَّ ابن أبي ربيعة في ظلام الليل، قال الحراس: من أنت؟
قال بجواب يحوي بطاقته الشخصية في بيتين:
بينما يذُكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قال تعرفن الفتى، قُلن نعمْ قد عرفناه، وهل يخفى القمر؟!
قالوا: تفضل ادخل! فدخل.
فأتى ابن أبي لهب، وهو شاعر ثانٍ، فقالوا: من أنت؟ قال، وهو أسمر:
وأنا الأخضر من يعرفني أخضر الجلدة من نسل العربْ
من يساجلْني يساجلْ ماجداً يملأ الدلو إلى عقب القرَبْ
يقول: أنا إن ترد كرماً فكرمٌ، وإن ترد لهواً فلهوٌ، وإن ترد طرباً فطربٌ، فأنا حر.
فأتى ابن عمر، قيل: وإذا الناس كنَفَتَيْه كالغمامتين، وإذا هو يُسأل فيقال له: نحرتُ قبل أن أرمي، فيقول: ارم ولا حرج، ويقال: حلقتُ قبل أن أنحر، فيقول: انحر ولا حرج، والناس يسألونه، قال معاوية: هذا -والله- هو الملك لا ملكي، اتركوه يمر، فمرَّ ابن عمر.
فهذه مدرسة محمدية سنية سلفية هادية، تعتمد على (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) وتلك مدرسة لاغية لاهية، تعتمد على أدب المسرح، والفن، والهيام والغرام، والقنوات، والأغنيات، والآهات والزفرات، وكل شيء يضيع عن الآيات البينات والأحاديث الثابتات.
ربنا اسلك بنا طريق محمد.
ربنا اهدنا لسبيل الخلفاء الراشدين.
ربنا احشرنا مع الصادقين.
ربنا اجعلنا مع الخالدين.
ربنا نريد جوارك.
ربنا ارحمنا.
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران:147].
أخطأنا أسأنا تجاوزنا؛ لكنك رحيم، لكنك كريم، لكنك عفو، لكنك منان، لكنك رحمان، لكنك ديَّان، فعفواً منك يا ألله، ورحماك يا رب.
اللهم أكرم هذه الوجوه برحمةٍ منك، ومغفرةٍ منك، ونوائل طيبةٍ منك.
لكل وافد ضيافة، ولكل زائر رَفادة، ضيافتنا منك يا رب غفرانك، ورفادتنا رضوانك، وأنت الرحمان.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.(380/28)
من أعذب الشعر
بعد حديث مقتضب عن قوله تعالى: (والشعراء يتبعهم الغاوون) يذكر الشيخ بعض الفوائد للشعر، وكيف أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يتقن صنعته ولا إنشاده.
وتتنوع المختارات الشعرية في هذه المادة في الموضوع والزمان؛ فهي تشمل المدح والوصف والرثاء وغير ذلك من الأغراض الشعرية، كما أنها منتقاة من مختلف العصور، في الجاهلية، وفي الإسلام، وفي عصر الدولة الأموية والعباسية، وفي العصر الحديث.(381/1)
أهمية الشعر
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
هذه المحاضرة بعنوان "من أعذب الشعر" في (10/ 3/1411هـ) مساء السبت في مدينة أبها.
أرجو من أصحاب التسجيلات، أن يراعوا أرقام المحاضرات، لأن معرفة التسلسل ينفع السامع، فهذه المحاضرة تأخذ رقم (301) في المحاضرات.
إن الله سبحانه وتعالى ذكر الشعراء في القرآن، فقال سبحانه وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:224 - 227].
لما أنزل الله عز وجل هذه الآيات، أتى حسان بن ثابت وابن رواحة وأمثالهم من الصحابة الشعراء يبكون عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: مالكم؟ قالوا: يا رسول الله! ربنا يقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] ونحن شعراء، فأنزل الله عز وجل قوله: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227].
وأسباب هذه المحاضرة ثلاثة:
الأمر الأول: ينبغي للواعظ والخطيب وطالب العلم أن يكون عنده أبيات يتمثل بها، والشعر فيه كمال وارتياح، وفيه حكمة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة}.
الأمر الثاني: الشعر ترويح عن النفوس، فإن المحاضرات إذا كانت كلها جدية وكلها صارمة؛ ملت النفوس، فلا بد من التنويع خوف الملل والسأم.
الأمر الثالث: حتى يكون هذا الشريط لمن أراد أن يحفظ بعض الأبيات، فإنكم سوف تسمعون أكثر من مائة بيت في هذه الليلة إن شاء الله، تكون للخطيب والواعظ والمعلم والمربي على طرف لسانه، فقد كان عليه الصلاة والسلام يستشهد أحياناً بالأبيات.
نعم.
لم يكن صلى الله عليه وسلم شاعراً، والله يقول: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69] ولماذا؟
لأنه لو كان ينظم الشعر لقالت سادات قريش: إنه نظم القرآن شعراً، لقد قالوا: هو الذي افترى القرآن، جل كتاب الله عن الافتراء، كما حكى عنهم ربنا في كتابه فقال: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان:5] فكيف لو كان ينظم الشعر؟!
وكذلك كان إذا استشهد بالأبيات أحياناً يكسرها، ولا يأتي بها مستقيمة صلى الله عليه وسلم، مع أنه أفصح الناس، فقد ذكر أنه صلى الله عليه وسلم قسم بعض الغنائم بين شيوخ ورؤساء العرب، فأعطى عيينة بن حصن سيد غطفان مائة ناقة، وأعطى سيد بني تميم مائة ناقة، وأعطى عباس بن مرداس خمسين ناقة، وهو شيخ مثل المشايخ، ولكن لماذا أنقصه خمسين ناقة، لأنه انتهى العدد عند النبي صلى الله عليه وسلم، فوجد هذا الرجل في نفسه، فعمل أبياتاً وقال:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
العبيد: يقصد فرسه لأن فرسه اسمه العبيد.
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع.
يقول: لماذا أعطيتني أقل منهم وأبوهم ما كان يفوق أبي في المجامع العامة؟ فتبسم عليه الصلاة والسلام وجعل يردد الأبيات ويقول: أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة، والبيت: بين عيينة والأقرع حتى يستقيم، فتبسم أبو بكر وكان رجلاً أديباً فصيحاً، وقال: صدق الله حيث قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69].
وما كان يحفظ الأبيات، إذ هو لا يكتب ولا يقرأ ولا يخط حرفاً، وكان في صدره مع ذلك كل القرآن، يقول سبحانه وتعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2]
ما كان يعرف أن يكتب حتى محمد بن عبد الله، وإذا قلت له: اكتب (باسم الله) لا يعرف، وقد أتى بهذه الحكمة وهذه الشريعة وهذا الدستور وهذا الحديث كله صلى الله عليه وسلم، ولم يسقط حرفاً من القرآن، ومع ذلك ما كان يحفظ الشعر.(381/2)
قصيدة حسان في الدفاع عن الرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام
حسان بن ثابت توعد المشركين بقصيدة رنانة طنانة قوية ساحقة، توعدهم قبل غزوة الفتح، يقول حسان في قصيدته البديعة جمل الله حياته، وقد فعل وبيض الله وجهه، يقول:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
وكداء: جبل في مكة، يقول: اللهم لا تجعل خيلنا تعود علينا إذا لم تنثر الغبار على رءوس المشركين.
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء
ثم التفت إلى أبي سفيان وقال:
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
وقد كان جزاؤه الجنة.
وكان عليه الصلاة والسلام يقرب المنبر لـ حسان في المسجد، ويقول: {اهجهم وروح القدس معك} يقول: اهجُ المشركين ومعك جبريل يؤيدك، فكان حسان لا يحضر القصائد في البيت، ولا يتذكر، وإنما يجلس على المنبر، فيأتيه الشعر مثل السيل، فلما قال قصيدته القوية ضد المشركين، أتى بعد سنة ففتح الرسول صلى الله عليه وسلم مكة، وأسقطها في يديه من أربعة أماكن، خالد بن الوليد من جهة، والزبير من جهة، وسعد بن عبادة من جهة، والرسول صلى الله عليه وسلم من جهة، وإذا بخيل خالد تدخل وتخترق مكة، وتخرج النساء مثل الصورة التي ذكرها حسان في الأبيات:
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء
فخرجت نساء مكة، يضربن الخيول بالأقنعة والخمر فتبسم صلى الله عليه وسلم لما رأى هذا الحادث فيقول لـ أبي بكر وهو حوله: كيف يقول حسان؟ قال: يقول يا رسول الله:
تظل جيادنا متمطرات تلطمهن بالخمر النساء
قال: صدق.(381/3)
دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لابن رواحة
وأتى عبد الله بن رواحة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يا رسول الله اسمع مني أبياتاً قلتها فيك، قال: قل، قال:
فثبت الله ما آتاك من حسن تثبيت موسى ونصراً كالذي نصروا
قال: وإياك فثبت}.
يقول: أسأل الله أن يثبت ما آتاك من حسن مثلما ثبت موسى عليه السلام، ونصرك مثلما نصر موسى، قال صلى الله عليه وسلم: {وإياك فثبت} فثبته الله حتى مات شهيداً.(381/4)
الرسول صلى الله عليه وسلم والنابغة الجعدي
ثم استقبل عليه الصلاة والسلام قبائل العرب، فدخل النابغة الجعدي وكنيته أبو ليلى، وجلس عند النبي صلى الله عليه وسلم وهو في الثمانين من عمره، فقال: يا رسول الله عندي أبيات نظمتها فيك، قال: قل.
إن الرسول صلى الله عليه وسلم واسع الصدر حليم، بعض الناس تجده ضيقاً لا يسمع الدعابة، ولا يسمع القصائد، ولا يسمع سوالف الناس، ولا قصص الناس، ولكن هذا البحر الحليم الذي بعثه الله رحمة للناس يسمع أخبار الناس، لأن الإنسان يتأثر؛ ولذلك الدعوة تستمع للناس ولأخبارهم وقصصهم وأعلامهم، وهذا من اللطائف، يقول جابر بن سمرة: كان عليه الصلاة والسلام يجلس معنا بعد الفجر في المسجد، فنتحدث في أخبار الجاهلية، فيستمع، ونضحك ويتبسم، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أن الناس إذا تحدثوا في الدنيا تحدث معهم، وإذا تحدثوا في المال تحدث معهم، حتى تأتي الغيبة فيسكت ويأمر الناس بالسكوت، وهذا هو أدبه صلى الله عليه وسلم، قال النابغة: قلت يا رسول الله أبياتاً، قال: قل، قال:
تذكرت والذكرى تهيج على الفتى ومن عادة المحزون أن يتذكرا
قال: هيه -أي زد-.
قال:
فلما قرعنا النبع بالنبع لم تكن على البعد في عيدانه أن تكسرا
يمدح قومه، ثم يقول:
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
وننكر يوم الروع ألوان خيلنا من الضرب حتى نحسب الجو أشقرا
يقول: يوم الهول نضارب الأعداء حتى تتلطخ خيولنا بالدم، حتى نظن أن الجون -وهو الأبيض- أحمر، ثم يقول في قومه:
بلغنا السما جوداً ومجداً وسؤددا وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
يقول: يا رسول الله أنا وقومي بلغنا السماء من الكرم، وعسانا نبلغ فوق السماء، فتبسم صلى الله عليه وسلم وضحك وقال: {أين المظهر يا أبا ليلى؟! قال: إلى الجنة يا رسول الله، قال: لا يفضض الله فاك} والجنة فوق السماء، وسقفها عرش الرحمن، وعسى الله أن يدخلنا وإياكم الجنة.
ومعنى (لا يفضض الله فاك) أبقى الله أسنانك، وهذه دعوة تقال للشاعر إذا أجاد، فبقي مائة وعشرين سنة ما سقط له ضرس ولا سن، بدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم.(381/5)
حديث عمرو بن الشريد
وعند مسلم في صحيحه عن عمرو بن الشريد قال: ركبت خلف الرسول صلى الله عليه وسلم على بغلته ردفه وراءه مباشرة، يلاصق جسمي جسمه، فلما مشى قليلاً -انظر من هو هذا الراكب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم معلم البشر سيد الخلق شفيع الناس يوم القيامة الذي ما خلق الله أطهر منه- قال لي: يا عمرو تحفظ لـ أمية بن أبي الصلت شعراً؟
وأمية بن أبي الصلت من أهل الطائف مات كافراً، آمن شعره وكفر قلبه، لأنه كان يرجو أن ينزل الله عليه النبوة، فلما جعل الله النبوة في الرسول صلى الله عليه وسلم حسده وكذب دعوته ومات كافراً، قال: تحفظ له شعراً؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: هيه، أنشدني، قال: فأنشدته بيتاً فقال: هيه، فزدته بيتاً، فقال: هيه، فزدته؛ قال: حتى أنشدته مائة بيت.(381/6)
الشعر وأثره
فالشعر الجميل لا بأس أن ينشد ويستشهد به، فإنه يدعو الكريم إلى الكرم، ويحجز البخيل عن البخل، ويدعو الذليل أو الجبان إلى أن يعود إلى المعركة، يقول معاوية بن أبي سفيان: [[والله لقد كدت أفر يوم صفين ما حبستني إلا بعض الأبيات]] التقى هو وعلي بن أبي طالب يوم صفين، وفارس الصف الأيمن علي بن أبي طالب، وفارس الصف الأيسر علي بن أبي طالب رضي الله عنهم وأرضاهم، وجمعنا بهم في الجنة، فلما التقوا خرج علي رضي الله عنه، -وأنتم تعرفون من هو علي بن أبي طالب - خرج بالسيف، وخلع درعه من على جنبه وقال: من يبارز؟! وهذه هي علامة الشجاعة أقصى الشجاعة، إذا خلع البطل درعه فليس هناك أشجع منه، فهابه الناس كان أهل الشام ثمانين ألفاً ما استطاع أحد أن يبارزه، قال: من يبارز؟ قال الناس لـ معاوية: نسألك بالله أن تبارزه، قال: لا أستطيع، كأنه يقول: لو كان غيره لبارزته، لكن من يبارز أبا الحسن؟! قال: معاوية: يا عمرو بن العاص، قم بارزه، قال: أبارز علياً؟! قال: عزمت عليك أن تبارزه، والمبارزة هي المصارعة قبل المعركة أمام الناس، فقام عمرو بن العاص فلما رأى علي بن أبي طالب ألقى سيفه في الأرض، وقال: مكره أخاك لا بطل، وهو أول من قال هذا المثل، كأنه يقول: ما جئت نداً لك ولا قرناً، ولكن أكرهوني حتى أخرج، فتبسم علي ورجع، فلما بدأت المعركة انهزم معاوية في أول اليوم وفر ببغلته، فلما أصبح وحده في الصحراء تذكر أبياتاً لـ ابن الإطنابة الحجازي يقول:
أبت لي عفتي وأبى بلائي وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإقحامي على المكروه نفسي وضربي هامة البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تحمدي أو تستريحي
قال: فتذكرت هذه الأبيات، فرجعت إلى المعركة، وتم ما تم.
فالمقصود أن الشعر له تأثير، وأنا سوف أختار لكم ما يسهل الله عز وجل، وقد روى أهل التفسير أن عمر رضي وأرضاه ولى أحد الصحابة، واسمه النعمان بن عدي بن نضلة ولاه في ميسان قريباً من البصرة، قال: أنت أمير عليها فاذهب، فذهب، وعمر كان يتفقد أمراءه وولاته، وكان يرسل عيونه، وينظر هل يغدرون هل يخونون، هل يظلمون، وكان يحاسبهم يوم عرفات يوم الحج الأكبر، يجمع الحجاج ويأتي بالأمراء، ويقول: يا أهل العراق ماذا ترون في أميركم؟ والدرة في يد عمر، المحاسبة والجلد، إن جلدوا أناساً جلدهم، وإن أخذوا الأموال ردها، حتى جاء رجل مصري من ضمن الناس قال: يا أمير المؤمنين! أشكو إليك ابن أميرك في مصر، محمد بن عمرو بن العاص، وكان أمير مصر عمرو بن العاص، قال: ماذا فعل؟ قال: سابقته بفرسي وهو على فرسه، فسبقته، فضربني وقال: أتسبقني وأنا ابن الأكرمين؟! قال عمر: أوَّه! كأنه يقول: من أجل أن فرسك سبق فرسه يضربك، علي به، فأتو به وقال له: قف هنا فوقف، وأتى بـ عمرو بن العاص ثم قال للصحابة والذي لا إله إلا هو لا يحول بيني وبينهم أحد.
وإذا حلف عمر حلف.
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقماتٍ قوله قيل
فأخذ العصا، ثم أخذ عمرو بن العاص وقال: [[متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟!]] ثم دعا بابنه وقال: تعال يا بن الأكرمين، وأمر المصري أن يضربه، ثم قال للمصري: هل رضيت؟ قال: نعم رضيت يا أمير المؤمنين.
فأرسل عمر هذا الأمير، واسمه النعمان بن عدي بن نضلة، فذهب إلى القرية، وسمر ليلة من الليالي، وهو رجل صالح ولكن فلتت منه أبيات، وما كان يدري أن هذه الأبيات سوف تبلغ عمر في المدينة ويحاسبه، يقول هو وهو يريد أن يروح عن نفسه، يقول:
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها بـ ميسان يسقى في زجاج وحنتم
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
والحسناء زوجته، وكانت في المدينة، يقول: من يخبر زوجتي أني أشرب الخمر في الحنتم، وقد أصبحت أميراً، وبعد أن كنت أشرب اللبن والماء، منَّ الله علي بالإمارة، حتى أصبحت أشرب في الزجاج الخمر.
قد قال هكذا، وهو لم يفعل:
ثم قال:
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
يقول: ربما لو بلغت هذه الأبيات عمر، لغضب علينا، حين نتنادم في الجوسق أي في الخيمة المتهدمة الأطراف ونسمر، وفي الصباح بلغت الأبيات عمر، وقيل بعد أيام، فقال عمر: علي به، فوفد، قال عمر وقد أخذ العصا، من الذي يقول:
فمن مبلغ الحسناء أن حليلها بـ ميسان يسقى في زجاج وحنتم
لعل أمير المؤمنين يسوءه تنادمنا بالجوسق المتهدم
قال: أنا يا أمير المؤمنين، قال عمر: والله لقد ساءني، فكيف تقول هذا؟! عليك الحد، والحد ثمانون جلدة لمن يشرب الخمر، قال: يا أمير المؤمنين والله ما شربتها، ووالله لا تدخل لي بطناً، وأسأل الله أن يقتلني شهيداً، ولكن الله يقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226] قال عمر: أما هذه فقد أسقطت الحد عنك -أي بهذه الآية أسقطت الحد- ولكن والله لا تلي لي إمرة بعدها أبداً، فعزله فذهب فقتل في تستر شهيداً في سبيل الله.(381/7)
أبو بكر ينشد شعراً في سقيفة بني ساعدة
اجتمع الأنصار في مجلس في سقيفة بني ساعدة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما اجتمع الأوس والخزرج ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدفن، ويظنون أن الخلافة في الأنصار، لأنهم هم الذين نصروا الرسول صلى الله عليه وسلم، بينما الخلافة لا تكون إلا في قريش، ولو تأخر أبو بكر وعمر ساعة، لكانوا ولَّوا خليفة منهم، وانتهى القرار بالإجماع على الخليفة، ثم ضاع الأمر وتقاتلت الأمة، فأتى عمر قال: يا خليفة رسول الله أدرك الأنصار في سقيفة بني ساعدة يجتمعون، فذهب أبو بكر وعمر وأبو عبيدة، فدخلوا عليهم، وهم مجتمعون، فحاول عمر أن يتكلم فما سمعوا، فقام أبو بكر يتكلم، وكان فصيحاً نسيباً لين القول، فقال: آويتمونا، ونصرتمونا، وأكرمتمونا، وواسيتمونا، والله ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي في قبيلة بني جعفر -وهو يستشهد بأبيات عل الله أن يهديهم، وانظر ما أحسن الأبيات-:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت
فلما سمعوا الأبيات دعوا لـ أبي بكر واستمعوا كلامه، ثم بايعوه بالخلافة.
القول اللين، يقول عمر: يعجبني من الرجل أن يقدم أبياتاً بين يدي حاجته، ولذلك فإن الشحاذين الآن عند السلاطين إذا أراد أحدهم شيئاً من الدنيا ينظم ستين بيتاً، أنت يا بركة العصر، ويا فاتح الدنيا، فيعطيه، وأهل الحق أولى، ولهذا لما أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون قال لهما: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] والشعر هذا سحر، يقلب المعايير، أحياناً يجعل الظالم مظلوماً والمظلوم ظالماً، بسبب الأبيات والبيان والشعر.(381/8)
المتنبي مع سيف الدولة
وعلى ذكر الأحداث التي نجري فيها الآن، والتهيؤ للجهاد في سبيل الله، وأحداث هذه المنطقة أذكر لكم بعض الأبيات، يقولون: سيف الدولة بن حمدان بطل من أبطال المسلمين، كان في حلب، قاتل الروم ما يقارب ستين معركة ودائماً ينتصر، وهذا الذي يقول فيه المتنبي:
وقفت وما في الموت شكٌ لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
يقول: سبحان الله، والله كأن الموت نائم، وكأنك في جفنه، لأنك شجاع، وأول من يموت الجبان، ولذلك لو بدأت المعركة لمات كثير من الناس بسقطات قلبية، وحملوا إلى المستشفيات، وبعضهم يفر وبينه وبين المعركة ألف ميل {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] فالجبناء يموتون؛ يقول أبو بكر الصديق لـ خالد: [[اطلب الموت توهب لك الحياة]] يقول: دائماً حاول أن تلقي بنفسك في المعارك فلن تموت، بل توهب لك الحياة، خالد بن الوليد خاض مائة معركة وما قتل، مات على فراشه، يقول: يا ليتني مت شهيداً! والله ما في جسمي موطن شبر إلا فيه طعنة برمح، أو ضربة بسيف، أو رمية بسهم في سبيل الله:
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
يقول المتنبي في هذا البطل المسلم:
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
يقول: تتبسم في المعركة والأبطال أسارى أمامك وأنت تتبسم، ثم يقول:
نثرتهم فوق الأحيدب نثرة كما نثرت فوق العروس الدراهم
يقول: نثرت الأبطال فوق الصحراء مثلما تنثر الدراهم على العروس، فدعا المتنبي وقال: نريد أن نخرج لغزوة، فأخذ فرسه وقال:
أصرف نفسي كما أشتهي وأملكها والقنا أحمر
أتاني رسولك مستعجلاً فلباه شعري الذي أذخر
ولو كان يوم وغى قاتماً للباه سيفي والأشقر
اسمع إلى الأبيات يقول: أصرف نفسي كما أشتهي، أي: أنا أصرف نفسي مرة في الرخاء ومرة في الشدة، وأملكها والقنا أحمر، السيوف تقطر من الدم، ولا أفر في المعركة.
أتاني رسولك مستعجلا: أتاني رسولك يدعوني إلى القتال معك، فلباه أولاً شعري الذي أذخر (ولو كان يوم وغى قاتماً) أي يوم معركة (للباه سيفي والأشقر) السيف والفرس.(381/9)
قصيدة لتحريض اليمنيين على قتال بريطانيا
ر جميل، وهو يحيي الأمة، مثلاً: اليمن هذا الشعب المسلم هاجمته بريطانيا قبل سنوات، وهاجمته من عدن، وتريد احتلال اليمن، وقد ذكرت هذا، ولكن أعيده اليوم لهذه الأحداث، فدخلت الدبابات، وأتت بالطائرات ترشق هذه المدن المسلمة، وتضرب صنعاء، فأتى أحد العلماء وقال لخطيب الجامع في صنعاء: أريد منك خطبة هذا اليوم، وقد أعددت قصيدة ألقيها على الناس، قال: اخطب أنت، فجعل الخطبة كلها قصيدة طنانة رنانة رائعة، يقول فيها يخاطب اليمنيين كي يقاتلوا بريطانيا واسمع، وكانت الطائرات في أثناء الخطبة ترمي القصور وترمي الشوارع، يقول:
يا بريطانيا رويدا رويدا إن بطش الإله كان شديدا
وانظر إلى الصلة مع الله والاتصال به {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160]:
يا بريطانيا رويدا رويدا إن بطش الإله كان شديدا
إن بطش الإله أهلك فرعون وعادا من قبلكم وثمودا
لا تظنوا هدم المدائن يوهي عزمنا أو يلين بأساً صلودا
لا تحسبوا إذا هدمتم المدائن أننا نموت:
إن تبيدوا من البيوت بطيا راتكم ما غدا لدينا مشيدا
فلنا في الجبال تلك بيوت صنعتها أجدادنا لن تبيدا
فالنزال النزال إن كنتم ممن لدى الحرب لا يخاف البنودا
يقول للطيارين: إن كنتم رجالاً وشجعاناً، فانزلوا لنا في الأرض، لأن في المثل العربي: مر ذئب من سكة، وتيس على سطح البيت، فأخذ التيس يتوعد الذئب، ويقول: إما أن تتأدب وإلا نزلت إليك، فيقول الذئب للتيس: والله ما أعانتك شجاعتك فأنا أعرفك، ولكن مكانك هو الذي شجعك، لأنك عالٍ وأنا في الشارع، ولذلك بعض الناس إذا تربع على الكرسي أصبح شجاعاً، وإذا كنت أنت وهو متجردين في الساحة كان جباناً، يقول أحدهم:
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار
فالمقصود يقول هذا الشاعر اليمني انزلوا من الطائرات، لأنا نحن ما نعرف نصعد الطائرات ولكن نعرف كيف نقاتل في الأرض:
لتروا من يبيت منا ومنكم موثقا عند خصمه مصفودا
ما خضعنا للترك مع قربهم في الدين منا فكيف نرضى البعيدا
فـ تركيا الدولة العثمانية حكمت البلاد إلا اليمن:
وهم في الأنام أشجع جيش فاسألوهم هل صادفونا فهودا
أفترجو إنجلترا في بلاد الله تباً لسعيها أن نبيدا
واسمع إلى النداء الخالد، كأنه نداء إلى الجنة:
يا بني قومنا سراعاً إلى الله فقد فاز من يموت شهيدا
سارعوا سارعوا إلى جنة قد فاز من جاءها شهيداً سعيدا
والبسوا حلة من الكفن الغا لي وبيعوا الحياة بيعاً مجيدا
بعد قصيدته هذه، خرج ما يقارب مائة ألف مقاتل، وسحقوا قوات بريطانيا ولم تدخل اليمن، وهكذا تكون الأمة إذا اعتصمت بالله عز وجل، وإنما ذكرت هذا بمناسبة الأحداث، لكن مقصودي أن أختار لكم مقطوعات جميلة.(381/10)
في مدح علي بن موسى
علي الرضا بن موسى من أولاد أولاد علي بن أبي طالب، كان ولي العهد للمأمون في الدولة العباسية، وكان رجلاً فيه خير كثير، وكان رجلاً رئيسا سلطاناً مطاعاً، فقيل للحسن بن هانئ أحد الشعراء، مدحت الوزراء كلهم إلا ابن علي بن أبي طالب، وهو الذي يستحق المدح، فقال فيه مقطوعة، يقولون: هي من أمدح ما قيل، يقول الشاعر:
قيل لي أنت واحد الناس في كل كلام من المقال بديهي
لك في جوهر الكلام بديع يثمر الدر في يدي مشتريه
فعلام تركت مدح ابن موسى بالخصال التي تجمعن فيه
قلت لا أهتدي لمدح إمام كان جبريل صاحباً لأبيه
هل سمعتم بأحسن من هذا، يقول أنا أعرف مدح الناس من مثلي وأشكالي، أما أنت فلا أستطيع، أنت أبوك صاحب جبريل، يعني الرسول صلى الله عليه وسلم، قال:
قلت لا أهتدي لمدح إمام كان جبريل صاحباً لأبيه
والشاعر قد قال في القصيدة:
قلت لا أهتدي لمدح إمام كان جبريل (خادماً) لأبيه
وقد قال الذهبي: ما كان جبريل خادماً؛ بل كان صاحباً ومعلماً، ولذلك عدلتها.(381/11)
الحياة الذميمة عند المعري
تعرفون أنه في آخر الزمان يتكلم الرويبضة، وهو الذي لم يكن له قدر في الناس، أي يسود غير المسود، ويوسد الأمر إلى غير أهله، وقد جاء أبو العلاء المعري بأبيات يتكلم فيها عن هذا، يوم يقدم اللئيم، ويؤخر الكريم، ويصعد الذنب إلى الرأس، ويتأخر الرأس إلى الذنب، وهذا في الناس اليوم موجود، وهو من علامات الساعة، حتى تجد البيوت في القبائل المعروفة بالكرم والسماحة والندى والمجد، أصبحت الآن متأخرة، وتجد الرويبضة، والذين ليس لهم أثر، أصبحوا الآن يتكلمون ويشار إليهم، يقول أبو العلاء عن هذا:
إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال السهى للشمس أنت كسيفة وقال الدجى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
أشرح الأبيات:
حاتم الطائي أكرم العرب، ومادر أبخل العرب، يقولون: كان مادر هذا من بخله إذا أراد أن يحتلب شاة يمصها من ثديها حتى لا يسمع الناس صوت الثدي في الإناء فيأتون، فـ مادر هذا يسب حاتم الطائي بالبخل كما يقول أبو العلاء:
إذا عير الطائي بالبخل مادر وعير قساً بالفهاهة باقل
قس بن ساعدة أخطب العرب، وعير قساً بالفهاهة باقل، وباقل أعيا العرب لا يتكلم، يقولون: كانت أمه تلقنه اسمه في أول النهار فينساه مع الظهر، فتخليوا باقلاً يسب قساً ويقول: ما كان فصيحاً، فهل أنت يا باقل فصيح؟! يقولون: إنه من حمقه كان فيه قلادة وضعتها أمه عليه حتى لا يختلط بالصبية، تعرفه إذا خرج الشارع فتأتي به، فأتى أخوه في الليل، فأخذ القلادة فلبسها، فأتى في الصباح، فقال: يا أخي أنت أنا فمن أنا؟!
(وقال السها للشمس أنت كسيفة) يقول الليل للشمس: أنت كسيفة، (وقال السهى) وهو نجم خافت (للبدر وجهك حائل).
فيا موت زر إن الحياة ذميمةٌ ويا نفس جدي إن دهرك هازل(381/12)
نموذج على محبة الخلفاء للشعر
كان الخلفاء يحبون الشعر ويتذوقون الشعر، وكان الناس خطباء، وكان خلفاء الأمة خطباء وعلماء، يتذوقون هذا الأدب.
خرج أبو جعفر المنصور هذا الملك الجبار، ملك جبار، يقول فيه الإمام أحمد: رحم الله ابن أبي ذئب قال كلمة حق عند أبي جعفر، وأبو جعفر أبو جعفر!
كأنه يقول: من يستطيع أن يقول كلمة الحق عند هذا الجبار؟!
قتل من الملوك أكثر من ثلاثين، وقتل الوزراء وقتل أعمامه الذين هم إخوان أبيه، ولذلك دخل عليه ابن أبي ذئب، قال أبو جعفر: أسألك بالله يا ابن أبي ذئب، أنا عادل؟ قال: اعفني يا أمير المؤمنين، أي سامحني هذه المرة، قال: لا والله، قال: أسألك بالله أنا عادل؟ قال: والذي لا إله إلا هو إنك ظالم، ثم خرج.
ودخل عليه ابن السماك الواعظ، فقال: ناولني الدواة، أي دواة الحبر، يقول أبو جعفر لـ ابن السماك: ناولني، قال: لا أناولك، إن كنت تكتب ظلماً أشترك معك في الظلم، وإن كنت تكتب حقاً فلست بخادم لك، فأراد أن يستهزئ به، فوقع ذباب على أنف أبي جعفر، ففعل بالذباب هكذا، فاختفى ثم عاد، قال: يا ابن السماك لماذا خلق الله الذباب؟
يعني: ما الفائدة من الذباب؟
هل منه فائدة؟
هل يحلب أو يذبح أو يؤكل أو يطبخ؟
ما الفائدة من الذباب؟
قال: يا أمير المؤمنين! خلق الله الذباب ليذل به أنوف الطغاة.
فهو لا يقع إلا على أنف الطاغية، قالوا: فخجل أبو جعفر واحمر وجهه.
وخرج مع الشعراء، فقال: من يكمل لي بيتاً أعطيه بردة الرسول صلى الله عليه وسلم التي علي، وبردة الرسول صلى الله عليه وسلم تشترى بالدماء لا يلبسها إلا الخلفاء، قال الشعراء: ما هو البيت؟ قال:
وهاجرة وقفت بها قلوصي يقطع حرها ظهر المطايا
معنى البيت: يقول: هاجرة -شدة حر- وقفت بها ناقتي، وحرها يقطع ظهور الإبل، فقام الشعراء على ركبهم أيهم يسبق لأخذ الجائزة، فقال بشار بن برد الشاعر العجيب قال:
وقفت بها القلوص ففاض دمعي على خدي وأبصر واعظايا
فرمى بالبردة عليه، فاشتراها الناس منه، وبشار هذا كان أعمى، وهو الذي يقول:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
يا ليتني كنت تفاحاً مثلجة أو كنت من ثمر الريحان ريحاناً
وهو الذي يقول:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدم
فأتاه رجل فوجده كالثور من ضخامة جسمه، فقال: أنت الذي تقول:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدم
قال أما يقول الله: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226].(381/13)
نماذج مختارة من شعر العصر
في اليمن الآن شاعر ما زال حياً، وعمره يقارب سبعين سنة، اسمه البردوني من أشعر الناس، وأظن أنه ليس في الأرض أشعر منه في الأحياء، لكن أعمى الله قلبه وبصره، فهو بعثي أعمى، (حشفاً وسوء كيلة) نظم قصيدة في الرسول صلى الله عليه وسلم من أعجب ما سمعت في حياتي، يقول من ضمن أبياتها:
بشرى من الغيب ألقت في فم الغار وحياً وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً وأعلنت في الدنا ميلاد أنوارِ
نحن اليمانين يا طه تطير بنا إلى روابي العلا أرواح أنصار
أنا ابن أنصارك الغر الألى سحقوا جيش الطغاة بجيش منك جرار
إذا تذكرت عماراً وسيرته فافخر بنا إننا أحفاد عمار
هي طويلة ما يقارب ثمانين بيتاً، لكنها بديعة، وقد عارضتها بأبيات ما يقارب أربعين منها أبيات منها قلت في قصيدة:
صوت من الغور أم نور من الغار أم ومضة الفكر أم تاريخ أسرار
يا عيد عمري ويا فجري ويا أملي ويا محبة أوطار وأعمار
تطوي الدياجير مثل الفجر في ألق تروي الفيافي كمثل السلسل الجاري
الشمس والبدر في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبارِ
فما لقومي بلا وعي قد انتكسوا أصغوا لصيحات عربيد وخمار
يبيع ذمته المعهود في وثنٍ والدين ينهار منه في شفا هار
لو بيع في السوق ما حازوا له ثمناً ولو شروه لكان الغبن للشاري
شادوا الدنانير هالات مزخرفة جماعها لا يساوي ربع دينار
نزار قباني: تسمعون عنه، وأنصحكم ألا تقرءوا له، ومن اضطر منكم أن يقرأ له، فليتعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق ثلاث مرات، ويتوضأ، وهو رجل شاعر، لكن إبليس ركبه، وعليه شيطان، ونسأل الله أن يريحنا منه، وله أبيات جميلة لا ننكر جمالها، يقول:
دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي أشكو العروبة أم أشكو لك العربا
أدمت سياط حزيران ظهورهم فقبلوها وباسوا كف من ضربا
وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا
يقول: هؤلاء العرب ما عندهم إلا حزيران، درسوا القومية العربية، وليس للقوميين إلا نكسات مع جولدا مائير وموشي ديان، أما بدر وحطين وأحد واليرموك وعين جالوت، فهي معارك الإسلام الخالدة، ومعارك لا إله إلا الله، يوم اتصلنا بالله، يوم كنا عباداً لله، لكن هؤلاء لما خرقوا منهج الله وكتاب الله عز وجل، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، هزمتهم امرأة عجوز، اسمها جولدا مائير، وطاردتهم من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي، كل مرة تضرب في جهة، حتى يقول موشي ديان: من أراد أن ينتصر فليحارب العرب.
قلنا: حاربت عرباً ولم تحارب أناساً يحملون لا إله إلا الله، لو كان خالد وصلاح الدين أحياءً، لما قلت هذا الكلام.
ويقول: نزار قباني في قصيدة له يرثي جمالاً، وهو مجرم يرثي مجرماً، يقول:
زمانك بستان وروضك أخضر وذكراك عصفور من القلب ينفر
نساء فلسطين تكحلن بالأسى وفي بيت لحم قاصرات وقصر
وليمون يافا يابس في أصوله وهل شجر في قبضة الظلم يثمر
ثم يقول:
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
وانظر إلى جمال الأبيات:
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
ثم يقول:
تناديك من شوق مآذن مكة وتبكيك بدر يا حبيب وخيبر
تعال إلينا فالمروءات أقفرت وموطن آبائي زجاج مكسر
يطاردنا بالموت ألف خليفة ففي الشرق هولاكو وفي الغرب قيصر(381/14)
أثر الشعر في نفس الحجاج
استدعى الحجاج بن يوسف -وتعرفون من هو الحجاج - شاعراً من العرب، وكان هذا الشاعر من اليمامة، لكنه قال أبياتاً يسب فيها الحجاج، فسمعها الحجاج، وقال: والله لأقتلنه، وقتل الرجال عند الحجاج مثل ذبح الدجاج، وما للرجال ميزان عنده، فأركبوا هذا الشاعر المسكين، وقيدوه على الجمل، وقالوا له: ما عليك بأس، وكأنهم يقولون: الحجاج رجل رحيم وحليم، ولا تخف، قال: والله أعرف، ثم بكى ونظر إلى شجرتين في اليمامة وقال:
لقدماً شاقني فازددت شوقاً بكاء حمامتين تجاوبان
كان قد ترك أطفاله وزوجه في اليمامة يبكون عليه، وعرف أنه لا يعود إلا مقتولاً، قال:
لقدماً شاقني فازددت شوقاً بكاء حمامتين تجاوبان
الحمامة على شجرة هنا والثانية هنا:
تجاوبتا بصوت أعجمي على غصنين من غرب وبان
هذه حمامة تبكي على شجر الغرب، والثانية تبكي على البان، واسمع ماذا يقول:
لقدماً شاقني فازددت شوقاً بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بصوت أعجمي على غصنين من غرب وبان
فكان البان أن بانت سليمى وفي الغرب اغتراب غير دان
يقول: معنى البان أنها تبين مني سليمى، ولن ألقاها إلا يوم القيامة، وأما الغرب فهو اغتراب عن الأهل والأوطان، ووصل إلى الحجاج فقتله، فاستمع الحجاج بعد ما قتله إلى مقولته في الشعر، قال: لو أخبرتموني ما قتلته، لكن جلساء السوء لا يذكرون إلا بعد أن تقع الحادثة.(381/15)
نونية ابن زيدون
ابن زيدون: له قصيدة جميلة، يقول:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
إلى آخر ما قال، وقد عارضه بعض الشعراء، ومنهم أحمد شوقي.
يقول: لما ماتت أمه ودفنها في حلوان بـ مصر:
كنز بـ حلوان عند الله نطلبه خير الودائع من خير المؤدينا
يقول: هذا الكنز جعلته في حلوان سوف أطلبه من الله، فهي خير وديعة، وسوف أطلبه من خير المؤدين الذي لا تضيع الودائع عنده سبحانه وتعالى.(381/16)
كلام الخالق وكلام المخلوق
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94] فعسى الله أن يجمع بيننا وبين أحبابنا في الجنة: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] وانظر إلى التعبير.
يا أيها الإخوة! إن أعظم كلام كلام الله، انظر إلى الروعة! وانظر إلى الجمال! وانظر إلى الابداع!
وإنما أنا أتحدث عن كلام البشر، يقول سيد قطب: كلامنا وكلام الله عز وجل مثل هذا التراب، فمن التراب خلق الله الإنسان، وأنا وأنت وأبي وأبوك وجدي وجدك من التراب، ونحن نأتي أحيانا إلى التراب، فنصنع منه أدوات الخزف، أما ترى كيف نصنع الخزف من الماء والتراب؟! فصنع الله من التراب إنساناً، ونحن صنعنا الخزف، قال: فالكلام مثل التراب، الله جعل من هذا الكلام القرآن، ومن هذا الكلام كلامنا، فنسبة كلامنا إلى كلام الله كنسبة الخزف إلى الإنسان، وهذا مثل بديع.
ولذلك تحدى الله العرب، بقوله سبحانه وتعالى: (حم) وبقوله سبحانه وتعالى: (ألم) وبقوله: (ن) فكأنه يقول: هذه الحروف وهذه المادة وهذا الخام، وهذا الحديد والاسمنت والبلك، فابنوا، ولذلك لا يذكر الله الحروف المتقطعة إلا يذكر بعدها القرآن، يقول: هذا كلامكم، ألستم تعرفون الحاء والنون؟! بلى، فلماذا لا تأتون بمثل القرآن: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].(381/17)
من روائع المراثي
التهامي شاعر عجيب، مات ابنه وهو في الرابعة عشرة من عمره، وهذا السن عجيب الرابعة عشرة والعاشرة وما حولها، أحسن سن للشباب، ولذلك تجد أهل المصائب إذا أصيب بابن في هذا السن، يبلغ ببعضهم -إن لم يمده الله بالصبر- أن ينهار.(381/18)
رثاء التهامي لابنه
هذا لما مات ابنه نظم قصيدة رائعة من أروع القصائد، بديعة، يقول فيها:
حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار
إني وترت بصارم في رونق أعددته لصلابة الأوتار
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقول: أما أنا فبقيت مع أهل الدنيا وأهل النكد، وأما هو فأخذه الله إلى جواره:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقولون: رئي التهامي في المنام فقالوا: ما فعل الله بك؟ قال غفر لي، فقالوا: بماذا؟ قال: بقولي:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقول ابن القيم: لله در آسية عليها السلام امرأة فرعون يوم قالت: {إِذْ قَاَلت رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] قال: فقدمت الجار قبل الدار؛ {إِذْ قَاَلت رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] لم تقل: ابن لي بيتاً في الجنة عندك، وإنما قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] فقدمت الجار قبل الدار، وهو جوار الله عز وجل، ونسأل الله عز وجل أن نكون من جيرانه في دار النعيم.(381/19)
رثاء زوجة لجرير
رثاء الزوجات وارد، وهذا لمن يكون بينه وبين أهله ألفة، توفيت زوجة جرير فرثاها بمرثية، يقول:
لولا الحياء لهاجني استعبار ولزرت قبرك والحبيب يزار
ولقد نظرت وما تمتع نظرة في القبر حيث تمكن المحسار
صلى عليك الله ما سنح الدجى والصالحون عليك والأبرار
أبيات طويلة، لكنها من أعظم ما قيل في رثاء الزوجات.(381/20)
متمم بن نويرة
دخل متمم بن نويرة على عمر رضي الله عنه، ومتمم شاعر من شعراء العرب، فقال عمر: يا ليتني يا متمم كنت شاعراً، فأرثي أخي زيداً، وزيد أسلم قبل عمر واسمه زيد بن الخطاب، أسلم قبل عمر، وهاجر قبل عمر، واستشهد قبل عمر في اليمامة، وكان عمر كلما ذكر زيداً يقول: [[والله ما هبت الصبا من نجد إلا جاءتني بريح زيد]] والصبا الريح، التي تهب من المشرق وزيد قتل في اليمامة في جهة نجد، فكان عمر يبكي دائماً يقول: يا ليتني كنت شاعراً، فأرثي زيداً.
ومتمم هذا قتل أخوه مالك بن نويرة، قتله خالد بن الوليد، فلما قتله بكى متمم على أخيه حتى ذهبت إحدى عينيه، يقول:
وكنا كندماني جذيمة برهةً من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
يقول: ما كأنا عشنا ليلة.
الفراق عند العرب من أعظم ما يكون، وأشد شيء على النفس الفراق، قيل لـ جعفر الصادق رضي الله عنه وأرضاه: لماذا لا تصاحب إخوانك؟ قال: خوف الفراق؛ كأنه يقول: أستوحش إذا فارقتهم، ولذلك أتركهم من أول الطريق، وكان الحسن البصري إذا ودع إخوانه يبكى حتى يخاف عليه.
ويقول:
وخفف وجدي أن فرقة واحد فراق حياة لا فراق ممات
وكان المتنبي يوم فارق سيف الدولة وهو غضبان عليه يقول:
فراق ومن فارقت غير مذمم وأم ومن يممت خير ميمم
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى هوى كاسر كفى وقوسي وأسهمي
يقول متمم في أخيه مالك وكان إذا رأى قبراً بكى:
لقد لامني عند القبور على البكا رفيقي لتذراف الدموع السوافك
فقال أتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى بالدكادك
كلما مر بقبر بكى لتذكره قبر أخيه، والله المستعان، أخوه قبره كان بعيداً في بادية من بوادي العرب، لكن إذا رأى أي قبر بكى، قال:
فقال أتبكي كل قبر رأيته لقبر ثوى بين اللوى بالدكادك
فقلت له إن الشجى يبعث الشجى فدعني فهذا كله قبر مالك(381/21)
رثاء أبي تمام لمحمد بن حميد الطوسي
والرثاء عند العرب جميل، كان أحد قواد العرب واسمه محمد بن حميد الطوسي في عهد المعتصم العباسي يقاتل الكفار من صلاة الصبح حتى غربت الشمس ثم قتل، أتدرون كم كان عمره؟ يقولون: ما يقارب السادسة والثلاثين، فكان شاباً قوياً، وكان مؤمناً بالله، لبس أكفانه من الصباح، وأخذ يقاتل بالسيف حتى تكسرت سيوفه، فقتل مع الغروب، فلما قتل قال فيه أبو تمام الشاعر قصيدة يرثيه بها، فلما سمعها الخليفة قال: والله الذي لا إله إلا هو لوددت أني قتلت وأنها قيلت في.
وكان كلما كسروا سيفه أخذ سيفاً آخر، فيكسرونه، فيأخذ ثالثاً حتى وصل الغروب، وقد كسرت يده فقتلوه، يقول أبو تمام:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفر
فتى كلما فاضت عيون قبيلة دماً ضحكت عنه الأحاديث والذكر
تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضر
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
يقول: حتى الأرض كانت تتمنى أنها كلها قبر لك
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
يقول: لم تمت حتى تكسرت السيوف وتقصفت عليك الرماح:
وقد كان فوت الموت صعباً فرده عليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ونفس تعاف الذل حتى كأنه هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمر
إلى آخر ما قال، وهي من أبدع ما قيل.(381/22)
جرير يرثي بشر بن مروان
يقول الحسن البصري: دخلت على بشر بن مروان أخي عبد الملك بن مروان، والي العراق، يقول الشاعر:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق
قال: فدخلت عليه فوجدته غضاً سميناً، عنده الأطباء، وعنده الحشم، وعنده المغنون، وعنده الشعراء، قال: ثم خرجت وجئته في اليوم الثاني، وإذا هو مريض في سكرات الموت، قد نزل من سريره، وكشف فراشه، وهو يتقلب على التراب، ويبكي ويقول: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:28 - 29].
انظر بالأمس كيف كان، وكيف هو اليوم، أمس على سريره وعنده الوزراء والأمراء والشعراء والأدباء والمغنون، والآن على التراب يقول: ما أغني عني ماليه هلك عني سلطانيه، قال: والله ماخرجت من قصره حتى مات، قال: فحملناه إلى المقبرة، فأتى الفرزدق الشاعر فقال:
أعيناي إن لم تسعفاني ألمكما فما بعد بشر من عزاء ولا صبر
ألم تر أن الأرض بعدك أظلمت وأن نجوم الليل بعدك لا تسري
ذكر الذهبي أن محدثاً من المحدثين رحمه الله كان في سكرات الموت، فسمع أحد طلاب الحديث يقول: حدثنا فلان، عن فلان، وهذا المحدث على حافة عالم الآخرة، ولكن تذكر مجالس الحديث ومجالس العلم، فبكى كثيراً ثم قال: أجلسوني، قالوا: أنت في وضع خطير، قال: أجلسوني، فأجلسوه، قال للطالب: أعد قول حدثنا، فأعاد فقال:
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا جبال سلمى ما سقيت لغنت
البيت هذا لرجل من العرب أسروه، ثم شرب الخمر فغنى ورفع صوته، قالوا: لا تغن تسمع الأعداء، قال: تسقوني الخمر ولا أغني، ولذلك الخمر والغناء شريكان، وهما طريقان إلى النار، وإنما ذاك يقول: أسمع الحديث ولا أجلس، وأنا روحي في الحديث.
أحد المحدثين يقول في الرسول صلى الله عليه وسلم:
من زار بابك لم تبرح جوارحه تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن
هؤلاء الرواة ولكن هو حولها إلى أسماء، يقول:
يا رسول الله من أتى إلى بابك أصبحت جوارحه تروي ما أمليت من هذا العلم، وقرة العين توافق اسم قرة بن شريك من المحدثين، والصلة توافق اسم صلة بن أشيم المحدث، وجابر القلب توافق اسم جابر بن عبد الله، وحسن السمع يوافق اسم الحسن البصري ففي البيت تورية، فالكلمات كأنها أسماء الرواة وهو يقصد معاني أخرى.(381/23)
قصيدة البردة لكعب بن زهير
الرسول صلى الله عليه وسلم أهدر دم كعب بن زهير، لأنه هجاه في قصيدة وسبه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مبرأ عن السب، فديناه بأعراضنا ودمائنا وأموالنا، فلما سمع صلى الله عليه وسلم قال: من وجد كعباً فليقتله، فسار كعب ينام في النهار ويمضي في الليل، وفي الأخير ضاقت به الأرض بما رحبت، فذهب إلى مشايخ قومه وقال: ما هو الحل؟ ما المخرج؟ قالوا: انظم قصيدة، واذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وامدحه بها، فذهب، وأمسى عند أبي بكر في الليل، قال: يا أبا بكر! ما رأيك؟ قال: عندك شيء من الشعر، قال: عندي قصيدة، قال: إذا كانت صلاة الصبح، فأنا سوف أتقدم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأستأذن لك في أن تلقي قصيدتك، فلما صلى عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر بالناس، قال: يا رسول الله! كعب بن زهير يريد أن يلقي عليك أبياتاً، قال: قل، وكان أحلم الناس صلى الله عليه وسلم وأكرم الناس قال:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
وما سعاد غداة البين إذ رحلوا إلا أغن غضيض الطرف مكحول
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ ـقرآن فيها مواعيظ وتفصيل
يقول: اصبر واحلم.
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة الـ ـقرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثرت فيَّ الأقاويل
يقول: لا تصدق أقوال الاستخبارات فيَّ.
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثرت في الأقاويل
لقد أقوم مقاماً لو يقوم به أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل ترعد من وجد بوادره إن لم يكن من رسول الله تنويل
يقول: يا رسول الله! سهرت وتعبت، وخفت وتشردت عن أهلي، وطاردني الناس، فارحمني يا رسول الله، واحلم عني، وكف عني يا رسول الله.
لقد أقوم مقاماً لو يقوم به أرى وأسمع ما لو يسمع الفيل
لظل ترعد من وجد بوادره إن لم يكن من رسول الله تنويل
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقمات قوله القيل
يقول: ذهبت من بوادي العرب وجئت إليك، ووضعت يميني في يمينك، فإن كنت تريد قتلي فاقتلني، وإن كنت تريد ذبحي فاذبحني وإلا فاعف عني، وأنت إذا قلت قلت، ثم يقول:
إن الرسول لنور يستضاء به مهند من سيوف الله مسلول
في عصبة من قريش قال قائلهم ببطن مكة لما أسلموا زولوا
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف عند اللقاء ولا ميل معازيل
لا يقع الطعن إلا في نحورهم وما لهم عن حياض الموت تهليل
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
يقول: إن قتلتني اليوم، فكلنا نلتقي عند الله، وإن عفوت عني فسوف أموت، فالقضية موت موت، فخلني أياماً مع أهلي.
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول
فخلع صلى الله عليه وسلم بردته، وهذه البردة كانت من أجمل ما يكون، فخلعها وألبسها كعباً وقال: عفوت عنك، ثم باعها بنوه من معاوية بن أبي سفيان بأربعين ألف درهم، وبيعت هذه البردة حتى وصلت خلفاء الأتراك من بني عثمان في إسطنبول، وهي في متحف هناك، وتساوي الملايين، وهي أغلى من الدنيا وما فيها، لأن محمداً صلى الله عليه وسلم لبسها.
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا(381/24)
وصف الحب للشيرازي
شاعر إيراني، من أهل السنة، له أبيات جميلة أذكرها لكم يقول:
بكت عيني غداة البين دمعاً وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بالدمع ضنت بأن أغمضتها يوم التقينا
يقول: أنا لما فارقت أحبابي بكت اليمنى، واليسرى ما بكت، فلما التقينا بعد سنة، عاقبت التي ما بكت ذاك اليوم بأن أغمضتها ونظرت بواحدة.
ويقول:
قال لي المحبوب لما زرته من ببابي قلت بالباب أنا
يقول: طرقت الباب، قال: من؟ قلت: أنا، و (أنا) منهي عنها في السنة، يقول جابر عند البخاري: {طرقت الباب على الرسول صلى الله عليه وسلم قال: من، قلت: أنا، قال: أنا أنا كأنه كرهها} قل: فلان أبو محمد، علي بن سعيد، محمد بن فلان، حتى تعرف.
ولذلك لما طرق جبريل السماء على الملائكة، قالوا: من؟ قال: جبريل، قالوا: من معك؟ قال: محمد، قالوا: مرحباً بك وبمن معك، وفتحوا الباب، فيقول الشيرازي:
قال لي المحبوب لما زرته من ببابي قلت بالباب أنا
قال لي أخطأت تعريف الهوى حينما فرقت فيه بيننا
يقول: لماذا تقول أنا؟ ليس في المحبة أنا وأنت.
ومضى عام فلما جئته أطرق الباب عليه موهنا
قال لي من أنت قلت انظر فما ثم إلا أنت بالباب هنا
يقول: أنت عند الباب
قال لي أحسنت تعريف الهوى وعرفت الحب فادخل يا أنا(381/25)
أبيات الحكمة
يقول صلى الله عليه وسلم: {إن من الشعر لحكمة} يقول المتنبي في الحكمة:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم
أنا أشرح هذا البيت، العاقل الخائف من الله، مستقيم، يصلي ويخاف من عدم الخشوع في الصلاة، يذكر الله ويخاف ألا يقبل منه، يعبد الله ويخاف من الرياء، يتصدق ويخاف من الناس، يستقيم ويخاف من النار، ويبكي في الندوات وفي الدروس وفي المحاضرات، ويقول: أعوذ بالله من عذاب النار، ويقول: ربنا اصرف عنا عذاب جهنم.
بينما الفاجر تجده في الشقاوة ينعم، بيده كأس الخمر، والمجلة الساقطة، والأغنية، والكيرم، والبلوت، يسهر في المقاهي إلى الثالثة ليلاً، بعيد عن الله ويضحك، حتى إذا قلت لذاك المؤمن: يا عبد الله اسمع إلى قوله سبحانه وتعالى: (حم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر:1 - 3] قال: لا إله إلا الله! الله المستعان! اللهم اغفر لنا وارحمنا، لكن اقرأها على هذا الشقي فسيقول: الله غفور رحيم، والله سبحانه وتعالى لا يؤاخذنا بأعمالنا، ونحن أحسن من الكفار، ويقول: أنا قد سافرت إلى أمريكا، ونحن أحسن منهم، فهو ينظر دائماً إلى أقل منه في الأعمال الصالحة:
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم
ويقول المتنبي:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته فأصبح في ليل من الشك مظلمٍ
يقول: إذا ساء فعل المرء، ساءت ظنونه في الناس، والسارق يظن أن الناس يسرقون مثله، والكاذب يظن أن الناس كذبة، الفاجر يظن أن الناس فجرة.
(كاد المريب أن يقول خذوني) ماتت أخت سيف الدولة، فيقول المتنبي:
نعد المشرفية والعوالي وتقتلنا المنون بلا قتالِ
يقول: نحن نتهيأ بالسيوف والرماح في البيوت، ولكن هذا الموت يقتلنا بلا قتال، كم عندنا من القوات، وكم عند الناس من القوات، ولكن يأخذ الموت الناس غرة:
نعد المشرفية والعوالي وتقتلنا المنون بلا قتال
ويدفن بعضنا بعضاً وتمشي أواخرنا على هام الأوالي
ربما كانت بعض الكاسات التي نشرب فيها أجزاء من أجسام الناس.
رفع لـ علي كوز من الخزف، كان علي بن أبي طالب يشرب منه وهو في الكوفة، فبكى علي، قالوا: مالك؟ قال: [[يا كوب كم فيك من طرف كحيل ومن خد أسيل!]] يعني من البشر، يقول أبو العلاء المعري:
خفف الوطء ما أظن أديم الأرض إلا من هذه الأجساد
صاح هذي قبورنا تملأ الرحب فأين القبور من عهد عاد
{وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم:45 - 46].
ولو كان النساء كمن فقدنا لفضلت النساء على الرجال
يقول: بعض النساء أفضل من الرجال، وهذا صحيح، بعض النساء تساوي ثلاثة آلاف رجل، وبعض النساء تضرب زوجها وهي أشجع منه، وبعض النساء في العالم الآن تهدد الرجال، تاتشر تهدد صدام حسين الآن وهو خائف منها، يراها في النوم سبع مرات، وقد كانت لما اعتدى على الكويت في دنفر، يقولون: سمعت الخبر أن العراق اعتدى الكويت، فضربت رأسها، ودخلت الكنيسة لتصلي على مذهبها الباطل ودينها المنحرف مثلها.(381/26)
الشيب في الشعر العربي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
ذكر الشيب عند العرب كثير، وبعضهم يراه وقاراً، وبعضهم يتشاءم منه، والصحيح أنه وقار للمؤمن وشرف له، وفي بعض الأحاديث التي يحسنها بعض العلماء: {من شاب شيبة في الإسلام جعلها الله له نوراً يوم القيامة}.
ونظر إبراهيم عليه السلام إلى المرآة فرأى شيباً فقال: يا رب ما هذه! قال: نور ووقار يا إبراهيم، قال: اللهم زدني وقاراً، يقول المستنجد الخليفة:
عيرتني بالشيب وهو وقار ليتها عيرت بما هو عار
امرأته عيرته بالشيب، تقول: أنت يا شايب، يقول: يا ليتها عيرتي بعيب، لكن هذا الشيب وقار عند الله عز وجل.
وقال أبو العتاهية:
بكيت على الشباب بدمع عيني فلم يغن البكاء ولا النحيب
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيب
يا ليت الشباب يعود مرة، فأخبره بما فعل المشيب في، ما نومني في الليل وما تركني أرتاح ولا أهدأ.
وهذا أحد الشعراء العرب يقولون: كبر سنه وبلغ الثمانين، وكان يتأوه في الليل ولا ينام من طول السنين ومن الأمراض ومن الأوصاب، فقال له أبناؤه: مالك لا تنام؟ ماذا تشتكي؟ فقال في أبيات له:
قالوا أنينك طول الليل يسهرنا فما الذي تشتكي قلت الثمانينا
الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية، الذي توفي من سنوات رحمه الله رحمة واسعة، خرج في آخر خروج له من المسجد الكبير في الرياض يتعكز على عصا، وفيه كحة وكبر في السن، وكان ولياً من أولياء الله وموحداً صادقاً، فلما خرج أخذ ينزل من الدرج بتعب، وكان يتكئ على بعض الناس فما استطاع، فقال:
إذا الرجال ولدت أولادها وأخذت أسقامها تعتادها
وكثرت من مرض عوادها فهي زروع قد دنا حصادها
ومات بعد يومين.
ومعنى (إذا الرجال ولدت أولادها) إذا ولد لولدك ولد، وأصبحت جداً، فتحر الموت وتحر سكرات الموت.
(وأخذت أسقامها تعتادها) فإذا كثر مراجعة المستشفى، يصبح الإنسان من كل جهة قطع غيار، ينتهي المستشفى من أذنه، فيأتي المرض في العين، ومن العين إلى اليد، ومن اليد إلى الرجل، ومن الرجل إلى الكبد، ومن الكبد إلى الطحال، أصبح كله مثل السيارة المجمعة من كل جهة.
(وكثرت من مرض عوادها) دائماً عواد عليه كل مرة، أحدهم يقول: كيف حالك يا فلان؟ وهذا يتصل بالهاتف، وهذا يطرق الباب، والشباب الآن لا يعودون في الغالب إلا الكبار.
قال:
(فهي زروع قد دنا حصادها) فانتبه فقد سافرت إلى الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى} [الأنعام:94] وهذه عبرة للإنسان.
يقول شاعر عربي:
وإن تسألوني بالنساء فإنني عليم بأسرار النساء طبيب
إذا شاب رأس المرء أو قل ماله فليس له من ودهن نصيب
فالمرأة تمدح الرجل، وتقول: أنا معك حتى لو تدخل النار أدخل معك، أعوذ بالله من النار، لكن إذا شاب أو ضعف أو قل ماله، فربما تقلب له ظهر المجن، وهذا في الغالب، وإلا ففيهن صالحات، لكن كما يقول الأول:
رأين الغواني الشيب لاح بعارضي فأعرضن عني بالخدود النواضر
فالشيب عدو لهن، وقد قال ابن الجوزي في كتاب صيد الخاطر: ليحذر الكبير من أن يتزوج البنت الصغيرة.
وقد تجد الرجل في الثمانين يتزوج بنتاً عمرها خمسة عشر، وبعد شهرين يموت، ولهذا نهي عن الخضاب لأن صاحبه يدلس على الناس، يأتي ابن الثمانين يخضب لحيته، فيأتي كأنه شاب، كم عمرك يا فلان؟ فيدلس عليهم، فإذا بهم يزوجونه، وبعد فتره يموت.
على كل حال: هذا يحذر منه، إنما الإنسان يتزوج الإنسان بمن تكافئه في السن.
ولا بأس بزيادة سن معقول عشر سنوات أو نحوها.(381/27)
وصف الزهرة لأبي نواس
أيها الإخوة! شكا إلي بعض الإخوة وقال: ما أتيت بشعر يرقق القلوب، فأقول: إن المقصود شيء من المرح، كما يفعل صلى الله عليه وسلم يستمع شعر العرب.
يقول أبو نواس: -وهو مسرف على نفسه وقد لقي الله بما قدم- يقولون: كان يشرب الخمر وله الخمريات، وهي قصائد طويلة، ولكن رئي في المنام وقالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، ورحمته وسعت كل شيء، لا إله إلا الله، إن الله لا يتعاظمه ذنب، وقد قال: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم:32] قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: بأني وصفت وردة النرجس التي مثل الرمان فقلت:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
يقول: في سكرات الموت قبل أن يموت جلس على الفراش يبكي ويقول:
لهونا لعمر الله حتى تتابعت ذنوب على آثارهن ذنوب
فيا ليت أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوبُ
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفيه عنه يغيب
يقال: إن الإمام أحمد لما سمع قوله:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
قام فأغلق على نفسه الباب، وظل يبكي حتى سمع بكاؤه من خارج البيت، وهو يقول:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل علي رقيب
وفي هذا المعنى يقول الأندلسي:
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
وهي من أجمل الأبيات
ويقول شاعر عربي:
فليست عشيات اللوى برواجع عليك ولكن خل عينيك تدمعا
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا
يقول: هذه العيون مشكلة، بكت اليمنى وصبرت اليسرى، فقلت لليمنى: استحي وانظري إلى أختك اليسرى فإنها لم تبك، فبكت اليسرى معها:
بكت عيني اليمنى فلما زجرتها عن الجهل بعد الحلم أسبلتا معا(381/28)
الأسئلة(381/29)
شعر الخنساء في رثاء صخر
السؤال
أورد لنا أبيات الخنساء في أخيها صخر؟
الجواب
كانت ترثيه لأنه قتل في الجاهلية، وقتل لها أربعة أبناء فما بكت عليهم كثيراً، قالت: لأنهم ماتوا إلى الجنة، وكان صخر يقسم ماله نصفين ويعطيها النصف وله النصف، تقول:
وإن صخراً لوالينا وسيدنا وإن صخراً إذا نشتو لنحار
حمال ألوية هباط أودية شهاد أندية للجيش جرار
وتقول:
فلولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي
وما يبكين مثل أخي ولكن أسلي النفس عنه بالتأسي
الرثاء عند العرب جميل جميل.(381/30)
بردة البوصيري
السؤال
أسمعنا بعض نهج البردة ووضح لنا بعض الأخطاء؟
الجواب
هي اسمها البردة، وليس نهج البردة، نهج البردة لـ أحمد شوقي، والبردة للبوصيري في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، البوصيري إمام مصري، لكنه أخطأ وابتدع في آخر القصيدة، ولو أنها جميلة جد جميلة، يقول:
أمن تذكر جيران بذي سلم مزجت دمعاً جرى من مقلة بدم
أم هبت الريح من تلقاء كاظمة وأومض البرق في الظلماء من إضم
فما لعينيك إن قلت اكففا همتا وما لقلبك إن قلت استفق يهم
إلى آخر ما قال، ثم قال:
والنفس كالطفل إن ترضعه شب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فاصرف هواها وحاذر أن توليه إن الهوى ما تولى يُصْم أو يَصِمِ
بشرى لنا معشر الإسلام إن لنا من العناية ركناً غير منهدم
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأمم
ولكنه أخطأ في آخرها حين قال:
يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حدوث الحادث العمم
أستغفر الله، لا يلاذ إلا بالله:
إن لم تكن في قيامي آخذاً بيدي فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم
فإن من فضلك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
وهذا مبالغة وغلو وشرك وابتداع، وعارضه أحمد شوقي في قصيدة يقول فيها:
ريم على القاع بين البان والعلم أحل سفك دمي في الأشهر الحرم
رمى القضاء بعيني جؤذر أسداً يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم
ثم يقول في الرسول صلى الله عليه وسلم:
أسرى بك الله ليلاً إذ ملائكه والرسل في المسجد الأقصى على قدم
كنت الإمام لهم والجمع محتفل أعظم بمثلك من هاد ومؤتمم
لما خطرت به احتفوا بسيدهم كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلم
وقيل كل نبي عند رتبته ويا محمد هذا العرش فاستلم
مولاي صل وسلم ما أردت على نزيل عرشك خير الرسل كلهم
صلى الله عليه وسلم.
ولي قصيدة في النبي صلى الله عليه وسلم ما يقارب ثمانين بيتاً على نسق هذا البحر والروي:
نصرت بالرعب شهراً قبل موقعة كأن خصمك قبل القتل في حلم
إذا رأوا طائراً في الجو أذهلهم ظنوك بين ربوع الجيش والحشم
وإن أتوك ضيوفاً يطلبون قرى رأوك بحرا يعم البيد بالديم
أنسيتهم حاتم الطائي ومحتده وحدثوا كلهم بالبخل عن هرم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها عذب من الوحي أو نور من الكلم
وسوف تجمع هذه القصائد كاملة إن شاء الله في مجلد اسمه: من أعذب الشعر.(381/31)
صحة حديث لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً
السؤال
هل صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير من أن يمتلئ شعراً}؟
الجواب
نعم هو في الصحيحين ولفظه: عن أبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: {لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه، خير له من أن يمتلئ شعراً} والمعنى في هذا يقول البخاري: باب ما يكره من الشعر إذا كان الغالب على الإنسان حتى يشغله عن القرآن والذكر والعلم، فإذا كان الشعر غالباً على الإنسان في كل أوقاته، فهذا سيشغله عن القرآن، لكن لا بأس أن يكون كالتوابل على الطعام.(381/32)
من أشعار المتنبي
السؤال
أرجو أن تذكر لنا قصيدة من قصائد الفيلسوف المتنبي؟
الجواب
أنت أول من يقول: إن المتنبي فيلسوف، وهو ليس كذلك، بل هو شاعر، المتنبي كان عند سيف الدولة في حلب، ذهب إلى كافور الذي كان مولى ثم حكم مصر وذلك أنه غضب من سيف الدولة في حلب، فذهب إلى كافور يمدحه، ومدحه من أجل الشهوة والشهرة والمنصب، وهو شاعر مجيد، لكنه لم يستخدم شعره في مدح الإسلام، فمدح كافوراً بمدح عجيب حتى يقول:
لقيت المرورى والشناخيب دونه وجبت هجيراً يترك الماء صاديا
أبا كل طيب لا أبا المسك وحده وكل سحاب لا أخص الغواديا
وكافور هذا كنيته أبو المسك، يقول أنت أبو كل طيب في الدنيا، وليس المسك وحده، فلما غضب عليه طرده من مصر، فنام في الطريق، فأتته الحمى، فقال قصيدة اسمها الحمى، وكانت زوجته في بلد وأبناؤه في بلد، وأصدقاؤه في بلد، وجيرانه في بلد كما قال أبو تمام:
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
يقول في هجاء كافور يقول:
عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمر فيه تجديدُ
أتى عيد الفطر وهو مريض ومسافر.
عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم بأمر فيه تجديدُ
يقول: يا عيد ليتك ما أتيت، وليت بيني وبينك صحاري واسعة:
أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونك بيداً دونها بيدُ
إني نزلت بكذابين ضيفهم عن القرى وعن الترحال محدودُ
جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ
جوعان يأكل من زادي ويمسكني لكي يقال عظيم القدر مقصودُ
يقول: يأكل كافور من زادي، ويأكل خبزي، ويحبسني في مصر.
ثم يقول:
لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيدُ
أما قصيدة الحمى فيقول فيها:
ملومكما يجل عن الملام ووقع فعاله فوق الكلام
وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلام
وهو يعني الحمى؛ لأن الحمى لا تأتي إلا في الظلام، وهذه من صفات الحمى، ومن ميزات الحمى أنها لا تأتيك إلا بعد صلاة العشاء، فترجفك رجفاً، ويسمونها المكسرة، لأنها تدخل ثلاث مائة وستين عضواً، ما تدخل عضواً إلا تحكمة، يقول:
وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا فعافتها وباتت في عظامي
يقول: فرشت لها بجنبي، وقلت: نامي هنا، يقول: فعافت الفراش وباتت في عظامي.
أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام
يقول: عندي كل مصيبة، عندي ثلاثون مصيبة: مصيبة الألم، ومصيبة كافور، ومصيبة سيف الدولة، ومصيبة الأطفال، وأنت جئت تكملين، كيف وجدت لك مدخلاً؟!
أبنت الدهر عندي كل بنت فكيف وصلت أنت من الزحام
إذا ما فارقتني غَسَّلَتْنِي كأنا بائتين على حرام
إلى آخر ما قال، ويقول في آخرها:
وآنف من أخي لأبي وأمي إذا ما لم أجده من الكرام
ولما صار ود الناس خباً جزيت على ابتسام بابتسام
أصبح كلام الناس مجاملات، يقول: كيف حالكم في الصباح؟ وهو لا يدري كيف حالك، ولا يهمه حالك، يقول: والله دائماً نتذكركم، والله يجعلكم في خير وعافية، وهو لا يهتم بك ولا بحالك، أما المسلمون المؤمنون فلا، ثم يقول:
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
رجل يمكنه أن يكون مستقيماً مع الله عز وجل، ولكنه لم يستقم، فهذا أعيب العيب.
كان ديجول رئيس فرنسا يحب بيت المتنبي هذا -يقولون: الشعر والدبابات في فرنسا - فطلب منهم أن يكتبوا بيت المتنبي على الدبابة التي تقود الدبابات، وكان يعجبه هذا البيت:
ولم أر في عيوب الناس عيباً كنقص القادرين على التمام
المتنبي مبدع في الشعر، وقد ذهب إلى الله كغيره من الشعراء.(381/33)
شعر للأعشى في المديح
السؤال
أورد لنا بعض الأبيات في المديح؟
الجواب
أصلاً لا يستحق المديح صراحة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أولى الناس بالمديح، يقول أحد الشعراء فيه:
فما حملت من ناقة فوق ظهرها أبر وأوفى ذمة من محمد
صلى الله عليه وسلم.
وعمر رضي الله عنه سمع بيتاً يقول فيه:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرةٌ إلى ضوء نار في اليفاع تحرق
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
والمحلق من العرب، كان عنده ثمان بنات لم يزوجهن، والسبب أنه كان بخيلاً، والعرب تغفر أي مرض إلا البخل، وكان في الجاهلية، فأصابه تكدس في البنات، حتى كلما تقدم رجل ليخطب بنته، قالوا: هو بخيل، فيقول: والله لا أخطب بنته، وكذلك كلما جاءه رجل قالوا: الرجل بخيل، فأتت امرأته فقالت لزوجها المحلق: لماذا لا تذهب إلى الأعشى الشاعر وتقريه وتضيفه وتكسوه، فيمدحك بالكرم، فتتزوج بناتك؟ قال: صدقتِ أصاب الله بك الخير، فذهب إلى الأعشى، فذبح له ناقة، وهو لا يذبح دجاجة أصلاً، ولكن من أجل تزويج بناته، فلما ضيفه كساه وألبسه، وقال: اذهب ولكن لا تنسنا من بعض الأبيات، فقال الأعشى وهو شاعر العرب، وهو صاحب قصيدة:
ودع هريرة إن الركب مرتحل وهل تطيق وداعاً أيها الرجل
فقال في المحلق:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار في اليفاع تحرق
يقول: والله لقد نظرت عيون العرب كلها في البادية إلى ضوء هذا الرجل الكريم الذي يضيف الناس، ويكرم الناس، ويشعل النار.
تشب لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
يقول: الذي أصابه برد وجوع يأتي إلى هذه النار.
الندى: -الكرم- والمحلق باتا على النار، قال عمر: [[ذاك رسول الله عليه الصلاة والسلام]] فلما مدحه تزوجت بناته الثمان في شهر.
وقد أراد الأعشى أن يسلم، فأتاه شياطين الإنس، فصرفوه عن الإسلام، خرج من اليمامة، ومنزل الأعشى قريب من الرياض، مدفون هناك، وقيل دفن في ديراق وهي قريب من الرياض، على يمينك إذا دخلت الرياض وعلى يسارك إذا خرجت من الرياض.
خرج على ناقة يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم قال:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم مسهدا
شباب وشيب وافتقار وثروة فلله هذا الدهر كيف ترددا
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تزور محمدا
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم تراحي وتلقي من فواضله يدا
إلى أن يقول:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
فلقيه أبو سفيان، وكان لا يزال مشركاً عدواً للرسول صلى الله عليه وسلم قال: أين تذهب؟ قال: إلى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: أنظمت قصيدة؟ قال: نعم.
قال: كم ترجو منها؟ قال: مائة ناقة.
قال: أنا أعطيك مائة ناقة وارجع، فأعطاه مائة ناقة، فصرفه عن الإسلام، فركب إحداها، فوقصته، فكسرت عنقه، فمات مشركاً.
أسأل الله أن يتوفانا مسلمين وأن يهدينا وإياكم.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(381/34)
قصص مكذوبة
القصص المكذوبة لها آثار سلبية عن الدين والدنيا، فإنها بين طرفي نقيض؛ إما غلو أو تفريط، والدين منهما بريء.
والشيخ في هذا الدرس ذكر قصصاً كثيرة مشهورة، متداولة على الألسنة، لكنها مكذوبة.(382/1)
قصيدة في محاربة المخدرات
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
إخوتي في الله: عنوان هذه المحاضرة: (قصص مكذوبة).
انتشرت في التاريخ قصص، ورواها عامة الناس، وتكلم بها بعض الخطباء على المنابر، وانتشرت بين بعض طلبة العلم، وفيها بعض الآثار التي لا تصح إلى المعصوم عليه الصلاة والسلام، فحاولت هذه الليلة -مستعيناً بالله- أن أبين هذه القصص المكذوبة، ليستقيها طالب العلم، وليكن المسلم على بصيرة منها.
لكن قبل أن أورد هذه القصص، هنا مناسبة وهي من قضايا الساعة في هذه الأيام، وهي: قضية المخدرات، وعندنا في الأدب الإسلامي بديل عن الأدب الحداثي والأدب المغرض والأدب غير الملتزم، فأردت أن أعرض أبياتاً نصرة لله، ودعوة إلى الإسلام، ودعوة إلى الخير، وتحذيراً من هذه، فاسمحوا لي بين يدي هذه المحاضرة أن أورد مقطوعة بعنوان: (الإيمان وحرب المخدرات).
حارب الناس المخدرات، والعالم كل العالم مجمع على حرب المخدرات، لقد حاربوا المخدرات بالحديد والرصاص ونحاربها نحن بالإيمان والإخلاص، حاربوا المخدرات بالتنديد والتهديد ونحن نحاربها بالإيمان والتوحيد.
فما معنا إلا الإيمان، وليس لنا من عطاء إلا الإيمان، يوم نؤمن بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً.
كتبنا في ربى أبها عباره وصغنا في مغانيها إشاره
هلاً بضيوفنا في خير نزلٍ ترحب في قدومكم الحجاره
من الإيمان قد صرنا صروحاً وتوجنا من التقوى مناره
وبايعنا الرسول إمام صدق بنبينا في القلوب له مناره
عليه الصلاة والسلام.
كتبنا بالدموع له خلوداً على الأيام تبقى في جداره
نعاهد ربنا عهداً وثيقاً لنحمل في سما العليا شعاره
لشرع محمد سالت نفوس من الإيمان قد عشقت جواره
أقول له وقلبي غصن حب يقدم في محبته ثماره
بنورك أدرك التاريخ ثاره ومن جدواك ساق الفتح داره
وقبلك كانت الدنيا ظلاماً وكان العرب قبلك في حقاره
نسجت لنا من الصحراء جيلاً سرى في الكون قد رفع الحضاره
شبابك في ربى الحمراء صلوا وجيشك نظموا في الهند غاره
وشمسك أشرقت في كل قلب ونورك قد سما في كل حاره
رمينا يا بن قومي بالدواهي بقوم عاكفين على الشطاره
زنادقة رضوا بالكفر ديناً حداثيين ضلوا يا خساره
لهم في موسكو نسب عريق ودين الله قد هتكوا ستاره
ونجل مبتلى بمخدرات أقام على بصيرته سكاره
يواري بالثياب سواد فتك يدنس من معاصيه الطهاره
تغافل عن هدى الإسلام حتى تغير نوره إذ شب ناره
يقلد في الرذائل أجنبياً لشرب الكأس أو حمل السجاره
ألسنا في العلا أحفاد سعد وأبناء المثنى وابن واره
هموا فتحوا بسيف الله الحق في الدنيا نهاره
فبشرى المجد أنا قد صحونا لننصر دين أحمد في مهاره
يشرفنا من الأفغان نجب شديد بأسهم يوم الجساره
ويؤسفنا من الأقصى نداء يعيش يعيش أطفال الحجاره(382/2)
أحاديث سئل الشيخ عن صحتها
وهنا أسئلة عن خمسة أحاديث:
السؤال
ما صحة قوله صلى الله عليه وسلم: {لا شفاعة في الحدود}؟
الجواب
روى هذا الحديث البيهقي بسند ضعيف، وقال البيهقي: إسناده منكر، وكل الآثار لا تخلو من مقال، لكن معناه صحيح، فإنه لا شفاعة في الحدود في الإسلام.
السؤال
حديث: {نهى صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن بيع الكالئ بالكالئ} أي: بيع الدين بالدين؟
الجواب
هذا الحديث رواه البزار بسند ضعيف، وله آثار تشهد له، لكنه من هذا الطريق ضعيف.
السؤال: حديث: {نهى صلى الله عليه وسلم عليه وسلم عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة}؟
الجواب: هذا الحديث يقول الترمذي: حديث صحيح، وأخرجه ابن الجارود، لكن ليس بصحيح، فقد رواه الحسن البصري عن سمرة بن جندب ولم يسمع الحسن من سمرة إلا حديث العقيقة، فالحديث هذا ضعيف.
السؤال: حديث: {أبغض الحلال إلى الله الطلاق}؟
الجواب: حديث ضعيف، رواه أبو داود بسند مرسل، وهو مرسل عند أهل العلم، وما علمت أحداً صححه.
السؤال: حديث: {كل قرض جر منفعة فهو ربا}؟
الجواب: هذا الحديث رواه الحارث بن أسامة بسند واهٍ، وفي سنده سوار بن مصعب ولا يصح حديثه، لكن معناه صحيح، بل إنه مجمع على معناه، وأما هو من هذه الرواية فلا يصح مرفوعاً إليه عليه الصلاة والسلام.(382/3)
النهي عن الكذب
عنوان هذا الدرس: (قصص مكذوبة) الكذب من الكبائر، وهو علامة من علامات المنافقين، والرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه في الصحيحين من حديث ابن مسعود أنه قال: {ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقاً} وقال في الكذب: {وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار -وهو الشاهد وأنا لم آت بالحديث من أوله- ولا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً}.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام في الصحيحين أنه قال: {ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً -وذكر منها عليه الصلاة والسلام- وإذا حدث كذب} والله سبحانه وتعالى يقول: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61].
فالكاذب ملعون، ولا يسمح بالكذب ولا يستثنى إلا في ثلاثة صور:
الأولى: كذب الرجل على زوجته، وكذب الزوجة على زوجها في قضايا الحب ونحوه.
الثانية: كذب الرجل في الإصلاح بين الناس.
الثالثة: والكذب في المعركة مع الكفار.
وأما غيرها فمحرم، والكذب من أسوء صفات الرجل، حتى يقول أبو سفيان -وهو مشرك- لما سأله عظيم الروم عن الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: ولولا أن يأثروا عني الكذب لكذبت؛ مع أنه لا يعرف جنة ولا ناراً ولا يخاف كافراً، لكن خاف أن يسمع عنه العرب أنه كذب في حديثه، فلا يقبلون منه ولا يصدقونه ولا يأتمنونه، وتنزل منزلته في قلوبهم.
هناك قصص كثيرة أنا أستعرضها وأعلق عليها:(382/4)
بيان بعض القصص المكذوبة(382/5)
قصة علي بن أبي طالب والشمس
القصة الأولى: ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان معه علي بن أبي طالب -وهذه القصة مشهورة بين الناس- فنام علي عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فاستيقظ فسأل الله أن يرد الشمس عليه فردها الله، فصلى العصر.
ذكر هذه القصة البغوي وأمثاله، وقال ابن تيمية: لا تصح، والبغوي ليس محققاً في الآثار ولا مصححاً في الأسانيد، وقال ابن كثير: الذي يروي هذه القصة كمثل ما قال الأول:
إن كنت أدري فعلي بدنه من كثرة التخليط أني من أنا
وهذه القصة منتشرة عند طوائف من الناس وهي كذب، فإن الله لم يردها عليه، بل صح عنه عليه الصلاة والسلام أن الله لم يرد الشمس إلا ليوشع، وهو نبي من أنبياء بني إسرائيل عليهم الصلاة والسلام.
فإن يوشع أراد أن يقاتل الكفار، فأوشكت الشمس أن تغيب، وقد وعده الله أن ينصره قبل أن تغيب الشمس، فالتفت إلى الشمس قال: أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها عليّ فحبسها الله، حتى انتصر وفتح الله عليه الفتوح ثم غابت، يقول أحمد شوقي:
قفي يا أخت يوشع حدثينا أحاديث القرون الغابرينا
يقول: يا شمس يا أخت يوشع.
وأبو تمام كذلك ضل في قصيدة له يثبت فيها أن الشمس ردت على علي، يقول:
فرُدَّت علينا الشمس والليل راغم بشمس بدت من جانب الخدر تطلع
يتكلم في محبوبته لأنه عاشق ما انضبط مع الكتاب والسنة، يقول: لما ظهرت وطلعت الشمس من الخدر ونحن في الليل.
فو الله ما أدري علي بدا لنا فردت له أم كان في القوم يوشع
وقد أتى بها ابن كثير فقال: وهو كذلك لا يعرف يمينه من يساره، أو كما قال.
فهذه القصة مكذوبة باطلة، لا يجوز أن يرويها المسلم إلا على وجه التنبيه؛ لأنها باطلة ومكذوبة، فلم يرد الله الشمس لـ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وما فاتته صلاة العصر وهذه القصة يرويها أهل البدع في كتبهم بأسانيد: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40].(382/6)
قصة علقمة وأمه
القصة الثانية: قصة علقمة وأمه، يرويها الخطباء في بعض المساجد، تقول القصة: إن علقمة كان عاقاً لوالديه، وكان يقدم زوجته على أمه، فحضرته الوفاة، فطلب من أمه أن تسامحه فرفضت، فانغلقت عليه الشهادة فما استطاع أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، فذهبوا إلى أمه وقالوا: اعفي عنه، فقالت: لا.
فذهبوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فاستدعى أمه، فطلبها العفو فرفضت، قال: اجمعوا لي حطباً، قالت: ما تريد بهذا يا رسول الله؟ قال: أريد أن أحرق علقمة، قالت: غفر الله لـ علقمة، فذهبوا فوجدوه قد تشهد.
هذه القصة كذب وليست بثابتة، ولم يروها أحد من أهل العلم الموثوق بهم في الكتب المعتمدة، فلا يجوز للمسلم أن يرويها على المنابر، ويكفينا من الأحاديث الصحيحة والآيات الواضحة في القرآن عن بر الوالدين قوله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء:23].
وفي الصحيحين: {أن رجلاً أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله! من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أمك.
قال: ثم من؟ قال: أبوك} وبعض الناس يريد أن يكذب لكن ما عنده خبرة في الكذب، وما درس الكذب دراسة، فلذلك يسميهم ابن الجوزي: كذب الحمقى.
ومن ضمن كذبهم قالوا: أنه قام واعظ كذّاب يعظ الناس بعد صلاة العشاء، فقال من ضمن كلامه: اسم الذئب الذي أكل يوسف: نون.
وما علم أن الذئب لم يأكل يوسف، لكن الواعظ نسي فكذب، فقالوا: سامحك الله! الذئب ما أكل يوسف قال: أجل هذا اسم الذئب الذي لم يأكل يوسف!
وقد مر معنا أن قوماً من المحدثين اختلفوا هل سمع الحسن البصري من أبي هريرة؛ أم لا؟ لأن الحسن البصري تابعي وأبو هريرة صحابي، فتساءل أهل الحديث فقال قوم: سمع، وقال آخرون: ما سمع، فقام أحدهم وقال: حدثنا فلان عن فلان عن فلان عن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "سمع الحسن من أبي هريرة "، والرسول صلى الله عليه وسلم مات قبل أن يولد الحسن! وهذا أمر معلوم، فكيف يقوله عليه الصلاة والسلام.
على سبيل هذه الخزعبلات التي يجب أن ينبه عليها -لأن بعض أهل الوعظ لا يملك أحاديث ولا آيات فيأتي بخزعبلات- ما ذكره ابن الجوزي قال: قام أحد الناس فتحدث في الناس في نعيم الجنة، لكنه لا يعرف الأحاديث الصحيحة فأتى بباطلة، قال: في الجنة كل شيء، فقال رجل منهم: كيف إذا اشتهى أهل الجنة العصيدة؟ فقال: صح في الأحاديث أن الله سبحانه وتعالى يرسل جبالاً من دقيق ثم يرسل عليها سيولاً، فتأخذها إلى قيعان الجنة، فتعصدها فيقول الله: يا أهل الجنة كلوا واعذرونا.(382/7)
قصة ثعلبة ومنعه للزكاة
القصة الثالثة: قصة ثعلبة ومنعه للزكاة وهي كذب.
والقصة هي: أن ثعلبة قالوا: كان فقيراً، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يرزقني غنماً ومواشي، فدعا له الله، وكان قبل ذلك يسمى حمامة المسجد، من كثرة معاهدته للمسجد، فكثرت غنمه؛ فخرج من المدينة؛ فأصبح لا يصلي إلا بعض الفروض فكثرت فابتعد، فأصبح لا يصلي إلا الجمعة، فكثرت فابتعد فأصبح يترك الجمعة، فأرسل له الرسول عليه الصلاة والسلام يطلب منه الزكاة فرفض -أورد هذه القصة ابن كثير وابن جرير وابن الأثير وهي باطلة- فأرسل له صلى الله عليه وسلم يطلب منه الزكاة قال: لا صدقة لكم عندي، هذا المال ورثته كابراً عن كابر، فلما مات عليه الصلاة والسلام ندم ثعلبة، فأتى بزكاته إلى أبي بكر وقال: خذها فقال أبو بكر: والله لا أقبلها وقد ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتى إلى عمر فقال: والله لا أقبلها، وقد ردها رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذه القصة كذب، فإن إسنادها موضوع وهي تخالف نصوص القرآن والسنة.
يقول الله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة:5] والله يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
والله يقول: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
من أذنب وتاب؛ تاب الله عليه، المشرك وهو مشرك إذا أذنب وتاب تاب الله عليه، فكيف بمانع الزكاة؟! لهذا فإن هذه قصة باطلة لا يصح أن تروى إلا على وجه التنبيه.(382/8)
قصة مغاضبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب
القصة الرابعة: مغاضبة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ علي.
وقد سمعت بهذه القصة في بعض قرى الجنوب، يقول أحدهم -وهو كبير في السن، عمره في الثمانين-: يا بني! تغاضب علي والرسول عليه الصلاة والسلام -ولولا أني سمعتها في مواضع ما نبهت عليها- قلت: كيف تغاضبوا؟ قال: غضب علي رضي الله عنه على فاطمة بنت الرسول فسبها وسب أباها -أستغفر الله، وهذا الشايب الكبير نبه عليه فرفض يقول: لا.
هذه صحيحة- فذهبت فاطمة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقالت: غاضبني علي، فأرسل إليه فقال: يا علي! اذهب وخذ هذه العصا وابحث لي في الغابة عن عصا مثل هذه العصا، فذهب، قال: فلما ذهب يبحث في الغابة ما وجد عصا مثل هذه العصا، ووجد شيخاً كبيراً خاف منه علي وفر -وهي قصة طويلة- فلما رجع قال: ما وجدت مثل هذه العصا، قال: أما هذه العصا فـ فاطمة لم تجد في النساء مثلها، وأما الرجل الذي رأيته في الغابة ففرت منه فأنا، فلذلك أنا أشجع منك.
هذه لا تصح ولا تروى وقد كثرت من الخزعبلات، فعلى طالب العلم أن ينتبه؛ لأنه ربما كان في بعض النواحي آثار للابتداع والمغالاة في حب علي أكثر مما أنزله أهل السنة منزلته، رضي الله عنه وأرضاه، ونشهد الله على محبته، وأنه أمير المؤمنين، ومن المجاهدين، والصادقين، ومن الزهاد، والعباد، لكن لا نغلو ولا نفتري في سيرته، ولا نحمل سيرته ما لا تتحمل، فقد برأه الله مما قالوا وكان عند الله وجيهاً، وهو رابع الخلفاء، ورابعهم في الفضل، وهو ابن عم محمد عليه الصلاة والسلام، ومنزلته من الرسول عليه الصلاة والسلام كمنزلة هارون من موسى.(382/9)
قصة مكذوبة عن أبي بكر
القصة الخامسة: يوجد أثر يروى -وهو موجود في بعض الأشرطة- يقولون: أرسل الله جبريل إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فقال جبريل: {يا رسول الله! إن الله يقرئك السلام، ويقول: أقرئ أبا بكر السلام، وقل له: هل رضيت عني فإني قد رضيت عنك؟ فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر أبا بكر وقال: إن الله: يقرئك السلام ويقول: هل رضيت عنه، فإنه قد رضي عنك؟ قال: نعم.
ولكن والله لا آمن مكر الله، ولو كانت إحدى قدمي في الجنة والأخرى خارجها}.
هذه قصة مكذوبة، إنما نبهت عليها لأنها موجودة في بعض خطب الجمعة لبعض الناس، هذه لا تصح وهي مخالفة للنصوص، وسندها باطل، ولم يحدث شيء من ذلك أبداً، فلينتبه إليها المسلم، وفيها ملاحظتان:
أولاً: الرجاء مطلوب، وأبو بكر صاحب رجاء.
ثانياً: هذه الصيغة لم ترد، وسندها واه جداً، بل لم يثبتها أحد من أهل الصحاح.(382/10)
قصة دفن عمر في القبر
القصة السادسة: أن أحد الناس يقول: لما دفن عمر رضي الله عنه في القبر، أرسل الله إليه ملكين يسألانه، فاستيقظ عمر في القبر، وقال: من ربكما؟ من نبيكما؟ وما دينكما؟ قالوا: من قوة إيمان عمر سألهما بدلاً من سؤالهما إياه.
الأمر الأول: أن هذه قصة باطلة وسندها لا يصح.
الأمر الثاني: أن هذا الأمر من الله عز وجل لكل الناس، ولم يستثن به إلا من استثناه برحمة منه.
الأمر الثالث: من أخبر الناس أن عمر قام في قبره؟! قالوا: رئي في المنام، وهذه من تلفيقات بعض القصاص، ولم تصح أبداً ولم يرد ذلك في سند صحيح فليتنبه لها المسلم.(382/11)
قصة مكذوبة عن معاذ بن جبل وأبي بكر الصديق بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم
وجد شريط كامل فيه قصة وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام يتحدث فيه رجل بصوت يظهر عليه أنه عامي، يتحدث بصوت يُبْكي لا يسمعه الإنسان إلا وهو يبكي، ولا يدري من القصة شيئاً، فهو يجعلك تبكي بالقوة، روى قصة يوم أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن، ثم أتت قصة وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى معاذ فرآه في المنام، قال: فقام معاذ في الصباح، فحثى التراب على رأسه وقال: واحبيباه! واخليلاه! واقرة عيناه! وهذا كذب على معاذ، فمعاذ الله أن يحثي بالتراب على رأسه، ولن يفعل، بل هو حنيفاً مسلماً ولم يكن من المشركين، وليس بصاحب نياحة.
وأتى هذا القصَّاص بالخزعبلات، قال: فأتى معاذ من اليمن فطرق على أبي بكر الباب، قال أبو بكر وهو يبكي فوق الرسول صلى الله عليه وسلم: من بالباب؟
من الذي يذكرنا فقد الأصحاب؟
من الذي أبكانا على الأحباب؟
قال: أنا اخرج، قال: فخرج أبو بكر ثم أنشد أبو بكر قصيدة في وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم رد عليه معاذ بقصيدة، ثم ذهب إلى عمر وكلها قصائد غزل لـ مجنون ليلى ولـ كثير عزة، وهذا هو العجيب! من ضمنها أبيات لا يصح أن تقال عن الصحابة، يقول:
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما يظنان كل الظن أن لا تلاقيا
وهذه أبيات مجنون ليلى في القرن الثاني، ومنها أيضاً هذه، ومع أنه لم يوردها في الشريط لكن من القصيدة المذكورة:
يقولون ليلى في العراق مريضة فياليتني كنت الطبيب المداويا
وإني لأستغفي وما بي غفوة لعل خيالاً منك يلقى خياليا
وهذا الشريط منتشر، وهو كذب، ولا يصح أن يروى ولا أن يستمع إليه؛ لأنه نسب إلى الصحابة ما برأهم الله منه، فهم عدول وأخيار، ويتعاملون بالكتاب والسنة، وفيهم زهد وصدق مع الله.
وما كان أبو بكر مثل العجوز وراء الباب يَبَكِي، بل قام بالسيوف المسلولة على المنبر على أهل الردة، وقال: [[والله الذي لا إله إلا هو! لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه للرسول عليه الصلاة والسلام لقاتلتهم عليه]].
أبو بكر أخذ الراية يوم الجمعة ومكتوب فيها: لا إله إلا الله ونصبها، وأتى بقادة الجيوش خالد بن الوليد، وعكرمة وأسامة، ثم سلمهم الرايات لقتال المرتدين.
أتى أبو بكر يوم مات عليه الصلاة والسلام، وقد كان في مزرعة في العوالي، وأتاه الخبر بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتى وعليه السكينة، عجباً من قلبك الفذ الكبير! تتهادى حاملات للرؤى، أتى يشق الصفوف، ودخل أولاً فسلم على الرسول عليه الصلاة والسلام وهو مسجى، ثم كشف الغطاء عن وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وقد فارق الحياة -بأبي هو وأمي- ثم دمعت عينا أبي بكر الصديق على خد المصطفى وقبَّله، وقال: [[ما أطيبك حياً! وما أطيبك ميتاً! أما الموتة التي قد كتبت عليك فقد ذقتها، ولكن والله لا تموت بعدها أبداً]] ثم خرج باتزان والمدينة تثور مثل القِدر إذا استجمع غليانه، كبار الصحابة ومنهم: عمر كان يخر على قدميه في الأرض خوفاً ووجلاً، وأتى أبو بكر وإذا عمر واقف بالسيف يقول: [[يا أيها الناس! ما مات الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن زعم أنه مات ضربت عنقه بهذا السيف، إنما سافر إلى الله مثلما سافر موسى إلى ربه، وسوف يعود إلينا]].
فقام أبو بكر فقال: [[اسكت يا عمر! ثم صعد المنبر فخطب خطبة ما سمع الدهر بمثلها، وقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله؛ فإن الله حي لا يموت: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144]]].
قال عمر: [[فوالله كأني أول مرة أسمع هذه الآية]].
قام أبو بكر فدعا أسامة لأن الرسول عليه الصلاة والسلام في مرض موته استدعى أسامة، وكان عمر أسامة سبعة عشر سنة وبعض الناس عمره سبعة عشر سنة وهو لا يعرف إلا لعب البلوت والمراسلة وجمع الطوابع وليس عنده من المقاصد شيء، لكن أسامة يقود الجيش، ويفتح الفتوح.
محمد بن القاسم عمره سبع عشر سنة وفتح السند وقاتل داهر ملك السند، وذبحه كذبح الدجاجة، وهدم الأصنام وفتح ما يقارب عشرين مدينة في جهات أفغانستان، والسند والهند.
إن السماحة والنجابة والندى لـ محمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مولد
كان ابن عباس يفتي هو صغير، والآن بعضهم لا يعرف كيف يصلي وعمره عشر سنوات، بل بعض الأطفال يتقلبون في السجود ويتمرغون وعمرهم اثنا عشر وعشر سنوات وكأنهم يسبحون في الماء في المسجد.
المقصود هنا: أن أبا بكر أعطى الراية أسامة، قال الصحابة: يا خليفة رسول الله! لو أبقيت الجيش لأننا نخاف على المدينة، يعني: وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم كون جرحاً في قلب الأمة، ويخاف على العاصمة أن تهتز، فتحتاج إلى حراسة متينة للخليفة الجديد والحكومة الجديدة، فنرى أن يبقى الجيش هنا هذه الأيام، قال أبو بكر: [[والله! لو أن الطير تخطفنا، والسباع من حول المدينة، ولو أن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين لأنفذن جيش أسامة]].
فخرج أسامة وأبو بكر يكلم أسامة وأسامة على فرسه، وكان أسامة يمسك الفرس بلجامه لئلا لا يعدو ويستمع لكلام الخليفة، فأتى أسامة ليقفز من على الفرس ليركب أبا بكر؛ لأن الخليفة أفضل منه وهو يمشي على الأرض، وأسامة القائد على الفرس.
قال أبو بكر: والله لا تنزل ولا أركب وما عليّ أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله.
رضي الله عن سعيك ما اغبرت أقدامك؟! أنت مغبر أقدامك في سبيل الله منذ بدأ الإسلام، غبر قدمه، وأبكى عينه، وسلم دمه وماله في خدمة لا إله إلا الله.
إذاً: فقصة الوفاة التي تروى في هذا الشريط بهذا الأسلوب لا تصح.(382/12)
قصة لربيعة الرأي
القصة السابعة: وهي من القصص المشهورة ويعرفها طلبة العلم، وهي مشهورة في بعض المذاهب، يقولون: كان ربيعة الرأي من علماء المدينة، وكان قد خرج أبوه وأمه حامل به، فخرج أبوه يجاهد في سبيل الله، فمكث في الجهاد ثلاثين سنة، ثم أتى وقد أنجبت امرأته ولداً فنشأ هذا الولد - ربيعة - فتعلم العلم وأصبح معلم أهل المدينة، وهو جالس في المسجد، فأتى والده فدخل المسجد وعجب من هذا العالم؟
أي: ربيعة وهو لا يعرف أنه ابنه، ثم ذهب إلى البيت فوجد امرأته عندها رجل وهو ربيعة وهو لا يعرفه، فقام يقاتله، قالت المرأة: من أنت؟
قال: أنا فروخ، قالت: أنت والده وهذا ابنك.
هذه القصة أبطلها الذهبي، وهي مذكورة في كتاب صور من حياة التابعين، ولو أن مؤلف هذا الكتاب عبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله عالم فيه خير كثير وعجيب، لكن هذه لا تثبت، بإسناد ثابت عن أهل العلم.(382/13)
قصة مكذوبة عن توبة مالك بن دينار
القصة التاسعة: قصة توبة مالك بن دينار، وهي موجودة في خطب الجمعة لبعض الفضلاء، وهي قصة باطلة.
يقولون: كان مالك بن دينار في شبابه جندياً وكان سكيراً يشرب الخمر كشرب الماء، وكان يترك الصلاة، ثم ماتت ابنته، فرآها في المنام كأن ثعباناً يطارده فالتجأ إلى ابنته -في قصة طويلة- فقام من النوم وهو يبكي، وهرع فزعاً خائفاً وجلاً، فتاب إلى الله، فهذه القصة باطلة وسندها لا يصح لأمرين:
الأمر الأول: أن مالك بن دينار صالح من صغره.
الأمر الثاني: أن مالك بن دينار لم يتزوج، ولم يكن له بنت، فالقصة هذه إذا سمعتها فلا تصدقها.(382/14)
مدى صحة نسبة كتاب الحيدة إلى مؤلفه
ومن القضايا أيضاً كتاب الحيدة لـ عبد العزيز الكناني لا يصح، إن هذا الكتاب أصله مناظرة، ولم ينقل ابن تيمية عنه، فمقصود ابن تيمية أن هذا الكتاب ألفه عبد العزيز الكناني، لكن المحاورة التي جرت بين عبد العزيز الكناني والمعتزلة أو المأمون ليست بثابتة عند أهل العلم، ينكرها الذهبي وأمثاله، فـ كتاب الحيدة هذا فيه نظر لأمور:
أولاً: أين سند الرواية؟
ثانياً: كيف أن الغالب دائماً هو عبد العزيز الكناني وذاك المبتدع هو المغلوب مع أن له حجج.
ثالثاً: من الذي شهد القصة فكتبها فما خرم حرفاً؟
رابعاً: يقول الخليفة: إن كان الحق معك يا عبد العزيز! رجعت إليه، وإن كان مع خصمك عدت معه، وما رجع الخليفة والحق كان مع عبد العزيز الكناني.(382/15)
أحاديث مكذوبة عن رسول الله
حديث أن الرسول كان مع الصحابة فخرجوا في غزوة فلما عادوا من الغزوة إلى المدينة قال: {رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر} هذا حديث باطل موضوع ولا يصح، بل الجهاد الأكبر هو الجهاد في سبيل الله؛ لأنك في سبيل الله تجاهد نفسك وتجاهد الكفار، وأما في بيتك فتجاهد نفسك وحدها، فلا يصح هذا الحديث إليه عليه الصلاة والسلام، ولينتبه له فهو حديث باطل.
أيضاً حديث: {من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر؛ لم يزد من الله إلا بعداً} حديث باطل، بل معناه خطأ، بل الذي يرتكب المعاصي وهو يصلي أقرب إلى الله من الذي يرتكب المعاصي ولا يصلي، والصلاة لا تزيد صاحبها إلا قرباً من الله، ولا تزال الصلاة بصاحبها حتى يكون صديقاً وولياً من أولياء الله، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].(382/16)
عدم صحة نسبة كتاب الصلاة للإمام أحمد
هناك كتاب للإمام أحمد بن حنبل اسمه: كتاب الصلاة، لا تصح نسبته إليه وهو كذب، فالإمام أحمد لم يؤلف كتاباً عن الصلاة مستقلاً، وأسلوبه ركيك عصري، وقد نبه أهل العلم عليه أنه باطل، ولا تصح نسبته إلى الإمام أحمد.(382/17)
عدم صحة ما نسب أن الذهبي حذر ابن تيمية من علم الكلام
نسبة كتاب أرسله الذهبي لـ ابن تيمية ينصحه ويحذره من علم المنطق لا يصح، وهو كذب، وقد بين كثير من الكتاب أنه لا يصح أن الذهبي أوصى ابن تيمية أن يترك علم المنطق أو يتعلم علم الكلام؛ لأن مقصود ابن تيمية أن يتعلم علم المنطق وعلم الكلام ليرد على أصحاب هذا الفن، فما كتب له الذهبي بذلك شيئاً.(382/18)
قصة مكذوبة عن الإمام مالك وجلد القاذفة
تسمع بعض الناس يقول: أتت امرأة تغسل امرأة ماتت في المدينة، فلما أتت تغسلها، قالت المُغَسِّلة للميتة: هذه زانية، فالتصقت يدها -عقوبة من الله- بجلد هذه الميتة، فذهبوا يسألون: فوقعوا على الإمام مالك، فقالوا: قال الإمام مالك، اجلدوها ثمانين جلدة -حد القاذف- وسوف تطلق يدها، فجلدوها ثمانين جلدة فانفكت يدها.
فهذه قصة مكذوبة ولا توافق الأصول ولا الأحاديث، ونسبتها إلى الإمام مالك خطأ.(382/19)
أسباب وضع الأحاديث أو القصص
نتساءل: ما أسباب الكذب؟
لماذا يكذب الإنسان؟
ما هو الحامل للإنسان على أن يكذب؟(382/20)
نقص الإيمان
أولاً: نقص الإيمان، فإن الإيمان وهو مراقبة الله عزَّ وجلَّ إذا نقص في قلب العبد كذب، والكذب درجات، ولكن من يكذب ففيه شعبة من النفاق، ولا يزال الرجل يكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً، ونعوذ بالله من الكذب!(382/21)
التزلف إلى السلاطين والأثرياء
من أسباب الكذب: التزلف إلى السلاطين والوجهاء والأثرياء، مثلما فعل بعض الناس من الكذابين عند الخلفاء العباسيين ووضعوا لهم أحاديث في فضل الخلفاء، أي: تولى المهدي وأبو جعفر المنصور، فقال أحد المتزلفين: (أبو جعفر المنصور خير أمتي) وهذا كذب عليه عليه الصلاة والسلام.
أتوا بعد ما مات أبو جعفر تولى المهدي فوضعوا فيه حديثاً، مات المهدي فأتى الهادي فوضعوا فيه حديثاً، أتى هارون الرشيد فوضعوا فيه حديثاً، فهم مستعدون لكل خليفة.
أحدهم دخل على المهدي وهو يلعب بحمام عنده، فقال: ما رأيك يا فلان في لعب الحمام؟ قال: يقول عليه الصلاة والسلام: لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر أو جناح، الجناح: من كيسه من أجل أن يبرر للخليفة أن يلعب بالحمام.
والرسول صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه يقول: {لا سبق إلا في خف أو نصل أو حافر} خف: أي: في الجمال ونحوها، وحافر: الخيل، ونصل: الأسهم، فأتى هذا، فقال: لا سبق إلا خف أو نصل أو حافر أو جناح، فأدخل الحمام.
من ضمنهم كذاب قام في مسجد والإمامان أحمد ويحيى بن معين جالسان في هذا المسجد -في البصرة - وهذا الكذاب تورط وذلك أنه لا يعرف الإمام أحمد ولا يحيى بن معين، والإمام أحمد ويحيى بن معين محدثا الدنيا، فقال هذا الكذاب: حدثنا أحمد بن حنبل ويحيى بن معين قالا: حدثنا فلان عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قال لا إله إلا الله؛ خلق الله له طائراً منقاره من ذهب، ونونيته من زبرجد وريشه من جوهر إلخ، فأتى بقصة طويلة، وبعد ذلك وفي آخر الموعظة طلب الناس دراهماً، فاستداعاه الإمام أحمد وقال: تعال فأتى وظن أن الإمام سيعطيه، فاقترب من الإمام أحمد ومد يده أي: اعطني، فأمسكه الإمام أحمد وقال: أنا أحمد بن حنبل وهذا يحيى بن معين، ما حدثناك بهذا الحديث، فماذا يقول هذا الكذاب؟
قال: سبحان الله ما أجهلك! -يقول للإمام أحمد - ما في الدنيا إلا أنتما أحمد بن حنبل، ويحيى بن معين، لقد حدثت عن سبعة عشرة رجلٍ أسماؤهم يحيى بن معين، وعن سبعة عشر رجلٍ أسماؤهم أحمد بن حنبل، أنت فقط في الدنيا؟! هذه جريمة، وهذا سبب من أسباب الكذب.(382/22)
تحسين مهنة أو بضاعة أو تقبيحهما
ومنها: أن بضعهم يريد تحسين عمل من الأعمال أو مهنة من المهن، أو حرفة من الحِرف، وبعضهم يحقد على بعض الناس فيضع عليهم أحاديث، مثل حديث موضوع موجود في كتاب الموضوعات، رجل يبغض الصباغين الذين يصبغون الفضة، قال: يقول عليه الصلاة والسلام: {أكذب أمتي الصواغون والصباغون} وهذا كذب.
ورجل لديه باذنجان يريد أن يبيعها ما ابتاعت معه، فوقف في السوق قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الباذنجان لما أكل له.
ورجل آخر ذكره أهل العلم أنه كان عنده ديك فنزل في السوق يحرج عليه: من يشتري الديك؟ من يشتري الديك؟ فبقي إلى صلاة الظهر فلم يشتره أحد، فقال: سمعت فلاناً قال: حدثنا عن فلان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الديك من حيوان الجنة، ثم أتى بقصة طويلة فاشتُري الديك منه.(382/23)
حسن المقصد
ومن أسباب الكذب: أن بعضهم عنده مقصد حسن، ولكن وسيلته سيئة، فيريد الخير ولكن بالكذب، قيل لـ ابن أبي مريم: لماذا تكذب على الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من كذب عليّ متعمداً} فأجاب وقال: أنا أكذب له لا أكذب عليه، وقد وضع في فضل كل سورة حديثاً، حتى أتى بمائة وأربعة عشر حديثاً، كلها موضوعة في فضائل السور، فهذا مذموم وقصده أن يدفع الناس لقراءة القرآن وقد أخطأ، وضل سبيله، وكذب على رسول الله عليه الصلاة والسلام.(382/24)
الزندقة والعداء للإسلام
ومنها: أغراض أخرى قد تكون في نفس الكاذب يريد أن يمشيها مثل: العداء للإسلام.
أحد الزنادقة، أتى هارون الرشيد ليقتله، فقال لـ هارون الرشيد: اقتلني أو لا تقتلني والله لقد وضعت على الأمة وكذبت على أمة محمد أربعة آلاف حديث، قال هارون الرشيد: أقتلك وأتقرب بدمك إلى الله، وأربعة آلاف حديث سوف يقيض الله لها رجالاً يخرجونها ومنهم ابن المبارك، فذبحه هارون الرشيد، ثم نقحت أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم من قبل المحدثين.
ومنها: أن يكون أعطي الزندقة، مثل: أن يأتي بحديث يطعن في الإسلام والعياذ بالله! أو في الرسالة، ومن الأحاديث على سبيل المثال التي تخالف المعتقد والتي لم يأتِ بها الرسول صلى الله عليه وسلم ما قالوا: إن الرسول صلى الله عليه وسلم أحيا الله له أباه وأمه فكلمهما حتى أسلما ثم عادا ميتين في القبر، وهذا خطأ.
أو أن أبا طالب أسلم قبل أن يموت، وهذا يعارض الأصول الصحيحة التي وردت في الكتاب والسنة.(382/25)
وسائل الكشف عن الأحاديث المكذوبة
كيف تعرف الحديث المكذوب؟
لك وسائل في كيفية كشف الأحاديث المكذوبة، وسوف أخبركم بكتب الأحاديث الصحيحة وكتب الأحاديث الباطلة.
من الوسائل التي تكشف لك الحديث المكذوب: السند: إذا كان في السند راو كذاب، فاعتبر الحديث واه ومنكر وموضوع.
الأمر الثاني: أن ينبه أحد علماء الإسلام عليه، وهو عالم ثقة، مثل أحمد أو ابن معين، أو ابن أبي حاتم، أو ابن المديني، أو سفيان، أو البخاري وكنحوهم فيقول: هذا حديث كذب، لا يصح عنه عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث: أن يعارض قواعد الدين، فيطعن في قواعد الدين الكلية وأصوله الثابتة، فهذا يرد.
الأمر الرابع: أن يكون ركيك الأسلوب، فيستحيل أن يتكلم صلى الله عليه وسلم بمثل كلام العجم، أو مثل قول: بطني توجعني، أو غير ذلك من الألفاظ الركيكة، هذا كلام لا يقوله محمد صلى الله عليه وسلم، محمد عليه الصلاة والسلام أفصح الناس، أوتي جوامع الكلم: {إنما الأعمال بالنيات} {مطل الغني ظلم} {احفظ الله يحفظك} مثل: {دع ما يريبك إلى ما لا يريبك} وهذا الأحاديث الجميلة التي من كلامه عليه الصلاة والسلام.
أما حديث ثقيل المعاني فإنه لا يقوله عليه الصلاة والسلام، مثل: أن يعلم القلب أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقول ذلك، مثل حديث: إن جبريل نزل فأمرني بالهريسة، وقال: إنها تشد الظهر وتزيد في الجماع، فحديث الهريسة هذا لا يصح، وأحاديث أخرى باطلة.
والأحاديث الواهية تعرف في كتب، مثل: اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة، للقارئ، الفوائد المجموعة للشوكاني، كتاب الموضوعات لـ ابن الجوزي، كتاب المقاصد الحسنة للسخاوي، كتاب: تمييز الطيب من الخبيث لـ ابن الديبع، وكتاب: كشف الخفاء للعجلوني، هذه تبين لك الأحاديث.
أما كتب الأحاديث الصحيحة: البخاري مسلم، ومثل ما يجمع بين الصحيحين، وصحيح ابن خزيمة في الغالب، وصحيح ابن حبان في الغالب، أما الحاكم فلا يوثق بتصحيحه، ويعاد إلى الكتب المصححة الآن في هذا العصر، مما أجمع أهل العلم على تصحيحها، والله أعلم.(382/26)
كتب ينصح باقتنائها
أوصيكم إخوتي في الله بأن تستحضروا في بيوتكم بعد المصحف: تفسير ابن كثير، ورياض الصالحين للنووي، وبلوغ المرام لـ ابن حجر، ومختصر صحيح البخاري للزبيدي، مختصر صحيح مسلم للمنذري، وصحيح الجامع الصغير للألباني وأمثال هذه الكتب حتى تراجعوها وقت الحاجة.(382/27)
اقتراح بتأسيس مجلس لكل حي
هناك اقتراح وهو مكتوب في بعض الكتيبات لبعض العلماء الفضلاء في الساحة، هذا الاقتراح جميل وأنا أدعوكم إليه علّ الله أن ينفع به، وما أمامي إلا رجل فاضل أو عابد أو مسئول أو طالب علم، أو مثقف، أو خير، أو وجيه، جعلنا الله وإياكم من الوجهاء عنده، الاقتراح يبدأ بأن يؤسس في كل حارة مجلس، وقد نادى به بعض العلماء وهو موجود في كتيب وقد عمل به في جدة ونجح نجاحاً باهراً، وهو أن يجتمع إمام المسجد والمؤذن وأحد الأشخاص في الحارة، ثلاثة أنفار أو أكثر، هؤلاء يقومون بعمل برنامج للحارة، من ضمنها مجلس في الأسبوع مثلاً، مساء الجمعة أو مساء الخميس، يجتمع فيه أهل الحارة، مثلاً: بين المغرب والعشاء بدون كلفة، يدار عليهم الحديث الطيب، مع البخور والقهوة والشاي، ويتحدثون في شئونهم في الحارة.
يجتمعون فإذا كان هناك مريض زاروه، وإن كان هناك عاطل وظفوه، وإن كان هناك متخلف عن المسجد نبهوه، وإن كان هناك فقير أعطوه، وإن مات ميت شيعوه، فيكون هذا المجلس يعرف أنباءهم وأخبارهم ويكون بينهم تساعد وتعاون حتى يكونوا سوياً.
من ضمن بنود هذا المجلس: أن يحاولوا أن يجلسوا من صلاة المغرب إلى صلاة العشاء في المسجد للعبادة، وهذا كان يعمل به في هذه المنطقة وفي غيرها، وبعض العباد لا يزال يعمل به في بعض النواحي، إذا صلى المغرب جلس إلى العشاء، لأن الوقت مختصر، إلا من كان عنده ضرورة أو عمل أو أمر أو ارتباط، والوقت ساعة أو ما يقارب الساعة، تتصل فيه بالله وتخلو بنفسك، لأننا أعطينا أوقاتنا للهاتف والسيارة والأطفال والمنتزهات، ثم نصلي هذه الصلاة خمس دقائق وعشر دقائق فلا نستطيع من قسوة قلوبنا أن نلينها بذكر الله.
فإذا صليت -مثلاً- تجلس مع إخوانك في المسجد وتأخذ مصحفاً أو كتاباً، ولا يلزم أن يكون بينهم طلبة علم، وإذا حضروا فأفضل، لكن يقرءون في القرآن أو في كتاب أو يسبِّحون، أو يتجه الإنسان إلى القبلة ويذكر الله، ويهلل مئات التهليلات، وآلاف التسبيحات فتكتبها الملائكة له، وهذا من المغرب إلى العشاء، ومن استطاع مع هذا من صلاة الفجر إلى طلوع الشمس فهو من أجمل ما يكون!
ويقترح العالم كذلك: أن تكون هناك زيارة للأحبة في الحارة، وأن يكون بينهم تعاون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن يقرروا طالباً أن يقرأ عليهم -مثلاً- في رمضان وفي غيره من رياض الصالحين أو من أي كتاب آخر.
ومن أجمل الاقتراحات ما يكون! ما اقترحه هذا العالم يقول: يكون لهذا المجلس صندوق فيه شيء من المال يدفع لمنكوب، أو متزوج، أو فقير، أو محتاج، أو مشروع في صالح الحارة، ويقترح من ضمن هذا الاقتراح وسوف أجمعه في مذكرة صغيرة: إذا كان هناك مشروع للحارة أن يتساعدوا في مراجعة المسئولين -مثل: مشروع ماء للحي والكهرباء إلخ- {يد الله مع الجماعة، ومن شذ شذ في النار} ولعل أهل القرى أن يفعلوا ذلك ويجربوا هذا الفعل، وإذا فعلنا ذلك سوف نسعد جميعاً؛ لأن العاصي سوف ينفرد، وتارك المسجد والجماعة سوف يستحي، لأن أهل الحارة كلهم مجمعون على مجلس وهو يخالفهم، هم ينصحونه وهو يرفض، إذا فيجتمع المجلس اجتماعاً طارئاً، ويقرر بالإجماع أن يهجروه شهراً، تتزوج ابنته لا نساعده، يتزوج ابنه نقاطعه؛ لأنه قطع المسجد بعد نصيحته وبعد إنذاره، فإذا فعل ورجع فبها ونعمت، وإلا فنقاطعه حتى يرتدع، إنسان عاصٍ رأينا عليه ملاحظة، نكتب له رسالة بأسلوب، ولا نجرح مشاعره أمام الناس.
لأن بعض الناس إذا صلَّى بعد صلاة العصر والجماعة مجتمعون، قال: يا عباد الله! فلان بن فلان فعل وفعل.
ولكن تكتب له رسالة في ظرف من إمام المسجد أو من اللجنة، تنبهه أنه تخلف عن المسجد، وتهدي له شريطاً إسلامياً، أو كتيباً في بيته، ولا تفضحه أمام الناس، بل تدعوه بأسلوب لعل الله عز وجل أن يهديه سواء السبيل.
هذا الاقتراح، علَّه أن يصادف -إن شاء الله- عندكم قبولاً، ولعلكم تفكرون فيه بتمعن، ومن عنده زيادة واقتراح فليفدنا به مكتوباً فإنه مما يستحسن هذا، لعل الله أن ينفع بهذا الاقتراح الإسلام والمسلمين، تقدم في بنود وفي مسائل وفي اقتراحات، مشذبة ومهذبة، لأن رأي الاثنين أحب إلينا من رأي الواحد، فلعل منكم رجل خير ينفعنا باقتراح، ويسمى مجلس الحارة، لنحيي حياة السلف الصالح التي عاشها محمد عليه الصلاة والسلام.
في كثير من الحارات اليوم لا يعرف الجار جاره، حتى ينتقل وينقل عفشه، يسكن عنده في العمارة ثمان سنوات لا يعرفه، ولا سلم عليه، ولا دخل عنده، ولا قدم له خدمة، ولا زاره يوم مرض، ولا نصحه، ولا واساه، ولا آخاه، ولا أعطاه، فأين الجيران في الإسلام؟ بعضهم عمارته ثلاثة أدوار، فيها شقق كثيرة ومسلمين من كل فج عميق، يصلون في المسجد ولكن لا يتعارفون، حتى بعضهم لا يسلم على بعض! هذا خلاف منهج الإسلام، وهذا هو الضياع بعينه، يقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده! لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم}.(382/28)
الأسئلة
.(382/29)
حال حديث الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً
السؤال
ما رأيك بقصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين وسأل أحد العلماء هل لي من توبة؟ فرد عليه بقوله: ليس لك من توبة فكمل به المائة؟
الجواب
هذا في الصحيحين: في صحيح البخاري وصحيح مسلم.(382/30)
حال حديث الرجل الذي أوصى بحرقه بعد موته
السؤال
قصة الرجل الإسرائيلي الذي أوصى بأن يُحرق، فغفر الله له؟
الجواب
هذه الرواية في الصحيحين، عند البخاري ومسلم.(382/31)
قصة بحيرى
السؤال
ما قصة بحيرى؟
الجواب
بحيرى الراهب ذاك الذين يقولون: سافر الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، لا تصح، وفي سندها ضعف، لأنهم يقولون: إن بلال كان معه وقد قال الذهبي: يمكن أن يكون بلال لم تلده أمه بعد، فلا تصح هذه القصة.(382/32)
حال حديث: (أدبني ربي)
السؤال
هل حديث: {أدبني ربي فأحسن تأديبي} صحيح؟
الجواب
هذا الحديث رواه ابن عساكر عن أنس بسند ضعيف، قال ابن تيمية: سنده ضعيف ومعناه صحيح.(382/33)
سؤال حول قصة الإمام مالك مع المرأة القاذفة
السؤال
أورد الشيخ عبد الحميد كشك قصة المرأة التي جلدها الإمام مالك أو أمر بجلدها؟
الجواب
ولو أوردها فليس بمعصوم حفظه الله وغفر الله لنا وله.(382/34)
الحكم على قصة عمر مع الأصنام في الجاهلية
السؤال
يقولون: إن عمر رضي الله عنه قال: أبكي من واحدة وأضحك من أخرى: أبكي إذا تذكرت ابنتي عندما دفنتها وهي تزيل التراب عن لحيتي، وأضحك عندما أتذكر ما كنت أقوم به عندما كنت أصنع في الجاهلية أصناماً من تمر فإذا جعت أكلتها؟
الجواب
لا يصح هذا، وليس بثابت عن عمر.(382/35)
حال حديث: (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين
السؤال
حديث: {اللهم أعز الإسلام أو انصر الإسلام بأحد العمرين}؟
الجواب
هذا ليس بصحيح.(382/36)
حال حديث: (والله لو وضعوا الشمس في يميني)
السؤال
حديث {والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته}؟
الجواب
لا يصح.(382/37)
حال الأحاديث في كتاب رياض الصالحين
السؤال
هل الأحاديث الموجودة في كتاب رياض الصالحين صحيحة؟
الجواب
غالبها أو كلها صحيحة إلا ثلاثة عشر حديثاً فيها ضعف، لكن لا بأس أن تقرأ على الناس ويعمل بها، فليس فيه أحاديث باطلة والحمد لله.(382/38)
سؤال عن المختصر للصابوني
السؤال
المختصر للصابوني فيه أخطاء؟
الجواب
نعم فيه بعض الأخطاء، ولكن يستفاد منه، ولكن فيه أخطأ في بعض الأسماء والصفات، ينبه عليها وقد نبه عليها بعض الفضلاء فلينتبه له.(382/39)
هارون أخو مريم ليس هو هارون أخا موسى
السؤال
قال سبحانه: {يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} [مريم:28] فهل هارون المذكور في الآية أخو موسى عليه السلام، فتكون مريم أخت موسى، أم هارون هو رجل آخر؟
الجواب
بل صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه رجل آخر، وليس أخو موسى، وقال صلى الله عليه وسلم: {كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم} فسموا أخا مريم هارون، على اسم هارون أخي موسى، وليس أخو موسى هو أخو مريم في هذه القصة، فليتنبه لذلك.(382/40)
حال حديث: (إن الله جميل)
السؤال
حديث {إن الله جميل يحب الجمال}؟
الجواب
حديث صحيح عند مسلم.(382/41)
حال حديث: (إن الله نظيف)
السؤال
حديث {إن الله نظيف يحب النظافة}؟
الجواب
عند الترمذي بسند ضعيف.(382/42)
حكم إلقاء القصص المكذوبة
السؤال
مدرس كان يقص بعض القصص والتي ذكر أنها مكذوبة ولم يكن يعلم كذبها وقصها ليفيد الطلاب؟
الجواب
أولاً: غفر الله له، وعليه أن ينبههم بألا يغتروا بهذه القصص، ويكتفي بالأحاديث الصحيحة، دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه وإذا برجل يقص على الناس أحاديثاً باطلة، قال عمر: [[ماهذا؟ قالوا: قصاص، فأتى إليه قال: ماذا تفعل؟ قال: أقص على الناس، فأخذ عمر الدرة وضربه على رأسه، وقال: الله يقول: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: ة3] وأنت تقص على الناس قصصاً كاذبة]].(382/43)
اليهود وسبب تحويلهم إلى قردة
السؤال
يقول العوام: إن الله ما حول اليهود إلى قردة وخنازير إلا لأنهم سرقوا عصا الرسول صلى الله عليه وسلم ودرته وصحفته؟
الجواب
لا يصح، وقد حولهم الله قبل مبعث الرسول عليه الصلاة والسلام بمئات السنوات، وليس هذا بثابت ومن قال هذا فقد أخطأ، ولم يأت شيء في ذلك بسند صحيح.(382/44)
حال قصة مصارعة الرسول لركانة
السؤال
قصة مصارعة الرسول صلى الله عليه وسلم لـ ركانة؟
الجواب
ضعيفة، ليست ثابتة، ذكر أهل العلم أنه صارع ركانة، لكن يوردونها في السيرة، لأن السيرة يتساهل فيها ما لا يتساهل في الأحكام.(382/45)
حال قصة ابن المبارك مع بهران
السؤال
قصة عبد الله بن المبارك مع بهران المجوسي؟
الجواب
ما أعرف ما هي قصة بهران، وأما اليهودي الذي دعا له بالإسلام فأسلم فهي صحيحة.(382/46)
هل الفخذ من العورة؟
السؤال
كيف يجمع العلماء بين الأحاديث التي ترى بأن الفخذ ليس بعورة وبين الأحاديث التي ترى بأن الفخذ عورة؟
الجواب
عند الحاكم، عن عبد الله بن جعفر بسند صحيح، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {عورة المسلم من السرة إلى الركبة} وله شاهد عند الدارقطني، وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند أحمد وغيره أنه قال: {يا جرهد! غطِ فخذك فإن الفخذ عورة} هذان الحديثان والأثران وغيرهما يدعوان إلى أن الفخذ عورة، ولكن ورد عن أنس أن الرسول صلى الله عليه وسلم: أجرى فرسه في غزاة خيبر فانكشفت فخذه عليه الصلاة والسلام، جمع بينها أهل العلم فقالوا: القول يقدم على الفعل، لما قال صلى الله عليه وسلم: {الفخذ عورة} يقدم على الفعل لأنه يأثم، وبعضهم يقول: خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام وهو جمع ضعيف، وبعضهم يقول أمر طارئ، ما أراد عليه الصلاة والسلام أن يتكشف لكن انكشفت فخذه، والصحيح أن الفخذ عورة، وأن عورة الرجل من السرة إلى الركبة، وعلى ذلك لا يجوز للإنسان عند السباحة، إذا نزل مع إخوانه وزملائه في البحر أو في المسبح، أو في بركة، ولا أن يلعب الكرة بلباس قصير، فلا بد من تغطية السرة إلى الركبة.(382/47)
حال حديث إن في جهنم لواد تتعوذ منه جهنم
السؤال
ما صحة هذا الحديث: {إن في جهنم لواد تتعوذ منه جهنم في اليوم سبع مرات، وإن في الوادي لبركة يُتعوذ منه الوادي سبع مرات، وأن في البركة لحية يتعوذ منها الوادي والبركة سبع مرات، يقال: أعده الله لحملة القرآن}؟
الجواب
هذا حديث موضوع وباطل، إذا سمعت السبع في السبع، أو السبعين في السبعين فهذه باطلة، مثل حديث يقول: يرزق الله عز وجل الشهيد في الجنة سبعين قصراً في كل قصر سبعون حورية، على كل حورية سبعين حلة، ويبقى في سبعين ساعة، هذا حديث باطل.(382/48)
حكم من أفطر يوماً من رمضان
السؤال
لقد أفطرت يوماً من رمضان ودار عليّ عامان ولم أقض يوماً مكانه؟
الجواب
عليك بالإطعام وقد ورد عن بعض السلف لكن لا أعرف فيه حديثاً مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم أنك مع القضاء تطعم، لكن نقول: اقض يوماً مكانه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(382/49)
أتاكم جبريل يعلمكم دينكم
حديث جبريل الطويل؛ من أعظم الأحاديث بياناً لأصول الدين، وقد اعتنى العلماء بشرحه والاستنباط منه.
والشيخ في هذا الدرس شرح لهذا الحديث العظيم، وهو من ضمن شروحه لأحاديث في صحيح البخاري.(383/1)
حديث البخاري في تعيين ليلة القدر
إن الحمد لله، نحمده ونستغفره، ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، نشهد أنه بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، ورفع راية لا إله إلا الله.
إن البرية يوم مبعث أحمدٍ نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمةٍ جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
في الأثر: {إن الله سبحانه نظر إلى أهل الأرض، فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب}.
ثم أغاث الله الناس بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى أهل البيوت التي بنيت من الشجر، وفي كهوف الجبال ومن الأعلاف، وجاء إلى أهل الثياب الممزقة من الأعراب والقبائل المتناحرة المتقاتلة، فجمعهم تحت راية لا إله إلا الله، فكان صلى الله عليه وسلم يحفر الخندق في غزوة الأحزاب، ومعه المعول بيده الشريفة، وقد ربط على بطنه حجرين من الجوع صلى الله عليه وسلم، وأخذ المنافقون يتسللون لواذاً ويفرون، ويقولون: أيعدنا هذا أن نفتح قصور كسرى وقيصر، ولا يأمن أحدنا أن يبول في هذا المكان، ثم يتضاحكون كلما أخبرهم صلى الله عليه وسلم، فينزل عليه أفضل الصلاة والسلام، فيضرب بمعوله في الأرض، فإذا بنورٍ يلمع فيقول: {أريت قصور كسرى، وقد أرانيها الله سبحانه وتعالى وسوف يفتحها على أمتي، ثم ضرب ضربة أخرى فإذا نورٌ يلمع فقال: وهذه قصور قيصر أرانيها الله سبحانه وتعالى وسوف يفتحها على أمتي}.
ونفذ الله سبحانه وتعالى ما وعد، وصدق الله ورسوله، ففتحنا بلا إله إلا الله ثم بالسيوف المثلمة وبالرماح التي مضى عليها الأمد قصور الدنيا، وعبرنا المحيطات والبحار بلا إله إلا الله، وصار الأعراب أمراء على الأقاليم، حتى إن سعداً رضي الله عنه لما دخل المدائن عاصمة كسرى بكى، ثم قال: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
مرت سحابة على بغداد، فذهبت ولم تمطر فقال هارون الرشيد: أمطري أنى شئتِ؛ فإن خراجك سوف يأتيني بإذن الله.
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
ونحن في مثل هذه الأوقات نجلس في رياض محمد صلى الله عليه وسلم، مع المعلم الأول، مع الذي رفع رءوسنا يوم كانت مخفوظة، والذي فتح قلوبنا بعد أن كانت غلفاً، وفتح أعيننا بعد أن كانت عمياً، وأسمع آذاننا بعد أن كانت صماً، فرفع رءوسنا على الأمم حتى قال الله فينا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] في تاريخ الإنسان وحياته هم خير أمةٍ أخرجت للناس وذلك إذا كانوا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَينْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيؤْمِنُونَ بِاللَّهِ.
وكما أسلفنا في بعض الأحاديث التي مرت، وهي من رياض محمد صلى الله عليه وسلم نكتبها في كل درس، والمقصود هو اتصال القلوب بهذا النور الذي أنزله الله على رسوله صلى الله عليه وسلم.
فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يخبر بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان فرفعت، وعسى أن يكون خيراً لكم؛ التمسوها في السبع والتسع والخمس} وقد أتى الإمام البخاري بهذا الحديث في باب الإيمان.(383/2)
من أخبار عبادة بن الصامت
عبادة بن الصامت أحد الأصحاب الأخيار الأحباب؛ الذين رباهم صلى الله عليه وسلم على عينٍ وبصرٍ وسمع، كان من العلماء بالله، وليس من علماء الدنيا الذين يحفظون المتون، ثم يبطلون مفعولها في الأرض، كان يعلم علماً للآخرة، ولذلك عده عمر رضي الله عنه من الحفاظ، فأرسله إلى الشام معلماً ومربياً هناك، ورسولاً من رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأقاليم، فكان يجلس من بعد صلاة الفجر حتى الضحى يعلمهم القرآن وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم كان يتعرض للأمراء ويمقتهم في مجلسه، وأمير الشام آنذاك معاوية بن أبي سفيان، فاشتكاه معاوية إلى عمر فاستدعاه عمر وقال: [[ما لك تنقم على معاوية؟ قال: إنه يأخذ المال وينفقه كيف يشاء، ويفعل ويفعل، قال: عد إلى الشام فقبح الله أرضاً لست فيها وأمثالك]].
ذلك لأن الأرض التي لا تطلع عليها شمس الرسالة هي أرضٌ ملعونة، فقال عمر [[قبح الله أرضاً لست فيها أنت وأمثالك، فعد إلى الشام]].
وكتب إلى معاوية: [[لك إمرة على أهل الشام جميعاً إلا على عبادة، فليس لك إمرة عليه فهو أمير عليك وأنت لست بأمير عليه]].
فلما ذهب عبادة إلى هناك كان يقول ويفعل على نور من الله سبحانه وتعالى، يتكلم معاوية وهو مسدد خال المؤمنين رضي الله عنه، ولكن الأنصار ربما لا تعجبهم بعض الكلمات التي تصدر فيتأولون، فيقوم عبادة ويقاطع كلام معاوية ويقول: لا سمع ولا طاعة، فيقول معاوية: ما لك يا عبادة؟ قال: [[إنك ما كنت معنا يوم بايعنا رسول صلى الله عليه وسلم على أن نقول الحق لا نخشى لومة لائم]] فهو من أهل العقبة الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي كانت يد الله فوق أيديهم، فصدقوا ما عاهدوا عليه الله عز وجل.
ولذلك يقول عبد الله بن رواحة: {لما بايعنا رسول صلى الله عليه وسلم قمت من وسط القوم وكنت شاباً، فقلت: يا رسول الله ما لنا إذا بايعناك؟ وما علينا إذا بايعتنا؟ قال: فحصبني الأنصار -يعني: رجموه بالحجارة حياءً من الرسول صلى الله عليه وسلم- فقال لهم صلى الله عليه وسلم: لي عليكم أن تمنعوني مما تمنعوا منه نسائكم وأولادكم وأموالكم؛ فإذا فعلتم ذلك فلكم الجنة، فقام ابن رواحة فقال: ربح البيع؛ لا نقيل ولا نستقيل}.
فأخذها بيعة عند الله عز وجل، فوفى لله بما بايع: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111].(383/3)
كراهة الشجار ولو في أمر بمعروف
أما مسائل الحديث فالأولى منها: كراهية التلاحي والشجار ولو أنه في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر، ولذلك خرج صلى الله عليه وسلم على الصحابة وهم في المسجد مجتمعون ينتظرونه صلى الله عليه وسلم؛ فأراد أن يخبرهم بليلة القدر ويخبرهم بأن وقتها ليلة كذا، حتى لا يتعبوا ولا تصيبهم مشقة في البحث عن ليلة القدر، فتشاجر رجلان من المسلمين وهم جلوس، وهذان الرجلان هما كعب بن مالك رضي الله عنه، وابن أبي حدرد رضي الله عنه وأرضاه من الأنصار، كان بينهم مسألة خفيفة، فارتفعت أصواتهم، فغضب صلى الله عليه وسلم، فعاد ولم يخبر الناس، ولم يحدثهم تلك الليلة، ثم قال لهم: {إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلانٌ وفلان}.
أخبر بأسمائهم صلى الله عليه وسلم، ولكن الراوي لم يخبرنا بأسمائهم تشريفاً لهم؛ لأنه موطن شجار لا يذكرون فيه، أما لو كان موطن مدح ورفعة وتقدير وفداء وتضحية، لكان أخبرنا بهما رضوان الله عليهم وأرضاهم.
{فتلاحى رجلان من المسلمين، فقال: إني خرجت لأخبركم بليلة القدر، وإنه تلاحى فلان وفلان -أي تشاجر فلان وفلان- فرفعت}.
قال أهل العلم: كان يعرفها صلى الله عليه وسلم فأنسيها من الله عز وجل، وقال بعضهم: إنه يعرفها ولا يزال يعرفها، ولكن رفع الأمر بتعريف الناس بها، والصحيح أنه كان يعرفها صلى الله عليه وسلم ثم أنسيها، ولو كان يعرفها لأخبر بها الناس، فإنه يقول: {فرفعت وعسى أن يكون خيراً لكم، التمسوها في السبع والتسع والخمس} السبع والتسع والخمس التي ذكرها صلى الله عليه وسلم من ليالي رمضان، وإنما ذكر صلى الله عليه وسلم السبع؛ لأنها الراجح، وعليه كلام أبي بن كعب سيد القراء رضي الله عنه وأرضاه، وكلام ابن مسعود وعائشة، ولكن الظاهر من الأدلة أنها تتنقل، وأنها لا تثبت، ولكن أرجحها وأرجح ما تأتي في ليلة السبع.(383/4)
من أدب الجدال خفض الصوت
الشجار مذمومٌ في كل شيء، وقد نهى الله عن المجادلة إلا بالتي هي أحسن، ومن أدب الجدال الحسن ألا ترفع الأصوات؛ لأن الله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} [الحجرات:2].
قال أهل التفسير: نزلت في أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما عندما أتى وفد بني تميم، واختلفوا أيهم يؤمر على قومه، فقال أبو بكر: أرى أن يؤمر القعقاع بن معيد وقال عمر: أرى أن يؤمر الأقرع بن حابس.
فلما سمع ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم سكت فقال أبو بكر: ما أردت يا عمر إلا خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما على رسول صلى الله عليه وسلم، فلما أنزل الله ذلك، قال أبو بكر للرسول صلى الله عليه وسلم: والله لا أكلمك إلا كأخي السرار، أي: أخفض صوتي لك، وكان صلى الله عليه وسلم لا يسمع عمر حتى يستفهمه من لطافة صوته وأدبه مع رسول صلى الله عليه وسلم.
فالمقصود أن رفع الصوت ليس من الأدب في الأخذ والعطاء، ولذلك يقول سبحانه وتعالى في وصية لقمان لابنه: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19] لأن صاحب الحق صوته متزنٌ ووقور.
وإنما يرفع الصوت في مقامات وردت بها السنة، منها الخطابة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع صوته، ويشتد غضبه، وتحمر عيناه الشريفتان كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم.
ومنها الصوت عند النداء في المعركة، إذا نادى بالإقبال على المعركة؛ فإنه يرفع الصوت كما فعل العباس في حنين رضي الله عنه وأرضاه.
فمسائل هذا الحديث أن الشجار قد يرفع البركة ولو كان في خير، وأن الاختلاف والتنازع مذموم، فلبركته صلى الله عليه وسلم أتى ليخبر الناس، فلما تشاجروا رفعت هذه البركة، ولعل رفع الله خير من الزهد في العمل في التماس هذه الليلة، ومن أسرار هذا الدين أن بعض الأمور فيه مبهمة، لم يخبرنا الله سبحانه وتعالى بها، فساعة الجمعة لم يخبرنا بها نصاً؛ وإنما تلميحاً، وهي في آخر ساعة من ساعات الجمعة على الصحيح، فبقيت ساعة الجمعة مختفية ومبهمة، لنجتهد ونبذل وسعنا فيما يقربنا من الله عز وجل.(383/5)
حديث البخاري في مراتب الدين
الحديث الثاني: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: {كان رسول يوماً بارزاً للناس فأتاه رجلٌ فقال: ما الإيمان؟ قال: الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر، قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها، إذا ولدت الأمة ربتها، فذاك من أشراطها؛ وإذا كان الحفاة العراة رءوس الناس فذلك من أشراطها في خمس لا يعلمهن إلا الله، ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34] ثم انصرف الرجل فقال: ردوه فذهبوا ليردوه فلم يروا شيئاً، فقال: هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم}.(383/6)
سبب ورود الحديث وتعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع البدو
كان سبب هذا النزول من جبريل عليه السلام أن الصحابة تشوقوا لرجلٍ عاقل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم وهم يستمعون ليستفيدوا من الإجابة؛ لأن الناس في عهده صلى الله عليه وسلم أمروا بالتقليل من الأسئلة، يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101]
فالسبب: أن الله سبحانه وتعالى منع الصحابة أن يسألوا الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الوقت وقت تشريع، فكلما سألوا عن شيء أحرامٌ ذاك؟ يمكن أن يقول: حرام؛ لأن وقت التشريع ووقت النزول ليس من المصلحة فيه كثرة الأسئلة، حتى لا تقع الأمة فيما وقع فيه بنو إسرائيل، فإن الله عز وجل أمرهم على لسان موسى عليه السلام أن يذبحوا بقرة، قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[لو أخذوا بقرة فذبحوها لأجزأتهم، لكن قالوا: ما هي؟ فأخبرهم، فلو أخذوا على هذا الخبر لأجزأتهم، فقالوا: ما لونها؟ فلما أخبرهم باللون عادوا مرة ثالثة فقالوا: ما هي؟ فشددوا فشدد الله عليهم، حتى ما وجدوها إلا بملء جلدها ذهباً؛ لأنها كانت فريدة في زمانها]] هذه البقرة أوصافها فريدة فما وجدوها إلا بعد كلفة.
قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: {كان يعجبنا الرجل العاقل يأتي من البادية، فيسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ونحن نسمع}.
وقال أنس: الرجل العاقل: يخرج غيره، لأن بعض الأعراب سألوا أسئلة ضيعت الوقت على الرسول صلى الله عليه وسلم، وضيعت كذلك أوقات الصحابة، جاء رجلٌ من الأعراب -كما يروي أهل السير وأهل الحديث- إلى الرسول صلى الله عليه وسلم قال: إن كان هذا الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب فسوف يخبرني أين ناقتي، فربط ناقته في وادٍ من الوديان، وأتى فقال: يا رسول الله! أين ناقتي؟ فقال عمر: ثكلتك أمك وما دخل رسول صلى الله عليه وسلم بناقتك، فأجلسه صلى الله عليه وسلم واستحيا منه.
وجاء رجل من الأعراب فقال: يا رسول الله! ما هذا الدجال الذي تذكره في صلاة الجمعة؟ قال: {رجل يفتن الله سبحانه وتعالى به الناس به، وعنده جنةٌ ونار، وعنده ثريد -والثريد هذا لحمٌ وخبز يغر الناس به فيأكلون منه- قال الأعرابي: فماذا يفعل إذا أكلنا من ثريده؟ قال: يغريكم يقول: هذه جنة وهذه نار، فناره الجنة، وجنته نار قال الأعرابي: والله لآكلن من ثريده حتى أشبع وأتضلع ثم أكفر بجنته وبناره، فضحك صلى الله عليه وسلم}.
يقول عليه الصلاة والسلام لأحدهم: {ماذا تقول يا فلان في آخر التحيات قبل أن تسلم؟ قال: أسأل الله الجنة وأستعيذ بالله من النار، وأما دندنتك ودندنة معاذ فلا أعرفها، فقال صلى الله عليه وسلم: إنا حولها ندندن}.
وأنتم تعرفون أن أهل العلم يوردون في باب سماحته صلى الله عليه وسلم، وتحمله للسائل حديث أنس قال: {كنا جلوسٌ معه صلى الله عليه وسلم في المسجد، فأتى رجل فدخل، فتخطى رقاب الناس حتى جلس بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ما لبث أن قام، فاستعرض المسجد، فبال في طرف المسجد، فقمنا عليه لنضربه، فقال صلى الله عليه وسلم: اتركوه ولا تزرموه، فلما انتهى قال صلى الله عليه وسلم: علي بدلو من ماء، فأتي بدلو من ماء، ودعا صلى الله عليه وسلم الرجل، فأجلسه بجانبه، ووضع صلى الله عليه وسلم يده على كتفيه ليستأنس، ولئلا يخاف ويستوحش منه صلى الله عليه وسلم، ثم قال صلى الله عليه وسلم: إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن} فتوضأ الرجل كما أمره صلى الله عليه وسلم، ثم قام يصلي، فقام في الصف الأول وراء النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، فلما أوشك صلى الله عليه وسلم أن يسلم رفع هذا الدعاء وقال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحداً أبداً، فسلم صلى الله عليه وسلم ثم التفت إلى الناس يتبسم عليه أفضل الصلاة والسلام، وهو يدري أنه هذا؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ما كان يبهت الناس ويقول: يا فلان! لماذا قلت كذا؟ بل يقول صلى الله عليه وسلم: من القائل آنفاً كذا وكذا؟ فسكت الناس، فأعادها صلى الله عليه وسلم فقال: أنا يا رسول الله! -ظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يعطيه جائزة- فقال: لقد حجرت واسعاً، أو تحجرت واسعاً، أو ضيقت واسعاً، فرحمة الله عز وجل وسعت السماوات والأرض، وأنت ضيقتها لي ولك، ثم قام هذا الرجل بعد أن علمه صلى الله عليه وسلم.
فتحمله صلى الله عليه وسلم مطلوبٌ منه، والسؤال هو: لماذا لم يرد صلى الله عليه وسلم هذه الأسئلة التافهة ويرفضها من أول الطريق؟ لأنه لو رفضها عليه أفضل الصلاة والسلام لارتد هؤلاء؛ فكان يريد أن يتألف قلوبهم، والله يقول: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] لو قال صلى الله عليه وسلم: أنا لا أجيب على هذا السؤال، أو ما هذا السؤال التافه؟ يمكن أن يرتد الإعرابي، ولا يسلم أبداً.
ولذلك أتى إعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث مع الصحابة، فقال: {يا محمد أعطني من مال الله الذي عندك؛ لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فتبسم صلى الله عليه وسلم وتغيرت وجوه الصحابة، فأرادوا أن يبطشوا به، فقال صلى الله عليه وسلم: دعوه، ثم أخذه صلى الله عليه وسلم بيده الشريفة وأدخله بيتاً فيه تمر وزبيب وقال: خذ من هذا ما أردت، قال: جزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيراً، قال: أوما أجملت معك؟ قال: جزاك الله من أهلٍ وعشيرةٍ خيرا، قال إذا خرجت أنا وأنت عند أصحابي فقل لهم هذا الكلام حتى يرضوا عنك؛ فإنهم وجدوا عليك في أنفسهم، فلما خرج به صلى الله عليه وسلم قال: يا فلان أأجملت معك وأحسنت؟ قال: نعم.
فجزاك الله عن أهلٍ وعشيرة خيراً، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: إن مثلي ومثلكم ومثل هذا الأعرابي كرجلٍ كانت له دابة فنفرت، فأتى الناس يلحقونها، فما يزيدونها إلا نفاراً، فقال صاحبها: خلوا بيني وبين دابتي، ثم أخذ من حشائش الأرض -يعني من برسيم الأرض أو من خضرة الأرض- فأخذ يلوح للدابة حتى جاءت فأمسكها، فلو تركتكم وهذا لطردتموه، ثم عاد كافراً، ودخل النار} فأعطاه صلى الله عليه وسلم وأدخله في هذا الدين.(383/7)
رؤية الملائكة كرامة للصالحين
الصحابة يحبون أن يأتي رجلٌ عاقل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن أسئلة وجيهة طيبة مفيدة.
فأتى جبريل عليه السلام ولم يعلم الناس حتى الرسول صلى الله عليه وسلم أنه هو الذي دخل، أولاً: لأن الله عز وجل لم يوح إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أن جبريل سوف يأتيك ليسألك أسئلة، والرسول صلى الله عليه وسلم لم يتجهز بالإجابة، ولم يذاكر ولم يراجع معلوماته في هذه الأسئلة العظيمة، إنما كان ذلك مع الصحابة، وجبريل أتى الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد؛ لأنها أشرف بقعة يتناول فيها العلم؛ لأن في المسجد نوراً وبركة وهداية، فمن أراد الفائدة والعلم فعليه بالمسجد.
ثانياً: لأنه أتاه في صورة رجل؛ لأنه لو أتى في صورته التي خلقه الله عليه لخرج الصحابة من العوام من المسجد فراراً؛ يقول صلى الله عليه وسلم: {أريت جبريل مرتين على صورته التي خلقه الله عليها} ولما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم في حراء ارتعد خوفاً، وقفل يقول: زملوني زملوني، وهو صلى الله عليه وسلم من أولي العزم، فما بالك لو رآه أحد الصحابة على هذه الصورة، أين ستكون قلوبهم آنذاك وعقولهم؟!
ودخل جبريل في صورة إنسان جميل، وكان يأتي في صورة دحية الكلبي، وهو رجلٌ من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم كان من أجمل الناس، وقد كان صلى الله عليه وسلم يرسله إلى الملوك وفداً بالرسائل؛ لأنه يختار السمة والشارة الطيبة، فيختار دحية بن خليفة الكلبي من بني كلب، حتى قال بعض الصحابة: رأيت دحية مر اليوم عليه عمامة، وهو جبريل عليه السلام، وجبريل لا يراه إلا أهل الكرامة من الصحابة رضوان الله عليهم.
حتى إن العباس بن عبد المطلب دخل هو وابنه عبد الله على الرسول صلى الله عليه وسلم، فسلم العباس وسلم ابنه عبد الله، فرد صلى الله عليه وسلم فأتى العباس يكلم الرسول صلى الله عليه وسلم فما كلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخذ ابنه عبد الله وخرج، وقال: كيف أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يكلمني؟ قال: أما ترى الرجل الذي يكلمه؟! قال: ما عنده رجل، قال: والذي نفسي بيده إن عنده رجلاً جالساً، فعادا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يجدا رجلاً، فقال: يا رسول الله إن عبد الله يقول: إن عندك رجلاً ولم أر عندك أحداً، قال: يا عبد الله! أرأيته؟ قال: نعم رأيته بأبي أنت وأمي يا رسول الله! قال: هذا جبريل، وهذه كرامة لـ عبد الله لما علم الله في قلبه من اليقين والإيمان، ولم يرها أبوه لأمرٍ علمه الله عز وجل.
ويقول سعد بن أبي وقاص: [[رأيت الملائكة يوم أحد]] ورئيت كذلك يوم بدر، أما سعد فرآها يوم أحد نزلت وعليها الثياب البيض والعمائم البيض مسومة، وقاتلت مع الناس.
إنما أتى جبريل عليه السلام فدخل المسجد والناس جلوس مع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال عمر: {ولا يعرفه منا أحد} لماذا؟
يقول: {شديد بياض الثياب}.
والمسافر الذي يمضي على رجله لا بد أن تتسخ ثيابه وتغبر؛ لكن هذا ما اتسخت ثيابه، وثيابه بيضاء؛ لأنه نزل من السماء للتو؛ لكن لم يدر الناس أنه نزل من السماء.
{شديد سواد الشعر}: أي أنه ليس فيه غبار السفر ولا شعثه، فدخل حتى جلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فجلس على ركبتيه كما نجلس في التحيات، وهي من أحسن الجلسات كما أنها جلسة المتواضعين، فلذلك جعلها الله عز وجل من سنن الصلاة كما سنها صلى الله عليه وسلم، وهي جلسة طالب العلم عند المعلم إذا كانوا جلوساً على أرضٍ سواء.
{فجلس فأدنى ركبتيه من ركبة الرسول صلى الله عليه وسلم، ووضع يديه على فخذيه} قال بعض أهل العلم: هما يدا جبريل على فخذ الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال بعضهم: بل يدا جبريل على فخذيه، والصحيح أنه على فخذ الرسول صلى الله عليه وسلم قالوا: ذلك ليبعد الشبهة عن نفسه، وليظهر بعض الجفاء، فإنه وضع يديه على ركبة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لئلا يظن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه ملك من السماء، فيظن أنه من الناس، ثم بدأ بالأسئلة، وهذه الأسئلة عرضها البخاري، ولكنها معروضة في مسلم وسوف أذكر اختلاف الرواية.(383/8)
شرح حديث جبريل
قال: {ما الإيمان؟} هذا السؤال أول سؤال، والصحيح أنه سأل السؤال الأول عن الإسلام؟ وقد سكت الناس في المسجد، قال عمر: وكان بعضنا ينظر إلى بعضٍ في المسجد وما عرفه منا أحد، فقال: {ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه وتؤمن بالبعث الآخر} وفي بعض الروايات: {وبالقدر خيره وشره} لكن في غير البخاري؛ لأن البخاري يلتزم بشرطه، وشرط الرواية التي وصلت إليه، قال: {أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث} ما الفرق بين لقائه والبعث؟ قالوا: تؤمن بالبعث أن الله يبعث من في القبور، وتؤمن باللقاء أنك بعد أن تبعث من القبر أنك تلاقي الله عز وجل، فيضع كنفه على عبده، ويناديه كما ينادي أحدنا أخاه في الدنيا، ولله المثل الأعلى، يقول ابن عمر رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يدني ربكم سبحانه وتعالى أحدكم يوم القيامة فيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان} وفي حديث عدي بن حاتم الطائي: {ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيسر منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر تلقاء وجهه فلا يرى إلا النار، فاتقوا النار ولو بشق تمرة}.(383/9)
الإيمان بالقدر
قال: {الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وبلقائه ورسله وتؤمن بالبعث -وهناك- وتؤمن بالقدر خيره وشره} يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه لما حضرته الوفاة لابنه: [[يا بني! اعلم أنك لو أنفقت مثل أحد ذهباً أو فضة ما نفعك عند الله حتى تؤمن بالقدر خيره وشره]] ويقول ابن عمر في صحيح مسلم لما أتاه الرجل العراقي وأخبره أن قوماً يقولون بالقدر قال: [[والله لو أنفق أحدهم مثل أحد ذهباً ما نفعه حتى يؤمن بالقدر خيره وشره، أخبرهم أني بريءٌ منهم وأنهم براء مني]] ثم ساق ابن عمر هذا الحديث.
{فلما أخبره بالإسلام قال: صدقت} فتعجب الناس كيف يسأله ويصدقه، ولكنه صلى الله عليه وسلم ما أنكر عليه؛ لأن السائل لا يقول للعالم: صدقت؛ لأن من يقول: صدقت هو أعلم منه، كأن تسأل العالم في مسألة وأنت لا تعرفها، فإذا أفتاك قلت: صدقت، من علمك أنه صدق أو كذب أو أنه أصاب وأخطأ؟ إذاً فأنت أعلم منه، فمادمت أنك تصدقه فأنت أعلم منه، قال عمر: {فعجبنا له يسأله ويصدقه}.
قال أحد العلماء المالكية: إن السبب في إنكار ذلك (يسأله ويصدقه) أن هذه أمورٌ غيبية لا يعلمها إلا الله عز وجل، فهي لا تأتي إلا من مشكاة النبوة، فلما قال: صدقت كأنه يعرفها فأنكروا عليه، قال: {ثم قال: ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، قال: صدقت} هنا لم يذكر الحج، وذكره في بعض الروايات، وعدم ذكره في بعض الروايات تصرف من بعض الرواة؛ لأنه علم أنه لما ذكر عليه الصلاة هذه الأركان علم أنه سوف يكمل الحج، وأنه من الأركان فاستفادوا ذلك، وهذا من باب الاختصار والإشارة، وقيل: لا، بل كان هذا النزول قبل أن يفرض الحج وهذا كأنه بعيد؛ لأن بعض أهل العلم كما يقول الحفاظ إذا لم يجد مخرجاً للرواية، ولم يجد رواية ثابتة قال: يمكن أن تكون متقدمة، ويمكن أن تكون هذه ناسخة لها وهذه منسوخة، وهذا لا دليل لهم عليه، بل ذكر صلى الله عليه وسلم الحج.(383/10)
الإحسان
{قال: ما الإحسان؟ قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: صدقت}
أولاً: اعلموا أن هذا الحديث مقامه من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم كمقام الفاتحة من سور القرآن، فإنه حوى أحكام الإسلام وآداب الإسلام، وكل دقيقة وجليلة في الإسلام، فالفاتحه موجز القرآن، وتفصيل هذا الموجز كله في القرآن، وهذا موجز لأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفصيل موجز كلامه صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بكل حديثٍ له، فهو من أعظم الأحاديث في الإسلام، وهو قاعدة من قواعد هذا الدين، ومن أتم الأصول عند المسلمين، ولذلك لما أراد الله سبحانه وتعالى أن يوقظ الناس ويعلمهم ويفهمهم أنزل جبريل، فسأل هذه الأسئلة العظيمة الجامعة التي يحفظها جميع الناس.(383/11)
أشراط الساعة
ثم قال جبريل عليه السلام: {متى الساعة؟ قال: ما المسئول عنها بأعلم من السائل، وسأخبرك عن أشراطها} معناه: أنا لست أعلم منك، وأنت تجهلها، ونحن في الجهل سواء، فإذا لم أعلمها وأنا المسئول فأنت من باب أولى ألا تعلمها وأنت تسأل، قال جبريل: {وما علاماتها؟ -وفي لفظٍ- ما أشراطها؟} جمع شرط، وهو العلامة، وفي رواية قال صلى الله عليه وسلم: {وسأخبرك عن أشراطها} ومن فائدة عرض العلامات أن يتدبر الناس.
{إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] قال بعض أهل العلم: معنى أكاد أخفيها: أكاد أظهرها؛ من باب التضاد.
قال: سأنبئك عن أشراطها، ولم يذكر هنا إلا علامتين، فكيف يقول: أشراطها ولم يذكر إلا علامتين؟ قالوا: إن أقل الجمع اثنان، أو أنه ذكر شرطاً آخر لم يذكره الراوي هنا.
قال: {إذا ولدت الأمة ربتها} وهنا: {إذا ولدت الأمة ربها} ولا خلاف بين ربتها وربها، والمعنى: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يخبر أنه في آخر الزمان سوف ينشر الله هذا الدين، وينتصر المسلمون، ويسبون السبي، فيأخذ المسلم أمة، فتنجب له ولداً، يصبح هذا الولد سيداً لها؛ لأنه ابن سيدها، وهذا المعنى هو الذي تميل إليه النفس من أربعة معاني ذكرها أهل العلم.
والمعنى الثاني: أن العرب تكون سادة لغيرهم من الأمم، وهو بعيد.
والمعنى الثالث: أنها تختلط الأنساب في آخر الزمان حتى تلد الأمة ربها، أي: أنها تصبح عنده الأم يتزوجها، وهذا بعيد ونسأل الله العافية؛ لأن اختلاط الأنساب من المفاسد التي لا يقرها الدين، لكن الصحيح أنه يتسرى المسلمون في آخر الزمن إذا انتصروا على الأعداء، فإذا ولدت الأمة ابناً أصبح هذا الابن ابن سيدها، فأصبح سيداً لها.
{وإذا تطاول رعاة الإبل البهم} قال أهل العلم: البهم: إما صفة للإبل أي أن لونها أبهم، أو أنها صفة لرعاة الإبل أنهم بهم عميٌ صم، أي لا يفقهون في الدين شيئاً، يبنون القصور وهم لا يعرفون كيف يصلون، فهذا من علامات الساعة إذا تحضر البدو وبنوا القصور، وتزاحموا في بناء البيوت، فهذه من علامات الساعة التي أخبر بها صلى الله عليه وسلم.
{وإذا تطاول رعاة الإبل البهم في البنيان} (رعاةُ الإبلِ البهمُ) بالرفع على أنها صفة للرعاة، و (رعاةُ الإبلِ البهمِ) بالكسر على أنها صفة للإبل.
{في خمسٍ لا يعلمهن إلا الله} أي أن هذه الخمس استأثر الله بعلمها: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34] والسر في قوله تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [لقمان:34] أن الدراية غير العلم؛ لأنه لو قال سبحانه وتعالى: وما تعلم لاقتضى أنها تدري بعض الشيء، لكن لما قال: ولا تدري فهو يحوط كل العلم أي أن الدراية علمٌ وزيادة.
ثم خرج جبريل وقام من بين الناس رضي الله عنه وأرضاه فأدبر، فقال صلى الله عليه وسلم: {ردوه} لأنه يظن صلى الله عليه وسلم أنه رجل وأراد صلى الله عليه وسلم أن يسأله: من أين أتيت؟ وماذا تريد؟ فخرج هذا الرجل فالتمسوه في سكك المدينة فلم يجدوه، فرجعوا فأخبروا صلى الله عليه وسلم قالوا: ما وجدناه، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: {هذا جبريل جاء الناس يعلمهم أمر دينهم} قال أهل العلم: يمكن أن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف في تلك الساعة من الله أنه جبريل، أو يمكن أنه عرف بالقرائن والأسباب أنه جبريل عليه السلام، فجعل ذلك صلى الله عليه وسلم كله ديناً، وأخبر الناس أن هذا هو الدين الذي أتى به جبريل من عند الله عز وجل، والذي أجاب عليه محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الحديث هو الإسلام وهو الإيمان وهو الإحسان، وهو درجات أهل اليقين، فأول ما يبدأ الإنسان المرحلة الأولى في هذا الدين لا بد أن يتقيد بفرائض الإسلام التي ذكرها صلى الله عليه وسلم أولاً، ثم عليه بالإيمان، وقد قال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] يعني أنهم تعدوا مرحلة، فردهم الله سبحانه وتعالى في المرحلة الأولى، يقول: ما نجحتم إلى الآن، فلا تدعوا درجة ليست لكم، وأما الإحسان فهي درجة المقربين، وهي أرفع درجة، وهي درجة أبي بكر وعمر وعثمان وعلي: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال بعض أهل العلم: وهي رسوخ العلم القلبي بالعيان بالإيمان حتى يكون الغيب كالعيان، وورد في بعض الأحاديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {اعبد الله كأنك تنظر إليه، واستحي من الله كأحيا رجلٍ من قبيلتك} كما ترى أحياناً رجل تستحيي منه، فاستحي من الله أكثر وأكثر؛ لأن سبحانه وتعالى بيديه مقاليد القلوب، واعلم أن الله سبحانه وتعالى مطلع، وأن له معية -كما يقول أهل السنة والجماعة - خاصة في كل إنسان: فما يكون من نجوى ثلاثة إلا وهو رابعهم، فهو مع كل فردٍ منا في الليل والنهار.
وإذا خلوت بريبةٍ في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني(383/12)
حديث النعمان بن بشير في اتقاء الشبهات
الحديث الثالث: عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات -وعند البخاري - مشبهاتٌ، لا يعلمها كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا وإن لكل ملكٍ حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب} هذا الحديث نرجعه بعد الحديث التالي؛ لأن حديث ابن عباس الرابع أليق بحديث جبريل.(383/13)
الوفود التي وفدت إلى النبي صلى الله عليه وسلم(383/14)
وفد عبد القيس
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: {أن وفد عبد القيس لما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم قال: من القوم؟ أو من الوفد؟ قالوا: ربيعة، قال: مرحباً بالقوم -أو بالوفد- غير خزايا ولا ندامى، فقالوا: يا رسول الله! إنا لا نستطيع أن نأتيك إلا في الشهر الحرام، وبيننا وبينك هذا الحي من مضر، فمرنا بأمرٍ فصل نخبر به من وراءنا، وندخل به الجنة فأمرهم بأربع، ونهاهم عن أربع، أمرهم بالإيمان بالله وحده، قال: أتدرون ما الإيمان بالله وحده؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام رمضان، وأن تعطوا الخمس من المغنم، ونهاهم عن أربع؛ عن الحنتم، والدباء، والنقير، والمزفت، وربما قال المقبر، وقال: احفظوهن وأخبروا بهن من وراءكم}.
يقول ابن عباس رضي الله عنهما: أتى وفد عبد القيس، وهم من وفود العرب، وقد وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من اثني عشر وفداً عام الوفود، فما كان صلى الله عليه وسلم يستقبل وفداً ويودعه إلا والوفد الآخر قد نزل، وأتى هؤلاء الوفود في سنة تسع من الهجرة، يقول سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً} [النصر:1 - 3] وخصص صلى الله عليه وسلم بلالاً لضيافة هؤلاء الوفد، فكان ينزلهم في دار الضيافة، فيجلسون ويغيرون ملابسهم، ويقابلون الرسول صلى الله عليه وسلم أوقات الصلاة، فيسمعون منه من الحكمة ويتعلمون ويتأدبون.
ووفد عبد القيس هؤلاء من ربيعة، وكانوا يسكنون في الأحساء، وهي البحرين في كتب التاريخ وفي كلام العرب، وليس البحرين التي عاصمتها المنامة، إنما هي الأحساء التي فيها مسجد جواثى.
يقول ابن عباس في صحيح البخاري: ثاني مسجد في الإسلام جُمّع فيه مسجد جواثى، فهو مسجد عبد القيس، اجتمعوا هذا اليوم، وكانوا ثلاثة عشر، وأورد ابن حجر في رواية أنهم كانوا أربعين، قال: ربما يحمل على أن الثلاثة عشر هم رؤساؤهم وأعيانهم، والبقية من الذين مضوا معهم ورافقوهم، فلما نزلوا في المدينة، وعمدوا إلى المسجد مباشرة، وهم بلباس السفر وغباره، فتخطوا رقاب الناس، وأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إلا أشج عبد القيس وهو سيدهم؛ فإنه نزل فربط جمالهم جميعاً بعد أن ذهبوا إلى المسجد، وأعلفها، ثم ذهب إلى النهر فاغتسل، ثم غير ثيابه، ولبس أحسن الثياب وتعمم، ثم تطيب، ثم أخذ عصا بيده، ثم دخل بهدوء وسكينة من المسجد، والرسول صلى الله عليه وسلم يلاحظه، فلم يتخط رقاب الناس، فجلس بأدبٍ وسكينة عند الرسول صلى الله عليه وسلم، فالتفت صلى الله عليه وسلم إليهم قبل أن يتكلموا، وتبسم لهم جميعاً صلى الله عليه وسلم، ثم قال لـ أشج عبد القيس: {إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم والأناة} أي: العقل والوقار والسكينة، والأناة: هي التثبت وعدم العجلة.
قال ابن القيم في زاد المعاد في كتاب الوفود: فيه ذم الطيش والعجلة، وأنها تورث صاحبها مضرة أكثر من المنفعة، وفيها أن الله عز وجل يجبل العبد على أخلاقٍ يرضاها تبارك وتعالى؛ لأن الجبل غير الجبر، فالجبر ليس في عقيدة أهل السنة والجماعة.
والجبل: هو أن يجبلك الله على أخلاق معينة، ومعظم الأخلاق تكون على الفطرة؛ ومنها الكرم والشجاعة.(383/15)
وفد الطائف
أتى أناس من الطائف في وفد فقال لهم صلى الله عليه وسلم: {أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأن تتركوا ما كنتم تعملون من الفواحش في الجاهلية، فقام كنانة وكان سيدهم فقال: ماذا تأمرنا أن نترك؟ فتبسم صلى الله عليه وسلم قال: اتركوا الزنا، قال: نسافر الأشهر ولا نزني؟ قال: صلى الله عليه وسلم: نعم، قال: ونترك ماذا؟ قال: لا ترابون، قال: فمن أين لنا ربحٌ؟ أنأخذ رأس مالنا ونخسر؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا ترابون، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم الخمر، قال: لا نشرب؟ قال: لا تشربون، قال: لا نستطيع ولكن اكتب كتاب أمان؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم}
ما آمنوا بالله ولا برسوله ولا بهذا الدين، ويقولون: اكتب لنا كتاب أمان، فقال صلى الله عليه وسلم: {لا أمان لكم عندي، وإنما هي المصارمة والمقاتلة، وانتظروا يوماً كيوم أهل مكة} فاجتمعوا في بيت المغيرة وقالوا: ماذا ترون؟ قال المغيرة: أرى أنكم إن لم تفعلوا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يهدم بيوتكم على رءوسكم، فتعالوا فأسلموا وأطيعوا وآمنوا بما جاء به، فأتوا وأطاعوا فقال كنانة وكان عاقلاً من عقلائهم: إذا رجعنا إلى قومنا في الطائف قالوا: إنا قد أعطينا الدنية وربما قتلونا، فإذا أتينا ودخلنا عليهم في الطائف فسنظهر الغضب، وكلٌ منا لا يحدث الآخر، ونتشاتم ونحن في الطريق أمامهم، ثم لا نسلم عليهم، وندخل في بيوتنا مغضبين، فإذا سألونا ما لكم؟ قلنا: سوف يحاربنا محمد صلى الله عليه وسلم ويشن علينا الغارة؛ لأنا أبينا أن نترك الزنا والربا ونترك الخمر، فإنهم سوف يقولون لنا: اذهبوا إليه وقولوا: سوف نترك هذا وهذا؛ لأنه سوف يقاتلنا كما قاتل قريشاً، فلما قربوا من الطائف خرج أهل الطائف رجالاً ونساءً وأطفالاً، فتفرق هذا الوفد كل واحد على حدته، وأخذوا يتشاتمون ويتحاثون بالتراب على وجوههم، فقال لهم القوم: ما لكم ذهبتم جميعاً ورجعتم فرادى؟! ادخلوا معنا، فما كلموهم، ودخل كل واحد بيته، فاجتمع أهل الطائف جميعاً وقالوا: نرى أن تذهبوا إلى هذا الرجل وأن تعطوه ما أراد، وأن تكتبوا بينكم وبينه كتاباً؛ فإنا نخاف أن يوقع علينا الدائرة، فقال كنانة: هذا ما أردنا وقد فعلنا ما أردتم، فاجتمعوا جميعاً فأسلموا.
فرجع المغيرة إلى رسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! أرسل معي رجلاً يهدم اللات التي كانوا يعبدون، فقال: قم يا خالد، وهو رجل المهمات والطوارئ، فقام رضي الله عنه مع المغيرة، فلما ذهبوا قال المغيرة لـ خالد وكان مزاحاً، سوف أضحكك وأضحك أهل ثقيف اليوم، قال: ماذا تفعل؟ قال: اتركني ولا تقرب هذه اللات؛ فإنهم يظنون أنها تقتل، وأنها تحيي وتميت، وأنها تنفع وتضر، فسوف أقعد عليها، ثم أصيح وكأنني مقتول، ثم أتقلب عليها، فقام بالفرس فضربها ضربة ثم شهق شهقة حتى سمع أهل ثقيف، فإذا هو ملقى على ظهره كأنه مقتول، فقال أهل ثقيف: لقد حذرناك يابن فلانة -يقصدون المغيرة - وقلنا لك: إنها تقتل الناس، فذق ما أتاك، وخذ يابن بني مخزوم -يقصدون خالداً - مثلما فعل صاحبك؛ تقدم إن كان فيك خير، فسكتوا، وأقبلوا يقلبون المغيرة ظانين أنه قد مات، فانتفض حتى وقف يضحك قال: قاتلكم الله يا ثقيف! أما عرفتم أن هذه حجارة لا تنفع ولا تضر، فقام خالد فهدمها من أساسها رضي الله عنه وأرضاه.
وكان منهم عروة بن مسعود قتله قومه قال صلى الله عليه وسلم: {إن مثله في قومه كمثل صاحب يس في قومه} يقول صلى الله عليه وسلم: {ورأيت عيسى كأنه عروة بن مسعود الثقفي} أي في جسمه وهيئته.(383/16)
وفد الأزد
وكل فتاةٍ بأبيها معجبة
ولو أن وفد الأزد ضعيف سنده، لكن نقويه إن شاء الله.
قدم وفد الأزد على الرسول صلى الله عليه وسلم، فيقول الحارث وهو سابع سبعة أو ثامن ثمانية منهم: وفدنا على الرسول صلى الله عليه وسلم من الأزد -من قبائل الجنوب (من هنا) لأن الأزد ينتسبون إلى قحطان كما تعرفون ذلك- فهم أزد شنوءة، وقد تفرقوا قسمين، قسم سكن السراة وقسم سكن عمان، ولا يهمنا هذا العمة والخالة والجدة؛ لأننا لا نرث عمان ولا يرثوننا؛ لكن من باب معرفة الشيء.
فأتى هذا الوفد، فقدم على الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزلوا وكانوا طوالاً في أجسامهم، وفيهم قوة كما صح، فلبسوا لباساً جميلاً، فلما نزلوا عند الرسول صلى الله عليه وسلم قال عمر بن الخطاب كما في بعض الروايات عند ابن عساكر وغيره: [[يا رسول الله! هنا قومٌ كأنهم من الهنود]] لأنهم كانوا يوفرون لحاهم لا بقصد السنة فهم لا يعرفون السنة؛ لأنهم جاهليون، لكنهم يعدون من المروءة والشهامة ألا يأخذ الإنسان من لحيته شيئاً، وإذا قامت بينهم الحرب وعقد أحدهم لحيته فلا يفكها حتى يأخذ حقه، وينتقم ممن يقاتله، أو يأخذ بثأره، فقال صلى الله عليه وسلم: ترجموهم، فتقدموا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فسألهم: {ممن القوم؟} لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن ينتسبوا إليه عليه أفضل الصلاة والسلام، فقالوا: مؤمنون، فتبسم صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: {إن لكل قومٍ حقيقة؛ فما حقيقة إيمانكم؟ قالوا: خمس عشرة خصلة، خمسٌ أمرنا الله بها، وخمسٌ أمرتنا أنت بها، وخمسٌ تخلقنا بها من أخلاق الجاهلية، فتبسم صلى الله عليه وسلم أكثر وأكثر، وقال: ما هي الخمس التي أمركم الله بها؟ قالوا: أمرنا أن نعبده ولا نشرك به شيئاً، وأن نقيم الصلاة، وأن نؤتي الزكاة، وأن نصوم رمضان، ونحج البيت، فقال صلى الله عليه وسلم: وما الخمس التي أمرتكم أنا بها؟ قال: أمرتنا أن نؤمن بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، ونؤمن بالقضاء والقدر، فقال: وما الخمس التي تخلقتم بها من أخلاق الجاهلية؟ قالوا: الصدق في مواطن النفاق، والصبر على مر القضاء، وترك شماتة الأعداء، وشكر الله في الرخاء، وزادوا خامسة نسيتها، فتبسم صلى الله عليه وسلم ونظر إلى الناس وقال: علماء علماء، كادوا من علمهم أن يكونوا أنبياء، ثم زادهم صلى الله عليه وسلم قال: وأنا أزيدكم خمساً فتصبح عشرين لا تردوا ما لا تسكنون، ولا تدخروا ما لا تأكلون، واتقوا ربكم الذي عليه تعرضون وإليه تحشرون، وعنده تحاسبون} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
فذهب الوفد وأجازهم صلى الله عليه وسلم بمثل ما يجيز الوفود، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروهٍ سواه، هذا وفد الأزد والجنوب الذي وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم.(383/17)
وفد غامد
وفد غامد يدخلون في الأزد لكن لهم وفدٌ خاص، فوفدوا عليه صلى الله عليه وسلم وتركوا أحدهم عند متاعهم، لأنهم يحبون التجارة، فمكث هذا الرجل هناك، فلما أتى الوفد قال صلى الله عليه وسلم: {من تركتم عند رحالكم قالوا: تركنا فلاناً منا، فقال صلى الله عليه وسلم: لقد نام فلان وسرقت رحالكم}.
والرسول صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل المعجزات في مثل هذا الموقف حتى يزيد الإيمان، فعادوا فوجدوا هذا البطل قد نام، ووجدوا الرحال قد سرقت، فأتوا يلتمسون فعادوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا رسول الله علمت أنها سرقت فأخبرنا: من سرقها؟ قال: {لقد أخذها قومٌ من الأعراب، وقد أخفوها تحت البطحاء في وادي كذا وكذا} فذهبوا فنقبوا فوجدوها، ثم عادوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فأوصاهم، وكان منهم أبو صخر الذي له حديث في مسند أحمد وهو صحيح: {بارك الله لأمتي في بكورها} قال في الرواي: كان أبو صخر تاجراً فكان يغدو ويصبح، فكثرت تجارته حتى ما كان يدري أين وهطها.(383/18)
وفد بني حنيفة
وهناك وفود أخرى ردها صلى الله عليه وسلم كوفد بني حنيفة مع مسيلمة، أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فجلس في الرحال، ولم يدخل على الرسول صلى الله عليه وسلم، فأتى بنو حنيفة فدخلوا، فقال: من تركتم في رحالكم؟ قالوا: تركنا رجلاً هو مسيلمة، فقام صلى الله عليه وسلم ومعه عصا ومعه ثابت قيس بن شماس إلى مسيلمة، فقرع رأسه بالعصا وقال: {والله إن سألتني هذا السوط لا أعطيك إياه، والله إن خرجت ليهلكنك الله، وإن أدبرت ليتلونك الله سبحانه وتعالى -أي ليكشفنك الله- ثم قال صلى الله عليه وسلم: ألا إنه شركم مكانة} فعاد مسيلمة، فلما كان في الطريق قال: أتدرون ما له يتكلم علي ويسبني؟ -يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم- قالوا: لا.
قال: لأنني سوف أنبأ ويرسلني الله فيكم كما أرسله؛ فحسدني، فلما رجعوا بلادهم ادعى النبوة، قال له بنو حنيفة: وما بال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبيٌ مثلي له نصف الأرض ولي نصف الأرض.
سمع من القرآن النازعات إلى قوله تعالى: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطاً} [النازعات:2] فقال: والخابزات خبزاً، والعاجنات عجناً، وهذه أوردها ابن كثير والذهبي والأئمة وغيرهما.
فصدقه قومه بخرافته، فكتب رسالة للرسول صلى الله عليه وسلم: من مسيلمة رسول الله -قاتله الله- إلى محمد رسول الله؛ أما بعد: فلي نصف الأرض، ولك نصفها، لك المدر ولي الوبر، ولكن الناس أكثرهم لا يعدلون، وجعلها مثل آخر الآية!
فوصلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما قرأها مزقها صلى الله عليه وسلم ودعا عليه، ثم أرسل إليه صلى الله عليه وسلم حبيب بن زيد فقتله، وظل دجالاً حتى صفى حسابه أبو سليمان خالد بن الوليد في عهد أبي بكر فقاتله؛ فما علم أين القبلة هل هي في الشمال أو في الجنوب، ودخل عليه في حديقته، فقتله قتل عاد وثمود.(383/19)
الأسئلة(383/20)
من أحكام العقيقة
السؤال
إذا مات المولود هل تذبح عنه العقيقة؟
الجواب
لا تذبح عنه، إذا مات قبل الأيام السبعة؛ لأنه خسارتين يخسر الولد ويخسر الذبائح، فيتأكد حتى يعيش الولد، يقول ابن الجوزي: كان أحد الحمقى عنده حمار فمرض هذا الحمار وهو رأس ماله وميزانيته، ولا يملك من الدنيا إلا هذا الحمار، فنذر لله نذراً إن شفى الله الحمار أن يصوم سبعة أيام، فشافى الله حماره، فصام سبعة أيام، فلما انتهى من السبعة مات الحمار، فقال: ما سلمت من الصيام، ولا سلمت من بقاء الحمار، والله لأحتسبنها من رمضان، فلما أتى رمضان صام ثلاثة وعشرين يوماً، وخصم سبعة أيام، فهذا صاحب العقيقة يتأكد؛ لأنه قد يذبح ويعق، ثم يموت الولد بعدما يتعشى الناس.(383/21)
حكم البول واقفاً
السؤال
ما حكم البول واقفاً؟
الجواب
مكروه والأولى أن يبول المسلم جالساً، وفي صحيح البخاري يقول حذيفة: {ذهبت مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أتى بساط قوم، بال واقفاً عليه أفضل الصلاة والسلام} قال بعض أهل العلم: لمرض في مأبضه صلى الله عليه وسلم، أي: عند الركبة، وقيل: كانت العرب تستشفي بذلك من وجع الظهر، فالصحيح الذي دل عليه كلام أهل العلم أن البول واقفاً مكروه، لكن إذا اضطر الإنسان فلا حرج.(383/22)
نسبة أبي هريرة
السؤال
ما هو البلد الذي ينتسب إليه أبو هريرة في الوقت الحاضر؟
الجواب
هذا السائل كأنه زهراني، فإن أبا هريرة رضي الله عنه زهراني دوسي، من قبيلة دوس، وهي معروفة في شعب زهران، وهو حسنة من حسنات الطفيل بن عمرو الدوسي ودوس من الأزد الذين منهم الخليل بن أحمد الفراهيدي أكبر عروبي في تاريخ الإسلام، ومنهم مؤرز السدوسي العابد الشهير والعالم، ومنهم كثير من أهل العلم، والله سبحانه وتعالى يوزع الفضل: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].(383/23)
قاتل مسيلمة
السؤال
ذكرت أن خالداً قتل مسيلمة، والذي قتله هو وحشي قاتل حمزة!
الجواب
الذي قتل مسيلمة هو وحشي، لكن الذي قاد عملية القتال وأدارها هو خالد، وأنا ما قلت: إنه باشر قتله؛ لكنه هو الذي اقتحم الحديقة عليه، فإن الله عز وجل يقول لفرعون: يقتل أبناءهم، وهو لم يقتلهم بيده، فجنوده هم الذين قتلوهم لكنه هو الذي أمر.(383/24)
رفع اليدين بالدعاء بعد الصلاة
السؤال
ما حكم رفع اليدين بالدعاء بعد الفريضة؟
الجواب
بعد الفريضة من اتخذه دائماً وداوم عليه فقد ابتدع، أما من دعا بعض الأوقات فلا عليه؛ لأن البدعة ما استمر عليها؛ لأنه ليس من هديه صلى الله عليه وسلم أن يرفع يديه دائماً بعد الفريضة ولا أصحابه الكرام.(383/25)
الرد على من يقول بأن نزول الملائكة معنوي
السؤال
ماذا ترد على من يقول: إن نزول الملائكة يوم بدر نزول معنوي، وليس بنزول حسي؟
الجواب
لا نعرف هذا النزول المعنوي؛ وكأنه يرد على القرآن، ويرد على السنة؛ فإنها تذكر أنهم نزلوا، ورآهم الصحابة، فيقول هذا: ما نزلوا، ولا رآهم الصحابة؛ إنما هو نزول معنوي، وهذا أتى من بعض أهل التفسير من المتأخرين، منهم محمد عبده في تفسيره يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} [الفيل:1 - 3] قال: هذا الطير هو الجدري! ما شاء الله، يخفى هذا التفسير عن ابن عباس، وعن علي، وعن ابن مسعود، ويأتي هذا في القرن الخامس عشر يفسره بالجدري، وهذا مما أخطأ فيه؛ لأنه فسر الغيبيات التي أتى بها سبحانه وتعالى والمعجزات والكرامات بأمورٍ معنوية، وهذا خطأ في فهم كتاب الله عز وجل.(383/26)
كفارة الرشوة
السؤال
ما هي كفارة الرشوة؟
الجواب
كفارة الرشوة أن يتوب المرتشي إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يأخذ هذا المال لينفقه في إحدى الوجوه، ولا يدخله عليه، ثم لا يعود مرة ثانية، وقد قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:70 - 71].(383/27)
من دخل المسجد والإمام في آخر الصلاة
السؤال
دخلت المسجد والإمام في الجلسة الأخيرة ومعي جماعة هل ندخل في الجماعة الأولى التي لم يبق منها إلا الجلسة الأخيرة أم ننتظر حتى يسلم ونصلي في جماعة ثانية؟
الجواب
الأولى إذا علمت أنه قد انتهى أن تقف حتى يسلم الإمام، ثم تصلي جماعة؛ ليكون هناك إمام، ويكون لكم جماعة، وتتمون كلكم جماعة، فإنكم لو دخلتم لأصبحتم تصلون فرادى بعد أن يسلم بلا إمام.(383/28)
السواك وقت الخطبة
السؤال
أرى بعض الناس في صلاة الجمعة يستعمل السواك عندما تقام الخطبة؟
الجواب
الاستياك وقت الخطبة لا يجوز، وهو معصية، وقد يبطل أجر حضور الجمعة؛ لأن بعض أهل العلم شبهه باللعب بالحصى، ومن مس الحصى فقد لغا، ومن لغا فلا جمعة له، بل لا يتشاغل أبداً ولينصت، وأما من قام يصلي ركعتين بين الخطبتين، فهو مبتدع بدعة ما فعلها السلف، بل يصلي قبل دخول الإمام، أما وقت الخطبة فينصت، لأن هذا الوقت من حظ الإمام، وليس من حظ المأموم، وللمأموم أن يتكلم مع الإمام، وللإمام أن يتكلم مع المأموم.(383/29)
معنى: أن تلد الأمة ربتها
السؤال
{ أن تلد الأمة ربتها} بعض أهل العلم يفسره بعقوق الوالدين؟
الجواب
صحيح، وأورده ابن حجر في فتح الباري، وضعفه واستبعده، وهو بعيدٌ كل البعد.(383/30)
حكم الإجابة بـ (الله ورسوله أعلم)
السؤال
هل يجوز للإنسان في سؤال أن يقول: الله ورسوله أعلم؟
الجواب
نعم يجوز أن يقول: الله ورسوله أعلم، فإن في صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم لـ أبي بن كعب: {يا أبا المنذر أي آية في كتاب الله أعظم؟ قال: الله ورسوله أعلم} فهي سنة، وهي من الكلمات المشرقة.
أما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كانت المسألة من مسائل الدين التي يدري بها صلى الله عليه وسلم، وليست من مسائل الغيب، مثلاً سألت إنساناً عن الوضوء، فما عرف يجيبك، فقال: الله ورسوله أعلم، فيصح ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم بهذه المسائل في الدين، أما مسائل الغيب فلا، بل يقول: الله أعلم، لأن مسائل الفقه والتكليف التي بلغها صلى الله عليه وسلم يعلمها صلى الله عليه وسلم، ويكفر من يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعلمها، وأما مسائل الغيب التي اختص الله بها فلا يعلمها إلا الله عز وجل.(383/31)
مقدار انتظار الصلاة بعد الأذان اجتهادي
السؤال
هل الوقت بين الأذان والإقامة مرتبط بأدلة شرعية عملية اجتهادية؟
الجواب
يقصد السائل مقدار الوقت، هل هو اجتهاد أن يكون عشر دقائق أو ربع ساعة، فأقول: نعم؛ فإنه يجوز للناس إذا اجتمعوا وأذن المؤذن أن يقيم فيهم مباشرة بدون أن ينتظروا أحداً، إذا لم يكن هناك أحدٌ ينتظرونه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ربما في بعض الأوقات أو الأحيان إذا كان يسافر أذن للصلاة وأقيمت، وما كان صلى الله عليه وسلم ينتظر وقتاً محدوداً، بعض الأوقات يؤذن لصلاة العشاء، وإذا بـ بلال يقيم، وفي بعض الأحيان يمكث صلى الله عليه وسلم فيأتيه وفدٌ فيبقى معهم في البيت حتى ينام الناس في المسجد، يقول عمر: {كنا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، فنام النساء والصبيان ونظرت إلى الليل، فإذا هو قد ذهب، فقلت: يا رسول الله! نام النساء والصبيان، فخرج صلى الله عليه وسلم قال أنس: وهو يمسح رأسه عليه الصلاة والسلام، ووجهه كالقمر ليلة البدر، فلما رأى أبا بكر وعمر التفت إليهم في الناس، فابتسم إليهم وابتسموا إليه صلى الله عليه وسلم، فأقام بلال فصلى صلى الله عليه وسلم بالناس وقال: إنه لوقتها لولا أن أشق على أمتي}.(383/32)
صحة قيام الساعة على فجار الخلق
السؤال
هل أنه لا تقوم الساعة حتى لا يُذكر الله سبحانه وتعالى؟
الجواب
نعم.
صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه: {لا تقوم الساعة حتى لا يوجد في الأرض أحد يقول: الله الله}.(383/33)
من أحكاع الرضاع
السؤال
هل يجوز أن تكشف علي بنت خالتي الكبرى، حيث أن أختها الصغرى أختٌ لي من الرضاعة؟
الجواب
لا، لا تكشف عليك؛ فإن الرضاعة لا تسري إلا في المرتضع والراضع وفي فروعهما أصولاً وفروعاً، وأما أنت فهي أجنبية عنك، سواء كانت كبرى أو صغرى.(383/34)
مناسبة ذكر ليلة القدر في كتاب الإيمان من البخاري
السؤال
لماذا ذكر البخاري حديث قيام ليلة القدر في باب الإيمان؟
الجواب
ذكره رحمه الله؛ لأن فيه مسائل الإيمان، ولأن العمل من الإيمان، فـ البخاري يرد على من أنكر أن العمل من الإيمان، وقد عقد باباً في الصحيح أن العمل من الإيمان، فأورد أن قيام ليلة رمضان من الإيمان رداً على المرجئة الذين يقولون: يكفي أن نقول: لا إله إلا الله ثم لا نعمل.(383/35)
حكم دفن جنازتين في قبر
السؤال
هل يجوز دفن جنازتين في قبرٍ واحد؟
الجواب
يجوز دفن جنازتين وثلاث في قبرٍ واحد، قال جابر فيما صح في الصحيحين: {لما قتل الصحابة يوم أحد كان أبي مع من قتل، فضاقت بالناس الضائقة، فقلنا: يا رسول الله إن علينا مشقة من الحفر، فقال: احفروا وأوسعوا وادفنوا الاثنين والثلاثة معاً} ويقول صلى الله عليه وسلم في رواية: {ادفنوا المتحابين سوياً، وقدموا أكثرهم أخذاً للقرآن إلى القبلة} فكانوا يقدمون من كان أحفظ لكتاب الله تجاه القبلة، فيدفن الاثنين والثلاثة سوياً، لكن ينتبه لا يدفن منافق أو فاجر أو كافر مع مؤمن، نسأل الله السلامة؛ لأن الكافر كلب لا يدفن ولا يقرب من مقابر المسلمين وذلك مثل من ماتوا في جاهلية جهلاء، أو على إلحاد، أو على كبائر.(383/36)
من غزوة مؤتة
السؤال
ما مدى صحة الأحاديث عن شهداء مؤتة، وأقصد في ذلك ما جاء عن عبد الله بن رواحة؟
الجواب
لا أدري ماذا يقصد السائل، لكنه ورد عن شهداء مؤتة أحاديث صحيحة في البخاري ومسلم وفي غيرهما من دواوين الإسلام، منها أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {دخلت الجنة وفي سرير ابن رواحة ازورار} ومنها أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى جعفر الطيار يطير بجناحين في الجنة، هذه الأحاديث التي صحت، أما غيرها فلا أدري مقصود السائل.
ورد أن في سريره ازوراراً، وهو حديث حسن، وليس من الصحيح؛ ولم يرد في البخاري ومسلم، يقولون: لأنه تأخر، وكان الأمير الثالث، وهذا يسمى عند أهل السنة والجماعة من باب تنزيل الناس منازلهم؛ لأن الله تعالى يقول: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [آل عمران:163] فبعضهم على بعض أرفع من مائة درجة.
في ختام هذا الدرس نتوجه إلى الله العليم أن يغفر لنا ولكم ذنوبنا وخطايانا، وأن يتغمدنا بواسع فضله ورحمته، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يحسن خاتمتنا في الأمور كلها.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(383/37)
أمريكا التي رأيت
بالرغم مما وصلت إليه أمريكا من التقدم العلمي، والتكنولوجيا الحديثة والماديات لكنها في علم الروح والأخلاق والقيم انحطت إلى الحضيض، وإن الناظر عن قرب في تلك البلاد يرى فيها انحلالاً خلقياً، واضطراباً نفسياً، وتفككاً اجتماعياً، واختلالاً أمنياً، وكل ذلك مؤذن ومؤشر بقرب زوال تسلطهم، وجبروتهم على العالم، وهذه المحاضرة تحكي رحلة الشيخ إلى أمريكا.(384/1)
الرحلة إلى أمريكا
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذه المحاضرة: أمريكا التي رأيت
وفي مقدمة هذا اللقاء بعد هذا السفر، أقول لكم كما قال أبو الطيب المتنبي:
يا من يَعزُّ علينا أن نفارقَهم وجدانُنا كلَّ شيء بعدَكم عدمُ
إذا ترحَّلْتَ عن قوم وقد قدروا ألا تفارقهم فالراحلون همُ
أنتم أحبابنا، وكأننا حين رأيناكم -بعدما رأينا تلك الوجوه الغبراء الشوهاء- رأينا الصحابة:
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رِق المذلة والصغارْ
وقرارنا فتحٌ مجيـ ـدٌ نحن أصحابَ القرارْ
ورأيتُ أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسامْ
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرام
وتطاوَلَت تلك السنو ن فصار يومي مثل عامْ
ما أرضهم أرضاً رأيـ ـتُ ولا غمامهمُ غمامْ
عناصر هذه المحاضرة:
1 - آيات الله في الكون في طريق الرحلة: البحر، الليل، الكون، القمر، النجوم.
2 - جمال الطبيعة هناك، وما أغدق الله عليهم من النعم: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:44 - 45].
3 - الأمن في أمريكا.
4 - هل تعيش وأنت قارَّ العين هادئ البال أم لا؟
5 - الاضطراب.
6 - الرحمة فيما بينهم.
7 - الديون الباهظة.
8 - سذاجة الأمريكان وفساد أمزجتهم.
9 - مستوى الذكاء عندهم.
10 - وضع الأسرة هناك.
11 - حقائق وأرقام تكشف عن الوضع في أمريكا.
12 - البطالة.
13 - شبابنا في أمريكا.
14 - وضع الكنيسة هناك.
15 - قصائد قيلت في أمريكا لمن يهوى الشعر ويتذوق الأدب.
16 - شعورنا يوم هبطنا مطار جدة.(384/2)
شروط جواز السفر لبلاد الكفار
أمر الله عزَّ وجلَّ بالسير في الأرض، فقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام:11] وقال سبحانه: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد:10] وقال: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190].
والسفر إلى البلاد الكافرة لثلاثة أسباب جائز:
السبب الأول: أن تطلب علاجاً ما وجَدْتَه في بلاد المسلمين.
السبب الثاني: وأن تطلب علماً ليس موجوداً عند المسلمين، كعلم التكنولوجيا، وعلم المادة الذي سبقونا فيه بمراحل.
السبب الثالث: وأن تدعو إلى الله على بصيرة، بشرط أن تكون واثقاً من إيمانك ومن دينك.
المراجع لهذا البحث مع المرئيات التي رأيتُها بعيني وأنقلها من هناك:
أولها: (موجز عن تاريخ أمريكا) مترجم، لـ هنري ماجرو، وترجمه دكتور عربي.
ثانيها: (أمريكا التي رأيتها) لـ مختار المسلاتي، وهو ليبي داعية يقيم في لوس أنجلوس بـ كاليفورنيا، ويسلم على يديه كل يوم خمسة أو ستة من الأمريكان.
ثالثها: (الولايات المتحدة الأمريكية) لـ مختار المسلاتي أيضاً.
رابعها: (أمريكا من الداخل) للدكتور صلاح الخالدي، ونقل أكثرَه من كتاب الشيخ الأستاذ سيد قطب رحمه الله: (أمريكا التي رأيت).(384/3)
آيات الله في الكون
العنصر الأول: آيات الله في الكون في طريق الرحلة: البحر، الليل، الكون، القمر، النجوم:
ذهبنا من الرياض بعد صلاة العشاء، وهبطنا في مطار جدة وتوقفنا ساعتين، ثم طرنا متوكلين على الواحد الأحد، فيما يقارب الساعة الحادية عشرة، وكانت المسافة بين جدة ونيويورك ثلاث عشرة ساعة، لا توقُّف في الرحلة أبداً، معلق أنت بين السماء والأرض، وأنت تنظر في كون الواحد الأحد: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات:47 - 48] ولن ترى الأرض ولن ترى السماء كمثل ما تراها وأنت في هذه الرحلة.
أصبحَت المدن كأنها رءوس الدبابيس تحتنا.
أصبحَت النجوم تتلألأ كأن كل نجمة تقول لك: لا إله إلا الله.
أصبحَ الكون يطل بإشعاعاته من نافذة الطائرة، مرة تمر بك كذا، ومرة كذا.
دخلنا على سماء المحيط، فمكثنا على الماء ما يقارب السبع الساعات، ماء تحتنا، اليابسة قليلة، والماء مغدق، والليل عجيب، نحن نطارد الصبح؛ لأننا يوم خرجنا الحادية عشرة كنا نذهب نحو المغرب، فنحن نطارد الصبح ويطاردنا، فتأخر الصبح ما يقارب ست ساعات، وصلينا خمسة فروض في الطائرة، ومكثنا في هذه الرحلة نقرأ آيات الله في الكون، وتذكرنا قوله سبحانه وتعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] وقوله: {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق:20] وقوله: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ} [الطور:35 - 36] مَن الذي جمَّل هذا القمر؟ مضيفة من مصر كانت عندها شهادة جامعية، ذهبت في زيارة لـ أمريكا قبل أشهر، فلما رأت الكون في الليل أعلنت إيمانها وتابت وعادت وأصبحت داعية.
إن هذا الكون يفرض عليك أن تؤمن بالله، وأن تعلم أن لا إله إلا الله، ومشت بنا الرحلة لا يحفظنا إلا الله في حَدِيْدة بين السماء والأرض، لو توقف مسمار أو سلك لهبطنا؛ ولا ينقذنا إلا الواحد الأحد.(384/4)
الوصول إلى مطار نيويورك
ولما اقتربنا أخبرنا الطيار بعدما صلينا الفجر أننا اقتربنا من مطار جون كيندي بـ نيويورك، فهبطنا، وكان البرد قارساً، وتغير علينا كل شيء، العمارات ليست كالعمارات، والدور ليست كالدور، والناس ليسوا كالناس.
أخذنا الجوازات ودخلنا في المطار، فقابَلَتْنا ثلاث فتيات يضحكن من زِيِّنا، وهو معهود عندهم، وقد يرونه خاصة في مطار نيويورك؛ لكن هكذا وُفِّقْنا بفتيات مغرضات، أما الحجاب فلا تسَل، وأما غض البصر فلا تسَل: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
والعجيب من المفاجآت المضحكات: أنَّا لما نزلنا كنا أربعة: الدكتور سعود الخنيسان، والدكتور عبد الله الطريقي، والشيخ سلمان العودة، وأنا، فتجاوزنا الخط الأحمر؛ لأننا مستعجلون نريد أن نسافر، وهم لا يعذرون بذلك، فهم يعرفون النظام، وهذا الذي افتقدناه نحن وكسبوه هم، وهو من ديننا لكن أخذوه وتركناه، أتينا نحن كأنا نتعامل في القرى أو مع القبائل بالعِصِي، أخذنا الجوازات وقلنا: نحن مستعجلون، وترجم لنا مترجم وقال: عندهم سفر، فكلٌّهم هزَّ رأسه والتفت بعضهم إلى بعض متضايقين، وقالوا: عودوا وراء الخط الأحمر وقِفُوا ساعة، فانتظرنا ما يقارب ساعة، فعندهم لا يتقدم أحد ولا يتأخر، ولا يعرفون الواسطة، وهذه منقبة، والحق أن نتكلم بالعدل كما قال تعالى: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] فالعدل مطلوب، فالواسطة في مثل هذه الأماكن ليست عندهم.
أخذنا الجوازات، وخرجنا في ساحة شركة بانام، فلما توقفنا رأينا هذه اللحوم البشرية وهي تموج أمامنا، الرجل يأخذ المرأة فيقبِّلها وما عليه، وعندهم في العرف الأمريكي -وقد ذكره هنري هذا- أنك ليس من حقك أن تنظر إلى الأمريكي، ولا تنظر إلى أحد من الناس، اذهب في أمرك، وعُد إلى مكانك، واشتغل بخاصة نفسك، ولا تتدخل في شئون الآخرين، وإذا نظرت إليهم استنكروا ذلك، هذه اللحوم البشرية تعيش كالبهائم، لا مبادئ ولا أخلاق ولا سلوك، ترى اللوعة والله، ترى القلق، ترى الحزن ولو كانوا يضحكون، يقبِّل الرجل المرأة وتقبِّله وهو أجنبي وهم يضحكون، ومع ذلك ترى اللوعة والأسى، والقلق والاضطراب في محياهم: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
والأمريكان يشعرون بعتوٍّ وجبروت على العالم، كأن هذا الكون ملكهم، وكأننا نحن دخلاء في هذا الكون، كأنهم يسيرون الدنيا بمن فيها.
ثم طرنا بواسطة شركة بانام لا حياها الله ولا بياها، وكان هذا الطيار كأنه يسوق هايلوكس -إي والله- نحن في ضباب، ولكن كادت عقولنا أن تطير، وقد ذكرتُها في القصيدة، يهوي بنا المطب فيأخذه في كيلو، فكادت عقولنا أن تطير، فتمسكنا، وكان الأمريكان يضحكون ويصفقون له، وكأنه يعبث حالماً يسمع التصفيق له؛ لأن هذه الشركة معروفة بالعباطة -كما قالوا- فتُبْنا من أن نركب بواسطتها مرة ثانية، ولما نزلنا في واشنطن كأنَّا خرجنا من القبور أحياءً بعدما متنا، عرقنا يتصبب، ونحن ننتفض من هذه الفضيحة، وهذه المشكلة التي ركبنا فيها، فلما أخبرنا زملاءنا قالوا: أسأتم كل الإساءة! أتركبون مع شركة بانام؟! لا يركب فيها إلا العُبطاء أو اللاهون أو الذين يريدون أن يتفسحوا ويتفرجوا.(384/5)
المناظر الخلابة في واشنطن
نزلنا هناك، واستقبلنا نخبة من الصالحين، وكان الثلج يغطي الأرض، أما جمال الطبيعة فسبحان من أعطاهم جنتهم في الحياة الدنيا! نهر في العاصمة واشنطن يأخذ الجِمال، لو كان أمامه جمل لشدَّه ورماه، الماء عندهم شيءٌ عُجاب، الحدائق الغَنَّاء، الشجر الذي يطاول ناطحات السحاب أمر عجيب، وطبيعة خلاَّبة، وطيور جميلة، ولكنهم عتوا عن منهج الله، أعرضوا تماماً عن الله، ألْحَدوا في شرع الله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
نزلنا في فندق ريجيسون في واشنطن، وكان من التعليمات التي يعرفها من يذهب إلى هناك: ألا تفتح باب غرفة الفندق إذا دخلْتَ حتى تعرف من الناظور من الذي طرق عليك، فهم في إرهاب وخوف، قد يدخل عليك رجل بخنجر فيقتلك ويأخذ ما معك، أو قد يدخل عليك من يطلق عليك الرصاص، ثم لا محكمة ولا قضاء، ولا شيء، لا تعرفه ولا يعرفك، فكلما طرق طارق فزع الواحد منا، فيَنْظُر أحدنا في الناظور، ويقول: مَن؟ وماذا تريد؟ ولغتنا رديئة، فما عندنا لغة، والذي يذهب بلا لغة إلى هناك يكون أبكم أصمَّ، حتى أنني طلبت مرة من الفندق أن أتحدث إلى البلاد هنا تليفونياًً، فكانت تكلمني امرأة وتسألني وتقول لي: Bless! Number Your?، أو كلاماً مثل هذا، أي: من فضلك! أعطني رقم غرفتك، فأنا ما عرفتُ رقم الغرفة، فقط ضربتُ التليفون عليها في وجهها، مثل بعض الناس إذا جاءوا عندنا وهو لا يعرف لغتنا يقول: بطنك يؤلمني، أو رأسي يؤلمك، فلا يعرف التعبير فيأتي بالضمائر، فلذلك ما حصلت على مكالمة حتى أتى أحد الإخوة من السفارة، فأعطانا التليفون لنتحدث.
خرجنا من هناك ما يقارب ثلاثة أيام ما سمعنا أذاناً، ولا قرآناً، ولا توجُّهاً، وما سمعنا تسبيحاً، ولا ذكراً لله، أمة كالغنم، كالبهائم، وهم من أشد الناس عملاً، ينطلقون الساعة السابعة ولا يعودون إلا مع صلاة المغرب، في عمل كالآلة، الأمريكي مبرمج كالثور، يذهب من بيته إلى عمله ثم يعود في المساء، والعجيب أن أساتذة الجامعات عندهم لا يعرف أحدهم الولاية التي بجانبه، ولا حدودها ولا أخبارها، هذا يقين، ولكن دخلنا المركز الإسلامي في واشنطن فسمعنا (الله أكبر) فكأن قلوبنا عادت وحييت بعدما ماتت:
الله أكبر هل أذناي تسمعها إن كان ذلك يا فوزي ويا طربي
فهو من أحسن ما يكون، وصلينا مع شباب دُعاة كالنجوم، شباب من بلادنا، ومن البلاد العربية والإسلامية، يحملون (لا إله إلا الله) الليبي بجانب التونسي، والمغربي بجانب السوداني، والعراقي بجانب الكويتي، والسعودي بجانب المصري، ما بينهم ضغائن ولا أحقاد، كلهم يعتزون بدين الله، وسوف يأتي الحديث عن هذا في بيان الشباب.
بعدها ذهبنا لحضور المؤتمر في كلورادو بـ دنفر، وله أخطاء وأعاجيب، وحضره ثلة من الدعاة الأخيار، وكانت قاصمة الظهر التي شلَّت المؤتمر يوماً من الأيام: مقتل الدكتور عبد الله عزام، فأتى الخبرُ أهلَ المؤتمر بواسطة إذاعة مقوية تتبع إذاعة هيئة الإذاعة البريطانية في أمريكا، حيث أخبرت بقتل عبد الله عزام، وأتى رئيس المؤتمر: الشيخ محمود مراد، ببيان رهيب كأنه يتقطع دماً، ثم قام أمام المؤتمر فقرأ البيان بعد صلاة المغرب، فبكى وأبكى حتى سمعنا بكاء النساء المسلمات من وراء الحجاب، وهذه علامة القبول إن شاء الله، وأبلغ برقية للشيخ سياف من ذاكم المؤتمر.(384/6)
تفصيل عن الأوضاع المختلفة في أمريكا
.(384/7)
اختلال الأمن والاطمئنان
أما أحوالهم فكما رأينا وشاهدنا، مسألة الأمن، هل يعيشون أمناً واستقراراً؟! لأن فروخ العلمانية حدَّثوا عن أمريكا فوصفوها بأنها جنة، وبأنها ديموقراطية، وبأنها أمُّ الحرية، وبأنها أساس العدالة، فهل يعرفون أمناً ورخاءً؟ يقول سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
إذاً: لا أمن إلا للمؤمن، أما الكافر فحرام عليه الأمن، وحرامٌ عليه أن يهجع، والله قلوبنا كأننا عقدناها على ورقة، وهو شعور متبادل، فنسأل الناس في بعض الولايات إذا انتقلنا من مكان إلى مكان، فيسألون في كل دقيقة: مَن معك؟ مجتمع خبيث، فيه المجرمون، فيه السكارى، فيه أهل الدعارة، فيه الزنوج الذين تغلي قلوبهم، فيه فرق مبتدعة، فيه أهل الغارات، فيه أهل الأحقاد، فأنت تتوقع كل يوم متى يعتدي عليك، وقد نصحني بعض الشباب -لأنني ذهبت وحدي مرة- أن أترك هذه الغترة؛ لأنها سوف تعرفني عند بعض الناس، فكنت أخلعها أحياناً وأبقى هكذا، ومع ذلك ما اطمأن قلبي: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
ركبت من دنفر في كلورادو إلى واشنطن وحدي، فذهب معي بعض الشباب إلى المطار، ولأني لا أجيد اللغة كتبوا في ورقة عنوان السفارة وتليفوناتها في واشنطن، وسوف يستقبلني رجل هناك، والعجيب أن أمريكا هذه التي يعرفها الإخوة قارة، السفر من الولاية إلى الولاية أربع ساعات أو خمس أو ثلاث، مثلما تطير من الرياض إلى الجزائر، فطرت من دنفر إلى واشنطن وحدي، ولما أصبحتُ في الطائرة تأخرَتْ الرحلة ساعة ونصف، وذهب الزملاء، وأتى موزع الخمر، فالخمر يشرب كالبيبسي، وأنا خائف من بعض الصينيين بجانبي والأمريكان أن يسكروا ثم نصير في حَيْص بَيْص، حتى أنني لا أدري ما هي الكلمات التي أتعامل معهم بها، ما هي الكلمات التي يمكن أن أتعامل بها شَفَقَةً وعطفاً حتى يفرج الله هذا الهم، وكنت دائماً أدعو بالأوراد، وصليت وأنا واقف في الطائرة، فكنتُ أنحني، فكان يتضاحك صينيان بجانبي من هذا المنظر العجيب، أنا لم أدرِ أين القبلة، أهي في اليمين أم في اليسار أم هي فوق أم تحت؟ لكن توكلت على الله، وعملت بالحديث؛ فصليت الظهر والعصر جمعاً وقصراً، فكانت الأنظار تلتفت وهم يضحكون بجانبي، لا يدرون ماذا أصاب هذا الإنسان.
ولما مشيتُ كانت التعليمات أنك إذا لم تجد أحداً يستقبلك فانتظر عشر دقائق ولا تتحرك، أو تسأل البوليس، أو تسأل صاحب شركة، فلما نزلنا ما عسى من يستقبلني! فوقفتُ وخلعتُ هذه الغترة والطاقية والتجأت إلى جندي أمريكي، وما قلت له شيئاً، بل أعطيته الورقة، وقلت له: (بْلِيْزْ) خُذْ.
(بْلِيْزْ) إبليس في رءوسهم/
و (وِيْلْكَم) ويلٌ لهم ومن بؤسهم
يقول الشيخ علي الطنطاوي: ما حفظت إلا ثلاث كلمات بالإنجليزية:
(بْلِيْزْ) التي معناها: من فضلك تعني: (إبْلِيْس).
(وِيْلْكَمْ) التي معناها مرحباً تعني: (وَيْلَكُم).
وكلمة ثالثة نسيتُها.
دخلنا في لوس أنجلوس، وهذه أكبر مدن أمريكا وأكثرها سكاناً، سكانها ثلاثة عشر مليوناً، وهي من أكبر مدن العالم، وتطوف كأنك في أمواج من البشر من كل فج، ومع ذلك جلستُ فيها أربعة أيام مع أحزاب وأصحاب يخبروننا كل يوم بشيء، حتى يقول المسلاتي الداعية الليبي الذي يسكن في لوس أنجلوس يقول: أمر عجيب في لوس أنجلوس، قلنا له: ماذا حدث؟ قال: في لوس أنجلوس بـ سان فرانسيسكو، الآن عندهم بند في القانون يجيز أن يتزوج الرجل من الرجل والمرأة من المرأة، وقد تزوج في سان فرانسيسكو أكثر من أربعين ألف رجل بأربعين ألف رجل، وأكثر من خمسين ألف امرأة بخمسين ألف امرأة، والزلزال وقع في سان فرانسيسكو.
ما وقع للإنسان شيءٌ عجيب! عندهم أفلامٌ، الكلب فيها يجامع المرأة، وهو يُعرض على الناس، وتنتجه شركة إيطالية.
يقول المسلاتي: وبلغ من خوفهم أن الطفل إذا ذهبت أمه لتُداوِم وتؤدي عملها، يأخذ سكيناً ويبقى عند الباب، لا ينام؛ لأنه يتوقع متى يطرق عليه عصابة، وبعض الأمهات ماذا تفعل؟ تأتي الأم فترفع سماعتها دائماً وتتصل بابنها حتى ينتهي الدوام؛ لأنها إن تركت العمل ماتت، وإن واصلت في العمل فابنها ربما يكون ضحية، وبعض الأبناء يقولون: لا نُجيبُ مِن وراء الباب، لنوهم أنه ليس أحدٌ موجوداً، وإذا سأل الطارقُ الطفلَ: هل أبوك موجود؟ قال: نعم.
موجود ولكن في دورة المياه، ليوهم السارق واللص أنه وراءه.(384/8)
فقدان التكافل الاجتماعي
ودخلنا في قلب لوس أنجلوس هذه المدينة الكبيرة، فوجدنا فرقة اسمها (الهوملِْك) وهم قوم ليس لديهم بيوت، وهم فقراء.
وفي نيويورك منهم عشرون ألفاً لا مأوى لهم، فلا ضمان اجتماعي، ولا رعاية، ولا صدقة، ولا تكافل، أتظن أن الأمريكي يخرج حقيبته ويتصدق عليك؟! والله إنك لتموتن في الشارع ولن يحملك أحد، ولن يتصدق عليك أحد، ولن يطعمك أحد، هذه الفرقة طالت شعورهم وأظفارهم، وفيهم من البشاعة ما الله به عليم، كالحيوانات، عندهم كراتين ينامون عليها وسط هذه المدينة، وناطحات السحاب بجانبهم، والبنوك، والمال، والشركات السياحية، والدنيا، ومع ذلك يأخذ أحدهم القمامة ونحن نلحظه، فيفرقها ويلقيها ويبعثرها، ثم يخرج الكيك المنتن فيأكله.
مررنا بشيخ كبير عمره أكثر من مائة، سقط حاجباه على عينيه الزرقاوين، وهو أكبر أمريكي، وقد طالت أظفاره ولحيتُه، وهو يأكل ونحن بجانبه ننظر إليه من السيارة، وكأنه لا يرانا، أصبح كالحيوان الكبير أو الكلب الفحل، لم يعد يحس بشيء، أقسمت عليه، وعنده ثوب فيه من الوسخ ما الله به عليم، فقال: عندي أحد عشر ولداً، ومع ذلك لا يلتفتون إليه، فمن أين يلتفت الولد للوالد إن لم يكن لديهم شريعة من السماء؟ والمرأة تذهب إلى المطعم هي وزوجها -وقد رأيناهم- فتحاسب عن نفسها ويحاسب الزوج عن نفسه، وترتفع المعاملات القضائية، الزوجة تشكو زوجها، ويشكوها زوجها في أشياء بسيطة، فكان السبب في قيمة الفنايل أو المناشف أو الصابون الذي في البيت وتأتي المحاماة بأمور، من أين يأتي التكافل الأسري وما عندهم إسلام ولا إيمان؟! فهم يعيشون في هذا المستوى.
أما الاضطراب: فإنني سمعتُ قصصاً ورأيتُ أعاجيب، منها: أن أحد أبناء البلاد العربية رحمه الله رحمة واسعة، ذهب بسيارته، وقد كان طيب القلب، يظن أنه في بلاد الإسلام، وعندهم هناك في العرف العام في كثير من الولايات ألا تُرْكِب أحداً، ما لك وللناس، ففي أوكلاهوما قبل سنتين حين سافرنا إليها، وقف رجل تعطلت سيارته يؤشر للسيارات من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر في الثلج، ثم توفي بعد صلاة الفجر، لا تقف له سيارة، إذا تعطلت سيارتك البوليس يقف لك، أما أن تتحرى من أمريكي أو أحد الناس أن يقف لك فلا؛ لأنه يتصور أنك إرهابي معك المسدس تريد قتله، فأتى طالبٌ مسلم يدرس هناك، فمر بأمريكي فأشار إليه الأمريكي، فركب معه، فلما أركبه ذهب به إلى خارج المدينة -مدينة ريفر تايمز أو ما يشابهها- فأخرج هذا الراكب خنجراً وذبح هذا الطالب وأخذ سيارته.
وطالب آخر طُعِن، ثم سلِم ونجا، ولكن أُخذت عليه سيارتُه، وهذا الراكب قد تراه ضعيفاً أو كفيفاً أو كبيراً في السن، ومع ذلك لا تأمنه، فمعه عصابه تنتظره خارج المدينة، يشير لك وسيركب معك، فإذا وصلتَ إلى خارج المدينة تلقفتك العصابة، وذبحوك كما يذبحون الشاة، ومَن يطالب بدمك؟ ومَن تشجب؟ وإلى مَن تتجه؟ قال سبحانه: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
أما الرحمة فلا رحمة، يتعاملون بالدولار، إذا لم يكن عندك مال فمُت في الشارع، قال سيد قطب رحمه الله: دخلتُ واشنطن في مستشفى هناك أتعالج، ودخل رجل في المصعد، فضرب برأسه، فخرج الدم من أنفه وأغمي عليه وأخرج لسانه، فسحبه الأطباء الأمريكان يريدون علاجه، لكن قبل أن يعالجوه بحثوا في جيوبه هل فيها دولارات، فما وجدوا شيئاً، فسحبوه كالبهيمة، وأخرجوه من المستشفى.
الذي ليس عنده دولار لا يعيش هناك أبداً؛ لن تلقى علاجاً ولا طبيباً، ولا متصدقاً ولا محسناً ولا مطعماً، مجتمع يعيش بالدولار وبلا رحمة.(384/9)
الأسرة في أمريكا
وفي سوسان ولاية آرزونا نزلنا هناك، فقال لنا أحد الشباب: البارحة ذهبنا إلى عجوز كبيرة في السن معها كلب تربيه، قلنا: أما معك إلا الكلب؟! قالت: عندي أحد عشر ولداً من أحد عشر رجلاً من الزنا، زنى بها أحد عشر رجلاً فأتت بأحد عشر ولداً، قالت: وكلهم قطعوني، حتى الاتصال بالهاتف لا يتصل بي أحد، فرأيت أن الكلب أحسن منهم، فربيت هذا الكلب، هذا مستواهم، أمة متفككة، ولذلك ما رأيت سيارة أمريكية فيها أكثر من اثنين، ما رأيت ثلاثة، فسألت الشباب فضحكوا، وقالوا: ألَمَحت هذا؟! أنتبهتَ لهذا؟! قلت: نعم.
قالوا: هؤلاء مجتمع متفكك، لا تركب الأسرة في سيارة واحدة، الابن إذا كبُر وهو لا يصرف على نفسه يطرده أبوه من البيت، والبنت إذا كبُرت وأعجبها شاب ذهبت معه إلى كل مكان، تذهب معه إلى الصين إلى اليابان إلى كندا، ولا تتصل بأهلها، وقد تقاطع بيتها الحياة الدنيا، ولا يدرون أين ذهبت، مجتمع متفكك، وسمعنا أن رجلاً اعتدى على ابنه وهو نائم فخنقه، فلمَّا حوكم قال: أرهقني بكثرة التكاليف، ولذلك النسل عندهم محدد، إذا أنجبتَ طفلين أو ثلاثة فلا تزِِد على ذلك؛ لأنهم ما وثقوا برزق الواحد الأحد والله يقول: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6] وتجد الواحد منا عنده ثلاثين ابناً، وإذا سألته عن الرزق قال: رزقهم على الله، عقيدة يتصل بها الإنسان بالله سبحانه وتعالى.(384/10)
الديون الباهظة
إنهم مجتمع بلا رحمة، ولذلك ينقطع الإنسان هناك، ففي دنفر شاب ليبي أنجب طفلاً وما عنده شيء من المال، فلما أدخل أمه المستشفى بقي العلاج عليه ما يقارب ثلاث سنوات ديناً للمستشفى، كلما زاد سنة ضاعفوا عليه العلاج؛ لأنه بنظام الربا.
صحيحٌ أن أمريكا عندها مصادر: عندها بترول، عندها معادن، عندها زراعة، ولا إله إلا الله كم أنعم الله عليهم بها! مساحات هائلة، لكن هذا للدولة وليس للأفراد شيء، العجيب أن أكثرهم إن لم أقل كلهم مدينون، سيارة أحدهم جديدة، ولكنه مديون للبنك، وبيته مديون به، وثوبه دين عليه، حتى يأخذون هناك أثواباً، فيعطوا الفنايل بالأجرة، لك أن تلبس لباساً يوم عيد الكرسمس (عيد الميلاد) فتلبسه جميلاً وترده بعد أن تستأجرها ليلة، وكل هذا بالدين، ولذلك يقولون: بعضهم أفلس، فأخذوا بيته وسيارته، وأودعوه في السجن مثل الكلب، فهم يتعاملون بالربا، تشتري شيئاً بمبلغ من المال ديناً، فتذهب سنة فيضاعفونه، وسنة فيضاعفونه، ثم إذا لم تستطع أخذوا من التأمين في الحبس فيبقى الإنسان في الحبس.
إذاً هم يعيشون في اضطراب ولوعة وقلق لا يعلمه إلا الله.(384/11)
مستوى الذكاء عندهم
وأمر عجيب سوف أخبركم به، وربما يكون لأول مرة، وقالوا: أول من أشار إليه سيد قطب رحمه الله، وهو أن هذا الشعب تافه بسيط، حتى أنه من سذاجته وبدائيته يأتي بأمور ساذجة، يقدمون لنا طعام الإفطار في الصباح حبحب وشيءٌ معه، وبطاطا اللون لون بطاطا والرائحة منتنة، ما أدري ما هذا الأكل! ولذلك خلال تنقلاتنا كنا ندخل منازل أناس من المسلمين، وإلا فصاحبك الجوع إن لم يكن عندك بسكويت في الحقيبة، إما أن نرى لحم خنزير ونقول: لا نريده، وإما وجبات معفِّنة لست أدري من أين أتت، السمك رائحته منتنة، حتى يبقى ريحه في الأصابع فترة، ومع ذلك يأكلون، فيقول سيد قطب: دخلتُ مطعماً فوجدتُ الأمريكان يأكلون في الصباح حبحباً -الحبحب المعروف هو البطيخ- قال: فرأيتهم يضعون على الحبحب سكراً -من الذي يضع على الحبحب سكراً؟ - قال: وقلت: في بلادنا -أي: في مصر، وهو يمزح ويضحك عليهم- يضعون على الحبحب ملحاً، قال: فأخذوا الملح فوضعوه عليه، فقالوا: كُوَيِّسٌ هذا -أي: جيد- قال: فجئت في اليوم الثاني فقلت: وعندنا قوم يضعون على الحبحب فلفلاً، قال: فأخذوا الفلفل ووضعوه على الحبحب، فلديهم فساد أمزجة، يدخلون المطارات والصالات -ويعرف ذلك الإخوة- فتأتي موسيقى بيتهوفن التي تضج الإنسان، ما فيها من الطرب ولا قطرة، أشبه شيء بالقَطْر إذا نزل المطر من السقف ووضعتَ له صحوناً وبقي يرش في كل مكان، فهذه مثل موسيقى بيتهوفن، ومع ذلك تجد الأمريكي يطرب قلبه ويتراقص كالحمار، حتى أن الشيخ علي الطنطاوي يقول: موسيقى بيتهوفن هذه ما شبهتها إلا بمثل رجل أخذ عشرة قطط، ثم وضع شيئاً على أذنابها فأخذت تصوِّت، فيقول أهل العلم وأهل الفكر الذين يذهبون: ما هذا المزاج؟
يأتي الأمريكي في الصباح أحياناً بلباسه الداخلي الذي يستحي الإنسان أو الحيوان أو الحمار أن يلبسه، فلو كان الحمار يلبس شيئاً ما لبسه، يأتي بلباس غرفة النوم، سروال قصير، قصير جد قصير مع فانيلة علاقية فيخرج أمام الناس، ويسعى ويجري.
ولذلك لما دخلنا رأيناهم يجرون على الأرصفة شبه عُراة، الرجال والنساء شبه عُراة، ما على فروجهم إلا خيوط، فذلك منظر عجيب ينبئ على أن هذه المجتمع بلغ حد البهائم، ويلبس الواحد منهم لباساً عليه من الصور والتعابير والطيور ما الله به عليم، هذا يدل على فساد الأمزجة.
أنا أعرف أن غالبية الناس يقولون: الأمريكان من أذكى الناس، ولا يمكن أن يكون الأمريكي إلا ذكياً، الذي يُعرف ويُنقل مثلما نقله مختار المسلاتي: أن العقول المنتجة ليست من أمريكا أصلاً، إنما استوردت، والعجيب أنهم يقولون: إن عقل الأمريكي كالبيضة، لا يعرف ما وراءه، ولذلك الدكتور في الجامعة لا يهتم حتى بالصحف اليومية، ولا يدري ما العالَم فيه، بل يهتم بمادته، ويعود إلى بيته، ومن بيته إلى هناك، حتى أنه لا يعرف الولاية التي بجانبه، وهذا أمر معلوم.
حدثنا محمد بن حيدان، وهو شاب يدرس في لوس أنجلوس، ثقة، بسند جيد، أن أستاذاً سورياً يدرس في الثانوية في لوس أنجلوس، قال: فدخلتُ على الأستاذ أريده فوجدته يشرح على السبورة لطلبة الثالث الثانوي وهم أمريكان، يشرح لهم ويقول: ¾ + ¼ = كم؟ كيف تكون؟ ثلاثة أرباع + ربع كم يساوي؟ قال: و½ + ½ = كم؟ قال: فيجلسون هكذا ينظرون في السبورة، قال: فضحكتُ أنا وقلت: أجادٌ أنت يا أستاذ؟ أن تطرح مثل هذا السؤال؟! قال: ولماذا؟ قلت: لأنهم طلبة من طلبة الثالث الثانوي، عندنا يدرسون هذا في الابتدائي، فضحك السوري وقال: والله هؤلاء بُهْم، أتعرف البُهْم؟ قال: والله مثل البُهْم، في مستوى البُهْم، فهم في هذا المستوى، ولذلك طلبة الإخوة السعوديين الذين رأيتُهم أنا هناك، كل واحد منهم يأخذ المركز الأول وهو نائم، فباستطاعته وهو نائم أن يأخذ المركز الأول، ما وجدتُ طالباً، وما سألتُ طالباً يدرس في المدارس الأمريكية إلا إذا قلتُ له: كم ترتيبك؟ قال: الأول، ولو كان أحدهم عندنا لربما كان راسباً، هذا أمر معروف، وما نزلنا ولاية إلا أخبرني الإخوة بهذا.
قالوا: أما دراستهم فعجيبة، مستواهم عجيب، لماذا؟ يقول مختار المسلاتي: الأمريكي يجلس أمام التلفاز سبع ساعات، الأمريكي الذي يومه وليله يجلس أمام التلفاز سبع ساعات، فتجد ولده دائماً هكذا، فقد ينام ويقف صباحاً عندهم، رأيت التليفزيون في واشنطن يحتوي على ثماني عشرة قناة، هذا من القديم، وإلا فبعض التليفزيونات -كما ذُكر لي- فيها أربع وخمسون قناة، منها: قناة خاصة بالجنس، ليس فيها إلا فاحشة الزنا، وقناة خاصة بالأخبار، وقناة خاصة بدرجات الحرارة، وقناة خاصة بالأموال والتجارة، وقناة للإعلانات، فيبقى هذا الطالب المشدوه أمامه ثم يأتي الصباح، فإذا سألوه: ¾ + ¼ = كم؟ لا يدري، من أين له أن يدري، ولذلك قال بعض المفكرين منهم: أمريكا تتحطم بعد خمسٍِ وثلاثين سنة، فنسأل الله الذي حطَّم روسيا وفضحها أمام العالم أن يحطم أمريكا ويفضحها أمام العالم، قولوا: آمين.
أما وضع الأسرة هناك فقد مرَّ شيء من هذا؛ وهو على كل حال وضع لا يُرضي، نسبة الطلاق في زواج الأمريكان (80%) فمن يتزوج يطلق، والعجيب عندهم وهذا أمر معروف عند كثير منكم، أن الرجل يأتي بصديقته فيدخل بها البيت، وتأتي امرأته بصديقها وتدخل به، الأمر مكشوف، فأصبح شيئاً مألوفاً عندهم، والفاحشة كأي أمر معتاد، يستحي من ذكرها الإنسان، وإلا فالنسب موجودة من ذكر الزنا والفواحش التي طمَّت وعمَّت عندهم.(384/12)
حال الدعوة والدعاة هناك وأوضاع اجتماعية
أما المسألة الثانية عشرة فأرقام وحقائق تكشف عن الوضع المزري الذي وصل إليه المجتمع الأمريكي.(384/13)
حقائق وأرقام تكشف الوضع في أمريكا
أولاً: الأرقام:
نقلاً عن المجلة العربية، العدد: (148):
1 - (22%) دخلوا مصحات عقلية بسبب شرب الخمور: فاثنان وعشرون من كل مائة من الأمريكان في المصحات العقلية، بسبب الخمور.
2 - (42%) حوادث السيارات بسبب الخمر: وهم إذا ساقوا في المناطق التي تعتبر خارج الولاية، يسوقون في غاية الجنون، وهم أهل الخمور.
3 - (21%) من الأطفال يولدون نتيجة علاقات جنسية غير شرعية (زنا): وحتى عقودهم زنا من أولها إلى آخرها؛ لكن بدل أن يكون الزوج مع الزوجة يذهب إلى غيرها.
4 - (58%) يعتقدون أن الدين هو الكفيل لحل المشكلات المعاصرة، لكن أي دين؟! الدين الإسلامي مشوه عند الأمريكان، يظنون أن الدين هو دين الخميني هذا، ولذلك إذا أتى الواحد من المسلمين قالوا له: أنت خميني؟ فلا يعرفوا إلا أنك تتكلم باسم الخميني، يظنون أن الدين هو الإرهاب، وبعضهم صوَّر الإسلام لَمَّا ذهب إلى هناك تصويراً سيئاً والعياذ بالله، وهو من أبناء العرب والمسلمين، وهؤلاء نسبتهم (20%) أما (80%) من شبابنا فمستقيمون أحسن منا، فقبل أربع سنوات أو خمس سنوات كان الإسلام مشوَّهاً، يذهب الطالب من هنا إلى هناك، فإذا هو أخبث من الأمريكي؛ لأنه حين يذهب، ينظر إلى الخمر وإلى هذه البطالة وإلى هذه الأمور فينبهر، يقولون لشاب في أمريكا: غض طرفك، قال: والله بصري يعمل كش، يقول: لم يعد عندي رادع، لم يعد عندي فَرْمَلَة، أي: أنه مشتعل، لا إيمان لديه، لا رادع لديه من (لا إله إلا الله) ولا رصيد لديه من التوحيد، فذهب فأصبح -والعياذ بالله- جيفة قذرة، وأصبح كالحيوانات، فنظر الأمريكان إليه وقالوا: أمسلمٌ هذا؟ يكذب ويزني ويشرب الخمر ولا يفي بمواعيده، فشوَّه الإسلامَ؛ ولكن هناك شباب آخرون رفعوا الإسلام، والإسلام الآن ينتشر؛ لكن ببطء، والسبب هو الإرباكات التي أتت من بعض الطوائف المبتدعة، وبعض الذين طمس الله على قلوبهم.(384/14)
رشاد خليفة الذي ادعى النبوة
رشاد خليفة في توسان ذهبنا إليه، ووصلنا إلى بيته، لكن ما رأينا الرجل، ادعى النبوة، وهو دكتور مصري يدرِّس في جامعة هناك، أولاً: دعا، ثم اجتمع إليه الشباب، ثم واصل، ثم ادعى النبوة، وقال: إنه نبي، وإنه رسول، ولَمَّا سئل عن قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ} [آل عمران:144] وقوله: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40] قال: هو خاتم النبيين، أما الرسل فليس بخاتمهم.
يخبرني أحد الإخوة اسمه جار الله الغامدي في توسان بـ أمريكا، وهو سعودي من الباحة، اتصل به مساءً في الليل، فقال له: مَن؟ قال: رشاد خليفة، قال: أأنت الرسول الذي اسمك رشاد خليفة؟ قال: نعم.
قال: معك جبريل عليه السلام، يقول: أريد أن أكلمك.
فهؤلاء شوَّهوا الإسلام بتصوُّراتهم، ولذلك الإسلام يمشي بطيئاً عندهم جداً.(384/15)
دعوة الكنيسة
ثم إنهم نظروا من الكنيسة، يظنون أن الدين في الكنيسة، ماذا تفعل الكنيسة؟
عندهم سواجارت، وهو أكبر خطيب في أمريكا، إذا خطب على الشاشة يُبكي الأمريكان جميعاً، تنهلُّ دموعهم، وهو أكبر راهب، وهو خطيب يأخذ القلوب، ينزل الدرج (السُّلَّم) ويصعد، ويخطب بين الشجر، ويصرخ، ويحرك شفتيه، ويحرك عينيه ويديه حتى يأخذ القلوب وهو راهب كنيسة وقسيس، ومع ذلك أسقطه الله سقطة ما بعدها سقطة، نقلوا له أفلاماً وهو مع فتاة يزني بها في فندق، فسقط الدين عندهم تماماً.
الكنيسة تحولت إلى خمارات وبارات ودور للدعارة، وأول من يزني الرهبان والقُسس، يزنون بفتيات الناس، هذا وضع الكنيسة، فلذلك انفض الأمريكان من الكنيسة وقالوا: هذا ليس بصحيح وليس بدين، أين العدل؟ أين الصدق؟ أين الأمانة؟ وما بقي لهم إلا الإسلام، لكن لِيَعْلم مَن ينشر الإسلام أن المستقبل للإسلام، وسوف يصل الإسلام إلى قلوب الناس، وسوف يورث الله الأرض للمسلمين كما قال عز وجل: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف:128].(384/16)
من قصص العائدين إلى الله
وكلمة عارضة: قبل السفر أتت رسالة للإخوة في ريسان من طالب يمني من عدن ذهب وهو ملحد إلى ولاية روسية يدرس هناك، أتت رسالة السلطات الأمنية، هذا الطالب يقول: الإسلام في روسيا يذهب كالشمس، يفتح المدن والقرى.
الشيوعية عاشت اثنين وستين أو ثلاثاً وستين سنة وأعلنت فشلها، والإسلام ألف وخمسمائة سنة، وكل يوم وهو يزداد، وكل يوم وهو يكبُر، كل يوم وهو يعظُم؛ لأنه يدخل خفية إلى القلوب.
شاب من شبابنا سافر إلى بلاد الغرب؛ لكن سافر وقلبه ممتلئ إيماناً، فلما ذهب إلى هناك كان يقوم مع صلاة الفجر في يوم قارس البرد، وهو يسكن مع عائلة، فتقول عجوز له: لماذا لا تنام؟ قال: ديني يأمرني أن أقوم في هذا الوقت، قالت: أخر الصلاة عن هذا الوقت، قال: لو أخرتُها ما قبلها الله، فهزَّت رأسها وقالت: هذه إرادة تكسر الحديد.
وأنا أعرف شباباً كانوا هنا؛ وكان بعضهم لا يصلي في المسجد، ولستُ أدري هل يصلون في البيت أم لا؟ تحولوا الآن إلى دعاة من الدعاة، وكنتُ أقول لبعضهم: أأنت فلان؟ قال: نعم.
أنا فلان هداني الله، أتيتُ إلى هذه البلاد فما وجدتُ إلا الدين، فاستعصمتُ بالدين واحتميت به، وبعضهم له دروس يشرح للطلبة المسلمين والأمريكان المسلمين هناك.
دخلنا في لوس أنجلوس في مسجد بـ ريفر تايمز، يسمى مسجد ابن تيمية، فوجدنا رجلاً كث اللحية، ولحيته تبلغ سرته، وإذا هو متأثر وتكاد دموعه تهراق، وإذا هو يتفق مع رجل أمريكي مسلم يترجم له ويدعوه إلى الإسلام، قلتُ: من هذا؟ قالوا: هذا رجل روسي رأى المسلمين يذهبون إلى المسجد، فأعجبه هذا الالتزام والصلاة؛ فأتى يريد أن نخبره عن الإسلام، وهو روسي من روسيا.
الناس بحاجة إلى دين، لكن من يخبرهم عن الدين.(384/17)
المحاماة في أمريكا
أما المحاماة في أمريكا فهذه قاصمة الظهر، وكفانا الله شر المحاماة، وكفانا الله شر محاكمهم، بإمكان ذلك إذا غضب عليك أن يبحث لك بشكاية في المحكمة، ويأخذك البوليس كالخروف إلى المحكمة، ويحاكمونك ولو كنت ليس لك ناقة ولا جمل حتى تسلم دراهم، وإذا كان المحامي داهية سلبك وأخذ ما عليك، وخرجتَ وأنت مظلوم، شاب في دنفر من شباب السعودية نزل يقول: فكان في الطريق رجل أمريكي يمر، وكان المرور له، فرَبَطْتُ على فَرْمَلَة سيارتي، فزَحَفَتْ قليلاً ثم لَحِقَتْه، والله ما لَحِقَتْه إلا شيئاً بسيطاً، فلما لَحِقَتْه بصدامها شيئاً بسيطاً رفع فيَّ قضية، وذهبت واعتقدتُ أن الأمر عادي، وما ظننتُ شيئاً وخرجت في الصباح للدوام، فوجدتُ سيارتي قد أخذها البوليس، وذهبت إلى المحكمة، فجلستُ معهم، فما أخرجتها إلا بمئات الدولارات إرضاءً لذاك، وهذا ظلم صريح بسبب المحاماة.
يهودي بجانب المسلم في واشنطن قدم فيه شكاية من أجل شجرة، فذهب وما انطلق منه إلا بآلاف الدولارات حتى سامحه، فمعنى المحاماة أن مالك سوف يكون نهباً، وبإمكان الإنسان أن يمر بك في الشارع، لا يعرفك ولا تعرفه، فيرفع عليك قضية، ويقدم فيك شكوى وينظر فيها القاضي، وربما يسجنك القاضي بسبب المحاماة، أين العدل؟!(384/18)
كثرة البطالة
في الشعب الأمريكي عشرون مليوناً بلا عمل، عشرون مليوناً في بلاد أمريكا بلا عمل، يبحثون عن عمل، فما وجدوا عملاً، فتحولوا إلى عصابات إجرام، وهتك ودعارة، وانتحار وإرهاب وتخويف للناس، ولذلك تجد قطاعات من الناس في المطاعم والحانات، ينظرون إليك من أين أتيتَ، ولذلك عليك إذا ذهبت إلى هناك أن تتأكد أولاً من سيارة الأجرة التي تركبها، هل هي تاكسي، هل هي أجرة صحيحة أم لا؛ لأنها قد تكون سيارة إرهابيين انتحاريين، وقد يذبحونك ثم لا يراجعون فيك أحداً، الإرهابيون يرونك من المطار، وربما ذهبوا وراءك حتى يعرفوا الفندق الذي تسكنه، والغرفة التي تأوي إليها، ثم يسلبونك، وكثير من حقائب الإخوة سُرقت من نيويورك من المطار، يأتيك رجل مسرع كالطير وكالريح ثم يأخذ حقيبتك ولا تدري أين ذهَبَت، أو قد يبادلك حقيبته ويأخذ حقيبتك، أحد الإخوة أخذوا حقيبته، ليس في رحلتنا بل التي قبلها، وبعد فترة ردوا عليه الحقيبة، وأخذوا ما فيها من دراهم، وعندهم طريقة، عندهم حقائب فارغة هنا، فيبدلون الحقائب في المطار، ويأخذون حقيبتك، ويجعلون حقيبتهم مكان ما عندك، فهم مجتمع يأكلون ويشربون لكن بلا شريعة ولا إيمان، ولا قيم ولا أخلاق.(384/19)
حال الشباب المسلم هناك
أبشروا فشبابنا هناك أمرهم عجيب! والله إنه لشيء يثلج له الصدر، ويرتفع له الرأس، وهم (80%) أو أكثر وبقي (20%) الـ (20%) ما بين علماني وشهواني، رجل مغفل لو وجهت له كلمة أو دفع دفعة بسيطة دخل في الدين واستقام، أما (80%) فمستقيمون حتى في السنن البسيطة التي نظن أنها بسيطة، وهي ليست بسيطة، أمرهم عجيب! قرآن، حلقات ذكر، ما نزلنا والله ولاية أو مدينة إلا وجدنا مسجداً ومركزاً إسلامياً، ومكتبة وأشرطة، ودروساً وحلقات.
ودخلتُ في بورت لاند، وبورت لاند هذه من ولاية أوريفر، وهي من أجمل ما خلق الله في الدنيا، هي جنة في الدنيا بمعنى الكلمة، واكتبوا هذا الخبر، ويعرفه الطلبة الذين درسوا في أوريفر، جذع الشجرة في أوريفر طوله عشرة أمتار، وأخشابهم من هناك، تمر التِّرِلاَّت في الصباح، وهي تنقل من هذه الأخشاب والأشجار والغابات، بعض الشجر يقال: إن ميلادها قبل ميلاد عيسى عليه السلام، وهي من أجمل بقاع الأرض، وفيها طيور، وزهور، وأشجار، وماء غادق، وظل وارف، وشيء عجيب؛ لكن في بلاد كفرت بأنعُم الله، فنزلنا في بورت لاند، وبعد صلاة العشاء اجتمع بنا ثلة من الشباب ما يقارب الستين شاباً، أتدرون ما هؤلاء الشباب؟ إنهم شباب اجتمعوا في بلاد الغربة، وبينهم من الإخوة ما الله به عليم، حتى إن بعضهم إذا أراد أن يداوم في الصباح يأخذ لباس أخيه ولا يجد غضاضة من ذلك، وبينهم من العناق والأخوة ما الله به عليم، فجلسنا في ليلة من الليالي التي لا أنساها في حياتي، وكان هناك شاب مغربي من فرنسا، وكان معرضاً عن الله فهداه الله، فأصبح مستقيماً وأسمعنا قصائد باللغة الفرنسية، وتُرْجِمَت إلى العربية، ومعنا ليبي أسمعنا قصائد بالنبطية باللغة الليبية، ومعنا فلسطينيون وعراقيون وتونسيون ومن كل بلاد المسلمين وهم في إخاء عجيب، جمع بينهم هذا الدين:
إن يكد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدَّر من غمام واحدِ
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالدِ
{وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].(384/20)
أشعار قيلت حول الرحلة إلى أمريكا
الشعر له مشاركة، ومنها قصيدة قيلت بعد المؤتمر، وقصيدة من قبل سنتين، لأن هذا هو ثاني سفر، فلا بأس أن أذكر بعض الأبيات، والقصيدة الأولى اسمها رحلة إلى أمريكا، وهذه نشرة الأخبار، وسوف أذكرها وأعيد الأولى حتى تكون في ضميمة هذه:
القصيدة الأولى في الرحلة الأولى:(384/21)
قصيدة
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي وليُّ
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاًباكرا مشاركاً لحفلكم وشاكرا
وحَمَلَتْنَا في السما طياره تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديكِ
يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا
وهذه الأخبار هذي النشره مسافة السير ثلاث عشره
من الرياض عفشنا ربطنا وفي نيويورك ضحىً هبطنا
أنزلنا بسرعة وحطَّنا وقد قصدنا بعدها واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سيارهْ مستقبلين جهة السفارهْ
منزلنا في القصر أعني ريديسون يا كم لقينا من قبيح وحسن
في بلدٍ أفكاره منكوسهْ تثقله بصائر مطموسهْ
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حميرا
ما عرفوا الله بطرف ساعهْ وما أعدوا لقيام الساعهْ
فهم قطيع كشويهات الغنمْ جد وهزل وضياع ونغمْ
ومنها:
ومعنا في صحبنا العجلان أكرم به مع العلا جذلانِ
وطارق المنصور من بريدة يشبه سعداً وأبا عبيدة
ومعنا عبد العزيز الغامدي ابن عزيز صاحب المحامدِ
والشهم عبد القادر بن طاشي ذو القلم السيال في انتعاش
فهو أبونا في مقام الترجمةْ لأننا صرنا صخوراً معجمةْ
ومن القصيدة:
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسيجارهْ وما عرفنا نصلح السياره(384/22)
قصيدة نشرة الأخبار
القصيدة الثانية في الرحلة الثانية:
أما في الرحلة هذه فقلتُ:
طرنا لـ أمريكا لأجل المؤتمرْ في رحلة فيها العناء والضجرْ
طيارة قد حَمَلَتْنا مسرعهْ ونحن من أرض السلام أربعهْ
منا الخنيسان سعود المحترمْ بالعلم والفضل يلوح كالعلمْ
ثم الطريقي شيخ علم وتقى بالنبل والمجد إيمانه ارتقى
ومعنا سلمان بن عودهْ أبو معاذ ذو الوفاء والجودهْ
كان النزول في مطار كندي والثلج فوق الأرض مثل اللبدِ
ثم إلى واشنطن ذهبنا الله كم ضقنا وكم تعبنا
في شركة بانام أركبونا طاقمها في الجو عذبونا
تهوي بنا كأنها حُدَيَّا تعلَّقت بسقفها يديا
وفي كلورادو قد اجتمعنا فيها نفعنا الناس وانتفعنا
العلم والفكر جميعاً والأدبْ وحضر الأصحاب من كل حدبْ
وبعده طرتُ إلى توسانِ وانعقدت من هيبة لساني
وزرتُ سمبي في آيسون وقدْ قابَلَنا من الشباب محتشد
وبعدها طرت إلى لوس أنجلوس عند الذين نورهم مثل القبسْ
أعني شباباً حملوا الإيمانا كرمهم عن أهلنا أنسانا
ذاك اللحيدان جزاه المولى براً وتوفيقاً على ما أولى
وقد دخلنا وسط المدينةْ والرعب فيها رافعاً أنينهْ
النهب والقتل بلا حسابِ واضطرب الناس من الإرهابِ
عاشوا حياة الذل والمهانهْ وقلة التوفيق والخيانهْ
يا كم سمعنا من حكايا الانتحارْ دولتهم بعد قليل في انهيارْ
لأن من لم يعبد الله الصمدْ يعيش في هم وغم ونكدْ
إن لم يكن في جيبك الدولارُ أصابك الهلاك والدمارُ
والله لن تلقى بها مَن يرحَمُكْ فكلهم في الشهوات منهمِكْ
وأريزونا زرتُ فيها اخواني بها بساتين من الأفنانِ
صحراؤنا أجمل عندي منها فلا تحدثني أخيَّ عنها(384/23)
مقطوعة شعرية في واشنطن
وائذنوا لي بمقطوعة، لأختتم بعدها بفقرة، هذه المقطوعة في واشنطن، اسمها: من واشنطن.
لما رَحَلْتُ بـ أمريكا عن الحسن وضعتُ شكوى الهوى في هيئة الأمم
الحسن: هو الحسن الأهدل.
لما رَحَلْتُ بـ أمريكا عن الحسن وضعتُ شكوى الهوى في هيئة الأمم
يا مجلس الأمن أشكو ساجناً فطناً أحل سفك دمي في الأشهر الحرُمِ
والشطر الأخير لـ شوقي، وهذا تضمين وليس سرقة.
يا مجلس الأمن أشكو ساجناً فطناً أحل سفك دمي في الأشهر الحرُمِ
إذا احتكمتُ إلى الفيتو ليوقفه رمى بلحظٍ إلينا غير محتشم
يا بوش قد جئت من أرض القداسة ما أمسي بديني ولا داهنتُ في قيمي
رأيتُ واشنطن الشمطاء قد نشرت ثوباً من الظلم يحمي هالة الظُّلَمِ
أستغفر الله! فيها نخبة شرفت بهم رواسي العلا في الأفق في الأجمِ
أبناء من فتحوا الدنيا بعزتهم من سيد قرم أو فارس كلِمِ
زالت همومي بهم والله وارتفعت روحي وسارت إلى مغناهم قدمي
أنا الغريب بأرض كلها كُتَل من أبشع الناس أو عبادة الصنمِ
همُ عبيد الخنا والزور ما احتكموا لملة أو رأوا نوراً على علمِ
لم يظفروا بتعاليم الرسول ولا عاشوا على سنة الإسلام مِن قِدَمِ
الجنس معبودهم والفسق مبدؤهم والمال دستورهم يا خيبة النُّظُمِ
في صحبة الله طرنا من مرابعنا على بساط من التوفيق مبتسمِ
فينا سعود الخنيسان الذي نظَمَتْ ألطافهُ ونما في العلم مِن قِدَمِ
وابن الطريقي في الأعماق منزله من صاحب وافي الأوصاف والكرمِ
وابن عمك سلمان العلا بطل أبو معاذ كمي بز كل كمي
يا سائلي عن بلاد الكفر معذرة يبكي يراعي ويبكي في الكلام فمي
نعم رأيت بها الآلات جاثمة وللمصانع أبواب من النغمِ
نعم رأيت الصواريخ التي صَنَعَت الموت في متنها كالدم في العلمِ
لكنني لم أرَ التوفيق يصحبهم في عالم الروح أرسال من النعمِ
ناديت لما رأيت الصبح يغمره يا ساكن القاع أدرك ساكن الأجم(384/24)
الشعور وقت الرجوع إلى جدة
أما آخر فقرة فهي: يوم هبطنا في مطار جدة، أتينا من بلاد موحشة، كانت تمر بالإنسان بعض اللحظات، وهو بين الولايات الشمالية الست وحده، من طائرة إلى طائرة، وهو يظن أنه لن يعود، وذلك لأنه:
أولاً: ليس عنده لغة يمكن أن تنقذه، وبعض الناس استطاع بلا لغة أن يمشي من مكان إلى مكان.
ثانياً: في يد مَن أنت؟ في يد مجتمع لا يتحاكم إلى أمر الله.
ثالثاً: يفقد إخوانه وأصحابه، فلا تنظر إلا في وجه كافر أو كافرة، وملحد وملحدة، ومعرض ومعرضة، فهم كالغنم تماماً أو كالبهائم، بل البهائم والأنعام أهدى منهم سبيلاً.
فمشينا من هناك، وكان بنا من الفرح العظيم ما الله به عليم، لسان حالنا يقول: نعود إلى مهبط الوحي، إلى أرض الرسالة وأرض الإسلام، إلى أرض السلام، والقرآن، إلى أرض محمد عليه الصلاة والسلام، إلى أرض أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، إلى أرض خالد وطارق وصلاح الدين، إلى أرض مالك وأحمد والشافعي وأبي حنيفة، إلى أرض ابن تيمية وابن القيم، إلى أرض النبلاء والشهداء، والعظماء والكرماء والأتقياء.
فلما قربنا من جدة، وأخبرنا الكابتن بوصولنا، شعرنا كأننا عشنا بعدما متنا، أصبح أطرف الناس في جدة كأنه عندي من الصحابة، وأصبحت الأسفار قريبة، وأول ما نظرنا إلى إخواننا الذين سجدوا لله وأعلنوا ولاءهم له؛ حمدنا الله عزَّ وجلَّ على أن جعلنا مسلمين، وحمدنا الله على أنه لم يحولنا إلى تلكم الأمة: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] لقد انسحقت هذه الحضارة، يقول سيد قطب عن أمريكا: لا تصلح أمريكا إلا أن تكون ورشة للعالم، صحيح أن فيها مسامير وطائرات، وفيها صواريخ، ومصانع، وفيها تكنولوجيا وتقدم حضاري، وفيها أمور عجيبة؛ لكن ليس فيها أمن ولا سكينة، ولا عدل ولا اطمئنان، ولا إيمان ولا مراقبة، ولا تكافل ولا رحمة؛ لأنها التحقت بالكفر: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].
في أمريكا تنظر إلى الغنى الفاحش، إلى السحاب، وإلى الفقر الفاحش إلى التراب.
في أمريكا تنظر إلى جمال الطبيعة، جميلة جد جميلة، ولكنك تنظر إلى القُبح في أهلها، تنتقل إلى الحديقة وتنظر إلى زهورها وأشجارها، فتحمد الله وتزداد إيماناً، وتريد أن ترتاح، فتنظر إلى الرصيف، فتجدهم يتسافرون كالكلاب، فتنقبض روحك، وينقبض جسمك، ويقشعر كيانك من هذا الوضع.
وهناك قوم مؤمنون ودُعاة، وعدد المسلمين في أمريكا أكثر من خمسة ملايين مسلم أو أكثر، مدينة ريفر وايت فيها مائتان وخمسون ألف يمني، بأطفالهم وبأهاليهم، وكأنهم في قلب صنعاء، وهناك مساجدهم ومجالسهم، واجتماعاتهم ودروسهم، أمر عجيب! وفي مدينة واحدة ثلاثون ألف فلسطيني أكثر الناس ذكاءً هم ستة، من مصر العربية: فاروق الباز الذي أنزل مركبة الفضاء، ورجل مصري آخر نسيتُ اسمه الآن، وأربعة غيرهم يدخلون معهم، بل هم أذكى بكثير ممن اكتشف بعض المكتشفات، هناك دعاة مؤمنون، خرجوا وهم لا يعرفون من الإسلام شيئاً، خرجوا ملاحدة شيوعيين، ففروا إلى أمريكا، ولما وصلوا اعتنقوا الإسلام والإيمان، وأصبحوا دعاة، تجد الواحد بلحيته البهية وطلعته؛ كأنه نجم في غيهب الليل.
وصلينا المغرب في توسان، فاجتمع معنا أناس عراقيون، فألقيت في عشر دقائق كلمة عادية، فسالت دموعهم على لحاهم، وقلتُ: ما لكم؟ قالوا: ذكرتنا بالبيت الحرام، وذكرتنا بالقرآن وبالصحابة وبالرسول، ونحن نعيش غربة.
فإذا أردت أن تدخل إلى قلوب المسلمين هناك فقل له: أتيتُ من بلاد الإسلام، تركتم الأهل والأوطان، تركتم الإخوان والخلاَّن، تركتم الأصحاب والأحباب، وأنتم بين ملاحدة وزنادقة، أنتم في غربة ووحشة، فستأتيك الدموع تنهمر من الكلام ما لا يعلمه إلا الله:
بكت عيني غداة البين دمعاً وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بالدمع ضنت بأن أغمضتها يوم التقينا
وادَعْنا بعض الناس، وهم طلبة من جدة في بعض الولايات، فوقفوا معنا في المطار، ثم اعتنقناهم واعتنقونا، فما كادوا أن يتركوننا، وضج بكاؤهم في صالة المطار، وبقيت دموعهم ودموعنا هناك، ولكن عسى الله أن يجمع بيننا وبينكم وإياهم في الجنة:
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
بِنْتُم وبِنَّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا
قال رجل هندي: بماذا توصيني؟ فأخرجتُ له المصحف وقلت له: أوصيك بهذا، فبكى حتى جلس.
ويقول أحدهم وهو مغربي: والله لقد خضنا كل شيء، جربنا الرأسمالية، جربنا الإلحاد، جربنا الشيوعية، جربنا العلمانية، فما وجدنا إلا الإسلام: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:22] وقال سبحانه: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].(384/25)
الأسئلة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(384/26)
حول المؤتمر وماذا دار فيه من المواضيع
السؤال
ماذا كان المؤتمر الذي حضرتموه؟ وماذا دار فيه؟ وما هي المشاركة التي شاركتم أنتم وإخوانكم في هذا المؤتمر؟
الجواب
المؤتمر مؤتمر القرآن والسنة، وعُقد في كلورادو بـ دنفر، واجتمع فيه الناس الشباب، وجُمع له الكثير من العلماء والدعاة من العالم الإسلامي، حضره من أفغانستان: الشيخ محمدي وهو من قادات المجاهدين، ومعه أبو صهيب مراد بن مجاهد، وحضره من اليمن: داعيتان، منهم: الشيخ عبد المجيد الريمي، داعية وشاعر ولبق وحكيم، والشيخ حبيب الرحمن الأعظمي، المحدث الشهير صاحب الكمبيوتر، وحضره: محمد إسماعيل من مصر، والشيخ جميل وزن، والأسماء التي ذكرتها من السعودية، ومن مصر حضره بعض المفكرين، ولا يخلو بلد عربي أو مسلم إلا وفيه داعية أو عالم حضر.
أما المهمة في المؤتمر، فمدته أربعة أيام، واليوم الخامس انتهى، محاضرات دينية وشرعية واجتماعية وعقدية، وفي المساء: حفلات سمر، وأمسيات شعرية، وخواطر بعد الصلوات، ندوات مشتركة للدعوة والفكر، دروس جانبية للرجال والنساء، دروس في الفقه، في العقيدة، في الحديث، في التفسير، وكان المؤتمر رائعاً جد رائع، يميزه العلمية في القضايا التي طُرحت فيه، والشباب وحضورهم الطيب، وروح الإخاء التي سادت المؤتمر، وبعد أن انتهى المؤتمر وزعونا، ووزعوا الدعاة هؤلاء على ولايات، يقومون على الأندية وعلى المتاجر وعلى المراكز الإسلامية، ويلتقون بالشباب ويدعون إلى الله عزَّ وجلَّ، والمدن التي زرتها أنا ما يقارب إحدى عشرة مدينة أمريكية، مكثت في بعضها يوماً، وبعضها يومين، وبعضها ثلاثة أيام، وهكذا.(384/27)
حول اللباس الإسلامي
السؤال
هل لبست ثوباً في أمريكا؟
الجواب
نعم.
لبست هذه الملابس، لكنني أضطر أحياناً إلى خلع هذه الغترة والطاقية، وقبل سنتين سافرت، فكان من نصائحهم لنا أن نلبس اللباس الأفرنجي هذا، فلبسنا ليلة واحدة في كلورادو، ثم عدنا فرأينا أنه لا داعي له، ولو أن هذا يلفت النظر، خاصة في بعض الولايات، أما بعضها فالأمر عادي، ما كأن هناك أي شيء، لكن إذا كنتَ لوحدك، فالخوف الخوف، خاصة وقد كنا نشعر أننا وحيدون وغرباء.(384/28)
حول اللغة الإنجليزية
السؤال
شكوت صعوبة لغتهم، فهل سوف تتعلم هذه اللغة؟
الجواب
أنا درستُ الإنجليزية في المعهد العلمي ست سنوات، لكن والحمد لله لم أعد أعرف كتابة اسمي، وأعرف بعض الكلمات لكنها لا تغني ولا تكفي، أما دراسة لغة الدعوة ليكون الداعية داعية بلغتهم، فهذا أمر صعب، يقول لي بعض الطلبة الذين درسوا ست سنوات أو سبع: لغة الدعوة هذه لغة الديانة، لغة العاطفة لا يستطيعها إلا خواص، مثل الداعية عندنا الآن، تجد من يتكلم بالعربية ويؤثر بها طبقة قليلة، لكن بقية الناس لا يستطيع أن يتكلم بنفس التأثير، ونفس الحماس، ونفس العاطفة إلا بعد فترة، ولذلك قد يضيع الإنسان عمره بدون أن يحصل على طائل.
ولمن أراد أن يتعلم اللغة الإنجليزية فلها مدارس خاصة ومراكز، وسمعنا ونحن في لوس أنجلوس أن في بروكسل معهداً يعلم اللغة الإنجليزية في ستة أشهر؛ بشرط أن تتفرغ وتقدم لهم ثلاثين ألف دولار، ثم يعلموك اللغة الإنجليزية ستة أشهر.(384/29)
واقع أمريكا
السؤال
قل لي في أمريكا قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك؟
الجواب
أقول لك ما قال سيد قطب: أمريكا لا تصلح لقيادة البشرية، ولا تصلح لتوجه الإنسانية، أمريكا تصلح ورشة للعالم، تصنع السيارات، تصنع الأسلحة، تصنع الطائرات، أما أن تقود العالم فلا؛ لأنها كفرت بالله، وأعلنت كفرها، وكل شيء بقضاء وقدر، ولو سبقنا لفتح أمريكا نحن لكانت أمريكا كلها مسلمة، لكن سبقنا الإنجليز وفتحوها قبلنا، فنسأل الله أن يفتح لنا أبواب الجنة، وأن يهيئنا لخدمة هذا الدين.
أنت كنز الدر والياقوت في هذه الدنيا وإن لم يعرفوكْ
محفل الأجيال محتاج إلى صوتك العالي وإن لمن يسمعوكْ(384/30)
استعلاء المسلم
السؤال
هل يشعر المسلم باستعلاءٍ إيماني هناك؟
الجواب
نعم.
إي والله، العجيب أن هذا الرجل سيد قطب رحمه الله، وأنا متأثر به في الظلال، يجعل جبهة المسلم عالية، خلال سنتين عرف جو أمريكا وعظمة أمريكا، فوجد حقارة ومهانة، فكان دائماً يقول في قوله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] قال: نحن الأعلون سنداً ومتناً، الله ربنا، والوحي مصدرنا، والرسول صلى الله عليه وسلم إمامنا، والكعبة قبلتنا، فأي ناس أشرف منا؟ لا أحد.
بعض المفكرين المسلمين الآن ينهار أمام حضارة أمريكا، بعضهم في شريط محاضرة يقول: القوم هناك في أمريكا، القوم في بريطانيا، القوم هناك.
لا والله، القوم هنا، الإسلام هنا، الأبطال هنا، الشرفاء هنا، أما هناك فالضياع، ولذلك عرفهم سيد قطب وآكلهم، وشاربهم وذاقهم، ثم قدم فيهم قواعد استعلاء، تمشي وجبينك مرتفع.(384/31)
الدعوة في أمريكا
السؤال
كيف تكون دعوة الناس هناك وهم خائفون؟
الجواب
أنا أقول لكم: إن بعض الأمور تشكر ولو كان من كافر، وأمرنا أن نكون عدولاً، أمريكا من أحسن الأجواء أو من أحسن الأماكن مناخاً للدعوة الإسلامية، ومن أخصب الأراضي، لأن هناك بإمكانك أن تستأجر قناة في التليفزيون فتتكلم عن الإسلام، إذا كانت عندك دولارات، فاستأجر ما شئت، بإمكانك أن تستأجر في صحيفة وتبث عن الإسلام، تأخذ منبراً، تتكلم للناس، تدخل الجامعة.
مختار المسلاتي الداعية الليبي أخذ طالباً في جامعة لوس أنجلوس، وفي الفسحة يأخذ أكواباً من الشاي ويوزعها على الأمريكان، ويجلس يحدثهم عن الإسلام، ويعود كل يوم بخسمة يخرجهم من الظلمات إلى النور، فأنت هناك استأجر لك مكاناً، ولك أن تأخذ قناة تستأجرها في التليفزيون، وتخرج بغترتك وبمشلحك وبشتك وتتكلم عن الإسلام، والله يهدي على يديك من يشاء، لك أن تتكلم، ليست كـ روسيا، روسيا ذبح، روسيا نار، روسيا دمار، ولذلك اليوم قرأتُ في الشرق الأوسط أن سخروف الذي توفي قبل ثلاثة أيام أو أربعة لما عارضهم بكلمة ذبح مثل الكلب، وهو الذي اكتشف لهم الذرة، والقنبلة الذرية السوفيتية، أما أمريكا فبالعكس يُشكرون على هذا، فلك أن تتحدث وتناقش، وتتكلم عن دينك بطلاقة وحرية، لكن في حدود، وهناك العجيب أنك إذا نظرت في الشارع، ستجد الصيني والياباني والعربي والهندي والبرازيلي، ظلمات بعضها فوق بعض.(384/32)
أحوال الشباب الملتزم في أمريكا
السؤال
هل يوجد شباب ملتزم في أمريكا؟ وكيف حالهم؟
الجواب
طيبون ونجوم ومصابيح دُجى، وهم أكثر في الاستقامة منا، ومنهم من يقوم الليل ويصوم النهار؛ لأنهم يقولون: ما صاننا بهذا المجتمع إلا كثرة النوافل.(384/33)
الدروس التي ألقيت في أمريكا
السؤال
هل الدروس والمواعظ التي ألقيتها في أمريكا هل تلقيها هنا في أبها؟
الجواب
سجلت تسجيلات الرائد في الرياض ما وقع في المؤتمر في دنفر من محاضرات وأمسيات ودروس، وإن شاء الله تصل إلى أبها، وهذه مسئولية تسجيلات الأمير في أبها فتأخذها من الرائد في الرياض، وهو أكثر من اثنين وعشرين شريطاً من الدعاة والعلماء.(384/34)
أحوال الداعية أحمد ديدات
السؤال
هل عرفت شيئاً عن أحوال الداعية أحمد ديدات؟
الجواب
سمعتُ آخر أخباره، لكني ما رأيته، ولكنه يتنقل من ولاية إلى ولاية، وأظنه الآن في أفريقيا.(384/35)
الراحة النفسية في أمريكا
السؤال
هل ارتحتَ نفسياً في أمريكا؟
الجواب
لا ما ارتحتُ نفسياً، بل ضقتُ نفسياً.(384/36)
شريعة الطلاق في أمريكا
السؤال
هل شريعة الطلاق عندهم ممنوعة؟
الجواب
لا.
بل عندهم (80%) ممن يتزوج يطلق، وهذا موجود في كتاب أمريكا التي رأيتها لـ مختار المسلاتي.(384/37)
وجود البدع والانحرافات
السؤال
هل هناك انحرافات أو بدع هناك؟
الجواب
حدِّث ولا حرج، كل ما في الدنيا من ديانة، ففي أمريكا عيِّنة منها، كل ما في الدنيا من صلاح أو خراب عندهم عيِّنة منه، من أهل السنة عيِّنة، من الرافضة عيِّنة، من البوذية عيِّنة، من السيخ عيِّنة، من الهندوك عيِّنة، من الإسماعيلية عينة، من الباطنية عيِّنة، من الشيوعية عيِّنة، من الرأسمالية عيِّنة، من العلمانية عيِّنة، كل ما في الدنيا وما تتصور منه عيِّنة، ومن يدعي النبوة، والإنسان ينحط إلى درجة الحمار، الشذوذ الجنسي، الالتزام، الصلاة، قيام الليل، الدعاء، فأصبحت كلها كالحديقة فيها الشوك والورد، فحدِّث ولا حرج.(384/38)
نصيحة لمن يسافر إلى أمريكا
السؤال
ما نصيحتك لمن يسافر إلى أمريكا لغرض ما؟ وما نصيحتك لمن يذهب إلى هناك ليتعلم اللغة الإنجليزية؟
الجواب
أما نصيحتي أولاً لمن أراد أن يسافر إلى أمريكا فلا يسافر إلا مضطراً، مثلما يضطر إلى أكل لحم الميتة، وهذا هو الاضطرار، والحمد لله الأمور أصبحت ميسرة، وأصبحت كثيرٌ من الإمكانيات موجودة في بلادنا، لا تضطر الشاب إلا في النادر للسفر، وإذا أراد أن يسافر فليتحصن بالإيمان، وبطاعة الواحد الديان، وليسافر بزوجته، وإلا فسوف يدخل إذا سافر بلا إيمان وبلا زوجة في لخبطة، وإن استطاع أن يأخذ أربع زوجات معه فليفعل.
أما تعلم اللغة فأنا أنصح أن يُتعلم اللغة هنا، ولا يتعلم هناك؛ لأن الأسئلة التي تردنا في الولايات التي نزلناها مرعبة، يقول شافيلي: تعلمني الدكتورة وهي شابة وفتاة أمريكية خليعة داعرة زانية تعلمني؛ وليس عليها شيء، ما على جسدها إلا شيء بسيط، وتدور أمامه عند السبورة في خلوة محرمة، فكيف يصح هذا التعليم؟! ويتعلم الإنجليزية ليكون داعية ينفع المسلمين؟! الفتاة تجلس بجانبه على الكرسي وتمد رجلها على رجله، ثم يريد أن يكون داعية، بل يجب عليك أن تتعلم هنا، عندنا أقسام للإنجليزية هنا في جامعة الملك سعود، وما من جامعة إلا وفيها قسم، فتتعلم هنا، ثم تذهب لتكون داعية، بعض الناس يذهب من هنا، وهو ما أثر في بيته، ويقول: أريد أن أدعو في أمريكا، وهذا ليس بصحيح، بل الأقربون أولى بالمعروف، وإنما يذهب الإنسان في مثل هذه الجولات لأمور، بمستوى طبقة محددة من الناس بكلام محدد ولمهمة محددة، ثم يعود، وهناك أناس صالحون فيهم الخير.(384/39)
عن حضارة أمريكا
السؤال
حدثنا عن حضارة أمريكا المادية؟
الجواب
أنا قلت في أثناء المحاضرة: حضارة أمريكا المادية بإمكان الإنسان أن يكسبها، الوثني الأفريقي، والأحمر الخواجة، والبلشفي الروسي، كلهم يشتركون، ولا علاقة لهم بالدين، وحضارتهم على مستوى عالٍ فهي تصل بهم إلى السماء، وقد قال كثير منهم، ومن استطاع أن يراجع ما كتبه صاحب الإنسان لا يقوم وحده، والإنسان ذلك المجهول وصاحب دع القلق وابدأ الحياة ليعرف أي حضارة سوف تنهار فيها؛ لأنهم فقدوا حضارة الإيمان والروح, فقدوا الأمن والسكينة، فقدوا الطمأنينة، فقدوا كيف يعرف الإنسان أن يعيش في عالم الغيب والشهادة، فقدوا حياة المستقبل، فقدوا الطريق إلى الله عزَّ وجلَّ، أصبحوا كالبهائم، بل البهائم أهدى منهم سبيلاً.(384/40)
نظرة الأمريكان إلى العرب
السؤال
هل كل الأمريكان ينظرون إلى العرب باستغراب حسب ما عندهم من أفكار عنهم؟
الجواب
أما الأمريكان فأنا تصورت من سؤال الإخوة وبعض المفكرين الذين جلستُ معهم أن في بعض الولايات الذين يشتغلون بالسياسة يتصورون أن العرب لا شيء، كالأطفال، وأنها دول نامية، ورجعية، ومتخلفة، وأما بعض الولايات فلا يشتغلون بالسياسة، ولا يعرفون حتى الصحف اليومية، عندهم الأمر عادي، فدائماً متعوِّد على أن يمر بهندي وباكستاني وعربي وياباني وصينيي فالأمر عادي، ولذلك بعض الولايات يركزون النظر فينا، وبعضهم لا يتأثر، مثل ما هو حاصل عندنا، ففي جدة -مثلاً- من كثرة من ينزلها صاروا لا يستغربون مرور الخواجات، لكن في تهامة لو مرَّت من عندهم الخواجة لتعثروا ووقفوا، فهذه تختلف بنسب بين الولايات.
وفي الختام: نسأل الله عزَّ وجلَّ أن يرينا وإياكم الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(384/41)
دروس في التوبة
من المعلوم أن الذنب لا يسلم منه أحد؛ ولهذا فالإنسان بحاجة ماسة إلى التوبة صباح مساء، والتوبة الصادقة لها علامات، ومنها: أن يحافظ صاحبها على الأوقات، وأن يعيش مع السنة، وأن يكثر من ذكر الله تعالى، مع ندمه الشديد على ما سلف.
ثم تطرق للحديث عن أمور ووصايا للجندي المسلم، وذكر منها: مراقبة المولى جل ذكره، وحسن الخلق مع الناس، والحرص والتزود من العلم الكفائي، والإكثار من نوافل العبادة ونحوها من الآداب.(385/1)
حاجتنا الماسة للتوبة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
ثم أما بعد:
شكر الله لسيادتكم، وشكر الله لكم اجتماعكم، وجمعنا بكم في دار الكرامة.
أخٌ زار إخوانه، ومحبٌ زار أحبابه؛ ليتدارس معهم الرسالة التي أرسل بها محمدٌ عليه الصلاة والسلام، فهي رسالتي ورسالتكم، ومهمتي ومهمتكم، ومسئوليتي ومسئوليتكم، لا تصلح أنت، ولا أصلح أنا، ولا نتآخى ولا نتآلف إلا بهذه الرسالة الخالدة، قال تعالى: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لأنفال:63].
كان الناس قبل مبعثه عليه الصلاة والسلام أمواتاً {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21] كانوا يأكلون ويشربون، ويغنون ويرقصون ويطبلون؛ ولكنهم أموات، كانوا يخونون ويغشون، ويزنون ويغدرون ويرابون؛ ولكنهم أموات، فلما أتى محمدٌ عليه الصلاة والسلام كتب في قلوبهم النور {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]
أنا وأنت بحاجة إلى هذا النور، أن نستلم هذا النور، وأن نمضي في أفياء هذا النور، وأي قلبٍ لا يصل إليه هذا النور؛ فسوف يبقى أعمى في الدنيا والآخرة، لا يجد سعادة، ولا يجد نجاحاً، ولا يجد فوزاً، فلا إله إلا الله كم لرسالته عليه الصلاة والسلام من إشراق! ولا إله إلا الله كم عمَّر الله بدعوته من قلوب! ولا إله إلا الله كم أحيا بدعوته من أرواح!
يا إخوتي في الله: عنوان هذه الجلسة والمحاضرة " دروسٌ في التوبة".
نحن نحتاج إلى التوبة صباح مساء؛ لأننا أذنبنا وقصرنا مع الله، وأخطأنا، المتكلم والسامع، ولكننا عرفنا أن لنا رباً سبحانه وتعالى، يأخذ بالذنب ويغفر الذنب، فقلنا: نستغفر الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
يفتق الثوب؛ فيذهب به إلى الخياط، وتتعطل الآلة؛ فيذهب بها إلى المهندس، ويمرض المريض؛ فيذهب به إلى الطبيب، ولكن قلوبنا إذا تعطلت ومرضت وفتقت إلى أين يذهب بها؟ إلى الله الواحد الأحد، فلا يصلح القلوب إلا الله، ولا يشرح القلوب إلا الله، ولا ينور القلوب إلا الله {نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
والقلوب تفزع، والقلوب تقسو وتصدى، والقلوب تقفل فلا ترى نوراً ولا حكمةً، ولا هداية ولا رسالة.
كان عليه الصلاة والسلام يقول: {يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك} والله يقول: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:11] ويثبت قلبه على النور، وحاجتنا أول ما نحتاج؛ بل هي أول المنازل وآخر المنازل التوبة النصوحة.(385/2)
ثلاث قضايا في التوبة
واعلم يا مسلم: أن هناك ثلاث قضايا في التوبة:
القضية الأولى: أنه لا يغفر الذنب إلا الواحد الأحد، ولو اجتمع ملوك الدنيا ومسئولوها، وزعماؤها وعلماؤها على أن يغفروا لك ذنباً واحداً ما استطاعوا، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران:135].
القضية الثانية: أنه مهما أتيت من ذنب ثم تبت إلى الله غفر الله ذنوبك وإن كانت جبالاً من الخطايا وسيلاً من السيئات، وتستغفر وتتوب وتعزم على أنك صادق؛ يغفرها الله سبحانه وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
القضية الثالثة: أن الصغائر تجتمع على العبد حتى تهلكه، كمثل نظرة، وسماع أغنية، ولمحة، وقليلٌ من السيئات تجتمع فيتدكدك تحتها العبد، ويسحق والعياذ بالله! في الصحيحين: {أن رجلاً من بني إسرائيل أذنب على نفسه ذنباً عظيماً -كان مؤمناً موحداً، ولكن أذنب وأخطأ- فلما أتته سكرات الموت قال لأبنائه: إذا مت فاجمعوا لي حطباً، وأشعلوا فيه النار ثم أحرقوني، ثم اسحقوني وذروني علَّ الريح أن تذهب بي في كل مكان، فجمعوا له حطباً وأحرقوه وسحقوه وذروه فذهب به الريح في كل مكان} ولكن من الذي يجمعه؟! هو الواحد الأحد، قال تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82] وقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] جمعه الله بكلمة (كن) فكان أمامه، وظن هذا الرجل أن الله لا يستطيع أن يجمعه: {قال: يا عبدي! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب! خفتك وخشيت ذنوبي، قال: يا ملائكتي أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة} رحمة الله واسعة، وفضله عظيم، لكن يوم يعرف العبد أن رحمة الله واسعة وفضله عظيم.(385/3)
أحوال الناس مع الذنوب
والناس قسمان -ولا يسلم من الذنب أحد-: منهم من يذنب ويتوب ويستغفر، يتوضأ، ويصلي الخمس، ويراجع حسابه مع الله، يبكي، ويندم، ويتصدق، ويتوب، ويأتي بنوافل، فيغفر الله ذنبه {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] ومنهم من يذنب ولكن يركب رأسه، ويغلبه هواه؛ فيتردى {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ولو رأيتهم يوم تركوا الصلوات الخمس، ووقعوا في المعاصي والفواحش، ووقعوا في المخدرات، وعقوا الوالدين، وقطعوا الأرحام، لرأيت أمراً عجيباً!
المنافق والفاجر يرى ذنوبه كأنها ذبابٌ، قال به هكذا فطار، والمؤمن يرى ذنوبه كأنها جبلٌ يريد أن يسقط عليه، مات قلب الفاجر من الإعراض والعصيان.
شبابٌ رأيناهم في بعض الأمكنة كالسجون، تركوا صلاة الفجر ثم وقعوا في المخدرات، قالوا: ما وقعنا في هذه السيئات إلا لما تركنا صلاة الفجر والصلوات الخمس.
وصف الله الصلاة بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، لكن متى تنهى الصلاة عن الفحشاء والمنكر؟ يوم تكون صلاة، لا تكون لعبة في أيدي بعض الناس، يقدم عمله، ووظيفته، ومسئوليته على صلاته، واهتمامه بعمله أعظم من اهتمامه بصلاته، يقدر المسئول -وهذا مطلوب- أعظم من ربِّ البشر، ويخاف من البشر أعظم من خوفه من ربِّ البشر، ويوقر، ويقدر، ويحترم البشر أعظم من تقديره وتوقيره واحترامه لربِّ البشر: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} [النساء:108].(385/4)
مفهوم الأمانة العام
يا مسلمون: يا أخيار! يا من جعلهم الله على ثغرة من ثغور الإسلام! يا من إذا صدقوا الله عز وجل جعل أعينهم من العيون المنيبة التي لا تمسها النار! {عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله} ويوم يصدق العبد أولاً مع الله ويحمل الأمانة، ولا أقصد بالأمانة أن تقف في دوريتك أو نوبتك فقط، بل الأمانة مع ذلك أن تكون أميناً مع الله، أميناً في صدقك وعبادتك مع الواحد الأحد؛ لأن الذي يكون مع الله فهو مع القيادة وولاة الأمر ومع الشعب أخ، والذي يقطع حبله مع الله فهو مع البشر أقطع وأظلم وأغشم، ولذلك قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72].(385/5)
أمانة حفظ الصلوات
وأول الأمانات: الصلوات الخمس، يوم تصليها في جماعة، يوم تصليها في خشوع، يوم تعيش الصلوات الخمس، حينها: يحجب الله عنك الفواحش والمنكرات، ويتوب عليك توبةً ظاهرةً وباطنة، ويتقبلك فيمن تقبل، ويهديك سواء السبيل، والله يقول: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] والمصطفى صلى الله عليه وسلم صح عنه أنه قال: {من صلَّى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله؛ فالله الله! لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه، ومن أدركه كبه على وجهه في النار}.
والصلوات الخمس حياة، وما ظلم من ظلم، ولا فجر من فجر، ولا وقع من وقع في المعاصي؛ إلا يوم أن ترك وأعرض عن الصلوات الخمس التي من تركها كفر.(385/6)
أمانة مراقبة الله في السر
وأمانة أخرى وهي: حفظ الغيب مع الله، تتستر في الحيطان ولا يراك إلا الواحد الديان، وتتستر بالجدران ولا يراك إلا الرحمن.
وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيانِ
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
إن من ينظر إلى أحوال بعض الناس يتعجب، أين المجتمع الذي عاشه عليه الصلاة والسلام؟! أين ذاك المجتمع الفاضل؟! المجتمع الذي ينام على القرآن، ويصحوا على القرآن، وتنتهي المساجد به! المجتمع الذي كان يمر عليه الصلاة والسلام عليه في الليل الدامس، فيسمع القراءة من بيوت الأنصار وهم يرددون كلام الله! المجتمع الذي يقول عنه عمر: [[توليت القضاء في عهد أبي بكر سنة كاملة ما أتاني خصمان]] المجتمع الذي تصدق منه رجلٌ بقطعة لحم إلى جاره وهم في مجاعة، فدارت هذه القطعة إلى أن رجعت على المتصدق الأول!، المجتمع الذي رضي الله عليه من السماء، كانت كلمتهم واحدة، وحبهم واحدٌ في الله! ولكن انظر إلى مجتمعاتنا.
إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا وفي كل يومٍ واعظ الموت يندبُ
ولله كم غادٍ حبيبٍ ورائحٍ نشيعه للقبر والدمع يسكب
ُ
إذا قيل: أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكلٌ في الكتاب مرتب
ُ
نعم في الساحة صحوة، وهنا مساجد، ومصلون، وطلبة علم، وأخيار، وزهاد، وعباد، لكن الخبث إذا كثر لابد أن نخشى على أنفسنا منه، في المجتمع ظهر الربا وظهر الزنا ولا ننكره، ونسأل الله أن يغفر لنا، وهناك غناء ماجن في الجلسات، وضياع للأوقات، أشاب مسلم يصلي الصلوات الخمس، ويسهر على البلوت، وعلى الورق إلى الساعة الثانية؟! أين القرآن؟ أين طاعة الواحد الديان؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
أنت دقائق وثواني، إذا مضى منك دقيقة والله لن تعود لك هذه الدقيقة ولو اجتمع من في الدنيا، أنت أيام، يومك هذا الذي ينصرم الآن إذا غربت شمسه فلن يعود إليك، واحتسب أنه قد ذهب من عمرك.
دقات قلب المرء قائلةً له إن الحياة دقائقٌ وثوانِ
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمرٌ ثانِ
الفجرة يقولون يوم القيامة: {يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} [الأنعام:31] والله يقول عنهم: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].(385/7)
علامة التوبة الصادقة
ومما ينبغي في التوبة أن يعرف أن الصادق في توبته: هو الذي يحفظ الواحد الأحد، ولكن حفظ الله معناه: أن تؤدي أوامر الله وأن تجتنب نواهيه، وأن تطيع الله ثم تطيع ولاة الأمر في طاعة الله لا في معصية الله عز وجل، ويوم تطيع الله تصدق في التوبة.
قيل لأحد الصالحين: ما علامة التوبة؟ قال: بكاء العين، ووجل القلب، وطاعة الجوارح.
وقيل لآخر: ما علامة التوبة؟ قال: أن ترغب فيما عند الله وتزهد فيما في الدنيا.
وقيل لثالث: ما هي التوبة؟ قال: أن تجعل في ذهنك أول ليلة من ليالي القبر.
وتذكر هذه الليلة يدفعنا إلى التوبة وإلى العودة إلى الله، ويوجد والحمد لله في الساحة عودة عظيمة إلى الله، وقد ذاق الناس طعم الكفر والإعراض والفجور، ثم ذاقوا طعم الإيمان فعادوا إلى الواحد الأحد.
والله يخرج من يشاء من الظلمات إلى النور، ويوم يصدق العبد مع الله عز وجل، ويوم يعود العبد صادقاً مع الواحد الأحد، ولكن المقصد مما يحرك التوبة أن نذكر أول ليلة من ليالي القبر، ومثل لنفسك ليلتين اثنتين: ليلة وأنت مع أطفالك وزوجتك وأهلك في بيتك، وأنت مرتاح الحال وسليم البال، وطيب الضمير، وفي ليلةٍ ثانية تنتقل إلى القبر، ثم تطرح وحيداً.
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم غلب الرجال فما أغنتهم القللُ
واستنزلوا بعد عزٍ من معاقلهم إلى مقابرهم يا بئس ما نزلوا
ولا يوسع القبر عليك إلا الإيمان والعمل الصالح، ولا ينوره أبداً إلا طاعة الواحد الأحد، وكما تعرفون جاء في الأحاديث الصحيحة: {القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرةٌ من حفر النار} سافر رجل -وقصته مشهورة وقد ذكرت في بعض الخطب- من أهل الرياض من الصالحين، وعنده زوجة صالحة تربت على القرآن والإيمان، سافرت معه، فأدى مناسك العمرة هو وزوجته، ويقول هو عن نفسه: لما خرجت أنا وزوجتي من البيت لأداء العمرة من الرياض ودعت أطفالها، وكأنها تودعهم الوداع الأخير، وكأن هاجساً هجس في خاطرها أنها لا تعود، وذهبت وأدت المناسك ولكن أولياء الله يحفظهم الله، وهذه ليالي وفراقات تحدث صباح مساء، ينتظر هذا الفراق صباح مساء، إن لم يأتك اليوم أتاك غداً، فلمَّا أدَّنا العمرة، وعادا من الطائف إلى الرياض، وقع لهما حادث في السيارة، ووقعت زوجته في الحادث، ونزل إليها من الباب الآخر فوجدها في سكرات الموت، وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة وهي تقول: عفا الله عنك من زوج، نلتقي في الجنة {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21] اعلم أنك لن تجتمع بأطفالك ولا بأهلك ولا بأحبابك إلا إذا عملت صالحاً، واعلم أن الوحشة والفراق العظيم يوم ألا تعمل صالحاً، ولا تنجو بنفسك من الخطايا والذنوب.
إخوتي في الله: أول ليلة من ليالي القبر جعلت كثيراً من أهل الإسلام يتوبون ويعودون، وجعلت أهل الغناء واللهو والعبث يعودون إلى الواحد الأحد، أحدهم يقول:
غيرت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون
القبر أول ليلةٍ بالله قل لي ما يكون
واعلم أن أمرك ليس في يدك، وأنك لا تدري ما الله فاعلٌ بك، والأيام ثلاثة: يومٌ مضى وانتهى، الله أعلم ما كتب فيه فعلمه عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى، نسيته أنت ولكن الله ما نسيه وهو أمامك بالمرصاد، وقالوا: {مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف:49] ويومٌ أنا وأنت نعيش فيه؛ فسدد وأصلح فيه، ويومٌ لم يأت وهو يوم غد فما عليك منه.
سهرت أعينٌ ونامت عيون في شئون تكون أو لا تكون
إن رباً كفاك ما كان في الأمس سيكفيك في غدٍ ما يكون
وأنبه على قضايا ينبغي أن يتاب منها، وكل خطيئة واجبٌ عليك أن تتوب منها وجوباً حتمياً {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].(385/8)
من علامة التوبة: حفظ الوقت
أول علامات التوبة: أن تحفظ وقتك.
الصحابة كما قلت: كانوا عباداً لله، ولكن تحولت عبادة الصحابة وسهرهم مع كتاب الله عز وجل وذكر الله، والبكاء، تحولت في هذا الزمن عند بعض شباب المسلمين إلى الجلوس في المقاهي اللاهية اللاغية، وفي السهرات الحمراء، والسيجارة، ومع الكأس، ومع المخدرات، والمعصية والعياذ بالله! أظلمت الدنيا من كثرة المعصية، وقست القلوب من الفاحشة، وانقطع القطر من السماء من ظلم بني آدم، وفي الصحيح أن الله عز وجل يقول: {يسبني ابن آدم ويشتمني وما ينبغي له ذلك، أما سبه إياي فيسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار كيف أشاء} يقول بعض العلماء في معناها: لا تنقموا على الدهر وانقموا من أنفسكم {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:79].
وإن من عقوبات هذه المعاصي والخطايا والذنوب: ما شاهده بعض الناس في قلوبهم يوم سلبت منها الطمأنينة والراحة، عاشوا كل شيء لكن ما وجدوا الإيمان، وملكوا كل شيء لكن ما وجدوا راحة الضمير والسعادة التي ينشدها الكافر اليوم، والتي يدخل الكفار في دين الله أفواجاً لما رأوا طعم السعادة، برفسورٌ في علم الهندسة، هندسة في تسيير الذرة، والضياء، والضوء، والأشعة، وفي الأخير ما وجد السعادة ولا الشهرة العالمية، فأصبح يقول: لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، وكثيرٌ منهم اليوم يقول: ظلمتمونا يا مسلمون! كان عندكم كنز الهداية والإيمان وما قدمتموه للبشرية، وقد قدمنا لكم ملاذ البشرية؛ هم قدموا لنا الميكرفون، والطائرة، والسيارة، والثلاجة، والبرادة، والمكيف، ولكن الإيمان الذي عندنا ما قدمناه، بل نحن نقول: إننا مفتقرون اليوم إلى الإيمان، ونعيش في بعد عنه.
كثيرٌ من البيوت اليوم ما قامت على منهج لا إله إلا الله، وتجد فيها غناء، وتبرج، وجهلٌ بالسنة، وتخلفٌ عن الصلاة، وأكل ربا، وغيبة، وشهادة الزور، فمتى تصدق؟! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].(385/9)
من علامات التوبة: العيش مع السنة
ومن علامة التوبة: أن تعيش مع السنة.
من هو قدوتك في الحياة؟ من هو أستاذك؟ من هو شيخك الذي يعلمك؟ من الذي بيده مفتاح الجنة؟ والله لا ندخل الجنة، لا أنا ولا أنت ولا أي رجل حتى نتبع سنته صلى الله عليه وسلم ونأتي من بابه بعد مبعثه، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة، يهوديٌ ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار} فهو قدوتك لا شرقي ولا غربي، ما دام أنه فعل هذا الفعل الصالح لك، والنصحية لك، والذي أنصح نفسي وإياك أن تفعله ولا تتأخر في تطبيقه {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
كان عليه الصلاة والسلام مصلياً، صائماً، صادقاً، عابداً، زاهداً، وفياً، محافظاً على الجماعة، كان متسنناً بخصال الفطرة، ملتحياً، يمقت إسبال الإزار، يدعو إلى الصدق وبر الوالدين وصلة الرحم، وكان يحرم الغناء، والربا، والزنا، والفحش، والجور، والرشوة، فبأي إنسانٍ نقتدي؟ ومن هو المعلم الذي ننجو إذا اتبعناه؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام، بأبي هو وأمي، وإذا لم تنصح نفسك باتباعه فاعلم أنك ترديت، قال بعض العلماء: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدىً غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.(385/10)
من علامات التوبة: العيش مع الإسلام
ومن علامات التوبة: أن تعيش في بيتك مسلماً، وفي سوقك، ودكانك وفي عملك، ألا تكون مسلماً فقط وقت الصلاة فإذا خرجت من المسجد خلعت مفهوم الصلاة، تقول: الصلاة الصلاة لكن أين مفهوم الصلاة؟ المحاكم تشكو من الرُّشا، والربا، والكذب، وشهادة الزور، المقاهي يأتي إليها مئات الشباب؛ الذين عقوا الوالدين، وقطعوا الرحم، وهجروا المسجد، وتركوا القرآن، وغنوا، وطبَّلوا، وزمَّروا، وأصبحوا كالبهائم، فأين مفهوم الصلاة عند هؤلاء؟!
يوجد من كبار السن من لا يعرف عن الإسلام شيئاً، ولكن مع ذلك المستقبل لهذا الدين، والصحوة مع الإسلام، ولصالح هذه الدعوة الخالدة التي أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام!(385/11)
من علامات التوبة: ذكر الله كثيراً
ومن علامات التوبة: أن تكون ذاكراً للواحد الأحد.
أهل الدنيا إذا اجتمعوا ذكروا دنياهم، وأولياء الله إذا اجتمعوا ذكروا الله {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
قيل لبعض من الزهاد: ما علامة التوبة؟ قال: حركة اللسان بذكر الواحد الديان، وإصغاء الأذنين لكلام الرحمن، وارتياح القلب لذكره ولعبادته أو كما قال.
فإذا لزم ذلك وعرفه فاعرف أن أحسن الساعات التي تقضيها في طاعة لله؛ أن يكون بيدك مصحف، أو شريط إسلامي تستمعه، أو كتابٌ تقرؤه، أو تذكر الله مع إخوانك، أو استغفارٌ وتوبة، أو تأملٌ في آيات الله، أو تربية في البيت، فوقت المؤمن محفوظ.(385/12)
كلمات موجهة إلى جنود الإسلام
ولي معكم أيها الجنود الأبرار! كلمات:
أولها: أبلغكم حبي لكم في الله الواحد الأحد، وما أنتم بغريبين عن الإسلام، بل أنتم أبناء خالد بن الوليد، وطارق بن زياد، وعقبة بن نافع، وصلاح الدين، ومن يشابه أبه فما ظلم.
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
جدكم خالد بن الوليد الجندي المسلم الذي عرف الله، كان جندياً لرب البشر قبل أن يكون جندياً للبشر، سلم قلبه لله، وكان عنده أكثر من مائة سيف ومائة فرس احتسب أجره واقتادها في سبيل الله؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: {إن خالداً سيف من سيوف الله، سله الله على المشركين} كان عند خالد بن الوليد مصحف قالوا عنه: كان غلافه من جلد الجمل، فكان يفتحه في الصباح فتنهمر دموع خالد على القرآن؛ لأن حياته ومدرسته القرآن، وأول ما يستهل في صباحه القرآن، ولذلك أي قلبٍ افتتح بالقرآن فأي قلبٍ يكون؟!
إن من يركب الطائرة اليوم، وينظر إلى الركاب يجد أكثرهم يتناولون الصُحف والمجلات، وقراءتها جائزة، ولا بد من قراءتها لمعرفة الواقع، لكن انظر إلى من يحمل مصحفه فيردد سورة، أو انظر إلى من يسبح، إن ذلك نادر الوقوع، فـ خالد بن الوليد عاش مع المصحف، ولذلك أعطاه الله ما تمنَّى، ونسأل الله له الفوز في الآخرة.
حضر أبو سليمان معركة مؤتة، قال عنه ابن كثير: كسر تسعة أسياف في يده.
حضر اليرموك فقال له أحد المسلمين لما رأى جيش الروم مائتين وثمانين ألفاً، وجيش المسلمين ما يقارب ثلاثين ألفاً: [[يا خالد! أرى أنَّا نفر اليوم إلى جبل سلمى أو إلى جبل آجا -في حايل - قال: لا والله! لا نفر إلى جبل سلمى ولا إلى جبل آجا ولكن إلى الله الملتجى، حسبنا الله ونعم الوكيل]] فنصره الله.
هذا الجندي الذي قدم معلماً من معالم الحق كان يسأل الرسول عليه الصلاة والسلام: ماذا أقول يا رسول الله! عند النوم؛ فإنه يصيبني أرق وقلق، فأخبره عليه الصلاة والسلام بدعاء فإذا هو طالب علم، وإذا هو قارئ للقرآن، وإذا هو زاهدٌ، وإذا هو متعبدٌ في الليل، وهو الشجاع المقدام في النهار؛ فهل يوجد أحد منا مثل خالد؟! وهل نعود لمدرسة خالد؟
وأما جدكم عقبة بن نافع الذي وقف على المحيط الأطلنطي ورفع سيفه وأشهر سلاحه وقال: [[أما والله لو أعلم أن وراءك أرضاً لخضتها بفرسي هذا لأرفع لا إله إلا الله]] وقد اكتشف فيما بعد أن وراء المحيط الأطلنطي قارات، ولو علم بها عقبة لفتحها بإذن الله وبكلمة الله.(385/13)
وصايا للجندي المسلم
إن مما يلزم الجندي المسلم أموراً وهي:(385/14)
مراقبة المولى سبحانه وتعالى
أولاً: تسمى عند اللواء الركن محمود شيث خطاب مراقبة المولى، أول شارة عليك وأول نجمة، وأول تاج تحمله مراقبة المولى.
اللواء الركن محمود شيث خطاب العراقي غفر الله له ورفع منزلته، كان متسيباً في أول حياته، كان ضائعاً يعيش في الضلال، فكان لا يعرف المسجد ولا القرآن، لا يعرف إلا الأكل والشرب، والغناء والطبل والزمر، لكنه ما عرف النور، وما عرف الهداية {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] بالإيمان {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ} [الأنعام:122] بالفهم {كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] كمن مثله في المعاصي؟! كان في الجيش العراقي ساكناً في ثكنة -يروي قصته بنفسه- فمر به أحد دعاة الإسلام، فوجده مع بعض القيادات العراقية في ثكنة وهم يشربون الخمر، قد غابوا عن رب البشر، فغابت قلوبهم عن الله؛ فعصوا الله، فقال له هذا الداعية: يا لواء محمود! إن عليكم رقيباً -يقصد الواحد الأحد الذي يعلم السر وأخفى، الذي سوف يحاسبك ويحاسبني يوم القيامة ويقول: يا فلان فعلت كذا يوم كذا وكذا في مكان كذا وكذا- قال هذا اللواء: لا يرانا إلا الكواكب، قال الداعية: وأين مكوكب الكواكب؟! قال: فلا زالت كلمته ترنُّ في ذهني حتى هداني الله عز وجل يوماً من الأيام، فارتفعت في قلبي شحنة الإيمان؛ فذهبت بعد أن اغتسلت إلى المسجد وتوضأت وانفجرت باكياً، ثم أصبح داعية وعالماً، وأصبح منظراً للعسكرية الإسلامية.
والشاهد أن أول لافتة للجندي مراقبة الواحد الأحد.(385/15)
حسن الخلق مع المسلمين
ثانياً: حسن الخلق مع المسلمين.
أنت تعرف أن الذي في الشارع من المواطنين أخوك، أو ابن عمك أو قريبك، أو مسلمٌ له عليك حق الرحمة، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {إن شر الرعاء الحطمة} ومعنى ذلك: الذي يعصف بالناس، ويظلمهم، ويغلظ عليهم في الخطاب، ففي الناس شيخٌ كبيرٌ قد شابت لحيته؛ له عليك أن توقره، وفي الناس طالب علمٍ يحمل كتاب الله، وفي الناس رجلٌ صالح زاهد، وفي الناس قائم الليل، وفي الناس مسكينٌ فقير، وفي الناس أصناف آخرون من عباد الله، فلا بد أن تكون رحيماً بهم.(385/16)
الدعوة
ثالثاً: أن تكون داعية.
أن تمثل الإسلام، وأن تتصل بالناس، أنت في بلادٍ أعلنت إسلامها وقدسيتها، وأعلنت فيها لا إله إلا الله محمداً رسول الله، علمها أخضر، ولكن عليه لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله، وأنت تعرف أنك لست في أوروبا ولا في الصين ولا في أمريكا، أنت هنا في مهبط الوحي، في مهد الرسالات، فعليك أن تكون داعية؛ داعية تدعو الناس إلى منهج الله، تنصح العاصي وتدعوه إلى طريق الجنة، تنصح صاحب الحبوب المخدرة، وصاحب المسكر، وصاحب الشريط الغنائي، والفيديو المهدم، وصاحب الجريمة، والمتعاون على الفاحشة، والذي يريد ألا يستمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إنما هو عدو للإسلام، وأنت داعية في منصبك هذا، قال عليه الصلاة والسلام: {بلغوا عني ولو آية} وقال: {من رأى منكم منكراًَ فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} إن ولاة الأمر يدعون في بلادنا إلى إقامة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجنودهم لا بد أن يمتثلوا لهذه الأوامر، ولا يخفى عليكم أن سر عظمتنا ونهضتنا ونصرنا بهذا الإيمان، ويوم نتخلَّى عنه نسحق ونصير شذر مذر.(385/17)
الحرص على نوافل العبادات
رابعاً: أن تحرص على النوافل ما أقدرك الله على ذلك.
فما يبقى لك في القبر إلا هذه النوافل، يقول عليه الصلاة والسلام وقد قال له أحد الصحابة: {يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة؟ قال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك يا رسول الله! قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} ويقول عليه الصلاة والسلام: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس}.
رأينا بعض الناس من أمثالكم الأخيار الأبرار وهم في القطاعات الإقليمية، كأنهم يعيشون في عصر الصحابة، أحدهم له وردٌ في المصحف (حزب) لا بد أن يقرأه في اليوم، وله تهليلات وتكبيرات، ويحافظ على السنن الرواتب، وقد تشرف بحمل سنة محمد صلى الله عليه وسلم في مظهره وشكله، فأحبته القلوب، ودعا له ولاة الأمر وأحبوه؛ لأن من أحبه الله أحبه الناس، وفي الصحيح: {إذا أحب الله عبداً قال لجبريل: إني أحب فلاناً، فيحبه جبريل، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يوضع له القبول في الأرض، وإذا أبغض الله عبداً قال لجبريل: إني أبغض فلاناً فيبغضه، ثم ينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه فيبغضونه، ثم يوضع له البغض في الأرض} والعياذ بالله! القبول من الواحد الأحد، والقلوب بيد الله، ويوم تعمر ما بينك وبين الله يعمر الله ما بينك وبين الناس:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضابُ
إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب ترابُ
والناس شهداء الله في أرضه، وأهل الحي أو القرية التي تسكن فيها يستشهدهم الله يوم العرض الأكبر عليك، ويسألهم عنك، وقد ورد في الصحيح {كان عليه الصلاة والسلام جالساً مع الصحابة، فمروا بجنازة من عنده، وإذا الناس يثنون على صاحب الجنازة خيراً -يصفونه بالمحافظة على الصلوات، ويصفونه ببر الوالدين، وبصلة الرحم، وبذكر الله، وبالصدق، وبالوفاء- قال عليه الصلاة والسلام: وجبت وجبت، ومروا برجلٍ شقيٍ -والعياذ بالله! - بعض الناس يتحمل الشقاء في الدنيا والآخرة، شقي في عمله، وفي مكتبه، وفي الشارع، والبيت، شقيٌ أينما ذهب، قال الناس: أراحنا الله منه، تارك الصلاة، عدو الدين، الفاجر، المعرض- فأثنوا عليه شراً فقال عليه الصلاة والسلام: وجبت وجبت وجبت، قالوا: يا رسول الله! ما قولك وجبت في الأولى ووجبت في الثانية؟ قال: أما الأول فأثنيتم عليه خيراً فقلت: وجبت له الجنة، وأما الثاني أثنيتم عليه شراً فقلت: وجبت له النار، أنتم شهداء الله في أرضه}.
فاحذر -يا أيها الأخ الكريم! - أن تنالك الألسنة، أو أن تشهد عليك يوم العرض الأكبر، {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] يستشهد الله أهل حيك؛ هل كان يصلي في المسجد؟ فيقولون: لا.
هل كان وفياً؟ فيقولون: لا.
هل كان صادقاً؟ لا.
فماذا نقول لله يوم القيامة؟! وبماذا نعتذر؟! أسأل الله لي ولكم الثبات.(385/18)
طلب العلوم الشرعية
خامساً: أن على المسلم أن يحرص على طلب العلم ولو على حد أدنى من العلم الشرعي مما تقوم به صلاته.
أنا لا أطلب من الجندي، أو الطبيب، أو المهندس، أو التاجر أن يكون علاَّمة في العلوم ومفتياً، لكن نطالب من جميع طبقات الناس أن يكون لهم حد أدنى من العلم؛ يفقه فيها عبادته، يعرف كيف يصلي، والرسول عليه الصلاة والسلام صح عنه أنه قال: {صلوا كما رأيتموني أصلي} وقال في الحج في الصحيح: {خذوا عني مناسككم} وطلب التفقه سهل، وبإمكان الإنسان أن يحصل عليه، فمنافذ المعرفة والحمد لله كثيرة، الكتيب الإسلامي مبذول وموجود بثمن بسيط يسعدك في الدنيا والآخرة، المصحف وذكر الله بجانبك، الشريط الإسلامي تسمع فيه ما لذ وطاب، طلبة العلم، المحاضرات، الدروس، حينها سوف ترى أن الله عز وجل يسددك ويهديك سواء السبيل، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.(385/19)
احترام ولاة الأمر وطاعتهم
سادساً: احترام ولاة الأمر والمسئولين في دائرتك ومن هم أعلم.
الإسلام دين نظام، يعلم الرجل كيف يحترم ربه ثم يحترم مسئوليه ويحترم نفسه، ويتحقق ذلك بالطاعة، صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصى الأمير فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله} والمعنى: أنه يلزم المسلم أن يطيع من ولاه الله أمره، أو كان مسئولاً عليه في طاعة الواحد الأحد إلا إذا أمرك بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق سبحانه وتعالى.
الطاعة: احترام، ومعناها: أن تؤدي عملك على أكمل وجه، وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند البيهقي وغيره أنه قال: {إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه} يجعلونك في الحراسة فأنت في الحراسة، في الدورية فأنت في الدورية، في المكتب فأنت في المكتب، في مهمة أو انتداب فأنت كذلك؛ لأن الله سوف يسألك يوم يجمع الأولين والآخرين.
وما تردت أوضاع المسلمين إلا يوم أصبحت هذه الطاعة أو الأمانة مفقودة، أو لم يراقب الله عز وجل، فلا بد من وعي لهذا الدرس، وإني أطالب كذلك المسئولين بالرحمة بمن تحتهم ومن دونهم، الرحمة في الأمر، وحسن التعامل، والشفقة، وتقدير حاجاتهم، وطوارئهم من مرض وتعبٍ وإعياء؛ علَّ الله أن يرحمهم، وفي حديث يحسنه بعض العلماء: {الناس عيالٌ لله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله} ومن رحم المسلمين رحمه الله، ومن شق عليهم شق الله عليه في الدنيا والآخرة.(385/20)
حب الإنسان لأخيه ما يحبه لنفسه
سابعاً: إن مما ينبغي علينا أن نتآلف في طاعة الله، وأن نتحاب، وأن نتآمر بالمعروف ونتناهى عن المنكر.
نعم في كل مكانٍ صالحون وطالحون، وفي كل مكان أبرار وفجار، فعلى البار أن يستنقذ أخاه، وأن يهديه، ويدله على طريق الهداية، يقول عليه الصلاة والسلام: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
هذه كلمة، وسوف يكون لنا معكم كلمات.
ولكني أعود فأقول: لنتب ونستغفر، ولنعد إلى الإيمان، ولننقذ أنفسنا من النار ومن العار، ولنعلم أنما هي حياة واحدة لا تتكرر، إما أن تجعلها لله وإلا فسوف تكون للشيطان.
واعلموا أن أعظم مكسب لكم في الحياة هو الإيمان والعمل الصالح، وأنكم لا تقدمون لأنفسكم مستقبلاً كمستقبل الإيمان؛ بع الدنيا، وشهرتها ومناصبها ورتبها وشهاداتها، فوالله إنها بلا إيمان هباء منثور، وإنها مع الإيمان إذا استغلت في طاعة الله نعم العون، لكن: اللهم لا تجعل نصيبنا مما عندك دنيا، ولا تجعل قسمنا إذا تقسم الناس الإيمان من الدنيا، اللهم ما زويت عنا من الدنيا ومناصبها وشهرتها ومالها فاجعله رضاً وطاعة، وحباً واستقامة، وهداية وسلوكاً.
أسأل الله أن ينفع بكم أنفسكم وبلادكم والعباد، وأن يجمعكم في دار الكرامة، وأن يثيبكم على ما تقدمون للأمة من جهد، وأن يحرس بكم العباد والبلاد، وأن يحرسكم بالإيمان، وصلَّى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(385/21)
عوائق في طريق الشباب
الشباب هم صمام أمان هذه الأمة، وهم مادتها وروحها، وقد علم الدين الإسلامي ما لمكانة الشباب، فعمل على تسهيل الصعاب الذي يواجهونه، وإزالة العوائق والعقبات من طريقهم.
وفي هذا المادة بيان لهذه المعوقات وكيفية إزالتها.(386/1)
مقدمة في فضل الجزيرة وأهلها
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أشكركم شكراً جزيلاً، وأشكر القائمين على هذا المعسكر، وأشكر القادة والأعضاء والحضور، وليس عندي هذه الليلة ذهب ولا فضة، ولا خيل ولا مال، ولكن عندي حب كالجبال في الله الواحد ذي الجلال، وعندي أشواق ونطق وكلام، وأنا الليلة أقول لكم كما قال أبو الطيب المتنبي:
لا خيل عندك تهديها ولا مال فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
واجز الكرام الألى أهدوا محبتهم حباً وبادلهم فالحب أمثال
وأشكر أبناء الجزيرة الذين اجتمعوا من كل مكان، من الشمال والجنوب من الشرق والوسط والغرب، أتوا هنا تحت مظلة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] أبناء الجزيرة لا تعصباً ولكن حقيقة، أبناء الجزيرة لا افتخاراً ولكن اعترافاً، أبناء الجزيرة لا تبجحاً ولكن امتثالاً، أبناء الجزيرة التي تحطم على صخرتها رءوس الملاحدة، وجماجم الزنادقة.
أنا الجزيرة في عيني عباقرة الفجر والفهم والتاريخ والصحف
أنا الجزيرة بيت الله قبلتها وفي ربا عرفات دهرنا يقف
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
هذه هي الجزيرة، ليست بالنخل ولا بالتراب، الجزيرة ليست بالماء ولا بالهواء، الجزيرة ليست بالجبال ولا بالسهول، الجزيرة بالرسالة الخالدة التي هبطت عليها، نزل جبريل من السماء فما وقع في أرض إلا في الجزيرة، وهبط الوحي نيراً من عند الواحد الأحد، من عند الرحمن، من عند الذي فوق العرش استوى، فخاطب الجزيرة، وأتى جبريل كالنجم إذا تلألأ: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4].
فخاطب الجزيرة، غار حراء في الجزيرة، والكعبة في الجزيرة، وزمزم في الجزيرة، ومحمد عليه الصلاة والسلام يرقد في الجزيرة، وكذلك السادة الأخيار أبو بكر، وعمر، وعثمان.
فيا أبناء سعد! ويا أبناء القعقاع! ويا أبناء المثنى! ماذا ينتظر العالم من الجزيرة؟ أينتظر منها البترول فقط؟ أو التمر فحسب؟ أو التراب أو المعادن؟ لا.
إنه ينتظر شيئاً أعظم وأغلى، وأجل وأسعد ينتظر لا إله إلا الله محمداً رسول الله، ينتظر الإيمان ينتظر أن نُسلم إليه حياة القلوب ينتظر أن نهدي إليه النور.
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
محمد إقبال شاعر الـ باكستان له قصيدة ينادي بها محمداً عليه الصلاة والسلام، ولكن للأسف! لم تترجم في قصيدة وإنما ترجمت نثراً، يقول في قصيدة له أخرى:
إن كان لي نغم الهنود ودنهم لكن ذاك الدن من عدنان
يقول: يا محمد! يا رسول الله! إن كنت أتكلم أنا بالأردو وبالهندية، لكن قلبي عربي عدناني فيه القرآن، إن كنت لا أجيد أن أتلفظ بألفاظك، فأنا أعيش مشاعرك وأفكارك، ودمي دمك، هذا معنى الكلام.
لكن في قصيدته الأخرى التي ترجمت إلى نثر يقول: يا رسول الله! أنا زرتك البارحة، ونظرت إلى أبناء الجزيرة الذين رفعوا معالم التوحيد في الأرض، فما وجدتهم، أين هم يا رسول الله؟
والمعنى: أين أحفاد طلحة والزبير وسعد.
حضر مع الرسول عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع مائة وأربعة عشر ألف مسلم، محرمين مهللين، مكبرين ساجدين، مات ثلاثة أرباعهم في أنحاء الكرة الأرضية، منهم من مات في قندهار، ومنهم في الهند، ومنهم في السند، ومنهم من توزعت بهم الفيافي يرفعون لا إله إلا الله.(386/2)
الصحوة عند الشباب المسلم
عنوان المحاضرة هي: معوقات في طريق الشباب، ونحن الآن في فترة يجب أن نقف مع الشباب ونحترم أفكارهم، ونقف معهم مربين ملياً، ونسعد بآرائهم في فترة أصبح رصيد الإسلام وقوته في الشباب، وأصبح زمان الإسلام وهيبته في الشباب، في فترة أصبح فيها الشباب الذين كانوا بالأمس عرضة وصرعى أمام الموسيقى الوالهة، والمجلة الخليعة، والأغنية الماجنة، أصبحوا الآن يرفعون لا إله إلا الله ويمتثلون تعاليم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
صحوة عارمة، شهد بها العدو قبل الصديق، لكن بعض المنافقين والمرتدين يهونون من شأن الصحوة، فمرة يصفونها بعصابة متطرفة، خرجت على الناس، أأتباع محمد عليه الصلاة والسلام ناشر العدل في العالم عصابة متطرفة؟! أأحفاده الذين حرروا الإنسان من الظلم والكهنوت والتبجح والجبروت عصابة متطرفة؟! الذين يملئون الحرم المكي والنبوي والمساجد، ويهللون ويصلون.
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وصرنا للعلا عجباً
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضباً
عافوا حياة الخنى والرجس واغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنباً
قلت في بعض المحاضرات والله الشاهد: لقد أتت رسائل من بعض الطلبة الذين سافروا من عدن وكانوا شيوعيين ماركسيين، عرب ماركسيون، عرب يخاصمون محمداً صلى الله عليه وسلم، عرب يحاربون العربي العبقري النبي الأمي، ومن الذي أذاق محمداً صلى الله عليه وسلم الغصص إلا العرب، طوقوه في بدر، وحاربوه في أحد، وحاصروه في المدينة في معركة الأحزاب في الحلف الابتداعي المنافق الوثني، يوم اجتمعت قوى الشيطان وقوى الشرك في حرب الرسول عليه الصلاة والسلام.
العرب الذين تخلى كثير منهم عن لا إله إلا الله محمد رسول الله، عرب صبرا وشاتيلا، عرب أيلول الأسود، عرب عراق البعث الذي احتل الكويت، يقول فيهم الشاعر: وحدويون، لأن البعث يقول: أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة، لكن بدون محمد عليه الصلاة والسلام، يقول: عرب بدون محمد، يعني عرب بـ ميشيل عفلق، وعرب بـ عبد الناصر وأمثالهم.
وحدويون والبلاد شظايا كل جزء من لحمها أجزاء
ماركسيون والجماهير جوعا فلماذا لا تشبع الفقراء
لو قرأنا التاريخ ما ضاعت القدس وضاعت من قبلها الحمراء
أيها الكرام! أتت رسائل من بعض الطلبة من عدن ذهبوا إلى أزبكستان جنوب الاتحاد السوفيتي يدرسون هناك، وكانوا ملحدين يوم ذهبوا، فلما وصلوا احتضنهم شباب الصحوة من تلكم الجمهوريات الإسلامية، جمهوريات البخاري صاحب الصحيح، والترمذي والنسائي، وسيبويه والكسائي، فاستقبلوهم ودلوهم على الإسلام فأعلنوا إسلامهم، وأرسلوا يطلبون مصاحف وأشرطة إسلامية من أزبكستان، والله لقد أتت رسائل من استراليا من بعض الشباب، وقالوا: لقد بلغتنا الأشرطة الإسلامية هناك، ونبشركم أننا نملأ المساجد، وأن المراكز أصبحت متجهة إلى الله الواحد الأحد، وأصبحنا ندعو الناس فيدخلون في دين الله زرافات ووحداناً.
صحوة بلغت المشارق والمغارب، ولا يهمنا أن يتكلم اليهود والنصارى علينا في الصحف، ويلطخون سمعتنا في المجلات، فإن هذا إن شاء الله من علامات القبول عنده، يقول سبحانه وتعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [آل عمران:186] ويقول سبحانه وتعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً} [آل عمران:111].
ويقول سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
رب من أنضجت حقداً قلبه قد تمنى لي موتاً لم يطع
ويراني كالشجى في حلقه جلجلاً في حلقه ما ينتزع
كيف تبغون سقوطي بعدما لمع السيف عليكم ووقع
هذه هي صحوة أجراها الواحد الأحد، لأن الله يريد أن يعيد الدنيا إليه: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [مريم:40] ولا بد أن ترسخ مبادئ محمد صلى الله عليه وسلم.(386/3)
معوقات في طريق شباب الصحوة
أيها الإخوة! أكثرنا الآن شباب، وأكثر من يركز عليه الآن الشباب، والذين يحضرون الجمع والجماعات هم الشباب، والذين تشرف بهم المحاضرات والندوات هم الشباب، لا استصغاراً لكبار السن، فهم آباؤنا وأشياخنا، وكبار السن فينا لهم الوقار لكن هذا الواقع.
كان قبل سنوات يبشر بالشاب الملتزم، الآن إذا جلس الخطيب ينتظر انتهاء المؤذن ليؤدي الخطبة وليندفع في الحديث، ينظر في المسجد فيرى الشباب ولا يرى من كبار السن في الثلاثة الصفوف أو الأربعة إلا واحداً، لكن في العشر الأواخر من رمضان يكتض الحرم المكي بمئات الآلآف من الشباب، والمحاضرات في كل القطاعات، كلها تنبئ أن هذا الشباب أصبح واعياً، وأنه عرف أنه لا طريق له ولا سعادة في الدنيا والآخرة إلا في اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام.
إما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
رضينا بك اللهم رباً وخالقا وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
ثم يكون إمامنا محمد صلى الله عليه وسلم وليس ميشيل عفلق، أو كارل ماركس، أو لينين أو استالين، ويكون إمامنا في الصلاة، وفي الحياة، وفي الأدب، وفي السلوك.
إذاً فما هي المعوقات التي تعوق دوننا ودون الهداية نحن معشر الشباب؟ وسوف أسردها ثم أفصل فيها:
الأول: ضعف الصلة بربهم تبارك وتعالى في بعض النواحي.
الثاني: شرك الخوف وضعف التوكل.
الثالث: عدم الاهتمام بالفقه في الدين.
الرابع: الهامشية في حياة الكثير من الشباب.
الخامس: تقريع النفس إلى درجة عدم الثقة بها.
السادس: قلة الصبر أمام المغريات.
السابع: تأثير الرفاهية العصرية في الجد والاجتهاد.
الثامن: روح الانهزام عند الكثير مع الإحباط واليأس.
التاسع: الإفراط في التفاؤل عند البعض، ومبناه على بعض الملابسات والمرئيات.
العاشر: تمزق الوقت بين الملهيات والتسويف.
الحادي عشر: عدم معرفة الشاب لمواهبه واستعداداته.
الثاني عشر: ضعف صلة الشباب بالدعاة والعلماء.
هذه المعوقات جمعتها من كلام كثير من أهل العلم والمربين والمفكرين.(386/4)
الأول: ضعف الصلة بالله سبحانه وتعالى
أيها الإخوة: أول معوق يعيشه شبابنا، وبالأخص شباب الصحوة: ضعف الصلة بربهم تبارك وتعالى، إن بين العبد وبين الله حبلاً لا ينقطع، وحبال البشر تتقطع دائماً، والعجيب {أن الصحابة رضوان الله عليهم سافروا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما أصبحوا في الطريق قالوا: يا رسول الله! أربنا قريب فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ -أي: نرفع أصواتنا- فأنزل الله عز وجل قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة:186]}.
بين العبد وبين الله أن يرفع يديه، فيسمعه الله ويستجيب دعوته، وهذه الصلة تكمن في صور شتى في العبادات، على الشباب أن يجعلوها نصب العين، فمن أعظم الصلة الصلاة، وسميت بالصلاة لأنها صلة بين العبد وبين ربه، قال أحد الصالحين: هنيئاً لك يا بن آدم: بينك وبين الله أن تتوضئ وتدخل عليه في بيته، ولذلك سمي المسجد بيته سبحانه لأن البيت ليس لأحد من الناس، وبيته هذا يجتمع فيه الملك والمملوك، والرئيس والمرءوس، والتاجر والفقير، فيستمعون كلهم لكلام رجل واحد، عليهم أن ينصتوا له وجوباً من الشرع.
ومن صور الاتصال: الدعاء، وهذا ما نفقده كثيراً، أن نرفع أكفنا دائماً إلى الله الواحد الأحد، فإن الله يرضى إذا سألته، ويغضب إذا تركت سؤاله.
الله يغضب إن تركت سؤاله وبُنيَّ ابن آدم حين يسأل يغضب
فالإنسان كلما سألته غضب، والله إذا ألححت عليه أكثرت من المسألة رضي عنك، فكان على الشباب وجوباً أن يكثروا من السؤال والانطراح بين يدي الله عز وجل، ومن أكثر من السؤال فلن يخيبه الله عز وجل {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف:55].
وهناك حديث: {لن يهلك مع الدعاء أحد} وعند الترمذي {أفضل العبادة انتظار الفرج} فحق علينا يا معاشر شباب الإسلام! أن نكثر الصلة بالله ونقويها.
ومن صور الصلة: الذكر، تسبيحه سبحانه وتعالى وتحميده، خاصة أمام الوسائل المغرية الهادمة الهادفة إلى تدمير الجيل المسلم الذي يهدد العالم، كما يذكر كثير منهم مثل الكهنوتي المستشرق القسيس زويمر في الغارة على العالم الإسلامي، يذكر أن المارد الجبار هو الإسلام، وأن الذي يهدد هذه الأرض هو الإسلام، لأنه كما قال سبحانه وتعالى: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] والإسلام يريد أن يرفع الإنسان ويهديه.
ومن صور الصلة: قراءة القرآن بتمعن وتدبر، وحق على قادة مثل هذه المعسكرات الكشفية والأساتذة الكرام، والدعاة المربين أن يرشدوا الجيل إلى كتاب الله عز وجل "إلى حفظه" إلى تدبر آياته، والعمل به، وليكن أعظم كتاب لديهم وأعظم كنز يحملونه.(386/5)
الثاني: شرك الخوف وضعف التوكل
قلت في كثير من المحاضرات وأقول الليلة: لا أعرف أحداً أمامي من الجلوس يعبد الشجر، أو يسجد للحجر، أو يتمسح بالجدران شركاً بالله عز وجل، لا.
الكل موحد، لكن الذي نخشاه أن بعض الناس ممن يصلي الصلوات الخمس، ويحج البيت، ويعتمر في رمضان، ويصلي التراويح، ويقرأ القرآن، يُخشى عليهم أن يكون عندهم شرك خوف، يخافون من البشر أعظم من خوفهم من رب البشر، وقد وجدناه في الأساتذة، ووجدناه في الطلاب، ووجدناه في الكبار والصغار، ولا نبرئ أنفسنا، وجدنا أن منهم قطاعاً هائلاً يخافون من البشر أعظم من خوفهم من رب البشر، فيتحسسون في الكلمات، ويتأكدون من العبارات، ويتثبتون في مواقفهم حتى لا يقعوا في إرباك مع البشر، بينما لا تجد هذا التثبت وهذا التأني وهذا الخوف مع الله فأين الخوف من الله؟
يذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله أن من نواقض لا إله إلا الله شرك الخوف، أن تخاف من غير الله أعظم من خوفك من الله، والله عز وجل يقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] ويقول الله سبحانه وتعالى: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] ويقول سبحانه وتعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36].
عجبت لشاعر نبطي يدعو إلى الله عز وجل، وقد أوذي لأنه يدعو إلى الله، أتظنون أن الداعية لا يؤذى إذا رأيت الداعية لا يؤذى، فاتهم دعوته وإيمانه، والأنبياء والرسل أعظم شاهد على ذلك.
يقول بعض العلماء: إن أهل العلم سلفاً وخلفاً يتهمون العالم إذا لم يؤذ، فهذا الداعية كان شاعراً نبطياً موحداً يدعو إلى الله عز وجل فأوذي، فيقول لدعاة الباطل: لم تكونوا أشجع مني -سوف أترجمها لكم ببيتين هو نظمها- يقول: لم تكونوا أشجع مني، أراكم شجعان على مبادئكم وهي ضالة.
البعض يقتل تحت الدبابات، وتفجر بهم المجنزرات وهم على البعث، يموتون إلى النار، وفروخ العلمنة يقدمون رءوسهم رخيصة من أجل العلمنة، والشيوعيون في أفغانستان يقتلون بعشرات الألوف لتبقى مبادئهم وهي ضالة، فأين شباب محمد عليه الصلاة والسلام، فيقول فيها:
أنا يا كرى مثلك يحب العلى شجعان يراهن براسه ما يخاف الشمالِيَّه
أنا بعت راسي من محمد ولد عدنان قبضت الثمن والله يشهد على النيه
هذه أبيات رهيبة جداً، يقول: أنا يا طاغوت! أشجع منك، تهددني بالموت لكي أقدم مبادئي ودعوتي وعقيدتي (أنا يا كرى مثلك يحب العلى) كلنا يحب العلى، وكلنا يريد المجد، والله سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
يقول: إن كنتم تألمون من الجراح وضرب السيوف والطلقات النارية والقذائف والصواريخ، فهم يألمون مثلكم، لكن أنتم ترجون جنة وهم لا يرجون شيئاً، ولذلك النابغة الجعدي أحد الشعراء وقد وفد على الرسول عليه الصلاة والسلام يقول:
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
بلغنا السما مجداً وجوداً وسؤدداً وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا
قيل: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: {لا فض فوك}.
أيها الإخوة! لماذا لا نتوكل على الله؟ لماذا لا ننزع الخوف من البشر؟ لماذا لا نقدم دعوتنا للناس؟ لماذا لا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ثم نعتمد على الله؟ هل علمتم أقوى من الله؟ يقول سبحانه: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36] وكل من غير الله دونه، ويقول سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:175 - 174].
شاب أتى من بعض المستشفيات قال: رأيت كثيراً من النساء عاريات وشبه عاريات، يعني بملابس مغضبة لله مع الاختلاط، فقلت: لماذا لم تنه عن المنكر والله عز وجل يقول على لسان لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان:17]؟ قال: أخاف، قلت: فلماذا تقول في الصباح: رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً؟ ولماذا تقول: لا إله إلا الله؟
إنسان يرى مجلات خليعة تباع بالعشرات، هادمة هابطة، المجلة الواحدة تستطيع أن تدمر شعباً كاملاً، فلماذا لا تنهى عن المنكر بالتي هي أحسن، وتنصح صاحب المحل، ويأتي غيرك من الشباب ينصحونه، وغيركم يتحدث حتى تصبح ظاهرة، وتصبح مسألة تدار في المجتمع؟
وآخر قال: رأيت مضيفة وقد جرحت مشاعر المسلمين بهيكلها وتصنعها وتثنيها، قلت: ولماذا لا تنهى وتأمر؟ قال: أخاف، هذا واقع كثير من الشباب، وهي من نقاط الضعف ومن المعوقات عن تحمل العبء والرسالة الخالدة التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم.(386/6)
الثالث: عدم الاهتمام بالفقه في الدين
كثير من شباب الصحوة يحب الله ورسوله والدار الآخرة، وكثير منهم عنده تصور مجمل لعموميات الإسلام، لكن الأحكام الشرعية، الفقه في الدين، طلب العلم الشرعي، ليس عند الكثير منهم.
قد يحضرون المحاضرات العامة، لكن أن يأتي إلى العالم فيقرأ عليه كتاباً، أو يبحث مسائل في الشرع، أو يحفظ الأحاديث بتخريجها، أو يعرف المسألة بدليلها، فلا ترى ذلك إلا عند القليل منهم، وهذا نقص، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين}.
يا شباب الإسلام! يا رواد الصحوة! يا حملة المبادئ! لابد أن نقبل على العلم الشرعي، والتفقه في الدين إقبالاً تاماً، لا أعلم مدينة من المدن الشهيرة في البلاد إلا وفيها علماء يدرسون، وفيها طلبة علم ودعاة عندهم دروس وحلقات، وإذا لم تستطع فأقبل على الكتب واقرأ، ومشكلتنا -صراحة التي هي عيب علينا أمام العالم- عدم الرغبة في القراءة.
يقول موشي ديان في كتابه السيف هو الحكم وقد ترجم هذا الكتاب، يقول فيه: العرب أمة لا تقرأ، يقصد العدو الهالك أنه في فترة من الفترات، تصوروا أن إسرائيل عن طريق الخطأ نشرت أسراراً عن أسلحتها النووية في المنطقة، وأعداد الجيش والقوات، ولم يعلم العرب بذلك، فكان يضحك وهو في واشنطن ويقول: العرب قوم لا يقرءون.
وهذا تسري حتى على شباب الصحوة، فأقل الناس قراءة هم العرب، وأقل أهل الأديان قراءة هم المسلمون، ثم أقل أهل المناطق قراءة هم أهل هذه المناطق وهذه البلاد أقولها صراحة.
إنك لتفاجأ حين تركب في حافلة أو في طائرة وتجد كثيراً من الأوروبيين والأمريكان وهم يقرءون في كتبهم، وتجد هذا المسلم وهو يتلفت في الأشباح والصور والملامح ويعدد الذاهب والآيب، وهذا أمر ملحوظ لا ينكره أحد.
إذاً مسئولية مَنْ ألا نقرأ؟! مسئولية من ألا نتعلم؟! مسئولية من أن يمر بك يوم واحد وأنت لم تعرف آية، أو تتدبر حديثاً أو تخرج مسألة، أو تحقق معلومة، أو تقرأ مجموعة من المعلومات؟! حتى إني أعلم أن كثيراً من الشباب الآن سوف ينامون بعد أربع ساعات أو خمس، وإذا سألت أحدهم عن سجله اليومي من يوم أن أشرقت عليه الشمس فلن تجده استفاد معلومة.
أي: أن حياته مكانها، تعود على أشياء؛ تعود على تدريب رياضي مثلاً، وزيارة زملائه، والخروج في النزهة، والصلوات الخمس، لكن أن يجدد في حياته فهذا أمر ليس عند الكثير، فهو هو أمس، وهو هو اليوم، قال بعض التابعين: [[يوم لا أزداد فيه خيراً فلا غربت شمس ذلك اليوم]].
وقال بعضهم: إني لا يحق لي أن أنام إلا بزيادة في علمي، كان أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي عالم الدنيا، من العلماء الجهابذة الكبار، كان يجعل أوراقاً من الأوراق البيض عند رأسه فإذا أتى ينام كتب ما يقارب خمسة وعشرين صفحة، قالوا: ما لك؟ قال: لا أنام حتى يضمني النوم ولا أضمه، ونعرف أن من الشباب من يبقى يتحرى النوم ساعتين وهو يتقلب على فراشه، وهاتان الساعتان ألف فيهما شيخ الإسلام ابن تيمية رسالة التدمرية التي قرأها الشباب في أولى أصول الدين في سنة كاملة، ولم ينجح منهم إلا الثلث، لأنها تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم.(386/7)
الرابع: الهامشية في حياة الكثير من الشباب
أنا أعرف أن كثيراً من الشباب يرى أنه خارج الخارطة، وأن الناس لا ينظرون إليه، وأن المهمة ملقاة على غيره، إن تحدثت له مثلاً: لماذا لا تعد نفسك لأن تكون مفتياً في المنطقة؟ قال: القضاة كفونا ذلك.
لماذا لا تكون وتبني نفسك لتكون خطيباً ينفع الله بك أمة محمد عليه الصلاة والسلام؟
قال: الخطباء متوفرون والحمد لله.
ولماذا لا تكون داعية؟ قال: الدعاة متواجدون.
ولماذا لا تكون عالماً؟ قال: العلماء الحمد لله امتلأت بهم البلاد.
فأين أنت؟
ما هو دورك في الحياة؟
ما هو مقامك في هذا الكرة؟
وماذا تقول لله غداً إذا سألك؟
{بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15].
لا معاذير في الإسلام، أن يأتي الإنسان يوم العرض الأكبر ويقول: أنا يا رب! أعفيتني من الخطابة والعلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومن تربية الأمة، ومن هداية الجيل، ومن توجيهات الشباب، لا والله لا يعفى، الهامشيون الآن عددهم كثير، حتى إن عملهم سلبي، صحيح أن عندهم عواطف، لكن لا يدري كيف يفرغها، يعني أنه مجروح من واقع الأمة، ومجروح من واقع المجتمع، لكن أن تطلب منه عملاً بناءً ينفع به أمته، وجيله، ومستقبله، فلن يفعل ذلك!.
مثلاً أنا أعرف أن الله لم يخلق الناس كلهم خطباء، ولا شعراء، ولا دعاة، ولا علماء، ولا أطباء، ولا مهندسين، ولا طيارين، ولا تجاراً، ولا فلاحين، ولا جنوداً، لكن قد علم كل أناس مشربهم، جعل الله لكل رجل منهم استعداداً ولكن لماذا أيها الشباب! ترضى لنفسك أن تكون هامشياً في الحياة؟
الله رزقك وخلقك لمهمة، واستودعك رسالة، ثم تعيش في هامش الأحداث ولا تشارك بدعوة، أو بنصيحة، أو بتأثير في مجتمعك، لماذا تفعل هذا؟!(386/8)
الخامس: تقريع النفس إلى درجة عدم الثقة بها
كثير من الشباب اهتدى بعد سنوات من المعصية، وكلنا خطاء وخير الخطائين التوابون، والله لم يعصم أحداً من الخطأ إلا الرسل عليهم الصلاة والسلام، والله سبحانه وتعالى فتح باب التوبة، والذي يأتي من البشر كائناً من كان من الكيانات أو من السلطات ليقول لأي أحد من الناس: أنت لا تستطيع أن تتوب، وأنت محروم من مغفرة الله ورضوانه، هذا مجرم كاذب أثيم لا يحق له ذلك، فمن الذي يغلق الباب بينك وبين الله؟ ومن الذي يقطع الحبل بينك وبين الله؟ ومن الذي يستطيع ألا يرفع كلماتك إلى الله الواحد الأحد وهو يقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر:10] ويقول: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف:21] ويقول: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135]؟!
وفي القصة الصحيحة أن رجلاً من بني إسرائيل قتل تسعة وتسعين نفساً، فأهدر دماءهم مع أنه لا يحق له ذلك لأنها معصومة، وذهب وسيفه يقطر دماً إلى عابد يترهب في صومعة فقال: ألي توبة؟ قال: ليس لك توبة، فضرب رأسه فقتله، فذهب إلى عالم آخر وقال: ألي توبة؟ قال: ومن يمنعك من التوبة؟ باب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، فتاب الله عليه، وأدخله الجنة، بعد قصة طويلة.
والمقصود أن كثيراً من الشباب قد اهتدوا، فلما اهتدوا تذكروا ماضيهم، فإذا قلت لأحدهم: عليك أن تكون داعية قال: أبعد هذا الماضي وهذه الصحائف السوداء أكون داعية؟ أنا مثلي يتكلم! ويكون خطيباً! فمن الشباب من يقول: هل مثلي يستطيع أن يقف على المنبر ليتكلم للناس، فلا يزال يقرع نفسه، ويهجوها ويسبها حتى يحبط فلا يقدم شيئاً.
بل إن كثيراً من الشباب إذا قلت لأحدهم: أنا أحبك في الله، قال: والله لو تعلم ما عندي ما أحببتني في الله، ولمَ يا أخي؟!
وتجد بعضهم عندما تقول له: يا أخي! لو ذهبت إلى القرى والبوادي تنصحهم وتدعوهم إلى الله؟ قال: أنا! مثلي يذهب إلى البوادي، أنا لا أستطيع أن أتكلم، أنا تاريخي أعرفه.
وبعضهم يقول بصراحة: أنا أظن أن الله لا يغفر لي.
وهؤلاء قد أصيبوا بالوسوسة، فهو يعد الخطايا وإلا ولو كانت كالجبال وتاب فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة}.
ومع ذلك تجد أن حالة الإحباط كثيرة عند الشباب.
من ذلك: أنه عندما ندخل في السجون على كثير ممن وقع في المخدرات من الشباب، قد نجد أن بعضهم قد اهتدوا وحفظوا القرآن، وأصبحوا على السنة، والبعض منهم لا زال مصاباً بحالة الإحباط، فتأتي تجلس معه لكي تقنعه فتقول: تب إلى الله، فيقول: مثلي لا يقبل الله توبته.
قلت له: استغفر الله.
قال: لا.
إن الله يقبل توبة الإنسان الذي يعصي قليلاً أما إن كانت مثل الجبال فلا يغفرها الله.
قلنا: أنت تفتي نفسك بهذا، أيحق لك في الإسلام أن تقول هذا؟! هذا حرام.
يذكر أن رجلاً من بني إسرائيل رأى فاسقاً يمر به، فقال: تب إلى الله؟ قال الفاسق: اتركني وربي، أي: أنا أصطلح مع الله، وهذا ليس بمنطق، لكن هكذا وقعت القصة.
فقال له مرة ثانية: تب إلى الله.
قال: اتركني وربي.
قال: والله لا يغفر الله لك.
فقال الله: من ذا الذي يتألى عليّ؟ أي: من الذي يملك أن يحلف عليّ ويقسم عليّ؟ قد أحبطت عملك وغفرت لذلك، والقصة ثابتة عند أهل العلم.
وقرأت أن عيسى عليه السلام مر برجل فاسق، أي معرض عن الله عز وجل، فقال له: تعال معي إلى بيت المقدس، فأخذه بيده -وهذه في ترجمة عيسى عليه السلام- فلما اقترب من بيت المقدس السليب الذي أخذ منا عنوة وعلى رغم أنوفنا يوم ضاعت منا معالم لا إله إلا الله محمد رسول الله، بيت المقدس الذي يقول فيه أحمد شوقي:
مررت بالمسجد المحزون أسأله هل في المصلى أو المحراب مروان
فلا الأذان أذان في منائره من حيث يتلى ولا الآذان آذان
وصل إلى بيت المقدس فقال الفاسق لعيسى: اتركني، فسحب عيسى عليه السلام يده، قال: ما لك؟ قال: أخشى أن أدنس بيت المقدس بمعاصيَّ، فأوحى الله إلى عيسى أن أخبر ذاك أني قد تبت عليه، وعزتي وجلالي لكلمته أنفع له عندي من عبادة سبعين سنة.
نعم.
لنا أن نعترف بالخطايا والذنوب لكن ليس إلى درجة أن نحبط
من الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
قيل للإمام أحمد: أيبقى العبد حتى يكمل ثم يدعو إلى الله؟ قال: من يكمل؟! وكثير من الشباب يقول: أنا لن أدعو إلى الله، ولن أخطب في مسجد أو ألقي كلمة، ولن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، ولن أصلح بيتي، ولن أؤثر في جيراني حتى أكمل، فمتى تكمل؟ حتى تصبح نبياً! ليس بعد الرسول محمد نبي، ونحن من بعض {كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} لكن الرجاء منكم يا شباب الإسلام! أن يبلغ كل طاقته، وأن يصلح من نفسه، وإذا أذنب أن يستغفر، لكن ذنبه هذا لا يمنعه من الدعوة إلى الله، ومن التأثير في الناس، ولا يصل إلى درجة القنوط من رحمة الله {إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].(386/9)
السادس: قلة الصبر أمام المغريات
ومن المعوقات أيضاً: قلة الصبر أمام المغريات، فنحن أمام جبهات كثيرة محاربة للإسلام لا يعلمها إلا الله، قارن الآن بين شابين اثنين! شاب يعيش في عصر الصحابة، وشاب يعيش في القرن الخامس عشر الذي نعيش نحن فيه.
شاب يسكن مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام، جيرانه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبو هريرة وحسان بن ثابت وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل، خطيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وإمامه في الصلاة محمد صلى الله عليه وسلم، جبريل يتنزل بالوحي صباح مساء، الأمة كلها في مجملها وفي مجموعها تحب الله ورسوله والدار الآخرة، فليس هناك مغريات ولا شهوات ولا نزوات، وبين شاب آخر يعيش الآن في انقطاع من الوحي، وبعد من السلف الصالح، وجيرانه من كل حدب وصوب، ويواجه في المجتمع وفي المجالس من يستهزئ بالدين صراحة، ويسخر به، ويغمز عينه عليه، ويلمزه في وجهه وفي قفاه، ويمر وأمامه المجلة الكالحة العارية والصورة الخليعة والفيديو المهدم، والأغنية الماجنة، والضياع، وجلساء السوء، والشرق يرمي عليه بحلف وارسو الإلحادي الوثني، يرمي عليه بالحداثة وبالزندقة وبالإلحاد، والغرب يرمي عليه بالكأس والمرأة، فكيف ينجو؟
هذا صراع رهيب، فأمام ذلك كله ليس للعبد وخاصة الشاب إلا الصبر، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فيعلم أن النصر مع الصبر، وهذا الصبر يكمن في مثل غض البصر، ومقاطعة جلسات السوء، كيف تحكم على شاب أنه يريد الهداية وهو إلى الثانية ليلاً في المقهى يلعب البلوت، متى كنا أمة بلوت؟!
يوم ضيعنا القدس وضيعنا أفغانستان وأسبانيا والأندلس.
متى كانت مهمتنا في الحياة أن نسهر على هذا اللعب، ويسهر جيلنا على هذا الضياع؟!
من الذي سمح لنا وقد كلفنا الله أن نرفع دينه في الأرض، أن نفعل هذه الأفاعيل؟ كان شباب محمد صلى الله عليه وسلم في الليل عباداً، وعند لقائهم لعدوهم من أشجع الأبطال، كما قال الشاعر:
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
{إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً} [الكهف:13] قال المفسرون: لم يزدهم الله الهدى حتى آمنوا بالله، وقال غيره في قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69] قال: بدءوا بالهداية فهداهم الله سبله.(386/10)
السابع: تأثير الرفاهية العصرية في الجد والاجتهاد
يظن بعض الناس أنه كلما كثرت النعم، كلما كانت الأمة أصلب، وهذا بالعكس، فكلما كثرت النعم كلما كانت الأمة أكثر ترفهاً وفتوراً وكسلاً.
فتح الشباب من صحابة محمد صلى الله عليه وسلم ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، وأحدهم لا يملك إلا ثوباً واحداً.
دخل ربعي بن عامر برمح مثلم على كسرى ورستم، وهزه وهز عروشهم بهذا الرمح المثلم.
دخل الصحابة إيوان كسرى، والواحد منهم لا يشبع من خبز الشعير، قُتلوا في قندهار وهم جوعى ثلاثة أيام، فماذا نفعتنا رفاهيتنا وقصورنا، وسياراتنا وحدائقنا، وبساتيننا وأكلاتنا؟ المطعومات والملبوسات والمفروشات!!
حتى إن علماء التربية يقولون: إن أكثر ما يُوجد الترهل في الروح المعنوية للشخص كائناً من كان -بغض النظر عن المسلم أو عن غيره- هي فيما يعيشه من رغد العيش.
تولى أحد ملوك الأندلس الملك وكان متقشفاً، وكان له جيش عرمرم طوق به الأندلس كلها، فلما مات تولى ابنه بعده، فكان يسكن مع الغناء صباح مساء، برنامجه اليومي الأغاني والموسيقى والضياع، فعنده الدفافين والمطبلين والمزمرين ومن يحيون -يميتون- الليالي السود، ولا يعرف من الدنيا إلا هذا، وفي الأخير أتى ملك الفرنجة فاجتاح الأندلس، وقيد هذا الملك الشاب وخلعه وربطه في السجن، فأتت أمه تزوره، فبكى عند باب السجن فقالت:
ابك مثل النساء ملكاً مضاعاً لم تحافظ عليه مثل الرجال
وكذلك كل من يريد أن يكون له دور في الحياة فلا تكن طموحاته محدودة، مثل أن يصل إلى زوجة وفلة وسيارة ووظيفة ثم ينتهي، لا.
طموحاتنا أعلى، وأنا أحبذ أن تقرءوا رسالة في مقدمة قصص من التاريخ للأستاذ الأديب: علي الطنطاوي، فقد أجاد كل الإجادة، في تلك المقالة التي يقول فيها: نحن مسلمون فما هي مهمتنا في الحياة؟
لماذا بعثنا الله للناس؟
لماذا أخرجنا من الظلمات إلى النور؟
الصحابي الواحد يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! تمنعني دخول الجنة، والله لأدخلن الجنة؛ لأني أحب الله ورسوله ولا أفر يوم الزحف}.
ويأتي جعفر الطيار من الحبشة بعد هجرة سبع سنوات، كان في أثيوبيا في شدة الحرارة والجوع والفقر والمشقة، فيصل إلى المدينة، فهل يجازيه الرسول صلى الله عليه وسلم على هجرته في الله أن يعطيه فلة، أو يعطيه جائزة سخية مالية، أو يُوكل إليه منصباً؟ لا.
أرسله ليدفق دمه، ويدفع روحه في مؤتة في سبيل الله، فقطعت يده اليمنى، فأخذ الراية باليسرى، فقطعت اليسرى فضم الراية بصدره فتكسرت الرماح في صدره وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
عليّ إن لاقيتها ضرابها
فقتل رضي الله عنه.
قال صلى الله عليه وسلم بعد لحظات من مقتله: {والذي نفسي بيده لقد رأيت جعفر بن أبي طالب يطير في الجنة بجناحين أبدله الله مكان يديه، يطير من قصر إلى قصر ومن شجرة إلى شجرة}.
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
اجلس برفق عليك التاج مرتفقاً بتاج غمدان حالاً بعده حالا(386/11)
الثامن: روح الانهزام عند الكثير مع الإحباط واليأس
تجد كثيراً من الشباب عندهم يأس من المجتمع، غسلوا أكفهم من مشاركة الناس، تقول لأحدهم: لماذا لا تدعو جيرانك؟
قال: لا خير فيهم، لقد جربتهم ويأستُ منهم، تقول له: لماذا لا تؤثر في الناس وتدعو؟
قال: لا.
اتركهم، ولا تشغل نفسك بهم، هؤلاء ختم الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم.
وتجد بعضهم إذا ألقى موعظة، ولم يستجب له؛ قام يتشنج، ويفحش في القول ويسب، وقد يستخدم الألفاظ السلطانية، كأن يقول: دمركم الله، سلط الله عليكم كذا، وغير ذلك من هذه الألفاظ، وهذه ليست في قاموس محمد عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم عنده بسمة، وكلمة لينة، وحب للقلوب، حتى يقول له سبحانه وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول له سبحانه وتعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
تجد شباباً يأتيك يقول: ما رأيك في أسرتي، لقد هداني الله عز وجل -حوالي قبل شهر- فأريد هداية بيتي، ولقد دعوت بيتي ليلاً ونهاراً وسراً وإعلاناً في مدة شهر، وقد يأست منهم تماماً؟
قلنا له: شهر لا يكفي، الرسول صلى الله عليه وسلم بقي عشر سنوات يعلم الناس كلمة في مكة، وبقي بعد ذلك ثلاث عشرة سنة، ونوح بقي يدعو قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، فعليك أن تصبر.
قال: لا.
أنا عرفت أنهم لو أراد الله بهم الخير لهداهم، أنا أريد أن أتركهم تماماً، فهذا من الإحباط واليأس.
ومن الصور الموجودة عند الشباب -أيضاً- أنه يعيش نظرة سوداوية للمجتمع، فتجده لا يرى الخير أبداً، يقول إيليا أبو ماضي الشاعر اللبناني النصراني:
أيها الشاكي وما بك داء كيف تغدو إذا غدوت عليلا
أترى الشوك في الورود وتعمى أن ترى فوقها الندى إكليلا
والذي روحه بغير جمال لا يرى في الوجود شيئاً جميلا
فتجد بعض الناس لا ينظر إلى هذا المجتمع الذي أمامه إلا بنظرة سوداوية، كأن يأتيك إذا حدثته عن جانب الصلاح في الناس والصحوة والعودة إلى الله، قال: لا.
أنت لا تدري، لا تعرف الخمارات والمخدرات والمجلات الخليعات؟ لا.
هذا مجتمع محطم وليس بصحيح، وأظن أن الله سوف يزلزل الأرض علينا أو يطبق السماء علينا.
تجد تلك النظرة؛ لأنه نظر بعين واحدة، وما نظر بالعين الأخرى، وسوف يقابله جيل آخر، أفرطوا كثيراً في التفاؤل، وسوف يأتي بيان ذلك.
فالرجاء عدم الإحباط واليأس من روح الله، والذي يظن أنه سوف يصلح العالم كله لا يستطيع، الرسول صلى الله عليه وسلم ليس من مهماته أن يصلح العالم، كان يصلي في المسجد والمنافقون أمامه، وقد تعرض لإحدى عشرة محاولة اغتيال في حياته ونجا منها صلى الله عليه وسلم لأن الله قال له: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] والله سبحانه وتعالى يقول له: {وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} [النمل:81] ويقول سبحانه وتعالى: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:103] وقال له: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:22] يقول: أنت لا تملك هراوة، ولا كرباجاً، ولا خيزراناً تغصب الناس للهداية، ومن الناس من يقادون إلى الجنة بالسلاسل.
فقضية أن يتصور الشاب أنه لا بد أن الحارة كلها تكون ملتزمة ومستقيمة ومهتدية ليس بصحيح، هذا خلاف سنة الله في الأرض، يقول أحد العلماء: والله لو أقام صالح في رأس جبل لقيض الله له من يعاديه في رأس الجبل.
قال ابن الوردي:
ليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس الجبل
فالأضداد موجودة: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] سنة المدافعة، وقال سبحانه: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31]
إن العرانين تلقاها محسدة ولا ترى للئام الناس حسادا
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وقبحاً إنه لدميم(386/12)
التاسع: الإفراط في التفاؤل عند البعض
كثير من الشباب يبنون آراءهم وأحكامهم على مسائل منها: أن بعض الناس يخالط وسطاً ملتزماً، يعني: بيتاً ملتزماً وإخواناً ملتزمين، والكلية التي يدرس فيها فيها التزام، فإذا تحدثت له عن الفساد اندفع يحدثك بقوله: الناس كلهم ملتزمون، ومتجهون إلى الله، والناس ليس فيهم عاصٍ، والناس أقبلت والحمد لله ألوف مؤلفة، ونسي النظر بالعين الأخرى، فهذا عكس الأول، نسي أن هناك نقصاً في المجتمع، وأن من علامات النقص -مثلاً- المحاضرات، صحيح يحضرها إلى عشرة آلف بل أكثر، في المدن خاصة، لكن المباراة قد يحضرها أكثر من ستين ألفاً، فما معنى هذا؟
هل معنى ذلك أن المباراة أنفع للأمة، وأنفع للإسلام من المحاضرات؟ أم أن أولئك الستين يريدون الأجر من حضورهم إلى المدرجات، ويريدون المثوبة من الله سبحانه وتعالى؟! أم يحتسبون خطاهم؟! لا.
من سنن الله عز وجل أن يكون الكثير هكذا: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] ماحالهم.
عمر رضي الله عنه نزل إلى السوق فسمع بدوياً أعرابياً يقول: اللهم اجعلني من عبادك القليل، فلهزه عمر بالدرة، وقد كانت درته في يده دائماً يؤدب بها، ويخرج بها الشياطين من الرءوس، فقال: مه؟ أي: ما هذا الدعاء؟ عمر رجل عبقري، جعله الله من هذه الأمة، حتى يقول حافظ إبراهيم:
قل للملوك تنحو عن مناصبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
يقول: إن عمر يأخذ هذه الدنيا في ساعة ويسلمها في ساعة، أخذ ملك كسرى وقيصر في ساعة، وسلم ذخائرها وكنوزها للفقراء في ساعة، برده فيه أربعة عشر رقعة يخطب به الجمعة، وأمعاؤه تقرقر وتصيح من الجوع، فيقول: [[قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
محمود غنيم شاعر وادي النيل يقول لـ عمر يحيه:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
من نحن لولا الله ثم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ كانت أنوفنا في التراب، ادعوا نجوم الفن ليرفعوا رءوسنا أمام العالم! من الذي فتح لنا أسبانيا، أو شمال أفريقيا، أو طاشقند وتركستان؟ ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، حتى كان يحكم هارون الرشيد وينظر من شرفات القصر ويتحدى السحابة، ويقول: أمطري حيث شئتِ فإن خراجك سوف يأتيني.
فالمقصود أن عمر قال: ما هذا الدعاء؟
قال الأعرابي: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] فقلت: اللهم اجعلني من القليل.
قال: كل الناس أفقه منك يا عمر.
فلا يتصور متصور أن الناس كلهم سوف يقبلون على الهداية، فإن من سنن الله عز وجل الكونية أنه هدى من شاء وأضل من شاء، وفي كل مكان تجد وقت النداء من يستمع الأغنية ومن يذهب إلى المسجد، من يجلس في المقهى ومن يجلس في المحاضرة، من يحب القرآن ومن يحب المجلة، من يرغب في السواك ومن يرغب في السيجارة، إنها سنة كونية: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} [النور:35].(386/13)
تمزق الوقت بين الملهيات والتسويف
وما قتلنا إلا التسويف وكلمة (سوف) قالوا: من زرع (سوف) أنبتت له نبتة اسمها (لعل) لها ثمر اسمه (ليت) طعمه الخيبة والندامة، ولذلك إذا رأيت شاباً يقول: سوف سوف، فاغسل يديك منه، واعرف أنه سوف لن يراوح مكانه.
أعرف شاباً من خمس سنوات كلما قلت له: أما حفظت القرآن؟ قال: سوف أحفظه إن شاء الله، فهذا يموت وهو لم يحفظه بعد، وتقوم الحرب العالمية الثالثة وما حفظ القرآن، لأنه يقول: ما أحفظ القرآن أنا مشغول بالدراسة، فإذا أتت العطلة الصيفية، قال: العطلة الصيفية نزهة وراحة للقلوب، وساعة وساعة، وإن لقلبك عليك حقاً، فتنتهي العطلة وتأتي عطلة الربيع قال: هذه لـ مكة وللعمرة، تنتهي العطلة، وتأتي الدراسة قبل الامتحانات قال: لا، هذه للمراجعة والاستعداد العلمي، وقس على ذلك البرامج التي يعيشها الشباب، كالهداية، كالتحصيل العلمي، كقراءة كتاب، كتأليف رسالة، يعني كإنجاز ما ينفع المسلمين.
يقول بعض التابعين لما حضرته سكرات الموت، وقد ذكره ابن المبارك في كتاب الزهد: أنذرتكم سوف، لا تقولوا سوف، والله عز وجل ندد بأعدائه في القرآن قال: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3] قال بعض المفسرين: لأنهم كانوا يستخدمون (سوف) سوف أفعل، سوف أحفظ، سوف أطالع، سوف أهتدي.
والوقت اليوم رخيص عند المسلمين، فتمر الساعات الطوال على الشباب خاصة، ومن الملتزمين وأهل الصحوة كثير منهم لا يحسب للوقت حساباً، فقد تفاجأ بشاب يزورك، وغرضه سهل يقضى في خمس دقائق، فتجلس معه، وتريده يحدثك بالموضوع، فيخبرك عن أهله، وعن الأمطار في بلده، وعن أخباره، وعن مرتبه، ومتى يتزوج، وتتحرى متى ينتهي؟ ومتى يعطيك هذا السؤال الذي يريده؟ فيعطيكه في آخر المطاف بعد صلاة المغرب وهو عندك من صلاة العصر، وهناك ظاهرة الزيارة في الله، يزورك بعد العصر في الله، وبعد المغرب في الله، وبعد العشاء في الله، ويأكل غداءك في الله، ويأكل عشاءك في الله، وينام عندك في الله، وإذا عانقك كسر ظهرك في الله، وهذه درجة الحب في الله، لا بد أن تسير سيراً شرعياً، ليس استهزاء، والله إنه شرف لمثلي وأمثالي أن يعانق شاباً من شباب الصحوة، وأن يسلم عليه ويستقبله ويزوره ويزورنا لكن الترشيد مطلوب.
يذكر سيد قطب في كتابه الظلال في تفسير سورة النور عند آيات الزيارة: ولماذا لا يتصل أحدنا بأخيه بالهاتف، قبل أن يزوره؟
أحياناً قد يأتي يزورك في الحادية عشرة ليلاً، أهذا وقت زيارة! ويبقى عندك ساعة، أين أنت في العصر والمغرب؟! والله قد ذكر ثلاثة أوقات لا يزار فيها: من قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشَاءِ.
ومن آدب الزيارة أيضاً: أن يكون عندك جدول عمل، الغربيون هؤلاء -صراحة-: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] يجب أن نكون عدولاً: عندهم جداول عمل للزيارات، لأن الوقت محسوب، والساعات تمضي.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثان
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ} {لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع؛ ومنها: وعن عمره فيما أفناه} فقضية أن تأتيني -مثلاً- وليس عندك مسائل ولا قضايا تطرحها ليس بصحيح فمن أين أبحث لك عن مسائل وقضايا أشغل فيها معك الوقت.
أيها الإخوة: الوقت ممزق عند كثير من الشباب، ممزق تماماً، الآن لنسأل أنفسنا في آخر العطلة الصيفية ماذا كسبنا منها؟ كان هناك مشروع مقترح في أول العطلة، ذكرته في درس من الدروس، هل استثمر؟ وأعرف أن هناك 80% سوف تنتهي العطلة الصيفية ولم ينتج أحدهم لا المشروع هذا ولا غيره.
أهل الدنيا يخططون لدنياهم مشاريع خماسية وثلاثية ورباعية، على انتهاء، لكن أهل المبادئ والرسالة، وأهل المهمات العالية، لماذا لا يفعلون هذا؟ هذا أمر مطروح.(386/14)
عدم معرفة الشباب لمواهبه واستعداداته
إنك قد تجد كثيراً من الإخوة لا يعلم ما هي موهبته، وما هو المجال الذي يصلح فيه.
يدعو كثير من علماء النفس إلى أن تدرس نفسك، وتعرف ما هي نفسك هذه، وما هو الشيء الذي يمكن أن تصلح فيه؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر في الحديث الصحيح: {كل ميسر لما خلق له} والله يقول: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة:148] ويقول سبحانه وتعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].
الله يريد منك أن تكون طبيباً مسلماً، أو مهندساً مسلماً، أو عالماً مسلماً، أو جندياً مسلماً، أنت لا تستطيع من نفسك أن تتحول إلى غير ما أراده الله، فالأحسن لك أن توجه هذه الطاقة التي منحك الله إياها وتكرسها، وتدرسها وتستفيد منها، وتنفع بها الإسلام.
أيها الإخوة: تجد بعض الإخوة يريد أن يكون خطيباً بالقوة، والله سبحانه وتعالى ما كتب له أن يكون خطيباً، كتب له مثلاً أن يكون آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، منفقاً في سبيل الله، إدارياً ناجحاً، موظفاً مخلصاً، تاجراً صادقاً، لكنه يريد أن يكون خطيباً، فمواهبه لا تهيئه للخطابة، ولم يدرس نفسه، فيحرج ويفقد معلوماته في هذا الباب، ويفقد استعداده ومكانته.
أيضاً: لا نريد من الطبيب أن يكون مفتياً، فالمفتون وأهل الفتيا كثير، لكننا نريد أن يكون داعية بطبه إلى الله الواحد الأحد، حاملاً رسالته، مؤثراً فيمن يأتيه ويتعالج عنده، ولا نريد من المهندس -أيضاً- أن يكون خطيباً أو واعظاً، فللوعظ أناس.
لكن الذي ينقصنا أن كثيراً منا لا يعرف ماذا يريد أن يقدم للناس، حتى يأتيك أحد الشباب ويقول: ما هو العمل الذي أصلح له؟
فأقول: اعرف بنفسك، لا يبلغ الشاب الثانية أو الواحدة والعشرين فما بعد إلا وهو يعرف استعداده، وبعد فترة يميز الإنسان طريقه، ويعرف توجهه، ويقولون: من أدمن على شيء من العمل الصالح أوتي حكمته، فيفتح الله على الناس في أمورهم وأشغالهم حِكَماً عظيمة.
وتجد بعض الناس يظن أن قضايا الإسلام هي قضيته، مثلاً: بعض الإخوة مشغول بعقود الأنكحة، أي: مهمته أن يعقد الأنكحة، فإذا جلس معك في المجلس يحدثك دائماً عن عقود الأنكحة ومشكلة العنوسة والمهور والزواج والشباب، ويقول: لو صلحت هذه المشكلة لصلح أمر المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، ويظن أن هذه هي القضية.
خطيب المسجد يحدثك عن دور الخطبة، ويقول: لو وجهنا هذه الخطبة؛ لأصلح الله المليار مسلم في مشارق الأرض ومغاربها، لكنا ما عرفنا كيف نوجه هذه الخطبة!
والمقصود أن على الشاب أن يقرأ ماذا يمكن أن ينفع به الإسلام، وأنا والله لا أعلم شاباً متزناً في عقله إلا وهو يستطيع أن يقدم شيئاً لدين محمد صلى الله عليه وسلم، وإذا لم يستطع الإنسان أن يكون داعية بنفسه فعلى الأقل أن يكون وسيلة إلى الدعوة إلى الله عز وجل، كأن يكون له اشتراك مع إخوانه وزملائه فيدفع الشريط الإسلامي، ويدخله بيوت الناس، والمدارس، والسيارات، {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} ويكون داعية في بيته، ويكون داعية في سلوكه وأخلاقه، ينفع المنكوبين، ويقف مع المصابين، ويفيد المساكين، فكل هذه من المشاركة.(386/15)
ضعف صلة الشباب بالدعاة والعلماء
أنا لا أقول إنه يوجد انقطاع لكن الصلة ضعيفة، فأن يأتي الشباب إلى الدعاة والعلماء فيبثوا إليهم أحزانهم وأشجانهم ومشاكلهم؛ هذا شيء يفرح به أهل العلم وأهل الدعوة، ولا أعلم عالماً ولا داعية يتضجر من ذلك، وإن تضجر فهو لظرف خاص مر به، أو لعدم الزيارة المناسبة، أو لأمر ما، فأنا أقدم العذر عني وعن إخواني من طلبة العلم والدعاة، إن وجد تضجر من الشباب، أو تذمر أو سأم، أو تبرم منهم، وهذا إن شاء الله لا يحدث إن حدث إلا نادراً.
ولكن والله إن من السعادة الجليلة التي نشكر الله عليها أن نجد شاباً يطرح مشكلة أو سؤالاً، أو يريد أن توجهه توجيهاً علمياً، أو يريد أن تدله على الطريق المستقيم، أو تحل له إشكالات يعيش فيها، أو تنقذه من أزمة لأمور:
منها: أن الله عز وجل سوف يكتب لك أجراً عظيماً بهذا الفعل {والله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه}.
ومنها: أنك سوف تكسب أخاً لك.
ومنها: أنك سوف توجه هذه الطاقة المعطلة لنفع الإسلام والمسلمين.
أيها الإخوة: من المشاهد أن شباباً ملتزمين في بعض الأحيان لا أعرف أسماءهم -وهل الداعية يستطيع أن يدخل كل بيت ويقول: ما اسمك؟ لماذا ما رأيتك؟ لماذا لا تسأل؟ ولماذا لا تحضر لتستفيد من الدرس والمحاضرة؟ وفي الأخير تفاجأ به وإذا هو يسكن قريباً منك في الحي، وأنت لا تعرف اسمه- فبعض هؤلاء الشباب لم يسبق له أن جلس عند عالم أو اتصل بعالم أو داعية بل هو يركب أموره من نفسه، ويستشير نفسه، ويخطئ أكثر مما يصيب.
وهناك بعض التصرفات الغير مسئولة، لماذا لا يستشار فيها الدعاة؟ شباب يلتزم وعمره الخامسة عشرة والسادسة عشرة، فيأتي بالتزامه بالجبروت، ويستدل بأدلة من القرآن، وأنا أعرف شاباً لما التزم دخل إلى آلة في البيت فكسرها، وأتى أبوه -إي والله- في المسجد وأبوه كبير في السن وشكى لي المشكلة، فقلت له: لو سمحت أن ترسله أو تأتي به معك، فلما أتى به قلت له: لماذا تفعل هذا؟ قال: لأن الله يقول في إبراهيم: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات:93].
وتلك أصنام وهذه أصنام، والواجب أن نغير هذه الأصنام مثلما غير إبراهيم تلك الأصنام، قلنا أولاً: إبراهيم نبي معصوم، وأنت لست معصوماً.
والأمر الثاني: أن إبراهيم يعمل بوحي من الله عز وجل وأنت لا تعمل بوحي وإنما برأيك.
والأمر الثالث: أن إبراهيم دعا ثلاثين سنة أو أربعين سنة وفي الأخير رأى أن الحل المناسب هو هذا، ثم إن إبراهيم كان يشكل كياناً، وعنده قدرة على ذلك، ويرى أن المصلحة في هذا بعد ثلاثين أو أربعين سنة.
أما أنت فأخطأت في أمور:
الأول: أنك نفرت أهل البيت.
الثاني: أنك أسأت في هذا الموقف.
الثالث: أن ثمرة دعوتك لا تحصل بهذا الأسلوب.
الرابع: أنك سوف تلحق بشباب الصحوة هذا الخطأ، وسوف يلحقوننا به جميعاً، لأنه إذا تصرف شاب قالوا: انظروا إلى هؤلاء الشباب المتطرفين، انظروا إلى الأصوليين، ماذا يفعلون، والسكاكين جاهزة مع الألسنة الحداد الشداد؟
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان علي ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
يأتيك شاب يقول: أنا هجرت فلاناً في الله، ولماذا؟ قال: لأنه ترك صلاة الجماعة، تقول: هل نصحته؟ قال: لا.
ما نصحته، ولكن والله لا أسلم عليه ولا أزوره، ولا يدخل بيتي ولا أراه! فهل هذا هو الأسلوب المناسب، وهل إذا استخدمنا هذا الأسلوب سوف ننجح؟ وهل فعله محمد صلى الله عليه وسلم؟
محمد صلى الله عليه وسلم زار الكفار في بيوتهم، وزار المنافقين في منازلهم، ودخل مع اليهود، ودخل مع النصارى، الداعية كالطبيب يدخل على المرضى في غرفهم، لا يدخل المرضى عليه في غرفته.
فالرجاء من الإخوة أن يستشيروا الدعاة وطلبة العلم، أي: ما عليك كلفة أن ترفع السماعة وتستشير داعية، قد يكون أكبر منك سناً أو صاحب تجربة، ومن هو أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة، والحياة تجارب، ومن عاش في الحياة يرى الأعاجيب، والعجيب أن الإنسان عندما يتأمل قبل سنة وهو الآن في مجال الدعوة، قد يتطرق إلى مقولة قالها يجب أن تصحح، والذي لا يستفيد من جدوله، ولا من حياته غشوم ظلوم أو فيه غفلة، بل اليوم تفتش سجلك بالأمس، وتنظر هل من المناسب أنك قلت تلك الكلمة وتلك المحاضرة وأشرت بذاك الرأي، فتجد أحياناً أنه من الخطأ، فالمطلوب مراجعة العلماء وطلبة العلم والدعاة والانضمام معهم، والالتفاف حولهم؛ في الاستشارة وأخذ الرأي وإسداء النصح، ولا أعلم إن شاء الله داعية أو عالماً سوف يكون غشاشاً لك، والله لا أعلم داعية ممن يدعو إلى الله أو عالماً يريد أن يغش المسلمين، أو لا ينصح لهم، أو لا يريد راحتهم، أو يريد سوءاً بالبلاد، أو يريد زعزعة في استقرار الناس وفي سكينتهم، لا أعلم ذلك، وأن من ظن بالدعاة وبالعلماء ذلك الظن فقد ظن بالله ظن السوء، وظن بأوليائه ظن السوء، فعليهم دائرة السوء: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].
بل نرى النصح، وعلم الله لقد رأيت كثيراً كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، إنه كالشمس وهو في الثانية والثمانين سنة، وهو عالم المسلمين في الكرة الأرضية، وهو شيخ الإسلام والممثل والنموذج الحي لـ أهل السنة والجماعة، تجده يقف مع الشباب الذين في المتوسط والثانوية في الشمس، ويسمع لأفكارهم وقصصهم وأخبارهم ومشاكلهم ويحلها برحابة صدر ويدعوهم إلى الغداء والعشاء في بيته، وكذلك الدعاة على منهج سماحة الشيخ، لا أعلم داعية ينفر من الشباب، أو يعترض عليهم، أو يبكتهم، أو يطردهم من بيته، لا أعلم ذلك.
أسال الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وأكرر شكري وتبجيلي وثنائي العاطر لمن قام على هذا المعسكر الحي النموذجي، الذي إن دل على شيء؛ فإنما يدل على أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أمة تستطيع أن تجدد من أساليب الدعوة، وأن عندنا الكثير من البدائل الإيمانية التي نحتضن بها الشباب، فليست حياتنا في أن نوجد بدائل لمن يتزلج على الثلج، أو يسافر إلى الخارج ليفسق هناك، أو يضيع أو يجلس في المقاهي بلا منهج تربوي، عندنا من البدائل كالمعسكرات والمخيمات والمراكز، وجماعة تحفيظ القرآن الخيرية، والمحاضرات والندوات ما نحتضن به الشباب، ونحييهم ونرحب بهم، ونعطيهم من أفكار نخبة من الأساتذة المربين المثقفين، المؤيدين بحفظ الله عز وجل، الذين يدلونهم على منهج الله.
أنا سعيد جداً سعادة لا يعلمها إلا الله لأني حضرت هنا عند إخواني وزملائي كي نتشارك في الرأي، ونقدم المشورة والنصيحة وأسعد بإخواني، فهم أبناء عمومة وإخوان وأقارب، ولو لم يكونوا كذلك فبيني وبينهم قرب ونسب أتى به محمد عليه الصلاة والسلام: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
وفي أثناء الدراسة أذكر أني شاركت مع بعض الإخوة في سبع مخيمات تربوية كبرى، يستمر بعضها أسبوعاً وبعضها أسبوعين، والله لا أعرف مخيماً انصرفنا منه إلا ونحن نبكي على بعض، وكان الوداع عندنا مشهداً مؤثراً، كنا نتوادع في الصباح، فكان يصفنا المشرفون، ثم نقف طابوراً طويلاً وصفاً طويلاً فنبدأ في الوداع، والله ما ينتهي الوداع إلا والبكاء خوار.
فارق إذا فارقت غير مذمم وأمم ومن يممت خير ميمم
وما منزل اللذات عندي بمنزل إذا لم أبجل عنده وأكرّم
رحلت فكم باك بأجفان شاجن عليّ وكم باك بأجفان ضيغم
رمى واتقى رميي ومن دون ما اتقى هوى كاسراً كفي وقوسي وأسهمي
أو كما قال ابن زيدون في مثل هذه اللقاءات إذا فارق الحبيب حبيبه، شاب ترك أسرته من الشمال وأتى إلى الجنوب ليلقى إخواناً يدفعون مهجهم وراحتهم وأموالهم ترحاباً به، فيفارقهم ولسان حاله يقول:
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
ويقول:
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(386/16)
الأسئلة(386/17)
ظاهرة الاغترار بحضارة الغرب
السؤال
إن من المشاكل التي تبعد الشباب عن الطريق المستقيم هي انبهار الكثير منهم بحضارة الغرب ومادياته، فكيف الطريق إلى تصحيح هذه المفاهيم؟
الجواب
أولاً: قبل أن أجيب على هذا السؤال وصلتني رسالة من أحد الإخوة الحضور يعلن حبه لي في الله، وأنا أقول: أحبك الله الذي أحببتنا فيه، وأشهد الله أني أحب الحضور جميعاً في الله عز وجل، وأني أتمنى لكل مسلم على وجه الأرض الجنة، فعسى الله أن يجمعني بكم في دار الكرامة.
يقول ابن عباس: [[جليسي الذي ترك الناس وأتى يجلس معي، والله لو استطعت أن أمنع الذباب أن ينزل عليه أو يهبط عليه لفعلت]].
هل أسعد من أن يكرمك الإنسان ويحضر لك، وأن يستمع كلامك، وأن يحترمك، إنه من الحق عليّ والواجب أن أحترم من أمامي، وأن أحضر المادة، وأن أعرض الأفكار بأدب، وأن أحاول ألا أجرح المشاعر، لأنه ما حضر هؤلاء إلا إكراماً فأكرمهم الله، أما ما ذكره الأخ السائل أن هناك من ينبهر بحضارة الغرب ومادياته فأقول: هذا لم يعد ظاهرة، صحيح أنه كان عندنا هذا قبل عشرين سنة، أما الآن فيوجد في بعض كبار السن ممن عاشوا جيل الجفوة لا جيل الصحوة، من ينبهر، وتجد بعضهم يحدثك دائماً في المجلس عن الغرب وعن حضارته، وعن تقدمه وثقافته، وعن التكنولوجيا هناك، ويسهب كأنه يحدثك عن أبي بكر وعمر.
أما الآن مع هذه الطليعة الممتازة المتفوقة من الشباب، فقد أصبح ذاك متلاشٍ (80%) مررت أنا وبعض الإخوة على إحدى عشرة ولاية في الولايات المتحدة الأمريكية ونزلنا في بعضها ثلاثة أيام وبعضها أربعة أيام فوجدنا (80%) من الشباب المسلم هناك ملتزم (80%) أقولها وأنا مسئول عن هذه الكلمة، كان هناك جماعة وأناس أعرفهم من قبل من هنا، لا يصلون في المسجد، أصبحوا هناك أئمة مساجد وخطباء.
تخصصات دنيوية، أصبح أهلها دعاة إلى الله عز وجل، فأين الانبهار بالثقافة؟ إنه عندهم يرى مصنع الطائرة ومصنع الصاروخ ومصنع الثلاجة والبرادة, ومصنع المكرفون، وهو مع ذلك ملتح يحفظ القرآن، وتجده يخرج من المركز الإسلامي في دلسو في تكساس في لوس أنجلوس، ويقول: الله أكبر الله أكبر، فأي انبهار؟! يقفون بالمرصاد للناس، لدعوتهم إلى الله عز وجل، وللمناهج وإلى ردهم إلى الله، أركب مع أناس من الأطباء من البلاد يدرسون هناك ومهندسين، قال: ما يغرك هؤلاء أي الأمريكان والله لقد تحقق فيهم قول الله {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110].
كنت أظن أنها عاطفة وحمية دينية فقط، لكن هو الحق، سافر سيد قطب إلى هناك وألف كتاب: أمريكا التي رأيت ووصف من العجائب ما لا يعلمه إلا الله، فأين الانبهار؟!
أما في شباب الصحوة فلا أرى انبهاراً، فإن أكثر التفوق الآن والعودة في أهل التخصصات الدنيوية، من كليات الطب، والهندسة، وهم أكثر استقامة في بعض الأحيان من كلية الشريعة وأصول الدين؛ لأنهم رأوا الجاهلية بأنفسهم وعاشوا المناهج الأرضية، وانحرقت أوراق الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وأصبح الإسلام الآن هو البديل الصحيح أمام هؤلاء.(386/18)
وسائل تعين على التوبة
السؤال
أنا شاب ملتزم وأحب قراءة القرآن وأريد أن أتوب ولكن لا أستطيع ماذا أفعل؟
الجواب
تستطيع إذا تذكرت أموراً:
أولاً: أن أجلك في يد الواحد الأحد، لا تدري متى تموت! وقد رأينا من سوّف وأخر التوبة، وفوجئنا به وهو ينقل إلى غرفة الإنعاش وقد فارق الحياة، ورأينا من أصبح معنا ولكنه لم يمس.
ثانياً: تستطيع أن تتوب إذا تذكرت أن القبر يحفر لك بعد فترة، وترد إلى الله كما قال سبحانه وتعالى: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
ثالثاً: تستطيع أن تتوب إذا تذكرت أنك ستجرد من الثياب والمناصب والوظائف ومن الناس: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:94].
رابعاً: تستطيع أن تتوب إذا تذكرت أن الله أعد ناراً تلظى لمن خالف منهجه، ولمن ضل عن الطريق المستقيم الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.
خامساً: تستطيع أن تتوب إذا تذكرت أن الجنة عرضها السموات والأرض أعدها الله لأوليائه.
سادساً: تستطيع أن تتوب إذا علمت أن الله يناديك في كل ليلة، ويبسط يديه بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها.(386/19)
قصيدة أمريكا التي رأيت
السؤال
نريد من الشيخ عائض أن يسمعنا شيئاً من شعره وخاصة القصيدة التي تكلم فيها عن أمريكا؟
الجواب
هذه القصيدة تكررت كثيراً حتى مللت منها، أظن والله أني كررتها في المحاضرات والندوات أكثر من ستين مرة، حتى الإنسان مل من نفسه، لكن إذا طلب منك إنسان محترم طلباً فإن عليك أن تلبي طلبه، وأنا أعرف أن الكثير قد مل منها أو مجته أذنه، لأنهم يقولون: النفس مولعة بمعاداة المعادات، أي: تعادي المكررات، وقال الشعبي: لحمل الصخور من الجبال أخف عليّ من إعادة أحاديث الرجال، لكن ماذا نفعل؟ {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88] أما الجدية فلا أذكرها لأنها طويلة واسمها أمريكا التي رأيت والهزلية فيها بعض الدعابات وهي أرجوزة فمنها:
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي وليُّ
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاًباكرا مشاركاً لحفلكم وشاكرا
وحَمَلَتْنَا في السما طياره تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديكِ
على ذكر الطيارة أحد الطلبة كان عنده بعض التخلف في مزاجه في فصل من الفصول، وكان الأستاذ دائماً يقول له: أنت تسأل في وادٍ ونحن نشرح في وادٍ، أرجوك لا تسأل، قال: خيراً يا أستاذ! وبدأ الشرح.
ولما انتصف في المحاضرة، رفع الطالب يده، قال الأستاذ: خيراً إن شاء الله، قال: هل للطيارة بوري؟ وهو سؤال وجيه، نسأل الله أن ينفعه بالعلم النافع.
يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا
وهذه أخبار هذه النشرة مسافة السير ثلاث عشرة
من الرياض عفشنا ربطنا وفي نيويورك ضحىً هبطنا
أنزلنا في سرعة وحطنا وقد قصدنا بعدها واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سيارة مستقبلين جهة السفارة
منزلنا في القصر أعني ريديسون يا كم لقينا من قبيح وحسن
وقد وصلنا إلى مباني الكونجرس ولم نجد مستقبلاً ولا حرس
فيها ملايينٌ حوت من الكتب في كل فن إنه هو العجب
في بلد أفكاره منكوسة تثقله بصائر مطموسة
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعة وما أعدوا لقيام الساعة
ومعنا في صحبنا العجلان أكرم به مع العلا جذلان
وصالح المنصور من بريدة يشبه سعداً وأبا عبيدة
ومعنا عبد العزيز الغامدي ابن عزيز صاحب المحامد
والشهم عبد القادر بن طاشي ذو القلم السيال في انتعاش
فهو أبونا في مقام الترجمة لأننا صرنا صخوراً معجمة
ثم هبطنا في مطار دنفرا جلودنا في البرد صارت كالفرى
إلى آخرها والله أعلم.(386/20)
كيفية التخلص من الرياء
السؤال
كيف يتخلص الإنسان من الشرك الخفي؟
الجواب
الشرك الخفي هو الرياء، ويتخلص منه بثلاثة أمور:
الأول: أن تعرف أنه لا يحاسب ولا يعاقب ولا يثيب ولا يعطي إلا الواحد الأحد، وأن الناس لا يملكون ضراً ولا نفعاً، ولا يقدمون ولا يؤخرون، ولا يملكون لك شيئاً إذا لم يرد الله لك الخير.
الثاني: أن تعرف أن الناس لن يحاسبوك يوم العرض الأكبر، ولا يحاسبك إلا الواحد الأحد.
الثالث: أن تدعو بالدعاء الذي علمه صلى الله عليه وسلم أبا بكر: {اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم}.(386/21)
نصيحة للدعاة المقصرين
السؤال
بعض الناس يخطب في الناس، ولكنه مقصر في بعض الواجبات فما نصيحتكم لهذا؟
الجواب
وجد هذا كظاهرة عند بعض الشباب من أن يكون خطيباً ويعظ الناس، ولكنه لا يصلي الفجر معهم، فيخفق الناس في سماع خطبه، وكلماته، ونصيحتي لهؤلاء بأمور:
منها: أن يتقوا الله عز وجل وأن يعرفوا أن الصلاة هي عمود الإسلام، وأنها إذا فاتت وضاعت فقد ضاع الدين، فأكبر شهادة على هذا الدين الذي نحمله الصلاة، فكيف تثبت لي أنك مسلم إذا لم تصل جماعة، إلا بعذر شرعي.
ومنها: أن صلاة الفجر -خاصة- ذمة لله عز وجل {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فلا يطلبنكم الله بشيء من ذمته}.
ثم أرى من الوسائل أن تنام مبكراً مثلاً، وأن تطلب من أهلك إيقاظك أو يكون عندك ساعة حتى تستيقظ بها، والله أعلم.(386/22)
أسباب الخشوع في الصلاة
السؤال
ما هي الأسباب التي تساعد على الخشوع في الصلاة؟
الجواب
ذكر ذلك ابن رجب في كتابه: الخشوع في الصلاة، منها: أن يتدبر المقروء الذي يقرؤه في الصلاة.
ومنها: أن يعلم أنه لا يكتب له من الصلاة إلا ما عقل.
ومنها: أن يفرغ نفسه من أشغال الدنيا وهمومها وأفكارها قبل الصلاة، فإذا كان جائعاً أن يأكل، أو حاقناً أن ينتهي من حاجته، وإذا كان غضباناً أن يعود له رضاه أو يستأنس، وإذا كان في مكان حار أن يحاول أن يوجد له بديلاً، وإذا كان في شدة حر، أن يبرد بصلاة الظهر إلى غير تلك المعاني.(386/23)
الطريقة المناسبة للقراءة
السؤال
ما هي الطريقة المناسبة للقراءة؟
الجواب
لكل طريقة في قراءة الكتب، وأعرف من الشباب من يستعمل طريقة الجرد، وهي أن يقرأ المطولات جرداً فما علق بالذهن فجيد والحمد لله، وما ذهب فمع السلامة، هذه طريقة.
ومنهم: من يقرأ بطريقة البطاقات كأن يقرأ كتاباً ويكتب المعلومات الضرورية في بطاقة، حتى يتذكرها ويستفيد منها.
ومنهم: من يقرأ بثلاث قراءات في الكتاب الواحد، الطريقة الأولى: المسح للكتاب والثانية: أن يأخذ الأفكار الرئيسية في الكتاب، والثالثة: المسائل الجزئية، هذه الطرق التي تحضرني في هذا.
أسأل الله التوفيق والهداية، والرشد والسداد، وسبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(386/24)
أحكام الأطعمة
لقد جاءت الشريعة الإسلامية بكل ما فيه مصلحة ودرء ما فيه من مفسدة، ومن ذلك إباحة الأطعمة الطيبة وتحريم الأطعمة الخبيثة.
وفي هذه المادة ذكر لقواعد هامة بشأن حل أو حرمة المأكولات من الحيوانات، بالإضافة إلى مسائل وأحكام يكثر السؤال عنها.(387/1)
ثماني قواعد في أحكام الأطعمة
الحمد لله، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد: فسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته.
في هذه الليلة المباركة نستمع إلى الإمام البخاري في كتاب الأطعمة؛ وهو كتاب عظيم، وكتاب مهم لكل مسلم يريد الله والدار الآخرة، وقبل أن نؤصل أصولاً، ونقعد قواعد في هذا الباب، نحب أن نستمع أنا وإياكم إلى أحاديث من صحيح البخاري ثم نبدأ بالشرح.
يقول رحمه الله تعالى بعدما أن ذكر السند: وعن ابن أبي أوفى رضي الله عنهما قال: {غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستاً كنا نأكل معه الجراد}.
وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: {نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً ونحن في المدينة فأكلناه}.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: {رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يأكل دجاجاً}.
وعن أبي ثعلبة رضي الله عنه: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع}.
هذه الأحاديث هي التي صحت عند البخاري في كتاب الأطعمة، وإلا فالأحاديث التي صحت في هذا الكتاب كثيرة جداً، ونحن نستعرضها مع كثير من الآيات في باب الأطعمة، ولا بد للمسلم أن يعرف هذه الأحكام، ماذا يأكل من الأطعمة؟ ما هي الأطعمة المحرمة والمباحة والمكروهة؟ وليكن في ذلك ثمان قواعد لا بد أن تعرف:
الأولى: المحرمات التي نص الله عليها في كتابه، أو نص عليها رسوله صلى الله عليه وسلم في سنته الطاهرة.
الثانية: المباحات التي نص عليها الله عز وجل في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم.
الثالثة: المكروهات من الأطعمة.
الرابعة: المضطر.
متى يباح للمضطر أن يأكل غير باغٍ ولا عادٍ؟ وما معنى (غير باغٍ ولا عاد)؟
الخامسة: ذوات السموم، وحكم أكلها، وتناول شيء منها.
السادسة: ما فيه ضرر على الجسم كالحجارة والتراب والطين والفحم.
السابعة: الحيوان البحري، وموقفنا من صيد البحر، وحيوانات البحر، وما يعيش في البحر.
الثامنة: حكم اللحوم المستوردة؛ المعلبة وما أتت طازجة وغير ذلك.
هذه ثمان مسائل عليها مدار الأطعمة، وما يتحدث أهل العلم في مسألة ألا وتدخل ضمناً تحت قاعدة من هذه القواعد، ولا بد من تقعيد هذا الباب وغيره؛ لأن هناك شتات بين المسائل، سوف نستمع إليها، وإذا لم نضبطها بقواعد الأصول؛ فسوف تتسرب علينا ولا يكون عندنا حبل يجر لنا تلك المسائل، ويقيد لنا تلك الشوارد.
اعلموا -بارك الله فيكم- أن هذا الباب من الأطعمة اختلف فيه أهل العلم اختلافاً ظاهراً، ولذلك يقول ابن تيمية في المجلد الواحد والعشرين من فتاويه: تساهل أهل المدينة -الإمام مالك ومن معه من علماء المدينة - في الأطعمة حتى توقف الإمام مالك رحمه الله في رواية عنه في الكلب أهو حلال أم حرام؟ ومنهم من قال: يؤكل الثعلب وهي رواية للشافعي ذكرها صاحب فقه السنة، وتساهل أهل العراق وخاصة أهل الكوفة بالأشربة حتى أباحوا شرب النبيذ الذي يبقى لثلاث ليال، قال ابن تيمية: وتوسط أهل الحديث ومنهم الإمام أحمد فأخذ بالأشربة برأي أهل المدينة، وأخذ في الأطعمة برأي أهل الكوفة.
فلنستمع الآن تفاصيل هذه المسائل:(387/2)
شرح الآية الجامعة للمحرمات
أولاً: المحرمات.
حرم الله تبارك وتعالى أموراً على العموم وحرم أموراً على الخصوص، قال سبحانه وتعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فهذا تحريم وتحليل على العموم، يدخل في هذا التحليل آلاف الأشياء من الطيبات، ويدخل في التحريم آلاف من الخبائث: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
كثير من المأكولات ما وردت في القرآن: كالتفاح والبرتقال وكل هذه الفواكه والخضروات أين نجعلها؟ هل ننتظر نصاً من القرآن أو من السنة حتى نقول: هذا حلال وهذا حرام؟ لا، بل هي تحت قاعدة حل الطيبات، أما الدخان والشيشة وما يجري معها من الخبائث فإنها توضع تحت قاعدة: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157].
لكن الآن نأتي إلى التفصيل في الكتاب والسنة:
قال سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3].
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] الميتة المقصود بها هنا: ما تؤكل ولو كانت ذكيت حلت، أما ميتة الحرام فإنها حرام سواء ذكيت أو لم تذكَ، فمن سمى على الكلب الميت وذبحه واستقبل به القبلة فهو حرام سواء ذكاه أو لم يذكه، وكذلك الخنزير، والحمار، فمن قدم حماراً ميتاً وسمى الله عليه فهو حرام ولو ذكاه بالسكين، إنما المقصود بالميتة هنا: ما كانت تؤكل لو كانت مذكاة.
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة:3] أي: ما ماتت من نفسها دون ذكاة، وسوف يأتي شيء عن أحكام الذكاة، ولو أنه ليس بابها هنا؛ لكن لضرورة هذا البحث؛ أورده إن شاء الله.
{وَالدَّمُ} [المائدة:3] الدم هنا المقصود به: المسفوح؛ لأنه قيد في آية أخرى في الأنعام {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145].
والدم المحرم هنا هو الذي يخرج عندما تذبح الذبيحة؛ فيهراق ويسيل بكثرة ويتدفق، هذا هو الدم الحرام، أما الدم الذي يأتي مع الذبيحة إذا طبختها، ويطفو على القدر؛ فلا بأس به فهو حلال، قالت عائشة فيما أثر عنها: [[كنا نرى خيوط الدم على ظهر القدر فنأكله]] وهذا ليس مسفوحاً، كذلك الدم الذي يخرج من الذبيحة بعد ذبحها وبعد أن يخرج منها الدم فينزل عليك منها قطرات فهذا ليس مسفوحاً، لكن لا بأس أن يتطهر منه للتأذي ولكراهته فقط.
{أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [المائدة:3] فالخنزير ذكي أو لم يذك حرام.
{وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة:3] من ذبح عند قبر؛ يتوسل به إلى صاحب القبر، ويعتقد أنه ينفع أو يضر، فهذا مشرك؛ ذبيحته لا تؤكل، ولو قرأ عليها القرآن كله، ومن ذبح لولي من الأولياء أو شيخ من المشايخ أو صوفي من الصوفية أو رئيس من الرؤساء، أو ملك من الملوك؛ يعتقد نفعه أو ضره؛ فذبيحته حرام لا تؤكل؛ ولو سمى عليها بأسماء الله التسعة والتسعين.
{وَالْمُنْخَنِقَةُ} [المائدة:3] المنخنقة: هي التي اشتدَّ عليها الخناق بحبل أو بغيره حتى أزهقت نفسها؛ فماتت من غير تذكية، فهذه محرمة.
{وَالْمَوْقُوذَةُ} [المائدة:3] الموقوذة: هي التي ضربت بمثقل أو بشيء ثقيل ليس بحاد، كحجر مجموع، أو كقطعة حديد، ضربت به في رأسها ووقذت وماتت، فهذه محرمة.
{وَالْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة:3] المتردية: هي التي سقطت من علو أو من مكان عالٍ فوقعت فماتت قبل التذكية؛ فهذه تحرم، إلا أن يدركها المسلم وبها حياة فيذكيها فهي حلال.
{وَالنَّطِيحَةُ} [المائدة:3] الشاة أو الكبش أو غيرها مما أحل الله من أنواع الحيوانات؛ تنتطح مع أختها وزميلتها؛ فتموت؛ فهي محرمة إذا لم يدركها المذكي.
{وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ} [المائدة:3] السبع إذا اعتدى على شاة فأكلها فماتت وبقي منها شيء؛ فهي حرام إلا أن يذكيها صاحبها قبل أن تموت، كأن يأخذ منها الذئب بنابه، أو يأخذ منها الأسد بمخلبه، فتدركها أنت وهي حية فتذبحها فلا بأس بها.
{إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة:3] النصب: الأصنام والأوثان، والأمكنة التي يتبرك بها أهل البدع، فالذبائح التي تذبح فيها حرام بنص كتاب الله عز وجل، إذا كان يذبح في مكان فيه عبادة بدعية، أو فيه صنم أو وثن فالذبيحة محرمة، وكذلك إذا ذبحت في مكان فيه عيد من أعياد المشركين؛ كأن يكون المشركون وأهل البدع يتعارفون أن هذا المكان عيد من أعيادهم؛ فلا تأكل من هذه الذبائح التي ذبحت في هذا المكان.
وهذه الآية في المائدة وهي من أطول الآيات التي جمعت المحرمات.
وأما الآية الأخرى: قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} [الأنعام:145] وهنا ذكر الدم وزاد صفة المسفوح ثم قال: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام:145].(387/3)
قاعدة فيما يحل ويحرم أكله
الرسول عليه الصلاة والسلام فصل لنا بعض الحيوانات التي لا تؤكل وأنا أذكرها بأدلتها إن شاء الله، ثم نعود فندخلها في القواعد التي سلف أن ذكرناها.
يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري ومسلم من حديث عائشة: {خمس من فواسق يقتلن في الحل والحرم: الفأرة، والحدأة، والعقرب، والغراب، والكلب العقور}.
هذه خمس فواسق أمرنا صلى الله عليه وسلم بقتلها في الحل والحرم، في الحِلِّ: وأنت حلال.
وفي الحرم: وأنت محرم بحج أو عمرة لا تتجافى ولا تتجانف عنها واقتلها، وقتلها عند كثير من أهل العلم يدل على تحريم أكلها فليفهم هذا، إذاً لا يقول قائل: كيف تحدثنا عن الفأرة ومن يأكل الفأرة؟ وعن العقرب ومن يأكل العقرب؟ إن هذه شريعة، ولا بد أن تفهم بأدلة، وإلا لو كانت إلى أفكار الناس وآرائهم؛ لتخرص المتخرصون في الشريعة.
فلا بد أن نفهم لماذا حُرم العقرب، وحرم أكلها؟ وكذلك الفأرة، والحدأة، والغراب، والكلب العقور بأدلة.
حرمت لحديث عائشة في الصحيحين: {خمس فواسق يقتلن في الحِلَّ والحرم: الحدأة، والعقرب، والغراب، والفأر، والكلب العقور} هذه الخمس الفواسق محرمة.
ومن المحرمات أيضاً الحيوانات التي لا تقتل ونهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن قتلها دليل على تحريم أكلها.
وهنا قاعدة: أن ما أمركم صلى الله عليه وسلم بقتله فأكله محرم وما نهى عن قتله فأكله محرم.
أما الأربع التي لا تقتل فهي: {النملة، والنحلة، والهدهد، والصرد} والحديث عند أبي داود وهو يقبل التحسين.
والهدهد والنمل والنحل معروف فلا يؤكل والحمد لله، وقد بحث فيها أهل العلم منهم صاحب المجموع.
والصرد: طائر أبقع، وقيل: أبيض، دائماً يعيش على ظهر الماء، فتراه على سطح البحر، فهذا الصرد نهى صلى الله عليه وسلم عن قتله.
غراب وظبي أعضب القرن منذر ببينٍ وصردان العشي تصيح
والعرب كانت تتشاءم بهذه الأنواع.
يقول: هذا فارق أحبابه فبكى، وقال بليل شؤمه مفارقته لأصحابه: إن الغراب ناح اليوم، وأنه مر ظبي أعضب القرن يعني: مقطوع القرن، وهذا التشاؤم الذي نهى عنه عليه الصلاة والسلام، وأخبر أن من صفة السبعين ألفاً الذين يدخلون الجنة بلا حساب أنهم لا يتطيرون، وكان العرب في جاهليتهم ووثنيتهم وتخلفهم وفكرهم العفن قبل الإسلام، إذا أراد أحدهم أن يسافر نظر إلى الطير، فإن أخذ الطير من الميسرة إلى الميمنة سافر، وإن كان ذهب من الميمنة إلى الميسرة ترك السفر، ولذلك يقول النابغة الذبياني يوم يمدح النعمان:
زعم البوارح أن رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغراب الأسود
والبارح عند العرب من يأتي من اليمين إلى اليسار ويسافر، والسانح من يأتي من اليسار إلى اليمين فلا يسافر له؛ وهذه عقيدة شركية من فعلها فقد أبطل حظه ونصيبه من الله الواحد الأحد، فلا يجلب الضر والنفع إلا الله سبحانه وتعالى:
لعمرك لا تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانع
فهذا التطير شرك، ونهى عنه عليه الصلاة والسلام، وإنما ذكرته للفائدة.
فالأربع هذه نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها، قالوا: فلما نهى عن قتلها دلَّ على تحريم أكلها فليعلم، لأنني أسلفت أن ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بقتله فأكله حرام، وما نهى عن قتله فأكله حرام.(387/4)
حكم أكل الضفدع
قد يتساءل عن حكم الضفدع هل يؤكل أم لا؟
وجد من الأمم من تأكل الضفادع، وهي من أشهى الأطعمة لديهم، وقد رأيناهم يقدمونه في بعض الأماكن بعدما يشوونه طعاماً طازجاً، فيأكلونه أكلاً ذريعاً، فهل تؤكل الضفدعة أم لا تؤكل؟
في حديث ضعيف أورده ابن تيمية وسكت عنه يقول: {لا تقتلوا الضفدع فإن نقنقتها تسبيح} وهذا الحديث ضعيف، لكن كل شيء يسبح بحمد ربه سبحانه وتعالى، ولكن لا نفقه تسبيحهم؛ كما قال سبحانه وتعالى، والضفدع تنقنق، ويدل على نقنقتها ما ورد في وحي مسيلمة الكذاب الدجال، الذي زخرفه له شياطين الإنس والجن، يقول في بعض سوره الأفاكة الأثيمة: يا ضفدع بين ضفدعين، نقنقي ما تنقنقين، رأسك في الماء وأسفلك في الطين.
انظر ما أسمج هذا الكلام، وما أغرب هذا الحديث، عليه لعنة الله، لعنة تحيط به في قبره حتى يلقى الله، فإن الله ألبسه لباس الكذب فلا يعرف بين الناس إلا بـ مسيلمة الكذاب.
وأما الدليل على أن الضفدع لا تؤكل: ما رواه أبو داود وأحمد والحاكم والنسائي وهو حديث حسن عن عبد الرحمن بن عثمان القرشي قال: {أن طبيباً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ضفدع يجعلها في دواء، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قتلها} هذا الحديث حسن، فنهى عليه الصلاة والسلام عن قتل الضفدع فهي محرمة، وأنا أسلفت أننا سوف نعود إن شاء الله إلى الأصل في ذلك.
القنفذ: هو حيوان متجمع على نفسه وهو معروف عند الناس، هل يؤكل أم لا؟ سئل ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه في سنن أبي داود وهو عند البيهقي وأحمد: عن قتل القنفذ؟ فتوقف فيه ابن عمر لعدم وجود نص لديه.
وقال للسائل: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [الأنعام:145] فما هو دليل هذا الجواب؟ يعني: أنه يؤكل، لكن أحد الصحابة من الجلوس قال: {سئل صلى الله عليه وسلم عن القنفذ؟ فقال: خبيثة من الخبائث.
فقال ابن عمر: إن كان سئل صلى الله عليه وسلم فأنا كما قال صلى الله عليه وسلم}.
الهر: هل يؤكل الهر أم لا؟ من المسلمات عند الناس أن الهر لا يؤكل، لكن لو طالبتهم بدليل لا يجدون دليلاً، فلماذا تحرمون أكل الهر؟ ولماذا تحرمون البطون الجائعة عن لحوم القطط اللذيذة؟ لأنه ورد تحريم الهر ولو لم يرد تحريمها كان الأصل فيها الإباحة، ففي سنن أبي داود وابن ماجة بسند ضعيف لكنه ينجبر بشواهد في حديث ابن عمر وغيره: {نهى صلى الله عليه وسلم عن أكل الهر وأكل ثمنها} فليعلم أن الهر حرام والحق لله رب العالمين.(387/5)
حكم أكل لحوم الكلاب
توقف الإمام مالك في حكم أكل الكلب لأنه يعمل بشريعة ونصوص، وهو محرم الأكل لاتفاق كثير من أهل العلم على تحريمه، والدليل على تحريم أكل الكلب حديث: {أمر صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب} وقال صلى الله عليه وسلم: {إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبع مرات} حديث صحيح، وفي الصحيحين: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن كل ذي ناب من السباع} والكلب ذو ناب فهو محرم والحمد لله.
أما ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت، مثاله رجل أخذ قطعة من شاة أو من ناقة أو من بقرة وهي حية لم يذكها فهي محرمة للحديث الذي في السنن عن أبي واقد الليثي وهو حديث حسن قال عليه الصلاة والسلام: {ما قطع من البهيمة وهي حية فهو ميت}.(387/6)
حكم أكل لحوم الحمر الأهلية
الحمار نوعان: فنان وحشي، وحمار أهلي، والفنان: هو الحمار الوحشي المخطط، ولذلك أصاب الفنانون يوم سموا الفنان فناناً يعني: حماراً وحشياً لأنه مخطط.
فالفنان عند العرب هو الحمار المخطط، فالفنان يؤكل والحمد لله، لكن الفنان من الإنس هذا الذي يغني لا يؤكل؛ لأنه لم يرد دليل على إباحة أكله، وأنا أتحدث عن الفنان من الحمير الوحشية، إذا علم ذلك فالدليل على أكل الحمار الفنان الوحشي حديثان:
حديث أبي قتادة عند البخاري ومسلم قال: {صدت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم -وأنا حلال- حماراً وحشياً فأتيت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بوركه -أو قال بشقه- فأكل منه صلى الله عليه وسلم وهو محرم} وهو ما صيد لأجله صلى الله عليه وسلم إنما صاده أبو قتادة لنفسه ثم أعطى الرسول عليه الصلاة والسلام هدية.
وفي الصحيح أيضاً من حديث الصعب بن جثامة قال: {أهديت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً فرده عليَّ، فلما رأى ما في وجهي -تغير لما رد هديته- قال: إنا لم نرده عليك إلا أنا حُرم} انظر إلى فصاحته وخلقه وسموه عليه الصلاة والسلام، هذا الصعب بن جثامة شيخ وادي ودان بين مكة والمدينة، سمع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقبل يريد الحج بالمسلمين فصاد حماراً وحشياً -وهو أجمل اللحوم عند العرب- ثم طبخ وركه أو شقه وأعطى الرسول صلى الله عليه وسلم فمنع صلى الله عليه وسلم أن يأخذ، فلما رأى تغير وجه هذا الرجل العظيم، قال: {إنا لم نرده عليك إلا أنا حرم}.
فلماذا أخذ صيد أبي قتادة ورد صيد الصعب بن جثامة؟
لأن صيد أبي قتادة ما صيد من أجله عليه الصلاة والسلام، والمحرم إذا لم يُصد من أجله فليأكل، وأما الصعب بن جثامة فصاده من أجل الرسول عليه الصلاة والسلام، والمحرم إذا صيد له الصيد فلا يأكل والحمد لله.
والحطيئة له قصيدة جميلة يصف فيها قصة تصورها وهي لم تقع، ولكن هي من أحسن القصائد عند الجاهليين في رسم المسرحية الخيالية في الشعر العربي، وصف رجلاً عربياً كان فقيراً منحلاً ليس عنده شيء، فوفد عليه الضيف، والعربي إذا وفد الضيف ترك كل شيء من أجل الضيف، فقام يلتمس فما وجد إبلاً ولا بقراً ولا غنماً ولا وجد صيداً ولا وجد أكلاً في البيت، فأخذ السكين وأراد أن يذبح ابنه، وقال صاحب البيت كما في القصيدة:
فقال هيا رباه ضيف ولا قرى بحقك لا تحرمه تي الليلة اللحما
فأتى يجر بها إلى ضيفه، وأجمل الصيد عند العرب الحمر الوحشية.
ومما يحكىأن الكسعي وهو رجل من العرب، كان من أرمى الرماة في العرب، أتى بشجرة فأخذها من مغرسها في السهل وغرسها في الجبل، من أجل أن تأتي الأسهم والأقواس قوية كالحديد؛ لأن شجرة الجبل ليست كشجرة الطين، فأخذ يتعاهد هذه الشجرة حتى اشتد صلبها وقوي عودها، فقطعها بعدما كبرت، وصنع منها قوساً من أقوى الأقواس، وركب أسهماً فيها، وبعدما ركب الأسهم مرت به الظباء وقيل: الحمر الوحشية، فأخذ يطلق عليها الأسهم، فكان من قوة القوس ومن قوة السهام يخترقها من جنبها إلى جنبها، ويخرج فتبقى ترعى فيظن أنه أخطأ وهي ما تموت إلا بعد فترة، فرمى سبعاً بسبعة أسهم وما رآها سقطت، رآها ترعى وتشرب الماء، فأخذ به الغضب أن كسر القوس وهو جهد عشرين سنة أو ثلاثين سنة، وكسر الأسهم، وبعد أن كسر نظر وإذا الحمر الوحشية قد سقطت ميتة على الأرض، فأخذ يلوك أصابعه ندماً، فقالت العرب: أشد ندامة من الكسعي.
قال ابن الجوزي: من لم يحفظ القرآن في الصغر ندم ندامة الكسعي.
وقال الفرزدق لما طلق امرأته نوار:
ندمت ندامة الكسعي لما غدت مني مطلقة نوار
المقصود: أن الحمر الوحشية حلال أكلها، أما الحمر الأهلية الأليفة فحرام أكلها، وتوقف بعض الفقهاء لعدم وصول النهي إليه، وبعض الناس الآن يقول: سبحان الله! يتوقفون في حل الحمار؟! نعم لأنها شريعة قال تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:4 - 6] وقال: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ} [الشعراء:192 - 194] وقال: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] فتحريم الحلال كتحليل الحرام، لا تقل للناس: حرام وحلال وأنت لا تدري، لأنه كذب على الله، لا بد لك من دليل من الكتاب أو السنة على ما تقول.
فأما الحمر الأهلية فصح النهي عنها لقول أنس: {أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا طلحة يوم خيبر أن ينادي بالناس: إن الله حرم عليكم لحوم الحمر الأهلية} أو كما صح عنه صلى الله عليه وسلم.
وهناك حديث جابر أيضاً: {نهى صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في الخيل} فالخيل سوف تأتي أنه أذن فيها وقد ورد في ذلك حديث جابر في السنن وهو حديث حسن.(387/7)
حكم أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير
في الحديث: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع} والسباع، هي: كل ذي ناب يفترس به، ويهيش على الناس، ويقتنص ويصيد؛ كالأسد والنمر والفهد والذئب والكلب: فهذه محرمة.
ثم يقول: {وكل ذي مخلب من الطير} هذا مقيد فيخرج من الطير: الدجاج والحمام والحبارى بعكس الذي يفترس أو يأكل اللحم كالباز وكالغراب وكالصقر وكالنسر، وما في حكمها من آلاف الطيور.(387/8)
حكم أكل الجلالة وألبانها
الجلالة هي: الحيوانات التي تأكل العذرة وتأكل فضلات الناس، أو ما يخرجه الناس، وقد نهى عنها صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي داود والترمذي وأحمد وهو حديث صحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب الجلالة وعن شرب ألبانها وأكل لحومها} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
القرد: هل يؤكل القرد أم لا؟ قال أبو عمر ابن عبد البر حافظ المغرب: أجمع المسلمون جميعاً على تحريم أكل القرد.
قيل: لأن فيه شبه بالإنسان، وقيل: لأنه يأكل اللحوم وهو الصحيح، وفي الغالب أن كل ما يأكل اللحم فهو محرم؛ إذا كان اللحم هذا قوته، قد تقول لي أنت: بعض الدجاج يأكل اللحم! نقول: لكن هذا ليس قوت الدجاج، والله فطر الدجاج على أن اللحم ليس بوجبة رئيسية له، لكن يأكلها إذا اضطر إلى ذلك، أما هذه الحيوانات أو الطيور التي تأكل اللحم وهو وجبتها وهو غذاؤها فهي محرمة.
وانتهينا الآن من المحرمات التي وردت في النصوص والقواعد: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وكل خبيث محرم، وقد أوردنا المحرمات، وهي تقارب الثلاثين أو تزيد على ذلك.(387/9)
المباحات من الأطعمة
أما المباحات من الأطعمة فهي الثلاثة الأزواج التي ذكرها الله في سورة الأنعام وهي: الإبل، والبقر، والغنم، والغنم نوعان: الماعز والضأن، وقد أباحها الله سبحانه وتعالى, واشتهار إباحتها يغني عن إيراد الأدلة، فهذه الثلاثة الأزواج مباحة والحمد لله.(387/10)
حكم أكل الضب
الضب.
هل هو مباح أم لا؟
ورد في حديث ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه الصحيح، وحديث أم سلمة: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم قدم له ضب فقالت أم سلمة: أخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قدم له، فأخبروه فرفع يده صلى الله عليه وسلم، قالوا: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: لا.
ولكن أجد نفسي تعافه}.
وفي لفظ: {لا أجده في أرض قومي} فالضب لا يعيش في مكة ولا في جبال مكة، والرسول صلى الله عليه وسلم عافته نفسه؛ لأنه لا يوجد في أرض قومه، ولذلك قال أهل الطب: أنفع ما يأكله الإنسان لصحته ما ينبت في أرضه من النبات وما يعيش من الحيوانات في أرضه، فالنبات الذي يعيش في أرضك من حكم الله وأسراره في الكون أنه ينفعك، ولذلك جعل سبحانه وتعالى في الطبيعة أسراراً، وفي التربة أسراراً، وفي الهواء أسراراً، وفي الماء أسراراً، فالنبات الذي ينبت في أرضك، والحيوان الحلال الذي يعيش في أرضك أوفق لجسمك من الحيوان المستورد والنبات المستورد، وهذا موجود في العالم، من تدبر وجد أن أكثر غذاء العالم مما ينبت في أرضهم.
قال ابن عباس: فاجتره خالد بن الوليد الذي يسمى سيف الله المسلول.
من الذي لا يعرف خالد بن الوليد؟ سيف الله المسلول.
وبعض الناس اشتهروا حتى أصبحوا أعلاماً، فإذا أتى الإنسان يعرفهم نكرهم، يقول عمر بن أبي ربيعة:
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
خالد بن الوليد خاض مائة معركة أو أكثر في الجاهلية والإسلام، وما فيه موطن في جسده إلا مضروب، كله جروح من أعلى رأسه إلى أخمص قدميه، تلك في سبيل الشيطان، وهذه في سبيل الرحمن، فانغمست تلك في بحار حسناته فرضي الله عنه وأرضاه، وأكرم الله مثواه.
يقول حافظ إبراهيم وهو يعتذر لـ خالد عن عزل عمر له خوفاً من أن يعجب المسلمون بقيادته، قال:
تسعون معركة مرت محجلةً من بعد عشرٍ بنان الفتح يحصيها
والصحيح أن يقال: إنه خاض مائة معركة في الإسلام.
تسعون معركة مرت محجلةً من بعد عشرٍ بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
وخالد رضي الله عنه وأرضاه بكى في سنواته الأخيرة، أخذ مصحفاً غلافه من جلد جمل، وذلك بعد أن اعتزل الجهاد في آخر عمره، كان يأخذ المصحف بعد صلاة الفجر فيبكي ويقرأ حتى صلاة الظهر، ويقول: [[شغلني الجهاد عن القرآن]] ولما أخرجوا جنازته بعد أن توفي بكت أخته وبكى المسلمون بكاءً عظيماً وأخذت أخته تقول:
أنت خير من ألف ألف من القوم إذا ما ثبت وجوه الرجال
يعني: خير من مليون.
أنت خير من ألف ألف من القوم إذا ما ثبت وجوه الرجال
ومهين النفس العزيزة للذكر إذا ما التقت صدور العوالي
ووصل الخبر إلى المدينة واهتزت المدينة وكان الخليفة آنذاك أمير المؤمنين عمر فبكى بكاءًَ شديداً، وسمع أصوات النساء في البيوت يبكين، فأتى رجل يقول: يا أمير المؤمنين! أسكت النساء، قال: [[دعهنَّ.
على مثل أبي سليمان فلتبك البواكي]] فرضي الله عنهم وأرضاهم.(387/11)
حكم أكل الأرانب
الأرانب هل تؤكل أم لا؟
نعم تؤكل للحديث المتفق عليه قال أنس: {أنفجنا أرنباً بـ مر الظهران} مر الظهران في المدينة من جهة البحر الأحمر إلى مكة - أنفجنا: طاردنا أرنباً، أو خوفنا أرنباً.
{فخافت، فطاردتها -كان أنس غلاماً شاباً قوياً فلحقها فأمسكها- فأتى بها إلى أبي طلحة فذبحها وطبخها وأرسل بوركها إلى الحبيب عليه الصلاة والسلام} انظر إلى رسول البشرية يقبل هدية ورك الأرنب، حتى إنه قال عليه الصلاة والسلام للناس: {ولو أهدي إليَّ ذراعٌ لقبلت} وانظر إلى مشاركة الولدان حتى في الأرنب، لا يمنعهم حتى يشاركهم حبيبهم عليه الصلاة والسلام.
وكان من الصحابة من اشتهر بالسرعة حتى كاد يصيد الغزلان والأرانب بيده، وأسرع من سمعنا في التاريخ سلمة بن الأكوع كان يسبق الخيل، وكان يصيد الغزلان في الصحراء، فيسعى حتى يفحم الغزال ويصيدها، ويسعى وراء الأرنب ويوقفها مكانها، وقصته هذه تغني: فقد طارد يوم ذي قرد أو غزوة الغابة أناساً من غطفان حتى أمسكهم إلى أن أتى الرسول عليه الصلاة والسلام وهم خيالة وهو على رجله.
وهكذا الطاقات تتفجر في حياته عليه الصلاة والسلام فيعطي أهل التخصصات تخصصاتهم، حتى أهل الرياضة برعوا لكنهم كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، وأهل الأدب برعوا كـ حسان وابن رواحة لكنهم كانوا يؤمنون بالله واليوم الآخر، والمصارعون برعوا كـ ركانة وغيره لكنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، وأدب ليس فيه إيمان أدب ملعون، ورياضة ليس فيها إيمان رياضة ملعونة، ومصارعة ليس فيها إيمان ولا مخافة إيمانية مصارعة ملعونة؛ يقول أبو الحسن الندوي: عين ليس فيها إيمان مقلة عمياء -أو كما ينقل عنه- ويد لا تحمل إيماناً إشارة لا مفهوم لها، وقلب ليس فيه إيمان كتلة لحم، وأمة ليس فيها إيمان قطيع من البهائم، فرسالتنا الإيمان وهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.(387/12)
حكم أكل الدجاج
الحمد لله أن أكثركم أو كلنا يأكل في اليوم مرتين أو ثلاثاً ولا بقي علينا إلا أن نفطر في الصباح بعد صلاة الفجر دجاجاً، لكننا نقف على النصوص، لأنه قد يوقفنا إنسان ويقول: هل الدجاج مباح -وأنت مسلم- فتقول: نعم، مباح نأكله في أرضنا، فيقول: لماذا لا تأكلون الصقور والنسور؟! تقول: لا نأكله في أرضنا، فسيقول لك: أرضك ليست بشريعة؛ أخبرني بالأدلة؟ فالدليل على ذلك ما في صحيح البخاري ومسلم: أن أبا موسى الأشعري قال: {رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل الدجاج} وسبب الحديث عند البخاري: {أن رجلاً أعجمياً دخل على أبي موسى قال: كلْ معي دجاجاً، قال: والله لا آكله، قال: كيف وقد رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يأكل الدجاج!}.(387/13)
حكم أكل الخيل
والخيل تؤكل إلا عند الأحناف رضي الله عنهم، قلنا: لماذا؟ قالوا: يقول سبحانه وتعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] ما قال: لتأكلوها، فكيف نجعل المركوب مأكولاً؟ قلنا: وماهو الحديث الذي معكم؟ قالوا: حديث خالد: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل لحوم الخيل} وأين الحديث؟ قالوا: في السنن، قلنا: أما حديثكم فضعيف والحمد لله رب العالمين، وأما الآية فلا يمنع تخصيص بعض أفراد العموم بصفة؛ فإنه لا يمنع أن يكون فيه صفة أخرى؛ فإن هناك صفة أخرى، يقول سبحانه وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة:3] مع العلم أن بعض الناس يقول: أي: حرام أكله، ولكن يجوز من جلد الخنزير والتأدم بشيء من وده الخنزير أو بدهنه أو شحمه أو جلده! وهذا للتبيان.
فالصحيح عند الجمهور أن الخيل تؤكل لحديث أسماء المتفق عليه: {نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً وأكلناه} ولذلك تعجب من بعض الناس يقول: كيف ينحر حاتم الطائي فرساً لضيوفه، وهو لا يدري بالشريعة؟! لكن الأصل أنه مباح، ولا نستدل برأي حاتم؛ فرأيه ليس بصحيح ولا بوارد وأحاديثه موضوعة، إنما الخيل يؤكل والحمد لله رب العالمين، ومن الأحاديث التي تدل على ذلك حديث جابر في الصحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرم يوم خيبر لحوم الحمر، وأذن في لحوم الخيل}.(387/14)
حكم أكل الجراد
والجراد في القرآن والسنة خلقه الله نعمة وعذاباً، نفعاً وضراً، فأذنب قوم فجعل نكالهم في الجراد، قال سبحانه وتعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلاتٍ} [الأعراف:133] فالجراد عقوبة أرسلها الله على قوم فرعون.
واختلف أهل العلم: هل هو من البحر أم من البر؟
والذي عليه كثير من السلف أنه نثرة ينثرها البحر فهو فصيلة من فصائل الأسماك، وشكله يوحي أنه قريب من السمك فكأنه من فصائل السمك، وسبحان الخالق عليه توكلت وإليه أنيب!
وفي السنن أن الرسول عليه الصلاة والسلام -والحديث ضعيف في سنده عبد الرحمن بن أسلم - قال: {أحلت لنا ميتتان ودمان: فأما الميتتان فالجراد والحوت}.
إذن الجراد مباح وهو أكل عند الأمة الفقيرة التي ليس عندهم مزارع، فإذا هبط عندهم كان نعمة أن يأكلوا منه، كما يفعل الناس قبل أربعين أو خمسين سنة؛ كانوا يتغذون به؛ لأنهم في الجزيرة العربية ليس معهم إلا الصخور والتراب، لكن الأمم التي عندها مزارع وقمح وشعير وذرة، فمن أنكب النكبات وجود الجراد عندهم، فهو نعمة عند قوم ليس عندهم مزارع (فقراء) وهو نقمة عند أهل المزارع والله عز وجل قد ينعم بالبلوى وقد يبتلي بالنعمة:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
والله عز وجل خالف آياته ولكن لمن يتدبر، فجعل في بلد الجفاف حتى أكلوا الميتة، وحتى ما وجدوا شيئاً يأكلونه ابتلاء، فلما اشتد عليهم الجفاف هلكوا ومات منهم الكثير، ثم أتت الفيضانات فطمَّت وعمَّت حتى غرق من بقي في الماء، فسبحان من جعل يوماً جفافاً حتى أصبح مهلكاً ودماراً، وخسفاً ونكالاً! وسبحان من جعل يوماً فيضاناً حتى صار خسفاً ودماراً ونكالاً!
والجراد يؤكل لحديث ابن أبي أوفى في الصحيح: {غزونا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع غزوات أو ستاً كنا نأكل معه الجراد}.(387/15)
حكم أكل حيوان البحر
قال قوم: كل ما مات في البحر مما يعيش في البحر فهو حلال كالأخطبوط والثعبان والسلحفاة وحيوانات البحر وكلاب البحر فهو حلال.
وقال قوم -وهو الصحيح إن شاء الله-: حيوان البحر مما يموت في البحر مما لا يستقذر وليس بخبيث يؤكل، أما الخبيث فلا يؤكل كالضفادع والسلحفاة وما في حكمه، وهذا أقرب الأقوال: {هو الطهور ماؤه الحل ميتته} مما يقبل الأكل، لقوله سبحانه وتعالى في نصوص شابهت هذا، مثل الريح التي أرسلها على القوم الطغاة: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف:25] وهي لم تدمر السماء والأرض لكن كل شيء مما يقبل التدمير، وقال سبحانه وتعالى في بلقيس: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل:23] مع العلم أنها لم تؤت كما أوتي سليمان عليه السلام، لكن أوتيت من كل شيء مما يقبل التملك أو مما يحتاجه الملوك.
لحوم الحبارى -حبارى وحباري- تؤكل لحديث سفينة رضي الله عنه وأرضاه في أبي داود لكن فيه ضعف قال: {أكلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حباري}.
فما دام أنه أكله الحبيب فسيبقى نستأنس به لأنه أقرب شيء للدجاج، والذي يظهر إباحته وحله.(387/16)
المكروهات من الأطعمة
لا أعرف في المكروهات إلا صنفين نباتيين: الثوم والبصل لقول جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا هذا} وفي حديث: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى عن أكل الثوم والبصل ما لم يطبخ فإذا طبخ فلا بأس به}.
وقال عمر: [[يا أيها الناس إنكم تأكلون شجرتين خبيثتين ولا أرى إلا أنهما خبيثتان، فمن أكلهما منكم فليمتهما طبخاً، ولقد رأيت الرجل يأكل ثوماً وبصلاً فيدعى به فيؤخذ بيده فيخرج من المسجد حتى يوضع بـ البقيع]].
وعند أبي أيوب في الصحيحين قال: {قدم للرسول صلى الله عليه وسلم إناء فيه بقل -والظاهر عند أهل العلم أنه بصل، وهناك في رواية أخرى: كراث- فقال صلى الله عليه وسلم: كلْ، فإني أناجي من لا تناجي} وهم الملائكة.
فأباحه عليه الصلاة والسلام لكن كرهه لمناجاة الملائكة.
فالثوم مكروه وأما من تعمد الاحتيال به حتى لا يحضر الصلاة في جماعة فهو مذموم، عطال بطال، إن عاد فيعزر، فبعض الناس يريد أن يترك الجماعات فيقول: ما دام أنه عذر صاحب الثوم والبصل فيأكل ثوماً وبصلاً فلا يأتي المسجد، تقول له: صل، فيقول: أكلت ثوماً وبصلاً، وهو لا يريد الثوم والبصل لكن يريد أن يتخلف عن الصلاة، هذه من الحيل المعكوسة التي يركبها الله على أصحابها.
ومن الحيل كذلك في الصلوات: أن يؤخر بعض الناس العشاء، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا حضر العِشاء والعَشاء فابدءوا بالعَشاء قبل العِشاء}.
فيترك طعامه حتى يقرب أذان العشاء ثم يحضره ويقول: حضر العشاء، علينا باتباع السنة لا نخالف السنة فيتعشى دائماً مع الصلاة، نقول: أنت آثم ومحتال، وإنما هذا إذا وقع نادراً للعذر؛ كأن تصادف مرة من المرات عشاء، أما أن تجعل عشاءك في وقت الصلاة فأنت مفترٍ على الله وعلى سنة الإسلام.
إذاً يكره أكل الثوم والبصل ويدخل فيهما الكراث.
وأنا أنصح الإخوة المسلمين إما أن يميتوهما طبخاً، أو من أكل رغبة فيها أن يأخذ بعض الروائح الجميلة، وألا يأتي إلى المسجد لأنها تؤذي المسلمين كثيراً، خاصة ممن يتجشأ فإنه يؤذي عباد الله في المسجد، وعند مقابلة الناس، ومناجاة الناس، وعليه أن يحاول أن يكون له وقت إذا اضطر إليه، وأن يغير الرائحة من الثوم والبصل، فإنه مضر بعباد الله الصالحين.(387/17)
حكم المضطر لأكل الميتة
المضطر هو الذي اضطر لأكل لحم الميتة، وحده كما قال سبحانه وتعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:173]
الباغي: هو الذي يبغي بأكله للميتة وعنده أكل آخر، يعني: ما عذره الله عز وجل لكنه بغى في الأكل فعنده كل شيء لكنه أكل الميتة، فهذا يحرم عليه.
العادي: هو الذي تجاوز في أكل يكفيه لسد الرمق، ورفع الجوع؛ فيأكل حتى يزيد في شبعه؛ فهذا مذموم، فالميتة يأكلها العبد إذا أشرف على الهلاك، قال أهل العلم: إذا تأكد أنه سوف يموت، وقال ابن حزم في المحلى: إذا بقي يوماً وليلة كاملة وجاع واشتد جوعه، وشعر بدنو الموت فليأكل.
هذا المضطر ولنا عودة إليه.(387/18)
حكم الأطعمة ذوات السموم
تساءل أهل العلم كما في المجموع للنووي عن العقرب والحية والثعابين هل تؤكل أم لا؟ لأن كثيراً من الأمم والجيوش الآن حتى في الدول العربية يأكلون الثعابين، فما موقفنا لنبدي لهم الشريعة؛ لأنهم يسألون عن الدليل، إما أن يقول الإنسان: إنه سام؛ فهذا لا يكفي، لكن ما هو الدليل؟
أخذ أهل العلم من عمومات النصوص أنها محرمة، قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء:29] وقال سبحانه وتعالى: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195] وفي صحيح البخاري قوله صلى الله عليه وسلم: {من تحسى سماً فقتل نفسه، فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً في النار} فمن قتل نفسه بالسم، أو تسبب في أكل شيء مضر من السوام فسمه معه، يدخل به النار خالداً مخلداً.
هذا لفظ الحديث في البخاري، إذاً يعلم من ذلك، أن أكل شيء سام حرام، وأدخل فيه فصيلة الحيات والعقارب والثعابين وكل ما يعلم ضرره من هذه جميعاً، وهو الأصل الذي توقف فيه بعض الناس، ولكن بعد معرفة هذه الأدلة لا يتوقف فيه والحمد لله.(387/19)
حكم أكل ما فيه ضرر
كل ما فيه ضرر يحرم كما أسلفت، وقد تساءل الفقهاء هل يؤكل التراب أم لا؟ هل يؤكل الطين أم لا؟
بعض الناس يصاب بداء في معدته فلا يجد شفاء له إلا الطين، وقد تجد حتى بعض الأطفال يأكلون الطين.
كل ما فيه ضرر فإنه محرم بنصوص منها: حديث أحمد -ولو أنه تكلم في سنده- قوله صلى الله عليه وسلم: {لا ضرر ولا ضرار}.
فمن هذا الحديث ومن الآية {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء:29] وحديث {وإن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها} وقوله سبحانه وتعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] أدخل كل ما فيه ضرر وليس فيه نفع من الطين والحجر والفحم والتراب، وكل ما شابه هذا فهو محرم، فليعلم ذلك.
وحديث: {لا ضرر ولا ضرار} رواه أحمد وابن ماجة، وهو يقبل التحسين، ومن الناس من رفعه إلى الصحة، ومنهم من حسنَّه، ومنهم من ضعَّفه، وأقرب الأقوال التحسين.(387/20)
حكم أكل الحيوان البحري
الحيوان البحري أسلفت القول فيه: حلال كله إلا ما فيه سم عند أهل العلم، ولو أن أهل الظاهر يقولون: كل حيوان البحر حلال، لقوله عليه الصلاة والسلام: {هو الطهور ماؤه الحل ميتته}.
فميتته تعود على حيوانات البحر فتؤكل جميعاً، ونحن نقول: ما كان يشبه حيوانات البر السامة المحرمة فلا نأكلها، فالثعبان يشبه الثعبان البري فلا نأكله، والعقرب البحرية تشبه العقرب البرية فلا نأكلها، والضفدع البحرية تشبه البرية فلا نأكلها، أما الأسماك فورد فيها نصوص، أما الطيور التي تعيش في البحر فتأخذ عموم هذا إلا ما شابهت المستخبثات.(387/21)
حكم أكل اللحوم المستوردة
وقد كثر الكلام، وألف فيها رسائل وبحوث، وكتب فيها وبحثها علماء جهابذة في هذا العصر ونشرت في المجلات والصحف، وأما قبل هذا العصر فبحثها قليل من العلماء.
وخلاصة القول في هذه المسألة: أن اللحوم المستوردة إذا اجتمعت فيها ثلاثة شروط سواء الطازج أو المثلج أو المعلب أو أي شيء وارد مما يذبح فإنها تؤكل، لكن الأسماك لو أتت من الأمم الكافرة الوثنية فلا تذبح فهي حلال، وكذلك الجراد من أي مكان أتى فحلال، وهذه الشروط الثلاثة هي:
الشرط الأول: أن يكون هذا اللحم المذبوح من كتابي، أو من ذبائح أهل الكتاب، وأهل الكتاب هم النصارى أو الدول المسيحية؛ ودول الأطلسي هذه أكثرها مسيحية: أمريكا، بريطانيا، فرنسا، إيطاليا، ألمانيا وغيرها ولو أنهم لا يعتقدون المسيحية ولا يعرفون منها كوعهم من بوعهم، لا رؤساؤهم ولا مسئولوهم؛ لا يعرفون من المسيحية شيئاً لكن ديانتها ومنهجها تنص -حتى الحكم الفيدرالي- أن دين دولتهم هي المسيحية، فلذلك ما يأتي منها فلنا أن نأكله، أما غيرها من البلاد الشيوعية أو الوثنية فلا، مثل: الصين، والدانمرك، وروسيا، ويوغسلافيا، وألبانيا، بلغاريا، هؤلاء الذين يقولون: لا إله والحياة مادة، لحومهم لا تقبل بأي طريقة مهما ذبحت.
قال سبحانه وتعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ} [المائدة:5] فأهل الكتاب -أيها الأخوة- طعامهم حلال، إسرائيل طعامهم حلال، وأقصد بها دولة إسرائيل هذه، واليهود ومن شايعهم، لحومهم حلال ولا يعترض الفلسطينيون يقولون: كيف تحلِّوا لحوم إسرائيل اليوم، أنا أقصد لحوم الذي سيذبحون لا لحوم الإسرائيليين شامير وموشي ديان فهي حرام ولو ذبحت على الطريقة الإسلامية فلحومهم حرام.
الشرط الثاني: أن تكون من اللحوم التي أحلها الله عز وجل لا من اللحوم المحرمة.
لا يأتي مسلم فيقول: ما دام أن لحم الخنزير أتى من دولة كتابية مسيحية فهو حلال، فنقول: لا، بشرط أن يكون قد أحله الله، مثل الأزواج الثلاثة: بقر أو غنم أو إبل أو ما سبق بيانه من الأرانب والدجاج وما ذكرنا قبل، فيكون عندنا مباحاً في الأصل لا عندهم هم، لأنهم يرون الخنزير مباحاً في شريعتهم وقد كذبوا على الله.
الشرط الثالث: أن تكون قد ذكيت ذكاةً شرعية، ولا يأتينا خبر أنها ذبحت لغير الله، ذكاة شرعية أي أنه: قطع المريء والودجين أي: اسال الدم فصار دمها مسفوحاً، وهذه هي الذكاة الشرعية، وذكاة الكتابي لا نشترط فيه أن يسمي فنحن نسمي ونأكل، ونشترط فيما ذكي ألا يكون بالصعق؛ لأنه قد تقتل بالصعق، وقد تقتل الذبيحة بآلات من نصفها وقد تضرب بالمسدس ثم تسقط، وإنما تكون ذبحاً وذكاةً شرعياً؛ إذا قطع فيها المريء والودجين، وأما إذا قطع بعض أعضائها حتى ماتت فلا يصح هذا، وإذا قطع شيئاً منها، وأرسلها لنا فلا تصح؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: {ما قطع من البهيمة وهي حية فهو كميتته} وهو حديث صحيح.
إذاً أتاك لحم وعلمت أنه لحم غنمي أو إبل أو بقر من أهل الكتاب، وأخبرك أنه ذبح؛ فعليك أن تأكل وليس عليك أن تسأل عمن ذبحه وهل سمى أم لا؟ لكنك تسمي وتأكل، إذا تأكدت أنهم يذبحونه ذبحاً، والأصل أنهم يذبحون ذبحاً؛ لكن لو أتاك ما نشرت مجلة المجتمع عن بعض المصانع أنها تصعق الحيوانات صعقاً فهذا لا يؤكل، وهذا محرم، لأنك تبينت خلاف الأصل، أما إذا عففت نفسك عن هذا فلا تحرمه على الناس: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ} [النحل:116] وكثير من الناس الآن يدخل البقالات ويقول: هذا الجبن حرام وهذه القشطة حرام، وهذه حلال، من جعلك يا أبا حنيفة تحرم أو تستنبط من النصوص؟ إن مسألة أن الإنسان يحرم على الناس أو يحلل للناس، فإنه إنما يتكلم عن الله أو يوقع عن الله، ولذلك قال ابن القيم في أعلام الموقعين: الذين يوقعون عن الله هم أهل الفتيا.
فالإنسان إذا اقتنع بشيء فليبق هذا الشيء له، قال صلى الله عليه وسلم: {الحرام بين والحلال بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، ومن تركها -أي: المشتبهات- فقد استبرأ لدينه وعرضه}.(387/22)
الأسئلة(387/23)
حكم أكل البغل
السؤال
هل أكل البغل حلال أم حرام؟
الجواب
الذي ترجح عند أهل العلم أن أكل البغل حرام لقوله سبحانه وتعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} [النحل:8] فالخيل خرجت بنص، والبغال سُكِتَ عنها فتبقى للركوب، ثم الاختلاف في سؤرها، فهي محرمة لا تؤكل، وأكلها منهي عنه لهذه الأدلة وغيرها.(387/24)
نادرة لأبي دلامة
السؤال
يقول: كان أبو دلامة مزاحاً متفكهاً للخليفة المهدي يرافق الخلفاء ومما قال:
قد رمى المهدي ظبياً شل بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما كل امرئ يأكل زاده
فهل هذه القصة صحيحة؟ وهل علي بن سليمان يأكل الكلب؟
الجواب
هذا صحيح، إن كان يسأل عن صحة هذا فهو ثابت عن أبي دلامة.
وعلي بن سليمان لا يأكل الكلب، وهذا أبو دلامة متفكه خرج مع الخليفة المهدي ابن أبي جعفر المنصور، فأطلق المهدي سهماً فصاد ظبية، وأطلق علي بن سليمان -وهو وزير من وزراء المهدي - سهماً فصاد فأتوا يسحبوه فوجدوه كلباً فقال المهدي لـ أبي دلامة: قل في هذا شعراً، قال:
قد رمى المهدي ظبياً شل بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان رمى كلباً فصاده
فهنيئاً لهما كل امرئ يأكل زاده
فقال هذا على سبيل الدعابة.
ومما يذكر أن أبا دلامة دخل على المهدي فقال: سمعنا أنك تحفظ الحديث، فماذا حفظت من الحديث؟ قال: ما حفظت من الحديث إلا ثلاثة، قال: ما هي؟
قال: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعجبه الحلوى والعسل} وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لـ أبي هريرة: {اشرب اللبن، قال: شربت حتى ما وجدت له مسلكاً} والثالث: {إذا حضر العَشاء والعِشاء فابدءوا بالعَشاء قبل العِشاء}.
قال: وهل تحفظ شيئاً في الجنة؟ قال: حفظت حديثاً، قال: ما هو؟ قال: حدثنا فلان عن فلان عن عكرمة عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: من حفظ خصلتين دخل الجنة، نسي عكرمة واحدة ونسيت الثانية.(387/25)
هل الثوم والبصل ملعونان
السؤال
ورد في بعض الروايات وصف الثوم والبصل بأنهما ملعونين.
فهل هذا صحيح؟
الجواب
ليس بصحيح، وهذا الحديث باطل، لم يلعن الرسول صلى الله عليه وسلم الثوم ولا البصل، وإنما قال: {خبيثتين}.(387/26)
حال حديث: إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد
السؤال
هل هذا الحديث صحيح أم لا: {إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد فاشهدوا له بالإيمان}؟
الجواب
هذا الحديث رواه الترمذي، وهو حديث ضعيف في سنده دراج بن أبي السمح، يروي عن أبي الهيثم الشامي وروايته عن أبي الهيثم ضعيفة.(387/27)
حكم قتل الفواسق بالبندقية لتعلم القنص
السؤال
لقد ذكرت في جواز قتل الحدأة، والغراب، والفأر، والعقرب، والكلب العقور.
فهل لنا أن نقتلها لغرض تعلم القوم بالبندقية؟
الجواب
نعم، لك أن تقتلها بالبندقية ليتعلم عليها القوم؛ لأنها ضاره يقتلها الحل والمحرم، فاقتل وتوكل على الله.(387/28)
حكم أكل لحوم القطط
السؤال
هل تؤكل لحوم القطط؟
الجواب
الهرة لا تؤكل وقد سمعتم الحديث في السنن: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل الهرة وعن أكل ثمنها}.(387/29)
أكل الغنم الآكلة للحوم
السؤال
ما حكم أكل الغنم التي تأكل اللحم من غير ضرورة؟
الجواب
الغنم التي تأكل اللحم من غير ضرورة يجوز أكل لحمها لأن أكل الغنم للحم ليس هو قوتها، هي تأكله عرضاً مثل الدجاج الذي يأكل اللحم أحياناً، أما الحيوانات التي قوتها اللحم فهي حرام يعني: لا تعيش إلا على اللحم وقوتها وأكلها اللحم، مثل: النسر، والصقر، والأسد، والذئب، والفهد؛ فهذه حرام؛ لأن غذاءها اللحم، أما الغنم فمعروف أنها نباتية ولا تأكل اللحم إلا أحياناً، أو إن أصابها هوس أو تخلف عقلي.(387/30)
حال حديث: (كل عمل لا يبدأ فيه باسم الله)
السؤال
ما درجة حديث: {كل عمل لا يبدأ فيه باسم الله فهو أبتر}.
مع العلم أن الشيخ الألباني ضعفه وابن حجر حسنه؟
الجواب
أما لفظة: {كل أمر لا يبدأ فيه بباسم الله} باسم الله هذه ضعيفة، وأما الحسن الذي حسنه ابن حجر فهي: {كل أمر لا يبدأ فيه بذكر الله وبحمد الله} عند أبي داود وعند ابن حبان فهي حسنة فيجمع بينها بين ابن حجر والألباني:
خذا جنب هرشى أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشى لهن قرين(387/31)
حكم صلاة ست ركعات بعد صلاة المغرب
السؤال
قرأت كتاباً اسمه: نصائح هامة لـ محمد حسن النشار وقال فيه: من صلى ست ركعات بعد صلاة المغرب اثنتين اثنتين اثنتين كأنها عبادة اثنتي عشرة سنة؟
الجواب
أما الست ركعات بعد المغرب فوردت في حديث عائشة في حديث حسن، وأما أنها تعادل اثني عشرة سنة فهذا موضوع على الرسول صلى الله عليه وسلم.(387/32)
حكم أكل الفيل
السؤال
ما حكم أكل الفيل؟
الجواب
قال ابن حزم: أكل الفيل لا بأس به.
والصحيح عند الجمهور أن الفيل لا يؤكل لأمور:
أولها: أن له ناب.
والثاني: أنه مستخبث بالطبيعة.(387/33)
الجمع بين قتل العقرب واتخاذ الحيوان غرضاً
السؤال
ذكرت أنه يجوز اتخاذ العقرب والغراب غرضاً فما صحة حديث أنه قال صلى الله عليه وسلم: {لعن الله من اتخذ ذوات الروح غرضاً}؟
الجواب
هذا الحديث صحيح، وهو من حديث عبد الله بن أبي أوفى عند البخاري ومسلم: {أن رجلاً اتخذ دجاجة يرميها، قال: لعن صلى الله عليه وسلم من اتخذ ذات الروح غرضاً}.
فأما هذا فلا يتخذه غرضاً لكنه يتخذها صيداً، والصيد غير الغرض، فأنت سألت قبل قليل عن القنص: أن تأخذ البندقية فترى فأراً فتضربه، لك ذلك، لكن أنت إذا جعلته غرضاً تضرب به ليس بوارد وأن تأتي بعقرب ليس بوارد مع العلم أنني أقول إن شاء الله: أن الغرض تكون من المأكولة أما غير المأكولة التي محرمة فلا بأس في اتخاذها كالثعبان وكالفأر ولكن إذا أردت الجمع فكأن الغرض شيء والقنص شيء آخر.(387/34)
حكم أكل النعام
السؤال
هل أكل النعام حلال أم لا؟
الجواب
أكل النعام لا يجوز إلحاقاً بفصيلة الحدأة وقد أمر صلى الله عليه وسلم بقتل الحدأة في الصحيحين من حديث عائشة، وقيل: لأكلها اللحم.(387/35)
حال حديث: (استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان)
السؤال
ما صحة الحديث: {استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان}؟
الجواب
حسنه بعضهم كما ذكر العجلوني في كشف الخفاء، ولكن الصحيح أنه ضعيف عنه صلى الله عليه وسلم، وصح من كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه.(387/36)
حكم الشيشة
السؤال
ما حكم الشيشة؟
الجواب
الشيشة حرام، لقول الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] فهي خبيثة من الخبائث، خبيثة في الجسم والمال فهي خبيثة حسياً ومعنوياً والحمد لله رب العالمين.(387/37)
حال حديث: (من فتح على نفسه باباً وهو في غنى)
السؤال
{ من فتح على نفسه باباً وهو في غنىً عنه فتح الله عليه سبعين باباً من الفقر}؟
الجواب
هذا الحديث لا يصح، ويصح حديث صلى الله عليه وسلم: {لا تزال المسألة في الرجل حتى يلقى الله يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم} وصح من حديث الزبير عند البخاري: {لأن يأخذ أحدكم حبالاً، فيذهب يحتطب من الجبال، ويبيع فيستغني عن الناس، أفضل له من أن يطلب الناس أعطوه أو منعوه} وصح في حديث لفظه يشابه قوله صلى الله عليه وسلم: {من سأل الناس تكثراً فإنما يسأل جمراً فليستقل أو يستكثر}.(387/38)
حكم أكل الثوم والبصل
السؤال
يا شيخ! أليس النهي في قوله صلى الله عليه وسلم: {من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مصلانا هذا} أن هذا النهي للتحريم لأنه ليس فيه صارف يصرفه عن ذلك؟
الجواب
هذه كما يعلم طلبة العلم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من أكل ثوماً أو بصلاً فلا يقربن مصلانا هذا}.
والقاعدة الأصولية تقول: كل نهي يحمل على التحريم إلا ما صرفه صوارف.
والذي يظهر أن هذا على الكراهية وليست تحريماً لأنه ما ارتكب أمر يحرم عليه حضور المسجد، ثم عُلم أن من الناس في عهده صلى الله عليه وسلم من ابتلي بهذه الأمور وما حرم عليه دخول المسجد، لكن أراد صلى الله عليه وسلم أن يكره لهم هذا الأمر فصرفها صوارف:
من الصوارف:
أن الثوم والبصل حلال في الأصل.
ومن الصوارف: أن صلاته صحيحة ليست كصلاة شارب الخمر.
ومن الصوارف: أنها ما أفسدت عقله وما نجست جسمه.
فاقتضى أنها للكراهة وليست للتحريم، ولو أنه يعزر بالكلام من يفعل ذلك، مع أنه يجب على المسلم إذا أتى المسجد ألا يؤذي إخوانه المسلمين والملائكة، بل يكون متقيداً، وأكثر ما يتضرر أهل المناجاة إذا ناجاهم رجل من المسلمين فإنهم يتضررون لحديثه هذا.(387/39)
حكم تاريخ الانتهاء في اللحوم المستوردة
السؤال
هل لابد أن ينظر إلى تاريخ الانتهاء في اللحوم المستوردة؟
الجواب
لا يهمك تاريخ الانتهاء، لأنه إذا كان خنزير فلا ينفعك تقديم الانتهاء على تأخير الانتهاء، لا بد أن تتأكد من اللحم هذا الموجود هل هو لحم طلي أو لحم خنزير؟ وإذا كانت لحم طلي فلا بد أن تتأكد من أمور:
هل ذبح في أرض أهل الكتاب في أمريكا وغيرها؟ وهل ذبح على الطريقة الإسلامية ذباحة شرعية؟ هل هو مباح عندنا وقد أسلفت هذا، وهي خلاصة ما كتب بها الكتبة في هذا العصر، وهذا القول هو الموافق لقواعد الشرع، وهناك أقوال أخرى.
ثم إني أقول: المجلس ليس حجراً على أحد، لكنه مجلس تحدي، ومن كان عنده دليل آخر فليأتِ به: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(387/40)
قصائد مختارة
إن الدعوة إلى الله لها أساليب شتى ومتنوعة، ومن هذه الأساليب أسلوب مؤثر، ألا وهو الشعر، وتجدون في طيات هذه المادة قصائد مختارة من ديوان لحن الخلود للشيخ عائض القرني.(388/1)
قصيدة: أبو ذر في القرن الخامس عشر
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فهذه قصائد من (ديوان لحن الخلود) الذي سوف يصدر قريباً بإذن الله.
القصيدة الأولى: (القصيدة الذرية) أو (أبو ذر في القرن الخامس عشر) رضي الله عنه وأرضاه، وسببها: غربة المسلم في هذا العصر التي تشابه غربة أبي ذر رضي الله عنه حينما خُلِّف بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم أجمعين، رآه صلى الله عليه وسلم في تبوك وهو مقبلٌ وحده فقال: {رحمك الله يا أبا ذر، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك}.
دمعة الزهد فوق خدك خرسا ووجيب الفؤاد يحدث جرسا
أنت من أنت يا محب وماذا في حناياك هل تحملت مسا!
ما لهذي الدموع مالك صبٌ حالكم مأتمٌ وقد كان عرسا
شامة الزهد في مُحيَّاك صارت قصةً تطمس الحكايات طمسا
قال أزمعت هجرة بيقيني قد مللت المقام وازددت بؤسا
وأتيت الصحراء تروي حديثاً يتوالى يفيظ روحاً وأسا
تشتكي بعده وتهدي إليه زفرات الحنين جناً وإنسا
هجرت نومها وأسهرها الحب فيا جندب ترى أين أمسى
جاءها يقطع الرمال وحيداً يركب الليل يصحب الذئب خمسا
كلما حل قفرة سار منها يتوارى يجس ممشاه جسا
قال: يا أرض يا رمال خذيني كفنيني إني عشقتك رمسا
أنا يا بيد ضقت ذرعاً بجسمي فاحضنيني يا بيد فالأرض تعسى
دولتي جعبتي وكنزي يقيني فإذا ما وصلت فالكل ينسى
خوفتني القصور لما اشرأبت ماثلاتٍ تَزْوَرُّ عنفاً ونحسا
طاردتني الدنا فطرت برجلي واتخذت البلاد رحلاً وحلسا
عشت فرداً والناس مليون حولي وأراها الذئاب غبسا وطلسا
خولوني مالاً فقلت دعوني أنا مالي ألا أرى المال نحسا
لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى أُحَسَّا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت في الحق نفسا
أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
قد بكت غربتي الرمال وقالت يا أبا ذر لا تخف وتأسا
قلت لا خوف لم أزل في شباب من يقيني ما مت حتى أُدَسا
أنا عاهدت صاحبي وخليلي وتلقَّنت من أماليه درسا
لوحوا بالكنوز راموا محالاً وأروني تلك الدنانير مُلْسا
كلها لا أريد فكوا عناني أطلقوني أسير في الأرض شمسا
اتركوني أذوب في كل قلب أغرس الحب في حناياه غرسا
أجتلي كل روضة بدموعي وأبث الأزهار في الروض همسا
خفت الصوت في التراب وماتت عزمات كالفجر تنبس نبسا
واختفت سيرة طوتها الليالي وتوارت ذؤابة الزهد حبسا
استرح يا فؤادُ يا نفس قري واكتبي قصتي بسبعين طرسا
أين ميراثه لينعم فيه عاشقو المال أين مالك أرسى
بردة أبلت الليالي سداها وتركت العصا وخلفت ترسا(388/2)
قصيدة: على أرض الكويت
القصيدة الثانية:
وهذه القصيدة بعنوان: (على أرض الكويت) أُلْقِيَت في مهرجان شباب جامعات دول الخليج، في مدينة الكويت:
حي الكويت ففيها الملتقى الرحبُ والرأي والعزم والأبطال والنجُبُ
وانثر ثناءَك مسكاً زاكياً عبقاً كأنما هو صوت الخلد ينسكبُ
اسقِ المعنَّى بنار الحب عَلله ماء الخليج فقلب الصَّب ملتهبُ
كويت ما عرف الأحباب غربتنا وقد أساء بنا الواشون إذ كذبوا
ننوي الزيارة لكن في مرابعنا ما يذهل الهاجرين الدار لو رغبوا
لا تحسن العذر منا ألفُ قافيةٍ لأن من يطلب الأعذار لا يهبُ
هذي الجزيرة قد غادرتُها وجلاً من الفراق وقد أضناني النصبُ
أما تراني براني الهم في صغري لم يبق يا صاح إلا العظم والعصبُ
تركتُ نجداً شذا الريحانِ يَأسِرها في أرضها يتغنى الشعر والخُطبُ
وللحجاز عتابٌ في عذوبته يَسْبِي القلوب فيا أهلاً به عتبُ
سل الجمال بأرض الله أين غدا تجيب أبها ويروي السهل والحدَبُ
من فقد ذيَّاك صار الهم يصحبني فالطرف منتبه والنجم منتصبُ
وخفَّفَ الوجدَ إخوانٌ لنا هتفت لهم شئون فؤادي والتقى النسبُ
فجدَّدت ذكرياتِ الحب رؤيتُهم فقد نسيت غداة الجمعِ مَن ذهبوا
خذوا سلامي إلى أرض العراق ففي أحشائها الدهر والتاريخ والحِقَبُ
وعرِّجوا بـ دبي فانثروا قُبَلِي على تراب الرُّبَى هذي هي القُرَبُ
كم في المنامة من خِلٍ ومعرفةٍ وكم على دوحة الأخيار مَن صحبوا
سيحفظ الحبَّ قلبي في عُمان ولو قالوا بعُدْت فإن الوصل مقتربُ
أتيت أحمل أحزاني لأنثرها في محفلٍ زانه الإفضال والأدبُ
وأُمَّتي في بحور الخوف غارقةٌ لم تدرِ أين هو المسلوب والسَّلبُ
أضحى يمزقها من ليس يرحمها وفي دماها هواة القتل قد خُضِبُوا
تحاول اللات والعزى خديعتها وتعتلي أرضها الأصنام والنُّصُبُ
كم ذاقت المرَّ من مستعمرٍ لبقٍ قد أنجبته، فخَابَ النسل والنَّسبُ
هم الأشاوس إلا أن قوتهم في سحق إخوانهم إن يصدق الغضبُ
هم الأباةُ ولكن في حظائرهم إذا تكسرت النبعاءُ والغربُ
في دارهم كأسود الغاب جاثمة وفي نزال اليهود الفدم قد هربوا
ظنوا القنابل أبواقاً مزخرفةً والقاذفات هي الأترج والعنب
إذا تبدَّت لنا الميراجُ تقصفنا سعت لتسقطها الصيحات والخُطَبُ
شجباً ونُكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
كيف انهزمنا وما هذي بعادتنا سيُخْبِر السيفُ عنا والقنا السُّلُبُ
سلوا فخامة كسرى عن كتائبنا وجيشه الضخم لما مُدَّت القُضُبُ
سرى يجرُّ ذيول الخزي منكسراً وكُسِّرت عنده التيجان والحُجُبُ
واستشهِدوا قيصرَ الرومي ودولتَه جنودُه في ليالي نصرنا حَطَبُ
نعم نُصِرنا لأن الله مقصدنا وليس يخدعنا عن ربنا سَبَبُ
واليوم مَزَّقت الدنيا مذاهبَنا وشَتَّتَتْنا الكراسي السودُ والرُّتَبُ
فسامنا الخسف أخزى العالمين ومِن تدميره بكت الحيفاءُ والنقبُ
وفي نيويورك ألقينا مطالبَنا وفي ربى موسكو نبكي وننتحبُ
عفواً كفى القلب ما يدميه من أسفٍ لقد تساوى لدينا الطين والذهبُ(388/3)
القصيدة المدوية
القصيدة الثالثة:
وهذه القصيدة بعنوان: (المُدَوِّيَة) أو (الإسعاف في إتحاف سياف) أرسلتها لزعيم المجاهدين الأفغان الأستاذ الشيخ/ عبد رب الرسول سياف، جزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء:
سياف في ناظرَيك النصر يبتسم وفي محياك نور الحق مرتسمُ
وفيك ثورةُ إسلامٍِ مقدسةٌ بها جراحُ بني الإسلام تلتئم
حطمْتَ بالدم أصناماً محجلةً وصافَحَتْ كفّكُ العلياءَ وهي دمُ
ثأرت لله والدين الحنيف فلم يقم لثأرك طاغوتٌ ولا صنمُ
على جبينك من سَعدٍ توقُّدُه وخالدٌ في رؤى عينيك يقتحمُ
قامت عزائمك الكبرى لمعركة بها بنو العرب ودوا أنهم عجمُ
حلق إذا شئت فالأرواح طائرة فعن يمينك من عاهدت كلُّهمُ
وصُغْ من المهج البيضاء ملحمة يظل يقرؤها التاريخ والأممُ
موتاً على صهوات البيد يعشقه أهل البسالة في عليائهم شممُ
لا موت مَن يكسر اللذاتُ فطنتَه حياتُه في الورى سيان والعدمُ
سياف خذ من فؤادي كل قافية تجري إليك على شوق وتستلمُ
قد صغتها أنت إسلاماً وتضحيةً وفي سواك القوافي أشهرٌ حرُمُ
منك المعاني ومني نسجها وأنا نظْم وأنت على ألفاظها حكمُ
أنفاسها منك إلا أنها مُثُلٌ وروحها فيك إلا أنها كَلِمُ
بها حياءٌ إذا سارت لحضرتكم ماذا تقول ويكفي أنك العلَمُ
حُبٌّ ولكنَّ شعري لا يحيط به من ذا يبلغه عن خاطري لَكُمُ؟
لمن تركت القصور الشم في دَعَةٍِ لمن تركت نعيماً كله ألَمُ
لمن تركت المقاصير التي رُفِعَت لكل أرْعَنَ للذاتِ يلتهمُ
سواك يرشُفُ كأساً من سُلافته وأنت ترشُف كأساً ماؤه الكرمُ
كادت معاليك أن ترويك معجزة لكن تواضعك الأسمى لها كَتَمُ
كأنما أنت كررت الأُلَى ذهبوا هذا صلاحٌ ومحمودٌ ومعتصمُ
السائرون وعين الله ترقبهم السابحون وماء البحر مضطرمُ
الواهبون نفوساً أفعمت ورعاً الشاربون رحيق الموت إن هجموا
الساجدون ونار الحرب موقدة الذاكرون وزحف الهول محتدمُ
أكفانهم نسجوها من دمائهمُ على مطارفها النصر الذي رسموا
ماتوا ولكنهم أحياء في غرف من الجنان وذابوا لا فقد سَلِموا
سارت إلى الحرب أرواحٌ مكرَّمةٌ لو لم تسر لسرت نار الفنا لهمُ
لعل في الموت سراً كيف يعشقه جيل فكم شربوا منه وكم طعموا
الميت الشهم يوصى الحي في لهف والحي يغبط موتاهم ويغتنمُ
صاغوا الترانيم من صوت المدافع إذ سواهمُ يحتويه النايُ والنغمُ
فكل أصيدَ منهم هبَّ منطلقاً كالنجم كم من شياطينٍ به رُجموا
لو خاطب الموتُ فرداً واحداً وهمُ مليون سهم لأموا الموت واستهموا
قنابل الموت صيغت من جماجمهم فالموت أصبح من غاراتهم يَجِمُ
والطائرات على صيحاتهم سقطت صرعى ورُبَّانها فوق الربى فحمُ
يكبرون فتهتز الربى فرَقا ويهتفون فيسعى النصر نحوهمُ
من كل أطلس عزرائيل يشبهه في فيلق النصر لا يبكون ميْتَهُمُ
تلك المكارم لا دنياً مزخرفةً قد مازج الماء منها الذل والندمُ
يا رب أنت ولي المسلمين ومَن سواك من هذه الأصنام ينتقمُ
أنزل على جندك الأسمى ملائكةً وراء جبريلَ روحَ القدْسِ ينتظمُ
ثبت قلوباً بك اللهم قد علقت ساروا إليك وماتوا فيك واعتصموا
بيِّض الوجوه على الرمضاء قد سجدت إليك وحدك أنت المالك الحكمُ(388/4)
قصيدة: إلى الأحبة
القصيدة الرابعة:
وهذه القصيدة أو المقطوعة بعنوان: (إلى الأحبة).
خيالك ما بدا لي أم خيالي فما أدري يميني مِن شمالي
لقد سَكِرَت معاني الحب حتى أقام صلاته قبل الزوالِ
أتيتُ أحبتي فنسيتُ نفسي وكنت جوابهم قبل السؤالِ
نحرت على مُنى الإخوان شخصي كذاك النحر لا نحر الجمال
وطفت على قلوب الصحب سبعاً رملت على الحشا قبل الرمال
ولما جئت زمزم سابقتني دموع من سجال عن سجال
رويت من الدموع وقلت شكراً لساقي الماء مائي من دِلالي
دعوني أكتسي ثوباً لقلبي فقلبي مزقته يد الليالي
وفكوا مهجتي أبكي بدمع طهور يغسل الحقب الخوالي
فأحشائي جراحات كبار بها غاصت نصال في نصال
غفوت لعل طيف الحب يسري ونمت فأيقظتني سوء حالي
وكف الهجر يمسح دمع عيني فتشكوه الجفون إلى الوصالِ
لقد طالت ليالينا فهلا يصرمها نداء من بلال
حنين قلوبنا للفجر أضحى نشيداً في حناجره الطوال(388/5)
قصيدة: ثناء وتبجيل لمعلم الجيل صلى الله عليه وسلم
القصيدة الخامسة:
وهذه القصيدة بعنوان (ثناءٌ وتبجيل لمعلم الجيل صلى الله عليه وسلم).
الأماني على لسانك أحلى فأعد يا حبيب عصراً تولى
لم أقضَّ لبانة العمر فيه ونهاني المشيب لما أطلا
أعصر الليل في كئوس من الحزن وأدعو الصباح حتى أملا
وأناجي الدجى بهمسة حب فارغ الصبر من لساني لعلا
ذكريات مع الرسول وحب تستثير الشجون منه الأجلا
كلما مر ذكره في فؤادي قال قلب المحب أهلاً وسهلا
كيف أحكمت يا عظيم بناءً هو من كل مشرق العمر أعلى
وتفانيت في بناء كيان أنت أوليته عطاءً وبذلا
كلما صغت جملة من نضار أنبت دوحة من المجد جلا
وإذا ما ابتسمت أبدعت جيلاً مرهف الحس يمتطى كل مثلى
المعاني تضوع منك وتبني فيك آمالها وترجوك خلا
والليالي تنورت بشموس أنت أرسلتها عفافاً ونبلا
والصحاري إذا مشيت رياض ملئت بالجمال حسناً ودلا
والتراب الذي وطئت وربي فاق تبر الحياة بل ذاك أغلا
شخصت فيك مقلة فاستلذت رؤية الحب في معاليك تجلى
قد أسرت القلوب بالحب حتى أصبحت في يديك بالحب جذلى
فإذا ما ذكرت فاضت عيون جعلت ذكرك المعظم كحلا
يعذر الصب في البكاء ونفس لم تصاحبك في حياتك ثكلى
غير أن اللقاء أضحى وشيكاً في سنين تمر بالحب عجلى
أي نعمى في هذه الدار إلا ذكرك العذب إن تولى وحلا
وإذا فاتك الحبيب فعجز أن تدع من حديثه كل أحلى
قد وجدنا في خلة الناس هجراً وجعلنا حديثك الشهد خلا
ولزمنا البيوت نقطف زهراً من رياض أخبارها فيك تتلى
نتهادى كالطير نجلو هموماً في حقول ما شئت ماءً وظلا
بأسانيد كالنجوم تجلت وفؤاد المحب فيها تجلى
ولذا همت بالحديث فروحي إن منعت الحديث تقتل قتلا
هو عندي ألذ من كل شيء فاجتهد ما تشا ملاماً وعذلا
ما سوى الذكر والحديث فإني أجد الوقت كاسداً ومملا
هل أبيع الأيام في قول مثلي وأعير الأنام فهماً وعقلا
هو مهما ارتقى فيكفيه نقصاً لم يكن بالنبي حاشا وكلا
أمه الأرض أرضعته بثدي من لبان تدره وهي حبلى
لا كثدي من السماء تجلى فيه وحي يشفيك نهلاً وعلا
مرحباً مرحباً بجيل كريم مشرئب للمجد أعلى وأعلى
مشرق كالسناء يهتف بالأشـ واق لا يشتكي سهاداً وكلا
إن أبها بكم تفوح عبيراً وهي تهدي لكم ثناءً أجلا
ولد الحسن والنبوغ سوياً والبها صار للنباهة خلا
ليس هذا من الغريب فإنا من بلاد منها الضياء أطلا(388/6)
قصيدة: وصايا نافعات
القصيدة السادسة:
هذه أُرْجُوزة فيها وصايا وفوائد بإذن الله.
لك مني الحمد يا رب العباد خالصاً يجري مع دمع في المداد
ثم حيوا بالصلاة المجتبى هاشمي البيت مرفوع العماد
والرضا عن صاحب القلب الكبير قل أبو بكر وما فيها نكير
صاحب الغار المنادى للصلاة جمع الله به الجمع الغفير
وأبو حفص بلا شك عمر صادق اللهجة محفوظ الأثر
نشر العدل وقوى ملة أخرجت أهل المعالي من مضر
واغش ذا النورين بالنور الأجل أهو عثمان فقل إي وأجل
صاحب الليل المسجى بالسجود سار للجنة بالخطو العجل
وارض ربي عن حسام مرتضى الإمام السيد الشهم الرضى
صاحب الراية في حرب اليهود التقي المرتضى حتى مضى
رب أكرم حسناً ثم الحسين لهما كل الوفا من سيدين
واذكروا أمهما تلك البتول خير من حاز الحجا بنت الرسول
والنجوم الزهر أعني العشرة ثم من بايع تحت الشجرة
لست أنسى حمزة ليث الردى وكذا جعفر موفور الندى
بعد هذا هاك مني موعظة لفؤاد الصب مثل الموقظة
هي في سبك الحلى مثل الذهب ليس مني بل لجيل قد ذهب
أنزل الله بهم رضوانه وحباهم ربنا غفرانه
أجمعوا أن التقى خير عمل وتواصوا كلهم قصر الأمل
وهي توفيق من المولى العظيم سيما إن ساعد الجد القويم
فابذل الجهد ولا تهو الكرى فاز من في سيره ليلاً سرى
لا تنم إلا كنوم الطائر كثرة النوم لباس القاصر
واحفظ القرآن دستور الحياة زاد زهاد وجند ودعاه
ثم نمق في حديث المصطفى فهو نور وجلاء وشفا
واكتسب من كل فن ما يطيب عند أسلافك مكنوز عجيب
تخذ الفقه رياضاً وارفة فبه من كل خير عارفة
بعد أن تكسوه من وشي الدليل ما يروي كل صب وعليل
واعرف الأنساب واقرا الأدبا فبها تسمو الكماة العربا
وانظم الشعر كشعر الأشنب أو كحشد في جفون الربرب
وألن قلبك بالذكر الكثير بلسم يجلب للقلب الكسير
وانصبن نفسك فينا داعية تشتفي منك القلوب الواعية(388/7)
قصيدة في الرياض
القصيدة السابعة:
وهي أُرْجُوزة قصيرة نظَمْتُها في الطائرة في سفري إلى الرياض لأمسية شعرية.
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي وليُّ
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاًباكرا مشاركاً لحفلكم وشاكرا
وحَمَلَتْنَا في السما طياره تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديكِ
ولا يجوز الابتدا بالنكره ومن أجاز ذاك فهو بقرة
إلى آخر ما قلت، ومنها:
ومن يزور لندناً في عمرة له ثواب حجة وعمرة(388/8)
قصيدة: ثناء وتبجيل للشيخ ابن باز
القصيدة الثامنة:
هذه القصيدة ثناء وتبجيل للشيخ الفاضل والوالد الكبير سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، ومن واجبنا كمسلمين أن نحتفي بعلمائنا، وأن نقدرهم، وأن نعرف حقهم؛ لأنه واجبٌ شرعيٌّ علينا.
من هذه المبادئ والمفاهيم قلت هذه القصيدة:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
والمدح يا والدي في غيركم كذب لأنكم لفؤادي بلسم شافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمَتْ لك المعالي ولم تولع بإرجاف
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تشفي بفُتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصداف
أقبلت في ثوب زهد تاركاً حللاً منسوجة لطفيلي وملحاف
تعيش عيشة أهل الزهد من سلف لا ترتضي عيش أوغاد وأجلاف
فأنت فينا غريب الدار مرتحل من بعد ما جئت للدنيا بتطواف
سر يا أبي واترك الدنيا لعاشقها في ذمة الله فهو الحافظ الكافي
أراك كالضوء تجري في محاجزنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها في نغمة الوحي من (طه) ومن (قاف)
ما أنصفتك القوافي وهي عاجزة وعذرها أنها في عصر إنصاف
يكفي مُحَيَّاك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعاف
يفديك من جعل الدنيا رسالته من كل أشكاله تفدي بآلافِ(388/9)
قصيدة: ثناء على النبي صلى الله عليه وسلم
القصيدة التاسعة:
هذه رباعية في الثناء عليه صلى الله عليه وسلم.
نسينا في ودادك كل شيء فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولما نلقكم لكن شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا(388/10)
قصيدة: تعال معي
القصيدة العاشرة:
وهذه قصيدة بعنوان (تعالَ معي).
تعال معي ورتل في أذان الفجر أنغاما
وأرسل في جفون الليل من رؤياك أحلاما
لعل الليل تؤلمه جراح منك إن قاما
فيحنو كالفؤاد الصب فالآهات أيتاما
ويحسو منك روح الحب جاماً إثره جاما
على الصحراء نبني خيمة الأشواق أياما
ونصنع من دموع الوجد فوق الريح أقلاما
فقد طالت ليالينا وأضحى يومنا عاما
نريد سماءنا سلماً نريد الأرض إسلاما
فكم من أدمع ضاعت وكم من ماجد هاما
ومن عجب ترى الأصنام صاغت فيك أصناما
لأنك قد بنيت على رفاة الوهم أوهاما
سُقيت على بساط الإثم كأس الهجر آثاما
فكان جزاؤك المعهود يا بن الأرض إعداما(388/11)
قصيدة: مع بلال بن رباح
القصيدة الحادية عشرة:
وهذه مقطوعة بعنوان (مع بلال) مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ماست على شفتيك نغمة بلبل فانساب ماء الحب في الخد الجلي
وتطايرت ومضات عينك أنجماً تُهْدى لكل مكبر ومهللِ
تسقي حُمَيا الموتِ ألف أمية (أَحَدٌ) هتفت بها لكل معطلِ
نازلتهم وقذائف التوحيد من كفيك تهوي للجبان الأنذلِ
فسحقت طاغوت الضلالة معلناً نصراً على رغم المهين الأعزلِ
أبلال فاسلَمْ يا سواد محاجرٍ أشبهت إنسان العيون الأجملِ(388/12)
قصيدة: مع بلال أيضاً
القصيدة الثانية عشرة: أيضاً في بلال رضي الله عنه:
أصوتكم زارني أم نغمة الوتر أم سحر شدو رواه الشدو في السحرَ
أم ومضة من سناكم أرسلت ألقاً أكاد أشفق من خوف على نظري
ملأت من نغمات الحب أنفسنا لأنت عندي ملء السمع والبصرِ
قامت بتكبيرك العالي عزائمنا من بعد أن عجزت وهناً من الكبرِ
وهلل الفجر من تهليلكم جذلاً وقام يرسم آمالاً على الشجرِ
بلال يا قصة الشجو الذي هتفت له القلوب وقد كانت من الحجرِ
أعد بلال نشيد الحب منتظماً ورتل الحق يروي أعذب السورِ
لما صرخت بآذان الهدى خشعت لك الوهاد وذاب الطل في الزهرِ
توضأ الفلق الباهي على حدسٍ من صوتكم واستفاقت رفقة السمرِ
والطير نشوان من شجوى هتافكم والروض يهتز في باهٍ من العمر
كم رددت صوتكم بالحب أندية مأنوسة من أبي بكر ومن عمر
سكبت في أذن الدنيا محاضرة من الوداد فذاب الحب في البشرِ
قذيفة الحق من إيمانكم أحد ترمي به كل نذل غير مستترِ(388/13)
قصيدة: في لقاء صبيا
القصيدة الثالثة عشرة:
وهذه قصيدة قلتها في صبيا في لقاء مع بعض الإخوة.
طف بالفؤاد على ربا يبرين إن كان دينك في الصبابة ديني
ومعنفي باللوم قلت له اتئد الدمع دمعي والعيون عيوني
لله هذا الجمع كيف تنورت صبيا فكم من ماجد ميمون
نيروز أوقاتي بكم متألق وغياب قلبي عنكم تشريني
كم في دياركم وكم في سوحكم من حاذق لا يكتفي بالدون
طارت به همم الرجال لمنزل في العلم في عز مع سحنون
زانته أردية الوقار فخلته يمتاح فيض الخير من ذي النون
أحفاد سعد والمثنى في العلا وذوو الفضائل من صلاح الدين(388/14)
قصيدة: ضحكت لك الدنيا
القصيدة الرابعة عشرة: ضَحِكَتْ لك الدنيا:
ضحكت لك الدنيا وأروق عودُها وافتنَّ بلبلها وفاح ورودها
وتلألأت طلعات فتية أحمد تجتاح أصنام الضلال بنودها
ماتت على صيحات أبطال الهدى حزب الخنا شوعيها ويهودها
يرعى علاها الله جل جلاله ومن الشريعة ركنها وعمودها
سهروا مع القرآن في غسق الدجى في ليلة ينسي النهار سجودها
لا من على الشهوات يطرح رأسه معبود أندية الهوى معبودها
نغم الخليل يهز أندية الملا فيموت من وقع الصدى نمرودها(388/15)
قصيدة: ثناء على الشيخ عبد الله بن عبد العزيز المصلح
القصيدة الخامسة عشرة:
هذه المقطوعة في فضيلة الشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن مصلح لما سافر إلى الباكستان.
يا راحلاً عن بلاد لم تعد سكناً لما رحلت كأن الناس قد رحلوا
دمع الصبابة في أجفان صحبكم وللقلوب على فرقاكم وجلُ
ما لي وللعجم العجماء آثرها شهم من العرب العرباء منتقلُ
لعل في الأمر شيئاً ما أحاط به شعري وليس غريب الفعل ما فعلوا
لا يزرع النخل إلا في مغارسه ولا يشاكله في فضله البصلُ
>
مهلاً أبا شاكر لو كان ينفعنا مهل ولكنها أيامنا دول
عسى الذي كتب الفرقى وقدرها يقدر الشمل والأشواق تتصلُ(388/16)
قصيدة: يطلبون فتح الباري
القصيدة السادسة عشرة:
وطُلِب مِنْ فضيلته (شرح كتاب فتح الباري) لطلبة أصول الدين، المستوى الثاني، فكتبت لهم هذه الرسالة إليه:
رؤياك عندي زينة الأعمار ووصول مثلك أشرف الأوطارِ
لكن إبلاغ المشوق صبابة أولى وأجمل من وصول الدارِ
يكفي محياك البشوش فضيلة أسر القلوب بفيضك المدرارِ
كلماتك الغر العذاب وسحرها طردت لذيذ النوم في الأسحارِ
لا غرو أن تسبي القلوب فإنها طوع المحب ومغرس الأبرارِ
ما قلت هذا القول حتى حزته عن ثلمة الأمثال والأشعارِ
عصماء ترفل بالثناء نظمتها فيضاً إلى الإخوان والسمارِ
أوما سمعت بأن قوماً عندنا طلبوا الهمام الشهم فتح الباري
جاءوك عواداً وزواراً ولو ندبوك للجلى لكنت الشاري
والعذر يجمل من سواك وإنه منكم غريب فاقد الأعذارِ(388/17)
أبيات في صوت الريح
القصيدة السابعة عشرة:
هذه المقطوعة بعنوان: (صوت الريح).
على كتلة من رمال الهموم رقدتُ لأسمع صوت الرياحْ
لأنسى بها كل ما زارني من الحزن حتى يزور الصباحْ
ففاجأني الليل في غمضة ثقيل الخطى جاثماً في الوشاحْ
فقلت: أما كان يكفي أسى مآسي حتى نكأت الجراحْ
فقال يقولون إن اللبيب إذا سَلِّ همته ما استراحْ(388/18)
أبيات في الهمة
القصيدة الثامنة عشرة: (الهمة):
أهوى سنا النجم لا للنجم أهواه لكن أهواه إعجاباً بعلياهُ
كل له همة عاشت تناسبه فلا يخالفها والمانح اللهُ
ترى الشجاع ونار الهول موقدة يهوى الردى وهو موت فاغر فاهُ
والعالم الَحْبرُ أهدى الليل مهجتَه وجاهل نحلت بالنوم عيناهُ
ما أنْحَلَ الجسم إلا ثقل راكبه ولا دَمَى القلب إلا ما تمناهُ(388/19)
قصيدة: سل قلبي
القصيدة التاسعة عشرة: (سَلِّ قلبي):
سَلَّ قلبي بأحاديث السَّمَرْ وانثر الأخبار في ضوء القمرْ
واترك الليل طويلاً بالمنى إن ليل الصب مطموس البصرْ
فإذا أغرى بك النجم فقل أيها النجم رويداً فاستترْ
اسق بالذكر فؤاداً طالما فقدت أحشاؤه طعم المطرْ
رب سبحانك فارحم مبلساً واجم الفكر معنى بالسهرْ
يتهادى بذنوب جمة تحت برديه ولكن ما كفرْ
يستبيح العذر منهوش القوى سار في الركب عليلاً فعثرْ
فأعد يا رب في أجفانه دمعة الخشية أو نور الفكرْ
وارحم اللهم جسماً ناحلاً ذابل المهجة في السير فترْ
شوقه يسري ولكن جسمه في خيام الحي شلواً ينتظرْ(388/20)
غن على الدينا السلام
القصيدة العشرون: غَنِّ على الدنيا السلام:
تبسم واعمر الأرواح عطرا فإن مِن الوَداد العذب سحرا
وذب في مهجة الأحباب شهداً لتملأ جعبة الأيام أجرا
فسلطان المحبة لَوْذَعِيٌّ وما أنبئتُ أرفعَ منه قدرا
إذا لم تدرِ أنك لست تدري فأصل الدهر بالأوغاد أدرى(388/21)
ملاطفة
القصيدة الواحدة والعشرون: (مُلاطَفة):
بتبسمي أطفأت ألف ضغينة وزرعت في قلب العليل ودادا
متجهم القسمات كم لا طفته لأسل من أضلاعه الأحقادا
ما كان مثلي بالطبيب وإنما طب التجارب تحكم الأوغادا
لا تشتر جهلاً عداوة ماجدٍ لتنال يا خدن العلا أمجادا(388/22)
قصيدة: مع المجاهدين الأفغان
القصيدة الثانية والعشرون: (مع المجاهدين الأفغان):
لكم منا السلام وإن بعدنا فقد كنتم على الدنيا سلاما
ونصركم القريب رسول مجد دماء الشعب في خمسين عاما
سترتفع الدماء من الضحايا ويلقي المعتدي موتاً زؤاما
تزينت الجنان لكم وهشت للقياكم وهيأت المقاما
وحيا الله بالشهداء منكم إلى المأوى وألبسهم وساما
وأخلف أهلهم صبراً جميلاً ليمسح فيضه دمع اليتامى
فقل للملحدين لقد خسرتم ستسقون الردى جاماً فجاما(388/23)
قصيدة: إلى اللقاء
القصيدة الثالثة والعشرون:
هذه القصيدة بعنوان (إلى اللقاء) قلتها بمناسبة وفاة أخي وشقيقي محمد بن عبد الله القرني، تغمده الله برحمته وغفرانه.
يا من تذوقت طول الدهر صحبته فكان يسكن في سمعي وفي بصري
صاحبته صحبة العينين فامتزجت أرواحنا منذ شب العود وهو طري
سيان عشنا وعاشت في ضمائرنا سيما الوداد فأبقت أطيب الأثرِ
لا راعك الله في دنيا نهايتها فرقى تحل وسكنى أضيق الحفرِ
وأحسن الله أجراً كنت ترغبه فقد أتاك على صغر من العمر
ورافقتك من الرحمن رحمته في جنة الخلد بين الماء والشجر
لك الجناح فرفرف في مرابعها إذا أتيت جناحاً طائراً فطرِ
رفرف مع جعفر الطيار في فنن على كثيب من الرضوان في السحر
أشجى وزادك تذكار الرحيل فقد قدمت بعضك كي تأتي الحمى فسرِ
عهد لقلبك عندي لا أخيس به يا طيب ذكرك في الدنيا لمدكرِ(388/24)
قصيدة: تعزية على لسان مولود
القصيدة الرابعة والعشرون: (تعزية على لسان مولود):
لا تبكِ من ويل الفرا ق ولا تفجع يا أباهْ
فلقد سمعتُ مُرَنِّماً فأجبت مسروراً نداهْ
فاصبر فيا لك من أبٍ قد أحسن الباري عزاهْ
أنا في منازل جنة خضراء تاهت بالهُداةْ
لا تبكِ علَّك أن ترى قبساً ينوركم سناهْ
وشفاعة تبقى لكم ذخراً سيحفظها الإله
أنا جئت طيفاً عابراً لا أبتغي عيش الحياة
دعني بطُهري راحلاً لا لا تدنسه الطغاة
لا تبكِ إنك لاحقي والركب قد سارت خطاهْ
من فارق الدنيا ولم يسكن بها تربت يداه(388/25)
قصيدة: إلى شاعر زبيد
القصيدة الخامسة والعشرون:
وهذه القصيدة كانت رداً على قصيدة شاعر زبيد الأستاذ/ محمد بن حسين الزبيدي التي أرسلها إلي، فقلت له بعنوان: (إلى شاعر زبيد):
نهدي السلام الذي في القاع مسكنه عساه من نفحات الشِّيح يهدينا
نزلت في غوطة والورق أسألها علام يا حاملات الحُسْنِ تبكينا
فارقتمونا فلم ننسى مودتكم فذكركم عن جميع الناس ينسينا
أما ذكرتم لنا عهداً ومعرفةً وافقتم الدهر عن وتر يعادينا
ردوا السلام إذا زرتم منازلنا عليك تسليمنا يا من تحيينا
وباكرتك من الأرياف هائجة تجتث من جانب الوادي رياحينا
ما كنت أحسب أن الحب يصرعني حتى تعلمت فن الهجر تلقينا
محمد بن حسين غاب وافدكم وبُعْدُكم يا أخا الإسلام يضنينا
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
فكيف يسلو رفيق الليل عن قبس قد كان دوماً بتقوى الله يوصينا
يا كنزنا كم بحثنا عنك في نصب لقيته ذهباً ما مازَجَ الطينا
العلم والفهم والتوجيه شيمته ما فاته الحزم في دنيا ولا دينا
قل لي بربك هل ماء الحياة صفا في بُردْكم فلماذا لا تروِّينا؟
شكراً زبيد فقد أهديتِ ما عجزت عن مثله في المدى روما وبرلينا
قد خصنا الله ربي من كرامته فذا سليلُ المعالي داعياً فينا
يطاوع الدمع شوقي في تسرعه أظن أن لهيب البعد يفنينا
أرى الجمال قبيحاً عند فقدكم وألمس الشوك في زَهر البساتينا
والنوم إن لم يكن في قربكم أرق والشهد يا صاح في فرقاك غسلينا
عتابكم أرج من طيب دوحتكم ولومكم بلسم بالنصح يشفينا
وعذركم عندنا برهان حجتكم يرد عنكم بصدق العذر قاضينا
عهدي بـ حسَّان في وقت تقدمنا إذا بسحر القوافي نافثاً فينا(388/26)
قصيدة: إلى أرض الحجاز
القصيدة السادسة والعشرون: (إلى أرض الحجاز):
يا راحلين إلى أرض الحجاز خذوا بالله يا أيها الأحباب أشجاني
هاكم دموع محب طالما لعبت به الهموم على بُعْد وهجرانِ
يحن قلبي إلى وادي العقيق ولو دنا العقيق لما حُمِّلتُ أحزاني
أو في الحمى دون سلع فانثروا قبلي وذكروه فديتم أرض نعمانِ
عند المصلى وفي وادي الأراك لنا شوقٌ قديم يذيب المدْنَف العاني
واستشهدوا البان علَّ البان يخبركم بما لقيت به من ساكن البان(388/27)
مسلم يخاطب الكون
القصيدة السابعة والعشرون: (مسلم يخاطب الكون):
قف في الحياة تر الجمال تبسَّما والطل من ثغر الخمائل قد هَمَى
وشدت مطوقة العروس ورجَّعتْ وترعرع الفنن الجميل وقد نما
وسرى النسيم يهز عطف عبيره والماء في عطف الجداول تمتما
وتفتح الأزهار واعتنق الندى هَدَرَ الغديرُ وكان قبل ملثما
والشمس أرسلت الأشعة في الفضا بدداً وقبلت الجليد فهمهما
وبكى الغمام من الفراق فشامت في الأرض يضحك ترحة وتلوما
والمؤمن اطلع الوجود مسَلَّماً أهلاً بمن حاز الجمال وسلما
فجثت لطلعته الجبال وأذعنتْ إذ كان منها في الحقيقة أعظما
وقد اشرأبت كل كائنة له فكأنه ملك يسير معلَّما
ورأى الحياة بنظرة قدسية وبها إلى عز المهيمن قد سما
كشف الحجاب عن الغيوم فأشرقت سبل الهداية قبله فتقدما
عرف الحقيقة فاستنار بنورها وتراه في عمق التفكر ملهما
في كل ماثلة تمر بعينه عبر تُعرَّفه الإله الأعظما
حبل الرجاء غدا به متمسكاً أنعم بحبل قط لن يتصرَّما
أترى الجمال بغير منظار حسناً ولو ملكت يداك الأنجما
أتظن أن الأنس يسكن برهة قلباً ولم يك في الحقيقة مُسْلِما
لا والذي جمع الخلائق في مِنَى وبدا فأعطى من أحل وأحرما
ما في ربوع الكون أجمل مَنْظَر من مؤمن للسعد جدَّ ويَمَّما
إن مت يا حامي الحياة فإنما هي نقلة تلقى حياة أوسما
في ظل رب كنت قد وحدته تلقاه في الأخرى أبر وأكرما
بل كيف ترحل والحياة تقودها ماللعوالم حول قبرك جثما
فاسعد فقد ظفرت يداك بصفقةٍ واهنأ فإنك بعد لن تتندما(388/28)
قصيدة: يا نفوس الإيمان لله طيري
القصيدة الثامنة والعشرون: (يا نفوس الإيمان لله طيري):
آية الله في الفضاء الكبير شاهداتٌ بصنع رب خبير
في انبلاج الإصباح في هدأة الليل وفي بسمة الصباح المنيرَِ
في ابتسام الورود عن كل ثغرٍ في انتفاض الربى بعطر العبيرِ
إن محيا النبات من سيب غيثٍ لجدير ببعثنا في النشورِ
فاسمع الكائنات قد سبحته شاخصات إلى العلي القديرِ
عز من لا يموت عن كل ند وتعالى عن صاحب وظهيرِ
إنما الخلق ذرة في يديه صغر الكون في امتلاك الكبيرِ(388/29)
قصيدة: رأيت الله
القصيدة التاسعة والعشرون: (رأيت الله):
إله الكون يسعدني رضاكا ومالي خالق أبداً سواكا
تراك إذا رأيت الكون عيني وأنت الله أعظم أن نراكا
...
إذا ما الفجر في الآفاق حاكا وإذ بالطل منسكب تباكي
فشوقي فيك ملتهب وبيني وقلبي دائماً يهوى علاكا
...
وإذ بالماء في الأوهاد يسري يتمتم عن معانٍ لست أدري
عساه يقول للرحمن شكراً فأنت الله قد أجريت نهري
...
وتنشق الزهور بكل لون تقول لنا أيا قومي دعوني
أسبح للذي بالماء أسرى إلي وكنت في هول المنونِ
...
إلهي في جميع الكون شاهدْ بأنك موجد للخلق واحدْ
ومن جحد الحقيقة كَذَّبوه كذبت لقد خسرت أيا معاندْ(388/30)
قصيدة: نصائح
القصيدة الثلاثون: نصائح (الخفيفة):
الحمد لله الولي رب العباد المعتلي
ثم الصلاة الجمة على شفيع الأمة
محمد المختار مقدم الأبرار
وصحبه وآله والكل في نواله
ورجل الخلافة ابن أبي قحافة
ثم عن الفاروق الناصح الشفوقِ
وحب ذو النورين فذاك قر العين
ثم الإمام المرتضى سيف الإله المنتضى
ثم جميع العشرة وبعد أهل الشجرة
وهذه وصية إلى الملا محصية
جمعتها للفائدة في حسنها كالمائدة
سميتها الخفيفة للأنفس اللطيفة
أوصيك يابن الدين يا صادق اليقين
أن تتقي الله الصمد منزهاً عن كل ضد
وقم وحي الخطبا وأوصهم مختطبا
فهم على المنابر كالأنجم الزواهر
وواجب الخطيب والمصلح الأريب
أن يعتني بالموعظة حتى تكون موقظة
يحقق الإخلاصا ليحرز الخلاصا
ويعتني بالعلم فهو أجل الغنم
ولا يكن بليدا في وعظه رعديدا
بل يجتهد ولا يمل ويحفظ الله الأجل
لا يسمع الغناءَ لا يحمل الرياءَ
ولا يضيع وقته فالموت يأتي سكتة
فالدين ليس مضحكة بل مسجد ومعركة
ولا لأجل الراتبِ يا معشر الأطايبِ
فيحرم التلاعب بالمال والمناصب
أما شروط الخطبة أنصت إليها رطبة
تحضيرها من الكتب والبحث يتلوه النصب
ومبدأ التطويل من شيم الثقيل
وعدم اللحن فما أقبحه وأظلما
ويعتني بالإلقا مخافة أن يلقى
ولا يرى في المحكمة عند القضا لمظلمة
فعاشق المشاكل في كل أمر فاشل
بل يستتر في داره مستأنساً بجاره
عليك بالنوافل فأجر تلك حاصل
فصاحب القرآنا وسبحن مولانا
واسجد له بعض الدجى وجهك أضحى أبلجا
ولا تكن في شلة فالفسق ما أذله
وصاحب الأخيارا فغيرهم حيارى
لا تشتغل بالغيبة فيها الردى والخيبة
وصل ربي أبدا على الرسول أحمدا
ثم سلام ربي على جميع الصحب(388/31)
قصيدة: المناصب
القصيدة الواحدة والثلاثون: (المناصب):
يتهاوون كالفراش هياماً كلهم همه حصول المناصبْ
علمتهم أفكارهم كيف يرقو ن وفي الجو منهم ألف غاصِبْ
لم تخولهم المواهب تقديراً فما القوم من رجال المواهبْ
حينما شابهوا الزمان دعاهم والزمان التعيس يهوى الحبايبْ(388/32)
قصيدة: متكبر
القصيدة الثانية والثلاثون: (متكبر):
أنت من أنت يا شبيه الزرافة يا عظيماً في كِبْرِهِ والسخافة
خفف الوطء ما رأيناك شيئاً كلما زدت كبرةً زدت آفه
هل توهمت أن جدتك الكبرى تولت على الأنام الخلافه
أم لأن العلوم صيغت جميعاً في دماغ ما فيه إلا الخرافه(388/33)
قصيدة: الدمعة الخرساء
القصيدة الثالثة والثلاثون: (الدمعة الخرساء):
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموتُ أجيالاًَ فيُفنيها
عارية المال قد ردت لصاحبها وأكنف البيت قد عادت لبانيها
والأينق العشر قد هضت أجنتها وثلة الورق قد ضجت بواكيها
يا رب نفسي كبت مما ألم بها فزكها يا كريم أنت هاديها
هامت إليك فلما أجهدت تعباً رنت إليك فحنت قبل حاديها
إذا تشكت كلال السير أسعفها شوق اللقاء فتعدو في تدانيها
حتى إذا ما كبت خوفاً لخالقها ترقرق الدمع حزناً من مآقيها
لا العذر يجدي ولا التأجيل ينفعها وكيف تبدي اعتذاراً عند باريها؟!
فإن عفوت فظني فيك يا أملي وإن سطوت فقد حلت بجانيها
إن لم تجرني برشد منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلا تيها(388/34)
حوار بين تقي وشقي
إن الصراع بين الحق والباطل، والخير والشر؛ قائم منذ أن خلق الله البسيطة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، صراع بين التوحيد والإلحاد، صراع بين الكفر والإيمان؛ مروراً بإبراهيم عليه السلام مع النمرود، وموسى مع فرعون، ومحمد صلى الله عليه وسلم مع الكفرة والملحدين.(389/1)
فضل الهداية
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين.
أما بعد:
جئت بالحب إليكم والسلام حاملاً أزكى التحيات العظام
في البكيرية أحبابي ولي إخوة فيها وأصحاب كرام
كم بها من مقرئ أو عالم يشبه البدر معالي التمام
رفعوا الإسلام في أرض الهدى ورووا الحكمة عن خير الأنام
أما محاضرتي فعنوانها: حوار بين تقي وشقي.
الناس صنفان: تقي وشقي: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7] {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19].
العيون قسمان:
عين عرفت الله ودمعت من خشيته، وتدبرت آياته، وتفكرت في مخلوقاته.
وعين نظرت إلى الحرام، وأعرضت عن هدي خير الأنام، وتصفحت المعاصي وأطلّت على الحرام، فهي العين الباكية يوم العرض الأكبر على الله.
والقلوب اثنان:
قلب عرف الله وامتلأ بلا إله إلا الله، وأحب رسول الله وسار على منهج الله، فهو قلب سعيد.
وقلب أعرض عن الذكر والتلاوة، والصلاة والمعرفة، والنهج السديد، وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم، فهو قلب منكوس.
والآذان أذنان:
أذن استمعت إلى الوحي، وإلى التلاوة والحديث، وإلى الدعوة والخير والذكر والبر، فهي أذن سعيدة.
وأذن أعرضت واستمعت إلى الغناء، والفحش، وإلى البعد والانهيار، وإلى كل ما يغضب الرب فهي أذن شقية.
والألسنة لسانان:
لسان نطق بالحكمة، وقال الخير، وذكر المولى، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر.
ولسان تكلم باللعنة والزور، والاستهتار والاستهزاء، والغيبة والنميمة، فهو لسان خاسر.
لسانك لا تذكر بها عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً لقومٍ فقل يا عين للناس أعين
أما عناصر هذه المحاضرة:
فمنها: إبراهيم عليه السلام في حوار حار مع النمرود بن كنعان.
موسى وفرعون في مناظرة ساخنة في إيوان فرعون.
محمد صلى الله عليه وسلم يحاور فاجراً.
مسيلمة الكذاب كذاب اليمامة يعترض على حبيب بن زيد أحد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
الأسود العنسي دجال اليمن يتحدث مع أحد الأبرار فيفحمه هذا البار الراشد.
ثم ننتقل إلى رجل هو من المسلمين وهو الحجاج مع عالم هو سعيد بن جبير لنسمع إلى حوار بين الاثنين.
وفي الأخير مع ربعي بن عامر أحد الصحابة وهو يدخل على رستم قائد فارس.
حوار بين تقي وشقي.
ما أحسن الهداية، وما أجلَّ أن تعرف الله، وما أعظم أن تتعرف على الواحد الأحد، سبحان الله كم فَقَدَ من فَقَدَ الله! وماذا فات من وجد الله! وسبحان الله كم هي القلوب التي أعرضت عن الله!(389/2)
إبراهيم عليه السلام في حوار مع النمرود
يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
يدخل إبراهيم عليه السلام يحمل لا إله إلا الله، يتصدر بالدعوة في سبيل الله، ينزل للناس، يدخل على الطغاة في قصورهم، يدخل على المجرمين في أوكارهم، وفي هذا درس لكم يا طلبة العلم! يا دعاة الإسلام! يا حملة الشهادات! يا أصحاب الكليات! يا من درس العلم الشرعي! فيه درس على أن تنزلوا إلى الساحة، وأن تخالطوا الناس، وتعظوهم، وتشعلوا المنابر، وتتحدثوا إلى الجماهير، فالله يقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ} [البقرة:258] هل ينكر عظمة الله إلا من ألحد؟! هل ينحرف عن منهج الأنبياء إلا من تزندق؟! {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] إي والله! من الذي يحيي العظام وهي رميم؟ إلا الله؟ {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] من أخرج المولود باكياً من بطن أمه لا يعرف شيئاً فدلَّه وبصَّره، وأحياه وأطعمه وسقاه؟! من علم النحلة بيتها ورزقها، وأن تجوب القفار والوهاد والجبال؟! من علم الثعبان أن يرتحل ويهاجر؟! من علم الجرادة أن تأوي والنملة أن تجمع في جحرها؟!
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاَّكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سمه فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله كيف تعيش يا ثعبان أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله العظيم لذاته حمداً وليس لواحدٍ إلاَّكا
ذكر ابن الجوزي: أن رجلاً رأى عصفوراً يأتي بقطعة لحم فينقلها من مكانٍ في المدينة ويرتحل بها إلى رأس نخلة كل يوم، فتعجب هذا الرجل؛ لأن العصفور لا يعشعش في النخل، فتسلق النخلة فرأى حية عمياء، كلما اشتهت الأكل أتى هذا العصفور بقطعة لحم، فإذا اقترب فتحت فمها فيلقي اللحمة في فمها.
سبحان من دلَّ العصفور ومن دلَّ الحية على رزقها!
فيقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258].
اسمع الكذاب، اسمع الدجال، اسمع الملعون الذي ينكر أعظم الآيات في الدنيا، ولذلك وجد في الساحة من تزندق واستهزأ بالقيم وتوحيد الألوهية والربوبية، إي والله وجد ذلك! عجباً لهم كيف يكفرون! وعجباً لهم لا يؤمنون! أفي الله شك؟! أفي آياته لبس؟! أفي ما أنزله من الكتاب والسنة غبش؟! حتى يستهزئ بعضهم بالقيم والأخلاق والدين والكتاب والسنة: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [التوبة:65 - 66].
فسكت إبراهيم لا سكوت العاجز المتقهقر المنهزم، ولكن: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:258] قال: كيف؟! فأتى برجل مسجون قال: هذا أحييته تركته لوجوهكم، وأتى برجل آخر فذبحه قال: هذا أمتُّه.
إنه كذاب، والله ما هذا بالإحياء والإماتة، قال إبراهيم عليه السلام: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] إن كنت صادقاً أنك إله فأتِ بالشمس من المغرب فإن الله يأتي بها من المشرق: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258] انهزم وخاب {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] إي والله: إن أوراقهم تحترق فليس لهم حجج ولا براهين، دجالون كذابون مفترون على الله.
هذا جدال وحوار ومناظرة بين تقي عرف الله وهو إبراهيم، وبين شقي وهو النمرود وماذا كانت النتيجة؟ هل سكت النمرود؟ لا.
لقد جمع حطباً وأجج ناراً، وأمر الجنود بأخذ إبراهيم وقال: قيدوه وألقوه في النار فإلى من يلتفت إبراهيم؟!
يا واهب الآمال أنت حفظتني ومنعتني
وعدا الظلوم عليَّ كي يجتاحني فحفظني ونصرتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك منعتني
من يمنعك إلا الله؟! {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
يقول ابن عباس كما في صحيح البخاري: {حسبنا الله ونعم الوكيل كلمة قالها إبراهيم حينما ألقي في النار، فجعلها الله برداً وسلاماً، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم يوم قيل له إن الناس قد جمعوا لكم}.
ألقوه في الحبال، وشدوا إبراهيم في القيد، وحملوه في المنجنيق، وأشعلوا له ناراً، وأتاه جبريل في الساعة الحرجة، والساعات الحرجة يعرفها بعض الناس منَّا، إذا أتت عليه مشكلة أو قضية يتمنى أن الجن يساعدوه، وبعض الناس ضعاف العقول والإيمان يستعين بالجن، حتى إذا مرض ابنه في البيت يذهب إلى المشعوذين والسحرة والكهنة، فينسى عقيدته وإيمانه، ومبادئه ومنهجه.
جاء جبريل إلى إبراهيم وهو مقيد بالحبال، لا إله إلا الله موقف ما أصعبه، ومقام ما أرهبه! قال: ألك حاجة؟ قال: أما إليك فلا وأما إلى الله فنعم، فحملوه فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، ووقع في النار فكانت برداً وسلاماً، فسبحان من أنجاه وحماه ووقاه! لأنه تقي، وسبحان من رد الخبيث الخسيس! لأنه شقي.
أتدرون بماذا عذب الله النمرود؟ ذكر بعض أهل العلم أن بعوضة دخلت أنف النمرود فتغذت على دماغه حتى أصبحت كالعصفور فكانت تفرفر في رأسه فيجد انزعاجاً وألماً وعذاباً وخيبة، لا تسكت هذه الفرفرة والقرقرة حتى يُضرب بالنعال أو بالكرابيج على رأسه، وفي الأخير ضرب فذهب مخ رأسه:
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار(389/3)
فقدان الإيمان سبب لعيشة الضنك
{وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124].
إي والله! وجدوا معيشة الضنك يوم سكنوا ناطحات السحاب بلا إيمان، وجدوا عيشة الضنك يوم استقلوا السيارات الفاخرة بلا إيمان، وجدوا عيشة الضنك يوم سكنوا الفلل وتولوا المناصب بلا إيمان: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى} [طه:124 - 125].
كان يبصر، بل كانت عيناه تدحرج كعيون القط في الحياة لكنه لا يبصر الهداية، يبصر التفاح والموز والبرتقال، يبصر الورقة والدخان، والمعاصي، والمسكرات والمخدرات، يبصر الفاحشة والجريمة، يبصر كل شيء إلا الدين والمصحف، مصحفه مجلة خليعة، وتلاوته الأغنية الماجنة، وجلاَّسه كل رعديد وزنديق ومارد وفاجر: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:125 - 126].
أيها الأخيار: ليس العمى عمى العينين ولو أنه عمى ظاهراً، إنما العمى عمى القلب: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
تجد بعض الناس عيونه كعيون الثور، لكنه لا يفهم، ولا يعي، ليس عنده قلب ولا حياء، مثل أبي جهل ينظر ويبصر، وعبد الله بن أم مكتوم أعمى بعيونه، ولكن قلب ابن أم مكتوم يعي ويبصر، وقلب ذلك الفاجر أعمى، فيقول الله في أبي جهل: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} [الرعد:19] والذي يعلم أنما أنزل من عند الله: ابن أم مكتوم.
أما أبو جهل فهو أعمى عن الحق.
يقول الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم في عمى ابن أم مكتوم {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1 - 2].
وهذا الأعمى أبصر الهداية، يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام، كأنه يقول: مالك تأتي إلى الثيران في الحضائر وإلى المجرمين وإلى الفجرة الذين تدحرج عيونهم وهم لا يعرفون القرآن، ولا الهداية، ولا النور، وتُعرض عن الصالحين ولو كانوا فقراء عمي في الظاهر لكنهم في الباطن مبصرون: {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس:1 - 10].
أما تدري أن هذا الأعمى سوف يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء! ولذلك عاش ابن أم مكتوم حتى أتت معركة القادسية وحمل ابن أم مكتوم الراية وهو أعمى وقُتل في المعركة شهيداً، وأبو جهل قتل وسَيُدَهْدَهُ على وجهه في النار.
ابن عباس ترجمان القرآن، حبر الأمة وبحرها، العلامة الكبير، الذي قال له صلى الله عليه وسلم: {اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل}.
لما كبر وبلغ السبعين عمي، فقال له بعض الحساد: أحسن الله عزاءك في عينيك يا ابن عباس! كلمة حق أريد بها باطل، يستهزئ أو يستهتر، فرد ابن عباس وعرف أن الرجل مستهزئ مستهتر فقال:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكيٌ وعقلي غير ذي عوجٍ وفي فمي صارم كالسيف مشهور
هكذا الهداية، وهكذا الإشراق واللموع، ما دام أنه عرف الله فلا يضره ذهاب البصر، إنما المشكلة ذهاب البصيرة.
إذاً، فإبراهيم عرف الله؛ فحاور هذا، فسعد في الدنيا والآخرة، وأضل الله ذاك الشقي لأنه لم يعرف الهداية.
أيها الإخوة: لا ينقصنا خبز ولا مربى ولا خضروات ولا ميرندا، إنما ينقصنا الهداية والالتجاء، ينقصنا زيادة الإيمان، وكيف نعرف طريقنا، ينقصنا دعاة ينزلون إلى الساحة، لا ينقصنا شهادات فقد أصبحت براويز معلقة في البيوت، ولا ينقصنا دنيا فقد مات أكثرنا في المستشفيات من التخمة وكثرة الأكل، يقول الشافعي:
تموت الأسد في الغابات جوعاً ولحم الضأن تأكله الكلاب
ما سمعنا بأحدٍ في هذه الفترة مات جوعاً هنا، ولكن سمعنا أن قلوباً تموت جوعاً وتموت ظمأً وفقراً، وتموت قحطاً وجدباً.
فهل من غيث، ولا غيث إلا (الكتاب والسنة)؟(389/4)
حوار بين موسى عليه السلام وفرعون
وأما موسى عليه السلام فأمره عجيب صلى الله عليه وسلم، كان يرعى الغنم لكنه عرف الله، عنده عصا يهش بها على غنمه، ويتوكأ عليها، فجأة يقول الله له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24].
من هو فرعون؟
إنه رجل دجال جمع القصور والأموال حتى تكبر وتجبر، فوقف على المنبر يقول: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] ويقول لأهل مصر: {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات:24].
فيصفقون له ويقولون: تبقى وتسعد وتسلم عينك، لعنه الله في الدنيا والآخرة وقد فعل، يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه.
قال تعالى لموسى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:24] موسى يعرف أن حرس فرعون ستة وثلاثون ألفاً يقول بعض الرواة: على القصر ستة وثلاثون ألف حارس، وموسى جاء من الصحراء معه عصا يرعى الغنم والضأن: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25].
هذا في أول طريقه إلى فرعون لدعوته، كيف أتكلم؟ ولكن أسعده الله فطلب شرح صدره، ذاق الناس اللذائذ لكن لم يجدوا كحلاوة الإيمان حلاوة، أكلوا الأطعمة، ولكن لم يجدوا لها طعماً بلا إيمان، جلسوا على المشروبات والمرطبات والمشهيات ولكن لم يجدوا لها طعماً يوم فات الإيمان: {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} [طه:25].
يقول الله للرسول عليه الصلاة والسلام: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح:1].
فتِّش في صدرك، كيف كان قبل أن نشرحه؟ أما كان ضيقاً؟! أما كان حرجاً؟! أما كان متصادماً؟! ففتِّش في حناياك وابحث في خفاياك، أما شرحنا لك صدرك؟! {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ الله} [الزمر:22] أيستوي إنسان يأتي إلى صلاة الفجر بنشاط مع شخص لا يقوم إلا لصلاة الظهر؟! أيستوي إنسان يقرأ القرآن بحب مع إنسان إذا أتى إلى الصلاة كأنه يجرجر في الحديد أو يساق إلى السجن أو المذبحة؟! يقول سبحانه وتعالى عن الذين تضيق صدورهم بالصلاة: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى} [النساء:142].
يقوم أحدهم إذا سمع الأذان فيجلس يستخير ويحرك عيونه ربع ساعة هل يقوم أو لا؟ الشيطان يسحبه إلى الفراش والله يدعوه إلى المصلَّى، فيتوضأ ويأخذ وقتاً طويلاً حتى يقيم الناس الصلاة، ويأتي يدردر أرجله، ويقف في طرف الصف كأنه نخلة منكوسة على جدار! {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].
لا حياء، هل يستوي هو ومن ينشرح للدين؟! ويحب ويتلذذ بسماع القرآن، ويهش للرسالة الخالدة، ويجلس مع الدعاة، ويحب طلبة العلم، ويحب زيارة العلماء، ولسانه دائماً رطبة بذكر الله؟!
إذا مرضنا تداوينا بذكركم ونترك الذكر أحياناً فننتكس
هل يستوي هذا مع إنسان لم يشرح الله صدره، أحسن شيء عنده أن يسمع الأغنية، يعيش في الهيام والخيال، يقول: دعنا من ذكر الموت، دعنا من التزمت والتشدد، يريد محرمات، وكأنها حلال وأما الطاعات فتشدد وتزمت؟!
نقول له: اجلس معنا، قال: لا.
له كتب خاصة من كتب الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وله مجلات غير المجلات، ومجالس غير المجالس.
وقال موسى: {رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي} [طه:25 - 27].
أريد يا رب أن أكون داعية، أريد أن أكون خطيباً أرجُّ قلب الفاجر، وفي هذا درس: أن على طلبة العلم أن يتعلموا الخطابة والكتابة، ويتعلموا الأدب، ويتعلموا فنَّ الكلمة وروعة الخطاب، وفن المقام والكلام والالتزام، وأن يتعلموا السحر الحلال في الكلمات والجدال، ليحولوا أحوال الناس من حال إلى حال.
قال تعالى: {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي} [طه:27 - 28].
لأن في لسانه شيئاً فحل الله عقدته، ولكن قال: {وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي} [طه:29 - 30] فجعل الله له ذلك في آخر الآيات، قال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} [طه:36] وذهب موسى وهارون، وقال الله لموسى وهارون وهما في الطريق: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [طه:43] أي: تجاوز الحد، لكن اسمع أدب الدعوة: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] لأن القلوب لا تلين إلا لكلمة حبيبة، والآذان لا تستمع إلا إلى الحب والصفاء، والقلوب والأرواح لا تنقاد إلا بالحكمة.
انتبها -يا موسى ويا هارون- لا تجرحا شعور الفاجر، وليس فاجراً مثل الفجار، بل دجال، ذبح الأنفس، وشرب الدم، وسوَّد وجه التاريخ، وداسه تحت قدميه: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
قال سفيان الثوري: "القول اللين الذي أمر الله به موسى وهارون أن يكنيا فرعون أي: يدادعوانه بالتكنية، يا أبا فلان، أنت إذا رأيت زميلك وحبيبك وناديته بكنيته يبتهج ويهش ويبش، يقول الشاعر:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه فالسوءة اللقب
كذاك أُدِّبت حتى صار من خلقي أني وجدت ملاك الشيمة الأدب
فدخلا عليه، وكانت كنيته كما قال سفيان الثوري (أبا مرة) مرَّر الله وجهه في النار، وقد فعل، يقول موسى: يا أبا مرة إن أردت أن يبقي الله عليك شبابك وملكك وصحتك فأسلم لله رب العالمين، فقد سمعنا عنك الخير، وهذا أسلوب دعوي من السحر الحلال، وهو لم يسمع عنه إلا النار، ولم يسمع عنه إلا اللعنة والسخط والبغض، فقال له موسى: أنت مثلك يصلح الناس، ومثلك إمام يقتدى به، فأسلم وقل: لا إله إلا الله، فأتى الفاجر.
واسمعوا إلى الحوار: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49].
لا إله إلا الله، أنكر الله، أنكر من خلق السموات والأرض {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} [الغاشية:17 - 22] والله سبحانه وتعالى يقول في آية أخرى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2] ويقول: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8].
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49].
وهنا لو قال موسى: ربي الله، لقال فرعون: هو الله، وإن قال: ربي ربي، لقال: أنا ربك، فماذا يقول؟! فأتى بجواب مبهت مسكت دامغ، يقول الزمخشري صاحب الكشاف: لله دره من جواب كالصاعقة) {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] هذه مواصفات لا تكون إلا في الواحد الأحد، ولا يدعيها أحد أبداً، حتى يذكر ابن تيمية أنه لا ينكر الصانع أحد، حتى فرعون يوم قال: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38] قاله في الظاهر أما في الباطن فيعلم أن هناك إلهاً، ويعلم أن في السماء إلهاً، وأن من خلق السموات والأرض هو رب قادر حكيم سميع بصير، حتى يقول له موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] يا مجرم والله إنك تعلم أن الله خلق السموات والأرض فلا تكابر!
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] خلَقه ثم هداه لمعيشته، وهداه لكل شيء، هدى النملة أن تأتي إلى الجحر فتنقل حبة لتخزنها للشتاء، هدى النحلة أن تسافر مئات الأميال والكيلو مترات وتأخذ الرحيق وتجعله في الخلية، هدى الثعبان كما يذكر مثل صاحب كتاب الإنسان لا يقوم وحده كريسي موريسون الأمريكي يقول: ما للنحلة تهاجر مئات الأميال وتعود إلى خليتها؟ من دلها؟ أعندها إريال؟ فيرد عليه سيد قطب: لا، بل علمها الله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] سبحان الله! ما أعظم الله! وما أجلَّه! ولكن ما أكثر من لا يتعرف على الله سبحانه!
{قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ولهذا لما لم يستطع فرعون أن يعاند هذا الدليل، راوغه بقوله {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] أي: ما للناس يموتون ولا يعودون؟! ما رأينا آباءنا وأجدادنا، هذه كلمة يقولها كثير من الملاحدة والزنادقة، كـ لينين وماركس وهرتزل وأمثالهم وأذنابهم وعملائهم، كلمتهم هذه يقولون: يموت الإنسان ثم يتحلل ولا يعود، لا والله، والله لتبعثن كما تستيقظون ولتموتن كما تنامون: {أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات:9 - 10] {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
وانظروا أيها الإخوة كيف كان جواب موسى لفرعون عندما قال له: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] فكأن من المناسب أن يكون الجواب وما دخلك أيها المجرم من هذا الكلام؟ لقد تجاوزت حدودك؛ لكنه أجاب عليه بكلام مؤدب، كما أمره الله عز وجل: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىَ} [طه:44] فقال: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] فدمغه، وأزهق روحه، وانتصر عليه في الحوار في ديوانه وتحت سقف قصره، كما انتصر عليه في القتال في البحر يوم نصره الواحد الديان، إذاً حربه برية بحرية، ونظرية علمية، وميدانية قتالية، وهذا هو الجدل العلمي العملي الذي عاشه موسى عليه السلام في حياته الدعوية وانتصر، فهو التقي الذي دمغ الفاجر الشقي.(389/5)
الرسول صلى الله عليه وسلم يحاور اليهود
ورسولنا صلى الله عليه وسلم -أيضاً- عاش مثل تلك الأحداث، فإذا قرأت القرآن فإنك تلاحظ أن الرسول عليه الصلاة والسلام عاش في حياة مريرة مع من حوله من اليهود والنصارى والمنافقين، فمرة يرد على اليهود، ومرة على النصارى، ومرة على المنافقين، ومرة على المشركين.
يقول عبد الله بن سلام والحديث في الترمذي وعبد الله بن سلام من اليهود لكنه أسلم يقول: {لما وصل الرسول صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس، فكنت فيمن انجفل، فاجتمعوا عليه في السوق فتبينت وجهه، فلما رأيت وجهه، عرفت أنه ليس بوجه كذاب}.
وجهه كالقمر ليلة أربعة عشر.
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبئك بالخبر
وجهه وجه صادق مخلص، وجهه رائع وجميل.
قال: {فلما رأيت وجهه سمعته يقول: يا أيها الناس -اسمع الكلمات، حتى الكلمات كالدرر- افشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام}.
وراوي الحديث هو نفسه عبد الله بن سلام.
فقال عبد الله بن سلام: {يا رسول الله! أسألك عن ثلاث آيات لا يعرفها إلا نبي -لأن عبد الله بن سلام عنده التوراة- أسألك عن ثلاث آيات إن أجبتني عليها أسلمت وآمنت، قال: ما هي؟ قال: ما هو أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوا الجنة؟}.
الرسول عليه الصلاة والسلام لم يقرأ ولم يكتب: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت:48] {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة:2] لم يقرأ ولم يكتب أو يدرس في مدرسة أو في كتاتيب أو في جامعة.
قال: {يا رسول الله! أسألك عن ثلاث: ما أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوا الجنة؟ هذه الأولى، والثانية: متى يشبه الولد أباه ومتى يشبه أمه؟ وهذه الثانية، والثالثة: ما هي أول علامات الساعة؟}.
فالرسول عليه الصلاة والسلام لم ينتظر كثيراً فلقد أتاه الوحي: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:4 - 5].
قال: {أما أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فإنه زيادة كبد الحوت، قال: صدقت، قال: وأما أن يشبه الولد أباه، فإذا أتى الرجل زوجته فعلا ماؤه ماءها أشبه أباه، فإن علا ماؤها ماءه أشبه أمه، قال: صدقت، وأما أول علامات الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، قال: صدقت، أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، ثم يقول: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت -أي: أهل زور وفجور- إذا علموا أني أسلمت بهتوني، فلا تخبرهم بإسلامي وأدخلني هذه المشربة -غرفة خلفية- واسألهم عني، فأدخله عليه الصلاة والسلام في الغرفة وأغلق عليه ونادى اليهود، فأتوا وجلسوا، قال: يا معشر يهود! كيف ابن سلام فيكم؟ قالوا: سيدنا وابن سيدنا، وخيرنا وابن خيرنا، وفقيهنا وابن فقيهنا، وعالمنا وابن عالمنا، قال: أرأيتم إن أسلم، قالوا: أعاذه الله من ذلك، قال: فإنه أسلم، ففتح له الباب عليه الصلاة والسلام، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، فقاموا ينفضون ثيابهم ويقولون: شرنا وابن شرنا، وسيئنا وابن سيئنا، وخبيثنا وابن خبيثنا، فيقول الله: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10]}.(389/6)
النبي صلى الله عليه وسلم يحاور العاص بن وائل
الرسول عليه الصلاة والسلام عاش الحوار، يأتيه شقي فاجر وهو العاص بن وائل، كان يلبس الديباج ويوشيه بالذهب، ولكن لم ينفعه ديباجه ولا ذهبه ورحل إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، حل إلى نار جهنم ولبئس المهاد، لم يعرف الله، ولم يسجد له، لم يتلذذ بعبوديته، لأن العبودية شرف، ووالله لو لم نتشرف بعبودية الله لنكونن عبيداً لوظائفنا ولدنيانا، وعبيداً حتى لأحذيتنا أبداً:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
{أتى العاص بن وائل فأخذ عظماً ففتته، ثم نفخ فيه أمام الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: يا محمد! أتزعم أن ربك يحيى هذا العظم بعد أن يتوفى صاحبه ويبعثه ويعيده، فيقول صلى الله عليه وسلم: نعم، ويدخلك النار، لا يعيده فقط بل يعيده ويعيدك ويدخلك النار، فيقول الله تبارك وتعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس:78]}.
نسي خلقه، نسي أنه خلق من ماء مهين، نسي مَنْ كوَّن سمعه وبصره، وأعطاه كل شيء! {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] فسبحان الله، وجلت قدرة الله!(389/7)
حوار حبيب بن زيد مع مسيلمة الكذاب
هنا شقي آخر واسمع إلى الأشقياء وما أكثرهم في الدنيا! مسيلمة الكذاب يدعي أنه نبي، فيرسل له صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة وهو حبيب بن زيد، عمره ثلاثون سنة، لكن حبيب بن زيد تربى على القرآن، مات أبوه وربته أمه، وليس معها إلا هذا الابن البار، عاش على القرآن، لا يملك من الدنيا إلا سيفه يفلِّق به هام الأعداء، وإلا مصحفه يتصل فيه بربه، وإلا قلبه الذي وعى الإيمان والقرآن.
فيقول عليه الصلاة والسلام: {يا أيها الناس: إني مرسلكم إلى ملوك الدنيا فلا تختلفوا عليَّ، قالوا: سمعاً وطاعة، قال: قم يا حبيب بن زيد، واذهب إلى مسيلمة الكذاب} وهو يدري أنه الموت والذبح، فيتهيأ ويودع أمه وتبكي عليه؛ لكن علمت أنه أمر الرسول عليه الصلاة والسلام، وعلمت أمه أنها سوف تفارقه ولا تلقاه إلا في جنة عرضها السموات والأرض، فعانقته وهي تبكي، ولسان حالها يقول كما يقول ابن زيدون:
بنتم وبنَّا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناديكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
وذهب ووصل إلى مسيلمة، فقال مسيلمة: {من أنت؟ قال: حبيب بن زيد، قال: ماذا جاء بك؟ قال: جئت برسالة من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: أتشهد أنه رسول؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: أتشهد أني رسول؟ قال: لا أسمع شيئاً، قال ثانية: أتشهد أن محمداً رسول؟ قال: أشهد، قال: أتشهد أني رسول؟ قال: لا أسمع شيئاً، قال للجندي: اقطع منه قطعة، فقطع قطعة من لحمه فوقعت في الأرض، فأعاد عليه السؤال فأعاد الجواب، قال: لا أسمع شيئاً، فقطع الثانية، فأعاد السؤال، قال: لا أسمع شيئاً، فقطعه حتى قتله في مجلسه} وارتفعت روحه إلى الله: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
[[خبيب بن عدي عرض له المشركون مشنقة الموت، وقالوا: ماذا تريد يا خبيب؟ قال: أريد أن أصلي ركعتين.
قالوا: صلِّ ركعتين واستعجل، فقام فتوضأ وصلى ركعتين، فرفعوه فقال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن تظنوا أنه جزع بي من الموت لطولت الركعتين، اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، قالوا: أتريد أن محمداً مكانك وأنك في أهلك ومالك؟ قال: لا والله لا أريد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤذى بشوكة وأني في أهلي ومالي]] ثم يقتل رضي الله عنه وأرضاه.
يقول أهل السير كـ موسى بن عقبة: كان خبيب بن عدي قبل أن يُقتل يقول: [[اللهم أبلغ عنا رسولك ما لقينا الغداة، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله، السلام عليك يا رسول الله]] هو في مكة والرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، فأخذ صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة يقول: {وعليك السلام يا خبيب! وعليك السلام يا خبيب! عليك السلام يا خبيب!} وأنشد خبيب قصيدة الموت وهي قصيدة الفداء:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنبٍ كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أجزاء شلوٍ ممزع(389/8)
حوار أبي مسلم الخولاني مع الأسود العنسي
الأسود العنسي مدعي النبوة في اليمن يقول لـ أبي مسلم الخولاني وهو أحد الأولياء من التابعين: أتشهد أني رسول الله؟ قال: لا أسمع شيئاً، وكذبه أبو مسلم الخولاني، فجمع له حطباً وألقاه في النار، فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعلها الله برداً وسلاماً.
كان عمر بن الخطاب يعانق أبا مسلم الخولاني ويقول: [[مرحباً بخليل هذه الأمة، أو بالرجل الذي أشبه الخليل]] أو كما قال، لماذا؟ لأنه تقي وذاك شقي.(389/9)
حوار ربعي بن عامر مع رستم
وقبل أن أنتقل إلى الحجاج لأنه لا زال في دائرة الإسلام لأختم به هذا الحديث أقص قصة رجل من شباب الإسلام وهو ربعي بن عامر رضي الله عنه وأرضاه، أحد القواد في جيش القادسية، ويدخل على رستم قائد بلاد فارس الذي معه ما يقارب من مائتين وثمانين ألفاً من الجنود، فيقول رستم: ماذا جاء بكم؟ ومع ربعي رمح مثلَّم وثوب ممزق، وفرس كبير معقور، قال: ماذا جاء بكم ويضحك رستم ووزراؤه معه، جئتم تفتحون الدنيا بهذا الفرس المعقور والرمح المثلِّم والثوب الممزق؟! قال ربعي في الحوار: [[إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]] قال تعالى: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] يقول هذا الشقي وقد حلف بآلهته: لا تخرج من قصري أو إيواني حتى تحمل تراباً على رأسك، فحمله، وقال لأصحابه: هذه بشرى أن يملكنا الله أرضهم، وفي الأخير يدخل سعد منتصراً، ويدخل إيوان الضلالة والعمالة وهو يقول: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
{هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19].
والدائرة دائماً تقع على الأشقياء الذين لم يعرفوا الله تبارك وتعالى.(389/10)
الحوار بين سعيد بن جبير وبين الحجاج
وهذا الحوار هو بين أحد الناس المعرضين عن الله وهو الحجاج بن يوسف، الحجاج هو الحجاج والشمس هي الشمس:
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قلن: تعرفن الفتى قلن: نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
ليس بقمر، لكنه قمر في الظلم والانحراف وسفك الدماء، الحجاج بن يوسف هذا له قصص لا بأس أن نورد بعضها، يقول طاوس بن كيسان عالم اليمن: كنت جالساً عند مقام إبراهيم عليه السلام في الحرم، وبينما صليت ركعتين عند المقام، جلست انتظر وأنظر إلى الناس يطوفون، وإذا بجلبة السلاح، وإذا بوقع الرماح والسيوف، فالتفت فإذا هو الحجاج وحرسه قد دخلوا الحرم - الحجاج الذي قتل مائة ألف نفس، يقولون عنه: أنه رئي بعد مامات في المنام أن الله قتله بكل نفس قتلة واحدة، إلا بـ سعيد بن جبير العالم العابد الزاهد قتله سبعين مرة- قال: فلما أتى الحجاج جلس، وإذا بأعرابي أتى من اليمن -يحمل إيماناً وعقيدة- يطوف، فنشبت حربة لأحد حراس الحجاج في ثوب هذا الرجل اليماني، فوقعت على الحجاج فقبضها الحجاج وقال للرجل: من أين أنت؟
قال: من أهل اليمن.
قال: كيف تركت أخي؟
قال: من أخوك؟ -يقول للحجاج: من أخوك؟ -
قال: أخي محمد بن يوسف.
ومحمد بن يوسف ظالم مثل الحجاج وكان والياً على اليمن.
قال: تركته سميناً بطيناً.
قال: ما سألتك عن صحته لكن سألتك عن عدله؟
قال: تركته غشوماً ظلوماً.
قال: أما تعرف أنه أخي.
قال: يا حجاج! أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله، قال طاوس: والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت من هذه الكلمة.
موقف الحجاج مع سعيد بن جبير موقف عجيب، وسعيد بن جبير أحد الصالحين العلماء الذين نشروا العلم والحديث، وكان أمة من الأمم، قانتاً لله حنيفاً ولم يكن من المشركين، وكان الحجاج يبحث عنه، ولما اصطاده بعد ثمان سنوات وقيل أكثر، أدخل عليه، وقصته معروفة ذكرها صاحب تحفة الأحوذي في أول شرحه على الترمذي في المقدمة.
دخل سعيد بن جبير، فقال له الحجاج: ما اسمك؟ يعرف أنه سعيد بن جبير عالم المسلمين.
قال: أنا سعيد بن جبير.
قال: بل أنت شقي بن كسير.
قال: أمي أعلم إذ سمتني.
قال: شقيت أنت وشقيت أمك، والله لأبدلنك في الدنيا ناراً تلظى.
فقال سعيد: لو أعلم أن ذلك إليك لاتخذتك إلهاً.
قال الحجاج: عليَّ بالمال، فأتوا بأكياس الذهب والفضة فنثروها بين يدي سعيد بن جبير ليفتنه.
قال سعيد بن جبير: يا حجاج! إن كنت اتخذت هذا المال ليمنعك من عذاب الله فنعم ما فعلت، وإن كنت اتخذته رياءً وسمعة وصداً عن سبيل الله فوالله لا يغنيك من الله شيئاً.
قال الحجاج: عليَّ بالمغنية - جارية وهي تغني الأغنية وبدأت تُروَّج من عهد الحجاج، بدأ العزف على الموسيقى، وبدأت الجواري وهو تاريخ قديم لما يسمونه بكواكب الشرق وكم في الشرق من كواكب لكنه ظلام دامس! ينتهي بكوكب تسمى كوكب الشرق، يوم أتت إسرائيل بطائراتها ودباباتها تسحق الأجيال والألوف المؤلفة، والناس يصفقون لـ كوكبة الشرق.
قال للجارية: اعزفي -يذبح عالم المسلمين سعيد بن جبير محدث الدنيا وتغني الجارية! - فانطلقت تعزف فبكى سعيد بن جبير.
فقال الحجاج: طربت -أي: تبكي من الطرب- لأن بعض الناس يبكي عند سماع الطرب؛ لكن وقت الموت ليس ساعة طرب: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس:34 - 36].
قال: طربت فتبكي؟!
قال سعيد: لا والله، والله ما بكيت إلا أني تأملت في جارية سُخِّرت لغير ما خلقت له -أخلقت تغني؟ كلا.
بل خلقت تسجد لله، خلقت تعبد الله، خلقت تعرف طريقها إلى الله.
قال: خذوه، يعني: خذوا سعيد بن جبير وولوه إلى غير القبلة، وقال: والله لأقتلنك قتلة ما قُتل بها أحد من الناس.
قال سعيد: يا حجاج بل اختر لنفسك أي قتلة تريدها، والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها فاختر لنفسك.
قال: ولوه إلى غير القبلة.
قال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].
قال: أنزلوه أرضاً.
قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55].
قال: اقتلوه.
قال سعيد: [[لا إله إلا الله محمد رسول الله، خذها يا حجاج حتى تلقاني بها غداً عند الله، اللهم لا تسلطه على أحد بعدي، يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج]] وبعدها في المجلس ثارت بثرة في يد الحجاج، وبقي شهراً يخور كما يخور الثور لا ينام، ولا يستطيع الأكل والشرب والراحة، يقول: ما مرت بي ليلة إلا رأيت كأني أسبح في الدم، وما مرت بي ليلة إلا رأيت كأن القيامة قامت، ورأيت أن الله يحاسبني ويقتلني عن كل من قتلته قتلة، إلا سعيد بن جبير قتلني به سبعين مرة وقصمه الله بعدها، ومع أنه مسلم لكنه شقي، والأمور عند الله عز وجل، لكن لم يعرف الهداية ولم يعرف طريق الاستقامة، ولا كيف يتأمل مهمته في الحياة.(389/11)
الحوار في الشعر
فيا إخوتي في الله! لا زال الصراع بين التقي والشقي، ولا زالت المناظرة حية بين هؤلاء وهؤلاء، وبين أناس أعمى الله بصائرهم وأبصارهم فلم يعرفوا الطريق، فهم أشقياء دائماً، أحدهم يقول من شقاوته وهو إيليا أبو ماضي:
جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت
إنه ملحد زنديق، لم يعرف الله، يقول: جئت من بطن أمي، وخرجت إلى الحياة، وأكلت خبزاً وفاكهة وتفاحاً وبرتقالاً.
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
أي: رأيت الناس يمشون فمشيت، ورأيتهم يخرجون فخرجت، لبسوا الثياب فلبست الثياب، ركبوا السيارات فركبت السيارة، وهذا حمار؛ لأن الذي لا يفهم لماذا خلق فهو حمار، قال:
جئت لا أعلم من أين! ولكني أتيت!!
ولقد أبصرت قدامي طريقاً فمشيت!!
وسأبقى سائراً إن شئت هذا أم أبيت!!
كيف جئت كيف أبصرت طريقي لست أدري!!
ولماذا لست أدري؟!! لست أدري!!
ما الفرق بين هذا وبين أحد الوعاظ الذي يقول لأحد خلفاء بني العباس، يعظه ويذكره لقاء الله، فيقول لخليفة الدنيا:
ستنقلك المنايا عن ديارك ويبدلك البِلى داراً بدارك
فدود القبر في عينيك يرعى وترعى عين غيرك في ديارك
فيغمى على الخليفة من كثرة البكاء حتى يرش بالماء، أي فرق بين هذا النتاج وهذا النتاج؟!
أو المؤمن الآخر الذي يقول:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حيٍ
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيّ
إي والله، هذا حوار يستمر أبداً بين الأديب والأديب، بين الشاعر والشاعر، بين العالم والعالم، بين الزعيم والزعيم، بين أديب مؤمن، وأديب فاجر متهتك، بين عالم مؤمن مخلص، وبين عالم ملحد، بين شاعر عرف الله، وشاعر تنكر لمبادئه وأصالته وإيمانه، فهو حوار بين تقي وشقي، فأين مقامنا من هذا الحوار؟ وأين موقفنا يا عباد الله؟ وأين هو صفنا؟! {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} [الحج:19].
اللهم فإذا قسمت الناس فريقين، ووزعتهم فرقتين وطائفتين، فاجعلنا في السعداء.
اللهم فإذا وزعت الناس على واديين وعلى منزلين، وذي شعبين فاجعلنا في شعب أهل الإخلاص والصدق يا رب العالمين!
اللهم فإذا رضيت على قوم فاجعلنا معهم، وأبعدنا عن أهل الغضب والسخط يا رب العالمين!
اللهم اجعلنا في موكب إبراهيم، ونوح، وموسى، وعيسى، ومحمد صلى الله عليه وسلم ولا تجعلنا مع القوم الظالمين النمرود، وفرعون، ومسيلمة، والأسود العنسي، وأمثالهم من أعداء الله.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(389/12)
واهتز العرش
في هذه المحاضرة تقرأ قصة بطل من الأبطال، إنه سعد بن معاذ: إسلامه، مواقفه البطولية، موقفه من يهود بني قريظة، وحكمه فيهم، ووفاته، وما حصل له من كرامات يوم وفاته من تشييع سبعين ألفاً من الملائكة لجنازته، واهتزاز العرش لموته.
وأشار الشيخ إلى دروس عظيمة وجليلة من سيرة هذا البطل الذي خلد التاريخ اسمه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(390/1)
إسلام سعد بن معاذ
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
عنوان هذه المحاضرة: واهتز العرش.
نعيش اليوم مع صحابيٍ جليل ومجاهد نبيل، اخترناه لسبب عجيب ولنبأ غريب، اخترنا سيرته؛ لأنه عدو لليهود، ولأنا نعيش اليوم عداوة اليهود وبغيهم ومكرهم، فرشحنا هذا البطل الشهيد ليكون قصتنا، ولأننا مع جهادٍ دائم مع أعداء الله، فكان من الحكمة أن نتحدث عن مجاهد صادق، ومقاتل مقدام، صارت شجاعته حديث الركبان، وأصبحت بطولته مضرب المثل، فحيا الله أبا عمرو سعد بن معاذ الأوسي الأنصاري، ويكفيه شرفاً وفخراً، وحسبه ثناءً ومدحاً أن عرش الرحمن اهتز له لما مات، وليس بعد ذلك فخر ومجد، وليس بعد ذلك علو ورفعة، وأملي من الواحد الأحد الذي قيض للإسلام من أمثال سعد بن معاذ أن يقيض من هذا الجيل ومن أصلابه ومن أبنائه ومن أحفاده عشرات من أمثال سعد، فليس ذلك على الله بعزيز، أسأله أن يردنا كما كنا أعزة أقوياء شرفاء بديننا وبمبادئنا، فلقد كان سلفنا خير أمة أخرجت للناس.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غابٍ إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون لقياه/ SH>>
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
سعد بن معاذ! حيا الله التضحية والبطولة، والمجد والفداء، اللهم أعني على أن أعطيه حقه من السيرة، وأن أقدمه لهذا الجيل المتوضئ الطاهر الطيب كما كان رضي الله عنه.
أما قصة إسلامه وقصة حياته فلا يتسع لها المجال، ولكن هيا بنا: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود:41] ومع سعد بن معاذ.(390/2)
سعد يريد قتل مصعب بن عمير
أرسل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مصعب بن عمير؛ الشاب المرفَّه، المطيب المعطر، الجميل الوسيم، الذي ترك الجمال والترف والبذخ والإسراف لوجه الله، أرسله يدعو إلى لا إله إلا الله، ووصل المدينة وأخذ الناس يستجيبون له؛ لقوة وصدق ما يحمل ونبل ما يحمل من الحق، وسمع به سيد المدينة سعد بن معاذ، قيل له: رجل من مكة أتى يغير دين الناس ومبادئ الناس، يحرف الشباب عن دينهم الأول؛ الدين الخرافي الوثني الشركي، فغضب سعد رضي الله عنه، وأخذ حربته، لكنه يريد شيئاً والله يريد شيئاً آخر؛ والله فعالٌ لما يريد، والله غالب على أمره.
دعها سماويةً تجري على قدرٍ لا تفسدنها برأيٍِ منك منكوس
أخذ حربته يريد أن يقتل مصعب بن عمير سفير الإسلام، ورسول الرسول صلى الله عليه وسلم، وأقبل والموت في حربته، والسم على حد الحربة، ورآه مصعب وكان مصعب حليماً رقيقاً رحيماً حكيماً، قال: أيها الرجل! لا تعجل.
أي: لا تذبحني، لا تقتلني، اسمع كلمة.
قال: قل، قال: اسمع مني فإن كنت قلت حقاً؛ فأنصت للحق، وإن كنت قلت باطلاً؛ فعليك بي، وكان العرب عقلاء حكماء وهذا سيد الأوس وهو من الأنصار رضوان الله عليهم.(390/3)
سعد ينطق بالشهادتين
فركز سعد الحربة، ثم جلس مصعب يتحدث عن لا إله إلا الله وعن رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم ويقرأ القرآن، فدخل الإيمان مباشرة كالنور وكالبشرى، وكضوء الفجر إلى قلب سعد بن معاذ رضي الله عنه، وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، وكسب الإسلام رجلاً بطلاً، ومجاهداً وشهيداً عظيماً، بلغ به الحال إلى أن اهتز عرش ذي الجلال والجمال والكمال لموته، فجمعنا الله به في حسن المآل.
فلما قال: لا إله إلا الله، قال: اذهب فاغتسل، فذهب فاغتسل، ودب الإسلام في عروقه، ودخل شرايين قلبه، وانتفض جسمه فخرجت كل ذرة من ذرات الشرك والوثنية والكفر والفجور.(390/4)
سعد ينطلق داعية في أهله وعشيرته
وماذا يفعل الآن؟ هل يبقى لبيته ولبطنه ولأطفاله؟ لا.
المسلم رباني عالمي، المسلم باع رقبته من الله، المسلم باع روحه من الله، المسلم دمه لله، رأسه وماله ووقته لله، أما الإسلام الهزيل الذي يعيشه المليار الآن، حتى يقول القروي:
لقد صام هندي فدوخ دولة فهل ضر كفراً صوم مليار مسلم
وقال الآخر في هذه الأصفار المليار وزيادة!
عدد الحصى والرمل في تعدادهم فإذا حسبت وجدتهم أصفارا
من كل مفتون على قيثارة كلٌ وجدت بفنه بيطارا
لكن سعداً ليس صفراً، سعد بطل، اغتسل وتوضأ وصلى، ثم ذهب إلى قبيلته.
انظر إلى هذه الدعوة وهذا التأثير، قال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214].
قال: اجتمعوا لي رجالاً ونساءً، ولا يدرون ما الخبر، وهو السيد المطاع والأمير المقدم رضي الله عنه؛ اجتمعوا رجالاً ونساءً.
معناه: عندي بيان خطير، عندي إعلان عالمي، عندي أمر هام، عندي وثيقة ربانية.
فاجتمع الرجال والنساء، فقام فيهم، وانظر البطاقة الشخصية وهو الآن يريد أن يستدرجهم رضي الله عنه ويكسبهم للإسلام، ويخرجهم من عبادة الوثن والكفر والزور.
قال: كيف أنا فيكم؟ هذا السؤال الأول، ما رأيكم فيَّ؟
قالوا: أفضلنا وسيدنا وأصدقنا وأكرمنا وأشجعنا.
قال: أأنا صادق؟ قالوا: صادق ميمون النقيبة.
قال: أأنا عدل؟ قالوا: عدل.
قال: فإن كلام رجالكم وكلام نسائكم عليَّ حرام حتى تؤمنوا بالله وحده وبرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما أعظمها من كلمة! جزاه الله عن الإسلام خيراً، وهكذا يفعل المسلم، موقف عصامي، أما تمييع الدين، وتمييع الولاء والبراء، ومصادقة كل فاجر وعدو للإسلام، وكل منافق وملحد، فهذا ليس من الدين، لا مجاملة لأبيض أو أسود.
فسمعوا الخبر فقاموا، قالوا: نشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قالوها رجالاً ونساءً، فصاروا في كفة حسناته وفي ميزان بركاته رضي الله عنه وأرضاه.
قال الراوي: وليس في بني عبد الأشهل رجل كافر، وذلك ببركة هذا الرجل.(390/5)
موقف سعد بن معاذ في غزوة بدر
وجاء عليه الصلاة والسلام فملأ المدينة نوراً وإيماناً ويقيناً، وكان من أول المستقبلين له في المدينة سعد بن معاذ، وسار مع الرسول عليه الصلاة والسلام كالسيف المسلول، تدرون كم عمره؟ عمره ثلاثون سنة يوم أسلم، ائتوني من أبناء الإسلام أبناء الثلاثين والخمسة والثلاثين والأربعين، أهل الملهيات والشهوات والمغريات والأغنيات، ائتوني بواحد فقط من المليار مثل سعد بن معاذ.
كان ليله مع الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان نهاره جهاداً ودعوة وطلب علم وتضحية، وكان مع الرسول صلى الله عليه وسلم مسدداً موفقاً، يضيفه، يكرمه، يتكلم بين يديه بالحكمة، وفي اليوم الفاصل، يوم الفرقان، يوم التقى الجمعان من ينسى منكم بدراً؟! وهل بدر تنسى؟!
بدر رفعت رءوسنا، وأوصلتنا السماء، وسحقت أعداءنا.
بدر كتبت لنا تاريخاً، قائدها محمد صلى الله عليه وسلم، والقيادة العليا عند جبريل، وبيض الله وجه حسان حيث يقول:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
ويقول الأصمعي عن بيته الشعري: هذا أشرف بيت قالته العرب.
فيقول: أنتم يا أعداء الله يا مشركين! إن كان قائدكم الشيطان فقيادتنا العليا جبريل ومحمد عليه الصلاة والسلام.(390/6)
النبي صلى الله عليه وسلم يعده الله بإحدى الطائفتين
حضر صلى الله عليه وسلم بدراً وقد وعده الله جلّ وعلا إحدى الطائفتين: إما عير أبي سفيان وعليها التمور والزبيب والثياب؛ وهذه يريدها الصحابة؛ لأنها سلامة وعافية: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} [الأنفال:7] أي: يأخذون البعير محملاً إلى المدينة، لكن الواحد الأحد يريد شيئاً آخر، يريد أن يستخلص شهداء، يريد أن يصاول الإسلام، يريد الصراع العالمي، يريد أن يظهر الصادق من الكاذب، يريد سبحانه أن يعلم من في قلبه حرارة للدين، أما الإيمان الميت الذي تعيشه الأمة الآن فليس من الدين.(390/7)
النبي صلى الله عليه وسلم يعرض الأمر على الصحابة
حضر صلى الله عليه وسلم بدراً واستعرض الجيش، وقد أخبره الله ووعده إحدى الطائفتين، وإذا بالطائفة الثانية ذات الشوكة ألف من كفار مكة مدججين بالسلاح، وإذا هم بالوادي، مفاجأة كبرى، وكان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمائة وبضعة عشر، لكن كلهم من أمثال سعد بن معاذ، الواحد منهم بألف، فقام صلى الله عليه وسلم يستشير الناس، يريد صلى الله عليه وسلم الأنصار، لأن المهاجرين مع الرسول صلى الله عليه وسلم وفي صفه، فقد هاجروا معه، وتركوا الأوطان والإخوان والخلان والجيران معه، فهم مضمونون وورقة رابحة، شيك مسدد مدفوع القيمة من قبل.
لكنه صلى الله عليه وسلم لا بد أن يعرض الرأي للجميع، قال: ما رأيكم أيها الناس - وهو القائد الأعظم الحكيم المعصوم يستشير الناس- ما رأيكم؟
فوقف المقداد بن عمرو رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! صل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وأعط من شئت، وامنع من شئت، وحارب من شئت، وسالم من شئت، والله! لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24] لكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون؛ فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له.
فالتفت إلى الأنصار، ولا يتكلم في الأنصار إلا سعد الشاب، صاحب الثلاثين سنة، قال: يا رسول الله كأنك تريدنا؟ قال: نعم.
فوقف كالعلم، وكان وسيماً جميلاً، وفصيحاً مليحاً صبيحاً، إذا تكلم بهر العقول، قال: يا رسول الله لقد صدقناك وآمنا بك، وعلمنا أن ما جئت به حق، يا رسول الله! اذهب إلى ما أمرك الله به، والذي نفسي بيده لو استعرضت بنا البحر وخضته لخضناه معك ما تخلف منا رجل واحد، يا رسول الله! إنا لصبر في الحرب، صدق في اللقاء، وعسى الله أن يريك منا ما تقر به عينك.
فدعا له صلى الله عليه وسلم.
فقام وأشار بالعريش، لتبقى القيادة الربانية العليا محمد صلى الله عليه وسلم في العريش؛ ليتلقى أوامر الله عن طريق جبريل، ووقف سعد ينافح عن الإسلام في الصف الأول، وانتصر الدين، وانتصر الحق على الباطل، وارتفعت لا إله إلا الله، وقاتلت الملائكة مع المسلمين، واشتبكت السماء مع الأرض، واشتبك الحق مع الباطل، وانتهت المعركة بألف إلى صفر، صفر للطاغوت ولهبل والصنم والوثن والكفر والمكر، وانتصر محمد صلى الله عليه وسلم وجبريل والحق والإيمان والإسلام، وعاد صلى الله عليه وسلم إلى المدينة.
فلما وصل صلى الله عليه وسلم أتت الليالي ولا يزداد هذا الإمام - سعد بن معاذ - إلا رسوخاً في الإيمان، وقوة تصديق؛ لأن المسلم يزداد يوماً بعد يوم في الخير.
يقول أحد تلاميذ الإمام أحمد: صحبت أبا عبد الله أحمد بن حنبل فكان يزداد مع الأيام خيراً.
والواجب أن يكون غدك خيراً من أمسك، قال ابن تيمية: والعبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات.
أنت اليوم إذا كنت عاقلاً بصيراً لست اليوم مثلما تكون بعد سنة؛ لأنك تسمع العلم وتقرأ الكتب، فالواجب أن تكون أحسن.(390/8)
دور سعد بن معاذ في معركة الخندق
استمر سعد رضي الله عنه، وجاءت معركة الخندق، وحصن الرسول صلى الله عليه وسلم النساء والأطفال، وحفر الخندق حول المدينة وتألبت قبائل العرب واليهود والمنافقين ضد الرسول صلى الله عليه وسلم وسموا الأحزاب، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم فلَّ حدهم، وشتت شملهم، وأخزى كيدهم.
فخرج سعد وأمه رضي الله عنها وأرضاها تنظر إليه، وهي تلقي عليه نظرة من الحصن، واسمها سبيكة بنت رافع، تتبسم له ويتبسم لها، فتوصيه، وتقول: لو سددت هذا المكان، يعني: درعه كان مفتوحاً من جهة، لبس الدرع أخذاً بالتوكل؛ لكن هي الأم تبقى الأم، فالأم هي الحنونة الرءوفة، والأم أنت ابنها الصغير ولو كان عمرك سبعين سنة، فتنظر برحمة تقول: لو سترت بالدرع، فيلتفت إليها ويقول:
لبث قليلاً يشهد الهيجا حمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
يقول: أنا أطلب الموت في سبيل الله، أرجوكم دلوني على الموت، لا أريد الحياة؛ لأن الذي يريد الحياة والبقاء للأكل والشرب وليس عنده رسالة ولا مبدأ كالبهيمة، قال تعالى: {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] والله يقول عن اليهود: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} [البقرة:96] يعيش حياة الذل والمهانة.
ووصل وقاتل رضي الله عنه، وأتاه رجل مشرك رعديد، فأطلق سهماً وبقدرة القادر يترك السهم كل الجسم المغطى، ويأتي في هذه البقعة الصغيرة التي كانت أمه تخافها ولذلك لا تأخذ حرزاً غير حرز الله، ولا حصناً غير حصن الله، ولا كفاية غير كفاية الله.
علي بن أبي طالب يوم الجمل قالوا: البس درعاً فضفاضاً، قال: أتظنون أن الدرع يمنعني من الموت فهذا درعكم، فخلعه رضي الله عنه، وخرج بالثياب، ثم قال:
أي يوميَّ من الموت أفر يوم لا قدر أم يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه وإذا ما جاء لا يغني الحذر
يقول: أنتم تظنون أن هذا الدرع يحميني، إن الحماية من عند الواحد الأحد، والحفظ من عند الله: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64].
وأنتم تعلمون أن علياً لما جلس يقضي بين خصمين وكان متوكلاً، قالوا: الجدار يريد أن ينقض عليك، جدار هائل يريد أن يسجد على علي، قال علي: حسبنا الله ونعم الوكيل، فلما انتهى من الخصومة وقام هو والخصوم وابتعدوا سقط الجدار مكانهم.
أتى سعد رضي الله عنه سهم، يقول سعد: من الذي أرسل السهم؟ يريد الاسم -البطاقة الشخصية- قال: أنا ابن عرقة، قال: عرق الله وجهك في النار، لأنه عدو لله، وكان الجرح في الأكحل، وكأن هذا الجرح في قلوب المسلمين ليس في سعد، فأخذه صلى الله عليه وسلم وضرب له خيمة في المسجد ليعوده من قريب عليه الصلاة والسلام، وما أرحمه بالأمة! كان إذا أراد أن يصلي صلى الله عليه وسلم مر بـ سعد وسلم عليه، وإذا انتهى من الصلاة مر بـ سعد وسلم عليه، من هو هذا؟ إنه سعد بن معاذ، صاحب المواقف المشهودة، أننساه؟ لا.
يمرض ويحترم ويحتفى به.
تستمر الأحداث مع سعد رضي الله عنه وأرضاه وهو في الخيمة يتحرى موعود الله، يطلب الشهادة، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من طلب الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه} يتمنى متى يموت شهيداً في سبيل الله، وإنها لأمنية غالية أسأل الله أن يحققها لي ولكم في سبيله.
انتهى الأحزاب وفروا، وبقي أعداء الله إخوان القردة والخنازير الذين نقضوا العهد، ولا عهد لهم ولا ميثاق ولا كلمة أصلاً.
نقضوا الميثاق ونقضوا الوثيقة التي كتبت بينهم وبين الرسول صلى الله عليه وسلم، وظن إخوان القردة والخنازير أن الأحزاب سوف تنتصر على الرسول صلى الله عليه وسلم فمزقوها، وانظر إلى الخذلان، قالوا: ليس بيننا وبين محمد عقد ولا عهد، ومزقوا الوثيقة، وهذا كلام فارغ، وهم قد وقعوا عليها، وأشهدوا عليها، وأول ما واثقوا عليه محمداً صلى الله عليه وسلم: ألا يقاتلوه وأن يدافعوا عن المدينة، وفي الأخير كذبوا وخانوا وغدروا.(390/9)
الهجوم على يهود بني قريظة
فأتى جبريل من السماء للرسول صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم قد وضع اللأمة، بعد الخندق بعد الحصار والجوع، والخوف والمشقة، والضنا والسهر والتعب، قال جبريل: أوضعت لأمتك؟ قال: نعم.
قال: وعزة الله وجلال الله ما وضعت الملائكة السلاح، أين يذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فهذا القائد العظيم مأمور من السماء، قال: عليك ببني قريظة فقال: {لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة} فانطلق الصحابة، منهم من صلى في الطريق، ومنهم من ترك الصلاة حتى وصل.
طوقهم صلى الله عليه وسلم وصاح بهم: انزلوا يا إخوان القردة والخنازير، اهبطوا تعالوا إلى هنا؛ لأنهم خانوا الله ورسوله، ونقضوا الميثاق، فتذكروا وضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وما أحسن شجاعة الإسلام والإيمان يوم وصل بهم الحال إلى هذه العزة يوم طوقوا اليهود في بيوتهم وحاصروهم وأصبحوا في أضيق من ثقب الإبرة.(390/10)
اليهود يطلبون حكم سعد بن معاذ
ضاق الأمر باليهود فتلمسوا من يساعدهم -أصلاً ليس لهم طريق إلى الواحد الأحد، الطريق مقطوع، وليس لهم طريق إلى الناس إلا بحبل من الله وحبل الناس وهو مقطوع- فما تذكروا إلا صديقاً واحداً فقط، وحبيباً وقريباً إلى قلوبهم، كان صديقاً وحليفاً لهم في الجاهلية، إنه سعد بن معاذ، كان يبايعهم ويشاريهم، لديهم اتفاقيات ينصرونه في الجاهلية وينصرهم هو وبني عبد الأشهل والأوس قالوا: لا ننزل إلا على حكم سعد بن معاذ، قال عليه الصلاة والسلام: ترضون بحكم سعد بن معاذ؟ قالوا: لا ننزل إلا على حكم سعد بن معاذ، قال صلى الله عليه وسلم: عليَّ بـ سعد بن معاذ.
فذهبوا إلى سعد بن معاذ وهو مجروح في المسجد، فأتوا به على حمار ولم يأتوا بالمواكب، نحن اليوم نمشي بالمواكب العظيمة ولا نساوي أظفارهم، وهو يركب حماراً وهو أعظم من مليون من المعاصرين.
فوطَّئوا له الحمار وأركبوه، وأقبل رجلاه تخطان في الأرض كان طويلاً كالحصن، فلما وصل قال صلى الله عليه وسلم للجيش المدجج بالسلاح والقادة والكتائب: {قوموا إلى سيدكم فأنزلوه} فقام الصحابة جميعاً وأنزلوه من فوق الحمار برفق حتى وضعوه؛ لأنه سوف يصدر حكماً نهائياً في أعداء الله، يحفظ في التاريخ ويسجل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بل في الصحيح.(390/11)
سعد بن معاذ يصدر حكمه في اليهود
فنزل سعد بن معاذ في الخيمة، وأخبره صلى الله عليه وسلم أنهم يريدون حكمه، فمن إجلاله للرسول صلى الله عليه وسلم وتعظيمه له وتوقيره قال: أيرضى من في هذه الناحية بحكمي؟ ناحية الرسول صلى الله عليه وسلم، فالآن سوف يصدر الحكم، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: أرضى.
ولم يقل هو محمد صلى الله عليه وسلم ولا يا رسول الله، إجلالاً:
أهابك إجلالاً وما بي رهبة إليك ولكن في علاك تسجل
قال: أيرضى من في هذه الناحية؟ -أي: محمد صلى الله عليه وسلم- تصوروا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، محمد سيد الخلق قال: نعم.
قال: وترضون بحكمي؟ -أي: اليهود- قالوا: نرضى بحكمك.
قال: رأيي فيهم يا رسول الله! أن تقتل مقاتلتهم وأن تسبى ذراريهم، وأن تقسم أموالهم.
فقال صلى الله عليه وسلم، تعليقاً على هذا الحكم: {والذي نفسي بيده! لقد حكمت بحكم الله من فوق سبع سموات}.(390/12)
النبي صلى الله عليه وسلم ينفذ حكم سعد
وبدأ تنفيذ الحكم، وأنزل المقاتلة أمام الناس، والزبير وعلي جاهزان بالسيوف، فضربوا جمجمة سبعمائة في الخندق، وأخذوا الذرية والأموال، وهذا حكم الله، فحكم من غدرك وخانك وغدر بك وحارب ضدك بعد المواثيق والعهود؛ هذا الحكم، فهذه هي اللغة التي يفهمها اليهود، أما لغة السلام، لغة جميع القضايا، لغة دغدغة المشاعر فلا، بل لغة السيف.
يقول المتنبي:
من ابتغى بسوى الهندي حاجته أجاب كل سؤال عن هلٍ بلم
ويقول أيضاً:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى حتى يراق على جوانبه الدم(390/13)
قصة وفاة سعد بن معاذ
فبعد أن سفك صلى الله عليه وسلم دماء اليهود، وعاد سعد، هل ذهب يتنعم ويشاهد أفلاماً، ويطالع مجلات، ويروي قصصاً ويسمر؟ لا.
ذهب إلى الخيمة ينتظر الشهادة، فتهبط عليه الشهادة تدريجياً، فساعات الصفر بدأت تقترب، الأيام تطوى، ليلقى الله ليوفيه أجره وثوابه، ويرفع منزلته ويعلي قدره، وأي حياة هذه الحياة؟!
أيا رب لا تجعل حياتي أتت على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف
إذا فارقوا دنياهم فارقوا الأذى وصاروا إلى موعود ما في المصاحف
شهداء عند الواحد الأحد: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170].
رجع سعد بن معاذ إلى الخيمة ينتظر الوفاة، وأخذ عليه الصلاة والسلام يكرر زيارته له ويجلس معه، وفي يوم من الأيام رفع سعد يديه إلى الواحد الأحد، إلى من يجيب الدعاء: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة:186] رفع يديه، هل يسأل الله أن يشافيه ليعود للدنيا؟ وماذا يفعل بالدنيا، لا قصر ولا دار ولا مزرعة ولا وظيفة ولا منصب ولا ذهب ولا فضة، هل رفع يديه أن يعافى ليبقى في حياة لا تساوي شيئاً؟ يقول التهامي:
حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
وقال غيره:
دار متى ما أضحكت في يومها أبكت غداً تباً لها من دار
بل يريد جوار الواحد الأحد.
امرأة فرعون آسية أعقل من ملايين المسلمين الآن، تقول: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] وهي في القصور والدور والذهب والحشم والخدم والجنود والأعلام والأقدام، ومع ذلك تريد جوار الواحد الأحد.
فقام سعد يدعو، وكان موفقاً في الكلمات والعبارات والدعوات: اللهم إن كنت أبقيت بين رسولك صلى الله عليه وسلم وبين قريش حرباً فأبقني لها، وإن كنت أنهيت الحرب بين رسولك صلى الله عليه وسلم وبين قريش فاقبضني إليك.
فلما انتهى من الدعاء انفجر الجرح مباشرة -لأن المعركة مع قريش انتهت- وسال، وحضر عليه الصلاة والسلام الدقائق الأخيرة في حياة هذا البطل الشهيد المجاهد، فحضر ومعه الوزيران الصحابيات الكبيران أبو بكر وعمر كما هو دأبه: دخلت أنا وأبو بكر وعمر خرجت أنا وأبو بكر وعمر جئت أنا وأبو بكر وعمر.
ونظر إلى سعد، وأخذت نفس سعد ترتفع إلى الواحد الأحد: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:27 - 28].
سبع سنوات في الإسلام قضاها فقط، هي خير عند الله من سبعة قرون لكثير من التافهين، ماذا فعلت أنت وأنا في عشرات السنوات تصرف من أعمارنا صرفاً؟ ماذا قدمنا؟ هل ضحينا؟ هل بذلنا؟ هل دعونا؟ هل تعلمنا العلم الصحيح؟ أين أيامنا؟ أين أوقاتنا؟
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني(390/14)
بكاء النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لموت سعد
تقول عائشة رضي الله عنها: كنت أنظر من وراء الباب، باب عائشة يطل على المسجد مباشرة، ومحمد صلى الله عليه وسلم يحكم العالم من غرفة، يرسل الهداية للدنيا من غرفة من طين، يدخل دينه القارات الست من غرفة.
يقول سعيد بن المسيب: رفعت يدي فوصلت إلى سقف غرفة الرسول صلى الله عليه وسلم.
حتى خالد محمد خالد يقول معلقاً لما قال صلى الله عليه وسلم متواضعاً لأحد الناس ارتعدت فرائصة لما رآه: {هون عليك إني ابن امرأة كانت تأكل القديد بـ مكة} سيد المتواضعين.
أنا أمي آمنة بنت وهب كانت تأكل القديد، يعني: تخلطه بالملح من الفقر، قال خالد محمد خالد معلقاً: نعم أنت ابن امرأة تأكل القديد في مكة لكنك صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، والمقام المحمود، ودينك يدخل القارات الست.
فهو أعظم إنسان خلقه الله.
فجلس عليه الصلاة والسلام، وعائشة تنظر إلى سعد أمامهم، ونفسه تفيض والجرح ينزف، تقول عائشة: والله الذي لا إله إلا هو، إنني كنت أعرف بكاء الرسول صلى الله عليه وسلم من بكاء أبي بكر من بكاء عمر على سعد.
أما أبو بكر الفصيح فكان يقول: واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد! واكسر ظهراه عليك يا سعد! ثم فاضت روحه.(390/15)
العرش يهتز لموت سعد
انتهت حياته القصيرة وبدأت حياته الأخرى الطويلة الجميلة من الذكر الحسن، الخلود عند الواحد الأحد في الجنة، وأول إعلان للرسول عليه الصلاة والسلام عن سعد، عن هذه التضحيات والمكرمات، تأتي الآن الترجمة؛ وليست كتراجمنا نحن، فلان جمع فأوعى، فلان الدكتور، فلان الفيلسوف، فلان رئيس كذا، عميد كذا، أستاذ كذا، لا.
ترجمة أخرى لا يسمع بمثلها، وتأبين لم ينقل مثله.
أول كلمة للرسول صلى الله عليه وسلم يقول للناس وللعالم وللدنيا، تحفظها الكتب: {لقد اهتز عرش الرحمن اليوم لموت سعد بن معاذ} الدنيا بكت، الصحابة تأثروا، الجرح لا ينطفئ في القلوب، لكن أعظم من ذلك أن عرش الواحد الأحد الرحمن الديان المنان القهار الغفار الجبار جل في عليائه، الذي ما السموات السبع بالنسبة لعرشه إلا كسبع دراهم ألقيت في ترس، هذا العرش العظيم الضخم يهتز لموت سعد: {لقد اهتز عرش الرحمن لموت p=1000293> سعد}.
قال أهل العلم: وذلك فرحاً، ويا لها من خاتمة عظيمة! ويا له من مرد طيب! ويا له من منقلب حسن عند الله! إذ اهتز عرش الله لموت هذا الإمام العلم، الذي خلقه فصوره فشق سمعه وبصره، ثم رزقه الإيمان، ثم وفقه للجهاد، ثم قبض روحه ثم اهتز عرشه له، ثم أدخله جنات النعيم.
بإمكانك أن تتخذ من سيرة سعد مثلاً لك ولأبنائك ولجيلك ولطلابك، فيبقى أمامك هذا الإمام تعلمه وتدرسه وتتأثر بسيرته إن كان لك قلب، إن كان فيك ذرة من حياء، إن كان لك ضمير: {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق:37].(390/16)
ماذا أعد الله لسعد في الجنة
أتى وفد من بلاد فارس بجبة لكسرى من حرير مخلوطة بألوان -وتصور ملك فارس ماذا يلبس- فلما رآها الصحابة تبرق مع الشمس، وكادت تعمي أبصارهم، فأخذوا يمسحونها بأيديهم ويلمسونها بأصابعهم، فيقول عليه الصلاة والسلام: {أتعجبون من هذه؟ والذي نفسي بيده! لمناديل سعد بن معاذ خير من هذه في الجنة} المناديل فقط -مناديل العرق- فكيف النعيم؟ كيف الدور؟ كيف القصور؟ كيف المنقلب؟ كيف النظر إلى وجه الباري سبحانه وتعالى؟ كيف الخيام؟ كيف الحور العين والطعام والشراب واللباس والعز والمجد والملك الكبير؟
المناديل فقط خير من جبة كسرى التي شريت بالآلاف المؤلفة من الدنانير.
فهذا شيء من طرف النعيم في الجنة.
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل نائحة تكذب إلا نائحة سعد بن معاذ} كل نائحة تبالغ إلا من تبكي على سعد بن معاذ فهي صادقة، أمه أرسلت دموعها، وشيعته وقالت:
ويل ام سعد سعداً كرامة وحدا
وسؤدداً ومجدا وفارساً معدا
سد به مسدا يقدمها ما قدا
هذه بعض الكلمات قالتها تشييعاًِ على عادة العرب في رثاء أبنائهم، وجزاها الله عنه خيراً، وجزاها عنا خيراً أيضاً، فهي التي بإذن الله أوجدت لنا هذا البطل الذي صار شامة نفتخر به أمام الأمم هو وأمثاله من المهاجرين والأنصار، بنوا لنا مجداً رضوان الله عليهم لما صدقوا مع الله، فرفع قدرهم ومنزلتهم، وحكم جهادهم سبحانه، وعزَّ بهم دينه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.(390/17)
تشيع الملائكة لسعد بن معاذ
من الكرامات لـ سعد أن شيعه سبعون ألف ملك، وهذه في السير، وأنا أنقل أحاديث السير كما نقلها أهل السير من باب الرواية ولا نشترط فيها ما نشترط في حديث الحلال والحرام وأحاديث العقائد، ولكن نفعل كما قال الإمام أحمد حيث نقل عنه ابن تيمية في الفتاوى أنه قال: إذا أتى الحلال والحرام تشددنا وإذا أتت الفضائل تساهلنا، لكنني لا أتعمد أن أنقل حديثاً كذباً أو موضوعاً معاذ الله.
فشيعه سبعون ألف ملك، وكان صلى الله عليه وسلم خير من شيعه إلى قبره؛ جعله الله روضة من رياض الجنة وهو كذلك بإذن الله.(390/18)
دروس وعظات من سيرة سعد
أما الدروس من هذه القصة:(390/19)
العمر المبارك ليس بكثرته
فأولاً: العمر المبارك ليس بكثرة السنوات، فمن الناس من يعيش ثمانين أو تسعين سنة هباء منثوراً، تجدهم يأكلون ويشربون، وأغلوا الأسعار، وأفسدوا الهواء، وشربوا الماء.
ليس لهم دور في الحياة ولا في العبادة ولا قراءة القرآن إنما هم ضياع في ضياع، بل منهم من بلغ الثمانين، وإذا سألته عن حياته فإذا هي هموم تافهة رخيصة لا تساوي ذرة، ولكن هذا الرجل عاش سبع سنوات في الإسلام، ومن الصحابة من عاش شهراً واحداً، ومنهم من مات في نفس اليوم الذي أسلم فيه فدخل الجنة.
فليس العمر المبارك بكثرة السنوات ولا بطول العمر، بل قد يوفقك الله عزّ وجلّ فتحصل وتنتج في سنة واحدة من العطايا المباركة، والعبادة والنوافل، وقراءة القرآن، وطلب العلم، وحضور المناسبات الخيرة ما يفوق على مائة عام لغيرك، فهو توفيق من الله سبحانه وتعالى:
قد يضيق العمر إلا ساعة وتضيق الأرض إلا موضعا
فساعة مباركة خير من ألف ساعة غير مباركة ولا جميلة.(390/20)
الصدق مع الله
فالله الله في السرائر؛ فإن الله لما علم صدق نية سعد وإخلاصه؛ وفقه وألهمه وسدده في المواقف، ثم رزقه الشهادة؛ فكان مسدداً مهدياً حتى مات.
فالله الله في الصدق معه، فإنه بقدر صدقك يمنحك الله الثبات في الأقوال والأفعال والتصرفات، ويحرسك سبحانه وتعالى بعين رعايته.(390/21)
التضحية بالنفس والنفيس
كان عندك أحد أعز من الله ومن رسوله وأحب وأكرم؛ فأحسن الله عزاءك في إيمانك! فإنه لا زوجة ولا أهل ولا مال ولا أبناء ولا دار ولا وظيفة أفضل وأعز وأرفع من دين الله، فضَحِّ بها كلها لترتفع لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ويل لمن قدم شيئاً على الله وعلى رسوله، خسارة له.
بعض الناس يحن لمزرعته، لاستراحته، لوظيفته، عبد الدرهم والدينار والخميصة والخميلة تباً له وسحقاً! ما عندنا أشرف من الدين من لا إله إلا الله من تمريغ الجباه لله الواحد الأحد:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا(390/22)
الأثر الذي تركه الرسول عليه الصلاة والسلام في أصحابه
لا إله إلا الله! ليس في العالم مربٍ ولا مصلح ولا موجه ترك من التأثير في أصحابه وأتباعه كما فعل عليه الصلاة والسلام، لا إله إلا الله! ساعة واحدة يجلسها مع الإنسان فيحوله من الصفر إلى الألف، فيصبح مجاهداً شهيداًَ في سبيل الله!
لا إله إلا الله أي تأثير هذا؟!
يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم يجمع العرب ويربيهم، فالواحد منهم يطعن بالرمح في ظهره ويخرج من صدره فيقول: فزت ورب الكعبة!
أما الثاني: فيكلمه الله كفاحاً بدون ترجمان، والثالث تغسله الملائكة، والرابع يقطعه مسيلمة الكذاب قطعة قطعة ويقول: لا أسمع شيئاً من كلامك، والخامس يهتز له عرش الرحمن.
قدَّم عليه الصلاة والسلام وأثر في الناس وفي أصحابه تأثيراً؛ لأنه رسول معصوم، وهو أصدق الناس عليه الصلاة والسلام، وأخلصهم في التربية والعطاء المبارك، ولذلك من أراد أن يؤثر في طلابه وأصحابه وأمته وقومه، فليصدق مع الواحد الأحد ويخلص له العبادة وأن يتوجه إليه، فإنه الله الذي يأتي بالقلوب، وهو الذي يسخر الأرواح والنفوس للداعية وللمربي وللمعلم، وهذه رسالة أبعثها للأساتذة والمربين والمدراء والآباء والدعاة أن يقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم في إخلاصه وصدقه مع ربه، ولذلك جاء بهذه الثمرات التي أذهلت العالم وأذهلت كل الدنيا، ويقتدي صلى الله عليه وسلم في عمله بعلمه، وهو الأسوة الحسنة والقدوة المثلى صلى الله عليه وسلم.(390/23)
فضل الله وجوده وكرمه على عباده الصالحين
الفضل لله، تظنون أن سعد بن معاذ متفضل على الله؟! لا.
الفضل للواحد الأحد، هو الذي هداه وأعطاه ومنحه، ورغم أن سعداً جاهد وقدم دمه وروحه، لكن الفضل لله: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ} [الحجرات:17] لا تظن أنك متفضل على الله يوم أتيت الليلة أو حضرت المحاضرة أو صليت أو صمت أو جاهدت، بل الفضل له وحده، يقول سبحانه وتعالى: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً}.
وقد ذكر الشيخ سليمان بن عبد الله بن عبد الرحمن أثراً قدسياً أن الله يقول: {وعزتي وجلالي! ما اعتصم بي عبد فكادت له السموات والأرض إلا جعلت له من بينها فرجاً ومخرجاً.
وعزتي وجلالي! ما اعتصم بغيري عبد إلا أسخت الأرض من بين قدميه، ثم لم أبال في أي واد من أودية الدنيا هلك} لأنه الفعال لما يريد، فالفضل والجود والكرم له، فاسأل الله من فضله، ولا تمن ولا تعرض أعمالك، واحتسب أعمالك على ربك؛ لأن بعض الناس يعمل كأنه خادم أو موظف، حتى إن بعضهم يعمل في الدعوة، فإذا سألته: لماذا لا تواصل؟ قال: يا أخي! نعمل مع أناس لا يقدرون الجهود ولا يعرفون تعبنا، وكأنه موظف في شركة.
فأنت تعمل عند الواحد الأحد: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الفتح:29].
أفتطلب فواتيرك من البشر وشيكاتك من الناس؟!(390/24)
تأثير الكلمة الطيبة ومكانتها في الإصلاح والصلاح
لا تحتقر كلمة طيبة، فـ سعد قال كلمات سجلها التاريخ، ونفع الله بها الدين، ونصر بها الإسلام، فكلمته في بدر هي خير من جيش عرمرم، وكلمته لما حكم في بني قريظة سجلها التاريخ، فلذلك لا تحتقر الكلام الطيب.
إذا حضرت مناسبة فاختر أحسن كلام تنصر به الدين كله، إذا حضرت إصلاحاً قل الكلمة المصلحة، إذا سمعت نيلاً من عرض مسلم فدافع عنه وقل كلمة: {من ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة} رواه أبو داود، فإلى متى تدخر الكلام الطيب إذا لم تقله في المناسبات؟ وإلى متى تحتفظ به وتخزنه؟! لأن الله يقول: {فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا} [المائدة:85] قولة واحدة لعن بها قوماً، وقولة واحدة رضي الله بها عن قوم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] فلا تحتقر كلاماً طيباً، بل تكلم وأثر.(390/25)
ليس للمسلم أن يوالي أعداء الله
وهذا نأخذه من فعل سعد لما أتى فنسي التحالف في الجاهلية مع اليهود، فلقد كان صديقاً وحبيباً لليهود قبل إسلامه، وكان معهم وكانوا معه، لكن بعد (لا إله إلا الله) أيصادق ويوادُّ اليهود بعد الإسلام والإيمان؟
لا.
المسلم يفاصل، فالمسلم موقفه ظاهر، إما كافر أو مسلم، أما تمييع القضايا وقول بعضهم: يا أخي! الناس عباد الله عز وجل، ولا يكون الإنسان متزمتاً ولا متشدداً، يا أخي! تألفوا الناس، وأنت تعلم العواقب، بل نحن نعلم العواقب فالمؤمنون في الجنة والكفار في النار، ونعرف العواقب، المؤمن رضي الله عنه والكافر لعنه الله، إسلام وكفر، جنة ونار: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
فلا تمييع، بل ولاء لله عز وجل، ولذلك شرَّف الله سعداً لما قام في عشيرته وقال: كلام رجالكم ونسائكم عليّ حرام حتى تؤمنوا بالله.
أما الإسلام السلبي وإيمان المرجئة؛ أن يلتزم الإنسان ثم يبقى إسلامه لنفسه فقط، ولا يؤثر على إخوانه وأولاده، ولا على بناته وأسرته، ولا قبيلته وعشيرته، ويغسل يديه من الأنشطة الدعوية، ومن الجمعيات الخيرية، ويبقى منزوياً بحجة الوقار والورع البارد المظلم، فهذا لا ينفعه شيئاً.
أيضاً: تمريض المسلم في المسجد لا بأس به، وهذا له أحكام، لكن استدل بها البخاري وغيره من قصة سعد.
ففي المسجد قد ينام النائم للمصلحة وللجاجة، إذا لم يكن هناك ضرر، وقد يمرض أيضاً، وقد يستقبل فيه وفوداً، وقد تروى فيه أشعار للمصلحة الشرعية كما فعل حسان رضي الله عنه، وإنما فُعل بـ سعد رضي الله عنه إكراماً له.(390/26)
إنزال الناس منازلهم
قال عليه الصلاة والسلام: {قوموا إلى سيدكم} فصاحب الجهاد، والعالم وطالب العلم والداعية، والسلطان المقسط العادل يحترم، والشيخ الكبير والزاهد والعابد يوقر وينزل منزلته، أما أن تجعل الناس سواسية، أو تشرف وتحترم الفجرة، وتهين الطائعين وأولياء الله عز وجل فهذا خطأ وبعض الناس هكذا دنيوي بحت؛ فإذا جاء الفجرة أهل الدنيا احترمهم وقدرهم وشرفهم وعظمهم، وإذا جاء أهل الصلاح والإصلاح والولاية والخير وقيام الليل استهان بهم وقال: هؤلاء حمقى مغفلون، فهذا هو النفاق بعينه.
فيشرف وينزل الإنسان منزلته.(390/27)
المقصد من الحياة
الحياة للجهاد والدعوة فقط، فتكون أمنيتك في بقائك في هذه الحياة ليس لغرس الأشجار.
أشجار من؟ وأزهار من؟ وبذور من؟ وقصور من؟ وهل بقيت لكسرى وقيصر القصور، أو بقيت للرومان وفارس، أو للدولة الأموية والعباسية والعثمانية؟! تبني لمن؟!
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن شرور العمر أحزان
ولكن تطلب الحياة لتزداد إيماناً، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {خيركم من طال عمره وحسن عمله، وشركم من طال عمره وساء عمله}.
روى أحمد في المسند بسند صحيح: {أن طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه رأى رجلين -أخوين- أسلما معاً، أحدهما قتل شهيداً في سبيل الله، والثاني تأخر عنه أربعين يوماً ثم مات موتاً طبيعياً، فرآهما في المنام في الجنة وإذا بينهما درجات، وإذا الذي مات حتف أنفه أرفع من الشهيد في سبيل الله بدرجات كثيرة فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص عليه القصة، قال: كم مكث بعده؟ -أي: بقي بعده في الحياة- قال: أربعون ليلة، قال: كم صلى من صلاة؟! وكم دعا الله من دعوة؟! وكم سبح من تسبيحة؟!} فأنتم في خير كل يوم يمر بكم غنيمة؛ تصلون فيها خمس صلوات، تسبحون، تقرءون القرآن، تتصدقون، تصبرون على الأذى، تصارعون الأحداث وتجاهدون.
من تمنى الشهادة بصدق وجدها.
فأنت إذا تمنيت على الله وعلم حسن نيتك وفقك، من علم، من جهاد، من دعوة، من شهادة، فاطلبوا الله فالخزائن عنده وحده، وهو الذي يلبي الطلب سبحانه ويجيب الأسئلة، فادعوه وألحوا عليه، فإذا علم منكم أنكم صادقون أعطاكم ما تمنيتم.(390/28)
كرامات الأولياء
كرامات الأولياء لا نجحدها بل نقرها كما أقرها أهل السنة والجماعة، فإن الله يكرم الأولياء كرامات كما أكرم أبا بكر وكثر له، أما معجزاته صلى الله عليه وسلم فهي ما يقارب الألف كما هو معلوم، لكن أتكلم عن كرامات الأولياء الصالحين -وإكرام سعد بأن شيعه سبعون ألف ملك- وهذا سببه تفاضل الناس في الإيمان، فهل تظن أن إسلامي وإسلامك وإيماني وإيمانك كإيمان سعد؟ حاشا وكلا! وقد قال تعالى: {هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ} [آل عمران:163].
إنسان قدم نفسه ويتمنى الشهادة، وينام في خيمة في المسجد، وترك الدنيا من أجل مرضاة الله، وقام يعلن القطيعة لأسرته وعشيرته وقبيلته وذريته إن خالفوا أمره في اعتناق الإسلام، وقطع ما بينه وبين اليهود من أواصر تجعله مثل إنسان لا يأتي صلاة الفجر إلا دبراً.
إن أردت أن ترى مستوانا الإيماني، فتعال معنا في مساجدنا في صلاة الفجر، وانظر إلى حالنا، إن أردت أن ترى مستوانا فاحضرنا لترى ما في الصف الأول؛ لترى أن كثيراً من المسلمين الذي يلقون الكلمات الطيبة والقصائد الرنانة في نصرة الدين، لا يحضرون الصف الأول.
لا تلقي علينا كلمات ولا محاضرات نسألك بالله أن تحضر الصف الأول، ولا تفوتك تكبيرة الإحرام: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ} [التوبة:105] فالمسألة عمل وصدق مع الله عز وجل.
قال محمد بن واسع: إذا رأيت الرجل يتهاون عن تكبيرة الإحرام مع الجماعة في الصف الأول فاغسل يديك منه.
والصحابة والسلف ما كانوا في الصف الأول فقط، بل في قيام الليل، في الثلث الأخير: {ينزل ربنا إلى السماء الدنيا فيقول: هل من سائل فأعطيه؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من مذنب فأتوب عليه؟!}.
فقصدي من هذا: أن الناس متفاضلون في الإيمان بلا شك، وهو معتقد أهل السنة والجماعة، والإيمان يزيد وينقص.
وأقول هذا لمن فهم من كلامي أني أقول: بعدم زيادة الإيمان، فأنا أشهد الله وملائكته وحملة عرشه أنني معتنق لمنهج السلف وأهل السنة والجماعة، وكل قول قلته أو كتبته مخالف لمعتقدهم فأنا عائد عنه، بل الصحيح ما درسنا وتعلمنا وحفظنا وقلناه في محاضرات سابقة وكتبناه في كتب: أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية لقوله سبحانه وتعالى: {لِيَزْدَادُوا إِيمَاناً مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح:4] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً} [محمد:17] وغير ذلك من الآيات والأحاديث.
فنعترف أن إيمان أبي بكر وعمر وعثمان وعلي أعظم من إيمان كل مؤمن من الأمة، وأن الناس متفاضلون بحسب جهادهم وهجرتهم وصدقهم وتضحيتهم.(390/29)
حكم البكاء على الميت
البكاء على الميت عندنا بكاء رحمة لا نياحة وتسخط على القضاء والقدر، نبكي إذا مات الميت كما بكى صلى الله عليه وسلم على سعد وابنه إبراهيم وقال: {تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون}.
وأقف وقفة مع استنتاجات وألمعية ابن تيمية رحمه الله، قيل له: الفضيل بن عياض ضحك لما مات ابنه، والرسول صلى الله عليه وسلم بكى لما مات ابنه، فأي الحالين أفضل؟ وهذا السؤال الأصل أنه لا يعرض، لكن لا بد أن يجيب العالم على أي سؤال يحصل.
والفضيل بن عياض كان عنده ابن اسمه علي، وهو ولي من أولياء الله، فهو يشبه أباه، بل إن بعضهم قال: أزهد من أبيه، وكان زاهداً خاشعاً لله مخبتاً، وكان الفضيل بن عياض يقول للإمام في مكة: لا تقرأ من الزواجر؛ أخاف أن يموت ابني، ووقع ما كان يحذر.
فالإمام في يوم من الأيام -وهذه القصة ثابتة- صلى في الفجر وقرأ: {وَالصَّافَّاتِ صَفّاً} الصافات:1] ثم استمر الإمام يقرأ إلى حين قال: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] وهذا الخطاب لأهل النار وقفوهم: اسألوهم عن رسلنا الذين أرسلناهم، اسألوهم عن الحياة، اسألوهم عما أعطينا من النعم {مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ} [الصافات:25] أين آلهتكم؟ أين أحزابكم؟ {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:26] أي: لا نصرة، فسمعها علي بن الفضيل فوقع مغشياً عليه، فرفع إلى البيت فإذا هو قد مات، فأتى الفضيل ولما حضر إلى المقبرة ضحك رضاً بأمر الله.
قال ابن تيمية: حال الرسول صلى الله عليه وسلم أعظم وأكمل وأرفع من حال الفضيل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين الرضا والرحمة، والفضيل ما استطاع أن يأتي إلا بالرضا، ولم يستطع أن يأتي بالرحمة.
سدد الله ابن تيمية وغفر له.
فالرسول صلى الله عليه وسلم رضي فقال: {ولا نقول إلا ما يرضي ربنا} ورحم فبكى؛ فهي رحمة من الله في الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالبكاء غير التسخط والنياحة؛ لأن بعض الإخوة الشباب إذا سمعوا شخصاً يبكي على ميت، قالوا: حرام لا يجوز.
فهذا خطأ، بل يبكي وتدمع العين لكن لا تنح، ولا تلطم وجهاً ولا تشق ثوباً ولا تنتف شعراً.(390/30)
العيش عيش الآخرة
عظيم ما أعد الله لعباده في الجنة -وقد أخبرتكم- لكنني أقول لكم مسألة: إذا تصورتم أي نعيم في مخيلتكم وذاكرتكم ومرت بكم مواقف من النعيم والعطاء واللذة والمتعة فاعلموا أن في الجنة: {ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر} واعلموا أنه قد صح في الحديث: {لموضع سوط أحدكم في الجنة خير من الدنيا وما فيها} واعلموا أنه صح في الحديث: {أن الخيمة الواحدة للمؤمن في الجنة طولها في السماء ستون ميلاً، ويرى باطنها من ظاهرها وظاهرها من باطنها، له في كل جهة منها أهلون، -أي: حور عين-}.
وهذا مأخوذ من ذكر منازل سعد بن معاذ، وإنما أراد صلى الله عليه وسلم أن يبين عظم ما أعد الله لعباده المؤمنين، ويا حسرتاه! يوم نسمع الآيات البينات والأحاديث الثابتات عن نعيم الجنة وما فيها من فوز وخلود، ونعيم وقرة عين، ثم نتشاجر ونتناحر ونتخاصم على الجيفة! يقول عمران بن حطان شاعر الخوارج:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوَّع
أي: الدنيا، فترى بعض التجار ينزل إلى الآن أكياساً من الأموال والأطعمة، وقد جاوز السبعين من عمره، وهو يعد المال فتفوته صلاة الجماعة.
كم تأكل؟! كم تشرب؟! إلى متى؟! تنزل الأكياس وتحسب الفواتير، ومشغول الذهن، ويفتح شركات في الليل والنهار، ومشغول عن قول: لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وليس من الذين يتلون القرآن ولا يتصدق بعضهم ولا يزكي، فهذا من أشقياء الناس تجده خادماً مسكيناً ضعيفاً هزيلاً.
يقول:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوَّع
أراها وإن كانت تسر فإنها سحابة صيف عن قليل تقشَّع(390/31)
إجلال النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه
إجلال النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه واجب شرعي، وأوصي نفسي وإياكم بتعزير الرسول صلى الله عليه وسلم، وتوقير كلامه ومقامه الشريف، وعدم التعرض لجنابه الطاهر الطيب الرفيع بشيء من الاستهزاء -أعاذكم الله من ذلك- أو السخرية، أو المزح، أو اللهو، أو اللعب، إنما هو ليس بالهزل، ووقار ومقام تعظيم، فالله الله يوم يروى حديثه أو كلامه أو سيرته صلى الله عليه وسلم لا تشتغل بشيء من المزاح أو الأذى أو الاستهتار فإنه الكفر كل الكفر: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65].
احذر! فبعض الناس شرير يقع على الأحاديث ويعلق عليها، يسمع قصة نبوية ويعلق عليها، فيكفر من وقته ويحكم عليه بالكفر الصراح.
الله الله أُخذ ذلك من تعظيم سعد يوم قال سعد: أيرضى بالحكم من في هذه الناحية؟ هذا تعظيم للرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم بشر {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور:63].
الرسول صلى الله عليه وسلم ليس كمثلي ومثلك، إنه مؤيد معصوم يوحى إليه وينزل عليه الوحي، ويتكلم يوم القيامة ولا يتكلم أحد، لا نوح ولا إبراهيم ولا موسى ولا عيسى ولا أي نبي عليهم الصلوات والسلام، الكل يعتذر، كل يقول: نفسي نفسي، وفي الموقف كل من خلق الله يريدون أن يفصل الله بينهم، فيذهبون إليه فيقولون: يا رسول الله! يا محمد! اشفع لنا ليفصل الله بيننا في هذا الموقف.
فهل يعتذر؟ وهل يقول: نفسي نفسي؟ وهل يقول: عندي ذنب؟ يقول: أنا لها! أنا لها! ما أحسن الكلام! صاغ ذلك الموقف حافظ الحكمي الشيخ الجليل رحمه الله، وكان شاعراً مجيداً، وهكذا الشعر في خدمة الدعوة:
واستشفع الناس بأهل العزم في إراحة العباد من ذا الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى: أنا لها
ولست أنت ولا أنا ولا ابن فلانة، بل محمد صلى الله عليه وسلم، أبو القاسم يقول: أنا لها، فيشرفه الله في هذا المقام المحمود، فعليك أن تعرف حقوق المصطفى عليه الصلاة والسلام كما عرفها أصحابه رضوان الله عليهم، فكان إذا تكلم أصغوا وسكتوا وخشعوا وأنصتوا كأن على رءوسهم الطير، حتى روي: أن عبد الله بن رواحة جلس على الرصيف خارج المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم -في الظاهر- يريد من داخل المسجد، فقالوا له: لمه؟ قال: سمعته يقول صلى الله عليه وسلم: اجلسوا فما أمكنني إلا أن أجلس مكاني.
فهو الامتثال لأمر الله ولأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، والاحترام والتوقير وكثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم وإجلال أمره، فليس أحد في العالم كائن من كان يقدم كلامه على كلام الرسول عليه الصلاة والسلام.(390/32)
اليهود هم أهل المكر والغدر والخديعة
هي حادثة وقضية الساعة: خيانة اليهود ومكرهم وخداعهم ونقضهم المواثيق، فلا يوثق بهم قوم لعنهم الله وخذلهم كيف يوثق بهم؟ وهم العدو.
ولذا أحببنا سعداً لأمور كثيرة منها: أنه عدو اليهود اللدود، كان صديقاً قبل لا إله إلا الله، لكن لما أتت لا إله إلا الله انتهى الأمر، فأصبح الموت لهم، فهو الذي حكم بقتلهم، وهو الذي أبادهم بحكمه بالسيف؛ فليس لهم إلا العداء، لأنهم قتلة الأنبياء والرسل.
فهل توالي الذين يقولون: إن يد الله مغلولة؟! لعنهم الله.
وهنا يقول ابن تيمية: القرآن يأتي بالشبهة موجزة ثم يرد عليها رداً مبسطاً أو طويلاً مسهباً حتى لا يترك لها أثراً: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] فقط.
بخلاف ما يفعله بعض الدعاة والوعاظ حينما يأتي بالشبهة فيطولها كثيراً ثم يرد عليها يقول: وهذا لا ينبغي والله المستعان أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم؛ فيثبتها في القلوب ثم لا يزيلها؛ وهذا بخلاف أسلوب القرآن، حيث الشبهة فيه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] انتهى الكلام عن الشبهة، واسمعوا الرد: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] الآية.
علم أن اليهود أهل عداوة أبدية؛ لأنهم كفروا بالله، ولأنهم قتلة الأنبياء والرسل ثم يعلم أنهم ينقضون المواثيق، فليس لنا رجاء في يوم من الأيام أنهم سوف يصدقون وسوف يتقيدون بأي ميثاق، بل هم خانوا الله، فماذا تريد أن يكونوا معي ومعك؟ أو أن يصدقوا معي ومعك؟ بل هي الخيانة المستمرة، وطبع الغدر هو الخلق المستمر في أعداء الله عز وجل.
فمن هذا المنطلق نشكر لـ سعد بن معاذ موقفه الصلب الصامد مع اليهود، وبمثل هذه المواقف انتصر الإسلام، ولكن لما لاين أبناء المسلمين اليهود وصانعوهم وداروهم، ودخلوا في فلك الصلح معهم؛ وقعت الكارثة بالمسلمين والذلة والهوان والغلبة، ولكنا لا نزال نطمع.
لا تهيئ كفني ما مت بعد لم يزل في أضلعي برقٌ ورعد
أنا تاريخي ألا تعرفه طارق ينبض في قلبي وسعد
فأملنا بالواحد الأحد.
قد ينشأ لنا شاب ناشئ كـ سعد بن معاذ -وليس على الله ببعيد- من المدارس التي تخرج حفظة القرآن، ومن الجامعات التي تحفظ البخاري ومسلماً ومن دور الرعاية المؤسسات الخيرية من الجمعيات الخيرية المباركة من المساجد الطاهرة العامرة، تخرج لنا جيلاً إسلامياً متوضئاً مصلياً مجاهداً، يدحر اليهود ويمزقهم، وينتصر عليهم بلا إله إلا الله محمد رسول لله.
فلا يأس ولا قنوط، وإنما يبقى عندنا أمل بأن الدين الذي حمله سعد نحن نحمله إن شاء الله مع اختلاف المراتب، والقرآن الذي قرأه سعد هو بين أيدينا غض طري كأنما نزل اليوم، الرسول الذي هدى سعداً بإذن الله صلى الله عليه وسلم هو رسولنا، والقبلة التي اتجه إليها سعد نتجه إليها فماذا ينقصنا؟
ينقصنا أن نزيل عنا الهوى والإعراض، والكسل والعجز، وأن نري الله من أنفسنا الصدق في إيماننا، نأخذ الكتاب بقوة، وانظر عبارة القرآن: {خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] لا هزل انتبهوا استيقظوا تثبتوا ثبتكم الله تقووا قواكم الله بإيمانكم بمبادئكم بدينكم بكتابكم بسنة نبيكم عليه الصلاة والسلام.
فإذا علم الله منا ذلك؛ نصرنا وأيدنا وثبتنا، وإلا فإنه قد مرّ في العالم الإسلامي فترات كهذه الفترات التي نعيشها، كفترة التتار وفترة الصليبين حتى دخلوا بغداد وأخذوا الخلافة، وكسروا منابر المساجد، ومزقوا المصاحف، وهدموا المنابر، ومع ذلك أخرج الله من ينصر هذا الدين.
قد أكون أنا وأنت في تقصير، فلا نصلح للجهاد الآن، ولا لكسب النصر والتضحية، فيأتي الله من أبنائنا وأصلابنا بأبطال، وإني لأراهم في مدارس تحفيظ القرآن، وإني لأراهم في جماعة التحفيظ التي تملأ مساجدنا والحمد لله، وإني أراهم في من يحفظ السنة المطهرة في الحرمين، كأنهم يقولون: المستقبل لنا: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود:81] والنصر لنا والغد المشرق معنا، والله مولانا.
فلا يأس ولا إحباط، وأرجو أن يسحب كل إنسان مخذل أوراق الهزيمة النفسية التي يقدمها حين يقول: كيف ننتصر على الدول النووية العظمى والجيوش الجرارة؟ فنقول: لا.
الواحد الأحد معنا: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر:14].
فهو الذي مزقهم كل ممزق، وهزمهم في بدر وأحد والأحزاب وعين جالوت والقادسية واليرموك وفي حطين.
فأعيدوا لنا من هذا الجيل، أخرجوا لنا من الإنتاج الجديد على شكل سعد بن معاذ، حفظوهم الكتاب والسنة لا الأغنية والمجلة الخليعة، ولا الفيلم الهابط ولا الضياع ودغدغة مشاعرهم بأن يكون مستقبلهم فلة وسيارة وزوجة، وأن يكون نجماً كروياً ولامعاً غنائياً، لا.
بل نريد سعد بن معاذ، هؤلاء عظماؤنا وأبطالنا، وهؤلاء مجدنا وشرفنا، وهؤلاء هم قادة مسيرة النصر التي يقودها محمد صلى الله عليه وسلم.
هذه سيرة هذا الإمام رضي الله عنه وأرضاه وجمعنا به في جنات النعيم.
وفي الختام: أتوجه بالدعاء إلى الواحد الأحد؛ فأسأله باسمه الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب؛ أن يوفقنا لما وفق إليه سعد بن معاذ، وأن يخرج منا جيلاً ربانياً صادقاً موحداً.
أسأله أن يجمع كلمتنا، وأن يصلح ولاة أمورنا، وأن يرزقهم البطانة الصالحة الناصحة التي تدلهم على الحق وتحذرهم من الباطل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(390/33)
أخطاؤنا تحت المجهر
الاستفادة من الأخطاء، والنظر إلى الماضي بعين العبرة والاتعاظ؛ مطلب حميد لابد منه لترشيد المسيرة.
وفي هذه المحاضرة سبعة عشر خطأً مما يقع فيه الدعاة في عصرنا، وقد ذكرت هذه الأخطاء مع كيفية نشوئها وأسباب وجودها، وأردفت بذكر الحلول المناسبة للتخلص منها.(391/1)
ما هي الأخطاء المقصودة؟ ولماذا نشخصها؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وأشكركم على حضوركم، وأشهد الله على حبكم فيه، وأسأل الله الذي جمعنا في هذا المكان الطيب الطاهر أن يجمعنا بكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
وأشكر فضيلة الشيخ عبد الوهاب الناصر على دعوته لزملائه وإخوانه، ينظمهم عقداً في دروس للتوعية والوعي، ثم أشكر باسمكم جميعاً شاعر الصحوة الإسلامية، الدكتور عبد الرحمن العشماوي وحق لي أن أقرب له المنبر هذه الليلة وأقول له: اهجهم وروح القدس يؤيدك، فهو حساننا، وحق له أن يدافع عن هذا الدين بسهامه الماضية المصيبة، سدد الله طريقه وثبت قدمه.
وقبل أن آتي إلى المحاضرة "أخطاؤنا تحت المجهر" معي مقطوعة عنوانها: يا قلعة التوحيد.
إذا ما التقينا فالشهور دقائق وإما ابتعدنا فالدقائق أشهر
يقولون نجد العامرية أرضنا نعم ودموعي في ثرى نجد تعصر
فلا خيمي من قيس ليلى تشوقني فشوقي رعاك الله من ذاك أكبر
هيامي بجيل مسلم من جدوده بلال وسعد والمثنى ومعمر
هنا العلم والتاريخ والمجد والنهى ومنها العلا تبدو وتسمو وتزأر
فيا قلعة التوحيد لست رخيصة ولو حاول العذال فيك وأكثروا
بها أنبت الله الإمام محمداً له في جبين الدهر نور ومنبر
فيا ابن وهاب العقيدة كلما ذكرناك كان الفضل والبر ينشر
عنوان المحاضرة: "أخطاؤنا تحت المجهر".
وأقصد بهذه الأخطاء ما يقع فيها أمثالي من المقصرين، على أن هناك محاضرة قبل أسبوعين كانت بعنوان: "فن الدعوة" هي تمهيد ومقدمة لهذه المحاضرة، ولكن أرجو ألا يظن شخص أو فئة من الفئات أو طائفة أني أقصدها، فأنا أقصد نفسي، وأنا شهيد على نفسي هذه الليلة، كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135].
فحق علي أن أشهد على نفسي هذه الليلة أني مقصر، وأن لي أخطاءً، سوف أعرضها عليكم، عليَّ أن أجد منكم الناصح اللبيب.
والحقيقة أننا بحاجة لتشخيص أخطائنا: أولاً: لأنه واجب شرعي، والمؤمنون نصحة.
والأمر الثاني: لئلا يأتي غيرنا، فيشخص لنا أخطاءنا، فنحن بأنفسنا نعرِّف الناس أن لنا أخطاءً، فإن من عرف عيب نفسه عرف كيف يعالجه ويداويه.
الثالث: إن عقلاء الأمم ونبلاء الناس يداوون أخطاءهم على مر التاريخ.
إذاً فلا تثريب علينا أن نذكر أخطاءنا، يغفر الله لنا ولكم وهو أرحم الراحمين، ولست في التاريخ أول من نقد نفسه، يقول شاعر جاهلي عصري:
أأنا العاشق الوحيد فتلقى تبعات الهوى على عاتقيا
ما هي أخطاؤنا؟
إنها كثيرة لأنا لسنا معصومين.
تحت المجهر، أي مجهر؟
إنه مجهر الكتاب والسنة، مجهر محمد عليه الصلاة والسلام، حسب ما يتصوره المجتهد المقصر في أن يلتمس الحق والصواب.(391/2)
من الأخطاء قلة الإنصاف
من أخطائنا -نحن مسيرة الصحوة- قلة الإنصاف.
وسوف أعرض سؤالاً في الأخير: لماذا لا أقصد في حديثي هذا غير الملتزمين أو المستقيمين أو الناهجين نهج الحق؟
إن العدل نفقده كثيراً في أحكامنا، وفي أقوالنا، وفي لقاءاتنا، يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135] ويقول عز اسمه: {ولا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
والمعنى قولوا العدل واحكموا به، ولا يحملنكم شنآن الآخرين وعداوتهم، على أن تجحفوا في الحكم، فإذا كان الحكم لك، فلا تثنِ على نفسك، وإذا كان الحكم على عدوك، فلا تثرب على عدوك أو تنسى حسناته.
والله يقول: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ} [النحل:90]
والعدل يكون في الأحكام، والصدق يكون في الأخبار كما قال ابن كثير في قوله سبحانه وتعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً} [الأنعام:115] قال: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأحكام.
وقال سبحانه: {فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا} [النساء:135] فاتباع الهوى يحملنا على أن نجور، فترانا نضخم الحسنات إذا كانت لنا، ونصغر الحسنات إذا كانت لغيرنا، ونصغر سيئاتنا، ونكبر سيئات غيرنا.
وقال سبحانه وتعالى على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ} [الشورى:15] فهو عادل عليه الصلاة والسلام في أحكامه، بل قال صلى الله عليه وسلم كما في سنن النسائي: {وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضا} فلا يقول صلى الله عليه وسلم إلا كلمة الحق؛ مع عدوه ومع صديقه، وهذا منهج افتقدناه على مستوى الجماعات والأفراد.
وسوف أعرض أمثلة من سيرته عليه الصلاة والسلام، لنرى العدل في قوله وأحكامه.
في الصحيح أنه {أتي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام بشارب خمر، فقام الصحابة فضربوه وعزروه، وقال أحدهم: أخزاه الله! ما أكثر ما يؤتى به في شرب الخمر! فقال صلى الله عليه وسلم: لا تقل ذلك، لا تعينوا الشيطان على أخيكم، فو الذي نفسي بيده! ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله} فاحتسب له صلى الله عليه وسلم حسنة حب الله وحب رسوله عليه الصلاة والسلام.
أيضاً حاطب بن أبي بلتعة في الصحيحين سرب أخبار السرية للكفار، وهي جريمة كبرى، فلما أُتي به إلى الرسول عليه الصلاة والسلام ليحاكمه، قال عمر: {يا رسول الله! دعني لأضرب عنق هذا فقد نافق، قال: يا عمر! وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فاحتسب له عليه الصلاة والسلام حسناته التي قدمها في بدر، ولم ينسها صلى الله عليه وسلم.
وكان أهل السنة والجماعة منصفين، يحكمون بالعدل ويقولون به، ومن قرأ تراجمهم وجد ذلك.
وأوضح مثال على ذلك ما يفعله شيخ الإسلام ابن تيمية والذهبي وابن كثير، والبرزالي والمزي، وغيرهم كثير، حينما يتكلمون عن الأشخاص، وقد تكلم الذهبي عن قتادة بن دعامة السدوسي، الذكي العملاق، الذي أصيب ببدعة جزئية يسيرة في القدر، فذكر بدعته، وقال: لا نقره على بدعته، مع العلم أنه رأس في الزهد ورأس في التفسير، ورأس في العلم، فما أحسن الإنصاف! وما أحسن أن نذكر الحسنة بجانب السيئة!
ذكر البخاري في كتاب الأدب المفرد، والألباني يرفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، والظاهر أنه من كلام علي لا من كلام محمد صلى الله عليه وسلم يقول: [[أحبب حبيبك هوناً ما، فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما، فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما]] إن العاطفة في حب الناس، أو في الحكم على الناس، توقفنا أمام طرفين غير مقبولين، إما المدح المفرط، أو الذم المفرط، وكلا الطريقين خطأ.
فعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا(391/3)
إصدار الأحكام الجائرة
نحن أهل السنة كما نزعم ونسأل الله أن يجعلنا منهم، وأن يحشرنا معهم، لا بد أن نضبط عباراتنا، وكلامنا، وأن نؤسسه على تقوى من الله ورضوان، حتى لا نأثم في الدنيا ولا في الآخرة.
وإن هناك من يصدر أحكام الكفر والفسق، وأهل السنة لهم ضوابط في الإيمان والفسق والكفر، لكن ما أسرع أن تسمع أحداً يقول: إن فلاناً كافر فاسق، خارجي مبتدع! بسبب مقولة قالها، أو كلمة لم يُسأل هو عن قصده فيها، ولم يجلس معه، ولم يحاور، ولكنا نلقي الأحكام على عواهنها، وهي خطيئة كبرى، ويجب أن نتنبه لهذا الأمر.
وأنا لا أدافع عن المبتدعة هذه الليلة، فأسأل الله أن يبعدنا عنهم، لكنها حقائق نعيشها، وأضرب لذلك مثلاً:
مات موسيقار مشهور قبل فترة، وأمره إلى الله، يمكن أنه يصلي الخمس، ويشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقوم بأركان الإسلام، لكنه مغن ومطرب، ويحضر حفلات محرمة، وقد سمعت كثيراً من الناس يقولون: إلى النار وبئس المصير! وهل نحكم نحن على مصائر الناس؟! وهل يكفي هذا لتكفيرنا لمثل هذا الرجل؟! ربما كانت له من الحسنات ما يغفر الله له بها في الآخرة، وأنا لا أبرر عمله المخطئ والمعصية الظاهرة التي يفعلها من الغناء المحرم، فقد أجمع أهل العلم على تحريمها.
لكن ما هي الأمور التي تستوجب دخول النار عند أهل السنة والجماعة؟ وهل يستحق هذا أن يقال عنه: إنه في النار.
وتسمع آخر يرد على كاتب مفكر فيقول: زائغ مرتد قاتله الله! إنها كلمة صعبة.
أيضاً يُلاحظ هذه الفظاظة في تعاملنا فيما بيننا وفي أحكامنا على بعضنا، وفي عدم العفو الذي يجب أن نصدره نحو البعض منا، ولكن تتلاشى هذه الفظاظة لتصبح تميعاً في قضايا المعتقد مع المبتدعة، كـ معتزلة العصر، كمرتزقة الفكر، كالمتهوكين في الأدب، كالحداثيين والعلمانيين، فلا تجد لأحد رداً عليهم، ولا يذكرهم بسوء، وقد سلموا منه، ويبتعد عن الخوض معهم، وأما على إخوانه، فيرى القذى الصغير كالنخلة، وهذا خطأ: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ} [المطففين:1 - 4].
إن بعض الناس يدعو إلى تأليف القلوب مع الرافضة، أو مع العلمانية، وإيجاد الحلول والأعذار لهم، أما مع إخوانه فلا يعذرهم في مسائل تقبل الاجتهاد، وهي من قبيل اختلاف التنوع لا اختلاف التضاد.
وفي ختام هذه الفقرة، أدعو إخواني جميعاً، وليدعوا معي إلى مذهب أهل السنة والجماعة، نرحب بالجهاد في أفغانستان، أو في غير أفغانستان على منهج أهل السنة والجماعة، وقد طالب العلماء والدعاة -كما رأيتم- في منشورهم قادة المجاهدين بهذا، ولعل الله أن يفتح على قادة المجاهدين في السماع لهذا وامتثاله، وأسأل الله أن يسددهم وأن يجمع كلمتهم على الحق.(391/4)
من الأخطاء: صعوبة عرض العقيدة
أيضاً من أخطائنا: صعوبة عرض عقيدة التوحيد الواضحة.
التوحيد من خصائصه أنه سهل تقبله القلوب، عقيدة يفهمها الطفل والأعرابي في الصحراء، وقد ربى الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه والأمة على أن يفهموا العقيدة، سأل جارية كما صح في الحديث فقال: {أين الله؟ قالت في السماء وفي بعض الألفاظ: أنها لم تتكلم وإنما أشارت إلى السماء فقال: اعتقها فإنها مؤمنة}.
وفي سنن أبي داود أن حصين بن عبيد قدم على الرسول عليه الصلاة والسلام فقال له صلى الله عليه وسلم: {كم تعبد يا حصين؟ قال: أعبد سبعة، قال: أين هم؟ قال: ستة في الأرض وواحد في السماء، فقال: من لرغبك ولرهبك؟ قال: الذي في السماء، قال: اترك التي في الأرض واعبد الذي في السماء} حديث صحيح.
هذا دين سهل، وعرض التوحيد بمثل هذا يقبله الناس، ومن منا يمكن ألا يفهم هذه العبارات؟ من هو الذي يعتذر بطلسمة هذه العبارة عليه، أو بأنها منغصة وموهمة؟ لا أحد.
كذلك في مسند الإمام أحمد بسند صحيح: {أن أعرابياً أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: من أرسلك؟ قال: الله؟ قال: إلامَ تدعو؟ قال: أدعو إلى الله، الذي إذا ضاعت راحلتك في الصحراء -خاطبه براحلته لأنه صاحب راحلة- سألت الله فردها عليك، وإذا أصابتك سنة مجدبة فدعوت الله، أمطر عليك سنتك} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فشهد أن لا إله إلا الله.
حديث جبريل الطويل: لا صعوبة فيه، عرض سهل ميسر، ولكن أرى أننا تأثرنا بطريقة علماء الكلام، الذين أطالوا في العقيدة والذين توسعوا في العبارات، وأكثروا من القعقعة، ومن التشدق حتى قال الشافعي فيهم: رأيي في أهل الكلام، أن يطاف بهم في العشائر والقبائل ويضربوا بالجريد والنعال، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة.
فلسفة اليونان دخلت علينا، وهي ما زالت في كتبنا، وتدرس حتى في الأقسام، وربما عرضت على العوام في الندوات والمحاضرات، واللقاءات.(391/5)
عروض سهلة للتوحيد
وأعرض لكم أمثلة من كتب التزمت سهولة التوحيد في عرضها مثل: كتاب التوحيد لابن عبد الوهاب ما أسهله! وما أيسره! وما أحسنه! لماذا لا نقدمه في دروسنا ومحاضراتنا، بدون ردود إلا في مناسبات خاصة، ومثل كتاب التوحيد لابن خزيمة، على نصوص بسيطة فيه، ومثل كتاب معارج القبول للشيخ حافظ بن أحمد الحكمي، ولا أعلم كتاباً مثله، فكيف بأحسن منه!
إن السلف لم يختلفوا في مسائل المعتقد، أقصد الصحابة، قال ابن القيم في أعلام الموقعين: لم يسأل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام رسول الله في مسألة في العقيدة، وإنما سألوه في الأحكام: يسألونك عن الأهلة، يسألونك عن المحيض، ويسألونك عن الخمر، إلى غير تلكم الأسئلة، خمسة عشر سؤالاً في القرآن ليس فيها سؤال في المعتقد، بل آمنوا وسلموا وقالوا: كل من عند ربنا.
فلما أتى الخلف -نحن منهم- أكثرنا من عرض العقيدة والإسهاب في الكلام والتوسع في العبارة، حتى صعبت على الناس.
وأنا أسأل شباب الصحوة والعلماء والدعاة: هل يلزمنا في كل مسألة نعرضها على عامة الناس، أن نذكر من خالفنا من الطوائف كـ الجهمية، والمعتزلة والأشاعرة والقدرية، والجبرية، والمرجئة، والرافضة، والخوارج؟!
أما أهل العلم فلا بد لهم من هذه المسائل أن يتدارسوها بينهم في مجالسهم وأقسامهم وفي تواليفهم.
أما إذا كنا نعرض العقيدة على الناس، فنملؤها بالردود حتى تصبح صعبة، فإن هذا مخالف لمنهج الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن التوحيد سهل بسيط، يعرض في آية وفي حديث، يفهمه الأعرابي والعجوز والطفل.
أما إيراد هذه الشبه الدامغة التي توقف العامي محرجاً أمام العقيدة، فأظنه من أخطائنا.
أخذوا على الرازي كما ذكر أهل العلم أنه يتوسع في عرض الشبهة، فيورد شبه أهل البدع، فيتوسع في إيرادها، ويتبجح في عرضها، ثم يرد عليها، بكلمة أو بكلمتين، أو بسطر أو بسطرين، وتبقى الشبهة ويموت رده.
وهذا مثل بعض الناس، يورد عليك شبهة مخالفة، ثم يردها رداً ضعيفاً، فتبقى الشبهة، ولكن الرد لا يكون سليماً.(391/6)
الانهماك في الفروع على حساب الأصول
ومن أخطائنا في العقيدة، الانهماك في الفروع على حساب الأصول.
سألوا شيخ الإسلام ابن تيمية لماذا لم تؤلِّف في الفروع؟ قال: أمرها سهل، ومن خالف فيها فهو مجتهد مخطئ فله أجر واحد، وإذا أصاب له أجران، ولكن الخطورة في المعتقد أي في الإيمان والتوحيد، فهو الأمر الصعب، والأمر الأساس والأمر المحرج.
ولذلك كانت مؤلفات شيخ الإسلام رحمه الله أكثرها في العقيدة، تسعون بالمائة من مؤلفات ابن تيمية في العقيدة وفي الإيمان.
ولكن أرى الآن أننا أكثرنا في الفروع على حساب الأصول، وسوف يأتي هذا فلا أتعجل به، فإنه تُحدِّث الآن عن مسائل سهلة، كمسألة المسبحة، أو مسألة جلسة الاستراحة، أو مسألة تحريك الأصبع، مع العلم أن العلمانية، والحداثة، وحزب البعث، والرأسمالية، والشيوعية، لم تلقَ هذا الكلام المستفيض من أهل العلم والدعاة والأخيار.
الردود ليست مقصودة لذاتها في العقيدة، إنما هي كالعلاج، إذا وصلنا مرض، استدعينا الطبيب ليعالج هذا المرض.
فنعرض عليهم العقيدة أولاً، أما قضية أن نأخذ الردود وتكون مبدأ فهذا ليس بصحيح، لكن لا بد من الردود عند الحاجة.(391/7)
من الأخطاء: تسمية البطالة زهداً
أيضاً من أخطائنا: تسمية البطالة زهداً.
قال ابن تيمية رحمه الله في المجلد العاشر من الفتاوى: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة.
ولله دره! وأحسن من عرف الزهد في الإسلام ابن تيمية بهذه العبارة، والله يقول: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا} [القصص:77] والله يقول: {وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} [هود:61] يعني في الدنيا، وقال سبحانه: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة:10]
الإسلام حياة، وعمل وإنتاج، ومزرعة وفلاحة، وتجارة وورشة ودكان، هذا هو الإسلام، الإسلام لا يعترف بالتصوف الهندوكي الذي قتل الهمم أمام طلب الرزق.
قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من كسب يده -ومن كد يده- وإن نبي الله داود كان يأكل من كد يده}.
وسئل صلى الله عليه وسلم كما روى ذلك الحاكم في المستدرك: {أيُّ الكسب أطيب يا رسول الله؟ قال: عمل الرجل بيده، وكل بيع مبرور} حديث صحيح، والصحابة كانوا تجاراً، مثل: أبي بكر، وعثمان، وابن عوف، وكان منهم الفلاحون، مثل: جابر بن عبد الله، ورافع بن خديج وغيرهما، ولم يركنوا إلى البطالة تحت مسمى الزهد كما فعل الكثير منا الآن.
إني أعرف أن كثيراً من أمثالي من المقصرين، تأثروا بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، في كتاب إحياء علوم الدين، وقوت القلوب، والرعاية للمحاسبي وصفة الصفوة لـ ابن الجوزي، فأماتوا أنفسهم.
الرسول المعلم الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: {لأن يأخذ أحدكم أحبله فيحتطب ويبيع خير له من أن يسأل الناس، أعطوه أو منعوه}.(391/8)
عمر يحارب البطالة
دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه المسجد، فوجد شباباً يتعبدون، قال: من يعطيكم طعامكم؟ قالوا: الله، وهل يشك عمر أن الذي يطعم هو الله؟! قال: أدري أنه الله، لكن من يطعمكم؟ -لأن أوعية الطعام لا تنزل من السماء، أوعية اللحم والأرز والفاكهة لا تأتي من السماء، لا بد من أخذ الأسباب -قالوا: جيراننا.
قال: جيرانكم خير منكم، انتظروني قليلاً، وظنوا أنه يأتي بأوعية فيها لحم وأرز، فأتى بالدرة التي يخرج بها الشياطين من الرءوس، ثم ضربهم وقال: [[اخرجوا، إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة]].
فقضية أن نترك الدنيا والتجارة وطلب المال والرزق الحلال، بحجة أن الدنيا فانية، وأن الله سوف يحاسبنا على الأموال، ويبقى في رأس القائمة اليهود وهم أغنياء العالم، يسيرون السلاح والاقتصاد والإعلام والسياسة والكراسي والقرار، ونبقى متخلفين بحجة أن الدنيا فانية.
ثم يأتي في القائمة الثانية الرافضة، وهم المرتبة الثانية بعد اليهود في الغنى، فيصدرون الثورات والقرارات والبدع، ونبقى نحن نسمى الفقراء -فقراء أهل السنة - وإذا أردنا مشروعاً ينادون بعد صلاة الجمعة: تبرعات تبرعات، والكراتين عند الأبواب، ثم نتبرع من ريال ومن عشرة ومن خمسين.
إذا أردنا كتاباً نطبعه فنصيح حتى تبح حلوقنا، ليس عندنا مصدر رزق، والخير كثير والحمد لله، لكننا ربما ظننا أن السعي لطلب الرزق ولجمع المال ينافي الزهد، وهذه بطالة، وقد تعرض لها الشيخ عبد الرحمن الدوسري رحمه الله في أول تفسيره بعرض جميل.
وقد ضغط على المسلمين بقوة الاقتصاد وأصبحت حروب الدول في العالم الآن في الاقتصاد، فأين مكان أهل السنة والجماعة في مبدأ الاقتصاد؟ وهل لهم بديل؟ هل لهم مشاريع؟ هل لهم أطروحات في جمع المال؟ ودعونا من الأحاديث الموضوعة والضعيفة، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم جمع المال وأنفقه، وقد دخل كثير من الصحابة الجنة بالمال، مثل: عثمان وغيره.(391/9)
المال عصب الحياة
ذكر الجاحظ صاحب البخلاء: أن أحيحة بن الجلاح، وهو تاجر من الأوس قبل الإسلام، وهو من ساداتهم، كان يجمع المال لكي يحمي عرضه، ويحمي مكانته، وينفق؛ يقول:
ولو أني أردت نعمت بالاً وباكرني صبوح أو نسول
ومازحني على الأنطاع غيد على أنيابهن الزنجبيل
ولكني أهب لجمع مال فأمنع بعد ذلك أو أهيل
يقول: لو أردت لذاذة الحياة، لكنت تزوجت فتاة جميلة، وجلست في بيتي وصابحني خمر في الصباح وغبوق في المساء، وأكلت اللحم المشوي، لكني أخشى أن أفتقر فأتعرض لمسبة، فأنا أجمع المال لأنفقه، وأحمي عرضي، وقال الآخر:
واجمع المال وحصله ولا تسأل الناس ذليل من سأل
ثم جد بالمال لا تبخل به تكن الشهم على الناس الأجل
كثير من الشباب يترك الوظيفة، ويترك التجارة والعمل بالورشة، والعمل بالمتجر؛ بحجة الزهد، وأنها تشغله وتلهيه عن طاعة الله، وهي من طاعة الله، ويبقى عالة يتكفف الناس، يقترض من هذا، ويقترض من هذا، ويموت مديوناً، وإذا سألته من يرزقك؟ قال: الرازق هو الله، لكن من جيوب إخوانه، رزقه الله من جيوب إخوانه، والمسلم لا بد أن يفكر بمصدر الرزق خاصة في عصر الاقتصاد.(391/10)
من الأخطاء: عدم مراجعة الأخطاء والاستفادة من التجارب
أيضاً من أخطائنا: عدم مراجعة الأخطاء والاستفادة من التجارب، وينقصنا أننا لا نراجع أخطاءنا، وأنا متحرج في هذه الليلة، وقد كُلَّمت قبل هذا الدرس وحُذِّرت ألا أتكلم في هذا الموضوع، لأني سوف أكشف عوارنا للآخرين، فإلى متى نتكاتم؟! وما هو المجلس الذي يجمعنا لكي نتحدث بأخطائنا.
؟! وإلى متى وقد مرت بنا عجلة الحياة؟! أما الآن فوجب علينا أن نتكاشف ونتصارح، وهذا -أظنه والله أعلم- منهجاً سديداً، فمراجعة الأخطاء منهج في القرآن، قال سبحانه وتعالى لأهل أحد: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165] ولم يرجع ذلك إلى القضاء والقدر، ونحن نخطئ كثيراً، ونقول: قضاء وقدر! نعم هو قضاء وقدر، لكن لماذا لا نستفيد من الخطأ الأول، وندرسه، ونجتمع له ونحلله، لماذا أخطأنا؟
الرماة الذين نزلوا من الجبل لامهم الله عز وجل، وجعلهم سبباً في الهزيمة وحاسبهم الرسول عليه الصلاة والسلام، ولم يقل قضاء وقدر، وقال سبحانه وتعالى للرسول عليه الصلاة والسلام، وقد تصرف باجتهاده في أسارى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الأنفال:67] يعني لماذا تأخذ الأسرى؟ هذا خطأ! ولكن الله عذره، ثم عفا عنه، وعمن أيده عليه الصلاة والسلام من الصحابة، وهذا دليل على منهج مراجعة الخطأ.
وعفا صلى الله عليه وسلم عن مجموعة من المنافقين، كانوا قد اعتذروا إليه كذباً، وما كان للرسول صلى الله عليه وسلم أن يعفو عنهم، لكن قدر الله أن يعفو عنهم، فلما عفا عنهم، قال الله سبحانه وتعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} [التوبة:43] كان الأسلم والأحسن ألا تأذن لهم {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43] وفي صحيح البخاري أن أبا ذر عير بلالاً وقال: يا بن السوداء، فحاكمه إلى النبي صلى الله عليه وسلم: {قال: أعيرته بأمه؟! إنك امرؤ فيك جاهلية} حتى لا يعود إليها مرة ثانية.
وعمر لم يولِّ رءوس المرتدين، وقادة المرتين الذين رجعوا إلى الإسلام قيادة الفتوح أبداً، كما قال ابن جرير وابن كثير، مثل طليحة بن خويلد الأسدي وعمرو بن معدي كرب الزبيدي الشاعر، لم يولهم عمر أبداً، لأنهم أخطئوا قبل، فاستفاد من خطئهم ألا يأمنهم على جيوش يقودونها في المعركة.
وهنا أسأل سؤالاً: يا شباب الصحوة! لماذا لا نقرأ ملفاتنا السابقة في العمل والدعوة والجهاد، هل تقدمنا أم تأخرنا؟ هل أحسنا أم أخطأنا؟ مثل ملفات حماة، من هو السبب في قتل ثلاثين ألفاً في حماة؟ معصومة دماؤهم، شيوخ وأطفال ونساء، أنا أعلم أن الجميع سوف يجيبني أنه الطرف الآخر، وأنا أقول: نعم الطرف الآخر، لكن من الذي تصرف في القرار، وهل كان من الحكمة الدخول مع الطرف الآخر، وهل كان من المصلحة رفع السلاح؟ في اعتقادي أنه لا بد أن ندرس الملف من أوله إلى آخره، لنرى ولا نجعل أفعال الناس وأقوال الناس كأفعال المعصومين، هم بشر لا ينطقون بالوحي، يقول رجل منهم: تبدأ المعركة، فيتسبب بقتل ثلاثين ألفاً، فلا بد من الملف أن نراجعه حتى لا نقع في خطأ آخر.
مثل ملف أفغانستان -وأنا أحترم الجهاد الأفغاني، وأسأل الله أن ينصر المجاهدين نصراً مؤزراً، ونحن مع الجهاد، والذي يتخلف عن الجهاد فيه نفاق، ولا نقصد إلا النصيحة، يعرف ذلك من عرفه، ومن لم يعرف ذلك فإني لا أستطيع أن أقنعه، لأنه وطن نفسه ألا يقتنع، فهو ملغم من داخله ألا يقتنع- مثلاً، لماذا لا ندرس ملف الجهاد منذ أن بدأ إلى الآن؟ لأن المجاهدين إخوان مثلنا، وقد فاقونا بأنهم شهدوا وحضروا، ورأوا بأعينهم، ولكن مع اجتماع الرأي وأهل العلم وأهل الدعوة، قد يكون هناك تصويب كثير.
مثلاً لماذا لا نراجع ملف الصحوة؟! فإن كثيراً من الناس يدعي أن الناس أصبحوا في صحوة، وأنهم عادوا إلى الله، وليس للشباب أخطاء وأن تربيتهم مجيدة، وعلمهم الشرعي متوسط، فإذا جئت تنصح قالوا: لا تشق الصف، لا تثر الغبار، لا تكن حجر عثرة، ولا تثر فتنة على المسلمين، لماذا أنا أثير إذا نصحت؟ وإذا عرضت وأبديت رأياً للناس، هذا لا يكون، فالرسول صلى الله عليه وسلم سمع من الصحابة، وكذلك أبو بكر وعمر، وسوف يأتي كلام عن هذا إن شاء الله.(391/11)
من الأخطاء: عدم عذر المجتهد المخطئ
من أخطائنا أيضاً: عدم عذر المجتهد المخطئ:
الإجماع حجة قاطعة، والخلاف رحمة واسعة، قاله ابن تيمية في مختصر الفتاوى أما حديث: {اختلاف أمتي رحمة} فهو ضعيف، لكن الاختلاف قديم، والله سبحانه وتعالى خلق الناس مختلفين، حتى في أمزجتهم وتفكيرهم الشخصي.
أفراد الأسرة الواحدة لا يتفقون على وجبة الغداء أو العشاء، ربما لا يجمعون إلا في النادر، فمنهم من يريد وجبة كذا، والآخر يقول: كذا.
إذاً فالله ركب الناس على أن يختلفوا في جزئيات من جزئيات الحياة، وكذلك الشريعة، وللعلماء عذر في اختلافهم، وقد كتب ابن تيمية رحمه الله كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، بين فيه عذر المختلفين لماذا اختلفوا، لكن يرى البعض منا -مثلي أنا- أنه لا بد أن يتفق العلماء على كل جزئية، وهذا متعسر ومتعذر.
إن أمراً لم يجمع عليه السلف الصالح لا يلزم الخلف أن يجمعوا عليه، فيجوز أن نختلف في فرعيات الشريعة وفي أساليب الدعوة، وفي الجزئيات، وفي مسائل غير مجمع عليها في الصدر الأول، فما هو العيب في أن نختلف؟ مثل زكاة الحلي، كثير منا ثرب على غيره أنه لا يقول بزكاة الحلي، والآخرون يقولون بالزكاة، والأمر فيه سعة، واختلف فيه الصحابة، والأمر واسع، وأنت قل برأيك ولا تعنف ولا تثرب على الآخر.
أما متى يكون المخالف مبتدعاً عند أهل السنة؟
الذي أراه ضابطاً هو ما ذكره ابن تيمية في الرسائل والمسائل بقوله: من خالف إجماع الصحابة فهو مبتدع، هذا الضابط لكم وأطلب منكم أن تبحثوا في هذه المسألة فإنها تحتاج إلى تحرير.
كيف هذا؟! لأن الأشعري -مثلاً- يقول: لماذا جعلتموني مبتدعاً، لأني أقول يراد بضحك الله عز وجل الثواب، يضحك ربنا: يثيب، مع العلم أنكم عذرتم الأحناف لما وضع الواحد منهم يده اليمنى على اليسرى تحت السرة، وقلتم: مجتهد مخطئ له أجر، فلماذا لا أكون مثله مجتهداً ولي أجر.
فنقول للأشعري: أنت خالفت إجماع الصحابة، أما الحنفي في هذه المسألة، فلم يخالف إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، وعدم عذر المجتهد المخطئ في أمرين:
الأول: في نقض الإجماع، فمن ينقض الإجماع لا نرحب به، ولا بد أن نرد عليه، ونعتبره مبتدعاً.
الثاني: من يتتبع الرخص، كأن يأتي إلى شواذ المذاهب السهلة في كل مذهب ويجمعها، كما يفعل العصرانيون في كثير من كتبهم التي طرحوها في الساحة، بل شافهنا بعضهم فقال: إذا رأيتُ في المسألة سبعة أقوال، فإني أختار أسهلها وأيسرها، وهذا من تتبع الرخص، ولا خير فيه، وهو مردود على صاحبه ومذموم.(391/12)
من الأخطاء: إعطاء بعض القضايا أكثر مما تستحقه
أيضاً من أخطائنا: إعطاء المسائل أكبر من حجمها، أو التشاغل بقضايا غير واقعة في حياة الناس، أو غيرها أهم منها.
ودين الله وسط بين الغالي والجافي كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] والله يقول: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3]
قال المتنبي:
فوضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
إن من يسمي تربية اللحى وتقصير الثياب قشوراً مخطئ، وليس في الدين قشور، لكني أقول: من جعلها أصلاً من أصول الإيمان فقد أخطأ، إن كثيراً ممن يعظ أول ما يبدأ يحدث الناس يحدثهم بتربية اللحى، وبعضهم قد لا يصلي، أو يأكل الربا، أو يشرب الخمر، أو يزني، أو يرتكب شيئاً من شعب الشرك، وهذا يركز على تربية اللحية ليلاً ونهاراً، فأعطاها أكبر من حجمها، ثم بعضهم يلغيها من حجمها الصغير، ويقول: هي قشور لم ترد بها السنة، وهذا خطأ، لكن نعطيها حجمها ومساحتها.
الغيبة في القرآن ذكرت في آية أو آيتين، بينما معظم آيات القرآن عن التوحيد، والحسد أيضاً ذكر في آيتين، غض الصوت في آية، القصد في المشي في آيتين، أو في ثلاث، فأعطى الله كل مسألة حجمها، ومن أحسن من ألف في ذلك الأستاذ العلامة أبو الأعلى المودودي، وهو كتاب: كيف تقرأ القرآن؟ وأتى بقواعد فذة تنبئ أن الرجل ليس بالسهل وأنه كان عملاقاً.
يقول: أزل من عقلك كل تصور عن القرآن مسبق، وأعط المسألة حجمها إلى غير ذلك، وهذا ليس من شأني في هذه المحاضرة.
أقول: أعطينا كثيراً من المسائل أكبر من حجمها، كم صدرت من فتاوى في التصوير، ومناقشات وتنبيهات وتحذيرات مع العلم أنها مسألة فرعية بالنسبة لمبدأ العلمانية، الذي لم يلق من الحديث والكلام عشر معشار ما وجده التصوير، تكلمنا في التصوير ليلاً ونهاراً في كتيبات، وردود، ومناقشات، ومباحثات ومحاضرات!
والعلمانية أنا أجزم أن كثيراً من العلماء لم يتكلموا فيها ولو بكلمة، وهي مذهب يهدد الإسلام من جذوره.
قبل سنة كان كثير من الناس لا يعرفون شيئاً عن حزب البعث، وهو حزب مارد، دخيل يريد هدم الإسلام، فلم يتكلم عنه أحد، وبقينا نتكلم كثيراً عن التصوير والفيديو وضررهما على الأمة.
إن البدع تهدد العالم الإسلامي في وقت لم يهتم بنشر العقيدة الصحيحة، ولم تبين الإيمانيات كما عرضها الصحابة رضوان الله عليهم والسلف الصالح.
كم أخذت مسألة القيام للداخل، أنا أعرف فيها رسائل، وهذا يقول هذا الرأي، ويغضب عليه آخر، لأنه خالفه.
وكذلك جلسة الاستراحة، وتحريك الأصبع في التشهد، هل سمعتم أن الدعاة تكلموا بغزارة في مسألة الحداثة، والغزو الفكري، والولاء والبراء، والربا، ووسائل هدم الإسلام لبنة لبنة، كالإعلام المهتري، وغير ذلك من المسائل الكبيرة، والواحدة منها كارثة على الأمة وعلى الإسلام والمسلمين، وهذا من أخطائنا: أنا نعطي المسألة أكبر من حجمها، أو نصغرها.(391/13)
من الأخطاء: استعجال النتائج
ومن أخطائنا: استعجال النتائج، وهي آفة تصيب الحريصين على الدعوة وعلى الخير، يسابقون الزمن، يبذر الواحد منا البذرة اليوم ويريد النتيجة غداً، وسنة الله عز وجل في الخلق والحياة على الترتيب والتدرج، لا بد من التدرج، الليل لا يفجؤك بسواده، والنهار لا يفجؤك بضوئه، وذلك لأن الله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الحديد: 6] تدريجياً.
والإنسان لا يولد من بطن أمه، ثم تنبت لحيته، ويكتمل عقله، ويتكلم على المنبر، بل يولد رضيعاً ثم طفلاً ثم شاباً ثم كهلاً ثم شيخاً هرماً، حتى يصل إلى الله، هذه سنة الله.
كذلك الشجرة، والإسلام كالشجرة، وعرض الدعوة على الناس لا بد أن يكون بالتدرج، وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام أنه أرسل معاذاً إلى اليمن، وقال له: {فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أطاعوك لذلك} بالتدرج، لا تبدأ بالصلاة قبل الشهادة، أو مع الشهادة، بل بعدها: {فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة}.
قال سبحانه وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} [طه:114]
لكن انتظر حتى يصلك القرآن، وحتى تتثبت مما يقال لك، قال سبحانه وتعالى: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:35] لا تستعجل النتيجة، ولا تقطف الثمرة الآن، اصبر إلى ميقات محدد وأجل مسمى، لتنال أجرك ومثوبتك وثمرتك من الدعوة، قال سبحانه وتعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة:16] أي لتعجل بالقرآن، قال سبحانه وتعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ} [الإسراء:106] لأنه للتربية، وكذلك عرض الدعوة على الناس، لا بد له من تمهل وتريث واستراتيجية ودقة وحكمة وحنكة، حتى ننتصر وحتى نحصل على مكاسبنا إن شاء الله.
في الصحيحين من حديث صهيب أنه تبرم هو وبعض الصحابة، والرسول عليه الصلاة والسلام متكئ على برد عند الكعبة، فقال له: {يا رسول الله ألا تستنصر لنا؟! ألا تدعو لنا؟! فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أنهم قوم يستعجلون، وقال: والذي نفسي بيده! ليتمن الله هذا الدين حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه، ولكنكم قوم تستعجلون} وبالفعل بعد خمس وعشرين سنة، خرجت كتائبه عليه الصلاة والسلام مهللة مكبرة، ترفع الدين في العالم.
وشقت الصمت والأنسام تحملها تحت السكينة من دار إلى دار
وفضفضت مكة الوسنى أناملها وفضت الكون إيذاناً بإخبار
النور أقبل من خلف الظلام وفي عينيه أسرار عشاق وسمار
في كفه شعلة تهدي وفي دمه عقيدة تتحدى كل جبار
أيضاً لسنا مطالبين بالنتائج، فالنتائج على الله، وإنما عليك أن تدعو، فإن استجيب لك وإلا فأجرك محفوظ مكفول عند الله، سواء استجيب أولم يستجب، ذكر الله نوحاً في القرآن، فقال: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} [العنكبوت:14] ومع ذلك، لم يؤمن معه كثير من الأفراد، وبعض الدعاة الآن أكثر أفراداً ومستجيبين من نوح عليه السلام، ولكن الأجر لنوح أكثر؛ لأنه رسول، ولأنه تعب وجاهد.
والنفوس مستعصية، وصعبة المراس، ولها دخائل، ولا تستجيب بسهولة، فالرجاء منا أن نتلافى هذا الخطأ، وأن نصبر على المدعوين، وما يمنعك أن تصاحب الشاب -مثلاً- سنة، وتدعوه سنة أو سنتين، رويداً رويداً، لعل القدر أن يستجيبوا بعد سنة، أو سنتين.(391/14)
من الأخطاء: الانطواء والفرار من المشاركة
ومن أخطائنا: الفرار من الدعوة والمشاركة والتأثير، بحجة الفتنة والحفاظ على الدين، أنا لا أنكر أن العزلة قد تكون مستحبة أحياناً لبعض الناس، وفي بعض الأحوال، وفي بعض الأماكن، كعزلة أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه في عهد عثمان رضي الله عنه، لكن أن تكون صبغة عامة، أو يدعى إليها لتصبح ظاهرة في الصحوة، هذا ليس صحيحاً، وهذا خطأ.
ما هو دليل الذي يفر من المجتمع والمشاركة، ومن التأثير والدعوة؟ يستدلون بأدلة منها:
حديث أبي ثعلبة الخشني وهو حسن: {مر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإذا رأيت شحاً مطاعاً، وهوى متبعاً، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، فعليك بخاصة نفسك، ودع عنك أمر العامة}.
وهذا لم يقع بعد، فما زال في الناس من يستمع، وما زال كثير منهم يقبل الحق ويتأثر بالدعوة، بل الكثير -والحمد لله- نرى منهم الاستجابة، ونرى منهم الإكرام لطلبة العلم والدعاة لأنه يطلب العلم ولأنه يدعو إلى الله عز وجل.
وبعض الناس يقرأ حديث أبي سعيد في الصحيحين: {يوشك أن يكون خير مال المسلم غنم يتتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر، يفر بدينه من الفتن} ويحملونه على أنه هذا العصر، وتجد بعضهم يذهب من بيته إلى المسجد، ولا يشارك في الدعوة، والتأثير، ولا في معاونة إخوانه، أو في الاجتماع على الحق، بحجة أن العصر مظلم، وأن الواقع أصبح لا يتحمل المخالطة، وهذا خطأ، قال عليه الصلاة والسلام والحديث حسن عند أبي داود وأحمد: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم}.
إنك إذا خالطت أوذيت، وتعرضت إلى إهانة واستهزاء وسخرية، ولكن هذه الطريق هي طريق الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقال لقمان عليه السلام لابنه كما حكى عنه ربنا في كتابه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] ولم يقل: افرح بما أتاك، لأنه يعلم أنه سوف يأتيه إيذاء وسخرية وشماتة، فقال: اصبر على ما أصابك.
والصلاة: جماعة، والجمعة: جماعة، والعيدان: جماعة، والحج: جماعة، والفطر يوم يفطر الناس، والصيام يوم يصوم الناس، والأضحى يوم يضحي الناس، وتعاونوا على البر والتقوى، الإسلام مشاركة ومعاونه، نحن جمعية كبرى، أعضاؤها كل بار على وجه الأرض.
النفع اللازم والمتعدي:
وكثير منا يشتغل بالنفع اللازم، ويظن أنه أنفع من المتعدي، فيقول: انظر هؤلاء الدعاة، شتتوا شملهم وقسوا قلوبهم بالتحرك والتنقل والأسفار، لو جلسوا وأدوا النوافل، وركعتي الضحى وذكروا الله، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {وسبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر؛ خير مما طلعت عليه الشمس} ولزموا صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وقيام الليل لكان خيراً لهم.
ولا يعلم هذا أن أولئك هم المجاهدون صراحة، وأنهم وقفوا على الثغور، وأنهم الشجا في حلوق المارقين والزنادقة، وأنهم ضربوا منهم كل بنان.
والنبي صلى الله عليه وسلم يقول في النفع المتعدي إلى غير صاحبه: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} فإنه مكسب عظيم، فإذا هدى الله على يديك رجلاً واحداً وإني أعتبر هذا العمل أفضل من مائة ركعة أو من ألف ركعة؛ لمن قبل الله عز وجل منه وحتى من قبل منه ألف ركعة، فالذي هدى الله به رجلاً أفضل، وهذه طريقته عليه الصلاة والسلام وطريق الخلفاء الراشدين من بعده، والأئمة الكبار.
أما من وجدوا في فترات يستدل بهم بعض الناس كـ داود الطائي وإبراهيم بن أدهم، ويوسف بن أسباط رحمهم الله، من الذين أصلحوا قلوبهم، وأثنت عليهم الأمة، فهم أخيار، لكن لايكون كلامهم منهجاً للأمة، ولا للشباب ولا للجيل.
والغزالي في الإحياء يؤيد العزلة، وقد كان في أول حياته محباً للخلطة في بغداد، وأيدها في كتبه الأولى، فلما صدف إلى العزلة وأحبها أيدها.
وأعرف أن المعتزل عن الناس يشعر بخشية وخشوع ورقة قلب، وأن من يجاهد ويأمر وينهى ربما شعر بقسوة، لكن أجره على الله عز وجل، لأنه واقف بين الصفين، وسنانه يقطر دماً، وهو يحمي ثغور الإسلام، أما هذا فعمل لنفسه فقط.
والنظر إلى المجتمع بنظرة التشاؤم يورث الورع البارد من مخالطة الناس.
وفي صحيح مسلم عنه عليه الصلاة والسلام قال: {من قال: هلك الناس فهو أهلَكَهم} وفي لفظ {أهلكُهُم} فإن كان أَهْلكُهُم: فهو أشدهم هلاكاً لأنه أعجب بنفسه أو أهلكَهم: -فعل ماض- أي: أنه بفعله هذا تسبب في إهلاك الأمة وإغراقها؛ لأنه أشاع الفاحشة أو التهاون في صفوف الأمة.
ويصاب بعض الناس الذين يفرون من الواقع بشيء من تنزيه النفس، فيقول أحدهم: أعوذ بالله! واقع مظلم! ما دخلت إلى الأسواق ولا رأيت فيها من المنكرات؟! نسأل الله العافية والسلامة، نقول له: ألا تشارك معنا في الأمر بالمعروف؟ فيقول: أعوذ بالله! تقول له: ألا تدعو؟ فيقول: أعوذ بالله! نسأل الله العافية، أنت الواقع في المصيبة، إن الذي ينزل إلى السوق ويأمر وينهى ويتكلم ويعظ ويجاهد أفضل منك بدرجات عند الله سبحانه وتعالى.(391/15)
من الأخطاء: عدم الرجوع إلى المستنبطين
أيضاً من أخطائنا: عدم الرجوع إلى الذين يستنبطونه، من هم الذين يستنبطونه؟ هم أهل العلم، قال تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] وقال سبحانه وتعالى عن صنف وشريحة من الناس: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] والذين يستنبطونه منهم هم أهل الفقه، وأهل الرأي والعقل، فالخطيئة التي نرتكبها ونخطئ فيها، أننا لا نعود وقت الحوادث إلى العلماء، مثل فتنة قتل الشيخ جميل الرحمن، أصبح الكثير يتكلم، وكل أخذ منبراً، وكل تحدث، حتى من أناس ما رأينا لهم حديثاً في الإيمانيات ولا في العقيدة، ولا في الفكر الإسلامي، أو الأدب الإسلامي، أو في الردود على المبتدعة والضالين، ومع ذلك تكلموا في الفتنة.
مع العلم أن لنا مادة علمية ولنا عالم نباهي به علماء الأمة، وهو سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، فلماذا لم نعد إليه؟ لماذا لم نسأله؟
ما رأيه في الأزمة وما رأيه في المشكلة؟
فهو عالم، والله يأمرنا أن نعود إلى العلماء في الأزمات بقوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] والذين يستنبطونه هم العلماء: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وهذه المسائل حساسة، وتودي إلى فتن رهيبة في الأمة لا يعلمها إلا الله (أعط القوس باريها) هذا مثل عند العرب، وهو أن تعطي كل صاحب تخصص تخصصه.
عرض على عمر رضي الله عنه وأرضاه بيت من الشعر لأحد الشعراء، هجا به أحد الشعراء الزبرقان بن بدر.
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
فهل يستدعي عمر أبي بن كعب سيد القراء؟ أو زيد بن ثابت صاحب الفرائض؟ لا إنما يستدعي صاحب القافية، وشاعر الدين والملة، حسان بن ثابت، وقال: ما رأيك في البيت؟ أهجاه؟ قال: لا ما هجاه ولكن سلح عليه؛ فلا بد من الرجوع إلى أهل العلم.
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث ابن عمرو: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العلماء، ولكن يقبضه بقبض العلماء حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً، وفي لفظ رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا}.
فنحن لن يتوقف حال المسلمين على فتواي أو على فتواك، ولا احتاجتنا الأمة، وقد كان الصحابة يتدافعون الفتيا، ونحن نقفز وندخل في الفتيا، ونحبها ونحببها ونأخذها بالقوة، وليس هذا من الحكمة.
فينبغي لنا إذا حصل حادث أو طرأ طارئ على الأمة أن نعود إلى الذين يستنبطونه، وأن نسألهم وأن نتريث حتى يصدروا أمراً، فإن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطئوا فأجر واحد، ونسلم نحن من التبعة، ونسلم من اللوم، ونسلم من الإثم، ولنولِّ حارها من تولى قارها.
وسوف نعود بموقف موحد، وسوف تجتمع قلوبنا إذا عدنا إلى الذين يستنبطونه من العلماء.
وأمر آخر وهو أنه ينتقد العلماء بسهولة في مجالسنا، يخطئ الواحد منهم في مسألة فرعية، فننقده، وننسى حسناته، فلابد أن نعرف أن هؤلاء العلماء -بإذن الله- لولاهم لخطب الدجال من على المنبر، ولاستبيحت كرامة الإسلام، ولمرغ الإسلام في التراب.
إن العالم الذي يفتي في الحيض يشرف هذا الدين، والعالم الذي يفتي في مسائل فرعية يرفع رأس هذا الدين، والعالم الذي سد علينا ثغرة أحسن كل الإحسان، وانتهاك حرمة العلماء، واقتحام هذا السياج الخالد المقدس بسهولة أمر لا يقره الإسلام ولا الأدب، فلابد أن نعرف قدرهم وأن نحترمهم.(391/16)
من الأخطاء: ضيق النظرة الدعوية
أيضاً أيها الإخوة: من أخطائنا: ضيق النظرة الدعوية، أو تحجيمها في أسلوب واحد فحسب، قال محمد أحمد الراشد في المنطلق: علماء السلف علماء عامة، وأنا أعجبت بهذه الكلمة، وصدق فيما قال، فعلماء السلف علماء عامة، أحمد، العز بن عبد السلام، مالك، الشافعي، ابن تيمية، ابن القيم، كانوا علماء عامة، تجدهم في المساجد، في الشوارع، في الحوانيت، يخالطون العامة، أما تحجيم الدعوة في أمر خاص أو في جزئية بسيطة سهلة، فهذا ليس من مسلك أهل السنة والجماعة، المجتمع شرائح وطبقات وفئات، ولكل أساليبه.
ولا بد أن نوفي هذه الجوانب حقها، والله سبحانه وتعالى أعطى الناس مواهب بحيث أنه يمكن في مجموعهم أن يقوموا بشأن الدين، لكن لا تعطى المواهب لرجل واحد، فلا نستطيع أن نقول: هذا الرجل يكون هو الخطيب والمحاضر والمفتي والشاعر والمتكلم، فهذا ما لا نستطيع أن نقوله.
وأنا أعرف أن كثيراً من الإخوة ومن الشباب يعتذر عن عدم مشاركته في الدعوة بأنه لا يستطيع الخطابة أو إلقاء المحاضرات، أو المشاركة في الندوات، وليست الدعوة منحصرة في هذه الجوانب، بل الدعوة تخطيط وتنسيق وإرادة وإدارة، ومشاركة بالمال وبالدعاء، ولكن لا تنصرون إلا بضعفائكم، بدعائهم وباستغفارهم وبصلواتهم لكم.
فأنا أدعو كل مسلم أن يوسع نظره في مسألة مجال الدعوة، وطرق الدعوة وأساليب الدعوة، وأن يعلم أنه سوف يستطيع أن يقدم شيئاً لهذا الدين، فأنت أوتيت مثلاً موهبة في التفسير، وهذا موهبة في الحديث، وذاك في الأدب، وهذا في المال، وهذا في الجسم، فإذا اجتمعنا جميعاً رفعنا راية هذا الدين، بإذن الله سبحانه وتعالى.
أيضاً من الأخطاء: تضخيم بعض جوانب الخير على حساب جانب منها، فإن بعض أهل الطموح إذا عشق جانباً من جوانب الخير كالجهاد والعلم، استولى عليه هذا الجانب، حتى جعل الإسلام في هذا الجانب، فهذه شريحة من الشباب، يدندنون بالجهاد صباح مساء، حتى تركوا طلب العلم من أجل الجهاد، بل حملهم ذلك على تنقص حلقات الدروس، وقالوا: لا يفتي القاعدون، ودروس القاعدين ليس فيها بركة، كيف تدرسون الأمة وأنفها في التراب؟! ولقد أصبنا بالذل منذ أن سقطت الأندلس، لماذا هذا التوسع في هذا الجانب على حساب الجانب الآخر؟! ويقابله آخر يطلب العلم، فيجعل العلم ليله ونهاره حتى يضر بمسألة الجهاد، والإسلام كل متكامل، ولا بد أن نعطي كل مسألة حجمها، والرسول صلى الله عليه وسلم كان يلبس لكل حالة لبوسها، فهو خطيب على المنبر، ومفتٍ في الحلقة، ومدرس للجيل، ومجاهد في الجبهة، فلا بد أن نعطي كل مسألة حجمها، على أنه قد يفتح لبعض الناس أبواب من الخير لا تفتح للآخرين، وإن الله قد يفتح لك في الأوراد والذكر، ويفتح على غيرك في أبواب الجهاد، والثالث في العلم، والرابع في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} [البقرة:148].(391/17)
من الأخطاء: التقصير في التخطيط المسبق
من أخطائنا: تقصيرنا في التخطيط المسبق، والدراسات المتأنية، والانطلاق بعشوائية، فقد يقوم جهاد أو مشروع كبير بجرة قلم، أو برأي طارئ، ثم لا يحاسب هذا الذي بدأ المشروع، أو بدأ الجهاد، أو بدأ هذه القضية، وكأنه معصوم يتكلم بالوحي، والله سبحانه وتعالى قال لرسوله عليه الصلاة والسلام وهو المعصوم: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] وقال سبحانه عن المؤمنين: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] والرسول صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في أكثر من موطن، وفي حديث الإفك أنه استشار أسامة، واستشار علياً، والوحي ينزل عليه صباح مساء، فمن الخلل أن نلقي بالقرار في يد شخص واحد، ليسير الأمة، ومصير الأمة كجهاد أو مشروع كبير، ثم لا نسأله ولا نناقشه ولا نناصحه ولا نفاوضه، ولا نحاسبه، هذا خطأ، والحقيقة أن الغرب أفلح في هذا المورد أكثر من الشرق الإسلامي الذي جعل القرار في يد واحد، وبُرمج الناس على ذلك، حتى لم يقبل الناس النقاش ولا الحوار ولا المناصحة.
وفي السيرة أن عمر رضي الله عنه دخل الكعبة، وقال: لقد هممت أن أوزع كنوز الكعبة على الفقراء.
قال أبي بن كعب: والله لا تفعل! قال: ولِمَ؟ قال: لم يفعل صاحباك، الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، قال: [[هما المران يقتدى بهما]].(391/18)
من الأخطاء: ترك الدعوة بحجة الذنوب
خطائنا: تذرع البعض عن الدعوة والمشاركة والتأثير بذنوبه وخطاياه، وأن مثله لا يدعو الناس، وأنه ينبغي عليه أن يكمل، فإذا كمل دعا، وهذا خطأ يخالف الكتاب والسنة، ومنهج الصالحين، قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21].
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم: {والذي نفسي بيده! لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم}.
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
سأل الإمام أحمد تلميذه عن مسألة، فقال له: لماذا لا تأمر ولا تنهى؟ قال: حتى أكمل، قال: أوه! ومن الذي يكمل؟!! أو كلمة تشبه ذلك، أي أنه لا يكمل أحد إلا الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وقد يكمل إنسان كمالاً نسبياً، لكن هل ينتظر حتى يتبرأ من الذنوب والخطايا، هذا ليس بصحيح، قال عليه الصلاة والسلام كما عند الترمذي وغيره: {كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون} فعلينا أن ندعو ولا نتذرع بالذنوب، وكثير من الأحباب يرى أنه لا يحق له أن يشارك ولا أن يتكلم، ولا أن يدعو لأنه مذنب، وهل سمعتم أن واحداً ممن حضر هذا الجمع، أو من غيره، أو من قادة الصحوة، أو من جهابذة الأمة وفضلائها؛ معصوم من الذنب، لا أعلم أحداً، فالذنب حتم على العبد، ولا بد أن يذنب، ولكن الله يغفر الذنب، ويستر العيب وما نحن إلا مقصرون، والراحم والساتر هو الله سبحانه وتعالى.(391/19)
من الأخطاء: الإقليمية في الدعوة
أيضاً من أخطائنا: الإقليمية في دعوتنا، فيجب إذا تحدثنا أن نتحدث وكأن البلد الذي أمامنا هو العالم الإسلامي، وكأن الكرة الأرضية أمامنا بمشكلاتها وبمقتضياتها وبأطروحاتها وبما فيها.
يجب علينا أن نخاطب العالم الإسلامي جميعاً، فقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] وقال سبحانه وتعالى لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107].
فانطلق صلى الله عليه وسلم من هذا المبدأ.
خطابه لكل العالم ولكل من في الأرض.
تسمع أحياناً بعضنا في محاضراته يتكلم عن جزئية من جزئيات إقليم من الأقاليم، ثم تبقى المحاضرات والكتيبات والأشرطة والندوات، إلا القليل تتحدث عن بلد من البلاد الإسلامية، دون البلاد الأخرى التي تعج بكثير من الأخطاء وكثير من التقصير.
قال سبحانه وتعالى: {وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} [الأنعام:92] قال بعضهم: (من حولها) هم أهل الأرض، فأهل الأرض كلهم حول مكة.(391/20)
من الأخطاء: عدم احترام التخصص
أيضاً: من أخطائنا: عدم احترام التخصص.
وأنا أقول للأخيار والفضلاء وأنا متطفل بين أيديهم: إن علينا نحن في دائرتنا -دائرة الصحوة الإسلامية- أهل الالتزام والمسيرة الخالدة -وأما أولئك فلنا كلام آخر معهم- أن نعتني بالتخصص، وكان السلف يرون أن من يتكلم في غير فنه يخطئ، وقالوا عن بعضهم في التراجم: أخطأ لأنه تكلم في غير فنه.
والإنسان عرضة للخطأ، والرسول صلى الله عليه وسلم أقر مبدأ التخصص مع أصحابه، فجعل سيد القراء أبياً وزيد بن ثابت للفرائض، وحساناً للشعر، وخالد بن الوليد للجهاد، وعندنا ثغرات، وعندنا من الأخيار من يستطيع أن يسدها إذا وقفوا في مواطنهم التي يُسِّروا لها.
مثلاً فضيلة الشيخ الدكتور بكر أبو زيد في الفقه وفي عالم بناء العقيدة وعرض منهج أهل السنة والجماعة لشباب الصحوة، فنريده في هذا المكان، فسوف يسده لنا، والدكتور الشاعر عبد الرحمن العشماوي نريده في الأدب والقوافي متصدياً لها، منافحاً عن الدين، ونشكره كذلك، وسوف يسد علينا هذه الثغرة.
إشراقات الدكتور أحمد التويجري في رده على الزنادقة الجدد نطلبها، ونريده من واقع تخصصه لا يعدوه.
وعدوى الإعلام، وبلايا الإعلام، دواؤها من عند الدكتور سعيد بن زعير فنريده في هذا، فهو يجيده، لعل الله أن يسد هذه الثغرة به.
فلا نطلب من الطبيب أن يكون خطيباً -وقد يكون هذا في النادر- ولا نطلب من المهندس أن يكون مفتياً، ولا من الشاعر أن يكون طبيباً، أو نحو ذلك.
وافهموا هذا المعنى، فهذا أمر مهم، وكثير من الناس يترك تخصصه ويذهب إلى تخصص آخر، فيسيء ويخطئ، والأمة والحمد لله مكتملة في هذه الجوانب، عندنا عشرات من الشعراء، وعندنا عشرات من الخطباء، وعشرات من المفتين ومن المؤذنين.(391/21)
من الأخطاء: التقصير في تكثير سواد المؤمنين
ومن أخطائنا أيضاً: التقصير في تكثير سواد المؤمنين.
الدين مبني على مراغمة أهل الباطل، وهذه الكلمة لـ ابن القيم في مدارج السالكين، فينبغي لنا أن نظهر الإسلام قوياً في اجتماعاتنا وفي لقاءاتنا، وفي محاضراتنا، وقد مشى أبو دجانة في أحد مشية الخيلاء أمام الكفار، والخيلاء محرمة إلا في مثل ذاك الموطن، فقال صلى الله عليه وسلم: {إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن}.
فعلينا أن نكثر سواد الأخيار والمؤمنين، في مثل اللقاءات والدروس والمحاضرات، ونحشد حشداً هائلاً في الحضور، حتى نظهر هذا الدين بمظهر القوة والتعاون، فالعيد جماعة، والجمعة جماعة، والاستسقاء، وصلاة الكسوف، والأفراح الإيمانية، وكذلك المحاضرات والدروس، بعضهم يذكر أنه لا يستفيد من المتكلم، نعم قد يكون المتكلم مفضولاً وأنت أفضل منه، لكنك تحضر لتكثير سواد المؤمنين، ولإظهار القوة والكثرة والعدد، لأن هذا مقصود، والمرتدون والمارقون والمرتزقة يزعجهم تجمع المؤمنين.
يزيد يغض الطرف دوني كأن ما زوى بين عينيه عليّ المحاجم
فلا ينبسط من بين عينيك ما انزوى ولا تلقني إلا وأنفك راغم
إن إرغام هؤلاء مطلب شرعي لنا، ونحن نريد أن نغيظ هؤلاء المارقين المرتدين، الذين يفرحون بتجمعات أهل الباطل، ويحشدون حشودهم من أجل الباطل.
وأنا في هذا المكان أدعو العلماء والقضاة وكتاب العدل والمشايخ وأساتذة الجامعات والأدباء والمربين، أن يحضروا المحاضرات، وماذا عليهم لو حضروا، وقد حضر من هو أفضل منهم عند كثير من الدعاة ممن هو أقل منهم علماً وأدنى منهم شأناً، وقد قال ابن القيم في بدائع الفوائد: إن سليمان عليه السلام على جلالته استمع إلى الهدهد، لما قال: {وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَأٍ بِنَبَأٍ يَقِينٍ} [النمل:22] فحق لهم أن يحضروا، وأن يشاركوا وأن ينصروا هذا الدين بالحضور.
وإن المحاضر يفرح ويثلج صدره، ويتشجع إذا رأى المشايخ والقمم العلمية والدعاة والجهابذة أمامه.
ثم إن الشباب يرون أن مشايخهم قد حضروا وأثروا الساحة بالحضور، ودخلوا بعلمهم وبحكمتهم واتزانهم، وقادوا الركب إلى الله سبحانه وتعالى، وهذا مطلب، ونحن نغفل عنه كثيراً، لقد تخلى بعض الدعاة عن المشاركة في الندوات والمحاضرات، لأن الجمع خذلهم.
حتى أصبحنا نرى أنه يجب علينا أن نحشد الناس حشداً وأن نحضرهم لهؤلاء حتى تقوم دعائم هذا الدين، وسبحان الله الذي جمع بعض الوجوه في الشر ولم يجمعها للخير!
رأى عمر رضي الله عنه وأرضاه سارقاً يقام عليه الحد ووراءه جماعة من الناس، فحثا في وجوههم التراب، وقال: قبح الله هذه الوجوه، التي لا ترى إلا في الشر، فكثير من الوجوه لا ترى إلا في الشر أو في الطوارئ التي تحدث ولا مصلحة من ورائها، أما أهل الخير فقليل، وأنا أعرف أن الحضور كثير، لكن بالنسبة لمن يحضر في بعض أماكن اللهو واللغو والعبث هم قليل، فهناك ألوف مؤلفة إن حضر هنا ستة آلاف، ففي المدرجات ستون ألفاً وأكثر، فجزى الله خيراً من كثر سوادالمؤمنين وحشره الله في زمرة المؤمنين.(391/22)
من الأخطاء: التقصير في مد الجسور مع الطبقات الأخرى
ومن أخطائنا: التقصير في مد الجسور مع كثير من طبقات الناس.
قد نتوجه بالدعوة والتأثير والعلم والتربية والتوعية إلى شباب الصحوة، أو الطلاب، أو أهل الخير، أو من فيه التزام.
والمراكز الصيفية والمخيمات قد لا تسجل إلا من فيه التزام، بل لا يأتيها في الأصل إلا من عنده شيء من الالتزام، ولو الالتزام الظاهر، ولكننا نترك طبقات وشرائح كبرى هي أكثر من الطبقات التي نتحدث إليها، كطبقة التجار مثلاً، وطبقة الجنود والفلاحين، وطبقة عوام الناس.
والرسول صلى الله عليه وسلم كما قلت في أول الحديث رجل عامة صلى الله عليه وسلم ورسول عامة، وكذلك علماء السلف، فلا بد أن نصل إلى هؤلاء، والناس على الفطرة، وهم يقبلون الدعوة، ويحترمون الداعية إذا وصل إلى قلوبهم، وتحدث معهم.(391/23)
من الأخطاء: الغلظة والفظاظة
أيضاً من أخطائنا: الغلظة والفظاظة، توجد فينا وفي أمثالنا غلظة وفظاظة في التعامل، وعدم وجود اللين والبشاشة والبسمة الرائقة التي تجذب قلوب المدعوين، ومدح الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم باللين، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] إنه يجب علينا في هذه المرحلة أن نكسب الناس وأن نتألفهم، وقد تألف الرسول صلى الله عليه وسلم صناديد العرب بالإبل، وتألفهم بالمال والثياب، فلماذا لا نتألف الناس بالبسمة والزيارة والتواضع حتى نكسب الناس؟
وقد أثنى الله على نبيه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وقال صلى الله عليه وسلم: {وتبسمك في وجه أخيك صدقة} وهذا لا يستطيع له إلا من أصلح الله قلبه، وهداه سنة محمد عليه الصلاة والسلام.
ويبقى هناك سؤال ربما يطرح وهو الذي قلته في بداية هذا الدرس: لماذا لم توجه النقد إلى الآخرين، ووجهته لنا نحن الدعاة؟
وأجيب بما أجبت في أول المحاضرة لكن بأسلوب آخر أقول: الأحسن أن نتلافى أخطاءنا قبل أن ينبهنا غيرنا على الأخطاء، والتناصح منهج إسلامي، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: [[المؤمنون نصحة والمنافقون غششة]] أما أولئك فلهم كلام آخر، والرسول صلى الله عليه وسلم ترك تعزير وإقامة الحد على عبد الله بن أبي، قالوا: لأن الحد لا يطهره، وإنما أقامه صلى الله عليه وسلم على من قذف من المسلمين؛ لأن الحد يطهره.
فأنتم وأنا التنبيه يطهرنا، لأننا إن شاء الله على حديث: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} فهو شيء سهل لا يعكر إن شاء الله صفو الماء ولا ينجسه.
وهي مرحلة لا بد منها، وهي مرحلة أن ننظر وراءنا في أخطائنا التي وقعنا فيها، وندرس ملفاتنا السابقة في الدعوة والعمل، والجهاد والتعليم، ولأنَّا لسنا معصومين، وإنما عرضة للتجارب، ونحن في عصر أصبح العالم كله يدرس أخطاءه.(391/24)
ملخص الأخطاء
وألخص الأخطاء:
الأول: قلة الإنصاف.
الثاني: صعوبة عرض عقيدة التوحيد السهلة الواضحة الميسرة على الناس.
الثالث: تسمية البطالة بالزهد، والانزواء عن كسب المال وجمع الرزق.
الرابع: عدم مراجعة الأخطاء والاستفادة من التجارب، وقد وقعنا في أخطاء مدلهمة ولم نستفد منها.
الخامس: عدم عذر المسلم المخطئ، إذا كان قصده الحق.
السادس: إعطاء المسائل أكبر من حجمها، أو التشاغل بقضايا غير واقعة، أو غيرها أهم منها.
السابع: استعجال النتائج.
الثامن: الفرار من الدعوة والمشاركة والتأثير بحجة خوف الفتنة والحفاظ على الدين.
التاسع: عدم الرجوع إلى الذين يستنبطونه من أهل العلم فيما يلم بنا.
العاشر: ضيق النظرة الدعوية، أو تحجيمها في أسلوب واحد فحسب.
الحادي عشر: تقصيرنا في التخطيط المسبق، والدراسة المتأنية، والانطلاق بعشوائية في أعمالنا وفي مشاريعنا.
الثاني عشر: تذرع البعض بذنوبه وخطاياه، فلا يدعو إلى الله.
الثالث عشر: الإقليمية في دعوتنا.
الرابع عشر: عدم احترام التخصص.
الخامس عشر: التقصير في تكثير سواد المؤمنين.
السادس عشر: تقصيرنا في مد الجسور مع الطبقات الأخرى من طبقات المجتمع، وعامة الناس.
السابع عشر: الغلظة والفظاظة في بعض أساليبنا.
أسأل الله أن يصلح الحال.
أقول لكم أيها الأحباب: هذه وجهات نظر تقبل المناقشة وتقبل الحوار، فهي من كلام رجل ليس بمعصوم، وهو مخطئ، بل هو أول مخطئ.
لعمرو الله ما نسب المعلى إلى كرم وفي الدنيا كريم
ولكن البلاد إذا اقشعرت وصوح نبتها رؤي الهشيم
فأنا الهشيم هذه الليلة، فخذوا من الهشيم ما استطعتم، واعفوا عن أخيكم، عفا الله عنكم! واعلموا أنها من مبدأ النصح عسى الله أن يصلح بنا وبكم طريق الرشاد، وأن يحفظنا وإياكم من طريق الهالكين، وأن يجعلنا ممن إذا استمع القول اتبع أحسنه، وأن يهدي بنا وبكم أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى صراط الله المستقيم، وأن يرغم بنا أنوف المرتدين والمنافقين والملحدين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(391/25)
ذو العرش المجيد ينزل نعمه على العبيد
إن الله عز وجل قد أنزل علينا من النعم الكثيرة التي لو قضى الإنسان عمره في شكرها لما كفى ذلك، ولكن على الإنسان أن يبذل جهده في شكرها.
وأعظم نعمة منَّ الله بها علينا نحن البشر هي نعمة الإسلام وكذلك نعمة القرآن والسنة، ومن الأحاديث التي جاءت في السنة حديث أبي ذر العظيم في تحريم الظلم، وقد وقف الشيخ عند كل لفظة من ألفاظه وشرحه شرحاً مفصلاً.(392/1)
ميراث النبي صلى الله عليه وسلم
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الجليل، والهادي النبيل، صلى الله وسلم على من كسر بدعوته ظهور الأكاسرة، وقصر برسالته آمال القياصرة، الذين طغوا وبغوا حتى أرداهم ظلمهم في الحافرة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم:1 - 11].
{وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء:195].
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
أيها الفضلاء أيها النبلاء: وإنها لفرصة سانحة ونادرة.
إن يكد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
أما رسالتنا فهي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهي رسالة الخير والعدل والسلام، وسبق في ليلة أمس أنها تحمل كذلك الحب والإيمان والطموح، ولكن لا يمنع ذلك إذا حملت الحب والإيمان والطموح أن تحمل العدل والخير والسلام، وهذا الدرس سيكون في فن الحديث، وفي ميراث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وفي بضاعته التي رخصت عند الذين لا يفهمون ولا يفقهون ولا يعون.
تعال يا من حاله في وبال ونفسه محبوسة في عقال!
يا رقداً لم يستفق عندما أذَّن في صبح الليالي بلال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
ميراثه فينا جميل الحلى وأنتم أصحابه يا رجال
من يرث (لا إله إلا الله) إلا أنتم؟!
من يرفع (لا إله إلا الله) إلا أنتم؟!
من يتفقه في (لا إله إلا الله) إلا أنتم؟!
من يموت على (لا إله إلا الله) إلا أنتم؟!
الحديث هو فيض من صحيح مسلم، وهو من قواعد الإسلام الكبرى، واستمعوا إلى البلاغة والحرارة والروعة والحب والجمال والعدل والخير والسلام.(392/2)
شرح حديث أبي ذر رضي الله عنه في تحريم الظلم
عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا.
يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.
يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم.
يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم؛ ما زاد ذلك في ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم؛ ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.
يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه}.
هذا الحديث رواه مسلم، وهو حديث شامي، قال الإمام أحمد: ليس لأهل الشام أشرف من هذا الحديث.
وراويه عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه أبو إدريس الخولاني، وقد أتى من طرق أخر عن غير أبي إدريس، ورواه الإمام أحمد في المسند بلفظ مختلف، وروى منه شذراتٍ الإمامُ الترمذيُّ في سننه، وهذا الحديث تجنب البخاري إيراده لعلة سهلة خفيفة لا توجب رد الحديث، ولكن البخاري له خيوط من الدقة والفطنة لا يرقى إليها شرط مسلم.
هذا الحديث فيه قضايا وعبر وإشراقات، وهذا الحديث قاعدة من قواعد الإسلام، كان أبو إدريس الخولاني إذا حدث به جثا على ركبتيه! إنه حديث يكسبك العدل والخير والسلام.(392/3)
ترجمة أبي ذر الغفاري
والقضية الأولى: من هو أبو ذر الغفاري؟
أبو ذر هو الزهد، والزهد هو أبو ذر.
أبو ذر هو العبادة الناصعة والمدرسة المتوجهة التربوية التي تركها صلى الله عليه وسلم في العالم.
أبو ذر ترجم له الذهبي في سير أعلام النبلاء فمجده، وذكر أنه من العلية الخالصة من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.
يمتاز أبو ذر بأنه يبحث عن الحقيقة في وقت ضاعت فيه الحقيقة، أتى طالباً للهدى في وقت فقد فيه الهدى، هو من الصحراء، واضح وضوح الصحراء، صادق صدق الصحراء، شجاع شجاعة الصحراء.
أبو ذر غفاري من قبيلة غفار، التي تسلب الراحل في الليل لكنه هو لا يسلب أحداً بعد أن تعلم الخير والعدل والسلام.
سمع أن الرسول عليه الصلاة والسلام طرق العالم، وتحدث بلا إله إلا الله في مكة، فأرسل أخاه إلى مكة، فذهب أخوه ولكن ما شفى له غليلاً ولا روى له عليلاً، فأتى أبو ذر، فركب ناقته، وذهب ووصل إلى مكة حيث الصخور السوداء، حيث الرسالة التي انبعثت من مكة، وحيث دعوة الله تعلن عالميتها، وليس معه إلا أربعة نفر، أبو بكر وزيد بن حارثة وخديجة وعلي بن أبي طالب، رجل ومولى وصبي وامرأة، والله يقول عن نبيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فيضحك كفار مكة من هذه الرحمة التي للعالمين، وهو يحارب ويطرد ويجاع!
وبعد خمس وعشرين سنة سرت الرحمة المعطاة من الله إلى سمرقند، وطاشقند، والسند، والهند، وإلى بقاع الأرض وبقاع المعمورة.
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما صرنا على موج البحار بحارا
إن هذا الدرس كمقدمة، وليس درساً تخصصياً إلا في الحلقة الثانية إن شاء الله، لكنه أشبه بالشذرات في التوجه والتربية، ليكون ديباجة للموضوع وممهداً لهذا الفصل من الحديث في فن الحديث.
فوصل أبو ذر رضي الله عنه وأرضاه إلى مكة، لكنه لا يعرف أحداً في مكة، ولا يعرف أين يذهب، آواه الليل فاستتر بثياب الكعبة، وهو يحمل في قلبه البحث عن العدل والخير والسلام، ما وجد طعاماً، فما في مكة من يطعمه لأنه غريب.
غريب من الخلان في كل بلدة إذا عظم المطلوب قل المساعد
فأخذ يشرب من ماء زمزم، قال عن نفسه: شربت ماء زمزم، فأغناني الله به عن الطعام، فما جعت أبداً، حتى تكسرت عُكَنُ بطني من السمن، وهذه الخاصية ليست إلا لزمزم، ولا تكون لماء آخر في الأرض.
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
ثم نزل رضي الله عنه فوفق بـ أبي الحسن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صاحب الكلمة النفاذة والحسام الماضي في رقاب المعاندين، فعرف علي أنه غريب، فلما رآه تبعه ولم يسأل واحد منهما صاحبه، وهكذا في اليوم الثاني والثالث، فقال له علي: ألا تحدثني بالذي أقدمك؟
فأخذ عليه عهداً أن يرشده إلى ما يريد، فقال: إني سمعت عن رجل هنا يزعم أنه نبي يأتيه الخبر من السماء، فقال علي: فإنه حق، وإنه رسول الله، فإذا أصبحت فاتبعني، فإني إن رأيت شيئاً أخاف عليك قمت كأني أريق الماء، وإن مضيت فاتبعني حتى تدخل معي، وهذا كما قيل: إن في المعاريض مندوحة عن الكذب.
وانطلق أبو ذر في أول لقاء حار ومناظرة ساخنة بين التلميذ وشيخه، وبين الطالب ومعلمه، يقول له في أول اللقاء: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فأطلقها أبو ذر قوية مؤثرة: السلام عليك ورحمته وبركاته، فكان أول من حيا رسول الله بتحية الإسلام، فرد عليه صلى الله عليه وسلم وجلس أبو ذر.
واسمع إلى الحوار الهادئ وإلى التوجه الرباني، وإلى هداية الله، يهتدي هذا من قبيلة غفار البدوية البائسة، وأهل البلد الحرام لا يهتدون، أبو طالب وأبو لهب وأبو جهل {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
فقال: يا رسول الله! ماذا أرسلك الله به؟
فقرأ عليه شيئاً من القرآن، وتكلم بشيء من الدعوة فأسلم، فقال له صلى الله عليه وسلم: من أين أنت؟ قال: أنا أبو ذر الغفاري من غفار، فتبسم عليه الصلاة والسلام، غفار تأتي لتسلم، وتأبى قريش أن تسلم!
وهم أهل زمزم والحطيم والصفا والمروة، إنها هداية وولاية الله! قال: فعد إلى أهلك، فإذا سمعت بخروجي وانتصاري فتعال، ولكنه رفض أن يهدأ، بل قام على الصفا، فأعلن إسلامه فضرب حتى أصبح لابطاً في الأرض، وهكذا العظماء يضربون ويقتلون ويجرحون ويسجنون ويجلدون، فقام العباس وقال: اتركوه فإنه من غفار.
ثم عاد فأرسل دعوته في غفار، وأسلم معه سبعون من بيوت غفار، ودخل المدينة بجيش من المسلمين، ثم واصل المسيرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي تبوك تخلفت به ناقته وهو في الصحراء وفي الرمضاء، يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعاً في حرارة الصيف وفي وهج الشمس، فيقول عليه الصلاة والسلام لما رآه في حديث في سنده نظر: {رحمك الله أبا ذر، تعيش وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك}.
وعاد إلى المدينة فقال له صلى الله عليه وسلم: {يا أبا ذر! إذا بلغ البناء سلعاً فاخرج من المدينة} وهذا الحديث سنده حسن أورده الذهبي في السير وغيره، والمقصود بـ سلع جبل في المدينة، ومعنى الحديث: إذا بلغ العمران جبل سلع وامتدت المدينة، فاخرج بإيمانك وعبادتك وزهدك.
كأنه شفاف، لا يستطيع أن يعيش مع الصخب، وبعض النفوس كالجوهر اللماع أي شيء يؤثر فيه، أو كالثوب الأبيض يتأثر من أي شيء لنصاعته وطهره، فلما بلغ البناء سلعاً أخذ غنمه وخيمته وعصاه، وخرج إلى الربذة على مسافة ثلاثة أميال من المدينة.
لا طفوني هددتهم هددوني بالمنايا لا طفت حتى أحسَّا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت في الحق نفسا
أطرد الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
أنا عاهدت صاحبي وخليلي وتلقنت من أماليه درسا
توفي في الربذة، ولفظ أنفاسه على زهد وعبادة وإخلاص، ويكفيه شرفاً أنه حفظ هذا الحديث الذي يصل إلى القلوب مباشرة.(392/4)
تعريف العبادة
وفي الحديث قضايا:
أولها: سند الحديث صحيح من طريق مسلم، ومسلم يشترط المعاصرة وإمكان اللقيا، ولا يشترط أن تحدث اللقيا بين الشيخين، لذلك هو يستهل صحيحه بهجوم صاعق على الذين يخالفونه في هذه القاعدة، ويلومهم على المخالفة، وقال: من يشترط هذا؟! وعمل الناس في الحديث على غيره!
ثانيها: في غير الصحيح وردت زيادات توقف في صحتها بعض الحفاظ ومجالها بحث آخر.
يقول سبحانه وتعالى: يا عبادي! وأشرف لفظ تسمى به أن تكون عبداً لله.
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
والعبودية لفظ مجمل يحتاج أهل السنة والجماعة إلى تفصيله للناس.
قيل في تعريف العبادة: هي أداء المأمور واجتناب المحظور.
وقيل في العبادة -وهذا تعريف طلق بن حبيب - هي: أن تعبد الله، على نور من الله، ترجو رحمة الله، وأن تجتنب معاصي الله، على نور من الله، تخاف عذاب الله.
وقيل في العبادة: هي أن تكون على الصراط المستقيم الذي ذكره سبحانه وتعالى بقوله: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
وقيل في العبادة: هي أن تتولى ولاية الله وتتقمصها، فتكون من الذين قال الله فيهم: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63].
وقيل: العبادة هي أن تؤدي المفروض، وتجتنب المحظور، وأن تتقرب بالمستحبات، وتنتهي عن المكروهات.
ولكن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن في هذا التعريف الأخير نظراً، وذلك عندما شرح حديث الولي في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه يرفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول الله تبارك وتعالى: {من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، وما تقرب إلىَّ عبدي بأحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلى بالنوافل} الحديث.
فـ ابن تيمية يرى أن الحديث قسَّم الناس إلى قسمين: سابق بالخيرات، ومقتصد، وهذا لا يعفينا من التقسيم التفصيلي، لا النقلي التجريبي الذي نقله بعض الفقهاء ثم سكتوا عنه.
إذاً: فالعبادة على درجتين، لكن من يقول لكم: إنها على ثلاث درجات، فقد صدق لقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32].
إذاً: أقسام العباد في هذه الآية ثلاثة أقسام: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32].
وعند ابن القيم وابن تيمية أن الثلاثة يدخلون الجنة، بيض الله وجهي الشيخين فقد أدخلونا ونحن ظلمة لأنفسنا في الثلاثة، ولو كان على الصنفين وهو رأي الجمهور، لما دخل الظلمة في قوله سبحانه وتعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} [الرعد:23].
إذاً: فالظالم من ترك بعض المأمورات، وارتكب بعض المحظورات.
والمقتصد: من فعل الفرائض واجتنب الكبائر.
والسابق بالخيرات: من أتى بالفرائض والنوافل واجتنب المحرمات والمكروهات.
قوله: {يا عبادي} العبودية عرفها أهل الإسلام كما أسلفت، ولكن لبعض الناس من أرباب القلوب والسلوك تعريف، ولكنه كالزهرة يشم ولا يُعَك، وبعض هذا التعريف نرفضه ولا نقبله، لأنه جاء من غلاة الصوفية كقول الصوفي الغالي: العبادة هي ألا تطلب عليها ثواباً.
كيف والله يقول في عباده: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ} [الفتح:29]؟!
وكيف والله سبحانه وتعالى قال: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران:169 - 170]؟! كيف لا يفرحون؟!
فهذا التعريف يعارض فرح المؤمنين بجزاء الله، والصوفي الآخر الغالي يقرأ قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران والله يتحدث عن أهل أحد {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] فصفق بين يديه وقال: سبحان الله! وأين الذين يريدون وجه الله؟!
الله يقول: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا} [آل عمران:152] أي: الغنائم، ومنكم الأبرار الأخيار الذين يريدون الآخرة: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] لكن هذا جعل الصنفين كليهما باطلاً ومتبراً عملهم وهذا قول.
وهناك تعريف آخر يعرفه سحنون المغربي المالكي يقول: العبادة هي الرضا بالمصائب، ولكنه ليس بواجب، بل الرضا مستحب والصبر واجب.
وسمنون العابد يرى أن العبادة: هي أن تتقبل البلاء وأن تنجح في الاختبار، حتى كان يقول كما في صفة الصفوة: اللهم أجر بلاءك علي بما شئت، ويقول:
إني أنا عبدك المذلل فحيثما شئت فامتحني
قالوا: فابتلاه الله بحصر البول، فكان يمر على الأطفال ويقول: ادعوا لعمكم الكذاب، والله عز وجل يقول: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31].
قال الفضيل بن عياض: اللهم لا تبلنا فتفضحنا، الستر الستر والعفاف العفاف.
كأن رقيباً منك يرعى مسامعي وآخر يرعى مسمعي وجناني
فما خطرت من فيَّ بعدك خطرة على القلب إلا عرجا بعناني
{يا عبادي} هذه أشرف لفظة، والنبي صلى الله عليه وسلم بلغ أعلى مقامات العبودية، أما نحن فمنا مقتصد وسابق وظالم لنفسه، والناس درجات، بين كل درجة والأخرى كما بين السماء والأرض، والدرجات عددها لا يعلمها إلا الله، ولكن منزلة الوسيلة ليست إلا مقعداً واحداً، هو محجوز للرسول عليه الصلاة والسلام، وهو أعلى درجات الهداية والعبودية التي ارتقى إليها صلى الله عليه وسلم.
وهل يسمى الكافر عبداً؟
نعم.
يسمى عبداً في الإطلاق الخلقي الأمري الكوني، وأما الإطلاق الديني الشرعي فلا يسمى عبداً، لأنه عبد بالقهر والقوة، وليس عبداً بالانقياد والطاعة كما قال تعالى: {ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت:11] فأتى المؤمن طائعاً فكان عبداً، وأتى الكافر كارهاً فكان عبداً، فعبودية الكافر كونية خلقية، وعبودية المسلم أمرية دينية شرعية، فكونوا ممن انقادوا إلى (لا إله إلا الله) وقبلوا دعوة الله.(392/5)
تعريف الظلم وأقسامه
صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا}.
أولاً: في هذه الكلمة ثلاث قضايا:
القضية الأولى: من الذي حرم الظلم على الله؟ وهل تقع الأحكام على الله؟ وهل يجب عليه شيء ويحرم عليه شيء ويجوز له شيء، ويستحب في حقه شيء؟
القضية الثانية: ما هو الظلم؟ وما هو حده، وتعريفه؟
القضية الثالثة: ما هي أنواع الظلم؟
أما قوله سبحانه وتعالى: {إني حرمت الظلم على نفسي} فهذا التحريم عند المحققين من أهل السنة والجماعة هو تحريم أورده الله على نفسه ولم يورده أحد من الناس جل الله عن ذلك وتعالى الله علواً كبيراً، فالله له أن يوجب على نفسه شيئاً وأن يحرم شيئاً، وأن يحبب شيئاً وأن يكره شيئاً، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {أتدري يا معاذ! ما حق الله على العباد وحق العباد على الله؟} قال ابن تيمية: هذا حق أوجبه الله على نفسه ولم يوجبه أحد من الناس، إذاً فهو الذي حرم الظلم على نفسه، ولم يحرمه أحد من الناس، جل الله أن يحرم عليه أحد من خلقه أو يشرع بين يديه أو يتفتى في أوامره وشرائعه وفرائضه وسننه.
أما الأمر الثاني: بالنسبة لتعريف الظلم وحده:
الظلم عند أهل اللغة: وضع الشيء في غير موضعه، وعند أهل الأصول: هو عبادة غير الله تبارك وتعالى، أهل الأصول أعني بهم أهل الإسلام من أهل السنة والجماعة، قال سبحانه وتعالى على لسان لقمان لابنه: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ * وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:12 - 13] فالشرك ظلم، والظلم عند أهل الأصول هو عبادة غير الله أو الشرك مع الله أو الإشراك مع الله إلهاً آخر، قال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82].
وفي الصحيح عن ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه قال: {لما نزل قوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:82] قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! وأينا لم يظلم نفسه! قال عليه الصلاة والسلام: إنه ليس الذي تريدون، أما سمعتم قوله تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13]} فالحمد لله، فما دام أن الظلم في الآية هو الشرك، فيتخلف كثير من الناس من مغبة هذا الظلم لأن المشركين في أهل السنة والجماعة قليل إن شاء الله.
أما الأمر الثالث: وهو أقسام الظلم فهو على أقسام متعددة:
الأول: ظلم العبد لربه.
الثاني: ظلم العبد لنفسه.
الثالث: ظلم العبد لإخوانه.
أما الظلم الذي هو ظلم في جانب المولى تبارك وتعالى فهو أن تعبد غير الله، ولقد سئل صلى الله عليه وسلم عن أعظم الذنوب، وهذا في الصحيحين عن ابن مسعود قال: [[أن تجعل لله نداً وهو خلقك-أو وقد خلقك-]].
وظلم العبد لنفسه: ويدخل في ذلك الشرك والمعاصي؛ كبيرها وصغيرها، جليلها وحقيرها، كل معصية فهي ظلم بحسبها على العبد.
وأما ظلم العبد لإخوانه فهو أن يأخذ من حقوقهم أو أعراضهم أو أموالهم أو دمائهم، ولذلك ذكره سبحانه وتعالى لأنه أكثر ما يقع الناس فيه، وهو مستساغ لدى النفوس والقلوب.
ثم قال: {يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً} في أي كلام حرم الله الظلم؟ في قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران:108]، {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] هذه الآيات {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [آل عمران:117]، {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} [النساء:40] هذه الآيات وأمثالها معناها أن الله عز وجل كتب على نفسه ألا يظلم أحداً.
وورد في القرآن: الهضم والظلم، فما هو الهضم؟ وما هو الظلم؟ الظلم: هو أن يؤتى بسيئات غيرك فتوضع عليك، والهظم: هو أن يقلل من حسناتك وتذهب حسناتك شذر مذر، فالله لا يظلم ولا يهضم، لا يسلب من حسناتك ولا يعطيك من سيئات غيرك {فلا تظالموا} و {الظلم ظلمات يوم القيامة} كما في الحديث الصحيح والظلم قطيعة بين العبد وربه، والظلم أول ما عصي الله به في الأرض، فقد ظلم قابيل هابيل ابني آدم، فوقع الظلم في الدنيا، وقد ذكر أهل العلم قصصاً من الظلم، والظلم -أيها الإخوان- ينافي العدل والسلام والخير، كما أنه نهى عنه صلى الله عليه وسلم كلما أرسل رسولاً من أصحابه.
جاء في الصحيحين من رواية ابن عباس لما أرسل معاذاً إلى اليمن قال: {وإياك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} وفي السنن في الحديث الحسن قال صلى الله عليه وسلم: {ثلاثة لا ترد دعوتهم: -ومنهم- والمظلوم يرفع الله دعوته فوق الغمام، ويقول: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين}.
سجن هارون الرشيد أبا العتاهية الشاعر وكان مظلوماً فأرسل له رقعة يقول فيها:
إلى الديان يوم العرض نمضي وعند الله تجتمع الخصوم
فأخرجه وبكى هارون الرشيد من هذه الرقعة.
والظلم -كما قلت لكم- وضع الأمور في غير مواضعها، أتى ابن هاني الشاعر الفاجر الأندلسي فقال لأحد السلاطين:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
سبحان الله!
فابتلاه الله بمرض -فعقوبة الظالم تقع في الدنيا- حتى كان يتململ ويعوي وينبح كالكلب على فراشه وأخذ يبكي ويخاطب رب العزة ويقول:
أبعين مفتقر إليك نظرتني فأهنتني وقذفتني من حالق
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
وهذا جزاء من ظلم عباد الله.
ذكر ابن كثير والذهبي في السير أن أحد السلاطين قدم عليه عالم من العلماء، فتقدم هذا العالم فقال كلمة الحق عند هذا السلطان، وقد صح بذلك الحديث: {أفضل الحهاد كلمة حق عند سلطان جائر} والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {سيد الشهداء حمزة ورجل قام إلى سلطان ظالم فقال كلمة حق فقتله} فقام هذا العالم أمام هذا السلطان، فتكلم أمامه، فغضب السلطان فضربه على وجهه كفاً حتى أجلسه، فقال العالم: قطع الله يدك، فما مضى عليه شهر إلا وأخذ وعزر وقطعت يده وعلقت بباب الطاق في مدخل بغداد.
وذكر الذهبي وابن كثير في ترجمة ابن الزيات الوزير العباسي الذي شارك في الحلف الابتداعي ضد إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد بن حنبل صاحب التوجيه والتربية والهدى المستقيم، فكان ابن الزيات يستهزئ بتعاليم أهل السنة وشارك في سجن الإمام أحمد، فكان الإمام يدعو في الثلث الأخير من الليل ويرفع يده إلى الحي القيوم على ابن الزيات يقول: اللهم احبسه في جسمه، قال الذهبي: فأصيب ابن الزيات في جسمه فشلَّ جسمه وأدخله الواثق في فرن وعذبه فأخذ يزوره علماء أهل السنة بعد موت الإمام أحمد، قالوا: والله ما زرناك عواداً ولكن أتيناك شامتين، أتينا نشمت بك، يا أيها المبتدع الضال، يا رأس العمالة والضلالة، لقد أصابتك دعوة إمام أهل السنة والجماعة.
وأما أحمد بن أبي دؤاد القاضي المبتدع، الذي يقول عنه الذهبي: أحمدنا: أحمد بن حنبل وأحمد أهل البدعة: أحمد بن أبي دؤاد القاضي والوزير الكبير، فدعا عليه الإمام أحمد أن يعطيه الله أول جزاءه في الدنيا، فشل نصفه والنصف الآخر بقي مرتعشاً يقول: والله لو قرض نصفي بالمقاريض ما أحسست، ولو وقع الذباب على النصف الآخر لكأن القيامة قامت عليّ.
إن الظلم شأنه عظيم يوم يظلم الظالم فلا يجد له ناصراً ولا ولياً من دون الله، والظلمة على مر التاريخ كثيرون، ومن أعظم من ظلم أهل المبادئ والأسس وأهل الأهداف والدعوات، وعلى رأس القائمة سعيد بن المسيب، طالب منه بنو أمية أن يبايعهم ليكون الملك وراثياً فرفض وقام في وجه هذا، وأنكر البدع المضللات في المدينة، فجلد مائة جلدة، على ماذا؟ وحمل على جمل وطيف به في المدينة عجيب!! أسعيد بن المسيب سعيد الزهد والحديث والعبادة يحمل على جمل؟! أفجر أم سرق أم شرب الخمر؟! أسكر وانتهك المحرمات؟! لا والله.
حمل على جمل وطيف به في المدينة.
علو في الحياة وفي الممات بحقٍ أنت إحدى المعجزات
كأن الناس حولك حين قاموا وفود نداك أيام الصلات
كأنك واقف فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصلاة
فبقي اسمه مسجلاً في سجل الخالدين وورثة الأنبياء والرسل.
ومن الظلم الذي تعرض له أرباب الدعوات الأصيلة والأهداف الجليلة: سعيد بن جبير ما أخذ مالاً ولا سفك دماً ولا اعتدى على فرج حرام، ولا انتهك المحرمات، لكنه يريد أن تبقى لا إله إلا الله محمد رسول الله عالية فوق الرءوس، استدعاه الحجاج، واسمعوا للمناظرة الحارة بين هذا العالم والفاجر السفاك الحجاج.
يقول الذهبي في ترجمة الحجاج: نبغضه ونعتقد أن بغضه من أوثق عرى الدين، يقول في السير: له حسنات لكن انغمرت حسناته في بحار سيئاته.
وذكر في تحفة الأحوذي للمباركفوري المناظرة الحارة بين هذا العالم وهذا السفاك، فقال: دخل سعيد بن جبير على الحجاج فقال له: ما اسمك؟ سبحان الله! لا تعرف اسم سعيد بن جبير الذي تلألأ به البخاري ومسلم، والترمذي وأبو داود والمسند؟! لا تعرف اسماء الخالدين الذين سجلت أسماؤهم في صفحات من نور في الصدور؟!
من تلظي لموعه كان يعمى كاد من شهرة اسمه لا يسمى
قال: ما اسمك؟
قال: اسمي سعيد بن جبير.
قال: بل أنت شقي بن كسير.
قال: هكذا سمتني أمي.
قال: شقيت أنت وشقيت أمك.
قال: الشقي من شقي في بطن أمه.
قال الحجاج: والله لأبدلنك بالدنيا ناراً تلظى.
قال سعيد: لو كان ذلك عندك لاتخذتك إلهاً من دون الله.
قال الحجاج: علي بالعود، فأتي بعود وجارية فضرب العود والناي في مجالس اللاهين اللاغين الذين لا يعرفون القرآن ولا يعرفون حدثنا، ولا يعرفون الكلام الذي يرسخ في القلوب ويغرس في النفوس، غنت الجارية واندفعت تغني والعود يضرب فبكى سعيد قال الحجاج: أهو الطرب؟
قال: لا والله.
ليس بالطرب، لكن جارية سخرت في غير ما خلقت له، سبحان الله! الجارية خلقت لتعبد الله فسخرت للغناء، وعود قطع من شجرة في غير ما خلق له.
قال الحجاج: عليّ بالذهب والفضة، فأتي بالذهب والفضة فنثر بين يدي سعيد، أسعيد بن جبير يريد ذهباً وفضة؟ أيريد دراهم ودنانير؟ لا.
إنه يريد رضا الله وجنة عرضها السموات والأرض، فنثر الذهب والفضة، وقال: خذ من هذا.
قال سعيد: يا حجاج! إن كنت أخذت هذا لتتقي به من غضب الله ومن نار أعدها الله لأعدائه، فقد والله أحسنت، وإن كنت أخذته للدنيا فهو متاع قليل، عما قليل يفارقك وتفارقه.
قال الحجاج: يا سعيد! اختر أي قتلة تريد، فوالله لأقتلنك قتلة ما قتلها أحد من الناس.
قال سعيد: -وهو يتبسم- يا حجاج! اختر لنفسك أي قتلة تريد أن تقتلني، فوالله الذي لا إله إلا هو لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها يوم القيامة.
قال الحجاج: خذوه إلى غير القبلة.
قال سعيد: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115].
قال: أنزلوه إلى الأرض.
قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه:55].
قال: اذبحوه.
قال: حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، اللهم لا تسلط الحجاج على أحد بعدي.
سمع أهل الإسلام بمقتل سعيد بن جبير فاهتزت الدنيا، وقامت المساجد تصلي عليه، مولى من الموالي لكنه صاحب علم وزهد وعبادة وتوهج وتربية، وقيام ليل وإخلاص، فلما قتل قام الحسن البصري أو غيره فاستقبل القبلة، وقال: يا قاصم الجبابرة اقصم الحجاج، يا قاصم الجبابرة! اقصم الحجاج، يا قاصم الجبابرة! اقصم الحجاج، فأخذ الحجاج بعد مقتل سعيد بن جبير شهراً يخور كما يخور الثور، يقول: والله ما مرت عليّ ليلة من الليالي إلا كأني أسبح في دمه، والله ما مر عليّ ليلة إلا كأن القيامة قامت، وقد رأيت عرش الله بارزاً للناس، وقد قتلني بكل إنسان مسلم قتلته مرة إلا سعيد بن جبير فقد أوقفني الله على الصراط فقتلني به سبعين مرة.
{وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ * مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ٌ * وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ * وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ * وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ * فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم:42 - 47].
الظلم ظلمات يوم القيامة، وقد حدث الظلم في تاريخ الإنسان، قال ابن تيمية: إن الله ينصر من يعدل ولو كان كافراً، وإن الله يخذل من يظلم ولو كان مؤمناً، والظلم ظلمات بعضها فوق بعض، يقول المتنبي ولكن لا نوافقه:
والظلم من شيم النفوس فإن تجد ذا عفة فلعلة لا يظلم
فيقول: من الناس ظلمة، لكنه يحبن عن الظلم لأنه لا يستطيع الظلم، لكننا نقول له: ويحك! أتعارض النصوص يا متنبي بقصائدك؟! وقد علمنا أن في الناس عدول ونفوسهم مجبولة على العدل، وقد جاء في حديث يقبل سنده التحسين: {والمقسطون على يمين الرحمن تبارك وتعالى الذين يعدلون في أهليهم، وما ولوا} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، والعدل على ثلاثة أقسام:
الأول: عدل في الاعتقاد.
الثاني: عدل في القول.
الثالث: عدل في العمل.
فأما عدل الاعتقاد فهو أن تعتقد أن لا إله إلا الله، وتؤمن بما أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والعدل في الأفعال أن تكون أفعالك مطابقة لأفعاله صلى الله عليه وسلم.
والعدل في الأقوال أن تكون صادقاً ناصحاً مخلصاً، هذا هو العدل.
{يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا} والظلم كما أُسلف وقع كثيراً في تاريخ الإنسان، ولكنه يحتاج إلى تبسيط في دروس ليبين أنواعه وأقسامه، حتى يحذر منه.(392/6)
الهداية أقسامها وطرقها
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم}.
الضلال وارد على الناس، ولكن الله عز وجل هدى الإنسان، فما هي الهداية وأقسامها؟
الهداية على قسمين:
الأولى: هداية كونية: وهي التي هدى الله بها الناس إلى الفطرة.
والثانية: الهداية التي في القرآن.
وهي على قسمين:
أولاً: هداية التوفيق: وهي من الله، يقول سبحانه وتعالى: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:56].
ثانياً: هداية الدلالة: وهي هدايته صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى:52] فهذه الهداية خاصة به صلى الله عليه وسلم يدل الناس عليها.
ما أحوجنا إلى الهداية! لأن الإنسان ظالم فاجر ضال، لا يهتدي إلا أن يهديه الله عز وجل، وهداية الفطرة لا تكفي عند أهل السنة والجماعة؛ فقد جاء في حديث عياض بن حمار في مسلم مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن الله يقول: {خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين} فمعنى حنفاء أي: على الفطرة، وهذا يؤيده الحديث الصحيح: {ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه ينصرانه أو يهودانه أو يمجسانه} لكن الفطرة وحدها لا تقوم بالهداية، فيحتاج العبد إلى أمر تفصيلي في الهداية.
وما هي طرق الهداية؟
الهداية لها طريقان اثنان: اسمع يا من يريد الهداية! اسمع يا من يريد طرق باب الهداية!
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
الأولى: هداية القرآن: وهي هداية تفصيلية ومجملة.
الثانية: هداية الرسول عليه الصلاة والسلام: وهي السنة.
فمن لم يهتد بالقرآن ولا بالسنة فلا هداه الله! حفظ عن ابن تيمية أنه قال: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً وعدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم.
والهداية لها طرق:
الأول: من أعظم طرق الهداية: الدعاء والتبتل، خاصة الدعاء في السحر، في الليل وأنت تصلي ركعتين في جنح الظلام.
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
قال لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسمار
ويوم تركنا ركعتي السحر خمد الإيمان في قلوبنا، ويوم تركنا ركعتي السحر قل النشاط، ويوم تركنا ركعتي السحر قل الإخلاص إلا عند من رحم الله.
كان طاوس بن كيسان وهو أحد رجال الصحيحين، الزاهد العابد الشهير والعالم النحرير الكبير يدور على أصحابه في السحر فطرق على أخ له، فخرج أخوه وهو نائم، قال طاوس: أتنام في هذه الساعة؟ قال: نعم.
قال: والله ما ظننت أن أحداً ينام في هذه الساعة.
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
يظن طاوس أن الناس لا ينامون في وقت السحر، وفي الصحيحين: {ينزل الله في الثلث الأخير من الليل إلى السماء الدنيا -لكن نزولاً يليق بجلاله، لا نكيفه ولا نمثله ولا نعطله- فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟! هل من مستغفر فأغفر له؟! هل من تائب فأتوب عليه؟!} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
لطيفة واستطراد مع طاوس بن كيسان، وهذه تنبئنا عن مسألة الظلم والعدل ومسألة التعلق بنصرة الواحد الأحد.
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان
يا حافظ الآمال أنت حميتني ورعيتني
وعدا الظلوم عليّ كي يجتاحني فمنعتني
فانقاد لي متخشعاً لما رآك نصرتني
قال طاوس بن كيسان -وهذه القصة في البداية والنهاية لـ ابن كثير: دخلت الحرم، فصليت ركعتين عند المقام، قال: فدخل الحجاج بن يوسف الثقفي بحرسه، فوضعوا السلاح حراباً وسيوفاً ورماحاً، قال: فسمعت الجلبة فلما سلمت عرفت أنه الحجاج، فما تزحزحت من مكاني، طاوس بن كيسان مولى لكن قلبه مغذى بالتوحيد والإيمان.
قال: فأتى بدوي من أهل اليمن وهو لا يعرف أن الحجاج جالس وأن حرس الحجاج جلوس، ولا أن الحراب والسيوف جاهزة، فأتى يطوف فدخل من عند الحجاج فاشتبك ثوبه بحربة عند الحجاج فوقعت الحربة على الحجاج، فأمسك الحجاج بن يوسف بثوبه والحجاج هو الحجاج! كما قال أحد الناس حين سئل من هم أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين لا تعريف لهم إلا أهل السنة، فـ الحجاج هو الحجاج، والجبل هو الجبل.
يقول الحسن البصري: أما الحجاج الثقفي فإنه يقرأ القرآن على لخم وجذام، ويلبس لباس الفساق، ويعظ وعظ المتقين، ويبطش بطش الجبارين.
فقال الحجاج لهذا البدوي: من أين أنت؟
قال: من اليمن.
قال: كيف تركتم واليكم على اليمن؟ يقصد أخاه محمد بن يوسف، وكان ظالماً مثله.
قال: تركته بطيناً سميناً، إن قال: تركته متقياً مصلياً الليل فقد كذب، وإن قال: تركته قارئاً للقرآن أو معلماً للسنة فقد كذب، قال: تركته بطيناً سميناً، يعني: يأكل ويسمن ويتبجح في أموال الله.
قال الحجاج: لست أسألك عن صحته، إنما أسألك عن سيرته.
قال: تركته غشوماً ظلوماً.
قال الحجاج: أما تعرف أنه أخي، وأنا الحجاج؟
قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله؟!
قال طاوس: فوالله ما بقيت في رأسي شعرة إلا قامت.
هذه الكلمة لا تقوم شعر الرأس فحسب، بل هي ألغام متفجرة، لكن على من يعيها.
فهذه الكلمة درس ومحاضرة في التوحيد، تتفجر فتنسف كل ملحد وزنديق على وجه الأرض.
قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله؟! أنت تمرض وتموت كما يموت الحمار، فأنا أتعلق بالذي لا يموت، ولا يفتقر ولا يهرم، ولا يعدم سبحانه وتعالى.
اسمع التخلية في القرآن: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3] قال ابن عبد الهادي في الكواكب الدرية: ذهب ابن تيمية في الإسكندرية، فلما نزل في الشارع اجتمع أهل مصر من المبتدعة وغلاة الصوفية يريدون قتله، فقال له أحد تلاميذه: يـ ابن تيمية رويداً رويداً! هؤلاء يريدون قتلك، فتبسم ابن تيمية قال: يريدون قتلي؟ قال: نعم.
قال: والله ما هم إلا كالذباب، ثم نفخ في كفه.
وحتى لو قتلوه فإنها لن تقوم الحرب العالمية الثالثة، هو يريد أن يموت في سبيل الله، ويطلب أن يموت لذات الله، ويقصد رفعة كلمة لا إله إلا الله، وما الدم والمال والجسم والعظام والعصب إلا هباء إن لم يحي على (لا إله إلا الله).
{يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم} كيف نستهدي الله؟
نستهديه سبحانه وتعالى بالدعاء كما أسلفت، برفع الأكف إلى الله؛ فإنه لا يهدي إلا الله.
الأمر الثاني: بصدق التوجه، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] ويقول جل علاه: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] ومن طلب الهداية هداه الله، ومن طلب الزيغ أزاغ الله قلبه، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] تقول للمبتدع: مالك ابتدعت؟! قال: كتب الله وقدر أن أبتدع، سبحان الله! أجبري في المعصية قدري في الطاعة؟!
حاور ابن تيمية بعض الصوفية الغلاة، ومر بأحدهم وهو يقرأ: فخر عليهم السقف من تحتهم، وفي القرآن: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26] فقال: لا عقل ولا نقل.
فهذا جاهل مركب.
ولو أنه جهل بسيط عذرته ولكنه يدلي بجهل مركب
والجاهل المركب هو الذي لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، يقول الخليل بن أحمد الفراهيدي صاحب العروض، وهو أحد أذكياء الدنيا، عقلية متوقدة، بقي من ذكائه يمشي ويفكر حتى اصطدم رأسه في سارية المسجد، فصدمها فمات، يقول الخليل بن أحمد الناس أربعة أقسام:
الأول: رجل يدري، ولا يدري أنه يدري؛ فذاك عالم غافل فنبهوه، أي قل له: إنك تعلم، فاخرج إلى الناس لتعلمهم.
والثاني: رجل يدري، ويدري أنه يدري، فذاك عالم فاسألوه.
والثالث: ورجل لا يدري، ويدري أنه لا يدري فذاك جاهل فعلموه.
الرابع: رجل لا يدري، ولا يدري أنه لا يدري، فهذا أحمق فاتركوه، وهذا جاهل مركب.
فهم أربعة أقسام.(392/7)
الرازق هو الله
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم} الله خلقنا، وما كان في خلقه لنا نفعاً له سبحانه وتعالى، ولا دفعاً للمضرة عنه، فهو النافع الضار تبارك وتعالى، هو الذي يطعم ولا يطعم، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الروم:40] هو الذي يخلق سبحانه وتعالى، ويحيي ويميت، وهذه هي علامات الربوبية، وفيها أقصى دلائل لتوحيد الألوهية، لأن بعض الناس يجعل توحيد الربوبية توحيد الألوهية، حتى يتفق هو وفرعون؛ لأن فرعون ما أنكر الصانع في نفسه، بل أنكره في الظاهر فقط، ولهذا قال له موسى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102].
يقول موسى لفرعون: والله إنك تعلم أنه ما خلق الخلق إلا الله، وما رفع السماء ولا بسط الأرض إلا الله، لكنك مكابر، ويخطئ من يجعل توحيد الربوبية مكان توحيد الألوهية، ولذلك نقم ابن تيمية على من عرف توحيد الألوهية بتوحيد الربوبية.
أبو جهل يعرف أن الذي خلق الشجرة هو الله، والذي خلق السماء هو الله، والذي خلق الأرض هو الله، لكن يجعل مع الله إلهاً آخر، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزمر:38].
قال عليه الصلاة والسلام لـ حصين بن عبيد: كم تعبد؟ قال: أعبد سبعة، ستة في الأرض وواحد في السماء، قال صلى الله عليه وسلم: من لرغبك ولرهبك؟ قال: الذي في السماء، قال: فاترك الذي في الأرض واعبد الذي في السماء.
ثم يقول: {يا عبادي! كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم} ولذلك يخطئ بعض الناس إذا ظن أن الناس هم الذين يرزقون وليس الله، قال تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17].
سئل ابن تيمية شيخ الإسلام في المجلد العاشر من فتاويه سأله أبو القاسم المغربي قال: دلني على أعظم وصية توصيني بها، وعلى أعظم كتاب بعد القرآن، وعلى أحسن عمل بعد الفرائض، وعلى باب للمهنة والرزق كي أمتهنه -والشاهد باب الرزق- قال ابن تيمية: أما الرزق فأعظم ما يحصِّل الرزق الثقة بالله والتوكل عليه، وطلب الرزق منه، فإنه لا يرزق إلا الله، ولا يعطي ولا يمنع إلا الله.
ولذلك دخل أحمد بن نصر الخزاعي على الواثق في فتنة القول بخلق القرآن، وأحمد بن نصر الخزاعي شيخ البخاري في كثير من الحديث، وله مخطوطة في علم الحديث اسمها الاعتصام بالكتاب والسنة، وقد قام بالتنظير العقلي لـ أهل السنة والجماعة، وبجمع الصف ليدكدك دولة الابتداع والباطل، فظفر به الواثق، فأدخله عليه وهو الشهيد العالم، فقال له الواثق: والله لأقطعن رزقك -يعني: راتبك- قال: والله ما رأسي إلا كهذه، ثم قطع زر ثوبه، وأسقطه على رأس الواثق، فقال الواثق: خذوه، فأخذوه فصرعوه وذبحوه؛ ولذلك رفعه الله عز وجل كما رفع الإمام أحمد.
وبعض الناس يتوهم أن باب الرزق قد يغلق عليه، ولم يعلم أن الرزق من عند الواحد الأحد، ولا يثبت إيماننا وتوحيدنا حتى نعتقد بهذه الأمور.
ذكر ابن رجب الحنبلي صاحب طبقات الحنابلة عن أبي الوفاء ابن عقيل الحنبلي، صاحب كتاب الفنون الذي هو ثمانمائة مجلد، وكتاب الفنون، كان يكتبه في وقت الفراغ لا في وقت الجد، إذا كان في وقت الفراغ، كتب خواطره وبنات أفكاره في هذا الكتاب، فخرجت ثمانمائة مجلد.
فذكر ابن رجب أن ابن عقيل ذهب إلى مكة، وكان من الصالحين الكبار الذين يعلمون أن الرزق من عند الله تبارك وتعالى، قال ابن عقيل: فانقطعت نفقتي وما وجدت شيئاً آكله قال: فطفت، فلما انتهيت من الطواف والسعي رجعت ألتمس أكلاً فما وجدت شيئاً، فذهبت إلى ضواحي مكة، فبينما أنا أبحث في التراب، إذا عقد من جوهر كل جوهرة تساوي مئات الألوف من الدنانير -عقد من جوهر- قال: فأخذته وفرحت به فذهبت، فلما أصبحت في الحرم، إذا منادٍ ينادي: من وجد العقد فليأت به، قال: الله المستعان! فذهب به، فقال لصاحبه: ما علامته؟ قال: كذا وكذا كما في الحديث {اعرف عفاصها ووكاءها، ثم عرفها سنة} قال: فوجد الوصف نفسه، فأخذ هذا العقد بجواهره، فو الله ما أعطاني منه درهماً، وبعض الناس لئيم.
قال: فذهب به فلما انتهيت من حجي ذهبت فركبت البحر، فانكسر بي القارب -بعض الابتلاءات تتوالى على المؤمن- قال: فركبت خشبة، فأخذت بي الريح تلعب بي يمنة ويسرة مدة، فازداد الجوع جوعاً والظمأ ظمأً والخوف خوفاً، لكن ذلك تمحيص.
قال: ثم ألقتني الخشبة إلى جزيرة من الجزر في البحر، فدخلت الجزيرة، فوجدت فيها قرية، فدخلت مسجد القرية، فتناولت مصحفاً، فأتى أهل القرية، فقالوا: أتقرأ؟ قلت: نعم، قالوا: علمنا القرآن ونعطيك أجراً، قلت: نعم.
أعلمكم القرآن، قال: فأخذت ورقة فكتبت، قالوا: وتكتب؟ قال: أكتب، قالوا: علم أبناءنا الكتابة بأجر، قلت: نعم.
أعلم أبناءكم الكتابة بأجر.
فلما مضى ردح من الزمن، قالوا: معنا ابنة يتيمة صالحة عابدة كان أبوها من الصالحين، نريد أن نزوجك إياها، فتزوجها، قال: فلما رأيتها رأيت العقد الذي وجدته في مكة في نحرها، قلت: ما هذا العقد؟
قالت: هذا عقد كان أبي اشتراه بماله كله، كل ما يملك في الحياة جعله في هذا العقد، قلت: ألهذا العقد قصة؟
قالت: قد ضاع مرة من المرات في مكة، فوجده رجل من الصالحين، فأعطاه أبي، فكان أبي بعد كل صلاة يقول: اللهم ارزق ابنتي رجلاً صالحاً كالذي رد عليّ العقد، قال: أنا صاحب العقد، وقد أجاب الله دعوة والدك.
وقف أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه ببغلته عند باب المسجد في الكوفة فقال لأحد الناس: أتمسك لي البغلة -أحد الناس من الطفيليين الذين لا هم له إلا قطع الشوارع عرضاً وطولاً- قال: أمسك لك البغلة، فأخذ البغلة، وقام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب يصلي ركعتين في المسجد، فأخذها فرصة سانحة، فأخذ خطام البغلة، سبحان الله! بعض الناس حقير النفس يرضى بالقليل، يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده} وما هي البيضة؟ قال الأعمش: هي الخوذة التي يضعها المقاتل على رأسه، لكن قال الخطابي وغيره: يبدأ بسرقة البيضة فيتدرج حتى يسرق شيئاً له ثمن، فتقطع يده، لأن القطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم.
فذهب الرجل إلى السوق فباعه بدرهم، فقال علي: الحقوا هذا الرجل تجدوه في السوق يبيع الخطام -لأنه معلوم عند العقلاء والأذكياء وأهل الفطن أن من يأخذ هذا يذهب إلى السوق- فلحقه رجل فوجده يبيع الخطام وقد باعه بدرهم، فاشتراه من ذاك بدرهم وأخذ الخطام، وقال: هذا خطام بغلة أمير المؤمنين، وأما أنت فخذ الدرهم حراماً، فرجع إلى علي فأعطاه فقال: بكم باعه؟ قال: باعه بدرهم، قال: سبحان الله! والله الذي لا إله إلا هو لقد أردت في نفسي أن أعطيه درهماً بدل إمساكه البغلة، لكن أبى بعض الناس إلا أن يأخذ رزقه من الحرام.
{كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم} في السنن قال عليه الصلاة والسلام: {اللهم إني أعوذ بك من الجوع فإنه بئس الضجيع} وبعض الناس يتمنون الجوع.
والغزالي له عجائب في كتاب الإحياء في باب الجوع، وهو أمر لم تأت به السنة، وأحدثه أهل الصوفية الغلاة، يقول أحدهم: أين أنتم مني؟ ما أكلت الرطب أربعين سنة! ومن قال لك: لا تأكل الرطب والبلح، والله قد أباحه؟!
وقال الآخر: والله ما أكلت اللحم عشرين سنة! كيف تقول ذلك وقد أباحه الله سبحانه وتعالى لأوليائه؟! {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف:32].
فهؤلاء يتمنون الجوع ويعيشون على الجوع، قال الذهبي في ترجمة صوفي كبير قال عنه: إنه ترك الأكل ثلاثة أيام بلياليها قال: فرأيت أشباحاً -يظن أنها ملائكة، قال: فرأيت أشباحاً روحانية، قال الذهبي: والله ما رأيت شيئاً، ولكن عقلك خاش وطاش وفاش، تركت الأكل حتى وسوس ضميرك وجن عقلك، فقلت: إنهم ملائكة، لماذا ينزلون عليك؟ هل أنت خاتم الأنبياء والرسل؟ لا والله، لكن عقلك خاش وطاش وفاش، ولذلك دخل الكثير في الابتداع من مذهب الزهد، فتجد الواحد لا يأكل ولا يشرب، ولا يستطيع أن يصلي واقفاً.
قال ابن الجوزي في تلبيس إبليس: رأيت بعضهم يصلي جالساً، فقلت: مالك لا تصلي الفريضة واقفاً؟ قال: تنفلت واقفاً حتى تعبت، فصليت الفريضة جالساً، أي فقه هذا الفقه؟!
وذكر الخطابي -وأعيدكم إلى هذه المسألة لأن فيها غرابة- في كتاب العزلة وبإمكانكم مراجعة ذلك، قال: رأينا بعض الناس من غلاة الصوفية ألصق على إحدى عينيه شيئاً، فقيل له: مالك؟ فقال: إسراف أن أنظر إلى الدنيا بعينين!
سبحان الله! الله خلق لك عينين، وأنت تجعل من الإسراف أن تنظر بعينين، وقد قال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] فكيف تجعل هذا إسرافاً؟! إنه الجهل والتقليد والخرافة والتبعية.
وإن الرسالة إذا لم تبن على العلم والفقه والإسلام والإيمان والطموح والعدل، فإنها لا تكون نافعة لأصحابها.
ومن باب الفائدة أقول: ويجدر بنا أن نشير إلى أنواع الوحي: وهي القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي.
القرآن: لفظه ومعناه من الله تبارك وتعالى وهو متواتر لفظاً ومعنى، معجز، متعبد بتلاوته.
والحديث القدسي: معناه من الله عز وجل، ولفظه من الرسول صلى الله عليه وسلم، فيه متواتر وعزيز وغريب، ولا يتعبد بتلاوته، وليس معجزاً.
والحديث النبوي من الرسول عليه الصلاة والسلام لفظه ومعناه، فيه متواتر وعزيز وغريب ولا يتعبد بتلاوته وليس بمعجز، فهذه أقسام الوحي التي أتى بها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.(392/8)
نعمة اللباس واستحباب التزين
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: {يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم} أجمل لباس في الحياة لباس التقوى {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التقى تقلب عرياناً وإن كان كاسيا
وأجمل حلية يتحلى بها المؤمن لباس التقوى، وفي الحديث إشارة إلى اللباس الظاهر المعروف عند الناس، وهي الثياب، فلا يكسو إلا الله، وهي تدخل في الرزق، لكن هذا من الخاص بعد العام، فإن الذي يرزق هو الله عز وجل، ومن الرزق الطعام والشراب واللباس وغيرها، وفي حديث حسن عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله تبارك وتعالى يوم القيامة: يابن آدم! استطعمتك فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فلم تطعمه؟! أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي؟! يابن آدم! مرضت فلم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟! قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده؟! أما علمت أنك لو عدته وجدت ذلك عندي؟!} ثم ذكر الحديث وهو حديث حسن ومن أهل العلم من صححه، وهذه الألفاظ تقال ولا تكيف، وهذا ليس مجال بسط.
ويخطئ كثير من الناس حين يظن أن اللباس كل شيء، وأن التجمل في الهيئة كل شيء، والجمال جمال الباطن، والحلية حلية الأدب، وأجمل حلية يكساها الإنسان جمال الاعتقاد وجمال الأخلاق والصفات والسلوك، ثم أمرنا بالجمال في الظاهر، إن ديننا لا يعترف بالدروشة، إن الإسلام لا يعترف بالإزراء، وفي حديث حسن {إن الله يحب من عبده إذا أنعم عليه نعمة أن يرى أثر نعمته عليه} وعند الترمذي بسند تكلم فيه: {إن الله نظيف يحب النظافة} لكن ورد في مسلم {إن الله جميل يحب الجمال} وهو من حديث ابن مسعود.
يقول الرجل: {يا رسول الله! إنني أحب أن يكون ثوبي جميلاً، ونعلي جميلاً، أمن الكبر ذلك؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا.
الكبر بطر الحق وغمط الناس} وغمط الناس أي: ازدراؤهم واحتقارهم، ثم قال: {إن الله جميل يحب الجمال}.
وفي حديث حسن يقول عليه الصلاة والسلام: {فتزينوا حتى تكونوا كأنكم شامة في عيون الناس} وفي السير أن ابن عباس رضي الله عنهما لبس حلة بألف دينار، ثم أتى إلى الخوارج في العراق فلما رأوه قالوا: أأنت ابن عم رسول الله؟ قال: نعم وماذا تنكرون؟! وقد كان رسول الله يلبس أجمل الحلل، ولقد رأيته يلبس صلى الله عليه وسلم البردة الحبرة وهي ثياب تنسج في اليمن، وقال ابن القيم في صفة هديه صلى الله عليه وسلم: كان لا يتكلف في الطعام وفي اللباس مفقوداً ولا يرد موجوداً.
مرة يلبس من الغالي الحلال النفيس، ومرة يلبس من الرخيص، ومرة يلبس الدروع في المعركة.
البس لكل حالة لبوسها إما نعيمها وإما بوسها
يخرج مرة في جبة من شعر مُرَحَّل عليه الصلاة والسلام، ومرة في بردة كأنه النجم، أو كأن الثريا علقت بجبينه، فيتكلم على الحاضرين بجمال المظهر والمخبر إيحاءً ووقعاً في القلوب، ومرة يلبس الدرعين كما في أحد ويبارز فيهما، فهو رسول ميسر عليه الصلاة والسلام.
فالتقيد باللباس الغالي دائماً سيما المترفين، والتقيد بالرخيص سيما المرائين المتبذلين، والمتوسطون هم أهل الرسالة كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].
وفي سنن ابن ماجة بسند يوقف معه ويبحث فيه {أن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن لباس الشهرة} لكن ابن القيم سكت عن هذا الحديث في باب اللباس، والحديث فيه ضعف، والشهرة هي أن يلبس لباساً غالياً يوصله بالجبابرة، أو رخيصاً يوصله بالناس الذين يزرون بأنفسهم، فكأنه إذا لبس الغالي يقول للناس: أنا ابن فلان وابن فلان.
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا متى أضع العمامة تعرفوني
وإذا لبس المزري الرخيص كأنه يقول: أنا الزاهد العابد، أنا ثابت البناني، أنا قتادة بن دعامة السدوسي، وأنت لست بـ ثابت ولا قتادة، فأحسن ما يتستر به العبد الثياب الوسط، ليكون من عامة المسلمين؛ في لباس لا يكون محرماً ولا مزرياً ولا به ترف ولا فيه خشونة إلا لحاجة، ويسأل سائل منكم: ولماذا لبس عمر رضي الله عنه وأرضاه برداً ممزقاً فيه أربعة عشر رقعة؟ ونقول له: ومن نحن مع عمر؟!
لا تعرضن لذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
رحم الله تلك العظام، عمر يتواضع في لباسه من مركز قوة، ذهب الدنيا تحت يديه، ذهب وفضة الدنيا تحت يديه.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
لكن العامي من الناس إذا تقمص هذه الشخصية كأنه يلفت الأنظار إلى زهده، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ثلاثة لا ينظر الله إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم: ملك كذاب، وعائل مستكبر، وأشيمط زانٍ} أشيمط زانٍ يعني: شيخ كبير قرب من القبر، وابيضت لحيته، ومع ذلك يزني، أعمى ويناقر.
وملك كذاب لأنه لا يحتاج إلى الكذب، ولا يضطره أحد إليه، فلماذا يكذب؟ وما هو الداعي للكذب؟
وعائل مستكبر: عائل ويتكبر، فقير لصق بالتراب ويتكبر على عباد الله! ولا يظن ظان أن التكبر معناه لبس الغالي! فإن من الناس من يلبس اللباس الرخيص، ولكن قلبه قلب جبار.
دخل فرقد السبخي على الحسن البصري وعليه ثياب ممزقة وعلى الحسن البصري برد جميل غالٍ من برود الحبور التي تأتي من اليمن، فقال فرقد السبخي للحسن البصري: أتلبس هذا الغالي؟! قال: أنا إن شاء الله في هذا البرد أتواضع لربي أحسن منك في هذه الثياب الخلقة.
ودخل فرقد على ابن سيرين، فرأى على فرقد ثياباًَ من صوف ممزقة فأشاح بوجهه وقال: لعلك تقرأ سيرة النصارى، والله لقد حدثني الثقات عن الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يلبس البرد الحبرة التي هي من أغلى البرود.
وفي صحيح البخاري في كتاب الأدب: باب التجمل للوفود، وباب اللباس يوم الجمعة أن عمر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلة سيراء، والسيراء هي: الحلة المنمقة المصنوعة من الحرير، رآها تباع في السوق، وهي حلة لـ حاجب بن زرارة التميمي، فاشتراها للرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله! هذه الحلة لتخطب بها يوم الجمعة، وتستقبل فيها الوفود؛ لأن المعروف عند الصحابة أنه يتجمل ليوم الجمعة وللوفود، فقال عليه الصلاة والسلام: {إن هذه لباس من لا خلاق له} والسبب: أنها من حرير، فأقره صلى الله عليه وسلم على الجمال والتجمل للجمعة والوفود، وأنكر عليه كونها حريراً، وهذا في باب اللباس.(392/9)
الذنوب ومكفراتها
{يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم} من حلف أنه لم يذنب في حياته فقد أخطأ، ومن ادعى العصمة فقد زل وضل؛ لأن العصمة لأنبياء الله ورسله عليهم الصلاة والسلام، أما نحن فأبونا آدم أذنب وأخطأ، وخرج من الجنة، لكن عيب عليك أن تقلده في الخطيئة، ولا تقلده في التوبة، وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وقال عز وجل: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ويقول عليه الصلاة والسلام في باب التوبة في الترمذي: {كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون} وفي مسلم: {والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، وأتى بقوم آخرين يذنبون، فيستغفرون الله، فيغفر لهم}.
والذنب كالحتم على العبد، قال ابن تيمية في الرقاق وفي القاعدة العراقية المجلد العاشر: الذنب كالحتم على العبد، مكتوب عليه، لكن على العبد إذا ابتلي بالذنب يتبعه بالمكفرات، والمكفرات عشر ذكرها ابن تيمية في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام، من فاتته العشر فقد شرد على الله شرد الجمل الهارب على أهله.
أولها: الأعمال الصالحة: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] قال ابن مسعود: {نظر رجل من الأنصار امرأة لا تحل له، فأتى الرسول عليه الصلاة والسلام فأخبره بذلك، فأنزل الله عز وجل: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فقال: ألي خاصة؟ قال: لا.
بل لك ولكل من عمل بعملك إلى يوم القيامة} والحديث صحيح.
ثانيها: المصائب المكفرة: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123].
وفي مسند الإمام أحمد بسند صحيح: {أن الله عز وجل لما أنزل قوله سبحانه وتعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] بكى أبو بكر وقال: يا رسول الله! كيف العمل بعد هذه الآية؟ قال: غفر الله لك، ألست تهتم؟ ألست تحزن؟ أليست تصيبك اللأواء؟ قال: بلى.
قال: فلا يصيب المؤمن من هم ولا وصب ولا نصب ولا مرض حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه}.
وفي الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك وعكاً شديداً فقلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي} ما ألطف الكلمة! معلم البشرية هادي الإنسان.
فدىً لك من يقصِّر عن مداكا فما ملك إذاً إلا فداكا
أروح وقد ختمت على فؤادي بحبك أن يحل به سواكا
إذا اشتبهت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
قال: {بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً، قال: أجل إنني أوعك كما يوعك رجلان منكم، قلت: ذلك لأن لك الأجر مرتين؟ قال: نعم} ثم أورد رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: {ما من مسلم يصيبه مرض أو همٌ أو غمٌ أو حزن حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من سيئاته} وهذا معلوم.
الأمر الثالث: دعوات المؤمنين الصالحة بظهر الغيب، والدعوة بظهر الغيب مطلوبة، وقد ورد في الحديث عن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {لا تنسنا يا أخي من دعائك} ولو كان فيه كلام، فبعض أهل العلم حسنه، وبعضهم ضعفه، لكن صح في مسند أحمد من حديث أبي الدرداء: {خير الدعاء -أو أفضل الدعاء أو الدعوة المستجابة- دعوة مسلم غائب لغائب} وصح من حديث أم الدرداء، وكذلك من حديث خالد بن معدان وغيره.
ومن المكفرات: صلاة المسلمين على الجنازة، وذلك إذا أخلصوا لله، وكانوا على التوحيد، وجاء في الحديث أنهم إذا كانوا أربعين لا يشركون بالله أو مائة، يشفعون له.
ومنها: عرق الجبين عند سكرات الموت وفي الترمذي: {المؤمن يموت بعرق الجبين} قالوا: تشتد عليه السكرات حتى يعرق جبينه.
ومنها: ظلمة القبر ووحشة القبر أعاننا الله على ذاك المصرع!
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيرانِ
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويل لعبد عن سبيل الله صد
فهو كفارة عند أهل السنة والجماعة، وعذاب القبر حقيقة في القرآن والسنة، ومن أدلته قوله سبحانه وتعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46] أي: آل فرعون تعرض لهم النار في قبورهم، وقوله سبحانه وتعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:100] إلى غير ذلك من الآيات.
وفي السنة ما ثبت في حديث البراء وغيره.
ومن المصائب: هول العرض على الله سبحانه وتعالى، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور.
ومن الكفارات: شفاعة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، ففي حديث حسن: {شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي} نسأل الله ألا يحرمنا شفاعته!
والعاشرة: رحمة أرحم الراحمين، يوم تنتهي المكفرات ولا تبقى إلا رحمة الله وعطاؤه وفضله وجوده وكرمه.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقنا من النار
فلا إله إلا الله! قال ابن تيمية: من فاتته هذه العشر المكفرات فقد هلك هلاكاً بيناً، وشرد على الله كما يشرد الجمل على أهله.
فيا عباد الله! هذه بعض الفوائد من هذا الحديث فإنه طويل، يحتاج إلى جلسات، وفيه قضايا كبرى، وهو من الأربعين النووية، قال الإمام أحمد: ما أعلم لأهل الشام حديثاً أشرف من هذا الحديث، فهو حديث شريف مؤثر، يتضمن قضية كبرى، وحبذا أن يتدارس في الجلسات وفي الفصول والاجتماعات، وحبذا أن نستشعر معانيه وأن نعيش في ظلاله وفي سجاياه، حبذا أن تتفهم جمله، لأنه قواعد كلية في الإسلام.
ثم إنني أسأل الله كما جمعنا في هذا المكان أن يجمعنا في مستقر رحمته، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(392/10)
المعجزات
إن الله سبحانه وتعالى ما بعث من نبي إلا جعل له معجزة تبين صدق نبوته، بحيث تناسب المعجزة مقام قومه حتى يؤمنوا به.
وإن من أكبر معجزات الأنبياء هي معجزة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بإنزال القرآن الكريم المعجز في فصاحته وبلاغته وإخباره بالغيب، وأكرمه الله بمعجزات أخرى تناسب كل رجل أو قوم، حتى يزداد إيمانهم ويقينهم ويكون حجة على من لم يؤمن.(393/1)
معجزات النبي صلى الله عليه وسلم(393/2)
دعاؤه بإنزال الغيث في تبوك
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه.
هذا هو الدرس الخامس من قصة الرسالة بعنوان: معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم.
كان صلى الله عليه وسلم في طريقه إلى تبوك، ومعه جيش حافل، عداده ثلاثون ألف مقاتل في سبيل الله، ومعه عشرة آلاف فرس، وآلاف الجمال، فلما أصبحوا في الصحراء بعيدين عن الماء، أشرفوا على الهلاك، لا آبار حولهم، ولا أنهار، ولا أمطار، بحثوا في قربهم، فإذا هي قد انتهت بمائها، التمسوا الماء يمنة ويسرة، فإذا هو لا ماء، أخذوا يتلمسون الماء، جفت لسان كل واحد منهم، نشفت كبده في جوفه، وأجرهم عند الله، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَأُونَ مَوْطِئاً يُغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ} [التوبة:120].
فأشار بعضهم على بعض بأن ينحروا الجمال ويخرجوا ما في بطونها وبأكراشها من ماء فيعصرونه ويشربونه، إلى هذا الحال، وإلى هذا المستوى بلغ الجهد والظمأ.
حتى إن الفرزدق الشاعر المشهور حين ظمئ مرة من المرات يقول:
على ظمأ لو أن في القوم حاتماً على جوده ضنت به نفس حاتم
يقول: بلغنا من الظمأ درجة لو أن حاتماً الطائي على كرمه معنا، ومعه ماء فلن يسقينا، فهؤلاء الصحابة بلغوا من الجهد والإعياء والظمأ أعظم من ذلك، أشار بعضهم بنحر الجمال، فقام عمر إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعرض عليه المشكلة، وقال: {يا رسول الله إن الله قد عودك عوائد فادع الله لنا} يقول: أنت صاحب العوائد أنت المبارك؛ فقط ترفع يديك ويأتي الغيث، وينزل المطر، ينزل النصر، ويقع الفتح بإذن الله، يكفي منك أن ترفع يديك، فالله قد عودك عوائد، والسماء ليس فيها سحاب، وليس هناك هواء بارد، ولا مظلة تنزل الغيث؛ لا برق ولا رعد، في شدة الحر، والرسول عليه الصلاة والسلام له عوائد، كما قال عمر.
من عوائده باختصار ومن المعروف لديكم: ما في الصحيحين لما وقف صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة في شدة الصيف ولا سحاب في المدينة، ولا غيث، ولا هواء بارد، ولا شيء، فدخل أعرابي وقال: {يا رسول الله جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل -وسط الخطبة والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب الناس في غير موضوع الاستسقاء- فادع الله أن يغيثنا، فقطع صلى الله عليه وسلم الكلام ورفع كفيه -الشريفتين الطاهرتين النظيفتين البارتين- وقال: اللهم! أغثنا} فما هي إلا لحظة، وإذا الذي يقول للشيء: كن فيكون، يرسل بإذنه سبحانه سحابة كالترس من وراء جبل سلع، فتعترض في سماء المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل من المنبر، وخطبه دقائق فتمتلئ سماء المدينة سحاباً، وينزل الغيث فجأة، فيصب سقف المسجد على وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو أمام الناس، فيقول: {أشهد أني رسول الله}.
يقول ابن عمر: [[كنا إذا نظرنا إلى وجه الرسول صلى الله عليه وسلم على المنبر تذكرنا قصيدة عمه أبي طالب فيه:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأرامل
]]
فقط تنظر للوجه تذكر الرحمة، ويستسقى به الغمام بإذن الواحد الأحد، ومعه النور والبركة والخير.
غلام رماه الله بالحسن يافعاً عليه لمجد الصالحين به أثر
كأن الثريا علقت في جبينه وفي كفه الجوزا وفي وجهه القمر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه تردى رداء واسع الجيب واتَّزر
هذا المعصوم صلى الله عليه وسلم يأتي إليه عمر، فلا يتقدم من الثلاثين ألفاً ولا من الصحابة ولا من الجيش أحدٌ إلا عمر فيقول: {الله عودك عوائد فادع الله لنا، فأتى صلى الله عليه وسلم في مجلسه، قال: اللهم أغثنا} وفجأة وتأتي سحابة تغطي المعسكر، على حده لا زيادة ولا نقصان، فتهل غيثها، وترسل عيونها، وتسكب ماءها، فتمتلئ الأحواض والخنادق والقرب والأواني؛ هذا يغتسل، وهذا يتوضأ، وهذا يشرب، وهذا يسقي جمله، وإذا خرجت خطوة واحدة خارج المعسكر لا تجد قطرة واحدة، تجاوزت حد المعسكر، لا زيادة ولا نقصان، ماذا يدلنا هذا؟
يدلنا على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق، يدلنا على أن رسول الهدى صلى الله عليه وسلم صاحب معجزة، وصاحب دليل، وصاحب برهان، واشهدوا أنه رسول الله.
اسمحوا لي أن أستعرض معكم بعض معجزاته عليه الصلاة والسلام، وهي تقارب الألف معجزة، أختار بعضها هذه الليلة من بين ألف معجزة تدل على أنه صادق من الله مرسل عليه الصلاة والسلام.(393/3)
جعله الماء زبداً ولبنا
ذكر ابن سعد: {أن رجلين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلما وقالا: يا رسول الله! نريد سفراً فزودنا} ولا زاد عنده، تجد الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً لا يجد ما يسد به رمقه من الجوع، لا يجد كسرة خبز، وقد عرض عليه أن تكون له الجبال ذهباً فأبى:
وراودته الجبال الشم من ذهب عن نفسه فأراها أيما شمم
وأكدت زهده فيها ضرورته إن الضرورة لا تعدو على العصم
فماذا فعل؟ قال: {عندكم قربة، قالا: نعم.
قال: املأها ماءً، فملأ القربة ماءً، قال: اذهبا فإن الله سوف يرزقكما طعاماً، قالا: فسافرنا فلما احتجنا أتينا نشرب من القربة التي ملأناها ماءً، فإذا هي لبن وزبد، فأكلنا من الزبد، وشربنا من اللبن طيلة السفر حتى رجعنا وشبعنا}.
أشهد أنه صادق، هذا من آياته البينات عليه الصلاة والسلام، والله أيده بالمعجزات ليؤمن من يؤمن، ويزداد إيماناً من يزداد، وليقيم الحجة على أعداء الله والكفرة الملحدين.(393/4)
تحويل عود الحطب إلى سيف
وذكر ابن سعد والبيهقي: أن عكاشة بن محصن الذي يدخل الجنة بلا حساب مع سبعين ألفاً من المسلمين، وقف صلى الله عليه وسلم على المنبر قال: إن من أمتي -كما قال صلى الله عليه وسلم- سبعين ألفاً يدخلون الجنة بلا حساب -فتناقش الصحابة وتجادلوا من هؤلاء السبعون- وفي الأخير وقف صلى الله عليه وسلم وقال: {هم الذين لا يتطيرون، ولا يكتوون، ولا يسترقون، وعلى ربهم يتوكلون، فقام عكاشة من طرف المسجد وقال: يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم؟ قال: أنت منهم، فقام رجل آخر فقال: يا رسول الله! ادع الله أن أكون منهم -فتح باب المجال- قال صلى الله عليه وسلم -انظر البلاغة لم يقل: لست منهم- قال: سبقك بها عكاشة بن محصن} لأنه لو فتح الباب قام أهل المسجد وقام كل الناس، فأنهى صلى الله عليه وسلم الموقف.
وقد قتل عكاشة شهيداً في اليمامة يوم قاتل مسيلمة الكذاب، أتى في بدر يريد أن يقاتل وانكسر سيفه من كثرة ما قاتل يقول النابغة يمدح النعمان:
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
يقول: أموركم كلها عظيمة لكن سيوفكم مثلمة من كثرة ما ضربتم الأعداء، وهذا مدح بما يشبه الذم، يقول:
تخيرن من أزمان يوم حليمة إلى اليوم قد جربن كل التجارب
رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
فأتى بلا سيف قال: {يا رسول الله! ما عندي سيف -ووطيس المعركة مُتَّقِدٌ، والرءوس تنزل على أكتافها، والسيوف تشرع، والرماح، ليس هناك مخزن عنده فيه أسلحة ولا عند رسول الله سيف زائد- فأخذ جزلاً من خشب صلى الله عليه وسلم وقال: خذ هذا، قال: فهززته فإذا هو سيف صلت في يدي} أشهد أنه صادق، وبقي معه السيف، واسم السيف: القوي، وحضر اليمامة وقتل وهو معه شهيداً.(393/5)
رؤياه للجنة والنار
صح عند البخاري: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى بالناس، فتقدم صلى الله عليه وسلم لصلاة الكسوف بعدما كسفت الشمس فتقدم ثم مد يده إلى الجدار وهو يصلي بالناس، ثم تراجع تراجع ثم تكعكع عليه الصلاة والسلام حتى دخل في الصف وبكى، فلما سلم قالوا: يا رسول الله رأيناك تتقدم إلى الجدار كأنك تتناول شيئاً، ورأيناك يا رسول الله تكعكعت وتأخرت، قال: عرضت لي الجنة فرأيت فيها عنقوداً من عنب لو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، فتقدمت -يريد أن يمسكه صلى الله عليه وسلم، لأنه عرض عليه تماماً في عرض الحائط- قال: ثم عرضت لي النار فلم أر منظراً أشد ولا أفظع ولا أبشع منه، فكان يبكي ويقول: أعوذ بالله، أعوذ بالله، قال: ورأيت فيها امرأة عُذِّبت في هرة حبستها لا هي أطعمتها وسقتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض}.
هذا من المعجزات له صلى الله عليه وسلم.(393/6)
تكلم ذراع الشاة بين يديه
انتهى صلى الله عليه وسلم من خيبر من الغزوة -والحديث عند الشيخين لو دعيت إلى كراع لأجبت، ولو أهدي إلي ذراع لقبلت} هو سيد المتواضعين يجيب مرة دفعاً للسوء حتى أجاب اليهود وأكل عندهم، ومرة جلباً للصلح، ومرة تأليفاً للقلوب، ومرة زيادة في المحبة؛ لأنه معلم الناس، أجاب ومعه ستة، فقدمت الشاة، فأخذ الذراع، أول ما بدأ صلى الله عليه وسلم بذراع الشاة فلما أصبح في فمه الشريف الطاهر المبارك ذاق لقمة فأنطق الله ذراع الشاة فتكلم بصوت معروف قال: يا رسول الله! أنا مسموم -تكلم الذراع وقال: أنا مسموم- فرمى به صلى الله عليه وسلم، ولفظ اللقمة، وبقيت آثار السم، فدبت بجسمه، فمات بعد سنة شهيداً بالسم} فهو سيد الأنبياء سيد الشهداء إمام الأولياء خير الصلحاء.(393/7)
تسليم الحجر على النبي صلى الله عليه وسلم وأنين الجذع له
وتكلم عليه الصلاة والسلام عنده الحجر، ففي صحيح مسلم قال: {إني أعرف حجراً في مكة كان يسلم عليّ قبل النبوة}.
وخطب الناس عليه الصلاة والسلام عند جذع نخلة -جذع مقطوع من شجرة- فقال صلى الله عليه وسلم لامرأة من الأنصار: {مري غلامك النجار أن يصنع لي منبراً} فصنع منبراً ثلاث درجات للنبي صلى الله عليه وسلم، فترك جذع النخل الأول، فجعل يئن كالطفل، سمعه الصحابة جميعاً وهم أكثر من ألف، فنزل عليه الصلاة والسلام فوضع يده وأسْكَتَه، فسكت بإذن الله، يقول الحسن البصري معلقاً: ويل لكم واحسرتاه جذع يحن لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو جامد ألا تحنون للرسول عليه الصلاة والسلام؟!
من نحن قبلك إلا نقطة غرقت في اليم أو دمعة خرساء في القدم
أكاد أقتلع الآهات من حرقي إذا ذكرتك أو أرتاع من ندمي
كأنه وهو فرد من جلالته في موكب حين تلقاه وفي حشم
عليه الصلاة والسلام.(393/8)
رده لبصر بعض الصحابة
يقول حبيب بن فديك: {أتى بي أبي وعيناي مبيضة لا أرى شيئاً أعمى، فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ -يعني ماذا أصاب هذا الطفل- قال أبوه: يا رسول الله! وطئ وهو طفل بيضة حية فعميت عيناه وأصبحتا مبيضتين، قال: ادنه مني -يعني: قربه، يقول الذهبي: هذا طبيب البشر صلى الله عليه وسلم، هو طبيب الإنسانية سواء القلوب أو الأبدان- فقربه منه فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال: فأبصر بإذن الله، وزاد على المائة وما أتى ببصره شيء} قال أحد الرواة: والله الذي لا إله إلا هو، إني كنت أنظر إلى حبيب بن فديك وهو فوق الثمانين يدخل الإبرة في الثوب وهو يخيط حتى بلغ المائة، هذا من تلك النفثة منه عليه الصلاة والسلام.
إذا لم يكن هو المبارك فمن يكون المبارك؟ وإذا لم يكن الطيب من هو الطيب؟ الطيب الذي ينتشر فينا أو في الناس أو في العالم أو العلماء أو الصالحين أو الشهداء ذرة من طيبه عليه الصلاة والسلام، يقول شوقي:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
{وأتاه -على ذكر العين- قتادة بن النعمان -وقد أخبرتكم بهذا والحديث صحيح- فوقعت عينه في حد السيف معلقة في خده، فردها صلى الله عليه وسلم بكفه، فرجعت إلى مكانها فصارت أجمل من الأخرى}.
{أتاه علي في خيبر -والحديث عند الشيخين - وهو أرمد لا يرى شيئاً، فقال: ادن مني، قال: يمد علي يده والله ما يرى يده -أعمى من الرمد- فبصق في عينيه فأبصر بإذن الله} يقول أحد الشعراء وهو من شعراء اليمن الكبار:
هذا الذي جاء والأبحار مالحة فمز فيها فصار الماء كالعسل
عندما كنا ضائعين من قبلك، كنا في بحور من الضلالات لكنك بصقت في البحر فأصبح عذباً.
هذا الذي جاء والأبحار مالحة فمز فيها فصار الماء كالعسل
هذا الذي رد عيناً بعد ما فقئت وريقه قد شفى عين الإمام علي(393/9)
إنطاقه للطفل الأبكم
وروى البيهقي صاحب السنن قال: {أتته امرأة بصبي لها صغير لم يتكلم -ولد أبكم أخرس لا ينطق كلمة، عالجوه، نظروا إلى لسانه، أشاروا إليه وهو كالصخرة إنما يأكل ويشرب ويرضع- قال لها صلى الله عليه وسلم: ما بال ابنك هذا؟ قالت: يا رسول الله ابني هذا أبكم، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وهو طفل قال: من أنا؟ قال: أنت رسول الله، ثم نطق بعدها وكان خطيباً من خطباء العرب}.(393/10)
علاجه للأمراض البدنية
وروى البيهقي -وأصله في البخاري - قال: {أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رجله قرحة أعيت الأطباء -قال: عولجت وعالجها الأطباء العرب وهي تدمى في رجله- فقربها عليه الصلاة والسلام، فأخذ من التراب صلى الله عليه وسلم، ثم نفث فيه وقال: بريقة بعضنا وتربة أرضنا يشفى سقيمنا بإذن ربنا، قال: والله لقد قمت وما بي قلبة} أي: لا جراح ولا شيء، وهذا من بركة الله عليه، وأراد الله أن يقيم البرهان على الناس، فكان الصحابة يرون ذلك، فيزدادون إيماناً ويقيناً وحباً له عليه الصلاة والسلام، وأقول لمن غاب عن هذه المعجزات والآيات البينات: يكفيكم القرآن الذي يتلوه علينا الإمام في كل فريضة، فهو المعجزة الخالدة الذي أتى به رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
وقال شرحبيل الجحفي: والحديث عند البخاري في التاريخ والطبراني والبيهقي قال: {أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كفي سلعة كأنها قربة معلقة -فهو يريد أن يمسك السيف ما يستطيع، يريد أن يعيد يده فلا يستطيع، يريد أن ينام فلا يستطيع- فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قلت: سلعة في يدي يا رسول الله! أصبت بها من زمن، قال: ادن مني، قال: فدنوت، قال: فوضع يدي في الأرض، ثم أخذ يده الشريفة على السلعة، ثم أخذ يفركها ويطحنها ويسمي حتى زالت، فعادت يدي أحسن من الأخرى، وانطلق الرجل يخبر قومه، فأسلم منهم كثير}.
وروى أبو داود والترمذي وحسنه عن أبيض بن حمال -سمي أبيض لأن الله رزقه جمالاً بسبب مسح الرسول صلى الله عليه وسلم بوجهه- يقول: {أتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجهي مُجَدَّر} وجهه كله مصاب بالجدرى، ولذلك، من عنده أمراض حسية ومعنوية وقلبية نفسيه جسمية فليستشف بالقرآن، وليصدق في أخذه وأخذ ماء زمزم، مع طاعة الباري سبحانه وتعالى بكثرة الاستغفار، قال: {أتيت وإذا وجهي مجدر وقد أكل الجدري أنفي، فقال صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ فقلت: جدري يا رسول الله! قال: ادن مني، فدنوت فدعا وسمى، ثم مسح وجهي، فوالله ما رفع يده عن وجهي إلا ما أصبح فيه شيء، وصار وجهي أبيض جميلاً} فسمي أبيض.
وروى النسائي والحاكم وابن حبان والبيهقي عن محمد بن حاطب عن أمه أم جميل يقول: {كنت طفلاً وأمي تطبخ على القدر -على النار- غابت أمه، فوقع القدر عليه، فأحرق ذراعه، فأتت الأم وإذا طفلها في حالة وقد فسدت ذراعه، وما تذكرت بعد الله إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حي -فأخذت الطفل بين يديها ودخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: يا رسول الله! هذا طفلي وقع عليه القدر واحترق قالت: فنفث في ذراعه وأخذ يدعو فوالله ما قمت من عنده وفي ذراع ابني أثر من حريق} فهو المبارك أينما كان صلى الله عليه وسلم.(393/11)
بركات النبي صلى الله عليه وسلم
وبالمناسبة من أراد البركة والخير فليكثر من الصلاة والسلام عليه، حتى إن ابن القيم نص على ذلك، وبعض السلف يرونها من أفضل الأذكار، وألف فيها ابن القيم كتاب: جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على خير الأنام، واتباع سنته والعمل بتعاليمه عليه الصلاة والسلام.(393/12)
بركته في شفاء رأس عبد الله بن أنيس
ذكر البغوي والطبراني عن عبد الله بن أنيس -وله قصة أقف معها وقفة احترام وإجلال فهو شاب من أهل الجنة- وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة.
فقد أتى رجل مجرم عنيد مارد اسمه: خالد بن سفيان الهذلي، جمع هذيل في نواحي مكة يريد أن يقتل الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد اجتمع معه ألف فارس ومارد يريدون الذهاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم لمحاربته في المدينة وقتله، فأتت الأخبار الرسول عليه الصلاة والسلام، قالوا: يا رسول الله جمع خالد بن سفيان الهذلي ألف مقاتل في مكة يريدون قتلك، قال: أنا أقتله إن شاء الله، يقول صلى الله عليه وسلم: من يقتله وله الجنة؟ قال عبد الله بن أنيس: أتضمن لي الجنة، وهذا من الفرسان الكبار حتى ذكر الألباني في إرواء الغليل في بعض الروايات أنه لما أراد قتل خالد يقول: رأيت خالداً وأنا قريب منه، وقد أتت صلاة العصر، وخشيت أن تخرج عليّ صلاة العصر فكنت أصلي وأومئ وأنا مقبل منه حتى ضربت رأسه وأخذته، هذا في رواية.
الرواية الثانية أذكرها لكم قال: أتضمن لي الجنة يا رسول الله؟! قال: أنا لك بها زعيم -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- قال: ائذن لي -يعني أئذن لي في الكلام إذا ذهبت لأنه يحتاج إلى حديث- قال: اذهب، فذهب فسأل عن خالد بن سفيان الهذلي -كأن عبد الله بن أنيس لا يريد أن يهوي على مكة من جهة المدينة - قال: من هذا؟ قالوا: خالد بن سفيان، أما أتاك خبره؟ قال: ما أتاني خبره، قالوا: يجمع الجموع لقتل محمد في المدينة قال: أنا معكم فذهب وسلم على خالد، وقال: أنا من جنودك، قال: حيهلاً بك يا أخا العرب، قال: أريد أن أسامرك الليلة -سمرة ما سمع بأسوأ منها في التاريخ- قال: عبد الله بن أنيس: تحفظ من الشعر؟ قال: أحفظ من الأشعار، قال: أنت معي هذه الليلة في الخيمة -هذه ضيافة خاصة- قال: أنا معك، فنام الجيش كله وأخذ عبد الله بن أنيس يسامره، هذا يأتي بقصيدة وذاك يأتي بقصيدة، وذاك ببيت وهذا ببيت، وفي الأخير قال عبد الله بن أنيس: أما ترى يا خالد أنا سهرنا لو نمنا قال: بلى فنام، ونام عبد الله بن أنيس لكن:
نامت الأعين إلا مقلة تسهر الدمع وترعى مضجعك
قال: فسمعت غطيطه، فقمت على السيف فحززت رأسه على المخدة، ووضعتها في المخلاة -هذه بضاعة ينقلها إلى المدينة مع التحية، هذا قائد الجيش- قال: فذهبت في الليل قال: فكنت أمشي في الليل وأنام في النهار -عشرة أيام- فجاع جوعاً لا يعلمه إلا الله، وظمئ ظمأً حتى اسود وجهه: وأقبل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في جمع مبارك في المسجد، فلما رأى صلى الله عليه وسلم قال: أفلح وجهك، قال: ووجهك يا رسول الله! -والهدية موجودة، في المخلاة فأتى بالبينة- فقدم الرأس له قال صلى الله عليه وسلم: {خذ هذه العصا تتكئ بها في الجنة والمتكئون بالعصي في الجنة قليل} فأخذ العصا من الرسول صلى الله عليه وسلم، فكان يمشي بها، ويذهب بها وينام وهي معه، ويقوم وهي معه، ويصلي وهي بجواره، فلما أتته الوفاة أمر أن يغسل ويكفن، وتدخل في أكفانه، فدخلت معه القبر، وسوف يأتي في الجنة يتوكأ بها ليلقى إبراهيم وموسى وعيسى ومحمداً صلى الله عليه وسلم، هذا شيء من أخبار عبد الله بن أنيس.
قبلها ضربه يهودي بسيف في رأسه قال: فوصلت العظم، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنفث فيها ورقى، فعادت بلا بأس بحمد الله تعالى وعافيته.(393/13)
بركته في شفاء رجل عبد الله بن عتيك
وأرسل صلى الله عليه وسلم لـ أبي رافع المجرم اليهودي الذي كان يسب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت له جوارٍ يغنين بسب الإسلام والقرآن والرسول صلى الله عليه وسلم، آذى الله ورسوله، فأرسل إليه صلى الله عليه وسلم البراء بن عبد الله فذهب فدخل عليه في مشربة فقتله، ثم خرج من المشربة وسمع الصوت فقفز فوقع على رجله فانكسرت رجل الصحابي، فسحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وربط رجله بعمامته، فأتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: {ابسط رجلك قال: فمسحها بيده الشريفة، فعادت أقوى من الأخرى} سيد الخلق صلى الله عليه وسلم وهذا الحديث صحيح.(393/14)
بركة دعائه ونفثه في شفاء جروح خالد بن الوليد
ومن بركته صلى الله عليه وسلم ومما آتاه الله سبحانه وتعالى من حسن أثر على الناس أن خالد بن الوليد كما روى أحمد في المسند يوم حنين جرح جرحاً عظيماً، ومن مثل خالد؟ خالد سيف الله المسلول، فدخل خيمته والجيش كثير في حنين، هذه معركة حنين والطائف، فسمع صلى الله عليه وسلم وهو في خيمته بجرح خالد، وهو متكئ على ظهره في الخيمة، يقول أعرابي: {كان صلى الله عليه وسلم يقول يوم حنين: من يدلني على خيمة خالد بن الوليد؟ قال غلام من الناس: أنا يا رسول الله! أدلك، قال: اذهب أمامي قال: فدخلنا على خالد وهو متكئ يئن من الجراح، فأتى صلى الله عليه وسلم فدعا ونفث، فجلس خالد ما به شيء}.
والحمد لله الذي أبقى لنا خالداً حتى دكدك الروم، وأزال دولتهم وداسهم برجله، إنه سيف الله المسلول.
بنو حنيفة جدوا طال نومكم إن الخليفة عواد بعواد
يا من يرى خالداً كالليث معتجراً تحت العجاجة مثل الأغطف الغادي
وروى أحمد: {أن سفينة مولى الرسول عليه الصلاة والسلام، قيل له: من سماك سفينة؟ قال: سماني رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لماذا؟ قال: كنا في سفر مع الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: احمل من المتاع، قال: فحملت، قال: زد احمل فإنما أنت سفينة، قال: فحملت، وقال: والله لو حملت حمل سبعة جمال لما وجدت بأساً} فكان يحمل الحمل القوي الثقيل الشديد ولا يجد بأساً ويمشي كأشد الناس، لماذا سمي سفينة؟ قال: من بركات الرسول صلى الله عليه وسلم عليه أنه كان من أقوى الناس بسبب قوله صلى الله عليه وسلم: {احمل إنما أنت سفينة} فكأنها تتضمن معنى الدعاء.(393/15)
بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي هريرة وعثمان بن أبي العاص
ومن بركته صلى الله عليه وسلم ومعجزاته وإلا فمعجزاته المعنوية فيها من العظمة الكثير، حتى قال بعضهم من بركته صلى الله عليه وسلم ومعجزاته القرآن والسنة، وأن دينه يصل إلى بقاع الأرض، وأن الكفار ومن قابلهم محقوا وسحقوا من الأحزاب والمنافقين وأعداء الملة، وبقي دينه خالداً في الأرض، فذلك من المعجزات والآيات البينات.
يقول أبو هريرة: {أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أسمع حديثاً كثيراً وأنسى، قال: قلت: يا رسول الله! إني أسمع حديثاً كثيراً منك وأنسى، قال: ابسط رداءك، فبسطت ردائي، وكان عليه البردة، فال: فأخذ صلى الله عليه وسلم يديه قال: فأخذ بكفيه ويسمي ويضعها في الرداء عليه الصلاة والسلام ثلاثاً، قال: اضمم عليك رداءك، قال: فضممت ردائي فوالله ما نسيت بعده حرفاً} فأحفظ الناس أبو هريرة، يعيد الحديث الطويل فلا يخرم حرفاً واحداً من بركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له.
وقال عثمان بن أبي العاص: {كنت أنسى القرآن فأتيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ادن مني، قال: فدنوت منه قال: فضرب بصدري وقال: اللهم يا رحمن! أعذ عثمان من الشيطان - عثمان بن أبي العاص - قال: فوالله ما نسيت القرآن بعدها}.
فسبحان الذي جعل فيه البركة، وسبحان الذي أعطاه المعجزات البينات والذي أظهر دينه حتى ساوى مسير الشمس.(393/16)
بركة دعاء النبي لعلي بن أبي طالب
وروى البيهقي والحاكم عن علي قال: {بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن قاضياً} انظر هؤلاء كيف وزعهم صلى الله عليه وسلم على الناس، هذا قاضٍ، وابن مسعود داعية، ومعاذ مفتٍ في الحلال والحرام، وخالد مجاهد في سبيل الله، وزيد بن ثابت يفتي في الفرائض، وابن عباس مفسر، وحسان شاعر، كل قام بمقامه، كل حفظ منزلته، كل أثرى بموهبته العالم رضوان الله عليهم.
{قلت: يا رسول الله! كيف ترسلني وأنا شاب؟ -يقول علي، يعني: لا أستطيع أن أحكم بين اثنين- قال: فضرب في صدري وقال لي: اللهم ثبت قلبه واهدِ لسانه واجعله هادياً مهدياً، قال فوالله -يقسم علي - فو الذي برأ الحبة وفلق النسمة ما التبس عليَّ القضاء بين اثنين} ولذلك كان يقضي بإذن الله، ويأتي قضاؤه صواباً مثل السيف حسماً ببركة دعاء الرسول عليه الصلاة والسلام له.(393/17)
علاجه للعقول
وأما علاجه صلى الله عليه وسلم للعقول، فيكفي أنه عالج عقول الأمة بالقرآن والإيمان، ولكن أقصد به علاجه للجنون، فقد ذكر أبو نعيم عن الوازع قال: {انطلقت بابن لي مجنون كان يفسد عليهم الطعام ويفسد عليهم المنام -سلب عقله- فأتيت به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ما هذا؟ قلت: ابن لي جن يا رسول الله! قال: قربه مني، قال: فقربته منه، فوضع يده على صدره ثم دعا فتقيأ ابني فخرج من بطنه مثل الجرو الأسود، فصح ابني، فكان من أعقل قومه} رد الله عقل ابنه بدعاء الرسول صلى الله عليه وسلم وببركة دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم.
وذكر البخاري ومسلم عن جابر قال: {أغمي عليّ -أغمي عليه وفقد وعيه- فزاره صلى الله عليه وسلم قال: عليّ بماء، فتوضأ صلى الله عليه وسلم وصب بقية الماء على جابر فاستيقظ، ثم وضع صلى الله عليه وسلم يده على صدر جابر، قال: فما زلت أجد بردها إلى الآن}.
وفي بعض الألفاظ: أن سعد بن أبي وقاص قال: زارني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {اللهم اشف سعداً، اللهم اشف سعداً، قال: والذي نفسي بيده إني أجد برد يد الرسول عليه الصلاة والسلام بعد ثلاثين سنة، كأنها الآن}.
ويقول أعرابي: {حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأيته يخطب، فأدخلت يدي بين نعله وقدمه} انظر كيف يجدون قيمة وثمن وعظمة محمد صلى الله عليه وسلم ومنزلته، كان شوق الواحد منهم أن يرى فقط الرسول عليه الصلاة والسلام، أو يمس جلده جلده أو جسمه جسمه، أو ينعم ولو بآثار البصاق، كان إذا بصق يميناً أو يساراً أو أمامه أو خلفه، تناول الواحد منهم تفاله وبصاقه، بأبي هو وأمي صلى الله عليه وسلم! فيمسحون وجوههم، فيجدون من السرور والنعيم والخير العميم ما الله به عليم، حلق رأسه، فكادوا يقتتلون على شعر رأسه، منهم من حصل على شعرة ونصف شعرة، حتى إن أئمة الإسلام وأئمة التابعين بكوا وقالوا: والهف نفساه على شعرة من شعراته عليه الصلاة والسلام.
هذا الأعرابي أتى وكان همه فقط أن يمس القدم الشريفة، قال: {فكان يخطب الناس بـ منى، فأدخلت كفي بين النعل وبين القدم، فوجدت بردها، فوضعتها على وجهي والله إني لأجد بردها إلى الآن} بعد عشرات السنوات.
مبارك أينما كان، كلامه لفظه ذكره صلاته ملابسه كل شيء فيه مبارك، يلبس القميص وأمنية الإنسان أن يلبس قميصه.
المتوكل الخليفة العباسي أتى بعد المعتصم، لبس برد النبي صلى الله عليه وسلم بعد مئات السنوات قال للشعراء: من يصف لي البرد هذا، فإن أجاد ملأت فمه دراً، قالوا: فأنظرنا ليلة، ليس لهم إلا بيتان فقط لا يزيد الواحد على بيتين، فذهبوا جميعاً وأتوا، منهم من يمشي على بطنه، ومنهم من يمشي على رجلين، ومنهم من يمشي على أربع ومنهم من يطير، فجاء أحدهم فقال:
ولو أن برد المصطفى إذ لبسته يظن لظن البرد أنك صاحبه
وقال وقد أوتيته ولبسته نعم هذه أعطافه ومناكبه
قال: املئوا فمه دراً.
مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يلبس قميصاً، وإذا لبس صلى الله عليه وسلم القميص عرف الصحابة من الفقر وكثرة الحاجة أنه صلى الله عليه وسلم لبس قميصاً، قال رجل: والله لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم القميص، قالوا: لا تسأله -لأنه لا يعرف أن يقول: لا، لن يمنعك وهو يلبسه محتاج إليه يصلي به الجمعة ويستقبل الوفود- قال: والله لأسألنه القميص فعرض له واقفاً صلى الله عليه وسلم، قال: {يا رسول الله! ألبسني قميصك الذي عليك، قال: أنظرني قليلاً، فدخل بيته ولبس الرداء والإزار ثم أعطاه قميصه، قال الصحابة: بئس ما صنعت، لبسه صلى الله عليه وسلم محتاجاً إليه وتسأله وهو لا يرد المسألة}.
ما قال "لا" قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
قال: إني أرجو -يعتذر له- أن يكون كفني هذا القميص، فكان كفنه الذي كفن فيه، وهنيئاً له أن لا مس القميص جلد المصطفى عليه الصلاة والسلام.
وقد روى أحمد والدارمي والطبراني: {أن امرأة أتت بابن لها مجنون أيضاً -يستند إلى الحديث الأول وهو شاهد- فدعا له صلى الله عليه وسلم فأصبح عاقلاً رزيناً}.(393/18)
بركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبي عطية وأبي محذورة
وروى الطبراني عن أبي عطية البكري قال: {انطلق بي أهلي فمسح رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي وأنا طفل، ثم مر على خدي، فنبتت لي لحية بعدما كبرت، ورأسي لم يصبه الشيب أبداً} أصبح في المائة وهو أسود الرأس أسود اللحية.
وهذا مثل حديث أبي محذورة الذي رواه أحمد والبغوي: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع أذان أبا محذورة} حتى أن أبا محذورة صار مؤذناً مشهوراً وأبناؤه أخذوا الأذان بعده وأبناء أبنائه في مكة، وكان إذا أذن توقف الناس: صاحب الحديث يتوقف، والمتكلم يسكت، والذي يأكل الطعام ينصت، والماشي ينتظر؛ من حسن صوته، حتى يقول مجنون ليلى من شهرة أبي محذورة:
أما ورب الكعبة المعمورة وما تلا محمد من سورة
والنغمات من أبي محذورة لأفعلن فعلة مشكورة
فهذا أصبح مشهوراً عند الناس، وبالمناسبة ذكر الذهبي أن أحد أبناء أبنائه كان مؤذناً، وكان فيه غفلة من غفلة الصالحين، فبعض الناس طيب وصالح، وفيه خير، لكن تأتيه غفلة، فكان يؤذن وبجانبه مغنٍ يغني بعود في بيت بجانب الحرم، فلما أراد أن يقول: حي على الفلاح، سمع ذلك يقول: إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم؛ لأن مجنون ليلى له قصائد يقول في بعضها:
صغيران نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
هذا في عالم الشقاء، عالم الضياع، عالم الغرام والوله والعبث، يقول: يا ليتني أنا وليلى هذه كنا صغيرين نرعى البهم ولا تكبر هي ولا أكبر أنا لأنهم حجبوها بعد ما كبرت، كنا نرعى البهم حتى نموت، وهذه أمنيته في الحياة، الناس تقطع أعناقهم في بدر وفي أحد، والملائكة تتنزل من السماء، والجنة مفتوحة وأنت تريد أن تكون أنت وهي ترعون البهم حتى تموتون.
يقول الشافعي: رأيت رجلاً في المدينة يعلم النساء الرقص، ويعلم الأطفال الضرب على الطبل، فإذا جاءت الصلاة صلى جالساً!! تعبان من الخدمات!
وأنا رأيت أناساً كباراً في الثمانين يعرضون ثلاث ساعات في العرضة، وإذا جاءت صلاة التراويح قال: ذبحتونا قتلتونا ما نقدر!
فهذا المؤذن سمع هذا يغني، فاختلط عليه الصوت يريد أن يقول: حي على الفلاح وإذا المغني يقول: لم نكبر ولم تكبر البهم فقال: حي على البهم، في مكة بالصوت المجلجل الطويل، وهذا ثابت ذكره الذهبي سيد المحدثين والمؤرخين.
أتينا إلى أبي محذورة سبب بركة الرسول صلى الله عليه وسلم: أنه خرج يوم بدر يرعى الغنم مع كفار قريش، فأراد الله له الهداية، واقترب من المعركة، فسمع بلال بن رباح يرسل نغمات الحق تملأ الفضاء؛ صوت الخلود يملأ الوجود، صوت التوحيد يعلن على العبيد، الله أكبر الله أكبر، فأخذ أبو محذورة يستهزئ، وهو شاب غلام في الوادي، يكرر مثلما يكرر بلال، قال صلى الله عليه وسلم: عليّ بهم يقول: أحضرهم لنا، فأتوا بالشباب قال: من منكم أذن؟ يعني: يقلد بلالاً فسكتوا قال: أذن أنت قل: الله أكبر فأذن فقال: أنت، لأنه عرف الصوت بالصوت، فمسح رأسه ودعا له فأسلم، وأرسله مؤذناً في مكة، فلم يحلق أبو محذورة رأسه بعد أن مسحه النبي صلى الله عليه وسلم، ما دام أن كفه الشريف وصل إلى هذا الشعر ممنوع يحلق، قال: وهذا ثابت بسند صحيح في السيرة فبقي رأسه لم يحلق حتى إذا جلس وصل إلى الأرض، وإذا قام وصل تحت المحزم، تحت منتصف جسمه، ويعلق بعض الأدباء، وللأدباء إشراقات ولطائف أذكرها كما جاءت فلا تعلقوا يقول:
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرّت في جوانبه بردا
هذا في وادٍ وهذا في وادٍ آخر.
ومن ذلك ما رواه الترمذي وحسنه -أيضاً- والبيهقي عن أبي زيد الأنصاري قال: {مسح الرسول صلى الله عليه وسلم على رأسي وقال: اللهم جمله وحسنه} فأتت عليه مائة وبضع سنوات، وكان أجمل من الشباب، ليس في وجهه تجاعيد ولا تغير وجهه، ولا سقط له سن، وكان وجهه يلمع لمعاناً كحد السيف، من بركته عليه الصلاة والسلام.(393/19)
بركة أعضائه صلى الله عليه وسلم وآثاره
وأما بركة يده صلى الله عليه وسلم فيقول أنس خادمه: {والله ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كف الرسول صلى الله عليه وسلم، والله ما شممت مسكاً ولا عبيراً أحسن من رائحة الرسول صلى الله عليه وسلم}.
روى البيهقي عن وهب بن حجر من ملوك اليمن قال: {وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسلمت عليه فصافحني، فبقيت ثلاثة أيام وأنا أغسل يدي والله ما ذهب المسك من يدي}.
نام عند أم حرام بنت ملحان عليه الصلاة والسلام، فلما نام في القيلولة أخذ عرقه يتحدر كالجمان كالدر -كان صاحب عرق فعرقه صلى الله عليه وسلم غزير إذا نام- فأخذ يصب في الأرض -فانظر لحبهم له رأت أنه خسارة أن يصب هذا العرق- فقربت قارورة، وهي عجوز كبيرة، وهو صلى الله عليه وسلم أب للمؤمنين، فأخذت بكفها ومسحت الجبين الطاهر الأزهر الأنور الذي يلمع أجمل من البدر ليلة أربعة عشر، فعبأت القارورة فوجدت ريح المسك في بيتها، تقول: والله ما يمرض مريض في بيتنا فنأخذ قطرة من العرق ونجعله في القدر إلا يتشافى المريض بإذن الله.
لقد جعل الله أحب العباد إليه وأحسنهم وصفوتهم وخيرتهم محمداً صلى الله عليه وسلم، نظر في قلوب العالم كلهم فاختار قلبه للرسالة: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:124] سبحانه وتعالى.
وأما هذا الحديث فأنا أعرض لكم تحسينه على البوصيري المحدث الشهير وأبو يعلى والبزار، والحمد لله ولا فخر، وأنا ما تخصصت في الحديث، وأنا أورد عليكم أحاديث، فيها ما يقبل التحسين وله شواهد، ومن أحاديث السيرة فلا يلمنا لائم، فأحاديث السيرة نتوسع فيها مالا نتوسع في الحلال والحرام.
روى أبو يعلى والبزار بسند حسنه البوصيري: {أن ابن الزبير أتى وعمره ثلاث سنوات -وقيل أصغر في بعض الروايات- فوجد الرسول صلى الله عليه وسلم يحتجم -تعرفون دم الحجامة، وهو صلى الله عليه وسلم طاهر، وآثاره طاهرة- فوضع الدم من الحجامة في طست، وقال: يا عبد الله! ضع هذا في مكان لا يراه أحد -بحيث يأخذ الدم ويخفيه- فأخذه ابن الزبير ومال وراء البيوت فشربه} هذا عبد الله بن الزبير صنديد يشرب الموت مثل شرب الماء، هو أول من طاف في السيل في مكة، فر الناس في الجبال حين جاء سيل، فاقتحم الحرم وخرج الناس من بيوتهم على سطوح المنازل وهربوا إلى الجبال، ورأى ابن الزبير السيل يطوف بالحرم فألقى ثيابه واتزر ورمى نفسه في السيل، فطاف سابحاً سبعة أشواط، صنديد ستسمعون أخباره بعد قليل، المقصود أنه شرب دم حجامته صلى الله عليه وسلم وعاد بالصحن خالياً قال صلى الله عليه وسلم: أين وضعت الدم؟ قال: وضعته في مكان لا يراه أحد، قال صلى الله عليه وسلم: {ويل لك من الناس وويل للناس منك، لا تمسك النار} أما ويل لك من الناس: فأنت أصبح فيك جزء مني، فلا بد أن تبتلى مثلما ابتليت، أي: بشيء فقط من الأذى؛ لأن أكثر ما واجه الظلم والعدوان والحسد والإيذاء محمد صلى الله عليه وسلم، وأما ويل للناس منك، فمعناه: أنك يصبح عندك من العظمة والهمة والشجاعة والإقدام ما الله به عليم، وأما لا تمسك النار: كيف تمسك النار وبعض دمي في دمك؟!
يقول الذهبي شيخ المحدثين والمؤرخين: كان يصوم سبعة أيام متواصلة ليلاً ونهاراً، ويفطر في اليوم الثامن على سمن البقر، وكان يصلي في الليل النافلة، ليلة واقفاً من بعد صلاة العشاء يقف في الحرم -هذا ثابت عنه- إلى أن يقرب الفجر، ثم يركع، ثم يسجد ليلة كاملة، وليلة راكعاً طوال الليل من العشاء إلى الفجر، وليلة ساجداً، وقاتل أهل الشام قتالاً ما سمع بمثله في التاريخ، كان أمامه خمسمائة مقاتل يهزمهم قالوا: والله ما مثله إلا كالأسد أمامه المعزى، يقبل عليهم بالسيف، فيشردون من الأبواب، ثم يقبل على هؤلاء فيشردون من الأبواب، ثم في الأخير لما كثر عليه الرمي من كل جهة والمنجنيق، قام وكبر وصلى عند المقام، فأتته قذيفة، فوقعت في رأسه، فسقط شهيداً عند الكعبة، فرفع عند المقام، فأتى ابن عمر ليؤدي له التحية وهو ميت، قال: السلام عليك يا أبا خبيب! أشهد أنك من المصلين الصائمين، أشهد أنك كنت وصولاً للرحم، ووالله إن أمة أنت شرها إنها أمة خيرة، وهو من خير الناس، ثم مرت أسماء أمه وهي عمياء، قالت: أما آن لهذا الفارس أن يترجل، فدفن وهو أحق الناس بقولهم:
علو في الحياة وفي الممات لحق أنت إحدى المعجزات
وذكر الحاكم وصححه أن ثابت بن قيس بن شماس خطيب الرسول صلى الله عليه وسلم، اختلف مع زوجته والخلاف قديم، فأقسمت بالله لا أرضع طفلك، حيث أتى له رضيع صغير، فأقسمت ألا ترضعه، فذهب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! الطفل سيموت؛ لأن أمه من العداوة أقسمت ألا ترضعه، فأخذه صلى الله عليه وسلم فبزق في فمه، وقال: أما إن الله سوف يسهل له من يرضعه، وإذا بأعرابية تصل إلى المدينة قالت: أين محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قالوا: هو عند الرسول صلى الله عليه وسلم، قالت: رأيت في المنام قائلاً يقول: اذهبي فأرضعي محمد بن ثابت بن قيس بن شماس قال: وإن ثديها يقطر لبناً، فأرضعته وصار من أحسن الناس، وهذا من بركته عليه الصلاة والسلام.(393/20)
بركة نوره صلى الله عليه وسلم
أما نقل النور في العراجين منه عليه الصلاة والسلام فحدث ولا حرج، وقد ورد في ذلك ما يقارب خمسة أحاديث أو أكثر، منها عرجون قتادة بن النعمان صاحب العين رضي الله عنه، رواه أحمد والطبراني والبزار: {أنه أتى صلى الله عليه وسلم فسمر معه، ثم أراد أن يسير في ليلة ظلماء، فأعطاه صلى الله عليه وسلم عرجون عصا، وقال: هذا ينور لك عشراً أمامك وعشراً خلفك، وقال: كنت أرفعه كالشمعة، فيضيء ما أمامي، ويضيء ما خلفي، وهو عصا}.
وأتاه الطفيل بن عمرو الدوسي الزهراني، فأسلم عنده، وطلب منه آية أن يعود إلى قومه دوس، فعاد فأعطاه الله نوراً في وجهه، قال: اللهم! انقله من وجهي حتى لا يقولوا مُثْلَةً، فوضعه في سوطه، فكان إذا رفع السوط أضاءت له جبال زهران، وإذا خفض السوط أضاءت له أودية زهران، ومثله حديث أبي بكر وعمر وعباد بن بشر وأسيد بن الحضير.(393/21)
إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات(393/22)
إخباره بما في نفس وابصة
وأما إخباره صلى الله عليه وسلم بالمغيبات فلا حصر لها، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم في آخر الزمان بملاحم ومعجزات وفتن سوف تحصل، وأتت كفلق الصبح حكمة من الباري سبحانه وتعالى، روى أحمد والطبراني عن وابصة بن معبد قال: {أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقد جهز سؤالاً في خاطره وفي ضميره ولم يخبر أحداً من الناس- قال: فوصلت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: يا وابصة جئت تسأل عن البر والإثم -يقول: السؤال الذي عندك تسأل عن البر والإثم- قلت: نعم يا رسول الله! قال: البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس} فأخبره عليه الصلاة والسلام بما أسر.(393/23)
إخباره بما في نفس أبي سعيد
وفي الحديث الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال: قالت لي أختي: أما ترى ما نحن فيه يا أبا سعيد! من الفقر والجوع -يقول: أصابنا جوع لم يصبنا مثله قط- فقالت أختي: أما ترى ما نحن فيه، اذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبت فإذا هو يخطب الناس فلما رآني -عرف صلى الله عليه وسلم بالقضية وما قالت له أخته وما جرى- قال: {ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله، قال: ففهمت أنه أرادني فوالله ما سألته، ووالله لقد عدت، ورزقنا الله برزق، ولا أعلم في المدينة أناساً أكثر منا رزقاً الآن} إن الرسول صلى الله عليه وسلم عرف أنه أتى يطلب، فأخبره بالخبر، فعاد رضي الله عنه وأرضاه.(393/24)
إخباره بما يجري لخبيب في مكة
وأما إخباره صلى الله عليه وسلم بأخبار أصحابه في الأقاليم وفي البلدان التي أرسل فكثيرة تفوق الحصر، فقد روى البخاري أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أرسلهم إليها، خبيب بن عدي ومن معه، واستأسره الكفار، ودخلوا بـ خبيب بن عدي، وهو صاحب خشبة الموت، وأول من سن ركعتين عند الموت خبيب بن عدي رضي الله عنه وأرضاه، وأول من أنشد عند الموت خبيب بن عدي، وأول من ألقى دعاءً على الخشبة خبيب بن عدي، فاستأسره كفار مكة، فذهبوا به إلى غرفة، وأغلقوا عليه، ومنعوه من الطعام، فكان إذا جاع، يأتيه ملك من السماء بعنقود عنب، فيأكل حتى يشبع، فخرجوا به إلى ضاحية مكة، فنصبوا له المشنقة، يريدون إعدامه، والكفار مجتمعون حوله، قال: أنظروني أصلي ركعتين؟ قالوا: صل، فصلى ثم سلم، وقال: والله الذي لا إله إلا هو لولا أن تظنوا أن بي جزعاً لطولت الصلاة، فرفعوه على خشبة الموت، قال: اللهم! احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، ثم أنشد، ومن ينشد في الموت؟! أما خبيب بن عدي فقال:
ولست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع
بارك الله فيه وفي أشلائه، ثم قال: اللهم أخبر رسولك ما نلقى الغداة، يقول: بلغ رسولك منا السلام، وأخبره ماذا لقينا، فقال صلى الله عليه وسلم، وهو في المدينة، وذاك في مكة في نفس اللحظة والوقت والزمن: عليك السلام يا خبيب! عليك السلام يا خبيب! عليك السلام يا خبيب!(393/25)
إخباره بقتل أصحاب بئر معونة ومؤتة
وإخباره صلى الله عليه وسلم بأصحاب بئر معونة، حيث قتل سبعون من القراء، ومنهم حرام بن ملحان طعنه رجل في ظهره، فخرج الرمح من صدره، فأخذ الدم ورش القاتل، وقال: فزت ورب الكعبة، فأخبر صلى الله عليه وسلم بقتلهم في لحظتهم، وقد ذكرت لكم أنه صلى الله عليه وسلم ذكر الشهداء من مؤتة، وكشف الله له الغطاء، وهم في مؤتة جعفر الطيار وزيد بن حارثة وعبد الله بن رواحة قال: {رأيتهم الآن عرضوا على أسرة من ذهب دخلوا الجنة، وقد عوض الله جعفر بن أبي طالب بجناحين في الجنة، يطير بهما حيث شاء} وهذا من إخباره صلى الله عليه وسلم في وقته بالمغيبات.(393/26)
إخباره بفعل حاطب في فتح مكة
أراد صلى الله عليه وسلم أن يجهز جيشاً لـ مكة، وأخفى الأخبار حتى يبغتهم بغتة، يأتيهم بغتة وفجأة وهم لا يشعرون، فسد الأخبار وقال: {اللهم خذ بأسماع قريش وأبصارها} خذ بأسماع قريش، أي: اعم أبصارها وأسماعها، فلا تدري به صلى الله عليه وسلم، لئلا يتجهزون بجيش ويستعدون، ومباغتة العدو من أعظم الخطط العسكرية الرهيبة، كما ذكرها محمود شيت خطاب وغيره من الذين تكلموا في العسكرية الإسلامية.
قال: خذ بأسماعهم وأبصارهم، فأتى حاطب بن أبي بلتعة، وأتى بامرأة قيل امرأة استأجرها، فكتب لأهل مكة، وحاطب هذا من أهل بدر ومن أهل بيعة الرضوان من الصحابة، لكن يعثر العبد ويخطئ العبد؛ فهو ليس نبياً معصوماً، فكتب خطاباً سرياً خطيراً يكشف خطة الرسول عليه الصلاة والسلام، يريد هو رضي الله عنه أن يتخذ يداً عند كفار قريش يرضون عنه، فيتركون أبناءه وبناته وماله، ولا يؤذونه بشيء، فكتب: إن محمداً عليه الصلاة والسلام يريد قتالكم، فقد تجهز بجيش فاستعدوا، ثم أخذ الخطاب، فلفه ووضعه في جديلة وفي ظفائر وفي شعر المرأة، ولفها عليه، ثم غرزه وأخفاه، وقال: اذهبي انطلقي، فذهبت من المدينة حتى أصبحت في روضة خاخ، لكن أين يذهب الخبر، والذي على العرش استوى لا تخفى عليه خافية؟! فأنزل الله جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم قال: أدرك ظعينة حاطب بن أبي بلتعة؛ فإنها في روضة خاخ، ومعها كتاب لكفار قريش يخبرهم بك، قال: يا علي ويا زبير! انطلقا إلى روضة خاخ، فانطلقا بفرسين يتسابقان فطوقا روضة خاخ، وإذا بالظعينة بين الشجر، قالوا: أخرجي الكتاب، قالت: ما عندي كتاب، وحلفت لهم أيماناً لا تقبل ولا تهضم ولا تصدق، فقال علي بن أبي طالب: والذي نفسي بيده ما كذب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذي نفسي بيده لتخرجن الكتاب أو لأجردنك من الثياب، إما هذا وإما هذا، قالت: انتظروني قليلاً، فأخرجت الكتاب، فأخذا الكتاب واشتدا كالصقرين حتى عادا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتاب، قال: عليّ بـ حاطب، وأتوا بـ حاطب من بيته، وعلم أن المسألة كشفت، فأجلسه صلى الله عليه وسلم للمحاكمة، وعمر بسيفه جاهز متخصص في قطع الرءوس على الطريقة الإسلامية.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا حاطب! ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول الله! ليس لي أهل ولا عشيرة ولا قوم في مكة، ولي أبناء عندهم وبنات -أي: أن له شبهة لكنها لا تقبل- فأردت أن يكون لي يد، فسكت صلى الله عليه وسلم فقال عمر: يا رسول اللهّ! ائذن لي أن أضرب عنق هذا المنافق؛ فقد خان الله ورسوله، وسل السيف، قال: {يا عمر! دعه، يا عمر! لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم} فدمعت عينا عمر، أي أنه من كان من أهل بدر، لا يسبقه فضل، ولا ترقى إليه درجة ولا منزلة أبداً ولا رتبة، فكف عمر السيف، فأخبر الله رسوله بهذا الخبر وما حصل، ومثله كثير في السيرة.(393/27)
إخباره بحديث عمير بن وهب مع صفوان في مكة
كان صلى الله عليه وسلم مع أصحابه في المسجد وهو يتحدث لهم صلى الله عليه وسلم، وإذا بـ عمر بن الخطاب مقبل، ومعه رجل، وقد أخذ عمر بتلابيب ثياب الرجل وبحمالة سيفه يقوده في المسجد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ قال: هذا عمير بن وهب أتى ومعه الشيطان، فقال: اتركه يا عمر! فأطلقه رضي الله عنه وسيفه معه، فأجلسه صلى الله عليه وسلم أمامه، وكان قد أتى من مكة، قال: {ماذا أتى بك يا عمير بن وهب؟ -وهذا بعد بدر والأسارى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم- قال: يا محمد! أتيت أفادي الأسارى الذين عندك -أي: أدفع الفدية وآخذ الأسارى- قال: كذبت، أنت جلست مع صفوان بن أمية ليلة كذا وكذا بعد صلاة العشاء بالحرم، فقلت له أنت: أما ترى ما فعل محمد بنا في بدر، قتل منا سبعين، وأسر منا سبعين، ليت لي بمن يكفيني أهلي ومالي، وأذهب إلى محمد، وأقتله في المدينة، قال لك صفوان: أنا أكفيك مالك وأهلك واذهب فاقتله، فأتيت تقتلني وما كان الله ليسلطك عليّ، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما علم بي إلا أنت فمن أخبرك؟ قال: نبأني العليم الخبير، فأسلم واغتسل ودخل في دين الله}.
وقد ذكر ابن سعد وابن عساكر أن شيبة بن عثمان أحد بني عبد الدار، وهم أهل مفاتيح الكعبة، قال: خرجت يوم حنين ما كان لي من قصد إلا أن أقتل النبي صلى الله عليه وسلم -خرج مع جيش المسلمين أصلاً، ظاهره الإسلام- فلما التقى صلى الله عليه وسلم والتقى مع الكفار، وإذا بالكتائب أقبلت، قال: ففر الناس، فنزل صلى الله عليه وسلم من على بغلته، وغشيه الناس، وأخذ حفنة من تراب، فنثرها وقال: شاهت الوجوه، ووالله ما بقيت عين من عيون الكفار إلا دخلها شيء، فرفعت سيفي أريد أن أقتله قال: فلمع بارق بيني وبينه حتى كاد أن يأخذ بصري، فعدت فوضعت يدي على بصري فتأخرت، فقال: ادن مني ادن مني فدنوت منه، فوضع يده على صدري وقال: اللهم أعذه من الشيطان، فوالله ما رفعها إلا صار أحب إليّ من سمعي وبصري وأهلي والناس أجمعين، فأسلمت وحسن إسلامي.
فمعجزاته صلى الله عليه وسلم كثيرة، ولو أخذنا في ذكرها، لطال بنا المقام، وأحببت أن نقتصر على مثل هذه، وإلا فقد انشق له القمر عليه الصلاة والسلام، وقد أخبر بقتل كسرى، فقتل في نفس الليلة التي أخبر فيها صلى الله عليه وسلم.(393/28)
إخباره بفعل عيينة بن حصن مع أهل الطائف
وأرسل عيينة بن حصن -كما عند البيهقي وأبي نعيم - يفاوض أهل الطائف، وعيينة هذا إسلامه ضعيف وقد ارتد، وهو سيد من سادات غطفان، قال: اذهب وفاوض أهل الطائف في الحصون ينزلون على حكمي على الإسلام، فذهب إليهم فقال: تحصنوا -بخلاف ما أرسله عليه الصلاة والسلام- لعلكم تعزون ويعزكم العرب، ثم أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال له: ماذا قلت لهم؟ قال: قلت لهم: أسلموا ودعوتهم إلى الإسلام قال: كذبت، بل قلت لهم كذا وكذا وكذا.(393/29)
فوائد عرض معجزات النبي صلى الله عليه وسلم
فالله يطلع رسوله صلى الله عليه وسلم من أخبار الغيب على ما شاء، والمقصود من مثل هذا الحديث:
أولاً: تعظيم وتوقير وتقدير الرسول صلى الله عليه وسلم.
ثانياً: زيادة الإيمان بمعرفة هذه البينات والآيات والبراهين والأدلة.
ثالثاً: زيادة الاتباع له صلى الله عليه وسلم.
رابعاً: الرقة والخشوع عند ذكر سيرته وسنته وطلب هذه العلوم التي كادت تنطمس مع الثقافة العصرية الوافدة، وأصبح قليل من الناس من يقرأ حديثاً، وقليل منهم من يستمع معجزاته، وقليل منهم من يطلع على سيرته صلى الله عليه وسلم، وقليل منهم من يطالع تاريخه المشرق الذي لا يوجد تاريخ أحسن ولا أجمل ولا أصدق منه.
فأردنا أن تكون هذه السيرة معيناً علَّ الله عز وجل أن ينير بها القلوب وأن يهدي بها النفوس، وأن يثبتنا على سنته وسيرته حتى نلقاه.
وهنيئاً لكم أنتم موفقون بحول الباري، أسأل الله بهذا المجلس المبارك أن يجعله موصولاً برضوانه سبحانه، وأن ينزل علينا السكينة والرحمة والرضوان، وأن يذكرنا في من عنده، وأن يعتق رقابنا من النار، أتوسل إليه سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى، وأطمع في فضله -فإنه جواد كريم محسن- أن يتغمدنا وإياكم برحمته.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(393/30)
لقاء الأحبة مع المشائخ
إنه ينبغي على علماء الدين أن يكونوا لقاءات ولقاءات، يتدارسون فيها هموم الأمة، ومشاكل الدعاة والعلماء، ويطرحون الحلول المناسبة للأمة والمجتمع، ولذلك فإن اللقاء خير مثال يدل على اهتمام علماء الدين بأمتهم ومجتمعهم، وكذلك شعراؤهم الذين يصورون المواقف، وينزلونها على مسامع الناس فيجدون لها التأثير الكبير، والحماس الشديد.(394/1)
ترحيب بالشيخ ابن باز
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين وعلى آله وصحبه والتابعين، صاحب السماحة والدنا وشيخنا وحبيبنا الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز، أصحاب الفضيلة العلماء! أيها الإخوة الفضلاء والحضور النبلاء! أحييكم بتحية الإسلام وتحية دار السلام، فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(394/2)
قصيدة ترحيبية بالشيخ ابن باز للشيخ عائض القرني
فقد نويت أن يكون أول ضيف يطأ بساط بيتي ويرد منزلي سماحة العالم الرباني ومحبيه {وإنما لكل امرئ ما نوى} والحمد لله ما أمسى أحد اليوم خيراً منَّا ضيفاً، من مثلنا وجد ضيفاً كهذا الضيف، المسيرة الربانية، والمرجعية العلمية، والعطاء المبارك، والعمر المجيد كلها نستقبلها هذه الليلة ونستضيفها.
ألا مرحباًٍ بشيخنا ومرافقيه، ووالدنا وأبنائه، وعالمنا وطلابه من الوسطى والشرقية والغربية والشمالية والجنوبية.
ويا سماحة الوالد! نظمت أبياتاً بعنوان: شيخ ومنهج، أستأذنكم في إلقائها:
أعلامة الإسلام بيتي تهللا وقلبي رعاك الله بالحب قد تلا
أحييك يا كل السماحة مثلما تحيي الربى غيثاً مغيثاً مجللا
وأرتاح أن ألقاك في كل مجلس لقاؤك فوزٌ صار فينا معجلا
نهنيك بالإسلام دين محمدٍ نعم ونهني الدين فيك ممثلا
هو الحق حتى تفضل العين أختها وحتى يكون الفضل في الشيخ أفضلا
روينا المعالي في رحابك غضة لها سند يتلوه بالصدق من تلا
تركت السرى خلفي لمن ضاع عمره ويمَّمت قلبي في دروسك فانجلى
فسبحان من يهدي القلوب لنوره وسبحان من يعطي الهداية من علا
على سنة موروثة من نبينا تناقلها الأخيار شرعاً مكملا
فليلتنا هذي يفوح عبيرها بأنفاسكم يا شيخ صارت قرنفلا
كتبت بها تاريخ بيتٍ سكنته جميلٍ ولكن في وصولك أجملا
فحياك رب العالمين تحيةً ترددها الأجيال ذكراً مرتلا
فسار بها من لا يسير مشمراً ويعدو بها خيل الكرام محجلا
وأهلاً وسهلاً بالمشايخ كلما أعيدت على الأيام أهلاً ومسهلا
رفعنا بكم صرحاً لسنة أحمدٍِ عليها نلاقي الله إن شاء كُمَّلا
على منهج الأخيار مثل ابن حنبل ومثل تقي الدين من عاش مبتلى
وما نحن إلا للمجدد نصرة قصدت به من شعَّ في نجد مشعلا
تركنا لـ جهم في الطريق جهنماً وجعد مع الأرذال يبقى مُكبَّلا
ركلناك يا نهج الخوارج ركلةً يموت بها في المهد موتاً معجلا
برئنا إلى الرحمن من كل رافضٍ ولسنا من الإرجاء لا والذي علا
وننكر دين النصب لا درَّ درُّه ومن أنكر الأقدار منا تبهذلا
أئمتنا كـ الشافعي ومالك وسفيان والنعمان صار مبجلا
ولسنا دعاة للضلالة والهوى معاذ إلهي فاسأل الأرض والملا
وسائل قلوب الناس واسأل عيونهم فأنتم شهود الله في الأرض عُدَّلا
نحارب أهل الجاهليات جهدنا وكل حداثيٍ ومن عاش أهبلا
وعالمنا عبد العزيز وشيخنا فديناه صار القلب للشيخ منزلا
وصلِّ إلهي ما همى الغيث أو سرى مع النجم برق أو إذا الرعد جلجلا
على المصطفى المختار والصحب كلهم وأتباعهم هم ناصرو الحق أولا
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(394/3)
كلمة للشيخ ابن باز عن التقوى
المقدم:
فمع الأبوة لشباب الصحوة، ومع القيادة العلمية لطلبة العلم، مع الإمام الوالد سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، ونحن يا سماحة الوالد! لن نثني ولن نمدح فقد أثنت عليك أعمالك، ومدحك ليلك ونهارك، ولكن نستأذنك في إعلان الحب لكم حباً يملأ الجوانح ويسبح على العيون، ويلجُّ على الألسنة ثناءً ودعاءً، حباً من هذه القلوب التي أصافت، والأعين التي شخصت، حباً ووداداً وموالاة، والذي نسأل الله عز وجل أن يجعل هذا الحب من القربات التي تزلفنا عنده، وأن يجعل هذا الحب بجلاله جل وعلا مما يظلنا به تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله.
وإننا يا سماحة الوالد! ندعو لأنفسنا يوم ندعو الله جل جلاله بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يبارك في عمركم وينسأ في أثركم، وأن يجعل بقية عمركم رفعة في الدرجات وزيادة في الحسنات، وأن يقر أعينكم بعز الإسلام وصلاح المسلمين وائتلاف قلوبهم وصلاح أمورهم، وأن يجزيكم عنا وعن المسلمين خير ما جزى عباده الصالحين.
أنتم الآن -أيها الإخوة- مع الكلام النوراني المنور بآي التنزيل المعطر بحديث سيد المرسلين، أنتم مع سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز فليتفضل مشكوراً مأجوراً.
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وأمينه على وحيه، نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله إمام الدعاة إلى الله عز وجل، وقائد الغر المحجلين، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فقد سمعنا جميعاً هذه الآيات الكريمات التي تلاها أخونا، فأحب أن أتكلم عليها، وهي قوله جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:18 - 20].
ربنا عز وجل في كتابه العظيم، خاطب المؤمنين في آيات كثيرة يأمرهم بالتقوى، وينهاهم عما يغضبه سبحانه، وينهاهم عن الاغترار بالدنيا وعن الاغترار بالشيطان.(394/4)
مفهوم التقوى
يقول جل وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الحشر:18] هذه الكلمة كبيرة جامعة تملأ الخير كله، فقد أمر بها سبحانه المؤمنين في هذه الآية وآيات كثيرات، وأمر بها -أيضاً- جميع الناس في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء:1] الآية {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج:1] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [لقمان:33].
فالتقوى: جماع الخير، هي: عبادة الله وتوحيده وطاعته وفعل ما أمر به واجتناب ما نهى عنه والوقوف عند حدوده، هذه هي التقوى والإيمان، وهي الهدى، والإسلام، والزهد.
فالتقوى: أن تتقي ربك بالعبادة وحده، والإخلاص له سبحانه في جميع العبادات، وأن تطيع أوامره وأن تنتهي عن نواهيه، والإيمان به، والرضا بما عنده، والحذر من عقابه، وأن تقف عند حدوده لا تتجاوزها ولا تتعداها: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا} [البقرة:229] هذه هي التقوى، وهي العبادة التي خلقنا لها: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] وهي التي أمرنا بها في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} [البقرة:21] وغيرها من الآيات.
فالواجب على كل مكلف أن يتقي الله من رجال ونساء من جن وإنس من عرب وعجم من أغنياء وفقراء من حكام ومحكومين، الواجب على الجميع أن يتقوا الله؛ وذلك بعبادته وحده، والاستقامة على دينه، وفعل أوامره وترك نواهيه؛ عن محبة وإنابة، وعن صدق وإخلاص، وعن رغبة ورهبة، نرجو ثوابه ونخشى عقابه، هذا هو الواجب على جميع المكلفين من الجن والإنس من الرجال والنساء من الأغنياء والفقراء من العرب والعجم.
ثم يقول جل وعلا: {وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] يعني: انظروا ماذا قدمتم للآخرة، وهذا من التقوى، الأب يحاسب نفسه وينظر ماذا قدم من التقوى، فالواجب على كل مكلف أن يحاسب نفسه وينظر ما قدم، ولا يغفل فإن الشيطان قد يزين له الغفلة، وهكذا دعاة الباطل، وهكذا حب الدنيا وشهواتها قد يلجئه إلى هذا الشيء.
فالواجب الحذر، والواجب أن يحاسب كل إنسان نفسه، وينظر ماذا قدم في عشيرته، فإن كان قدم عملاً صالحاً وتقوى فليحمد الله، وليسأل ربه الثبات، وإن كان قدم خلاف ذلك فليبادر إلى التوبة والإصلاح، والله يتوب على التائبين عز وجل.
(واتقوا الله) يكررها سبحانه لأهميتها والتأكيد عليها.
{إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر:18] من ادعى التقوى فإنه لا يخفى على الله، لا بد أن تكون التقوى دعوى صادقة؛ قولاً وعملاً، وعقيدةً بالقلب والعمل، فإن الله يَخْبُرُ أعمالنا ولا تخفى عليه سبحانه وتعالى.(394/5)
عاقبة نسيان الله
ثم يحذرنا من نسيانه كما نسيه أعداؤه بترك طاعته وتوحيده فيقول سبحانه: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} [الحشر:19] إذ أعرضوا عن الله وغفلوا عنه وعاملوه معاملة الناسي {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر:19] أي: فأنساهم مصالحها، وأنساهم أسباب نجاتها، وقصرت أعمالهم وشهودهم كلها فيما يضرهم ولا ينفعهم؛ لأن الله أنساهم أنفسهم فهم يعملون لهلاكهم ودمارهم {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر:19] وهم الذين خرجوا عن طاعة الله بأعمالهم الخبيثة.(394/6)
التشويق إلى الجنة
ثم يقول سبحانه مشوقاً للجنة ومحذراً من ضدها: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} [الحشر:20] لا شك أنهما لا يستويان، لا يستوي أصحاب الجنة وأصحاب النعيم المقيم؛ الأنهار الجارية، والنعم الكثيرة، والراحة التامة في جوار الرب الكريم، والنظر لوجهه الكريم، لا يستوي هؤلاء مع أصحاب الجحيم؛ أصحاب الأغلال والزقوم، أصحاب الحميم والسموم، لا يستوي هؤلاء وهؤلاء، ولهذا قال سبحانه: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر:20] نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، هم الفائزون في الحقيقة في الدنيا والآخرة.
فالواجب على المسلمين جميعاً في كل مكان حكاماً ومحكومين أن يتقوا الله، وأن يراقبوا الله في شعوبهم وفي جميع المسلمين؛ وذلك بإلزامهم بتقوى الله، وزجرهم عن محارم الله، وإيقافهم عند الحد الشرعي، هذا هو الواجب على جميع حكام المسلمين، وعلى كل قادر من مدير وقاضٍ ورئيس قبيلة إلى غير ذلك، الواجب على جميع المسلمين أن يتقوا الله، كما يجب على جميع المكلفين وإن كانوا من عامة الناس يجب على الجميع أن يتقوا الله، وأن يلزموا طاعته التي أوجب عليهم، ويحذروا معصيته، ويسألوه الثبات، ويحذروا أنفسهم، ولكن أرى من جميع الحكام والرؤساء عليهم أن يتقوا الله أكثر، وأن يلزموا شعوبهم ما أوجب الله عليهم من طاعته، ويحذروهم نقمته، ويراعوا ذلك ويراقبوه؛ بالطرق السديدة، وبالرجال الأمناء حتى يستقيم الأمر، وحتى يعبد الله وحده، وحتى يؤدى حقه، وحتى ينتهي الناس عن معصيته ومخالفة أمره.(394/7)
منة الله على عباده بنشر الدين
وقد منَّ الله على الجزيرة العربية بدعوة قديمة، دعوة إسلامية، دعوة موافقة لما عليه أهل السنة والجماعة؛ وهي دعوة شيخنا ومحدثنا محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فقد كانت هذه الجزيرة في جهل عظيم، وعبادة للقبور والأشجار والأحجار، وتحكيماًَ للقوانين ولعادات القبائل، فجاء الله بهذا الشيخ رحمه الله وهو محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي التميمي رحمه الله، قرأ في نجد والحجاز والبصرة، تعلم على جملة من المشايخ الأخيار، وهدى الله قلبه وسدد مساعيه حتى قام بالدعوة إلى الله عز وجل في هذه الجزيرة في حريمنة ثم في العيينة ثم في الجزيرة ثم في أبها، ودعا إلى الله ونشر التوحيد، ودعا إلى هدم القباب، وهدم مشاهد الشرك وأعناق الشرك، ثم ساعده على ذلك الإمام محمد بن سعود رحمه الله مساعدة عظيمة، فهدى الله بهما الناس في هذه الجزيرة من الظلمات إلى النور، ورفع بهما هذا الجيل العظيم جيل الإسلام، وهدم الله بهما قواعد وأسس الشرك وعبادة غير الله سبحانه وتعالى، وحكَّما شريعة الله في عباد الله، وجاهدا في سبيل الله هما وأنصارهما، فكان هذا من رحمة الله لهذه الجزيرة ولغيرها.
فإن الدعوة انتشرت وخرجت عن الجزيرة إلى الهند والشام والعراق وأفريقيا، ونقلها العلماء، ونفع الله بها العباد في أماكن كثيرة، فدعوا إلى الله ووجهوا الناس إلى الخير وإلى توحيد الله سبحانه وتعالى، ونفوا الشرك بالله فصارت دعوة عظيمة مباركة في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، رحم الله بها العباد، وأنقذهم الله بها من الشرك والظلم، وعبادة الأشخاص والأصنام والأوثان، إلى عبادة الله وحده سبحانه وتعالى.
ثم استمرت هذه الدولة وهؤلاء العلماء من ذرية الشيخ محمد وأنصاره من الدعاة من نجد وغيرها في الدعوة إلى الله، ومعهم آل سعود وأنصارهم في الدعوة إلى الله، وترغيب الناس في الخير، وإقامة دين الله، وإقامة حدود الله في أرض الله، وفي سبيل الله، من ذاك الوقت إلى يومنا هذا، وهذه من نعم الله العظيمة.
فالواجب الدعاء لهم بالمغفرة والرحمة، والدعاء للموجودين منهم بالتوفيق والهداية، ونسأل الله للموجودين التوفيق والهداية، وأن يبين لهم على المسلك الذي سلكه آباؤهم من آل الشيخ وآل سعود، نسأل الله أن يعينهم على إقامة الحق وفي ذلك الخوض، وأن يوفقهم لكل ما فيه الصلاح لعباده، وأن يعينهم على ذكره وفقهه وحسن عبادته، وأن يوفق علماءنا جميعاً في التعاون معهم في الدعوة إلى الله، ونشر دين الله، والصد على أعداء الله، فإن هذا هو الواجب على العلماء، الواجب على العلماء في هذه الجزيرة وفي كل مكان أن ينشروا دين الله، وأن يعلموا الناس دين الله، وينشروا توحيد الله والإخلاص له، ويعلموا الناس ما يهمهم من أمر دينهم، وأن يدعوهم إلى الإخلاص وإلى نبذ الشرك ومحاربة أسبابه وذرائعه وقواعده؛ من عبادة القبور والبناء عليها، وعبادة الأشجار والأحجار إلى غير ذلك من أصول الشرك وقواعده.
علينا جميعاً ونحن العلماء في هذه الجزيرة وفي بقية أرض الله في كل مكان في أفريقيا وأوروبا وأمريكا وفي بلاد خراسان وفي كل مكان.(394/8)
الواجب الملقى على العلماء والدعاة
على كل حال: على علماء الحق وعلماء الدين أن يتقوا الله، وأن يجتهدوا في نشر دين الله، وتعليم الناس ما أوجب الله عليهم، وتحريم ما حرم الله عليهم وأساس ذلك توحيد الله والإخلاص له والقيام بحقه سبحانه، هذا هو الأساس العظيم، وهو معنى: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أن يعلموا الناس توحيد الله وأن يبينوا لهم حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك، ويحرضوا على الاستقامة على دين الله والحذر من محارم الله، ويتصفوا بالاستقامة على الحق وعلى شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، هذا هو واجب أهل العلم أينما كانوا، في دروسهم، وفي خطبهم على المنابر، وفي محاضراتهم، وفي ندواتهم، يجب على كل العلماء أن يسلكوا هذا المسلك، وأن يعلموا الناس دين الله وينشروا بينهم دين الله من طريق الكتاب والسنة؛ من طريق الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وأن يدعوا لولاة الأمور في كل مكان أن الله يهديهم ويصلحهم، ويعينهم على نشر الحق، والدعوة إليه، فإنهم بحاجة إلى الدعاء من إخوانهم المسلمين.
نسأل الله أن يوفق علماء المسلمين في كل مكان للقيام بواجبهم، والدعوة إلى الله، ومناصرة الحق وأهله، ونشر الحق بين الناس، كما نسأله أن يوفق جميع المسلمين في كل مكان للفقه في الدين والاستقامة عليه، وأن يصلح قادتهم، ويعينهم على كل ما فيه رضاه، وعلى كل ما يقربهم منه ويباعدهم من غضبه سبحانه وتعالى، كما نسأله سبحانه وتعالى أيضاً لولاة أمرنا أن يوفقهم للعلم النافع والعمل الصالح والفقه في الدين، وأن يعينهم على كل ما فيه صلاح العباد والبلاد، ويصلح لهم البطانة، ويجزيهم عما فعلوا من الخير أحسن الجزاء، ويعينهم على إزالة كل شر وإقامة كل حق؛ إنه جل وعلا جواد كريم، كما أسأله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم من أنصارهم ومن أعوانهم في الحق، وممن يتكاتف معهم ويسعى معهم في كل حق وهدى، وفي ترك كل باطل إنه جل وعلا جواد كريم.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
(المقدم):
شكر الله لكم وجزاكم عنا أفضل ما جزى عباده الصالحين.(394/9)
قصيدة للشيخ العشماوي بعنوان: حوار أمام بوابة الهزيمة
االآن فمع سَبْحٍ شعري جميل، مع سادة الكلمة وحسان الصحوة، مع أبي أسامة عبد الرحمن بن صالح العشماوي.
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
كنت أودُّ أن ألقي عليكم في هذه الليلة قصيدتي التي بعثت بها إلى سماحة الوالد الشيخ: عبد العزيز بن عبد الله بن باز ولكنني آثرت ألا ألقيها؛ لأنني أعلم أن المدح يضايقه، ونحن لا نمدحه إلا لأنه يستحق ذلك منا وأكثر منه، ولهذا فلن ألقي القصيدة حتى أريح نفسية شيخنا جزاه الله خيراً هذه الليلة.
وألقي عليكم إحدى القصائد التي وقع عليها اختياري هذه الليلة وما اخترتها بعمق، ولكنني وجدتها قريبة مني عنوانها: "حوار أمام بوابة الهزيمة":
طاب المكان وطاب فيه مقام وتفتقت عن زهرها الأكمام
وجرت سواقي الحب ينبت حولها نخل وترتع حولها الأغنام
والشمس تعزف للروابي نورها فيذوب طلٌّ تحتها وغمام
والأرض تروي بالنبات حكايةً خضراء يكبر عندها الإلهام
صور من الأحلام تثلج خاطري ولقد تسرُّ العاشق الأحلام
صور رسمت أمام قلبي لوحة منها لعلَّ جراحه تلتام
صور وتنسفها وقائع أمتي نسفاً ويبتلع المكان ظلام
وعلى رصيف الليل طفل واجم ٌ نظراته نحو القلوب سهام
وسؤاله الملهوف يحرق مهجتي أو ليس ديني يا أبي الإسلام
أو ليس منهج أمتي قرآنها فبه لها في العالمين مقام
أو ليس قدوتنا الرسول محمد تهدى إليه صلاتنا وسلام
أو ما لنا في المجد ألف حكاية تعبت على تدوينها الأقلام
أو ما جرت أنهارنا رقراقة بالخير ترفع فوقها الأعلام
أو ما لدينا النبع يصفو ماؤه وعليه من شغف القلوب زحام
أولم نكن جسر النجاة لعالم يشقى به الضعفاء والأيتام
أولم تصغ بدر بداية مجدنا لما تهاوت عندها الأرقام
ألفٌ تقابل نصف ألفٍ إنها لأدلة للواهمين تقام
أولم يقم بالفتح صرح عقيدة في صدرها للمكرمات وسام
أو ما ترى في الكون صوت بلالنا وعلى صداه تهاوت الأصنام
أولم تكن ذات السلاسل لوحةً مرسومة وإباؤنا الرسام
أو ما رأى اليرموك كيف استبشرت ببزوغ فجر المسلمين الشام
أولم تكن للقادسية قصة أدلى بوصف شموخها التمتام
أولم نعلق في المدائن شمعة بيضاء فر أمامها الإظلام
أولم نلقن قيصراً وحشوده درساً تَحار أمامه الأفهام
أولم ندع كسرى على إيوانه يبكي وتأكل صدره الآلام
أولم يسلم جاذويه سلاحه فرقاً ويندب حظه بهرام
أولم تخض بحر البطولة خيلنا وبقلب أندلس لها إعظام
أولم تقل للصين خيل قتيبة جئنا يزف صهيلنا الإقدام
أولم تصغ حطين لحناً خالداً تهفو إلى أنغامه الأنغام
أولم تكن في عين جالوت لنا همم لردع المعتدين عظام
أو هكذا ننسى المفاخر مثلما يُنسي الصغير هوى الرضاع فطام
أو هكذا أبتاه تسكر أمتي سُكراً يقدم كأسه الإعلام
أو هكذا توهي عزائم جيلنا قصص تصور فحشها الأفلام
قل لي أبي: أنظل نأكل خبزنا وعليه من دمنا المراق إدام
قل لي أبي: أنظل نشرب ماءنا والقدس يهتك عرضها وتضام
قل لي أبي: أيبيت طفلٌ ساهراً في كفه حجر ونحن ننام
ورمت عيون المخبرين وراءه وعلى شفاه الصامتين خطام
سكتوا لأن السيف مسلول إذا نطقوا بما لا يرغب الأقزام
سيفان يا أبتاه: سيف عدونا صلتٌ وسيف سلَّه الحكام
وغرور أمريكا أحال رجالنا خشباً تسمر فوقه الأحلام
عقب الشيخ ابن باز رحمة الله عليه في هذا المكان وقال: لو تغير البيت يكون طيب -أي: البيت الذي فيه كلمة أمريكا -، فقال العشماوي: طيب جزاك الله خيراً نغيره إن شاء الله.
أو ما لنا أبتاه عزم صادق أو ليس بين صفوفنا مقدام
أو ما لنا في السلم نهج واضح أو ما لنا وقت الحروب حسام
أو مالنا في عالم اليوم الذي يجري طريق واضح ونظام
أبتاه! هذا بيتنا قد هدمت جدرانه وأمامنا الهدام
أبتاه! هذا جسم أمتنا سرت فيه اللظى واستشرت الأورام
أبتاه! هذا درب أمتنا شكا فيه الثرى ما تصنع الألغام
كفر وربك يا أبي ينوي بنا شراً ونحن كأننا الأنعام
قل لي أبي: أنظل نلعق صمتنا وعلى الأنوف مذلةٌ ورغام
أنظل نخفض للصليب رءوسنا وينام فوق فراشنا الحاخام
أو هكذا أبتاه ننسى ديننا ويزيحنا عن رشدنا استسلام
كان الأب المسكين يحبس دمعه ولحزنه بين الضلوع ضرام
أبني لا تنطق فقد ألجمتني أواه كم يؤذي الكريم لجام
هذي هي الأمراض قد فتكت بنا في عصرنا ودواؤها الإسلام
فقال الشيخ للعشماوي: إن الأبيات طيبة ولكن طلب من العشماوي أن يصلح من الأبيات بعض الشي، فقال العشماوي له: سأغير إن شاء الله ما استطعت.
(المقدم)
لا فض الله فاك!(394/10)
كلمة للشيخ سلمان العودة عن سلامة الصدر
أما الآن مع فضيلة الشيخ سلمان بن فهد العودة في كلمة مختصرة:
بسم الله الرحمن الرحيم، إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:
فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، سماحة الوالد الكريم! أصحاب الفضيلة! أيها الإخوة! إنني أعجب حين أقوم متحدثاً أو أقعد متحدثاً بينكم، ففي هذا المجلس من الأفاضل والمشايخ من هم أجدر بالحديث وأولى به، لكنني لم أملك إلا الموافقة على هذا الطلب، وأسأل الله تعالى أن يلهمني ويسددني.(394/11)
شأن الإمامة في الدين
أيها الإخوة! إن القرب من الصالحين كله خير وبركة، فعند ذكرهم يرجى نزول الرحمات، ويكون ذكرهم داعياً إلى الاقتداء بمآثرهم والسير على منوالهم والنسج على طريقتهم، وإن هذه الأمة تُعدُّ اليوم بما يزيد على مئات الملايين، بل تاريخ هذه الأمة لم يبدأ منذ ستين سنة أو سبعين سنة، تاريخ هذه الأمة مضى عليه ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة؛ فكم تظن من الناس مشوا على ظهر هذه الأرض ووطئوها من أهل الإيمان ومن أهل التوحيد، بل ومن أهل العلم أيضاً، ولكن كم أولئك الذين بقيت مآثرهم وخلد ذكرهم؛ فأصبح الناس يذكرونهم بالخير؛ فيترحمون عليهم، ويدعون لهم، ويقبسون من علمهم، على رغم أن بينهم وبينهم مفاوز من السنين وأحقاباً متطاولة، وعلى رغم أنهم قد يكونون في مناطق بعيدة نائية، إن الناس اليوم يستفيدون من علم شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أكثر مما يستفيدون من علم معظم المعاصرين؛ وكأن هذا الإمام حيٌ بيننا، وإن كان موسداً في قبره إلا أنه حيٌ بيننا بعلمه وبتراثه وبكتبه وبمواقفه وكما قيل:
يا رُبَّ حيٍ رغام القبر مسكنه ورب ميت على أقدامه انتصبا
هذه الأمة التي يقولون: عددها ألف بليون إنسان ومائتا مليون إنسان، هذا الرقم من حيث العدد، كم تأثير هذه الأمة؟ وكم إنتاجية هذا العدد الكبير؟
إن فئةً قليلة من أعداء الإسلام قد بلغوا بهذه الأمة مبلغاً عظيماً؛ لأنهم جدوا واجتهدوا وحاولوا وبذلوا، أما هذه الأمة فهي أرقام وأعداد، لكن لو أتيت إلى الذين يقومون بما أوجب الله عليهم من العبادة، والعلم، والدعوة، والجهاد، والصبر لوجدتهم قليلاً، وكما قيل:
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل
ويا سبحان الله! كأن الدعاة إلى الله وكأن العلماء رفاق سفر طويل طويل، فهم يبدءون كثيراً ولكن يتساقطون واحداً بعد الآخر، كلما بعدت المفازة واشتد الأمر وعظم الخطب، ولا يبقى إلا من حكم الله تعالى لهم بأنهم أئمة، قال الله عز وجل: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فنسأل الله تعالى أن يجعلنا وإياكم من هؤلاء.
قال سفيان: بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين؛ أن يكون عند الإنسان يقين بالحق الذي يحمله ويدعو إليه، يقين من الله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام:57] فهذا اليقين ما أخذه تقليداً ولا أخذه تأثراً بالأتباع والدهماء ومن حوله من الناس، وإنما أخذه بالدليل من القرآن ومن السنة الصحيحة، فاستقر في قلبه وآمن به، وجرى منه مجرى الدم في العروق، فلم يعد يرتاب فيه على رغم قلة النصير والمعين، وكثرة المعارض، فأصبح عنده يقين بدينه، ثم أصبح عنده صبر على ذلك، صبر جميل ليس فيه جزع ولا تشكٍ، ولا تسخط ولا تردد، بل فيه ثبات على هذا الدين، وإصرار عليه، ودعاء أن يثبت الله تعالى قلبه فلا يزلَّ ولا يزيغ.(394/12)
أعظم وسائل الثبات
أيها الإخوة! إن من أعظم وسائل الثبات التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يسألها وهو في سجوده فيقول: {يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك} أن يملك الإنسان قلباً سليماً؛ ليس فيه حقد، ولا غل، ولا كراهية، ولا بغضاء، ولا حسد، ينام هذا الإنسان وليس في قلبه حقد على مسلم لخير أعطاه الله إياه، وإن جاز لنا أن نتكلم عن بعض الحضور فإنني أقول: إن مما استفدته واستفاده غيري من طلبة العلم، استفدناه نظرياً ونسأل الله أن يعيننا جميعاً على تطبيقه وتحقيقه من سماحة الوالد سلامة الصدر، وأن يحرص الإنسان على أن يقابل الإساءة بالإحسان، ويقابل المنكر بالمعروف، ويقابل المعصية بالطاعة، وأن يعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويصل من قطعه، فإن هذا هو الأمر المتعين، قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
أي: خذ ما جاء من الناس عفواً بلا تكلف ولا عنت ولا مشقة، (وأمر بالعرف) أي: بالخير الذي ينفع الناس في دينهم ودنياهم، ومن تنكب هذا وذاك فعليك بالإعراض عنه وحسن المقال، قال الله عز وجل: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً} [الإسراء:53] فتحري الإنسان طيب الكلام، وحسن الدعاء لإخوانه، والرغبة في هدايتهم، والشفقة عليهم، وعدم تصديق قالة السوء عنهم مهما كانت؛ فإن هذا من أسباب جمع الكلمة، ومن أسباب صفاء القلوب، والله تعالى قال على لسان خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام قال: {وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:87 - 89].
فسلامة القلب أمر عظيم، وربما نستطيع أن نتكلم جميعاً عن هذا الأمر ونفيض فيه وندعو الناس إليه، لكن الشأن والخطب هو: هل يستطيع الواحد منا أن يضع خده على وسادته فلا يشعر في قلبه ببغضاء لمسلم؟ نعم قد ترى أن فلاناً ظلمك، وفلاناً أخطأ عليك، وفلاناً أساء إليك، وفلاناً قال، وفلاناً فعل، وهم -أيضاً- يرون أنك قلت وفعلت وظلمت وأخطأت، فالشأن كل الشأن أن تستطيع أن تصفي قلبك، فلا تجعل فيه مستقراً لبغضاء مسلم، ولا لحقد على مسلم، يكفيك أن في قلبك محبة الله تعالى، ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم، ومحبة الأخيار، وبغض الكافرين والمنافقين الذين بغضهم عبادة؛ بل جزء من الإيمان، بل هو جزء من تحقيق معنى (لا إله إلا الله) التي هي نفي وإثبات؛ إثبات الألوهية لله تعالى وحده ونفيها عمن عداه، ويتبع ذلك محبة الله ومحبة رسله والملائكة والأولياء والصالحين، وبالمقابل بغض الشرك والمشركين، وبغض الأوثان وأهلها كما قال الخليل عليه الصلاة والسلام: {كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4] فلم يعد في هذا القلب مستقر لبغض المؤمنين وبغض الصالحين ولو وجد منهم ما وجد من خطأ أو تقصير أو ما تظنه أنت خطأً أو تقصيراً في حقك، أو ظلماً لك أو ما أشبه ذلك.
وإنني أذكر قصة رواها أحمد والبزار وغيرهما وقوى إسنادها الهيثمي في مجمع الزوائد: {أن عبد الله بن عمرو بن العاص كان جالساً عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تقطر لحيته من أثر الوضوء، فأراد عبد الله بن عمرو بن العاص أن ينظر شأن هذا الرجل، فقال له: إنه كان بيني وبين أبي ملاحاة، وإنني آليت ألا أدخل البيت ثلاثة أيام، فأريد أن أبيت عندك، فذهب معه وبات عنده، فنظر في صلاة هذا الرجل فلم يجد عنده كثير صلاة، ونظر في صيامه فوجده كغيره من الناس، فلما تمت الأيام الثلاثة قال له: يا هذا! لم يكن بيني وبين أبي شيء ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال كذا وكذا؛ فأحببت أن أنظر بم بلغت ما بلغت، قال: أما إذ قلت ذلك؛ فإنني أبيت يوم أبيت وليس في صدري حقد على مسلم على خير أو فضل أعطاه الله إياه}.
وقد يستطيع الواحد منا أن يحسن صلاته، أو أن يعفي لحيته كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، أو أن يقصر ثوبه كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد يستطيع أن يفعل كثيراً من الأعمال الظاهرة، لكن أمر القلب عظيم يحتاج إلى صبر ومجاهدة وإلى مقامات {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:35] وإنني أعلم أن هذا الأمر خطير وهذا الشأن عظيم، وأنا فتحت الموضوع ولكني ما وفيته حقه، فألتمس إن أذن الإخوة المنظمون من سماحة والدنا أن يقول ولو كلمات يسيرات لعل الله أن ينفع بها الحضور، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(394/13)
كلمة لابن باز عن سلامة الصدر
بسم الله، والحمد لله، وصلى الله وسلم على رسول الله.
أما بعد:
فلا شك أن ما قاله أخونا الفاضل الشيخ: سلمان العودة فيما يجب على المسلمين من الدعوة إلى الله والتعليم والإرشاد والنصح لله ولعباده يرجع الأمر أنه أمر لازم والناس في أشد الحاجة إليه، العالم في أشد الحاجة إلى التعليم والتوجيه؛ لأن علماء السنة قلوا واشتدت الغربة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: {إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من صدوركم، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رءوساً جهالاً، فسئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا}.
فالواجب على أهل العلم أن يعتنوا بالدعوة إلى الله، وأن يكونوا على بصيرة مما يقولون، على كل واحد أن يهتم بالعلم وأن يقول عن علم، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف:108].
كل واحد مسئول فليتق الله وليقل عن علم أينما كان؛ في بلاده وفي غير بلاده، في السيارة، وفي الطائرة، والقطار، والسفينة، والباخرة، وفي كل مكان، يتقي الله ويدعو إليه، ويرشد الناس إلى الخير.
وعليه أن يكون سليم القلب من الغل على إخوانه وإن سمع شيئاً فليتق الله وليصفح وليعفو؛ لأن هذا أقرب للتقوى، وأقرب لجمع القلوب، وأقرب إلى الصلاح بين الجميع والتعاون، وليكون قلبه سليماً من كل ما يخالف شرع الله؛ من اتباع هوىً، ومن غلٍ على مسلم، ومن حسد لآخر، ومن دعوة إلى غير الله عز وجل، ويكون قلبه سليماً من كل إرادة تخالف شرع الله، ومن كل عمل يخالف شرع الله، ومن كل قول يخالف شرع الله، ومن كل هدف يخالف شرع الله، أن يكون هدفه وجهوده وأعماله وأقواله كلها في تحقيق ما شرعه الله وفي الدعوة إليه، وفي التحذير من خلافه؛ هذا هو طريق النجاة والسلامة، وبذلك نرضي الله وننفع المسلمين وتكثر أحبابه وإخوانه وينتفعون به.
نسأل الله للجميع التوفيق والهداية، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
كلام المقدم:
أثابكم ربي وشكر لكم وبارك فيكم، ووفقكم ونفعنا جميعاً بهذا الكلام المسدد، ووهب لنا من عنده طهارة القلوب.(394/14)
قصيدة للشيخ ناصر الزهراني بعنوان: النهر المسترخي
الأستاذ الدكتور: ناصر بن سعد الرشيد شاعر مُقل، ولكن إذا صهل ففحل من فحول الغرة، فنسأل أستاذنا شيئاً من هذا القليل ونحن نقول:
قليل منك يكفينا ولكن قليلك لا يقال له قليل
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فلقد وصف أخي الشيخ عبد الوهاب الشاعر الكبير الدكتور: عبد الرحمن العشماوي بأنه حسان هذه الصحوة، أما أنا فيشرفني بأن أنتسب إلى هذه الصحوة ولو كنت أبا دلامتها هذه الليلة، إنما عندي في حقيقة الأمر هي قصيدة عمرها أكثر من عشرين عاماً ولقد قلتها قبل حرب رمضان، وقد كنت في ذلك الوقت في دمشق ولذلك عنونتها: "النهر المسترخي".
وقد أحسست بأن شيئاً كالسلم سيحصل، فأريد أن أسمعكم جزءاً من هذه القصيدة هذه الليلة:
أرى دمشق حداداً لف سدته على عيوني فهذا الدهر صوّان
وهذه المرجة الحسناء شاحبة ميسون غائبة عنها وحسان
النهر يجري بها مسترخياً هرماً هل صار بينهما صد وهجران
هل شخت يا بردى في عنفوان صبا أم أثقلتك انتكاسات وأحزان
أم أن وكر هوىً أضنى بحجته ينبوع كبرك أن الحب سلطان
أم أن دعوة سلمٍ بات يرهقها دعاة سلمٍ غووا والسلم خذلان
أتتك فوق جناح الليل نغمتها فشل سطوك مأجور وعدوان
أما فتئت تعيش الحزن مكتئباً قد قدموك كأن الأرض قربان
حتى ضويت هزالاً ما تحركنا خرير مائك منهوك ووسنان
إن كان ضعفك من مجرى برمت به وما يحف به حور ولا بان
فابحث لنفسك عن مجرى يليق به ولو تولد فيك اليوم عصيان
واصرفه عن قنوات ماؤها أسنٌ فآسن الماء لا يهواه إنسان
متى أراك فإن القلب مضطرب وأنت من غضب يعلوك طوفان
لتجرف الشوك عن درب الألى عزموا فالشوك في دربهم للمجد ألوان
وتغسل الأرض من أوصابها أبداً حتى تقيك فإن الأرض أدران
فالويل مستعر والظلم منتشر والعيش فيها حزازات وأضغان
تباً لمبدأ أحزاب تفرقنا وإننا في رباط الله إخوان
يوماً سنكشف عن بطلان زخرفها قد آن أن يجمع الأقوام قرآن
حتى تكون بلاد الله واحدة سهلان أيسون أو فيسون سهلان
(كلمة الملقي):
بارك الله فيك، ولا فض الله فاك، وسددك ربك ومولاك.(394/15)
كلمة عوض القرني عن بعض التوجيهات للدعاة والعلماء
أما الآن فمع كلمة موجزة لفضيلة الشيخ: عوض القرني فليتفضل مشكوراً.
اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، تقدست أسماؤك، وتعالت صفاتك، ولا إله إلا أنت سبحانك.
مشايخنا الأفاضل! الحديث في مثل هذا الجمع الكريم من مثلي غير مستفاض، إذا حضرنا مع مثل هذه الوجوه الطيبة من مشايخنا وأساتذتنا وعلمائنا؛ فالجدير بنا أن نحسن الاستماع والتعلم، أما وقد قدمني الإخوة لهذه الكلمة.
فأقول:
أيها الإخوة: أولاً: نهنئ أنفسنا بلقائنا بسماحة شيخنا ووالدنا، ونهنئ أنفسنا بهذا الجمع الكريم المبارك، ونهنئ أخانا الكريم باجتماع هذه الكوكبة الطيبة في منزله في هذه الليلة، وإذا كان في كل منزل سيجتمع مثل هذا الجمع فليقتني في كل أسبوع منزلاً.
أيها الأحبة: أذكركم ببعض ما تعلمون ولا أعلمكم، وقد أشار الإخوة الأفاضل إلى مكانة هذه البلاد التي اصطفاها الله سبحانه وتعالى في مبتدأ أمر هذا الدين، والدور الذي ينبغي أن تؤديه في هذا الزمن، وأذكر بنظرة المسلمين إلى علماء هذه البلاد وإلى رجالها وإلى شباب الصحوة فيها، وأذكركم بمآسي المسلمين وجراحاتهم وقضاياهم، ولئن تباسطنا في الحديث فينبغي ألا تزول آثار تلك الجراح من قلوبنا.
وينبغي -أيها الإخوة المؤمنون- أن نعي رسالتنا في هذه الحياة، وأن نعلم أن الله سبحانه وتعالى قد شرفنا وكلفنا؛ شرفنا حين جعلنا ممن يحمل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم بعده ويبلغها للعالمين، ويجاهد في سبيل إعلائها، ويحب من والاها ويبغض من عاداها، وكلفنا سبحانه وتعالى حين جعل على عواتقنا حمل أعباء الرسالة بعد أن ختمت الرسالات بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأزعم أن القيام ببعض أعباء هذه الرسالة يقتضي منا أموراً كثيرة:
أول هذه الأمور: تصفية المقاصد والقلوب، وتوجيه ذلك إلى الله سبحانه وتعالى، وأن نراجع أفراداً وطوائف وجماعات مسيرتنا باستمرار، وأن نحدد وجهتنا إلى الله سبحانه وتعالى.
الأمر الآخر: أن نجرد المتابعة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأن نلهج بذلك في كلماتنا ومحاضراتنا وندواتنا، وفي منتدياتنا ونوادينا، وفي إعلامنا وتعليمنا؛ حتى يكون صلى الله عليه وسلم هو القدوة الحية الماثلة للعيان؛ ليس للعلماء وطلبة العلم فقط؛ بل لجميع طوائف الأمة من رجالها ونسائها وشبابها وشاباتها، وأن يكون دور الدعاة والعلماء دور الجداول الموصلة إلى البحر الأعظم محمد صلى الله عليه وسلم.
والأمر الثالث: هو أن توحد الصفوف، وتأتلف القلوب، وتجتمع الكفوف، وأن نكون كما وصف الله سبحانه وتعالى المؤمنين: بنياناً مرصوصاً، وكما وصفه محمد صلى الله عليه وسلم: جسداً واحداً، حينئذٍِ -أيها الإخوة الكرام الأفاضل- نستطيع أن نؤدي الرسالة التي كلفنا الله سبحانه وتعالى بها، وحينئذٍ نستطيع أن نلبي نداءات أمتنا واستغاثاتها في كل مكان تستغيث فيه وتنادي باستمرار: وا إسلاماه! وا إسلاماه!
أيها الإخوة الكرام: أسأل الله سبحانه وتعالى أن يسلك بنا سبيل الرشاد، وأن يهدينا سواء السبيل، وأن يجعلنا من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(394/16)
قصيدة ناصر الزهراني عن دعوة الأنبياء
المقدم:
أما الآن فنطوي صفحات هذا اللقاء ونختمه بصفحة شعرية رسم معانيها بكلماته أخونا الشاعر: ناصر الزهراني فليتفضل مشكوراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
صاحب السماحة! مشايخنا الكرام! أعتذر إليكم فكم كنت أتمنى أن أكون في هذا اللقاء مستمعاً، وأن أكون هادئاً مرتاح البال؛ لأنه ليس لدي مشاركة، وقد أتيت ولم أعد فقرة في هذا اللقاء، إلا أن أخي الكريم الشيخ عائض حفظه الله ألح وأبى إلا أن يكون لي مشاركة، فدخلت في تجربة طويلة أعتذر لأن الوقت لم يسمح لي بأن أفرغ هذه التجربة كاملة، فربما ترون في هذه القصيدة شيئاً من التفكك أو النقص أو الخلل؛ لأنها لا تزال إلى الآن عظم، وكنت أتمنى أن أسلمها للشيخ عائض على المفتاح.
جيرة تشترى وقصر مشيد وفؤاد بأهل نجد سعيد
يا أبا عبد الله فأنس بدارٍ في بلاد يطيب فيها الوجود
في بلاد للحق فيها جذور راسيات والقوم فيها أسود
يا ربيب البيان جاءت جموع قادها الحب والرضى والسعود
يا سليل الكرام رب وجوه شابها الحقد فهي كالفحم سود
طبت نفساً وزدت فخراً وأنساً حينما زارك الإمام الرشيد
قد أنسنا سماحة الشيخ أنساً لا يجارى والليل ليل سعيد
القوافي تهيم في وصفك الأغـ ـلى ويحلو إذا ذكرت النشيد
لن أسوق الثناء والمدح إني مفعم بالأسى وجرحي شديد
يا سليل الكرام ما كان شعري سلماً يبتغى عليه الصعود
إنما الشعر نبض قلبي وقلبي عن خداع الصديق دوماً بعيد
إيه يا صاحب السماحة عذراً إن قسونا أو ندَّ لفظ شديد
ذاك طبع المحب يقسو ولكن قلبه طيب محب ودود
أيها العالم المبجل شعري قال شيئاً مما تريد الوفود
كم صبرنا وكم وعدنا وعوداً وانتظرنا فأين تلك الوعود
أيها العالم الجليل امتحنا وأرى الخطب كل يوم يزيد
نحن نأوي إليك في كل كرب بعد ربي فأنت ركن شديد
أيها الشيخ ليس يثني خطانا عن هدى مالك الملوك الوعيد
نبذل النفس والنفيس ليبقى وليعلو في أرضنا التوحيد
مالنا مطمع ولا نيل غنمٍ فرضا الله منتهى ما نريد
نحن أتباع سنة وكتاب ما جهلنا فالدرب درب سديد
ثار فيه الدعاة من عهد نوح ومضى فيه صامدين الجدود
كم دعا صالح ثمود لتمشي في طريق الهدى فزاد الشرود
سخروا منه أعرضوا عن هداه فنجا صالح وخابت ثمود
وأبت عاد داعي الحق فيها كم دعاها لمنهج الله هود
فانبروا يصرخون يا هود هذا دين آبائنا فماذا تريد
هذه دعوة تخالف نهجاً نرتضيه وليس فيه القيود
أرسل الله ريح صرصر تنـ ـسف الظلم وأهله وتبيد
وطغى في البلاد فرعون قهراً وعلواً والظلم ظلم شديد
قال في خسةٍ: أنا الرب فيكم دون خوف فالشعب شعب بليد
قال موسى في حكمة وهدوء أيها الحاكم العظيم المجيد
دع بني إسرائيل من ربقة الـ ظلم فكلنا للإله عبيد
فاستشاط اللئيم وازداد حمقاً ثم نادى هامان أين الجنود
صاح في قومه دعاة ضلال قصدهم ظلمكم وبغي مبيد
هيا هبوا لقتلهم كي تعيشوا في سلام وعزة يا فهود
فمضى الأغبياء حمقاً وجهلاً فانبرى البحر حالكاً لن تعودوا
وأبو الأنبياء أعظم داع ملؤه غيرة وعزم أكيد
لم يدع دربه ليرضي أباه لم يعثر خطاه مكر وكيد
هددوه بالضرب والقتل حرقاً وهو بالطود شامخ لا يحيد
أجج القوم نارهم فرموه فإذا بالحريق عيش رغيد
ومضى في طريقه في شموخ وتمادى في غيه النمرود
ساق ربي بعوضة زلزلته أين حراسه وأين الجنود
فإذا أشبعوه ضرباً وركلاً هدأت عنه ثم يصرخ زيدوا
إنه ثوب ذلة يرتديه خائن العهد والمضل العنيد
عاش ذو النون في حشى الحوت مضنى فدعا والدعاء قول مجيد
فرج الله كربه وحماه غمة تنجلي وعمر جديد
ثم سر كي ترى عجائب ربي لسليمان كيف لان الحديد
كيف يقوى أيوب من بعد ضر إنه النصر إنه التأييد
ولنا أسوة بأعظم داعٍ حيت الأرض صوته والوجود
إنه سيد الأنام جميعاً رحمة للورى وفجر جديد
كم رأى من خصومه من نكال وعذاب والمكر مكر فريد
يرفل المشركون في خير عيش وهو مستهدف طريد شريد
كان يدعو لهم ويلهج دوماً إن ربي بهم رحيم ودود
سار في همة إلى الله يدعو لا يبالي والعزم عزم أكيد
كفروا قومه فما أيدوه فأتاه من ربه التأييد
ثلة لبت النداء فهبوا لرضا الله سيد ومسود
حملوا راية العقيدة لما جاءهم في كتاب ربي وعود
فإذا بالفقير يمسي غنياً وإذا بالمسود فيهم يسود
وانقضت دولة الشرور وبادت والنفاق انزوى وفر اليهود
والثواب العظيم في جنة المولى ففيها الرضا وفيها الخلود
أيها الشيخ أي شيء سنروي إن تاريخنا عريق مجيد
ذلت الأسد في زمانك لما تركت مجدها وسادت قرود
قال الشيخ ابن باز لابد من تغييره، فقال ناصر الزهراني: المقصود اليهود، فقال: لابد من تغييره، وقال الشيخ ابن باز أيضاً: وكذلك ما يتعلق بفرعون يتغير، وقال أحد الحضور: وأيضاً كلمة الحاكم في: يا أيها الحاكم.
المقدم:
سماحة شيخنا! المتكلمون والأدباء والشعراء تلاميذ لكم يصوبون بين أيديكم.
ابن باز:
من باب التعاون على البر والتقوى.
المقدم:
ونحن سنقوم بذلك وما نحن إلا في مدرسة التلمذة أمامكم.
ابن باز:
الله يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} [العصر:3].
ثم قال الشيخ ابن باز: وكذلك وصف فرعون، بأن موسى سأله.
وقال الشيخ ابن باز أيضاً: وكذلك كلمة (القرود) احذفها.
بعض الحضور:
هو يقصد اليهود.
قال الشيخ ابن باز: ولا يهود ولا شيء، يضع بدلاً منه بيتاً حسناً، والشاعر يعرف كيف يتصرف.(394/17)
قصيدة للشيخ العشماوي بعنوان: من القدس إلى سراييفوا
حديثنا أيها الأحبة عن عالم الجرح لا يعني أننا نيئس أو نستسلم، فإن الله سبحانه وتعالى قد نهى عن القنوط، وأمرنا بالتعلق به عز وجل، وعند ذلك تزول عن عيوننا غشاوة اليأس والقنوط، هذه القصيدة من آخر القصائد التي كتبتها وأستطيع أن أقول: إنه لم يسمعها أحد في ميدان أو في أمسية عامة كهذه الأمسية إلا أنتم في هذه الليلة، عنوان القصيدة: من القدس إلى سراييفوا:
أزبلتني الوجدان وبكى قبل مقلتي الوجدان
سهم عينيك لم يصبني ولكن سلبتني إرادتي الأجفان
أنتِ لم تنطقي بحرف ولكن غار من صمتك البليغ البيان
لغة العين نظرة ذات معنى وحديث المشاعر الخفقان
أنتِ غيث في قيض جرحي هنيء وعلى شاطئ المنى الريحان
أنت في غامد ترانيم حب رددتها بلهفة زهران
أنت في قريتي الحبيبة نهر تتغنى بمائه الشطآن
لا تغيبي عني فإني لأخشى أن يجف الندى ويشقى الجنان
يصبح الظل لوحة من شحوب حين تشكو جفافها الأغصان
آه! لو تسمعين ما قال حزني وبماذا تحدث الطوفان
إن تريدي وصفاً لأمواج همي فاسمعي ما يقوله البركان
لا تقولي من أنت؟ إني محب أشعلت في فؤاده النيران
يرحل الشعر بي فمالي مكان مستقر ولا لشعري مكان
أكتب الشعر في بني ظبيانٍ فتغني بشعري القيروان
وتغني به بساتين يافا وتغني بلحنه لبنان
يرحل الشعر بي فوجه دمشق يتراءى ويهتف الجولان
وتغني صنعاء بعض نشيدي وتراني أمامها تلمسان
يرحل الشعر بي ففي أرض سينا ألف بيت يشدو بها الميدان
وعلى النيل والفرات بقايا من نشيدي يشجو بها السودان
وعيون العراق ترقب فجراً تحت أضوائه يتيه الزمان
يرحل الشعر بي إلى القدس لكن كسرت عند بابه الأوزان
آه! يا قدسنا تنكر قوم وأباحوك للعدو وخانوا
صنعوا قهوة الخضوع فلما أتقنوها تبرأ الفنجان
سار موج الإرهاب فيهم فقل لي كيف ساق السفينة القبطان
أإلى شاطئ دعاها أم إلى شاطئ جفاه الأمان
شرب البحر ماءه فتلاشى كل موج وماتت الحيتان
بحرنا اليوم لجة من سراب باع فيها حياته الظمآن
قلب مسرى نبينا يتلظى وعلى وجهه يثور الدخان
وبعينيه أدمع لا تسلني عندها كيف يصنع الفيضان
ودعاة السلام يبنون بيتاً ومحال أن يكمل البنيان
كيف تبنى البيوت فوق رمال كيف تبنى ومالها أركان
أرأيتم في الأرض آثار بيت ماله ساحة ولا جدران
مالهم يرفضون في كل صوت دون وعي كأنهم عميان
يا عيون السادات نامي طويلاً فقد اجتاح قومنا الإذعان
ملت الكأس شاربيها وألقى سرجه الحر في الطريق الحصان
كل من سطروا كتاب التصدي مسحوا أحرف الكتاب ولانوا
لعن المجد غيلة فبماذا سيلاقي الحقيقة الهرمزان
أنت يا من تسافرين بقلبي وعلى راحتيك ينمو الحنان
هل رأيت الطريق حين مضى بي في دروب صخورها كثبان
هل سمعت التاريخ لما دعانا فأبت أن تجيبه الأوثان
آه! مما تراه عين محب في زمان يعز فيه الجبان
أثقلتنا أوهامنا فرضينا ما يقول المكابر الخوان
شاب رأس الإباء لما رآنا نرتضي ما يقوله الرهبان
أيها الهارب الذي يتجلى كل يوم في فعله الطغيان
أيها الهارب المخبئ وجهاً أين تنوي المسير يا حيران
أوكل الجهات في الكون غرب أوكل الهواتف الغربان
لو تدوم الحياة ما مات كسرى وتهاوى من بعده الإيوان
هل درى البدر وهو يبغي كمالاً أن عقبى كماله النقصان
قال لي صاحبي: وجدت كتاباً قلت: لا يخدعنك العنوان
قال: عنوانه الكبير سلام عالمي قلت: انجلى البرهان
إنما هذه أكاذيب عصر يتلهى بأمره الشيطان
أمتي فيه كالسجينة تشكو وتعاني مما جنى السجان
فوقها صخرة من الوهم كبرى وعليها من لهوها قضبان
يضحك القوم بالسلام عليها ودليلي ما تشهد البلقان
(البوسنة والهرسك)
مسلمات ومحصنات ضحايا ألبستهن عارها الصلبان
ثملت أمتي من الكأس قل لي بعد هذا أيعقل السكران
كيف ترجو الخلاص مما تعاني وقد اختل عندها الميزان
أيها الحاكمون! هل من جواب صادق حين يسأل الرحمن
إنما هذه أمانة دين شأنها في الحياة لا يستهان
خشيت حملها الجبال الراوسي وتصدى لحملها الإنسان
أين أنتم أما لديكم قلوب أين أنتم أما لكم آذان
هان مليارنا وعز قطيع من يهود فكيف طاب الهوان
إن غدا همنا طعاماً وشرباً فعلينا يفضل الحيوان(394/18)
لماذا خلقنا؟
يتحدث الشيخ في هذه المحاضرة عن الحكمة من خلقنا، وبين أن الحياة الحقيقية هي في طاعة الله، وتكلم عن قارون أنه ما نفعه ماله يوم أعرض عن طاعة الله، وعن فرعون أنه ما نفعه ملكه يوم كفر بالحي القيوم، وعن العقوبة التي حلت بقوم لوط يوم تركوا شريعة الله.
وتعرض لقصص بعض من عرفوا الله في الرخاء فعرفهم في الشدة.
وختم المحاضرة بالحديث عن التوبة وفضلها وعواقبها المحمودة.(395/1)
الحكمة من خلق الإنسان
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثل ما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، عزَّ جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك، ولا إله إلا أنت.
في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، أنت رب الطيبين، لا إله إلا أنت، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضى.
اللهم صلِّ وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل.
اللهم صلِّ وسلم على صاحب اللواء المعقود، والحوض المورود، اللهم صلِّ وسلم على من هديت به البشرية، وأنرت به أفكار الإنسانية، وزعزعت به الوثنية، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
لماذا خلقنا؟
وإلى أين نسير؟
ومن يحاسبنا؟
وما هو مصيرنا؟
هذه أسئلة لا بد أن يجيب عليها من يريد الله والدار الآخرة:
لماذا خلقت أيها الإنسان؟
لماذا وجدت؟
لماذا جعل الله لك عينين ولساناً وشفتين؟
لماذا بصَّرك وأراك؟
لماذا علمك وأنطقك؟
لماذا أكلك وشربك؟
لماذا سترك وقومك؟
لماذا أسمعك وبصّرك؟
هذه الأسئلة لا بد أن يجيب عليها المسلم إن كان يريد الله والدار الآخرة، يقول الله للإنسان المتمرد: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الإنفطار:6] ما لك تمردت علينا -أيها الإنسان- وقد خلقناك ولم تك شيئاً؟
ما لك -أيها الإنسان- نسيتنا وقد علمناك، وجهلتنا وقد أدبناك، وتمردت علينا وقد أرويناك وأسقيناك وأشبعناك؟!
والله يقول: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} [الإنسان:1 - 3].
يا أيها الإنسان: خلقت من نطفة، وأتيت إلى الدنيا من بطن أمك وأنت تبكي وكأن بطن أمك أوسع لك من الأرض، فلماذا خرجت تبكي من بطن أمك؟!
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
لا إله إلا الله ما أغفل الإنسان! لا إله إلا الله ما أجفى الإنسان! لا إله إلا الله ما أظلم الإنسان! يوم يأتي من بطن أمه لا ملابس له ولا منصب ولا وظيفة ولا بيت ولا سيارة ولا جاه، ليسقط قطعة لحم على الأرض وهو يبكي، فإذا ما بصَّره الله وعلمه وأنبته وتملك، وأصبح له وظيفة، وأصبح ذا منصب وسيارة وجاه؛ نسي الله، وتمرد على حدود الله، وانتهك محارم الله وحدوده، فأين العقول؟!
وأين الأسماع؟!
وأين الأبصار؟!
الله يقول من فوق سبع سماوات: {الكبرياء إزاري، والعظمة ردائي، من نازعني فيهما عذبته} الله أكبر كبير، وأعظم عظيم، وأغنى الأغنياء، وأما أنت أيها الإنسان ففقير بن فقير، مسكين بن مسكين، إن لم يسترك الله افتضحت.
فيا عباد الله! يا من أتى إلى بيوت الله! يا من عود نفسه الصوم، وسجد في التراب لله!
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً(395/2)
قصة قارون وما فيها من عبر
هل الشرف المال؟
كان قارون أعظم من ملك المال في الدنيا، ثم لعنه الله لعنة تحيق به؛ لأنه ما عرف الله، آتاه الله مالاً وقال: يا قارون! خف من الله في المال، اتق الله في هذا المال، المال وديعة عندك يا قارون! أنت مسلوب أنت ومالك، ونحن ماذا نملك مما ملكه قارون؟
إن كان عند أحدنا فلة أو سيارة، أو بعض الأبناء، أو وظيفة فما تساوي ذرة من ذرات كنوز قارون.
قارون كانت مفاتيح كنوزه تنوء بها العصبة من الرجال، عشرة من الرجال لا يستطيعون حمل المفاتيح، فما بالك بالقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، فماذا فعل؟
خرج في أبهة وجبروت وكبر، والإنسان إذا نسي الله وما أصبح عنده صلاة ولا أوراد، جفل قلبه وأصبح قطعة حجر، أصبح قلبه مثل قلب الثور، لا يعي ولا يعرف ولا يفقه، يأكل ويشرب لكن له قلب لا يفقه به، له سمع لا يسمع به، وبصر لا يبصر به، فـ قارون أعطاه الله المال وقال: خف من الله في هذا المال، إنما هو يمتحنك الله به، لا تظن أن الأغنياء والتجار أعطاهم الله المال إكراماً لهم، لا.
قال تعالى: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:20 - 21] فهذه الحياة حياة تافهة، كالحمار يأكل ويشبع، لكن يقول الله عز وجل: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
الخواجة يسكن في الدور العاشر، والمسلم لا يجد كسرة خبز وقطعة من الخيمة في الصحراء؛ لأن الجنة أعدها الله لأوليائه تبارك وتعالى.
خرج قارون ومعه حلة يتبختر فيها، فقال له علماء قومه: اتق الله! {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ} [القصص:77] وعظوه.
كما يفعل بعض الناس الآن إذا أغناه الله بعد الفقر، وأَصَحَّ جسمه بعد السقم، وآتاه ذرية بعد أن لم يكن عنده ولد، نسي الله فتجبر على عباد الله، وصعَّر خده لأولياء الله في أرض الله، فـ قارون فعل مثل ذلك.
قالوا له: اتق الله، قال: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [القصص:78] الله يدري أنني أستحق الملك، أنا أخذته بعرق جبيني وجهدي وذكائي ودهائي، وهو كذاب على الله، دجَّال ما منحه المال إلا الله، ولا يرزق إلا الله، والله الذي لا إله إلا هو إن لم يرزقك الله؛ فلن يرزقك أهل الدنيا ولو اجتمعوا عن بكرة أبيهم، مفاتيح الخزائن والمال بيد الله عز وجل، القطر بيديه، الرزق بيديه، الإحياء والإماتة بيديه {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً * وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:1 - 3].
سبحان الله! كيف ينسى الإنسان؟!
أما يتذكر يوم أن كان ضعيفاً في بطن أمه، كان قطعة لحم لا يسمع ولا يبصر ولا ينطق ولا يتكلم، فلما أصبح قوي البنية، ويلبس ما شاء من الملابس أصبح لا يرى الناس شيئاً، خف من الله، لمن البقاء إلا لله
لمن الغنى إلا لله
لمن القوة إلا لله
وانظر إلى أحوال الناس تجاه الدنيا وزينتها، فإن قارون لما خرج علىقومه في زينته الدنيوية قال بعض قومه ممن قصرت عقولهم عن معرفة حقيقة الدنيا: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ} [القصص:79].
بعض الناس يظن أن الإنسان إذا أُمْهِلَ في الدنيا ورزقه الله أبناء وأولاداً وقصوراً وفللاً وعمارات وسيارات ظن أن الله يحبه، ولا يدري هذا الإنسان أنه قد يكون أعدى عدوٍ لله في الأرض، ويمكن أن يكون حسابه أن يكب على وجهه في النار، ولا يدري أنه قد يكون أكبر فاجر على المعمورة.
لكن الناس يختلفون في عقولهم وفي بصائرهم: {قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [القصص:79] أي: إن لـ قارون مكانة عظيمة عند الله، وإن ما عليه من نعيم لهو منحة من الله يحسد عليها.
{وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [القصص:80] العقلاء الذين يخافون لقاء الله ويتذكرون القبر وما بعده {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ} [القصص:80] قالوا: خافوا من الله؛ ثواب الله في الجنة أحسن من هذه الدنيا، والله الذي لا إله إلا هو إن كلمة: (سبحان الله) خيرٌ مما طلعت عليه الشمس وغربت.
كلكم يعلم قصة سليمان بن دواد عليه الصلاة والسلام في القرآن، الذي ملك الجن والإنس والطيور والزواحف وكل ما هبَّ ودبَّ، حتى الريح التي تمر علينا صباح مساء كانت تتحرك بأمره، إذا أراد أن يرتحل من بلد يأمر الريح {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] يقول: يا ريح! احمليني إلى الهند، فتأتي الريح فتكون كالبساط، ثم يركب هو ووزراؤه وحاشيته فتنقله في لحظات، حتى إذا أتى لينزل في الأرض كيف تنزل به؟
يقول الله عز وجل: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] يعني: ما تنزل بقوة، إنما تنزل تدريجياً حتى يهبط في الأرض، فارتفعت به الريح مرة من المرات ومعه من جنوده وقوته ما لا يعلمه إلا الله، ولما أصبح في السماء مر تجاه الشمس فحجب ضوء الشمس عن فلاح يشتغل في الأرض بالمسحاة، فنظر الفلاح إلى السحاب فرأى سليمان عليه السلام والريح تمر به، قال الفلاح: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، فسمعها سليمان عليه السلام فقال للريح: اهبطي بي هنا، فهبطت بجانب الفلاح قال: ماذا قلت يا فلان؟
قال: ما قلت إلا خيراً (خاف من سليمان).
قال: ماذا قلت؟
قال: والله ما قلت إلا سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً.
قال: والذي نفسي بيده، لقولك سبحان الله في ميزانك خير مما أوتي آل داود.
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {لأن أقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس}.
رأيناهم والله أغنياء يملكونها بالملايين، لا يتعاملون إلا بالشيكات والمصارف العالمية، وإن بعضهم توفي في مدينة نائية عن تجارته ومدينته، حتى طلب له كفن من التجار بالشحاذة ودس في التراب، أين الذهب؟!
أين الفضة؟!
أين الجاه؟!
لا جاه إلا لمن أسعده الله.
يا متعب الجسم كم تسعى لراحته أتعبت جسمك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
يا عامراً لخراب الدهر مجتهداً بالله هل لخراب الدهر عمران
وفي هذه الأيام لو تدخل مجلس أحدنا لوجدته مزركشاً ومزخرفاً كأنه إيوان كسرى وقيصر؛ فيه الكنبات والروائح والملبوسات والمفروشات والمطعومات والمركوبات، العطور شيء عجيب يذهل.
ماذا أعددنا للقبر؟
ماذا أعددنا لتلك الحفرة الضيقة؟
يدس فيه الإنسان لا ولد، ولا أهل، ولا زوجة، ولا أنيس، ولا حبيب إلا من أسعده الله.
والموت فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءة
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
لكن لا نفقه ولا نعي ولا نفهم، الله يقول لنا: افهموا، اسمعوا، تدبروا، اعقلوا؛ لكن القلوب قد ران عليها الخطأ، أظلمت وقست من السيئات.
كيف يعي قلب من يستمع الغناء صباح مساء؟! الأغنيات الماجنات من المغنين والمغنيات، الأحياء منهم والأموات، يصبح على الأغنية ويمسي على الأغنية، يركب السيارة ويسمع أغنية، ويدخل المجلس مع أغنية، أبعثنا للناس هكذا؟!
أكانت حياة الصحابة كحياتنا؟!
أجعلنا الله نعيش على هوامش الأحداث؛ أكل وشرب ونوم وغناء ورقص ولعب ولهو؟!
أين حياتنا؟!
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَ} [الأنعام:122].
كان مصير قارون أن قال الله فيه: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص:81] هذا هو الردى وهذه هي اللعنة والخسران وسوء الخاتمة {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ} [القصص:81] من الذي ينصر إلا الله، وإذا لم ينصر الله العبد لا ينصره أحد، والله لو كانت الدنيا وسكان الدنيا معك في أسرة لك فلا تعتز بأسرتك من دون الله، العزيز من أعزه الله بالطاعة، والذليل من أذله الله بالمعصية {فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ} [القصص:81] يقول الله عزَّ وجلَّ: هل له أسرة؟
هل كان معه قبيلة قامت تقاتل عنه بالسيوف؟
لا.
قوة الله لا تغلب، والله عزَّ وجلَّ يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] من الذي ينصر الرسل والمؤمنين؟
إنه الله، أما غير المؤمنين فلن ينصر الله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].
{فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ * وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} [القصص:81 - 82] يقول: أصبح الذين تمنوا الدنيا لما رأوا داره تخفوا في الأرض، أتدرون ما فعل؟
أتى في مصطبة من ذهب أي: دكان مرتفع مصبوب ذهباً، فجلس عليه بحلة في الصباح ومرَّ النبي موسى بن عمران عليه السلام، الداعية الكبير الذي دخل على فرعون، داعية لا إله إلا الله، الذي قاد الجيوش الجرارة لخدمة لا إله إلا الله؛ مرَّ على قارون وقال: يا قارون! اتق الله وقل لا إله إلا الله، فتكلم قارون بكلام بذيء في عرض موسى عليه السلام ولذلك قال عزَّ وجلَّ قال: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
ولذلك -الآن- الدعاة وطلبة العلم والعلماء والصلحاء وأهل الخير والعباد والزهاد ينالون نصيباً من هذا الاستهزاء والاستهتار والتعليق المرير، لكن قدوتهم في ذلك الأنبياء؛ فعليهم بالصبر.
يقول لقمان لابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان:17] ماذا يقول بعدها: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17] فإنك إذا أمرت ونهيت سوف تنالك الألسنة، وسوف تعترضك القلوب التي ما عرفت لا إله إلا الله.
موسى عليه السلام لقي الله عزَّ وجلَّ فكلمه كفاحاً بلا ترجمان: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] فلما كلمه قال: يا موسى! أتريد شيئاً؟
قال: نعم يا رب.
قال: ماذا تريد؟
قال: يا رب! كف ألسنة الناس لا يتكلمون في عرضي، يقول: يا رب! امنعني من ألسنة الناس لا ينالونني ولا يتكلمون فيّ ولا يغتابونني.
فقال الله: يا موسى! ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أرزقهم وأعافيهم وإنهم يسبونني ويشتمونني.
عندما خوطب قارون من قبل أهل العلم فقالوا له: اتق الله يا قارون فتكلم على الله، فقال موسى: اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، فنزل بيته في الأرض، فأراد أن يهرب فنزل البيت جميعاً، وكانت كنوزه تنزل معه، كانت قلعته كلها ذهب وفضة وكلها تنزل معه في الأرض، أراد أن يفر فما استطاع، لأنه محبوس في الأرض، فينزل رويداً ينادي: يا موسى يا موسى! أطلقني أطلقني فنزل وموسى ينظر إليه، فيقول الله تعالى في آخر القصة: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
الحياة معناها يا عباد الله! أن تعيش لله، وتموت لله، وتبعث لله، حياة ليس فيها صلاة ولا عبادة ولا اتصال بالله ليست بحياة، والعجيب من بعض الناس أنه راض عن نفسه، يرى أنه إذا كان له بيت وسيع وأبناء، ويأكل ويشرب، وعنده سيارات، وقد ارتاح إلى هذه الحالة أن الله راضٍ عنه، بالله هل سأل نفسه عن معاملته مع الله؟! هل سأل نفسه هل يداوم على الصلوات الخمس في المسجد؟!
هل علم كيف قلبه مع المسلمين؟!(395/3)
وقفات مع عمر بن الخطاب
الله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم لهداية الإنسان، فأتى عليه الصلاة والسلام والناس في جاهلية جهلاء، في حين لا تزال بعض أماكننا وبعض مناطقنا اليوم تعيش بعض الصور من تلك الجاهلية التي عاشها الناس قبله صلى الله عليه وسلم، أو عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هداية الناس، فلما أتى صلى الله عليه وسلم قال: {يا أيها الناس: قولوا لا إله إلا الله تفلحوا} وعاد الناس، واستجاب من أراد الله أن يستجيب {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24].
وممن استجاب لله: عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكلكم يعرف عمر الفاروق خليفة الإسلام، كان قبل الإسلام ليس له إرادة، ولا تفكير، ولا طموح، كان يعيش هكذا، مثل حال كثير من الناس؛ يأكل ويشرب وينام، لا يغضب إذا انتهكت حدود الله، ولا يحزن إذا فاتته صلاة، ولا يتألم إذا سمع شباب الإسلام غرقوا في المعاصي، إنما همه أن يبقى عليه رزقه ومرتبه ووظيفته، فأتى عمر فوضع يده في كف المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسلم، لما سمع قوله سبحانه وتعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] ومن يوم أسلم بدأ قلبه حياً مع الله؛ لأن الله يحيي القلوب بعد إماتتها، واستمر في الإسلام، وبعد عشرين سنة أو أكثر تولى خلافة المسلمين، فأصبح خليفة ذهب الدنيا وفضتها تحت يديه، وأصبح هو المسئول الأول، فماذا فعل؟(395/4)
زهد عمر
كان من أبسط الناس وأزهدهم وأفقرهم، ما كان يشبع من خبز الشعير، يوم الجمعة يصعد المنبر وعليه إزار فيه أربع عشرة رقعة، وبإمكانه لو أراد أن يلبس الذهب والديباج والحرير للبس، فرقي المنبر يوم الجمعة في عام الرمادة؛ عام الجوع والقحط.
عام الثامن عشر من الهجرة مرَّ قحط على المسلمين حتى رأوا الدخان يفوح من على الأرض، وحتى أكلوا الميتة، وحتى ما أصبح هناك نبتة خضراء، أكلوا أوراق الشجر حتى تشرمت أشداقهم، فصعد على المنبر وهو يبكي يوم الجمعة، وقال: [[يا رب! لا تعذب أمة محمد بسبب ذنوبي]] ذنوب عمر الزاهد، المجاهد، قائم الليل، صائم النهار، ونحن الآن إذا قلنا: نحن مذنبين قالوا: لا.
الحمد لله نحن من أحسن الناس، وما أذنبنا، والله إننا لنصلي ومستقيمين على طاعته ولا نريد شيئاً، ويا ليت الناس مثلنا.
عمر يقول على المنبر وهو يبكي: [[اللهم لا تعذب أمة محمد بسبب ذنوبي، يا رب أتهلك أمة محمد بعهدي؟]] ثم يبكي ويبكي الناس ويقول مخاطباً بطنه: [[قرقر أو لا تقرقر والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].(395/5)
عمر يتفقد الرعية
ينزل رضي الله عنه وأرضاه في ليلة من الليالي يطوف بعصاه بعد صلاة العشاء، يتفقد المريض والمسكين، والأرملة والجائع، كيف ينام وهناك أنفس لا تنام ولا ترتاح، فسمع بكاءً في بيت، فاقترب من البيت ووضع رأسه على صائر الباب، فسمع امرأة في الطلق -في النفاس- فأخذ يبكي -ذكر ذلك ابن كثير في البداية والنهاية - فقال مولاه أسلم: مالك يا أمير المؤمنين تبكي؟ فقال عمر: [[إنك لا تعلم يا أسلم بالألم التي تجده هذه المرأة، انطلق بنا يا أسلم إني أخاف أن يسألني الله عن هذه المرأة إن قصرت في حقها، فانطلق إلى بيت المال، وحمل جراباً من شحم ودقيق، وهو خليفة، ودخل البيت واستأذن من المرأة، وصنع لها طعاماً بيده الكريمة -هذه تربية لا إله إلا الله، تربية محمد صلى الله عليه وسلم، الذين غرس في قلوبهم لا إله إلا الله، أهل الجنة قصورهم في الجنة كالربابة البيضاء {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90]- فدخل عليها وصنع لها الطعام وقدم لها لتأكل فقالت: والله الذي لا إله إلا هو إنك خير من عمر بن الخطاب، وهو عمر بن الخطاب، ثم خرج فأخذ يبكي فيقول له مولاه: ما لك؟ قال: إني أخاف من الله أن يعذبني بسبب هذه الأمة]].(395/6)
عمر يسأل الله الشهادة فينالها
عمر رضي الله عنه وأرضاه، لما علم الله أنه صادق، وأنه يريد الله والدار الآخرة فاستجاب له دعاءه في آخر حجة حجها، لما وقف عند الجمرات الثلاث ورفع يديه، وقال: [[اللهم إنه انتشرت رعيتي، ورق عظمي، فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتة في بلد رسولك، قال له الصحابة: يا أمير المؤمنين! تريد الموت في سبيل الله في بلد رسول الله؟ -يعني: إن من يريد الشهادة يخرج إلى الثغور- قال: هكذا سألت الله، وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت]].
فخرج وعاد إلى المدينة، وفي أول ليلة نامها رأى رؤيا في المنام، رأى أن ديكاً ينقره ثلاث نقرات، فسأل بعض الصحابة ما تأويل الرؤيا، قالت له أسماء بنت عميس إحدى الصحابيات المؤمنات، وكانت تفسر الأحلام وتعبر الرؤيا: يا أمير المؤمنين! أستودعك الله في نفسك الذي لا تضيع ودائعه.
كان يصلي بالناس إماماً فلما بلغ قوله سبحانه وتعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] انهد باكياً وبكى الناس معه، ولما ركع تقدم له أبو لؤلؤة المجوسي.
مولى المغيرة لا جادتك غادية من رحمة الله ما جادت غواديها
تقدم بخنجر ذو حدين مسموم، سمه شهراً حتى أصبح الخنجر أزرق من كثرة السم، ثم ضرب عمر أمير المؤمنين، حصن الإسلام، العادل الكبير، الزاهد النحرير، الذي ما عرف إلا قيام الليل والوقوف مع المسكين والفقير والأرملة، ضربه ثلاث طعنات ليهدم ركن الإسلام، فسقط عمر رضي الله عنه وأرضاه، ووقع على وجهه على الأرض وهو يقول: [[حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم]] ثم التفت وقدم أحد المسلمين، فلما صلوا وقد أغمي عليه وأغشي من كثرة الدم قال: من قتلني؟ قالوا: أبو لؤلؤة قال: [[الحمد لله الذي جعل شهادتي على يد رجل ما سجد لله سجدة]] ثم رفعوه على أكتافهم.
يقول أنس: [[ظننا أن القيامة قامت يوم أن مات عمر]] ويقول علي: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر]] ووضعوه في البيت، فلما أرادوا أن يضعوا رأسه وهو مطعون، يعالج السكرات، وضعوا له مخدة -وسادة- تحت رأسه، قال: انزعوها من تحت رأسي، ضعوا رأسي على التراب علَّ الله أن يرحمني، فأخذ يمرغ وجهه في التراب ويبكي، فدخل عليه علي رضي الله عنه وأرضاه فقال: [[يا أمير المؤمنين! طوبى لك وهنيئاً لك، والله لطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك]] فقال عمر: [[يا ليتني نجوت كفافاً، لا لي ولا عليّ]] يقول: يا ليتني أخرج من الحساب يوم القيامة لا حسنات ولا سيئات سبحان الله! وهم المجاهدون الصادقون الزهاد العباد فماذا فعلنا نحن؟!(395/7)
أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
بماذا نلقى الله يوم القيامة، ونحن -والله- قد أسأنا الأدب مع الله كل الإساءة، هل داومنا على الصلوات الخمس في المسجد؟
هل دعونا جيراننا إلى المساجد صباح مساء؟
هل والينا في الله وأبغضنا في الله؟
هل أخذنا على يد الفاجر السفيه الذي يريد أن يردينا في النار؟
ثم إننا نرى الباطل ونؤيد عليه إلا من رحم الله، وأنا أتكلم بهذا لأننا قبائل نعرف المآسي التي يعيشها كثير من القبائل، يرون الباطل ولا يقومون في وجهه، ويرون حدود الله ومحارمه تنتهك ولا يغضبون، ثم ندعو الله أن ينزل علينا القطر، ونقول: نحن نحب الله، ما هي أعمالنا؟
السفيه يؤيد، والفاجر يسدد؛ لا يجد صاحب الحق من يعضده ويقوم معه.
يقول سبحانه وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] إي والله لبئس ما كانوا يفعلون، يرون الفاجر ويسكتون، والمعصية ولا يتكلمون، ولا تتمعر وجوههم، أحدهم لو أُخذ شيء من ماله، أو تكُلِّم على ولده، أو على عرضه، أو سب قامت الدنيا وقعدت، وأخذ السلاح وقاتل، لكن أن تنتهك حدود الله فلا يغضب أحد، المساجد تهجر، الأغاني الماجنة تنتشر، الحجاب يترك، والسفور يوضع ويوقع، والمرأة لا تتقي الله عز وجل في البيوت إلا من رحم الله.
سبحان الله! الربا يتعامل به، الرشوة موجودة، ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الغيبة في المجالس، الاستهزاء والاستهتار بالصالحين، ونقول: الله يرحمنا، ونحن على خير إذا اتقينا الله عز وجل.
الله سبحانه وتعالى أرسل جبريل عليه السلام قال: إن أهل تلك القرية عصوني، وتمردوا على حدودي، وأكلوا نعمي، واجترءوا على حرماتي فخذهم، وجبريل له ستمائة جناح، الجناح الواحد يكفي لنقل قرى الجنوب كلها نقلة واحدة، قرى قوم لوط -الأربع كان عددهم ستمائة ألف كما يقول المؤرخون- أرسل الله إليهم جبريل قال: خذهم، فقد عمت فيهم الفاحشة، كانوا يفعلون كل منكر في ناديهم، وعندهم الفجور واللواط والزنا والفحش، والمحارشة والمحاسدة الأيمان والغموس، والتبجح وظلم الناس، والفجور والكذب، فلا تجد أحداً يقول: اتقوا الله، فغضب الله، والله يمهل لكنه إذا غضبت فإنه لا يفلت أحداً كما قيل: إن الله يقول في الحديث القدسي: {إني إذا رضيت باركت وليس لبركتي نهاية، وإذا غضب لعنت وإن لعنتي تبلغ السابع من الولد} نعوذ بالله من لعنة الله، ونعوذ بالله من غضب الله، ونعوذ بالله من قلوب لا تتقي الله، فأرسل جبريل وقال: خذهم -وعند جبريل كما في الصحيح ستمائة جناح- فما استعمل إلا جناحاً واحداً، اقتلع القرى من جذورها بجبالها وأوديتها وأشجارها وأنهارها حتى رفعهم إلى قرب السماء الدنيا، فسمعت ملائكة السماء -كما في الحديث- نباح كلابهم وصياح ديكتهم، ثم لطمهم بالأرض، وما كفى، بل أرسل الله عليهم حجارة من طين كما قال سبحانه: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات:34] كل حجر عليه اسم مجرم تأتي وتقع في رأسه وتخرج من دبره.
الله عز وجل غضب على قرية من القرى ما أمرت بالمعروف ولا تناصحت فقال لجبريل: خذهم، فنزل جبريل عليه السلام فمر فوجد مصلياً صائماً يصلي في صومعته، فعاد إلى الله قال: يا رب! هناك عبد يصلي ويذكرك ويسبحك ويدعوك، قال: يا جبريل! به فابدأ قال: يا رب! ولم؟ قال: إنه يرى المنكر ولم يتمعر وجهه غضباً لي.
الله عز وجل يغضب من العبد لأنه لا يغضب لمحارمه، نغضب لمحارمنا ولا نغضب لمحارم الله! نغضب لأنفسنا ولا نغضب لله! أي قلوب هذه التي نملكها! فلما فعل بنو إسرائيل ذلك عمهم الله بالعذاب، وقست قلوبهم {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].(395/8)
اعرف الله في الرخاء يعرفك في الشدة(395/9)
فرعون لم يعرف الله في الرخاء
فرعون الطاغية الخبيث عليه لعنة الله، وقف يقول لأهل مصر كما قال الله: {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] فجعل الله الأنهار تجري من فوق رأسه، أغرقه الله في البحر، فلما أدركه الغرق قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] ما شاء الله! الآن آمنت وأسلمت، لقد ملأت الدنيا أعمالاً سيئة، ولطخت يديك بالدماء وضحكت على التاريخ، ودستَ القيم، والآن لما أصبحت في هذا المكان الضيق قلت: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ} [يونس:90] مثلما يفعل كثير من الناس، تجده وقت الرخاء يتبجح على الله، ويتعدى حدوده، وينتهك حرماته، وكثيراً ما تجد بعض الشباب لا يلقي بالاً للمسجد ولا للقرآن ولا للدعوة ولا للذكر ولا يخاف الله، كلما خطر له شيء ركب رأسه؛ فإذا كسر ظهره وأصبح على السرير الأبيض في المستشفى عاد إلى الله، أين أنت وقت الرخاء.
أفي وقت الشدة تعود؟! {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت:65].
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
فلما بلغ فرعون هذا الموضع قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] وهذا كذاب، ولو كان صادقاً لآمن وقت الرخاء، قال سبحانه وتعالى: {آلْآنَ} [يونس:91] ما عرفت الله إلا اليوم {آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} [يونس:91 - 92] ولذلك رماه البحر، فأخرج جثته، وما زالت جثته إلى اليوم في أحد المتاحف هناك، فلا تأكله الأرض، ليكون عبرة لكل من ينظر، لكن الذي يحفظ الله في الرخاء يحفظه الله في الشدة، إذا ضاقت عليك الضوائق وأتت عليك المصائب وكنت في الرخاء تذكر الله وتقوم بحدود الله؛ ينجيك الله ويجعل لك مخرجاً.
فامسك يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان(395/10)
يونس عليه السلام عرف الله في الرخاء
يونس عليه السلام أحد الأنبياء كان يحفظ الله في الرخاء، كان مصلياً، صائماً للنهار، قائماً لليل، ذاكراً لله، غضب على قومه فخرج منهم وما استأذن الله، والواجب أن يستأذن ربه، لكن قومه عاندوه، يقول لهم: هذا الطريق المستقيم، فيقولون له: لا.
فلما ركب السفينة في البحر، أخذت الريح تلعب بالسفينة، فقال ربان السفينة: معنا رجل مذنب ولا يمكن أن تهدأ الريح حتى تنزلوا هذا الرجل من السفينة -حتى قواد السفن والطائرات يعرفون أنه لا يأتي الخلل إلا من ذنوب وخطايا، فقالوا: استهموا -قرعة- فوقعت القرعة في يونس عليه السلام، فأقرعوا ثانية فوقعت فيه، فأقرعوا ثالثة فوقعت فيه، فأخذوه بيديه وبأرجله وأوقعوه في البحر في الليل.
سبحان الله! لا قريب ولا أهل ولا زوجة ولا ولد، رموه هكذا في وسط البحر وسط الليل المظلم، وليته بقي على خشبة أو بقي يسبح لكن ابتلعه الحوت، ما وقع في البحر إلا والحوت فاغر فاه فأطبق عليه، فأصبح في ظلمات ثلاث؛ ظلمة الليل وظلمة اليم وظلمة بطن الحوت.
فمن يتذكر؟ هل يتصل بأهله، هل يكلم أخاه أو قومه؟ لا.
قال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] رد إلهامه إلى الله.
ونادِ إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
فلما قال: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، قذفه الحوت في الشاطئ، وأنجاه الله الذي يقول للشيء كن فيكون؛ لأنه حفظ الله في الرخاء.
يذكر ابن القيم في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي قصة لرجل من الصالحين كان يصوم النهار ويقوم الليل، والصلاح ليس بكلمة تقال، أو خطبة جمعة يخطبها الإنسان، فإذا خرج فإذا هو من أظلم الناس وأفجرهم، وإذا هو قاطع رحم، أو عاقٌ لوالديه، يفجر، ويحلف اليمين الغموس، وهذا ليس بصلاح، الصلاح عمل وخوف من الحي القيوم.
فهذا الرجل الصالح كان يشتغل بالتجارة، وكان كثير الذكر والتلاوة والصيام والعبادة، فخرج ببغلات له يشتغل فيها على التجارة، فمر به مجرم فقال: يا فلان! أوصلني إلى ذلك المكان فقال: اركب معي، فركب معه، فلما أصبحوا في غابة لا يراهم إلا الله، أخرج المجرم خنجراً، وقال لهذا الرجل الصالح: ادفع ما عندك من مال فوالله لأقتلنك.
قال الرجل الصالح: أسألك بالله الذي قامت به السماوات والأرض أن تأخذ ما عندي من مال وما عندي من تجارة وتتركني، أنا عندي أبناء وأمهم ولا يعولهم بعد الله إلا أنا.
قال: والله الذي لا إله إلا هو لأقتلنك.
قال: فأسألك بمن قامت به السماوات والأرض أن تتركني لأصلي ركعتين قال: صلِّ ركعتين واستعجل، فقام فتوضأ وقام ليصلي قال: فلما كبرت نسيت كل آية في القرآن من الخوف والله ما ذكرت إلا قوله تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62] من يجيب المضطر إلا الله! من يكشف السوء إلا الله! من يشافي المريض إلا الله! من يجبر الكسير إلا الله!
قال: فقلت في نفسي: يا من يجيب المضطر إذا دعاه أجبني! يا من يجيب المضطر إذا دعاه أجبني! يا من يجيب المضطر إذا دعاه أجبني!
قال: والله ما انتهيت من الدعاء إلا وفارس أقبل على فرس من آخر الوادي، ومعه رمح فأرسل رمحه فوقع في لبة هذا الرجل فإذا هو مقتول على قفاه.
فقال: أسألك بالله من أنت؟
قال: أنا رسول من يجيب المضطر إذا دعاه.
لما دعوت الدعوة الأولى كنت في السماء السابعة، ولما دعوت الدعوة الثانية كنت في الرابعة، ولما دعوت الثالثة أتيت إلى الأرض لأقتل هذا المجرم.
وهذا من كرامات الأولياء عند أهل السنة والجماعة.
نعم من يحفظ الله في الرخاء يحفظه في الشدة.
يقول عليه الصلاة والسلام لـ ابن عباس: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
هذه -يا عباد الله- قضايا لا بد أن تفهم لكل مسلم، إن من لا يحفظ الله لا يحفظه الله.(395/11)
التوبة وعواقبها الحميدة
ومن القضايا التي أريد أن أذكر بها نفسي وإياكم: قضية التوبة؛ أن نتوب إلى الله ونستغفره ليلاً ونهاراً، فقد أخطأنا كثيراً، وأسأنا وتعدينا كثيراً، وليس لنا إلا التوبة: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] والله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].(395/12)
قصة الرجل الذي أوصى أن يُحرق بعد موته
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيحين: {كان فيمن كان قبلكم رجل أسرف على نفسه في الخطايا، فلما حضرته الوفاة قال لأبنائه: إذا مت فأحرقوني بالنار، ثم اسحقوني ثم ذروني فوالله لو قدر الله عليَّ لعذبني عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين -سبحان الله! ظن أنه يفوت على الله- فلما مات أحرقوه بالنار وسحقوه وذروه، وأخذته الريح في كل مكان، فجمعه الذي أنشأه أول مرة، وأحياه سبحانه وتعالى الذي يقول للشيء: كن فيكون، فلما أصبح أمامه رجلاً قال: يا عبدي ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب! خفتك وخشيت ذنوبي قال الله: يا ملائكتي! أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة}.(395/13)
قصة الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً
هذا تائب أقبل على الله عز وجل وتاب فغفر الله له ذنوبه، فأوصيكم ونفسي بالتوبة والاستغفار، ومراجعة الحساب معه سبحانه وتعالى والرجوع إليه.
في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم: {أن رجلاً قتل تسعة وتسعين نفساً فأتى إلى رجل عابد قال: هل لي من توبة؟ قال: لا.
ليس لك توبة} سبحان الله! من يغلق باب التوبة عليك! باب فتحه الله عز وجل كيف يغلقه هذا العبد؟!
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
قال: {ليس لك توبة، فقتله فوفى به المائة، وذهب إلى عالم قال: هل لي من توبة؟ قال: نعم.
ومن يغلق عليك باب التوبة، وباب التوبة فتحه الله حتى تطلع الشمس من مغربها، فتاب إلى الله، قال: إني أرشدك أن تخرج من قريتك التي أنت فيها؛ لأنها قرية سوء -بعض القرى سيئة، أهلها ظلمة لا يعينونك على طاعة الله- فخرج من القرية، ولما أصبح في منتصف الطريق مات فنزلت ملائكة العذاب وملائكة الرحمة واختصموا فيه، ملائكة الرحمة يقولون: خرج منيباً إلى الله فجزاؤه أن يدخل الجنة، وملائكة العذاب يقولون: مات وما عمل لله عملاً صالحاً، فجزاؤه النار، فأوحى الله إليهم أن قيسوا ما بين المسافتين، فإن كان أقرب إلى القرية التي خرج إليها فهو من أهل الجنة، وإن كان أقرب من القرية التي خرج منها فهو من أهل النار، فأتوا يقيسون بالأشبار فأوحى الله إلى تلك القرية أن تقربي وإلى تلك القرية أن تباعدي، فكان أقرب إلى تلك القرية الصالحة فكان من أهل الجنة} فيا الله! من لهذا العبد الضعيف المذنب يوم لا يجد راحماً إلا الله، عطاء الله ممنوح، وبابه مفتوح، ونواله يغدو ويروح.(395/14)
قصة المرأة التي زنت في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم
أتت امرأة إليه صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- فأخبرته أنها زنت، وأنها أسرفت على نفسها، فأشاح صلى الله عليه وسلم بوجهه لا يريد أن تعترف، لأنه يقول: {ادرءوا الحدود بالشبهات} يريد أن يستر على هذه المرأة، فأتته من الجهة الأخرى فاعترفت، فأشاح حتى اعترفت أربع مرات، وهي تطلب أن يطهرها عليه الصلاة والسلام، وهي ثيب، وحد الثيب أن ترجم بالحجارة حتى تموت، لكن قدمت نفسها رخيصة في سبيل الله.
فقال لها صلى الله عليه وسلم: {عودي حتى تضعيه} فعادت حتى وضعت ولدها وأتت به في لفائف، فرآه صلى الله عليه وسلم فقال: {عودي حتى ترضعيه} فأرضعته سنتين، ثم جاءت به وفي يده كسرة خبز، جاءت صابرة محتسبة تريد الله والدار الآخرة؛ فأُخذ ولدها ثم أخذوها وذهبوا يرجمونها بالحجارة وهي صابرة محتسبة، فلما رجموها طاش شيء من دمها على أحد الصحابة فسبها فقال عليه الصلاة والسلام وقد سمعه: {والذي نفسي بيده، لقد تابت توبة لو تابها سبعون رجلاً من أهل المدينة لوسعتهم} وفي لفظ: {والذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها أهل المدينة لوسعتهم، والذي نفسي بيده إني لأراها تنغمس في أنهار الجنة} هذا هو ربنا التواب الرحيم سبحانه وتعالى.(395/15)
أخذ العبرة من الموت وما بعده
تنبهوا يا رقود إلى متى ذا الجمود
فهذه الدار تبلى وما عليها يبيد
الخير فيها قليل والشر فيها عتيد
والعمر ينقص فيها والسيئات تزيد
فاستكثر الزاد فيها إن الطريق بعيد
أمامك حفرة مظلمة لكنها للمتقين روضة من رياض الجنة، أمامك قبر تردى فيه الملوك والرؤساء والأمراء والوزراء والتجار.
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
صمٌ إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق
مر مجدد القرن الأول الخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، يوم العيد، وقد كان خليفة المسلمين من طاشقند في الشمال إلى جنوب أفريقيا، ومن مشارق سيبيريا إلى الأندلس إلى شرق نهر السند كلها يملكها رضي الله عنه وأرضاه، فنزل يوم العيد فرأى المقابر؛ فبكى حتى جلس، فقال: [[يا أيتها المقابر! كم فيك من حبيب! كم فيك من قريب! ما كأنهم أكلوا مع من أكل، وما كأنهم شربوا مع من شرب، ما كأنهم ضحكوا مع من ضحك]] ثم قال: [[يا موت! ماذا فعلت بالأحبة؟ ثم بكى وأجاب نفسه بنفسه وقال: أتدرون ما يقول الموت؟ قالوا: لا.
قال: يقول: أكلت الحدقتين، وفقأت العينين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، والعضدين عن الكفين، والقدمين عن الساقين، والساقين عن الركبتين]].
إن كنت تريد الخلود -أيها المسلم- والسعادة والرضا فاعمل للجنة:
اعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك تربتها والزعفران حشيش نابت فيها
أما هذه الدار فمنذ خلقها الله وهي منغصة ليس فيها راحة، إذا ارتحت فيها مات ولدك، وإذا نسيت مصيبته مرض الآخر، وإذا نسيت ألمه مرضت زوجتك، وإذا تشافت مرض جسمك، مكدرة منغصة كتب الله عليها التكدير، فضح الموت الدنيا فلم يدع لذي لب فرحاً.
فيا أهل العقول! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، وأوصيكم أن تقوموا في سبيل الله عزَّ وجلَّ دعاة خير، وأن تأمروا بالمعروف وتنهوا عن المنكر؛ ليرضى الله عنكم ظاهراً وباطناً؛ وليسعدكم في الدنيا والآخرة؛ وليكون الله معكم أينما كنتم وأينما صرتم، أيدوا كلمة الحق وقوموا مع المحق، ولا ترضوا بالباطل وقوموا في وجهه، حينها يرضى الله عنا وعنكم.
نسأله سبحانه لنا ولكم التوفيق والهداية، والسداد والرشد.
اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخلق؛ أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين!
وإن كان من شكر فإني أشكر الله تعالى ثم أشكركم على حضوركم وإنصاتكم، وأشكر المركز الصيفي بمدرسة اليرموك على دعوته الموقرة، وعلى نشاطه الخير، وعلى بذله في الخير، وأشكر الأساتذة القائمين فيه، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(395/16)
الأسئلة(395/17)
حق الجار
السؤال
تحصل بين بعض المسلمين خلافات ومشاكل يترتب عليها الجفاء بين الجيران، والقطيعة، وعقوق وأذية للجار، والتكبر وغير ذلك، ويستمر ذلك لسنتين، فما هو توجيهكم نحو هذه الأمور؟
الجواب
المشاكل التي يشكو منها الناس، والذنوب والمعاصي والخطايا التي في المجتمع، لا يحصيها إلا الله.
تكاثرت الظباء على خراش فما يدري خراش ما يصيد
كل مسألة ذكرت -أيها الأخ الفاضل- تحتاج إلى محاضرة بل محاضرات ومجلدات وندوات؛ لأننا أصبحنا مثخنين بالجراح من الذنوب والخطايا، قطيعة الرحم، عقوق الوالدين، أذية الجار، السوء إلى المسلمين، انتشار الأغاني الماجنات، المخدرات، التبرج منتشر عند الناس إلا من رحم الله، ضياع الأوقات، تفلت الشباب، ضياع السنة، عدم تدبر القرآن، عدم تذكر الله، الأيمان الغموس، الظلم، الحسد، الحقد، كلها ذنوب وخطايا نشكو حالنا إلى الله.
يعني: أصبح مثل المريض الذي في كل جسم منه جرح.
ومن يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
وأما ما ذكرت؛ فالجار من أعظم ما يتساهل به خاصة في القرى، والمدن أحسن حالاً في الجيران، لأنك غريب مع غرباء فتريد أن تصلح الحال، أما القرى فمن يوم خلقنا الله ونحن نعرف جيراننا يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً، فأصبح بينهم القطيعة إلا من رحم الله، تجد الجار يؤذي جاره لا يأمنه، ومن نكد الحياة أن يكون لك جار سوء.
في الحديث: أن رجلاً أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله! أشكو إليك أذية جاري، قال: ماذا فعل؟ قال: إن غبت ما أمنته وإن حضرت آذاني، وهتك عرضي، وأخذ مالي، وظلمني.
قال عليه الصلاة والسلام: اصبر لجارك علَّ الله أن يهديه، فذهب وصبر قليلاً، لكنه ما اهتدى، فعاد يشكو إلى الرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: خذ متاعك وزوجتك وأولادك وانزل في سكة من سكك المدينة، فأخذ زوجته وأثاثه على ظهره، ونزل وجلس في السكة، فأصبح الناس يسرحون عليه ويروحون ويغدون فيقولون: ما لك يا فلان؟ قال: آذاني جاري حتى أخرجني قالوا: لعنه الله، فيصبح من مرَّ عليه يقول: ما لك يا فلان؟ قال: آذاني جاري، قالوا: لعنه الله، ويمشي الماشي وقال: ما لك؟ قال: آذاني جاري قال: لعنه الله، فسمع بالخبر جاره، فأتى إليه وقال: أتوب إلى الله، والله لا أوذيك، عد إلى دارك.
ولذلك يبلغ الحد ببعض الناس إلى أنه لا يذكر الله عز وجل تماماً ولا يقوم بحق الجار.
وقد كان الجاهليون من ضمن ما يتمادحون به حفظ حقوق الجار، حتى يقول عنترة:
وأغض طرفي إن بدت لي جارتي حتى يواري جارتي مأواها
يقول: من كرم نفسي وشهامتي ومروءتي إذا بدت جارتي؛ غضضت طرفي حتى تدخل البيت، وهو ليس عنده كتاب ولا سنة ولا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، بل هو جاهلي وثني.
ولذلك وجد في الإسلام من أهل حفظ الجار أناس كثير، أذكر على سبيل المثال: أبو حنيفة، عالم المسلمين، كان من أعبد عباد الله وأزهدهم، كان له جار يؤذيه.
كان أبو حنيفة يأتي بعد صلاة العشاء يريد أن يسبح الله، ويصلي ويبكي ويدعو ويقرأ القرآن، لكن هذا الجار عزوبي ليس عنده إلا طبل يضرب عليه ويرقص ويقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر
فكان أبو حنيفة لا يستطيع أن ينام ولا يستطيع أن يقرأ، ولا أن يصلي، فيصبر ويحتسب، وفي ليلة من الليالي الطويلة ما سمع أبو حنيفة الصوت، انتظر هل يسمع صوتاً، ما سمع الرقص ولا سمع ضرب الطبل ولا سمع الدربكة، فعجب! طرق على باب الدار فما أجابه أحد، سأل الجيران: أين فلان؟
قالوا: أخذته شرطة السلطان، قال: سبحان الله! جاري يأخذونه ولا يخبرونني! ثم ذهب في الليل فركب بغلته ولبس ثيابه، فاستأذن على السلطان وسط الليل.
قال الجنود للسلطان: أبو حنيفة إمام الدنيا يريد مقابلتك، فقام السلطان من نومه والتقى به عند الباب يعانقه، قال له: يا أبا حنيفة لماذا ما أرسلت إلينا؟ نحن نأتيك لا أن تأتينا، قال: كيف أخذتم جاري وما أخبرتموني به؟
قالوا: إنه فعل وفعل وفعل، قال: ردوا عليّ جاري، قالوا: لو طلبت الدنيا لأعطيناك الدنيا، فركب جاره معه على البغلة وأخذ جاره يبكي.
قال أبو حنيفة: ما لك؟ قال: آذيتك كل هذه الأيام والأعوام والسنوات وما تركتك تنام ولا تصلي ولا تقرأ، ولما فقدتني ليلة أتيت تتشفع فيّ، أشهد الله ثم أشهدك أنني تائب إلى الله.
لقد كانوا يدعون الناس بأخلاقهم وبتعاملهم.
سكن يهودي بجانب عبد الله بن المبارك أحد العلماء الصالحين، وكان عبد الله بن المبارك إذا اشترى لحماً من السوق بدأ بأولاد الجار اليهودي، نحن لا نقول: نبدأ بأبناء اليهود لكن بأبناء المسلمين، ونحن لا نقول: اأعطوا الناس لحماً واكسوا أبناء الناس، لكن نكف أذانا فقط، نعم.
مكانك تحمدي أو تستريحي
فـ عبد الله بن المبارك كان إذا اشترى لحماً أعطى أولاد جيرانه، وإذا كساهم كسا أبناء جيرانه، وإذا أخذ فاكهة بدأهم، فأتى أناس من التجار يشترون دار اليهودي فقال: داري ثمنها ألفي درهم، الألف الأولى قيمة الدار وأما الألف الثانية فقيمة الجوار -جوار عبد الله بن المبارك - فسمع عبد الله بن المبارك ذلك وقال: والله لا تبيعها، هذه ألف درهم ثمن جوار عبد الله بن المبارك وابق جاراً لي، ثم قال عبد الله بن المبارك: اللهم اهده إلى الإسلام، فما أصبح في اليوم الثاني إلا وقد أسلم لله رب العالمين.
فمسألة الجار لا بد أن ينتبه لها، يقول عليه الصلاة والسلام: {ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه}.(395/18)
حكم اغتصاب الأراضي وشهادة الزور
السؤال
ما حكم من يسعى لامتلاك أرض ظلماً، ويسعى بعض معارفه إلى أن يشهد له في هذه الأرض؟
الجواب
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من ظلم من الأرض قيد شبر طوقه الله من سبع أرضين يوم القيامة} واليمين الغموس ما سميت غموساً إلا لأنها تغمس صاحبها في نار جهنم، ومن اقتطع مال امرئ مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان، لا يكلمه الله ولا يزكيه ولا ينظر إليه وله عذاب أليم.
واقتطاع الأراضي وجد كثيراً باليمين وبالحلف وهو لا يدري أصل هذه الأرض ولا بمستنداتها ولا بصكوكها، وإنما يحلف زوراً وبهتاناً وحمية فقط، وهذا حسابه عند الله عزَّ وجلَّ، يوم يجمع الله الأولين والآخرين، والأرض أرض الله، والمال مال الله، والعباد عباد الله، والله هو الحاكم يوم القيامة الذي يحكم بين الخصمين، لا يتدخل في الحكومة أحد من الناس، فمن فعل ذلك فقد شهد شهادة الزور، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً} [الفرقان:72].
يقول عليه الصلاة والسلام: {ألا أدلكم على أكبر الكبائر؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وكان متكئاً ثم جلس وقال: ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، ألا وشهادة الزور، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت} أظلم الظلم وأعدى العدوان شهادة الزور، وهي التي تمحق البركة، وبها يطبع على القلوب، ويجفف الله بركة الوديان سبحانه وتعالى، وينزعها من وديانهم ومن أماكنهم، وقد نبه القرآن والعلماء على هذه كثيراً، وكثير منكم يعرف هذا والحمد الله.(395/19)
نصيحة إلى شاب يريد العودة إلى الله
السؤال
شاب يريد التوبة والعودة إلى الله سبحانه وتعالى فما نصيحتكم إليه؟
الجواب
حياك الله أيها الشاب، والله قد بسط لك يده وفتح لك باب التوبة، وأنت من أحب الناس إلى الله عز وجل فلا يتعاظمك الذنب، فإن الله يقول كما في الحديث القدسي الحسن: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو جئتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} والله عز وجل يقول في الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم} فهنيئاً لك لمَّا عدت إلى الله، وهنيئاً لك لما أفقت، وهنيئاً لك لما راجعت حسابك مع الله قبل أن يأخذك الله أخذ عزيز مقتدر، فأوصيك:
أولاً: بالمحافظة على الصلوات الخمس، وأن تكثر من الدعاء إلى علام الغيوب في أدبار الصلوات، وإذا سجدت أن تدعوه بما دعاه به يونس بن متى عليه الصلاة والسلام، وأن تطرق باب الله ليفتح لك مع المفتوح لهم.
ثانياً: أوصيك بكتاب الله أن تتدبره، وأن يكون سميرك وأنيسك وصاحبك وحبيبك، فتقرأ منه يومياً ما فتح الله به عليك.
ثالثاً: أن ترافق رفقة صالحة طيبة يريدون الله والدار الآخرة، وأن تبتعد عن رفقة السوء.
رابعاً: أن تترك كل المعاصي التي كانت تقربك من غضب الله ومقته وسخطه، كاستماع الأغنية الماجنة، واجعل مكانها الشريط الإسلامي؛ شريط القرآن والمحاضرات والندوات والدروس والعبر والعظات، وكذلك أن تتقي الله في عينك فلا تنظر إلا في الحلال، واعلم أن الله سيحاسبك على جوارحك واحدة واحدة.
خامساً: أن تحفظ وقتك مع الله، وأن تقضي الوقت في المطالعة والقراءة وزيارة الصالحين؛ ليرضى الله عنك في الدنيا والآخرة وهذا هو المكسب العظيم.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروة وإن خلتموني وحيداً سليباً(395/20)
حكم الصلاة خلف إمام يشرب الشيشة
السؤال
إمام المسجد إمام راتب يشرب الشيشة فهل يصح أن يؤم الناس؟
الجواب
إن عينه السلطان -يعني: معين من الأوقاف- وهو إمام راتب فيصلى وراءه وذنبه عليه: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام:164] وحسابه على الله عز وجل.
وإن كان هذا الإمام متبرعاً أراد أن يصلي بدون أن يكون هو الإمام الراتب وليس مسئولاً، فلا يقدم على الناس لأنه فاسق، وهو يشرب هذه المحرمات، فهو فاسق عند أهل السنة والجماعة؛ لأن من يتعدى حدود الله عز وجل فهو فاسق، فإن كان متبرعاً فلا يقدم، وإن كان من الأوقاف فيقدم ويصلى وراءه وحسابه على الله.
يقول أهل العلم: ابن آدم يأتي من بطن أمه وهو ماسك يديه، قالوا: ذلك علامة لحرصه وجشعه وحسده وحب التملك، وحب التملك فطرة في الإنسان؛ حتى الطفل أول ما يتحرك يبدأ بأخذ الأشياء، يأخذ القلم، يأخذ الساعة، يتشبث، يبكي على اللعب، يبكي على المأكولات والمشروبات وذلك من حب التملك، وكلما شاب الإنسان وكبر سنه كبر حب التملك عنده، حتى تجد الإنسان في عمر الستين كأنه سيعيش مائتين أو ثلاثمائة سنة، لا يتكلم إلا في العمارات والقصور والأبناء، وهذا توظف، وهذا أرسل لي راتبه، وهذا سوف أسكن معه، كأنه يعيش ولا يفكر في القبر إلا من رحم ربك، ومن أكبر الخطايا التي عصي الله بها في الأرض خطيئة حب الدنيا، حتى أن البعض يقول: هابيل قتل قابيل بسبب حب الدنيا والجشع عليها، واعلم أن من استولى عليه حب الدنيا فقد عبدها من دون الله، اتخذها إلهاً يعبد من دون الله عز وجل، قال الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
تجرد من الدنيا فإنك إنما أتيت إلى الدنيا وأنت مجرد
وصلى الله علىمحمد وعلى آله وأصحابه وسلم.(395/21)
فرصة للاستثمار
تحمل كلمة الاستثمار في هذه المادة معانٍ عظيمة، ومعانٍ سامية، تختلف تماماً عن تلك المعاني التي يتداولها الناس لهذه الكلمة.
إنها تجارة مع الله، ثمرتها جنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين.
ومجالات هذه المتاجرة هي: الطهارة، الذكر، الصلاة، الصدقة، الصبر، قراءة القرآن، وغير ذلك من العروض المغرية التي يعرضها الشيخ في حديثه هذا.(396/1)
حديث: (الطهور شطر الإيمان)
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أنتم صفوة الناس، ولا يحضر بيوت الله ولا يجلس فيها، ولا يتهيأ لسماع المواعظ، ولا يستفيد من الآيات والأحاديث إلا صفوة الناس، ولا يعرض عن اللغو ويذهب إلى مجالسة الصالحين إلا صفوة الناس، ولا يحب الدين، ولا يسعد بآيات رب العالمين، ولا يتبع سيد المرسلين إلا صفوة الناس.
عنوان هذه المحاضرة: (فرصة للاستثمار) والناس استثمروا أموالهم ومناصبهم وسيروا حياتهم في غير مرضات ربهم إلا القليل.
باسمك اللهم ثم الحمد لك والتحيات وتسبيح الفلك
وصلاة الله للمختار ما سبح القمري وغنى بشرك
هذه ألفاظه قد أينعت وقطفناها أخي المسلم لك
فارعها سمعك حياك الذي جعل الكون على نهج الحبك
أما الحديث: فعن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السموات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها} رواه مسلم، وأحمد، والترمذي، والدارمي، والنسائي في عمل اليوم والليلة، وابن ماجة، والبيهقي في كتاب السنن، والطبراني، وابن حبان، وابن مندة في كتاب الإيمان.
هذا هو الحديث الذي معنا هذه الليلة، وهو من أشرف أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام.
أما عناصره فهي:
الطهارة: في الكتاب والسنة، وفضل الوضوء، وطهارة الباطن والظاهر.
كلمة شطر ومعناها، هل هي مرادفة للنصف؟ ولماذا يكون الطهور شطر الإيمان؟
ما هو الإيمان عند أهل السنة؟ وما الفرق بين الإسلام والإيمان؟ وهل الإيمان يزيد وينقص؟
الحمد لله ما معناها؟ من هو المحمود؟ ما هو فضل الحمد؟
ما معنى تملأ الميزان؟ ما هو الميزان؟ هل هو محسوس؟ وهل توزن الأعمال فيه؟ ومعتقد أهل السنة والجماعة في الميزان؟
سبحان الله، ما معنى التسبيح؟ تسبيح الكائنات ما هو؟ فضل التسبيح، وتملأ ما بين السموات والأرض كيف تملأ؟
اتساع الميزان أو اتساع السماوات والأرض؟ وما معنى: (عرضها السماوات والأرض) عند أهل العلم، في قوله سبحانه وتعالى: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133]؟
(الصلاة نور) ما هو فضل الصلاة؟ وما هو النور؟ وما علاقة الصلاة بالنور؟
(والصدقة برهان) فضل الصدقة، وما معنى البرهان؟ سر أسرار الصدقة.
(الصبر ضياء) ما هي أقسام الصبر؟ ولماذا قال صلى الله عليه وسلم: (الصبر ضياء) وقال: الصلاة نور؟ وما الفرق بين النور والضياء؟
(القرآن حجة لك أو عليك) فضل القرآن، أمة القرآن، المذهب الاستعماري والغزو الفكري في تحطيم مبدأ أمة القرآن.
(فبائع نفسه) من الذي اشترى؟ ما هو العقد؟ متى تتم البيعة؟ ما هي السلعة المشتراة؟
آيات الشراء والبيع في القرآن، الصكوك التي وقعها محمد عليه الصلاة والسلام.
(معتقها) العتق الحقيقي، الرق الحقيقي، أسباب العتق.
(أو موبقها) معنى أوبق عند أهل اللغة، أسباب الهلاك، ما هي موبقات الأعمال؟
فنسأل الله عز وجل أن يثبتنا وإياكم، وأن يفتح علينا وعليكم، وأن يزيدنا توفيقاً وإياكم.
هذا الحديث بدأه عليه الصلاة والسلام بجمله المختصرة النافذة، وبعباراته البليغة التي شحذت الأمة العربية، فعلمتها البلاغة، ومعجزته صلى الله عليه وسلم من المادة التي أجادها العرب، فقد أجادوا الفصاحة، وهم أمة الشعراء والبلغاء، فأتى صلى الله عليه وسلم، فضربها من جنس جماعتها، وأورد سوقها بزها، فأتى عليه الصلاة والسلام فبزها.(396/2)
معنى: (الطهور شطر الإيمان)
قال صلى الله عليه وسلم: {الطهور شطر الإيمان}.
الطهور هو: النقاء والصفاء، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف:82] وقال سبحانه وتعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر:4] قيل دينك طهره من الأدناس، وقيل عرضك، وقيل ثيابك الظاهرة طهرها إذا أردت أن تصلي، واستدل أهل العلم بهذه الآية على وجوب تطهير الثياب، وأنها من شروط الصلاة، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222] وقال سبحانه وتعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [الحج:26].
فالطهر دينه، والطاهر رسوله، والطاهر بيته، والله يحب التوابين ويحب المتطهرين، هذا الطهور، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الطهور الوضوء، وعند الترمذي: {الوضوء شطر الإيمان} وعند مسلم (الطهور) فرادف بينها صلى الله عليه وسلم، وسمي طهوراً؛ لأنه يطهر الأعضاء، فنصف باطن ونصف ظاهر، فالظاهر يطهر بهذا الطهور، والباطن عمارته بلا إله إلا الله، فتجتمع عند المسلم طهارتان: طهارة في الظاهر، وهي الوضوء والغسل، وطهارة في الباطن، وهي الإيمان الذي غرسه الله في القلوب.
أما شطر: فهو عند أهل اللغة نصف، يقال شطر الشيء نصفه، ويقال شطر للقسمين، ولو لم يكونا نصفين كثلث وثلثين، فتقول لهذا الجزء شطر وهذا شطر.
إذا مت كان الناس شطرين شامت بموتي ومثن بالذي كنت أفعل
هذا هو الشطر، فالرسول عليه الصلاة والسلام جعل الطهور الظاهر شطراً ونصفاً، وجعل ذاك نصفاً، فصلى الله وعليه وسلم ما أبلغه!
أما الإيمان -إخوة الإيمان- ففيه ثلاث قضايا:
الأول: إذا ذكر الله الإيمان وحده دخل فيه الإسلام {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [الأحزاب:35] وإذا ذكر الإسلام مع الإيمان فالإسلام شيء والإيمان شيء آخر {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات:14] فلما ذكر الإسلام والإيمان قال أهل العلم: إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا.
وإذا ذكر الله عز وجل الإسلام وحده شمل الإيمان {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] يشمل الإيمان أيضاً، فخذها قاعدة لتفهم.
الثاني: الإيمان يزيد وينقص عند أهل العلم، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، والمؤمنون متفاوتون في الدرجات، فأعلاهم بعد محمد عليه الصلاة والسلام أبو بكر، ثم يبدأ العد التنازلي حتى يصل إلى من ليس في قلبه إلا مثقال ذرة أو شعيرة أو حبة من خردل، والناس ينجون يوم القيامة على الصراط بحسب إيمانهم، ولا يثبت إلا من زاد إيمانه، ويدخل بعض المؤمنين النار، ثم يخرجهم الله من النار بما في قلوبهم من إيمان، أعاذنا الله وإياكم من النار.
وأما الإيمان فإنه درجات، ومن يفعل كبيرة قالوا: يخرج إلى درجة الإسلام، فأعظم الدرجات الإحسان ثم الإيمان ثم الإسلام، فكل محسن مؤمن وكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمن ولا كل مؤمن محسن.(396/3)
معنى: (والحمد لله تملأ الميزان)
وقال صلى الله عليه وسلم: {والحمد لله تملأ الميزان}.(396/4)
معنى الحمد
الحمد: الثناء العاطر على من يستحق الثناء، ولا يستحق الثناء لذاته إلا الله، ولذلك سبقت معنا في محاضرة أو درس: اللهم اهدني فيمن هديت، الحمد ووصفه.
والله حمد نفسه ويحب المدح يقول الأسود بن سريع وهذا عند أحمد في المسند وعند الطبراني قال: {أتيت الرسول عليه الصلاة والسلام فقلت: يا رسول الله! ألا أنشد محامد حمدت فيها الله؟ -يعني: قصيدة نظمتها في الله- قال صلى الله عليه وسلم: أما إن ربك يحب المدح} ولذلك مدح الله نفسه، وأثنى على نفسه بنفسه، فوصف نفسه ونزه نفسه وقدس نفسه، وأثنى على نفسه، فقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام:1] وقال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:1] وقال: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180 - 182].
والحمد غير الشكر، فالشكر على صنيع.
أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا
فإذا قدم لك إنسان جميلاً قلت: شكر الله لك، أما الحمد فهو الثناء، سواءٌ لمن قدم لك جميلاً أولا، والله محمود لثلاثة أسباب:
أولاً: ما من نعم ظاهرة ولا باطنة إلا من الله قال تعالى: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل:53].
ثانياً: محمود لأفعاله، فأفعاله كلها كاملة وممدوحة وطيبة لا عيب فيها.
ثالثاً: أن أسماءه وصفاته كلها صفات حمد، فلا ينام، وليس ببخيل، وليس بجبان، ولا يختل صنعه، إنما صفاته كلها صفات حمد، حكيم عليم قدير رحيم تبارك الله رب العالمين.(396/5)
ما هو الميزان؟
أما قوله عليه الصلاة والسلام: {الحمد لله تملأ الميزان} ففيه قضايا:
ما هو الميزان؟
قيل: ميزان الأعمال التي تسجل فيه الحسنات في يوم العرض الأكبر، والصحيح عند أهل السنة أنه محسوس خلافاً لعلماء الكلام والمناطقة الذين قالوا: إن هذا الميزان وهمي، وليس ميزاناً محسوساً، وإنما ضربه صلى الله عليه وسلم للناس ليفهموا عنه ذلك، وهذا خطأ، بل الميزان محسوس ينصبه الله يوم القيامة، وله كفتان ولسان كما قال تعالى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف:8] ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء:47] ويقول سبحانه وتعالى: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَظْلِمُونَ} [الأعراف:8 - 9] ويقول سبحانه وتعالى: {الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ * فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة:1 - 11].
فيضع الله الحسنات في كفة، والسيئات في كفة، وفيه دليل لـ أهل السنة أن الحسنات تصبح مجسمة، فيجسم لك الله حسناتك، وفي الصحيح: أن الله عز وجل يمثل العمل الصالح في القبر على صورة شاب مليح أو رجل حسن الهيئة، ويمثل أعمال المجرم والسيئ بصورة رجل قبيح الهيئة؛ فالله يجسم الأعمال، فتأتي الأعمال في أجسام، كالصدقة والصيام والحج وبر الوالدين وحسن الخلق، فيضعها الله في كفة، ويجسم الله الأعمال السيئة كالكذب والنفاق والغيبة والنميمة والربا والغناء، فيضعها الله في كفة.
ومن الذي يحكم على الميزان؟ من الذي ينظر للسان الميزان؟
الله الواحد الأحد {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} [غافر:17] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46].
وورد أن الله عز وجل بعد نفخة الصعق ينادي: لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ لمن الملك اليوم؟ فلا يجيبه ملك مقرب ولا نبي مرسل فيجيب نفسه بنفسه: لله الواحد القهار، وينادي سبحانه وتعالى: {أين ملوك الأرض؟ أين المتجبرون؟ أين المتكبرون؟} ثم هو سبحانه وتعالى ينصب الميزان، وهو الذي يراقب الميزان.
وورد عن ابن عمر في حديث صحيح: {أن رجلاً يأتي يوم العرض الأكبر، فيحاسبه الله، فيرى الرجل ويتيقن أنه قد هلك فيقول: خذوه إلى النار، فيأخذونه، فيلتفت الرجل فيقول: يا رب ما ظننت أنك تفعل بي هكذا، فيقول سبحانه وتعالى: أنا عند ظن عبدي بي! غفرت لك!} وفي حديث ابن عمر الآخر: {أن الله سبحانه وتعالى يدني العبد فيضع عليه كنفه، فيكلمه سبحانه وتعالى سراً بينه وبينه فيقول: فعلت كذا يوم كذا وكذا قال: نعم يا رب! قال: فعلت كذا يوم كذا وكذا، قال: نعم يا رب! قال: فعلت كذا يوم كذا وكذا من المعاصي والكبائر قال: نعم يا رب! قال: فإني سترتها عليك في الدنيا وغفرتها لك اليوم} وصح عنه عليه الصلاة والسلام: أن رجلاً من الأمة يأتي، فيرى أن سيئاته قد رجحت، وأن حسناته قد خف ميزانها فيرى أنه قد هلك، فيقول سبحانه وتعالى: ائتوني ببطاقة عبدي، فيؤتى ببطاقة مكتوب فيها: لا إله إلا الله محمد رسول الله، فتوضع في الكفة فترجح.
ولا يرجح مع اسم الله شيء.
هذه من المعالم الخالدة في الميزان، ويقول سبحانه وتعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ * وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ * وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن:1 - 7].(396/6)
أنواع الميزان
قال أهل العلم: الميزان اثنان:
ميزان في الدنيا وهو العدل، وهو الميزان الذي يتحاكم به الناس في الدماء والفروج والأموال والأشياء والذوات والمبيعات والمكيلات والموزونات، فالله أقام الدنيا على العدل، وجعل السلطان بالعدل، وأنزل السيف بالعدل.
وهناك الميزان الذي لا يحكم فيه إلا الله، ولذلك يقول: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] فلا يحكم إلا هو، ولا يظلم أحداً {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] فالأعمال توزن وتجسم، فعلى العبد أن يعتني ليرجح ميزانه عند من لا يظلم سبحانه وتعالى.(396/7)
معنى: (سبحان الله)
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {سبحان الله}.
فسبحان الله معناها: ننزهك يا رب، فالتسبيح: التنزيه والتقديس له، نسبحه: ننفي النقائص عنه، ولا يستحق المدح إلا الله، فإنه ليس في صفاته عيب ولا ثلم، أما النفي المحض الذي ليس فيه مدح، فليس من منهج أهل السنة؛ لأنه لا يفيد المدح، فإنك لو أتيت إلى البشر -ولله المثل الأعلى- وقلت لأحد ملوك الدنيا: يا من ليس يكنس الشارع! ويا من ليس يبخل! ويا من ليس يكذب! ويا من ليس منافقاً! فلا يعد ذلك مدحاً حتى تقول: يا أجود الناس! ويا أعدل الناس! ويا بركة العصر! فنحن إذا نفينا نفياً محضاً، فلا بد أن نثبت كمال الضد، فنقول: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم، ولذلك قال سبحانه: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:180].
فوصف نفسه بالعزة، ونفى ما وصفه الناس مما لا يليق به سبحانه وتعالى، ثم قال: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات:181] فأثنى عليهم أنهم بلغوا الرسالة، ثم نسب المدح له، فلا يمدح في السراء والضراء إلا هو، تذهب العيون والأسماع والأبصار فنقول: الحمد لله، ويأتي الرسول صلى الله عليه وسلم خبر قتل الصحابة؛ فيأتي متأثراً باكياً نادماً فيه لوعة وأسى فيقول: الحمد لله على كل حال، ويموت طفله بين يديه فيقول: الحمد لله، وتموت بناته ويقول: الحمد لله، فلا يحمد على المكروه إلا الله، ولذلك لما دمر الأمم قال: {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45] ولذلك لا يقال للبشر: دمرت بيتي شكر الله لك، ولا ضربت ظهري شكر الله لك، إنما ذلك في حق الله تعالى لا في حق البشر.(396/8)
إثبات التسبيح لجميع الكائنات
قال: وأما التسبيح، فهل تسبح جميع الكائنات؟
نعم.
كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [الإسراء:44] قال الرازي والغزالي: لا تسبح الكائنات بلسان المقال، وهؤلاء أشاعرة بل هم أساتذة الأشاعرة، ولكن ليس عندهم علم الحديث، وليسوا بصيارفة في بضاعة النبي عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك ضلوا في بعض المسائل، مع أنهم أذكياء.
فقد كان فخر الدين الرازي ذكي الدنيا، وهو صاحب التفسير الذي لا يستطيع حمارٌ أن يحمله، يقولون: في تفسيره كل شيء إلا التفسير، وفيه خير كثير.
وأنا أستطرد في الحديث عنه قليلاً، كان واعظ الدنيا، إذا وعظ أبكى الملوك، كان يغمى على الملوك في مجلسه من الوعظ، ويرشون بالماء، وجلس مرة بعد صلاة الفجر يدرس في الشمال في خراسان، وكان الجو قارساً بارداً، فتجمدت حمامة من البرد ووقعت عليه، فقال أحد الشعراء:
كذب امرؤ بـ أبي علي قاسه هيهات يبلغ مستواه
1001914>أبو علي
ثم انتقل إليه في قصيدة أخرى وقال:
جاءت سليمان الزمان حمامة تسعى إليه بقلب صب واجف
من أخبر الورقاء أن مكانكم حرم وأنك ملجأ للخائف
وكانت من ألطف الأبيات، فيقول الرازي: الكائنات لا تسبح بألسنتها، فالحمام لا يسبح، والشجر لا يسبح بلسانه، والحجر لا يقول: سبحان الله، والمروحة عنده لا تقول: سبحان الله، إنما تسبح بلسان الحال، أي: أنها تشهد شهوداً ظاهراً أنَّ الخالق الله، ولذلك قيل للرسول عليه الصلاة والسلام: اقرأ وهو في الغار، فأين يقرأ؟ قال: في كتاب الكون.
إيليا أبو ماضي شاعر لبناني مسيحي مجرم، لكن شعره جميل، وله ديوان الجداول والخمائل، يقول:
وكتابي الفضاء أقرأ فيه سوراً ما قرأتها في كتاب
فالكون كتاب الوحدانية، نقرأ في التل والرابية والهضبة، ونقرأ في الحمامة وفي الوردة وفي الزهرة وفي أشياء تدلك على الله.
وقال أهل العلم: نثبت التسبيح لها، ولعل لها لغة لا نفهمها نحن، تسبح بها، والله يعلم سبحانه وتعالى وأنتم لا تعلمون.
سخروف هذا العالم الروسي الذي نفي أيام برجنيف إلى سيبيريا أثبت أن للنبات ذبذبات، كان بعض علماء السلف يقول: النباتات تسبح، فأتى العلم الحديث يقول: النبات يطلق ذبذبات من الصوت لا يفهمها إلا النبات الآخر، فسبحان من خلق، فالعلم الآن يدعو إلى الإيمان، وكلما ارتقى العلم أثبت وجود الواحد الأحد، ولذلك العالم اليوم أحسن منه في الإيمان قبل سنة، وبعد سنة قد يكون أحسن مما هو عليه اليوم، والإسلام يزحف على العالم ليدخل الناس في دين الله أفواجاً.(396/9)
فضل التسبيح
أما فضل التسبيح: فيقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {من قال: سبحان الله وبحمده في يومه مائة مرة غفرت ذنوبه ولو كانت كزبد البحر} وعند الترمذي بسند حسن: من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة} وقال أبو ذر فيما صح عنه: {يا رسول الله أي الكلمات أحسن؟ قال: {ما اصطفى الله لعباده، سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم} وكان يقول عليه الصلاة والسلام وهذا آخر حديث في صحيح البخاري ختم به صحيحه، وروى هذا الحديث أيضاً مسلم، ورواه أيضاً أحمد، والترمذي، وابن ماجة، والنسائي، وصححه ابن حبان، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {كلمتان حبيبتان إلى الرحمن، ثقيلتان في الميزان، خفيفتان على اللسان: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم} وهذه الكلمة من ألطف الكلمات، وهي من أسهل الكلمات.
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر كلاماً ما معناه يقول: عجباً لك إذا علمت أن كل كلمة بغرسة في الجنة وبنخلة، فكم يضيع عليك من النخلات؟! بعض الناس يتحدث ساعتين بالهرج والضياع والهراء والبغاء والفحش، وإذا طلبت منه أن يسبح قال: ساعة لربك وساعة لقلبك، والدين يسر، وليست الطاعة كل يوم.
وعند الترمذي: {أنه صلى الله عليه وسلم مر بإبراهيم الخليل -شيخ التوحيد- فقال: من؟ قال: محمد.
قال: نعم.
قال: مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح} ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يفتخر بالنسب إلى إبراهيم ويغتبط ويسر ويقول للناس: {أما عيسى بن مريم فأشبه الناس به عروة بن مسعود الثقفي، وأما موسى فرجل آدم كأنه من رجال شنوءة، وأما إبراهيم فأشبه الناس به صاحبكم} يعني: نفسه صلى الله عليه وسلم وقد قال تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:68] فالرسول صلى الله عليه وسلم أشبه الناس به، فقال إبراهيم عليه السلام: {أقرئ أمتك مني السلام} عليه الصلاة والسلام، يقول: بلغهم السلام، وكان إبراهيم في السماء السابعة، رفعه الله عز وجل؛ لأنه شيخ التوحيد، ثم موسى في السادسة، وهارون في الخامسة، وإدريس في الرابعة وهكذا، فقال: {بلغ أمتك مني السلام، وأخبرهم أن الجنة قيعان وأن غراسها: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر} وفي سند هذا الحديث نظر، وهو في فضائل الأعمال، يقول عليه الصلاة والسلام عند مسلم: {لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليّ مما طلعت عليه الشمس -وفي لفظ آخر أو غربت-} والتسبيح يستخدم للتعجب، يأتيك خبر يفحؤك، فتقول: سبحان الله! {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور:16] وعندما ترى خلق الله في الكون تقول: سبحان الباري! ويأتي للتوجع يأتيك خبر فتقول: سبحان الله! ويأتي للإنكار فتقول: سبحان الله!(396/10)
تسبيح الهروي في قصته مع السلطان ابن سبكتكين
كان أبو إسماعيل الهروي محمد بن عبد الله الأنصاري صاحب منازل السائرين من أشجع الناس، عالم خراساني يسمى شيخ الإسلام، هذا يتحدى السلاطين تحدياً سافراً، لا يقف له أحد، وكان من أكبر الأولياء لله عز وجل، وكان شاعراً بديعاً يقول لـ نظام الملك؛ السلطان العظيم الذي بنى مدارس العالم الإسلامي، وكان من السادات الكبار، دخل عليه أبو إسماعيل الهروي فقال:
بسيفك أدرك المظلوم ثاره ومن جدواك شاد الملك داره
وقبل هنئ الوزراء حتى نهضت بها تهنأت الوزاره
أراد الحسدة في خراسان أن يشكوه للسلطان ويقولون: إنه مشرك، وهو الذي يعلم الناس التوحيد؛ لعل السلطان أن يعزله أو يقتله أو يحبسه، فماذا فعلوا؟ أتوا بصنم على صورة إنسان نحتوه من ذهب ثم دخلوا مسجد أبي إسماعيل، ووضعوا الصنم تحت السجادة، وذهبوا إلى السلطان والسلطان محمود بن سبكتكين أحد السلاطين الكبار، فقالوا: أبو إسماعيل الهروي يعبد الأصنام، قال: عجيب! قالوا: نعم.
تحت سجادته صنم من ذهب يسجد عليه، قال للجنود: اذهبوا إلى السجادة وائتوني بالصنم، فذهبوا فوجدوا الصنم تحت السجادة، وأتوا بـ أبي إسماعيل فأدخلوه وهو لا يدري ما القصة، فأخرج له الملك الصنم فقال: ما هذا يا أبا إسماعيل؟ قال: هذا صنم، قال: ما حكم عبادة الصنم؟ قال: ملعون من يعبد الأصنام، قال: وأنت تعبد الصنم؟ قال: سبحانك هذا بهتان عظيم! قال: فكاد قلب محمود أن ينخلع، فقال محمود: كذبتم وصدق، ثم جلدهم من مائة جلدة وأخرجهم.
هذا أبو إسماعيل الهروي يقول: عرضوا رأسي للسيف خمس مرات، والله ما طلبوا مني أن أعود عن مذهبي، لكن طلبوا مني ألا أسب المذاهب فما وافقت، ما وافق لأنه يحب لا إله إلا الله، كان ابن تيمية يحبه ويقول: عمله خير من علمه؛ لأنه أحياناً في منازل السائرين يأتي بالفناء والشهود وكلمات الصوفية، لكن إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث.
وله قصص عجيبة في هذا الباب:
أتوا بأحد تلاميذه ليقتله السلطان ظلماً؛ لأنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلما قدموه للخشبة ليشنقوه فقيل له: قل: لا إله إلا الله، قال تلميذه: يقول لي شيخي أبو إسماعيل الأنصاري: لا تعلف الدابة في أسفل العقبة، أي أن لا إله إلا الله لا تنفع إلا عند المشنقة، قل لا إله إلا الله من قبل، ولا يترك الإنسان نفسه ولا يذكرها إلا إذا أتاه الموت أو أصبح على السرير الأبيض في وقت المرض، فالدابة إذا أردت أن تصعد من تهامة، وأردت أن تقويها، فلا ينفع أن تأتي في الصباح تعلفها الشعير حتى تسمن، بل اعلفها من قبل بمدة كافية، وهذا معنى كلامه، وهي من أبدع الكلمات.(396/11)
شرح قوله: (والصدقة برهان)
أما قوله عليه الصلاة والسلام: {والصدقة برهان}.
فالبرهان هذا هو الشعاع الذي يلي الشمس، والشمس تسمى عند العرب: ذُكاء، ويسمى شعاعها: إِيَاك، وتسمى الشمس أيضا: الغزالة، يقول الشاعر:
غزالة أنت فجر الناس طراً وأنت الحاكم البطل المريع
يمدح الخليفة، فغضب الخليفة لأنه لا يعرف العربية الفصحى قال: اسحبوا ابن الفاعلة يدعيني أنا غزالة، قال: الغزالة هي الشمس لكنه لم يفهم، ولذلك قالوا: لا بد أن تخاطب الناس بقدر عقولهم، فالشاعر بليغ، وهذا لا يفهم شيئاً في اللغة العربية، وشعاعها يسمونه إِيَاك ولذلك يقول أبو عبيد: لا يقرأ إِيَاك في الصلاة، إذا قرأت الفاتحة وقلت: إِيَاك نعبد وإِيَاك نستعين بطلت صلاتك؛ لأن إِيَاك تعني: شعاع الشمس، يعني: الشمس نعبد والشمس نستعين، فلا بد أن تشدد فتقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وتسمى: ذكاء.
ومن اللطائف والاستطراد ما جاء في الصحيح: أن الله رد الشمس ليوشع أحد الأنبياء، فقاتل الكفار، وبقي على الانتصار قليل، وكادت الشمس تغرب، قال: اللهم ردها لي، فردها الله.
والشيعة يقولون: رد الله الشمس لـ علي بن أبي طالب لما نام عن صلاة العصر، وهذا كذب، وذكره البغوي والطحاوي وبعضهم، ورده ابن تيمية وأتى أبو تمام به في قصيدة له فقال:
فردت علينا الشمس والليل جاثم وشمس بدت في جانب الخدر تلمع
نضا ضوءها صبغ الدجنة وانطوى بطلعتها نور السماء المرجع
فوالله ما أدري علي بدا لنا فردت لنا أم كان في القوم يوشع
وهذا خطأ فما ردت لـ علي رضي الله عنه.
فمن معاني البرهان الشعاع، ومن معانيه الحجة القاطعة وقد قال تعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] وإنما سمي برهاناً؛ لأنه واضح مثل شعاع الشمس، ولأنه صادع، ولأن الناس يرونه.(396/12)
فضل الصدقة
قال صلى الله عليه وسلم: {والصدقة برهان}.
أما الصدقة فلا تسأل عن حكمها، والصدقة إذا أطلقت في الكتاب والسنة فيقصد بها الزكاة المفروضة والنافلة، فقوله صلى الله عليه وسلم: {فأخبرهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم} وقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة:60] يعني: الزكاة، فهي تشمل هذا وهذا والحمد لله.
وأما فضل الصدقة: فهي مكفرة للخطايا، وهي توسع صدر العبد، وعدها ابن القيم في زاد المعاد من أسباب شرح الصدر، وكذلك وصف صلى الله عليه وسلم رجلين كريماً وبخيلاً، برجلين عليهما جبتان، فلا يزال الكريم ينفق فتتسع الجبة ولا يزال البخيل يمسك فتضيق عنه، فيقول أبو هريرة: فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {فيجتهد أن يوسعها فلا تتسع} يعني الجبة من ضيقها، ولذلك نفوس البخلاء من أضيق النفوس؛ لأنهم ما بذلوا، ونفوس الكرماء من أشجع النفوس ويقولون: في الغالب تجتمع للكريم الشجاعة، وللشجاع الكرم، وغالباً يجتمع في البخيل الجبن وفي الجبان البخل، فتجد الشجاع دائماً كريماً؛ لأنه يجود بنفسه صباح مساء، يقول بعضهم:
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أقصى غاية الجود
وهذا في كرم النفوس، فيقول صلى الله عليه وسلم: {والصدقة برهان} دليل على صدق صاحبها في الإيمان، والمنافق لا يتصدق، وأبخل الناس في الأموال المنافق، فإنه يكدس الدنيا ولا ينفق أبداً؛ لأنه لا يؤمن بموعود الله، فهو ليس حريصاً على قيام الليل؛ لأن أخبار لقاء الله عز وجل وأخبار الكتاب والسنة ليست موثوقة عنده، وكذلك لا يتصدق لأنه يقول: عصفور في اليد ولا عشرة فوق الشجرة، ويقول:
خذ ما رأيت ودع شيئاً سمعت به في طلعة البدر ما يغنيك عن زحل
ويقول سبحانه وتعالى: {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [النساء:37] لذلك تجد المنافق يقول: أمسك مالك، ودع الإسراف والتبذير، ولا تضيف هؤلاء الضيعة من الناس، ولو افتقرت لما ضيفك منهم أحد، ولا ينفعك إلا مالك، وادخر درهمك الأبيض ليومك الأسود!! ويأتيك بهذه المقالات، ومن أحسن من كتب في هذا الجاحظ في كتاب البخلاء فقد أتى بالبدائع في بخل بعض الناس، حتى إن أحدهم يلقي محاضرة إذا قدم الطعام، منهم أحد البخلاء قدم تيساً محنوذاً، والتيس معروف، فأتى هذا الضيف يأكل منه، فقال له البخيل: يظهر أن أمه نطحتك، كأنه أخذ يلعب بالتيس لعباً، وكأنه يقطع من كبد المضيف، فقال له الضيف: وكأن أمه أرضعتك، يعني: لماذا تحن عليه؟ هل بينك وبينه نسب؟! الحمد لله يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب، وذكر من قصصهم كثير وكثير ولولا أن الوقت لا يسمح لأوردت بعض القصص من أخبارهم والله المستعان.(396/13)
أسرار الصدقة وكرماء العرب
أما أسرار الصدقة، فقالوا: تشرح الصدر، وتكفر الخطايا، والصدقة في السر تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، وتحبب الخلق إلى الإنسان.
أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ
وهو من أجود ما يكون، وكرماء العرب اختلف فيهم، وأكرم الناس منذ أن خلق الله الخليقة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يأتي في القائمة بعده أبو بكر الصديق الذي دفع ماله في سبيل الله، وما دفعه ليشكر في الدنيا، وإنما يبتغي به وجه الله، وأثنى عليه ربنا في كتابه فقال: {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:18 - 21] من أجل أن يرضى يوم العرض الأكبر وسوف يرضيه الله تبارك وتعالى.
وأما بعض الكرماء فإنهم ينفقونها رياءً وسمعة وطلباً للمحمدة، ويعطيهم الله المحامد مثل حاتم الطائي، لا يخلو مجلس من ذكر حاتم، لكن ليس له في الدنيا إلا الذكر وليس له في الآخرة من خلاق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح ابن حبان لـ عدي بن حاتم: {إن أباك طلب شيئاً فأصابه} طلب الذكر فأصابه، وكان حاتم هذا كريماً من فطرته.
وكان صلى الله عليه وسلم يستعرض الأسارى، فقامت امرأة متحجبة -بنت حاتم الطائي - فقالت: {يا رسول الله! إن أبي كان يقري الضيف، ويعين على نوائب الحق، ويحمل الكل، ويعين الملهوف، أنا بنت حاتم الطائي، قال صلى الله عليه وسلم: خلوا عنها، فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، لو كان أبوك مسلماً لترحمنا عليه}.
يقولون: كان حاتم وهو طفل يرضع من ثدي أمه، فأتت أمه بطفل آخر يرضع معه على الثدي الآخر، قالوا: فإذا رفع ذلك الطفل رأسه رفع حاتم رأسه، فإذا رضع رضع، هذا من ضمن ما ذكروا عنه، وأتاه أضيافه فما وجد قرى فنحر فرسه، إلى غير ذلك من الأخبار.
أرسله أبوه يرعى الإبل في البادية، فمر ضيوف فقال: من أنتم؟ قالوا: هل تضيفنا في هذه البادية فلم يضيفنا أحد؟ قال: هذه ضيافتكم وأعطاهم الإبل.
وكان حاتم نحيفاً؛ لأنه ما كان يأكل الطعام، كان إذا أتى الطعام دعا الناس جميعاً فأكلوا الطعام وبقي هو جائعاً، فقال أبياتاً من الشعر نسبت له ولـ عروة بن الورد:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أوزع جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد
وإني امرؤ أعافي إنائي شركة وأنت امرؤ عافي إنائك واحد
حتى ضرب به المثل، فقال الفرزدق:
على ظمأ لو أن في القوم حاتماً على جوده ضنت به نفس حاتم
فالله المستعان!
وأما ابنه عدي فسيد من السادات، وهذا ليس من بحثنا في شيء.(396/14)
شرح قول: (والصبر ضياء)
قال صلى الله عليه وسلم في الصبر: {والصبر ضياء}.
لماذا قال: (ضياء) ولم يقل نوراً؟
الضياء: نور فيه حرارة، والنور: نور بلا حرارة، شعاع بلا حرارة، اسمع إلى كلام الله سبحانه وتعالى كيف فرق بين الشمس والقمر في الإضاءة، اسمع بلاغة القرآن قال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً} [يونس:5] فالشمس ترسل شعاعاً بحرارة، والقمر يرسل شعاعاً بلا حرارة، فقال: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً} [يونس:5] لذلك لا يقال: ضياء القمر، وإنما يقال نور القمر، ولا يقال: نور الشمس، وإنما يقال ضياء الشمس.
وقال بعضهم: وأما شريعة موسى فوصفها الله بأنها ضياء ووصف شريعة محمد صلى الله عليه وسلم بأنها نور، فشريعة محمد صلى الله عليه وسلم مثل القمر، وشريعة موسى أشبه شيء بالشمس، فما هو السر؟ انظر إليه سبحانه وتعالى يقول عن القرآن: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء:48] وقال عن التوراة: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ} [المائدة:44] ففيها نسبة من النور لكن هناك ضياء، أما شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول سبحانه: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة:15] وقال سبحانه: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ} [الأعراف:157].
قال أهل العلم: شريعة موسى فيها آصار وأغلال؛ فسماها الله ضياء؛ لأن فيها تكاليف تحرق، وأما شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم فإنها يسر، قال تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى:8] وقال: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] فكانت ميسرة، فشريعته صلى الله عليه وسلم حنيفية سمحة، وشريعة موسى شديدة، كان اليهودي إذا أذنب يكتب على جبينه الذنب، إذا شرب الخمر في الليل خرج في الصباح مكتوب على جبينه شرب الخمر، وكان إذا أصاب البول بشرة أحدهم قطع البشرة، أما نحن فشريعتنا سمحة قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج:78] وهناك رخص تناسب الإنسان وطموحه وأشواقه وآماله، فالمريض له رخصة، والمسافر له رخصة، وكذلك الحائض، والنفساء، والصغير، والنائم، والمجنون كل له أحكام، ولله الحمد والشكر.
قال: الصبر ضياء؛ لأن الصبر فيه مشقة.(396/15)
نماذج من الصابرين
وبالصبر يدرك الإنسان كل خير، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: {واعلم أن النصر مع الصبر} ولا ينتصر الإنسان على نفسه وعدوه إلا بالصبر.
لم يكن عنترة بن شداد الجاهلي الشجاع مسلماً، لكن كان يحطم الرءوس بسيفه، وكان من أشجع العرب، قال له أحد الناس: يا عنترة! جسمي أكبر من جسمك، فكيف تغلب الرجال ولا نغلبهم نحن، قال عنترة: أعطني إصبعك وأعطيك إصبعي، فأعطاه إصبعه وأخذ هو إصبع ذاك، فقال: عض إصبعي وأعض إصبعك، ليدلل له أن المسألة مسألة هل يصبر أم لا، فعض عنترة وعض ذلك، فما لبث ذاك أن قال: آه فانطلقت إصبع عنترة فقال: بهذا غلبت الرجال.
أقسمت أن أوردها حرة وقاحة تحت غلام وقاح
إما فتى نال المنى فاشتفى أو فارس زار الردى فاستراح
إذا سألت الله في كل ما أملته نلت المنى والفلاح
بهمةٍ تخرج ماء الصفا وعزمة ما شابها قول آح
فإذا قال الإنسان: آح، فهذا يعني أنه ما صبر، وكانت العرب تكره للإنسان إذا ضرب بالسيف أن يقول: حس؛ لأن هذا من أصوات ضرب السيف يقال للفرس: صه، يعني: انهض، والعربي الشجاع إذا ضرب بالسيف يكظم أنفاسه، ولا يقول شيئاً.
وهذا خبيب بن عدي لما صلب في مكة، ما قال حرفاً، وإنما أنشد قبل أن يتوفى بدقائق فقال:
فلست أبالي حين أقتل مسلماً على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
وحبيب بن زيد أحد الصحابة مزق جسمه مسيلمة الكذاب، فأخذ يقطع منه قطعة وقطعة وقطعة قالوا: فضم أسنانه بعضها على بعض، وما تلفظ بحرف، فهذا من أعظم الناس.(396/16)
أقسام الصبر
الصبر على ثلاثة أقسام:
صبر على أقدار الله المؤلمة.
وصبر على أداء الطاعات.
وصبر على اجتناب المعاصي.
وأعظمها الصبر على أداء الطاعات وهو: أن تصبر على أداء الصلوات في أوقاتها، وعلى الوضوء، وقيام الليل، والصدقة، والصيام في الحر، والحج، وعلى تكاليف العبادة إن كان فيها تكاليف، فهذا صبر على الطاعات.
والصبر على الأقدار المؤلمة، أن تصبر على موت الطفلة، وموت الوالدة، والحبيب، أو على فقد بصرك، أو سمعك، أو البلاء في جسمك، أو أخذ مالك، أو ضرب جسمك، أو حبسك، فكل هذا من الصبر.
والصبر عن المعاصي أن تصبر على اجتناب الفواحش والمنهيات.
فهذه أقسام الصبر الثلاثة، وأسعدها وأحسنها الصبر الأول، وقد ابتلى الله عز وجل الخليقة بهذه الأصناف، فبعضهم يصبر على الطاعات ولا يصبر عن المعاصي، بعض الناس يقوم الليل من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر، ولكن إذا عرضت له فتاة، لا يصبر؛ بل ينظر، وبعضهم يسمع الغناء، وهذا أخطأ في هذا الجانب، وأصاب في الآخر، وبعضهم يصبر عن المعاصي، ولا يصبر على الطاعة، فتجده لا يسمع محرماً، ولا يعصي الله عز وجل؛ لكنه من أسوأ ما يكون إذا قام للصلاة، وبعضهم يصبر على هذا ولا يصبر على الأقدار المؤلمة، فإذا أتاه جراح، أو ماتت بنته أقام الدنيا وأقعدها، وبقي يبكي سنة، ويتسخط على القضاء والقدر.
ويذكر أن أحد العوام من الناس الجهلاء بالشرع كانت له طفلة، وقد وكان عقيماً، ثم رزقه الله هذه الفتاة، وجاره عنده تسع بنات، فمرضت هذه البنت، وأشرفت على الوفاة، فأخذ يجلس عند الرصيف، ويقول: يا رب! هذه بنت، وفلان عنده تسع وتأخذها، سبحان الله! قالوا: فتوفيت ابنته فخرج -نسأل الله العافية- غاضباً ينظر إلى السماء، ويقول: أما على الضعفاء مثلي وأمثالي فتستطيع، وأما صاحب التسع فما تستطيع!!
ومثل ذلك القصائد التي مرت في الاعتراض على القضاء والقدر فلله الحمد، فله القضاء المطلق، ولا بد من الصبر، وأسعد الناس من إذا أذنب استغفر، وإذا أنعم عليه شكر، وإذا ابتلي صبر، هذه منازل الربانيين الموحدين المحمديين صبر في البلاء، وشكر في الرخاء، واستغفار عند الذنب، وهذه في القرآن جميعاً، فأنت إذا فتحت الأبواب الثلاثة، وأعطيت كل باب منزلته، أسعدك الله في الدنيا والآخرة.(396/17)
القرآن حجة لك أو عليك
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {القرآن حجة لك أو عليك} هذا القرآن لا يقوم على الإنسان إلا بزيادة أو نقص، ليس كتاب ثقافة ولا مطالعة؛ لأن كتاب المطالعة إن قرأت فيه أو لم تقرأ أو تدبرت أو لم تتدبر فأنت أنت، أما القرآن وحده فإنك إذا قرأته متدبراً؛ زادك الله بصيرة، وإلا زادك خسراناً والعياذ بالله، قال سبحانه: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء:82] قال بعض السلف: ما جالس أحد القرآن، فقام عنه سالماً، بل إما أن يربح أو أن يخسر، ثم تلا هذه الآية.
أما قوله صلى الله عليه وسلم: {حجة لك} فإن من عمل بالقرآن دافع عنه القرآن يوم القيامة، وعند الحاكم في المستدرك: {يأتي القرآن والصيام يوم القيامة، فيقول الصيام: يا رب! منعته طعامه بالنهار، ويقول القرآن: يا رب! منعته نومه بالليل، فيستشفعان فيه، فَيَشْفَعَانِ فيه} ولا يزال القرآن يحاج عن العبد يوم القيامة ويقول: يا ربِّ أسهرته، يا ربِّ عمل بي، يا رب ترك نواهيه؛ حتى يدخله الجنة، وفي أحاديث صحيحة: وصف الرسول صلى الله عليه وسلم (سورة تبارك) أنها المنجية، أنجت صاحبها من عذاب القبر، ثلاثون آية حاجت عن صاحبها حتى منعته عذاب القبر؛ لأن ملائكة العذاب أتت إلى رجل في القبر، فأرادوا أن يدخلوا إليه، واقتربوا من وجهه، فأتت (تبارك) دون وجهه، ثم أتت إلى أقدامه فمنعته، وإلى جنبه فمنعته، فحاجت عنه، والمراد من قام بها وعمل بمقتضاها.
وأنا أرشدكم إلى كثرة قراءة سورة الملك {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك:1] وأن تكرروها، ولو في اليوم والليلة مرة، وأن تسعدوا بقراءتها وأن تحفظوها أبناءكم.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: {أو عليك}.
فإنه يأتي لمن أبطل تعاليمه وأبطل مراسيمه، فهو يحجه ويدمغه ويكذبه، ويقول: يا ربِّ قرأني ولم يعمل بي وخالف أوامري، قرأ: {أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود:18] وهو يظلم، وقرأ {وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ} [البقرة:27] وهو يقطع، وفي القرآن لعنة المنافقين وهو ينافق، وتحريم الربا وهو يرابي، وتحريم الزنا وهو يزني، وتحريم الغناء وهو يسمع الغناء، فهذا محجوج يوم القيامة.
فالقرآن أمام رجلين: إما أن يأخذ الرجل فيقوده حتى يدخله الجنة، وإما أن يأخذ الرجل من قفاه حتى يزج به في النار، ولا يترك القرآن العبد أبداً، هذا القرآن حجة لك أو عليك، فعلى الإنسان أن يستعرض حياته ومنهجه ونفسه على ضوء القرآن الكريم الذي نزل على سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام.
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يمثل القرآن يوم القيامة رجلاً، فيؤتى بالرجل قد حمله، فخالف أمره، فيتمثل خصماً، فيقول له: يا ربِّ حملته إياي فشر حامل، تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذ بيده، فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار، ويؤتى بالرجل الصالح كان قد حمله وحفظ أمره، فيتمثل خصماً دونه، فيقول: يا ربِّ حملته إياي فخير حامل، حفظ حدودي، وعمل بفرائضي، واجتنب معصيتي، واتبع طاعتي، فما يزال يقذف له بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذه بيده، فما يرسله حتى يلبسه حلة الإستبرق، ويعقد عليه تاج الملك، ويسقيه كأس الخمر} كأس الخمر الذي في الجنة، رواه ابن أبي شيبة وابن الظريف في فضائل القرآن، والخطيب البغدادي في اقتضاء العلم العمل، وفيه محمد بن إسحاق وقد عنعن وهو مدلس، وقد رواه أيضاً البزار، وذكره الهيثمي في المجمع وقال: فيه ابن إسحاق وهو ثقة، ولكنه مدلس وبقية رجاله ثقات.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: [[القرآن شافع مشفع، وحامل مصدق، فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار]] وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} وهذا عند مسلم: {وتأتي سورتا البقرة وآل عمران كغمامتين أو كفرقان من طير صواف تظلان صاحبهما يوم القيامة} وصح عنه أيضاً أنه: {يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارتق ورتل؛ فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها} فيقرأ الذي كان يقرأ في الدنيا ويعمل حتى يقف إلى مستوى حفظه في الدنيا، فنسأل الله أن يعيننا وإياكم على حفظه، والعمل به وتلاوته آناء الليل وأطراف النهار.(396/18)
كل الناس يغدو
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: {كل الناس يغدو}.
فالغدو هو الذهاب -عند أهل اللغة- في أول النهار، قال النابغة الذبياني:
زعم البوارح أنَّ رحلتنا غداً وبذاك خبرنا الغراب الأسود
يتشاءم بالغراب، والعرب يتشاءمون بالغربان.
يقول: الأسود أخبرنا بأننا سوف نسافر غداً، والشاهد هنا غداً، ولكن قد تستخدم في غير غدو الصباح، مثل ذهب ورجع فيقال: غدا وراح.
فقوله: يغدو أي: يذهب، فمعناه يذهب في تجارته وفي كسبه وفي عمله، فهو على أحد رجلين: إما مرضياً عنه، وإما مغضوباً عليه، والناس على ذلك: الأستاذ والموظف والجندي والمسئول والكبير والصغير والتاجر والفلاح والطبيب والمهندس والمؤذن، كلهم يغدو في الصباح، يركب سيارته إلى عمله، فهو أحد صنفين إما ذاهب في غضب الله حتى يعود، أو في رضا الله حتى يعود.
وأنا أضرب لك مثلاً: موظف ذهب متوضئاً، وقد صلى الفجر في جماعة، وذكر الله عز وجل فذهب إلى عمله وفي نفسه أن ينصر دين الله، وأن ينصر أولياءه وأن ينهي أمور المسلمين وأن يساعد المحتاجين وألا يتغيب عن وظيفته وأن يؤدي أمره على أحسن وجه، لحديث: {إن الله يحب من أحدكم إذا عمل عملاً أن يتقنه} فذاك في رضا الله حتى يعود، وهذا الذي اشترى نفسه من الله.
وموظف ترك صلاة الفجر فلم يصلها في جماعة، وقام بلا ذكر، وذهب إلى عمله، قلبه معقود على الغضب وعلى الكبر، لا يريد نفع المسلمين ولا أداء عمله على أحسن وجه، ولا يريد الإحسان إلى المساكين، يؤخر معاملات الناس، ويرتشي في أموره ويغضب إذا دخل عليه الصالحون، أخذ منصباً؛ حرباً لأولياء الله، وحرباً لعباد الله، يدس لهم الدسائس، ويعمل لهم الأحابيل، فهذا في غضب الله وفي لعنة الله حتى يعود، فقس طبقات الناس على ذلك، والله رقيب على الأعمال ورقيب على التصرفات، وهو الذي يحاسب الناس ولا يحاسبه أحد، لا معقب لحكمه، فلا يوقع بعده أحد، لا يسأل عما يفعل وهو يسألون، ويستعرض سبحانه وتعالى طبقات الناس يوم القيامة -الجنود والموظفين، والأساتذة، والطلاب، والفلاحين والتجار- في يوم العرض الأكبر، فيحاسبهم بأيامهم وما فعلوه.
والناس على ضربين:
رجل جعل وظيفته ومنصبه حرباً لله ولرسوله ولأوليائه، فلا ينتقد إلا الصالحين، ولا يعادي إلا الأخيار، ولا يقف حجر عثرة إلا عند الأبرار، فيسهل أمور الأشرار، ويتقرب إلى الفجار، ولا يراقب الله الواحد القهار.
ورجل آخر جعل منصبه دعوة إلى الله، واستخدمه في طاعة الله، فقرب الأخيار، وسهل أمور المساكين، ولم يحتجب عن حاجة الناس يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {اللهم من ولي من أمر أمتي شيئاً فشق عليهم فاشقق عليه، ومن ولي من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به} وقال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {من ولي من أمر أمتي شيئاً، فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم، احتجب الله دون حاجته وخلته يوم القيامة} والله يجازي الناس بمثل ما فعلوا، فجزاؤهم مثل ما فعلوا {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت:46] فهذا معنى: {كل الناس يغدو فبائع نفسه} وهناك ثلاث آيات هي في العقود والصكوك الموقعة من رب العالمين، ليست عقود الدنيا ولا بيع السيارات والعمارات، العقد الذي وقعه محمد صلى الله عليه وسلم، وأتى به جبريل.
جبريل يروي لنا الآيات في حلل من القداسات تهمي عندها السجف
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
أملاك ربي بماء المزن قد غسلت جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف
والعرش يهتز من هول ومن فرق لـ سعد إذ سفراء الوحي قد وقفوا
فهذا البيع وهذا الشراء {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} [التوبة:111] في مجلس العقد، وقال سبحانه: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة:111] وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] وقال سبحانه: {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر:15] وقال سبحانه: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة:14] هؤلاء المنافقون المردة، يجلس أحدهم مع الصالحين، فيتذلل لهم ويمدح الدين، ويلقي لك محاضرة في فضل الإسلام وفي فضل الدعاة والعلماء، فإذا جلس في الخفايا أخرج خنجره يطعن به الإسلام {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:14 - 16].
بعضهم يقولون: ضحكنا على هذه الدقون واللحى، قال الله سبحانه: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:15] قال أهل العلم: هؤلاء يخادعهم الله يوم القيامة مثلما يخادعون الصالحين، يمد لهم نوراً فيمشون على الصراط، ويظنون أن هذا النور سوف يوصلهم إلى الجنة، فإذا وقفوا وسط السراب، أطفأ الله عليهم النور، فسقطوا في جهنم، وهذه أعظم خديعة، وهذه هي والله اللعبة الأممية التي ما سمع الناس بمثلها.
وفي الصحيحين: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام لما أنزل الله عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214]-قال: في الشراء والبيع- قال: يا معشر قريش اشتروا أنفسكم من الله لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب لا أغني عنكم من الله شيئاً}
وفي رواية للبخاري: {يا بني عبد مناف اشتروا أنفسكم من الله، يا بني عبد المطلب! اشتروا أنفسكم من الله، يا صفية عمة رسول الله، يا فاطمة بنت محمد اشتريا أنفسكما من الله، لا أملك لكما من الله شيئاً} هذا الشرف.(396/19)
من هو معتق نفسه ومن هو موبقها؟
قال: {فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها}.
والوبق: الهلاك، وأوبقه: أهلكه، وموبقاً: مكاناً ضيقاً، فالإنسان بعد ما جرح بالنهار يكون على أحد ضربين:
رجل أعتق نفسه وشراها من الله، وأعتقها من الذل ومن الهلاك، فهذا سعيد، ورجل أوبق نفسه في الذل والهلاك، فهذا شقي والعياذ بالله، ولذلك قال بعض العلماء: عليك أن تبحث في صحائف أعمالك وقت النوم، إذا أتيت إلى الفراش واضطجعت، فانظر ماذا فعلت: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] فتنظر في صحيفتك وماذا فعلت؟ وماذا قدمت؟ وهل أحسنت أم أسأت؟ واعلم أن منزلتك في الدنيا عند النوم كمنزلتك يوم العرض الأكبر.
أما العتق الحقيقي فهو أن تعتق رقبتك من النار، والعبد الحقيقي هو عبد شهوته، وعبد بطنه، وعبد درهمه، وعبد منصبه، قال صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش}.
قال بعضهم:
أطعت مطامعي فاستعبدتني ولو أني قنعت لكنت حراً
وقال الآخر في عبودية الواحد الأحد:
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
يقول: أنا زادني الشرف أنك دعوتني {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الزمر:53] قال: فادعني بهذا لأكون عبداً لك؛ لأن أهل العلم يقولون: من لم يكن عبداً لله كان عبداً لغيره، حتى تجد بعض الناس لا يتشرف بحمل عبودية الله، فتجده عبداً لغيره، ولو كان فريقاً ولو كان عليه ست عشرة نجمة، لكنه إذا لم يكن عبداً لله كان عبداً لغيره، حتى تجده من أذل الناس للناس ومن أعصى الناس لرب الناس، أما مع الله فمتمرد قوي، وأما مع هؤلاء فأضعف الناس، حتى يرتعد ويختلط ويرتفع عنه القلم من الخوف، يقول أحدهم:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
وبعض الناس يغضب لعبوديته هذه، فتجده يقاتل على الأرض وعلى السيارة وعلى العمارة، شجاعته فقط في أمور الأرض، وهذا حال غالب الناس وأقولها صراحة: نحن شجعان عند الأراضي حتى يقول أحدهم: والله لا تأخذ منها شبراً واحداً لو أذهب أنا وأسرتي.
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
رفيق صلاح الدين هل لك عودة فإن جيوش الروم تنهى وتأمر
بالمسدس عند المحكمة وفي مجامع الناس ويقول: والله لا أقدم ولو شبراً واحداً، ولو أذهب وأسفك دمي، لكن المنكرات والفواحش والفجور والتعدي على الدين وانتهاك الحرمات وضياع الأمة وضياع مبادئ الأمة وضياع إياك نعبد وإياك نستعين لا يغضب لها غضبة ولا يتحرك حركه، وإذا كلمته يقول: كُلْ وعش واسكت، هذا البطل صاحب الأرض الذي يغضب للسيارة أو للعمارة.
فكيف كان خالد؟ خالد قدم جميع أمواله في سبيل الله، ومع ذلك كان خالد إذا سمع أحداً يتعرض لكلمة التوحيد حملقت عيونه وذهب خالد إلى قبيلة من قبائل العرب سيدها مالك بن نويرة، وكان بطلاً، فقال خالد: ادفع الزكاة قال: الزكاة التي يطلبها صاحبكم؟ -يعني: الرسول عليه الصلاة والسلام- وهذه كلمة باردة، سامجة لا تدخل في مزاج، قال خالد: سبحان الله! وليس بصاحبك يا عدو الله! والله لأذبحنك، ثم تقدم إليه فقتله، فقالوا: تسرع خالد ولذلك قال أبو بكر: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد، وخالد قتله؛ لأنه سمع كلمة لا يستطيع أن يتحملها، كل شيء إلا هذا.
حتى أحد الخلفاء دخل عليه القاسم بن عبيد الله أحد الوزراء فقال في كلمة له عن التدرج في المناصب: الإنسان يتدرج في المناصب حتى يصل إلى ما وصله الله، مثل الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- كان راعياً ثم تاجراً مع خديجة ثم ارتقى به الحال حتى صار رسولاً، فقام الخليفة عليه فوجهه إلى القبلة وذبحه: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] ذبحه لكن على الطريقة الإسلامية.
والجعد بن درهم هذا قال: ما كلم الله موسى تكليماً، ولا اتخذ الله إبراهيم خليلاً، قال خالد بن عبد الله القسري حاكم العراق: قيدوه، فقيدوه، فلما أتى عيد الأضحى صلى بالمسلمين في الكوفة وقال: يا أيها الناس ضحوا تقبل الله أضحياتكم فإن مضحٍ بـ الجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً ولم يتخذ إبراهيم خليلاً، ثم نزل ومعه الخنجر قال: وجهوه إلى القبلة فبرك على صدره اثنان ثم بدأ بسم الله الرحمن الرحيم فذبحه، فيقول ابن القيم يمدح خالداً:
ولأجل ذا ضحى بـ جعد خالد القسري يوم ذبائح القربان
إذا قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
ومن أراد أن يذبح فليذبح مثله البدنة عن سبعة، وإن كانت الشجاعة اليوم تستغل لخدمة الدنيا وهذه الهمم القاصرة، وهذه والله الطموحات الأرضية الطينية التي تنهار أمام طموحات خالد بن الوليد وطارق وصلاح الدين وعظماء الإسلام.(396/20)
فضل التكبير والتهليل
ذكر صلى الله عليه وسلم الحمد لله وسبحان الله وما بقي إلا التكبير، قال في حديث أبي هريرة: والرجل من بني سليم: {أنه وحده يملأ ما بين السماوات والأرض} يعني: التكبير وحده يملأ ما بين السماوات والأرض، وفي حديث علي بن أبي طالب: {أن التكبير مع التهليل يملأ السماوات والأرض وما بينهن} والله عز وجل قال في الجنة: {عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] يقول بعض الناس: إذا كانت الجنة عرضها السماوات والأرض فأين السماوات والأرض؟
أجاب صلى الله عليه وسلم قال: {إذا أتى الليل فأين النهار، وإذا أتى النهار فأين الليل} والله هو الحكيم الذي خلق سبحانه وتعالى، وأما التهليل وحده؛ فإنه يصل إلى الله من غير حجاب بينه وبينه، وهي أعظم الكلمات، ليس فوق الكرة الأرضية أعظم من لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأخرج الترمذي من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما قال عبد: لا إله إلا الله مخلصاً إلا فتحت له أبواب السماء حتى تفضي إلى العرش ما اجتنبت الكبائر} رواه الترمذي، والنسائي، وحسنه الترمذي، وهو كما قال.
وقال أبو أمامة: ما من عبد يهلل تهليلة فينهنهها شيء دون العرش، ما يؤخرها شيء حتى تصل إلى العرش {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] وسأل أبو هريرة رسول الله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله يوم القيامة؟ قال: من قال لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه} وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {من كان آخر كلامه من الدنيا: لا إله إلا الله؛ دخل الجنة} أي: معتقداً بها عاملاً بمقتضاها مجتنباً لما يضر لا إله إلا الله ويقدح في لا إله إلا الله من الكبائر، وأما قضية أن تقال: لا إله إلا الله باللسان ثم تكذب بالأفعال، فهذه يقولها النصراني، ويقولها اليهودي ويقولها البلشفي الأحمر، لكن لا إله إلا الله بمقتضاها.
لا، وورد أنه لا يعدلها شيء في الميزان، كما في حديث البطاقة المشهور وقد خرجه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وفي آخره عند الإمام أحمد: {ولا يدرك شيء بسم الله الرحمن الرحيم} وفي المسند عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن نوحاً عليه الصلاة والسلام لما حضرته الوفاة قال لابنه: آمرك بلا إله إلا الله} والظاهر أن لنوح ابناً آخر غير الابن الذي قال: {قَالَ سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [هود:43] فذاك ذهب في الهلاك، وهذا ابن صالح فقال: {آمرك بلا لا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة ووضعت لا إله إلا الله في كفة رجحت بهن لا إله إلا الله} وهذا الحديث رواه أحمد، وصحح إسناده الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية وهو في مجمع الزوائد، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {إن موسى عليه السلام قال: يا ربِّ علمني شيئاً أذكرك وأدعوك به، قال: يا موسى قل: لا إله إلا الله قال: كل عبادك يقول هذا، إنما أريد شيئاً تخصني به، قال: يا موسى: لو أن السماوات السبع وعامرهن غيري والأرضين السبع في كفة ولا إله إلا الله في كفة مالت بهن لا إله إلا الله} وهذا الحديث رواه أبو يعلى وابن حبان والحاكم ووافقه الذهبي، وحسنه ابن حجر في فتح الباري مع أن في إسناده دراجاً أبا السمح، وهو ضعيف في روايته عن أبي الهيثم، وهذا الحديث منها.
وأي الكلمتين أفضل "لا إله إلا الله" أو "الحمد لله"؟
الذي يظهر أن لا إله إلا الله أفضل، قالوا: أما في الثناء فالحمد لله، وأما في الدعاء فلا إله إلا الله، أفضل الدعاء: لا إله إلا الله، وأفضل الذكر: الحمد لله، وقيل: أفضل الذكر لا إله إلا الله، وأفضل الدعاء الحمد لله، فإن الحمد لله تتضمن معنى الدعاء، لكن من أفضل الكلمات التي قاتل عليها عليه الصلاة والسلام: لا إله إلا الله، ومن أجلها أرسل الله الرسل، وأنزل الكتب، وشرع الشرائع، ونصب الميزان، ومد الصراط، وبنى الجنة، وجعل النار، وأقام الحجة وأقام المحجة، كل هذا من أجل لا إله إلا الله، ومن أجلها دمر الله الأرض خمس مرات، مرة بالطوفان، ومرة بالزلزال، ومرة بالصيحة، ومرة بالحاصب، ومرة بالغرق، ومن أجل لا إله إلا الله بعث الله الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وهي المحجة التي يأتي بها العبد يوم القيامة، وفيها البطاقة، والله المستعان.(396/21)
واقعنا مع الحديث
أيها الإخوة بقي من المسائل: واقعنا مع الحديث باختصار.
الآن يقول عليه الصلاة والسلام: {الطهور شطر الإيمان} فكثير من الناس يتوضأ ويصلي، ولا يستحضر هذه الفضائل، فلا يستحضر أن الطهور شطر الإيمان ولا يتذكر، بل قلبه ساهٍ لاهٍ، ولا يتأمل هذه الأجور؛ لأن أجرك على قدر تذكرك، فالله الله في تذكر هذه الأجور العظيمة.
ومنها قول: {والحمد لله تملأ الميزان} إن من الناس من ظن أن الحمد باللسان فقط، فعصى الله وتعدى حدوده، وأخذ كل ما يقدر من نعم الله، ثم قال: الحمد لله، حتى اقتصر ثناء الناس على الله باللسان فقط، تقول: انظر إلى الأمن الذي نعيشه، وانظر إلى الرخاء الذي نحن فيه، يقول: الحمد لله، الله لا يغيرها نعمة، لكنه ما استخدمها في شكر المنعم سبحانه وتعالى، وبعض الناس يظن أن النعيم فقط هو ما يشاهده في السوق من الجرجير والخيار والبطاطس، فكلما رأى الخيار والجرجير والبطاطس طارت نفسه فرحاً.
طفح السرور عليّ حتى أنني من عظم ما قد سرني أبكاني
وقال: لا غيرها الله من نعمة، والنعمة العظيمة الحقيقية عند أهل العلم نعمة التوحيد ونعمة الإيمان والتوجه إلى الله.
ما الفرق بين الأعرابي المؤمن الذي يصلي ويقوم الليل، ويصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وهو يسكن في خيمة في تهامة، وبين المجرم الذي يسكن في الدور العاشر، ويصعد بالمصعد -الأصنصير- وعنده سيارة فاخرة، وهو لا يصلي الفجر في جماعة، ومعه الشيكات يلعب بها كلعب البلوت، وهذا الأعرابي لا يعرف الريال وما قد رآه في حياته، فما الفرق بين النعمتين؟ هذه نعمة دواب ونعمة حيوان {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه:124] وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35] ليس الفضل بكثرة الأكل، فالحمار يأكل ما يقارب عشرين كيلو، وبعض الناس لا يأكل إلا ربع كيلو، وليست بالقوة، فالثور أقوى ما يكون، وليست الضخامة فجسم الفيل ضخم، ولكن بالإيمان والعمل الصالح والنور، فالناس الآن يقول أحدهم: الحمد لله، بينما لا يعمل بمقتضى الحمد لله، فلو أنه حمد الله في العمل، وحمد الله في البيت، وحمد الله في المنهج الذي يعلمه ويدرسه ويقوم به، وحمد الله في أنه يغار على أن تسلب الحمد لله؛ لأن الأمة إذا لم ينصح عاقلها سفيهها، ضربها الله ضربة قاصمة: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود:102] فلا بد أن يغار على منهج الله، وأن يتمعر وجهه إذا رأى أن المعاصي تنتشر، وأن أعداء الله يرتفعون، وأن أولياء الله يخفضون.(396/22)
واقعنا مع الصلاة
منها: قول النبي صلى الله عليه وسلم: {والصلاة نور} فأين دور هذا النور في حياتنا؟ هل ترى هذا النور على مجتمعنا؟ هل تراه في مدارسنا؟ هل تراه في نوادينا؟ هل تراه في جامعاتنا؟ هل تراه في جيشنا؟ هل تراه في ضمائرنا؟ هل تراه في كل فرد من أفرادنا؟ لماذا يصلي كثير من الناس الآن ولا ترده الصلاة عن المعاصي؟ فكثير من الناس يصلي ويشرب الخمر، أو يصلي ويستهزئ حتى بالقرآن، أو يصلي ويحارب العلماء، فأين الصلاة؟ قال أهل العلم: الصلاة التي هي صلاة {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
فقل لـ بلال العزم من قلب صادقٍ أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
والأمة لَوْ صَلَّتْ لَوَصَلَتْ، فلما لم تصلِّ فُصِلَتْ، والصلاة معناها صلة بين العبد وبين الله، فتجد المصلين الصادقين يصل نورهم، وجيش يهون عليه ترك المعاصي حتى يقول محمد إقبال:
نحن الذين إذا دعوا لصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
جعلوا الوجوه إلى الحجاز فكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] ثم توالي أعداء الله! تقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وتعادي أولياء الله! وتستهزئ بدعاة الإسلام! وتستخف بالعلماء! والله وجد في بعض الناس أنه يحب الكفار أكثر من حبه للمؤمنين، ومجالسه فقط تعليق على اللحى وتقصير الثياب والمسواك والمطاوعة والمتطرفين والمتزمتين، أما مع أعداء الله، فتجده كالأرنب، وهذا واقع، فأين عقيدة {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟! وأي خيانة لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]! وأي عمالة أمام {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]! وأي إهانة لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]! وأي انشقاق لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5]؟! أولياء الله هم أسعد الناس ولذلك لهم حق عليك {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54] صاحب اللحية والثوب القصير هو الذي نصر الإسلام، هؤلاء هم الذين مزقوا أجسامهم في أفغانستان بالدبابات من أجل أن ترتفع لا إله إلا الله، هؤلاء أبناء أهل بدر وأهل أحد وحطين واليرموك، هؤلاء أتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، ألا يعجبك هذا الشكل؟! أتريد أن يتزلج على الثلج، أم تريد جمع الطوابع، أم تريد موسيقى؟! هذه خيانة لـ {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
هذا واقعنا مع {الصلاة نور}.(396/23)
واقعنا مع الصدقة
{والصدقة برهان} لا بد أن تجري الصدقة في عروقنا ودمائنا، أما أن تكون منا أمة يعيش أحدهم متخماً، اللحم عنده تشبع منه القطط، وتموت حبطاً في القمامة، وأمة أخرى تموت جوعاً وعرياً على التراب، فلا.
هذا حرام، لا بد أن يكون هناك توازن؛ تنقص من وجبتك لتعطي جارك {ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع} يتخم ويلعب بالملايين المملينة، وجاره ينام على الرصيف، ولا يجد ما يحمله، ولا يجد ما يسد رمقه، فأين الجوار؟! أين الإيمان؟! أين إياك نعبد وإياك نستعين؟! أين دور {والصدقة برهان}؟! أين دورها في الحياة؟! يقول أبو تمام:
إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا من كان يألفهم في الموطن الخشن
وإن أولى الموالي أن تواليهم عند السرور الذي واساك في الحزن
وقال حاتم الطائي لامرأته:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
لله هذه البطولة! يقول: إذا صنعت الزاد وقدمته على السفرة، فلن آكله حتى تأتي بضيف معي.
إبراهيم عليه السلام عاهد الله ألا يأكل إلا مع ضيف، وقال لمواليه وعبيده: من أتى منكم بضيف فهو عتيق لوجه الله، فكان الواحد منهم يحرص على الضيف كما يحرص الأعمى على شاته.(396/24)
واقع الصبر في حياة المسلمين
قال صلى الله عليه وسلم: {والصبر ضياء} أين دور الصبر في حياة المسلمين؟ لماذا ينهار شبابنا أمام المسلسل؟! لماذا ينهارون أمام الفيديو؟! لماذا يأتيك الشاب ويبكي أمامك وهو طويل الجسم قوي البنية يهد الجدار، تقول له: اترك الغناء.
قال: والله لا أصبر، حاولت وحاولت لكن اعذرني.
والله هو الذي يعذر ويعاقب أما أنا فليس عندي صكوك الغفران، ولو كانت عندك همة عالية لكانت تكسر الحديد، همه كهمة سعد بن أبي وقاص وسعد بن معاذ وأبي بن كعب لانتصرت على الأغنية، والسيجارة، وعلى لعب البلوت، نحن أمة نلعب بلوت، ما معنى لعب البلوت في حياتنا؟! أنا لا أقول الآن: هو حلال أو حرام لكن أنتم أبناء خالد، أنتم أبناء سعد، أنتم أبناء طارق، أنتم أبناء صلاح الدين، إذا تخلفتم في العالم الإسلامي وأتوا إليكم فوجدوا لعب البلوت والموسيقى وجمع الطوابع والمراسلة وصقور الصيد والغناء والفحش والضياع فماذا نقول للعالم؟! ماذا نقول للتاريخ؟! كيف نحتج؟!
لو أخبروا عمر الفاروق نسبتهم وأخبروه الرزايا أنكر النسبا
أبواب أجدادنا منسوجة ذهباً لكنْ هياكلنا قد أصبحت خشبا
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا
دمشق يا كنز أحلامي ومروحتي أشكو العروبة أم أشكو لك العربا
أدمت سياط حزيران ظهورهم فقبلوها وباسوا كف من ضربا
وطالعوا كتب التاريخ واقتنعوا متى البنادق كانت تسكن الكتبا
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلى عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا
عافوا حياة الخنى والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا
مجدنا صحوة إمامها محمد عليه الصلاة والسلام.
من حبلك الشهم في كف الهدى طرف على التراب وفي أرواحنا طرف
على جماجمنا خض كل معركة أعلى الرءوس التي في الله تختطف
ما هو دستورها؟ القرآن والسنة، أين مسيرتها؟ على {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] من هم أعداؤها؟ المغضوب عليهم والضالون، إلى أين تصل؟ إلى جنة عرضها السماوات والأرض {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46] من أعلى منا؟ من أحسن منا؟ من أسعد منا بهذا الدين؟ فلماذا يعلق علينا؟ ما هي جناية الأمة المسلمة؟ ما هي جناية الصحوة أن تعلقت بلا إله إلا الله؟ أهي مسئولة عن ترويج المخدرات؟ أهي مسئولة عن ترويع الآمنين؟ أهي مسئولة عن تهديد الأمة؟ أهي مسئولة عن استيراد الأفكار من الغرب وإدخالها التعليم وشحنها في الأذهان؟ أهي مسئولة في إياك نعبد وإياك نستعين؟ أهي مسئولة في ذبح لا إله إلا الله؟ لا.
بلاد أعزتها جيوش محمد فما عذرها ألا تعز محمدا
ما عذر الأمة ألا تعز محمداً وقد أعزها بجيوشه؟! يقول البردوني وهو شاعر لا زال حياً في صنعاء:
طه إذا ثار إنشادي فإن أبي حسان أخباره في الشعر أخباري
أنا ابن أنصارك الغر الألى سحقوا جيش الطغاة بجيش منك جرار
تظافرت في الحمى حوليك أنفسهم كأنهن قلاع خلف أسوار
إذا تذكرت عماراً وسيرته فافخر بنا إننا أحفاد عمار
هذه سيرة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا منهجه.
وجيله يجلس الآن هنا ليسمع الذكر، لأن هناك جيلاً يجلس أكثر منكم مع الكرة والمنتخب والكأس، وجيل هناك يجلس على البلوت وما أدراك ما البلوت، وجيل هناك على جمع الطوابع، وجيل هناك على الشاطئ، وجيل هناك على الأرصفة في المغازلة والضياع، أما أنتم فجلستم هنا، الله يرقبكم الآن، يقول لكم بعد دقائق: انصرفوا مغفوراً لكم فقد رضيت عنكم وأرضيتموني، يباهي بكم الملائكة يقول: في البلد الفلاني في المكان الفلاني في المجلس الفلاني قوم اجتمعوا، فتقول الملائكة كما في صحيح مسلم: {يا رب يسبحونك، فقال: هل رأوني؟ قالوا: لا والله ما رأوك -والله أعلم- قال: كيف لو رأوني؟ قالوا: كانوا أكثر تقديساً لك، قال: وما يسألون؟ -والله أعلم- قالوا: يسألونك جنتك، قال: هل رأوها؟ قالوا: لا يا رب قال: كيف لو رأوها؟ قالوا: لو رأوها لكانوا أكثر مسألة، قالوا: ويستعيذونك، قال: ممَ؟ -والله أعلم- قالوا: من النار، قال: هل رأوا النار؟ قالوا: ما رأوها، قال: كيف لو رأوا النار؟ قالوا: كانوا أشد استعاذة، قال: أشهدكم أني غفرت لهم وأدخلتهم الجنة، قالوا: يا رب! معهم فلان إنما جلس لحاجة، قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم}.
فنسأل الله أن يسعدنا وإياكم، ليس معنا إلا هذه المجالس، هي مجالس الإيمان، وهي مجالس الجنة، وهي مجالس الملائكة، هي الكنز الذي تلقاه يوم العرض الأكبر، قال عطاء بن أبي رباح: [[مجلس واحد من مجالس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللهو]].
أيها الإخوة: انتهت المحاضرة بحفظ الله ورعايته، ونحن نطلب منكم دماً هذه الليلة، مستشفى عسير المركزي يطلبكم أن تتبرعوا بدمٍ من دمكم الطاهر لأناس يحتاجون إلى الدم:
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود
والتبرع بالدم أفضل من التبرع بالمال، وهو أغلى من الذهب والفضة، وأنتم بحاجة أن تحيوا النفوس، {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة:32] وعلى الأسرة أناس ينتظرون منك قطرات أن تدفعها لتلقاها {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] رجال ونساء توقفت حياتهم على قطرات دم تدفعها أنت في بنك {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ} [النحل:96] يأخذونها منك ويدفعونها في شرايين هذا الرجل الذي أصبح قاب قوسين أو أدنى من الموت فينتعش بدمك فيعود حياً إذا كان الله قد أذن له بها، فيأكل ويشرب ويسعد بالحياة كما سعدت بها.
هذا تقرير من طبيب، منطقة أبها لا يؤثر فيها سحب الدم؛ لأنها ترتفع عن البحر ثلاثة آلاف متر فوق مستوى سطح البحر يزيد من تركيز الدم، وثخونة الدم يعرقل دورانه في الجسم والتبرع يجعله سهلاً، ويجعل حركته منتظمة ويعينك إن شاء الله على حياة سعيدة، أنتم أبناء من تبرعوا بدمائهم في بدر وحطين واليرموك وأحد وسكبوا الدماء وضرجوا بها الأكفان، وأنتم الآن لستم في جبهة ولستم في ثغرة، جبهتكم أن تدفعوا من دمائكم شيئاً قليلاً لأولئك الذين ينتظرونكم في مستشفى عسير المركزي قال تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [آل عمران:133] فتبرعوا من دمائكم عسى الله أن يعوضكم بجنة عرضها السموات والأرض، وعسى الله أن يحرم دماءنا ودماءكم على النار.
ومن أراد فليذهب للأطباء هناك وسوف يتم ذلك بعد الكشف عليه، ومن المبشرات أنهم سوف يمنحونك عصيراً مشكلاً بعدما يسحبون الدم منك وشيئاً من البسكويت ليعوض عنه ما أخذ وهو مجاني والحمد لله.
فنسأل الله أن يسعدنا وإياكم في الدار الآخرة، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، ولا يرينا وإياكم لا سوءاً ولا مكروهاً، وأن يحفظنا وإياكم بعين رعايته، ونسأله سبحانه وتعالى لمن أراد بالإسلام والمسلمين سوءاً أن يشغله بنفسه، وأن يكفينا شره، وأن يهتك أستاره، وأن يفضح أسراره، وأن يجعله عبرة للمعتبرين، اللهم من سل على المسلمين سيفاً فاقتله به، واجعل تدبيره تدميره يا رب العالمين.
اللهم تولنا فيمن توليت، واهدنا فيمن هديت، ووفقنا لكل خير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(396/25)
الإسلام والتحديات المعاصرة
الإسلام محارب منذ أن وجد على وجه الأرض، وهذه من سنن الله الكونية، وقد تمثل حرب الإسلام في عدة أمور منها:
نشر الإلحاد والشهوات، وزرع الخلاف بين المسلمين، والمؤامرة على المرأة المسلمة لتكون سافرة عاهرة، ووصم الدين الإسلامي بأنه دين تطرف، وهدم الاستعلاء عند المسلمين، والإعجاب بحضارة الكفار.
وقد تطرق بذكر كيفية مواجهة هذه التحديات والأسباب التي تعين الشاب على الثبات على هذا الدين.(397/1)
جوانب التحديات المعاصرة على الإسلام
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان هذه المحاضرة هو: " الإسلام والتحديات المعاصرة"
أيها الإخوة: إن الإسلام مصارَع ومحارَب منذ أن وُجد على الأرض، ومن سنن الله الكونية أن يحارب ويصارع؛ لأنه عظيم يقول الله سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] ويقول سبحانه: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] ولأن هذا الدين بعظمته لا بد له من أعداء ولا بد أن يفهم الدعاة وطلبة العلم والعلماء والمتوجهون إلى الله مسألة خطيرة، تتكون من شقين:
الأمر الأول: أنه لا يمكن أن نبقى بلا قراءة، وقضية أن تُسلَّم لنا الساحة ونظفر بها بلا قتال ولا مجاهدة فليس بصحيح، ولو سُلِّمت لأحد من الناس لسُلِّمت لمحمد عليه الصلاة والسلام إذاً لا بد من دموع، ولا بد من تضحية، ولا بد من قتال وشهداء، ولا بد من تشويه لمعالم الحق، واتهامات مغرِضة، وتعليقات مرة، فهو أمر طبيعي، بل هو قضاء وقدر.
الأمر الثاني: إذا قلنا: إن الإسلام محارَب؛ فلا يعني هذا أن يجلس الدعاة؛ لأن بعض الدعاة أصابهم قنوط ويأس، يقولون: كفر العالَم، وألحد الناس، واجتاحنا الكافر، وتحوَّلت الديانات إلى كفر، فالله المستعان! ثم تلفف ببردته، وجلس في بيته يصلي الضحى وقيام الليل ويبكي أحسن في جانب، ولكنه والله انهزم في الجانب الآخر، وفشل في الساحة، والله لا يريد هذا الانهزام، ولا يريد من المسلم أن يفشل.
الإسلام والتحديات المعاصرة التي نعيشها يمكن أن تُجمل في ثمان مسائل:
المسألة الأولى: الإلحاد.
وهو أكبر ضربة تُوجَّه ضد شبابنا ونَشْئنا وجيلنا وقلوبنا وبيوتنا الإلحاد ومركبه الأدب، وقد ركب قبل أربعين سنة أو أقل منها على مركب الاقتصاد، وعندي وثائق وحقائق وبراهين عن ناشئة ذكرتُهم البارحة رضعوا ثدي الإلحاد في بلادنا، واستنشقوا هواءنا وشربوا ماءنا، وسوف نسمع ماذا قالوا يوم غُزوا بالإلحاد، ويوم تحدانا بهم الكافر ليحاربنا بأقلام مِنَّا.
المسألة الثانية: الشهوات.
المسألة الثالثة: زرع الخلاف في الصفوف بتهييج مواطن النزاع وتضخيم مواطن البَوْن بين المسلمين على غير طائل إلا نتيجة الفُرقة والتشتت والتمزق.
المسألة الرابعة: وصم الدين بالتطرف.
وقد أسست ذلك هيئة الإذاعة البريطانية وبثَّته على العالم، ووكالاتُ أنباءٍ متطرفة، وليس المسلمون هم المتطرفون.
المسألة الخامسة: المؤامرة على المرأة.
فإننا كلما طُعِنا أتت الطعنة الكبيرة من جانب المرأة.
المسألة السادسة: تعليل تخلف المسلمين بتمسكهم بالدين.
وكأننا لم نصنع سيارة ولا صاروخاً إلا لأننا ربينا لحانا وقصَّرنا ثيابنا، وكأن الإنسان إذا حلق لحيته وطوَّل ثوبه وتفرنج وأصبح خواجة سوف يستطيع أن يصنع طائرة وصاروخاً، وكأن هذا المسلم بليد وغبي، والسبب عندهم -وهؤلاء دعاة الوثنية الإلحادية في ساحتنا- السبب هو أن المسلم متمسك بدينه.
قال الناظم:
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة
مر أحد هؤلاء الضائعين الذين لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، ليس بمسلم ولا خواجة، ما صنع طائرة ولا صاروخاً ولا ثلاجة ولا برادة، وما جلس معنا يصلي ويقرأ القرآن مرَّ بشيخ في مكان من الأمكنة، والشيخ يقرأ على التلاميذ ويشرح لهم الروض المربع في الفقه، فقال هذا المتطور: يا شيخ! الناس صعدوا على سطح القمر، وأنت لا تزال في الروض المربع؟! فقال الشيخ: أما أنت فلا صعدت على سطح القمر ولا جلست معنا تقرأ الروض المربع لكنك ضائع، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
فنقول: ليتهم عندما ضاعوا فعلوا مثل فعل الكافر؛ لكنهم تبجَّحوا وجعلوا يحاربوننا ويحاربون هذا التوجه العظيم الذي أعاد الله به للأمة روحها وكيانها، وسوف تكون نتائجة محمودة -بإذن الله- بمثل هذه المؤتمرات، واللقاءات والدروس، وتبادل وجهات النظر وتناسي الخلاف إلا فيما يمكن أن يكون فيه تنبيه أو رد.
المسألة السابعة: هدم الاستعلاء في نفوس المسلمين.
وكما تفضل الشيخ/ سلمان البارحة في قوله: أصبحت كلمة (كافر) صعبة إذا أتيت إلى أمريكا -وهو مجتمع كافر- فلا تقل: كافر، بل قل: أمريكي قل: مجتمع غربي، حضارة غربية ولذلك بعض الكتبة والمفكرين من المسلمين يستخدم هذه العبارات، ويقول: بلا قسوة، ويستدل بقوله تعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] وكلَّما قلنا له شيئاً قال: القوم هناك مسلمون بلا إسلام، وعندنا إسلام بلا مسلمين! هذا الرجل وأمثاله عندهم عدم استعلاء، وانهزامية داخلية في نفوسهم، وليتهم أبقوا هذه الكلمات اللطيفة مع شباب الإسلام، لكن كلما تعرض بعضُهم للشباب بمناسبة أو بغير مناسبة قال: كث اللحية، متطرف، لا يعرف إلا البسملة وتحريك الأصبع في التشهد، ويتكلم عن الكالونيا وتقصير الثياب! وكلما عرضت له مصيبة قال: هم المتزمتون والمتطرفون!! فليتك يا أخي وجهت ربع هذا للكافر، وصافيت إخوانك، ووجَّهت هذا الجيل ونزلت إلى الشباب المسلم.
المسألة الثامنة: الإعجاب بحضارة الكفار:
وقد رأينا أن الخواجة والكافر والملحد إذا وصل إلى بلد نظر إليه المسلم وكأنه نزل من الجنة، حتى أنهم يهزون أكتافهم ويقولون: حسناً حسناً، ( Thank You) أنا لا أعرف الإنجليزي، لكنهم يقولون هذا الكلام، وقد رأيت بعضهم يقدمه على المسلمين السُّجَّد الذين يصلون الصلوات الخمس إنه انهزام داخلي، بمعنى أن هذا صاحب حضارة، وقد صنع لنا وقدم لنا وأسس، أما نحن فبَدْوٌ أوباش، وليس عندنا إلا رجعية وتخلُّف!.(397/2)
من التحديات التي تواجه الإسلام: نشر الإلحاد
أيها المسلمون: كل هذه المسائل تندرج تحت العنصر الأول: الإلحاد وهذا إذا سكت عنه الدعاة وجلسوا يتصارعون ويتلاطمون ويتراكلون بينهم؛ فسوف ينتشر انتشاراً رهيباً حتى تُغزَى به بلاد ما كان ليصلها ولا ذرة من ذلك بسبب أن الدعاة تلاشوا أنا لا أنكر جهود العلماء ففيهم خير، وفيهم رُشد وصلاح، ولكني أعتب على بعض مَن لم يعِش الواقع مع طلبة العلم، وهذه -مسيرة توجه الشباب- إذا لم يقُدْها العلماء فسوف تقف أو تضيع.
إن ميزة الإسلام عندنا أن مصدر التلقي هو الكتاب والسنة، وأن القادة للشباب هم العلماء.
قال الدكتور/ سعود الفنيسان: على العلماء أن يقربوا من الشباب خطوة، وعلى الشباب أن يقتربوا من العلماء ثلاث خطوات، هذا لا بد منه، وكذلك على العلماء أن يرحموا الشباب ولا يبكتوهم، فإن الشاب في أول الهداية يكون متحمساً لكن على العالم ألاَّ يبكِّته ولا يزري به، وعلى الشاب أن يعرف قدر العلماء.
سمعتُ أن بعض الناس يقولون: العلماء هؤلاء لا يعرفون إلا الحيض والغسل من الجنابة، ولا يعرفون إلا تقصير الثياب، ولا يعرفون إلا صدقة الفطر! أقول: اتقِ الله يا أخي! أما تعرف أن لحومهم مسمومة؟! أما تعرف أن الله أثنى عليهم في القرآن؟! أما تعرف أنهم ورثة محمد عليه الصلاة والسلام؟! فإذا لم يُفتوا هم في الحيض وفي الصلاة والزكاة والطلاق والخُلع، فهل ستفتي أنت أو غيرك؟! تأتينا بالصيدليات المناوبة ودرجات الحرارة؟! إذا سألوك: كم عدة الحائض؟ أو متى تصلي وتصوم؟ تقول: لا أعرف الإسلام دين عدالة، ودين تآخٍ، الإسلام ينطلق من أطر، وينبثق من بوتقة الدعوة إلى الله.
هذا الفراغ لا يحله ولا يغطيه إلا العلماء، ونحن المسلمين على مشارب، أي: على ثغرات، قال تعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] والرسول عليه الصلاة والسلام ما طلب من الصحابة جميعاً أن يكونوا فقهاء، لكنه وضع كل واحد فيما يستحقه، وهذه عظمة محمد عليه الصلاة والسلام
جاء إلى أبي بكر الصديق فوجده رجلاً عظمياً عملاقاً فجعله الإداري الأول ورجل الساعة والخليفة الأول.
وجاء إلى خالد فوجد أنه يعرف قطع الرءوس من الأكتاف، ويذبح الأعداء على الطريقة الإسلامية، فقال: {أنت سيف الله المسلول}.
وجاء إلى زيد بن ثابت فوجده فَرَضي، فقال: {أفرضكم زيد}.
وجاء إلى أبي بن كعب، فقال: {وأقرؤكم أبي} وإلى حسان بن ثابت فوجده شاعراً، وزارة إعلام متنقلة، فقال: {قائد الشعراء إلى الجنة حسان بن ثابت}.
إذاًَ: نطلب من الجميع التخصص، ونحن في صالة فيها كثير من طلبة العلم والأخيار، وكل يمكن أن يغطي ثغرة، وأن يسد مجالاً، ولا نطلب منهم جميعاً أن يكونوا إنشائيين، أو أُدباء، أو فقهاء؛ لكن كلٌّ مُيَسَّر لما خُلِق له.(397/3)
بعض النماذج من أقوال الملحدين
ولن أقرأ لكم من القرآن عن الإلحاد والملحدين؛ فأنتم تعرفون ما ذكر الله في الملحدين والكافرين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [البقرة:161] ولن أخبركم عن حكم الإلحاد، فهذه أحكام مُسَلَّمَة عند العامي من المسلمين؛ لكن اسمع إلى بعض ما أنتجت لنا حضارة الإلحاد في أبنائنا فهذا أحدهم ويُسمى الحربي -حاربه الله أو هداه- يقول:
أرضنا البيد غارقة
يقول: أرضه غارقة!
طوَّف الليل أرجاءها
وكساها بعسجده الهاشمي
فدانت لعادته معبدا
الهاشمي هو محمد عليه الصلاة والسلام الهاشمي هو الذي أخرج العرب الذين كانوا يطاردون اليرابيع، وكانوا يتقاتلون على الشياة، وكان لا يعرف الإنسان منهم ما تعرف ناقته، مثل شيوخ القمر، أخرجهم إلى أن يفتحوا الدنيا في خمس وعشرين سنة الهاشمي عليه الصلاة والسلام هو الذي أخرج الناس من الظلمات إلى النور الهاشمي عليه الصلاة والسلام هو الذي أتى إلى الإنسان وكان أشبه شيء بالحيوان، فزكَّاه وعلَّمه وطهَّره، وعلَّمه أن هناك جنة عرضها السموات والأرض يقول الله عنه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] قاتل الله هذا المجرم.
وكساها بعسجده الهاشمي
يقول: أرضنا ما رأت النور فهي غارقة في الظلام منذ أن جاء محمد فغطاها بردائه.
وأحدهم ألقيت معه مقابلة في صحيفة هنا في أمريكا، فسألوه: لماذا تأخر العالم الإسلامي؟ فقال: بدأ تأخره من أربعة عشر قرناً.
أي: أنه حسب من انطلاقة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم فجعلها أول التأخُّر.
يقول في قصيدته:
بعض طفل نبيٍّ
على شفتي ويدي بعض طفلِ
من رجال الجوازاتِ
حتى رجال الجماركِ
حتى النخاع
يهجم الخوف أنى ارتحلنا
وأنى حللنا
وأنى رسمنا منازلنا في الهواء البديلِِ
والنساء سواسية
منذ (تَبَّتْ) وحتى ظهور القنا
يقصد: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] يقول: المرأة محارَبه منذ أن حاربها الله في {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد:1] وأتينا نحن نعلن حربها.
ولكني أسأله سؤالاً:
ما هو الحلم الجديد الذي يَعِدُ به الناس هذا المجرم وأمثاله من الحداثيين والإلحاديين، ويصفونه بالانفتاح وكسر الأقفال، والخروج إلى المألوف، وكسر الحواجز، والثورة على القديم؟ الحلم هو جنة كارل ماركس، ولينين، واستالين، جنتهم التي وعدوا بها العالم فأتت فإذا هي جهنم، نارٌ تلظى سحقوا الشعوب، وقتلوا الألوف المؤلفة، وذبحوا القيم والمبادئ.
أو هي شريعة منغ تي تونغ، الصيني المجرم الذي عرَّض الشعب الصيني للهلاك، وما حدث هناك في بكين دليل وشاهد على فعله يريد هذا جنة للمسلمين مثل تلك الجنة، يعدنا بهذا الحلم الذي رأيناه وأبصرناه، وشبع العالم منه وامتلأ.
إن من المقطوعات التي ينبغي أن نتصدى لها، بل الفكر المطروحة: الإلحاد، ولا أزال أقوله وأكرره، وإن مسئولية من يأتي لمثل هذه المؤتمرات في مثل هذا البلد الكافر الظالم أهله أن يجعل الأساسيات أولاً هي الأصول إيمان، رسالة، قرآن، عقيدة ثم تأتي الأمور الجزئية في آخر كلامه أو في مداخلاته مع إخوانه.
وهذا أحد الملحدين المجرمين يقول:
صار الله رماداً صمتاً رعباً في كف الجلادين
أعوذ بالله! وراوي الكفر ليس بكافر، وهو كلام أظنه ينقض الوضوء، لكن ماذا نفعل لنخبر الشباب أن هذا يقال، وأن الإسلام يُحارَب من أبنائه وليت أن الذي قاله ماركس، وقد قال مثل ذلك، ولا نستغرب منه لأنه أسس أعظم المذاهب إلحاداً، لكن أن يقول هذا الكلام أبناء خالد وعمر، وأبي أبناء الذين فتحوا الدنيا أبناء عقبة بن نافع الذي وقف على المحيط الأطلنطي بفرسه وقال: يا بحر! والله لو أعلم أن وراءك أرضاً لخضتك بفرسي؛ لأرفع (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) أبناء هؤلاء تحولوا إلى ما سمعتم، وفي بلد من البلدان جاء مجرم حَداثي ملحد زنديق، وكان يدرس في جامعة توجهها إسلامي؛ لكن فيها هذه الحية الرقطاء وأمثاله، فجلس في الفسحة وقال لزملائه: جلس الرسول صلى الله عليه وسلم مع أصحابه يوماً من الأيام، فقال لأصحابه: أتدرون ما البيبسي؟ -أي: هذا الذي يُشْرَب- قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قوموا عني.
فيورد مثل هذا الكلام، ويضحك به جيلاً، ويفسد به في بيته وجامعته وفصله.
فنعوذ بالله!
وهذا البياتي المجرم يقول في ديوانه: كلمات لا تموت صفحة (526):
الله في مدينتي يبيعه اليهود
(لا إله إلا الله)! {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
الله في مدينتي مشرد فريد
أراده الغزاة
أن يكون لهم أجيراً شاعراً قواداً
يخدع في قيثارة أحد العباد لكنه أصيبْ
لأنه أراد أن يصونْ
زنادق الحقول
من حرابهم أراد أن يكونْ
تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً!!(397/4)
طرق التصدي للملحدين
ولا أستغرق في النماذج، لكن ما هو الحل لهذا التحدي الصارخ الذي أُعلن أمام الملأ وأصبح مكشوفاً أمام الناس؟
في نظري أن الحل يأتي في غرس الإيمان في القلوب، ويأتي بأن نعيد الناس إلى حرارة الرسالة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم، وتأسيس العقيدة الصادقة في الله، وفي الكون، والحياة، والرسالة وأرى ألا نشتغل بالجزئيات عن الكليات؛ لأنك حينما تستهلك وقتك في مسألة من المسائل كمسألة فضيلة من الفضائل، أو جزئية من الجزئيات، كقيام الليل أو صلاة الضحى، المسألة أعظم من ذلك، المسألة الآن إيمان وكفر، زندقة وإلحاد في الساحة، فينبغي علينا أن نوجّه أكثر اهتمامنا إلى الإيمان، ونغرسه في القلوب بطرق شتى، منها:
أ/ الانطلاق في العمل لهذا الدين.
الطريقة الأولى: أن ننطلق وأن نترك هذا التقمص في البيوت:
لأن في الساحة الإسلامية دعاة كثيرون، ففي مدينة من المدن قال لنا بعض العلماء: حصرنا الدعاة في هذه المدينة فوجدناهم ثلاثة آلاف وستمائة (3600) داعية؛ ولكن الذي يعمل منهم ما يقارب الثلاثين (30) داعية، أما الآخرَون فلا يعملون، وإذا ألقى أحدهم محاضرة في السنة، فإنه يلقيها بالقطَّارة وكأنه يتفضل على المسلمين، وهذه هي رسالته، بينما التبشير والإلحاد يجوب العالم، وكلهم مجندون بمستشفياتهم، ودورهم وتأهيلهم وميزانياتهم.
ب/ الدعوة إلى الله من قبل.
الطريقة الثانية: أن ينزل الشباب دعاة إلى الله عزَّ وجلَّ
أنا لا أعرف أنه لا يوجد أحد من الإخوة لا يعرف أن يصور أو يصحح للكافر أو للملحد مساراً عقدياً أو إيمانياً.
صحيحٌ أنه قد لا يعرف أن يفتي في جزئية من المسائل، أو لا يستحضر الدليل، لكن مُجمل الإسلام وتصوير الإسلام لا أعرف أن أحداً منا لا يستطيع ذلك أبداً؛ لكن من ينطلق؟ ومن يذهب؟ الصحابة كلهم كانوا دُعاة، كان الواحد منهم يحفظ سورة أو سورتين، ثم ينطلق بها داعية؛ فيصلح الله سبحانه وتعالى على يديه جيلاً أو أجيالاً.
جـ/ تناسي الخلاف الجزئي.
الطريقة الثالثة: أن نتناسى الخلاف، إلا خلافاً عقدياً أصولياً
فإنا ننبه المبتدع، ونحاول أن نصلح من حاله، وأن نرده إلى الله، أما الخلافيات الجزئية التي للمجتهد المصيب فيها أجران، وللمجتهد المخطئ أجر واحد؛ فهذه المسألة فيها سعة، وشكر الله لـ ابن تيمية قوله: لا يُعَنَّف المخالِف في فرعية من فروع الدين.
فلو دخلت إلى المسجد فوجدت أحد المسلمين وضع يده اليمنى على اليسرى تحت سرته، فما ينبغي أن تقول: تب إلى الله، استغفر الله، حسيبك الله، نسأل الله أن يهديك سواء السبيل يا أخي! اجعل يدك على صدرك وأنت المصيب، وهو دليله مرجوح، لكنك أخذت وقتاً ثم أوجدت ضغينة في قلبه، ثم أذهبت المقاصد العظمى من الرسالة الخالدة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم، فإنه ما كان يُعَنِّف أصحابُه بعضُهم على بعض في مسائل الخلاف.(397/5)
من التحديات التي تواجه الإسلام: الشهوات
وهذه لطبقة من الناس؛ لأن الكافر عندما أتى إلى المفكرين والأذكياء حاربهم بالإلحاد؛ فإن بعض الناس تجده عصامياً ولو كان ملحداً زنديقاً لا يحب المرأة، ولا ينساب مع كأس الخمر؛ لكنه يحب الإلحاد، فيضرب الإسلام بخنجر الإلحاد والزندقة وبعضُهم ضائع، ما عنده إلحاد ولا زندقة؛ لكنه وراء المرأة وراء المجلة الخليعة وراء كأس الخمر وراء الأغنية الماجنة وراء الشهوات، كالدابة تماماً ضائع صاحب شهوات يقول سبحانه: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] ويقول سبحانه: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].(397/6)
أسباب انتشار الشهوات والانخراط فيها
أ/ عدم الاهتمام بالعلم الشرعي.
وهذه الحرب -حرب الشهوات- وتغرير شباب الإسلام بها أتت من أمور:
في بعض المدارس يدرسون الطالب (طه والطبلة): كان لـ (طه) طبلة يضرب عليها، فخرجت البطة من الطبلة، فقال طه: أين كنتِ؟! ولذلك يخرج الواحد من الثانوية وهو لا يعرف قراءة الفاتحة، ووالله لقد قُوبِل مع طالب تخرج من الثانوية يريد كلية الشريعة، وإذا به لا يحفظ سورة المسد! لماذا؟! لأنه كان يدرس هذه الأمور: (طه والطبلة) درس وخاب، وأكل وشرب ونام.
وهذا ناتج عن عدم تأسيس شبابنا على العلم الشرعي، ولو ربيناهم على (قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم) وقال البخاري: وقال مسلم: فإن هذا هو العمل الأصيل.
العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة هم أولو العرفانِ
ما العلم رسمك للخلاف سفاهةً بين الرسول وبين رأي فلانِِ
كان الصحابة يُنشئون جيلهم على العلم الشرعي، وكانت حلقاتهم (قال الله وقال رسوله) وفيها التفسير والفقه والحديث، أما الآن فقد أصبحت عدد حصص القرآن في الأسبوع حصة واحدة، وسمعنا أن مدرساً كان يدرس في الابتدائية، دخل على الطلاب، وهو لا يعرف القراءة في المصحف، وهو من عِداد المعلمين، فقال للطلاب: ما هي الحصة؟ قالوا: قرآن، قال: ما يحتاج، نخرج تمارين رياضية.
ما يحتاج يا مجرم؟! ما يحتاج قرآن؟! مَن أنت ومَن أُمَّتُك إلا بالقرآن؟! ما هي الرسالة التي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم إلا القرآن والسنة؟!
بينما داعية آخر عظم الله أجره، وهو مشهور، وله بعض المؤلفات، أُدخل في مدرسة، وكان يحمل دعوة، ويحمل رسالة، وكان مدير المدرسة يشن حرباً على الدعوة، فقال المدير للأستاذ: أنت حصتك رسم، مادة فنية.
يريد أن يحجزه عن الطلاب، لا يريد أن يعطيه فقهاً ولا عقيدةً ولا تفسيراً ليدخل إلى القلوب، قال: مادة فنية؟ قال: نعم.
قال: حسناً، فدخل الفصل فقال للطلاب: ما هي مادتكم؟ قالوا: مادة فنية رسم، فرسم لهم وردة أو زهرة على السبورة، ثم تكلم عمَّن خلقها وأنشأها ومن صوَّرها وأبدعها، ثم ألقى عليهم محاضرة في العقيدة حتى أبكى الطلاب.
إذاً: لا بد أن ندخل من هذه المداخل، أنا لا أقول: نترك هذه العلوم؛ لكن أن نجعل حصة واحدة للحديث، وحصة للفقه، والباقي جغرافيا وثقافة وعلم نفس وتربية! ومن هذا القبيل قائمة عريضة طويلة، فيخرج الشاب وعنده معلومات سلة مهملات، ولكن ليس عنده إيمان.
هذا غير صحيح.
ب/ قلة النوافل عند الشباب.
إما أن الأساتذة لم يوجهوهم للنوافل، أو لأنهم في الأصل ما قرءوا هذا ولا تعلموه، ولذلك لا يتحدث عن قيام الليل، ولا عن صلاة الضحى، ولا عن الذكر وتدبر القرآن، فينشأ الشاب وقلبه ما اطمأن بالإيمان وما تشبَّع به، ويمكن أن يُخدع بأدنى شيء، فيرى الفتاة ويُلاحقها، ويسمع الأغنية وينهار، وربما رأى الخمر فلا يمكن أن يتغلب عقله على هواه، قد سيطر عدم التربية الروحية عليه.
جـ/ الجلساء.
أصيب مجتمع المسلمين بجلساء الله حسيبهم، فإن من أسس التربية عند المسلمين الجليس الصالح والجليس السوء مصاحبة هذا والانتباه لهذا، يقول ابن المبارك:
وإذا صاحبت فاصحب ماجداً ذا عفاف وحياء وكرمْ
قوله للشيء لا إن قلتَ لا وإذا قلتَ نعم قال نعمْ
قال الله تعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] وهذا الشافعي يمدح نفسه بما أعطاه الله، وهذا من باب التحدث بالنعم، يقول:
أحب الصالحين ولستُ منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواءً في البضاعة
يقول: من ميزتي ولو أني مذنب أني إذا رأيت الصالح أحبه إذا رأيتُ الذي يصلي الصلوات الخمس، والذي يلتزم بالسنة، ويحب الله ورسوله أحبه وأضمه وآتلف معه ومع أني أعمل المعاصي لكني أكره هذا العاصي، وأكره المجرم.
فرد عليه الإمام أحمد وقال:
تحب الصالحين وأنتَ منهم ومنكم قد تناولنا الشفاعة
يقول: أنت من أسرة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن بيتكم خرجت الشفاعة بسند رجاله ثقات، فكيف أنت؟! بل أنت من الصلحاء الكبار.
قال ابن المبارك في كلمة نثرية: أحب الصالحين ولستُ منهم، وأكره الأشرار وأنا شر منهم.
وقد ذكرها الذهبي بسند حسن إليه.(397/7)
وسائل الوقوف ضد حرب الشهوات
أيها الإخوة: ما هي حلول حرب الشهوات؟
ذكرنا أسباب حرب الشهوات، والآن نعود بمفهوم الضد ونذكر الحلول
أ/ غرس حب النوافل في القلوب
إن بعض الدعاة لا يتحدث في هذه الأمور، ويقول: لا تحدث الناس في اللحية، أو في الثياب، أو في النوافل، فإذا قيل له: لماذا؟ قال: هذه قشور سبحان الله! تأتينا بمفهوم بعد خمسة عشر قرناً؟! أين الصحابة عن هذه الكلمة؟! وأين السلف الصالح والأئمة والفقهاء والعلماء؟! تقسم أنت هذا الدين إلى قشور ولُباب؟! إن مسألة قشور إزراء بالإسلام، إنها حرب على الدين إنها هجوم صارخ على السنة إنها جرح لمشاعر المسلمين، إن المسلم المسلم متكامل، أما أن يأتيك مسلم وكأنه من باريس، لا تعرفه إلا إذا صلى، فإذا قلت له: لماذا لا تظهر عليك السنة؟ قال: القضية أعظم من ذلك، وإذا قلت: وما هي القضية؟ قال: القضية قضية إيمان؛ لأن الإيمان حقائق إذا صيغت في القلب أصبحت استراتيجية الدعوة متطورة! لا.
الإيمان يظهر والإيمان يبطن، الإيمان -كما عرفه أهل السنة -: اعتقاد بالقلب، وقول باللسان، وعمل بالجوارح، فإذا نقص شيء فقد نقص بحسبه.
إذاً: غرس النوافل، وتربية الجيل على النوافل؛ هي الحرارة الإيمانية.
ب/ الثقافة الإيمانية.
أيها الإخوة: هنا ملاحظة وظاهرة: إذا ركب الإنسان منا في الطائرة وجد شباباً -حتى من الدعاة- من يأخذون الرحلة كلها في قراءة مجلات وجرائد، ولو كانت إسلامية، لكنك لا تسمعه يقرأ جزءاً من القرآن، أو يسبح، أو يرفع يديه ربع ساعة أو عشر دقائق ليتصل بالواحد الأحد الذي لا يربي القلوب إلا هو وإن القلب ليضعف بسبب هذه الأمور، وهي ليست حراماً؛ لكنها ليست ثقافة إيمانية، ولا بد من قراءتها لمعرفة الواقع، لكن أين الحرارة؟! أين القرآن؟! أين الأوراد؟! كان ابن تيمية إذا صلى الفجر ذكر الله تعالى حتى يرتفع النهار، فيقول له تلاميذه: ما هذا؟ قال: هذه غدوتي، ولو لم أتغدَّ لسقطت قواي.
هذا الحصن الحصين، ومن المعلوم عند العلماء والصالحين أن مَن أكثر الدعاء في الصباح، ومن كان عنده اتصال بالله؛ أن الله يعافيه من كثير من الذنوب والخطايا، ويسدده ويهديه سواء السبيل.
جـ/ نشر العلم الشرعي.
ومنها -وأعود إلى ما قلت-: العلم الشرعي، نشر علم السلف والفكر له حجم في الإسلام، الإسلام يعترف بالعلماء ولا يعترف بالمفكرين، كلمة المفكرين ما ذكُرت في القرآن إلا من باب التفكر لأهل العلم والتدبر؛ لكن مسألة مفكر مسلم فيها نظر، فلا يوجد إلا عالم مسلم أو عالم كافر فالعلماء هم ورثة الأنبياء والمفكرون يؤجرون، ولكن يعطى الفكر مساحة، ولا بد من ربطه بمفكرين من المسلمين.(397/8)
من التحديات التي تواجه الإسلام: زرع الخلاف في الصفوف
ومما حوربنا به: زرع الخلاف في الصفوف، وتمزيق الكلمة بجزئيات ونحذر من بعضنا البعض ونقول دائماً: هؤلاء من جماعة كذا وهؤلاء من مشرب كذا وانتبه من هؤلاء سبحان الله! يحذر بعضُنا من بعض! أصبحنا كأننا على أناجيل متعددة! وأصبحنا كأننا في ديانات مختلفة!
والذي أراه أن الأصلح أن يقوم أهل العلم وقادة هؤلاء بالتفاهم في مجالس خاصة، لمعرفة الخلاف، والعودة إلى الكتاب والسنة، ومعرفة من هو المصيب من المخطئ، وعدم إثارة ذلك في المجامع العامة، وفي محافل لا تتحملها عقول الناس.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [[حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكَذَّبَ اللهُُ ورسولُه؟!]].
وقال ابن مسعود: [[إنك لستَ محدثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان عليهم فتنة]] وجاء في صحيح البخاري أن عمر رضي الله عنه وأرضاه سمع في الحج وفي آخر حجة حجها قائلاً يقول: إن بيعة أبي بكر كانت فلتة أي: أنها صدفة، ولا يصح إطلاق الصدفة؛ ولكنها جاءت مفاجأة طارئة، ما رُتِّب وما أُعِد لها، وما كان أبو بكر متهيئاً لأخذ الخلافة، فالقائل هذا قصدُه حسن، وهو لا يتهم أبا بكر، فهو أحق الناس بالخلافة رضي الله عنه وأرضاه، لكنه يريد أن يقول: إنها جاءت طارئة، ففُهِمَت فهماً آخر، فقال عمر رضي الله عنه وأرضاه: لأقومن في الحجيج هذه الليلة فأتكلم لهم عن بيعة أبي بكر، وأشرح لهم ذلك، فجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه وأرضاه، أحد العشرة، فقال: يا أمير المؤمنين! أنت مَن أنت -أي: في عقلك- وأنت إذا تحدثت في هذا المجمع كان فيه من الغوغاء والأوباش والسواد ما لا يفهمون كلامك فيوقعونه على غير مواقعه، فينتشرون به في الآفاق وقد غيَّروه، فتكون فتنة، فأرى أن تعود إلى المدينة فإذا وصلت إليها واجتمعت بعلية الصحابة في المسجد وبالمهاجرين والأنصار أخبرتهم وأنت على تمكن.
قال: أصبت يـ ابن عوف، أصاب الله بك الخير.
فعاد عمر، وألقاها في المسجد في مجتمع يفهم ما يقول.
فإثارة الخلاف ليست من الحكمة، وهو تحدٍّ موجود، وأكثر من يحرض عليه هم أهل الشهوات والشبهات في الساحة، بضرب التوجهات بعضها ببعض، وفي الأخير تخسر الدعوة الإسلامية وتهبط هذه المقدرات؛ لأننا إذا هاجمنا إخوتنا سوف نخسر ألوفاً مؤلفة، فأنت كلما تحدثت في جزئية قلت: العالم الفلاني فعل كذا، حسبنا الله عليه، أما تدري أن معهم ألوفاً مؤلفة في العالم الإسلامي؟! وهل من الحكمة أن تنتقدهم؟! لا.
بل اذهب إليهم، إلى قاداتهم وعلمائهم لأن الدين النصيحة، وتكلم معهم، وانصحهم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143] {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].(397/9)
من التحديات التي تواجه الإسلام: وصم الدين بالتطرف
الأمر الرابع: وصم الدين بالتطرف:-
إن بعض الشباب -ولو استقاموا- خائفين وجلين، منهارين؛ لأنه في مجتمع يصم الإنسان بالتطرف، وقد شارك بعض المفكرين -كما أسلفتُ- في الهجوم على الشباب المستقيم، بعضهم -والله- يقول: أنا أريد أن أطلق لحيتي ولكن أخاف من هذا المجتمع، يقصد من قولهم: متطرف، متزمت، مطوِّع إلى غير هذه الكلمات، فأصبح كأن الدين متهم، وكأن من يطلق لحيته إرهابي، وأن المشاكل لا تأتي إلا منه، فيقال: انتبهوا منه! وتوضع عليه علامة استفهام من أتى بهذا؟
وإني أقول: إن من يصف الدين بالتطرف فإنه من فروخ اليهود، واتباع العلمانية، وأذناب الشيوعية، بيض استالين ولينين في الساحة، يجعلون حزب محمد صلى الله عليه وسلم متهماً؟! أنا أسأل: من المسئول عن المخدرات ونشرها في العالم؟! من المسئول عن الزنا؟! من المسئول عن البنوك الربوية؟! من المسئول عن إحداث الخلاف في الصفوف؟! من المسئول عن تضييع فرائض الله عزَّ وجلَّ؟! إنهم هؤلاء الضائعون.
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان عليَّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني(397/10)
أمور تعين على الثبات
إن قضية ضرب التوجه الإسلامي ووصمه بالتطرف؛ هذا من أعظم الحروب، وينبغي لنا أن نثبت، والثبات مبني على ثلاثة أُسس:
الأساس الأول: أن تعلم أن من سنن الله في الكون أن يحارَب الصالحون قال تعالى:
{أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3] {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ * وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ * وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاءِ لَضَالُّونَ * وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ} [المطففين:30 - 33] وهذا من عهد رسالته عليه الصلاة والسلام، فقد سموه: شاعراً، وكاهناً، ومجنوناً قال تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير:22] {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2].
إذاً: فاعرف أن قدوتك هو محمد صلى الله عليه وسلم.
الأساس الثاني: اعلم أنها من الحسنات التي تُدَّخر لك عند الله، وتكفيرٌ للسيئات
قال ابن سيرين: وددتُ أن الناس لا يأثمون، وهم يغتابوني.
لماذا؟ لأنهم يكفرون من سيئاته.
ونقل الغزالي عن الحسن البصري أن رجلاً اغتابه، فأخبر الحسن، فأهدى له طبقاً من التمر، وقال: يهدي لنا حسناته ونهدي له تمرنا.
وهذه مدرسة عملية، ولذلك لا يهمنا من يهاجمنا ويسبنا، نقول: الحسنات من الله، وهذه كفارات للسيئات.
الأساس الثالث: أن العظماء دائماً مبتلَون، وقد قيل:
شكوتَ من ظلم الوُشاة ولم تَجِدْ ذا سؤدد إلا أُصِيْبَ بِحُسَّدِ
لا زلت يا سبط الكرام مُحَسَّداً والتافه المسكين غير مُحَسَّدِ
أتظن أنه يُحسد إنسان لا هم له في الحياة، رجل ينام الليل والنهار، ضائع في الدهر؟! تحسده على ماذا؟!
إن العرانين تلقاها مُحَسَّدةً ولا ترى لكرام الناس حُسَّادا
فيا إخوتي: إنما حُسدتم وهوجمتم بسبب ما عندكم من عَظَمَة، لأنكم تمثلون الخلود في رسالة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنتم امتداد لتلك الدعوة العالمية: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فالضائع الذي ما عنده نور ولا هداية لا بد أن يهاجمك، ولا بد أن يعاديك.
فعليك بهذه الأسس وافهمها وتدبرها.(397/11)
من التحديات التي تواجه الإسلام: المؤامرة على المرأة المسلمة
الأمر الخامس: المؤامرة على المرأة
المرأة أمرها عجيب، ونبؤها غريب! وقد دخل الكافر من طريق المرأة، والرسول عليه الصلاة والسلام حذر وأخبر أن أخوف ما يخاف على الأمة النساء فقال: {إن فتنة بني إسرائيل كانت من النساء} وكان العرب في الجاهلية إذا أرادوا للرجل سحق عظيم أو إرجاع عظيم عن فكرته سلطوا عليه امرأة.
ذكر الذهبي عن عبد الرزاق الصنعاني -المحدِّث الكبير، شيخ أحمد، وشيخ يحيى بن معين - أنه جاء إليه طلاب إلى صنعاء يتعلمون منه الحديث، وكان عسراً في الرواية، ما كان يحدثهم باستمرار، فطرقوا عليه الباب، فخرج عليهم، وقال: لا أحدثكم شهراً كاملاً.
فتوسلوا بأصحابه فرفض، فكلموا جيرانه فرفض، فأهدوا هدية إلى امرأته من وراء حجاب وقالوا: كلمي لنا الشيخ.
فأتت فكلمته فخرج الإذن في الصباح؛ لأنها تملك حق الفيتو، فقال الشيخ/ عبد الرزاق: تعالوا أحدثكم، ثم تبسم للطلاب وهم جلوس وقال:
ليس الشفيع الذي يأتيك مُتَّزراً مثل الشفيع الذي يأتيك عريانا
وهذا البيت للفرزدق من قصيدة طويلة في ديوانه.(397/12)
وسائل محاربة المرأة
إنه يُراد للتوجه الإسلامي أن يُسْحَق بطريق المرأة، والحرب على المرأة ينطلق من ثلاث جبهات:
الجبهة الأولى: زعم أن الإسلام كَبَتَها حقها.
وكنت مع أحد الفضلاء وهو يتكلم عن هذه القضية ويقول: أين كَبَتَها حقها؟! والله ما عرف حق المرأة إلا الإسلام، وما رفع قدرها إلا الإسلام، ولا صانها إلا الإسلام، ومن أراد أن يعرف ذلك فليقرأ مذكرات الأمم الأخرى وكتبهم حول المرأة، وحقوق المرأة عندهم فلم يعرف لها حقها إلا الإسلام.
الجبهة الثانية: أن الحجاب ومسألة جلوسها في البيت وعدم مشاركتها للرجل ليس بصحيح، وأنه خلاف الواقع
وهذا خطأ كبير، كان أحد الدعاة من العلماء يتكلم في مجمع كبير، فتكلم عن المرأة، فقامت امرأة من آخر الصفوف وهي سمينة وبدينة، فقالت: يقول صلى الله عليه وسلم: {رفقاً بالقوارير} وأنتم لا ترفقون بنا.
فقال هذا الداعية -وكان سريع البديهة ودعوباً، وكانت هي سمينة كالبرميل- قال: نعم.
يقول: {رفقاً بالقوارير} ولم يقل: رفقاً بالبراميل.
وأنا ليس قصدي بهذا الهجوم على المرأة؛ لكن المرأة قد أُمْلِي في ذهنها أنها لا تشارك، وأنها محرومة من المجالات، ولذلك يُناقَش ويقال: لماذا لا تدخل المرأة إلى البرلمان؟! سبحان الله! أَحُلَّت كل مسائلنا الكبرى والصغرى وما بقي إلا مشاركة المرأة؟! نقول: نحن منا رجال كبار لم يشاركوا في البرلمان، وتأتي المرأة لتشارك؟! قالوا: ما هو موقف المرأة من العمل ومشاركة الرجل؟ والمرأة العاملة أطول عمراً، هذه حكمة تقول: المرأة العاملة أطول عمراً، أي: أن المرأة الكافرة التي تعمل أطول عمراً! وقد قيل لي في مناسبة: علِّق على هذا، فقلت: أطول عمراً في جهنم.
الجبهة الثالثة: عدم تعليم المرأة
أيها الإخوة الفضلاء: الناحية الثالثة تأتي من عدم تعليم المرأة، صحيحٌ أننا مسلمون، ولكني أتكلم عن كثير من بلاد العالم الإسلامي أن المرأة ما أعطيت حقها، فلو نظرنا -مثلاً- إلى هذا المؤتمر وجلالته وما فيه من اهتمام؛ لكن مهما يكن ربما تأخذ المرأة ثلث ما يجري من محاضرات ودروس، أنا أقول هذا تقديراً؛ لكن في بعض الأمكنة لا تسمع المرأة شيئاً إلا إن كانت سمعت شريطاً إسلامياً، أو تقرأ في المصحف في البيت.
إن الدعاة الذين يتجهون إلى المرأة قليلون، والدعوة في جانب صفوف النساء قليلة، والمرأة لا تزال تشكو فقراً وجدباً في عالم الإيمان والدعوة فالمرأة بحاجة إلى دعاة يصلون إليها بأي وسيلة غير محرمة، ولا بد من دروس خاصة للنساء، محمد عليه الصلاة والسلام جعل للمرأة يوماً من نفسه، قال البخاري: باب هل يجعل للنساء يوماً من نفسه؟ فقد جعل لهن يوم الإثنين، يتحدث معهن؛ لأن مشاكل المرأة مشاكل خاصة عن حياتها الخاصة فلا بد من دعوات، ولا بد من علم، ولا بد من اهتمام بجانب المرأة.
فأوصي إخواني الذين يشرفون على تربية النساء ورعايتهن أن ينتبهوا لهذا الجانب العظيم، فإن المرأة قد حوربت في البيت بأجهزة إعلام فتاكة، الفيلم الواحد يستطيع في نصف ساعة أن يُهَدِّمها، وأن يردها من تقية -إن لم يحفظها الله- إلى فاجرة؛ لأنها ضعيفة، ثم إن المرأة ليس عندها قوة في الإيمان -بسبب التربية- ولا رادع من العلم إلا من رحم ربك، فتنهار أمام الفيلم والمجلة الخليعة والصورة العارية والموسيقى، فلابد من تربيتها وتعليمها.(397/13)
من التحديات التي تواجه الإسلام: هدم الاستعلاء عند المسلمين
هدم الاستعلاء في نفوس المسلمين
ليعيش المسلم بلا استعلاء، يقول سبحانه وتعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [آل عمران:139] يقول سيد قطب: نحن الأعلون سنداً ومتناً.
وقد صَدَق، فإن سندنا من الله الواحد الأحد، وإذا افتخر الناس بالتراب، فإننا نفتخر بالوحي الخالد الذي أتى على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، تمشي وأنت مرفوع الجبين وأنا أوصيكم بقراءة كتاب الظلال على أن فيه بعض الملاحظات العقدية وبعض الملاحظات التي لا يسلم منها البشر؛ لكن الظلال في مثل هذه البلاد أمره عجيب، يجعلك تمشي وأنت مرتفع على الكافر، وأنت فوق الكافر، جبهتك في السماء، ليس مثل كتب بعض المفكرين المسلمين حيث يقول أحدهم: انظر إليهم أين بلغوا؟! بلغوا الثريا ونحن في الثرى.
فيجعلك مهزوماً، وهذا ليس بصحيح بل لابد من الاستعلاء والقوة والانتصار أنت صاحب المبادئ الخالدة، قال تعالى: {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:1] يقول في الظلال: هذا هجوم أدبي سافر على الكفار.
ويقول في سورة البقرة: بدأت هذه السورة ببداية لا بد منها، إنها سحق وتدمير لبقايا اليهود فنحن نأخذ منه الحكمة، ونقول له: لقد قمت بعمل عظيم مشكور وأحسنتَ، وننبه على خطئك؛ لأنك لست بمعصوم.(397/14)
من التحديات التي تواجه الإسلام: الإعجاب بحضارة الكفار
ومن التحديات: الإعجاب بحضارة الكفار، وتهويل هذه الحضارة، وصبغها بصبغة التقدم، وجعل التأخر في الإسلام، لأن ذاك يسكن في خيمة، وهذا يسكن في قصر، وذاك عنده سيارة حديثه، وهذا عنده حمار أو إبل يركب عليه، فقد جعلوا التقدم والحضارة في هذه الأمور، وهي أمور نسبية، وهؤلاء لا يفهمون شيئاً، وما عندهم من الوعي ولا من الفقه شيء.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(397/15)
قصائد قتلت أصحابها
إن الشعر حسنه حسن وقبيحه قبيح، ولقد لعب الشعر دوراً عظيماً في تاريخ العرب، وقد كانت تقوم حرب ضروس طاحنة بين قبيلتين سببها بيت شعر في الهجاء لما للشعر عندهم من مكانة.
ولقد سقطت كثير من رءوس الأبطال بسبب أبيات قالوها، كما أنه قد استخدم في أغراض أخرى كالمدح والثناء والغزل فعلى المسلم صاحب الشعر والقلم أن يسلطه في طاعة الله ورفع راية الإسلام.(398/1)
توظيف الشعر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الأبرار: أثقلت بهذا المديح والثناء هذه الليلة، ولكن -والحمد لله- قد أصبحت عندي مناعة ضد المدح والهجاء، فأُصَبَّح كلَّ يوم بقصيدة من المدح، ثم أُمَسَّى بقصيدة من الهجاء، فجعلتُها سواء، كما قال الفضيل بن عياض: لا يبلغ المؤمن الصِّدِّيقية حتى يكون مدح الناس وهجاؤهم واحداً، فعسى أن نبلغ هذا الفضل.
وأما الإخوة فهم متفضلون -جزاهم الله خيراً- على أن دعَوني ودعَوا الدكتور حبيباً، ودَعوا أصحاب الفضيلة، وأهل العلم والأدب والحضور الكرام، فأشكر مركز متوسطة السيوطي على هذا الجهد، وهذا النظام وهذه الرتابة والحفاوة والضيافة.
مَن تلقَ منهم تقُل لاقيتُ سيدَهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
هَيْنُون لَيْنُون أيسارٌ بنو يسر صِيْدٌ بهاليل حفَّاظون للجارِ
أما ما تفضل به الدكتور/ حبيب، فلا أكتمكم سراً أني اشترطت على الإخوة والمجلس القائم على هذا النشاط بأن يقدمني الدكتور/ حبيب، ولم أتفق معه سرياً وراء الكواليس على أن يمدحني وأمدحه في مناسبات أخرى؛ لأن هذه خيانة، وقد فاجأني والله بما فعل؛ لكن له من اسمه نصيب، فقد غلبني باسمه، فأحببتُه منذ زمن بعيد، حتى يحق فيه أن أقول:
أحبكَ لا تفسير عندي لصبوتي أفسِّرُ ماذا والهوى لا يُفسَّرُ
وغفر الله له مبالغتَه، وهو صادق فيما يقول، ومن ثبتت حجيته فلا يسأل عن مثله ولكنه قال: إنني أحفظ عشرة آلاف قصيدة، وهو أراد أن يقول: عشرة آلاف بيت.
وهذا من باب التحدث بنعمة الله، فقد حدَّثتُه في الصحراء بيني وبينه؛ لأنه ألَحَّ عليَّ في السؤال، ومن كان منكم في شك من هذا فلينازلني في أي مكان يريد، وأتحداه وأتحدى أباه وجده؛ فإن بعضكم سوف ينكر ذلك.
أما عنوان المحاضرة فهو: (قصائد قتلت أصحابها) أعاذكم الله من القتل، وأسأل الله أن نقتل جميعاً في سبيله، وأن تضرب رقابنا لترتفع (لا إله إلا الله، محمد رسول الله).
لكن أصحابنا من الشعراء هذه الليلة ليس فيهم واحد قُتل في سبيل الله، مع الاحتفاظ بحقوق الطبع لشعراء متأخرين.
فالله المستعان!
أيها الإخوة الكرام: لقد اخترتُ هذا العنوان لأننا في زمن يجب علينا أن نحاسب على الكلمة، وأن نكون مؤتَمَنين على الحرف، وأن نتقي الله فيما نقول؛ لأنه ما دام أن البشر والملوك والوزراء والأدباء يؤدبون العاصي والمنحرف في لغته وفي لفظه، ويُقتل وتضرب عنقُه، فكيف بالواحد الأحد الذي يقول: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:18]؟!
فإنها مدرسة، فاستمعوا وأنصتوا، وإنه بإمكانك أن توظف الحرف لمرضاة الواحد الأحد، وبإمكان المنحرف أن يلغو بكلمة، فيخرج عن المنهج وعن الصراط المستقيم.
وسامحوني إذا ذهبتُ ذات اليمين وذات الشمال، مع أني أريد أن أقصر من الاستطراد، لكن الأدب يتحمل، وربما كان الاستطراد أحسن من النفسية الحرفية، وهذا أمر -إن شاء الله- معلوم.(398/2)
دور الشعر وتأثيره
أما تأثير الشعر فلا تَسَل، ويكفي أن محمداً عليه الصلاة والسلام يقول: {إن من البيان لسحراً، وإن من الشعر لحكمة} ورسولنا عليه الصلاة والسلام لم يكن شاعراً، فقد صانه الله؛ لئلا يُتَّهم في الوحي، وقد اتُّهم بالشعر وهو لم يكن شاعراً؛ فكيف لو كان شاعراً عليه الصلاة والسلام؟! أما غيره فقال كثير من أهل العلم: إنها صفة مدح في الرجل إذا كان ينْظُم ويقول الشعر، ويبدع الكلمة، ويجوِّد الحرف، وليست سلبية أبداً.
وأما الشعر فإنه يجوِّد البخيل، ويشجع الجبان، ويسكت الغضبان وأضرب على ذلك أمثلة سريعة لأدخل في الموضوع:
ابن الأطنابة أمير من أمراء الجاهلية في الحجاز، كان في الطائف، حضر مع قومه والتقى بقبيلة أخرى يقاتلها، ولكنه لما رأى أشعة السيوف -أعاذكم الله من أشعة السيوف- خفق قلبُه وأصابته الحمى، ففر على بغلته وترك جيشه، فلما ذهب بعيداً تذكر أنه لا بد أن تكون له منزلة في التاريخ، وأن ديوان الإنسانية سوف يذكره بهذا، فقال:
أبت لي عفتي وأبى حيائي وأخذي الحمد بالثمن الربيحِ
وإكراهي على المعروف نفسي وضربي هامة البطل المشيحِ
وقولي كلما جشأت وجاشت مكانك تُحمَدي أو تستريحي
فعاد وقاتل وانتصر، وسجل برائعته انتصاراً في التاريخ بسبب ثلاثة أبيات.
وهذا قطري بن الفجاءة حينما حضر المعركة، والخوارج لا تسل عنهم في الشجاعة، فهم بائعو رءوسهم، والخارجي يقاتل بلا رأس ثلاثة أيام، وهذه من الإسرائيليات المنسوبة لبعض الأدباء المعاصرين، فحضر قطري وهو زعيم، فلما رأى السيوف تصرع، ورأى الجماجم تُحط من على الأكتاف فر، ثم رجع إلى المعترك وقال:
أقول لها وقد طارت شعاعاً من الأبطال ويحكٍ لن تراعي
فإنكِ لو سألتِ بقاء يوم على الأجل الذي لك لن تطاعي
فصبراً في مجال الموت صبراً فما نيل الخلود بمستطاعِ
إلى آخر ما قال، وهي مقطوعة ذهبية جميلة فائقة رائعة، لا يمكن أن يُنْسَج على مثلها إلا أن يشاء الله.(398/3)
النابغة الذبياني ويمينه البارة
ك سار الناس، فمنهم من سكَّت الغضبان كما فعل النابغة الذبياني لما أتى النعمان بن المنذر.
والحقيقة أن الشعراء دينهم رقيق إلا من رحم الله، حتى يقول ابن كثير: على مذهب الشعراء في رقة الدين، وأستثني الحضور من أهل العلم والشعر والأدب؛ لأن هؤلاء سيوف إسلامية في الأدب والشعر؛ لكن في الجملة: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} [الشعراء:224] فدينهم رهيف خفيف سخيف، إلا أن يشاء الله.
فأخذ النابغة يعرِّض بغرفة النوم عند النعمان بن المنذر وانظر إلى العقل، من يلاعب الأسد؟!
احذر السلطان واحذر بطشه لا تعاند مَن إذا قال فعلْ
فأهدر النعمان بن المنذر دمه، ففر النابغة على وجهه، كلما أتى قبيلة وقال: أنا ضيفكم أستجيركم قالوا: إن كنت أنت النابغة فلا تدخل بيتنا، وكان ينام في النهار ويمشي في الليل، وفي الأخير أشار عليه أحد الحكماء أن يلبس أكفانه وأن يسلم نفسه إلى أقرب مخفر شرطة ليموت ميتة طبيعية فسلم نفسه، وذُهب به إلى النعمان بن المنذر؛ لكنه جهز ثلاث قصائد؛ لأن النفس -كما يقال- إذا كانت تغلي، فإنها تسخن في حنفيات حتى تصل إلى مصبها.
وكان النابغة قد مدح أعداء النعمان الغساسنة بقصيدة رائعة قال في أولها:
كِلِيْني لِهَمٍ يا أميمة ناصب وليلٍِ أقاسيه بطيء الكواكبِ
تطاول حتى قلت ليس بمنقض وليس الذي يرعى النجوم بآيبِ
وصدرٍِ أراح الليل عازب همه تضاعف فيه الحزن من كل جانبِ
انظر إلى السحر الحلال! وليس كقصيدة:
نحن أبناء الجزيرة المثنى والمغيرة
التي كأنها درجات الحرارة، والصيدليات المناوبة.
نريد شعراً قوياً عارماً هائلاً مؤثراً في الناس، وإلا فلنرح أنفسنا والقراء من الإكثار من كتابة القصائد بمعدل أربعٍ وعشرين قصيدة في كل ثلاث وعشرين ساعة.
فهدر دمه، فلما جاء إليه النابغة قال له:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبة وليس وراء الله للمرء مذهبُ
لئن كنت قد بلغت عني وشاية لمبلغك الواشي أغش وأكذب
فإنك شمس والملوك كواكبٌ إذا طَلَعَتْ لم يبدُ منهن كوكبُ
فرضي، ثم قال له أيضاً:
فبتُّ كأني ساورتني ضيئلةٌ من الرُكس في أنيابه السُّمُّ ناقعُ
إلى آخر ما قال، وحلف له أيماناً الله أعلم بها.
وكان لنا شيخ في معهد الرياض العلمي، وهو ابن منيف طيب الله ذكره، وهو لا يزال حياً، ولو كان ميتاً لترحمنا عليه، والمقصود أنني حلفتُ أني أستحق درجة أعلى من الدرجة التي أعطاني، وأنا في ثانية متوسط -وهذا من الاستطراد- فقال: أيمين امرئ القيس أم يمين النابغة؟ قلت: لا أدري، قال: إن دريتَ كمَّلتُ لك الدرجة؛ لكنني لا أعرف القصة، فقال هو: إن امرأ القيس فاجر في يمينه، حيث يقول:
حلفتُ لها بالله حلفة فاجرٍ لناموا فما أن من حديث ومِن صالِ
وأما النابغة فيمينه بارة، حيث يقول:
حلفتُ فلم أترك لنفسك ريبةً وليس وراء الله للمرء مذهبُ(398/4)
مرثية ابن بقية الوزير
أما تأثير الشعر على الناس والملوك وأهل القرار فلا تسل، فإن الرجل يحكُم ويُصدر مرسوماً بقتل رجل ثم يندم، وتدمع عيناه، ويوجل قلبه، ويتمنى أن القصيدة التي رُثي بها ذاك المقتول قيلت فيه، وقد حصل هذا لـ عضد الدولة فنا خسرو الذي ذكره المتنبي بأعقد بيت سمع به الناس فقال:
فما يُسْمَى كَـ فنا خسرو مُسْمٍ وما يُكْنَى كـ فنا خسرو كانِ
ذهب إلى شيراز فقال -قاتله الله-:
مغاني الشعب طيباً في المغاني بمنزلة الربيع من الزمانِ
ملاعب جنة لو سار فيها سليمان لسار بترجمانِ
فما يُسْمَى كَـ فنا خسرو مُسْمٍ وما يُكْنَى كـ فنا خسرو كانِ
يقول: هذا الملك البطل الشجاع لا يسمى مثله ملك، ولا يُكَنَّى مثله أحد وحصل أنه قتل في عيد الأضحى من ملوك الكفار ثلاثة، جندل رءوسهم على الطريقة الإسلامية، فلما قتلهم أتى ودخل بغداد واستقبله ثمانون شاعراً، منهم السلامي والمتنبي والصولي وغيرهم، فمدحوه كثيراً.
لكن اسمعوا إلى الصولي وهو يخاطب الملك بأنه ذبح وضحَّى بثلاثة من ملوك الكفار، فالناس يضحون بالنوق والخرفان وهذا يضحي بملوك الكفار، وهذه هي تضحية أهل السنة، وقد فعلها خالد القسري لما ضحَّى بـ الجعد بن درهم، فقال:
أيها الناس: ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإني مضحٍّ بـ الجعد بن درهم، فإنه زعم أن الله لم يكلم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً.
ثم رجع إلى أصل المنبر فنحره وذبحه قال ابن القيم:
من أجل ذا ضحى خالد القسري بـ الجعد يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنةٍ لله درك من أخي قربانِ
وهذا الملك قتل ثلاثة، فأتوا يسلمون عليه ويشكرون سعيه، فقال الصولي:
صلِّ يا ذا العلا لربك وانحرْ كل ضِدٍّ وشانِئٍ لك أبترْ
أنت أعلى من أن تكون أضا حيك قروناً من الجِمال تُعَفَّرْ
بل قروناً من الملوك ذوو السؤ دد تيجانهم أمامك تُنثرْ
كلما خر ساجداً لك رأس منهمُ قال سيفك: الله أكبرْ
وهذه كتبت في ديوانه، وما يأتي مثلها في الشعر شيء ثم انطلق الشعراء، فتقدم السلامي وما قصَّر، وقال من قصيدة له طويلة يقول في أثنائها:
فبشرتُ آمالي بشخص هو الورى ودارٍ هي الدنيا ويوم هو الدهرُ
أما المتنبي فقد أخذ الجائزة، دائماً يكون في المربد الأخير، لكنه يأخذ الجائزة، فقال في قصيدته الأعجوبة:
فداً لك من يقصِّر عن فداكا فلا ملِكٌ إذاً إلا فداكا
المقصود أن الملك غضب على ابن بقية الوزير -وهذه القصة معروفة- فقتله وصلبه، ورآه أبو الحسن الأنباري مصلوباً على خشبة الموت؛ فبكى وبكت بغداد لهذا الجواد الكريم السخي الرحب؛ ورثاه بقصيدة تبلغ اثنين وعشرين بيتاً، ومنها:
علو في الحياةِ وفي المماتِ بحَق أنت إحدى المعجزاتِ
كأن الناس حولك حين قاموا وفود نَداك أيام الصِّلاتِ
كأنك واقف فيهم خطيباً وهم وقفوا قياماً للصَّلاةِ
مددت يديك نحوهم احتفاءً كمدهما إليهم بالهباتِ
ولما ضاق بطن الأرض عن أن يواروا فيه تلك المكرماتِ
أصاروا الجو قبرك واستعاضوا عن الأكفان ثوب السافياتِ
فسمعها عضد الدولة، قال بعض الرواة: فدمعت عيناه وقال: والله لوددتُ أنني قُتِلْتُ وصُلِبْتُ وقِيْلَتْ فيَّ.
هذا هو الشعر، وهو قليل من كثير.
ولكن الشعر قد يكون سخطاً إن لم يُوظَّف في طاعة الله عزَّ وجلَّ، وغضباً إن لم يُرَشَّد بفكرة إسلامية وعقيدة تربوية، فإنه يذهب بالرأس إذا لَحَن فيه العبد لحناً لا يصلحه الخليل ولا سيبويه؛ فإن عثرة القافية تذهب برأس العبد، وربما تصليه جهنم عند الباري سبحانه {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
أول المقتولين في هذه القائمة -ولم أذكره في كتابي قصائد قتلت أصحابها إنما ذكرتُ غيره- هو: علي بن جبلة العكوك، وشعره كله نُخَب، وهو من أشعر الشعراء على الإطلاق، وقد أعجب الذهبي بشعره، وله قصائد مدوِّية، يقول في بعضها:
بأبي من زارني مكتتماً حذراً من كل واشٍِ جَزِعا
يطرق السن على تلك الخطا ثم ما سلَّمَ حتى ودَّعا
قال العلماء: ليته زادنا قليلاً، وهي ثمانية أبيات؛ لكنه يتركك ويُنْهِيك وقد {بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] ثم يقطع القصيدة، فيقول:
عسى فرج يكون عسى نعلِّل نفسنا بعسى
فلا تجزع إذا حصَّلتَ هماً يقطع النفَسا
فأقرب ما يكون المرءُ من فرج إذا يئسا
وقد ذكرت هذا في كتاب لا تحزن وهو شعر جميل وليته أطال فيه وقد وفد على أبي دلف -وهذه هي التي أذهبت رأسه، وذهب في خبر كان- فدخل على أبي دلف الشجاع الأمير الجواد، فصنَّف فيه قصيدة تبلغ سبعين بيتاً، فلما انتهى منها اهتز أبو دلف -أتته حمى تهامة - وقال: احتكم، إما أن تأخذ نصف ما عندي -وهو أمير- وإما أن تأخذ على كل بيت مائة ألف درهم، وإلا فاحكم أنت.
قال: بل مائة ألف على كل بيت.
يقول في هذه القصيدة:
ذاد ورد الغي عن صَدَرِهْ وارعوى واللهو من وَطَرِهْ
إلى أن قال:
دع جدا قحطان أو مضر في يمانيه وفي مضره
وامتدح من وائل رجلاً عصر الآفاق من عصره
المنايا في مقانبه والعطايا في ذرا حجره
إلى أن يقول:
إنما الدنيا أبو دلف بين مغزاه ومحتضره
فإذا ولى أبو دلف ولت الدنيا على أثره
كل من في الأرض من عرب بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة يكتسيها يوم مفتخره
وطارت القصيدة وصارت من عيون الشعر، وعارضها عشرون شاعراً لكنهم أخفقوا كلهم، وقع الرمي تحت خشبة المرمى، حتى إن أبو نواس أراد أن يَنْظُم قصيدة على هذا النسق؛ فما استطاع.
ثم سمع المأمون بهذ القصيدة؛ فاستدعاه وقال: يا بن الفاعلة! والله لأقتلنك في قولك لـ أبي دلف:
كل من في الأرض من عرب بين باديه إلى حضره
مستعير منك مكرمة يكتسيها يوم مفتخره
ماذا تركت لنا؟ ثم استشار الهيئة الشرعية، فقالوا: نحن سنبشرك بأبيات تقدح في الشرع؛ حتى إذا قتلتَه فسيقال: إن ذلك غيرة على الدين، قال: وما هي؟ قالوا: يقول أبو دلف من قصيدة سابقة:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها وتنقل الشهر من حال إلى حالِ
وما مددتَ بأقلام لها شبة إلا قضيت بأرزاق وآجالِ
وهذا لا يكون إلا لله الواحد الأحد.
انظروا! فقد أساء كل الإساءة، ووجدها المأمون فرصة، حتى يظهر أمام الناس أنه عَفٌّ طاهرٌ يغار لدين الله ويحفظ محارمه، والسياف حاضر، فأمره أن يضرب رأسه فصار كأنه بدون رأس، وذهب في خبر كان، وبقي شعره من أحسن الشعر عند العرب.(398/5)
المتنبي وهجاؤه ضبَّة
وصاحبنا الثاني: أبو الطيب المتنبي، ولعلكم سمعتم به، وهو خطير جد خطير، فهو في الشعراء مثل أحمد بن تيمية في العلماء، وإذا جاء المتنبي انتهى الشعر والشعراء إليه، وقد استمر في الإحسان وفي الإهداء، حتى إن الشوكاني يقول في البدر الطالع: يكفيه فخراً وشرفاً أن له خمسمائة بيت تدور على ألسنة الملوك فقط، من غير رعاة الأبقار والأغنام فهو شاعر الدنيا، وديوانه قدر خمسمائة صفحة، له ما يقارب خمسة آلاف وستمائة بيت، أو ستة آلاف، وقد سرى بها في الدنيا وبعض المعاصرين لهم أربعة دواوين، كل ديوان مثل كيس الأسمنت، ولا يحفظ الناس منها بيتاً واحداً فهذا المتنبي، ويكفيه أنني عقدتُ له مناظرة، والمرجع: مقامات القرني
قلتُ: من أنت؟
قال:
أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسْمَعَتْ كلماتي من به صممُ
وتوقيعاته معروفة دائماً.
قلتُ له: ما رأيك في حُسَّادك؟
قال:
إني وإن لُمْتُ حاسِدِيَّ فما أنكر أني عقوبة لهمُ
اسمع هذا البيت، الْغِ الديوان وخذ منه هذا البيت، يقول: جعلني الله عقوبة لهم، لكن أستغفر الله لهم.
قلت: السفهاء يتطاولون على العظماء.
قال:
وإذا أتتك مذمتي من ناقصٍ فهي الشهادة لي بأني كاملُ
هكذا تفجر طاقة في اللغة والإبداع، مع القلة والنزر اليسير، لكنه الدرر وكان خفيف الدين، عهده بالوضوء في عطلة الربيع حين سافر إلى مصر، يُقال: كان لا يشرب الخمر ولا يصلي، قلنا: وددنا لو أنه شرب الخمر وصلى.
وأوصي إخواننا أن يحفظوا ألسنتهم شعراً ونثراً وكتابةً من أعراض المسلمين، فإنهم إن لم يخافوا العقوبة في الدنيا والسلطة؛ فإن الواحد الأحد سوف يبرز للبشر على عرشه سبحانه وتعالى، ويحاسبهم بما اقترفت أيمانهم وأيديهم وألسنتهم، ووالله لن يغادروا الموقف حتى يقتص سبحانه وتعالى لعباده بعضهم من بعض.
فأتى -والعياذ بالله- وتعرض لرجل أغضبه اسمه ضبة، وقال في قصيدة له شنيعة لا أذكر منها الإسفاف -نعوذ بالله- فسأترك الفُحش الذي في ديوانه، ففي ديوانه فُحش ومقت وسُخط؛ وهذا لأنه ليس عنده تقوى ولا دين قال:
ما أنصف القومُ ضبة وأمَّه الطُّرْطُبَّة
فلا بمن مات فخراً ولا بمن عاش رغبة
وإنما قلتُ ما قلتُ رحمةً لا محبة
وحيلة لك حتى عذرت لو كنت تأبه
ومن يبالي بذم إذا تعوَّد كسبه
إلى هنا وأقف؛ لأنه دخل في أمور أستحي من ذكرها، وهي من أسوأ قصائده -كما يقول محمود شاكر، وغيره من الأدباء والنقاد- ومع ذلك كانت سبب حتفه، فرصد له ضبة وقوم من بني أسد وتعرضوا له، وفي الطريق رده أحد الأدباء وقال له: احذر، اتقِ الناس، إنك هجوت هؤلاء القوم وسوف يعترضون لك، فقال بكِبْر وعُجْب وتيه:
والله لو أن بني أسد ظمأى لخمس، ونهر الفرات يترقرق ويتقلب ماؤه كبطون الحيات -البلاغة عنده حتى ورأسه سيذهب! - ومخصرتي -أي: عصاي- على النهر، ثم رأوا الماء ما وردوه.
وهذه كذبة تصنَّعها، كذبة إبليس، فقالوا له: خذ حرساً، قال: أمِنْهُم؟! والله لو خيالي سارٍ لغلبهم، قالوا: هذا صِدْقٌ! فذهب في الصحراء، وإذا بهم بعد قليل يطوقون المكان بمن فيه، فقالوا له: ارفع يديك، فأراد أن يهرب؛ لأن حوله ما يقارب الستين، وأراد أن ينسحب، ومعه ابنه محسد ومولاه وقوم من مرافقيه، فانسحب وهرب، فصاح به مولاه -وقيل ابنه والصحيح أنه مولاه: ألستَ القائل:
الخيل والليل والبيداءُ تعرفني والسيفُ والرمحُ والقرطاسُ والقلمُ
فقال: قتلتني قتلك الله! ثم رجع بالسيف، فقتلوه، فكأنه خُلق بدون رأس، وذهب رأسُه مِن أجل:
ما أنصف القومُ ضبة وأمَّه الطُّرطُبَّة
فانظر إلى هذه الخطورة وهذا الإعراض.(398/6)
هجاء طرفة لعمرو بن هند
أما طرفة بن العبد، وحسبك به! العبقري الثائر المتمرد، الذي قُتل وعمره ست وعشرون سنة، والعبقرية لا تعرف عُمْراً ست وعشرون سنة يدخل فيها على الملوك ويسجل أروع القصائد، حتى إن بعضهم يجعل معلقته بعد معلقة امرئ القيس مباشرة، وبعضهم ألَّف فيها تصنيفاً بديعاً، وهي من أخطر وأبلغ وأمهر المعلقات على الإطلاق، ومع ذلك قُتِل وعمره ست وعشرون سنة وانظر إلى جيلنا الحاضر، يبلغ أحدهم ثلاثين سنة ولا يستطيع أن يشتري أغراضه من السوق وهذا هو صاحب الدالِية التي يقول فيها:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على النفس من وقع الحسام المهندِ
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشددِ
إلى أن يقول:
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
فإن كنت لا تسطِيع دفع مَنِيَّتي فدعني أبادرها بما ملكت يدي
يقول: ما دمت سأموت فاسقوني الخمر، وأعطوني الشهوات، واجعلوا البيع بالجملة؛ لأنه ما عنده آخرة، وقد كان قبل الرسول صلى الله عليه وسلم في عهد الجاهلية، وليس عند الجاهليين نور، بل كانوا كالبهائم؛ لأنه قبل مبعث الرسول صلى الله عليه وسلم كنا بلا عقول ولا طهارة، ولا زكاة، ولا تفكير، ولا أدب، حتى بُعث محمد صلى الله عليه وسلم: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
وقد ذكرت بعضُ أبياته عند الخليفة الراشد الزاهد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه في مجلس الأدب، فقيل له: يقول طرفة:
فلولا ثلاث هن من عيشة الفتى وجدكَ لم أحْفَلْ متى قام عُوَّدي
يقسم أنه لولا ثلاث لم يهتم بالحياة، وإنما يريد أن يموت، ويريد أن يقوم عليه النُّعاة.
قال عمر: وما هي؟
قيل له، يقول:
فمنهن سبق العاذلات بشربة كُميْتٍ متى ما تعل بالماء تزبدِ
أي: كأس الخمر.
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب ببهكنة تحت الخباء الممددِ
أي: امرأة.
وكري إذا نادى المضاف مجنباً كليث الغضا نبهتَه المتورِّدِ
فدمعت عينا عمر، وقال: والله لولا ثلاث لم أحْفَل متى قام عُوَّدي، وهو منطق أهل الإسلام والإيمان والرشد: مزاحمة أقوام ينتقون أطايب الكلام كما يُنْتَقى أطايب الثمر، وأن أصوم يوماً حاراً بعيداً طرفاه، وأن أمرِّغ وجهي لربي في التراب ساجداً.
فجزاه الله خيراً، فإن هذا منطق أهل الاصطلاح الخيِّر، لا منطق الجاهلية العفن.
أما طرفة فما أصابه بأس بهذه القصيدة المعلقة التي تركها لنا، وهي من أجود القصائد.
أتى إلى عمرو بن هند، وهو الذي يخاف منه الطير في الدهناء، وأتى يتعرض له ويستهزئ بمجلسه ويقول:
فليت لنا مكان الملك عمرو رغوثاً حول قبتنا تخورُ
يقول: بودي لو أن بدل عمرو بن هند بقرة! أهذا منطق؟!
من الزمرات أسبل قادماها وضرتها مركنة دَرورُ
أي: تكون حلوباً، يقول: والله لا استفدنا منه ولا أعطانا شيئاً.
يشاركنا لنا رخلان فيها وتعلوها الكباش فما تنور
لعمرك إن قابوس بن هند ليخلط ملكه نوك كثيرُ
فطارت القصيدة بحفظ الله ورعايته إلى عمرو بن هند، وهو الذي قتل ملوكاً، ولا يُمْزَح معه، فقال: عليَّ به، فأتى، وأراد عمرو أن يظهر في موطن الصيانة والرزانة؛ لئلا يقول الناس: إنه قتل طرفة الشاب العبقري المارد، الذكي الألمعي، إذ كيف له أن يقتله؟! فدعاه وحياه ورحب به وغدَّاه وألبسه، وقال: لك عندي رسالة فاذهب بها إلى ملك البحرين، وأعطاه الرسالة، وأعطى المتلمس رسالة أخرى، ووضعهما في ظرفين وأعطاهما، فأما المتلمس فقد شك -فربما كان الذيب في القريب، كما قال بعض السلف، أو الصميل في الكيس، كما قال بعضهم- ففتح الرسالة وإذا فيها: إذا أتاك المتلمس فقطِّع أطرافه الأربعة ثم اضرب عنقه، ففر وقال لـ طرفة: اذهب، يكفيك هذا الشعر، خذ الرسالة، قال: لا، بل حسدتني -وقد كان قريباً له- والله إن لي جائزة، وتريد أن تأخذها أنت عليَّ فذهب بها إلى الملك، فقرأها، فقطَّع أطرافه الأربعة ثم ضرب عنقه، فذهب في خبر كان من أجل أربعة أبيات أو أكثر وهي من أسوأ أبياته على الإطلاق، وهي ركيكة، لكن هذه عاقبة اللسان الذي لا يحفظه العبد، وهذا مع البشر فكيف مع الواحد الديان جلَّ في علاه.(398/7)
الأعشى والحجاج بن يوسف
والشاعر الآخر مسلم اسمه: الأعشى الهمداني قتله أدبه وشعره، وكان شاعراً مجيداً لكن خرج مع فتنة ابن الأشعث التي خرجوا فيها على عبد الملك بن مروان، ومعهم سبعون عالماً من علماء أهل السنة، رضي الله عنهم، منهم: سعيد بن جبير الذي ذهب دمه هدراً ورأسه شذراً، ومنهم: عامر الشعبي العالِم الكبير حتى أنه ذات مرة دخل الحجاج فقيل له: أين كنتَ؟ قال: كنتُ في مكان كما قال تأبط شراً:
عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدتُ أطيرُ
وهذا من أجمل الأبيات، وهو من عيون الشعر وتأبط شراً ما كان يأخذ الجِمال ويستعيرها من أحد، وما كان يشتريها، بل كان يقول: الله هو الذي خلق الجِمال، وليست من الناس، فيأخذها عُنوة، وقد كان مارداً متجبراً، السيف عنده جاهز يقطر دماً يقول أحد الصعاليك: إذا مَرَّ بجِمالي قلت له: خذ ما تريد واذهب يقول في مطلع القصيدة، وهي خطيرة وأخَّاذة:
درى الله أني للجليس لشانِئٌ وتبغضهم لي مقلةٌ وضميرُ
يقول: لا تضيِّع وقتَك بالجلوس مع الناس، اذهب واسرق لك جِمالاً وكباشاً، وخذ لك واشبع.
درى الله أني للجليس لشانِئٌ وتبغضهم لي مقلةٌ وضميرُ
ولا أسأل العبد الفقير بعيرَه وبُعْران ربي في البلاد كثيرُ
عوى الذئب فاستأنستُ بالذئب إذ عوى وصوَّت إنسان فكدتُ أطيرُ
المقصود أن الأعشى الهمداني خرج في هذه الفتنة، فلما خرج نَظَم قصائد فيمن كان أمير الفتنة ضد الحجاج، وهو عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث، يقول في بعضها:
يأبى الإله وعزة ابن محمد وجدود ملك قبل آل ثمودِ
أن تأنسوا بمُذَمَّمِين عروقهم في الناس إن نُسِبُوا عروق عبيدِ
يقصد الحجاج ومَن معه.
ثم رجع إلى الممدوح، يقول:
كم من أب لك كان يُعْقَد تاجه بجبين أبلج مِقْوَدٍ صنديدِ
إلى أن يقول:
بين الأشج وبين قيس باذِخٌ بَخ بَخ لوالده وللمولودِ
أي: بين أبيك وبين جدك.
فقال الحجاج لما سمعها: والله ما أتركه يبَخْبِخْ بعدها.
وهذه الكلمة تُنطق عند أهل اللغة: بَخٍ بَخٍ، وبَخْ بَخْ، والرسول صلى الله عليه وسلم لما تصدَّقَ أحد الصحابة بمزرعته قال: {بخ بخ ربح البيع} وضَبَطها المحدثون: بَخٍِ بَخٍ.
ما قصَّرَت بك أن تنال مدى العلا أخلاق مكرُمة وأجودَ جود
فاستدعاه الحجاج، فوقف أمامه، وحلف بالله: إنك أحب الناس عندي.
يقول هذا للحجاج وهو قد خرج عليه، وقال: إنه أحب الناس لأنه يرى النطع أمامه، والسيف مشهور، والكفن منشور قيل لبعض العلماء وهو يرتجف: ما لك ترتجف وقد كنت تشجعنا وتثبتنا؟ قال: ما لي لا أرتجف وأنا أرى قبراً محفوراً، وسيفاً مشهوراً، وكفناً منشوراً!! فحلف بالله إنني أحبك وإني ما خرجتُ رغبة، وإني قد قلت فيك قصيدة.
قال: وما هي؟ فقال القصيدة.
ثم قال له: أوَنِسْيَتَ قولك:
بين الأشج وبين قيس باذِخٌ بَخ بَخ لوالده وللمولودِ
والله لا تُبَخْبِخُ بعد اليوم، يا غلام ائتني برأسه، فضَرَبَ رأسه، فكأنه لم يُخلق له رأس.
وهذا لأنه لم يقدر الموقف.(398/8)
صالح بن عبد القدوس والمهدي
االشاعر الأثيم النذل الخسيس الحقير صالح بن عبد القدوس، فإنه قد نال جزاءه على الزندقة والإلحاد في دين الله، وهذا جزاء من استهزأ بالدين: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66]
وهو حكيم بلسانه، لكنه نذل منافق، يجوِّد العبارة، وهو من أشعر الشعراء؛ لكنه لم يستفد من الشعر شيئاً قاتله الله! يقول ابن المعتز في الطبقات: إن كان قال القصيدة فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
قلت: شكر الله لك! ويقول محمد الغزالي المعاصر: من قال كلاماً جميلاً شعراً أو نثراً ذهبنا إليه وقبَّلنا جبينه، ومن قال كلاماً خسيساً حقيراً في الملة ملأنا فاه تراباً.
يقول هذا في حكمة له:
ذهب الشباب فما له من عودة وأتى المشيب فأين منه المهربُ
هذا صحيح.
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنبُ
واذكر مناقشة الحساب فإنه لا بد يُحصى ما جنيتَ ويُكتبُ
لكنه لم يتذكر هو.
والليل فاعلم والنهار كلاهما أنفاسنا فيه تُعَدُّ وتُحسبُ
وجاء بقصائد كثيرة من الأبيات المجيدة، والحكم البالغة النافعة لمن تدبرها، ولكنه لم يمتثل بها في حياته، بل تطاول إلى جناب الرسول الشريف صلى الله عليه وسلم -عياذاً بالله- فداه أبي وأمي، وملأ الله قلوبنا من محبته، وفديناه بأرواحنا ودمائنا صلى الله عليه وسلم
إن كان أحببتُ بعد الله مثلك في بدوٍ وحَضْرٍ وفي عُرْب وفي عجمِ
فلا اشتَفَى ناظري من منظرٍ حسنٍ ولا تفوه بالقول السديد فمي
فلعنه أهل العلم، وجزى الله المهدي أمير المؤمنين الخليفة العباسي خيراً، فقد استدعاه في الحال وقال له: أنت الذي قلت في الجناب الشريف كذا كذا؟ فأقسم بالله أنه ما قال، وبكى أمام الناس، وأن أعداءه زوروا عليه، فأصبح الأمر محتمَلاً، فأراد المهدي أن يتركه وقال له: اذهب، فلما صار عند الباب وأراد الله أن يأتي برأسه- قال له: تعال، ماذا قلتَ في قصيدتك:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
وهو قد أصبح شيخاً كبيراً.
قال: قلت:
والشيخ لا يترك أخلاقه حتى يوارى في ثرى رمسه
إذا ارعوى عاد إلى جهله كذي الضنا عاد إلى نُكسِهِ
قال: والله لا تترك أخلاقك، عليَّ برأسه، فقطعوا رأسه، والحمد لله {فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:45].(398/9)
دعبل وتهانيه للملوك
ومعنا دعبل الخزاعي، وله نكات ولطائف، حتى أنه قبل أن يقتل أوصى أن يُدفن في النجف عند أهل البيت في طرف المقبرة؛ لأنه كان يحب أهل البيت حباً شديداً، وقد غالى فيهم وزاد حتى تجاوز السنة، ونحن نحبهم ونتولاهم فأوصى أن يُدفن على طرف مقبرة أهل البيت، وأن يُكتب على قبره: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ} [الكهف:18] والعجيب أنه كلما جاء خليفة تناوله بقصيدة، والأصل أن الناس كانوا يهنئونه ويرسلون له برقيات التهاني، وهم في فرحة، لكن دعبل كان يرسل له بقصيدة، فعندما تولى المأمون وهنأه الناس، جاء دعبل وأرسل له قصيدة، يقول فيها:
يسومني المأمون خطة هاشم؟؟ أوَما رأى بالأمس رأس محمد؟
يقول: إن محمداً الأمين -أخاك أيها المأمون - قتلناه نحن قبيلة خزاعة على يد طاهر بن الحسين الخزاعي فاعلم أننا سنقتلك أتقتل المأمون يا دعبل؟! قال:
شادوا بذكرك بعد طول خُمولِهِ واستنهضوك من المحل الأوهدِ
يقول: لاحظ يا مأمون! أننا نحن الذين رفعناك.
دعبل هذا رجل أعرابي عنده أتان ما تساوي مائة درهم، ويقول: إنه هو الذي رفع المأمون، الذي جده خليفة، وأبوه خليفة، وإخوانه خلفاء، وولِد في بيت الخلافة! فقال المأمون: قاتله الله، ويلي عليه، يقول دعبل: هو الذي استنهضني؟!
شادوا بذكرك بعد طول خُمولِهِ واستنهضوك من المحل الأوهدِ
ثم انتهى من القصيدة، لكن المأمون كان عنده حِلْم، حتى أنه يقول: والله الذي لا إله إلا هو لقد حُبِّبَ إلي العفو حتى خشيت ألا أوجر عليه؛ لأنه أصبح عنده سجية وجِبِلَّة، حتى أنه عفا عن الفضل بن الربيع، وعن أناس كبار أرادوا قلب الدولة؛ لكن خطيئته -والله سبحانه وتعالى يتولاه- ما فعل في فتنة القول بخلق القرآن، وهذا حديثٌ طويل، ندعه ونرجع إلى قصة دعبل الخزاعي.
هذا الرجل مدح آل البيت بقصيدة من أعظم القصائد، يسميها الكرمي: القصيدة العامرة، وصَدَق! وهي من أمهات الشعر وعيون الأدب، يقول فيها:
مدارس آيات خلت من تلاوة ومنزل وحي مقفر العرصاتِ
لآل رسول الله بالخيفٍ من منى وبالركن والتعريف والجمراتِ
ديار عفاها كل جَون مباكر ولم تعف للأيام والسنواتِ
قفا نسأل الدار التي خف أهلها متى عهدها بالصوم والصلواتِ؟
إلى أن يقول فيها:
إذا وُتِروا مدُّوا إلى واتريهم أكفَّاً عن الأوتار منقبضاتِ
إذا ذكروا قتلى بـ بدر وخيبر ويوم حنين أسبلوا العبراتِ
قبور بـ كوفات وأخرى بـ طيبة وأخرى بفخ ما لها فلواتِ
فقبر بأرض الجوزجان محله وقبر بباخمرا لدى الغرباتِ
في قصيدة طويلة وجميلة ورائعة، وذهب يلقيها على علي الرضا بن موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فأغمي على هذا الأمير، وهو ولي العهد، فوقع من على الكرسي، وهو يلقي عليه هذا الرجل قصيدته، ثم أعطاه بردَته جائزةً له، فمر ببلدة قم وفيها شيعة، فقالوا: أعطِنا إياها بما أردتَ من ثمن.
فقال: والله لا أبيعها، فتناهبوها حتى ما أصبح في يده إلا كشف الرأس، وذلك ليتبرك بها.
ولما مات المأمون، وتولى بعده المعتصم، أرسل له برقية تهنئة، يقول فيها:
ملوك بني العباس في الكُتْب سبعةٌ ولم تأتنا في ثامن منهم الكُتْبُ
لأن الثامن هو المعتصم.
فيقول: من أين جئت أنت؟ ما أنت منهم أصلاً ولا لك أي حق في الخلافة.
انتهى من الإشكال مع المأمون، والآن يحسب أن الحال سيصلح، قال:
ملوك بني العباس في الكُتْب سبعةٌ ولم تأتنا في ثامن منهم الكُتْبُ
كذلك أهل الكهف في الكهف سبعةٌ وثامنهم فيما أتى عندنا كلْبُ
واسمع إلى الكلام الآتي وهو يعتذر للكلب، ويقول: مع احترامي للكلب أستغفر الله العظيم، وهذا مع من؟ إنه مع المعتصم الذي دوخ الروم، وجعلهم يتركون المدن، وكان يحرق المدن مدينة بعد مدينة حتى قال أبو تمام:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت صار الخراب لها أعدى من الجربِ
خليفة الله جازى الله سعيكَ عن جرثومة الدين والأخلاق والحسبِ
أجبت صوتاً زَبْطَرِياً هرقت له كأس الكرى ورضاب الخرد العرب
هذا المعتصم القوي الشجاع الفتاك يُتَناوَل بهذا الكلام؟! انظر إلى المجازاة! قال:
وإني لأُزْري الكلب عن ذكره بكم لأنَّ لكم ذنباً وليس له ذنبُ
يقول: مع احترامي للكلب.
إلى آخر القصيدة.
فسمعها المعتصم، فغضب وأزبد وأرعد وقال: عليَّ به، ففرَّ إلى خراسان، وضاعت القضية، فأتى به الله، ولم يقتله المعتصم، وإنما قتله مالك بن طوق الوزير عندما تعرَّض له دعبل بقصيدة، فاستدعاه فحلف أنه ما قالها، وأنها وضعت عليه -من الذي وضعها عليه؟ وما هذه الصهيونية العالمية التي تنْظُم أشعاراً للشعراء هؤلاء؟!
فقال له: لكني إذا تركتك فستعدي غيرك، فشهَّر به وجلده أمام الناس، ثم أرسل له من اغتاله في خراسان، وقيل: بل سقاه سماً، فذهب شَذَر مَذَر.(398/10)
الرسالة المصطفاة من هذا الحديث
أيها الإخوة الكرام: ما هي الرسالة المصطفاة من هذا الحديث؟ هؤلاء قد قُتلوا وذهبوا وانتهوا؛ لكن ما هي الرسالة التي نريد أن نوجهها؟
الرسالة لأهل الأدب، وحملة الأقلام، ورجال الإعلام، والعلماء والأدباء والشعراء: أن يتقوا الله فيما يقولون ويكتبون، وأن يعلموا أن الله سوف يوقفهم في يوم لا ينفع مال فيه ولا بنون
نعم، قد يستغفر العبد فيُغفر له، وقد يُجلد؛ لكن يقول سبحانه وتعالى عن نفسه: {لا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر:25 - 26] يقول: لا يعذب عذاب الله أحد من البشر، ولا يوثق -إذا حبس سبحانه وتعالى- وثاقه أحد فالله الله! أرسل هذه الكلمة صادعةً ناصعةً قويةً إلى كل مَن عنده فكر أو قلم يحمله أو لسان أن يتقي ربه، وأن يحاسب نفسه فيما يكتب، فإنه سوف يمر به وقت تُعرض عليه الصحف، ويُناقَش حرفاً حرفاًً فيما قال وفيما كتب، ولينظر مصارع هؤلاء (مصائب قوم عند قوم فوائدُ).
وقد قال تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ} [الأحقاف:27] فلتعتبروا يا أولي الأبصار! وهي رسالة للجميع، وإنني آسَف كل الأسف أن فينا من أهل الأدب والعلم والدعوة مَن يتعرض لإخوانه الدعاة والأدباء، والمشايخ وطلبة العلم، بالهمز واللمز والهجاء والكتابة السيئة في ساحات الإنترنت، وفي الرسائل وفي المجالس {أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين:4 - 5] {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلونَ} [الزخرف:19].
فاتقوا الله فيما تقولون وما تكتبون، وحاسبوا أقوالكم شعراً ونثراً، واستغفروا ربكم إنه غفور رحيم.
سامحن بالقليل من غير عذل ربما أقنع القليل وأرضى
وصلى الله على الحبيب وسلم، وعلى آله وصحبه ومن سار على منهجه إلى يوم الدين.
اللهم وفقنا لأحسن الأقوال والأعمال.
اللهم زَكِّ نفوسنا، أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم إنا نسألك سداداً في الكلم، وقواماً في المنهج، وحسناً في الأدب، ورعاية في الملة.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(398/11)
سيرة الشيخ عائض الأدبية
السؤال
جزى الله خيراً أخي فضيلة الشيخ/ عائض بن عبد الله القرني على هذه المحاضرة القيمة.
وقبل أن نبدأ بالمداخلات وبما يتعلق بها، نريد أن نسأل الشيخ عن سيرته الأدبية؛ لأن كثيراً منَّا يعرف الشيخ/ عائض عالماً وفقيهاً ومحدِّثاً ومفكراً، ولكن بعضنا يجهل سيرة الشيخ عائض الأدبية.
أريد من الشيخ عائض -إن أذن لنا بذلك- أن يذكر لنا بدايته الشعرية، ونتفاً من سيرته الأدبية.
الجواب
بارك الله فيكم، وغفر الله لمن كان جاهلاً بسيرتي في الأدب.
كما تشاهدون أخاكم في موقف لا يُحسد عليه أمام الأدباء والشعراء وأهل الفضل والخير، ولكن:
وكم في الحفل أبهى من عروسٍ ولكن للعروس الدهر ساعد
فأقول أيها الإخوة: لكل بداية نقص، والعبر بكمال النهايات لا بنقص البدايات، وقد أحببت الأدب من الأول المتوسط بمعهد الرياض، وكان يدرسنا الأستاذ البليغ الأديب الدكتور/ إبراهيم الجوير، ثم في النحو الدكتور/ محمد الفاضل وكذلك الشيخ/ عبد العزيز الفنتوك، وملأ غيرهم من الأخيار، وكان فيهم أدب واهتمام بالشعر وبالكلمة، فكنت أظن وأنا في المتوسط أن الشريعة هذه التي اسمها شريعة محمد صلى الله عليه وسلم أنها دواوين الشعر، وأن جريراً نصر الله به الإسلام، حتى ظهر أن جريراً هذا والفرزدق كان لهما إبل يرعيانها في الصحراء، وما كان عندهما إلا الهجاء، وقد ضيعا الدين، ضيعهما الله فرجعنا وبدأنا نحفظ، وبدأتُ بـ جواهر الأدب وبغيره إلى الثالث المتوسط، وكنت أشارك في الحفلات والأندية الأدبية وبعض المخيمات الصغيرة، وكما تعرفون أن الناس يغُرُّون، فيقول لي بعض الزملاء: فتح الله عليك! هذا الشعر لا يُطاق مثله ويصحح لي أحد الأساتذة فيقول: أنت في شعرك شيءٌ عجيب، حتى أني أتفكر في قوة شعرك دائماً.
فبلغ بي ذلك أن قلت: أني مثل المتنبي أو قريب منه! وكانوا يسألونني في حفلات المعهد في المقابلات، فكان يسألني طالب مثلي ويقول: مَن ترى من الشعراء أنه شاعر؟
فأقول: المتنبي لا بأس بشعره، وفلان لي عليه ملاحظات وآتي بأبياته، وكذا لأنني كنت جداً محباً للشعر، وأتى إلينا مرة وفد معهد الجوف زائراً فقالوا: نريد شاعر المعهد، الشاعر الكبير المصقع أن يَنْظُم، فذهبتُ فنَظَمْت قصيدة، فأولاً مدحتُ المعهد -هذا قاموس مفهرس- بقصيدة في ثلاثين بيتاً وهي موجودة ومحفوظة، وأثنيت على الأساتذة والمشايخ، ثم رحبت بالمعهد الوافد، ثم رثيت الملك فيصل؛ لأنه قتل في الأسبوع الأسود، ثم ذكرتُ الإسلام، وبدأتُها بالبيت الذي ما سمع العرب ببيت أضعف منه:
لك يا معهدي الأجل سلامي عامر الود والأماني أمامي
جئتك اليوم نافضاً عن إهابي أثر الجهل زاده إفهامي
اسمع البلاغة إلى آخر الكلام، من القصيدة، وليتهم استتابوني تلك الليلة؛ لكن جاء الأستاذ وزاد الطين بلة، فقال: سبحان الله العظيم! ما سمعنا بمثل هذه.
فلما كبُرت ورأيت البيان وذهبت إلى أبها، وفقنا الله بشيخ جليل، وعلامة رباني، وهو ولي من أولياء الله، وهو عبيد الله الأفغاني، وهو يدرس الآن في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فحفظت على يديه القرآن مجوَّداً، وقال لي: العلم ليس هذا، هذا أدب، عليك بـ صحيح البخاري فبدأتُ بـ صحيح البخاري وفتح الباري إلى أن أعطانا الله شيئاً، ولا ننكر أنه أعطانا، ولكن ليس عندنا إلا القليل، فالفضل كله للواحد الأحد.(398/12)
أشعر الشعراء في القديم والحديث
السؤال
شيخ عائض: من يعجبك من الشعراء من المتقدمين ومن المتأخرين؟
الجواب
يعجبني كثيراً مِن المتقدمين منهم أهل المعلقات، ويعجبني شعر النابغة الذبياني، وأنا مع من يفضله أحياناً على زهير وطرفة صاحب القصيدة الدالية.
وأما من الشعراء جميعاً المتقدمين منهم والمتأخرين، والأحياء منهم والأموات: فهو المتنبي، وقد ألفت فيه كتاباً لدى مطابع العبيكان -وهذا للمعلومة- أسميته: امبراطور الشعراء الشاعر الأسطورة المتنبي.
وأما المعاصرين فكثير من الإخوان، ولن أذكر أحداً منهم؛ لكنهم أتحفونا بملأ منهم، وأنا أشاهدهم أمامي، فليعفوني، لأنني محرج من ذكر الأسماء، وأحياناً أذكر أربعة وأنسى ثلاثة، فالذين أمامي هم من الشعراء المتأخرين الذين نحبهم ونحب شعرهم، وأقرأ لهم بارك الله فيكم.(398/13)
تكلف الشعر
السؤال
بماذا تنصح من يتكلف الشعر تكلفاً؟
الجواب
أنصحه أن يتقي الله وأن يريح المسلمين من شره، فلا ينظُم شيئاً؛ لأن بعض الناس يريد أن يقنعنا بالقوة أنه شاعر، ولا بد أن نعترف له، وينْظُم لنا قصائد في الجرائد يومياً، وهذا ليس بشعر، إنما هو منظومات، مثل:
قال محمد هو ابن مالك أحمد ربي الله خير مالكِ
فعليه أن يريحنا ويتقي الله فينا، فإن عندنا مصائب، كقضية فلسطين والشيشان وأفغانستان، فلا يزيدنا مصيبة رابعة، وأرى أن يتوجه لما خلقه الله، فالله لم يخلق الناس كلهم أدباء أو شعراء، ولتنظروا إلى الصحابة! هل كان أبو بكر شاعراً؟ له بيتٌ أو بيتين، وهو أول الصحابة فضلاً بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك عمر رضي الله عنه لم يكن شاعراً، فـ حسان في الشعر، وزيد بن ثابت في الفرائض، وأبي بن كعب في القرآن، وابن عباس في التفسير، وذاك في الفقه وهكذا.
فيا إخوة: مَن فُتِح عليه باب فليلزمه، ولا يكلف نفسه موهبة ما خلقه الله من أجلها، فيثقل علينا ويثقل على نفسه.
زارني شاب إلى البيت، وقال: عندي قصيدة أريد أن أعرضها عليك.
فقلت له: تفضل، فبدأ بها، وصبرني الله سبحانه حتى انتهى منها، ولما انتهى قال: ما رأيك فيها؟ قلت: الحمد لله الذي أخرجها من بطنك، ولو بقيت فيك لقَتَلَتْك.
إذاً: الفضل هو في قراءة القرآن، وفي الذكر، وفي العبادة، وأما الشعراء فعليهم أن ينصروا الدين بشعرهم.(398/14)
قصائد قيلت في ابن باز
السؤال
هناك قصائد كثيرة من قصائد الشيخ، والشيخ له قصائد طنانة ومعروفة؛ فأرجو أن تتأخر المداخلات الصوتية قليلاً ليتسنى لنا أن نسأل الشيخ: نريد من الشيخ أن يذكر لنا ما قاله في الشيخ/ عبد العزيز بن باز رحمه الله.
الجواب
أحسنت، وهو مثلما تفضلت وقلت: لي قصائد طنانة، نعم لي قصائدي هي قسمان: طنانة، ورنانة.
وأما الشيخ ابن باز فلي معه تجارب، وهو من أحب الناس إلى قلبي، عسى الله أن يجمعنا به وبكم في جنات النعيم، وقد ألقيت عليه أربع قصائد، أما القصيدة الأولى فهي قصيدة: أبو ذر في القرن الخامس عشر، وبعض الشباب يسميها: الذرية، وهي قوية عندي وعند الشعراء من أقراني وزملائي، ولكنها لا تصلح في مجالس العلماء؛ لأن فيها رمزية وخيال، فألقيتها عليه في الحج، وكان معنا بعض المشايخ، فقلتُ فيها:
دمعة الزهد فوق خدكَ خرسا ووجيب الفؤاد يحدث جَرْسا
أنتَ مَن أنتَ يا محب وماذا في حناياك هل تحملت مَسَّا
إلى أن قلت:
لاطَفوني هددتهم هددوني بالمنايا لاطَفتُ حتى أُحَسَّا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبتُ في الحق نفسا
أطرد الموت مقدماً فيولِّي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
إلى آخر القصيدة، ولما انتهيت عقب الشيخ وقال: أما الأخ عائض فقد أجاد في قصيدته، ولكن الواجب أن يوضح لنا المراد، وأن يبين لنا ماذا يريد في قصيدته، وأن ينصر السنة بقصيدته إلى آخر ما قال، فقلتُ: لقد أسمعتَ! فجاء الحفل في آخر الحج، فألقيت عليه قصيدة، فوضَّحتُها كالشمس، مثل:
كلامنا لفظ مفيد كـ (اسْتَقِم) واسم وفعل ثم حرف الكلم
قلت فيها:
يا مركز الخير حيوا لي محياهُ نداء حق من الفصحى سمعناهُ
قد أطرب الأذن فانصاغت لنغمته وأطرقت برهة تصغي لفحواهُ
يقول للجيل والإيمان رائده عودوا إلى الله قد ناداكم اللهُ
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناهُ
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناهُ
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ اللهُ
فسُعد الشيخ وارتاح ودعا لي، أسأل الله أن يغفر له ويرفع منزلته.
الموقف الثالث: التقينا في حفل، فسلمتُ على الشيخ وقلتُ -وهي في ديواني:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببتُ طلعتكم لأنها ذكرتني سَيْر أسلافي
والمدح يا والدي في غيركم كذب لأنكم لفؤادي بلسم شافي
إلى أن قلت:
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تَشفي بفُتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصداف
يفديك من جعل الدنيا رسالته من كل أشكاله تفدى بآلاف
وقصيدة رابعة يوم أن دخل بيتي في الرياض، غفر الله له وأكرم مثواه، فرحبتُ به بقصيدة، ربما يعرفها بعض الإخوة، ولا أطيل على الإجابة عن هذا.(398/15)
بلاد ذي القرن
السؤال
بلاد ذي القرن هل هي سراة أم تهامة؟ وهل تنصحني بزيارة ذي القرن في هذا الصيف؟
الجواب
ذي القرن ثلاثة أقسام: بادية، وسراة، وتهامة، وأنا -والحمد لله- والدكتور/ ظافر القرني من السراة، ونحن كغيرنا من الناس فينا الصالح والطالح، والمقتصد والسابق بالخيرات والظالم لنفسه؛ لأن بعض الناس يظن أن قبيلته هي التي حضرت بدراً وفتحت التاريخ وأقامت الدين لا، بل كل عَشَّة بسِباعِها كما في المثل، وقد قلتُ في رباعية لي:
في أرض ذي القرن عند المنحنى داري بها وُلدتُ وقد قضيتُ أوطاري
نسمتُ تربتها طفلاً وآنسني فيها أحبة أصحاب وسُمَّارِ
لا أرتضي غيرها أرضاً ولو سَفَرَت في الحسن قرطبة أو ربع سنجار
ونحن ننتسب إلى أويس القرني ولن نتنازل عن هذا؛ لأن بعض الناس يسحبه إلى مذحج، ونحن منهم من مراد، حتى يقول شاعرنا في الجنادرية، جزاه الله خيراً:
نحن وجه الشمس إيمانٌ وقوه نسبٌ عال ومجدٌ وفتوه
لأن أصلنا من الأوس والخزرج، وأرجوكم لا تحسدونه على هذه المواهب يقول:
كرب عمي، وقحطان أبي وهبوا لي المجد من تلك الأبوه
والسيوف البيض في وجه الردى يوم ضرب الهام من دون النبوه
نحن أُسد الله في يوم الردى قد وضعنا الكفر في سبعين هُوَّه
وأويس جدنا من قرن أوما الأبناء من تلك الأبوة
إن بلال بن رباح المولى الحبشي أحسن من قبائلنا جميعاً {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
فلا تحسب الأنساب تنجيك من لظى ولو كنت من قيس وعبد مدانِ
أبو لهب في النار وهو ابن هاشم وسلمان في الفردوس من خراسان
ولي قصيدة نبطية، و (عفواً) على قولي هذا، قلت فيها:
والفخر بالدين ما هو ببيت ولا قبيل والخلايق عند رب الورى ميزانها
أبو لهب في النار وبلال يشرب سلسبيل درت الحكمة وربك تولى شانها
وأما زيارتها، فأنصح بزيارتها في الصيف بشرط أن يمر الزائر سريعاً، يسلم على إخوانه ويمر كالذئب مرور الكرام؛ لأن بعضهم يمر فيجلس ثلاثة أيام إلى أسبوع، فيأتي ويقول: أحببتك في الله، وأنام عندك في الله، وآكل طعامك في الله، وآكلك في الله، ويعانقك حتى يفطس غترتك سبع مرات، ثم يذهب، ثم يعود، ويقول: اشتقتُ لك، وأردتُ أن أسافر لكن تذكرتُ الأخوة التي بيننا، فنقف أنا والإخوة ونقول: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر.(398/16)
حكم الغزل في الشرع
السؤال
هل من الجائز أن أتغزل؟ وهل الشرع يبيح الغزل؟
الجواب
أما الغزل فمباح في الحدود، وأنا أحفظ منه كثيراً، والشيخ علي الطنطاوي هو أستاذنا وشيخنا، وقد زرتُه في حياتي مرتين رحمه الله، وهو يختار أجمل قصائد الغزل البرئ العفيف النظيف، وقد قطَّع قلبي بعضُه، وقد استخدمتُه في الحب وفي الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، حتى أن شاعر إيران السعد الشيرازي يقول:
بكت عيني غداة البين دمعاً وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبتُ التي بالدمع ضنت بأن أغمضتها يوم التقينا
وسبقه الأعور السلمي، وهو شاعر عظيم، وكل الشعراء عندي عظماء، كان له ابنٌ رزقه بعد أن كان عقيماً، فربَّاه، فلما بلغ معه السعي مات فجأة، فبكى بالعين الصحيحة، وبكت العوراء أيضاً، هي يابسة، لكنها بكت من شدة البكاء، فترجم ذلك فقال:
بكت عين ليس فيها غضاضة وعين بها ريب من الحدثانِ
عَذِيْرُكِ يا عيني الصحيحة والبكا فما لك يا عوراء والهملانِ
وهذا هو الأدب الراقي.
ومن أحسن القصائد شعر الشهرزوري، وهو عالم كبير, ولكنه تغزل في قصيدة فصارت أم قصائد الغزل، يقول فيها:
لَمَعَتْ نارُهم وقد عسعس الليـ ـلُ وضل الهادي وحار الدليلُ
فتأملتُها وفكري من البين عليلٌ وطرف عيني كليلُ
وفؤادي ذاك الفؤاد المعنى وغرامي ذاك الغرام الدخيلُ
إلى آخر ما قال في هذا الإبداع، ولا أستطرد.(398/17)
أعذب الشعر أصدقه
السؤال
يروى أن أعذبُ الشعر أكذبُه، فهل هذه المقولة الشائعة تُقْبَل؟
الجواب
تُقْبَل تجوُّزاً، والظاهر هو هذا، وبعض العلماء ردوا هذا وقالوا: لا يُقصد بكلمة (أكذبه) أنه إذا بالغ الإنسان وأتى بموشحات أدبية قد يكون كَذَبَ فيها، فقد يكون أوقع في القلب.
لكنني أرى أن الجميل الصادق المؤثر هو الصحيح، ولا نقترب من الكذب، نعوذ بالله من الكذب.(398/18)
قصيدة مؤثرة
السؤال
هل لك أن تذكر لنا قصيدة بكيت منها؟
الجواب
أنا أسمع قصائد كثيرة؛ لكن هناك بعض الرثاء وبعض المواقف، فأذكر أنه لما مات الشيخ/ ابن باز سمعتُ أحدهم يقول -وأظنه مذيعاً-:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمرُ فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ
فتأثرت وهذه القصيدة قالها أبو تمام في محمد بن حميد الطوسي البطل الشهيد، فقد قُتِل وعمره اثنان وثلاثون سنة، وتكسرت في يده في أول النهار مع الرمح تسعة أسياف، ثم ضربوه بالرماح حتى أصبحت ثيابه حمراً، فلما مات أتى الخبر بغداد فقال أبو تمام قصيدته الذائعة، حتى أن المعتصم لما سمعها قال: ما أسمى ما قيل في هذه القصيدة؟
كذا فليجل الخطبُ وليفدح الأمرُ فليس لعين لم يفض ماؤها عذرُ
توفيت الآمال بعد محمد وأصبح في شغل عن السفر السفرُ
إلى أن يقول:
تردى ثياب الموت حمراً فما أتى لها الليل إلا وهي من سندس خضرُ
ثوى طاهر الأردان لم تبقَ بقعة غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ
إلى أن يقول:
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده عليه الحفاظ المر والخلق الوعرُ
ونفس تعاف الذل حتى كأنه هو الكفر يوم الروع أو دونه الكفر
فأثبت في مستنقع الهول رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشرُ
إلى أن قال:
لقد مات بين الضرب والطعن ميتة تقوم مقام النصر إن فاته النصرُ(398/19)
آخر قصيدة للشيخ
ؤال: قبل أن نبدأ في المداخلات نطلب من الشيخ أن يذكر لنا آخر قصيدة له؟
الجواب
لي قصيدة متأخرة عن تاج المدائح اسمها: صحيفة تجارب، وذكرتها في (ديوان قصة الطموح) أذكر منها:
سلا القلب عن غيد صفت وحسانِ وأهمل ذكر المنحنى وعمان
وما عاد يصبيني الصبا بأريجه ولو فاح بالريحان والنَّفَنانِِ
وخط برأس الشيب لوحة عاشقٍ يقول: احذروني أيها الثقلانِ
شربنا ليالي الصفو في كأس غفلة ثلاثون عاماً توجت بثمانِ
فمرت كأحلام الربيع سريعةً فأحلامها في ناظريَّ ثوانِ
انظروا إلى الشعر!
فلو أنني أُرمى بقوس حذرته بقوة بأس واحتدام جَنانِ
ولكن قوس العمر ينفذ أسهماً وما للفتى في ردهن يدانِ
وفي أربعين العمر وعظ وعبرة ويكفيك علماً شاهد الرجَفانِ
فلا تسمعني وعْظَ قس ولا تَسُقْ عليَّ مقامات من الهمذاني
فعندي من الأيام أبلغ عبرة على منبر تلقى بكل لسانِ
ولما اتخذت العلم خدناً وصاحباً تركتُ الهوى والمال ينتحبانِ
جعلت القوافي الصافنات مراكبي كأن الضحى والليل قد حسداني
فلا تلهك الدنيا بلهو فإنه يُعاق مسير الشمس بالدبرانِ
فقد هدَّ قدْماً عرش بلقيس هدهدٌ وخرَّب فأرٌ ما بَنَى اليمنانِ
ولا تحسب الأنساب تنجيك من لظى ولو كنت من قيسٍ وعبدٍ مَدانِ
أبو لهب في النار وهو ابن هاشم وسلمان في الفردوس من خراسان
إلى آخر القصيدة.
أما تاج المدائح فقد سمعها بعض الإخوة، فعفواً لن أذكرها.(398/20)
مداخلات المشايخ والشعراء
تعقيب الدكتور/ حبيب بن معلا المطيري:-
شكر الله لك أيها الشيخ، وقد وصلت أوراق كثيرة، وكلها تثني على الشيخ وتدعو له، وتُشْهِد الله على محبته، ونحن كذلك، والآن نترك وقفة لبعض المداخلات الصوتية إن كان هناك بعض المداخلات، فإن عندنا بعض الطلبات هاهنا، منهم: الدكتور/ ظافر بن علي القرني، أستاذ في كلية الهندسة بجامعة الملك سعود إن كان لديه تعليق، والدكتور/ ظافر للعلم شاعر أيضاً، وله دواوين شعرية، وله إسهامات في الصحافة.(398/21)
مشاركة الدكتور: ظافر بن علي القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد:
شكراً لفضيلة الشيخ/ عائض بن عبد الله القرني على ما أتحفنا به هذه الليلة، وأود أن أختصر ثنائي عليه؛ لأنه يعلم منزلته في قلبي، فإذا أردتَ أن تعرف الإبداع فانظر إلى قصائده، وإلى إسهامه في الشريعة وفي موضوع الشعر، وفي الفقه والتاريخ، وكلها إبداع وأنا سأنبه على نقطة، تخص المتنبي، فإنه قال لابنه أو لخادمه -كما قال بعضهم- لقد قتلتني يـ ابن الأطنابة.
من نقل هذا عن المتنبي؟ ومن الذي ينقذهم من الأعداء؟ ونحن لا ننكر للشعراء، ولا نمدحهم ولا نثني عليهم؛ ولكن لا نريد أيضاً أن يفهم الحضور أن كل من قال شعراً ينصب له كمين لا، فهناك محاكم ومسئولون، وأريد هنا أن أذكر قصيدة لي عنوانها: شعراء قتلوا:
قتلوهم لأنهم أحياءُ وسبوهم لأنهم أغنياءُ
إنما الأمة البيان فقل لي كيف تحيا عوالم خرساءُ
كيف تأتي على اللسان بلفظ عربي تهز منه السماءُ!
ثم تبغي الفلاح! أي فلاح؟! فت جرماً وأخضلته الدماءُ
اندثرنا فكل فك بسيف يطعن الآخرين وهو خواءُ
ما خلقنا إلا سهام عوال وخيول وطعنة نجلاءُ
في صدور الأعداء لا لا وربي في صدور الذين هم أصدقاءُ
زاحمتنا الظنون من كل فج وتناءت في سهمنا الأنواءُ
وبقينا ندكُّ شعباً بشعب وتباكت في صدرنا الأشلاءُ
وسمعنا دواعي الشر فينا وتلهت بنهدنا الأدواءُ
ونرى أننا على أمم الأرض وأن الذي سوانا هباءُ
فانقلبنا بذلة وهوان وازدرتنا الأصحاب والأعداءُ
وجنينا الذي طمعناه مذهبـ ـت دواعي الردى فقيل التقاءُ
وسُحقنا ونحن ننظر شزراً لأخينا فكيف كان الإخاءُ؟!
البرايا تعارفت فتدانت وكأنا من بعضنا غرباءُ
فلها الانحراف في البر والبحـ ـر ونحن نحيبنا والبكاءُ
أكلتنا النيران نيران خصمٍ قوتها الفيزياءُ والكيمياءُ
ورضينا بها جميعاً ولكن أرهقتنا قصيدة عصماءُ
فغضبنا وقام قتل ونهب وتعرت فيحاؤنا الخضراءُ
الموازين والمكاييل طاشت فتغايت غوائلٌ عمياءُ
يا رتيب البيان يا صاحب التبـ ـيان للشعر عدة قحفاءُ
سر لتكتب للسان مضاءٌ ولسان في فكها بكماءُ
لو تساوت صحيحة تقطع الأرضَ وأخرى مريضة عرجاءُ
إيه! يـ ابن الحسين لو عشت عشراً لسرت بالدفاتر الأبواء
ونفحت التاريخ بالواقع المر وبعثرت ما يقول الغثاءُ
وذكرتَ الملوك والهم والقرح وباهى بصوتك الأمراءُ
أنت قدِّرت بالذي يحسب الشعـ ـر نشيداً يستاء منه الغناءُ
لو رأيت الإقدام ما زاغت الأوصـ ـاف واشتد في الهجير الهجاءُ
أو رأيت الإعراض ما كانت الأعـ ـراض تكوى والمعول الدهناءُ
غير أن الخداع وجه مشين والمداجاة خطبة شوهاءُ
قُسِّمتْ مصر بالذي كان كابول وسارت من كربها كربلاء
بكل من عضه الدهر بناب يخر منه البناءُ
إيه! يـ ابن الحسين هذي بلاد تتنامى في خصبها البغضاءُ
والهموس تصان لو تملأ الأرض تهاوت من هولها الظلماءُ
أنت لم تلقَ من عذاب سوى ما قد تلقى الأجداد والآباءُ
وكأني بمن يقول اقبل المو ت ليصطف بعدك البلغاءُ
وإذا زاد بعدنا عن هدى الحـ ـق تبيد الأعداءُ والأدواءُ
فهنا ذرية يذوب له الصهر وثَمَّ ابتسامة صفراءُ
ما لنا أن نقول في الأرض إلا حسبنا الله أيها الشعراءُ(398/22)
مداخلة الشاعر: عبد العزيز بن إبراهيم السراء
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أولاً: أشكر مركز السيوطي على هذا النشاط المتجدد والمتميز نحو أدب هادف، وقد اعتنوا به كثيراً؛ تنظيماً وإعداداً وحسن دعوة لمن يقوم بهذه المقامة، فهي تزكية أدبية بفكرة تربوية ومدحة ترفيهية.
أما شيخنا وفارسنا هذه الليلة الدكتور/ عائض، وكأني به ولسان حاله يقول للباحثين وراءه، ولمن يريدون أن يدركوا غباره:
يا سائرين بدرب السهل منطلق بكم جواد المنى في نشوة السحرِ
لو تعلمون بما تبديه قارعتي من القتال ومن مستوحل الحفر
إذاً وقفت فما دربي كدربكمُ وكل هذي الخطى ليست على أثري
ومما يميز هذه الليلة: القصص التي قرأها في هذا البحث، ولكن الجميل فيها والرؤية الجديدة هي النظر إليها بنظرة إسلامية، والربط بينها وبين مراقبة الناس، ومن ثَمَّ مراقبة الله سبحانه وتعالى في كل ما يقوله الإنسان، وهذه النظرة والرؤية هي مما ينبغي في قراءتنا وفي مأثورنا نثراً وشعراً، ولا سيما في الكتب القديمة، فنجد القصص والأشعار والأخبار الكثيرة، وكيف نربطها برؤية إسلامية نستفيد منها لناشئتنا ولحياتنا عموماً.
أخيراً: للمركز الصيفي ولكل المراكز وجهودهم المميزة في عنايتهم بشبابنا أقول لهم:
إن الشباب لطاقات مؤججة للخير إن أُهملت كانت محاذيرا
كأنه نخلة كنز لزارعها إذا تعاهدها حفظاً وتأبيرا
وإن تقاعس عنها أنتجت إبراً وأطعمت حشفاً بالسوس منخورا
والعياذ بالله.
شكراً لكم جميعاً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(398/23)
مداخلة الدكتور: عبد الله بن صالح العريني
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على خير عباد الله، خير الخلق أجمعين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، ومن سار على سنته واهتدى بهديه إلى يوم الدين.
إن الواجب في البداية تقديم الشكر للإخوة الكرام الذين نجحوا للمرة الرابعة -بتوفيق الله- في تقديم مثل هذه الأمسيات الأدبية التي أعادت إلى ساحة الأدب الكثير مما قد يُفتقد من ضرورة مراعاة مسئولية الكلمة.
لقد سعدت حقاً -ولست الوحيد، بل الجميع معي في هذا الأمر- بأن سمعنا هذه المحاضرة الطيبة عن هذه القصائد التي قتلت أصحابها، ولقد كان هنالك تساؤل كبير في العالم كله، وهو: هل دالت دولة الشعر أمام هدير الآلة وصخب الحياة؟ إن الواضح هو أن الشعر ما زال قادراً على أن يستحوذ على الاهتمام وأن ينال الإعجاب.
أريد في مداخلتي هذه أن أقول للدكتور/ عائض: لِيَهْنِكَ ما أعطاك الله، وبارك الله لك في هذه القدرة على هذه السياحة الأدبية التي أخذتنا معك فيها، وأريد أن أقول لكثير من سادات الأدب: إن الدكتور/ عائضاً بقدرته على تحويل هذا الموضوع الجاد إلى موضوع فيه الكثير من الطرافة يمثل مدرسة يجب أن نستفيد منها إن كثيراً من المحاضرات تبدو متجهمة وصعبة لكنها بشيء من هذه الخلطة السرية التي نرى أمثالها في هذه المحاضرة قادرة على أن تستحوذ على الإعجاب.
أريد أن أقول كلمة حول ما شاع من أن أعذبَ الشعر أكذبُه: هذه الكلمة تُعَد قضية من قضايا النقد، وهل أعذبُ الشعر أكذبُه أم أعذبُ الشعر أصدقُه؟ والشائع أن العرب يتذوقون الشعر الكاذب كما يتذوقون الشعر الصادق؛ لكن الحق خلاف ذلك، فـ ابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة يؤكد أن مذهب اليونان هو أن أعذبَ الشعر أكذبُه، والآمدي في الموازنة ينفي أن يكون مذهب العرب هو أن أعذبَ الشعر أكذبُه، ويقول: لا والله بل أعذبُ الشعر أصدقُه.
أريد أن أقول: إن تضاعيف هذه المحاضرة قد لمست جراح الحياة الأدبية في كثير من أقطاع العالم العربي؛ التي أبعدت بشكل كبير قول الرسول صلى الله عليه وسلم: {إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله يهوي بها في النار سبعين خريفاً، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضا الله تكون له منزلة عالية في الجنة} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ينال هذه المنزلة العظيمة في رضا الله بكلمة وهو لا يلقي لها بالاً، فما بالك بكثير ممن يدبِّج الكلمات في سخط الله، ويضع الأدب المنحرف، وينشره ويوزعه، ويهتم به وينقده ويؤيد أهله؟! مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكد على أن هذا الرجل وهو يلقي هذه الكلمة لا يلقي لها بالاً، ومع ذلك تحل عليه سخط الله.
تحية للدكتور/ عائض، ولزميلي الكريم الدكتور/ حبيب على هذه المحاضرة، وتحية لكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(398/24)
مداخلة الشاعر: محمد المقرن
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
لاشك أن الجنة هي الدرجة العالية والمنزلة الرفيعة، وهي الغاية والهدف لكل مسلم، وهي نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، ونسأل الله أن يكون شيخنا الفاضل الدكتور/ عائض القرني ممن حاز تلك المنزلة وأريد في هذه العجالة التعليق على نقطتين:
النقطة الأولى: لما توفي سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز رحمة الله عليه، ذلك الرجل الأمة؛ سمعنا ضجة في الصحافة بأشعار كثيرة؛ ولكن النقطة التي نقف عندها هي: ميزان الشرع في تلك القصائد، فقد سمعنا استغاثات بالشيخ/ عبد العزيز بن باز، وأنه لا مجير إلا هو، ولا مغيث إلا هو، وهكذا ورد في بعض الأبيات، وقرأتُ كثيراً وسمعتُ كثيراً من هذه الأبيات.
هذه النقطة أريد أن يتحدث شيخنا عنها.
النقطة الثانية: كيفية الموازنة والمعادلة بين طلب العلم الشرعي والأدب الإسلامي.(398/25)
رد الشيخ: عائض القرني
أكرر شكري للقائمين على هذا المركز الجاد والمبدع في عرضه وفي تنظيمه، فجزاهم الله خيراً، وأشكر الدكتور/ حبيب الشاعر المبدع والأخ الصديق الجميل على حسن حواره وإدارته هذه الأمسية.
وأما الإخوة الكرام فقد أسعدوني وآنسوني، وأضفوا على محاضرتي وأمسيتي فخراً وشرفاً، والدكتور/ ظافر القرني في قصيدته البديعة التي ذكرتني بأمهات القصائد، لا أقولها تعاطفاً؛ لكنني حساس وأتذوق الشعر، وقد ذكرني بقصيدة لأحدهم يقول:
أيها الشعر أنت أنت الحداءُ غن شعراً تصغي إليه السماءُ
فالبحر مُجْزٍ والقافية قوية.
وأشكر أيضاً الشاعر الشيخ/ عبد العزيز بن إبراهيم السراء، وهو معروف عندي منذ زمن، وعند الإخوة جميعاً، فجزاه الله خيراً، ونفع به الإسلام والمسلمين أما الدكتور الفاضل الماجد/ عبد الله العريني، فقد بُشِّرتُ قبل أن آتي أنه سوف يحضر، فكان لي شرف بهذا، ولو قوَّم أمسيتي ونقدني فمثله يُستفاد منه في هذا الباب، لأن له قدماً راسخاً في النقد والدراسة، فشكر الله له حسن ظنه بأخيه وأشكر الشاعر/ محمد المقرن على ما تفضل به، وهو حبيب عندي أيضاً، وهذه ليست فرصة للمجاملات؛ لكني أقول ما في قلبي، والحمد الله أن الله جمع لي الأخيار من الشعراء الذين هم شعراء التوجه الإسلامي ومن أشعرهم.
أما ما تفضل به في سؤاله: فالمسألة أنه صدق فيما قال، وأنا أوافق كثيراً من العلماء أننا غالينا وأسرفنا في تلك الفترة في الرثاء، والميزان الشرعي أنني وإلى الآن لم أرَ مثل الشيخ/ ابن باز، تقوى وعلماً، ورفقاً وخلقاً، والله يعلم أنه من أحب الناس إلى قلبي، وهو ممن عاشرتُه، فعسى الله أن يجمعني به وبكم في جنات النعيم، وغفر الله له؛ لكن {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3] {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [النساء:171] إياكم والغلو! فهذا محمد صلى الله عليه وسلم، لما مات بكى الصحابة قليلاً، وما نَظَموا أشعاراً كثيرة، وذهبوا إلى مزارعهم، وجاهدوا في سبيل الله، وهو محمد صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه الشرع! وكذلك لما مات أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي وقد امتلأت الصحف بالنواح والعويل والنشيد وأين نذهب؟! وماذا نفعل بعدك إن تركتنا وذهبت؟ فبعضهم يكتب لإشاعة الخبر، وبعضهم أخذته العاطفة، أو جنَّح مع الحماس والناس، فصدق فيما قال، وقد سمعتُ من أحد الفضلاء أنه قال: لو اقتصدنا لكان أحسن، وترحمنا عليه، والدين والحمد لله محفوظ {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] ومنصور، وقد مات محمد صلى الله عليه وسلم، والأنبياء والرسل، والخلفاء والعلماء فأنا معه، وأشكره على أنه استنبط هذا، ونريد ألاّ نكررها مرة ثانية، يموت ميت منا فنقول: الحمد لله والشكر له، فإن الأمم تموت، والدول تذهب، والملوك يذهبون، والناس لا يساوون في علم الباري سبحانه وتعالى حشرة، يقول الله: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:29] وقال في الدول والأمم: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً} [مريم:98] وقد قرأت في بعض كتب السير والتاريخ: أن أحد الرواة من الصحابة قال: {نهينا عن المراثي} وأنا من أهل الحديث، وعهدي على مَن شكَّ أن يراجع هذه اللفظة: {نهينا عن المراثي} وهو الإفراط فيها والغلو؛ لأن ديننا دين قائم على الوسطية واحترام العقل والشرع وعدم الغلو، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لا تُطْرُوني كما أَطْرَت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد، فقولوا: عبد الله ورسوله} وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
أما مسألة: كيف نجمع بين العلم الشرعي وبين الأدب؟ فهذا يفعله بعض العلماء بغض النظر عما إذا كان يؤثر على علمهم الشرعي وتحصيلهم أم لا؛ لكنها مواهب، فـ الشافعي كان له شعر، وكذلك ابن المبارك والجرجاني رحمهم الله، وغيرهم كثير، كان عندهم أدب مع العلم الشرعي فأرى أن مَن فُتح عليه باب الشريعة وعنده ذائقة أدبية أو ميل أن يوظف هذه الموهبة في طلب الأدب والتزود منه؛ ليكون صاحب بيان وقدرة على مخاطبة الناس، والذي لا يجد في نفسه ذلك فليكتفِ، فإن فحول العلماء كانت عبارات بعضهم صعبة، ولم يكونوا أُدباء، فالأمر نسبي ولا أريد أن أفصل، لأن مثل هذا يحتاج إلى محاضرة، وسبق أنه كانت هناك محاضرة بعنوان: التآخي بين الدين والأدب، في بيت المشوح، وهي من ثالوثياته، وقد حضرها في تلك الليلة الناقد الدكتور/ عبد القدوس أبو صالح، والدكتور/ محمد الفاضل، والدكتور/ الدبل، وكثير من أهل الأدب.(398/26)
تعقيب الدكتور: حبيب بن معلا المطيري
شكر الله لكم، وأحسن إليكم، ورفع قدركم، وجزاكم عن الإسلام والمسلمين خيراً.
في ختام هذه الندوة المباركة نشكر صاحب الفضيلة الشيخ الدكتور/ عائض بن عبد الله القرني على ما تفضل به، وندعو الله أن يجعل اجتماعنا خيراً، وأن يجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وشكراً لهذا المركز مركز السيوطي المتوهج الذي أشبعنا عطاءً وفكراً وأدباً.
وشكراً للجميع.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(398/27)