(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)
من الذي يفزع إليه المكروب؟! ومن الذي يستغيث به المنكوب؟! من الذي تصمد إليه الكائنات؟! ومن الذي تسأله المخلوقات؟! ومن الذي يلتجئ إليه العباد؟! ومن الذي تلهج الألسنة بذكره؟! ومن الذي تألهه القلوب؟! من هو الواحد الأحد؟!
إنه الله الذي لا إله إلا هو.
وحق عليَّ وعليك أن ندعوه في الشدة والرخاء، والسراء والضراء، ونفزع إليه في الملمات، ونتوسل إليه في الكربات، وننطرح على عتبات بابه سائلين باكين ضارعين منيبين، حينها يأتينا مدده، ويصل إلينا عونه، ويسرع إلينا فرجه، ويحل علينا فتحه، فينجي الغريق، ويرد الغائب، ويعافى المبتلى، وينصر المظلوم، ويهدي الضال، ويشفي المريض، ويفرج عن المكروب: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [العنكبوت:65] ولن أسرد عليكم هنا أدعية إزالة الهم والحزن والغم، فهي معلومة في كتب السنة.
إذا وجدت الطريق إلى ربك فقد وجدت كل شيء، وإن فقدت الإيمان به؛ فقد فقدت كل شيء، إن دعاءك ربك عبادة أخرى، وطاعة عظمى ثانية فوق حصول المطلوب، وإن عبداً يجيد فن الدعاء حري ألا يهتم ولا يغتم، ولا يحزن، ولا يقلق: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:51].
كل الحبال تتصرم إلا حبله، كل الأبواب توصد إلا بابه، كل الطرق تغلق إلا طريقه، هو قريب سميع مجيب {يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] يأمرك -وأنت الفقير الضعيف المحتاج، وهو الغني القوي الواحد الماجد- بأن تدعوه: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر:60] إذا نزلت بك النوازل، إذا ألمت بك الخطوب، فالهج بذكره، واهتف باسمه، واطلب مدده، واسأله فتحه ونصره، مرِّغ الجبين لتقديس اسمه لتحصل على تاج الحرية، وأرغم الأنف في طين عبوديته لتحوز وسام النجاة، مد يديك، ارفع كفيك، أطلق لسانك، أكثر من طلبه، بالغ في سؤاله، ألح عليه، الزم بابه، انتظر لطفه، ترقب فتحه، اشدُ باسمه، أحسن الظن به، انقطع إليه، تبتل إليه تبتيلاً حتى تسعد وتفلح.(350/14)
العوض من الله
لا تأسف على مصيبة، فإن الذي قدرها عنده جنة وثواب وعوض وأجر عظيم، إن أولياء الله المصابين المبتلين ينوه بهم في الفردوس {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24].
وحق علينا أن ننظر في عوض المصيبة وفي ثوابها، وفي خلفها الخيِّر {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:157] هنيئاً للمصابين، بشرى للمنكوبين، سلام على المضطهدين.
إن عمر الدنيا قصير، وكنزها حقير، {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى:17] فمن أصيب هنا كوفئ هناك، ومن تعب هنا ارتاح هناك، ومن افتقر هنا اغتنى هناك، أما المتعلقون بالدنيا، العاشقون لها، الراكنون إليها، فأشد ما على قلوبهم فوت حظوظهم منها، وتنغيص راحتهم فيها؛ لأنهم يريدونها وحدها، فلذلك تعظم عليهم المصائب، وتكبر عندهم النكبات؛ لأنهم ينظرون تحت أقدامهم، فلا يرون إلا الدنيا الفانية الزهيدة الرخيصة.
أيها المصابون: ما فات شيءٌ وأنتم الرابحون، فقد بعث لكم برسالة بين أسطرها لطف وعطف وثواب وحسن اختيار.
إن على المصاب الذي ضُرِب عليه سرادق المصيبة أن ينظر ليرى أن النتيجة: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [القصص:60] وأهنى وأمرى وأجل وأعلى وأغلى.(350/15)
الإيمان هو الحياة
الأشقياء بكل معاني الشقاء هم المفلسون من كنوز الإيمان ومن رصيد اليقين، فهم أبداً في تعاسة وغضب ومهانة وذلة: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] لا يسعد النفس ولا يزكيها ولا يطهرها ولا يسرها، ولا يفرحها ولا يذهب همها وغمها وقلقها إلا الإيمان بالله رب العالمين، لا طعم للحياة أصلاً إلا بالإيمان.
إذا الإيمان ضاع فلا حياة ولا دنيا لمن لم يُحْيِ دينا
ومن رضي الحياة بغير دين فقد جعل الفناء لها قرينا
إن الطريقة المثلى للملاحدة إن لم يؤمنوا أن ينتحروا؛ ليريحوا أنفسهم من هذه الآصار والأغلال والظلمات والدواهي، يا لها من حياة تعيسة بلا إيمان! يا لها من لعنة أبدية حاقت بالخارجين على منهج الله في الأرض! {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] وقد آن الأوان للعالم أن يقتنع كل القناعة، وأن يؤمن كل الإيمان بأن لا إله إلا الله بعد تجربة طويلة شاقة عبر قرون غابرة توصل بعدها العقل إلى أن الصنم خرافة، والكفر لعنة، والإلحاد كِذْبة، وأن الرسل صادقون، وأن الله حق، وأنه على كل شيء قدير.
وبقدر إبمانك قوة وضعفاً، حرارة وبرودة، تكون سعادتك وراحتك وطمأنينتك {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] وهذه الحياة الطيبة هي استقرار نفوسهم بحسن موعود ربهم، وثبات قلوبهم بحب باريهم، وطهارة ضمائرهم من أوضار الانحراف، وبرود أعصابهم أمام الحوادث، وسكينة قلوبهم عند وقع القضاء، ورضاهم في مواطن القدر؛ لأنهم رضوا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاًَ.(350/16)
اجنِ العسل ولا تكسر الخلية
الرفق ما كان في شيء إلا زانه، وما نُزع من شيء إلا شانه، اللين في الخطاب، البسمة الرائقة على المحيا، الكلمة الطيبة عند اللقاء، هذه حلل منسوجة يرتديها السعداء، وهي صفات المؤمن، كالنحلة تأكل طيباً وتصنع طيباً وإذا وقعت على زهرة لا تكسرها؛ لأن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف، إن من الناس من تشرئب لقدومهم الأعناق، وتشخص إلى طلعاتهم الأبصار، وتحييهم الأفئدة، وتشيعهم الأرواح؛ لأنهم محبوبون في كلامهم، في أخذهم، في عطائهم، في بيعهم، في شرائهم، في لقائهم، في وداعهم.
إن اكتساب الأصدقاء فن مدروس يجيده النبلاء الأبرار، فهم محفوفون دائماً وأبداً بهالة من الناس، إن حضروا فالبِشر والأُنس، وإن غابوا فالسؤال والدعاء.
إن هؤلاء السعداء لهم دستور أخلاق عنوانه: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] فهم يمتصون الأحقاد بعاطفتهم الجياشة، وحلمهم الدافئ،، وصفحهم البريء، يتناسون الإساءة، ويحفظون الإحسان، تمر بهم الكلمات النابية فلا تلج آذانهم، بل تذهب بعيداً هناك إلى غير رجعة، هم في راحة، والناس منهم في أمن، والمسلمون منهم في سلام {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم} يقول صلى الله عليه وسلم فيما يُروَى عنه: {إن الله أمرني أن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني} ووالله لقد وصلت من قطعك، وعفوت عمن ظلمك، وأعطيت من حرمك، فهنيئاً لك تلك المنزلة: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] بشر هؤلاء بثواب عاجل من الطمأنينة والسكينة والرضوان والهدوء، وبشرهم بثواب أخروي كبير، في جوار رب غفور {فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:54 - 55].(350/17)
(أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)
الصدق حبيب الله، الصراحة صابون القلوب، التجربة برهان، الرائد لا يكذب أهله، لا يوجد عمل أشرح للصدر وأعظم للأجر كالذكر {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] وذكره سبحانه جنته في أرضه، من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة، وهو إنقاذ للنفس من أوصابها وأتعابها واضطرابها.
إذا مرضنا تداوينا بذكركمُ ونترك الذكر أحياناً فننتكسُ
هل تذكرونا مثل ذكرانا لكم رب ذكرى قربت من نجحا
وهو الطريق الميسر المختصر إلى كل فوز وفلاح، طالع دواوين الوحي لترى فوائد الذكر، جرب مع الأيام بلسمه لتنال الشفاء، بذكره سبحانه تنقشع سحب الخوف والفزع والهم والحزن، بذكره تزاح جبال الكرب والغم والأسى.
الله أكبر كل هم ينجلي عن قلب كل مكبر ومهللِ
ولا عجب أن يرتاح الذاكرون، فهذا هو الأصل الأصيل؛ لكن العجب العجاب كيف يعيش الغافلون عن ذكره؟! {أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} [النحل:21].
يا من شكى الأرق، وبكى من الألم، وتفجع من الحوادث، ورمته الخطوب! هيا اهتف باسمه تقدس في عليائه، {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65].
إنك بقدر إكثارك من ذكره ينبسط خاطرك، ويهدأ قلبك، وتسعد نفسك، ويرتاح ضميرك؛ لأن في ذكره معاني التوكل والثقة والاعتماد والتفويض وحسن الظن وانتظار الفرج، فهو قريبٌ إذا دُعِي، سميعٌ إذا نُودِي، مجيبٌ إذا سُئل، فاضرع واخضع واخشع، وردد اسمه الطيب المبارك على لسانك، توحيداً وتمجيداً وثناءً ومدحاً ودعاءً وسؤالاً واستغفاراً وسوف تجد بحوله وقوته السعادة والأمن والسرور والنور والحبور: {فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ} [آل عمران:148] يقول عليه الصلاة والسلام: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحي والميت}.(350/18)
(أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)
الحسد كالآكلة المُلحة، تنخر العظم نخراً، إن الحسد مرض مزمن يعيث في الجسم فساداً، وقد قيل: لا راحة لحسود فهو ظالم في ثوب مظلوم، وعدو في جلباب صديق.
وقد قالوا: لله در الحسد ما أعدله! بدأ بصاحبه فقتله.
إنني أنهى نفسي ونفسك عن الحسد رحمة بي وبك، قبل أن نرحم الآخرين؛ لأننا بحسدنا لهم نطعم الهَمَّ لحومنا، ونسقي الغم دماءنا، ونوزع نوم جفوننا على الآخرين.
إن الحاسد يشعل فرناً ساخناً ثم يقتحم فيه.
التنغيص والكدر والهم الحاضر أمراض يولدها الحسد؛ لتقضي على الراحة والحياة الطيبة الجميلة.
بلية الحاسد أنه خاصم القضاء، واتهم الباري في العدل، وأساء الأدب، وخالف الشرع، وقدح في العقل.
يا لَلْحسد من مرض! لا يؤجر عليه صاحبه، ومن بلاء لا يثاب عليه المبتلى به، وسوف يبقى هذا الحاسد في حرقة دائمة حتى يموت، أو تذهب نعم الناس عنهم، كلٌّ يصالح إلا الحاسد.
أعطيت كل الناس من نفس الرضا إلا الحسود فإنه أعياني
ما لي له ذنب عليَّ علمتُه إلا ترادف نعمة الرحمن
وأبى فما يرضيه إلا ذلتي وذهاب أموالي وقطع لساني
إن الحاسد يريد شيئاً محدداً لا غيره، يريد أن تتنازل عن مواهبك أن تلغي خصائصك أن تترك مناقبك، فإن فعلت ذلك فلعله يرضى على مضض، نعوذ بالله من شر حاسد إذا حسد، فإنه يصبح كالثعبان الأسود السام، لا يقر قراره حتى يفرغ سمه في جسم بريء.
فأنهاك أنهاك عن الحسد، واستعذ بالله من الحاسد، فإنه لك بالمرصاد.(350/19)
اقْبَل الحياةَ كما هي
حال الدنيا منغصة اللذات، كثيرة التبعات، جاهمة المحيا، كثيرة التلون، مُزجت بالكدر، خلطت بالنكد، وأنت منها في كبد.
دار متى أضْحَكَت في يومها أبكَتْ غداً، قُبحاً لها من دار
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلباً في الماء جذوة نار
طبعت على كدر وأنت تريدها صفواً من الأقذار والأكدار
لن تجد ولداً أو زوجة أو صديقاً أو نبيلاً أو مسكناً أو وظيفة إلا وفيه ما يكدر، وعنده ما يسوء أحياناً، فأطفئ حر شره ببرد خيره، لتنجو رأساً برأس {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45].
أراد الله لهذه الدنيا أن تكون جامعة للضدَّين والنوعَين والفريقَين والرأيَين، خير وشر، صلاح وفساد، سرور وحزن، ثم يبقى الخير كله والصلاح والسرور في الجنة، ويُجمع الشر كله والفساد والحزن في النار، وفي الحديث: {الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه، أو عالم ومتعلم}.
فعش واقعك، ولا تسرح مع الخيال، ولا تحلق في عالم المثاليات، اقْبَل الدنيا كما هي، وطوع نفسك لمعايشتها ومواطنتها، فسوف لا يصفو لك صاحب، ولا يتم لك فيها أمر، ولا يصلح لك حال؛ لأن الصفو التمام والكمال في الآخرة، وفي الحديث: {لا يفرك مؤمنٌ مؤمنةً إن كره منها خُلُقاً رضي منها آخر} فينبغي أن نسدد ونقارب، وأن نعفو ونصفح، وأن نأخذ ما تيسر، ونذر ما تعسر، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
ومن ذا الذي تُرْضَى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تُعَدَّ معايبُه
إذا أنت لم تشرب مراراًَ على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربُه!
...
ولستَ بمستبق أخاً لا تذمه على شعث أي الرجال المهذبُ!
فلنُغْمِض الطرف أحياناً، ونسدد الخطى، ونتغافل عن أمور.
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي(350/20)
تَعَزَّ بأهل البلاء
تلفت يمنة ويسرة، فهل ترى إلا مبتلى؟! هل تشاهد إلا منكوباً؟! هل تبصر إلا مصاباً؟! في كل دار نائحة، وعلى كل خد دمع، وفي كل وادٍ بنو سعد.
كم من المصائب! وكم من الصابرين! فلستَ أنت وحدك المصاب، بل مصابك أنت بالنسبة لغيرك قليل، كم من مريض على سريره من أعوام يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، يئن من الألم، يصيح من السقم؟! كم من محبوس مرت به سنوات، ما رأى الشمس بعينه، وما عرف غير زنزانته؟! كم من رجل وامرأة فقدا فلذات أكبادهما في ميعة الشباب وريعان العمر؟!
كم من مكروب؟! وكم من مديون؟! وكم من محبوس؟! وكم من عرض منهوب؟! وكم من دم مسفوك؟! وكم من عقل منهوب؟! وكم من مال مسلوب؟!
آن لك أن تتعز بهؤلاء وأن تعلم علم اليقين أن هذه الحياة سجن المؤمن، وأنها دار الأحزان والنكبات، تصبح القصور حافلة بأهلها وتمسي خاوية على عروشها، بينما الشمل مجتمع، والأبدان في عافية، والأموال وافرة، والأولاد كُثْر، ثم ما هي إلا أيام فإذا الفقر والموت والفراق والأمراض {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم:45].
فعليك أن توطن نفسك كتوطين الجمل المحنك الذي يبرك على الصخرة، وعليك أن توازن مصابك بمن حولك وبمن سبقك في مسيرة الدهر، ليظهر لك أنك معافى بالنسبة لهؤلاء، وأنه لم يأتك إلا وخزات سهلة، فاحمد الله على لطفه، واشكره على ما أبقى، واحتسب ما أخذ، وتَعَزَّ بمن حولك.
ولك في رسولنا صلى الله عليه وسلم قدوة، وُضِع السلَى على رأسه، وأدميت قدماه، وشُجَّ وجهُه، وحُوصِر في الشعب، وطُرِد من مكة، وكُسِرَت ثنيتُه، ورُمِي في عِرض زوجته، وقُتِل سبعون من أصحابه، فَقَد ابنه، وماتت بناتُه، ورَبَطَ الحجر على بطنه، واتُّهِم بشتى التهم، صانه الله من ذلك، وهذا بلاء لا بد منه، وتمحيص لا أعظم منه! وقد قُتِل قبل ذلك زكريا، وذُبح يحيى، وهُجِر موسى، ووُضع الخليل في النار، وسار الأئمة على هذا الطريق، فضُرِّجَ عمر، واغتيل عثمان وطُعن علي، وجُلدت ظهور الأئمة، وسُجن الأخيار، ونُكِّل بالأبرار: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة:214].
قل للذي بصروف الدهر عَيَّرنا هل عاند الدهرُ إلا مَن له خطرُ
أما ترى البحر تعلو فوقه جِيَفٌ وتستقر بأقصى قعره دُرَرُ
وفي السماء نجوم لا عِداد لها وليس يُكْسَفُ إلا الشمسُ والقمرُ(350/21)
الصلاة!! الصلاة
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ} [البقرة:153].
إذا داهمك الخوف، وطوقك الحزن، وأخذ الهم بتلابيبك، فقم حالاً إلى الصلاة، تثوب لك روحك، وتطمئن نفسك، إن الصلاة كفيلة بإذن الله باجتياح مستعمرات الأحزان والغموم ومطاردة فلول الاكتئاب: {كان صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر قال: أرحنا بالصلاة يا بلال} فكانت قرة عينه، وسعادته وبهجته.
وقد طالعتُ سِيَر أقوام أفذاذ كانت إذا ضاقت بهم الضوائق، وكشرت في وجوههم الخطوب، فزعوا إلى صلاة خاشعة، فتعود لهم قواهم وإرادتهم وهممهم.
إن صلاة الخوف فرضت لتؤدَّى في ساعة الرعب، يوم تتطاير الجماجم وتسيل النفوس على شفرات السيوف، فإذا الثبات والسكينة والرضوان والأُنس.
إن على الجيل الذي عصفت به الأمراض النفسية أن يتعرف على المسجد، وأن يمرغ جبينه ليرضي ربه أولاً، ولينقذ نفسه من هذا العذاب الواصب، وإلا فإن الدمع سوف يحرق جفنه، والحزن سوف يحطم أعصابه، وليس لديه طاقة تمده بالسكينة والأمن إلا الصلاة.
ومن أعظم النعم لو كنا نعقل: هذه الصلوات الخمس كل يوم وليلة، كفارة لذنوبنا، ورفع لدرجاتنا، وصلاح لأحوالنا، وسكينة لنفوسنا، دواءٌ لأمراضنا، تسكب في ضمائرنا مقادير زاكية من اليقين، تملؤ جوانحنا بالرضا، أما أولئك الذين جانَبوا المسجد وتركوا الصلاة، فمن نكد إلى نكد، ومن حزن إلى حزن، ومن شقاء إلى شقاء: {فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد:8].(350/22)
(حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)
تفويض الأمر إلى الله، والتوكل عليه، والثقة بوعده، والرضا بصنيعه، وحسن الظن به، وانتظار الفرج منه مِن أعظم ثمرات الإيمان، ومِن أجلِّ صفات المؤمنين، وحينما يطمئن العبد إلى حسن العاقبة، ويعتمد على ربه في كل شأنه يجد الرعاية والولاية والكفاية والتأييد والنصرة.
لَمَّا أُلقي إبراهيم عليه السلام في النار قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعلها الله عليه برداً وسلاماً.
ولَمَّا قيل لرسولنا صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:173] قال: {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
إن الإنسان وحده لا يستطيع أن يصارع الأحداث، ولا يقاوم الملمات، ولا ينازل الخطوب؛ لأنه خلق ضعيفاً عاجزاً؛ ولكنه حينما يتوكل على ربه، ويثق بمولاه، ويفوض الأمر إليه، يجد النصر والتأييد والفتح والإعانة: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة:23].
فيا من أراد أن ينصح نفسه: توكل على القوي الغني ذي القوة المتين؛ لينقذك من الويلات، ويخرجك من النكبات، واجعل شعارك ودثارك: (حسبنا الله ونعم الوكيل) فإن قل مالك، وكثر دينك، وجفت مواردك، وشحت مصادرك، فنادِ: (حسبنا الله ونعم الوكيل).
وإذا خفت من عدو، أو رعبت من ظالم، أو فزعت من خطب فاهتف: (حسبنا الله ونعم الوكيل).
{وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].(350/23)
(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ)
ِمما يشرح الصدر ويزيح الكرب: السفر في الديار، وقطع القفار، والتقلب في الأمصار، والنظر في كتاب الكون المفتوح؛ لتشاهد أقلام القدرة وهي تكتب على صفحات الوجود آيات الجمال؛ لترى حدائق ذات بهجة، ورياضاً أنيقة، وجنات ألفافاً.
اخرج من بيتك، وتأمل ما حولك وما بين يديك وما خلفك، اصعد الجبال اهبط الأودية تسلق الأشجار عُب من الماء النمير، ضع أنفك على أغصان الياسمين، حينها تجد روحك حرة طليقة، كالطائر الغرِّيد تسبح في فضاء السعادة، اخرج من بيتك، أرخِ الغطاء الأسود عن عينيك، ثم سر في فجاج الله الواسعة ذاكراً مسبحاً.
وكتابي الفضاء أقرأ فيه سوراً ما قرأتُها في كتابِ
إن الانزواء في الغرفة الضيقة مع الفراغ القاتل طريق ناجح للانتحار، وليست غرفتك هي العالم، ولستَ أنت كل الناس، فلم الاستسلام أمام كتائب الأحزان، ألا فاهتف ببصرك وسمعك وقلبك: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] تعال لتقرأ القرآن هنا بين الجداول والخمائل، بين الطيور وهي تتلو خطب الحب، وبين الماء وهو يروي قصة وصوله من التل.
إن الترحال في مسارب الأرض متعة يوصي بها الأطباء لمن ثقلت عليه نفسه، وأظلمت عليه غرفتُه الضيقة، فهيا بنا نسافر لنسعد ونفرح ونفكر ونتدبر: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} [آل عمران:191].(350/24)
(فَصَبْرٌ جَمِيلٌ)
التحلي بالصبر من شيم الأفذاذ الذين يتلقون المكاره برحابة صدر، وبقوة إرادة، وبمناعة أبية، وإن لم أصبر أنا وأنت فماذا نصنع؟!
هل عندك حل لنا غير الصبر؟! هل تعلم لنا زاداً غيره؟!
كان أحد العظماء مسرحاً تركض فيه المصائب، وميداناً تتسابق فيه النكبات، كلما خرج من نكبة دخل في أخرى، وكلما نجا من كربة تعرض لثانية، وهو متترس بالصبر، متدرع بالثقة بالله، حتى قال:
إن كان عندك يا زمان بقيةٌ مما يُهان بها الكرام فهاتِها
فجعل الله له فرجاً ومخرجاً.
هكذا يفعل النبلاء، يصارعون الملمات، ويطرحون النكبات أرضاً، دُخِل على أبي بكر وهو مريض، فقال مَن حوله: [[ألا ندعو لك طبيباً؟ قال: الطبيب قد رآني، قالوا: فماذا قال؟ قال: يقول: إني فعَّال لما أريد]].
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي؟!
قال ابن المرتعش: ذهبت عيني من أربعين سنة، ما علمت ابنتي ولا زوجتي.
وفي مقالات لأحد المعاصرين أنه عرف جاراً له مقعداً من عشرين سنة، يقول: والله ما أَنَّ ولا اشتكى، وما زال يحمد ربه حتى مات، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] اصبر صبر واثق بالفرج، عالم بحسن المصير، طالب للأجر، راغب في تكفير السيئات، اصبر مهما ادلهمت الخطوب، وأظلمت أمامك الدروب، فإن النصر مع الصبر، وإن الفرج مع الكرب، و {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6].
وقد قرأت سِيَر عظماء مروا في هذه الدنيا، وذهلت لعظيم صبرهم، وقوة احتمالهم، كانت المصائب تقع على رءوسهم كأنها قطرات ماء باردة، وهم في ثبات الجبال، وفي رسوخ الحق، فما هو إلا وقت قصير فتُشرق وجوههم على طلائع فجر الفرج، وفرحة الفتح، وعصر النصر، وأحدهم ما اكتفى بالصبر وحده، بل رضي وتبسم واحتسب فكان الثواب والأجر والفرج.(350/25)
وقفات
لا تحزن! لأنك بحزنك تريد إيقاف الزمن، وحبس الشمس، وإعادة عقارب الساعة، والمشي إلى الخلف، ورد النهر من مصبه.
لا تحزن! لأن الحزن كالريح الهوجاء، تفسد الهواء، وتبعثر الماء، وتغير السماء، وتهلك الحديقة الغَنَّاء.
لا تحزن! لأن المحزون كنهرٍ أحمق، ينحدر من البحر، ويصب في البحر، و {كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} [النحل:92] وكالنافخ في قربة مثقوبة، وكالكاتب بأُصبُعه على الماء.
لا تحزن! فإن عمرك الحقيقي سعادتك وراحة بالك، فلا تنفق أيامك في الحزن، ولا تبذر لياليك في الهم، ولا توزع ساعاتك على الغم، ولا تسرف في إضاعة حياتك، فإن الله لا يحب المسرفين.
لا تحزن! فإن أموالك التي في خزائنك، وقصورك السامقة، وبساتينك الخضراء، مع الحزن والأسى واليأس زيادة في أسفك وهمك وغمك.
لا تحزن! فإن عقاقير الأطباء، ودواء الصيادلة، ووصفة الحكيم، لا تسعدك وقد أسكنتَ الحزن قلبكَ، وفرشتَ له عينكَ، وبسطتَ له جوانحكَ، ألحفته جلدك.
لا تحزن! وأنت تملك الدعاء، وتجيد الانطراح على عتبات الربوبية، وتحسن المسكنة على أبواب ملك الملوك، ومعك الثلث الأخير من الليل، ولديك ساعة تمريغ الجبين في السجود.
لا تحزن! فإن الله خلق لك الأرض وما فيها، وأنبت لك حدائق ذات بهجة، وبساتين فيها من كل زوج بهيج، ونخلاً باسقات لها طلع نضيد، ونجوماً لامعات، وخمائل وجداول، ولكنك تحزن!
لا تحزن! فأنت تشرب الماء الزلال، وتستنشق الهواء الطلق، وتمشي على قدميك معافى، وتنام ليلك آمناً.
لا تحزن! فإن المرض يزول، والمصاب يحول، والذنب يُغفر، والدين يُقضى، والمحبوس يُفك، والغائب يقدم، والعاصي يتوب، والفقير يغتني.
لا تحزن! أما ترى السحاب الأسود كيف ينقشع؟! والليل البهيم كيف ينجلي؟! والريح الصرصر كيف يسكن؟! والعاصفة كيف تهدأ؟! إذاً: فشدائدك إلى رخاء، وعيشك إلى هناء، ومستقبلك إلى نعماء.
لا تحزن! لهيب الشمس يطفئه وارف الظل، وظمأ الهاجرة يبرده الماء النمير، وعضة الجوع يسكنها الخبز الدافئ، ومعاناة السهر يعقبه نوم لذيذ، وآلام المرض تزيلها هناء العافية، فما عليك إلا الصبر قليلاً والانتظار لحظة.
لا تحزن! فقد حار الأطباء، وعجز الحكماء، ووقف العلماء، وتساءل الشعراء، وبارت الحيل أمام نفاذ القدرة ووقوع القضاء، وحتمية المقدور.
عَسى فرجٌ يكون عَسى نعلِّل نفسَنا بِعَسى
فلا تقنط وإن لاقيت هماً يقضب النفَسا
فأقرب ما يكون المرء من فرج إذا يئسا
{إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6].
يا أحد! يا صمد! يا ذا الجلال والإكرام! يا حي يا قيوم! يا رحمن يا رحيم! أسألك أن تذهب عنا الهم والغم والحزَن والكدر والوصب والنصَب.
اللهم إنا نعوذ بك من الشقاء والشَقوة والذلة والفقر.
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وصلى الله وسلم على نبيه وآله وصحبه ومن والاه.(350/26)
فر من الحزبية فرارك من الأسد
حزبنا حزب واحد هو حزب الله، وما أتت هذه الحزبيات إلا مع نقص العلم الشرعي الموروث عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، وأيضاً مع كثرة الأهواء والاختلافات، وشهوات الأنفس، والمقاصد السيئة، والأمراض، وقلة البصيرة والمعرفة.
وقد أفاض الشيخ في هذا الموضوع، وبين كثيراً من معالمه، ووضح كثيراً من ملابساته.(351/1)
لا حزب إلا حزب الله
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، عنوان هذا الدرس: فر من الحزبية فرارك من الأسد.
في مساء السبت (18/ من شهر المحرم/ 1413هـ).
وقبل أن أبدأ أعلن حبي وسعادتي وفرحتي هذه الليلة لضيوف وأحبة وقادمين ووافدين، وفدوا من الرياض ومن القصيم ومن الشرقية والغربية، ومن بعض دول الخليج، ونرحب بكل مسلم حضر هنا أو لم يحضر عربياً كان أو أعجمياً يحمل لا إله إلا الله محمد رسول الله.
ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: النَُّزّاع من القبائل} فهم الذين أتوا من كل حدب وصوب، اجتمعوا من القبائل، من الأصقاع، من المدن، من الشعوب، من الأقطار، لا على سبب ولا على نسب، إنما على رابطة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.
وهذه المحاضرة (فر من الحزبية فرارك من الأسد) لها مناسبة: فإنا لا نعلم حزبية شرعية إلا حزباً واحداً مؤيداً بالله عز وجل وبرسوله عليه الصلاة والسلام وهو حزب الله: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].
فمن انتسب لحزب آخر أو تعصب لحزب آخر، أو اتخذ غير هذا الحزب، أو جعل حزباً داخل هذا الحزب ففرق بين هذا الحزب، فتولى بعض هذا الحزب وعادى بعضه وأحب بعضه وأبغض بعضه؛ فقد نكث ميثاق الله وقد عصى الله.
فكان لزاماً علينا أن يكون حزبنا واحداً وهو حزب الله، فليس عندنا من يوجب، ولا يجوز لأحد أن يوجب لأحد أن ينتسب لحزب ويوالي عليه ويعادي عليه، ويحب له ويبغض له، غير حزب الله عز وجل الذي ذكره الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وإنما أتت هذه الحزبيات مع نقص العلم الشرعي الموروث عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، ومع كثرة الأهواء والاختلافات وشهوات الأنفس والمقاصد السيئة والأمراض وقلة البصيرة والمعرفة، فكان حقاً على الدعاة وطلبة العلم أن يبينوا ما هو الأسلم في هذه الطريقة.
واعلموا حفظكم الله أنه لا يجوز لأحد من الناس أن يوجب على الأمة أن تتبع مذهباً من المذاهب، ومن قال للناس أو لعبد من العباد: أنه يجب عليه أن يكون حنبلياً أو شافعياً أو مالكياً أو حنفياً؛ فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، ومن أوجب على أحد الناس من العباد أن يكون إخوانياً أو سلفياً أو تبليغياً أو سرورياً يوجبه وجوباً فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل، فإن الله لم يسمنا إلا مسلمين، وارتضى لنا سبحانه وتعالى اسم المسلم: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ} [الحج:78] وسمانا رسولنا صلى الله عليه وسلم باسم السنة، فنحن أهل السنة ليس لنا اسم إلا هذا الاسم، لا نعرف إلا بهذا الاسم، وليس لنا شارة ولا حزب إلا حزب السنة يجمعنا عربينا وأعجمينا، شرقينا وغربينا، أحمرنا وأسودنا وأبيضنا، تحت اسم أهل السنة.(351/2)
الهوى من أعظم دواعي الفرقة والشتات
ومن أعظم دواعي هذه الفرقة الهوى، وأستميحكم عذراً فسوف أنقل نصوصاً في هذه المحاضرة لتكون مقيدة باعتبارات وبنقولات، وبحقائق ووثائق، من أهل السنة، وقد اعتمدت بعد الله عز وجل وبعد كتابه الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبعد سنة رسوله عليه الصلاة والسلام على كتاب الاعتصام والموافقات للشاطبي، وعلى كتيب الهوى وأثره في الاختلاف للشيخ عبد الله الغنيمان، وكتاب اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكتاب حكم الانتماء للدكتور بكر أبو زيد، وكتب مناهج أهل السنة للدكتور ناصر العقل، وكتاب الولاء والبراء للدكتور محمد بن سعيد القحطاني، وغيرها من الرسائل والكتب.
يقول الشاطبي: سمي الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه إلى النار.
وروي هذا عن الشعبي فإن الهوى ما سمي هوى إلا أنه يهوي بصاحبه إلى النار والعياذ بالله.
ويدخل الهوى عند العباد في عبادتهم، فتجد بعضهم يعبد مع الله غيره، أو يخترع عبادات ما أنزل الله بها من سلطان بهواه، ويدخل الهوى مع أهل العلم، فتجد بعضهم يفتي بالهوى، أو يقول قولاً بالهوى ليس بالعلم، ويدخل مع أهل السياسات الشرعية، فتجد بعضهم يحكم بالهوى، وينفذ أحكام الله بالهوى أو أحكام غير الله عز وجل فَيَضل ويُضل.(351/3)
ذم الهوى في الكتاب والسنة
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ما ذكر الله عز وجل الهوى في كتابه إلا ذمه.
ذكره الشاطبي في الموافقات.
وأصل الضلال اتباع الظن والهوى، قال سبحانه وتعالى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم:23].
ونزه الله رسوله عليه الصلاة والسلام من الهوى، فقال: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:1 - 4].
وأنذر داود عليه السلام وحذره أن يتبع الهوى فقال: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [ص:26] إلى آيات أخرى كثيرة أخبر الله فيها أن الهوى هو أصل الشقاء وأصل الردى والبلاء.
ومتبع الهوى لا بد أن يضل سواء في الأخبار أو في الأحكام، فإن الله سبحانه وتعالى إذا ترك العبد وهواه أضله الله ضلالاً بيناً، فقد قال الله سبحانه وتعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه يقول: {اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين فأهلك} أو كما ورد في الحديث.(351/4)
تحذير السلف من مجالسة أهل الأهواء
وقد حذر السلف من أهل الأهواء، ويقصدون بأهل الأهواء أهل البدع، وأهل الشهوات الخفية، الذين يتخذون الدين سلماً لأغراضهم، أو يريدون أن يخترعوا في دين الله، أو يريدون أن يملكوا الرقاب أو الأموال، أو يحوزوا الأنفس بطريق الدين، فيلبسون على العامة ويلبسون على البادئين في العلم، فقد حذر منهم السلف الصالح.
قال أبو قلابة: لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم ما تعرفون.
رواه ابن بطة في كتاب الإبانة، واللالكائي في كتاب السنة، والدارمي.
ومعنى هذا: أن الذي يثق بنفسه فيجلس مع أهل الأهواء لا يؤمن عليه أن يلبس عليه.
وأهل الأهواء كالعلمانيين والحداثيين والخوارج والرافضة والمرجئة والقدرية ومن في نفسه هوى وشهوة خفية هذا لا تجلس معهم ولو كنت تقول: إني سوف أنصحه؛ فإنه يعديك ولا محالة كما سوف يأتي.
وقال غيرهم: لا تجالسوا أهل الأهواء فإنكم إن لم تدخلوا فيما دخلوا فيه؛ لبسوا عليكم ما تعرفون.
رواه ابن بطة.
والمقصود: أنهم يلبسون الحق الذي معنا، فيشككونك فيما أنت عليه، وقد رأيت شباباً من أهل السنة منا، جلسوا مع الرافضة، وكان قصدهم أنهم يعيدون هؤلاء، وأولئك أكثر منهم جدلاً وثقافة، وبعضهم حجج في مذهبهم، فيجلس الشاب الذي في الثانوية أو في كلية الشريعة أو أصول الدين إلى هذا الحجة المليء بالهوى والضلال والغي، فيريد أن يرده، فيلبس عليه الحق الذي عند أهل السنة، فيأتي ويقول: والله ما أدري عن صحة الأحاديث التي في البخاري والترمذي، عن خلافة أبي بكر وعمر، فلا بد أن يتحقق منها، فانظر كيف ترك في قلبه مرضاً والعياذ بالله.
وقال ابن عباس: [[لا تجالسوا أهل الأهواء، فإن مجالستهم ممرضة للقلوب]] رواه ابن بطة أيضاً.
ولذلك مر أحد السلف فوضع إصبعيه في أذنيه، قال: لئلا أسمع كلمة من صاحب هوى فتقع في قلبي.
وتقدم ثور بن زيد أحد رواة البخاري ومسلم وكان فيه قدر، فأتى يسلم على سفيان الثوري، فنفض سفيان يده وقال: المسألة تؤدي للدين.
يقول: لو كان غير الدين كنت سلمت عليك، لكن ما دام الدين فلا أسلم عليك، ولما مات أتى سفيان الثوري فاعتق الصفوف وخرج ليراه الناس ولم يصل عليه، لئلا يصلوا على هذا المبتدع.
وقال إبراهيم النخعي: لا تجالسوا أهل الأهواء فإن مجالستهم تذهب بنور الإيمان من القلوب، وتسلب محاسن الوجوه، وتورث البغضاء في قلوب المؤمنين.
رواه ابن بطة أيضاً.
أي: أن الله يسلب نور العقل بسبب الجلوس مع أهل الهوى وأهل الزيغ والانحراف.
والذين يريدون الجدل والخلاف بين المؤمنين وينقلون الكلام بين طلبة العلم، فيسبون هذا ويتتبعون سقطات هذا وغلطات هذا ويجمعونه، وربما سجلوه وربما كتبوه وينسون محاسنه وينسون مواقفه؛ فهؤلاء من أهل الهوى؛ لأنهم يريدون أن يحل الجدل محل العمل أو محل الكتاب والسنة.
وقال مجاهد بن جبر: لا تجالسوا أهل الأهواء؛ فإن لهم عرة كعرة الجرب.
أي: حكة كحكة الجرب.
ذكره ابن بطة.
فإن صاحب الهوى يترك في قلبك أثراً فتحتك من هذا الأثر فيدمي قلبك وهو هواه والعياذ بالله!
وقال محمد بن علي: لا تجالسوا أصحاب الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله.
ويلحق بذلك أيها الإخوة: من يشغل الناس بتوافه المسائل، أو المسائل التي ليس فيها علم، كمسألة دوران الأرض فيقيم المجلس ويقعده على هذه المسألة التي لا ينبني عليها عمل، ولا يسألنا الله عنها يوم القيامة، وليس فيها معتقد، ولم يتكلم فيها الصحابة، وكمسألة هل السحاب من البحر؟ وهل يتبخر البحر؟ مع أنه حقيقة تبخره الشمس بإذن الله في كلام طويل، ومسألة كروية الأرض، مع العلم أنها كروية، لكن هذه المسائل التي هي من الجدل وهي تمنع عن العمل فحذار من هذه.
قال سبحانه وتعالى: {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} [النساء:140].
قال مصعب بن سعد: لا تجالس مفتوناً فإنه لن يخطئك منه إحدى اثنتين: إما أن يفتنك عن دينك فتتبعه، وإما أن يؤذيك قبل أن تفارقه.
ذكره ابن بطة أيضاً.
فالحذر الحذر من مجالسة هؤلاء، وإذا سمعت أحداً يخوض في آيات الله، يضرب بعضها في بعض، أو في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، أو ينتهك حرمات أهل العلم، أو يخالف بين الدعاة، أو يأتي بنقل لعالم ليضرب به قول عالم آخر، فهذا من أهل الهوى فانفض يديك منه.
قال يونس بن عبيد رحمه الله: أوصيكم بثلاث: لا تمكنن سمعك من صاحب هوى، ولا تخلُ بامرأة ليست لك بمحرم ولو أن تقرأ عليها القرآن، ولا تدخلن على أمير ولو أن تعظه.
رواه ابن بطة.
وقال أبو قلابة يوصي أيوب السختياني: يا أيوب! احفظ عني أربعاً: لا تقل في القرآن برأيك.
لا يتحدث أحد رأيه بالقرآن، ولا يتخرس برأيه فإن كتاب الله محفوظ إلا ما ظهرت عليه الدلالة أو أيدته لغة العرب.
وإياك والقدر، وإذا ذكر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأمسك.
كمن يقول الآن: هل الأفضل من كان مع علي أو من كان مع معاوية؟ وهل الأفضل الذين كانوا في حزب علي أو في حزب معاوية؟ فهذا ممن يدخل في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يحبه الله.
ولا تمكن أصحاب الأهواء من سمعك فينبذوا فيه ما شاءوا.
وقال أبو الجوزاء وهو من أئمة التابعين: [[لئن تجاورني القردة والخنازير في دار أحب إليَّ من أن يجاورني رجل من أهل الأهواء]].(351/5)
عاقبة مجالسة أهل الأهواء
وأتى عمران بن حطان وكان عنده علم، وهو شاعر الخوارج، وهو الشاعر القوي في شعره، وكان شعره من الشعر الخالد، ذهب إلى الخوارج لينصحهم وقال: أتزوج منهم امرأة عليَّ أؤثر فيهم وأردها وأرد أهلها إلى مذهب أهل السنة، فردته إلى مذهب الخوارج، وهو الذي يقول في قصائده الجميلة:
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها
أي: الدنيا
أرى أشقياء الناس لا يسأمونها على أنهم فيها عراة وجوّع
أراها وإن كانت تسر فإنها سحابة صيف عن قليل تقشع
وله من القصائد أخرى، لكن قصائده بعد أن تحول إلى مذهب الخوارج كانت سيئة وظالمة وآثمة كقوله لما قتل ابن ملجم علياً رضي الله عنه يمدح ابن ملجم يقول:
يا ضربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانا
إني لأذكره يوماً فأحسبه من خير خير عباد الله ميزانا
فرد عليه شاعر أهل السنة فقال:
يا ضربة من شقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش خسرانا
إني لأذكره يوماً فألعنه وألعن الكلب عمران بن حطانا
فاستوى البيت وركب هذا البيت وأحسن شاعر أهل السنة.
وبعضهم دخل ليرد على الشيوعية فألحد والعياذ بالله، ككاتب من القصيم، وهو عبد الله القصيمي، وقد كان ذكياً لماحاً له كتاب صراع بين الإسلام والوثنية، أراد أن يرد على الشيوعيين الكادحين في عدن، ويرد على نظرية كارل ماركس، فالعياذ بالله اطلع على كتبهم فألحد، وخرج من القصيم وهو الآن يقيم في القاهرة وعمره ما يقارب ثمانون سنة، ملحد لا يصلي ولا يسجد، ويكفر بالمصحف ويسب الدين وأهله، وله كتب في ذلك، قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23] وقد ناداه العلماء وخاطبوه واتصلوا به وكاتبوه، لكن طبع الله على قلبه والعياذ بالله، فهو في الثمانين فما اهتدى {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران:119] قال بعض أهل العلم: هذه لأهل الأهواء.
فإن بعض الناس إذا حضر مجالس أهل الخير تمظهر بأنه من أهل الخير وناقش معهم المسائل العلمية، وأظهر لهم حب السنة فإذا خلا مع الشياطين من الإنس سب أهل الخير وأهل العلم وأهل الدعوة فهو من جنس هؤلاء: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة:14 - 15] وقد دل على ذلك حديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر أبو داود وأحمد بأسانيد صحيحة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {من سمع بالدجال فلينأَ عنه، فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن فيتبعه مما يبعث من الشبهات، وفي لفظ: مما يرى من الشبهات} فالدجال من سمع به فلينأ عنه، ليبتعد وليفر عنه، ولا يثق بإيمانه، فإن الدجال يشبه على الناس، حتى إنه يأتي إلى الخربة فيقول: أخرجي كنوزك فتخرج بإذن الله كنوزها، ويقول للسماء: أمطري فتمطر، ويضرب الرجل ويشقه نصفين ويحييه بإذن الله، وهذه فتنة.
وكذلك قال أهل العلم: كل من صار على منهج الدجال؛ فالواجب على الإنسان أن يبتعد عنه وأن يتجنب الجلوس معه.
وقد رأيت بعض الناس تأثروا ببعض الكتابات وببعض الأشرطة التي نشرها بعض العلمانيين حتى إنه عنده علم وعنده سنة وعنده خير كثير فشبه عليه خاصة فأصبح يصدقهم ويرتاح لهم، وأصبح يشكك في الخير الذي يحمله أهل الخير.
قال أهل العلم: وعلى المسلم ألا يناظر هؤلاء إذا علم منهم الهوى.
كما قال بعضهم: "كلامهم ألصق من الجرب وأحرق للقلوب من اللهب"، ولقد رأيت جماعة من الناس كانوا يلعنونهم ويسبونهم فجالسوهم على سبيل الإنكار والرد عليهم، فما زالت بهم المباسطة وخفي المكر ودقيق الكفر حتى مالوا إليهم.
وذكر أن محمد بن السائب كان من أهل السنة فقال: نذهب ونسمع من هؤلاء شيئاً؛ فما رجع حتى أخذ بها وعلقت بقلبه والعياذ بالله.
ذكر ذلك بعض أهل العلم في كتبهم قالوا: والهوى كل ما خالف الحق وللنفس فيه حظ ونصيب ورغبة، فيميل بصاحبه إلى الشهوة والشهرة وحب الظهور، وإلى الانصراف عن الحق والعياذ بالله.(351/6)
الهوى أصل الضلال والكفر
وقد ذم الله اليهود وأخبر أنهم يتبعون أهواءهم، كلما أتى أحدهم هوى اتبعه، قال سبحانه: {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} [البقرة:87].
وكانوا يشهدون أن الرسول عليه الصلاة والسلام سوف يبعث وأنه من العرب، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، فلعنة الله على الكافرين، قال سبحانه: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرائيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} [المائدة:70].
وقد ذم الله الكفار العرب بأنهم اتبعوا أهواءهم: {فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ} [القصص:50].
وأمية بن أبي الصلت كان يبشر برسول يبعث وكان يظن أنه هو الرسول ولما بعث الله محمداً عليه الصلاة والسلام كفر، وأخذ يسب الرسول صلى الله عليه وسلم بالقصائد ويحرض عليه، وقالوا: بل كان يسب من قتل في بدر من المسلمين أو من حضر في بدر من المسلمين ويمدح المشركين والعياذ بالله، فقال صلى الله عليه وسلم: {آمن لسانه وكفر قلبه} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
ومما يجب على المسلم أن يعلمه: أن الهوى أصل الضلال وهو أصل الكفر وعليه أن يسأل الله الهداية، وقد صح عند مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقوم من الليل, فيقول: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون}.
فإذا هدى الله العبد سدده، وفي صحيح مسلم: {اللهم اهدني وسددني}.(351/7)
التحذير من اتباع اليهود والنصارى في التفرق والاختلاف
وعند أبي داود عن عبيد بن حصين قال صلى الله عليه وسلم قل: {اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي}.
وقد قص الله علينا أخبار الأمم الذين تفرقوا بسبب الهوى، وحذرنا الله سبحانه وتعالى من شبههم وحذرنا من طريقهم، بل قال أهل العلم: إذا كان التمذهب سبباً للخلاف والفرقة فإنه يحرم، إذا كان كونك حنبلياً وذاك حنفياً وذاك شافعياً وهذا مالكياً سبباً للخلاف والفرقة فإنه يحرم، أيضاً: إذا كان كونك إخوانياً أو سلفياً أو تبليغياً أو سرورياً سبباً للفرقة والخلاف بين المسلمين فإنه يحرم، قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} [الأنفال:46].
{وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105] وقال سبحانه وتعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103] وقال جل ذكره: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] وقال سبحانه: {كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة:118] وقال سبحانه: {مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فصلت:43].
فقد حذره سبحانه من الخلاف وحذر أمته كما حذر الذين من قبله من الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه سوف يقع الخلاف بالأمة وسوف يتبع بعضنا بعض الذين من قبلنا من اليهود والنصارى، كما قال صلى الله عليه وسلم عند البخاري والمسند لـ أحمد: {لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟} والقذة: ريشة السهم، وهو ما يشبه رصاصة البندق، والمعنى: أنا سوف نتبعهم في كثير من أمورنا، وقد وقع ما قال عليه الصلاة والسلام، فمنا من اتبعهم في المناهج، ومنا من اتبعهم في الزي، ومنا من اتبعهم في الأخلاق، ومنا من اتبعهم في المعتقد، ومنا من اتبعهم في السلوك، ومنا من عصم الله فلم يتبعهم: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} [البقرة:120].(351/8)
واقعنا عندما اتبعنا الهوى
ومما وقعنا فيه أنها وقعت عندنا طوائف وفرق ومذاهب كالحنابلة والشافعية والمالكية وبعض الجماعات على ما فيها من خير، وأقول: إن فيها خيراً وإنه نصر بها الإسلام والدين، لكن وقع من بعض المنتسبين إليها ظلم وجهل، فبعض المنتسبين للجماعات أو المذاهب يقول: المذهب الصحيح -مثلاً-: مذهب الحنابلة وغيره من المذاهب لا يصح، حتى إن بعضهم يقول: الحق مع الشافعية لكن ننتصر لمذهبنا رياضة! ويذكر بعض الأحناف في كتبهم حديثاً عنه صلى الله عليه وسلم: {أبو حنيفة سراج أمتي}.
وهذا حديث كذب موضوع، وبعضهم يقول: يقول صلى الله عليه وسلم: {ينزل عيسى بن مريم على مذهب أبي حنيفة}.
وهذا حديث كذب موضوع إلى غير ذلك من الأحاديث، وبعضهم يقول: إن لم يكن الحق للأحناف فما أدري أين يكون الحق، وبعضهم يقول: على الأمة أن تتبع الشافعي لأنه من أسرة محمد صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هاشمي، وهو أولى الناس بالاتباع، حتى إن ابن حجر في فتح الباري على جلالته رحمه الله في قوله صلى الله عليه وسلم: {الأئمة من قريش} قال: وفي الحديث دليل على أن الشافعي المقدم لأنه من قريش، وابن حجر شافعي، فأعجبه هذا الحديث فقال به.
ومنهم من ينتسب مثلاً إلى الإخوان أو إلى السلفيين أو إلى التبليغيين أو السرورين أو إلى جماعة، فيقول: الحق في هذه الجماعة، وهذه هي المقصودة، حتى بعض المنتسبين من الجهلة يقول: هي المقصودة بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {عليكم بالجماعة فإن يد الله مع الجماعة}.
وبعضهم كتب كتاباً المتساقطون في الطريق، وهم الذين خرجوا من الجماعة فيقول: هؤلاء ضلوا وسقطوا في الطريق، مع العلم أنه قد يظهر للإنسان أن المصلحة أن يخرج من الجماعة، أو أن من المصلحة ألا يتبع هذه الجماعة فقد تحبسه من علم أو دعوة أو قد لا يناسب هو الجماعة أو يكون الخير له ألا ينتسب لها.
فأقول: هذه الجماعات فيها خير ونصر بها الحق، لكن لا يجوز لأحد أن يقول: كل الحق في هذه الجماعة وغيرها باطلة، أو يقول: هذه الجماعة هي الجماعة التي يرضى الله عنها وغيرها يغضب الله عليها، أو يقول: كلما جاء من هذه الجماعة فهو الصحيح، حتى إن بعضهم لا يسمع إلا لأشرطة من كان من دعاة جماعته، ولا يحضر إلا لخطباء جماعته، ولا يقرأ إلا لجماعته، ولا يطلع إلا على ما يكتبه جماعته أو كتبه جماعته، ولا يمدح إلا لمن انتسب إلى جماعته، وبالمقابل تجده يقدح في خطباء الغير وفي شعرائهم ودعاتهم وعلمائهم وهذا من الهوى، وفيه حظ من قوله سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113].
ومن أوجب على الأمة أن تتبع مذهباً من المذاهب أو جماعة من الجماعات -قلت لكم-: يستتاب هذا فإن تاب وإلا قتل وهي كفتوى شيخ الإسلام في بعض المسائل التي شابهت هذه المسألة بالقياس.
وقال عليه الصلاة والسلام: {لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتى بأخذ القرون قبلها شبراً بشبر وذراعاً بذراع، فقيل: يا رسول الله! كفارس والروم؟ فقال: ومن الناس إلا أولئك} رواه البخاري في كتاب الاعتصام.
فأخبرنا عليه الصلاة والسلام أنه سوف يقع من أمته من يفعل ذلك.
ومن الناس من يتحزب لشيخ فيقول: هذا الحق مع الشيخ وعليك بسماع أشرطته ولا تسمع لغيره، وبعض الناس يتعصبون لشيخهم من أقليمهم أو من مدينتهم أو داعية من محلتهم، ويتنقصون الدعاة الآخرين، وهذا من الظلم والعدوان، بل على الإنسان أن يقبل الحق من أي أحد سواء كان من الشمال أم من الشرق أم من الغرب أم من الجنوب، من العرب أم من العجم، فإن دين الله عز وجل موزع في الناس.
وقال ابن تيمية: ما من نفس إلا وفيها ما في نفس فرعون، غير أن فرعون قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر.
وهذا كلام جيد.
يقول: كل نفس تحمل ما تحمل نفس فرعون لكن فرعون قال: أنا ربكم الأعلى وغيره استحيا من الناس، وإلا فإن النفوس محشوة بحب الرياسة وحب العلو في الأرض وحب التعالي على الأقران، إلا من عصم ربك ومن هذب الله عز وجل بالإيمان والعمل الصالح.
كان ابن عمر يسجد عند المقام عند الكعبة ويقول: [[اللهم إنك تعلم أني ما تركت الخلافة إلا من مخافتك]].
والله يقول: {تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الْأَرْضِ وَلا فَسَاداً وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83].
وفي صحيح مسلم: {أن سعد بن أبي وقاص كان في البادية، فأتاه ابنه والناس يختلفون على الخلافة بين علي ومعاوية، وأبوه من أولى الناس بالخلافة فهو أحد العشرة، فقال: يا أبتاه! يقتتل الناس على الملك وأنت ترعى الضأن في الصحراء، قال: اغرب عني فإني سمعت النبي عليه الصلاة والسلام يقول: إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي}.
ورأيت في ترجمة إبراهيم بن أدهم من تواضعه ومسكنته ومن ترك العلو والكبر أنه مر بدارة في بغداد، فخرجت امرأة بصحن من رماد تريد أن ترميه في الزبالة وهو حار فيه جمر، فرمت بالصحن بما فيه من رماد فوقع على رأس إبراهيم بن أدهم الزاهد العابد الكبير، فأخذ يحتحت الرماد، فخرج أهل المحلة وأهل الحارة يعتذرون منه، فقال: لا عليكم، من استحق النار وصولح على الرماد فهو ناج بإذن الله.
يقول: أنا أخاف من نار جهنم وما دام المسألة مسألة رماد فالمسألة فيها خير.(351/9)
علامات التفرق والاختلاف والتحزب
فعلى العاقل من طلبة العلم والدعاة والأخيار والصالحين أن يتقي الله ولا يركب رأسه بالهوى وليتبع مذهب أهل السنة يكون سنياً فلا يتزيا بزي ليس بزي أهل السنة، فلا يقيد نفسه بقيد لم يقيده الله سبحانه وتعالى به، حتى قيل لبعض السلف: من هم أهل السنة؟ قال: الذين ليس لهم اسم إلا أهل السنة، فليس لـ أهل السنة اسم آخر لا حنبلي ولا شافعي ولا حنفي ولا نقشبندي ولا تيجاني ولا بطائحي ولا إخواني ولا سلفي -مع العلم أن لفظة سلفي قد يقصد به معنى صحيحاً وهو من يتبع السلف، ويقصد به معنى آخر وهو من يتبع جماعة السلفيين- ولا سروري.
مع العلم أنني لا أتعرض لهؤلاء لكني أقول: التزيي والموالاة على هذه والمعاداة والحب والبغض ليس من دين الله في شيء، ولم ينزل الله به من سلطان، بل نحن أهل السنة، ليس لنا اسم إلا أهل السنة، قبلتنا الكعبة ورسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، نؤدي الفرائض ونتزود بالنوافل ونجتنب الكبائر والصغائر ونعبد الله على بصيرة، ونحن أهل السنة فإذا فعلنا ذلك جمع شملنا وصلحت قلوبنا وعظمت رسالتنا بإذن الله.(351/10)
حب الرئاسة
قال شداد بن أوس: يا بقايا العرب! إن أخوف ما أخاف عليكم الرياء والشهوة الخفية.
قيل لـ أبي داود السجستاني: ما الشهوة الخفية؟ قال: حب الرئاسة.
فهي خفية تخفى على الناس وقد تخفى على صاحبها، وقد ذكرها ابن تيمية في المجلد السادس عشر من الفتاوى، وهذا كلام صحيح، فإنك قد تجد العبد يصلي الصلوات الخمس ويقوم الليل ويصوم النوافل وهو يحب أن يترأس على زملائه، ويحب أن يكون دائماً المقدم، حتى تجد أنه تنشأ حب الرئاسة وحب العلو في الأرض مع الطلبة، فتجد أحدهم حتى في الابتدائية يحب أن يكون عريفاً على الطلاب ويحب أن يكون هو قائد المنتخب، ويحب أن يكون هو مشكل المجموعة والمدير حتى في الحلقات الصغيرة، ويحب أن يكون صاحب المسئولية، وهذا من حب الرئاسة في قلبه، حتى ذكروا عن بعض الزهاد أنه بلغ به حب الرئاسة وحب التصدر إلى أن سفك دماء الأمة كما فعل محمد بن عبد الله بن تومرت وهو رجل فيه ربانية وفيه تأله كثير، وكان زاهداً عابداً من أهل المغرب، وقد ذكره الذهبي وترجم له ترجمة طويلة وكان يصلي الليل ويبكي من خشية الله عز وجل، وركب في سفينة إلى الإسكندرية ما معه إلا ثوب ومعه إبريق يحمل فيه ماء ومعه عصا، وكان لا يرى منكراً إلا غيره، فكان يضرب الخمر ويكسر جرار الخمر وهو راكب في السفينة، فأخذوه ورموا به في البحر بإبريقه وبعصاه فركب في خشبة حتى صعد إلى جزيرة، فأتى إلى أهل الجزيرة، فأنكر عليهم فأعادوه في البحر فركب في قارب آخر فأدخلوه إلى تونس، فدخل في مسجد في تونس فوجد أهل البدع فضربهم بعصاه فحبسوه في تونس، ثم أخرجوه إلى المغرب فأنكر في المغرب، فحبسوه مراراً كثيرة ثم ذهب إلى جبال في أقصى المغرب، واعتصم بتلاميذه ورباهم ثم أسس دولة الموحدين هو بنفسه، حتى يقول:
والله والله لو نفسي مشردة ما كنت عن ضرب أعناق الورى آبي
بأبيات طويلة، يقول: والله لو عرضت لي أعناق الورى وأعناق الظالمين لضربتها جميعاً، فأوصله هذا الأمر إلى أن أخذ المخالفين له، حتى ممن خالف في بعض الأمور فكان ينكسهم في الآبار على رءوسهم حتى ماتوا، بعض المسلمين حتى من أهل الأهواء أو البدع لكنهم مسلمون في الجملة، وكان إذا خالفه مخالف أخذ السيف وضربه فقسمه نصفين، وله كتاب المرشدة وأمره إلى الله عز وجل، إنما ذكرته مثالاً لأمثلة العباد الزهاد الذين قد يحبون العلو في الأرض والله المستعان.(351/11)
تعظيم الأشخاص ومحبتهم
ومن علامات ذلك: محبة من يعظمه في قبول قوله والاستماع له من غير تدبر وتعقل، فإنك تجد بعض الناس إذا عظمه شخص أحبه ولو كان فيه تقصير وقدمه على غيره، حتى تجد بعض المشايخ إذا أحبه بعض الطلبة، أو قبل على رأسه، أو أركبه في سيارته، أو بجله بالألفاظ أو ألقى عليه قصيدة أو دعاه إلى وليمة، تجده يحب هذا الطالب ويقدمه على بقية الطلبة، وتجد بعضهم يغضب إذا لم يقبله الطلاب على رأسه، ويقول: هؤلاء الطلبة ليس عندهم أدب ولا يستحون ولا يحملون الأخلاق الشرعية إلى غير ذلك، فأصبح هواه في العلو في تقبيل الرأس واليد، وفي التبجيل بالعبارات، وهذه من فعل أحبار اليهود والعياذ بالله، بل على العبد أن يفر من هذه، وأن يحاول على ألا يوافق الناس في تقبيل رأسه إلا إذا كان فيه مشقة أو أمن على نفسه من العجب، وعليه أن يفر من تقبيل الأيدي والأكف، لأن هذه لم ينزل الله بها سلطاناً، ولو أن الرسول صلى الله عليه وسلم فُعل به هذا، لكن منزلته صلى الله عليه وسلم غير منازلنا؛ فإنه آمن على نفسه من العجب وعصم الله سمعه وبصره وقلبه.
قال سبحانه وتعالى فيمن اتبع هواه وطلب العلو وحسد وبغى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة:91].(351/12)
الظلم والعدوان في الرد على الآخرين
ثم قد يحصل من الناس على بعضهم ظلم وعدوان، فتجد بعض الناس إذا أراد أن يرد على أحد الأشخاص رداً؛ اتهمه ونال عرضه وسبه وشتمه وهذا من الظلم العظيم، بل عليك أن ترد الخطأ فقط، وأن تبين وتذكر المحاسن كما فعل شيخ الإسلام رحمه الله، عندما رد على المعتزلة في درء تعارض العقل والنقل قال: أحسن المعتزلة في أنهم ردوا الملاحدة وأدخلوهم في الإسلام لكنهم أساءوا في أنهم أوقفوهم في مذهب الاعتزال.
فعليك إذا أردت أن ترد على شخص أو طائفة أن تعترف بما لهم من الحق، فمثلاً: إذا أردت أن ترد على الحنابلة فلا تتهم الحنابلة بالجمود، ولا ترد على أئمتهم، ولا تطلق لسانك وقلمك في أعراضهم، بل تقول مثلاً: الحنابلة من أحسن الناس معتقداً، وهم المحافظون على معتقد أهل السنة، وفيهم علماء أجلاء، وفيهم زهد وورع، لكن أخطئوا في هذه المسألة أو أخطأ فلان منهم في هذه المسألة، وكذلك الشافعية، وكذلك المالكية، وكذلك الأحناف، وإذا أخطأ رجل من جماعة الإخوان فلا تسب جماعة الإخوان جميعاً وتقول: هذه الجماعة فيها كذا وكذا فهذا من الظلم والعدوان.
وإن من أفرى الفرى أن يسب الشاعر القبيلة بأسرها فإن هذا لا يجوز، وأقول لكم: هذا لا يجوز، وحتى لا يجوز أن تتخذ القبائل سلماً للمعاداة وللتناحر والتباغض، فمثلاً تسب القبيلة بأسرها، هذا لا يجوز، يعني: خالفك رجل من القبيلة أو أساء إليك رجل من القبيلة؛ فإنه لا يجوز لك وحرام عليك أن تقول: القبيلة كلها فاجرة أو آثمة أو بخيلة أو جبانة، فإن هذا من الظلم والعدوان، وهذا مما ينبغي أن يذكر به الناس كثيراً.
وكذلك الشعوب لا ينبغي أن تقول مثلاً: الشعب الفلاني كله آثم أو كله جبان أو كله خائن أو كله مارد، فإن هذا من الظلم؛ بل تذكر الأشخاص الذين لهم فجور، مثلاً على سبيل المثال: شعب العراق فيه حزب البعث الكافر وصدام المجرم، وحزبه حزب البعث فلا يجوز لك أن تقول: كل عراقي آثم وكل عراقي فاجر، فإن فيهم من أهل السنة وفيهم علماء وفيهم عباد وفيهم دعاة وفيهم صالحون وفيهم شهداء، بل عليك أن تميز هذا من هذا، فتخرج الحي من الميت: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135] وقال سبحانه: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].(351/13)
تزكية النفس
وبعض الناس -كما ذكر سبحانه وتعالى- من أهل الأهواء يزعم أنه مصلح وبعيد عن الفساد كما قال الله تعالى عن فرعون: {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26].
فهو يزعم أنه هو المصلح والمحافظ على الدين الحق والحارس له من التغيير والتبديل، وأما موسى عليه السلام فإنه ممن يسعى لتغيير الدين والفساد في الأرض، وهكذا تقلب الحقائق لدى أهل الأهواء ومبتغي العلو في الأرض؛ فيصبح المفسد مصلحاً والمصلح حقاً لديه مفسداً، والكفر بالله ومنازعته سلطانه ديناً يجب أن يحمى ويصان، ودين الله يعتبر تغييراً للدين وتبديلاً للحق، فتجد هؤلاء يصنفون الناس حسب أهوائهم فمن وافقهم فهو حبيبهم، ومن خالفهم فهو عدوهم، والعياذ بالله.(351/14)
الحزبية دعوة جاهلية
إذا علم هذا أيها الإخوة، فقد ورد في السير والمغازي عنه صلى الله عليه وسلم: {أن غلامين اقتتلا، فقال غلام من المهاجرين: يا للمهاجرين؛ لأنه يقاتل الأنصار، ونادى الأنصاري: يا للأنصار، فقال صلى الله عليه وسلم: أبدعوى أهل الجاهلية وأنا بين أظهركم؟! دعوها فإنها منتنة} رواه مسلم في صحيحه.
فذمها صلى الله عليه وسلم لما قال هذا: يا للمهاجرين، ولما قال هذا: يا للأنصار، مع العلم أن اسم الأنصار واسم المهاجرين اسمان شرعيان وردا في كتاب الله عز وجل وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن لما استخدما استخداماً خاطئاً منع ذلك سبحانه وتعالى، ولذلك لا يجوز أن يستدعي الإنسان حزبه، أو فئته، أو طائفته على فئة من المسلمين الأخرى بهذا الطريق؛ فإن هذا محرم؛ لأن هذا طريق للتفكك وللقتال وللتشاحن، قال: وقريب من هذا ما حصل لـ سلمان يوم أحد لما رمى أحد المشركين وقال: {خذها وأنا الفارسي -وسلمان فارسي- قال: خذها وأنا الفارسي، فقال له صلى الله عليه وسلم: هلا قلت: وأنا الرجل المسلم}.
يقول: لماذا لم تقل: وأنا الرجل المسلم؟
ونحوه ما رواه أبو داود في كتاب الأدب، باب العصبية نحو هذا.
وقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: روِّينا عن معاوية بن أبي سفيان أنه سأل ابن عباس فقال: أأنت على ملة علي أم على ملة عثمان -لأن معاوية يميل إلى عثمان -؟ قال: لست على ملة علي ولا على ملة عثمان، لكن أنا على ملة رسول الله صلى الله عليه وسلم حنيفاً مسلماً وما أنا من المشركين.
وهذا عندما دخل عنده وقت المنازعات، ووقت ما حصل بين الأمة غفر الله للجميع.
ذكره ابن بطة في الإبانة واللالكائي.
وكان السلف يحذرون من الأهواء، ويقول أحدهم: ما أبالي أي النعمتين أعظم: أن هداني الله للإسلام أو جنبني هذه الأهواء.
فنعمة الله عليك أن لم يجعلك مبتدعاً، لا خارجياً ولا رافضياً ولا قدرياً ولا جبرياً ولكن جعلك سنياً حنيفاً مسلماً والحمد لله.(351/15)
حكم امتحان الأمة بما لم ينزل الله به سلطاناً
ولا يجوز التفريق بين الأمة وامتحان الأمة بما لم ينزل الله به من سلطان، فلا يجوز أن نمتحن الإنسان: هل أنت حنبلي، أو شافعي، أو حنفي، أو مالكي؟ أو يقول أحدهم: أصحابنا الحنابلة، وخصومنا الشافعية.
حتى في بعض كتب الفقه وهي التي يجب أن تمحى ولو بالدم، فيقولون: وقال خصومنا من المالكية، وقال خصومنا من الأحناف، وقال خصومنا من الشافعية، وأما أصحابنا فقالوا، فهذا خطأ، فالجميع أصحابنا وإخواننا، من اتبع الحق فعلينا أن نحبه وأن نتولاه وأن نكرمه.
ولا يجوز امتحان الناس: هل أنت إخواني أو سلفي أو سروري أو تبليغي؟ وما هي جماعتك التي تنتسب إليها؟ ولا بد لك من جماعة، بل جماعتك جماعة أهل السنة والجماعة، وهي الجماعة التي يرضاها سبحانه وتعالى، ويرضاها رسوله صلى الله عليه وسلم.
بل على المسلم أن يقول: أنا مسلم متبع للكتاب والسنة.
قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: والله تعالى قد سمانا بالقرآن: المسلمين المؤمنين عباد الله، فلا نعدل عن الأسماء التي سمانا الله بها إلى أسماء أحدثها قوم وسموها هم وآباؤهم، فلا يجوز لأحد أن يمتحن الناس بهذه الأسماء، ولا يوالي عليها، ولا يعادي، بل أكرم الخلق عند الله أتقاهم من أي طائفة كان، والواجب على كل من يتكلم في أمر من أمور الدين أن يكون مخلصاً لله متجرداً له سبحانه وتعالى متبعاً للسنة، فلا يتكلم بالهوى، ولا يريد بكلامه مقصداً آخر، بل يريد أن يعبد الناس لرب العالمين.
ويا شباب الإسلام! ويا دعاة الحق! ويا طلبة العلم! ويا رواد الصحوة! ويا أيها الصالحون! المقصد من الدعوة تعبيد الناس لرب العالمين، وأن يكون الناس عباداً لله، فيعلموا الدين الخالص الذي بعث به رسولنا عليه الصلاة والسلام.
وقد يوجد الخلاف ظاهره العدل والإنصاف وباطنة الشهوة والتشفي والحقد والعياذ بالله، فتجد بعض الناس يرد على بعض الناس يقول: لأقيم الحق، ولأنصر العدل، ولأبين الخطأ، ولكن قصده التشفي والعياذ بالله، وقصده أن يظهر ما في قلبه من عداوة، وقصده أن ينتقم من ذاك، وهذا خطأ لا يؤجر عليه العبد.(351/16)
عبادات ما أنزل الله بها من سلطان
ومن جنس هذا: من اتبع هواه، أو اتبع ذاته، أو شخصه، أو منصبه، أو وظيفته، قال عليه الصلاة والسلام كما في البخاري في كتاب الجهاد، باب: الحراسة في الغزو في سبيل الله: {تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة وعبد القطيفة، إن أعطي رضي، وإن لم يعط سخط، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش} فسماه عليه الصلاة والسلام عبداً لهذه الأمور؛ لأنه أحبها ووالى عليها، وأبغض عليها، حتى أن منهم كما ذكر ابن الجوزي في صيد الخاطر والجاحظ في البخلاء والخطيب البغدادي في كتابه البخلاء: من كان يعبد الدرهم عبادة وهو يصلي لله ويحج ويعتمر ويزكي ويصوم، فكان أحدهم يخرج الدرهم من حقيبته فيقول: ما أحسنك! وما أجملك! دخلت موضعاً لن تخرج منه، أسأل الله أن يحفظك من كل مكروه، ثم يقبل وجه الدرهم، ثم يقبل باطنه، وقال: رحم الله يداً حملتك، ورحم الله حقيبة حفظتك، فلما حضرته الوفاة من حبه وجشعه بالمال، أخذ خرز الذهب فابتلعه في فمه ليموت معه.
قال ابن الجوزي: وقد رأينا بخيلاً عبداً للدرهم والدينار، حضرته الوفاة وعنده ذهب وفضة، وكان ناقماً على أبنائه، أي: مبغضاً لأبنائه، ما يريد أن يرثوا منه شيئاً، فأخذ آجرة عظيمة -طوبة- فجعل فيها الذهب والفضة ثم طين عليها ثم أمر أن تدفن تحت رأسه في القبر لتموت معه.
يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34 - 35] فيريد يقرب الأمر حتى لا يكون هناك مشوار في أخذ الذهب والفضة وتكون قريبة وحامية يلسع بها في نار جهنم والعياذ بالله.
ومنهم من يقصر على نفسه فيعبد الدرهم والدينار ويوالي عليه ويعادي، ويكون ليله ونهاره.
وأقاصيصهم عجيبة في هذا، والملك لله.
قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية:23] قال سيد رحمه الله: ومنهم من يتخذ الكرة هوى، فتجده يوالي عليها ويحب ويبغض.
بل والله إن بعضهم ترك الصلاة من أجل أن يحضر مباراة، ومنهم من يوالي على النادي حتى يضارب عليه، ومنهم من يلبس زي النادي ذاك، فإذا كان النادي أصفر صار صفارياً، أو أزرق صارت سيارته زرقاء، وعلمه أزرق، وكل شيء فيه أزرق، وعينه زرقاء.
وتجد بعضهم أصفر في كل شيء حتى حذاءه صفراء، وأظافره يصفرها؛ لأنه صفراوي، وما أدري ما ألوان الأندية، لكن على الأندية، وتجد بعضهم يقتحم ويضارب، وقد أخبرنا بعض الثقات ممن لا يشك في كلامهم أن بعضهم ضارب في سبيل الكرة حتى كسرت يده، فانظر إلى هذه التضحية.
ومنهم من كان هلالياً وامرأته نصراوية، فلما غلب الهلال النصر؛ قامت واحتجت فاحتج فاحتجت فاحتج فطلقها، وهذا قد ورد بأسانيد بعضها يسند بعضاً، ولها متابعات وشواهد واعتبارات.(351/17)
سوء المقاصد في الأعمال
قال سبحانه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية:23].
وفي حديث أبي هريرة الذي في الصحيح في الثلاثة الذين هم أول من تسعر بهم النار: من تعلم علماً ليقال: عالم قارئ، ومن قاتل ليقال: جريء شجاع، ومن تصدق ليقال: جواد كريم.
وقد رواه مسلم والترمذي وأحمد وغيرهم من أهل العلم.
فإذا علم هذا فعلى الإنسان أن يتقي الله، قال عليه الصلاة والسلام: {من طلب العلم ليباهي به العلماء، أو ليماري به السفهاء، أو ليصرف به وجوه الناس إليه فله من عمله النار} رواه الترمذي والدارمي وابن ماجة، وذكره الدارمي في باب: التوبيخ لمن طلب العلم لغير الله عز وجل.
فنعوذ بالله من سوء المقاصد، بل على الإنسان أن يطلب العلم ليرفع الجهل عن نفسه؛ وليعبد الله على بصيرة وليعلم الناس.
فمباهاة العلماء: أن يظهر أنه يعرف ما يعرفون، فتجد بعضهم يتكثر بالمسائل كما يقول ابن تيمية، حتى تجد المسألة فيها خلاف بسيط، أو قولان لأهل العلم، فيقول: فيها سبعة أقوال، ثم يورد الأقوال، وتجده يزبد ويرعد كأنه جمل هائج والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور} وبعض الجهلة يقول: هذه المسألة اختلف فيها العلماء، وهو لا يدري أن للعلماء أصلاً فيها خلاف، وبعضهم إذا سأل في مسألة قال: فيها قولان، حتى إذا أخطأ في قول وإذا له قول آخر احتياط.
حتى أن جاهلاً سألوه: ما رأيك في المسألة الفلانية؟ قال: فيها قولان، قالوا: والأخرى؟ قال: فيها قولان، قالوا: ما رأيك في الله عز وجل؟ قال: فيه قولان.
وهذا مذكور في كتب أهل العلم ممن ذكره كثير منهم في التاريخ.
ومماراة السفهاء: هو مجادلتهم ومحاربتهم ومجاراتهم في السفه، فإن السفيه ليس لك أن ترد عليه، ولك أن تهجره وتتركه، وأن تعرض عنه، فإنه ممن يشتري بآيات الله ثمناً قليلاً.
وأما صرف وجوه الناس: فهو الذي يحب المدح والثناء بالعلم وبنشره والعياذ بالله.
وفي الحديث الآخر: {من طلب علماً مما يبتغى له وجه الله تعالى، لا يطلبه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا؛ لم يرح رائحة الجنة، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة} وهذه الزيادة أي: زيادة: {وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة سنة} في موطأ مالك في كتاب: اللباس، باب: ما يكره للنساء لبسه، وغير الزيادة فإنها عند أبي داود وابن ماجة وأحمد والدارمي بأسانيد صحيحة.
وقال أبو عثمان النيسابوري: من أمر السنة على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالحكمة، ومن أمرَّ الهوى على نفسه قولاً وفعلاً نطق بالبدعة؛ لأن الله يقول: {وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} [النور:54].
إن تطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تهتدوا، فأطلب من إخواني أن يمروا السنة على ظاهرهم، وإمرار السنة على ظاهرك أن تكون متزيناً بالسنة كقصر الثياب وإعفاء اللحية وقص الشارب والسواك، كعلامات أهل السنة الذين يظهرون بها، والباطن أن تكون متبعاً في معتقدك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، متقلداً لواجبات الإسلام كالخوف والرجاء، والرغبة والرهبة والإنابة، وغيرها من أعمال القلوب، فاتباع الهوى نوع من الشرك، كما قال بعض السلف: شر إله عبد في الأرض الهوى.
وقد تعوذ السلف من الهوى؛ لأنه قائد يقود صاحبه إلى النار والعياذ بالله.
فكل من تكلم في مسألة أو موضوع بدون علم أو بدون أثارة من علم أو بدون نية حسنة، تجده يناقض نفسه، ويأتي برأي تافه ويتعسف ويلوي النصوص، وقد قال سبحانه وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] وتحكيم الرسول عليه الصلاة والسلام أن يُرضى بسنته ظاهراً وباطناً، وأن تحكم أخلاقه عليه الصلاة والسلام وسلوكه وأفعاله وما ورد عنه عليه الصلاة والسلام، وأن يكون الحاكم في أمرك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن تجعله شيخك وإمامك ومربيك وأستاذك، وأن تتعلم على يديه كأنك حضرت أصحابه رضوان الله عليهم، وكأنك جاورتهم، فلا تقبل القول إلا إذا كان عليه شاهدان من الكتاب والسنة، ولا تقبل الأمر إلا إذا كان عليه بينة من بينات محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تقبل الأمر إلا إذا كان موافقاً لسنته صلى الله عليه وسلم.
وقال النووي: روِّينا في كتاب الحجة بسند صحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به} مع العلم أن ابن رجب وبعض أهل العلم يضعفون هذا الحديث، لكن معناه صحيح، فإنه لا يؤمن أحد من الناس حتى يكون هواه تبعاً لهوى رسول الهدى صلى الله عليه وسلم: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من رغب عن سنتي فليس مني} وكان يقول: {خذوا عني مناسككم} وكان يقول: {صلوا كما رأيتموني أصلي} فعلى العبد أن يحكم الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا يحكم أباه، ولا شيخه، ولا أستاذه، في أي أمر من أمور دينه، قال سبحانه: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [النساء:59] فعند التنازع علينا أن نرد إلى الكتاب والسنة وأهل العلم: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7].
قضية أبينها لكم بضرب مثل ردت إلى غير أهلها، مثل قضية: التطرف، هل عند المسلمين هل عند أهل الصحوة هل عند الدعاة هل عند طلبة العلم هل عند الملتزمين والمتدينين تطرف؟ من الذي يفتي في هذه المسألة؟ نسمع كثيراً من الناس هم عوام -صراحة- لا يملكون كتاباً ولا سنة، وليس عندهم شريعة، يحكمون على الشباب بالتطرف، نقول: من نسأل؟ نسأل العلماء: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] فنذهب إلى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز وإلى فضيلة الشيخ محمد الصالح بن عثيمين وإلى الشيخ الفوزان وإلى الشيخ عبد العزيز آل الشيخ والشيخ اللحيدان والشيخ ابن جبرين والشيخ البراك والشيخ ابن قعود وغيرهم من مشايخنا وعلمائنا فنقول: هل هؤلاء الشباب فيهم تطرف؟
هل مثلاً: من أعفى لحيته، وقصر ثوبه، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وصام وصلى ودعا، هل هو متطرف؟
هل رأيتم في شبابنا تطرفاً؟ ما هو التطرف؟
إنا نسمع من إعلام الشرق والغرب اتهام الشباب بالأصولية والتطرف، هل هم متطرفون أم لا؟
فإن أفتونا وأخبرونا أن عندهم تطرفاً قبلناه وصدقنا، وإلا فلا نسأل غيرهم، ولا يجوز لأحد أن يتحدث غير هؤلاء في هذه المسائل، وقس عليها من أمثالها.
أيضاً: هذه الجماعات التي في الساحة لك أن تتعاون معها إذا أصابت، وإذا أساءت فعليك أن تجتنب إساءتها، حتى ولو لم تكن أنت في الجماعة، فمثلاً: أحسن السلفيون في مسألة، أو في كتاب، أو في مشروع، فقم معهم وأسندهم، أحسن الإخوان في مسألة قم معهم وأسندهم وعاونهم، أحسن التبليغيون في مسألة قم معهم وأسندهم وعاونهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم، وفي حديث عند الترمذي بسند فيه كلام: {لا يكون أحدكم إمعة، إذا أحسن الناس أحسن وإذا أساءوا أساء، ولكن وطنوا أنفسكم، إذا أحسنوا فأحسنوا وإذا أساءوا فاجتنبوا إساءتهم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.(351/18)
التحذير من مخالفة شرع الرسول صلى الله عليه وسلم
قال سبحانه وتعالى محذراً المخالفين لشرع رسوله عليه الصلاة والسلام: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63].
قال بعض العلماء: فليحذر من لم يتبع الرسول في أقواله وأعماله ظاهراً أو باطناً أن يطبع الله على قلبه، وأن يزين له سوء عمله فيراه حسناً، فيزداد شراً على شر، أو يصيبه الله بعقاب عاجل مؤلم لا يتخلص منه مع ما أعد له في الآخرة من النكال والإهانة.
وقال ابن كثير: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام أن تصيبهم فتنة أي: في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة، أو يصيبهم عذاب أليم أي: في الدنيا بقتل أو حد أو حبس أو نحو ذلك، ثم ذكر الحديث في الصحيحين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد ناراً، فلما أضاءت ما حوله؛ جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل الرجل ينزعهن، ويغلبنه فيقتحمن فيها، فأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها} رواه البخاري في الرقاق باب: الانتهاء عن المعاصي، ومسلم كتاب: الفضائل، باب: شفقته صلى الله عليه وسلم على أمته.
وهذا له تفسير عند أهل السنة: أنهم الذين خالفوا الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد وضح لهم الأمر واستبان لهم لكن ركبوا رءوسهم وأشربوا الهوى في قلوبهم.
قال سبحانه وتعالى محذراً الأمة من الفرقة والخلاف: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال:1].
وقال سبحانه: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الروم:31 - 32].
قيل: شيعاً: أحزاباً وفرقاً وطوائف، وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الأنعام:159] فأمر الله عباده أن يتقوه بفعل ما أمرهم به من الاجتماع على دينه، متحابين متعاونين على الخير، وألا يموتوا إلا وهم مستسلمون له سبحانه، منقادون لأمره، متبعون لرسوله، محبون لشرعه، كارهون لما خالف نهجه سبحانه وتعالى.
هذه من المسائل التي اختلف فيها الناس قديماً وحديثاً: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213] وإنما قلت هذا؛ لأن بعض الناس يجعل من نفسه حكماً في مسائل الخلاف، فقوله أو ما وافق قوله في وجهات النظر أو في المسائل الخلافية هو المعتبر، بل بعضهم حتى في مسائل الفروع التي اختلف فيها أهل العلم: كضم اليدين على الصدر، والجهر ببسم الله، والقراءة خلف الإمام في الجهرية، وغيرها من المسائل، فيجعل قوله هو الصحيح وقول غيره هو الخطأ، وفي مسائل أخرى فمثلاً: هل فقه الواقع ضروري أو غير ضروري؟ مع العلم أنه من قال: ضروري فلا يكفر، ومن قال: غير ضروري فلا يكفر، وأن الناس ليسوا مكلفين أن يُمتحنوا في هذا، هل فقه الواقع من الشريعة؟ هل علينا أن نتعلم فقه الواقع أو نتركه؟ هذه ليست من مسائل الاعتقاد، ولا أجمع عليها العلماء، وهي وجهات نظر، فعلى العبد إذا لم يأت منه خير أن يكف شره عن المسلمين.(351/19)
ضرورة الإعذار في خلاف التنوع
واعلموا أيها المسلمون! أن خلاف التنوع لا يفسد القلوب، وقد اختلف أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في مسائل، وكانوا مجتمعين متحابين متآلفين يصلون سوياً، ويدعو بعضهم بعضاً، ويجلسون سوياً، ويتزاورون ويتجاورون والحمد لله.
فقد اختلفوا في مسائل كثيرة مذكورة في كتب أهل العلم، ومن استعرض المغني يجد أن مسائل الإجماع في المسائل الفرعية قليل، وأنَّ أكثرها مختلفون فيها، ومع ذلك تحابوا وتصافوا وتجاوروا وتزاوروا ولم تأت بينهم ضغينة.
فمن الصحابة من ضم يده اليمنى على اليسرى على صدره، ومنهم من ضمها تحت السرة، وهذا لم يعب على هذا، ولم يبغض هذا، ولم يعاد هذا، ومنهم من أفطر في السفر، ومنهم من صام في السفر، فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم، ومنهم من كان يحرك إصبعه في التشهد ومنهم من كان لا يحركها، ولم يعب هذا على هذا، إلى مسائل أخرى.
حتى في بعض مسائل المعتقد، فإن منهم من رأى أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ربه لما عرج به عليه الصلاة والسلام، مع العلم أن الراجح أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ومنهم من قال: إنه صلى الله عليه وسلم لم ير ربه، ولم يعب هذا على هذا، ولم يسب هذا هذا، ولم يعاد هذا هذا، فلماذا نختلف على مسائل كهذه.
وقد سمعت أن بعض الناس في بعض المسائل في التراويح تغاضبوا في بعض الأحياء، وتهاجروا من أجل أن إماماً صلى بهم إحدى عشرة ركعة، وكانوا يرون أن يصلي بهم ثلاث عشرة ركعة، فبعضهم ترك صلاة التراويح، وذهب إلى مسجد آخر وهجر أهل هذا المسجد، وهذا من الجهل؛ فإن إحدى عشرة ركعة سنة، وورد في بعض الألفاظ ثلاث عشرة ركعة، والراجح إحدى عشرة ركعة، ولو اجتمع الناس على الأمر المرجوح لكان خيراً.
وقد ذكر الشيخ علي الطنطاوي أثابه الله: أن أناساً في بلد من البلدان تضاربوا في المسجد في صلاة التراويح، يقول بعضهم: ثلاثاً وعشرين ركعة، وبعضهم إحدى عشرة ركعة، فاختصموا وتشاجروا وبعضهم أخذ عصياً، وبعضهم تحزب في طرف المسجد فحضر عالم من العلماء، قالوا: ما رأيك يا شيخ نصلي ثلاثاً وعشرين ركعة أو نصلي إحدى عشرة ركعة؟ قال: أرى أن تغلقوا المسجد ولا تصلوا في هذه الليلة، هذا الأحسن، وصدق في فتواه فإن دخولهم بيوتهم وتركهم للتراويح على اجتماع القلوب وعلى الخير أحسن من أن يجمعوا وهم متناحرون على رأي من الآراء أو يبقوا في خصام وجدل.
وقس على ذلك زكاة الحلي فإن بعض الوعاظ دار في المساجد وقام بعد الجمعة حتى في مساجد أبها وحذر الناس وقال: انتبهوا أيها الناس لا يضللونكم الذين قالوا: إن في الحلي زكاة، بل ليس فيها زكاة.
وهل هذا تضليل؟! وقد أفتى كثير من علماء الإسلام بأن فيها زكاة، وهي فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وأفتى بعضهم بأن ليس فيها زكاة.
أما الذي يحذر الناس من هذه الفتوى فما أصاب، ولماذا هذا الجدال؟! ولماذا إشغال الناس بهذه المسائل؟ والمعاداة والموالاة ليستا من دين الله، قال الشاطبي: كل مسألة حدثت في الإسلام فاختلف الناس فيها، ولم يورد ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة؛ علمنا أنها من مسائل الإسلام، وكل مسألة طرأت وجلبت العداوة والتنابز والتنافر والقطيعة؛ علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عني الرسول صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية وهي قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً} [الأنعام:159] فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران:103] فإذا اختلفوا وتقاطعوا كان ذلك لحدث أحدثوه من اتباع الهوى، فالإسلام يدعو إلى الألفة والتحاب والتراحم والتعاطف، فكل رأي أدى إلى خلاف ذلك فخارج عن الدين.
ذكره في الموافقات وفي الاعتصام.(351/20)
الأسئلة(351/21)
حكم النية في الوضوء
السؤال
هل النية شرط في الوضوء؟ أي: هل يشترط في وضوئك أن تنوي أنه وضوء؟
الجواب
لأهل العلم في هذه المسألة قولان:
ذهب أهل الرأي الأحناف والثوري رحمهم الله: إلى أن النية ليست شرطاً في الوضوء، والوضوء من باب التنظيف، فلو غسلت أعضاءك على سنة الوضوء، ولم تنو أنه وضوء؛ جاز لك عندهم أن تصلي به الصلوات، عند الأحناف والثوري وأهل الكوفة، وقالوا: هو ليس عبادة إنما هو تنظيف لنفسك.
وذهب الإمام أحمد والأوزاعي وأبو عبيد وابن المنذر والليث بن سعد: إلى أنها شرط، وهو الصحيح، واستدلوا على ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم: {إنما الأعمال بالنيات} فلا بد لمن أراد أن يتوضأ من نية، وهو الذي وافقت عليه النصوص، وهو الراجح في المسألة، فإذا غسلت أعضاءك كالوضوء ولم تنو به الوضوء لا يجزئك حتى تنوي أنه وضوء، فمن اغتسل تبريداً أو توضأ تبريداً لا لنية الوضوء فلا يجزئه بل لا بد من النية.(351/22)
حكم غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء
السؤال
هل غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء واجب أم سنة؟
الجواب
هذه هي أيضاً مما اختلف فيها أهل العلم وإنما أبينها لطلبة العلم:
فقد ذهب مالك والشافعي: إلى أن غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء مستحب، وأن من فعل ذلك فلا شيء عليه، أي: من أدخلهما قبل أن يغسلهما.
وذهب الإمام أحمد وهو قول للإمام علي بن أبي طالب ولـ أبي هريرة ولـ ابن عمر ولـ ابن المنذر ولجمع من أهل العلم: إلى أنه يجب غسل اليدين قبل إدخالهما الإناء، وهو الصحيح، دل على ذلك الحديث الصحيح: {إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثاً} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.(351/23)
حزب الله المذكور في القرآن
السؤال
قلت في أول المحاضرة: إن علينا جميعاً أن نجتمع تحت حزب الله، ويوهم هذا أن المقصود هو حزب الله الذي في لبنان؟
الجواب
لا لم أرده ولم يفهم الناس إن شاء الله، بل حزب الله المذكور في القرآن: {أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22].(351/24)
كتاب تنبيه الغافلين
السؤال
ما رأيكم في كتاب: تنبيه الغافلين للنيسابوري؟
الجواب
فيه أحاديث كثيرة موضوعة ومكذوبة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأرى أن طريق الهجرتين ومدارج السالكين ورياض الصالحين والترغيب والترهيب تغني عنه، وفيه بعض اللفتات الجميلة.(351/25)
حكم الانتماء لأي جماعة إسلامية
السؤال
إذا كان الانتماء إلى إحدى الجماعات العاملة للإسلام التي تجعل الكتاب والسنة هي الأساس والمبدأ مع محبة كل العاملين للإسلام به من دون تفضيل لأحد منهم على أحد من دون تخطئة، فما الرأي؟
الجواب
ليس فيه بأس أن يعمل أحد مع جماعة إسلامية تريد الله والدار الآخرة؛ بشرط ألا يوالي على هذه الجماعة ولا يعادي، وبشرط ألا يوجب على الناس أن يتبعوا هذه الجماعة، أو يقول: إن هذه الجماعة هي المصيبة وغيرها مخطئة، أو أن جماعة المسلمين تنحصر في هذه الجماعة ومن شذ عنها شذ في النار، فهذا لا بأس أن يتعاون معه، لكن المسلم يتعاون مع الجميع فيما يحسنون ويتجنب الإساءة في الجميع.(351/26)
حكم الولاء والعداء على طائفة
السؤال
إذا علمت أن بعض الناس يوالي ويعادي على طائفة فماذا أفعل؟
الجواب
تنصحه وتبين له الحق وتدعو له بالرشد والصواب.(351/27)
أضرار البث المباشر
السؤال
ما رأيكم في البث المباشر؟
الجواب
كان هناك وعد أن تكون هناك محاضرة، وقد دللتكم على بعض المحاضرات ككتاب الدكتور ناصر العمر، ومحاضرة للدكتور محمد عبده يماني قديماً يبين أضرار البث المباشر وماذا سوف ينقله للناس إلى غير ذلك، فعسى أن أجمع بعض الوثائق وبعض المعلومات وأذكرها لكم إن شاء الله.(351/28)
حكم ترك الموظف عمله من أجل حضور المحاضرة
السؤال
هل يجوز للموظف أن يترك عمله لحضور هذا الدرس؟
الجواب
لا يجوز له أن يترك عمله ليحضر هذا الدرس، فإن أذن له رئيسه والمسئول عنه حضر، وإلا فليبق في وظيفته لأن ذاك واجب وهذا نافلة، ويمكن أن يصله الشريط الإسلامي إن شاء الله ويستمع للمحاضرة أو الدرس.(351/29)
حكم مناقشة بعض المواضيع العلمية مع بعض الناس
السؤال
هل قراءة الكتب المختصة في العلوم العلمية كالأحياء والكيمياء والفلك ومناقشة هذه الأمور مع بعض الناس من الأمور المضيعة للوقت؟
الجواب
لا.
كلٌ بحسبه وبنفعه وفائدته، إن كنت تناقش هذه المسائل للنفع والفائدة في المجلس وهناك من يستفيدون أو طلبة علم متخصصون، أو وراءها فائدة فلا بأس، أما تأتي إلى أناس لا تتسع عقولهم لهذه المسائل، وتأتي إلى أناس لا يعرفون الوضوء كأعرابٍ وجهلة وتخبرهم عن ثاني أكسيد الكربون ومكونات الهواء ونسبة الهيدروجين والنيتروجين غيرها فإن هذه طلاسم، وهذه لا تصلح أن تتحدث بها وهي مضيعة للوقت [[حدثوا الناس بما يعرفون هل تريدون أن يكذب الله ورسوله]] فحدث الناس بما يعرفون، وبعضهم قد يتكلم في هذه المسائل ليتبجح وليظهر أن عنده علماً، حتى إن بعضهم يتكلم ويرطن الرطانة مع والديه العجوزين يتكلم لهما بالإنجليزي، يقول الشيخ محمد الغزالي الداعية الكبير، على أن هناك بعض الملاحظات لا يسلم منها البشر وقد بينت في كتب للفضلاء، لكن لفتات تعجب، يقول: كنت أستمع إلى صوت أمريكا مرة في الليل، وهناك برنامج عندهم ما يطلبه المستمعون، فسمعت رجلاً من العرب من بلد عربي يدرس هناك، أرسله أبوه عجوز وأمه في بادية في خيمة ينامون على زبالة، وقد أرسلوه يدرس هناك، فيقول له المذيع: ماذا تريد أن تهدي لأهلك في بلدك العربي؟ قال: أغنية شادية، قال: فعجبت لهذا الرجل خرج من بلاد محمد صلى الله عليه وسلم من بلاد الرسالة، وكان ينتظر منه أن يدعو أولئك إلى الإسلام وأن يدخلهم في دين الله زرافات ووحداناً، فذهب هناك ووالداه ينامان على قمامة وزبالة في خيمة مقطعة في الصحراء يهدي لهم أغنية شادية، وهذا فكر هابط، فقصدي: أن معلومات الناس، أو فهم الناس، أو مواقف الناس، أو إدراك الناس مختلفة، هم درجات عند ربك.(351/30)
محمد بن تومرت مؤسس دولة الموحدين
السؤال
يقول: ذكرت أن محمد بن تومرت أسس دولة المرابطين في المغرب والصحيح أنها دولة الموحدين؟
الجواب
صدقت، مؤسس دولة الموحدين ابن تومرت، ودولة المرابطين يوسف بن تاشفين، نعم، ومن الموحدين عبد المؤمن بن علي فهو قائد جيشه في الأخير، وكان في قرية مع عجوز، أمه عجوز تطعمه فقد مات أبوه، وأتى ابن تومرت يزور القرية يدعو إلى الله، فقد كان داعية كبيراً ربانياً، فوجد عبد المؤمن بن علي هذا كبير الجثة نائماً والنحل أقبل عليه من كل جهة، قال ابن تومرت: سوف يقبل عليه الجيش ويلتف كما يلتف به النحل، ثم أيقظه وعلمه القرآن وأخذه ورباه معه، فقاد جيشاً ما يقارب ثلاثمائة ألف ودخل قريته، فلما دخل قريته خرجت العجائز على سطوح المنازل يزغردن وينشدن، وتقول عجوز وهي تصيح: هكذا يدخل الغريب، فوقف الشعراء، فيقول الشاعر في عبد المؤمن هذا:
ما هز عطفيه بين البيض والأسل مثل المؤيد عبد المؤمن بن علي
قال: احذف القصيدة وابق هذا البيت، واملئوا فمه جوهراً.
فملئوا فمه جوهراً، فهذا من أخبارهم وأثاب الله الأخ، فـ يوسف بن تاشفين ولي من أولياء الله وعابد فيه خير كثير.
أسأل الله أن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وأن يؤلف بين قلوبنا، وأن يجمعنا على الحق، وأن يهدينا وإياكم صراطه المستقيم، وأن يجعلنا من أتباع رسوله، وأن يثبتنا على الحق حتى نلقاه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(351/31)
في وداع الألباني
إن علماء الأمة هم قادتها وروادها وحراسها، وفقد عالم منهم ثلمة في الإسلام ونخر في عظم الأمة، ولقد فجع المسلمون في كل بقاع العالم بوفاة الشيخ المحدث: محمد ناصر الدين الألباني.(352/1)
كلمة في رثاء الشيخ الألباني
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ
توفيت الآمال بعد محمدٍ وأصبح في شغلٍ عن السفرِ السفر
هذا العام -في الحقيقة- عام الحزن، فقد رزئت فيه الأمة الإسلامية بفقد قمم شماء، وجبال راسيات.
قبل أيام حملنا على أكتافنا جنازة إمام أهل السنة والجماعة الشيخ عبد العزيز بن باز، وقبل أيام ودعنا محدث العصر، ومجدد علم الحديث، الشيخ العلامة محمد ناصر الدين الألباني.
وقد قلنا في حينها عن الشيخ ابن باز بعض ما يستحق، أما الألباني فنحن نشهد الله على محبته، ونحن تلاميذ على كتبه، وكيف ننسى الألباني وكتبه معنا تسامرنا، وتحدثنا، وتزين مكتباتنا وبيوتنا، وتشرح صدورنا، وتبهج قلوبنا.
كيف ننسى الألباني وهو مجددٌ في هذا الفن، أنفق عمره، وأعطى لياليه وشبابه وقوته لميراث محمدٍ عليه الصلاة والسلام، حارب البدع، ودعا إلى منهج السلف الصالح أهل السنة والجماعة، وصحح الحديث، ونفى عنه الكذب والوضع، واشتغل برجال السند، وحقق تحقيقاً باهراً.
كيف ننسى الألباني وكلما دخلنا مكتبةً وجدنا صحيح الجامع، وسلسلة الأحاديث الصحيحة، وإرواء الغليل، وذلك الميراث المبارك، فلا نملك إلا أن نقول:
جزى الله الألباني خير ما جزى عالماً مجدداً إماماً عن أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم.
إن محبة الألباني دليلٌ على الاعتصام بالسنة عند هذا الجيل، وهو -في حد علمي- أول من رد الناس إلى الدليل في هذا العصر مع سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز.
إن ابن باز والألباني كالشمس والقمر في علم الحديث والأثر والسنة، وإنني أسأل الله أن يرحم الألباني وابن باز، وأن يجمعنا بهم في دار الكرامة.(352/2)
واجبنا نحو العلماء
والواجب على أهل العلم، وأهل الصحافة والأقلام، والأدباء والشعراء، أن يتحدثوا عن مآثر هؤلاء العلماء الذين هم نجوم الأمة وكواكبها، وحياتها ونورها، فإن الله استشهد على ألوهيته العظمى بالعلماء مع الملائكة، فقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
مات في اليوم الذي مات فيه الألباني أحد الشعراء؛ فمجدته الصحف والمجلات، والأدباء والكتاب، ومات الألباني فما انتضى وما كتب وما تكلم إلا القليل، وبين الألباني وهذا الشاعر بعد الثرى عن الثريا، فالثريا هو الألباني سطوعاً ودعوةً وعلماً وسنةً وتجديداً وصحة منهج، وذاك الشاعر فيه انحراف في المنهج، وغواية، وصدود عن منهج الله، وتهتكٌ وإعراض.
فيا أمة الإسلام! يا جيل محمد صلى الله عليه وسلم! يا طلبة العلم! عودوا إلى ميراث الألباني وميراث ابن باز، ومحمد بن عبد الوهاب، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن القيم، اقرءوه، وافهموه، وتدبروه.
أيها الإخوة: ترحموا على الألباني كلما قرأتم حرفاً من كتبه، فإن هذا جزاء المعروف، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، ومن لا يشكر الناس لا يشكر الله، فنشكر ربنا سبحانه وتعالى أن هيأ مثل الألباني لنصرة دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والذود عن السنة المطهرة، وأشهد الله على محبة الألباني، فهو معي ليلاً ونهاراً في ميراثه وكتبه، وعطائه المبارك الذي يوصله -بإذن الله- إلى جناتٍ ونهر: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55]
علوٌ في الحياة وفي المماتِ لحقٌ أنت إحدى المعجزاتِ
ونقول للألباني وابن باز:
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
اللهم صلِّ وسلم على المعلم الذي أخرج لنا هذه النماذج الخالدة، والقدوات الرائدة، والعلماء البررة، وعلى أصحابه ومن سار على منهجه إلى يوم الدين، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وتقبلوا تحيات أخيكم عائض القرني من الرياض.(352/3)
كيف نحافظ على الإيمان
إن أعظم نعم الله علينا أن هدانا للإيمان ووفقنا للإسلام؛ وبين لنا الطرق التي نستطيع من خلالها المحافظة على الإيمان، والتطلع إلى ثماره ونتائجه، وكل هذه ستجدونها في طيات هذا الموضوع.(353/1)
طرق المحافظة على الدين والإيمان
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الجليل، المؤيد بجبريل، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها المسلمون! إن من أعظم نعم الله علينا أن هدانا للإيمان، فله الحمد وله الثناء الحسن أن دلنا على هذا الطريق وقربنا وأبعد غيرنا، ورزقنا الهداية بمبعث محمد عليه الصلاة والسلام، فلا إله إلا الله ما لدعوته من أثر! ولا إله إلا الله كم لرسالته من نفع! فمن اعتقد أنه سوف يهتدي بهدىً غير هدى الله الذي أرسل به محمداً عليه الصلاة والسلام؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً، ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر إليه ولا يزكيه وله عذابٌ أليم.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بي؛ إلا دخل النار} قال الله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف:30] ما أحوجنا إلى الإيمان! وما أفقرنا إلى الهداية!
يا مسلمون! من نحن قبل رسالته عليه الصلاة والسلام؟ أمةٌ -والله- ضائعة، لا تاريخ لها ولا هداية، ولا نور ولا حضارة، حتى بعث الله لنا محمداً عليه الصلاة والسلام، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] أمة كانت تعبد الوثن، وتسجد للصنم، وتزاول الخمر والزنا والفاحشة، لا مبادئ لها، ولا قيم، ولا سلوك، ولا أخلاق، ولا نظام.
إن البرية يوم مبعث أحمدٍ نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمةٍ جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
فما هي الطريقة المثلى لنحافظ على هذا الإيمان؟ وبالخصوص في هذا البلد الظالم أهله، الذي ما عرف الله ثراه، وما سجد لله إلا القلة القليلة، كيف نحافظ على الإيمان؟ وكيف نربي شجرة الإيمان؟ وكيف نحافظ على صرح الإيمان؟
إن ذلك بأسباب:(353/2)
المحافظة على الفرائض
أولها -إخوتي في الله-: المحافظة على الفرائض، وأعظمها الصلاة، قال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً} [النساء:103] وقال تعالى: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت:45] أول ما نبدأ بالصلاة، وأول ما يُفقد من الدين الصلاة، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} وقال عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} الصلاة في وقتها روعة المثل والمبادئ، وعظمةُ الإقرار لله بالوحدانية تتمثل في الصلاة.
كتب عمر إلى سعد -رضي الله عن الجليلين النبيلين- يوم كنا سادة الأمم، يوم كنا قادة الشعوب، يوم كان عمر بملحفه الممزق المرقع إذا ذُكِرَ عند كسرى أُغمي على كسرى:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدمٌ له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
كتب إلى سعد وهو في القادسية: [[الله الله في الصلاة، فإن أخوف ما أخاف عليكم ترك الصلاة]] فإذا تركت الصلاة فهو الانهزام والفشل، وإذا تركت الصلاة فهو الزنا والربا والخمر والإلحاد والخروج عن القيم، ولذلك عرف السلف الصلاة فقدَّروها حق قدرها.
حضرت الوفاة سعيد بن المسيب سيد التابعين، فبكت بنته عند رأسه، فقال: يا بنية! لا تبك عليّ، والله ما أذن المؤذن من أربعين سنة إلا وأنا في مسجده عليه الصلاة والسلام.
وقال الأعمش -العالم الزاهد الكبير- لابنته: والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في جماعة أربعين سنة.
إن مصداقية التمثل بهذا الدين في الصلوات الخمس، وإن انتصارك على الشهوات في بلد الشهوات والمغريات، هي أداء الصلوات الخمس في جماعة بخضوعٍ وركوعٍ وسجود.
ولذلك قال ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير: يا رب! أسألك الميتة الحسنة، قالوا: وما الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني الله وأنا ساجد، فقبض الله روحه وهو ساجد.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وإيمانٌ ليس فيه صلاةٌ جماعة بخشوع ليس بإيمان، وإيمان ليس فيه صلاةٌ بأداء وحرارة ليس بإيمان، وإن من علامات النفاق ترك الصلاة جماعة، حتى قال ابن مسعود: [[كنا نعد من يتخلف عن الصلاة منافقٌ معلوم النفاق]].
نشتكي أحوالنا ونشتكي أمراضنا نشتكي أدواءنا ولم نعرف ما هو المرض.
إننا يوم تخلينا عن معالم الإيمان، سلبت ديارنا، وانتهكت مبادئنا، وذهبت عقيدتنا إلا في قلوب من رحم الله تبارك وتعالى.
فلسطين ما ذهبت إلا يوم ضعف الإيمان، وما دمرت أفغانستان إلا يوم ذهب أمثال قتيبة فاتح كابل وأمثالها من المدن؛ ولذلك أنلوم من؟ نلوم أنفسنا، ونلوم ما نحمله في قلوبنا من عدم توطدٍ لهذا الدين.
أمتي هل لك بين الأممِ منبرٌ للسيف أو للقلمِ
أتلقاك وطرفي حاسرٌ أسفاً من أمسك المنصرم
ألإسرائيل تعلو رايةٌ في حمى المهد وظل الحرم
أوما كنت إذا البغي اعتدى موجةٍ من لهبٍ أو من دمِ
يا إخوتي في الله! يا حملة الإيمان في بلاد الطغيان! يا قادة الفكر الموجه! يا ممثل الرسالة الخالدة! لا يمكن أن نحافظ على الإيمان إلا بأصول الإيمان، ومن أعظمها الصلاة.(353/3)
التفكير في مخلوقات الله وآياته
ومن أسباب زيادة الإيمان كما ورد عن أهل العلم والفضل: التفكر في آلاء الله الكونية، والشرعية، فكل شيء يدلك على الله، قال تعالى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20].
يقول سيد قطب -رحمه الله- وهو ينقل عن عالمٍ من علماء هذه البلاد كأنه ابتدع، في كتابه الإنسان لا يقوم وحده اسمه كريسي موريسون، يقول: من دلَّ النحلة على خليتها إذا فارقتها؟ أعندها إريال، قال سيد قطب: بل علَّمها الذي علَّم كل شيء: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن:1 - 4] الذي علم النحلة هو الله جل الله في علاه قال تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68] هو المعلم سبحانه وآياته تشهد على وحدانيته.
وفي كل شيٍ له آيةٌ تدل على أنه واحدُ
فيا عجباً كيف يُعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
إن مما يُربِّي الإيمان، ومراقبة الواحد الديان، واستظهار عظمة الله والخوف منه؛ التفكر في آياته.
نقل ابن كثير في تفسير قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:21] عن الإمام مالك أن هارون الرشيد سأله: ما دليل قدرة الواحد الأحد؟
فقال الإمام مالك: اختلاف الأصوات، وتعدد اللهجات، واختلاف النغمات؛ تدل على فاطر الأرض والسماوات.
ويقول الإمام أحمد في تعريف بسيطٍ لقدرة الباري، ولزيادة الإيمان التي تحدثها هذه الآيات: يا عجباً! هذه البيضة، أما سطحها ففضة بيضاء، وباطنها ذهبٌ إبريز! ألا تدل على السميع البصير؟! جلَّ الله.
يقول شاعر الإيمان في السودان:
قل للطبيب تخطفته يدُ الردى من يا طبيب بطبه أرداكا
قل للمريض نجا وعوفي بعدما عجزت فنون الطب من عافاكا
والنحل قل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاكَا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
لا إله إلا الله! إن عقيدة المسلم دائماً تتزايد وتربو بما يرى ويشاهد من آيات الله البينات، ولذلك فقد وجب علينا وجوباً أن نتفكر في آيات الله الواحد الأحد، وأن نتملى فإنه إيمانٌ سهلٌ بسيط، يدركه الأعرابي في الصحراء، ففي الصحيحين عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: {قدم ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متكئ بين أظهرنا فقال: أين ابن عبد المطلب؟ قلنا: هذا الرجل الأبيض الأمهق المرتفق، فقال له الرجل: يا بن عبد المطلب! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: قد أجبتك، قال: إني سائِلك فمشددٌ عليك في المسألة، فلا تجد علي في نفسك، قال: سل عما بدا لك.
فقال: من رفع السماء؟ قال: الله.
قال: من نصب الأرض؟ قال: الله.
قال: من نصب الجبال؟ قال: الله.
قال: من بسط الأرض؟ قال: الله.
قال: أسألك بمن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ قال: اللهم نعم.
قال: أسألك بمن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أمرك أن نصلي الصلوات الخمس في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم.
قال: أنشدك بالله! آلله أمرك أن نصوم هذا الشهر من السنة؟ قال: اللهم نعم.
قال: آمنت بما جئت به، وأنا رسول الله من ورائي من قومي والله لا أزيد عليهن ولا أنقص منهن، أنا ضمام بن ثعلبة أخو بني سعد بن بكر ثم تولى، فقال عليه الصلاة والسلام: لئن صدق ليدخلن الجنة}.
كل شيءٍ يدلك على الله، السماء الماء الضياء السناء المدر الشجر البشر كلها تقول: إن هناك إلهاً حكيماً قديراً بصيراً.
يا مسلمون! إن أعظم ما نحافظ عليه لنحفظ كياننا ومستقبل أمتنا، هو هذا الدين الذي أتى به محمدٌ عليه الصلاة والسلام، حفظ الإيمان، وكل شيءٌ يضيع ويهدر في سبيل أن يحفظ علينا هذا الدين.
إن هويتنا بين العالم والشعوب هو الإيمان، وإن أسباب ضعفنا بين الأمم يتأتى من ضعف إيماننا ويقيننا وطلب نصرنا مع الله، خرج ثلةٌ من الأفغان عليهم ثياب بالية، ومعهم أسلحةٌ بسيطة يحاربون الحمر البلشفيين، أعظم قوى الأرض، فسحقوها، وقطعوا دابرها إلا قليلاً وأشرفت على الهلاك: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] قال لهم الناس: تعالوا إلى هيئة الأمم المتحدة، قالوا: آمنا بالله وكفرنا بـ هيئة الأمم، قال لهم الناس: تحاكموا إلى مجلس الأمن، قالوا: آمنا بالله وكفرنا بـ مجلس الأمن.
يا أمةٌ في عمرها لم تحى إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلي الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد(353/4)
الإكثار من النوافل
ومن أسباب زيادة الإيمان! النوافل، أن تكون عبداً لله، وليست العبودية كما قالت المرجئة: إيمانٌ يكمن في القلب وتصديقٌ ومعرفة، فإن هذا قد يوجد بعضه عند فرعون وقارون وهامان.
إنما الإيمان: صلاةٌ ونافلة سجودٌ وتسبيح، الإيمان دعاءٌ وبكاء، وتوجه وتوسل إلى الحي القيوم، ففي صحيح مسلم عن ربيعة بن مالك الأسلمي قال: {يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: هو ذاك، قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود} وعند الإمام مسلم من حديث ثوبان {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة} طريق الجنة النوافل، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري أنه قال: {يقول الله عز وجل: ما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به} الحديث.
معنى هذا: أن في الناس مقتصدين، وسابقين بالخيرات، أما السابق هذا فله نوافل، وأيامه أوراد ولحظاته وأنفاسه كلها تسبيح، وتوجه للحي القيوم.
ألا إن أعظم ما يحفظ الإيمان النوافل، وإن مصداقية المؤمن تكمن في كثرة النوافل، وكثرة السجود، ألا وإن كثرة السجود والإكثار من الذكر وتدبر القرآن سياجاتٌ وخطوطٌ دفاعية عن الإيمان، ألا وإن أعظمنا عند الله قدراً أطوعنا له، وأحسننا تبتلاً إليه، وأكثرنا له عبودية، فتبارك الله رب العالمين.
إخوتي في الله! إن النوافل أمرها عظيم عند أهل العلم، ولذلك ذكروا في تراجم الصالحين أخباراً مشيدة عن تبتلهم في الليالي، وكثرة ذكرهم، وتدبرهم.
إن قضية الجفاف الروحي الذي نعيشه اليوم سببه إرهاصات وثقافات أتت لتقول للإنسان: لا داعي للنوافل، فالدين قشور ولباب!!
أتت لتقول للإنسان: القضايا النظرية لا بد أن تحلل تحليلاً عقلياً لتصلح هذه الأمة.
ألا يا أيها الأخيار! ألا يا أيها الأبرار! إني أدعو نفسي وإياكم إلى كثرة النوافل، وإلى التسديد والمقاربة، وإلى معرفة أن الطريق والهداية لا تكون إلا في القرب من الله.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إنه هو التواب الرحيم.(353/5)
ثمرات ونتائج الإيمان
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
إذا الإيمان ضاع فلا أمانٌ ولا دنيا لمن لم يحي دينا
ومن رضي الحياة بغير دينٍ فقد جعل الفناء لها قرينا
لا حياة لنا إلا بالإيمان، وضرورته أهم من ضرورة الماء والهواء، وفقدان ذلك إنما يكون هلاكاً وموتاً، وأما فقدان هذا فهو الموت المحقق في الدنيا والآخرة.
إخوتي في الله! إذا حصلنا على الإيمان وحافظنا عليه، فما هي ثمراته ونتائجه؟
له ثمراتٌ عشر، وأعدُّ ثلاثاً للمقام:(353/6)
الحياة الطيبة
أولاً: أعظم ثمرات الإيمان: الحياة الطيبة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] حرامٌ على من أعرض عن الله الحياة الطيبة، وحرامٌ عليه السعادة والسرور، قال سبحانه: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
قال أحد الصالحين بعد أن تاب: "ذقت كل شيء فما وجدت كالتقوى".
وقال إبراهيم بن أدهم وهو مؤمنٌ صالحٌ مقبل على الله: "نحن في سعادة لو يعلم بها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف".
العيش مع الله! السعادة الكامنة في الإيمان، وفي النوافل التي جعلت المؤمن يرى الذهب والفضة كأنها أكواماً من تراب، ويرى القصور كأنها ثكناتٍ من صخور، ويرى المناصب كأنها لا شيء؛ لأنه بإيمانه ويقينه وإقباله على الله استثمر الإيمان.(353/7)
الفوز بالجنة والنجاة من النار
ثانياً: الفوز بالجنة والنجاة من النار، اللهم نجنا من النار!! فالنار أمرها عظيم، قال تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] وقال سبحانه: {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [آل عمران:192]
الفوز بالجنة، تقول بعض طوائف المبتدعة: نحن نعبد الله لا طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، فكذبهم أهل السنة، وقالوا: لا.
إن من أعظم المطالب عند أهل الإسلام: الفوز بالجنة، والفوز بالجنة هو الذي جعل من حنظلة، الصحابي الشاب يترك، زوجته الجميلة في الليلة الأولى، ويترك أهله وبيته وعقاره، ويأخذ سيفه ويقبل على الله غير مغتسلٍ لعجلة أن يقدم روحه في سبيل الله، ويقول وهو في الطريق: [[يا رب! خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]] وحديثه صحيح.
ومن الذي باع الحياة رخيصةً ورأى رضاك أعز شيءٍ فاشترى
أمَّن رمى نار المجوس فأطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
قُتل في المعركة، وعلم الله أنه صادق، وارتفعت نفسه إلى الحي القيوم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30] فاضت روحه، التفت عليه الصلاة والسلام فرآه يغسل بين السماء والأرض في صحاف الذهب بماء المزن قال: {سلوا أهله! قالوا: مات جنباً فلم يغتسل، قال: لقد غسلته الملائكة} هنيئاً لك الصدق يا حنظلة، وهنيئاً لك الخلود، وهنيئاً لك العيش الطيب.
وكم نذكر من النماذج التي ربَّاها محمد عليه الصلاة والسلام على سمعٍ وبصر، يأتي جعفر الطيار في مؤتة فتقطع يمناه، فيأخذ الراية باليسرى، فتُقطع اليسرى، فيحتضن الراية، فتكسر الرماح في صدره وهو يقول متبسماً:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبةٌ وباردٌ شرابها
والروم رومٌ قد دنا عذابها كافرةٌ بعيدةٌ أنسابها
عليّ إن لاقيتها ضرابها
أيُربَّى على هذا إلا من عرف طريقه إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض.
لم يمنِّ محمدٌ عليه الصلاة والسلام أصحابه بالملك، ولا بالمناصب، ولا بالعمارات، ولا بالسيارات، قالوا: نريد ملكاً، قال: الجنة، قالوا: نريد طعاماً، قال: الجنة، قالوا: نريد ذهباً وفضة، قال: الجنة.
صح عند البخاري وغيره أن عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري قتل في المعركة، ضرب بأكثر من ثمانين ضربة، فأتى ابنه جابر يبكي وأبوه مقتول، فقال عليه الصلاة والسلام: {يا جابر! ابك أو لا تبكي، والذي نفسي بيده! ما زالت الملائكة تظلل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده! لقد كلَّم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، فقال: تمنى، فقال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا، فأُقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون فتمنى، قال: أتمنَّى أن ترضى عني، فإني قد رضيت عنك، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً}
أيفعل البلشفي الأحمر الذي يقاتل عن مبادئ لينين واستالين يفعل هذا؟! لا والله، يقاتل لمبادئ رخيصة، ويفرون من المعارك؛ لأنهم يريدون الحياة، وأصحاب محمد عليه الصلاة السلام يريدون ما عند الله، يريدون الجنة، ولذلك كان السلف الصالح دائماً يتطلعون إلى الجنة، ومن ثمرات إيمانك: أنك إذا بخست حظاً من الحظوظ أو أحرمت طعاماً، أو لم تحصل على منصب، أو لم تنل منزلة أو شهرة، فاعلم أن الجنة تنتظرك إذا صدقت مع الله.
نسأل الله لنا ولكم الجنة.(353/8)
حفظ الله للعبد
ثالثاً: من ثمرات الإيمان: حفظ الله للعبد، وإنني أكتفي في هذه الخطبة أن أقدم لكم حديثاً يجب علينا أن نحفظه حفظاً وتطبيقاً وعملاً وسلوكاً، فقد ورد عند الترمذي وأحمد من حديث ابن عباس بسندٍ صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: {يا غلام! إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
قال بعض السلف: "والله إن الله يحفظ الصالح في أهله وماله، وفي جويرية أهله، ومن ضيع الله ضيعه الله".
سنة من سنن الله الكونية الخلقية، والأمرية الشرعية، أنَّ من ضيع الله في أوامره؛ ضيعه في مستقبله، وفي علمه، وفي دراسته {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].(353/9)
وصايا لشباب الصحوة
يا شباب الإسلام! يا دعاة الحق! يا حملة الرسالة! عندي في ختام هذه الخطبة ثلاث وصايا، ونصائح، أسأل الله أن ينفع بها:(353/10)
الحرص على طلب العلم الشرعي
الوصية الأولى: أن نتوجه توجهاً صادقاً إلى مصدر التلقي -الكتاب والسنة- فنحرص كل الحرص على العلم الشرعي، قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] علم قال الله وقال رسوله، التحفيظ، معرفة أين مصدرنا، أين أساس عظمتنا، أين حبلنا الممدود من الأرض إلى السماء؟ الكتاب والسنة.(353/11)
نبذ الخلاف
الوصية الثانية: نبذ الخلاف، وعدم التهميش وإطاعة الشيطان في التحريش؛ فإن هذا من الغرض الذي هدم به كياننا، وضربت به أمتنا ضربةً ما بعدها ضربة، وأن نتآلف، ونتقارب، وننسى الجفاء، ونستبدل الكلمة الفضة الغليظة بالكلمة السهلة اللينة، علَّ الله أن يجمع شملنا.(353/12)
الانتباه إلى الأخطار التي تحدق بالأمة
الوصية الثالثة: أن نتنبه إلى الأخطار المحدقة، وعلم الواقع والأخطار التي تحاك ضد الأمة الإسلامية، وما أوتينا إلا من عقر دارنا، وما ابتلينا إلا من ذنوبنا وخطايانا، ويوم نسدد مسيرتنا مع الله، ويوم نحفظ الله، يحفظنا الله، ويرعانا، ويهدينا.
رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ، رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ، ربنا كفر عنا سيئاتنا، وتقبل منا أحسن ما عملنا فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ.
اللهم ردنا إليك رداً جميلاً، اللهم رد علينا مقدساتنا، وإيماننا، وعظمتنا، اللهم أعد لنا مجدنا المسلوب، اللهم ثبتنا على الحق وعلى نهج محمد صلى الله عليه وسلم حتى نلقاك، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، اللهم صلِّ وسلم على رسولك الذي أرسلته للعالمين مبشراً ونذيراً، وعلى آله وصحبه، وكل من سار على منواله إلى يوم نلقاك.(353/13)
أول ليلة في القبر
إن ذكر الموت والقبر وما فيهما من الأهوال العظام، والأحوال الجسام، قد أقض مضاجع الصلحاء، وأبكى الأتقياء والعلماء، سيما تذكرهم أول ليلة في القبر وما فيها من الوحشة وتغير الحال، وهول المطلع وخوف سوء المنقلب؛ ولذلك سارعوا بالأعمال الصالحة رجاء حسن المنقلب والعاقبة.(354/1)
هول القبر ووحشته
الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون
القبر أول ليلةٍ بالله قل لي ما يكون
ليلتان اثنتان يجعلهما كل مسلمٍ في مخيلته: ليلة وهو في بيته مع أطفاله وأهله، منعماً سعيداً في عيشٍ رغيد، وعافية وصحة، يضاحك أطفاله ويضاحكونه، مع زوجته وأقاربه، والليلة التي تليها مباشرة ليلة أتاه الموت فوضع في القبر لأول مرة يقول الشاعر العربي:
فارقت موضع مرقدي يوماً ففارقني السكون
يقول: انتقلت من مكان إلى مكان، وذهبت من موضع نومي في بيتي إلى بيتٍ آخر؛ فما أتاني النوم، فبالله كيف تكون الليلة الأولى في القبر حين يوضع الإنسان فريداً وحيداً إلا من العمل؟ لا زوجة ولا أطفال ولا أنيس: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].
أول ليلة في القبر؛ بكى منها العلماء، وشكا منها الحكماء، ورثى فيها الشعراء، وصنفت فيها المصنفات.
أُتي بأحد الصالحين وهو في سكرات الموت، قد لدغته حية، وكان في سفرٍ فنسي أن يودِّع أمه وأباه، وأطفاله وإخوانه، فقال قصيدةً يلفظها مع أنفاسه، وتعتبر أم المراثي العربية في الشعر العربي، يقول وهو يزحف إلى القبر:
فلله دري يوم أترك طائعاً بني بأعلى الرقمتين وماليا
يقولون لا تبعد وهم يدفنونني وأين مكان البعد إلا مكانيا
يقول: كيف أفارق أطفالي في لحظة؟ لماذا لم أستأذن أبوي؟ أهكذا تختلف الحياة؟ أهكذا أذهب؟ أهكذا أفقد كل ممتلكاتي ومقدراتي في لحظة؟
ويقول عن نفسه: يقول لي أصحابي والذين يتولون دفني: لا تبعد، أي: لا أبعدك الله، وأين مكان البعد إلا هذا المكان؟ وأين الوحشة إلا هذا المنقلب؟ وأين المكان المظلم إلا هذا المكان؟ فهل تصور متصورٌ هذا؟
قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون:99 - 100] كلا! آلآن تراجع حسابك؟ آلآن تتوب؟! آلآن تنتهي عن المعاصي؟!
يا مدبراً عن المساجد ما عرف الصلاة! يا معرضاً عن القرآن! يا منتهكاً لحدود الله! يا ناشئاً في معاصي الله! يا مقتحماً لأسوارٍ حرمها الله! آلآن تتوب؟ أين أنت قبل ذلك؟(354/2)
حزن زوجة الحسن بن الحسن على زوجها
قال مؤرخو الإسلام: مات الحسن بن الحسن من أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، وكان عنده زوجةٌ وأطفال، وكان في سن الشباب، والموت لا يستأذن شاباً ولا غنياً، ولا أميراً ولا ملكاً، ولا وزيراً ولا سلطاناً، الموت يقصم الظهور، ويخرج الناس من الدور، وينزلهم من القصور، ويسكنهم القبور بلا استئذان.
مات الحسن بن الحسن مات فجأة، ونقلوه إلى المقبرة، فحزنت عليه امرأته حزناً لا يعلمه إلا الله، وأخذت أطفالها وضربت خيمةً حول القبر -وهذا ليس من عمل الإسلام، ولولا أنَّ مؤرخي الإسلام ذكروه ما ذكرته- وأقسمت بالله لتبكين هي وأطفالها على زوجها سنةً كاملة هلعٌ عظيم، وحزنٌ بائس، وبقيت تبكي، فلما انتهت السنة أخذت أطناب الخيمة وحملتها، وأخذت أطفالها في الليل، فسمعت هاتفاً يقول لصاحبه في الليل: هل وجدوا ما فقدوا؟ فردَّ عليه هاتفٌ آخر يقول: لا.
بل يئسوا فانقلبوا، ما وجدوا ما فقدوا، ما وجدوا ضيعتهم ولا وديعتهم.
كنز بحلوان عند الله نطلبه خير الودائع من خير المؤدينا
قال: لا.
بل يئسوا فانقلبوا، ما كلمهم من في القبر، وما خرج إليهم ولا ليلةٍ واحدة، وما قبَّل أطفاله، وما رأى فتاته، لا.
ولذلك هذه هي أول ليلة، ولكن لها ليالٍ أخرى إذا أُحسن العمل، قال الله جلَّ وعلا: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
نحن في أبها فقدنا قبل شهرٍ أو ما يقاربه شابين اثنين، من أسرتين من أسر أبها، وقع عليهم حادث انقلاب وهم سائرون في طاعة الله، فكانت اللوعة، وعزاؤنا في الله أنهما كانا شابين صالحين، مستقيمين على أمر الله، أمَّا أحدهما فكان صاحباً للقرآن والقرآن صاحبه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه} هذا الشاب كان يختم القرآن كل سبعة أيام، وقال والده: كان يقوم الليل، وما أحسن قيام الليل! فلذلك خفَّت المصيبة؛ لأنه قدم على روضة من رياض الجنة إن شاء الله، وزميله الآخر كان مستقيماً على أمر الله، لا يعرف إلا المسجد، والمصحف، والرفقة الصالحة، ولكن: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62].(354/3)
أبو العتاهية يعظ هارون الرشيد
أتى أبو العتاهية يقول لسلطان من السلاطين الذين غرتهم قصورهم، وما تذكروا أول ليلةٍ ينزل فيها القبر، ونحن نقول لكل عظيمٍ ومتكبرٍ ومتجبر: أما تذكرت أول ليلة؟
هذا السلطان بنى قصوراً في بغداد، فدخل عليه الشاعر يهنئه بالقصور، ويقول له:
عش ما بدا لك سالماً في ظل شاهقة القصور
يجري عليك بما أردت مع الغدو مع البكور
عش ما بدا لك سالماً، عش ألف سنة، أو مليون سنة سالماً معافى مشافى، وما تريد من طعام وشراب فهو عندك، لكن اسمع ما يقول:
فإذا النفوس تغرغرت بزفير حشرجة الصدور
فهناك تعلم موقناً ما كنت إلا في غرور
فبكى السلطان حتى أُغمي عليه.
أول ليلة في القبر، وأنا أطالب نفسي وإياكم -يا معاشر المسلمين- أن نهيئ لنا نوراً في القبر أول ليلة، فوالله لا ينور لنا القبر إلا الإيمان والعمل الصالح، فلنقدم لنا ما يؤنسنا في القبر؛ يوم ننقطع عن الأهل والمال والولد والأصحاب.(354/4)
قصة ذي البجادين
خرج صلى الله عليه وسلم إلى تبوك، وفي ليلة من الليالي نام هو والصحابة، وكانوا في غزوةٍ في سبيل الله، قال ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: {قمت في الليل فنظرت إلى فراش الرسول عليه الصلاة والسلام فلم أجده في فراشه، فوضعت كفي على فراشه فإذا هو بارد، وذهبت إلى فراش أبي بكر فلم أجده على فراشه، فالتفت إلى فراش عمر فما وجدته -وسط الليل- قال: وإذا بنورٍ في آخر المخيم في طرف المعسكر، فذهبت إلى ذلك النور، فإذا قبرٌ محفور، والرسول عليه الصلاة والسلام قد نزل في القبر، وإذا جنازةٌ معروضة، وإذا ميتٌ قد سجي في الأكفان، وأبو بكر وعمر حول الجنازة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول لـ أبي بكر وعمر: دليا لي صاحبكما؟ فلمَّا أنزلاه، أنزله عليه الصلاة والسلام في القبر، ثم دمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، ثم التفت إلى القبلة ورفع يديه، وقال: اللهم إني أمسيت عنه راضٍ فارضَ عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا أخوك عبد الله ذو البجادين مات في أول الليل، قال ابن مسعود: فوددت والله أني أنا الميت}.
حين سمع قوله صلى الله عليه وسلم {اللهم إني أمسيت عنه راضٍ فارض عنه} وإذا رضي الله عن العبد أسعده.
وإنما هي مسائلة لمن نسي الله وأوامره وانتهك حدوده، نقول له: هل تذكرت يا أخي أول ليلة في القبر؟!(354/5)
عمر بن عبد العزيز وتذكره الموت
كان عمر بن عبد العزيز أميراً من أمراء الدولة الأموية يغيِّر ثوب من ديباج في اليوم أكثر من مرة، الذهب والفضة عنده، والخدم، والقصور، والمطاعم، والمشارب، وعنده كل ما اشتهى وطلب وتمنى، ولمّا تولى الخلافة، وملك الأمة الإسلامية، انسلخ من ذلك كله؛ لأنه تذكر أول ليلة في القبر، وقف على المنبر -يوم الجمعة- فبكى وقد بايعته الأمة، وكان حوله الأمراء والوزراء، والشعراء والعلماء، وقواد الجيش، قال: [[خذوا بيعتكم، قالوا: لا نريد إلا أنت]] فتولاها، فما مر عليه أسبوعٌ أو أقل إلا وقد هزل وضعف وتغيَّر لونه، وما عنده إلا ثوبٌ واحد، قالوا لزوجته: ما لـ عمر قد تغير؟ قالت: والله لا ينام الليل، والله إنه يأوي إلى فراشي فيتقلب كأنه ينام على الجمر، ويقول: [[آه! توليت أمر أمة محمدٍ؛ يسألني يوم القيامة الفقير والمسكين والطفل والأرملة]].
يقول له أحد العلماء: يا أمير المؤمنين! رأيناك قبل أن تتولى الملك وأنت في مكة في نعمةٍ وصحة وعافية، فما لك تغيرت؟ فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، ثم قال للعالم وهو ابن زياد: كيف يا ابن زياد لو رأيتني في القبر بعد ثلاثة أيام؛ يوم أجرد عن الثياب، وأوسد التراب، وأفارق الأحباب، وأترك الأصحاب، كيف لو رأيتني بعد ثلاث، والله لرأيت منظراً يسوءك.
فنسأل الله حسن العمل.
والله لو عاش الفتى في عمره ألفاً من الأعوامِ مالك أمره
متلذذاً فيها بكل لذيذةٍ متنعماً فيها بسكنى قصرهِ
لا يعتريه الهم طول حياته كلا ولا ترد الهموم بصدرهِ
ما كان ذلك كله في أن يفي فيها بأول ليلةٍ في قبرهِ
والله لو عاش ألف سنة وما طرقه همٌ ولا غمٌ ولا حزن، والله لا يفي بأول ليلةٍ في القبر، ووالله لننزلنَّها جميعاً.(354/6)
القبر أول منازل الآخرة
فيا عباد الله! أسأل الله لي ولكم الثبات، ماذا أعددنا لضيافة تلك الليلة، يقول رسولنا عليه الصلاة والسلام: {القبر روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار}.
كان الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه إذا شيع جنازة بكى حتى يُغمى عليه؛ فيحملونه كالجنازة إلى بيته، قالوا: ما لك؟ قال: سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {القبر أول منازل الآخرة، فإذا نجا العبد فيه أفلح وسعد، وإذا خسر -والعياذ بالله- خسر آخرته كلها}.
والقبر روضةٌ من الجنان أو حفرة من حفر النيرانِ
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(354/7)
التهيؤ للقبر بالعمل الصالح
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
أتيت قبور الرؤساء والمرءوسين الملوك والمملوكين الأغنياء والفقراء، فناديتها: أين المعظم والمحتقر؟
تفانوا جميعاً فما مخبرٌ وماتوا جميعاً ومات الخبر
فيا سائلي عن أناسٍ مضوا أما لك في ما مضى معتبر
تروح وتغدو بنات الثرى فتمحو محاسن تلك الصور
أرأيت أن قبراً مُيِّز عن قبر؟! أأنزل الملك في قبرٍ من ذهبٍ أو من فضة؟! والله لقد ترك ملكه، وقصوره، وجيشه، وكل ما يملك، ولُبِّس قطعة من القماش كما نلبس، وأنزل التراب.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا(354/8)
صور من العاملين للآخرة
كثيرٌ من الناس علموا بالقبر وأول ليلةٍ فيه فأحسنوا العمل، ولذلك تجدهم متهيئين دائماً، يريدون الله والدار الآخرة، ثبتهم الله في الليل والنهار، يترقبون الموت كل طرفة عين.
خرج رجلٌ من الصالحين، وشيخٌ من المشايخ -أعرفه- من مدينة الرياض يريد العمرة بزوجته وأطفاله، وكانت زوجته صائمة قائمة ولية من أولياء الله، وفي تلك السفرة حدث شيء غريب وهو أنها ودعت أطفالها، وكتبت وصيتها، وقبَّلت أطفالها وهي تبكي؛ كأنه ألقي في خلدها أنها سوف تموت {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:62] ذهب واعتمر بزوجته وكان هو وإياها في بيتٍ أُسس على التقوى، إيمانٌ وقرآنٌ، وذكرٌ وصيامٌ، وقيامٌ وعبادة، لا يعرفون الغيبة ولا الفاحشة ولا المعاصي، ولما رجع قطع طريق الطائف إلى الرياض فأتى الأجل المحتوم إلى زوجته {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [الروم:6 - 7] ذهب إطار السيارة فانقلبت، فوقعت المرأة على رأسها، لكنها إن شاء الله شهيدة {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] وخرج زوجها من الباب الآخر ووقف عليها، وهي في سكرات الموت، تقول: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله، الله الله الله وتقول لزوجها: عفا الله عنك، اللقاء في الجنة، بلغ أهلي السلام {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21].
إي والله: أسأل الله أن يجمع تلك الأسرة في الجنة، وأن يجمعنا وأحبابنا وأقاربنا في الجنة.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
عاد الرجل وحده إلى الرياض، ودخل بيته، واستقبله الأطفال، وكان قد دفن زوجته وأتى بلا زوجة حياةٌ سهلةٌ وبسيطة، ولكن الموقف المرعب أن إحدى أطفاله، قامت تقول: أين أمي؟! قال: سوف تأتي، قالت: لا والله لا بد أن أرى أمي، وانهار الرجل، وقال لتلك الطفلة: سوف ترينها -بإذن الله- في جنةٍ عرضها السماوات والأرض، يعمل لها العاملون، ليست كدنيانا الحقيرة السخيفة التي يعمل لها الذين لا يريدون الله والدار الآخرة {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133].
فاعمل لدارٍ غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهبٌ والمسك طينتها والزعفران حشيشٌ نابت فيها
يا إخوتي في الله! يا شيخاً كبيراً احدودب ظهره ودنا أجله! هل أعددت لأول ليلة؟
يا شاباً متنعماً غرَّه الشباب، والمال والفراغ، هل أعددت لأول ليلة؟
إنها أول الليالي، وإنها إما أول ليلةٍ من ليالي الجنة، أو أول ليلةٍ من ليالي النار.
عباد الله: صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة والسلام عليه، وصلوا على أصحابه وترضوا، وعلى أحبابه.
أسأل الله لي ولكم الرضوان والسعادة في الدنيا والآخرة، وأسأل الله أن يصلح ولاة الأمر، وأن يهديهم سواء السبيل، وأسأل الله أن يصلح شباب الإسلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويكفر عنهم سيئاتهم، ويهيئهم بعملٍ صالحٍ لأول ليلة من ليالي القبر.
أسأل الله أن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت، ولا يُظْلِمَ أبصارنا وبصائرنا، ولا يجعلنا قوماً انحرفوا عن منهج الله، وابتغوا معاصي الله، وغفلوا عن آيات الله؛ فعموا وصموا، وظلوا وابتعدوا.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(354/9)
إخاء غير مفتعل
رابطة الأخوة في الله رابطة قوية لا تعادلها أي رابطة، وقد أسس الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم مدرسة لتأليف القلوب، هذه المدرسة يدرس فيها مواد كثيرة تقوي رابطة الأخوة بين المؤمنين، بيّن فيها صلى الله عليه وسلم حقوق الإخاء وأمراضه.
في هذا الدرس تجد بياناً مفصلاً لما سبق.(355/1)
الأسباب الداعية لطرح موضوع الأخوة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
إنني أشكر الله الذي جمعني بكم في هذا المجلس الطيب العطر الطاهر، الذي هو من آثار الإخاء الذي أقامه محمد عليه الصلاة والسلام، ثم أشكر من كان سبباً في هذا الموسم الثقافي، ومن كان سبباً في هذا اللقاء الطيب بكم.
إن عنوان المحاضرة هو: (إخاء غير مفتعل).
اخترت هذا العنوان لسببين:
السبب الأول: لكثرة إهمال الناس في للإخاء، ولكثرة الخطيئة بين الأصفياء.
السبب الثاني: حاجتنا -بالأخص- في هذه الفترة الحرجة من فترات التاريخ، التي تتطلب منا أن نكون صفاً واحداً كالبنيان الواحد؛ يشد بعضه بعضاً، صفوفاً متراصة كصفوفنا في الصلاة.
أما عناصرها فإليكم إياها:
1 - روابط الناس الأرضية.
2 - أسس رابطة السماء التي جاء بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
3 - مدرسة تأليف القلوب، من هم طلاَّبها وأشياخها؟
4 - مواد هذه المدرسة وما يُدَّرس فيها؟
5 - المنهج الربَّاني قاسم مشترك بين القلوب.
6 - مادة البذل بين الإخوة في الله.
7 - {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
8 - مادة حقوق الإخاء، وهي متشعبة سوف أذكرها إن شاء الله.
9 - أمراض الإخاء، وما هو سبب تصدع هذا البناء؟
10 - الفوارق بين الصحابة وغيرهم في مبدأ الإخاء.
11 - واجبنا نحن الخلف بعد السلف في الأخوة، وما هي الإيرادات على هذا الموضوع؟ والله المستعان!(355/2)
روابط الناس الأرضية
أيها الناس! لما ارتحل عليه الصلاة والسلام من مكة إلى المدينة قام بإنجازين عظيمين:
الإنجاز الأول: بناء المسجد للصلاة.
والإنجاز الثاني: توحيد القلوب وتقويتها بالصلة مع الله.
فلما بنى مسجده عليه الصلاة والسلام أسسه على التقوى، ولما ألَّف بين القلوب ألَّف بينها على التقوى، قال سبحانه: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
اجتمع الناس قبله عليه الصلاة والسلام على روابط، فمنهم من جعل رابطة الدم هي الرابطة الوحيدة التي تجمع الناس، ومنهم من رضي باللون، فمايز بين الناس؛ بين الأبيض والأحمر والأسود.
ومنهم من رضي بالوطن؛ فعشق الوطن وعبده، وتغزل به وقبَّل ترابه.
ومنهم من جعل الجنس رابطته.
وأما محمد عليه الصلاة والسلام فأتى برابطة لا تفصم، ولا تقطع، ولا تموت، ولا تمرض؛ لأنها نزلت من العرش، من عند الرحمن الذي على العرش استوى، والله هو الذي أملك وهو الذي أنزل، فأول الرابطة والحبل عند الله، وآخر الحبل في قلوب المؤمنين، فامتن الله عليهم بقوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] فله الحمد والشكر أن آخى بين هذه الأمة وألف بين قلوبها.(355/3)
أسس رابطة السماء التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم
الأولى: أن التباذل فيها بفضل الواحد الأحد، قال سبحانه: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] فيتساقط أبو لهب وأبو جهل والوليد بن المغيرة وهو من أشرف أسر مكة، ومن أشرف بيوتات العرب، ويثبت بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي لأن الرابطة {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
الثاني: انتصار هذا الرابطة بين الدنيا والآخرة.
فهي ليست رابطة أرضية ولا اشتراكية، ولا شيوعية، ولا قومية، ولا بعثية، ولا ناصرية، حدودها القبر، فهي تصل إلى القبر ثم تنتهي، أما رابطتنا فقبل القبر وفي القبر وبعد القبر، وحتى نصل إلى الله.
في كفك الشهم من حبل الهدىطرفٌ على الصراط وفي أرواحنا طرف
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
فهي رابطتنا التي تصلنا بالله، ولذلك ذكر الله هذه الرابطة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله عز وجل يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي}.
أين المتحابون بجلالي؟ أين أهل القلوب المتعانقة والأرواح المتآخية؟
اليوم جزاؤهم وثوابهم أن يظلوا في ظل الله يوم لا ظل للكيانات والأنظمة الوضعية، فهذه ميزة الرابطة.
الثالث: أنها رابطة ذات مقتضيات ومتطلبات، القيام بها واجب، وتركها حرام منكر.
ومن أتى بهذه الواجبات؟ هو محمد عليه الصلاة والسلام.
ما هو ثمرات هذا الإخاء؟ أموائد المجتمع عليها؟ أم تحقيق طموحات أرضية؟ أم حكم بلد؟ أم حزب له أطماع اقتصادية؟
لا.
ثمرته عقيدة، لأن الأخوة من أوثق عرى الإيمان؛ قال سبحانه: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
وعن ابن عمر موقوفاً عليه قال: [[والذي نفسي بيده! لو أنفقت أموالي غلقاً غلقاً في سبيل الله، وصمت النهار لا أفطره، وقمت الليل لا أنامه، ثم لقيت الله لا أحب أهل الطاعة، ولا أبغض أهل المعصية؛ لخشيت أن يكبني الله على وجهي في النار]].
فأوثق عرى الإيمان أن تحب في الله وتبغض في الله، فهذه ثمرتها، وبيَّن صلى الله عليه وسلم ذلك؛ فقال كما في الصحيحين عن أنس: {ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان ومنها: أن يحب المرء لا يحبه إلا لله} لا لجنسه، ولا لأسرته، ولا لنسبه، ولا لماله؛ ولكن لأنه عبدٌ لله؛ ولأنه قريب من الله.
وقد ذكر شيخ الإسلام رحمه الله في كلامه عن الولاء والبراء والحب والبغض: أن هذا الحب نسبي يتجزأ، وأنك تحب هذا بمقدار قربه من الله، وتبغضه بقدر ما فيه من معصية، فقد يجتمع في الشخص الواحد حب وبغض، تحبه من جانب طاعته، وتبغضه من جانب معصيته: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3].
ولا يجوز الإسراف في البغض ولا في الحب، وهذا مذهب متطرف لايرضاه الله، وكثير من الناس يعتنقونه، حتى في صفوف طلبة العلم والدعاة، فإن رضي عن شخص غض عن سيئاته، وإن غضب على شخص ترك حسناته ونسيها، وهذا خطأ، وهناك حديث في الأدب المفرد وهو من كلام علي رضي الله عنه -ولو أن بعض أهل العلم يراه من كلام الرسول عليه الصلاة والسلام- يقول: [[أحبب حبيبك هوناً ما؛ فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما؛ فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما]].
فالاعتداء في الحب يعمي عن معرفة النقص، والخطأ والاعتداء في البغض يعمي عن معرفة المحاسن، وكلا هذين الطرفين خطأ، والوسط هو المطلوب: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
ولقد جعل الله عز وجل ميزاناًَ للإخاء، وميزاناً للحكم، وميزاناً للعدل بين الناس، فيما يسمى مبدأ الجرح والتعديل، فقال في العدو: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] وقال في القريب: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء:135].
فالقريب كل القرب لا تحملك قرابته لك أن تنسى سيئاته، والبعيد كل البعد لا تحملك عداوتك له أن تنسى حسناته؛ بل العدل هو المطلوب وهو الميزان الذي أنزله الله لأفكار ومعتقدات الناس وحكمهم، وأنزل معه السيف.(355/4)
مدرسة تأليف القلوب
واعلموا حفظكم الله أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقام مدرسة الإخاء، وكان يستعذبها هو وأصحابه، وعند الترمذي بسند حسن بمجموع طرقه، أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال لـ عمر وهو يستأذنه للعمرة: {لا تنسنا من دعائك يا أخي.
قال عمر كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها}.
وليس هذا من أجل الكلمة فحسب، بل لقائلها، فالذي قالها محمد عليه الصلاة والسلام؛ قالها لأحد طلابه وتلاميذه، وتواضع في جلالة قدره وقال: يا أخي! فهي أخوة الإيمان.
ولما أراد عليه الصلاة والسلام أن يتزوج عائشة قال أبو بكر: {يا رسول الله! كيف تتزوجها وأنت أخي؟ -لأن أبا بكر ظن أن الأخوة الإسلامية تمنع النكاح- قال: أنت أخي وهي حِلٌ لي} فليس هناك رضاع ولا نسب، لكن هناك نسب ورضاع أعظم من النسب ومن الرضاع، وهو نسب التوحيد ورضاع الوحي، و {يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب}.
قام عليه الصلاة والسلام بهذه المدرسة؛ فصار الأخ يحمل روح أخيه، وصاروا أعظم مما قال الشاعر السني الإيراني السعد الشيرازي:
قال لي المحبوب لما زرته من ببابي قلت بالباب أنا
قال لي أخطأت تعريف الهوى حينما فرقت فيه بيننا
ومضى عامٌ فلما جئته أطرق الباب عليه موهنا
قال لي من أنت قلت انظر فما ثمَّ إلا أنت بالباب هنا
قال لي أحسنت تعريف الهوى وعرفت الحب فادخل يا أنا
وهذه وحدة الصوفية، إنما وحدة الإيمان أن تكون أنت أخاك في مظهرك ومخبرك، وتذب عنه وتحبه وتدافع عنه، وتعيش آلامه وطموحاته.(355/5)
مواد مدرسة تأليف القلوب وما يدرس فيها(355/6)
المنهج الرباني قاسم مشترك بين القلوب
أما مواد هذه المدرسة؛ فإن المادة الأولى هي: مادة توحيد المنهج، فلن يجمع الرسول صلى الله عليه وسلم المتردية والنطيحة وما أكل السبع، ولن يرضى صلى الله عليه وسلم أن يدخل قبائل العرب بالعصا، أو أن يجمع بينهم بإرادةٍ اقتصادية أو أدبية أو فكرية أو حزب أو طموح أرضي إنما يجمعهم على مبدأ (إياك نعبد وإياك نستعين) {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6].
فلا تلفيق ولا ترقيع، إنما هو صفاء، يُعلِّمهم عليه الصلاة والسلام بمنهجه، ثم يجمعهم ولا يهمه الكثرة، لكن بعض الناس يجمع، ويقول: لا تأت بأمور تفرق الجمع وربما كان ما يريك أن تتركه من المرتكزات الأساسية وإنما اجمع اجمع، وهؤلاء غثاء كغثاء السيل، فالرسول صلى الله عليه وسلم بدأ يبني مجتمعاً لبنةً لبنةً: زيد مولى، وأبو بكر حر، وعلي صبي، وخديجة امرأة، ثم بنى منهم لبنات الرجال والموالي والصبيان والنساء؛ حتى اكتمل البناء: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح:29].
وهذا بناؤه عليه الصلاة والسلام الشامخ العظيم الذي تركه في الناس.
أما التجميع على غير منهج رباني، فرأيناه في المجتمعات التي جمعت الناس على مذاهب وضعية، أو على نحل أرضية، ورأينا كيف تبددوا، بل لما دخل الناس زرافاتٍ ووحداناً، ودخلوا في دين الله أفواجاً؛ فهؤلا مسلمة الفتح لم يتلقوا تربية كتربية أبي بكر وعمر، ولا تلقوا تعاليم كتعاليم أبي بكر وعمر، فأول من فر في حنين هم مسلمة الفتح، ويقول أبو سفيان: والله لا يردنا اليوم إلا البحر.
ويقول أخٌ لـ صفوان بن أمية: الآن بطل السحر، أما أبو بكر وعمر، فصمدوا في المواقف إلى آخر لحظاتهم وأنفاسهم رضوان الله عليهم؛ لأن البناء كان وثيقاً ضخماً، وكان مبنياً على تقوى من الله.(355/7)
مادة البذل بين الإخوة في الله
بلغ بالصحابة الإخاء الذي أسسه محمد صلى الله عليه وسلم؛ أن يأتي سعد بن الربيع فيقول لأخيه في الهجرة والإسلام والإيمان، لا أخوة النسب، فيقول: عندي هذا المال وهذا البيت، وعندي زوجتان، أقاسمك المال، وأُطلِّق إحدى زوجاتي لتتزوجها، قال عبد الرحمن: [[بارك الله لك في مالك وأهلك دلني على السوق]].
فأي إخاءٍ بعد هذا الإخاءٍ؟ هل هي بسمة يجود بها أو جلسة أو شيء من طعام؟ المال والأهل يقاسمه وهو صادق.
أبو بكر في سقيفة بني ساعدة يريد أن يُعبِّر عن هذه المشاعر، بعد أن كاد الخلاف يودي بحياة الصحابة وحياة المجتمع، وأراد الأنصار أن يكون منهم خليفة ومن المهاجرين خليفة، وهذا خطأ، فلا يستوي سيفان في غمد، فحضر أبو بكر -وكان ملهماً موفقاً مؤيداً خطيباً فصيحاً فقام يشكر الأنصار على الأيادي البيضاء وحقوق الإخاء، فقال: يأيها الأنصار! جزاكم الله عنا خيراً، واسيتم وكفيتم وآويتم ونصرتم! والله يا معشر الأنصار! ما مثلنا ومثلكم إلا كما قال طفيل الغنوي في بني جعفر:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت
أي إخاء هذا! الأم تمل أما الإخوة الصادقون فلا يملون، فهم على مذهب المهاجرين والأنصار.(355/8)
ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة
ويستمر هذا الإخاء عطراً ويزداد دائماً، ويشده دائماً عليه الصلاة والسلام شداً عظيماً، فيأتي هذا الإخاء بأكله وثماره في آخر لحظة من لحظات المجاهدين في اليرموك، يُقتل أربعة من الشهداء عند خالد، فيأتي بماء بارد، فيعطيه: الحارث بن هشام أخي أبي جهل، فيرفض أن يشرب قبل ابن أخيه عكرمة بن أبي جهل، فيدفع الماء لـ عكرمة، فإذا رجل من المسلمين هناك جريح، فيأبى أن يشرب، فيعاد الماء للأول؛ فيجدونه قد مات؛ والثاني قد مات؛ والثالث قد مات، فيأخذ خالد الماء ويرمي به، ويقول: اسقهم من جنتك يا رب العالمين.
قال سبحانه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر:9].
وهو الذي جعله عليه الصلاة والسلام سارياً في الناس حتى يجود الأخ بالنوم لأخيه، وابن القيم له كلام لطيف في مدارج السالكين قال: ومنهم من يجود بالنوم، أي: يساهر ضيفه ويسامر ضيفه فيجود بنوم مقلتيه حتى يمدحه الأول، فيقول:
مُتَّيم بالندى لو قال سائله هب لي جميع كرى عينيك لم ينم
لو قال له: أعطني نوم عينيك، فسيقول له: خذه.
وهذه مستويات بلغها بعض الناس.
لكن الخلف -حتى من الملتزمين- قد يغفلون مادة الإيثار، ويدرسون مادة الاستئثار، فنحن نعيش الآن عودة إلى الله مباركة، ورجعة في جانب الشباب، لكن مادة الإيثار ضعيفة.
وهناك مادة الاستئثار، فإذا أتى الزملاء يتكلمون؛ تقدم بعضهم على بعض حتى في الفتيا، وهي من المغارم وليست من المغانم، إذا عرضت الفُتيا في المجلس تسابق الشباب وطلبة العلم أيهم يقحم نفسه ليكون مستأثراً، لكن بمغرم لا بمغنم.
يقول أحد التابعين وهو يرى شباب التابعين يتسابقون بالفتيا: " والله الذي لا إله إلا هو إنكم لتتسابقون على مسائل من الفتيا لو عرضت على عمر لجمع لها أهل بدر "، وقد كان الصحابة يتدافعون الفتيا، وقد ورد في الأثر: [[أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار]].
ومع ذلك: يستأثر أحدهم أن يُفتي، ويستأثر بصدر المجلس، ويرى أنه صدر، وأن غيره ظهر، ويستأثر في الطريق، وصدر الدابة، والمرتبة الأولى في السيارة والاحتفاء والعناق، وأن يُقدم ويُكلم بين الناس والدخول والخروج؛ ليكون رئيساً في الناس، وهذا حب الصدارة وحب الإمرة وشهوة الظهور، وهذا مرض نشكو إلى الله منه، عسى الله أن يشافينا منه.
هؤلاء هم الخلف، وهذه هي مدرستهم الاستئثار، ومدرسة السلف الإيثار.(355/9)
مادة البذل بين الإخوة المؤمنين
وهناك مادة قررها عليه الصلاة والسلام في مدرسته: وهي مادة البذل بين الإخوة المؤمنين.
وهي واجب الأخوة بين المؤمنين، وفي حديث صحيح: {أن الله -سبحانه وتعالى- يقول: وجبت محبتي للمتباذلين فيَّ، والمتزاورين فيَّ}.
المتباذلون: الذين يعطي أحدهم أخاه في الله، وعند أبي داود بسند صحيح: {من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان}.
مادة البذل مقررة عند العرب قبل الإسلام؛ لكنها كانت غير مهذبة ولا محتسبة الأجر من الله، لماذا ينفق حاتم رياءً وسمعةً؟
لماذا يضيف عبد الله بن جدعان؟
رياءً وسمعةً، كانت مائدة عبد الله بن جدعان لا يفارقها الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ ابن مسعود لما قتل أبو جهل تعرف جثة أبي جهل بجرحٍ في رُكبته، فإني تصارعت معه على مائدة ابن جدعان فصرعته، وهذا p=1000554>> ابن جدعان يثير العجب!! قالت عائشة كما في صحيح مسلم: {يا رسول الله! أينفع ابن جدعان إنفاقه؟ قال: لا.
إنه لم يقل يوماً من الدهر: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين}.
وقال عدي بن حاتم كما هو عند صحيح ابن حبان: {يا رسول الله! إن أبي كان يقري الضيف، ويحمل الكلَّ، ويعين على نوائب الدهر، فهل ينفعه ذلك عند الله؟ قال: لا، إن أباك طلب شيئاً وأصابه} أي أنه طلب الذكر؛ ولذلك يُذكر حتى في القُرى والبوادي، حتى العجائز يعرفن حاتماً الطائي، فهذا جزاؤه، طلب الذكر فأعطاه الله الذكر، واسم مدرسته: مدرسة البذل عند العرب قبل الإسلام، يقول حاتم لامرأته:
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
من شروط حاتم: إذا أتى على مائدته ألا يقرب المائدة حتى يأتي رجل آخر يأكل معه، فإذا لم يأتِ رجل آخر ترك الغداء أو العشاء حتى يكون هو ورجل آخر.
رأيت في كتب الأدب قصة عن حاتم -الله أعلم بصحتها- لا تضركم؛ لا في العقيدة ولا في الأسماء ولا في الصفات:
يقولون: كانت أمه تضعه على ثديها ومعه أخ آخر من الرضاعة ماتت أمه، فكانت أم حاتم: ترضع هذا وهذا في وقت واحد، فإذا رفع أخوه من الرضاعة فمه عن ثدي أمه رفع حاتم فمه؛ لئلا يرضع حتى يرضع ذاك.
يعني: مولود الكرم معه، وبعض الناس مولود معه البخل ويموت معه البخل، ومسجل عليه، ومنتسب معه، ويلحد معه، ويعيش، ويموت، وهو بخيل.
قال عبد الملك بن مروان لوزرائه وهم في سمر: من تريدون أن أباكم من العرب؟
أي: من يتمنى منكم أباً غير أبيه؟
قالوا كلهم: لا نريد إلا آباءنا، قال: أما أنا فليت أبي عروة بن الورد الذي يقول:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
يقول: تضحك مني لأنك سمين وأنا نحيف، ما سبب نحفي وسمنك؟
اسمع السبب:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أوزع جسمي في جسوم كثيرة وأحسو قراح الماء والماء بارد
يقول: أنت تأكل ما يكفي ستة، وأنا آكل قليلاً، أنا آكل نصف قرص، وأنت تأكل ثمانية أقراص، تضحك مني؛ لأني أُضِّيف الناس وأنت ما تضيف إلا بطنك.
فإني امرؤٌ عافي إنائي شركة وأنت امرؤٌ عافي إنائك واحد
يقول: أنا -دائماً- على مائدتي مائة رجل، وأنت على مائدتك نفسك فقط، فهذه مدرسة البذل، فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم لمدرسة البذل فأدخلها في مدرسته؛ لكن بتهذيب واحتساب، جعل البذل لله والإنفاق له، فأتى الصحابة بالعجائب، فتجاوزوا أكرم حاتم وهرم بن سنان وعروة بن الورد.
يأتي أبو بكر بماله، فيجعله في يد الرسول صلى الله عليه وسلم كله، ويشتري عثمان بئر رومة ويجعلها للمسلمين وللأكباد الحرة، ويأتي سعد بن عبادة، فينحر في غداة واحدة مائة ناقة؛ حتى تشبع الصقور والوحوش الكواسر من أجل أن يشبع الرسول عليه الصلاة والسلام، ويأتي الفقير فإذا هو أجود من الغني.
وقد أتى الرسول عليه الصلاة والسلام بالخير، فهو أجود من الريح المرسلة، لا يعرف كلمة: لا، قال مرة كما قال جابر: {أتى أعرابي إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فسأله سؤالاً؟ فقال: لا، وأستغفر الله} أي أنه يستغفر الله من كلمة "لا".
ما قال (لا) قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
أتاه هذا الضيف، فقال: من يضيف ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقام رجل فقير من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله! فأخذ معه الضيف وليس في بيته إلا شيء من شعير، وله أطفال وزوجة، وهذا الشيء من الشعير لا يكفي إلا واحداً، فقال لامرأته: نوِّمي أطفالنا هذه الليلة قبل العشاء وهذا هو الكرم في منتهاه، فقد أثر الضيف على أطفاله وعلى بطون أطفاله وعلى صغاره، فلن يبلغ كرَمه كرمٌ، فنومت الأطفال، وكانت امرأة تعين صاحبها على الكرم، وبعض الناس إذا أراد أن يكرم الضيوف يستشير زوجته أولاً، ويتصل بها، ويعقد معها جلسة طارئة منغلقة، ثم يحسب لها الضيوف، ومتى يأتون وكم عددهم!! فإذا صدر الإذن منها دعاهم، وهذا هو البخيل كل البخل، إذ لا داعي لاستشارة المرأة في إكرام الضيف، ويجوز للرجل أن يدعو ضيوفه بإجماع أهل العلم دون أن يستشير زوجته، إلا إذا خاف أن تكسر رأسه!
المقصود: أن زوجة هذا الصحابي ذهبت فنومت أطفالها، وقال لها: إذا جلست أنا والضيف أثناء العشاء فتظاهري بإصلاح السراج ثم أطفئيه -هذه ليلة الكرم- فتظاهرت بإصلاح السراج فأطفأته، فبات الضيف يأكل، ويتظاهر صاحب البيت أنه يأكل وهو لا يأكل، فأتى الأنصاري بضيفه يُسلِّمه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن أكرمه؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: {لقد عجب الله من صنيعكما بضيفكما البارحة}.
فجزى الله رسول الله صلى الله عليه وسلم عنا خير الجزاء في تعليمه البذل والعطاء، وجزى الله تلكم الثلة الرائدة والنخبة المصطفاه خير ما جزى أصحاب النبي عن نبيهم عليه الصلاة والسلام.(355/10)
مادة حقوق الإخاء
ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث حقوق الإخاء التناصح، وإجابة الدعوة، ورد السلام، وتشميت العاطس، وعيادة المريض، وتشييع الجنازة، والدعاء بظهر الغيب، ثم ذكر صلى الله عليه وسلم أمراض الإخاء.(355/11)
رد السلام
قال عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {إذا لقيته فسلم عليه}.
ومعنى السلام: إشعاره بالسلامة، يقول سبحانه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].
قالوا: سلامة لكم، قالوا: ومنه اشتق السلام، فكأن المسلم يقول: سلام عليك؛ فلن ترى مني ما يؤذيك ولا ما يخوفك ولا ما يفزعك.
وعند أحمد في المسند عن أبي هريرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {إن أولى المؤمنين بالله من بدأهم بالسلام}.
أي: أقربهم من الله من بدأهم بالسلام.
وكان كثير من الصالحين يسبقون بالسلام من لقيهم فيقولون: السلام عليك قبل أن يوصل إليهم.
وفي الصحيحين عن عمران بن حصين رضي الله عنه قال: {كنت جالساً مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فدخل رجلٌ المسجد، فقال: السلام عليكم! قال: عشر، وعليكم السلام، ودخل آخر، وقال: السلام عليكم ورحمة الله، قال: عشرون، وعليكم السلام ورحمة الله، ودخل ثالث فقال: السلام وعليكم ورحمة الله وبركاته، قال: ثلاثون، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته}.
لكن بعض الناس من الخيلاء هجر مدرسة السلام، فمنهم من تركها كبراً، وأكثر ما يترك الناس السلام كبراً، ولذلك من بذل السلام، ومن تبسَّم -في حقوق كثيرة ذكرها الغزالي - وحلب شاته، ورقع ثوبه، وكنس بيته؛ فقد برئ من الكبر.
تجد كثيراً من الناس إذا سلَّمت عليه؛ كأنك تسحب منه الرد سحباً؛ لأنه من فصيلة أخرى، ويعد بعض الناس من الحيوانات الأليفة، بل بعضهم لا يقوم لك أبداً؛ ليس اتباعاً للسنة لعدم القيام؛ بل كبراً وعتواً؛ وإذا صافحته صافحك برءوس أصابعه شُلت أصابعه!
وهذا من جهله بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنهم من تركها جهلاً واستبدل مكانها كلمات ليست واردة كأن يقول: صباح الخير، وأهلاًَ وسهلاً.
قال البخاري في الأدب المفرد: (باب: قول الرجل مرحباً بك) ثم ذكر أن عدي بن حاتم وصل إلى عمر فقال لـ عمر: مرحباً بك! (باب: قول الرجل مرحباً بفلان) وذكر حديث أم هانئ: {مرحباً بـ أم هانئ}.
وقال عمر: حياك الله من معرفة.
وهذه تأتي كلها بعد السلام الشرعي الذي سنه عليه الصلاة والسلام.
وأفضل الإيمان أن تقرئ السلام على من تعرف ومن لم تعرف، تسلم على الناس -جميعاً- الذي تعرف والذي لا تعرف من المسلمين.
ومن علامات خواء الأمة: العبث والتلوث الفكري وعدم اعتزازها بأصالتها؛ فإنك تجد -الآن- بعض الناس المتأثرين بالمستعمر يحيونه أكثر مما يحيون المسلمين، وألحظ الناس -الآن- إذا رأوا الخواجة يكون الاستعداد والتحية وإعطاء اليد والبسمة، وإذا رأوا المسلم فكأنه أمر عادي عندهم، وهذا من قلب المفاهيم، وسوف يكون لنا تعريج على هذا.(355/12)
إجابة الدعوة
من مادة حقوق الإخاء شعبة: إجابة الدعوة؛ لا طمعاً في الطعام، ولكن حباً في الصلة والوئام، وربما كانت زيارات الخلف إزهاقاً للأوقات لا لطلب القربات، فزيارات الناس -الآن- في الغالب فقط تضييع وقت، وأكثر زيارات الشباب وحتى الملتزمين على غير جدوى العمل، وعلى غير ترتيب سابق، وعلى غير استفادة من الوقت، فتجده يدخل عليه في وقت فجأة، وهذا غير مستعد وهذا غير معد لفائدة، فينهي عليه وقتاً طويلاً من صلاة العصر إلى صلاة المغرب، ثم يقومان عن هذا شذر مذر، فما جرى في الحياة؛ تزوج فلان وطلق فلان ومات فلان وعاش فلان!! وهذا حديث عوام الأسواق، وحديث السقطة من الناس، ولا تليق بمن يريد أن يُقدِّر وقته، وقد سبق أن شيخ الإسلام ابن تيمية ألف كتاب التدمرية من بعد صلاة الظهر إلى صلاة العصر، كتاباً كاملاً قرر في كلية أصول الدين، في السنة الأولى فما فهمه الطلاب ورسبوا بعد أن قرءوا هذه المادة؛ لأنها تُدِّمر كل شيء باطل بأمر ربها، فأصبحوا لا يُرى إلا مساكنهم.
أيها الإخوة! إجابة الدعوة عند بعض المتأخرين تعتمد على الوجاهات والواسطات، فبعضهم لا يجيب إلا وجهاء وأغنياء الناس ومن له مكانة أرضية ودنيوية فقط، وأما الفقراء والمساكين؛ فيعتذر بالأشغال وبالالتزامات، وهذه ليست من مادة الإخاء عند محمد صلى الله عليه وسلم، لكنك تجدها عند أهل الأرض.(355/13)
عيادة المريض
عيادة المريض لتخفف عنه آلامه ويبث إليك همومه وأحزانه، وما أحسن المسلم إذا عاد أخاه المسلم! فقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله يوم القيامة: يابن آدم جعت فلم تطعمني! قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن فلان بن فلان جاع فما أطعمته؟ أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يابن آدم مرضت فلم تعدني! قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فما عدته؟ أما إنك لو عدته لوجدت ذلك عندي}.
ما أحسن الزيارة! زار النبي عليه الصلاة والسلام كبير السن، وزار الصبي، وزار الأعرابي، وزار الفقير والغني، زار أعرابياً فرأى عليه الحمى تهزه هزاً، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا بأس طهور -أي أن هذا المرض يطهرك من المصائب- فغضب الأعرابي فقال: تقول طهور، بل حُمّى تفور على شيخ كبير، تزيره القبور، قال: فنعم إذن} إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم؛ أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتفاءل وأبى الأعرابي.
عيادة المريض لها أدب وأهمل فيها المتأخرون، يقول الأول:
مرض الحبيب فزرته فمرضت من جزعي عليه
وأتى الحبيب يزورني فشفيت من نظري إليه
وهذه من أبلغ وأحسن ما قيل في هذا، وأحياناً الأرواح ترتاح لرؤية المحبين والأحباب إذا زاروها، وبعض الأرواح السليمة تمرض من زيارة بعض الناس، يقول ابن القيم في بدائع الفوائد: رأيت ابن تيمية رحمه الله وقد تثاقل من رؤية أحد الثقلاء وجلوسي معه، ثم التفت إليَّ بعد أن عجز صبره، وقال: الجلوس مع هؤلاء حمى الربع، وحمى الربع أي: التي تقتل وليس لها علاج، وهؤلاء أهل البدع والخرافيون وثقلاء الناس وأهل البطون، الذين يغضبون لبطونهم أكثر من غضبهم لمبادئهم، ويغضبون لسياراتهم ووظائفهم وأحذيتهم أكثر من غضبهم لإياك نعبد وإياك نستعين.
كان الأعمش إذا رأى ثقيلاً مقبلاً، قال: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ} [الدخان:12].
وقال الأعمش: ما جلس إليَّ ثقيل بجانبي إلا ظننت أن الأرض تميل بجانبه -الكرة الأرضية كأنها تميل- وهؤلاء الثقلاء الذين لا يعرفون وقت عيادة المريض، فيأتونه في الساعة الثانية عشرة ليلاً، ولا يعرفون التحدث معه في حديث يشفي المريض، فيقولون: ما مرضك؟
قال: الزكام، قالوا: مات فلان بالزكام، وماتت فلانة بالزكام، وما أصيب أحد بالزكام إلا مات، أحسن الله عزاءك بروحك وألحقنا الله بك عن قريب، وجمعنا الله بك في دار كرامته!! غسلنا أيدينا منك، فهذا ليس من الآداب.
ومنها كذلك: التطويل، فإن بعض الناس يبقى حتى ينتهي الكلام، فيعل العليل بزيارته، فلا يخرج حتى يقول المريض، ويرفع يديه: اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر.
ولذلك لا تريد أن تلقاه.
قرأت أن الأعمش كتب مرضه في ورقة فكان الناس كلما سأله مريض ما مرضه؟ أخرج الورقة، وقال: اقرأ، لأن بعض الناس يسألك: متى بدأ المرض معك؟ وما هي أعراضه؟ وماذا تجد؟ ومن ماذا منعك الطبيب؟ محاضرة كاملة وسجل التحقيق مفتوح.
فمعاذ الله أن نكون ثقلاء! ولينتبه الإنسان إذا زار أن يخفف، فالزيارة ليست كل يوم ولكن كل ثلاثة أيام زيارة لا بأس بها.
وبعض الأمراض قال ابن عبد البر في أنس المجالس: لا يزار من فيه بعض الأمراض مثل الزكام، أو مرض الركبة، أو الرمد، هذا لا يزار منها، إنما يزار من أمراض محددة معروفة.(355/14)
النصح في الله
إذا استنصحك فانصحه، وهي: النصيحة الواجبة، وهي النصيحة التي لا تقوم الأمة إلا بها، وهي ميثاق الأخوة، ودستور الأحباب، ولسان حال الناصح يقول: وأنصح لكم، وهتافه الخالد يقول: وأنا لكم ناصح أمين، فالمؤمنون يتناصحون والمنافقون الأدعياء يتفاضحون.
قال علي: [[المؤمنون نصحة والمنافقون غششة]] وقد قلَّ الناصح، ومن نصح اتهم واستثقل، وظن أنه لا يريد الحق واتهم في نيته وفي غرضه.
ومن علامات الناصح: أنه لا يجر نفعاً لذاته وحده ولا لشخصه، لكنه لأمته ولبلده، يريد الخير فينصح، ولا بد للأمة من ناصح، ويوم تموت النصيحة تموت الأمة.
بايع جرير بن عبد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشترط عليه: {والنصح لكل مسلم}.
وأما طمس المعايب وإخفاؤها ودفنها دون أن تبين، فهو النفاق بعينه الذي لا يرضاه الله، ويوم يسكت الناطق بالنصيحة في الأمة تموت هذه الأمة وتنتهي.
يقف عمر بن الخطاب على المنبر يريد من ينصحه، فيقول: أيها الناس! ماذا ترون لو أني ملت عن الطريق هكذا؟ أي: عن طريق إياك نعبد وإياك نستعين، عن العدل، عن اهدنا الصراط المستقيم، فقام أعرابي من آخر المسجد، بسيف فسله أمام عمر، وقال: والله يا أمير المؤمنين! لو رأيناك ملت عن الطريق هكذا، لقلنا بالسيوف هكذا، فقال: اجلس بارك الله فيك! الحمد لله الذي جعل في رعيتي من لو ملت عن الطريق هكذا قالوا بالسيوف هكذا، وهذا هو الحوار، وهذه هي النصيحة، وهذه هي الكلمة القوية، وهذه شجاعة أهل الإيمان، وهذه هي المادة التي أسسها محمد صلى الله عليه وسلم وهي أن تنصح له.(355/15)
تشميت العاطس وتشييع الجنازة والذب عن عرض الأخ
ومنها: تشميت العاطس وتشييع الجنازة -وهو أمر لا يخفى عليكم- والذب عن عرض أخيك إذا انتُهك، إذا تدافع أذناب العلمنة والمنافقون والحداثيون بعضهم يذب عن بعض، ويتحامون كما تتحامى القردة، فأولى الناس بالمحاماة أهل (لا إله إلا الله) الساجدون المصلون؛ أن يشبه أحدهم أسداً هصوراً في المسجد، إذا تعرض لسياج الدعاة وطلبة العلم والأخيار والصالحين وشباب الإسلام؛ فإن معنى التعرض لأولئك هو التعرض لك أنت، والتنديد بك وبمبادئك، والتكلم فيهم هو التكلم فيك أنت، ومن تكلم في أخيك الذي تجمعك به روابط الإخاء تكلم فيك مباشرة ولا نرضى:
فإما أن تكون أخي بحق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني
انتهاك الحرمات تناول الأعراض اتهام النيات، واجبنا جميعاً أن ندافع، ومن رضي وسكت في مجلس، يجب أن يذب فيه عن عرض أخيه المسلم خذله الله في مجلس يريد أن ينتصر فيه، وهؤلاء المخذولون صنف من الناس، يرون السيئات ويرون العثرات، وينسون محاسن أهل الفضل والخير ويطمسونها، ويتهمون هؤلاء في مسارهم وفي نياتهم.(355/16)
أمراض الإخاء
للإخاء أمراض قد تعتريه، قد يمرض أو قد يموت، منعها محمد صلى الله عليه وسلم وأقام وقاية دونها، فقال عليه الصلاة والسلام: {لا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تقاطعوا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره ولا يسلمه، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم، كل المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه}.(355/17)
الحسد
الحسد الذي يستشري ويشتعل بين الأقران، وهو داء لا تُطفئه إلا تقوى الله، وما خلا جسد من حسد.
قيل: للحسن البصري: أيسلم أحد من الحسد؟ قال: أين أنت من إخوة يوسف؟ حسدوا أخاهم وهم أنبياء، قال: فماذا أفعل؟ قال: إذا حسدت فعمِّه.
أي: عمه في باطنك ولا تتكلم بآثار الحسد، تطعن في عرض أخيك، ولا تُؤذه بفعل غير مسئول منك، والإنسان يُدخله الحسد ولكن لا يبغي ولا يؤذي، وليتق الله في أخيه المسلم.(355/18)
التهاجر
ومن أمراضها كذلك: التهاجر، يقول عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم: {لا يحل لامرئ مسلم أن يهجر أخاه المسلم فوق ثلاث، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام} ثلاث ليالٍِ فقط حتى يذوب الغيظ، ثم تعود إلى أخيك المسلم {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134].
أذكر قصة ذكرها ابن كثير وغيره من أهل العلم يقول: كان لـ معاوية -وهو خليفة ملك في الشام - مزرعة في المدينة بجانب مزرعة عبد الله بن الزبير، وكان بينهما شحناء، فدخل عمال معاوية مزرعة ابن الزبير، فكتب ابن الزبير من المدينة: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله بن الزبير إلى ابن آكلة الأكباد - أي: معاوية، وهند هي التي أكلت كبد حمزة - أما بعد: فقد دخل عمالك مزرعتي، فإن لم تنههم عن ذلك؛ فلي ولك شأن.
رجل من الرعية يُهدد الملك، فوصل الكتاب إلى معاوية وكان حكيماً حليماً في أعلى درجات الحلم، فعرض الكتاب على ابنه الطائش يزيد بن معاوية، الذي سئل عنه الإمام أحمد: هل نروي عنه؟ قال: وهل مؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر يروي عن يزيد؟! وقال: لا نسبه ولا نحبه.
فعرض عليه الرسالة، وانظروا رأي البطانة الهائجة، البطانة غير المسئولة التي تلقي بالكلمات على عواهلها لا تقدر للأمور قدرها ولا تعي المسئولية.
قال: أرى أن ترسل جيشاً يأتيك برأس ابن الزبير أوله في المدينة وآخره عندك، قال معاوية: بل أحسن من ذلك صلةً وأقرب رحماً.
فأرسل إليه معاوية وقال: بسم الله الرحمن الرحيم من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير ابن حواري رسول الله، وابن ذات النطاقين، أما بعد:
فإذا جاءك كتابي هذا فخذ مزرعتي إلى مزرعتك، وعمالي إلى عمالك، فلو أن الدنيا بيني وبينك لكانت هينة سهلة أو كما قال.
فأتى ابن الزبير إلى الشام، ودخل دمشق ودخل على الخليفة وقبَّل رأسه، وقال: لا أعدمك الله عقلاً أحلك هذا المحل.
هذا الإخاء والوداد والحلم والصفح، ويفعله أتباع محمد صلى الله عليه وسلم في كل زمان ومكان.(355/19)
نصرة المسلم
أما معنى: لا يسلمه: أي: لا يتركه بلا نصرة، بل يقف بجانبه، ليس في الدنيا: نفسي نفسي!! بعض الناس إذا أُصيب إخوانه تخلَّى وتركهم في معمعة الخطر، وفي معترك الفتنة، وحاول أن ينجو بنفسه، وهذا خطأ، الذي يرى أنه سوف يسلم نفسه، والأمة تعيش عراك، وطلبة العلم في الأمة ودعاة الأمة يعيشون فتنة تمسهم في معتقداتهم وفي دينهم وأعراضهم وتطلعاتهم ثم يريد أن ينجو، لا نجَّاه الله ولا سلَّمه، أين أخوة إياك نعبد وإياك نستعين؟ أين أخوة أمة واحدة؟ {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10].(355/20)
سوء الظن
واعلموا حفظكم الله! أن من الأمراض التي حذَّر منها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام مرض سوء الظن، والله سبحانه وتعالى يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات:12].
الظن أم المعايب وأم التهم، وما وجد في قلب إلا خرب علاقته مع الناس، يقول أبو الطيب المتنبي وهي من أحسن أبياته، يقول:
إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه وصدّق ما يعتاده من توهم
وعادى محبيه بقول عداته فأصبح في ليل من الشك مظلمٍ
وتجد الإنسان إذا ساء فعله؛ ساءت ظنونه بالناس، السارق يتهم الناس بالسرقة، والكاذب يتهم الناس بالكذب، أما الصادق فلا يسيء ظنه، والثابت على مبدأ لا يسيء الظن، وأكثر ما ينشر القالة بين الناس وبين الإخوة سوء الظن والعياذ بالله، فهم يُشككون في نيات الناس، وفي تحركاتهم، وفي كلامهم، وفي أفعالهم، ولا يطلِّع على النيات إلا الله عز وجل.
سبحان الله! تبرئ موقفك أنت وتتهم نيات الناس! وليسوا هم أناساً عاديين؛ لكن من خيرة الناس صفوتهم الناس فيما يراه الناس، والله أعلم والنيات عند الواحد الأحد، لكن إذا رأيت الإنسان يتهم نيات الناس التي لا يطلَّع عليها إلا الله فهو متهم أيضاً (كاد المريب أن يقول خذوني!!).(355/21)
الغيبة
ومن أمراض الإخاء -أيضاً- الغيبة، وهي فاكهة المجالس، وهي الأطروحة المعروضة، والبضاعة الرخيصة، والبز المنشور في أسواق الذين ابتعدوا عن معالم (إياك نعبد وإياك نستعين) ولكن ترى الناس حتى طلاب العلم لا يغتابون حتى يبرروا لأنفسهم ويفتوا أنفسهم، يقولون: أستغفر الله! أنا ما اغتبته لكني أخبرت بما فيه.
ويقول أحدهم: أجرح والجرح والتعديل وارد عند أهل السنة لمصلحة الدعوة، والدعوة تقتضي أن تعرف صديقك من عدوك، والدعوة يوم تنطلق من أطر، وتنبثق في بوتقة؛ ترتكز على مرتكزات أن تعرف صديقك من عدوك، فتذُبح الأعراف، وتُستحل القيم، ويُغتاب الأخيار، بدبلجة الشيطان لهذا المبدأ.
يا أيها الضعيف المسكين! الجرح والتعديل ليس لي ولك، لـ يحيى بن معين، وعلي بن المديني، والبخاري والنسائي الذين حفظوا السنة، أما أنا وإياك فلم تحفظ من السنة إلا حديث: {إنما الأعمال بالنيات}!! أولئك حفظوا السنة بواسطة الرجال فجرحوهم وعدلوهم.
نعم! لنا أن نجِّرح ونُعدِّل لكن من ظهر لنا فجوره وخبثه؛ وكشف الله ستره، وعرفنا أنه عدو للإسلام، أما مسلم -في الجملة- متستر بستر الله، ظاهره الخير، فننبش عنه، متى كنا أوصياء لله على خلقه؟ متى جعل الله -سبحانه وتعالى- عندنا علم الغيب، نطلع على نيات الناس؟ هذا -والله العظيم- هو الردى.
بعض الناس يسكت عن المحاسن وينبش المساوئ، ذكر الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتاب طريق الوصول إلى العلم المأمول نقلاً عن ابن تيمية كلمة رائدة، يقول: بعض الناس مثل الذباب لا يقع إلا على الجرح.
تجد أناساً في المجتمع يجدك سليماً معافىً، عليك ثوب أبيض، متطيب متعطر، هذا الذباب يترك الثوب الطيب المتعطر، ويبحث في جسمك عن جرح فيقع عليه.
كثير من الناس ينظر إلى الحسنات، فتنطمس عينه وتعمى حتى يجد سيئة فيضخمها ويكبرها:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عين السخط تبدي المساويا
فالله المستعان!(355/22)
الفوارق بين الصحابة والمتأخرين من الناس في مبدأ الإخاء
الأول: أن الصحابة أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، فالقرب والرحمة واللطف والصلة والتواضع للأخ المسلم، والقوة والغلظة والمواجهة للكافر المعتدي، وحثالة المتأخرين قلبوا الأمر؛ فصلفٌ، ونقد لاذع، وقذاعة وبذاءة، وهجوم، واعتراض على الإخوة، وملاينة، واستخذال، وتبعية، وعبودية للمجرم الأثيم.
الثاني: أن الصحابة حمل بعضهم السيف على أبيه الكافر وقطع رأسه؛ لأنه قطع صلته بالله، وهذا الصحابي -نفسه- يصل الحبل مع الباحث عن الحقيقة من أرض الحبشة بلال، وسفير فارس إلى أرض التوحيد سلمان، ووافد الروم إلى مهد القداسة صهيب، فخلف من بعدهم خلف من الحثالات، أصبح الواحد منهم عسيفاً للخواجة، عبداً للمستعمر، جزمة للأجنبي، مولى للبعيد وعكازاً له، ثم هو نفسه ليث على إخوانه، مقدام على طلائع التوحيد، نار تلظى على شباب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم يطالب بعد سقوط حقوق الإخاء ويعتدي علينا أننا أضعنا معه الصفاء، أتدرون ما هو مجلسه؟ هجوم!! لكن غير أدبي، ولذع فادح على من؟
تعلم أن بعض الناس إذا جلس فإن مادة السمر عنده أن يستهزئ بالصالحين وباللحى، السبب أن محمداً صلى الله عليه وسلم أتى باللحى، وهو الذي رفع رأسه من الطين، محمد صلى الله عليه وسلم الذي حرره من عبودية الأصنام، وهو الذي أعطاه الدنيا:
بلاد أعزتها جنود محمد فما عذرها ألا تعز محمدا
ويستهزئ بالثوب القصير، التطرف عنده هم الشباب المهتدي -والصلف: الشباب المهتدي- الطيش: الشباب المهتدي- الهوس الشباب المهتدي أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، ضميمة أبي بكر، مدرسة عمر، مسيرة صلاح الدين، جامعة ابن تيمية، مظلة أحمد بن حنبل ومعهم الشيخ محمد بن عبد الوهاب كل هؤلاء يدخلون، في مدرسة التطرف والصلف، فمن أين ورث هؤلاء مواقفهم؟
لكن انظر في الجانب الآخر!
انظر مع أعداء الله، الاستخذاء، العمالة، الخيانة، الملاينة، المصافاة، العبودية، فسبحان الله رب العالمين!
قطعت ودادي ظالماً وجبهتني وأغريت بي الأعداء من كل جانب
وطالبتني حق الأخوة عاتباً دهتك الليالي أنت نار التعاتب
فنسأل الله أن يُصلح منا الظاهر والباطن، وأن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، وأساله أن يجمع شملنا، وأن يوحد كلمتنا، وأن يتولانا بعين رعايته، وأن يحفظنا وإياكم من كل مكروه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(355/23)
الأسئلة(355/24)
نصيحة شاب عاد إلى الله
السؤال
أنا شاب ضاع من عمري سنوات وسنوات وهأنا عدت إلى الله رب العالمين وتبت إليه، وهذه أول محاضرة أحضرها، ولكني أخاف أن أعود إلى الطريق القديم، فما نصيحتكم لي جزاكم الله خيراً؟
الجواب
الحمد لله، قبل أن أجيب على هذا السؤال، وصلتني ورقة من بعض الإخوة أنني لاحظت على عبد الله بن الزبير وعلى يزيد بن معاوية، وقال: استغفر لهما.
أقول: أما عبد الله بن الزبير فأنا أستغفر له، أما يزيد بن معاوية فصاحب الورقة يستغفر له، وما أظن أني لاحظت على عبد الله بن الزبير ملاحظة تستحق، وأنا أتقرب إلى الله بحبه، وقد علق الذهبي على مطالبته، فقال: أعوذ بالله من طلب الملك، أو كلمة نحوها! فليُعاد إليها في سير أعلام النبلاء، وليس هؤلاء بمعصومين، ولو أننا نتقرب إلى الله بحبهم، وندافع عنهم، ونذب عنهم، وما أظنني جرحت ابن الزبير جرحاً، وأما يزيد بن معاوية فإن شئت أن تذب عنه، وتستغفر له فأنت وذاك.
أما السؤال الذي سأله الأخ فهذا يتكرر كثيراً!
أولاً: أُرحب بهذا الشاب الذي حضر هذه الليلة، وأسأل الله أن يجمعنا به في دار الكرامة وهنيئاً له.
سبحان الذي أعتقه من ذل المعصية ومن رق العبودية لغيره! وأدخله في هذا المكان الطيب الطاهر، فإن هناك جموعاً أكثر من هذه الجموع، لكن تجتمع على معاصي وضياع وأمور مظلمة، والآن هذا وقتك أن تجتمع مع أحبابك في الله عز وجل، هذه ليلتك الأولى ليلة الميلاد:
هي ليلة فيها ولدت وشاهدي فيما ادعيت الشمس والمريخ
فليلتك هذه من أحسن الليالي وهي ليلة الميلاد.
يقول أحد الفضلاء: لا بد للإنسان من ميلادين اثنين: الميلاد الأول يوم ولدته أمه باكياً فقيراً عارياً، فوقع على الأرض، فبكى من أنه خرج من السعة إلى الضيق، وخرج من العدالة إلى الظلم:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
ثم أن تولد مع الشريعة، وأن تولد ميلاداً مع الوحي، وأن تولد من جديد في الهداية، فهذا الميلاد الثاني هو المذكور، قالوا: وللإنسان أبوان اثنان: الأب الجثماني والأب الروحاني، فالأب الجثماني أبوك الذي أعطاك الحليب والخبز والفاكهة، والأب الروحاني هو محمد عليه الصلاة والسلام الذي أتى بالوحي، وفي قراءة أبي، يقول سبحانه وتعالى: {وزوجاته أمهاتهم وهو أب لهم} هكذا قرأ أبي وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية وقال: وهو أب لهم.
وفي حديث صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {إنما أنا أب لكم أعلمكم} ثم علمهم بعض أمور التطهر والتطيب عليه الصلاة والسلام.
فأنت -الآن- أيها المولود الجديد بدأت عالم الهداية، فاحذر أن تعود من النور إلى الظلمات، وعليك بأمور:
أولاً: أكثر من الدعاء والاجتهاد أن يثبتك الله.
الأمر الثاني: جاهد في النية أن تثبت {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69].
ثالثاً: آخِ الصالحين وجالسهم.
رابعاً: اقطع علاقتك بزملائك الأوائل أهل المعاصي وأهل الإسراف والإعراض عن منهج الله؛ فإنهم الذين يصدونك عن الطاعة، ويقفون في طريق الأنبياء والرسل بالمرصاد.(355/25)
الإسراف في الحب
السؤال
تعرفت على شخص شاب فأحببته في الله؛ حتى أصبحت أفكر فيه حتى في الصلاة، وأغار إذا رأيته يمشي مع أحد غيري.
فهل هذا الحب مذموم أم ممدوح؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً!
الجواب
ورد في المحاضرة كلام عن: [[أحبب حبيبك هوناً ما]].
والإسراف في مسألة الحب هو أن يتعدى إلى غير ما وضع له، وهو ثمرة التعاون على طاعة الله عز وجل والدعاء للأخ، والذب عن عرضه، والسلام إذا لقيته، وإجابة دعوته والنصيحة، إذا تعدى إلى غير هذه المواصفات والضوابط، فهو حب مدخولٌ فيه، فأعيذك ونفسي بالله من الشيطان الرجيم أن يكون الحب لغير منهج الله، فبعض الناس ركَّب هذا الحب سُلماً إلى بعض الأغراض الشيطانية، وإلى بعض الشبه والشهوات التي ألقاها الشيطان في قلبه، وليس مقصوده الحب في الله عز وجل حتى دخل الشيطان من هذا الباب.
وقد ورد هذا عند الناس حتى تجد بعضهم يقول: أحب تلك المرأة في الله، وما سمعنا أن أحداً من السلف يقول: أحب أجنبية في الله، وهي كذلك تبادله الشعور، وتقول: أحبك في الله.
ولا بد للإنسان أن يضبط كلامه وعباراته، وأن يضبط نيته، وأن تكون خالصة لوجه الله عز وجل، فإن الله عز وجل ذكر قوماً أتوا بأمور لكنها لم توافق الشريعة، فكانت سبباً لشقاوتهم، قال سبحانه: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].
فمقاصدك ونياتك وأعمالك ارعها حق رعايتها؛ حتى تكون خالصةً لوجه الله سبحانه وتعالى.(355/26)
حقيقة الإخاء المفتعل
السؤال
قد ذكرتم جزاكم الله خيراً الإخاء غير المفتعل، فماذا عن الإخاء المفتعل؟
الجواب
نعم.
أنا ذكرت متضادات في المحاضرة، فإذا ذكرت الإيجابية ذكرت معها السلبية، فالإخاء المفتعل هو إخاء المتأخرين من الخلف، وأخص منهم الحثالات الذين يتآخون على المجاملات، تجدهم يتهيجهم اللعن، فأول ما يلقاه يلعنه، وتجد أُخوتهم إما على المطاعم أو المشارب أو على مصالح مشتركة، أو يتوجهون لأفكار خاصة، أو مناهج معينة تخالف منهج الله سبحانه وتعالى، والله تعالى يقول فيهم: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
اجتماعهم وذهابهم وإيابهم وجلوسهم في الظاهر، لكنه من داخل منخور، فيه سوس، وفيه نار تتلظى، وهي نار البغضاء! ولذلك تجد بعضهم يغتاب ذاك بعد أن يُولِّي، وإذا لقيه يقسم له الأيمان المغلظة أنه يحبه أحب من نفسه، فإذا ذهب لعنه في قفاه، وهؤلاء إخاؤهم مفتعل، إنما هو وقتي، وسوف ينهار؛ لأنه لم يؤسس على تقوى من الله ورضوان، وكل شيء لغير الله آخره الدمار: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].(355/27)
بغض الدعاة لبعضهم البعض
السؤال
كما تعلم يا فضيلة الشيخ! أنه يوجد في الساحة كثير من الناس يدعون إلى الله عز وجل، وإن اختلفت آراؤهم؛ ولربما أبغض أحدهم الآخر.
فما رأيكم في هذا وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
أولاً: لم يتركنا صلى الله عليه وسلم هملاً بغير إرشاد لمنهج، بل جعل صلى الله عليه وسلم منهجاً معروفة كلياته وجزئياته؛ لئلا يتعدى.
بعض الناس يقول: تركنا الرسول صلى الله عليه وسلم في سعة من الأمر وفي سعة من المناهج، وتجمعنا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وهذا ليس بصحيح، فإن (لا إله إلا الله محمد رسول الله) قد تجمع الخارجي والقدري والجبري، وقد تجمع بعض الرافضة؛ لكن لا بد أن يعرف المنهج الرباني الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم، وفهمه الصحابة بكلياته وجزئياته.
الآن -أيها الإخوة- تعلمون أن الخوارج يقولون: نحن نعمل بالكتاب والسنة، أليس بصحيح؟ القدرية يقولون: نحن نعمل بالكتاب والسنة، وكذلك المرجئة والجبرية وأهل السنة، لكن الصحيح أن أهل السنة يقولون كما قال الأوزاعي: نعمل بالكتاب والسنة على فهم أبي بكر وعمر، هذا هو الضابط، لا بد أن نفهم الكتاب والسنة على فهم أبي بكر وعمر، أما فهم السنة على الفهم الخاص فهذا عوج وابتداع.
إذا علم ذلك؛ فإن في الناس ومن الدعاة من يجتهد في الخير -بل كلهم يريد الخير- لكن بعضهم يريد الخير ولا يوفق إلى حكمة بالغة وقدرة نافذة، فالأولى أن يناصح هؤلاء بالتي هي أحسن، ولا يثار عليهم بالنصيحة ولا يشهر بهم؛ لأن مقصودهم الخير ظاهره مستتر ومقصودهم حسن، ولكن ظهرت منهم أخطاء فينبهون على أخطائهم ستراً وسراً، ويعرض المنهج الصائب.
وهناك اقتراح بدل التشهير بالآخرين، اعرض منهجك الصائب أنت في المحاضرات والندوات والدروس، دون أن تتعرض لأحد، اعرض ما عندك من بضاعة، اعرض الخير؛ لأن الناس إذا رأوا الخير عرفوا المضاد له، وإذا رأوا الصحيح عرفوا الخطأ، عرف منهجك، واشرحه بجزئياته -دائماً- وكرره للناس، وعند ذلك سوف يدرك صاحب الخطأ خطأه.(355/28)
إحساس غريب عند الوحدة والانفراد
السؤال
فضيلة الشيخ: أحس بإحساس غريب عندما أكون مع إخوتي في الله أني ضعيف العطاء قليل الحركة في الدعوة إلى الله عز وجل، وعندما أكون منفرداً أحس أني كثير العطاء والحركة ولا أدري ما هو السبب.
أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
الجواب
هذا السائل على خلاف المعهود من أسئلة الشباب، أسئلة الشباب في الغالب أنهم إذا جلس بعضهم مع بعض نشطوا، وإذا انفرد الواحد عن إخوانه تكاسل، وأما هذا فبعكس هذه.
يقال في هذا الباب: إن الإنسان أعلم بنفسه وهو طبيب قلبه، وبعض الناس -الآن- يجعل من العزلة قضية، كـ الغزالي أبي حامد فهو يدعو الناس جميعاً إلى العزلة؛ لأنه اطمأن للعزلة، فيظن أن الناس لا يصلحون إلا بها وتراه يمدحها، وعقد مناظرة في الإحياء بين العزلة والخلطة ثم اختار العزلة ودعا الناس إليها.
وتجد بعض الناس مرتاحاً للخلطة وهو لا يتكلم إلا بها، هناك قضايا تشغل الناس في الحياة حتى تكون قضيته الكبرى فيرى أن هذه القضية هي لب القضايا وأم القضايا، ومن زاول شيئاً أُعطي حكمته.
وأهل الهيئات يرون من قضاياهم الكبرى: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يريدون أن يتحدث الناس إلا فيها.
أهل الجهاد يريدون أن تكون خطب الجمعة، والمحاضرات، والندوات، والدروس، ودروس الكلية والمعاهد والثانوية في الجهاد.
وخذ على ذلك! حتى صاحب عقود الأنكحة محاضرته دائماً في عقود الأنكحة، وكلامه وبكاؤه وخشيته وضحكه في عقود الأنكحة، فبعض الناس له توجه خاص، ولا أحسن ممن توازن في حياته وأعطى كل شيء حقه.
فأنت -يا أخي- إذا وجدت نشاطاً في نفسك فافعل ذلك، ولا يلزمك أنك ترى المخالطة أحياناً ضياعاً، وليس هناك فتوى عامة في الخلطة والعزلة لكن تختلف باختلاف الأشخاص والأحوال، بعض الصحابة أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالعزلة مثل أبي ذر، يقول: {إنك ضعيف، وإذا بلغ البناء لسلع فاخرج من المدينة} فخرج، فهؤلاء لا يصلح أن يقودوا الأمة، لا يصلح أن يكونوا في مجتمع، وترك صلى الله عليه وسلم عثمان، ومن قبله أبا بكر وعمر يخالطون الأمة، بل يقودون الأمة.
فأنت أعرف بنفسك، وما ارتحت إليه نفسك من طاعة الله عز وجل في نفسك فافعله و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة:286] {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60].(355/29)
الموقف من سوء تصرفات بعض الإخوة
السؤال
إنني أحب بعض الإخوة في الله؛ ولكن أجد منهم -أحياناً- تصرفات تجعلني أبتعد عنهم، ثم لا ألبث حتى أعود لهم ويحدث منهم، مثل: الاستهزاء ببعض المتدينين، أو التساهل في الصلاة.
فما موقفي منهم؟ ومتى يجوز أن أهجرهم؟
الجواب
لا بد أن تفهم مسألة مهمة جداً، وهي: ألا تتصور في أخيك الكمال ولا تتطلب مبرأً من العيب، فإنك إن طلبت عجزت عن أن تناله وعجز أن يصاحبك.
تريد مبرأً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان
ويقول النابغة وهو يخاطب النعمان بن المنذر:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمُّه على شعث أي الرجال المهذب
وقبل ذلك وهو خير من ذلك قوله سبحانه: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً} [النور:21].
إذا أنت لم تشرب مراراً على القذى ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
الأب الأم الأخ الابن الصاحب؛ لابد أن تصدر منهم أشياء، فاجعلها لحسناتك، واجعل هذه النقاط السوداء كالثوب الأبيض كأنها لا شيء، وإذا بلغ الماء القلتين لم يحمل الخبث، فارضَ بهذا، وحاول أن تسامح ولا تستقصي كل شيء:
إذا صاحبت قوماً أهل ودٍّ فكن لهم كذي الرحم الشفيق
ولا تأخذ بزلة كل قوم فتبقى في الزمان بلا رفيق
ترى بعض الناس عنده حاسة ناقدة، لذَّاع في النقد، كلما صاحب أخاً ورأى منه شيئاً هجره وعزله، فيصاحب في كل يوم ألفاً، ويهجر في كل يوم ألفاً، يقول امرؤ القيس بعد أن قال:
أرى أم عمرو دمعها قد تحدرا بكاءً على عمرو وما كان أجدرا
إذا قلت هذا صاحب قد رضيته وقرت به العينان بدلت آخرا
وهذا مذهب بعض الناس، دائماً يبدل ويعدد، فإذا رأيت أناساً الخير فيهم غالب فاصحبهم، وحفظت كلمة لـ ابن المبارك في الجرح والتعديل من أحسن ما يقال، وقيل: إنها لـ سعيد بن المسيب والله أعلم، قال: ما من شريف ولا فاضل ولا عالم ولا خيِّرٍ إلا وفيه شيء، فمن كان خيره أكثر من شره فهو العدل عندنا، أو كما قالوا: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
وقال أحد الدعاة في كتاب له: باب: ميزان الناس عندنا بآية الأحقاف، وأتى بهذه الآية.(355/30)
حكم قول: أكرهك في الله
السؤال
إذا صدرت من بعض إخوتي بعض التصرفات.
فهل يجوز لي أن أقول له: أكرهك في الله؟
الجواب
نسيت حديثاً وهو في صلب المحاضرة وهو الذي رواه البخاري ومسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه} يقول القرطبي كما في فتح الباري: وبمفهوم المخالفة وأن تكره له ما تكرهه لنفسك.
هذا هو الصحيح.
أما أن تكون إذا رأيت منه معصية كارهاً له في الله فهذا صحيح؛ لكنك تكرهه كراهة نسبية لهذه المعصية، وقد سبق أن ذكرت كلام شيخ الإسلام أنه قد يجتمع في الشخص الواحد الحب والبغض، والمحبة والكراهة.
نعم! تكرهه لهذه المعصية التي بدرت منه، ولكن بقي له حب فيك؛ لأنه لا زال مسلماً وله حسنات، فلا بأس أن تقول هذه الكلمة إن شاء الله.(355/31)
التوبة بعد الظلم
علم الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه النظام والأدب والتآخي والاجتماع وكان دليلهم إلى صراط الله المستقيم.
ولقد أطاع المؤمنون رسولهم صلى الله عليه وسلم، ورضوا بأحكامه، لأن هذا الرضا شرط في إيمان المؤمنين.
على أن هذا لا يعني سلامة الصف الإسلامي تماماً من الشواذ ومن في صدورهم حرج؛ فقد شهدت تلك الأيام الذهبية أناساً خرجوا عن طاعة الله ورسوله يعيشون -على انحرافهم- مع تلك الصفوة من البشر الذين رضي الله عنه وأرضاه الله لهم الهداية ورضي عنهم.(356/1)
بعض مظاهر النظام والالتزام
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أشكركم على هذا الاجتماع الطيب العطر بوجودكم، وأشكر صاحب الفضيلة الدكتور مسفر بن دماس على الدعوة المسبقة وعلى إتاحة هذه الفرصة، وأعتذر إن لم يكن هناك شيء من الترتيب قبل أن ألتقي بكم، فما كنت أدري بظروف الامتحان أو بترتيب المحاضرات؛ ولكن يشفع لي عندكم الحب الذي أتى بي إليكم.
وأول من أتى بهذا الحب هو معلم البشر عليه الصلاة والسلام، وهي معجزته الكبرى، فإنه عاش بين الناس رجلاً، وبين الرجال بطلاً، وبين الأبطال مثلاً.
أتى عليه الصلاة والسلام بالحب، أول ما هبطت دعوتُه إلى الأرض هبطت بالحب، والله يعلمه ما هو إنتاجه الحضاري في الناس، فأخبره وقال: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].
فطبيعة البشرية التي بُعث فيها عليه الصلاة والسلام والجزيرة العربية ما كانت مجتمعة ولا متآخية ولا متجانسة ولا متآلفة، أمة مبعثرة؛ ينحر الأخ أخاه، ويذبح الابن أباه، ما اجتمعت على ثقافة ولا على حضارة ولا على فن ولا على دم ولا على وطن، فأتى عليه الصلاة والسلام يحمل لافتة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:4] فصلَّوا وراءه جميعاً وصاموا معه جميعاً وحجوا معه جميعاً، كبَّر في الصلاة فكبروا بعده، وسجد فسجدوا وراءه، ورفع فرفعوا بعده، وكان يقول: {استوُوا -يعلمهم الترتيب والنظام- فوالذي نفسي بيده إني لأراكم من وراء ظهري}.
ثم أخذ هذا الترتيب أصحابُه من بعده ففتحوا الدنيا وهم صفوف في الصلاة، حَضَرَت المعركة في القادسية، فأذَّن المؤذن والمعركة على أوارها وعلى أشُدِّها؛ الرماح تندر في الرءوس، والسيوف تهتك الأكتاف، فقال سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه وأرضاه: استوُوا فلما كبر كبروا بعده، ولما ركع ركعوا بعده، ولما رفع رفعوا بعده، قال رستم قائد فارس: علَّم محمد الكلاب الأدب، بل علم صلى الله عليه وسلم الرجال الأدب.(356/2)
المسارعة بالاستغفار وطاعة الرسول بعد ظلم النفس
وظلال هذه الكلمة يدور حول آيتين من كتاب الله عزَّ وجلَّ، يقول المولى تقدَّست أسماؤه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً * فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:64 - 65] والمعنى مجملاً: لو أن هؤلاء البشر وهؤلاء الأتباع إذ ظلموا أنفسهم وتدنسوا بالخطأ وانحرفوا عن المنهج الرباني عادوا إلينا -أي: إلى الله- فاستغفروا لغفر الله لهم.
من الذي يغلق باب الملك المفتوح؟! ومن الذي يقطع الحبل الممنوح؟! ومن الذي يقف أمام الرزق الذي يغدو ويروح؟! لا أحد من البشر.
والكيانات الأرضية لا تستطيع أن تقول للمخطئين: إننا نراقب حركاتكم وسكناتكم فلتنتبهوا، والأنظمة الوضعية لا تراقب الأفكار ولا المعتقدات، ولا الأسرار ولا الضمائر، ولذلك يقول المولى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْأِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام:120] {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النساء:64] فالعاصي إنما ظلم نفسه: {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة:57].
فالله عزَّ وجلَّ لا تضره معصية العاصي، والله عزَّ وجلَّ لا يتضرر بانحراف المنحرف، ولو أن أهل الأرض جنهم وإنسهم كانوا على أفجر قلب رجل واحد ما نقص ذلك من ملك الله شيئاً، ثم هو سبحانه لا ينتفع بطاعة الطائعين، ولو امتلأت مساجد الدنيا بالمصلين والمسبحين والخاشعين والعابدين ما زاد ذلك في ملك الله شيئاً؛ لكن العبد يظلم نفسه، والعبد ينسى الله وينحرف عن المنهج الرباني، فتجده في غروره وهواه وشيطانه ودنياه، فينحرف فترة من الفترات ثم يتذكر، قال تعالى: {تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] فكأن الذي وقع في الخطأ أعمى، قال: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران:135] وهنا مسألة التحدي، وهي عنصر من عناصر الألوهية التي لا يقبلها إلا الله، وهي: {وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:135] من هو الذي يستطيع أن يغفر لك ذنبك إلا الواحد الأحد.
وقفنا على الباب يا ذا الملك وصرنا ببابك والحمد لك
وهذه شجون العبد، أن يقف بباب الله عزَّ وجلَّ، فيتلفت الإنسان هل يغفر الله الذنوب وهي كثيرة؟! فيقول عليه الصلاة والسلام: {لَلَّهُ أشد فرحاً بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلته عليها طعامه وشرابه، فنام تحت شجرة، فضلت منه، فالتمسها فلم يجدها فعاد فنام وأيس منها، فلما استيقظ وجدها عند رأسه، فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح} فالله أشد فرحاً من هذا، فرحاً يليق بجلاله، قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} [النساء:64] هم دعَوك أنت، وهذا في حياته عليه الصلاة والسلام، والصحيح عند أهل العلم أنه لا يجوز الإتيان إلى قبره عليه الصلاة والسلام في طلب المغفرة، إلا بعض أهل التصوف فإنهم فهموا الآية خطأ، فيأتي أحدهم بعد أن يخطئ أو يشرب الخمر أو يسرق أو يزني فيقف عند الروضة، ويأخذ قضبان الحديد عند قبره صلى الله عليه وسلم ويقول:
يا رسول الله يا من ذكره في نهار الحشر رمزاً ومقاما
فأقل لي عثرتي يا سيدي في اكتساب الذنب في خمسين عاما
ولا يقيل العثرة إلا الله؛ لكن في حياته عليه الصلاة والسلام إذا جاء العبد واعترف عنده واستغفر له الرسول عليه الصلاة والسلام فإن الله يغفر له باستغفار الرسول صلى الله عليه وسلم له.
اسمع لبعض القصص الحية:
مر عبد الله بن سرجس على ناقته فقال: {يا رسول الله! السلام عليك ورحمة الله وبركاته، فقال: عليك السلام ورحمة الله وبركاته، قال: غفر الله لك يا رسول الله} والرسول صلى الله عليه وسلم مغفور له، وعبد الله بن سرجس يعلم أن الله قد غفر لرسوله ما تقدم من ذنبه وما تأخر؛ لكن هو يريد أن يدعو له الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كريم يرد على الكرم بالمثل وأزْيَد: {قال: ولك غفر الله، قال الصحابة: هنيئاً لك يا بن سرجس! استغفر لك الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: والله لقد استغفر لكم، وقد أمره الله بذلك في قوله سبحانه وتعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد:19]}.
وفي صحيح مسلم: أن رجلاً صلى مع الرسول عليه الصلاة والسلام، فأتى يطرح نفسه عند الرسول صلى الله عليه وسلم، انظروا إلى هذا الأمة! يذنب مذنبها ويأتي ليعترف عند المعصوم عليه الصلاة والسلام ويريد أن يطهره بالحد، حتى إن ابن الوزير عالِم اليمن يقول: والله الذي لا إله إلا هو إن عصاة الصحابة أفضل من طائعينا.
مَن مِن طائعي العصر الذي إذا أخطأ خطأًً يذهب إلى القاضي أو الإمام أو الشيخ ويقول: طهرني بالحد؟! من هو الذي لو شهد شهادة زور أو شرب خمراً أو سرق أو زنى أو خان أو غش ذهب يطلب التطهير؟! لا أحد؛ لكن أتى هذا الصحابي فقال: {يا رسول الله! أصبتُ حداً فأقمه عليَّ، قال: أصليتَ معنا؟ قال: نعم، قال: اذهب، فقد غفر الله لك} يقول الشراح: من الممكن أن يكون هذا ليس بحد، وظن الصحابي أن فيه حداً، وربما كان قبل أن تنزل الحدود، فقال: {اذهب، فقد غفر الله لك}.
قال: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً} [النساء:64] وهذا في خطأ العبد.(356/3)
اقتران الإيمان بالرضا بأحكام الرسول صلى الله عليه وسلم
ثم أتى سبحانه وتعالى بمسألة كبرى تغيب عن أذهان الناس، خاصة أن الجيل الذي يُنتظر منه -من أمثالكم- توجيه الأمة، وترشيد الجيل، وبناء هذه الصحوة على المنهج الرباني الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام، يُنتظر منه أن يكون هذا المنهج حياً في ذهنه.
يقول سبحانه وتعالى: {فَلا وَرَبِّكَ} [النساء:65]: يقسم برب محمد عليه الصلاة والسلام، {لا يُؤْمِنُونَ} [النساء:65]: ولا يمكن أن يكمل إيمان العبد منهم: {حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65].
والذي نفسي بيده! لا يمكن أن يكون الإنسان مخلصاً لله حتى يرضى بالرسول عليه الصلاة والسلام في عقيدته وعبادته، وأخلاقه وسلوكه، وليله ونهاره، وأن يرضى به شيخاً ومعلماً ومربياً وموجهاً عليه الصلاة والسلام، وأن يسلم له قياد حياته، وأن يجعله نصب عينيه، وأن يرضى بما رضي به الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن يغضب لما غضب منه الرسول عليه الصلاة والسلام، وفوق ذلك كله يعلن عليه الصلاة والسلام لأجياله ولشبابه ولأتباعه، فيقول: {والذي نفسي بيده! لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين} فهل يسأل أحدٌ منا نفسه بالله: هل الرسول صلى الله عليه وسلم أحب من أبيه وأمه إليه؟! إن كان ذلك فليحمد الله، وإن لم يكن ذلك فليَبْكِ على نفسه، إلى درجة أن تحب الرسول صلى الله عليه وسلم وتقدمه على نفسك.
أما قصة الآية وسببها كما رواه البخاري في صحيحه من حديث عبد الله بن الزبير أن رجلاً من الأنصار كانت له مزرعة، وكانت مزرعة الأنصاري تحت مزرعة الزبير، والزبير ابن صفية بنت عبد المطلب عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، والزبير مهاجري، وصاحب المزرعة التي تحت مزرعة الزبير أنصاري، فدعوا الرسول صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهما بحجة أن الزبير كان يغلق الماء ولا يتركه يمر إلى مزرعة الأنصاري، فحضر المعصوم عليه الصلاة والسلام الذي لا ينطق عن الهوى ولا تأخذه في الله لومة لائم، الذي يعلن للبشرية وللدنيا كل الدنيا على المنبر وهو يهز أعواده التي تتباكى تحت يديه، يسمعها مَن يسمعها، ويقبلها مَن يقبلها، ويعلمها مَن يعلمها، ويجهلها مَن يجهلها، ويقول صلى الله عليه وسلم: {وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} قال الزهري: وحاشاها أن تسرق.
من يستطيع أن يتحدى أنظمة الأرض والدنيا والوساطات والشفاعات وأسر الأرض في امرأة مخزومية سرقت ويريدون أن يشفعوا فيها، فيقول: {وايم الله -وتالله وبالله- لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} هذه العدالة كل العدالة.
الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقف على المنبر في مرض الموت، فيكشف صلى الله عليه وسلم عن جيبه، فتبدو منه صلى الله عليه وسلم أضلاعُه، أنهكته الأمراض بأبي هو وأمي وبنفسي، ويبدو العرق يتحدَّر كالجُمان والدر من تحت أضلاعه التي أنهكتها الحمى، حتى إنه يقول: {إني لأوعَك كما يوعك الرجلان منكم} يقول: تصيبني الحمى وأمرض مثلما يمرض رجلان منكم، فيقول: {يا أيها الناس! مَن ضربتُه -سبحان الله! كم ضرب عليه الصلاة والسلام! - أو من شتمتُه، أو من أخذتُ من ماله شيئاً فليقتص مني الآن قبل ألا يكون درهم ولا دينار} فبماذا يرد الناس؟ وماذا يستطيع أن يقول المهاجرون والأنصار له وهو على المنبر؟ أتدرون بماذا ردوا له؟ ردوا بالبكاء، يقول أنس: {فكان المسجد له خنين}.
فإذا رحمت فأنت أمٌّ أو أبٌّ هذان في الدنيا هما الرحماءُ
وإذا سخوت بلغت بالجود المدى وفعلت ما لا تفعل الأنواءُ
وإذا غضبت فإنما هي غضبة في الحق لا كِبْر ولا ضغناءُ
وإذا سعيت إلى العدا فغضنفر وإذا جريت فإنك النكباء
فيذهب إلى الأنصاري ليصلح بينه وبين ابن عمته صلى الله عليه وسلم؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يعرف ابن عم، ولا يعرف ابن خال؛ لأنه ميزان من الله، أنزله بالقسط، وأنطقه بالحق، فلا يضل ولا يغوى، ولا يلابسه الشيطان، حتى إنه يقول: {ما منكم من أحد إلا ومعه قرين، قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟! قال: حتى أنا، لكن أعانني الله عليه فأسلم} أعلن إسلامه، فلا يأمره شيطانه إلا بخير، لا ينام قلبه إذا نامت قلوب الناس، يقول: {تنام عينيَّ ولا ينام قلبي} لا يحتلم، ولا يلعب عليه الشيطان، ولا يتثاءب، فطيلة عمرِه ثلاثٌ وستون سنة ما تثاءب.
فيحضر المزرعة عليه الصلاة والسلام ومعه كبار الصحابة، فأراد صلى الله عليه وسلم صلحاً بلا حكم؛ لأن الصلح خير، والصلح أحسن، وأراد أن يبر بالأنصاري وأن يكرمه، فقال: {يا زبير! اترك الماء حتى يصل إلى الكعب، ثم اتركه يمر إلى مزرعة الأنصاري -وهذا في مصلحة الأنصاري، وهو خيرٌ منه عليه الصلاة والسلام وتفضُّل- قال الزبير بن العوام: سمعاً لك وطاعة يا رسول الله! فغضب الأنصاري وقال: أئن كان ابن عمتك؟ -أي: حكمت له؟ وهذه كلمة تكاد تهتز لها الجبال- فقام عمر وقال: دعني أضرب عنقه، قال صلى الله عليه وسلم: دعه، ثم أتى بالحكم الشرعي عليه الصلاة والسلام فقال: يا زبير! اترك الماء حتى يعود إلى الجدر، ثم سيِّبْه -ما دام أنه رفض الصلح فهذا هو الحكم- فلما مضى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو في الطريق نزل عليه جبريل بالآية: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65]}.
والحرج هذا يعيشه بعض الناس في المعتقد، فتجده لا يسلِّم بالرسالة للرسول عليه الصلاة والسلام، وبعضُهم يقول حتى من أبناء المسلمين ممن يسكن أرضنا ويشرب ماءنا ويستنشق هواءنا: الرسول صلى الله عليه وسلم صحيح، والدين في المسجد، وفي أمور الصلاة والعبادة وصلاة الاستغفار والكسوف، أما أن تُطور الدين ليكون للاقتصاد والإعلام والحياة فهذا ليس بصحيح، فهؤلاء ما قبلوا بالرسول عليه الصلاة والسلام حكماً ولا إماماً، ولا رضوا بمنهجه، ولا اتبعوه كما أراد عليه الصلاة والسلام، وفي قلوبهم حرج.
ومنهم من لا يرضون بالرسول صلى الله عليه وسلم في العبادة، فتجده يعبد الله عزَّ وجلَّ لكن على غير السنة، له صلوات وأذكار وأمور على غير سنة الرسول عليه الصلاة والسلام: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].
ومنهم مَن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى إنك تجد من يصلي الخمس ويصوم ويحج ويعتمر، فيخالف الرسول صلى الله عليه وسلم في سلوكه الظاهر والباطن، كأن في قلبه حرجاً من اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، بل بعضهم إذا قام ببعض السنن خجل من الناس، والله يقسم من على العرش، وهو الذي استوى ولا يقول إلا الحق، وهو: {يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30] لا يؤمن أحد حتى يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ويسلم مقاليده له، ثم لا يكون في صدره حرج أبداً، ولا يخجل، ويكون على السنة وعلى الاستقامة وعلى السلوك الحسن.(356/4)
طاعة الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم وأمثلة على ذلك
وانظر إلى طاعة الصحابة للرسول عليه الصلاة والسلام، ثم أسألُ نفسي واسألْ نفسَك: بالله هل أطعناه عليه الصلاة والسلام؟ ماذا قدمنا لطاعته؟ هذه الصلوات التي يصليها ما يقارب ملياراً، وهذه الزكاة والصيام والحج وهو أمر فضيل، ولكن تعالوا إلى طاعة الصحابة لمحمد عليه الصلاة والسلام.(356/5)
ابن رواحة
بعد صلاة الجمعة ألقى صلى الله عليه وسلم كلمة وقال: {يا أيها الناس! اجلسوا} فأتى ابن رواحة وهو على الرصيف خارج المسجد في شمس المدينة فجلس مكانه، قال الصحابة: ما لك يا بن رواحة؟ قال يقول عليه الصلاة والسلام: اجلسوا، فجلستُ مكاني، لا يجوز لي أن أتعدى مكاني، ما دام أنه أمر صلى الله عليه وسلم.(356/6)
عبد الله بن عبد الله بن أبي
أتاه عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول قال: {يا رسول الله! سمعتُ أنك تريد قتل أبي، فإن كنت تريد قتل أبي لا ترسل أحداً من الناس، فإني لا أستطيع أن أعيش وقاتل أبي يمر على الأرض؛ لكن أرسلني لآتيك برأسه، والله يا رسول الله! إن أمرتني أن أقتله وأقتل أبنائي لقتلتهم} ووالله لو أمره عليه الصلاة والسلام أن يذبح أطفاله لذبحهم أمامه.
يقول سيد قطب: حتى أنهم بلغوا أن قتلوا نفوسهم أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ليرضى الله ثم يرضى رسوله عليه الصلاة والسلام، فيقول صلى الله عليه وسلم: {بل نترحم ونصبر على أبيك}.
ويأتي أبوه يريد دخول المدينة، فيأتيه فيعترضه بالسيف أمام أنفه؛ لأن أباه يقول في غزوة: {يقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] قال: {والله لا تدخل المدينة حتى يأذن لك الرسول صلى الله عليه وسلم فإنك الأذل وهو الأعز.
فأذن له الرسول صلى الله عليه وسلم فدخل}.(356/7)
أبو عبيدة يذبح أباه
أبو عبيدة فيما يُروى في السير مرَّ به أبوه، فأشاح عنه -وأبوه كافر وأبو عبيدة مسلم- فاعترضه أبوه، فذبحه أبو عبيدة، لماذا؟ لأنها نفوس أسلمت لله، ليس للشيطان فيها حظ، وقدموا أرواحهم دون الرسول عليه الصلاة والسلام.(356/8)
طلحة بن عبيد الله يتلقى الطعنات عن الرسول عليه الصلاة والسلام
وقرأت في سيرة طلحة بن عبيد الله، يقول: [[والله الذي لا إله إلا هو ما في جسمي موضع شبر إلا ضُرب يوم أحد، قال أبو بكر: أما يوم أحد فقد ذهب به طلحة]] كان يأتي السهم الطائش يريد أن يقع في جسم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقبل عليه طلحة فيقع في صدره، ويُضرب الرسول صلى الله عليه وسلم بالرمح فيضع طلحة يده فيقع الرمح في يده، ويأتي السيف ليأخذ من جسم الرسول صلى الله عليه وسلم فيقفز عليه كالأسد فيتلقى ضربة السيف، حتى أصبح مجدَّعاً وشُلَّ في يوم أحد، أصبح مشلولاً، ولا تتحرك منه إلا يده اليسرى ورجله اليسرى وطرفه الأيسر، فهل قدمنا مثل هذا؟ أو معشار عُشر هذا؟
ويأتي أحدهم أمام الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول: [[اللهم خذ مني هذا اليوم حتى ترضى]].(356/9)
عبد الله بن أنيس وقتله خالد بن سفيان
وخالد بن سفيان الهذلي في عرفة جمع قبائل هذيل وهم قرابة ألف مقاتل، ودربهم على السلاح والاغتيال وقال: أقتلُ محمداً فأريح العرب قاطبة، ولكن الله يقتله، فإن الله يقول: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ} [المائدة:67] يقول: أما أنت فلن تُغتال ولن تُقتل؛ لكن بلغ الرسالة، ولا تخف فإنا سوف نحرسك بحرسٍ من عندنا لا بحرسك، فلا تقتلك العرب حتى تبلغ الرسالة.
فمهمتك أن تبلغ (لا إله إلا الله) وتغرسها في قلوب الجيل، وتبني صروحها في نفوس الناس، ولكنك لن تُقتل بإذن الله.
فأتى خالد هذا يريد قتل الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه ألف مقاتل، قال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في المسجد: {من يقتل خالد بن سفيان الهذلي وله الجنة؟} فسكت الناس، فالأمر ليس بالسهل، أن يرسلك صلى الله عليه وسلم وحدك ثم تذهب إلى رجل في عرفة، من المدينة إلى مكة، ثم تأتي إليه وهو في ألف مقاتل يريدون اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم، فلن تستطيع، قال: من يذهب وأنا أضمن له الجنة؟ قال عبد الله بن أنيس وهو شاب: أنا يا رسول الله.
فذهب عبد الله بن أنيس وكان ينام النهار ويمشي الليل، حتى اقترب من عرفة، فلما نام ذاك قام عليه فقطع رأسه، ثم أخذ معه الرأس علامة، وهو أكبر علامة، لأنه إذا أتى بالرأس فمعناه أنه قُتل، أي عليها شاهد: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88] فجعل رأس خالد بن سفيان الذي يريد اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم بألف مقاتل معه في المخلاة وذهب، ووصل إلى المدينة، فانتهى عليه الماء في وادي ودان، ووادي ودان عند الصعب بن جثامة، وكاد أن يتلف، وكان كلما أيس من الحياة واقترب من الموت جلس تحت شجرة يبرد ويدعو الله أن يقيم من أوَدِه، حتى وصل إلى المدينة، فلما رآه صلى الله عليه وسلم رأى شحوب وجهه، ولكن رأى البشرى عليه، فقال: {أفلح وجهُك، قال: ووجهُك يا رسول الله! فألقى الرأس بين يديه، قال صلى الله عليه وسلم: ضمنتُ لك الجنة، قال: يا رسول الله! أعطني علامة، قال: هذه العصا تتوكأ بها في الجنة إن شاء الله} والمتوكئون بالعصي في الجنة قليل، فأخذها معه، فكانت العصا تنام معه، ويقوم بها، ويذهب بها، ويسافر بها، فلما أتته الوفاة دفنت معه.
وهي علامة يلقى بها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
أي صدق وأي اتباع يبلغ هذا المبلغ؟!(356/10)
ابن عتيك وابن بشر يقتلان يهودياً
ذهب منهم ابن عتيك وعباد بن بشر إلى رجل من اليهود كانت له جارية تغني بسب الرسول صلى الله عليه وسلم، يشرب هذا اليهودي الخمر ويأمر الجارية أن تضرب الدف وتسب الرسول صلى الله عليه وسلم بقصائد ينْظُمُها اليهود، فقال صلى الله عليه وسلم: {مَن يقتله منكم؟ قالوا: نحن يا رسول الله، وماذا تعطينا؟} والرسول صلى الله عليه وسلم ليس عنده دنيا، كما يقول أبو الحسن الندوي: لم يكن يعرض على أصحابه قصوراً ولا ذهباً ولا فضة، وهو ما شبع أصلاً من خبز الشعير، وكان ينام صلى الله عليه وسلم على الحصير فيؤثر في جنبه، من أين له جوائز ورُتب ونجوم وأوسمة يعطيها هذا الجيل؟ ولو فعل صلى الله عليه وسلم لانحرفت قلوبهم إلى الدنيا وتركت الآخرة، قال: {أنا أضمن لكم الجنة، فذهبوا، فصرخ ابن عتيك وصرخ عباد بن بشر لهذا فخرج من على رأس الدرج، فلما خرج لطموه بالسيوف فقتلوه، فنزل ابن عتيك -وقيل: محمد بن مسلمة - فعثر فانكسرت رجله، فأتى يسحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ابسطها أمامي، فبسطها فنفث صلى الله عليه وسلم وقال: باسم الله، فعادت وما كأن بها كسراً، قال: ما خبركم؟ قال عباد بن بشر: يا رسول الله! ائذن لي أن أتحدث بخبرنا -وكان شاعراً وهو من سادات الأنصار ومن أشجعهم، قتل يوم اليمامة، وهو من الشهداء الكبار عند الله، وكان يصلي فيبكي في المسجد ويبكي ببكائه نساء الرسول صلى الله عليه وسلم داخل البيت- قال: اعطنا خبرك، فقال عباد بن بشر يلقي قصة اغتيال اليهودي:
صرختُ له فلم يعلم بصوتي وأقبل طالعاً من رأس جدرِ
فعدتُ له فقال مَن المنادي فقلت: أخوك عباد بن بشر
فأقبل نحونا يهوي سريعاً فقطَّعه أبو عبد بن جبر
يهوي، أي: اليهودي، وأبو عبد بن جبر: من الأنصار، قتل من قريش في حومة وراء شجرة ثمانية.
وأرداه ابن مسلمة بسيف شديد الصوت في الكفار يسري
وكان الله خامسنا فعدنا بأعظم مِنَّة وعظيم نصرِ
قال صلى الله عليه وسلم: وجبت لكم الجنة}.(356/11)
نماذج من أهل الجنة
كانت مفاتيح الجنة بيده عليه الصلاة والسلام منحه الله إياها؛ لأن الله عرض عليه مفاتيح الذهب والفضة في الدنيا فأبى، فأعطاه الله مفاتيح الجنة.
يصلي الفجر عليه الصلاة والسلام بالصحابة فيقول: {أين بلال؟ فيأتي بلال -يقولون كان كأنه الصقر، خفيف اللحم، ليس على جسمه من اللحم شيء، وكان أندى الناس صوتاً، فيقف بكسائه، لا يملك من الدنيا غيره- قال: يا بلال! سمعتُ دفّ نعليك في الجنة البارحة -دخل صلى الله عليه وسلم البارحة إلى الجنة، رآها ورأى قصورها وبساتينها وثمارها- فما كنتَ تصنع؟ قال: يا رسول الله! لستُ بكثير صيام ولا صلاة ولا صدقة لكن ما توضأت في ساعة من ليل أو نهار إلا صليت ركعتين} وهذا عمل فريد بإمكان الواحد منا أن يعمله، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية قال: فيه أنه بعد الوضوء حتى في وقت النهي صلاة ركعتين، حتى بعد العصر وبعد الفجر لك أن تتوضأ وتصلي ركعتين، كلما توضأت صلِّ ركعتين تكون مع بلال من طريق بلال؛ لأنه ليس هناك انفراد للصحابة في الأعمال؛ لكن الانفراد في المنزلة، وإذا فعلت فعل الصحابي كسبت ككسبه، بل تضاعف العمل حتى بأجر خمسين من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال صلى الله عليه وسلم: {ورأيت الرميصاء البارحة في الجنة} وهي أم أنس، بم دخلت الجنة؟ {أتت بـ أنس بعد أن غسَّلَتْه وطيَّبَتْه ورسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل من المدينة فقالت: يا رسول الله! الدنيا ذاهبة وما عندي أحب من أنس، فهذا أنس يخدمك، فادعُ الله له، فدعا له صلى الله عليه وسلم} فأهدت له ابنها رضي الله عنها وأرضاها.(356/12)
أنموذج ممن في صدورهم حرج
وهناك قصص كثيرة كثيرة تشهد أن الصحابة أطاعوا الرسول عليه الصلاة والسلام، فلم يكن في صدورهم حرج.
لكن تعال إلى نماذج ممن في صدره حرج، فهناك الكثير من الناس، ونحن لو حققنا أنفسنا لعدنا إلا أنَّا تركنا كثيراً من السنن، لأننا نتحرج من بعض إقامتها، وبعض الناس ما ترك السنة إلا للتحرج، حتى إنك تجد مَن يصانع الناس في المجالس بأموره وتقواه وعبادته من أجل ألا يحرج الناس، حتى يترك السنة من أجل ألا يحرج الناس، فيُحرج نفسَه، فيكون في نفسه حرج مما أُنزل على الرسول عليه الصلاة والسلام.
الجد بن قيس أحد المنافقين، ذهب صلى الله عليه وسلم إلى تبوك يغزو، فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في قلبه حرج من الهداية، وقد أعطاه الله من الدنيا، قال: {ائذن لي، فأنا لا أستطيع أن أذهب إلى تبوك، قال صلى الله عليه وسلم: ولِمَه؟ قال: أنا رجل إذا رأيت بنات الروم وقعن في قلبي وافتتنت} وهذا كذب، أيترك الجهاد خوفاً من الفتنة؟! أيعصي الرسول صلى الله عليه وسلم خوفاً من الفتنة؟ وهذا يسميه ابن تيمية: الورع البارد، فبعض الناس يعتذر لمعصيته بأمور، فيعتذر لمعصيته بقوله: لولا كذا لفعلتُ كذا، وبعضهم يترك بعض السنن ويقول: تأليفاً للناس، وبعضهم يأتي بعض المعاصي ويقول: تأليفاً للقلوب، وهذا مثلما قال الجد بن قيس فعذره عليه الصلاة والسلام وتركه، فقال الله سبحانه وتعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي} [التوبة:49] يقول ابن عمر: [[والله ما زالت سورة التوبة، تقول: ومنهم، ومنهم، حتى خشينا على أنفسنا]] قال ابن عباس: [[أما هذه السورة فهي الفاضحة]] كلما قال أحدهم كلمة أنزل الله: ومنهم من يقول، ومنهم من قال، ومنهم من فعل قال: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي} [التوبة:49] قال سبحانه وتعالى: {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49] أكبر فتنة أنهم تركوا الجهاد معك، {أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ * إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ} [التوبة:49 - 50] يقول: هم أذكياء، لو أصابتك دائرة أو هزيمة قالوا: انتبهنا لأنفسنا وبقينا في المدينة.
يقول ابن القيم: ما هُدد الناس بمثل هذه الآية: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة:8].
فلما عاد صلى الله عليه وسلم أتى ثمانون كلهم كَذَبَة يستأذنون من الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: يا رسول الله! والله لقد مرضت زوجتي ولولا مرضها لخرجتُ معك، قال: أذنتُ لك.
قال الثاني: أما أنا فقد خفتُ من بنات بني الأصفر، قال: أذنتُ لك.
قال الثالث: أصابني عرج، قال: أذنتُ لك -كلهم أهل حيل- فلما أذن للثمانين نزل جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم في المسجد بقول الله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ} [التوبة:43] يقولون: أراد ألا يخوفه ربه، والأول يقول: أخطأت في التصرف معهم لكن عفا الله عنك، فالمنهج مع هؤلاء ليس كما فعلتَ لكن عفا الله عنك، وهم ما صدقوا معك لكن عفا الله عنك، وهم أصلاً كذبة ومنافقون لكن عفا الله عنك، يقول: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ} [التوبة:43].
وكان قد ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الحديبية ومعه الجد بن قيس، قال صلى الله عليه وسلم: تعالوا بايعوني، فعلى ماذا بايعوه تحت الشجرة، يقول بعض الكتبة في السِّيَر: هل بايعوه على حكومة مستقلة يتولون إدارتها؟
هل بايعوه على قصور يقتسمونها وعلى حدائق يتوزعونها؟
لا.
بل بايعوه على الموت؛ لأنه أرسل عثمان بن عفان حيث أفطر بـ مكة عند بني أمية قرابته، فأتى نائح يصيح من آخر الجبال - جبال بني قبيس - يقول: قُتل عثمان بن عفان، فغضب صلى الله عليه وسلم وجلس تحت الشجرة وقال: بايعوني على الموت، أي: ندخل مكة فلا يعود أحد مادام أن عثمان قُتل، قال سلمة بن الأكوع: والله الذي لا إله إلا هو لقد أخذتُ بالأغصان عن وجه الرسول صلى الله عليه وسلم ورفعتُها وهو يبايع الناس -كانت الشجرة من سلم -وقيل: من سَمُرَ كما قال ابن كثير وهو الصحيح- فرفع الشوك عنها- قال: بايعني يا سلمة! فبايعتُه على الموت، فلما انتصف الناس قال: بايعني يا سلمة! قلتُ: بايعتُك يا رسول الله! قال: وأيضاً، فبايعتُه، فلما انتهى الناس قال: بايعني يا سلمة! قلت: بايعتك يا رسول الله! قال: وأيضاً، فبايعته، فلما انتهى قال صلى الله عليه وسلم: {اللهم هذه عن عثمان بن عفان، فجعل يسراه الكريمة صلى الله عليه وسلم في يمناه} بايعه عن عثمان أي يقاتل هو عن عثمان، فمادام عثمان قد قتل فإنه يقوم صلى الله عليه وسلم مقامه.
قال سيد قطب في الظلال: اسمع إلى بشرى الله، وتصور نفسك أنك ممن جلس مع الرسول تحت الشجرة، ثم تجلس معهم ثم يبايعون، ثم تنتهي البيعة، ثم يهبط جبريل ويقول عن الله الذي مَلَكَ السماوات والأرض والذي مقاليد الأمور بيده يقول: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] حتى الشجرة، يقول: هذه الشجرة المعروفة، أنتم الذين جلستم تحت هذه الشجرة رضي الله عنكم، ألف وأربعمائة مبايع، يقول سيد: تصور أنك واحد من ألف وأربعمائة يبايع الرسول صلى الله عليه وسلم في حرارة الشمس على الموت، فلما انتهوا من البيعة وقبل أن يغادروا الشجرة، وإذا بالمرسوم الإلهي من عند علام الغيوب الذي كلامه حق وقوله حق ووعده حق: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ} [الفتح:18] لكن عن مَن؟ عن المؤمنين، مَن هم؟ الذين يبايعونك، في أي مكان؟ تحت الشجرة.
وهذا وصف مقرب، تحت الشجرة، وكلٌّ يعرف تحت الشجرة.
غاب الجد بن قيس وعنده جمل أحمر يبحث عنه في جبال مكة، فنُوْدِي.
سبحان الله! منهم من يريد الدنيا ومنهم من يريد الآخرة، وأهل السعادة وُفِّقوا للسعادة، وتجد الإنسان عَيِيَّاً شقياً مبهذلاً وراء الدنيا لا نافلة ولا ذكر ولا اتباع للسنة، وتجد هذا حمامة في بيوت الله، لأن الله أراد أن يدخل هذا الجنة، وأراد هذا أن يشقى بماله.
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ
فذهب إليه الصحابة وقالوا: يا جد بن قيس! تعال بايع الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: والله الذي لا إله إلا هو لحصولي على جملي أفضل من بيعتكم، وهذه يتكلم بها كثير من الناس، حتى إنك إذا دعوت بعض الناس إلى محاضرة أو ندوة أو درس قال: جلوسنا أنفع، والحمد لله الخير كثير ومنتشر وليس هناك ناقص والحمد لله؛ فيضيع ما هو خير له في حياته في جلسة واحدة، حتى إن عطاء بن أبي رباح يقول: [[مجلس الذكر يكفر سبعين مجلساً من مجالس اللغو]]
يقول عطاء وكان يبكي عند قوله تعالى {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون:6] ويقول: [[أغضبوا المولى حتى أقسم ألا يغفر لهم]] يقول: أغضبوه إلى درجة أنه أقسم ألا يغفر لهم، ولذلك يقول أحدهم: احذر أن يغضب الله عليك فيقسم على نفسه سبحانه وتعالى ألا يغفر لك، نعوذ بالله!
قال الحسن البصري في سورة الكهف عن الخضر في قوله: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] سبحان الله! موسى خالف الخضر ثلاث مرات فقال: هذا فراق بيني وبينك، وأنت يا عبد الله! تخالف الله في اليوم سبعين مرة، ألا تخشى أن يقول: هذا فراق بيني وبينك؟!
هذا نموذج ممن في قلبه حرج من اتباع الرسول عليه الصلاة والسلام، وما رضوا به صلى الله عليه وسلم إماماً وقدوة.(356/13)
السعادة كل السعادة في اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم
وملخص الكلام أني أقول: إن كنتَ تريد أو أنا أريد أو أي مسلم يريد أن ينجو من عذاب الدنيا ومن خزي وعذاب الآخرة ومن الشقاء والانحراف فوالذي لا إله إلا هو ليس هناك نفع مستقل عن نفعه عليه الصلاة والسلام، ولو بلغ مهما بلغ المتعلم من علمه؛ فإن العلم بلا تقوى خزي وندامة: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] وكل منصب أو جاه أو إمرة أو مال بدون اتباعه عليه الصلاة والسلام هو الانحراف كل الانحراف، فأسأل الله أن ينفعنا باتباعه عليه الصلاة والسلام، وأن يجعلنا من أتباعه، وأن يحشرنا في زمرته، وأن يسقينا من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً.
أيها الإخوة الكرام: يا أساتذة الجيل! يا أمل المستقبل! يا موجهي الأمة! يا مربي شباب محمد صلى الله عليه وسلم! إن السعادة كل السعادة في اتباعه؛ أن تجعله إمامك منذ أن تصبح إلى أن تمسي، فتترسم خطاه، وتنتهج مسلكه صلى الله عليه وسلم، وتتأمل سيرته حتى تسعد بشفاعته عليه الصلاة والسلام.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لِمَا اختُلِف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(356/14)
الأسئلة(356/15)
حكم أخذ الأجرة على القرآن
السؤال
فضيلة الشيخ: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، لقد أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن من أحب إنساناً أن يخبره، وأنا -والله- أحببتُك قبل أن أراك،
و
السؤال
لقد سمعتُ حديثين: أحدهما فيما معناه: أنه: {خير ما أكلتم به القرآن} والثاني: {تعلموا القرآن ولا تأكلوا به، ولا تجافوا عنه، ولا تغالوا فيه} فهل هذان الحديثان صحيحان؟ وفي حالة صحتهما كيف نوفق بين الأكل بالقرآن وعدم الأكل به، علماً بأن الأكل قد يكون بتعليمه أو بقراءته في المآتم أو المحافل أو العمل في الحكومة بتعليمه؟ جعلكم الله خيراً مما نظن فيكم.
الجواب
الحمد لله، أحبك الله الذي أحببتنا فيه.
أما الحديث الأول فهو في صحيح البخاري لكن ليس بهذا اللفظ، فاللفظ هو: {إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله عزَّ وجلَّ} وأتى هذا الحديث في قصة أبي سعيد يوم سافر مع طائفة من الصحابة فنزلوا في قبيلة من قبائل العرب فطلبوا منهم ضيافة فلم يضيفوهم، فلُدِغ شيخ الحي، فقالوا: {إن شيخ الحي سليم -أي: ملدوغ- فهل منكم أحدٌ يعالجه مما فيه ويرقيه؟ قال أبو سعيد: فرَقَيْتُ بالفاتحة، فأعطوهم قطيعاً من الغنم فأخذوه، فذهبوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال لـ أبي سعيد: بِمَ رَقَيْتَ؟ قال: بالفاتحة، قال: وما يدريك أنها رُقْيَة؟ قال: وأخذنا يا رسول الله! هذا الغنم، قال: خذوا واضربوا لي معكم بسهم، إن خير ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله} قال أهل العلم: معنى ذلك أن من قصد بالقرآن وجه الله عزَّ وجلَّ، وعلم لوجه الله عزَّ وجلَّ، ثم أتاه رزق بسبب هذا القرآن، وما طلبه هو وما حرص عليه وما كان معتمده في عمله فليأخذه، وأضربُ على ذلك أمثلة لأجمع بين الحديثين وهي: أن من تخرج مثلاً أو درس أو تعلم وقصده أن ينشر هذا الدين ثم علَّم الناس فأتاه رزق أو راتب، لا أنه هو يطلب الراتب أو لا يعلِّم القرآن إلا من أجل الراتب؛ فهذا يأخذ ذاك الراتب، والفاصل في ذلك أنه لو مُنع عنه هذا الراتب أو الدخل أنه يستمر في عمله، فهذا مأجور على ما فعل ومشكور، وقد فعل بعض أئمة السلف ذلك، وما قصدهم المال ولكن أتاهم سبب أو عارض من العوارض.
أما الحديث الثاني فإن بعض ألفاظه صحيحة وبعضهم يحسنها، وبعض ألفاظه ليست بثابتة؛ لكن على فرض صحته وحُسن هذا الحديث كما بيَّن بعض أهل العلم، فالمعنى أنه لا يُطلب القرآن لجمع المال، ولا للأكل به، كما هو ثابت في صور من المجتمع:
مثل من يحفظه الآن ليشحذ به من الناس، وقد وقع ما أخبر به بعض السلف: أن منهم من يأخذ بالقرآن، كما ترون في الحرم من يجلس عند الأبواب ويقرأ القرآن ويلحِّنه ويشحذ به، فهذا ممن يأكل بالقرآن.
أو يحفظ القرآن ليحضر به المواسم، والمراسيم والأعياد، والمآتم والأعراس، فيأخذ عليه أجرة من أجل أن يُعطى بهذا فقط، فإذا لم يُعطَ أجرة فإنه لا يقرأ ولا يحضر ولا يمكن أن يقرأ على الناس.
فهو من أجل أجرته يقرأ، فهذا مما نهى عنه عليه الصلاة والسلام.
فلذلك ننْزِل الناس على هذه المنازل.
وهذا في نظري جمع إن شاء الله بين الحديثين، وأسأل الله التوفيق والهداية.(356/16)
أفضل الجلساء في هذا الزمان
السؤال
من هو أفضل الجلساء في هذا الزمان، على الرغم من أن شباب الصحوة والحمد لله كثير، ولكن من هم الأفضل؟ وهل مجالسة السيئين فيها خير مع الدعوة إلى الله؟
الجواب
سؤال الأخ: من أفضل الناس ممن نجلس معهم في هذا الوقت، عن الجنس لا عن الشخص، لأنه لا يمكن أن يحدد شخص باسمه أنه فلان؛ لكن الجنس قد وصفه سبحانه وتعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام، فقال سبحانه وتعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس:62 - 63] فالمؤمنون المتقون هم الذين يجالَسون، خاصة من يُشتَهر بطلب العلم، والبحث في المسائل العلمية، والغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتأثير في الناس، فإن هذا مجلسه بركة، وقد سمى ابن القيم في الوابل الصيب هذا وأمثاله (من المبارك أينما كان)؛ لأن الله قال: {مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] فمعناه كلما نزل منزلاً كان همه الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فأرى أن تجالس:
أولاً: من بانَ الصلاحُ عليه، بأَنْ ظهر عليه الخير وعُرف بين الناس بالذكر الحسن، فتجالسه؛ لأن السرائر علامتها العلانية، فمن وضع الله له الحب والقبول فهو على سريرته، ومن وضع الله له البغض فهو على سريرته.
ثانياً: مَن يهتم بالدين، فإن بعض الناس مستقيم في نفسه لكنه سلبي، من يهتم بالدين تعليماً وتعلُّماً وتفقُّهاً وأمراً ونهياً تجالسه، وتجتنب من كان مشهوراً بالتهتُّك لحدود الله عزَّ وجلَّ، أو مغرماً بالدنيا، أو يصدك عن الله سبحانه وتعالى، لأن الله يقول: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} [الكهف:28].
أما مجالسة الناس السيئين فإذا أنست من نفسك حصانة في الدين واستقامة ولا تخاف على نفسك منهم أن يجروك إلى المعاصي أو يؤثروا عليك، فإن الأحسن أن تجالسهم، كما فعل عليه الصلاة والسلام؛ لكن من خشي على نفسه لضعف إيمانه، فالأولى أن يهرب منهم وأن يبتعد عنهم.(356/17)
مظاهر محبة الرسول صلى الله عليه وسلم
السؤال
ما هي أهم مظاهر محبته صلى الله عليه وسلم؟
الجواب
تكمن في أمور، ربما تكون في أربعة:
الأمر الأول: كثرة الصلاة والسلام على النبي عليه الصلاة والسلام، فإنها شفاء للقلوب، ودواء للأرواح، وزينة للمجالس، فأوصي نفسي وإياكم بكثرة الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم، يقول بعض أهل العلم: وأفضل صيغ الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم هي: الصلاة الإبراهيمية: اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم؛ في العالمين إنك حميد مجيد.
الأمر الثاني: حبه حباً -كما سلف في المحاضرة- يستولي على مشاعرك وأحاسيسك وكل أمر يأتيك.
الأمر الثالث: العمل بسنته صلى الله عليه وسلم، أن تطبق سنته، فلا تصدق الذين خالفوا سنته في الظاهر أو في الباطن وقالوا: إنا نحبه، ولو حلفوا، فلو كانوا يحبونه لاتبعوه.
الأمر الرابع: أن تنشر سنته في الناس، فتعلم الناس سنته واتباعه صلى الله عليه وسلم في كل دقيق وجليل.(356/18)
على من تجب الدعوة إلى الله
السؤال
هل لكل واحد أن يدعو إلى الله عزَّ وجلَّ؟ وما هي شروط الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ؟ وإذا وجَد معارضة من الناس فماذا يفعل؟
الجواب
أما الدعوة فإنها واجبة على المستطيع من الناس كلٌّ بحسبه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّمها، وليست الدعوة -أيها الإخوة- كالفُتيا، لأن بعض الإخوة يتهيَّب من الدعوة ويقول: أنا ما بلغت المستوى وليس عندي علم، والدعوة تختلف عن الفُتيا، فالفتوى لأناس بلغوا من العلم مبلغاً، أما الدعوة فلكل من يستطيع أن يفهم آية أو حديثاًَ، قال صلى الله عليه وسلم: {بلِّغوا عني ولو آية} وقال: {نضَّر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع} هذه مسألة.
أما شروطها: فهو الالتزام بالسنة، ولا يُشترط عند أهل العلم أن يكون الإنسان خالياً من العيوب والنقائص والمعاصي فإن هذا لا يكون، وهذا في الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، أما في الناس فمن انتظر حتى يكمُل فلن يكمُل أحد، والشيطان يدخل على بعض الناس فيقول: إذا أتممتُ استقامتي وأتممتُ علمي أدعو إلى الله، فيضيع نفسه ويضيع دعوته ويبقى مكانه، بل مما يعين على الالتزام: الدعوة، فإنها تعينك على نفسك وتجعل نفسك دائماً في حياء وفي خجل حتى تستقيم على أمر الله عزَّ وجلَّ.
المقصد: أنك تدعو بما تيسَّر، ولو أن تعلِّم الناس الفاتحة.
وقد رأيت في ترجمة الخليل بن أحمد الفراهيدي وهو زهراني -كما قال أهل العلم، وصاحب سير أعلام النبلاء ذكر ذلك- وهو من فراهيد، وقد كان الخليل من أذكياء العالَم، يقول: لأعملن حساباً أجعل الجارية -البنت الصغيرة- تذهب إلى البقَّال فلا يظلمها شيئاً، وهو الذي اكتشف ستة عشر بحراً في العَروض والقافية، وجلس يفكر، وكان يغمض عينيه في التفكير حتى اصطدم بسارية المسجد فمات، والخطأ منه وليس من السارية.
فهذا الخليل بن أحمد من أذكى الناس، وكان عابداً ناسكاً، أتى بالعَروض والقوافي والبحور ينَظِّمُها، فلما توفي رئي في المنام، قيل: ما فعل الله بك؟ قال: ما نفعتني العَروض ولا القافية ولا علم اللغة، إنما كنتُ أعلم عجائز في قريتي الفاتحة فأدخلني الله بها الجنة.
فالتعليم يكون بتعليم الفاتحة، وتعليم أركان الإسلام، وتعليم (لا إله إلا الله) وغير ذلك.(356/19)
حكم المقصرين من أهل العلم
السؤال
يا شيخ: بعض الناس من أهل التفسير والحديث والقرآن لا يطبقون السنة في المظهر، فما جزاؤهم وهم قدوة؟
الجواب
من انتقص شيئاً من السنة فهو بحسبه عند الله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ} [فاطر:32] ولا بد أن ننزل الناس منزلة الله عزَّ وجلَّ التي أنزلها لهم في سورة الأحقاف، فقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16] فلا بد للعبد أن يكون له ميزان فيما يقول وفيما يفعل، حتى إن ابن تيمية ذكر وقال: إن الإنسان ظلوم جهول، وهو صحيح، حتى إنك تجد بعضهم يتحمس لفكرة جار في أحكامها حتى على مَن قصر من الصالحين، فتجده يقول -مثلاً- لإنسان يصلي الصلوات الخمس، وقد يقوم الليل، وهو بار بوالديه، صدوق؛ لكنه يسبل ثوبه، فيقول: كيف يدخل هذا الجنة وهو يسبل ثوبه؟! بل بحسبه.
ما معنى: كيف يدخل الجنة؟ أو كيف يدَّعي الإسلام وهو يسبل ثوبه؟ فهذا حكم جائر، فلا بد للإنسان أن يكون عدلاً، فهؤلاء بحسبهم، من قصر في هذا نقول له: أنت قصرت وخالفت الرسول صلى الله عليه وسلم وعليك وزر المخالفة؛ لكننا نجعله في منزلته، له حسنات وسيئات، والله سبحانه وتعالى يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8] ويقول: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء:135] والشهادة لله تقتضي أن يكون الإنسان عادلاً، لا ظالماً ولا جهولاً، فإن الجهول يتكلم بدون علم، والظالم يترك العدل، فمثل هذا عليه وزر؛ لكنه ليس كغيره ممن ترك الدعوة وترك الالتزام والاستقامة.(356/20)
مشكلة اقتناع المسلم بالأفكار الغربية
السؤال
هناك من أبناء الأمة من عنده قناعة بالأفكار الغربية، فما هو تعليقك على هذا؟
الجواب
قال المعصوم عليه الصلاة والسلام: {لتتبعن سنن من كان قبلكم -كلمة (سَنَن) تُضْبَط عند أهل الحديث سَنَن وسُنَن، والسَّنَن: الطرق، والسُّنَن المعروفة: جمع سُنة- حذو القُذَّة بالقُذَّة، حتى لو دخلوا جُحر ضب لدخلتموه، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: فمن الناس إلا هم!} قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم في كلام ما معناه: فمن فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود، ومن فسد من عبادنا ففيه شبه بالنصارى.
ولذلك تجد ممن يتعلم العلم حتى يحمل الدكتوراه ويدرس في الخارج أو في الداخل من نكس الله فكره وقلبه، فهو كالكوز مجخياً، يفهم كل شيء إلا هذا الدين، وختم الله على قلبه، حتى إن بعضهم يقرأ ثمان ساعات من أربع وعشرين ساعة، لكن قراءته لا في الكتاب ولا في السنة، كلها كتب غربية وشرقية، المتردية والنطيحة وما أكل السبع: {ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] حتى إن ابن تيمية يقول: أما كثرة الكتب بدون هداية فلا تزيد العبد إلا عمى، {قال صلى الله عليه وسلم وهو يتحدث مع زياد بن أبي لبيد من الأنصار الذي سأله بقوله: يا رسول الله! كيف يضل اليهود والنصارى وعندهم التوراة والإنجيل؟! والله! لنعلمن القرآن أبناءنا، ويعلمه أبناؤنا أبناءهم يا رسول الله! -أي: حتى لا يضل أحد- قال: ثكلتك أمك يا زياد! والذي نفسي بيده! لقد كنتُ أظنك من أفقه الرجال بـ المدينة، هذه التوراة عند اليهود والإنجيل عند النصارى ما أغنت عنهم شيئاً}.
فقضية وجود القرآن والسنة في المكتبات وقد نكس الله قلب العبد لا تنفعه أبداً، بل بيَّن بعض المفسرين وقال: من يقرأ القرآن وهو يشك في مبادئه ومناهجه يزيده الله عمىً بقراءته.
أي: أنه لو ترك القرآن لكان أحسن، حتى إن الله سبحانه وتعالى يقول: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت:44] ويقول: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ} [مريم:76] فالمهتدي يزيده هدىً.
فكثير من الناس يزيده الله عمىً ويطبع على قلبه بسبب أنه ما تصور دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، بل بعضهم يرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس كفيلاً بإصلاح العالم، ولا يستطيع ذلك صلى الله عليه وسلم ولا يقبل شريعته أصلاً، وبعضهم يذهب إلى هناك ثم يأتي مريض القلب، ختم الله على قلبه، فتجده يرى أن أباه وأمه وهم يصلون أنهم على انحراف، وأن سبب تأخر المسلمين هو الصلوات والدين، ولو ما ظاهر بذلك؛ لكنه يشاكس بها أحياناً في مقالات خفية، وفي مجالسه، ويبوح بسمه كالحية في جلساته الخاصة، فحسيبه الله سبحانه وتعالى، قال الله: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:14 - 16].(356/21)
هل يأخذ المصلى حكم المسجد
السؤال
هذا المصلى الذي لا تقام فيه جميع الصلوات، فمثلاً صلاة الفجر لا يصلي فيه أحد، وإن كانت جميع الفروض الأخرى تصلى فيه، فهل يأخذ حكم المسجد من تحية المسجد وغيرها؟
الجواب
أولاً: الرسول عليه الصلاة والسلام بيَّن أن من دخل المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين، والمسجد هو ما تُعُورِف أنه مكان للصلاة، وهذا مثلما ذكر الأخ أنه يُصلى فيه بقية الفروض باستمرار فأصبح مسجداً، وقبل هذا وأنا داخل المسجد كنت أظن أنه لا يُصلى فيه إلا الظهر أحياناً، وظننت أنه مصلى، وإلا لو علمتُ بذلك لكان عليَّ حسب السنة أن أصلي ركعتين قبل الجلوس.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.(356/22)
خصائص أهل السنة والجماعة
لقد تعطلت المفاهيم والمناهج وأسدل أهل البدع ستار البدع والزيغ والفساد على هذه الأمة، فوجب على أئمة الإسلام أن يبينوا المنهج الحق منهج أهل السنة والجماعة، وخصائص مذهبهم.
وفي هذه المادة بيان لخصائص منهج أهل السنة والجماعة.(357/1)
أسباب الحديث عن خصائص أهل السنة والجماعة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
عنوان هذا الدرس: خصائص أهل السنة والجماعة.
من هم أهل السنة والجماعة؟
إنهم أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، وتلاميذه وطُلابه.
إنهم هداة الحق، الساعون وراء الحقيقة.
إنهم الباحثون وراء النور الذي بعث به رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
أهل السنة والجماعة: هم الذين على ما كان عليه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام وأصحابه.
أهل السنة والجماعة: هم الذين تعبدوا الله بالكتاب والسنة، فإمامهم: محمد عليه الصلاة والسلام، ودستورهم: الكتاب والسنة، وبيوتهم: المساجد، وقدوتهم: السلف الصالح، وسفينتهم: سنته عليه الصلاة والسلام، وعصاهم: التوكل، وأكلهم: الزهد، وديدنهم: حسبنا الله ونعم الوكيل: {دعها فإن معها سقاءها وحذاءها، ترد الماء، وترعى الشجر، حتى يلقاها ربها}.
قيل في أهل السنة: هم القرون المفضلة.
وقيل: هم أهل الحديث والأثر.
وقيل: هم أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.
والصحيح أنهم أصحابه عليه الصلاة والسلام، ومن سار على منهجهم، واقتفى أثرهم إلى يوم الدين.
أيها الإخوة الكرام! أيها الأجلة الصفوة! سبب اختياري لهذا الدرس وعنوانه، ثلاثة أسباب:(357/2)
معرفة عقيدة أهل السنة والجماعة
السبب الأول: حتى نكون على بصيرة بمذهب وخصائص أهل السنة والجماعة؛ لأنها الفرقة الناجية، فأمته عليه الصلاة والسلام ثلاث وسبعون فرقة، كلها في النار إلا واحدة وهم: أهل السنة والجماعة، فلزم عليكم أن تدرسوها دراسة علمية أكيدة متبصرة متعمقة، حتى يسأل الإنسان نفسه: هل هو من أهل السنة والجماعة حقاً؟
فكان لزاماً على طلبة العلم والدعاة أن يبينوا مذهب أهل السنة والجماعة وخصائصهم للناس؛ حتى يعلم الإنسان ويسأل نفسه إذا سمع هذا المنهج الرباني: هل أنا من أهل السنة والجماعة أم لا؟(357/3)
اتهام المنافقين للدعاة بالتطرف
السبب الثاني: أني سمعت بعض المنافقين يتهمون الدعاة وطلبة العلم بالتطرف، وهؤلاء الذين يطلقون التطرف ويصفون الدعاة وطلبة العلم وشباب الصحوة المباركة بالتطرف؛ لا يعرفون من دين الله شيئاً، وهم كما قال الأول:
إن كنت أدري فعلي بدنة من كثرة التخليط اسمي من أنا
فأحدهم لا يعرف نواقض الوضوء، ولو سألته عن شروط الصلاة لا يعرفها، ولو تناقشت معه في أبسط حقائق الدين لا يجيدها، ربما يعرف في العلم المادي البحت -علم ظاهر الحياة الدنيا- لكنه في علم الدين لا يعرف منه شيئاً.
فيأتي إلى الدعاة فيصفهم بالتطرف والتزمت والرجعية، وأنهم يريدون السوء للناس، فأردت أن أصف لكم منهج الدعاة الذي يدعون إليه ويعلمونه الناس من على المنبر، وفي الحلقة، وفي المجمع العام، وفي الدرس، وفي الكتب والأشرطة، ثم أقول لهؤلاء: {تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران:61].
أهم أتباع محمد عليه الصلاة والسلام أهل التطرف؟! أهم الذين يخشى من جانبهم؟! أهم الذين يُوردون إيرادات لا تصح في العقل ولا في النقل؟!(357/4)
كثرة الدعاوى
السبب الثالث: أننا في فترة كثر فيها الخلط والمرج، وكثرت فيها الدعاوي.
وكل يدَّعي وصلاً بليلى وليلى لا تقر لهم بذاكا
وكل يرى أنه من أهل السنة، وأنه المؤيد بنور من الله، وأن غيره مخطئ.
فـ الرافضة يرون أنهم على الصواب، والخوارج يرون أنهم هم المصيبون، وكذلك المرجئة والقدرية، ولكن هذه دعاوى:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء
وهذا موثق من الله، أسائل به كل طالب علم، وكل أستاذ في مدرسة، وكل خطيب في مسجد، وكل شيخ في قبيلة، وكل رجل صالح؛ أن يسمع هذا المنهج، ثم أشهد الله وأشهد ملائكته وحملة عرشه، ثم أشهدكم أنّا ندين الله بمذهب أهل السنة والجماعة لا نخرج عنه قيد أنملة ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً، وأن من خرج من الدعاة فإنما هو متأول يُؤجر على اجتهاده، أو مخطئ يعود إلى رشده إذا بصر بالحق.(357/5)
خصائص الفرقة الناجية
وخصائص الفرقة الناجية، أهل السنة والجماعة هي:(357/6)
تقديم النقل على العقل
أولاً: من خصائصهم: أنهم يبدءون بالشرع ثم يخضعون العقل له، عملاً بقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] فلا يقدمون العقل، وإنما يقدمون النقل، فيقفون أمام قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، خجلين راهبين خاشعين ولو قطعت أعناقهم، فهم أتباع محمد عليه الصلاة والسلام، يقفون أمام الكتاب والسنة، ولا ينظرون لقول أحد من الناس كائناً من كان، ومحمد صلى الله عليه وسلم يحتج بقوله ولا يحتج لقوله، وغيره عليه الصلاة والسلام يحتج لقوله ولا يحتج بقوله.
فيرون أنه لو أتت المسألة فيها: قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام انتهى الأمر وليس لهم خيرة، ولا منأى، وليس لهم عذر أن يتركوا: قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام لقول أحد من الناس.
كان عمر وهو من سادات أهل السنة والجماعة يقف أمام الآية.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: [[كان عمر رضي الله عنه وأرضاه وقافاً عند كتاب الله، إذا تليت عليه الآية لا يتجاوزها، كان جُلَّاسه أهل القرآن كباراً أو صغاراً]] فهؤلاء جلساء عمر:
أعف سهر العيون فكل نوم لغيرك أيها المولى حرام
وأسمعني حديث الوصل سبعاً رضيت لك السرى والناس ناموا
طرق عيينة بن حصن على عمر الباب، وعيينة شيخ القبيلة، لكنه يجهل الدين، وعمر متنور بنور الله، فقلب عمر وكلامه نور وتتلمذ في مدرسة النور:
ولو أنه حسن فريد عذرته ولكنه نور وثانٍ وثالث
طرق الباب عيينة بن حصن -وهو أعرابي لا يفهم الدين- قال عمر: من؟ قال: ائذن لي وافتح الباب! أنا الكريم ابن الكريم ابن الكريم، قال عمر: كذبت، أنت الخسيس ابن الخسيس ابن الخسيس، الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وفتح له الباب، وقال: هيه يا عمر! لا تحكم فينا بالعدل، ولا تعطينا الجزل، فأخذ عمر الدرة؛ ليخرج الشياطين من رأسه، فقال الحر بن قيس وهو غلام قريب لـ عيينة من أبنائه: يا أمير المؤمنين! لا تعجل، فالله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] وإن هذا من الجاهلين.
فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافاً عند كتاب الله.
كان عمر يُخضع رقبته للحق، خرج يصلي بالناس الجمعة في ثوب واحد -لا يملك من الدنيا إلا ثوباً- ومعه عصا يريد أن يرتقي المنبر؛ ليعلم الأمة الخالدة المفاهيم الخالدة والمبادئ الأصيلة، وفي الطريق سال ميزاب بدم دجاج على ثيابه قبل الخطبة بدقائق، فغضب -وكان رجلاً طوالاً لا يقوم له خصم- فاقتلع الميزاب وأنزله في الأرض، وعاد إلى البيت وغيَّر ثيابه، وصعد المنبر، وخطب الناس، فلما خرج الناس وإذا الميزاب المقلوع ميزاب العباس عم الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال العباس: [[من قلع الميزاب؟ قال عمر: أنا.
قال: ولم؟ قال: تذبح الدجاج وتسيل دمه على الناس، وهذا تأكيد من عمر لأنه الحاكم، قال العباس: والله الذي لا إله إلا هو! ما ركب ذاك الميزاب في هذا المكان بيده إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام، فدمعت عينا عمر، وقال: أسألك بالله أهو رسول الله الذي بناه بيده؟ قال: إي والذي نفسي بيده! قال: والذي نفسي بيده! لأبركن لك في الأرض، ولتصعدن من على كتفي بأقدامك، ولتعيدن الميزاب مكانه]].
لله درك! ولله ما أقواك! وما أحسنك! هذا هو الوقوف عند قال الله وقال الرسول عليه الصلاة والسلام، الاحترام المطلق، لا كوقوف العبيد عند السادة، أوامر البشر يوقف لها وتؤخذ بعين الاعتبار والتسليم والاحترام، أما قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام فأصبحت عند كثيرٍ من الناس من المهانة بدرجة حتى إنه لا يعبأ بها.
قال عليه الصلاة والسلام للناس وهو على المنبر: {يا أيها الناس! اجلسوا} وكان ابن رواحة -الذي باع روحه من الله- على الرصيف خارج المسجد، فسمع كلمة: اجلسوا! فجلس في الشمس على الرصيف، قال الناس: مالك يـ ابن رواحة؟ قال: إني سمعت الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: اجلسوا! فجلست -انتهى الأمر- فهم يدينون -أولاً- بالنقل، ويحترمون قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، ويخشون من هذه الكلمات العجيبة.
وسأل سائل الإمام أحمد وهو في مرض موته عن حديثٍ فقال: أجلسوني! فلا ينبغي أن أُسأل عن حديث وأنا مضطجع.
وكان الإمام مالك يمشي في الطريق، فسألوه عن حديث، فقال: لا أجيب حتى نجلس.
فجلس؛ احتراماً للحديث.(357/7)
أن العصمة ثابته للنبي صلى الله عليه وسلم وليست لأحد من أمته
الخصيصة الثانية: أنهم ليس لهم إمام مُعظَّم يأخذون كلامه كله ويدعون ما خالفه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل كل إمام دونه عليه الصلاة والسلام يؤخذ من كلامه ويرد، وكل إمام دونه يُعرض كلامه على كلام محمد عليه الصلاة والسلام، فكلامه صلى الله عليه وسلم ميزان، وبضاعته كلها تعرف فتشترى، وبزه معروف طاهر طيب، أما البزوز غير بزه ففيها نظر، وكل بضاعة تخرج وليس خاتمه -مكتوب على البضاعة محمد صلى الله عليه وسلم- فاعرف أنها بضاعة مزجاة ينبغي أن تُرد على صاحبها.
يقول الإمام مالك: [[ما منا إلا راد ومردود عليه إلا صاحب هذا القبر]].
وقال الشافعي حديثاً فقالوا له: أتأخذ بالحديث؟! قال: سبحان الله! أرأيتني يهودياً أو نصرانياً؟! أيُّ سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا رددت كلامه عليه الصلاة والسلام.
وقال أبو حنيفة: "إذا عارض قولي قول الرسول صلى الله عليه وسلم فاضربوا بقولي عرض الحائط".
وقال سفيان الثوري: "ما أتاك عن محمد صلى الله عليه وسلم فعلى العين والرأس، وما أتاك من أهل بدر فعلى العين والرأس، وما أتاك عن بقية الصحابة فعلى العين والرأس، وما أتاك عن غيرهم يُخالف قولهم فارمِ به في الحش".
والحش عندهم: دورة المياه.
وقال الأوزاعي: "لا تلتفت لقول قائل كائناً من كان إلا قول الرسول عليه الصلاة والسلام".
من زار بابك لم تبرح جوانحه تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن
وقال الشافعي: "إذا تبين لي الحديث، ووصلني وعلمت صحته، وأخذت بقول غير الحديث؛ فاعلموا أن عقلي قد ذهب".
أي: رفع القلم.
قال شيخ الإسلام -أيد الله مسيرته ومنهجه، ونوَّر الله ضريحه، وقدس روحه-: "إن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله عليه الصلاة والسلام، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر، وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره عليه الصلاة والسلام، بل كل أحد من الناس يُؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.(357/8)
أهل السنة وسط بين فرق الأمة
ومن خصائص أهل السنة والجماعة: أنهم وسط بين فرق الأمة.
فإن الله جعلهم في أفكارهم ومعتقداتهم وعباداتهم وأخلاقهم وسلوكهم وسطاً، والله جعل الأمة الإسلامية وسطاً، قيل: خيار، وقيل: وسط بين المتطرفين، فلا تطرف، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة:143].
وأنا أنقل بعض النقولات؛ علَّ من عنده رغبة في مراجعة الأدلة والنقولات أن يعود إليها في مظانها، وغالباً ما أنقل من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، أو إعلام الموقعين، أو بعض الكتب التي أشير إليها.
قال شيخ الإسلام: وهكذا أهل السنة والجماعة في الفرق، فهم في باب أسماء الله تعالى وصفاته وسط بين أهل التعطيل الذين يُلحدون في أسماء الله، فإنهم نفوا أسماء الله وصفاته سبحانه وتعالى، وبين المشبهة الممثلة الذين مثلوا الله سبحانه وتعالى بخلقه، فهؤلاء جعلوا الله عدماً، وهؤلاء جعلوا الله كالمخلوقات.
فـ أهل السنة توسطوا، فأقروا في الأسماء والصفات ما ورد في الكتاب والسنة، وأمروها على ظاهرها بلا تحريف ولا تمثيل ولا تشبيه ولا تعطيل مع الإيمان بمعناها: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
وتوسط أهل السنة بين المرجئة وبين الخوارج والمعتزلة، فـ الخوارج أخرجوا أهل الكبائر من الإيمان، فعندهم شارب الخمر كافر في النار، والزاني كافر، والمعتزلة أنزلوهم في منزلة بين المنزلتين -لا كافر ولا مؤمن- وخلدوهم في النار.
وهدى الله أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه إنه يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم، فقالوا: لا يزال صاحب الكبيرة ما لم يستحلها في دائرة الإيمان، فاسق بكبيرته تحت رحمة الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، لكنه لا يزال مؤمناً ويستدلون على ذلك بأدلة:
منها: أن الله عز وجل قال في المتقاتلين وهم من المؤمنين: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات:9] ثم قال سبحانه وتعالى بعدها: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] فلم يسلب عنهم الإيمان.
وأنا أسمع أن بعض الناس يقول: الدعاة يُكفِّرون الناس، ووالله! ما سمعت طالب علم يُوثق بعلمه وبنقله وبعقله كفر أحداً.
نعم! ينهى عن المعاصي والفجور، وعن التهكم بالدين، لكن أما أنه يكفر الناس بالذنوب فلا! وليس هذا منهجاً يُرتضى؛ لأن الدعاة -الآن- وطلبة العلم والعلماء هم الذين يُعلِّمون أبناء المسلمين في الجامعات والمدارس والمحاضرات والندوات، فكيف يقولون هذا القول المبتدع الذي لا يرضاه مسلم؟!
وأهل السنة -أيضاً- وسط بين القدرية والجبرية.
فـ القدرية قالوا: لم يقدر الله أي شيء، والله لا يعلم الشيء إلا بعد وقوعه، فمجيئك إلى المسجد عند القدرية لا يعلمه الله حتى تأتي -تعالى الله عن ذلك- فيقولون: ما سبق علمه ولا سبق تقديره.
والجبرية يقولون: العبد مجبور على فعل المعصية، ففرعون مجبور عندهم ومعذور على الكفر، وكذلك إبليس معذور عندهم.
وتوسط أهل السنة فقالوا: لا.
للعبد مشيئة، ولله مشيئة، قال الله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان:30].
وللعبد اختيار لكنه تحت اختيار الله، والعبد واختياره مخلوقان خلقهما الواحد الأحد، فهذا هو الاختيار السليم السديد وهو الوسط.
وأهل السنة وسط -أيضاً- بين الرافضة والناصبة، فـ الرافضة هم الذين رفضوا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ولعنوهم وتبرءوا منهم، وكفَّر بعضهم الشيخين، ورموا عائشة بالفاحشة، وقابلهم الناصبة.
ثم إن الرافضة ألهوا أهل البيت، حتى إن بعض الفرق ادَّعت أن علياً إلهاً، أو نبياً، أو خيراً من الأنبياء، وادّعوا أن الأئمة معصومون أو أفضل من الأنبياء.
وقابلهم الناصبة فسبوا أهل البيت، ولعنوا علياً من على المنابر، وتبرءوا منه، وقالوا: بكفره، واستحلوا دمه.
وتوسط أهل السنة فأقروا لأهل البيت بالحب والولاء، وعرفوا منزلتهم واحترموهم، وقدَّروا الصحابة، وتوسطوا؛ قال الله: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].(357/9)
عصمة الله لهم عن تكفير بعضهم البعض
ومن خصائص أهل السنة: عصمة الله عز وجل لهم عن تكفير بعضهم بعضاً.
قال عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق ص (361) قال: " أهل السنة لا يكفر بعضهم بعضاً، وليس بينهم خلاف يوجب التبري والتكفير، فهم أهل الجماعة القائمون بالحق، والله تعالى يحفظ الحق وأهله، فلا يقعون في تنابذ وتناقض، ولا يوجد فريق من فرق المخالفين إلا وفيهم تكفير لبعضهم البعض، وتبرؤ بعضهم من بعض، كـ الخوارج والرافضة والقدرية، قال: حتى اجتمع سبعة منهم في مجلس واحد، فافترقوا عن تكفير بعضهم بعضاً، وكانوا بمنزلة اليهود والنصارى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113].
فـ أهل السنة يختلفون في مسائل؛ ولكن يبقى الود بينهم والحوار والمناقشة والجدال بالتي هي أحسن، ولا يغضب بعضهم على بعض، وهذا في اختلاف التنوع الذي لا يوجب التكفير.
وهم -أيضاً- لا يُسارعون في التكفير -كما ذكرت- فالتكفير أمره خطير، وأحذِّركم من تكفير المسلمين والمتأولين إلا من ظهر كفره، وبان عناده وإلحاده، فإن التكفير أضيق من ثقب الإبرة، ولا يقدم عليه إلا متهور، أعاذنا الله وإياكم أن نحكم على أحد من أهل القبلة بالخلود في النار.(357/10)
سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن خصائص أهل السنة والجماعة: سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كان بعض بني أمية ينصب العداء لـ علي رضي الله عنه ولبعض الصحابة، وكان منهم عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قبل أن يبين له الصواب، حينما كان تلميذاً عند عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أحد الفقهاء السبعة، فسمع عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن عمر ينال من علي، فأجلسه أمامه، وقال: يا عمر! متى علمت أن الله غضب على أهل بدر بعد أن رضي عنهم؟
قال: ما علمت -وعلي من أهل بدر.
قال: متى علمت أن الله غضب على أهل بيعة الرضوان بعد أن رضي عنهم؟
قال: ما علمت -وعلي من أهل بيعة الرضوان.
قال: فلماذا تسب علياً؟
قال: أتوب إلى الله، والله! لا أسبَّنه ولأحبَّنه، أي: لأحبنه من الآن.
فـ أهل السنة قلوبهم سليمة للصحابة، وأما أهل البدع؛ فإنهم يتناولون أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم تناولاً ويقعون في أعراضهم، بل إن بعضهم يكفرهم ويستهزئ بهم، عليهم غضب الله.
قرأت عن بعض فرق المبتدعة في خراسان أن مبتدعاً خبيثاً منهم كان له فرسان، سمى أحد الفرسين: أبا بكر، وسمى الثاني: عمر، فأخبروا أحد العلماء، فقال: انتظروا سوف يقتله الفرس الذي اسمه عمر، لا يقتله إلا عمر؛ لأن عمر قوي، قالوا: فأتى يوماً من الأيام في الصباح يريد أن يضع العلف للفرسين؛ فرفسه الفرس الذي سماه عمر فقتله، وهذا أمر موجود في التراجم.
انظر إلى امتهانهم لأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام!! الشيخان العظيمان، قطبا الإسلام، وبطانة التوحيد، وسفينة الوعي، يتهمونهم بهذه التهمة وهذه التسمية الباطلة.
فـ أهل السنة يقول فيهم سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] وأنشد ابن القيم قصيدة يمدح فيها الصحابة ويحييهم ويلوم نفسه على أنه مُقصِّر في حبهم، ويتمنى أن يلقاهم ولو في المنام، ويسأل الله عز وجل أن يجمعه بهم في دار الكرامة، ويُعاتب نفسه على التقصير في الحب، يقول فيها:
أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم
وحمّلها جهد المحب وإنه ليضعف عن حمل القميص ويألم
لأنتم على بعد الديار وقربها أحبتنا إن غبتم أو حضرتم
سلوا نسمات للرياح تحملت محبتكم والله يدري ويعلم
وكنت إذا ما اشتد بي الشوق والجوى وسارت بنات الحب بالحب تقسم
أعلل نفسي بالتلاقي وقربه وأوعظها لكنها تتكتم
إلى أن قال:
أسائل عنكم كل غادٍ ورائح وأومئ إلى أوطانكم وأسلم
هؤلاء أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، وهؤلاء أحباب الله من خلقه وأكرم الناس، قدَّموا جماجمهم من أجل لا إله إلا الله، وسالت دماؤهم من أجل مبادئهم حتى ارتفع دين الله، فما أبقوا قلعة إلا فتحوها بالتوحيد، وما أبقوا مبطلاً إلا ذبحوه، ليبقى التوحيد لله، وليخسأ كل فاجر رعديد.
قال عليه الصلاة والسلام فيما رواه البخاري ومسلم: {لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده! لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه}.
ويقول: {الله الله في أصحابي! لا تتخذوهم غرضاً، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم} رواه الترمذي.
فالحذر كل الحذر أن يسب الصحابة، بل يعرف لهم منزلتهم فإنهم أهل القبلتين، وأهل البيعتين، وأهل القيامتين، وأهل المنزلتين، وأهل الولايتين، وأهل الهجرتين، وأهل الجهادين.
هم أهل بيعة الرضوان، وأهل العقبة، وأهل بدراً، وأحد، والخندق، والمنازل الشريفة في الإسلام، فرضي الله عنهم وأرضاهم، وألحقنا بهم، وجمعنا بهم في دار الكرامة.
وأهل السنة يُفضِّلون الصحابة بعضهم على بعض كما ورد في السنة، فأفضلهم: أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي ثم بقية العشرة، ثم من حضر بدر، ثم أهل بيعة الرضوان، ثم السابقون قبل الفتح، ثم من أتى بعد الفتح، وهكذا: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} [الطلاق:3].
وأهل السنة يشهدون لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، فيشهدون لـ ثابت بن قيس بن شماس بعد العشرة، ثابت الخطيب المصقع، الذي دمغ خصوم الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطب، وسبب الشهادة له بالجنة: أنه كان يرفع صوته بالخطب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينصر الدين، فأنزل الله: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات:3] فأغلق عليه بابه، وجلس في البيت يبكي ثلاثة أيام بلياليهن، قال عليه الصلاة والسلام: أين ثابت بن قيس بن شماس؟ قالوا: ما رأيناه، قال: التمسوه، فالتمسوه، فوجدوه وراء الباب يبكي -لم يأكل ثلاثة أيام- قالوا: يا ثابت! اخرج، قال: أنا من الهالكين.
قالوا: لماذا؟ قال: الله يمدح الذين يغضون أصواتهم وأنا لم أغض صوتي وكنت أرفع صوتي في الخطب.
فأخبروا الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: أخبروه أنه من أهل الجنة - وفي رواية أخرى-: أخبروه أنه شهيد وأنا على ذلك شهيد، فأخبروه، ففتح الباب وهو يبكي ورمى روحه على الرسول صلى الله عليه وسلم:
جاءت إليك حمامة مشتاقة تشكو إليك بقلب صب واجف
من أخبر الورقاء أن مكانكم حرم وأنك ملجأ للخائف
وحضر ثابت بن قيس بن شماس اليمامة، فلما تولَّى الصحابة؛ لأنه أتاهم هجوم عسكري مسلح مباغت -من بني حنيفة- متماسك كالجبل يزحف زحفاً، وكان قائد المعركة أبو سليمان خالد بن الوليد بيَّض الله وجهه، فأزاحوا صفوف الصحابة؛ لأن الصحابة لم يتهيئوا في الصباح حتى كشفوا المعسكر إلى مخيم خالد، فدخلوا مخيم خالد، فأخذ خالد البُرد وائتزر به، وقام وأخذ السيف وكسر غمده على ركبته، ثم أخذ يضرب في أعداء الله، ويفلق هاماتهم، فولَّى بنو حنيفة أمامه، ويقول شاعرهم:
أبنو حنيفة شدوا طال نومكم إن الخليفة عوَّاد بعواد
يا من يرى خالداً بالبرد معتجراً تحت العجاجة مثل الأغطف الغادي
أمَّا ثابت فحفر لقدميه حفرتين، وقال: اللهم إني أبرأ إليك مما فعل هؤلاء -أي: الكفار- وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء -أي: من فر- وثبت حتى قتل في سبيل الله.
فهذا شهيد من الشهداء، وإنما ذكرت قصته استطراداً، وهذه القصص تسري في دماء الموحدين وأهل السنة والجماعة بركاناً ثواراً هادراً يملأها بالمثل يوم تحب الله ورسوله.(357/11)
موقف أهل السنة من التأويل
ومن خصائصهم رفضهم للتأويل.
والتأويل على ثلاثة أقسام:
أولاً: التأويل بمعنى: التفسير، كما قال مجاهد: والراسخون في العلم يعلمون تأويل المتشابه.
فالتأويل معناه: التفسير.
يعلمون تأويله: أي: تفسيره، والتأويل عند ابن جرير يعني: التفسير، يقول: قال بعض المؤولة: يعني: المفسرة والمفسرون.
ثانياً: ما يئول إليه الشيء، أي: ما تئول إليه حقيقة الشيء ويرجع إليه الأمر.
ثالثاً: التأويل عند المتأخرين -وهذا المذموم الذي ذمه أهل السنة - وهو: صرف الألفاظ والنصوص عن ظاهرها.
والتأويل شر الأبواب التي دُخل منها على الإسلام، فبالتأويل ذُبِحَ الصحابة في موقعة الجمل، وفي صفين وتقاتل ابن الزبير وعبد الملك.
بالتأويل دخلت القرامطة والنصيرية والإسماعيلية والباطنية.
بالتأويل دخل التتار وذبحوا المسلمين في العالم الإسلامي.
بالتأويل فتح بعض المبتدعة للصليبين الطريق لدخول بلاد الإسلام واحتلت.
بالتأويل نحي القرآن والسنة عن حياة الناس.
والآن أصبح القرآن الذي حكم البشرية خمسة عشر قرناً؛ منزوياً في حياة الناس، وأصبح لا يحكم إلا في مناحٍ من مناحي الحياة الجزئية، لا يدخل في ضمائر الناس، ولا في عقائدهم، ولا يحكم أفكارهم، ولا يحكم أقلامهم، ولا يتحاكمون إليه في كل صغيرة ولا كبيرة، إنما أصبح -عند بعض الناس- كالمتحف يتفرج فيه، وأصبح تزجية للأوقات، فإذا افتتح شيء وقبل أن يقص الشريط بدءوا بآيات من القرآن: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:24] رأيت الجمع أمامك والقارئ يقرأ يقولون: كذا، لأنهم متأثرين، والمعنى: لا نستجيب، فإلى الله المشتكى.
واسمع ابن القيم ماذا يقول في أعلام الموقعين (4/ 251) قال: وبالجملة: فافتراق أهل الكتابين، وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، إنما أوجبه التأويل، وإنما أُريقت دماء المسلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن الزبير وهلمَّ جرا بالتأويل، وإنما دخل أعداء الإسلام بالتأويل إلى أن قال: وهل دخلت طائفة الإلحاد من الحلولية والاتحادية إلا من باب التأويل مضادة ومناقضةً لحكم الله في تعليم عباده البيان الذي امتن الله سبحانه وتعالى على عباده به.
فأصبح القرآن والسنة عند بعض الناس طلاسم، وأصبحوا يرون أنه يعزل من الحياة.
يقول ابن القيم في موضع آخر: أصبح القرآن والسنة في زماننا -أي: في القرن السابع، فكيف بالقرن الخامس عشر- قال: أصبح مثل الخليفة عندنا لا يملك إلا السكة -أي: كتابه اسمه على النقد، والخاتم والخضيب والبردة- أما تسيير الأمور فهي للسلاطين، فنحي القرآن والسنة من حياة الناس، وهذا الذي نعاه أهل السنة والجماعة وطالبوا به، ويلحون بالمطالبة به، ويقدمون دماءهم رخيصة ليبقى هذا المفهوم السائد.(357/12)
الإيمان قول وعمل يزيد وينقص
ومن خصائص أهل السنة والجماعة: أنهم يعتقدون أن الدين والإيمان قول وعمل يزيد وينقص.
وهم مع ذلك لا يُكفِّرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر كما يفعله الخوارج؛ بل أخوة الإيمان ثابتة مع المعاصي.
وبعض الطوائف ترى أن الإيمان اعتقاد فقط!! مثل المرجئة، فلا تضر الكبائر ولا يدخل العمل، وبعضهم يرى أنه نطق واعتقاد، وبعضهم يرى أنها معرفة فقط أو تصديق، وأهل السنة يقولون: الإيمان قول باللسان؛ أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
واعتقاد بالجنان: أن يعقد قلبك على الميثاق وأن تعتقده حقاً مثل الشمس في رابعة النهار.
وأن تعمل بالجوارح والأركان: فتارك الصلاة كافر؛ لأنه ترك شيئاً من الإيمان عند أهل السنة، فالإيمان عندهم: قول وعمل واعتقاد، بخلاف المبتدعة؛ فإنهم كفروا صاحب الكبيرة وأدخلوه النار، وبعضهم كـ المرجئة يقول: لا يضر، حتى تارك الصلاة عندهم لا يخرج من الإيمان، وإيمانه مثل إيمان أبي بكر وعمر.
فسبحان الذي هدى أهل السنة لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه.(357/13)
اتباع آثار الرسول ظاهراً وباطناً
ومن خصائص أهل السنة: اتباعهم آثار الرسول صلى الله عليه وسلم ظاهراً وباطناً، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بليالٍ، حيث قال: {عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ}.
رواه أحمد وأبو داود والترمذي وهو حديث صحيح.
هذه وصيته عليه الصلاة والسلام.
وله حقوق علينا، منها: أن نحبه حباً يغلب حبنا لأطفالنا ولأهلنا ولأمهاتنا وآبائنا، وحبه يسري في دمائنا، وحبه يغلب على أنفسنا؛ حتى تتمنى أنت أنك قطعت بين يديه في سبيل الله، وتتمنى أن الشمس المحرقة إذا أرادت أن تصل إلى جسمه تصل إلى جسمك أنت.
فديناك يا ليل السهاد الذي سرى بجسمك دوماً في محاجرنا يسري
تصل إلى درجة خبيب بن عدي، وتفقد نفسك وأنت خصيم نفسك وشاهد عليها: {بَلِ الْأِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة:14 - 15].
فاسأل نفسك يا عبد الله وخاصم روحك، وقد جعل الله من نفسك على نفسك سلطاناً، وقف مع نفسك خصماً وتأمل!! هل أنت تحبه صراحة؟
هل تسعى لما فعل خبيب بن عدي الشهيد البطل لما رُفِعَ إلى المشنقة وقدم على الموت، وأتت السيوف تنوشه من كل جهة، والرماح تقطعه في حرارة الشمس، وهو يقول لكفار قريش: [[اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، فقال أبو سفيان: يا خبيب! أتريد أن محمداً مكانك]] لأنهم يرون أن الذي ورَّط خبيباً هو محمد عليه الصلاة والسلام، والله إنها من أحسن الورطات، ومن أشرف وأعظم المنجيات.
يذكرون أن رجلاً جاهلاً نصح ابنه فقال له: لا تدع إلى الله، وقد كان بعد كل صلاة يقول: عن أبي هريرة عن أبي هريرة فقال: يورطك أبو هريرة، قال: لا يورطني إن شاء الله، فتكلم ابنه فسُجن، وهذا سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال:30] وسبيل أحمد ومالك والشافعي وابن تيمية والعز بن عبد السلام، فتلك طريق ممضية، فلما سجن قال له أهله: أخرج ابننا، قال: يخرجه أبو هريرة.
الذي ورطه أبو هريرة فيخرجه أبو هريرة.
فلما ارتفع خبيب إلى المشنقة، قال: أتريد أن محمداً مكانك وأنك في أهلك ومالك؟ قال: [[لا والذي نفسي بيده! ما أريد أن محمداً عليه الصلاة والسلام تصيبه الشوكة وأني في أهلي ومالي منعماً، السلام عليك يا رسول الله]] وكان خبيب في مكة والرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، الشيخ في المدينة والتلميذ في مكة، لكن الأرواح تسري، وتقطع المنازل، وتصل إلى القلوب، وتأتي على المسافات والجبال، قال: [[اللهم أبلغ رسولك ما ألقى الغداة]] يقول: أخبره بما وجدت وبما لقيت وبما تعرضت له.
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا ألَّا تفارقهم فالراحلون همُ
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
ووصل الخبر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في نفس اللحظة، فأخذ يلتفت وعيناه تهراقان بالدموع، ويقول: {عليك السلام يا خبيب! عليك السلام يا خبيب! عليك السلام يا خبيب! إلى الجنة} يريد صلى الله عليه وسلم أن يوصل تلاميذه إلى الجنة.
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى للمطايا طيب ذكراك حاديا
وإني لأستغشي وما بي غشوة لعلَّ خيالاً منك يلقى خياليا
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
هذا منهج أهل السنة، أتريد حياة غير حياة هؤلاء؟!!
وهم يحبونه عليه الصلاة والسلام ويموتون في حبه، ويتمنى الواحد منهم أن تتفجر به القنبلة لترتفع سنته ومنهجه في الأرض، وأتباعه ذهبوا إلى أفغانستان يجددون العهد، عهد بدر وحنين.
تلك العصا من تلكم العصية وهل تلد الحية إلا حية
فتفجرت بهم دبابات الملحدين الحمر، فولوا الأدبار خاسرين خائبين يوم رأوا أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يقولون: ها قد عدنا إلى العالم، ورجعنا من جديد، وأتينا ننصر الرسالة الخالدة، كلما مات جيل أتى جيل:
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
حبهم ليس مفتعل! فهم يحبونه حباً يسري في الدماء، تسقط شعرة منه عليه الصلاة والسلام فيتقاطعوها عند الجمرة يوم حلق رأسه وكاد الناس يقتتلون عليها، يأخذون القدح الذي شرب فيه فيتسابقون أيهم يشرب من الموضع الذي شرب منه، يبصق فيأخذون البصاق، فيتمسحون به على وجوههم، لكنه حب ليس بتأله، واتباع وليس بعبودية له؛ لأنه هو الذي علمهم لمن تكون العبودية.
يا قاتل الظلم ثارت هاهنا وهنا فضائح أين منها جندك الواري
طه إذا ثار إنشادي فإن أبي حسان أخباره بالشعر أخباري(357/14)
منهج أهل السنة في آيات وأحاديث الصفات
ومن خصائصهم: أنهم يمرون أحاديث وآيات الصفات على ظاهرها بلا تكييف ولا تمثيل ولا تحريف ولا تعطيل.
قال الشوكاني رحمه الله في الرسائل السلفية، وتسمى التحف في مذاهب السلف ص: (4 - 5 - 6) "والحق الذي لا شك فيه ولا شبهة، هو ما كان عليه خير القرون، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، وقد كانوا رحمهم الله -وأرشدنا إلى الاقتداء بهم والاهتداء بهديهم- يمرون أدلة الصفات على ظاهرها، ولا يتكلفون علم ما لا يعلمون، ولا يتأولون، وهذا المعروف من أقوالهم وأفعالهم والمتقرر من مذاهبهم لا يشك شاك في ذلك، ولا ينكره منكر، ولا يجادل فيه مجادل، وإن نزع بينهم نازع، أو نجم في عصرهم ناجم؛ أوضحوا له أمره؛ وبينوا له أنه على ضلالة، وصرحوا بذلك له في المجامع والمحافل".
انتهى كلام الشوكاني.
المقصود: لا تقول: كيف ولا تشبه ولا تعطِّل: {ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل} قل: آمنا وسلَّمنا، قل كما قال الشافعي رحمه الله: "آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله".
لا تقل كيف استوى كيف النزول أنت لا تعرف من أنت ولا كيف تبول
فينبغي أن يقف الإنسان خصيماً لنفسه، ويتفقد نفسه وروحه؛ لأنه إذا لم يتلق المناهج -الآن- من طلبة العلم والعلماء الذين يظهرون للناس مذهب أهل السنة والجماعة فأين تلقي بابنك؟ وأين يتوجه؟ وممن يأخذ الفكر؟
إذا كان بعض الآباء يُحذِّرون أبناءهم من المحاضرات والدروس العلمية بحجة التطرف فمن أين يأخذون علمهم؟ ومن أين يأخذون منهج أهل السنة والجماعة؟ ومن أين ينجون؟ وهل هناك باطل يقال؟ هل رئي منكر يعرض على الناس؟ إن كان هناك باطل أو منكر فليكشف، وليوجه الدعاة وليناصحوا.
فطيلة ما يجلس الداعية في هذا المسجد سنوات طويلة وفي الدروس والمحاضرات ولم يتلق مرة من المرات رسالة ولا قصاصة، نقول: إنك انحرفت عن منهج أهل السنة والجماعة.
فهذا فضل من الله وتسديد، وإنما نقول هذا من باب: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11].(357/15)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بما توجبه الشريعة
ومن خصائص أهل السنة والجماعة: أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر على ما توجبه الشريعة، ويرون إقامة الجهاد في سبيل الله، وبذل الدعوة للناس، والاحتساب في سبيله، وبيع الجماجم، وهي جمع جمجمة، ويرون أن قطع الجمجمة في سبيل الله من أحسن ما يكون، ويرون كما قال فديوي الوهباني:
دوس المخاطر ولا تخشى عواقبها الموت واحد وانعم بالخطر جالي
وهذه من أسهل ما يكون، وأن قطعها في سبيل الله أحسن الأمنيات.
ويرون كما دخل ابن التمار على المأمون فقال المأمون: والله لأقطعن رأسك، فقطع ابن التمار زراره ورماه في وجه المأمون وقال: والله الذي لا إله إلا هو! إن قطع رأسي أهون عندي من قطع هذا الزرار.
ويروون أن ابن نوح لما دخل على أحد الخلفاء فقال له: والله لأشرعن في دمك -يعني: أسبح- قال: والله ما صليت الفجر اليوم إلا وتمنيت أنَّ الله يرزقني الشهادة على يديك.
ويرون أن من أحسن ما يكون للعبد هو الموت في سبيل الله، وأنه ألذ المطالب، وأحسن وأسهل وأهنأ من الماء البارد، وأن أحدهم إذا صلى قال: اللهم ارزقني الشهادة! حتى إن بعض السلف الصالح كانوا يأتون إلى بيوت بعض السلاطين ويأمرون وينهون من باب: [[قل الحق ولو كان مراً]] فلا يخافون ولا يجبنون، وأهل السنة والجماعة أشجع من أهل الأراضي، والعمارات، وأشجع من أهل الشعير، وأهل الضأن، وأهل الفحم الذين يتضاربون بالمشاعيب وبالهراوي والفئوس على فحمهم وشعيرهم، فهؤلاء إذا قطعت رءوسهم لا تقطع على الأراضي ولا على البطحاء، بل تقطع من أجل (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
وان دندن الطبل في الحراب دندنا بآيات حقٍ علي وبلال دندنها
وهذا البيت من عقيدة أهل السنة، لكن لا تظنوه من البخاري أو مسلم فهذا بيت شعري.
فقد رأيتم أنهم يأمرون وينهون ولا يخافون في الله لومة لائم، ويبلغون دين الله كما قال سبحانه: {وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ} [الأحزاب:39] فإذا خوفهم مخوف، قالوا: هوِّن عليك! معنا القوي وأنتم ضعاف، ومعنا الغني وأنتم فقراء! ومعنا الباقي وأنتم فانون: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر:36].
وهذا كلام الله سبحانه ومن الذين دونه؟ هم كل من سواه، ويعلمهم الله، ويقول: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} [آل عمران:173] يقول: زادهم إيماناً وقوة: {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174] والله يقول في أوليائه وأعدائه: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:79 - 80] ويقول سبحانه عن قدرته وقدرة البشر: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] ويقول عن دسائس البشر وعن مكره جزاء مكرهم: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] ويقول سبحانه وتعالى عن حزبه وحزب أعدائه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52].
وأهل السنة والجماعة أشجع من الثوريين العرب، وأشجع من الناصريين، والبعثيين، والاشتراكيين، والماركسيين بدرجات، بل الواحد منهم يسيل دمه قبل أن يلقى الهوج، شجاعة وإقداماً.
أحد الصحابة في أحد سمع الهاتف، فاخترط سلة السيف، وأخرجه من الغمد، وقال:
وليس على الأعقاب تُدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
ثم رمى بنفسه وقتل.
وكان صلى الله عليه وسلم يشهد العاصفة بنفسه ويخوض المعركة، وهناك فيلم أوروبي اسمه بدر الكبرى وفيه قال: واضطر محمد أن يخوض المعركة بنفسه بعد أن اشتدت العاصفة، وكان صلى الله عليه وسلم يدير المعركة قبل نشوبها، لكن إذا اختلطت وسمع صرير السيوف والرماح، طمر بنفسه وسط الهول، حتى يقول علي رضي الله عنه: {كنا نتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا اشتد بنا البأس فيكون أقربنا من القوم}.
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها
وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها
ومثل هذه القصيدة، قصيدة اسمها (الشجاعة لمحمد صلى الله عليه وسلم) ألفها السبط ابن الجوزي يمدح فيها النبي صلى الله عليه وسلم، واسمع مطلعها ما أحسنه يقول:
قد زلزلت دنيا الهوى زلزالها وقال سلطان الغرام مالها
هذه دنيا من؟ دنيا محمد صلى الله عليه وسلم.
فالرسول صلى الله عليه وسلم علَّم الناس أن يبيعوا أنفسهم من الله، أي: لا تبع نفسك بغير الجنة.
يقولون: أخذ ابن المبارك تلميذاً له، قال: أوصني؟ فقال لتلميذه: لا تبع نفسك بغير الجنة.
والجنة أن تموت في سبيل الله، وأن يرزقك الله الشهادة في أي مكان، ولا تخف من أحد؛ فإن نواصي العباد بيده سبحانه وتعالى، لا يضر ولا ينفع إلا هو كما قال صلى الله عليه وسلم: {ولو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك إلا بشيء لم يضروك بشيء إلا قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
يقول بعض الفضلاء في معنى: رفعت الأقلام وجفت الصحف، يقول: رفعت الأقلام بالقتلى، من يموت قتيلاً ومن يموت ميتاً، ووضعت الأقلام من يموت حبطاً تخمة من الدهون في غرفة الباطنية، فهؤلاء رفعت فيهم الأقلام، والذين يموتون في سبيل الله رفعت فيهم الأقلام، والذين يتقاتلون على أكياس الشعير رفعت فيهم الأقلام، والذي يقتل ابن عمه على قطعة الأرض رفعت فيه الأقلام، ويجتمع سيد الشهداء حمزة يوم القيامة المقتول على كيس شعير لا يساوي سبعة عشر ريالاً!! يوم العرض الأكبر، وهذا قتل وهذا قتل؛ لكن ذاك قتل وهو سيد الشهداء وأسد الله في أرضه، وذاك لا يساوي فلساً.(357/16)
ترك الخصام والجدال في مسائل الحلال والحرام
ومن خصائصهم: ترك الخصام والجدال والمراء في مسائل الحرام والحلال.
قال ابن رجب رحمه الله في كتابه: فضل علم السلف على علم الخلف: ومما أنكره أئمة السلف: الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام -أيضاً- ولم يكن ذلك من طريقة أئمة الإسلام، وإنما حدث ذلك بعدهم، كما أحدثه فقهاء العراقيين في مسائل الخلاف بين الشافعية والحنفية، وصنفوا كتب الخلاف، ووسعوا البحث والجدل، والله يقول: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف:58].
فـ أهل السنة لا يريدون الخلاف، ولا يحبون الجدل، ولا يتقولون في شرع الله، ويحبون الاجتماع، وأن يكون القول قولاً واحداً، ويحبون الألفة، ويتشاغلون بالقرآن والسنة، أما أهل البدع فيشتغلون بالجدل ويتركون العمل: {وما ضل قوم بعد هدىً كانوا عليه إلا أوتوا الجدل}.
ومن خصائص أهل السنة: أن ما يقولونه من الكلام في النصوص إنما هو بفهم أبي بكر وعمر وعثمان وعلي والصحابة.
أي: أنهم يفهمون الدين كما فهمه أبو بكر وعمر -رضوان الله عليهم- والصحابة، ففهمك اجعله كفهم الصحابة -رضوان الله عليهم- فلا تأت بفهم جديد، ويسمى هذا التجديد والتطوير في المناهج، والافتراء والتغيير، ويسمونه: إعادة البناء، كما سماه الروسيين (البروستريكا): إعادة البناء، فليس عندنا إعادة بناء: [[اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم]] {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} انتهى الأمر:
سلم قيادك للرسول محمد وارض بسنته مع الأقوام
فإذا رضيت بذلك نجحت في الدنيا والآخرة.
كان معنا درس مع طلبة العلم في آداب قضاء الحاجة، وإذا الأحاديث أكثر من ثلاثين حديثاً، فمحمد صلى الله عليه وسلم يُعلِّمك كيف تدخل دورة المياه وكيف تخرج؟ وكيف تقضي حاجتك أو تستقبل أو تستدبر، وماذا تفعل؟ هل سمعتم بشرع كهذا؟! وهل سمعتم بمعلم أرقى من هذا المعلم؟! عليه الصلاة والسلام.(357/17)
المحافظة على الجمع والجماعات
ومن خصائص أهل السنة: محافظتهم على الجمع والأعياد والجماعات، ولا يدعونها لأوهى الأسباب، فهم يحضرون الجمع مع الناس، ويصلون الأعياد والكسوف والاستسقاء والجماعات في المسجد، ويحبون اجتماع الكلمة، ويحضرون الندوات والمحاضرات، ويفرحون إذا كثر الجمع الخيِّر، ولكن المنافقين يغضبون من هذه الجموع، ويرون اجتماعهم أنه سوء وشر وتطرف، وأنه ليس من الخير والحكمة والمصلحة، فانظر! كم الفرق بين الواديين والحسين والمنهجين؟! {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة:213].
فـ أهل السنة والجماعة يحضرون الجمع، قال ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى (3/ 280): ومن أصول أهل السنة والجماعة: أنهم يُصلَّون الجمع والأعياد والجماعات، ولا يدعون الجمعة والجماعة كما فعل أهل البدع من الرافضة وغيرهم، فإن كان الإمام مستوراً لم يظهر منه بدعة -أي: الإمام الذي يصلي بهم- ولا فجور، صليت خلفه الجمعة والجماعة باتفاق الأئمة الأربعة وغيرهم من أئمة المسلمين، ولم يقل أحد من الأئمة: إنه لا تجوز الصلاة إلا خلف من علم باطن أمره.
ولذلك أقول: لا يجوز لك أن تأتي إلى إمام يصلي، وتقول: ما عقيدتك؟! ما دام ظاهره الإسلام فاسكت، فالمستور يُصلى وراءه، ويجاهد وراءه، ويطاع في طاعة الله، ولا نخرج عليه ما لم نر كفراً بواحاً عندنا فيه من الله برهان.
والإمام يُطاع حتى لو كان يشرب الخمر ولو زنى ولو سرق إذا كان له بيعة، لكننا إذا رأينا كفراً بواحاً فلا، وإنما يجاهد معهم ويصلى وراءهم، ويدعو لهم بالصلاح والاستقامة وبحسن البطانة، فهذا هو معتقد أهل السنة والجماعة، ولا يشقون عصا الطاعة، ولا ينثرون الدم، ولا يشوشون ولا يؤلبون الناس، وإنما ينصحون؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة! قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم} والحديث صحيح.
وقال أحمد: "لو أعلم أن لي دعوةً مستجابة لجعلتها لإمام المسلمين.
فمن هديهم أنهم يدعون إلى اجتماع الكلمة، ويريدون استتباب الأمور حتى يكون الدين كله لله.
وقد ذكر أهل العلم أن ابن مسعود صلَّى خلف الوليد بن عقبة بن أبي معيط وقد كان أميراً في العراق وكان يشرب الخمر، وفي مرة صلى بهم الصبح أربعاً، قام إلى الثالثة فقالوا: استعنا بالله، وتوكلنا على الله، ثم قام إلى الرابعة، فقالوا: استعنا بالله، يمكن أن الوحي نزل عليه، فلما فرغ من قراءة الفاتحة وقال: ولا الضالين، قالوا: آمين، قال:
من لجسم شفه طول النوى ولعين شفا طول السهر
جسد لفف في أكفانه رحمة الله على ذاك الجسد
ثم التفت! قال: أزيدكم؟ قالوا: ما زلنا معك في زيادة.
انظروا الصلاة ما أحسنها! وهذا في قرن الصحابة، فما رأوا الخروج عليه، قالوا: حفظك الله وهداك وأصلحك، إنما نرفع أمرك لـ عثمان، فرفعوا أمره لـ عثمان، فقال: تعالوا به! فأركبوه على جمل فوصل المدينة، فقال عثمان: يا علي! نفِّذ حد شرب الخمر ثمانين جلدة، وكان علي صاحب المهمات، فهو متدرب على قطف الرءوس، وعلى الضرب رضي الله عنه، يده حامية، أما عثمان ففيه حياء ووقار حتى إنه لا ينظر للناس، أما علي فهو قاطف رءوس الملحدين، يدبغ في الدماء دبغاً رضي الله عنه، ولا يرهب من الحدث، قلبه أقوى من قلب الأسد، فهذا أبو الحسن الذي قيل فيه:
عفاءٌ على دنياً رحلت لغيرها فليس بها للصالحين معرج
كدأب علي في المواطن كلها أبي حسن والغصن من حيث يخرج
قال: قم يا علي! فاجلده، قال علي: قم يا حسن -ابنه شاب- اجلد الوليد، قال الحسن وهذا في صحيح البخاري: ولِّ حارها من تولى قارها -يعني: دع عثمان ما دام تولى الخلافة يتولى مسئوليتها- فتبسم علي، وقال لـ عثمان: اجلده أنت.
فأرسل عثمان فجلد ثمانين، فما خرج أهل السنة على هؤلاء، وإنما دعوا لهم بالصلاح والاستقامة.
ومن هؤلاء: الحجاج بن يوسف فقد صلى وراءه ابن عمر في منى، وكان الحجاج سفاكاً، يلعب في دماء الأمة، سجن مائة ألف، وكانت السجون مكشوفة، مثل سجون جوزيف استالين في روسيا، الذي يقول فيه خالد محمد خالد: فزت حياً وميتاً يـ استالين.
بل خاب حياً وميتاً، إلى النار وبئس المصير!!
فهذه السجون مكشوفة، فإذا اشتد الحر خرج الحجاج يُصلي في المسجد، فإذا سمعوا بمرور الحجاج بكوا وتصايحوا وتضاغوا علَّه يرحمهم، قال: اخسئوا فيها ولا تكلمون.
ومع ذلك صلى وراءه ابن عمر؛ لأن نقض الطاعة بمثل هذه الأمور لا يصح، فالأمر ما وصل إلى هذا الحد، بل يُدعى وتقوم الأمور، فهذا معتقد أهل السنة.
وصلى الصحابة خلف ابن أبي عبيد وكان متهماً بالإلحاد.
وصلوا خلف يزيد بن عبد الملك وكان عنده مولى يسمى قبيحة فسماه الناس عبد قبيحة -أي الخليفة- كان يملأ بركة من العطر والطيب، ثم تضرب القيان له، ويشرب الخمر، ثم يقول: أريد أن أطير، أين أطير؟ قالوا: طر إلى البركة، فطار بثيابه إلى البركة، ولذلك ناصحوه؛ لكنه مات شر ميتة، فقد جلس مع قبيحة يأكل العنب، فنشب العنب في حلقه فغص بها فمات.
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فهذا من الأمثال التي مرت في التاريخ.(357/18)
الصبر على الابتلاء
ومن خصائصهم: أنهم أعظم الناس صبراً على أقوالهم ومعتقداتهم.
وسأل قيصر -ويُسمى هرقل كما في صحيح البخاري -: أبا سفيان عمن أسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم: هل يرجع أحدهم عن دينه سخطة له بعد أن يدخل فيه؟
قال: لا.
قال: وكذلك الإيمان إذا خالط بشاشته القلوب لا يسخطه أحد.
هؤلاء أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، لا يرجعون عن معتقداتهم ومبادئهم ولو قُطِّعت رُءُوسهم، مبدؤهم ثابت، وكلامهم ثابت، وشجاعتهم متواردة؛ لأنهم يعلمون أنهم على الحق، ويقيس الإنسان نفسه بهذا؛ لأنه يوجد من بعض الناس لو خاف من شيء فعل كل شيء من أجل بقائه، لو أتى خَوفٌ وحُذِّر الناس من صلاة الجماعة، والله لا ترى أحداً يصلي إلا القليل، وتُترك المساجد بلاقع، فيقول أحدهم: أيطير رأسي من أجل صلاة الجماعة؟!
وبعضهم -في بعض الحوادث- قد يحلق لحيته حتى لا يُعد من المتطرفين، ويسبل ثوبه، ويسمع الغناء، ويدَّعي أنه داشر من أجل أن يبقى رأسه، ولكن الرسول ربَّى جيلاً من الناس، فيسحب بلال على الرمضاء فيقولون له: عد عد، فيقول: أحد أحد، من هو (أحد أحد)؟ إنه الذي على العرش استوى، وتقطع اللحوم منهم ويبقى الواحد منهم صابراًِ محتسباً لا يحوله عن دينه شيء.
قال أبو بكر لما أرسل إلى بني حنيفة خطاباً هائلاً يقول: [[والله! لأذهبن عنكم وساوس الشيطان بـ خالد بن الوليد، والله! لأحاربنكم بأناس -الموت إليهم أحب من الحياة- يحبون الموت كما تحبون الحياة]] فأطلق عليهم خالداً، وتلكم النخبة المثقفة التي تثقفت بإياك نعبد وإياك نستعين، فذبحوا بني حنيفة ذبحاً.
قال شيخ الإسلام في نقض المنطق (42،43) وفي الفتاوى (4/ 50،51): أما أهل السنة والحديث فما يعلم من أحد من علمائهم ولا صالح عامتهم أنه رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبراً على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وتعرضوا لأعظم الشدائد والكربات فلا زالوا يثبتون.
قال مالك: "لا تغبطوا أحداً لم يصبه في هذا الأمر بلاء".
والمعنى: لا تفرحوا لأحد عاش معافى ولم يصبه بلاء، أي: افرحوا لمن أصابه بلاء وفتنة في هذا الدين؛ فإنه إن شاء الله بمنزلته وحبه عند الواحد الأحد.
إن من خصائص أهل السنة أنهم يصبرون على أقوالهم ومعتقداتهم ولا يرجعون عنها ولا يستسلمون للباطل مهما كان، والله يقول: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:1 - 3] وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].(357/19)
التصديق بكرامات الأولياء
ومن خصائص أهل السنة: تصديقهم بكرامات الأولياء.
والكرامة يمنحها الله للمستقيم على الكتاب والسنة، يؤيد بها دينه، وقد أكرم الله كثيراً من الصحابة بشيء من ذلك؛ كتكثير الطعام لـ أبي بكر، وكرؤية عمر الجيش من مسافات، وكتسبيح الآنية والحصى لـ أبي الدرداء ولغيره من الصحابة، وكنزول الغيث مباشرة على العلاء بن الحضرمي وغيرهم من الصحابة، وهذه من كرامات الأولياء.
قال ابن تيمية في الفتاوى (3/ 156): ومن أصول أهل السنة والجماعة: التصديق بكرامات الأولياء، وما يجري الله على أيديهم من خوارق العادات في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سلف الأمم في سورة الكهف وغيرها إلخ.(357/20)
بركة عمل وعلم أهل السنة والجماعة
ومن خصائصهم: ما قاله شيخ الإسلام: "أنهم ينالون في المدة اليسيرة من حقائق العلوم والأعمال أضعاف ما يناله غيرهم في قرون وأجيال، فقد بارك الله في أعمالهم وبارك في علومهم.
وأقول لكم في المناسبة! إن طلبة أهل السنة والجماعة الذين يدرسون في المساجد، ينال أحدهم في السنة الواحدة من العلوم ما يستطيع أن يكون عالماً -إن شاء الله- بعد أن يكون عنده قاعدة وأصول مشتركة لا بد منها وحد أدنى لابد منه، وهذا من بركة علم أهل السنة والجماعة، والله يقول: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد:17] وقال سبحانه: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً * وَإِذاً لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً} [النساء:66 - 68].(357/21)
تعظيم الأمة لهم
ومن خصائص أهل السنة والجماعة: تعظيم الأمة لهم، واعترافها بفضلهم.
فهم معظمون، والله عز وجل حببهم إلى الناس.
قال الإمام أحمد: بيننا وبين أهل البدعة الجنائز.
فجنائز أهل السنة كثيرة، وحضور دروس أهل السنة كثير عددهم، يحضر لهم كالغمام، والألوف المؤلفة تحبهم؛ لأنهم على السنة، وأهل البدع والانحراف ودعاة العلمنة والمنافقين لا يحبهم أحد، ولا يحضر لهم الناس إلا جبراً رغبة فيما عندهم من مال أو رهبة من أوامرهم وسياطهم، أما أهل السنة فلا يملكون شيئاً من الدنيا، وليس عندهم قوة، ولكن جبل الله القلوب على حبهم، وجعل حبهم كالماء البارد يشربونه، وهذا علامة صدقهم إن شاء الله.
لقد شيع الإمام أحمد أكثر من مليون مسلم، وشيع شيخ الإسلام أكثر من مائة ألف مسلم، وكادت دمشق تنقلب أولها على آخرها في الجنائز، عطس البربهاري في بغداد فشمته أهل بغداد إلى السوق، وهذا موجود في ترجمته، يقولون: كان في مجلس علم فعطس، فقال: الحمد لله! قيل: يرحمك الله، فقال أهل السوق الذي بجانب المسجد في دار السلام: يرحمك الله، وهذا من علامة القبول إن شاء الله.
أما أهل البدع فلن تجد لهم أساس، ولا يحبهم الناس ولا يجتمع لهم، ومهما حاولوا من الشارات والتلميع فإن الله يقول: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] والله يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] ويقول سبحانه وتعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} [الأنبياء:18].
وقد ذكرت من خصائصهم: حب قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم.(357/22)
التورع وعدم التسرع في الفتيا
ومن خصائصهم: تورعهم في الفتوى، فلا يصدرون الفتاوي إلا بعلم وتأمل وتأكد، ويدفع بعضهم إلى الآخر الفتوى، ولا يستعجلون ويخافون، ويقولون فيما لا يدرون: لا ندري! حرجاً من أن يقعوا في الملمات.
قال علقمة: [[كانوا يقولون: أجرؤكم على الفتيا أقلكم علماً]] وقال ابن مسعود: [[إن الذي يفتي الناس بكل ما يستفتونه لمجنون]].
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: [[أعلم الناس بالفتاوي أسكتهم، وأجهلهم بها أنطقهم]].
فهم يتحرزون من الفتيا ولا يتسرعون، ويخافون من الله ويراقبونه ولا يفتون إلا بدليل أو بأمر واضح.(357/23)
الإيمان بأن الجنة والنار موجودتان مخلوقتان
ومن خصائصهم: أنهم يعتقدون أن الجنة والنار مخلوقتان موجدتان الآن، وليستا معدومتين ولا ينشئهما الله يوم القيامة كما زعمت القدرية والمعتزلة فإن هذا قول باطل.
قال الشيخ حافظ الحكمي:
والنار والجنة حقاً وهما موجدتان لا فناء لهما
فهذه من صفاتهم.
وأنت عليك أن تعرض نفسك على هذا المنهج وعلى خصائص أهل السنة والجماعة؛ لترى هل أنت منهم حقيقة؟ وإن لم تكن منهم فراجع نفسك وابكِ على ما سلف وتب إلى الله، واعلم أن الأمة المحمدية ثلاث وسبعون فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة، وهم هؤلاء الذين سمعت أوصافهم وأخبارهم؛ عسى الله أن يجمعنا بهم في دار الكرامة.(357/24)
الأسئلة(357/25)
نصائح لنجاح حفلات الأعراس
في الصيف القادم بعد موسم الامتحانات سوف يكون موسم للزواجات، نسأل الله أن يتممه بالخير وأن يصلح منا الظاهر والباطن، وقد وصل إلي ما يقارب عشرين دعوة زواج، ولي اقتراح! أما من استطاع حضوره فهذا وارد، وأما إذا تعارض موعدان فهذا فيه مشقة، وعلى الدعاة حضور هذه الزواجات، وعدم الاعتذار، لكن هناك وجهات نظر أعرضها عليكم:
منها حفظكم الله: أنه لا يُؤيد أن يتخذ الزواج -من باب خوف الملل- محاضرة من أوله إلى آخره، فلو نوَّع البرنامج لكان أحسن، من كان عنده زواج فليأخذ هذه الفقرات ويعرضها على الناس، وليعرضها على طلبة علم، أو على مخيم صيفي، أو على ثانوية متوسطة يقومون بهذا البرنامج، كأن يكون البرنامج مدته ساعة أو ساعة ونصف فقط ولا يزيد.
فيبدأ هذا البرنامج بآيات من كتاب الله، ثم أحاديث من كلامه عليه الصلاة والسلام، ثم قصيدة عربية ولا بأس بقصيدة نبطية، ثم نشيد إسلامي يقدمه مجموعة من الطلبة، ثم نكات وطرائف، ثم مجلة، ثم ترجمة صحابي، ولا بأس بلعبة رياضية أمام الناس، ولا بأس أن يأتي كبير السن ويجعل له عشر دقائق أو ربع ساعة يتحدث عما كان عليه الناس وما أصبحوا فيه من النعم والخيرات، ثم يتحدث عن توجيه للزوجين وللمجتمع.
فهذا الذي أُرشحه.
الثاني: على الدعاة أن يختاروا الموضوع المناسب في الزواج، فلا يأتون بموضوع عذاب القبر ولا الموت، لأن الناس في حياة وليسوا بعزاء، ولا يبكي الناس فيتركون العشاء ويتباكون في طرف المخيمات، بل يشجعهم ويضحكهم ويسليهم ويعرض لهم قضايا هامة تنفعهم، فلكل مقام مقال:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندى
الثالث: أقترح على المتزوج أن يستصحب هدية للحضور، وهي أشرطة إسلامية ما بين مائتين إلى ثلاثمائة شريط يصرفها، وقيمتها سهلة ويسيرة من التكاليف الباهضة التي تصرف -أحياناً- في غير طاعة الله، فيأخذ مائتين إلى ثلاثمائة شريط مع كتيب مع كل شريط ويقدمه للحضور، لكل فرد هدية، وسوف ينفع الله بها نفعاً كثيراً، وأرجو أن يكون في الحساب.
الرابع: أرى كذلك -وهذه وجهة نظر أعرضها عليكم وما نحن إلا إخوة بعضنا يستفيد من بعض- أن الزلفة والزير والحفلات الشعبية التي يصحبها المعازف محرمة، وهذه فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز أنقلها عنه، وأنا متأكد مما أقول، سمعتها من فمه مباشرة، وهو مرجعنا في الفتيا، وهو عالم البلاد الإسلامية شرقاً وغرباً، وشيخ الإسلام في هذا العصر:
إذا قالت حذام فصدقوها فإن القول ما قالت حذام
قال: دلت النصوص على تحريم ذلك.
وأتى بروايات وهي مشفية، فلا نريد أن يعود الناس إلى الوراء، بل يجددوا من أفكارهم وثقافتهم وإيمانهم، ولا يعبثون بعد أن يأكلوا نعم الله، فيقومون يتراقصون على الزيرة والزلفة فهذا من الخطأ.
أما النساء فلا بأس أن يجتمعن على دفٍٍ يضرب بالأيدي، ولا بأس أن يرقصن بشرط ألا يخالطهن الرجال، ولا يكون عندهن آلات لهو كالأشرطة الغنائية، فإنها خمر العقول، وهي محرمة بإجماع أهل العلم.
وقد أصدرت هيئة كبار العلماء في بلادنا فتوى بخصوص تحريم الغناء.
ومن الرأي أيضاً: ألَّا يُؤخر العشاء على الناس -وهذا من الاستملاحات ما دام ذكر الزواج- فإن بعض الناس لا يقدم مؤدبته إلى ما يقارب الحادية عشرة أو الثانية عشرة، وقد ملَّ الناس وليس له ذلك، بل يحصر البرنامج، ومباشرة بعده يقدم للناس أكلهم وطعامهم.
ثم يُراعي عدم التبذير، فيحاول معرفة عدد الحضور وعدد ما يقدم لهم من الطعام.
ومن الملاحظات أيضاً: أن هنا قسم استقبال الولائم تحت جمعية البر، فمن عنده وليمة كبرى وخاف أن يفسد الطعام أو أن يبذر؛ فليتصل بهذه وينسق معها، ويأتون بسياراتهم ويأخذون ما بقي من ولائم ويوزعونها على الفقراء الذين لا يجدون اللحم من شهر إلى شهرين.
وهذا أمر معلوم.
وملاحظة أخرى: كثير من الدعوات تأتي لإلقاء محاضرات إلى بعض المناطق، والداعية لا يستطيع بمفرده أن يتنقل في كل منطقة، فوصيتي لطلبة العلم في كل منطقة أن يحرصوا على أخذ الشريط، كل جديد بجديده، وكل موضوع بموضوعه، وينزلونها إلى قراباتهم وجماعاتهم؛ ليكونوا أئمة لهم في الخير، فإن الله ينفع بها، وهذا شيء يريح الداعية، ويعمم النفع والفائدة للناس بإذنه سبحانه وتعالى.(357/26)
الدعوة إلى المساهمة في الخيرات
السؤال
يتسائل كثير من الإخوة عن البرنامج الصيفي.
الجواب
سوف يكون هنا -إن شاء الله- الدرس العلمي لطلبة العلم بعد كل فجر وبعد كل مغرب، أما الدرس -الآن- العام فسوف يستمر بإذن الله عز وجل.
وسوف يراعى في الموضوعات مسألة المخيمات؛ لأن المنطقة منطقة محببة إلى الناس بما منحها الله من جو طيب، وبما منح أهلها من خير وفضل واستقامة وكرم، فأصبح الناس يتوافدون إليها بالألوف، ولا أقول هذا مبالغة.
أحياناً قد تجد في اليوم الواحد ما يقارب ستة وعشرين مخيماً، ينزلون دفعة واحدة من كل نواحي البلاد، فنصيحتي أن يُستغل هؤلاء في التوجيه وأن نكون دعاة لهم مؤثرين، وأن نقدم لهم الخير، وهذا أنتم لا توصون عليه؛ فإنه قد ظهر من حسن أخلاقكم ومن كرمكم ما بهر الناس، وقد وصل الإنسان إلى المنطقة الشرقية والشمالية والوسطى والقصيم والغربية، فوجد الثناء العطر على أهل هذه المنطقة -وهذه من نعمة الله- في أخلاقهم وفي بذل خدماتهم، حتى تجد الواحد منهم إذا مر بفرقة لا يعرفها من الطلبة أو من الشباب المصطافين أتى بخزان ماء وقرَّبه إليهم، وعرض خدماته عليهم والخيمة والسيارة ودعاهم إلى بيته، حتى أصبح يتحدث بكرمهم الركبان:
يقولون معن لا زكاة لماله وكيف يزكي المال من هو باذله
تراه إذا ما جئته متهللاً كأنك تعطيه الذي أنت سائله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
أقول هذا وأنا واثق مما أقول بل كانوا يخبروننا في كثير من المجالس في غير هذه المنطقة من المناطق الأخرى عن صفات الكرم عند أبناء هذه المنطقة، ويقول أحدهم: نزلنا في الليل بجانب بيت، فخرج علينا صاحب البيت وبعد أن نصبنا خيمتنا أقسم لندخلن بيته، فأدفأنا وعشَّانا وأنامنا في بيته وكان كالخادم لنا.
يقول أبو بكر في الأنصار، والأنصار هم من الأزد، وأنتم من سلالة الأنصار:
جزى الله عنا جعفراً حيث أشرفت بنا نعلنا في الشارفين فزلَّت
هم خلطونا بالنفوس وألجئوا إلى غرفات أدفأت وأظلت
أبوا أن يملونا ولو أن أمنا تلاقي الذي يلقون منا لملت
ولانقول ذلك تعصباً؛ لكننا أمة نقول للمحسن: أحسنت.
وللمسيء: أسأت، فنشكركم من الأعماق، فقد قدم الصالحون منكم صورة جميلة من أعظم الصور عن هذه المنطقة، حتى المحافظة على الزي الإسلامي، وتحجبت المرأة، يقول بعضهم: أنزل في كثير من المساجد فلا أرى امرأة كاشفة أبداً الكلام الوقور الشباب الناشئ المحاضرات التي يحضرها المئات من المستقيمين الملتزمين حسن الخلق كرم الضيافة وهذا كله أحسن ما يُعمِّق حب هذه المنطقة.
وتعلمون أن كثيراً من المناطق ودعاة دول الخليج قد أصبحوا -الآن- يدعون في المحاضرات -وقد استمعت إلى أشرطة- أقوامهم إلى أن يزوروا هذا المنطقة ليزوروا أهلها ويروا جوها وجمالها، فعسى الله أن يكون لكم هذا منزلة عند الله وقربة.
وإنما المقصود الزيادة في هذا، والاستمرار عليه والاحتساب، خاصة في هذه المواسم؛ حتى نخفف عن الناس آلامهم؛ لأن بعضهم لا يعرف الطريق، وبعضهم لا يستطيع أن ينزل، وبعضهم تنقص الخدمات عنده وبعضهم ينقطع، وبعضهم يأتي وقد يكون فقيراً صاحب عائلة، فأرجو منكم -ولا توصون على هذا- البذل والعطاء والتضحية والإصلاح بما تستطيعون وتوزيع الشريط الإسلامي والكتيب.
والله أعلم.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(357/27)
خطاب عالم الأمة
وجه الشيخ ابن باز خطاباً عاماً للأمة محذراً من الوقوع في أعراض الدعاة الذين أثبتت الأيام أن لهم قبولاً.
وكان ابن باز قد وجه لبعض الدعاة خطابات خاصة، يحثهم فيها على الصبر والإخلاص وتحمل الأذى.
وعن خطابه الخاص تكلم الشيخ عائض في هذه المحاضرة، وثَنَّى بكلام مفصل عن الخطاب العام وإيضاح حيثياته كونه على علم بها، مع إيضاح الغموض الذي أشكل على بعض ممن وصلهم الخطاب.(358/1)
العلامة ابن باز يتحدث عن الدعاة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس: خطاب عالم الأمة.
من هو هذا العالم الرباني؟ وما هو الخطاب؟
إنه سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز عالم الأمة الإسلامية، وجه خطاباً إلى الأمة، وقد تناقلته وكالات الأنباء، والصحف، والشاشة، والراديو، وسوف أشرحه هذه الليلة، وأبين حيثيات الخطاب، وملابساته، وأسباب الخطاب؛ لأنني كنت أنا وغيري من الدعاة على معرفة عن كثب وقرب بدوافع هذا الخطاب وبأهدافه ومقاصده.
وسماحة الشيخ ليس بحاجة أن نترجم له هذه الليلة، فالقلوب تعرفه، والعلوم تترجم له، والملايين المملينة في الأرض تشهد بحبه في الله عز وجل.
إنه الجامعة الربانية الكبرى التي تلقت تعاليمها في مدرسة محمد عليه الصلاة والسلام، إنه النبع السلسبيل العذب النظيف؛ الذي كانت ثقافته مستوحاة من قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.
قبل فترة من الزمن وصلت ومعي مجموعة من الدعاة في البلاد، وشكونا إلى سماحته ما نتعرض له من إيذاء عبر بعض الكتيبات والأشرطة والمقولات، وما يقوله بعض الناس في المجالس من وصفنا بالتطرف والعنف والتكفير والرأي الخارجي وغير ذلك، فما كان من سماحته إلا أن وعظنا موعظة بليغة، وأخبرنا بما لقي الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام في هذا الطريق، ووعدنا أن يكتب لنا رسائل خاصة باسم كل داعية، وأن يبث رسالة للأمة جمعاء في طول البلاد وعرضها، بل في كل العالم الإسلامي خطاباً إلى الأمة.
ووفى سماحته، وصدق فيما قال، ولولا أن هناك لبساً من الخطاب الذي نشر، لما تكلمت عن الرسالة الخاصة، ولكني استخرت الله، ورأيت من المصلحة أن أقرأ الرسالة الخاصة، ثم أقرأ الرسالة العامة وأشرحها بحول الله.(358/2)
خطاب ابن باز للقرني
يقول في رسالته الخاصة: بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد العزيز بن عبد الله بن باز، إلى حضرة الأخ المكرم صاحب الفضيلة الشيخ/ عائض بن عبد الله القرني وفقه الله لما يحبه ويرضاه، وزاده من العلم والإيمان، آمين.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فنظراً لحاجة الناس اليوم إلى الوعظ والتذكير والإرشاد، ولما لفضيلتكم من الجهود المشكورة في هذا المجال، والقبول والتأثير، نسأل الله أن يثيبكم على ذلك، فإني أرجو من فضيلتكم مواصلة الجهود في ذلك، والصبر على دعوة الناس إلى الخير، وتذكيرهم لما خلقوا له من توحيد الله وطاعته، وتشجيع إخوانكم من أهل العلم على ذلك، لما لا يخفى على الجميع من فضل الدعوة إلى الله سبحانه، وشدة حاجة المسلمين وغيرهم إليها، وذلك عن طريق المحاضرات والدروس والإجابة عما يشكل عليهم في أمور دينهم، والتعاون على البر والتقوى.
ونحن مستعدون للتعاون معكم في ذلك، والتفاهم مع ولاة الأمر فيما قد يعرض لكم في هذا السبيل، فسيروا على بركة الله، وأبشروا بالأجر العظيم، والذكر الجميل، وحسن العاقبة التي وعد الله بها المخلصين الصادقين، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، ويجعلنا جميعاً من أنصار دينه، والدعاة إليه على بصيرة، وأن يوفق حكومتنا، وعلى رأسها خادم الحرمين، وجميع المسئولين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر عباده، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرقم: 1142
التاريخ: 10/ 9/1411هـ
هذا خطاب وصل إلى كثير من الدعاة الذين لهم تأثير في البلاد أحتسبه الشيخ ذباً عن الأعراض، ومعاونة من سماحته للدعوة التي تنشر في البلاد على مذهب أهل السنة والجماعة.
وبالمناسبة: أشكر أصحاب الفضيلة العلماء الذين يحضرون هذا الدرس، ليستمعوا إلى أخيهم الصغير، وهم أطول باعاً، وأعلى كعباً في العلم والدعوة، وسبقونا بسنوات، ونحن نستفيد من تجاربهم، وأشكر من ذب عن أعراض الدعاة، أو من وضح منهجهم، أو ناصرهم، أو دعا لهم دعوة بظهر الغيب.(358/3)
رسالة من الشيخ الطنطاوي
وبالمناسبة -والحديث يجر بعضه بعضاً- وصلتني رسالة من فضيلة الشيخ/ علي الطنطاوي أثابه الله من مكة المكرمة، شكرنا فيها فضيلته على الدروس والمحاضرات، وأخبر أنه يستمع إلى كثير من الأشرطة، وهذا من تواضعه، على طول باعه في العلم والأدب والتاريخ، فأسأل الله أن يختم لنا وله بخير، ونفس الدعابة لا تفارقه حتى في رسالته، فشكرني على ما سبق من الثناء عليه، وعلى ذكر كتبه ومؤلفاته، وشكرني أني ترحمت عليه، وأخبرت أنه قد توفي، والحقيقة أنه مازال حياً، والدليل أن هذه رسالته، ولو أنه توفي لما كتب رسالة؛ لأن الذي يموت لا يستطيع بعد موته أن يكتب رسالة، فأسأل الله أن يجمعنا به وبالصالحين في دار الكرامة.(358/4)
قصيدة: الوحي مدرستي الكبرى
قبل أن أصل إلى خطاب عالم الأمة، أقف معكم وقفة مع قصيدة؛ لأنكم أمة شاعرة تحب الأدب، وأنتم أدباء متأدبون مع الله ومع رسوله، أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بأدبنا.
عنوان القصيدة: الوحي مدرستي الكبرى
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وفي ثرى مكة تاريخ ملحمة على رباها بنينا العالم الفاني
في طيبة المصطفى روحي ووالهي في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
دمي تصبب في كابول منسكبا ودمعتي سفحت في سفح لبنان
فأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا ميلاد فجري وتوحيدي وإيماني
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت آياتها فاسألوا يا قوم قرآني
جبريل يغدو على قومي بأجنحة من دوحة الطهر في نجواه عرفاني
بدر أنا وسيوف الله راعفة كم حطمت من عنيد مارد جاني
كتبت تاريخ أيامي مرتلةً في القادسية لا تاريخ شروان
وما استعرت تعاليماً ملفقةً من صرح واشنطن أو رأس شيطان
وما سجدت لغير الله في دعة وما دعوت مع معبودنا ثاني
وما مددت يدي إلا لخالقها وما نصبت لغير الحق ميزاني
فقبلتي الكعبة الغراء يعشقها روحي وأنوارها في عمق أجفاني
وليس لي مطلب غير الذي سجدت لوجهه كائنات الإنس والجان
لا أجمع المال مالي كل أمنية طموحة تصطلي بركان وجداني
وكل فدم جبان لا يصاحبني على الشجاعة هذا الدين رباني
ليت المنايا تناجيني لأخبرها أن المنايا أنا لا لونها القاني
ليرم بي كل هول في مخالبه ما ضرني وعيون الله ترعاني
ممزق الثوب كاسي العرض ملتهباً أنعى المخاطر في الدنيا وتنعاني
مريض جسم صحيح الروح في خلدي حب لأحمد من نجواه عرفاني
بلال صوتي هتاف كله حسن أذانه في المعالي رجع آذاني
وعزم عمار في دنيا فتوته أسقي شبابي به من نهره الداني
عصا الكليم بكفي كي أهش بها على تلاميذ فرعون وهامان
ونار نمرود أطفئها بغادية من الخليل فلا النيران تصلاني
في حسن يوسف تاريخي وملحمتي من صنع خالد لا من صنع ريجان
داود ينسج درعي والوغى حمم لا يخلع الدرع إلا كف أكفاني
دعني ألقن قوماً ما لهم همم إلا على العزف من دان ومن دان
قوم مخازنهم نهب ومطعمهم سلب وموكبهم من صف فئران
هم في الرؤى نقطة سوداء إن لمعوا يا للرجال وهذا العالم الثاني
يا جيل يا كل شهم يا أخا ثقة يا بن العقيدة من سعد وسلمان
يا طارق يا صلاح الدين يابن جلا يا عين جالوت يا يرموك فرقان
يا بائع الأنفس الشماء في شهب من الرماح على دنيا سجستان
يا من بنوا المجد من أغلى جماجمهم في شقحب النصر أو في أرض أفغان
يا من سقوا دوحة الإسلام من دمهم من كل أروع يوم الروع ظمآن
يا صوت عكرمة المبحوح يقطعه قصف العوالي من سمر ومران
هيا إلى الله بيعوا كل ثانية فصوت رضوان ناداكم وناداني(358/5)
خطاب ابن باز للأمة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد النبي الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان.
-وسوف يكون لي وقفات أيها الناس، وأيما وقفات، فسوف أجعل لب محاضرتي وروحها وقلبها خطاب سماحته-
وبالمناسبة: نحن تلاميذ تلك المدرسة الرائدة مدرسة ابن باز، ومحمد بن عبد الوهاب، وابن تيمية، وأحمد بن حنبل، المدرسة الأصيلة الرائدة المحافظة، المدرسة التي تتلقى تعاليمها من وحي الله والكتاب والسنة
أنا ممن سماحته أنالت وممن دربت تلك الأيادي
وما سافرت في الآفاق إلا ومن جدواه راحلتي وزادي(358/6)
الوقوع في أعراض الدعاة
يقول: إن الله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان، وينهى عن الظلم والبغي والعدوان، وقد بعث الله نبيه محمداً عليه الصلاة والسلام بما بعث به الرسل جميعاً من الدعوة إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، وأمره بإقامة القسط، ونهاه عن ضد ذلك من عبادة غير الله، والتفرق والتشتت، والاعتداء على حقوق العباد.
وقد شاع في هذا العصر أن كثيراً من المنتسبين -انتساباً- إلى العلم والدعوة والخير يقعون في أعراض كثير من إخوانهم الدعاة المشهورين.
أي أن هؤلاء يقعون في أعراض الدعاة المشهورين، الذين أثبتت الأيام أن لهم قبولاً، وأنهم يريدون الخير، والعدل والحق، ويرفعون عن الناس الجهل، ويبينون لهم عقيدة التوحيد، وينهونهم عن كل ما يغضب الله عز وجل ورسوله.
قال: ويتكلمون في أعراض طلبة العلم والدعاة والمحاضرين.
فما هو الكلام؟ مرة يصفون هؤلاء الدعاة الفضلاء الأخيار بالتطرف، وأي تطرف؟!
أتباع أحمد بن حنبل، مدرسة شيخ الإسلام ابن تيمية، والإمام محمد بن عبد الوهاب متطرفة؟! من الذي يحكم على هؤلاء الدعاة الذين تجتمع لهم الأمة بالألوف، والذين يسمع لهم، والذين رزقهم الله بصيرة في دينه؟ من الذي يحكم عليهم بالتطرف؟
ماذا فعلوا يوم حكم عليهم بالتطرف؟ أخرجوا عن الملة؟ أنقضوا بيعة صحيحة شرعية؟ هل استحلوا دماً أو عرضاً حراماً؟ هل كانوا طلبة للأموال؟ هل كانوا وراء جمع الدنيا؟ الله يشهد، ثم يشهد عباده الصالحون.
قال سماحته: يفعلون ذلك سراً في مجالسهم.
فلا تسمع إلا من يقول: هؤلاء الدعاة يكفرون الناس.
ورب الكعبة لا أعلم داعية في البلاد ممن يوثق بدعوته يكفر مسلماً، والله ما كفرنا من يشرب الخمر غير مستحل لها، ولا كفرنا من يزني غير مستحل للزنا، ولا من يسرق غير مستحل للسرقة، فكيف نكفر من نسب إليه مخالفة شرعية أو معصية؟! هذا ظلم للدعاة، وتشويه لصورتهم في المحافل والمجالس والأماكن العامة، وهذا لا يليق.
وأنا أدعوكم كما يدعوكم سماحته إلى أن تكونوا أنصاراً لله كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] كيف تكون ناصراً لله؟ بنصرك لعلماء ودعاة الأمة ألاّ تسمع فيهم كلمة من مريض قلب، ولا من منافق، ولا من رجل في قلبه هوى، ولا من مبغض لـ (لا إله إلا الله) ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولبيوت الله، ولكتاب الله، ولسنة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فتذب عن أعراضهم، ويتمعر وجهك في المجلس، وتغضب إذا سمعت أن عقيدتهم أو مبادئهم أو دعوتهم تنتهك، فإن من ذب عن أخيه المسلم في عرضه؛ ذب الله عن عرضه في موقف ينتهك فيه عرضه، ومن خذل المسلم خذله الله.
ثم يقول سماحته: وربما سجلوه في أشرطة تنتشر على الناس.
وقد سمعنا والله أشرطة قيلت فينا وفي طلبة العلم والدعاة، فحسبنا الله ونعم الوكيل، من وصفنا بإننا نريد بالبلاد تشويشاً أو رعباً أو تطرفاً أو عنفاً، ونُسب إلى كثير من العلماء والدعاة هذا الأمر، وهو بهتان وزور: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5].(358/7)
مخالفة هذا المسلك للشريعة
قال سماحته: وقد يفعلونه علانية في محاضرات عامة في المساجد، وهذا المسلك مخالف لما أمر الله به ورسوله من جهات عديدة منها:
أولاً: أن هذا مخالفة شرعية.
ثانياً: أنه ظلم.
ثالثاً: أنه اعتداء على حقوق الآخرين.
رابعاً: أنه تشويش لهذا الجيل الذي يثق في هؤلاء الدعاة من الطلبة، سواء كانوا في الابتدائية أو في الثانوية أو في الجامعات، سواء كانوا من العامة أم من العلماء؛ لأن هذه البلاد وغيرها من بلاد الإسلام لا تصلح إلا بالعلماء، ولا يستقيم أمرها إلا بالدعاة؛ لأن هذا العلم سند محفوظ، يرويه فلان عن فلان، عن البخاري عن ابن المديني عن الثوري عن علقمة عن ابن مسعود عن الرسول عليه الصلاة والسلام عن جبريل عن رب العالمين.
وهؤلاء حملة وأمناء، وقد روي عنه عليه الصلاة والسلام عند الخطيب البغدادي وعند ابن عدي قوله: {يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف المبطلين وتأويل الجاهلين} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال سماحته: أولاً: أنه تعد على حقوق الناس من المسلمين، وقد سمعنا من وصم الدعاة أنهم لا يفهمون الدين، وأنهم شددوا الدين على الناس، وحرموا ما أحل الله لهم، وهل هذا يعقل ممن يدرس الشريعة صباح مساء، ويدرس قضاة المسلمين وكتاب العدل، ويلتقي بالدعاة والعلماء، ويأخذ علمه من علماء أجلاء من المدرسة السلفية الرائدة المحفوظة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام.
كيف نحرم ما أحل الله للعباد، والله عز وجل يقول: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116]؟!
فلمْ يحرمْ الدعاة -والحمد لله- حلالاً، ولم يحللوا حراماً، بل كانوا وقافين عند النصوص، حذرين من مخالفة الله عز وجل ورسوله عليه الصلاة والسلام.
قال: أنه تعد على حقوق الناس من المسلمين، بل من خاصة الناس من طلبة العالم والدعاة الذين بذلوا وسعهم في توعية الناس وإرشادهم وتصحيح عقائدهم ومناهجهم، واجتهدوا في تنظيم الدروس والمحاضرات وتأليف الكتب النافعة.
إن أقل ما يجب للدعاة على الناس أن يكفوا ألسنتهم عنهم، إن لم يشارك المسلم إخوانه من الدعاة بالحضور، وبالمساعدة في نشر الشريط الإسلامي، وبالدعم المالي للكتب، ولتوزيع الأشرطة، وبالدعاء بظهر الغيب وفي السحر وأدبار الصلوات، فنسأله بالله أن يكف لسانه، وأن يحفظ عليه هذا الصارم الذي بين فكيه، وأن يعلم أن الله سوف يحاسبه على ما اقترف لسانه، فإن الله عز وجل لا تخفى عليه خافية.
وإن لم يستطع أن يدافع عن إخوانه الدعاة، فعليه أن يكف سلاحه، وأن يحفظ لسانه، وأن يقف عند حده.(358/8)
تفريق وحدة المسلمين
قال سماحته: ثانياً: أنه تفريق لوحدة المسلمين، وتمزيق لصفهم.
ونحن -أيها الإخوة- عالمنا، ومسئولنا، وداعيتنا، وطالب العلم فينا، وجندينا، وتاجرنا، وفلاحنا، كلنا أسرة واحدة وجمعية كبرى في العالم الإسلامي، نحمل لافتة لا إله إلا الله محمد رسول الله، نستقبل القبلة كل يوم خمس مرات، نقدم دماءنا رخيصة ليرتفع هذا الدين.
فقضية تفريق الأمة، وتشتيت كيانها، وإحداث الفرقة من فعل أهل البدع أعاذنا الله وإياكم منهم!
قال سماحته: وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة، والبعد عن الشتات والفرقة، وكثرة القيل والقال فيما بينهم.
وقد قال عليه الصلاة والسلام: {من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه} وقال له أحد الصحابة فيما يرويه مسلم في الصحيح: {يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً غيرك، قال: قل آمنت بالله ثم استقم.
قال: ماذا تخشى عليّ؟ قال: كف عليك هذا، وأخذ بلسانه عليه الصلاة والسلام} وقال عليه الصلاة والسلام لـ عقبة بن عامر لما سأله: {ما النجاة؟ قال: كف عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك}.
قال سماحته: خاصة وأن الدعاة الذين نيل منهم هم من أهل السنة والجماعة.
سبحان الله! أترون أمامكم رافضة أو خوارج؟ أو نحمل معتقداً غير معتقد أهل السنة والجماعة؟ أما يدرس الدعاة صباح مساء العقيدة الطحاوية؟ أما درسوا كتاب التوحيد؟ أما يعلمون الجيل كتب شيخ الإسلام ابن تيمية وشيخ الإسلام ابن القيم وشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب؟ من أين تأتينا الأفكار الدخيلة، ونحن بحمد الله ندرس صباح مساء عقيدة أهل السنة والجماعة؟!
فلماذا هتك الأعراض؟ ولماذا التنديد والتشهير؟
حتى إن المفاجئة الكبرى -يا عباد الله- أن بعض الناس لا يعرف مبادئ الدين أو الأولويات من الدين، وينال من الدعاة ويصفهم بالجهل وعدم معرفة السنة!
قال: وهؤلاء الدعاة هم من أهل السنة والجماعة.
وأهل السنة والجماعة -والحمد الله- خطهم مرسوم، ومنهجهم معلوم واضحٌ، تركهم عليه الصلاة والسلام على المحجة البيضاء، فما استوردوا أفكارهم من باريس وموسكو، وما دخلوا في صفه العملاء والمغرضين والمنافقين، وإنما هو الوضوح والمبادئ التي تعلن على المنبر في كل جمعة.
قال سماحته: وهم من المعروفين بمحاربة البدع والخرافات والوقوف في وجه الدعاة إليها، وكشف خططهم وألاعيبهم.
إذا اختفى الدعاة من الساحة من يحل محلهم؟ دعاة العلمنة والإلحاد والشهوات؟! {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً} [النساء:27] والسحرة والكهنة والمشعوذون والمروجون للجريمة.
يوم يختفي الدعاة وينسحبون أو تبطل عدالتهم أو لا يوثق في دعوتهم، حينها يحل كل عميل محلهم، ثم تذهب البلاد الإسلامية شذر مذر.(358/9)
من هم أصحاب المصلحة من تشويه الدعاة
قال سماحته: ولا نرى مصلحة في مثل هذا العمل إلا للأعداء المتربصين، من أهل الكفر والنفاق، أو من أهل البدع والضلال، وكم من متمن يعض أنامله غيظاً على بلاد الإسلام والمسلمين وعلى الكعبة والمصحف.
لقد وقف -يا عباد الله- بعض رؤساء الجريمة في العالم يأخذ المصحف ويدوسه تحت قدمه، ويقول: بقي عند المسلمين اثنتان: المصحف والكعبة، ولا انتصار على هذا العالم إلا بتمزيق هذا الكتاب وهدم الكعبة.
عن طريق ماذا؟ عن طريق إبطال دعوة الدعاة؛ لأن الله جعلهم نوراً، والرسول صلى الله عليه وسلم عدلهم، وهم خلفاؤه عليه الصلاة والسلام في الأمة.
قال سماحته: ثالثاً: أن هذا العمل فيه مظاهرة ومعاونة للمغرضين من العلمانيين والمستغربين وغيرهم من الملاحدة الذين اشتُهر عنهم الوقيعة في الدعاة، والكذب عليهم، والتحريض ضدهم فيما كتبوه وسجلوه.
فكل مسلم ينال من داعية سواء الذي سجل شريطاً أو وزع كتاباً أو نشر منشوراً ضد الدعاة، فهو متعاون مع العلماني الذي يرى أن الإسلام لا يستطيع أن يحكم العالم، مع العلماني الذي يرى أن الإسلام أن تصلي وتصوم فقط، لكن ألا يتدخل الإسلام في حياة الناس، مع العلماني الذي يريد الدنيا بلا دين، فأنت يا أيها البعيد بفعلك هذا كأنك -في كلام سماحته- تناصره، وتشد من أزره، وتقويه على ما يفعل؛ لأنه يريد أن يخترم هذا الميدان.
ودعاة العلمنة -صراحة- لم يستطيعوا بحمد الله سبحانه وتعالى أن يؤثروا في هذا الكيان، دخلوا بترويجات فما ذهبت على الأمة، ومطالب فما استطيعت، أرادوا إبطال قناعة الناس في الدعاة والعلماء فما استطاعوا، فأخذوا ينفثون السموم، وينشرون الأشرطة والكتيبات نشراً عجيباً بمئات الألوف من النسخ لإبطال عدالة الدعاة.
وكما تفضل سماحته أن هذا أعظم انتصار للعلمانيين، يوم يجدون بعض المبتدئين في طلب العلم، أو عامة المسلمين ينالون من الدعاة، ويصفونهم بعدم الفهم والعنف والتطرف.
قال: وليس من حق الأخوة الإسلامية أن يعين هؤلاء المتعجلون أعداءهم على إخوانهم من طلبة العلم والدعاة وغيرهم.
إن رميت رميت بسهمي، وإن ضربت ضربت جسمي.
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني
ولقد أثبتت الأحداث -أيها المسلمون- التي مرت بها الأمة الإسلامية عموماً والبلاد خصوصاً أن الدعاة هم بإذن الله صمام الأمان للأمة، وأنتم تعرفون ماذا أراد حزب البعث الكافر المجرم بالبلاد أو بالعالم الإسلامي، فما كان من الدعاة إلا أن امتطوا صهوات المنابر منددين بهذا النظام وعروه وفضحوه، بل يعلم الله الذي لا إله إلا هو قبل موعد المواجهة مع هذا الحزب الكافر، لقد كان كثير من الدعاة على مشارف حدود البلاد والمقدسات في طوابير الجيش يلقون عليهم الخطب، ويقرءون عليهم سورة الأنفال، ويوجهونهم بالصبر والثبات؛ حتى يحطموا هذا الحزب الكافر العلماني.
وهذا الذي يشهد عليه الله، فلم يكونوا متحزبين مع هذه الأحزاب الباطلة العلمانية الكافرة، بل كانوا ضدها، وحرباً في وجهها منددين ومشهرين بها، يدلون الأمة على ما ينجيهم في الدنيا والآخرة.(358/10)
إفساد قلوب العامة والخاصة
قال سماحته: رابعاً: إن في ذلك إفساداً لقلوب العامة والخاصة.
فيوم يفسد قلوب العامة على العلماء وطلبة العلم حينها لا يقبلون منهم خطبة ولا نصيحة؛ حتى أني سمعت أن بعض الناس أهدى إليه شريط بعض الدعاة، فقال: لا أريد أن أسمع لهؤلاء، لمن يسمع إذاً؟! ما هو البديل؟! يسمع للخرافيين، وأهل البدع، ومرتزقة الأفكار، ومن باع دينه في سوق الرخص؟! يقول: لا أريد أن أسمع لهؤلاء، ويقول أحدهم: لا تحضر دروس هؤلاء؛ فهم يفهمون الدين بالمقلوب! سبحان الله! ومن الذي يفهم الدين إن لم يفهمه الدعاة والأخيار والأبرار من طلبة العلم.
قال: ونشراً وترويجاً للأكاذيب والإشاعات الباطلة، وسبباً في كثرة الغيبة والنميمة، وفتح أبواب الشر على مصاريعها لضعاف النفوس، الذين يدأبون على بث الشبه وإثارة الفتن، ويحرصون على إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا.
وهذه مهنة بعض الناس، يقول عنهم سبحانه وتعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة:14] إذا لقيك ضحك لك، وهش وبش واحترمك، وبارك علمك وجهدك، ولكن إذا خلا رتع:
رب من أنضجت غيظاً صدره قد تمنى لي شراً لم يطع
ويراني كالشجى في حلقه عسراً مخرج ما ينتزع
مزبدٌ يخطر مالم يرني فإذا أسمعته صوتي أنقمع
وهذه الأبيات لـ أبي سويد الكاهلي، وهي من أجمل ما قيل.
قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:14] يقولون لبعضهم: لنعط هؤلاء ما يصلح لهم من الكلمات، قال سبحانه وتعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:15 - 16].(358/11)
حرص الدعاة على مصلحة المسلمين
قال سماحته: خامساً: أن كثيراً من الكلام الذي قيل لا حقيقة له.
وسوف نلقى الله إن شاء الله ولم نكفر مسلماً، ولم نحرم حلالاً، ولم نحل حراماً، ونلقى الله بإذن الله وبتثبيته ولم نبتدع في الدين، فأسأل الله أن يثبتنا وإياكم تثبيتاً حتى نلقاه، ونموت على هذه السنة، وعلى هذا المعتقد معتقد أهل السنة والجماعة.
أيضاً نسبوا إلى الدعاة أنهم يشهرون بالأسماء، وأنا لا أعلم إنساناً جرح باسمه، بل والله إن الدعاة يحرصون على حماية أعراض المسلمين، ووالله الذي لا إله إلا هو لا أعلم من إخواني الدعاة ولا من نفسي إلا أني أريد من الله ألا يعذب مسلماً، وأن يتوب الله على من عصاه ولو بالوقوع في أعراضنا وفي إيذائنا، أسأل الله أن يهديهم وأن يردهم رداً جميلاً، وأن يصلح ظاهرهم وباطنهم، وأن يتوب علينا وعليهم؛ لأن الله يقول: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] ويقول عز وجل: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] والله يقول: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34].
فالواجب على المسلم ألا يحمل غلاً إلا على رجل يرى أنه يمتهن الدعاة أو يؤذي العلماء أو يتسبب في محاربة الدين والعلم والدعوة، فعلى المسلم أن ينتصر للدين والعلم والدعوة ولا ينتصر لنفسه.
قال -حفظه الله للإسلام والمسلمين-خامساً: أن كثيراً من الكلام الذي قيل لا حقيقة له، وإنما هو من التوهمات التي زينها الشيطان لأصحابها وأغراهم بها، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [الحجرات:12] والمؤمن ينبغي أن يحمل كلام أخيه المسلم على أحسن المحامل.
ولو وجد خطأ في شريط لمسلم فعليك أن تلتمس له تبريراً، فإما أنه وهم، أو أتته معلومات مغلوطة، أو أنه أراد شيئاً صالحاً طيباً ففهم على غير وجهه، فعليك أن تحمله على أحسن المحامل.
قال: وقد قال بعض السلف: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك سوءاً، وأنت تجد لها في الخير محملاً.(358/12)
إذا اختلف أهل العلم فلهم أعذارهم
ثم قال حفظه الله: سادساً: وما وجد من اجتهاد لبعض العلماء وطلبة العلم فيما يكون فيه اجتهاد؛ فإن صاحبه لا يؤاخذ به، ولا يثرب عليه إذا كان أهلاً للاجتهاد.
فالعلماء يختلفون، والمسائل الفرعية ميدان الاختلاف بين أهل العلم، ولأهل العلم أعذارٌ في اختلافاتهم، ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: رفع الملام عن الأئمة الأعلام، فإذا خالفتني في مسألة فرعية أو خالفتك فلا ينبغي لك أن تشنع بي أو أشنع بك، أو تشهر بي أو أشهر بك، أو تغضب علي أو تهجرني، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قد اختلف أصحابه في عهده في مسألة فرعية، وذلك حين أمرهم كما في الصحيح ألا يصلوا صلاة العصر إلا في بني قريظة، فبعض الصحابة فهم منه عليه الصلاة والسلام العجلة، قالوا: إنما يقصد من الكلام ومن ظاهره أن نستعجل، فصلوا في الطريق، وبعض الصحابة فهموا منه أنه ينص على ألا يصلوا إلا في بني قريظة، فأجلوا الصلاة إلى أن وصلوا بني قريظة، فصوب الجميع عليه الصلاة والسلام، ودعا للجميع، ولم يغضب على أحد منهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} فما عليك من أمة مرحومة مجتهدهم له أجران، ومخطئهم في الاجتهاد له أجرٌ واحد، فادع لمخطئهم في الاجتهاد، ولمصيبهم في الأمور التي يسوغ فيها الاجتهاد.(358/13)
المجادلة بالتي هي أحسن
قال: فإذا خالفه غيره في ذلك؛ كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن حرصاً على الوصول للحق من أقرب الطرق، ودفعاً لوساوس الشيطان وتحريشه بين المؤمنين.
وأنا من هذا المنبر الشريف يا معاشر المسلمين! يا أيها الإخوة الكبار والصغار! من طلبة العلم والمسئولين والعامة، من سمع كلاماً مشتبهاً فيه لداعية -وأنا منهم- فليأتنا فإننا نرحب به، وليوجهنا وينصحنا، ويستفسر عن هذه الكلمة، وماذا نريد بها قبل أن يصدر أحكاماً، ولا أعلم داعية إلا وهو يفتح صدره وبابه، ويرحب بالتساؤلات، ويعتبر أننا أسرة واحدة تريد الله والدار الآخرة.
ثم قال: فعليه أن يجادله بالتي هي أحسن حرصاً على الوصول للحق من أقرب طريق، ودفعاً لوساوس الشيطان، وتحريشه بين المؤمنين، فإن لم يتيسر ذلك، ورأى أحدٌ أنه لابد من بيان المخالفة فيقول ذلك في أحسن عبارة وألطف إشارة.
فلا مانع أن توجه لي الأخطاء، أو تكتب أخطائي؛ لكن لا تحمل كلامي أكثر مما يتحمل، أو تتعرض لنيتي أو معتقدي أو تشهر بي في شيء ليس عليه دليل ولا برهان، فهذا معنى كلام الشيخ.(358/14)
من آداب الخلاف والنصيحة
قال: ودون تهجم أو تجريح أو شطط في القول، قد يدعو إلى رد الحق أو الإعراض عنه، ودون تعرض للأشخاص أو اتهام للنيات أو زيادة في الكلام لا مسوغ لها.
فإن الدعاة مثلاً قد ينصحون أحياناً، فيتهمون في نياتهم ومقاصدهم، وقد يقول أحدهم كلمة عن جهة من الجهات أو مؤسسة، فيتهم أنه يريد العداء والتشهير والتجريح والانتقام، والله أعلم بالنيات.
قال: وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذه الأمور: ما بال أقوام قالوا: كذا وكذا.
فالذي أنصح به هؤلاء الإخوة الذين وقعوا في أعراض الدعاة
فالشيخ ينصح الذين وقعوا في أعراض الدعاة، وقد نشرت وكالات الأنباء والصحف هذا الخطاب كما تعرفون، والحقيقة أن كثيراً من الناس سمعوا الخطاب سماعاً عاماً، أو سمعوا لفتات منه ولقطات، فأصبح بعضهم في أمر مريج، حتى سمعت بعضهم يقول: سماحة الشيخ رد على الدعاة، وبعضهم يقول: الشيخ يحذر من بعض الدعاة، وبعضهم يقول: الشيخ أوقف الدعاة عند حدهم إلى غير ذلك الكلام.
والواجب على المسلم أن يكون صاحب بصيرة، وأن يدري ما سبب الخطاب، والله الذي لا إله إلا هو -وهذا الشريط يسجل، والشيخ حي يرزق في الثالثة والثمانين من عمره، والهاتف موجود- ما سبب هذه النشرة إلا ذهابي أنا وزملائي من الإخوة إليه، وشكوانا ما حدث وما صار.
فقد كتب رسالة خاصة ورسالة عامة، ووعدنا بهذا وقال: تسمعونها إن شاء الله، وسوف أرسلها لوكالة الأنباء، ثم أرسل سماحته بالفاكس من يوم الثلاثاء والأربعاء إلى بيت كل داعية، وطلب أن تقرأ في المحاضرات والخطب، ومن هذا المكان أطلب من خطباء كل مسجد جامع في الجنوب أن يقرأ هذا الخطاب؛ لأنه -والحمد لله- الوسطى عندها خطباؤها وعلماؤها، والقصيم والشرقية والشمالية والغربية، ولكن في الجنوب واجب على كل خطيب أن يأخذ هذا الخطاب، وأنا سوف أجعله عند أحد الإخوة، ويصور منه إن شاء الله آلاف النسخ، وتجدونها عند مؤذن أو إمام المسجد غداً بإذن الله في صلاة المغرب ليأخذ كل خطيب نسخته، فأسأل الخطباء بالله أن يقرءوه على المنابر، وأن يوضحوه للناس؛ حتى نكون ممن يتعاونون على البر والتقوى.(358/15)
بعض النصائح للذين وقعوا في أعراض الدعاة
قال: فالذي أنصح به هؤلاء الإخوة الذين وقعوا في أعراض الدعاة، ونالوا منهم أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم، أو تلفظت به ألسنتهم، مما كان سبباً في إفساد قلوب بعض الشباب، وشحنهم بالأحقاد والضغائن، وشغلهم عن طلب العلم النافع.
حتى وصل الأمر -والعياذ بالله- ببعض الشباب أن تركوا حضور المحاضرات، وبعض المبتدئين والمقصرين من أمثالنا قالوا: مادام الدعاة هكذا، فلا نحضر محاضراتهم ولا دروسهم، ولا نسمع أشرطتهم.
سبحان الله! هكذا أوحى إليهم الشيطان، بسبب ما نقل من بعض الأشرطة والكتيبات التي لا تخفى عليكم.
قال: أو تلفظت به ألسنتهم مما كان سبباً في إفساد قلوب بعض الشباب، وشحنهم بالأحقاد والضغائن، وشغلهم عن طلب العلم النافع، وعن الدعوة إلى الله بالقيل والقال، والكلام عن فلان وفلان، والبحث عما يعتبرونه أخطاء للآخرين، وتصيدها وتكلف ذلك!
والعجيب أن بعض الناس لا يستمع الحكمة، ولا يستفيد من الفائدة، ولا يعجبه إلا عثرة الدعاة؛ حتى كما قال عامر الشعبي: والله لو أصبت تسعاً وتسعين إصابة، ثم أخطأت خطأ واحداً، لعدوا عليّ ذاك الخطأ.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما نقله الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي في كتاب المأمول: بعض الناس كالذباب لا يقع إلا على الجرح.
آلاف الأشرطة الآن في الأسواق كلها حكمة وآيات وأحاديث وقصص ونفع وفائدة، فتجد المغرض يتركها جميعاً ويذهب إلى شريط سقط فيه الداعية سقطة أو عثر عثرة، أو أخطأ خطأً، ثم يأتي يقول: هو الذي ذكر في الشريط كذا وكذا، اسمعوا لشريطه.
سبحان الله! أين العدل والإنصاف؟! أين الرؤية الموضوعية؟ أين ما طلبه الله سبحانه وتعالى منهم أن يكونوا شهداء لله ولو على أنفسهم؟ والله يقول: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة:8].
ثم قال سماحته: كما أنصحهم أن يكفروا عما فعلوا بكتابة أو غيرها، مما يبرئون به أنفسهم من مثل هذا الفعل، ويزيلون ما علق بأذهان من يستمع إليهم من قولهم.
وأنا أطالب كما طالب سماحته من قال كلمة في داعية أن يكفر بكلمة مثلها في المجلس، إن انتهك عرضه أو دعوته أو منهجه، أو أسلوبه، أو مزاجه، أن يقوم فيذب عنه، أو يثني عليه، أو يتحدث عن خصال الخير في العلماء والدعاة ليمحو الله سبحانه وتعالى السيئة بالحسنة.
إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، والله يقول سبحانه وتعالى: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22] ويقول سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وذكر المربي العالم الغزالي في إحياء علوم الدين: أن السيئة تكفر بجنسها، فمثلاً من استهان بالمصحف في أيام ضلال وقد تاب؛ فعليه أن يكرم المصحف، ومن كان يسمع الغناء مثلاً في جاهليته؛ فعليه أن يسمع قول الحق والسماع الشرعي في كتاب الله عز وجل، ومن كان يعلق على الدعاة ويستهين بهم وبالعلماء فعليه أن يذب عنهم، وأن يثني عليهم وينشر فضائلهم، ويتقي الله سبحانه وتعالى فيهم.
قال سماحته: ويزيلون ما علق بأذهان من يستمع إليهم من حولهم، وأن يقبل هؤلاء على الأعمال المثمرة التي تقرب إلى الله سبحانه وتعالى، وتكون نافعة للعباد.
لماذا لا يشتغل هؤلاء بالحق، أو بتربية أنفسهم، أو بالنفع؟ وإذا لم يفعل أحد فليكف لسانه، كف عليك لسانك، أو الزم بيتك، ولا تؤذ مسلماً {المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمؤمن من أمنه الناس}.
قال: وأن يحذروا من التعجل في إطلاق التكفير.
وهنا وقفة، حول إطلاق التكفير، في الأسواق كتاب لمفتي عمان، اسمه الخليلي، وهو مازال حياً، والحقيقة أن هذا الكتاب مخالف لـ أهل السنة والجماعة، ويكفر أهل الكبائر؛ كشارب الخمر وكذلك الزاني والسارق، وهذا خلاف منهج أهل السنة والجماعة الذي ندين الله به، فلله الحمد على أن عصمنا من تكفير المسلمين، يشرب شارب الخمر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة، ثم يقول صلى الله عليه وسلم: {لا تسبوه، فو الذي نفسي بيده! إنه يحب الله ورسوله}.
ولا يعني كلامي أني أجرئ الناس على المعاصي حاشا وكلا! ولكن ليكن عندنا ضابط، فإن عندنا ثلاث دوائر في الإسلام: دائرة الإيمان، ودائرة الإسلام، ودائرة الكفر، فدائرة الإيمان يدخلها الذي لا يرتكب الكبيرة عند بعض أهل العلم، ودائرة الإسلام يدخلها من يرتكب الكبائر ولكن لم يستحلها، ومازال مسلماً يقوم بالفرائض، ودائرة الكفر يدخلها من أتى بمكفر أو استحل كبيرة من الكبائر.
وأيضاً هناك عصيان وفسوق وكفر، قال تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات:7] فالكفر هو ما يخرج من الملة، ويُستحل دم من ارتكبه، والفسوق هو ارتكاب كبيرة كالزنا وشرب الخمر ممن يصلي ويعلم أن الزنا وشرب الخمر حرام؛ ومرتكب الكبيرة ليس بكامل الإيمان، وليس كالصالحين من عباد الله، ونشهد أنه فاسق، ولكن ليس بكافر؛ فلا نستحل دمه بل نقيم عليه الحد، وأما المؤمن فهو من يترك الكبائر ويداوم على الفرائض، وقد يأتي الصغائر، ولكن يتوب منها ولا يصر عليها.
هذه يا عباد الله معالم لابد أن يعلمها العبد، ولابد أن يتكلم عن بصيرة ودراية ويسأل أهل العلم.(358/16)
وجوب التثبت والتريث قبل التكفير أو التفسيق
قال: وأن يحذروا من التعجل في إطلاق التكفير أو التفسيق أو التبديع لغيرهم بغير بينة ولا برهان، وقد طالبنا عليه الصلاة والسلام بالتثبت والتبين، ويروى عنه: أنه نظر إلى الشمس فقال لأحد أصحابه: {على مثلها فاشهد} يروي هذا الحديث ابن أبي خيثمة ولو أن في سنده نظراً كما ذكره الحافظ في بلوغ المرام، لكن أدلة القرآن تشهد له، فقوله سبحانه وتعالى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:86] وكقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] وكقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] وكقوله سبحانه وتعالى: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] وقال جل اسمه: {لا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
فالواجب على الإنسان أن يتثبت ولا يتعجل، وأنا أطالبكم بالحوار المفتوح، من كانت في ذهنه شبهة عن الدعاة، أو بلغه كلام، أو سمع كلاماً في شريط لم يفهمه، أو قرأ مقالة أو كتيباً؛ فليأتِ سواء في البيت أو المسجد أو في الكلية، أو يصل إلى أي شيخ في مكانه، أو يصل إلى الدعاة أو القضاة أو العلماء، ويتبين مما قيل؛ حتى يكون على بصيرة قبل أن يتهجم بأحكام يسأله الله عنها.
قال: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما} متفق على صحته.
يقول سماحته: ومن المشروع لدعاة الحق وطلبة العلم إذا أشكل عليهم أمر من كلام أهل العلم أن يرجعوا فيه إلى العلماء المعتبرين ويسألوهم عنه، يقول سبحانه وتعالى عن المنافقين: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ} [النساء:83] المنافق يحب الشائعات، ويحب أن يشهر بالصالحين، ويستوشي الأخبار ويشعلها ويوقدها في المجالس وقد قال صلى الله عليه وسلم: {كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع} رواه مسلم.
قال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] فأنت إذا سمعت شائعة أو خبراً فعد إلى العلماء، واسأل طلبة العلم والدعاة حتى تكون على بصيرة.
قال: ويسألوهم عنه ليبينوا لهم جلية الأمر، ويوقفوهم على حقيقته، ويزيلوا ما في أنفسهم من التردد والشبه، عملاً بقول الله عز وجل في سورة النساء: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83] قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[أنا من الذين يستنبطونه]] أي: يعيدون إليه؛ حتى يبين لهم الأمر.
قال سماحته: والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً، وأن يجمع قلوبهم وأعمالهم على التقوى، وأن يوفق جميع علماء المسلمين ودعاة الحق لكل ما يرضيه، وأن ينفع عباده، ويجمع كلمتهم على الهدى ويعيذهم من أسباب الفرقة والاختلاف، وأن ينصر بهم الحق، وأن يخذل بهم الباطل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وآله وصحبه، ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
وهذا الخطاب -كما ترونه- قد انتهى، أثاب الله سماحته خير ما جزى عالم أمة عن أمته، وأسأل الله أن يبارك في عمره، وأن يجمعنا به في دار الكرامة، وأن يحفظه جزاء ما دافع عن الدعاة، وما وقف في صفهم، وما حمى الله سبحانه وتعالى به سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الخطاب سوف أسلمه إلى مؤذن المسجد، وغداً في صلاة المغرب تجدونه هنا؛ ليأخذه الخطباء وأئمة المساجد، وطلبة العلم، والدعاة في المدارس والثانويات والجامعات؛ حتى ينتشر بإذن الله، وهو -كما ترون- محفوظ ومكتوب بخط واضح، فأسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية.
أيها الإخوة الكرام: كل ما في هذا الدرس -إن شاء الله- أشبه شيء بالرسائل العامة، والبيانات التي تهم الناس جميعاً، ومن حقنا جميعاً أن نكون جبهة واحدة ضد المبطلين والمحرفين والمخذلين والمرجفين والكفرة والملاحدة شرقاً وغرباً، فالإسلام مستهدف من أعدائه من الشرق والغرب، ومن الزنادقة، والذين يريدون أن يوقعوا الأمة في حمأة الرذيلة، فالواجب علينا أن نتناصح، وأن تكون كلمتنا واحدة، ونتواصى بالحق والصبر، كما وصف الله عباده بذلك، ومن رأى منا خطأً في أخيه فلينصحه، فإن علي بن أبي طالب أمير المؤمنين رضي الله عنه يقول: [[المؤمنون نصحة، والمنافقون غششة]].(358/17)
حكم من أتى الكهنة والسحرة والمشعوذين
وهذه رسالة هامة وستجدونها بعد الصلاة خارج المسجد؛ ينبغي أن تُقرأ في القرى والبوادي، وأسأل الله أن ينفع بها، وفيها حكم من أتى الكهنة والسحرة والمشعوذين، وهذا نصها:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد:
فقد انتشر في كثير من النواحي صورٌ للشرك والسحر والشعوذة والكهانة، وهو أمر خطير، وفساد كبير؛ يوجب غضب الرب تبارك وتعالى، ويهدم الملة، ويحارب التوحيد، وقد قال عز من قائل: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66] وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أتى عرافاً أو كاهناً فصدقه بما يقول؛ فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أتى عرافاً، فسأله عن شيء؛ لم تقبل له صلاة أربعين يوماً}.
أيها الناس: وقد وجد في بعض المناطق قومٌ يدعون علم الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله، فيخبرون المريض بمرضه قبل أن يخبرهم، ويذكرون له اسمه، وأسماء أقاربه قبل أن يعلمهم بذلك، وهؤلاء يستخدمون الجن في الأخبار، ويذهب إليهم كثير من المرضى، ومن به مس من الجن، أو من به عقم، أو من منع عن زوجته، فيطلبون منهم الدواء، فإن صدقوهم بما يقولون؛ كفروا، وإن لم يصدقوهم وإنما جاءوهم فحسب؛ لم يقبل الله لأحدهم صلاة أربعين يوماً.
وهؤلاء الكهنة وأمثالهم يكتبون كلاماً لا يفهم، ويدخلون بيوتاً خالية، ويتمتمون بكلام لا يعرف، ليس من القرآن ولا من السنة، وربما ابتدعوا حروفاً لا تقرأ، أو وصفوا للذي يأتيهم أوصافاً لا دخل لها في الطب، ولا دخل لها في العلم، كأن يصفوا له بعض الأدوية المحرمة من استخدام بعض النجاسات، أو ترك بعض الصلوات، أو يصفون له بعض الأكلات التي لا يعلم أهل الطب بأن لها دخلاً في طبه.
فالواجب على المسلمين الإنكار على هؤلاء، وعدم الائتمام بهم في الصلاة، وهجرهم، ورفع أمرهم إلى من يأخذ على أيديهم.
أما الرقية الشرعية بالقرآن الكريم والأحاديث الصحيحة الثابتة عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذا أمر مشروع، ومما أثبته أهل السنة أن الجان قد يتلبس بالإنسان، ولا يخرجه إلا كتاب الله عز وجل والأحاديث؛ من الأدعية الثابتة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا أمر مشروع يؤجر من يرقي الناس به، ولعل الله أن يوفق الأئمة والخطباء لإلقاء دروس في التوحيد، والنهي عن الشرك، من مثل كتاب التوحيد وشرحه فتح المجيد ونحو ذلك، والله أعلم.(358/18)
بيان عن توحيد الألوهية
وأيضاً هنا بيان للناس، وهي سلسلة سوف تصدر إن شاء الله في وريقات، عل الخطباء أن يقرءوها، أو يستفيدوا من الكتب التي استفدت منها.
وهذا خطاب بعنوان: هذا بيان للناس، غالبه من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في كتاب توحيد الألوهية، وهو الجزء الأول من الفتاوى، ولكن لما رأيت من عظم كلامه، ولما جعل الله له من نفع، ولحاجتنا في هذه المرحلة وبعدها إلى هذا الكلام، ولما يوجب علينا النصح؛ أحببت أن أنقل جملاً، وأن أربط بعضها ببعض، ولو أني غيرت في بعض الأسلوب؛ لأن أسلوبه عالٍ لكثرة علمه، ولاتساع بحره، ولجلالته، فأحببت أن أذكر جملاً بأسلوب مفهم ومبسط عل الله أن ينفع به.
بعد الحمد لله والصلاة والسلام على الرسول عليه الصلاة والسلام.
اعلموا أيها المسلمون أن من أعظم ما يجب على المسلم أن يعلم أنه لا إله إلا الله عز وجل، وهذه كلمة عظيمة طالما رددها ابن تيمية في الفتاوى، كلما مضى قليلاً عاد، فقال: فليعلم المسلم أنه لا إله إلا الله، ولا يستحق العبادة إلا هو سبحانه وتعالى، وهو الذي خلق ورزق، وأعطى ومنع.
اسمع الكلمات، والعقيدة الحارة، والتوحيد الخالص؛ الذي جعل هذا الإمام العظيم صانع الأحداث، وجعله يقف أمام الخرافات والبدع والإلحاد والزندقة، وقد باع روحه من الله، اسمع إلى هذه الكلمات المتدفقة من نور الله عز وجل، ونور رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال: ورفع ووضع، وبسط وقضى، أرزاق الكائنات في خزائنه قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
وهذه الآية تعلمك من الخالق والرازق والذي يعطي ويمنع.
قال: وآجال النفوس عنده، قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَاباً مُؤَجَّلاً} [آل عمران:145] يغير ولا يتغير، ويبدل ولا يتبدل، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، لا يجبره أحدٌ على فعل أمر، قال عن نفسه عز وجل: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] يزيل الملوك ولا يزول، ويحيل الدول ولا يحول: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران:26].
وهو الممدوح بكل لسان، المعروف بالإحسان، المدح في حقه حق وعبادة، وفي غيره مذموم ممن أراده، مدح نفسه قبل أن يمدحه المادحون، ونزه نفسه قبل أن ينزهه المنزهون: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات:180].
وقفة: أنا أعلم أن كثيراً منكم يقول: هذا كلام نسمعه صباح مساء ليس فيه جديد، وأقول: بل كله جديد على الأذهان التي لم تعمل به، أو التي لم تعتقده، أو لم تعش به في دنيا الواقع.
قال: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] لا يموت ولا تبليه الوقوت: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} [البقرة:255] هو اليوم كما كان قبل أن يخلق اليوم، من أطاعه أحبه وقربه، ومن حاربه قصمه وأدبه، وهو صمد تصمد إليه الكائنات، لا إله إلا هو، الحيتان في متاهات البحار تسأله طعامها، والديدان في طبقات الطين تطلبه قوامها، والطيور في الأوكار تشدو بذكره، والبهائم في القفار تلهج بشكره: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].
فيا أيها المخلوق الهزيل والعبد الذليل! ويا أيها الفقير الحقير والكائن الصغير! تعلق بحباله فإنك غريب، ولا تقصد غيره فتهوي في مكان سحيق، فلا ينصرك ناصر، ولا يشفع لك شافع، ولن تجد من دونه ملتحداً.
في الأثر -الذي ذكره ابن كثير في التفسير - أن الله عز وجل يقول: وعزتي وجلالي ما اعتصم بي مخلوق دون غيري فكادت له السماوات والأرض إلا جعلت له فرجاً ومخرجا، وعزتي وجلالي ما اعتصم بغيري مخلوق إلا قطعت الحبال بيني وبينه، وزلزلت الأرض من تحت قدميه.
فلا تخف غيره ولو خوفك المرجفون، فإنهم يخوفونك بالذين من دونه: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الرعد:33] ولا تعبد غيره؛ فإن الله سبحانه وتعالى حرم الجنة على من عبد غيره، فلا يملك الضر والنفع، ولا الحياة ولا الموت ولا النشور إلا هو، أما العباد أصلاً فلا يستطيعون جلب نفع أو دفع ضر عن أنفسهم فكيف بغيرهم، وقد قال لأشرف خلقه صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف:188].
ويقول إمام الموحدين وسيد المجاهدين صلى الله عليه وسلم: {واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء؛ لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء؛ لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
ولكن كثيراً من الناس؛ حتى ممن صلى وصام، وتهجد وقام، ينسى هذه العقيدة، فيخاف من غير الله أكثر من خوفه من الله، ويرجو غير الله أكثر من رجائه في الله، ويهاب منهم أكثر من هيبته من الأحد الصمد، فتجده يراقب الناس ويرائيهم، ويتخوف منهم، ويشتد حذره منهم، ويعتقد أنهم أهل النفع والضر والخلق والرزق، وهذا سوء تقدير وقلة تدبير، وجهل بالعلي الكبير.
وتجد هذا المسكين لا يراقب الله، ولا يحذر مولاه؛ الذي لا يعذب عذابه أحد، ولا يوثق وثاقه أحد، والذي حكم الكائنات بقهره، ونواصي العباد بأمره: {مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود:56].
وتجدهم لا يعبدون الله حق عبادته، ولا يتقونه حق تقاته؛ لأنهم صرفوا حقه لغيره، وما ينبغي له لسواه، فلا يأمر أحدهم بالمعروف خوفاً على نفسه، ولا ينهى عن المنكر حذراً من قطع رأسه، ولا يصدع بالحق حرصاً على الرزق، فتوحيده هزيل، وقلبه ذليل، ولو سمع قول الجليل: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا} [التوبة:52] وقوله جل ذكره: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] وقوله سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] وقول الخليل عليه السلام: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنعام:81].
فالواجب على من يقدر الله حق قدره أن يرهب ربه وألا يرهب الناس، فإن مولاه يقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40] وأن يخشى إلهه ولا يخشى الناس؛ فإن الله يقول: {فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} [البقرة:150] ويقول عز من قائل في المنافقين الجبناء، والفجرة السفهاء: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:108] إلى آخر الرسالة، وهي موجودة بعد الصلاة إن شاء الله بكمية طيبة خارج المسجد، لتقرأ في المساجد أو على خطباء المساجد وأئمة المساجد أيضاً، وأرجو ممن يقرؤها أن يصحح بعض الأخطاء الإملائية في الآيات والأحاديث، عل الله أن ينفع بها سبحانه وتعالى، وأطلبكم الترحم على شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله رحمة واسعة.(358/19)
أمثلة من أهل الصبر
أيها الإخوة الفضلاء: يحضرنا في هذا الدرس وفي كل سبت قوم فضلاء، أنار الله بصائرهم، وابتلاهم سبحانه وتعالى بأخذ أبصارهم؛ ليرزقهم رضواناً عنده، قوم من معهد النور، وهم طلبة كرماء فضلاء، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {يقول الله عز وجل: من ابتليته بحبيبتيه فصبر، عوضته عنهما الجنة} يأتون وأنا أشاهدهم في أيام كثيرة بعدد طيب، يقود بعضهم بعضاً، وقد استناروا بنور الإيمان، قلوبهم نيرة: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].(358/20)
عبد الله بن عباس
والأعمى -صراحة- هو الأعمى عن المسجد والقرآن والسنة والمنهج الرباني والتوحيد، أما أولئك فهم مبصرون، وإمامهم وشيخهم ابن عباس أخذ الله عينيه، وسلبه بصره، ثم زاد من بصيرته، فأصبح نوره في بصيرته، قال له بعض المنافقين: لا حرج عليك من عينيك -شامتاً- فتبسم ابن عباس وقال:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مأثور(358/21)
شيخ الإسلام ابن تيمية
وهي المثل العليا التي يعيشها هؤلاء، فإنهم يجدون فيما أعطاهم الله عز وجل ومنحهم عوضاً عما سلبهم، فالواحد منهم في جنة من عيشه مع القرآن والذكر والسنة والتعليم والعبادة، والله سبحانه وتعالى يمنح جنته حتى في الدنيا لمن أطاعه، كما قال شيخ الإسلام رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لم يدخل جنة الآخرة.
وقد عاش هو بإيمانه ومبادئه وعلمه، فإنه سلسل بالحديد، وأتى به السجان ليدخله، وكان هذا الجندي حريصاً على إيذاء شيخ الإسلام، فأغلق الباب بقوة، وظن أنه أغلق منافذ هذا الإمام، وأنه أبطل جهوده، وقطع صوته، ومنع تأثيره في الناس، فتبسم هذا الإمام العلم، ثم قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} [الحديد:13] كأنه يقول: العذاب خارج السجن مع أهل الشهوات، وأهل الانحرافات، والبدع والخرافات، أما الرحمة فهنا حيث يوجد القرآن والسنة والعبادة، ثم تبسم وهز كتفيه وقال: ماذا يصنع أعدائي بي؟! أنا جنتي وبستاني في صدري، أنَّى سرت فهي معي، أنا قتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وسجني خلوة.
هذا هو شيخ الإسلام سجنه خلوة في العبادة، وقتله شهادة في سبيل الله؛ لأنه باع نفسه لله، وبعض المترجمين يقول: كان شيخ الإسلام إذا هُدِّد يتبسم على المنبر، ويقول:
لترم بي المنايا حيث شاءت فإني في الشجاعة قد ربيتُ
فإن الماء ماء أبي وجدي وبئري ذو حفرت وذو طويتُ
يقول: السنة سنتي، والمنهج منهجي، والرأس رأسي، والجنة لي بإذن الله ثم بعملي واقتدائي بإمامي محمد صلى الله عليه وسلم.
وأنا أقصد من هذا أن أهل التعاليم الربانية ليسوا في حجب، ومن يدرس سيرة ابن تيمية في السجن يجد عجباً من الأعاجيب، ماذا فعلوا حتى يغلقوا صوته المؤثر القوي؟ منعوه من الكتب، قال: هذه مصيبة، فأخذ الفحم وكتب في الجدران معلومات قديمة، ولا تزال حية جميلة وتجدونها في الكتب، فأخذوا الفحم؛ حتى الفحم بخلوا عليه، ومنعوه قالوا: لا تكتب! تلطخ الجدران علينا! قال: الله المستعان! فأخذ يسبح ويذكر الله عز وجل؛ فاغتاظوا! كأنهم لو أرادوا منعه من النفس منعوه، فقرروا مرسوماً جديداً أن يضعوه في الزنزانة مع الخمارين والسكارى ومروجي المخدرات، وما علموا أنه سوف ينفذ فتحاً جديداً، فوضعوه بينهم، فحولهم إلى علماء ودعاة.
يضعونه مع واحد وهو فاقد الشعور من شربة الخمر، فيأتي شيخ الإسلام: بسم الله الرحمن الرحيم: {ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق:1] يشرح له القرآن والسنة ويقوده إلى التوحيد، فيخرج هذا من الزنزانة بعد أن كان خماراً مكاراً سكاراً؛ إماماً عالماً خائفاً متقياً، هذه هي رسالة المؤمن دائماً يحملها معه أينما سار وأينما حل وارتحل.
وسوف تسمعون في الدروس المقبلة مقولات كثيرة من كلامه، وأبسطها إن شاء الله حتى يفهمها كل الناس من المقصرين من أمثالي، عل الله أن ينصر ميراثه؛ لأنه صراحة مجدد، لم يأت أحد مثله قبله بخمسمائة سنة، ولا من تاريخه إلى الآن مثله فيما نعلم، والله قدير على أن يأتي بمثله، ولكنا نقول الحق للناس.
والذي دعا إلى هذا الحديث هو ما أتحفنا به هؤلاء الإخوة حين أتوا، وغيرهم من الشباب يملكون النظر -نعمة العينين- ويملكون الصحة والقوة ولا يأتون، وهؤلاء يأتون في سيارات فيقود بعضهم بعض، وينتظرون الدرس حتى ينتهي، فأسأل الله أن يثيبهم، وأن يرد عليهم أبصارهم في جنات ونهر، في مقعد صدق عند مليك مقتدر.(358/22)
بعض التنبيهات المهمة(358/23)
بعض تلبيسات الصحف
أيها الإخوة: بيان سماحة الشيخ وخطاب عالم الأمة الذي قرأته نشرته الصحف، ولكن بعض الصحفيين استغل بعض الجمل فيه، ولم يبين مقصود الشيخ، والشيخ يريد شيئاً، ولكنهم يأخذون بعض الفقرات ويبترونها بتراً، مثلما قيل في بعض الصحف التي تنتشر انتشاراً واسعاً: ابن باز يستنكر حملات التكفير والتفسيق والتبديع عبر الأشرطة والمنابر، والذي يفهم من الكلام يقول: إن الشيخ يندد بالدعاة؛ لأنهم يفسقون ويبدعون ويكفرون عبر المنابر، هكذا ذكر صاحب الصحيفة فليتق الله، وعلى الشاب المسلم أن يدافع عن هذا، وإذا وجد من قرأ الصحيفة فليهد له الشريط أو يعطيه بيان سماحة الشيخ نفسه، وأنا أدعوكم إلى أن تقرءوا أنتم بأنفسكم في الصحيفة لا يقرأها غيركم، أن تقرأ أنت الخطاب بنفسك، وتقف على فقراته؛ لأنه صراحة لبس، وبالأمس واليوم الاتصالات مستمرة، وفهمت أن كثيراً من الناس ما فهم الخطاب، وأنه وقع في أمر مريج، والسبب أنه سمع المذيع يذيع وهو يشتغل، أو أنه خارج المنزل، أو أن ابنه كلمه أو جاره، فبنى هو على ما قال، ولابد من التثبت.
أيها الإخوة: نظراً لكثرة الحاجة من الاتصال، ولكثرة ما يدعو الاتصال من بعض المسائل أو بعض الاستفسارات التي يستطاع أن يجاب عليها، فإن لم أستطع أو يستطع إخواني من الدعاة في المنطقة؛ نرفعها إلى مثل سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، رأيت أن يكون وقت الاتصال من الواحدة إلى الثانية ظهراً كل يوم عبر هاتف رقمه: (2262770) ومن كان عنده سؤال فليعرضه، فإن لم أستطع له؛ رفعته إلى من هو أعلم، أو استشرت فيه علماء المنطقة ودعاتها، وفقهم الله لما يحبه ويرضاه.
أيضاً أيها الإخوة: الكثير أشادوا بخطاب الشيخ وأثنوا عليه أثابهم الله، وطلبوا أن ينشر على نطاق واسع في الجامعات والمدارس، وأنا بدوري أطالبهم بأن ينشروه، ويقرءوه، وأن يحتسبوا الأجر فيه، في المجالس، وأن يوضحوا وجهات النظر التي التبست في المجتمع.(358/24)
منشور باطل
وهنا منشور انتشر بين الناس وهو باطل لا صحة له، وكأنه صارد عن جهات مبتدعة تريد تخريب معتقد الناس، أو لها أغراض في تخريب البلاد والعباد.
يقول: مرضت فتاة عمرها ثلاثة عشر عاماً مرضاً شديداً عجز الطب في علاجها، وفي ذات ليلة اشتد بها المرض فشكته وبكت وسهرت غالب الليل، فرأت في المنام السيدة زينب وأوصتها ببعض الوصايا.
وهذا كذب وبهتان وافتراء، ولم يحدث من هذا شيء، فلا يلبس على المسلم دينه، وليعد إلى أهل العلم يستفتيهم وهو يعرفهم.(358/25)
كتاب الأسبوع
والكتاب في هذا الأسبوع أيها الإخوة الفضلاء هو كتاب رياض الصالحين، وأنا أقول لكم كلمة باختصار: لم ينشر في العالم الإسلامي كتاب بعد القرآن كـ رياض الصالحين، لا في كتب الحديث ولا الفقه ولا التفسير ولا كتب التربية ولا علم النفس ولا كتب الثقافات ولا الأدب ولا السيرة، لم ينشر ولم يوجد له قبول بعد كتاب الله عز وجل ككتاب رياض الصالحين، فأنا أوصي إخواني أن يكون في بيت كل واحد منكم نسخة، يقرؤها على أهله، وحبذا قبل النوم، أو بعد صلاة العشاء، أو في أي وقت مناسب، أن تجمع أهلك وأطفالك وبناتك، فتقرأ لهم حديثين أو ثلاثة كل يوم، وتشرح لهم ما يسر الله، إن هذا الكتاب هو الكتاب التربوي الذي رشح، ولا أعلم مثله كتاباً بعد كتاب الله عز وجل يصلح للعلماء والعامة وطلبة العلم، وهذا يدل على صدق صاحبه ونيته واتصاله، وعلى أنه أحب الله ورسوله.
وهذا الكتاب إلى الآن وصل في تاريخ توزيعه إلى الملايين المملينة، وما من دار طباعة إلا تبدأ في أول منشوراتها بـ رياض الصالحين، مما يؤخذ بالألوف المؤلفة وهو في كل بلد من بلاد الإسلام، فأسأل الله أن يغفر لصاحبه، وأن ينفعنا بـ رياض الصالحين.
كتب للنووي روض بها وتروض في رياض الصالحين
ولقد مدح الكتاب بأشعار ومدح صاحبه، غفر الله للجميع وألحقنا بهم في دار الكرامة.(358/26)
واجب البلاغ على طلاب العلم
أيضاً أيها الإخوة: دعوة إلى الإخوة طلبة العلم أن يبلغوا دين الله الذي يحملونه، وقد أتت رسائل يشكو أصحابها من انتشار بعض المخالفات الشرعية وسقوط طلبة العلم في القرى والأماكن والبوادي، وأنا أقول: إن هذا ميثاق قبل أن يكلفك أحد كلف نفسك، وبلع دين الله، واحذر من الكتمان، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {من كتم علماً ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار} {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].(358/27)
الصبر على الإيذاء والحسد
يشكو بعض الإخوة من الاستهزاء بهم، فنقول له: إن خطاب الشيخ الآن دفاع عنك وعن الإسلام وعن عرضك وعرض الأخيار والأبرار، فاحمد الله عز وجل أن جعلك في موقف إذا نيل منك أثابك الله، ولم يجعلك أنت المستهزئ؛ بل جعلك أنت الذي يتعرض لهذا، كما تعرض له أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام، فإنه سُخر منه، واستهزئ به، وضحك من دعوته، ونيل من عرضه، وأوذي عليه الصلاة والسلام؛ فصبر واحتسب، فاحمد الله أن يستهزأ بك، وماذا فعلت أنت؟ أطلقت لحيتك! وقصرت ثوبك! وصليت الصلوات الخمس في جماعة! وحرمت على نفسك الغناء! وحضرت الدروس! فهذه جريرتك عند الأمة؟!
يقول أحد الشعراء:
إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
يقول: أخرجني من هذه الورطة، إذا كان التزامي واستقامتي على منهج الله هي أكبر ذنب لي؛ فكيف اعتذر للناس.
ويقول المهدي صاحب كتاب البحر الزخار، وهو حاكم من حكام اليمن، من آل البيت، شكا له ابن الوزير ما يلقاه -هذا العالم الكبير- من الاستهزاء والسخرية، قال:
وشكوت من ظلم الوشاة ولم تجد ذا سؤدد إلا أصيب بحسد
لا زلت يا صدق الكرام محسداً والشانئ المسكين غير محسد
ويقول آخر:
إن العرانين تلقاها محسدة ولا ترى للئام الناس حسادا
السقط ليس لهم حاسد، ولا وراءهم من يستهزئ بهم؛ لأنهم سقطوا أصلاً، وإنما يُحسد من نبغ أو نبل أو حرص بالدين أو حمل رسالة، أو عنده ميثاق، أو كان صاحب مبادئ، فهذا الذي يتعرض دائماً للاستهزاء فاحمد الله على ذلك، واعلم أنها في ميزان الحسنات، وتلقها بصدر رحب، فإنها مع المران سوف تكون سهلة، فسوف توجه إليك السهام ثم تسقط ولا تصيبك بإذن الله؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] يقول: هم يألمون، لكن أنتم نصيركم أعلى، وسندكم أغلى، ومنهجكم أجلى، وأنتم في ميزان الحق ثابتون.
أيضاً يقول سبحانه وتعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] فهم يمسهم القرح، حتى يقول أحد الشعراء عنده عليه الصلاة والسلام:
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
فتعود الاحتمال، وحمل الأذى، وكن صامداً محتسباً صابراً لا تتوجع؛ بل فوض أمرك إلى الله، وقل دائماً: حسبنا الله ونعم الوكيل، يقول المتنبي:
إذا اعتاد الفتى خوض المنايا فأهون ما يمر به الوحول
يقول: الذي يعتاد المبارزة دائماً الذهاب إلى المعركة في حقه قليل؛ لأنه أصبح عنده استعداد ومناعة، مثل التطعيم ضد مرض الكوليرا، فهم الآن يطعمون الناس بالمصل؛ فتستفيد منه كرات الدم البيضاء لترد هذا المرض، كذلك الدعاة وطلبة العلم والأخيار البادئين، عليهم أن يكون عندهم مصل من الصبر والتحمل، وليعتبروا بصاحب الرسالة الخالدة الذي وضع السلى على رأسه، وجرح، وأوذي، وقتل سبعون من صحابته، وطرد من بلاده، وبيعت أملاكه، وضربت بناته، وجعل الحجر على بطنه عليه الصلاة والسلام من الجوع، ومع ذلك يقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
فمثل هذا يعطي طالب العلم قوةً واحتمالاً: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ} [العنكبوت:2].(358/28)
نصيحة لمن يتتبع عورات المسلمين
وأيضاً أنا أطلب من الصف المستهزئ أن يخفف من لأوائه ومن حرارته واعتدائه، وأن يتقي الله في الأمة وفي أخيارها، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {يا معشر من آمن بلسانه ولم يؤمن بقلبه! لا تتبعوا عورات المسلمين؛ فإن من تتبع عورة مسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في عقر داره}.
اللهم أصلح الراعي والرعية، اللهم أصلحنا سراً وعلانية، اللهم أصلح ولاة الأمر ووفقهم لما تحبه وترضاه، اللهم أصلح شباب المسلمين، اللهم أصلح علماء المسلمين، اللهم أصلح دعاة المسلمين، اللهم اجمع كلمتنا على الحق، اللهم من سل علينا سيفاً فاقتله بسيفه، اللهم من أراد بنا وبالإسلام والمسلمين سوءاً، فأشغله بنفسه، واجعل تدميره تدبيره، وخذه أخذ عزيز مقتدر.
اللهم احفظنا بما تحفظ به عبادك الصالحين، وتولنا في الدارين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(358/29)
الموت
إن أعظم ساعة يمر بها الإنسان هي ساعة الموت، تلك الساعة التي تنسي ما قبلها، ولو كان أحد ينجو من هذه الساعة الرهيبة لنجا منها المصطفى صلى الله عليه وسلم، فقد ذاق سكرات الموت.
وفي هذا الدرس تحدث الشيخ عن شدة الموت وسكراته، وذكر أحوال بعض الذين ذاقوه من الصحابة والتابعين ثم تكلم عن أسباب تذكر الموت.(359/1)
ساعة الموت والاحتضار
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداًَ عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
ومن واجب أهل الفضل علينا أن نشكر لهم فضلهم, ومن واجب أهل الإحسان أن نشكر لهم إحسانهم, فنشكر مدير هذه الثانوية بالغ الشكر, ونشكر الأساتذة الكرام، ونشكركم أيضاً لحسن استماعكم، ولتواضعكم أن تسمعوا هذه الكلمات, نسأل الله أن ينفع بها، وأن يجعلها خالصة لوجهه الكريم.
أما بعد:
فهذه الكلمة تدور حول الموت، وحين أخبرت بهذا الموضوع تذكرت أبياتاً في الموت للشاب العالم الزاهد حافظ الحكمي إذ يقول رحمه الله:
والموت فاذكره وما وراءه فما لأحد منه براءة
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشد ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صد
تالله لو علمت ما وراءكا لما ضحكت ولأكثرت البكا
ومن هذه الذكرى يمر الإنسان في قافلة الموت, ويتذكر هذا المصير المحتوم, وهذه الساعة المقضية من الله على ابن آدم, ساعة الموت التي يذل فيها الجبار, ويذعن فيها العاصي, ويعود فيها المتمرد, ويتوب فيها المذنب.
ساعة الموت الأليمة التي يمر بها الملك والمملوك, والرئيس والمرءوس, والغني والفقير, وكان من الجميل بنا أن نذكر بعض قصص المحتضرين، وأخبارهم وأنبائهم؛ علّنا أن نتذكر هذا المصرع الذي لن يفوتنا أبداً, وسوف نمر به ولو طالت أعمارنا, ولو تمتعنا بالشباب والصحة, ولو زهت لنا السيارات والعمارات، ولو سكنّا في الشقق الفاخرة, ولو لبسنا الملابس الجميلة, ولو تمتعنا بالمطاعم, وجلسنا على الموائد, وتزاورنا وضحكنا كثيراً, فإنها سوف تمر بنا هذه الساعة التي تنسي ما قبلها, والتي يتذكر فيها الإنسان حسابه مع الله, ماذا فعل؟! وماذا قدم؟! وماذا عمل في تلك الساعات التي أفناها في القيل والقال, وفي اللهو واللعب, وفي الجلوس -الذي لا طائل من ورائه- في مرافقة أقران السوء, وأصحاب الانحراف الذين ما زادوه إلا ضلالاً وإعراضاً عن الله.
تلك الساعة لا بد أن نحسب لها حسابها من الآن, ولا بد أن نقف معها وقفة طويلة جداً؛ لنتذكر بماذا سنلقى الله سبحانه وتعالى وبماذا سوف نرد على الملكين؟ وماذا سنقول إذا طُرحنا في تلك الحفرة التي تعرفونها؟
ففي تلك الحفرة يتجرد الإنسان من كل شيء إلا من الأعمال الصالحة؛ يتجرد من المنصب فيدخل في قبره بلا منصب, يدخل بلا: يا صاحب الفخامة! ولا يا صاحب المعالي! ولا يا صاحب السماحة! وإنما يُدخل جثمانه في قطع بيضاء ويوسد في هذه الحفرة, ويتولى عنه الناس, ويدخل بلا سيارة وبلا إخوان وبلا خلان, وبلا زوجة, وبلا صاحب, وبلا قرين.(359/2)
الرسول صلى الله عليه وسلم في ساعة الاحتضار
ولو نجا أحد من الناس من ساعة الموت لكان جديراً أن ينجو محمد صلى الله عليه وسلم, ولكنه -والله- ما نجا, مر بها كما يمر بها الإنسان, ووقف معها كما يقف الإنسان، وهو أشرف الخلق على الله تبارك وتعالى, وهو أكرم الناس على ربِّ الناس, لكنه تلقاها برحابة صدر؛ لأنه أحسن العمل مع الله, يروي البخاري ومسلم في صحيحيهما: {أنه لما احتضر صلى الله عليه وسلم وضع خميصة -وهي قطعة قماش- على وجهه الشريف من شدة الكرب, وروحه تنتزع من بين جنبيه وهو يقول: لا إله إلا الله, لا إله إلا الله, لا إله إلا الله إن للموت لسكرات, اللهم أعني على سكرات الموت, اللهم خفف عليّ سكرات الموت، تقول عائشة: بأبي هو وأمي، والله إنه كان يضعها في الماء فيبلها -أي: الخميصة- ثم يضعها على وجهه ويقول: اللهم أعني على سكرات الموت, ثم يقول صلى الله عليه وسلم وهو كذلك: بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى, بل الرفيق الأعلى} قال العلماء: إنما قال ذلك صلى الله عليه وسلم؛ لأنه خير بين أن يمد له في عمره, وأن ينسأ له في أجله أو يلقى ربه, فقال: بل الرفيق الأعلى, أي: أريد اللقاء الآن, أريد الرحيل من هذه الدنيا الآن, أريد الموت في هذه الساعة؛ لأنه يعلم صلى الله عليه وسلم أنه مهما طال عمره، ومهما امتد أجله, فإنه سيلقى هذا المصرع، فمن الآن إذاً.
فإذا كانت هذه الحياة نهايتها هذه النهاية, فبدون كلفة ومشقة، وبدون هموم وغموم، الآن أنهيها, والآن أتجرع كأس الموت، والآن أرتاح من هذه الحياة.
وتوفي صلى الله عليه وسلم كما يتوفى الناس, ومات كما يموت الإنسان, ولكن بقي ذكره أبد الآبدين؛ لأنه أحسن العمل مع الله.
والإنسان يطمع في طول العمر, ويطمع في امتداد الأجل؛ لأن بعض الناس يرى أن هذه الحياة متعة, سكنى ومطعم، وملبس وزواج، وترق في المناصب؛ فيرى أن هذه الحياة أحسن من الحياة الأخرى, أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة, أولئك الذين ضلت أعمالهم, وأولئك الذين حبط مسعاهم وأولئك الذين خسروا الصفقة مع الله, فهم يريدون هذه الحياة فحسب.
وقف موسى عليه السلام فقال: يا رب! أريد عمراً طويلاًَ, قال الله سبحانه وتعالى: يا موسى! اختر ما شئت، وجاء ملك الموت -وهذه قصة صحيحة- فضربه موسى ففقأ عينه, فعاد ملك الموت إلى الله فقال: أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ففقأ عيني, فرد الله عليه عينه, وعاد ملك الموت ليقبض روحه, قال: يا موسى! تمنَّ ما شئت من العمر, قال: ثم ماذا؟ قال: ثم تموت, قال: الآن إذاً, فقبض روحه, ولذلك يقول أبو العتاهية:
نح على نفسك يا مسكين إن كنت تنوح لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح
فإن كان هذا العمر, فلا بد من النهاية، ولا بد من المصير المحتوم.(359/3)
أبو بكر في السكرات
روى أهل السير أن أبا بكر رضي الله عنه لما احتضر دخلت عليه ابنته عائشة فسلَّمت عليه وبكت طويلاً ونظرت إليه, خليفة المسلمين وصاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار, وصدِّيق الإسلام, يموت في ثوبين متواضعين مجرداً من الدنيا لا يملك إلا بدنه ولا يملك إلا بيتاً من طين، والعالم الإسلامي تحت إدارته وخلافته, فتدخل عليه عائشة في السكرات وتقول وهي تعزيه بروحه رضي الله عنه وعنها: صدق الشاعر يا أبتاه:
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فالتفت إليها وقال مؤنباً لها، ومؤسفاً لها، ومعارضاً لها في هذا الاستشهاد، لا والله كذب الشاعر وصدق الله: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] هذا الموقف ليس موقف قول شعر, وليس موقف محاضرات, فهذا موقف يقول الله سبحانه وتعالى: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] ما معنى (تحيد)؟ أي: تفر, كلما أتاك المرض ذهبت إلى المستشفى, وذهبت إلى العيادة, وعرضت نفسك على الطبيب علّك تمتع, لكن إذا جاء الموت انتهى كل شيء: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19] هذا ما كنت منه تفر, وتحاول أن تلف, وتحاول أن تعرض, ولكن الآن لا منجى ولا ملجأ من الله إلا إليه, وانتهى كل شيء.(359/4)
معاوية في حال النزع
دخلوا على معاوية رضي الله عنه, وهو على سرير الملك في دمشق عاصمة الإسلام, فلما أتاه الموت قال: أنزلوني على التراب, فقالوا: يا خليفة المسلمين! ويا أمير المؤمنين! نرى السرير أرفق لك, قال: أنزلوني لا أبا لكم انتهى السرير وانتهى الملك, فأنزلوه فلما وضعوه في التراب, ووضع خده؛ وبكى طويلاً على التراب, وقال صدق الله سبحانه وتعالى بقوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] نسي كل شيء, نسي جيشه وجنده, نسي ملكه وقصوره, وما كان يعد, وانتهى الأمر إلى هذا الموقف وهذا المصير المحتوم.(359/5)
عبد الملك بن مروان في السكرات
وعبد الملك بن مروان الخليفة الأموي لما حضرته الوفاة بكى طويلاً، وقال: يا ويلتاه! ما أغنى عني ماليه, هلك عني سلطانيه, يا ليتني كنت راعي غنم, يا ليتني كنت زبالاً! يا ليتني كنت غسالاً! فبكى الناس حوله من كلامه هذا, فلما بلغ كلامه سعيد بن المسيب رحمه الله -عالم المسلمين- قال: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم؛ لأنهم لا يستيقظون إلا وقت الموت, ولا يتنبهون إلا في هذه الساعة, وإذا الأمر خرج من أيديهم, وإذا العمر ليس معهم, فيفيقون ويتذكرون فإذا ليس بأيديهم حيلة.
ولذلك الذكي كل الذكاء الذي يعد لهذه الساعة, ولا يغتر بالشباب, ولا يغتر بالصحة, فلا تقل: إني شاب وسوف أتخرج, وسوف أحضر بعض الرسائل, وسوف أتقلد بعض المناصب ثم أستعد للموت, فهذا هو الغباء كل الغباء, وهذه البلادة كل البلادة, ومن أعطاك عهداً من الله أنك سوف تستمر هذا العمر, ومن أعطاك من الله خبراً يقينياً أنك سوف تعيش حتى تتخرج, لا والله إن الموت معك, وإن الملك ليصاحبك، يقول سبحانه وتعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد:11] أي: أن الموت معك لكن هناك معقبات تحفظك حتى يأمر الله, فإذا أتى أمر الله تولى عنك هذان الملكان الحافظان.
قد يأتي أجلك وأنت في الطيارة في الجو, وقد يأتي وأنت في السيارة, وقد يأتي وأنت على كرسي الدراسة تستمع وكلك آذان صاغية لما يقوله الأستاذ، وإذا بك تفاجأ وتنتقل إلى الدار الآخرة.(359/6)
مقتل عمر بن الخطاب
عمر رضي الله عنه -وأنتم تعرفون من عمر الذي قضى كل حياته في الجهاد, وفي قيام الليل, وفي الصلاة والذكر, وفي الزهد والعدل, رضي الله عنه وأرضاه- خرج على المسلمين يوم الجمعة, وفي الخطبة العظيمة بكى بكاءً عظيماً, ثم قال: أيها الناس إني رأيت في منامي أن ديكاً ينقرني ثلاث نقرات, وقد عرضت هذه الرؤيا على أسماء بنت عميس الخثعمية زوجة جعفر , فأخبرتني أن رجلاً من الموالي سوف يطعنني ثلاث طعنات, فإذا طعنت فالله خليفتي عليكم، وأوصيكم بتقوى الله, وأستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه, ونزل رضي الله عنه من تلك الجمعة.
وعاد في فجر يوم السبت ليصلي بالناس, وكان من هديه رضي الله عنه أن يقرأ سورة يوسف، وابتدأ فيها حتى بلغ قوله تعالى حكاية عن يعقوب: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] فضج بالبكاء رضي الله عنه، وقطع صوته في القراءة وبكى الناس خلفه, ولما ركع تقدم إليه ذلك المارد الفاجر أبو لؤلؤة المجوسي بخنجره الذي يحمل حدين مسمومين, وطعنه ثلاث طعنات, ولما طُعن قال: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثم هوى سريعاً في المحراب شهيداً في سبيل الله تعالى.
وجاء عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه فأكمل الركعة الثانية, وصوته يقطعه البكاء لأنه علم أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قد انتهى من الحياة, واستمر أبو لؤلؤة يطعن الناس يمنة ويسرة حتى طعن ثلاثة عشر رجلاً, مات منهم سبعة وبقي ستة جرحى, وفي الأخير قام عمر رضي الله عنه وحمله الناس ودماؤه الطاهرة تنسكب على مناكبهم، وتنهمر على أكتافهم وهم يأخذونه إلى بيته رضي الله عنه, ويعزونه في نفسه وقد انتهى من الحياة.
ولما وضعوه على فراشه وعلى سريره في بيته؛ تقدم الصحابة يعزونه, وانظر إلى التعازي! وانظر إلى الكلمات الصادقة وحرارة الإيمان في تعازي الصحابة بعضهم لبعض!
يتقدم ابن عباس رضي الله عنه فيقول: السلام عليك يا أمير المؤمنين! فيقاطعه عمر ويقول: لست للمؤمنين بأمير, إنني أصبحت من أهل الدار الآخرة اليوم, فيقول: السلام عليك يا أبا حفص! والله لقد أسلمت فكان إسلامك نصراً لله ولرسوله وللمؤمنين, وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً, وتوليت فكانت ولايتك عدلاً.
فبكى عمر رضي الله عنه من هذه الكلمات, وقال: إليك يا بن عباس! والله لوددت أن أنجو من الحساب كفافاً لا لي ولا عليّ, فانحرف ابن عباس رضي الله عنه يبكي.
ثم تقدم علي بن أبي طالب عليه رضوان الله, فقال: السلام عليك يا أبا حفص! والله لقد كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته يقول: {جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وذهبت أنا وأبو بكر وعمر} فأسأل الله عز وجل أن يحشرك مع صاحبيك, فبكى وكأنه ارتاح لهذه الكلمة.
ثم قال للناس: أيها الناس! أستودعكم الله وأوصيكم بتقوى الله, وقال وهو في مرض الموت: إني ما أتممت الفجر, الصلاة الصلاة وعيونه تترقرق بالدموع, فأتي له بلبن فشرب منه فخرج اللبن من كبده مع دمه رضي الله عنه وأرضاه, فقام وأكمل الركعة وهو في ذلك الظرف.
وفي تلك الساعة الحرجة -التي ينسى الحبيب حبيبه, والخليل خليله, وينسى الإنسان كل شيء يتقدم إليه شاب, مسبل لثوبه يجر إزاره في الأرض, فسلَّم على عمر رضي الله عنه وقبل رأسه وقال: أستودعك الله يا أمير المؤمنين! أحسن الله عزاءك في نفسك, فقال عمر: [[يا بن أخي! ارفع إزارك -يوصيه برفع الإزار وبتقصير الثوب في تلك الساعة- فإنه أتقى لربك وأنقى لثوبك]] فيقول: جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء, فيقول عمر: بل جزى الله الإسلام عني خير الجزاء, ثم ينتقل إلى الدار الآخرة.
فهؤلاء الأعلام لابد أن نجلس معهم ساعات ولابد أن نخلو معهم سويعات ولحظات, ونعطيهم الوقت الغالي من أعمارنا لنعيش معهم؛ لأن الذي يسكن مع من لا يتذكر سوف يبقى خامداً هامداً لا يتذكر الموت أبداً, ولا يستعد ولا تتغير حياته ولا ينقلب له منقلب, ولا يحسن العمل؛ لأنه يظن أن هذه الحياة أكل وشرب, وفلوس وزيارة, وشهادة ومنصب, ومال وولد, وهذا مغرور والله.(359/7)
معاذ بن جبل في السكرات
معاذ بن جبل رضي الله عنه أتته سكرات الموت مع الفجر, فقال: اللهم إني أعوذ بك من ليلة صباحها إلى النار, اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار, ولا لجري الأنهار, ولا لعمارة الدور, ولا لبناية القصور -لماذا تحب الحياة إذاً- قال: لكني والله كنت أحب الحياة لثلاث خصال: لمكابدة الهواجر -أي صيام الأيام الحارة التي تشتد فيها الحرارة -ولقيام الليل- لله دره من عابد وعالم, ما أنبله وما أحسنه وما أجمله حينما عرف الحياة! يقول: ولمزاحمة العلماء بالركب في حلقات الذكر, وما كنت أحب الحياة لأمر سوى هذه الثلاث.
أما نحن لو سئلنا لقلنا: كنا نحب الحياة لنزور فلاناً أو علاناً, ولنركب السيارة الفاخرة, ونسكن في الشقة الوثيرة, ونتمتع بالمطاعم والملابس, ونتقلد المناصب, ونجمع الأموال, ونعتز بالأولاد, هذه حياتنا التي لا تفرق عن حياة البهائم إلا أننا ننطق ونعرف ونتكلم.(359/8)
حقيقة الموت والاستعداد له
لذلك وجب علينا أن نعود إلى السلف لندرس حقيقة الموت وفلسفته مع السلف الصالح , كيف استعدوا للموت وكيف عاشوا مع الموت؟(359/9)
عمرو بن العاص حال الموت
روى مسلم في صحيحه أن عمرو بن العاص رضي الله عنه, حضرته الوفاة في مصر , وكان والي مصر، وهو فاتح مصر , ومعلم أهل مصر.
عمرو بن العاص أرطبون العرب وداهية الإسلام عمرو بن العاص الذي دوخ ملوك الكفر والكفار وقاتلهم حتى دخلوا في هذا الدين, حضرته الوفاة فإذا هو متجرد من دهائه وذكائه, ذهب الذكاء والدهاء, وإذا هو متجرد من منصبه وأمواله وأولاده, ذهب المنصب والمال والأولاد, وإذا هو متجرد من كل شيء إلا من العمل.
وكان معه أناس من وزرائه وأولاده وأصحابه, فحول وجهه إلى الحائط وبكى بكاءً طويلاً, فجاء ابنه عبد الله -الزاهد العابد عبد الله بن عمرو - فقال: يا أبتاه! مالك تبكي؟ -وأراد أن يحسن ظنه بالله عز وجل- يا أبتاه! أما صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أما ولاك غزوة ذات السلاسل؟ أما مدحك؟ أما صحبت أبا بكر وعمر؟ أما فتحت مصر , أما جاهدت أما فعلت؟ قال: فلما طال كلام عبد الله ابنه, وطال بكاء عمرو؛ التفت عمرو إلى الناس, فقال: أيها الناس! إني عشت حياتي على طباق ثلاث- يتكلم عن سجل حياته, يعيد لهم التاريخ مرة ثانية, من يوم ولد إلى هذه الساعة- كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام, وكان أبغض الناس إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, والله لو تمكنت منه لقتلته غيلة, ولو مت على تلك الحالة لكنت من أهل النار, ثم رزقني الله الإسلام فهاجرت من مكة إلى المدينة , فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في مسجده فلما رآني؛ هش وبش في وجهي، بأبي هو وأمي, واستقبلني وقال: أهلاً يا عمرو! قال: فصحبته وأحسنت صحبته, والله ما كنت أملأ نظري منه صلى الله عليه وسلم حياءً منه, والله لو سألتموني الآن أن أصفه لكم -أي: الرسول صلى الله عليه وسلم- لما استطعت, فيا ليتني مت على تلك الحالة! ولو مت على تلك الحالة لرجوت أن أكون من أهل الجنة, ثم ولينا أشياء ما أدري ما حالي فيها وإن أفضل ما نعد شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله, ثم قبض يده هكذا على لا إله إلا الله, قال ابنه عبد الله: فأتينا لنغسله فأردنا فتح أصابعه فما استطعنا فتحها, وبقيت مضمومة, فأدخلناه كفنه وأصابعه مضمومة, وأدخلناه في قبره وأصابعه مضمومة رضي الله عنه وأرضاه.
فالعدة كل العدة أن تستعد لهذا المصرع, والحزم كل الحزم أن تحفظ وقتك وأن تستعد بعمل صالح لهذا المصرع, والزكاة كل الزكاة أن تحفظ هذه السويعات التي تمر بك مرَّ الرياح والبرق الخاطف، أن تستغلها بما يقربك من الله.
الله الله! لا يغتر الإنسان بشبابه, ولا بفراغه ولا بصحته, فإن الله سبحانه وتعالى إذا أخذ أخذَ أخْذ عزيز مقتدر, وأنتم رأيتموهم ورأيناهم، شباب مترفون أقوياء منعمون, أهل أموال خرجوا من بيوت أهلهم وما ودعوا أمهاتهم ولا آباءهم, وعادوا أمواتاً, عادوا جثثاً هامدة؛ حتى ما استطاعوا أن يقولوا: السلام عليكم أيها الأهل والجيران وإلى لقاء, ما استطاعوا أن يقولوا: وداعاً, عادوا منتهين من هذه الحياة!
فالله الله لا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور!
أعدوا ما استطعتم من العمل الصالح, وهذه الدقائق تقول لك: إن الموت قريب:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان(359/10)
حال سفيان الثوري مع الموت
كان سفيان الثوري رحمه الله تعالى إذا جلس مع الناس؛ يجلس قليلاً وهو يسبح ثم ينتفض ويقف, فيقولون له: ما لك يا أبا سعيد؟ قال: والله ذكرت الموت.
إذا أردتم ترجمة سفيان فعليكم بحلية الأولياء , اقرءوا كيف كانوا يتذكرون الموت ويعدون للموت, كان أحدهم يتذكر الموت وهو في مجلس التحديث ويقطع الفتوى, فيقطع الموعظة ويبكي حتى يقولون: كأنه يصرع من البكاء, ثم يقول بأبيات الصلتان السعدي:
أشاب الصغير وأفنى الكبير كر الغداة ومر العشي
إذا ليلة هرّمت يومها أتى بعد ذلك يوم فتي
نروح ونغدو لحاجاتنا وحاجة من عاش لا تنقضي
تموت مع المرء حاجاته وتبقى له حاجة ما بقي
يسألونه ويقولون له: يا أبا سعيد! ما حكم كذا وكذا؟ فيقول: والله ما أدري ما تقول أيها السائل! يقول: كيف لا تدري وأنا أتكلم بالعربية؟ قال: والله لقد أنساني الموت كل شيء, ولذلك يقول الذهبي: كان سبب موت سفيان الثوري أن ذكر الموت فتت كبده, حتى عرض ماؤه على طبيب فقال: هذا الرجل لا يعيش أكثر من ثلاثة أيام, هذا الرجل لا يتمتع بالحياة أكثر من ثلاث ليال, هذا رجل فتت ذكر الموت كبده, قرأ سورة التكاثر في العشاء, فبقى يرددها ويبكي حتى الصباح, وكان يبكي أهله وجيرانه من بكائه رضي الله عنه وأرضاه؛ لأنه علم علم اليقين, يقول الله سبحانه وتعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر:5] لأن علمنا بالآخرة علم ظن لا علم يقين, ندري أننا سوف نموت, وندفن الأجداد والآباء، والأمهات والإخوان، لكن هذا علم ظني نظري لم يتعمق في قلوبنا, وإلا لو تعمق في قلوبنا؛ لكنا أقبلنا على الله, واتجهنا إلى الله, وأتينا إليه بهمة وعزيمة, وحفظنا أوقاتنا مع الله, لكن نحن نعرف أننا مسلمون وأننا سوف نموت, ويقولون: هذه حياة والله غفور رحيم!! وهذه كلمات جوفاء.(359/11)
أسباب تذكر الموت
ومن أسباب تذكر الموت أمور, سوف ألخصها لكم في ثلاثة أسباب:(359/12)
زيارة القبور
الأمر الأول: أن تزور القبور, وأن تكثر من زيارتها, فلا تلهك الأسواق عن زيارة القبور, ولا تلهك المعارض ولا القصور، ولا الدور ولا الحفلات، ولا الأشجار والحدائق, واجعل من هذه العشر الزيارات للحدائق والقصور والدور؛ زيارة واحدة للقبور، ثم قف قليلاً وتذكر: أين أولئك الذين عاشوا معك؟ أين الذين عرفتهم وعرفوك؟ أين الذين ضاحكتهم وضاحكوك, وآنستهم وآنسوك, وزرتهم وزاروك, أين هم؟ وماذا فعلوا؟!!
عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه -الخليفة الزاهد- صلى بالناس العيد, وكان خليفة لثنتين وعشرين دولة من دول الإسلام من سمرقند شرقاً إلى طنجة غرباً, ومن طاشقند شمالاً إلى جنوب أفريقيا جنوباً وهو الخليفة الوحيد في هذه المعمورة, صلى بالناس العيد وخرج رضي الله عنه، فلما مرَّ بالمقبرة؛ وقف وبكى بكاءً طويلاً, ثم قال: أيها الناس! هذه قبور الأحبة من بني أمية, هذه قبور أجدادي وآبائي، وإخواني وجيراني, هذه قبور أصدقائي, أتدرون ماذا فعل بهم الموت؟! ثم بكى طويلاً, فقال الناس: ماذا فعل يا أمير المؤمنين؟ قال: يقول -على لسان الموت-: يا عمر! إني فقأت الحدقتين, وأكلت العينين وفصلت الكفين من الساعدين, والساعدين من العضدين, والعضدين من الكتفين, والقدمين من الساقين, والساقين من الركبتين, وفصلت كل شيء على حدة, ثم بكى فبكى الناس جميعاً البر والفاجر.
هذه المواعظ التي تعطيك دروساً لا تنساها أبداً، أن تقف عند المقبرة, ولو في الأسبوع مرة واحدة لعشر دقائق لتتذكر أباك وجدك، وعمك وخالك، وأمك وجدتك، وتتذكر مصرعهم, هل تميز بين الغني والفقير, وهل تميز فضل الملك من المملوك, أين ذهبوا؟
لابد أن تقف هذه الوقفات وأن تخصص هذه الزيارات.(359/13)
تدبر القرآن
الأمر الثاني: أن تقرأ كتاب الله بتدبر, فاخل بنفسك وتباكى إن لم تبك, إذا لم تجد دموعاً، فحاول أن تعصر نفسك وتتباكى, يقول عمر: [[إذا لم تبكوا فتباكوا]] أي: تشارك بالبكاء علّ الله أن يرحمك وأن يرزقك عينين تسيلان بالدموع؛ لأن الله حرم على النار عيناً بكت من خشية الله سبحانه وتعالى, وعيناً باتت تحرس في سبيل الله، فخذ المصحف واقرأ سورة الفاتحة أو سورة النجم أو سورة الواقعة أو الرحمن، ونحو هذه السور التي تنصب آياتها كأنها قذائف على الإنسان, اقرأ وتدبر علَّ الله أن يرزقك الإنابة، وأن يعيدك إلى حضيرته تبارك وتعالى.(359/14)
صحبة الصالحين
الأمر الثالث: صحبة الصالحين:
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً وقد صاروا أقل من القليل
وابتعد عن الزملاء الذين يبعدونك عن الله, تريد أن تتقرب من الله فيبعدونك عنه, وتريد أن تتقرب من الجنة فيقربونك من النار, تريد أن تقترب من الهداية فيأخذونك إلى الغواية.
واجلس مع الصالحين، فعند الجلوس مع الصالحين تتنزل الرحمات من السماء, وتحفك السكينة, ويغشاك الله بفضل من رحمته, ويذكرك الله فيمن عنده.
ولذلك يمر الملائكة ثم يصعدون إلى الله فيقولون: يا ربنا! جلس أولئك القوم يذكرونك وفيهم فلان ما جلس إلا مجاملة معهم ليس منهم, قال الله سبحانه وتعالى: وله غفرت، قالوا: إنه ليس منهم, قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم, مثل هؤلاء يرحمك الله برحمتهم ولو كنت بعيداً عنهم, ومثل هؤلاء يدخلك الله معهم في رحمته.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان يلقي خطبة في مسجده الميمون المبارك، والناس كلهم آذان صاغية لسماع خطبته، وفي أثناء الخطبة يدخل أعرابي فيقطع الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم, ويقول: {يا رسول الله! متى تقوم الساعة؟ فلم يقطع صلى الله عليه وسلم خطبته, واستمر في كلامه كالسيل المنحدر, فلما انتهى قال: أين تراه السائل عن الساعة؟ قال: أنا يا رسول الله! قال: ما أعددت لها؟ -أي: العمل, فالذكاء ليس أن تسأل عن الساعة متى تقوم, وماذا يهمك حين يدمر العالم وينتهي، إذا كان موتك بعد لحظات أو أسابيع أو سنوات؟ ما يهمك أن تقوم الساعة, فإذا مت قامت ساعتك- قال: فما أعددت للساعة؟ قال: يا رسول الله! والله ما أعددت لها كثير صلاة ولا صيام, لكني أحب الله ورسوله, فقال صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت} قال أنس رضي الله عنه راوي الحديث: فوالله ما أحببنا كلمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أحببنا هذه الكلمة, فنحن نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر ونرجو أن نكون معهم ولو لم نعمل بعملهم.
فالله الله بالجلوس مع الصالحين, والابتعاد عن الفسقة, والمردة, والمتهاونين بهذا الدين, والمتهاونين بالموت والحياة, ابتعدوا عنهم, واهجروهم ولو كانوا الإخوة الأشقاء من الأم والأب, يقول الشافعي رحمه الله:
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
فيرد عليه الإمام أحمد فيقول:
تحب الصالحين وأنت منهم ومنكم يرتجى نيل الشفاعة
فأحِبَّ الصالحين, واجلس معهم, وعليك بهذه الأسباب, وتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بما استطعت من النوافل؛ لأننا أصبحنا قوم كما يقول محمد إقبال: علفنا الأكل.
كان السلف الصالح علفهم الذكر, على حد تعبير محمد إقبال , وكان قربتهم إلى الله ومواردهم القرآن, والصيام والصلاة, وأصبحنا الآن علفنا الموائد الشهية, أكل وشرب وضحك وزيارات, إنهاء للوقت, وضياع للمعلومات, وضياع للصالحات, هذه حياتنا.
ولذلك قلَّ من تراه من المسلمين يصلي ركعتي الضحى التي هي صلاة الأوابين والتي تعادل 360 حسنة, والذين ينظر الله إليهم في الضحى وهم يتململون في صلاة الضحى، والناس في أعمالهم ومشاغلهم, فيغفر الله لهم.
قلّ من تراه منا يقوم آخر الليل ساعة السحر, حينما يخلون بالله وحين يناجونه, ويدعونه سبحانه وتعالى ويستغفرونه, قلّ من تراه من يتوضأ ويصلي ركعتين.
وقلّ من تراه يختم القرآن ويتعاهده كل أسبوع أو على الأقل في كل شهر, وقلّ تراه من يزور المقابر, ويجلس مع الصالحين والأولياء في كتب التراجم, إنما نشكو حالنا إلى الله سبحانه وتعالى, ونسأله سبحانه وتعالى أن يبدل حالنا بأحسن منها, وأن يردنا إليه رداً جميلاً, وأن يتولانا في من تولى, وأن يحلينا بالإيمان, وبحلية اليقين والإحسان, وأن يذكرنا المصير المحتوم, وأن يجعلنا ممن يستعد له الاستعداد الطيب, وأن يحفظ علينا أوقاتنا وأعمارنا وحياتنا.
ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذا هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب.
ربنا إننا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.
ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.(359/15)
سري للغاية
إن الطعن والثلب في أعراض العلماء بغير حق شرعي يعتبر طعناً في السنة؛ لأنهم حملتها وروادها، وورثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولذلك يجب الذب عن أعراضهم والدفاع عنهم.
وبالمقابل يجب على العلماء أن يعرفوا أن الابتلاء سنة كونية لمن يحمل هذا الدين على عاتقه.
وفي هذه المادة بيان لخطاب الشيخ: ابن باز بشأن العلماء والدعاة وما يجب علينا تجاههم.(360/1)
خطاب ابن باز عن الدعاة والتعليق عليه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وأزواجه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أيها الإخوة الكرام! عنوان هذا الدرس"سري للغاية" وسبب سرية هذا الدرس أنه ليس فيه سر، وكل أمره ظاهر، ولكن إذا أردت لأمرٍ أن ينتشر فحاول أن تكتمه، وإذا أردت لشيءٍ أن يعلن فحاول أن تخفيه، فإنهم قالوا: أحب شيءٍ إلى الإنسان ما منع.
والنفوس والقلوب تتعلق بالممنوعات، وتحب المحجبات، ولذلك قال علي رضي الله عنه: [[لو منع الناس من فت البعر لفتوه]] وهم لم يفتوا البعر؛ لأنه ليس الإنسان ممنوعاً من فته؛ ولكن لو صدر له أمرٌ أو نهيٌ عن فته لقام وقال: في الأمر سر.
والإعلاميون ورواد الصحافة يكتبون على الأخبار المثيرة لا تقرأ هذا الخبر، فتتشوق النفوس، وتتطلع العيون لقراءة هذا الخبر وتطمح لمعرفة المكنون، ولذلك كان الناس يتناقلون الشائعة؛ لأنها تحمل إثارةً وسراً، وروح كلامي في هذا الدرس أنه ليس بسر، ولكنه على كل حال سري للغاية.(360/2)
خطاب ابن باز العام
أبدأ هذا الدرس بخطاب سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز الذي وجهه أثابه الله ذاباً عن أعراض الدعاة، منافحاً عن العلماء، دامغاً به أهل الشبه والحداثة والعلمنة.
يقول سماحته: بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمدٍ النبي الأمين، وعلى آله وصحبه ومن اتبع سنته إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن الله عز وجل يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الظلم والبغي والعدوان، وقد بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بما بعث به الرسل جميعاً من الدعوة إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لله وحده، وأمره بإقامة القسط، ونهاه عن ضد ذلك من عبادة غير الله، والتفرق والتشتت، والاعتداء على حقوق العباد.
وقد شاع في هذا العصر أن كثيراً من المنتسبين إلى العلم والدعوة إلى الخير يقعون في أعراض كثيرٍ من إخوانهم الدعاة المشهورين، ويتكلمون في أعراض طلبة العلم والدعاة والمحاضرين، يفعلون ذلك سراً في مجالسهم، وربما سجلوه في أشرطةٍ تنتشر على الناس، وقد يفعلونه علانيةً في محاضراتٍ عامةٍ في المساجد، وهذا المسلك مخالفٌ لما أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من جهات عديدة منها:
أولاً: أنه تعدٍ على حقوق الناس من المسلمين بل من خاصة الناس من طلبة العلم والدعاة الذين بذلوا وسعهم في توعية الناس وإرشادهم، وتصحيح عقائدهم ومنهاجهم، واجتهدوا في تنظيم الدروس والمحاضرات، وتأليف الكتب النافعة.
ثانياً: أنه تفريقٌ لوحدة المسلمين، وتمزيقٌ لصفهم، وهم أحوج ما يكونون إلى الوحدة والبعد عن الشتات والفرقة وكثرة القيل والقال فيما بينهم، خاصةً وأن الدعاة الذين نيل منهم هم من أهل السنة والجماعة، المعروفين بمحاربة البدع والخرافات والوقوع في وجه الدعاة إليها، وكشف خططهم، وألاعيبهم، ولا نرى مصلحة في مثل هذا العمل إلا للأعداء المتربصين من أهل الكفر والنفاق أو من أهل البدع والضلال.
ثالثاً: أن هذا العمل فيه مظاهرة ومعاونة للمغرضين، من العلمانيين والمستغربين وغيرهم، من الملاحدة الذين اشتهر عنهم الوقيعة في الدعاة والكذب عليهم، والتحريض ضدهم، فيما كتبوه وسجلوه، وليس من حق الأخوة الإسلامية أن يعين هؤلاء المتعجلون أعداءهم على إخوانهم، من طلبة العلم والدعاة وغيرهم.
رابعاً: أن في ذلك إفساداً لقلوب العامة والخاصة، ونشراً وترويجاً للأكاذيب والإشاعات الباطلة، وسبباً في كثرة الغيبة والنميمة، وفتح أبواب الشر على مصراعيها لضعاف النفوس، الذين يدأبون على بث الشبه، وإثارة الفتن، ويحرصون على إيذاء المؤمنين بغير ما اكتسبوا.
خامساً: أن كثيراً من الكلام الذي قيل لا حقيقة له، وإنما هو من التوهمات التي زينها الشيطان لأصحابها، وأغراهم بها، وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات:12]
والمؤمن ينبغي أن يحمل كلام أخيه المسلم على أحسن المحامل، وقد قال بعض السلف: لا تظن بكلمة خرجت من أخيك فيك سوءً وأنت تجد لها في الخير محملاً.
سادساً: وما وجد من اجتهادٍ لبعض العلماء وطلبة العلم فيما يسوغ فيه الاجتهاد، فإن صاحبه لا يؤاخذ به، ولا يثرب عليه إذا كان أهلاً للاجتهاد، فإذا خالفه غيره في ذلك، كان الأجدر أن يجادله بالتي هي أحسن، حرصاً على الوصول إلى الحق من أقرب طريقٍ ودفعاً لوساوس الشيطان وتحريشه بين المؤمنين، فإن لم يتيسر ذلك ورأى أحدٌ أنه لا بد من بيان المخالفة، فيكون ذلك بأحسن عبارة وألطف إشارة، ودون تهجمٍ أو تجريحٍ أو شطط في القول قد يدعو إلى رد الحق أو الإعراض عنه، ودون تعرضٍ للأشخاص أو اتهامهم للنيات، أو زيادة في الكلام لا مسوغ لها، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في مثل هذه الأمور: ما بال أقوامٍ قالوا كذا وكذا؟!
فالذي أنصح فيه هؤلاء الإخوة الذين وقعوا في أعراض الدعاة ونالوا منهم أن يتوبوا إلى الله تعالى مما كتبته أيديهم، أو تلفظت به ألسنتهم مما كان سبباً في إفساد قلوب بعض الشباب، وشحنهم بالأحقاد والضغائن، وشغلهم عن طلب العلم النافع، وعن الدعوة إلى الله بالقيل والقال، والكلام عن فلانٍ وفلان، والبحث عما يعتبرونه أخطاءً للآخرين، وتصيدها وتكلف ذلك، كما أنصحهم أن يكفروا عما فعلوا بكتابة أو غيرها مما يبرءون به أنفسهم من مثل هذا الفعل، ويزيلون ما علق بأذهان من يستمع إليهم من حولهم، وأن يقبلوا على الأعمال المثمرة التي تقرب إلى الله، وتكون نافعةً للعباد، وأن يحذروا من التعجل في إطلاق التكفير، أو التفسيق أو التبديع لغيرهم بغير بينة ولا برهان، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {من قال لأخيه: يا كافر؛ فقد باء بها أحدهما} متفقٌ على صحته.
ومن المشروع لدعاة الحق وطلبة العلم إذا أشكل عليهم أمرٌ من كلام أهل العلم أو غيرهم أن يرجعوا فيه للعلماء المعتبرين، ويسألوهم عنه ليبينوا لهم جلية الأمر، ويوقفوهم على حقيقته، ويزيلوا ما في أنفسهم من التردد والشبه عملاً بقول الله عز وجل في سورة النساء: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً} [النساء:83]
والله المسئول أن يصلح أحوال المسلمين جميعاً، وأن يجمع قلوبهم، وأعمالهم على التقوى، وأن يوفق جميع علماء المسلمين وجميع دعاة الحق لكل ما يرضيه، وينفع عباده ويجمع كلمتهم على الهدى، ويعيذهم من أسباب الفرقة والاختلاف، وينصر بهم الحق، ويخذل بهم الباطل إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه ومن اهتدى بهداه إلى يوم الدين.
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد.(360/3)
سبب خطاب ابن باز ورسالته للشيخ عائض
أيها الإخوة الكرام: أما سبب خطاب الشيخ هذا فقد سبق من قبل فترة أن ذهبت أنا وبعض الدعاة من الإخوة الكرام إلى سماحته وشكونا إليه ما نلقى من ردودٍ، ومن اعتراضات لا صحة لها، ومن نقدٍ يوزع في الأشرطة، ويكتب في بعض الكتيبات التي تنشر؛ فأخبرنا سماحته أنه سوف يتبنى هذا الموقف وينقذ دعاة الإسلام بكتابه، وما كان سماحته إلا أن كتب لنا رسائل خاصة، وسوف أقرأ رسالتي التي وجهها سماحته ولولا رفع اللبس لما قرأتها، ولكن على العبد إذا تعرض إلى نقدٍ لا حقيقة له، له أن يدافع عن نفسه، وقد فعل ذلك الصالحون والأخيار من السلف ممن كان قبلنا رضوان الله عليهم.
يقول سماحته: بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد العزيز بن عبد الله بن باز إلى حضرة الأخ المكرم صاحب الفضيلة الشيخ عائض بن عبد الله القرني، وفقه الله لما يحبه ويرضاه، وزاده من العلم والإيمان آمين
سلامٌ عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد:
فنظراً لحاجة الناس اليوم إلى الوعظ والتذكير والإرشاد ولما لفضيلتكم من الجهود المشكورة في هذا المجال والقبول والتأثير -نسأل الله أن يثيبكم على ذلك- فإني أرجو من فضيلتكم مواصلة الجهود في ذلك، والصبر على دعوة الناس إلى الخير، وتذكيرهم لما خلقوا له، من توحيد الله وطاعته، وتشجيع إخوانكم من أهل العلم على ذلك، لما لا يخفى عن الجميع من فضل الدعوة إلى الله سبحانه، وشدة حاجة المسلمين وغيرهم إليها، وذلك عن طريق المحاضرات والدروس والإجابة عما يشكل عليهم، في أمور دينهم والتعاون على البر والتقوى، ونحن مستعدون للتعاون معكم بذلك، والتفاهم مع ولاة الأمر فيما قد يعرض لكم في هذا السبيل، فسيروا على بركة الله، وأبشروا بالأجر العظيم والذكر الجميل، وحسن العاقبة التي وعد الله بها المخلصين الصادقين، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا، ويجعلنا جميعاً من أنصار دينه والدعاة إليه على بصيرة، وأن يوفق حكومتنا وعلى رأسها خادم الحرمين وجميع المسئولين لكل ما فيه رضاه وصلاح أمر عباده إنه جوادٌ كريم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد
عبد العزيز بن عبد الله بن باز
رقم هذا الخطاب (1142) تاريخه (10/ 9/1411هـ).(360/4)
واجب المسلم تجاه الدعاة والعلماء
ونظراً لما لخطاب سماحة الشيخ العام الذي وجهه للأمة بخصوص الدفاع عن العلماء والدعاة فإني أريد أن أبين قضايا تهم المسلم:
أولاً: واجب المسلم نحو الدعاة الذب عن أعراضهم، وحماية دعوتهم، وعدم ترك السفهاء من المنافقين والمرتدين، ومن في قلبه مرض أن يلغ في أعراضهم الطاهرة؛ بل على المسلم أن يدفع عنهم؛ لأن الله عز وجل ذكر أنه يدافع عن الذين آمنوا، وطلب عليه الصلاة والسلام من المؤمن أن يذب عن عرض أخيه المؤمن، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، ولا يخذله، ولا يحقره، ولا يسلمه، بحسب المسلم من الإثم أن يحقر أخاه المسلم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام فيما يرويه مسلم.
الثاني: ذكر محاسن الدعاة، وهم القوم الذين لا يشقى في جليسهم، وهم حملة هذا العلم الشريف الذي بعث به الرسول عليه الصلاة والسلام، وهم نجومٌ يُهتدى بها في ظلمات البر والبحر، وظلمات الشهوات، كما يهتدى بالنجوم في السماء، قال الأول:
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطالوا أطابوا وأسدلوا
ولا يستطيع الفاعلون كفعلهم وإن حاولوا في النازلات وأجملوا
فعلى المسلم أن يحتسب الأجر من الله عز وجل، فيذكر ما للعلماء والدعاة من مآثر، فإنهم يحفظون الشريعة، ويفتون الأمة، ويبينون ما أحل الله، وما حرم الله، ويأمرون بالتوحيد، وينهون عن الشرك، وينقذون الأمة، ويدلونهم على الجنة، ويبينون لهم أسباب السعادة، ويحذرونهم من أسباب الشقاء، وهم أبوابٌ على الجنة، وهم بإذن الله صمام الأمان لهذه الأمة الخالدة الموقرة.
الثالث: ومن رأى على الدعاة ملاحظةً أو رأى نقصاً فعليه أن ينصحهم، أو يكتب لهم كتاباً، ولا يحل له أن يقع في أعراضهم؛ لأنه وقوعٌ في شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام وابتهالٌ بالكتاب والسنة، ومعنى ذلك ألا تثق الأمة بعد ذلك بدعاتها وعلمائها، وأهل الرأي فيها، وحملة الكتاب والسنة.
الرابع: أن يعذر هؤلاء الدعاة والعلماء في المسائل الاجتهادية، التي اختلف فيها الأئمة من قبلهم، وهي من فروع الشريعة، ولهم أعذارٌ كما بين ذلك شيخ الإسلام في كتابه " رفع الملام عن الأئمة الأعلام " فليس لأحدٍ من الناس أن يعنفهم، أو أن يثرب عليهم، أو أن يغضب عليهم إذا خالفوا في مسألة اجتهادية، بعد أن يجتهد الواحد منهم، وأن يكون أهلاً للاجتهاد، فإن الأمر فيه سعة في مسائل الاجتهاد التي هي من الفروع لا من الأصول.
الخامس: عدم مناصرة العلمانيين، والحداثيين، وأهل البدع، وأهل الشهوات، ومرضى القلوب على الدعاة، فإن معنى ذلك خيانةٌ لله تعالى عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين، فإن من يقف في صف الكافر أو صف المبتدع، أو صف المغرض فإنه يحارب الله عز وجل، ومن يحارب الله يأخذه الله أخذ عزيز مقتدر.
السادس: ومن الواجب على الأمة الدعاء للدعاة والعلماء بظهر الغيب، وفي أدبار الصلوات، وفي ساعات السحر، أن الله ينصر بهم دينه، وأن يعلي بهم كلمته، وأن يوفقهم بالقيام بنشر الدعوة في مشارق الأرض ومغاربها، ليستمر هذا الدين، ولتقوم قائمته، وليرفرف علم التوحيد في أرض الله عز وجل، فإن الله عز وجل ذكر أن الأرض أرضه، وأنه سبحانه يرث الأرض ومن عليها، وقال بعض أهل التفسير في قوله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [الرعد:41] قالوا في قوله سبحانه وتعالى: (نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا) بموت العلماء.
وقد بين صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه أن الله عز وجل لا ينتزع العلم انتزاعاً من صدور العلماء، ولكنه ينتزعه أو يقبضه بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا.
وليعلم العبد أن عليه أن يكون من أنصار الله عز وجل، فإنه ليس في الدنيا إلا حزبان، حزب الله عز وجل وحزب رسوله صلى الله عليه وسلم، والحزب الآخر حزب الشيطان، حزب الله هم المفلحون الصادقون الناصحون، وحزب الشهوات والشيطان هم الذين يحاربون الحزب الأول، ففريقٌ في الجنة وفريقٌ في السعير.(360/5)
وضوح الدين والدعوة
ومن الأسرار في هذا الدرس وكله علن وليس فيه سر، أنه ليس عندنا مناجاة ولا مسارة في ديننا، بل ديننا واضح، ومبادئنا ظاهرة، وليس عندنا شيءٌ نتكتم عليه، أو سرٌ نخفيه، بل إننا نعلن هذه المعلومات دائماً على المنابر وفي النوادي والمحاضرات والدروس والمحافل.
وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إذا رأيت القوم يتناجون في دينهم فاعلم أنهم على دسيسة.
فإذا رأيت الأمر يسر ويستوشى بين الناس ولا يعلن فاعلم أن فيه نظراً، وأن فيه بلاء، وأن فيه عيباً، فليعلم الناس أن ما عندنا شيءٌ نخفيه؛ لأن مبادئنا هي لا إله إلا لله محمدٌ رسول الله، والصلاة والزكاة والصيام والحج والأخلاق الفاضلة، والنهي عن الرذائل، وغير ذلك مما يقرب العبد من الله ويباعده من الشيطان والنار.
ثم ليعلم الناس أن الدعوة علانية والله عز وجل قال لرسوله صلى الله عليه وسلم: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر:94] فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يتكتم أحياناً حفاظاً على أصحابه، ولكن دعوته صلى الله عليه وسلم كانت معلنة، وكان يحدث بها الناس، وكان يقولها على المنبر عليه الصلاة والسلام، وما كتم شيئاً مما أرسله الله به بل قال له ربه سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] وقد قالت عائشة رضي الله عنها: [[من قال إن الرسول عليه الصلاة والسلام قد كتم شيئاً مما بعثه الله به فقد أعظم الفرية على الله]] أو كما قالت رضي الله عنها، رواه مسلم(360/6)
أسرار سرية للغاية
وهنا أسرارٌ سرية للغاية:(360/7)
ضرورة دعوة الناس إلى التوحيد
السر الأول المعلن: التوحيد، فيجب على كل داعية أن يكون أول كلامه إذا دعا الناس موشحاً بالتوحيد، وأكبر قضاياه توحيد العباد لخالقهم، وهي الدعوة التي بعث الله تعالى بها رسله عليهم الصلاة والسلام، وأنزل كتبه، وخلق من أجلها النار والجنة، ونصب الميزان.
وافترض الله سبحانه وتعالى على عباده هذا الفرض اللازم الذي دمرت الدنيا من أجله خمس مرات، وفي الصحيحين أن الرسول عليه الصلاة والسلام.
قال لـ معاذ: {أتدري ما حق الله على العباد؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، ثم قال له: وهل تدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قال: الله ورسوله أعلم، قال: فإن حقهم عليه ألا يعذبهم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فالتوحيد دائماً وأبداً هو محور كلام الداعية، وعليه لب كلامه، فعلى دعاة الإسلام أن ينشروه، وأن يوضحوه، وأن يخطبوا به، وأن يجددوا الأساليب فيه، وأن يذهبوا به في البوادي والضواحي والقرى والمدن، وأن تكتب فيه الكتيبات، وأن يجدد فيه الأساليب بكل لسان من منظومٍ، ومنثورٍ، ومن داعية، وواعظٍ، ومفكرٍ، حتى يكون الناس على بصيرة، وهو الأصل المعتمد الذي إذا فسد فسدت كل الأعمال بعده: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:65 - 66].(360/8)
الابتلاء قائم في حق الرسل والعلماء
والسر الثاني: لا يرسل الله نبياً ولا رسولاً إلا بعد أن يبتليه بالمصائب والمحن، حتى يرفع درجته، ويروضه على الصبر والاستعداد لتحمل الرسالة، يبتلي الله رسله وأنبياءه عليهم الصلاة والسلام إلى درجة أن يعلم الواحد منهم أن لا إله إلا الله، ويتيقن الواحد منهم أن لا نافع إلا الله، ولا ضار إلى الله، ولا خالق إلى الله، ولا رزاق إلا الله، فيعيشها الواحد منهم عقيدة، ويعيشها الواحد منهم إيماناً، ويعيشها الواحد منهم مبدأً، ويعيشها الواحد منهم في لحمه ودمه، حتى يقولها ويعمل بها، ويمتثل بها، ولذلك لما أرسل الله رسوله عليه الصلاة والسلام قال له: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19].
ومعنى ذلك: أنه لا ينفع ولا يضر، ولا يخلق، ولا يرزق، ولا يستحق العبادة إلا هو سبحانه وتعالى، ولا يرضى الله عن أعدائه؛ لأنهم اتخذوا من دونه آلهة فقال: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَيَاةً وَلا نُشُوراً} [الفرقان:3]
والقضية الكبرى قضية الإيمان أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، ولا يجيب المضطر إلا هو، وهذه هي المسألة التي كسرت ظهر الشيوعية، وأخذت الإلحاد في العالم؛ لأن ساعة الاضطرار أعظم دليلٍ على الوحدانية، فلذلك قال سبحانه وتعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ} [النمل:62]
والمعنى يسأل الناس: من هو الذي يجيب المضطر وهو المكروب الذي بلغ من الحاجة مبلغاً عظيماً، فلا يجيبه إلا الله سبحانه وتعالى، ويكشف السوء، فهو وحده سبحانه وتعالى، وبين عليه الصلاة والسلام وهو يتحدث لـ ابن عباس رضي الله عنهما عن العقيدة والتوحيد فقال: {واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
فعلى المسلم أن يوحد الله عز وجل، وأن يعلم أنه لا يضر ولا ينفع إلا هو، وأن يردد دائماً: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4] وفي الآية سر وهو الصمد سبحانه وتعالى الذي تصمد له الكائنات وترجوه، وتلهج بذكره، وتطلب حاجتها منه سبحانه وتعالى، حتى قال أحدهم:
يا رب حمداً ليس غيرك يحمدُ يا من له كل الخلائق تصمدُ
أبواب كل ملوك الأرض قد أوصدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصدُ
الصالحون بنور وجهك آمنوا عافوا بحبك نومهم فتهجدوا
فهذه قضية كبرى أن يعلم العبد أنه إذا أراد أن يتأهل للدعوة فيصبر على الفتن، وعلى المحن، وليعلم أنه رفع لدرجاته، وأن الله يريد به الخير، حتى يمضي على الأرض وما عليه ذرة من الخطايا، والله يصطفي من عباده من يشاء، فيبتليهم بأنواع الخوف، والمحن، والفتن، والزلازل، حتى يعلموا أن لا إله إلا الله، فيلهجوا إليه، ويطلبوه ويسألونه، وتتقطع حبالهم من غيره، فلا يمدون حبلهم إلا معه، ولا يسألون إلا هو، ولا يخافون إلا منه، ولذلك حذر سبحانه وتعالى من غيره وقال: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] وقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].(360/9)
كل الفلاح في طاعة الله
السر الثالث: أنه لا صلاح للإنسان إلا في طاعة الله عز وجل، فإن كل خيرٍ من عنده سبحانه وتعالى، ولا يصرف السوء إلا هو، ولا يعطي ولا يفتح إلا المعلم سبحانه وتعالى المعطي الفتاح العليم الوهاب: {فخزائنه ملأى سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماء والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه سبحانه وتعالى} وفي الحديث القدسي العظيم الذي قاله رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، ورواه مسلم عن أبي ذر أنه قال صلى الله عليه وسلم: {قال الله سبحانه وتعالى: يا عبادي: إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا.
يا عبادي: كلكم ضالٌ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم.
يا عبادي: كلكم جائع إلا من أطعمته، فاستطعموني أطعمكم.
يا عبادي: كلكم عار إلا من كسوته، فاستكسوني أكسكم.
يا عبادي: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني.
يا عبادي: إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم.
يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر.
يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحد ما زاد ذلك من ملكي شيئاً.
يا عبادي: لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجلٍ واحد ما نقص ذلك من ملكي شيئاً.
يا عبادي: إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه}.
فعلى العبد أن يجتهد فيما يحب الله عز وجل ويرضى، وأن يتقرب إليه بالمحامد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي الذي رواه البخاري عنه عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى: {وما تقرب إلي عبدي بأحب مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به إلخ}.(360/10)
حاجة العبد للأمر والنهي
السر الرابع: أنه لا بد للعبد من أمرٍ ونهي، وهذه من كلمات شيخ الإسلام رحمه الله في المجلد الأول في الألوهية وفي غيرها من كتبه، وقالها غيره من العلماء، والظاهر أنه لا بد له من آمرٍ يأمره، وناهٍ ينهاه، وهو الشارع الحكيم، فإن العبد لا يستطيع أن يعيش هملاً، لا يوجهه موجه، ولا بد له من شريعة، والشريعة هي ما بعث الله به رسله عليهم الصلاة والسلام، خاصةً النبي محمداً صلى الله عليه وسلم فإنه بعثه بما يصلح العباد، وبعثه بما يحذر العباد من المفاسد، وما يجنبهم الشرور.
وقال بعضهم: لا بد للعبد أن يأمر وأن ينهى، فيأمر بما أمر الله به ورسوله عليه الصلاة والسلام، وينهى عما نهى الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وأن يكون آمراً بالمعروف، ناهياً عن المنكر، فكما قال عليه الصلاة والسلام: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} رواه مسلم.(360/11)
الدعاة أبعد الناس عن التكفير
السر الخامس: أن الدعاة إلى الله عز وجل لا يكفرون أحداً من المسلمين من أهل القبلة إلا بمكفر من المكفرات التي أجمع عليها أهل السنة والجماعة، فهم أبعد الناس عن التكفير، يصونون ألسنتهم، ويخافون الله سبحانه وتعالى؛ لأنه من قال لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما، فهم يحذرون كل الحذر، والذين يسرعون في التكفير هم أهل البدع، وقد لامهم أهل العلم على ذلك؛ لأنهم لا يخافون الله؛ ولأن ضوابطهم متهتكة في مسألة التكفير، وليس عندهم بصيرة، وما عندهم دلالةٌ من الفقه في الدين.
وإنما وقع الخوارج في مسألة التكفير لأنهم أخذوا ببعض الكتاب، وأكثروا في العبادة على حساب الفقه في النصوص، فجهلوا الفقه في الدين فوقعوا فيما وقعوا فيه، ولذلك لم تنفعهم عباداتهم، ولا قراءتهم، ولا صلاتهم، ولا صيامهم، حتى قال المعصوم عليه الصلاة والسلام: {تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية}.
وعند ابن ماجة عن ابن عباس رضي الله عنهما: [[فقيهٌ واحد أشد على الشيطان من ألف عابد]] لأن الفقيه يعرف أسرار الشرع، ويقف عند النصوص، ويفقه الأدلة.(360/12)
الدعاة أزهد الناس في الدنيا
السادس من الأسرار: ليس للدعاة مطامع دنيوية، فمطمعهم الأعظم أن يصلحوا الناس، وأن يهدوهم، وأن يعودوا إلى الله سبحانه وتعالى، وأن يتوجهوا إلى الوجهة الصحيحة تحت مظلة أهل السنة والجماعة، فمن زعم أن الدعاة في غالبهم يريدون الدنيا، من قصورها وفللها، ومناصبها، ووظائفها، ورواتبها، فقد أعظم الفرية على الله، وقد اتهمهم بما هم منه براء، فإن سيد الخلق صلى الله عليه وسلم أزهد الناس.
كفاك عن كل قصر شاهق عمدٍ بيتٌ من الطين أو كهفٌ من العلمِ
تبني الفضائل أبراجاً مشيدةً نصب الخيام التي من أروع الخيمِ
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهي من الأفلاس والأدم
صففت مائدةً للروح مطعمها عذبٌ من الوحي أم نورٌ من الكلمِ
ويروى عنه عليه الصلاة والسلام عند ابن ماجة وغيره: {ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس} وعند البخاري من حديث ابن عمر: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: {مالي وللدنيا إنما مثلي ومثلها كرجلٍ قال في ظل شجرة ثم قام وتركها} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فهم يتعلمون هذا من الرسول عليه الصلاة والسلام.
ويعلمون أن ما أعد الله لهم من الرضوان والخير والنعيم المقيم خيرٌ من الدنيا وما فيها، ولو سُلِّم إليهم ذهب الدنيا، وفضة الدنيا، لما رضوا به عوضاً عما عند الله سبحانه وتعالى في الآخرة، فليعلم العبد هذا وليتيقن.
وقد يأتي منهم نادر ولكن النادر لا حكم له، ولا يعمم عليهم، ولا يُتخذ ذريعة للنيل منهم.(360/13)
العلماء هم قادة الأمة وروادها
السابع: أن الدعاة والعلماء أحق بالكلام من غيرهم، فهم أحق أن يتكلموا، وأحق أن يستمع الناس لهم، وأحق أن يصدروا في المجالس، وأن يكرموا، وأن يطلب منهم الرأي والفتوى، وأن يُعتبروا هم أهل الرأي وهم المنوط بهم إفتاء الأمة، ودلالة الأمة؛ لأن الله رزقهم من البصيرة ما لم يرزق غيرهم، ويقول سبحانه وتعالى: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] وأهل الذكر هم أهل العلم، فالرد إليهم واجب.
فالواجب إتاحة المجال لهم؛ ليسمع الناس صوتهم، وليعلموا حقيقة ما يحملون، وليتفقه الناس عليهم، وليكون الناس على بينة مما يلقي هؤلاء أو مما يقول هؤلاء الفضلاء النبلاء الشرفاء.(360/14)
ضرورة التزام الدعاة كظم الغيظ والصبر
الثامن من الأسرار: وهذا سرٌ للدعاة أقوله بيني وبينهم ولعله لا يدري به إلا من يسمعه من الناس، أقول: أن عليهم أن يتحملوا، وأن يكظموا الغيظ، وأن يصفحوا: {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النور:22] وقد قال سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت:34] ومنها: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] فليتحملوا في سبيل إرساء دعوتهم، وتعليم الناس، وأمر الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، وتوضيح كل ما يشكل على الأمة، وليعلموا أن ما أصابهم ففي سجل الحسنات، وفي محفل الدرجات وتكفير من السيئات.
وعند الترمذي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، خيرٌ من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم} وليجعل الدعاة قدوتهم معلم الخير عليه الصلاة والسلام؛ ليكونوا على بصيرة، وليكونوا إن شاء الله ممن ينصرهم الله في الدنيا والآخرة، ثم ليبشر الدعاة بالأجر الجزيل من الله تبارك وتعالى، فقد قال صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {لئن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم} وليبشروا بالثناء الجميل من الناس، فإنه لا يطلب لذاته، لكن إذا حصل فهو من المبشرات، وعاجل بشرى المؤمن، وإبراهيم عليه السلام يقول لربه تبارك وتعالى: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84] قال أهل العلم: الثناء الحسن، وقال الناظم:
وإنما المرء لسانٌ بعده فكن لساناً حسناً لمن وعى
أو قال:
وإنما المرء حديثٌ بعده فكن حديثاً حسناً لمن وعى(360/15)
قصيدة بعنوان: الوحي مدرستي الكبرى
فعسى الله أن يرزقنا الثناء الجميل، والأجر العظيم، نحن ودعاة الإسلام والصالحين من عباده.
وهناك كثير من القصائد في هذا الباب أحببت أن أذكر قصيدة نظمتها منذ أيام بعنوان "الوحي مدرستي الكبرى" فيها بعض المعاني، أسأل الله سبحانه وتعالى أن تكون في ميزان الحسنات، وأن تكون ذباً عن أعراض الصالحين قلت فيها:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمن أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بـ الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وفي ربا مكة تاريخ ملحمةٍ على ثراها بنينا العالم الفاني
دفنت في طيبة الروحِ ووا ولهي في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
دمي تصبب في كابول منسكباً ودمعتي سفحت في سفح لبنان
فأينما ذكر اسم الله في بلدٍ عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا ميلاد فجري وتوحيدي وإيماني
وثيقتي كتبت باللوح وانهمرت آياتها فاسألوا يا قوم قرآني
جبريل يغدو على قومي بأجنحةٍ من دوحة الطهر في نجواه عرفانِ
بدر أنا وسيوف الله راعفة كم حطمت من عنيدٍ ماردٍ جاني
كتبت تاريخ أيامي مرتبةٍ في القادسية لا تاريخ شروان
وما استعرت تعاليماً ملفقةً من صرح واشنطن أو رأس شيطانِ
وما سجدت لغير الله في دعةٍ وما دعوت مع معبودنا ثاني
وما مددت يدي إلا لخالقها وما نصبت لغير الحق ميزانِ
فقبلتي الكعبة الغراء تعشقها روحي وأنوارها في عمق أجفاني
وليس لي مطلبٌ غير الذي سجدت لوجهه كائنات الإنس والجان
لا أجمع المال مالي كل أمنيةٍ طموحةٍ تصطلي بركان وجداني
وكل قدم جبانٍ لا يصاحبني على الشجاعة هذا الدين رباني
ليت المنايا تناديني لأخبرها أن المنايا أنا لا لونها القاني
ليرم بي كل هولٍ في مخالبه ما ضرني وعيون الله ترعاني
ممزق الثوب كاسي العرض ملتهباً أنعى المخاطر في الدنيا وتنعاني
مريضُ جسمٍ صحيح الروح في خلدي حبٌ لأحمد من نجواه عرفاني
بلال صوتي هتافٌ كله حسنٌ أذانه في المعالي رجع آذاني
وعزم عمار في دنيا فتوته أسقي شبابي به من نهره الداني
عصا الكليم بكفي كي أهش بها على تلاميذ فرعونٍ وهامانِ
ونار نمرود أطفيها بغاديةٍ من الخليل فلا النيران تصلاني
في حزن يوسف تاريخي وملحمتي من صنع خالد لا من صنع ريجان
داود ينسج درعي والوغى حممٌ لا يخلع الدرع إلا كف أكفاني
دعني ألقن قوماً ما لهم هممٌ إلا على العزف من دانٍ ومن دان
قومٌ مخازنهم نهبٌ ومطعمهم سلب وموكبهم من صف فئرانِ
هم في الرؤى نقطة سوداء إن لمعوا يا للرجال وهذا العالم الثاني
يا جيل يا كل شهمٍ يا أخا ثقةٍ يا بن العقيدة من سعد وسلمان
يا طارقاً يا صلاح الدين يا ابن جلا يا عين جالوت يا يرموك فرقانِ
يا بائع الأنفس الشماء في شهبٍ من الرماح على دنيا سجستان
يا من بنوا المجد من أغلى جماجمهم في شقحب النصر أو في أرض أفغانِ
يا من سقوا دوحة الإسلام من دمهم من كل أروع يوم الروع ظمآن
يا صوت عكرمة المبحوح يقطعه قصف العوالي من سمرٍ ومرانِ
هيا إلى الله بيحوا كل فانيةٍ فصوت رضوان ناداكم وناداني
أيها الإخوة الكرام: في هذه الليلة أفشي لكم سراً وهو طلبٌ ينفعكم عند الله سبحانه وتعالى، وهو أمرٌ عظيم، وأجره جزيل، إنه بناء المساجد، فإن الله سبحانه وتعالى تكفل لمن بنى مسجداً وبيتاً له في الدنيا؛ أن يبني له بيتاً في الجنة ولو كمفحص قطاة، قال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] إن الذي يعمر المساجد إنما يعمرها حباً فيما عند الله عز وجل، إن كل مصلٍ يصلي في هذا المسجد، لك بمثل صلاته أجرٌ ومثوبة عند الواحد الأحد.
إنها البيوت التي يجب علينا أن نعتني بها: في توسيعها، وبنائها، وخدمتها، أكثر مما نعتني ببيوتنا، ليس للمنافقين أن يعمروا المساجد، وليس للمشركين، ولا من في قلبه مرض قال تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة:17] ولكن: {إنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] فندعوكم أيها الأخيار من أهل التجارة وممن أعطاهم الله المال ليبتليهم سبحانه وتعالى به، وليعلم أيشكرونه، أم يكفرونه، وليعلم سبحانه وتعالى أينفقونه في أبواب الخير والبر، أم يجعلونه في المعاصي والانحراف والصد عن منهج الله.
يقول سبحانه وتعالى عن أعدائه: {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} [الأنفال:36] فمعاذ الله -يا تجار المسلمين! ويا أثرياء المسلمين! ويا أغنياء المسلمين! - أن تجعلوا الأموال حرباً على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين، أو ولوغاً في الشهوات، أو سقوطاً في المعاصي، بل هنا منفذٌ كبير، وبابٌ يدخلكم الجنة، وقائدكم في هذا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام وأصحابه، فإن عثمان رضي الله عنه وأرضاه دخل الجنة بالمال، وكذلك ابن عوف.
قام صلى الله عليه وسلم يطلب الصدقة والنفقة على جيش المسلمين المتوجه إلى تبوك، فقام عثمان فهيأ الجيش بآلاف الدنانير، ودفع الجمال والخيول فقال صلى الله عليه وسلم: {ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم، اللهم ارضَ عن عثمان فإني عنه راضٍ} وكان المسلمون يقولون: سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة.
فيا أيها الإخوة: من كان له استطاعة، ولو بالريال أو بالعشرة أو بالمئة، أو بما كثر أو قل، أو يعرف غنياً أو تاجراً، فليساهم في دعوته في بناء المساجد.
وأمامي قائمة من المساجد التي تحتاج إلى بناء وأصحابها الآن يدعون، وهم يتحرون من يمدهم بعونٍ ويوسع لهم مسجدهم ويبنيه بناءً طيباً؛ ليهتفوا إلى الله سبحانه وتعالى أن يغفر لهذا الباني، وأن يرحمه، وأن يجزل مثوبته.
وهناك من الوثائق والصكوك ما يثبت ذلك، فعسى الله أن يكمل السعي، وأن ينفعنا بهذه الأموال التي إذا وجهت توجيهاً صحيحاً نفع الله بها أمته، ونفع بها عباده، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
وفي الأخير: أخبركم بسرٍ عسى أن يكون معلناً وهي رسالة من تهامة، رسالة من أرضٍ فقيرة، وأرضٍ مجدبة، وأرضٍ بها قحط، أرض تريد مد يد العون من الصدقة من العلم النافع، أرضٌ تنادي التجار والعلماء، تنادي طلبة العلم، تنادي الدعاة.
فيا أيها الناس: نسأل الله سبحانه وتعال أن يجعلكم من المستجيبين له ولرسوله، وأن تلبوا هذا الداعي، وأن تذهبوا بأنفسكم وبسياراتكم إلى هذه البوادي والقرى والجبال والضواحي تنشرون بها العلم النافع بواسطة الشريط، والكلمة النافعة، والخطبة والموعظة، وتبينوا للناس أمور دينهم، وتحملوا معكم الأرزاق، وتحملوا معكم ما ينفع هؤلاء من الملابس والأغذية والأكسية، كما أني أدعوا أهل رءوس الأموال والأغنياء والأتقياء أن يبذلوا الصدقات هناك، فإن الأقربين أولى بالمعروف، وهم أحوج ممن هو أبعد منهم، فعسى الله سبحانه وتعالى أن ينفع بالجهود، وأن يجعل أعمالنا خالصةً لوجهه الكريم، وأن يصلح الراعي والرعية، وأن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يجعلنا من أنصار دينه، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه، كما أشكر الذين بذلوا من علمهم ومن جهدهم ومن وقتهم فهذا الذي يبقى لهم:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناس
أسأله سبحانه وتعالى التوفيق والسداد، والعون والثبات على الحق حتى نلقاه، وصلى على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(360/16)
سكرات الموت
إن الله تعالى جعل الموت محتوماً على جميع الخلق من الإنس والجان وجميع الحيوان، فلا مفر لأحدٍ منه ولا أمان، الكل فيه سواء، الرئيس والمرءوس، الحر والعبد، الذكر والأنثى.
وفي هذه المادة الحديث عن الموت من الكتاب والسنة، وصفته، وحال الناس عند سكراته، مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وطالحهم.(361/1)
ذكر الموت في الكتاب والسنة
الحمد لله الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً، واتخذوا من دون الله آلهة لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، ولا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً ولا حياة ولا نشوراً.
أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، صلى الله وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المؤيد بجبريل، المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الجليل، صلى الله وسلم عليه كلما تضوع مسك وفاح، وكلما ترنم طير وصاح، وكلما شدا حمام وناح.
لا إله إلا الله الذي كسر بالموت ظهور الأكاسرة، وقصر بالموت آمال القياصرة الذين طغوا وبغوا وفجروا حتى أرداهم ظلمهم في الحافرة، أخرجهم من القصور والدور وأقعدهم في القبور، فهل تسمع لهم كلاماً؟ سكتوا فتركوا فما نطقوا:
دع ذكر ليلى والرباب وابك لأيام الشباب
وانتظر الموت فما أقربه من كل باب
زر القبور مرةً إن بها خير الصحاب
كم ملك في لحده تيجانه ذاك التراب
لم يصطحب من ملكه وماله حتى الثياب
قصوره من بعده صارت خراباً في خراب
قد وجدوا ما وعدوا من العقاب والثواب
فهل أخذت عدة من التقى قبل الذهاب
وهل لبست لأمةً من كل فضل وصواب
آهٍ لدنياً زخرفت دنيا الأفاعي والكلاب
قد اشتراها مفلس بدينه فما أصاب
إن كان لي من شكر فأشكر الباري تبارك وتعالى الذي جمعني بهذه الوجوه الساجدة العابدة المتألقة بنور الإيمان، التي غرست في قلوبها لا إله إلا الله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:24 - 25].
في أجساد عمرت على التقوى إن شاء الله قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
ثم أشكر لكم فضلكم وحضوركم وبارك الله فيكم، ثم أشكر المعهد العلمي بـ الطائف على رسالته الجليلة وعلى رأسهم مدير المعهد فضيلة الشيخ محمد بن عائض القرني والأساتذة الفضلاء والطلاب النبلاء.
موضوع المحاضرة: وجاءت سكرت الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد.
ذاق الموت محمد صلى الله عليه وسلم فشربه كما يشربه الناس، ومات كما يموت الإنسان، وذهب كما يذهب الإنسان، وذاق الموت نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، ومات فرعون وهامان وقارون كلهم أقعدوا في الحفر، لكن إما روضة من رياض الجنة وإما حفرة من حفر النار:
والموت فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءه
فإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال به فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
{وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94] هذه المحاضرة تدور على ست مسائل:
أولها: ذكر الموت في الكتاب والسنة وعند العارفين.
ثانيهاً: الأنبياء ومعايشتهم للموت عليهم السلام.
الثالثة: الصالحون في سكرات الموت.
الرابعة: النادمون في سكرات الموت.
الخامسة: وصف الموت.
ما هو الموت؟ ما لونه؟ ما طعمه؟ ما مساغه؟ كيف يذاق؟
السادسة: الاستعداد للموت.(361/2)
ذكر الموت في الكتاب والسنة
أما الموت في الكتاب والسنة وفي أقوال العارفين فأخذ قطاعاً كبيراً من القرآن، يقول سبحانه وتعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام:61 - 62].
من المحاسب إلا الله؟ من المنصف إلا الله؟ من المجازي إلا الله؟ من الباقي إلا الله؟
{كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص:88] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن:26 - 27].
يا من أعجبه شبابه! يا من أعجبه منصبه! يا من تاه بماله! والله لقد تولوا الأموال، وتقلدوا المناصب، وسكنوا الدور، وعمروا القصور، ثم قُعروا في القبور.
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ} وقت الموت {أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31] {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} [المؤمنون:99 - 100].
لا نفع لها لا طائل من ورائها لا قيمة لها، ضاع الشباب، ضاعت القوة، ضاعت الأوقات.
فيا عباد الله! هل من مستيقظ؟
يا أمة الإسلام! يا أبناء من حملوا لا إله إلا الله! يا أبناء من تسمع أذن البشرية لا إله إلا الله! يا أبناء من خطب على منبر الدهر بلا إله إلا الله! أنتم مطالبون بالاستفاقة من السبات:
تنبهوا يا رقود إلى متى ذا الجمود
فهذه الدار تبلى وما عليها يبيد
الخير فيها قليل والشر فيها عتيد
والبر ينقص فيها والسيئات تزيد
فاستكثروا الزاد فيها إن الطريق بعيد
يا شباب الإسلام! يا من ألهتهم المجلة الخليعة! والأغنية الماجنة! والسهرات الآثمة! والشواطئ المجرمة! والليالي الحمراء! أنتم مطالبون اليوم إلى إقبال وتوبة وصحوة واستفاقة، {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
يقول صاحب الرسالة الخالدة، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم، يقول الذي أخرجنا من الظلمات إلى النور، كنا قبل الرسالة رعاة إبل، رعاة شاة، ضائعين، ظالمين، أظفارنا طويلة، شعورنا منتنة، تاريخنا متخلف، ترابيون، نعيش في الطين، يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي أصبح اليوم يهاجم من الذين لا يحملون أصالة ولا رسالة:
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لا تبتغي إلا رضاه سعى لها
يقول لـ ابن عمر: {كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل}.
تعرف الغريب الذي يصبح غريباً، ويمسي غريباً، الموت يطرده من كل جهة، وكان ابن عمر يقول وقد روي مرفوعاً: {إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك}.
يا أهل الأعمار النضرة! يا أهل الأجسام القوية! يا أهل الفلل البهية! يا أهل المآدب الشهية! أين أنتم من القبور؟
حفر مظلمة:
أتيت القبور فناديتها أين المعظم والمحتقر
تفانوا جميعاً فما مخبر وماتوا جميعاً ومات الخبر
مر الخليفة الزاهد الشاب الناصح عمر بن عبد العزيز -سقى الله تلك العظام شآبيب الرحمة والرضوان- مر في عيد الفطر -وهو خليفة المسلمين- فرأى القبور فجلس يبكي، قالوا: ما لك؟ قال: لا إله إلا الله أتدرون ماذا يقول الموت؟
قالوا: لا.
قال: يقول: وأكلت العينين، وفصلت الكفين عن الساعدين، والساعدين عن العضدين، وفصلت القدمين عن الساقين، والساقين عن الفخذين، فبكى الأمراء والوزراء وجلسوا معه.
إنه استيقظ، وعرف طريقه، ولذلك في حديث عنه صلى الله عليه وسلم بسند لا بأس به: {الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {مالي وللدنيا؟! إنما مثلي ومثل الدنيا كرجل استظل بظل شجرة ثم قام وتركها}.
شاب رأسه، شابت لحيته، قال له أبو بكر في الحديث الصحيح: {يا رسول الله! أراك شبت، قال: شيبتني هود وأخواتها}.
السور الطويلة، الرسالة الخالدة، المعاني الجليلة، المستوى الضخم، العمق في الدعوة، العبادة وقيام الليل، الزهد في الدنيا، شيَّب رأسه وشيَّب لحيته.
قال ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما في قوله سبحانه وتعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37].
قال: النذير الشيب.
لكن من استيقظ بشيبه؟ من اتعظ يوم شابت لحيته أو رأسه؟
روى أهل السير أن عابداً من بني إسرائيل نظر إلى المرآة وكان قد أطاع الله أربعين سنة، ثم عصى الله أربعين سنة، فنظر وهو في الثمانين إلى المرآة، فرأى شيبه فبكى، فقال: يا ربِ! أطعتك أربعين وعصيتك أربعين، أتقبلني إذا عدت لك؟
فسمع قائلاً يقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإذا عدت إلينا قبلناك.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
والرسول عليه الصلاة والسلام دائماً يذكر الناس بالموت.
صح من حديث علي وحديث سهل وغيرهما أنه صلى الله عليه وسلم قال: {والذي نفسي بيده! لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً} ماذا تعلم يا رسول الله؟ يعلم الصراط، رأى الجنة، رأى النار، رأى العرض، رأى المواقف العصيبة، علم من علم الغيب ما علمه الله، لكن الذي لا يعلم يضحك كثيراً ويبكي قليلاً، الذي لا يعلم بالحشر والنشر والصراط والصحف والجنة والنار يضيع أوقاته، يضيع صلاته، يضيع زمانه، لا يعرف الصلوات الخمس في المسجد، مساجدنا بهية واسعة، مشيدة، لكن تشكو إلى الله من قلة المصلين، قال محمد إقبال:
أرى التذكير أدركه خمولٌ ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
وجلجلة الأذان بكل حيٍ ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساحٍ ومسجدكم من العباد خالي(361/3)
ذكر الموت عند العارفين
أما العارفون فإنهم تذكروا الموت كثيراً، وعند الترمذي بسند حسن قوله صلى الله عليه وسلم: {أكثروا ذكر هاذم اللذات} من هو هاذم اللذات؟ إنه الموت، مفرق الجماعات، ميتم البنين والبنات، الذي يعكر اللذات، والذي يدلَهم على الأوقات، والذي يسحبك من البيوتات والمطعومات والمشروبات إلى العرض الأكبر عند رب الأرض والسماوات.
وكان العارفون يجعلون الموت نصب أعينهم دائماً، ذكر الإمام أحمد عن الخليفة الصديق رضي الله عن أبي بكر أنه دخل مزرعة لأحد الأنصار فرأى البساتين الوارفة، ورأى الأعذاق المتدلية، والنسيم الهفهاف، والماء البارد، فتذكر لقاء الله، ورأى طائراً يطير من شجرة، وهذا يوجه لأهل البساتين، ولأهل الحدائق الغنَّاء الذين نسوا بها الموت، فبكى، قال له الصحابة: ما لك يا خليفة رسول الله؟ قال: [[أبكي حين تذكرت هذا الطائر، طوبى له! يطير من شجرة إلى شجرة لا حساب عليه ولا عذاب، يا ليتني كنت طائراً]].
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شي
الحشر والنشر -الموقف الصعب- جعل السلف يستفيقون من سباتهم، قالوا لـ سفيان الثوري: ما لك لا تنام؟ قال: والله كلما أتيت إلى فراشي لأنام؛ تذكرت القبر فطار النوم من عيني.
أين هذه الحياة؟ وأين هذا الوقت؟ وأين هذا القلب من اللاهين الذين يعيشون حتى في مجتمعات المسلمين؟!
شاب يصاب بحادث انقلاب في سيارة، شاب لاهٍ لاغٍ مصحفه المجلة الخليعة، وتلاوته الأغنية الماجنة، وجلاسه وأحبابه كل بعيد عن الله، لا يعرف المسجد، ولا يعرف المصحف، ولا يعرف المحاضرات، ولا الندوات، أتته سكرات الموت في حادث انقلاب، فماذا قال في سكرات الموت؟
أخذ يترنم ويقول:
هل رأى الحب سكارى مثلنا
هي أغنية صنفها مغنٍِ ماجن ومغنية ماجنة يقول: هل رأى الحب سكارى مثلنا، حتى في هذه الساعة نسيت الله، لماذا؟
لأنه عاش على هذه الكلمة، وسوف يموت عليها، ويحشر عليها: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه خرج إلى المقبرة -وهذه قصة جيدة الإسناد- ومعه ابن عوف، فرأى قبراً مفتوحاً فأخذ يده وأفلتها من يد ابن عوف، ودخل في القبر وبكى طويلاً وقال: يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شجرة تعضد، يا ليتني ما عرفت الحياة.
هذا وأنت إمام زاهد عابد صادق فكيف بنا أهل الذنوب والخطايا؟! كيف بنا أهل السيئات؟! ما قدمنا -والله- للإسلام شيئاً، لم نقدم دماءنا وأموالنا، لم نهاجر ولم نجاهد ولم نفعل شيئاً، الجيد منا من يحافظ على الصلوات الخمس مع قلة الخشوع والخضوع.
وكان ميمون بن مهران يستعد للموت، فحفر قبراً في بيته، فكان يدخل في القبر قبل أن ينام، فيقرأ ويبكي طويلاً ثم يخرج من القبر ويقول: يا ميمون! ها قد خرجت من القبر فاعمل صالحاً قبل أن تندم.
هذه هي المسألة التي ينبغي أن تكون في الحسبان.(361/4)
ذكر الموت عند الصالحين
قيل لـ ابن سيرين: ما لك لا تفتي؟
قال: كلما أردت أن أفتي الناس تذكرت الموت، فمات كل عضو على جهته.
وذكر الذهبي في السير عن الإمام أحمد أنه قال عنه أحد تلاميذه: كان الإمام أحمد إذا ذكر الموت خنقته العبرة، ثم يقول: ما هي الحياة؟ هل هو إلا طعام دون طعام، ولباس دون لباس؟
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
فاشدد يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركان(361/5)
الأنبياء ومعايشتهم للموت
أما الأنبياء ومعايشتهم الموت.
فاسمع إلى يوسف عليه السلام، نال الملك نال النبوة نال الرسالة، فماذا يفعل؟ توجه إلى الله داعياً، توجه إلى الحي القيوم، قال: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [يوسف:101].
أقصى ما يتمناه، وأعلى ما يترجاه أن يتوفاه الله مسلماً، يا رب! ألحقني بالصالحين.
يا رب! ذقت الحياة، لبست لباسها، وشربت شرابها، وأكلت طعامها، لا لذيذ، فما رأيت كالإسلام.
فتوفني مسلماً وألحقني بالصالحين.
نسب إلى معاوية أنه قال: [[لبست كل لباس إلا ما حرم الله، وأكلت الطعام بأصنافه، وشربت الشراب بأصنافه إلا ما حرم الله فما وجدت كتقوى الله]].
وذكر ابن القيم في الفوائد عن سليمان عليه السلام أنه قال: علمنا مما علم الناس ومما لم يعلم الناس فلم نجد كتقوى الله.
أيها اللاهي بلا أدنى وجلْ
اتق الله الذي عز وجل
واستمع قولاً به ضرب المثل
اعتزل ذكر الأغاني والغزل
وقل الفصل وجانب من هزل
أتت سكرات الموت نوحاً عليه السلام فقالوا: كيف وجدت الحياة، وقد عشت ألف سنة؟ قال: والله ما الحياة إلا كبيت له بابان دخلت من هذا ثم خرجت من هذا.
سل من عاش مائة كم عاش؟ وسل من عاش القرن والقرنين والثلاثة أين لذاتهم؟ أين راحتهم؟ أين سعادتهم؟ أخذوا والله من نعيمهم وطرحوا فهم مرتهنون بأعمالهم.
وأبو الطيب المتنبي يقول:
أبني أبينا نحن أهل منازل أبداً غراب البين فيها ينعق
نبكي على الدنيا وما من معشر جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الألى كنزوا الكنوز فلا بقينَ ولا بقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه حتى ثوى فحواه لحد ضيق
خرسٌ إذا نودوا كأن لم يعلموا أن الكلام لهم حلال مطلق
يقول إبراهيم عليه السلام في آخر حياته: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء:82].
عليك السلام، تجاهد وتقيم لا إله إلا الله، وتغرس لا إله إلا الله، وتعادي من عادى الله، وفي الأخير تتوجه إلى الله وتقول: والذي أطمع؛ طمع ورجاء وتلهف أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين.
أما رسولنا عليه الصلاة والسلام فذاق الموت وعاصر الموت -بأبي هو وأمي- وجالس الموت، أتته سكرات الموت فأخذ يقول: {لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، لا إله إلا الله اللهم هون عليَّ سكرات الموت، لا إله إلا الله اللهم خفف عليَّ سكرات الموت، ثم أخذ خميصة -قطعة قماش- يبلها بالماء ويجعلها على وجهه ويقول: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، اللهم لا تجعل قبري وثناً يعبد}.
وذهب إلى الله، إلى الرفيق الأعلى.
خير بين الدنيا وقصورها وذهبها وفضتها ومناصبها فقال: {بل الرفيق الأعلى.
فتقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: خيرت والله فاخترت يا رسول الله}.
كفاك عن كل قصر شاهق عمد بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
جلس في بيت الطين، وعاش فيه، ما وجد ما يملأ بطنه، ليالي تمر وأياماً تكر، ولقي الله.
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
فصلى الله عليه وسلم كلما ذكره الذاكرون، وكلما غفل عنه الغافلون، وكلما أحبه المحبون، وكلما أبغضه المبغضون.(361/6)
حال الصالحين في سكرات الموت
أما حال الصالحين في سكرات الموت.
يَبِيْنُ صلاح العبد يوم يصرع، وساعة الموت ساعة يسلم فيها الجبار، ويذعن فيها المتكبر، ويفتقر فيها الغني، ساعة الموت تتحدى، ساعة الموت معلم لا بد أن يمر به الإنسان، تسلب الإرادة، وتضعف العزيمة، وتقطع الحبال، وتنتهي الحيل.
واترك الحيلة فيها واتكل إنما الحيلة في ترك الحيل
ساعة الموت أليمة جد أليمة، ولذلك يَبِيْنُ صلاح الصالحين وفساد المفسدين فيها.(361/7)
أبو بكر حال الموت
حضرت سكرات الموت أبا بكر الصديق فقالت ابنته عائشة رضي الله عنها وعنه: يا أبتاه! صدق الأول -وهو حاتم - يوم يقول:
لعمرك ما يغني الثواء عن الفتى إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فالتفت إليها مغضباً وقال: يا بنية! لا تقولي ذلك، ولكن قولي: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:19 - 21].
ثم قال: إذا مت فخذوا بغلتي هذه -خليفة ما ترك إلا بغلة وثوبين- وهذين الثوبين واذهبوا إلى عمر بن الخطاب وقولوا له: يا عمر! اتق الله لا يصرعك الله مصرعاً كمصرعي، يا عمر! إن الحق ثقيل مرير، وإن الباطل خفيف وبير، وإنما ثقلت موازين أقوام لأنهم حملوا الحق، وإنما خفت موازين أقوام لأنهم حملوا الباطل.
فذهبوا بالبغلة وبالثوبين من خليفة ملك ربع الدنيا، فوصلوا إلى عمر فأعطوه، فجلس يبكي ويقول: يا أبا بكر! أتعبت الخلفاء بعدك.
يعني: كيف نستطيع هذا المنهج؟ متى نبلغ هذا المستوى؟(361/8)
عمر بن الخطاب حال الموت
وأتت سكرات الموت عمر رضي الله عنه وأرضاه.
مولى المغيرة لا جادتك غادية من رحمة الله ما جادت غواديها
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
وقف عند الجمرات في آخر حجة حجها ودعا الله بقلب صادق، وقال: [[اللهم ضاعت رعيتي، ورق عظمي، وشاب رأسي، ودنا أجلي، اللهم فاقبضني إليك غير مفرط ولا مفتون، اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك وموتة في بلد رسولك]].
شرطان: في سبيل الله، وفي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال له الصحابة: كيف تسأل الشهادة في المدينة؟ ومن يسأل الشهادة يخرج إلى الثغور والقتال والأعداء.
قال: هكذا سألت وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت.
وعلم الله أنه صادق مخلص: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] عاد إلى المدينة، وامتدت له يد أبي لؤلؤة الآثمة لا جاد الله قبره، في صلاة الفجر في أحسن بقعة وفي أحسن صلاة فطعنه ثلاث طعنات وهوى صريعاً.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
حمل على أكتاف الرجال وهو مطعون فما تذكر ولداً ولا زوجة ولا منصباً ولا وظيفة ولا داراً ولا مالاً، أخذت عيناه تهراق بالدموع وهو يقول: يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني ما عرفت الحياة، يا ليتني ما توليت الخلافة.
تقول هذا وأنت الزاهد المجاهد الصادق، فكيف بنا نحن؟! كيف نلقى الله؟!
دخل عليه علي أبو الحسن رضي الله عنه وأرضاه، فأثنى عليه، قال: يا علي! والله الذي لا إله إلا هو وددت أني نجوت كفافاً لا لي ولا عليَّ.
وأخذ يقول لابنه عبد الله: انزع المخدة من تحت رأسي وضع رأسي على التراب علَّ الله أن يرحمني.
رحمك الله وأسكنك الله الرضوان ورفع منزلتك يوم يتقبل الله من الصادقين: أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا ويَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ.
هنيئاً لك، السعادة إن شاء الله وشهادة الرسول عليه الصلاة والسلام.
وذكر أهل السير باستفاضة أن عثمان إذا ذكر القبر بكى حتى يجلس، قالوا: تُذكر الآخرة فلا نرى هذا البكاء، فإذا رأيت القبر بكيت؟
فقال سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {القبر أول منازل الآخرة، فإذا نجا العبد منه أفلح، وإذا خسر فيه خسر فيما بعد}.
أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
القبر منزل -والله- موحش، لا صديق، لا حبيب، لا زوجة، لا ولد، إلا العمل الصالح، تركوا ما تركوا، واستجوبوا فما نطقوا، وودعوا فإما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار.(361/9)
علي بن أبي طالب حال الموت
وأما علي رضي الله عنه وأرضاه فهو صاحب الكلمات الصادقة التي تصل إلى القلوب مباشرة، كلماته واصلة بكل خير حاصلة، يقول البخاري في الصحيح في كتاب الرقاق، وقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد:36].
وقال علي بن أبي طالب: [[ارتحلت الدنيا مدبرة، وارتحلت الآخرة مقبلة، فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا، فإن اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل]].
قال معاوية لـ ضرار بن الحارث: صف لي علياً، قال: رأيته في ظلام الليل -يعني علياً - يمسك لحيته بيديه، ويبكي بكاء الطفل الفطيم، ويتململ تململ السليم الملدوغ ويقول: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها، زادك حقير، وعمرك قصير، وسفرك طويل، آه من قلة الزاد وبعد السفر ولقاء الموت]].
هل تذكر المتخلفون هذه الكلمات الصادقات؟!
هل تذكر الذين ينصبون العداء للإسلام والمسلمين وهم يشربون معنا ويمشون على أرضنا ويستنشقون هواءنا؟!
هل سمعوا هذه القذائف؟ هل وصلت قلوبهم؟ هل طرقت أسماعهم أم هم في غفلة يعمهون؟
يقول علي شعراً لمن لم يفهم النثر:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت يبنيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها(361/10)
ابن عباس وعمر بن عبد العزيز حال الموت
حضرت الوفاة عمر بن عبد العزيز فاستبشر كثيراً، وقال لزوجته فاطمة: اخرجي يا فاطمة! فإني أرى نفراً ليسوا بأنس ولا جن.
إذاً ملائكة: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
قال ابن كثير: لما حضرت ابن عباس الوفاة.
ابن عباس جدكم في ثرى هذا التراب يرقد هنا.
ألا إن وادي الجزع أضحى ترابه من المسك كافوراً وأعواده رندا
وما ذاك إلا أن هنداً عشية تمشت وجرت في جوانبه بردا
يقولون: لما حضرت جنازته صلوا عليها وهو في الأكفان -والعهدة على ابن كثير - فلما انتهوا رأوا طائراً أبيض دخل في أكفانه وسمعوا هاتفاً يقول: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر:27 - 29].(361/11)
ابن المبارك حال الموت
وابن المبارك الزاهد العابد حضرته سكرات الموت فتبسم كثيراً، يا لها من بسمة ما أحسنها! من يتبسم في سكرات الموت؟ إنهم أهل الصلوات الخمس، وأهل القرآن والذكر، أهل طاعة الديان، أهل الخوف من الرحمن، الذين إذا تستروا في الجدران واختفوا بالحيطان تذكروا الواحد الديان.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
فهؤلاء هم الذين يتبسمون في سكرات الموت، أما الضائعون اللاهون السامجون المتفلتون فكيف يتذكرون؟! وكيف يصحون؟! وكيف يتبسمون؟! إنها حسرة في غمرات الموت.(361/12)
النادمون في سكرات الموت
وأما النادمون في سكرات الموت فإنهم كثير منهم صالحون ومنهم غير ذلك.(361/13)
ندم معاوية حال الموت
حضرت الوفاة معاوية بن أبي سفيان الخليفة الملك فقال: أنزلوني من على سريري، فأنزلوه، فمرغ وجهه في التراب وبكى وقال: صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
تجرد من الدنيا فإنك إنما أتيت إلى الدنيا وأنت مجرد
أتيت إلى الدنيا باكياً صارخاً أعمى أصم جائعاً ضامئاً، فلما وصلت إلى الدنيا تملكت وسرت وأخذت وأكلت وشربت، ثم تحاسب عند الواحد الديان، هذا معاوية يقول ذلك.(361/14)
ندم عمرو بن العاص حال الموت
وعند مسلم في الصحيح عن ابن شماسة المهري قال: {حضرنا عمرو بن العاص في الوفاة فبكى بكاءً طويلاً وحول وجهه إلى الحائط، قالوا: ما لك تبكي؟ -تذكر الذكريات.
وكثير من الناس لا يتذكر ذكرياته إلا في سكرات الموت، الأيام والليالي والأشهر والسنوات والإجازات والرحلات والأصحاب والأصدقاء، كل ما مر به يتذكره في ذاك المطرح- فبكى، فأخذ ابنه يحسن ظنه بالله، فلما زاد الكلام التفت وقال: يا أيها الناس! إني عشت حياتي على أطباق ثلاث: كنت في الجاهلية لا أعرف الإسلام، فلو مت على تلك الحال لكنت من جثي جهنم، ثم أسلمت وبايعت الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما بسط يده ضممت يدي قال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أشترط، قال: تشترط ماذا؟ قلت: أن يغفر لي ربي ذنبي، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: أما تدري -يا عمرو - أن التوبة تهدم ما قبلها وأن الإسلام يجب ما قبله؟ فأسلمت، فوالله ما ملأت عيني منه صلى الله عليه وسلم، والله لو سألتموني الآن أن أصفه لم أستطع أن أصفه، لأني ما ملأت عيني منه حياءً منه، فلو أني مت على تلك الحال لرجوت أن أكون من أهل الجنة، ثم لعبت بي الدنيا ظهراً لبطن، فما أدري هل يؤمر بي إلى الجنة أو إلى النار؟ لكن عندي كلمة أحاج لنفسي بها عند الله، لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم}.
وعند غير مسلم: فضم يده على لا إله إلا الله.
ولما أدخل وغسل؛ كانوا يفتحونها فتضم.
وهذا لأن معه لا إله إلا الله، ورصيده لا إله إلا الله والصلوات الخمس، وقراءة القرآن، والصدق مع الله، وبر الوالدين، وصلة الرحم، أما أن نقول: لا إله إلا الله ونكذب على الله، فما فائدة لا إله إلا الله؟ لا إله إلا الله ولا صلاة في المساجد! لا إله إلا الله والنساء يتبرجن! لا إله إلا الله والغناء يعج في البيوت! لا إله إلا الله والربا يؤكل ويشرب ويلبس ويستخدم ويبنى منه! لا إله إلا الله والخروج على شرع الله موجود! لا إله إلا الله والمجلة الخليعة تسيطر على وقت المصحف وزمن المصحف وساعات المصحف! لا إله إلا الله وجلساء السوء يحفون بالصالحين ليصرفوهم عن الهداية! أين معنى لا إله إلا الله؟ لا إله إلا الله والوالدان يلعنان في بعض النواحي ويضربان! والرحم يقطع! نخرج إلى الاستسقاء فنرفع أيادينا لكن حجبنا ما بيننا وأغلقنا أبواب السماء بالذنوب والخطايا، عطاء الله ممنوح وبابه مفتوح وخيره يغدو ويروح؛ ولكن ذنوبنا والله وقفت بالطريق، كلما أراد الغيث أن ينزل قالت الذنوب: لا تنزل يا غيث.
وأنا الذي جلب المنية طرفه فمن المطالب والقتيل القاتل(361/15)
ندم عبد الملك بن مروان حال الموت
وأما عبد الملك بن مروان فذكر الذهبي في السير عنه أنه لما حضرته الوفاة سمع غسالاً في وادٍ بجانب قصره، وكان عبد الملك خليفة في دمشق، والدولة الإسلامية تحت خلافته، وفي القصر كل ما لذ وطاب، فسمع غسالاً وهو في سكرات الموت، ولا يدري الغسال أن الخليفة في سكرات الموت، وما اشتغل الغسال بهم عبد الملك.
لا يعرف الشوق إلا من يكابده ولا الصبابة إلا من يعانيها
فأخذ الغسال يترنم فرحاً، فهو لم يسفك دماً وما تحمل ديوناً ولا عنده مظالم ولا خصومات، فأخذ يترنم بالنشيد، فأخذ عبد الملك في سكرات الموت يلصق وجهه بالتراب ويبكي ويقول: يا ليتني كنت غسالاً، يا ليتني ما عرفت الحياة، يا ليتني ما توليت الخلافة.
ونقلت هذه الكلمة إلى سيد التابعين سعيد بن المسيب قال: الحمد لله الذي جعلهم في الموت يفرون إلينا ولا نفر إليهم.
لماذا؟ لأنهم سكروا بلذة الدنيا فما استفاقوا إلا عند سكرات الموت.(361/16)
ندم عنبسة بن أبي سفيان حال الموت
وعند أحمد في المسند بسند صحيح أن عنبسة بن أبي سفيان أخا معاوية، حضره الموت فبكى وكان أميراً، قالوا: مالك تبكي؟ قال: ما ندمت في الحياة إلا على مسألة، قالوا: ما هي؟ قال: سمعت أختي أم حبيبة زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من حافظ على أربع ركعات قبل صلاة الظهر وأربع ركعات بعد صلاة الظهر حرمه الله على النار}.
فليتني حافظت عليها.
أمير سمع هذا الحديث ويحفظه لكنه ما حافظ عليها وتذكره في سكرات الموت فبكى في تلك الساعة.(361/17)
حفظ الله لمن حفظه
وكثير من الناس يستفيق لكن في الوقت الضائع.
ففرعون استفاق، لكن متى استفاق؟ استفاق لما أصبح أنفه في الطين، وقد أصبح مع ضفدعة مسيلمة الكذاب التي يقول عنها: نقنقي ما تنقنقين، أعلاك في الماء وأسفلكِ في الطين.
ويقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه، فلما أصبح في الطين قال: {آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [يونس:90] قال الله: آلآن يا دجال؟! آلآن يا ضائع؟! آلآن يا مسود وجه التاريخ ومضيع القيم، ويا سافك الدماء ويا صاحب الصحيفة السوداء؟! أتتذكر الله الآن؟!
هذا مثل ما يفعل بعض الناس حيث يفجر ويعربد ويرقص ويلهو ويلغو؛ فإذا حضرته سكرات الموت استفاق، لكنه لو أصلح في الرخاء تولاه الله في الشدة للحديث الصحيح: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.
يونس عليه السلام حفظ الله في الرخاء وسبح في الرخاء، وركب البحر مغاضباً وما استأذن الله، فألقي في البحر؛ فأصبح في ظلمات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت، فمن ينادي؟ لا قريب، لا أخ، لا صاحب، تذكر الواحد الأحد.
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
من أحسن الظن بذي العرش جنى حلو الجنى الشائك من شوك السفا
فتذكر الله في ظلمة الليل.
كأن رقيباً منك يرعى خواطري وآخر يرعى مسمعي وجناني
فقال: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87].
فقال الله: {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات:143].
رصيده طيب، أيامه بيضاء، أعماله صالحة، كان يحفظ الله ولن يضيعه الله، فحفظه الله وتولاه بذلك.
ذكروا عن أبي الطيب الطبري أحد علماء الشافعية، وهو شيخ أبي إسحاق الشيرازي، كان في الثمانين من عمره، فوثب من سفينة عند الشاطئ إلى الشاطئ، وأتى الشباب يثبون فما استطاعوا، قالوا: كيف تقفز أنت وأنت شيخ كبير؟ قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر؛ فحفظها الله لنا في الكبر.
العين خلقت لك يا بن آدم للتدبر بها في الكائنات؛ ولتقرأ في كتاب الكون؛ ولتتأمل مخلوقات الواحد الأحد.
وكتابي الفضاء أقرأ فيه صوراً ما قرأتها في كتابي
والقلب خلق لتغرس فيه لا إله إلا الله تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، والجبين خلق لتسجد به لله الواحد الأحد، فوالله ثم والله، وايم الله وتالله، وبالله إن الذي لا يسجد لله سوف يسجد لشهوته ولشيطانه ولحذائه ولمنصبه ولوظيفته.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبياً
ذكروا عن البخاري أنه قال: الحمد لله ما اغتبت أحداً منذ بلغت الحلم.
من يوم بلغ الحلم إلى أن مات ما اغتاب مسلماً، قالوا: وقولك في الرجال وجرحك؟ قال: لا.
ليس هذا من هذا، يقول عليه الصلاة والسلام: {ائذنوا له بئس أخو العشيرة} إنما يحفظ الدين بهذا الجرح والتعديل.
قال أحد الصالحين يحرض أبناءه: ما حلفت بالله صادقاً ولا كاذباً أبداً وقاراً لليمين بالله.
أي خُلُق هذا؟! وأي استعداد هذا؟!
قيل لـ محمد بن واسع الأزدي أحد الصالحين: مالك لا تتكئ وترتاح؟ قال: أما أنا فخائف، ولا يتكئ إلا الآمن، لا أتكئ؛ أنا ما جزت الصراط، ولا وقفت عند تطاير الصحف، ولا أدري هل أساق إلى جنة أو إلى نار.
قلوب عرفت الله، فاستنارت بنور الله، وذهبت في طريق الله، ورفعت لا إله إلا الله.(361/18)
وصف الموت
أما وصف الموت فهو عجيب، وكلٌ منا سوف يذوقه، وانتظر أياماً وليالٍ فسوف تذوق الموت، وتهيأ للموت، وإن كنت لم تستصحب كفناً فخذ كفناً الآن، واعلم أن القبر ينتظرك، والله لو كنت في بروجٍ مشيدة، فلن تفلت من قبضة الجبار، فتهيأ بالعمل الصالح وبمغفرة الواحد الغفار: {فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ * فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة:83 - 87].
لا إله إلا الله ما أهول الموت! ولا إله إلا الله ما أبشع الموت! ولا إله إلا الله ما أخوف الموت! اسمه يُخاف منه، تقشعر الأبدان، تنتهي اللذائذ، ينقطع الضحك، تنتهي المجالس، تخرب في عينك القصور، الحدائق الغنَّاء، البساتين الوارفة، وخرير الماء، وزجل الحمام، وزقزقة العصافير، هفيف الريح، كلها لا شيء مع الموت.
دخلوا بـ ثابت البناني في حديقة في خراسان فيها كل ما لذ وطاب، حديقة فيها نخل باهٍ، فيها تين ورمان وريحان، فيها نهر مطرد، فيها عشب وزهر من كل لون بهي، فقالوا: ما لك لا تنظر؟ قال: قطع الموت النظر.
ماذا ينظر الإنسان؟ كم من ملك رأى الجنود والبنود والأعلام ولكن انتهى، ماذا أخذ؟ وماذا ملك؟ وبماذا ذهب؟ ولماذا جمع؟ هذه حقيقة الموت، وطعمه مر لكنه حلو على من عرف الله.
هذا بلال، تقول امرأته: واحزناه! قال: [[وافرحتاه! غداً ألقى الأحبة محمداً وحزبه]].
عليك رضوان الله يا بلال! يا صوت الحق! يا داعية السماء! يا صرخة التوحيد التي انطلقت من مكة! يا أيها العبد الذي أعلن عبوديته لله! قال عمر: [[أبو بكر سيدنا وأعتق سيدنا]].
بلال الذي تستفيق على أذانه القلوب التي عرفت الله.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
قالوا لـ عمر بن عبد العزيز وهو في مرضه: ألا ندعو لك طبيبا؟ قال: لا.
مللت الحياة، والله لو كان علاجي في أن أمس أذني ما مسست أذني، أريد جوار الله.
شاعر عربي مصقع اسمه التهامي، يقول ابن كثير: له قصيدة في ابنه يرثيه، يقول في قصيدته:
إني وترت بصارم ذي رونق أعددته لطلابة الأوتار
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
يقول: أنا بقيت في الحياة مجاوراً للحساد والبغضاء والبعداء والأعداء؛ وابني في جوار الله.
فلما توفي رئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: بقولي:
جاورت أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
انظر كيف يدخل الإنسان المسلم الجنة ببيت! وانظر كيف يدخل النار ببيت! إنسان يعادي الرسالة والرسول والقرآن والمبادئ الخالدة يدهده على وجهه في النار، إنسان يسخر قلمه؛ صحفي قصصي ناشر عالم قاض، أي مسلم يسخر مجهوده وطاقته كيف يرفعه الله ويدخله الله الجنة، يقول كعب يهجو قريشاً لأنها تحاد الله، يقول:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
قال عليه الصلاة والسلام: {لقد شكر الله لك بيتك يا كعب}.
الله من فوق سبع سموات يشكر بيتاً في الدعوة والتوحيد.
وإنما مقصودنا هنا ما هو الموت، وكيف نصف الموت.
قيل لـ عمرو بن العاص قال له ابنه عبد الله: صف لي الموت يا أبتاه وأنت في سكرات الموت، صف لي الموت فلن يصف أحد الموت بمثل ما تصفه، قال: [[يا بني! والله الذي لا إله إلا هو كأن جبال الدنيا على صدري وكأني أتنفس من ثقب إبرة]].
وقال عمر رضي الله عنه وأرضاه لـ كعب الأحبار: صف لي الموت؟ قال: يا أمير المؤمنين! أعانك الله على الموت، فدمعت عينا عمر، قال: الموت كما يؤخذ غصن من الشوك، فيضرب به الإنسان، فلا تبقى شوكة إلا دخلت في عرق أو عصب ثم يسحب الغصن فيسحب كل عرق أو عصبة معه.
وفي حديث يقبل التحسين: {لسكرة من سكرات الموت أشد من ضرب بالسيف سبعين ضربة}.
والموت شاق ومخيف ولا يسهله إلا الله، أتدري ماذا يسهل الموت؟ التصدق على المساكين والفقراء ركعتان في ظلام الليل ظمأ الهواجر التسبيحات حضور الجماعات بر الوالدين والوالدات حسن الخلق للمسلمين والمسلمات كثرة السجود يقول صحابي: {يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة -والحديث في مسلم - قال: أعني على نفسك بكثرة السجود}.
ومن حديث ثوبان عند مسلم: {فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة} {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة:26 - 27].
أين الطبيب؟ أين الراقي؟ أين من يقرأ؟ ذهب الطب، ذهب الدواء والعلاج: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق:19].
أي: تفر، كنت تتعالج، وتطلب العقاقير والأدوية، لكن جاءت سكرة الموت اليوم وأتى الوعد الحق اليوم، وأتى الفيصل اليوم، وأتى الانتقال والارتحال من الدنيا إلى الآخرة اليوم، فما أصبح طب ولا دواء ولا عقاقير.(361/19)
الاستعداد للموت
أما العنصر السادس فهو الاستعداد للموت، وهو تاج هذه المحاضرة، وهو مقصودها وزبدها.
بماذا نستعد؟ وما هو زادنا؟ زادنا قليل إي والله، وعمرنا قصير، وسفرنا طويل، فما هو الاستعداد؟
يقول سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18].
والغد هو يوم القيامة، ولما كان قريباً قال: (لغد) أي: بعد هذه الليلة فصباح هذه الليلة هو غد، فما قال: يوم العرض الأكبر ولا الآخرة، بل قال: غد، وقال سبحانه: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281].
اتقوا ذاك اليوم، واعملوا لذاك اليوم، واستعدوا لذاك اليوم.
قال سعد رضي الله عنه وأرضاه كما في سيرته بسند صحيح، وهو سعد بن أبي وقاص الذي فتح بلاد فارس وصاحب الانتصار بإذن الله في القادسية، بكت ابنته وهو في سكرات الموت، فقال: [[يا بنية! ابكي أو لا تبكي، والله إني من أهل الجنة]].
قال الذهبي: صدقت هنيئاً لك؛ لأنه شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من أهل الجنة، وهو من الذين استعدوا للجنة، لماذا يدخل الجنة؟ ألأنه خَال الرسول صلى الله عليه وسلم؟ لا.
عمه أبو طالب في النار، وعمه أبو لهب في النار، وبلال الحبشي وصهيب الرومي وسلمان الفارسي في الجنة، لماذا؟ لأنهم عرفوا الطريق وعرفوا تقوى الله.
وأما الأعمش سليمان بن مهران -أحد رواة الصحيحين - فإنه لما حضرته الوفاة قال لأبنائه: لا تبكوا عليَّ فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الجماعة ستين سنة.
فهذه مؤهلات الجنة، هل أحد منا عنده عمل في قلبه؟ هل أحد منا معه رصيد لذاك اليوم؟
يا أيها الإخوة: هل أحد منا استعد برصيدٍ إلى الله الواحد الأحد؟ هل تهيأ بالزحف والانتقال من هذه الدار بزاد؟
سعيد بن المسيب يقول لأبنائه: ما أذن المؤذن منذ أربعين سنة إلا وأنا في مسجده عليه الصلاة والسلام.
نزلوا بـ مكة في قبائل نوفلٍ ونزلت في البطحاء أبعد منزل
ماذا نقول إذا لقينا الله غداً؟ ما هي حجتنا عند المولى سبحانه وتعالى؟ إنها والله أمور ينبغي أن نقف عندها، وينبغي أن نتنبه جميعاً كل التنبه.
ثابت بن عامر بن عبد الله بن الزبير كان كلما صلى الفجر رفع يديه وقال: اللهم إني أسألك الميتة الحسنة، قالوا: ما هي الميتة الحسنة؟ قال: أن يتوفاني ربي وأنا ساجد، فلبى له الله ما سأل، فأتته سكرات الموت وهو في السجود: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
صدق مع الله، وتوجه إلى الله، وثبات على لا إله إلا الله.
إذاً: كيف نستعد؟
إن المؤهلات والشهادات بلا عمل صالح أثبتت إخفاقها في الساحة، وأثبتت فشلها وانهزاميتها، المناصب بلا إيمان لا تساوي شيئاً.
يقول أحد الأدباء من المفكرين: قلب بلا إيمان كتلة لحم، وعين بلا إيمان مقلة عمياء، ويد بلا إيمان إشارة خاطئة، وكتاب بلا إيمان كلام مصفف، وقصيدة بلا إيمان كلام ملفف، ومجتمع بلا إيمان قطيع من الضأن.
بل نسب لـ ابن تيمية وهذا صحيح عنه أنه قال: كل أرض لا تشرق عليها شمس الرسالة فهي أرض ملعونة، وكل قلب لا يعرف هذا الدين فهو قلب مغضوب عليه.
وقال في مختصر الفتاوى: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدىً غير هدى الله الذي أرسل به محمداً صلى الله عليه وسلم فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا ينظر الله إليه ولا يزكيه وله عذاب أليم: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ * حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر:1 - 5].
{أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8].
وصلى الله على نبينا محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً.(361/20)
سورة العصر منهج حياة
قال الشافعي: لو لم ينزل الله عز وجل على الناس إلا هذه السورة لكفتهم، فما هي هذه السورة؟
إنها سورة (العصر) دستور حياة المسلمين، تعال معنا لنعيش في ظلالها لنستقي منها العبر والدروس والمعاني.(362/1)
معنى قوله تعالى: (والعصر)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
عنوان هذه المحاضرة: (سورة العصر منهج حياة).
سورة العصر الموجزة القصيرة منهج حياة للمسلمين، سورة العصر قليلة الكلمات لكنها دستور حياة لمن أراد الله والدار الآخرة، سورة العصر وأمثالها تعلن التحدي على الكافر والملحد أن يأتي بمثل هذه السورة {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23].
يا عرب! يا فصحاء! يا أدباء! يا نبلاء! يا خطباء! يا علماء! دونكم الكلام، عندكم الحروف، لديكم المادة، تعالوا بمثل هذه السورة إن كنتم صادقين، انظموا مثل هذا الكلام، اخطبوا بمثل هذه العبارات، هذا تحدىٍٍ من الله سافر للناس أجمعين، ولن يأتوا بمثله أبداً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، لا يستطيعون أبداً أن يأتوا بمثل القرآن ولا أن ينسجوا على منوال القرآن، ولا أن يختاروا مثل عبارات القرآن.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
سورة العصر منهج حياة، قال الشافعي رحمه الله: لو لم ينزل الله عز وجل على الناس حجة إلا هذه السورة لكفتهم.
وذكر بعض المفسرين كـ ابن أبي حاتم: أن الصحابة كانوا إذا التقوا قرأ بعضهم على بعض سورة العصر.
لكن ما معناها؟ وما هي دروسها، وعبرها، ومقاصدها؟ هو الذي نريد أن نتحدث عنه بعون الله في هذه الجلسة.
{وَالْعَصْرِ} [العصر:1] قسم من الله عز وجل، والواو: واو القسم، ولله أن يقسم بما شاء، وليس لنا أن نقسم إلا بالله، فأعظم عظيم هو الله، ومن أقسم بشيء فقد عظَّمه، وإذا أقسمنا بغير الله فقد عظمنا غير الله أعظم من الله.
وأقسم الله بقسم كثير في القرآن: أقسم بالنجم {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى} [النجم:1 - 2].
ويقول أهل العلم: إن الله يقسم بما يوافق المقسم عليه، فالنجم إذا هوى هو مثل القرآن إذا تنزل، {وَالضُّحَى * وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى:1 - 2] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس:1 - 3] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى * وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل:1 - 2].
كلها أقسام من الله بما شاء من خلقه.
وهنا أقسم بالواو وفي سورة النحل: {تَاللَّهِ} [النحل:63] أقسم الله عز وجل بالتاء، ويقسم بالباء، وكان عليه الصلاة والسلام يقول: {لا ومقلب القلوب} ويقول: {والذي نفسي بيده} وهو الله عز وجل، ويقول: {وايم الله} وحرام أن يقسم أحد بغير الله، وقد أخطأ من أقسم بغيره سبحانه وتعالى.
يقول عمر في الصحيح رضي الله عنه وأرضاه: {أدركني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقول: لا وأبي -يقسم عمر بأبيه، وهو مع الصحابة- فقال عليه الصلاة والسلام -بياناً عاماً-: يا أيها الناس إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم}.
توحيدٌ في الكلام والعمل والفعل.
قال عمر: [[فوالله ما أقسمت بأبي آثراً ولا ذاكراً]] انتهى الأمر، أمة تمتثل الأوامر.
يقول عليه الصلاة والسلام: {يا أيها الناس اجلسوا} فسمع ابن رواحة وهو خارج المسجد فجلس، جلس في الطريق لأنهم يتلقون هذا التعاليم من هذا الرجل العظيم الذي لا {يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
وقد ضل من أقسم بغير الله، يقول أحدهم وهذه تغنى -للأسف- عند أهل المجون:
قسماً بمبسمك البهي
يقسم بمبسم محبوبه.
ويقول المتنبي في قصيدة له همزيه:
فومن أحب لأعصينك في الهوى قسماً به وبحسنه وبهائه
وهذه يضلل بها ويفجَّر ويرتكب إثماً عظيماً، وهذا منهجه، ولو أنه بقي على روعة القصيدة -لأنها من أحسن قصائده- لكان كفى، فيقول:
القلب أعلم يا عذول بدائه وأحق منك بجفنه وبمائه
لا تعذل المشتاق في أشواقه حتى يكون حشاك في أحشائه
فومن أحب، قال أهل العلم: لا حببه الله إلى خلقه، وقد فعل، يقسم بمحبوبته وهذا خطأ.
ومنهم من يقسم بحياته، وشرفه، ونجاحه، وأسرته، وكيانه وهذه كلها شرك في القسم، أما أدوات القسم فقد مرت معنا.
ما هو العصر؟
العصر قيل: هذا الوقت الذي صليناه، لأن وقت العصر شريف ووقته عظيم، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من صلى البردين دخل الجنة}.
والبردان: صلاة الفجر وصلاة العصر؛ لأنها تقع في وقت برد، والحديث في البخاري.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام في البخاري أيضاً أنه قال: {من فاتته صلاة العصر فقد حبط عمله}.
قيل: عمل النهار، وقيل: أعماله الصالحة، وفاتته أي: تركها عامداً متعمداً حتى خرج الوقت.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام من حديث ابن عمر أنه قال: {من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله}.
أي: كأنما فاته وخسر أهله وماله، واحترق أهله وماله.
الرسول عليه الصلاة والسلام في الخندق، وهو يقاتل الأحزاب التي تجمعت عليه من الأحلاف الكفرية من اليهود والمشركين من قريش والمنافقين، كلهم تجمعوا عليه بالإجماع، قاتلهم ففاتته صلاة العصر ونسيها، فقال عمر بعد أن غربت الشمس: {يا رسول الله! والله ما صليت العصر حتى كادت الشمس تغرب، قال عليه الصلاة والسلام: وأنا والله ما صليتها، شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقيل العصر: الزمن.
من الذي خلق الزمن؟ الله، وهو الذي خلق المكان وخلق الليل والنهار، يقول في أول سورة الأنعام: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1].
بعد هذا كله الذين كفروا بربهم يعدلون، بعد الليل والنهار، وبعد الهواء والماء، وبعد السناء والضياء، وبعد الخلق والرزق، وبعد الإيجاد والإبداع، وبعد التصوير والتسوية، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، وهذا هجوم أدبي في أول السورة، ويسمى اكتساح في أول الخطبة، ويسمى عند أهل الفكر الآن: نسف وإبادة.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] وقال هناك في الفرقان: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان:61 - 62].
العصر: الزمن، لماذا أقسم الله به؟ قالوا: لأنه غالي، ولا يعرف العمر أنه غالي إلا المؤمن، أما المعرض عن الله فالزمن رخيص عنده -وهذا هو من كيس شوقي -:
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني(362/2)
معنى قوله تعالى: (إن الإنسان)
والعصر: هو الزمن يقسم به سبحانه وتعالى، والمقسم عليه سوف يأتي.
{وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ} [العصر:1 - 2] من هو الإنسان؟
مسكين الإنسان، مطارد في القرآن، عليه عبارات وتعريفات في القرآن، وأهل العلم يقولون: إذا ذكر الإنسان مجرداً فالمقصود به الكافر، وقد يقصد به المؤمن مع الكافر.
يقول سبحانه عن الإنسان، اسمع النداء للإنسان: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار:6].
يقول: مالك أيها الإنسان؟ مالك تُعرض عن الله؟ من الذي غرك بالله؟
ويقول عنه هناك: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ * فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد:8 - 11].
يقول: أما جعلنا لك عينين ولساناً وشفتين لتعبد الله فمالك؟
ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6].
يا أيها الإنسان! يا من حمل همومه وغمومه وأحزانه وأشجانه وليله ونهاره! إنك عامل لا محالة وسوف تلقى عملك عند الله.
ويقول سبحانه: {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ} [عبس:17] أي: عذب وأبعد وطرد، مثل إذا قلت لرجل كفر معروفك، وجحد إحسانك: قتلت ما أكفرك، قتلت ما أجحدك، قتلت ما أنساك!
قال: {قُتِلَ الْأِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس:18 - 22].
وقال سبحانه: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} [الإنسان:1] الإنسان الآن يكفر بوجود الله، فيقول الله له: أما أتى عليك فترة ما كنت موجوداً، من الذي أوجدك؟ {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2].
وقال سبحانه عن الإنسان: {إِنَّ الْأِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج:19] أي: في أصله {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج:20 - 22].
واسمع إلى أوصاف الإنسان فهو مجادل، جادل حتى في الله، وجادل حتى في الرسالة، وجادل حتى في القيامة {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54].
وعند البخاري في الصحيح: {أن الرسول عليه الصلاة والسلام قام في الليل}.
كان يصلي في الليل ما يقارب الست ساعات متواصلة، قرأ بالبقرة وبآل عمران والنساء بخشوع وخضوع وتدبر وترتيل ومناجاة؛ لأنه يحب كلام الحبيب ويتأثر به ويعيش معه؛ ولأن زاده القرآن، فلما انتهى عليه الصلاة والسلام من الصلاة ذهب إلى بيت علي وفاطمة، ذاك البيت الرائع الرائق المطهر الطاهر، فطرق عليهما الباب وقال: {ألا تصليان، ثم ذهب وصلى عليه الصلاة والسلام ثم عاد فما سمع الباب يفتح وما سمع الوضوء، فعاد وطرق الباب فقال: ألا تصليان، فقام علي رضي الله عنه يزيل النوم عن عينيه ويقول: يا رسول الله! إن نفوسنا بيد الله إن شاء أمسكها وإن شاء أرسلها -أي: يلقي محاضرة على الرسول عليه الصلاة والسلام يخبره بهذا- فتبسم عليه الصلاة والسلام وضرب على فخذه وقال: {وَكَانَ الْأِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف:54]} حتى من قيام النوم الإنسان يتكلم ويحب الحوار والمناظرة رضي الله عن علي وأرضاه.
{وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفاً} [النساء:28].
أضعف شيء الإنسان.
يقول عمر بن أبي ربيعة:
كتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول
وقال بشار:
إن في بردي جسماً ناحلاً لو توكأت عليه لانهدم
سمع أحد الناس هذا البيت وأعجب به وقال: والله لأسافرن حتى أرى هذا الشاعر؛ لأنه بيت جميل، وهو دائماً يأتي بأبيات رائعة، وكان أعمى البصر وأظنه أعمى البصيرة، فيقول:
يا قوم أذني لبعض الحي عاشقة والأذن تعشق قبل العين أحيانا
يا ليتني كنت تفاحاً مفلجةً أو كنت من ثمر الريحان ريحانا
فهو صاحب:
إن في بردي جسماً ناحلاً
يقول: أنا جسمي ضعيف، فسافر هذا الرجل ودخل على بشار بن برد بيته فوجد أنه كالثور، قال: أين البيت وأين أنت؟ قال: أما سمعت الله يقول: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} [الشعراء:224 - 226].
وقال سبحانه: {خُلِقَ الْأِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37].
فأعجل شيء الإنسان، يريد أن يستعجل كل شيء، حتى القضاء والقدر يستعجله الإنسان، يقول كفار مكة: يا محمد! عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب، يقولون: أعطنا عذابنا، أنزل علينا حجارة من السماء، والله سبحانه وتعالى يقول: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:1 - 3].
هذا أحد الكفار يقول: اللهم إن كان محمداً صادقاً؛ فأنزل علينا حجارة من السماء، يعني: ترميهم وتسحقهم، قال سبحانه: (سأل سائل) وأدهمه لأنه خسيس وحقير كافر {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ * مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} [المعارج:1 - 3] يقول: العذاب واقع لكن لماذا يستعجلون؟ يقول سبحانه وتعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ} [الحج:47] وقال سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص:16].
أعطنا عذاباً الآن قبل يوم الحساب، فالإنسان خلق من عجل، وقالوا: لا حكمة لعجول.
وقال سبحانه وتعالى عن الإنسان وتمرده وإنكاره وغروره: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْأِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [الإسراء:83] أعرض عن المنهج الرباني ونأى بجانبه.
وقال سبحانه وتعالى عن ظلم الإنسان وجهله: {وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] عرض الله الأمانة على السماوات والأرض والجبال؛ فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً.
ويقول الله عن الإنسان وعن إنكاره وجحوده: {وَيَقُولُ الْأِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلا يَذْكُرُ الْأِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً} [مريم:66 - 67] الآيات.(362/3)
معنى قوله تعالى: (لفي خسر)
قال سبحانه: {إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2].
وهذه قاعدة مطلقة وعموم اختص الله منها بالاستثناء أهل الإيمان وأهل العمل الصالح، وكل من على الأرض ما لم يؤمنوا فقد شملتهم اللعنة، وكل من على الأرض إن لم يسلموا لله فقد عمهم الغضب، عينٌ بلا إيمان مقلةٌ عمياء، وقلب بلا إيمان كتلةٌ من لحم لعينة، وأذن بلا إيمان إشارة خاطئة.
{إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر:2] الخسر الهلاك، يقول أبو الفتح البستي:
زيادة المرء في دنياه خسران وربحه غير محض الخير نقصان
وكل وجدان قوم لا وجود له فإنما هو في التحقيق خسران
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
وخراب الدار هو الكفر والإعراض عن منهج الله، وخراب القلوب هو الفسق والفجور، وخراب القلوب هو عدم إيمانها بالله تبارك وتعالى.(362/4)
معنى قوله تعالى: (إلا الذين آمنوا)
{إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر:3].
ذكر الإيمان في القرآن بالفعل الماضي، وبالفعل المضارع، وبالصفة، وبالمدح وبالاشتقاق.
قال سبحانه عن المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس:9] وقال سبحانه: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل:97] هذه الحياة الطيبة لا يدركها إلا المؤمنون، والحياة الطيبة هي مقصودة عند الناس جميعاً المؤمن والكافر، ويسمونها السعادة، وألفوا فيها كتب، وحاولوا اكتشافها، وبحث عنها علماء الجيولوجيا في الأرض مع المادة فما اكتشفوها، وبحثوا عنها في الهواء والماء فما وجدت، وكتبوا وسألوا وقالوا: من يريد الحياة الطيبة؟ من اكتشف لنا حياةً سعيدة؟ وأتى رجل منهم فألف كتاباً ثم نحر نفسه، وكثيرٌ من أغنيائهم جمعوا المال ثم نحروا أنفسهم بالسكاكين قالوا: من يجد لنا السعادة؟ والله يتكلم عن السعادة في آية {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل:97] وهذه لا تكون إلا من صيدلية محمد عليه الصلاة والسلام يصفها ويصرفها هو، وأما غيرها فلا يمكن أن يكون.
كفرت بـ لينين وأذناب نهجه وآمنت بالرحمن والفوز مطلب
أنا قصة من بدر أرسلها الهدى محمد يرويها وجبريل يكتب
هذا سند خرج من محمد عليه الصلاة والسلام.
أنا قصة من بدر أرسلها الهدى محمد يرويها وجبريل يكتب
إذا ظمئ اللاهون للخمر والخنا فزمزم للأخيار ورد ومشرب
وإن سكروا للعود في ساعة الهوى طربت لذكر الله فهو المحبب
ومطلع هذه القصيدة:
هجرت الهوى لم تسب قلبي زينب وما هز أشجاني العزوف المطرب
ولم أتخذ خدناً جهولاً سرى به من الوهم ما يعمي القلوب ويقلب
له لذة في كل لهو ومشرب ولي في رحاب الله صحب ومركب
وهذه شعار المؤمن أنه لا يجد السعادة إلا في ذكر الله واتباع رسول الله، ومنهجية محمد عليه الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن بعض الناس شربوا ماءنا واستنشقوا هواءنا كفروا بالله، ما حملوا ختم محمد عليه الصلاة والسلام، وما عرفوا السعادة في طريقه، ولكنهم اتبعوا استالين ولينين ففضحهم الله على رءوس الأشهاد، أصبح جنود استالين ولينين أول من يكفر به، وأول من يلعنه على المنابر، وأول من يحارب شرعته، وأول من يمزق مذكراته، فاعتبروا يا أولي الألباب.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
رمى بك الله ركنيها فمزقها ولو رمى بك غير الله لم يصب
قال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] كلمة: (وداً) ما يدركها إلا شعراء العرب، وكلمة (وداً) مختارة، ومستصفاة مثل إذا عصرت يقولون: رحيق المعصور، ولله المثل الأعلى، هذا الورد إذا عصر خرج منه مادة عصير المعصور الذي يستنشق منه الحب والميل والشغف ومنه الود، ولا يكون الود إلا للذين آمنوا.
سبحان من اصطفى المؤمنين بالود! {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] قيل في تفسيرها: وداً بين قلوب المؤمنين، فلا تجد المؤمن إلا محبوباً عند إخوانه، حتى يقول بعضهم: قد تجده مشوه الخلقة -إذا كان مستقيماً- لكنه محبوباً، وتجد الجميل الفاجر مبغوضاً في القلوب؛ لأن الحب موهبة يجعلها الله مع الماء البارد فيشربه الناس؛ حتى مع زمزم وأنت مع الإفطار تشرب حب الصالحين ولكن تشرب معهم بغض الكفار، كثير من الناس نحبهم؛ ما قدموا لنا نفعاً إنما نحبهم في الله، أي: استأسروا القلوب بحبهم؛ لأن الله جعل لهم وداً، والود منه، قال البخاري في كتاب: الأدب، باب: المقة من الله، أي: الحب منه سبحانه وتعالى.
وإن تفق الأنام وأنت منهم فإن المسك بعض دم الغزال
يقول شاعر في سلطان يمدحه:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسر ماذا والهوى لا يفسر
يقول: أنا أحبك ما أدري لماذا؟ قلنا له: أنت تحب بشراً، وتحب فاجراً، وتحب ظالماً، أما نحن فنحب الله لأمور: منها: أنه ربانا بالنعم، ومنها: أنه أحاطنا، ومنها: أنه يستحق أن يحب، ومنها: أنه عرض حبه في كل الكائنات.
يقول:
أحبك لا تفسير عندي لصبوتي أفسر ماذا والهوى لا يفسر
تأخرت عن وعد الهوى يا حبيبنا وما كنت عن وعد الهوى تتأخر
ظمئنا وفكّرنا وشاقت دموعنا وشاخت ليالينا وما كنت تحضر
يقولون لـ ابن تيمية: هل الآيات مما يحب به إلى الله؟ أو سؤال نحو هذه العبارة كما في روضة المحبين.
قال: نعم.
ثم يذكرون عنه البيت المشهور أنه كان يبكي ويقول:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خالياً
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] وفي السماء، وفي الأرض، وفي الماء حب الله عز وجل.
{سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96] والمعنى الثاني وكأنه الصحيح: يجعل بينهم وبينه وداً سبحانه وتعالى، وهذه والله الشرف العظيم، الناس الآن يتزلفون إلى البشر ليحبوهم، يخدم البشر ويقدم له حذاؤه ويقبل يديه حتى يكون من الخدم، وأنت يحبك الله عز وجل ويقول: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] يقول ابن القيم: ليس العجب من قوله: يحبونه، هذا مطلوب ولكن يحبهم عجيب! {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] وهذه وثيقة لا ينالها إلا أهل الإيمان.
وقال سبحانه وتعالى في نداء التشريف ولا ينادي إلا أهل الشرق: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} [الأحزاب:70] وهذا نداء التشريف؛ يا رجل! تشرفه، يقول أحدهم يمدح:
في ندائي ناديت كل الرجال
أنت رنحت بالعباءة عطفيه ورصعت رأسه بعقال
فهذا النداء للتشريف، ينادي به الله عباده.(362/5)
معنى قوله تعالى: (وعملوا الصالحات)
أما قوله سبحانه وتعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] فالصالحات عدد الأنفاس، وهي لا تقتصر على الذكر والجهاد وقراءة القرآن وفيها دروس:
أولاً: أن الإيمان لا بد له من عمل بخلاف المرجئة الذين فصلوا العمل عن الإيمان، مؤمن ولكن لا تعمل، فيكون الفاجر والمؤمن سواء، الذي يصلي الفجر في جماعة مثل الذي ينام في فراشه حتى تطلع الشمس، الذي يقرأ القرآن مثل الذي يقرأ الهدف وآخر ساعة والمصور، والذي يسبح مثل الذي يقول: (قسماً بمبسمك البهي) و (وهل رأى الحب سكارى مثلنا) هذا على قاعدتهم، لأنهم يقولون: أصل الإيمان واحد، لا.
الإيمان قول وعمل واعتقاد، وهذا هو منهج أهل السنة والجماعة فمن تأخر عنه فقد ابتدع وضل عن منهج الله المستقيم.
{وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر:3] ما هي الصالحات؟
تعريفها: ما صلح من الأقوال والأعمال والأحوال.(362/6)
معنى قوله تعالى: (وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر)
قال سبحانه: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] وعبارات القرآن صغيرة لكنها قواعد كلية، وتواصوا: أي: تناصحوا، وأهل السنة يتناصحون وأهل البدعة يتفاضحون.
قال علي: [[المؤمنون نصحة والمنافقون غششة]].
ولا يمكن أن يحيا المجتمع المسلم إلا بالنصيحة والتواصي، ولكن النصيحة لا بد فيها من الستر واللين والإخلاص، الإخلاص لوجه الله، وأن تستره عن عيون الناس، فلا تفضحه على رءوس الأشهاد، وأن تلين له في العبادة لتسبي قلبه، هذه آداب النصيحة.
وأما الأمم الأخرى فلا يتواصون، تجد المنحرفين في الظاهر إخواناً ولكن في الباطن بعضهم يجرح بعض {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14] {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
أما المؤمنون فإنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، هذه رابطة المؤمنين أنهم يتناصحون، نعمل فيما اتفقنا عليه، ولينصح بعضنا بعضاً فيما اختلفنا عليه، لا يعذر بل ينصح ويوجه ويوصي، ولا نقر بدعة ولكننا ننصح إخواننا في أخطائهم وينصحوننا في أخطائنا حتى نكون مجتمعاً رائداً يحبه الله.
الحق: ما هو الحق؟
الحق هو الشيء البين الواضح، والله سمى نفسه الحق، فقال: {أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور:25] الذي لا تلتبس في معرفته الأفهام، ولا تختلف في إدراكه الأذهان، ولا تتغير عن حبه إذا أحبته القلوب، ولا تلتبس عن السير إليه الأرواح، هذا هو الله الحق المبين.
وسمى دينه حق: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات:23] أي: ما ذكره من أمر الآيات هو حق مثل كلامكم، وسمى القرآن حق فقال: {أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ} [فاطر:24] أي: بالقرآن {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ} [الأنفال:8] والحق الذي يدعى إليه هو ما في الكتاب والسنة، فإن ما في سوى الكتاب والسنة إن كان يعارض القرآن فهو باطل {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} [الإسراء:81] الحق هو ما في الكتاب والسنة، والحق سوف تكون له العاقبة وسوف تكون له الأصالة ولذلك انظر الآن إلى مستقبل الإسلام في الأرض، الإسلام يُسَير بنفسه اليوم، ليس وراءه إغراء ولا مال ولا مستشفيات ولا مدارس ولا خدمات، والنصرانية وراءها الملايين المملينة والآلاف المؤلفة، ووراءها الإغراءات وتخفق في الساحة، لأن الله هو الحق المبين، ولأن الأصالة للدين، وانظروا إلى الأخبار إلى الصحف اليومية وغيرها أخبار تركستان وأذربيجان وأزبيكان كلها تعلن أن الله هو الحق المبين {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
ستعلم في القيام إذا اجتمعنا إلى الرحمن من فينا صدوقا
وقال سبحانه: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] الحق لا بد له من صبر، الصلاة لا تقوم إلا بصبر وكذلك الحج والعمرة والصيام وقراءة القرآن {واعلم أن النصر مع الصبر} , والصبر ثلاثة أقسام: صبر على الطاعة، وصبر عن المعصية، وصبر على المقدور.
الصبر على الطاعة أن تؤديها كاملة محتسباً الأجر من الله.
والصبر على المعصية أن تكف نفسك صابراً عنها خائفاً من عذاب الله.
والصبر على المقدور أن تسلم وترضى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:155 - 157].
وهذا شاعر يمدح رجل صابر، بالصبر والاحتمال فيقول:
صابر الصبر فاستجار به الصبر فقال الصبور للصبر صبرا
يقول سبحانه وتعالى: {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران:200] وعبارات القرآن منتقاة {اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [آل عمران:200] فيقول هذا الشاعر للبطل أي: في المعركة صابر الأبطال؛ لأنه دائماً لا يفوز إلا الصابر، حتى في الدراسات والمعارك والحروب والقراءة والتحصيل والتجارة والعبادة لا يفوز إلا الصابر.
كان عنترة جسمه متوسط مثل أجسام الناس لكنه يضرب رءوس الأبطال ودائماً يفوز، قال له أحد الأبطال: بما غلبت الناس؟ قال: ضع إصبعك في فمي، فوضعها، وأنا أضع إصبعي في فمك، وعض إصبعي وأعض إصبعك، فعض ذاك وعض هذا فصبر عنترة، وذاك ما صبر، حتى قال: آه، ثم رفع يده وقال: بهذا غلبت الناس.
أقسمت أن أوردها حرة وقاحة تحت غلامٍ وقاح
بهمةٍ تخرج ماء الصفا وعزمة ما شابها قول آح
يعني: ما تعرف آه ولا آح، يقول هذا البطل في المعركة:
صابر الصبر فاستجار به الصبر فقال الصبور للصبر صبرا
يقول: فلما فر الصبر؛ قال هذا الصبور للصبر: اصبر، يعني: ما انتهينا لماذا تفر، وهذا يمدح به الأبطال، حتى يقول أبو تمام في محمد بن حميد الطوسي في المرثية الرائعة التي يقول فيها المعتصم لما سمعها: يا ليتني قتلت وقيلت فيَّ، يقول فيها:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمر فليس لعين لم يفض ماؤها عذر
يقول عن البطل الشهيد رحمه الله:
فأثبت في مستنقع الموت رجله وقال لها من تحت أخمصك الحشر
يقول: أنا لا أفر حتى لو تقوم القيامة والبركان من تحت أرجلهم، يقول:
وما مات حتى مات مضرب سيفه من الضرب واعتلت عليه القنا السمر
تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضر
كما يفعل شباب لا إله إلا الله في أفغانستان، يوم لبسوا لا إله إلا الله فرت الدبابات من طريقهم وتفجرت، حفنة من تراب تفجر دبابة، وشيء من قنبلة صغيرة يفجر معسكر.
تردى ثياب الموت حمراً فما دجا لها الليل إلا وهي من سندس خضر
وهذا استطراد لا بد منه لربط القرآن بالواقع.
قال: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:3] والله يقول: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] يا محمد الطريق طويل اصبر، الأعداء كثر، الجبهات مفتحة من كل جانب اصبر، العبادات كثيرة اصبر، المناهج الأرضية سوف تزاحمك بمناكبها اصبر، الاغتيالات والتدبير والدسائس والدنميت والألغام كثيرة اصبر.
{وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] الآن الذي يستمع القرآن يجد أن الجبهات فتحت عليه صلى الله عليه وسلم من كل جانب، اليهود في صراع معه، والنصارى في صراع، والملاحدة، وكل أمم الأرض، والمجوس، والمؤمنون يسألون، والمرأة تستفتي، وقيام الليل والعبادة والجهاد والدولة الإسلامية والإدراة والاقتصاد، فقال الله له:: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى:43] ويقول سبحانه على لسان لقمان وهو يوصي ابنه: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] لأن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ تأتيه ضربات، يلكم مرة، ومرة يضرب، ومرة يصرع، ومرة يشلح، فهو دائماً مصاب، يقول:
محسد الفضل مكذوب على أثري إن العزيز عزيز أينما كانا
والمؤمن هذه حالته دائماً يتعرض للشائعات المغرضة وللمضايقة قال الله: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17].(362/7)
دروس من سور العصر
سورة العصر فيها دروس:(362/8)
أولها: إعجاز القرآن
وهذه المعجزة معنا إلى اليوم، هذه معجزة قال الله عز وجل عنها قبل خمسة عشر قرناً: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور:34] وقال سبحانه وتعالى: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود:13] وقال سبحانه وتعالى: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ} [البقرة:23] بمثله، أو بعشر، أو بسورة، فلم يأتوا، أولاً بدأ بالقرآن فليأتوا بمثله فما استطاعوا، ثم بعشر سور فما استطاعوا، قال: بسورة فما استطاعوا، والصحيح عند علماء البلاغة أن السورة أصغر سورة في القرآن وهي {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1].
هذه ما أبلغها، يقول: تعالوا بمثلها، أو سورة العصر، ولكن وقف خطباء العرب وفصحاء قريش أفصح أمة ما استطاعوا أن يأتوا بمثل القرآن أو سورة منه.
حتى ذهب عتبة وقيل الوليد بن المغيرة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو كافر، والرسول عليه الصلاة والسلام عند المقام في الحرم يدعو إلى الله، ثم وصل الوليد فجلس عند الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! إن تريد زوجة زوجناك أجمل فتاة في قريش، وإن تريد ملكاً ملكناك، وإن تريد مالاً أعطيناك، لكن اترك هذه الكلمة، اترك لا إله إلا الله.
لأن لا إله إلا الله تقلب رءوسهم، يغمى عليهم من لا إله إلا الله، منهج حياة، أي: يغير كل شيء في الواقع.
يقول عليه الصلاة والسلام: انتهيت يا أبا الوليد، انتهيت من عروضك ومحاضراتك وسفسطاطك وكذباتك، قال: انتهيت، قال: اسمع، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ثم تلا سورة فصلت والوليد يعرف القرآن، فلما بلغ قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت:13] قام يرتجف ووضع يده على فم الرسول عليه الصلاة والسلام قال: أسألك بالله والرحم! أسألك بالله والرحم، أسألك بالله والرحم، ثم قام وهو يرتعد، وذهب إلى قريش ووجهه قد تغير.
لأن القرآن يأخذ بأقطار النفس، القرآن يدخل إلى القلب مباشرة.
وذهب إلى قريش فقالوا: عدت بوجهٍ غير الذي ذهبت به، فأقسم وحلف بآلهتهم إنه لمغدق -أي: القرآن- وإن أعلاه لمورق، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه، ثم أقسم أنه سمع الشعر والكهانة والسحر فما سمع بمثل القرآن.
يقول سبحانه وتعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً} [الفرقان:5 - 6] وقالوا {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} [النحل:103].
انظر الرد، يقولون: الذي يعلم القرآن الذي يعلم الرسول عليه الصلاة والسلام هو خباب بن الأرت، خباب كان مولى أعجمي سبحان الله! كان يحد السيوف، وعنده كير يشتغل عليه، فيأتي صلى الله عليه وسلم إلى الضعفاء، يأتي إلى صاحب الكير -وواجبنا نذهب إلى الغسال والخباز والفران والفلاح والبقال ندعوهم- فجلس صلى الله عليه وسلم مع صاحب الكير يدعوه إلى لا إله إلا الله، قال كفار قريش: تدرون لماذا يذهب إلى خباب الصناع الحداد؟ قالوا: ما ندري! قالوا: يتعلم منه القرآن.
؟
انظر إلى رد القرآن، قال سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] يقول: هذا أعجمي والقرآن عربي وهم لا يستطيعون أن يأتوا بمثل هذا القرآن، وقال سبحانه عن القرآن: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت:42] وقال سبحانه وهو يتحدى به: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْأِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء:88].
بعض الإعجازات في القرآن سمعتها مباشرة من بعض العلماء علماء الجيولوجيا مثل الشيخ زغلول النجار والشيخ الزنداني وأمثالهما، عبارات ما اكتشفت، وما عرفها الصحابة ولا القرون الأولى ولا اكتشفت إلا الآن، مثلاً: قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75] العرب لا تعرف مواقع النجوم، لكن اكتشف في هذا العلم الحاصل أن نجوماً من آلاف السنوات قد انسحقت من أماكنها واحترقت وما بقي إلا مواقعها، فالله لم يقسم بالنجم وإنما بمواقع النجوم، وأن هناك نجوماً قد انطلقت من آلاف السنوات، وما وصلت إلى الأرض الآن وسرعتها سرعة الضوء، ولكن لا زالت تواصل الرحلة ثم ترتطم بعد سنوات في الأرض، قال سبحانه: {فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة:75].
مسألة: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [الحج:5] لو سألت السلف: ما معنى: اهتزت؟ قالوا: الله أعلم، أثبت العلم الآن أنه إذا وضع النبت والحبوب والبذر في الأرض لا يمكن أن تنبت الأرض حتى تحدث الأرض بإذن الله هزة، وتسجل بجهاز (ريختر) هزة يفقس لها الحب هذا وتنبت النبات، قال: اهتزت، وإذا لم تهتز ما تنبت.
أول درس هو إعجاز في القرآن، وهذا من أراد أن يعيش معه، فليتحد به الناس عامة الخطباء والبلغاء والفصحاء والملاحدة والكتبة يتحداهم بالقرآن، لكن والله الإنسان يتعجب مالهم لا يؤمنون {فَمَا لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق:20] لماذا لا يستمعون القرآن ثم يؤمنون؟(362/9)
الأمر الثاني: قضايا في سورة العصر
منها: أن الناس جميعاً في خسر إلا من تأهل بمؤهلات أو تشرف بصفات، وهذه الصفات مذكورة:
منها: أن العمل يدخل مع الإيمان ولا يخرج عنه، بل هو جزء لا يتجزأ منه وركن أساسي في الإيمان، ومنها: أن المؤمن يدخل الجنة برحمة الله وينزل الجنة في منازلها ودرجاتها بالعمل الصالح {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف:72].
فنزلوا في درجاتها بالأعمال، وأما الدخول فبرحمة الله عز وجل.
ومنها: أن الحق أحق أن يتبع وهو ما في الكتاب والسنة، وما سواه باطل.
ومنها: أن على المسلم أن يتقيد بالدليل؛ لأن الحق دليل والدليل حق وهو البرهان الواضح.
ومنها: أنك لن تنال من خير الدنيا ومن خير الآخرة إلا بالصبر وأن الصبر أمره عظيم {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
فالصبر مدرسة، ويتعلم الصبر لمناسبة رمضان فإن الصوم نصف الصبر وهذا شهر الصبر ومن صام فقد صبر، وقد تعلم الصبر وعرف كيف يصبر عن المعاصي، فيا من صبر على الجوع والظمأ! ويا من صبر على الطعام والشراب! ويا من صبر ساعات! اصبر سنوات معدودة عن المعاصي والمخالفات والفجور والانحراف، وسوف ترى أن الله عز وجل يثيبك على ما صبرت، {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24] صحيح أن من الناس اليوم من لا يصوم، يأكل ويشرب الآن ويدخن ويلهو والكأس بيده، ولكن سوف يعلم غداً:
ولو أنا إذا متنا تركنا لكان الموت غاية كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنا ويسأل ربنا عن كل شيء
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] {وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:42] ولمن المصير المحتوم، ولمن النهاية المجيدة من الرديئة.
هذه محاضرة: سورة العصر منهج حياة، يحب أن تتدبر وأن ينظر فيها، وأن تتأمل كثيراً، وأن تقرأ في المجالس؛ علَّ الله أن يجعلها نوراًَ لنا مع القرآن وطريقاً لنا لطاعة الواحد الديان، ومنفذاً لنا إلى الجنان.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(362/10)
في وداع ابن باز
في عام واحد فقدت الأمة ثلة من قادتها وعلمائها، وجدير بهذا العام أن يسمى عام الحزن.
ولقد فجعت الأمة بموت حبرها وعالمها وإمامها الشيخ: عبد العزيز بن باز.
وبعد وفاته انطفأ سراجها، وغاب نجمها، وفقد بدرها، وأفل شمسها.(363/1)
كلمة في رثاء الشيخ ابن باز
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله.
أما بعد:
لقد أصيب كل مسلمٍ بوفاة شيخ الإسلام في هذا العصر، سماحة الشيخ/ أبي عبد الله عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
وابن باز: اسمٌ على رجلٍ؛ كلما ذكر ذكر العلم والفضيلة والنبل واليسر والسماحة.
ابن باز: رمزٌ للسنة النبوية في عصرنا الحاضر، وإمامٌ للوسطية، واتباع الأثر، والعودة بالأمة إلى الوحيين كتاباً وسنة.
ابن باز: حيث الخلق النبوي، والكرم الحاتمي، والحلم الأحنفي، بيته ضيافة للناس.
تصدق بعلمه، فهو معلمٌ مفتٍ خطيب محاضر.
وتصدق بجاهه فتجده شافعاً مصلحاً محبباً عند الجميع، أحبه الحاضر والباد، والكبير والصغير، والرجل والمرأة، والغني والفقير.
وتصدق بخلقه فوسع الكل بعلمه، وأتحف الجميع بتواضعه، ووصل بره إلى أقصى الأرض.
ابن باز: موته ثلمٌ في الإسلام، وفجيعةٌ من أكبر فجائع هذا الزمان، ومصيبةٌ تقصم ظهور الموحدين.
ابن باز: عرفته في مجلس علمه ينثر علينا درر العلم الراسخ، والمعرفة المباركة، والميراث النبوي الشريف، وعرفته في مكتبه يحل المعضلات، ويجيب على التساؤلات، ويسهل المشكلات، وعرفته في بيته يرحب بضيفه، يبذل طعامه، ويبسط وجهه، ويتحف زائره، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون! يقول أبو تمام الشاعر:
كذا فليجل الخطب وليفدح الأمرُ فليس لعينٍ لم يفض ماؤها عذرُ
عليك سلام الله وقفاً فإنني رأيت الكريم الحر ليس له عمرُ
ثوى طاهر الأردان لم تبق بقعةٌ غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبر
لقد تعلمت على سماحته، وتلقنت منه علماً مباركاً -أسأل الله أن ينفعني به وغيري من أمة الإسلام- وقد حضرت جنازته، وكان يوماً من أيام التاريخ الإسلامي المشهود، يذكرك بيوم القيامة، وجنازته فوق الوفد، والبكاء والعويل والتهليل والتكبير، وجنازة سماحته موسمٌ لمن أراد أن يتوب، وأن يراجع نفسه، وأنا أعتبرها أنها من أعظم الجنائز في الإسلام، وكما قال أحمد بن حنبل: بيننا وبين أعداء الإسلام يوم الجنائز.
فأسأل الله أن يجمعنا بسماحته في الفردوس الأعلى: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(363/2)
الرد على من قال: ابن باز عالم سلطة
فضيلة الشيخ بقي لنا تساؤل: هناك من يردد أن الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى كان عالماً من علماء السلطة، ويطلقون عليه لقب العالم الرسمي، فبماذا نرد على هؤلاء؟
الجواب
هذا ليس بصحيح، وهذا كلامٌ فيه تجنٍّ وظلم لسماحته، فالشيخ ابن باز شيخٌ للإسلام، وإمامٌ لـ أهل السنة والجماعة في هذا العصر، والشيخ أراد بعلمه وجه الله، فهو لا تقيده حدود، ولا ينتسب لجهة، إنما هو عالمٌ في الكتاب والسنة، وعلمه لكل المسلمين، وكل من تكلم في سماحة الشيخ إنما أضر نفسه، وبخس حظه، وحمل إثماً يحاسبه الله عليه.(363/3)
الخميني وعقيدته
إن دين الإسلام وأهله يشتكي من دودٍ ينخر في جسده، ويقطع بعض أعضائه، من أبناء جلدته والمنتسبين إليه، ألا وهو النفاق والمنافقين الذين نجم شرهم وعداؤهم من فجر الإسلام إلى يومنا هذا، ومن هؤلاء المنافقين الذين اشتهروا في عصرنا (الخميني) الملحد العدو الفاجر، ولقد ظهرت عداوته للإسلام في خطاباته وكتبه ورسائله واتفاقاته السرية الخادعة.(364/1)
أسباب الكلام عن الخميني وعقيدته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم، ومن يطع الله ورسوله فقد فقاز فوزاً عظيما.
أما بعد:
عباد الله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
{قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} آل عمران:26 - 27] {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء:101 - 103].
نعم جلستنا هذه الليلة عنوانها: الخميني عقيدته وأهدافه، وهذا الموضوع لا بد أن يُتحدث فيه، وحَدَاني إلى التحدث عن هذا الموضوع ثلاثة أسباب:(364/2)
السبب الأول: البيان
إن الله طلب من طلبة العلم والدعاة والعلماء، أن يبينوا للناس -والبيان لفظ عام- ما يحتاجون إليه، فيبينون الأشخاص والذوات والهيئات والفرق والملل والنحل والفتاوى، والمسائل وكل ما دب في الحياة، يقول سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159].
فالسبب الأول: أن أبين لي ولكم هذه الأمور التي تعتمد على النقل، والاستقراء، والعلم إن شاء الله، ولا تعتمد على الهيجان، ولا على العاطفة، ولا على الحماس.(364/3)
السبب الثاني: معرفة الصديق من العدو
د كثر في العالم الإسلامي من يدعي أنه صديق، وهو حرب على الإسلام والمسلمين، وهو خنجر مسموم يقطر دماً وحقداً وحسداً وضغينة ويلف على رأسه عمامة سوداء، وجبة ملففة، ويدعي أنه ولي من أولياء الله، تشفع له مسبحته ودماء الإسلام تتناثر على يديه، وهو مع إسرائيل وشامير ومع كل عميل من عملاء الدنيا.
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
فإني لو تخالفني شمالي ببغض ما وصلت بها يميني
إذاً لقطعتها ولقلت بيني كذلك أجتوي من يجتويني(364/4)
السبب الثالث: تعرية الجاهلية
قال سبحانه وتعالى: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] أي: نخبرك بمعالم التوحيد، ومعالم الرسالة، وأسس العقيدة، لتتبين لك الجاهلية عن كثب، فكان لزاماً على كل داعية، وكل عالم وطالب علم أن يوضح للناس المشارب والمذاهب.
فوجئنا قبل سنوات وإذا العالم الإسلامي مشغول الآذان، مشدوه البصر، قالوا: الجبهة، وانظروا إلى طهران، وإذا الإذاعات، والتلفاز والمجلات والصحف، كلها تستفتح استفتاحياتها الصباحية بـ آية الله الخميني، وفرح كثير من الناس حين رأى العمامة السوداء، واللحية الطويلة والجبة، ورأوا آيات الله تتراسل كثيراً وتجتمع وقالوا: هذا نصر، ولم يكف هذا، بل كان الخطاب الرسمي الذي ألقاه آية الله الخميني بعد الثورة بثلاثة أيام، وزعم أنه سوف يحرر فلسطين، وهو فاتح القدس، وهو الذي يعيد لهذه الأمة كرامتها ومجدها ومنعتها، وقام الحزب الجمهوري الأمريكي في حكومة كارتر، فأيد الحكومة بالخفاء، وأعلن التأييد الكامل على ما سوف يأتي.
أما مراجعي في هذه المحاضرة:
فأولها: منهاج السنة لشيخ الإسلام ابن تيمية، والثاني: الخطوط العريضة لـ محب الدين الخطيب، والثالث: سراب من إيران لـ أحمد الأفغاني الأستاذ العلامة، والرابع: وجاء دور المجوس لـ عبد الله بن محمد الغريب، والخامس: أمل والمخيمات الفلسطينية لـ عبد الله بن محمد الغريب أيضاً، والسادس: الوشيعة لـ موسى الجار الله، والسابع: الخميني وتزييف التاريخ لـ محمد مال الله، والثامن: الخميني وتفضيل الأئمة على الأنبياء لـ محمد مال الله أيضاً، إلى غير ذلك من الرسائل والأشرطة لكثير من العلماء والمفكرين.
أما كتب الخميني التي كتبها بيده، وأملاها ووزعها على الناس، فرأيت منها أربعة، منها ما رأيته بنفسي ككتاب: الحكومة الإسلامية، رأيته في أوكلاهوما في شمال أمريكا، وقرأت منه كثيراً، ونقلت منه بعض المذكرات، ومنها كتاب: تحرير الوسيلة للخميني ألفه في الشباب، ومنها ولاية الفقيه، ومنها الكتاب الرابع: الجهاد الأكبر، هذه المعلومات تنقل من هذه الكتب، بعضها بالصفحة وبعضها يعاد إليها، وبعضها يعاد إلى وجاء دور المجوس، وسراب من إيران، وأمل والمخيمات الفلسطينية.
أما عناصر هذه المحاضرة:
فأولها: مواقف أجداد الخميني القرامطة العبيديون الإسماعيلية النصيرية.
ومراجعي فيها: الكامل لـ ابن الأثير، والبداية والنهاية لـ ابن كثير، وغيرهما من كتب الإسلام، ثم أجداد الخميني ابن العلقمي ونصير الدين الطوسي.
الثاني: الخميني وتعاون أجداده مع الصليبيين ومع اليهود وإسرائيل في العصر الحاضر.
الثالث: الخميني وعقيدته في القرآن، والأنبياء، وعن كربلاء، والنجف، وقم، وعن الصحابة عموماً وعن أبي بكر وعمر خصوصاً رضي الله عنهما، وعن عائشة ومعاوية.
الرابع: موقف الخميني من الخلافة الإسلامية.
الخامس: موقف الخميني من علماء الإسلام.
السادس: موقف الخميني من العرب.
السابع: موقفه من أهل السنة.
الثامن: ما هي مصادر التلقي والثقافة والمعرفة عند الخميني.
التاسع: رأي الخميني في صحيح البخاري.
العاشر: كتب الخميني التي صدرت للناس.
الحادي عشر: رأيه في المتعة.
الثاني عشر: الخميني ووثيقته التي وقع عليها في النجف في لعن الشيخين الفاضلين أبي بكر وعمر.
الثالث عشر: موقف الخميني من القضية الفلسطينية.
الرابع عشر: موقف الخميني من الجهاد الأفغاني.
الخامس عشر: التقية عند الخميني.
السادس عشر: كلامه عن المهدي المنتظر على زعمه وهو مهدي السرداب.
السابع عشر: يرى أن المهدي المنتظر إذا خرج سوف يقتل ثلاثة آلاف في الحرم، وسوف يتولى هو هذه المهمة لأنه الفقيه النائب عن الإمام، خاصة وأن الحزب الجمهوري يؤيدون الخميني في الخفاء، فلماذا أيدوه؟ وفي العلانية يحاربونه.
الثامن عشر: صحيفة البرافد الشيوعية تشيد بـ الخميني.
التاسع عشر: منظمة أمل صنيعة من صنائع الخميني.
العشرون: إسرائيل تعتبر الخميني وثورته نصراً لها.
هذه العناصر التي سوف يكون الحديث عنها إن شاء الله، ونسأل الله الهداية والسداد، وأن يوفقنا إلى القول الحق الذي لا يعتمد على الكذب والبهتان والباطل.(364/5)
نسب الخميني
ينحدر الخميني من أصل مجوسي فارسي، وكذب يوم زعم هو وموسى الصدر اللبناني مؤلف منظمة أمل، أنهما من أهل البيت، فكذبا لعنهما الله، فما أتيا من أهل البيت، وعلى زعم أنهما من أهل بيت الرسول عليه الصلاة والسلام، فلا ينفع لهم ذاك عند الله شيئاً، فـ أبو طالب عم الرسول عليه الصلاة والسلام في النار، وأبو لهب يصلى ناراً ذات لهب وهو عم الرسول عليه الصلاة والسلام، إنما للحقيقة وللحق وعلى ذمة التاريخ أن الخميني موسوي وهو من شعوب إيران، وهو مجوسي فارسي ليس من العرب أصلاً، وهذه ليست قضية خلافية، فولي الله ولو كان عبداً حبشياً حبيبنا وقريبنا، وعدو الله ولو كان زعيماً قرشياً عدونا وبغيضنا، فالولاية عندنا في قرب العبد من الله عز وجل.(364/6)
نسبته إلى القرامطة
د الخميني في كتبه بـ القرامطة، وبأسمائهم وأشخاصهم، ولا يشيد بهم كطائفة، لأن العلماء يعرفون القرامطة، والقرامطة مذهب قديم إلحادي، أسسه عالم من علمائهم اسمه حمدان ابن قرمط، الذي دخل بجيشه الحرم المكي وقت الحج وقتل مقتلة عظيمة، وحفر للأمة قليباً، وورط الأمة الإسلامية في ورطة لا يعلمها إلا الله، وذبحهم كالبدن في الحرم، وأخذ الحجر الأسود، ويوم دخل الحرم على جمله ومعه دبوس ضرب الحجر الأسود وقال: أين قول ربكم {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97]؟ فقال له بعض علماء الإسلام: هذا أمر من الله وليس بإخبار، فضربه بالخنجر وذبحه، ثم قتل الحجيج وأخذ الحجر الأسود وذهب يحمله معه، فحمله على سبعمائة جمل، كلما وضعه على جمل جرب الجمل ومات، فيضعه على الجمل الآخر وبقي معه فترة من الزمن، حتى جاء حكام مصر من المسلمين فقدموا فدية عسى أن يقبلها الله منهم، حتى عاد الحجر الأسود إلى مكانه.
ومنهم أبو سعيد الجنابي، دخل الحرم -كما يقول ابن كثير - وهو على جمله، ويقول:
يخلق الخلق وأفنيهم أنا أنا بالله وبالله أنا
وأخذ يقتل الحجاج، وأخذ أتباعه وأنصاره وأشياعه ينحرون الناس ويذبحونهم؛ حتى ترامى الناس على وجوههم في ماء زمزم، وامتلأت السراديب والمطاف والمسعى من عباد الله الصالحين.(364/7)
نسبة الخميني إلى العبيديين
أما العبيديون فهم من أجداد الخميني، هؤلاء ما وجد في التاريخ ألعن ولا أخسأ ولا أشنع ولا أفجر ولا أظلم منهم أبداً حتى فرعون، فرعون الذي يقول الله فيه: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46].
العبيديون ألعن من فرعون، أتدرون ماذا فعلوا؟ يقول ابن كثير في البداية والنهاية وهو يتحدث عن الحاكم بأمر الله الفاطمي، قال: ودخل جوهر الصقلي القاهرة فبناها، وأسس الأزهر، والصحيح أنه ابتدأ الأزهر، وكان يريد من الأزهر شيئاً ليس الذي يريد منه أهل الإسلام، ثم تولى خلفاؤهم تباعاً وكان جدهم ابن قداح اليهودي، يقول ابن تيمية: ليسوا من أهل البيت، ودولتهم الفاطمية ليست لـ فاطمة رضي الله عنها وأرضاها، وإنما ينتسبون لليهود.
أتدرون ماذا فعل الحاكم بأمر الله هذا؟ كان يأتي يوم الجمعة فينزل إلى السوق، فإذا رآه الناس سجدوا له من دون الله، وكان معه عبيد ينزلهم إلى السوق، فيعملون الفاحشة في بنات الناس على مرأىً ومسمع من العالم، كان يأتي إلى المصحف فيمزقه ويبول عليه أمام الجماهير، كان يدوس الختمات، كان يأتي فيدخل بغاله وحميره وخيوله إلى المسجد فتروث وتبول في المسجد، ويقول: أين ربكم يحميكم؟ كان يأتي يوم الجمعة فيخطب الناس، فيقول: ما علمت لكم من إله غيري، ويقول: أنا ربكم الأعلى، أتاه أبو بكر النابلسي العالم المغربي المحدث الكبير، فدخل عليه فقال له الحاكم بأمر الله: أتؤمن بنا؟ قال: بماذا؟ قال: أنكم عباد الله وأني إله، قال: لا.
كفرت بك، قال: لا أذبحك ذبحاً وإنما أقتلك قتلة ما قتل بها أحد من الناس.
أتدرون ماذا فعل به؟ علقه في مجلسه برجليه، ثم دعا الجزار اليهودي أحد عملائه وقال: اسلخ جلده عن جسمه، فبدأ يسلخ وجهه حتى انتهى وذاك يسبح بحمد لله، فلما وصل اليهودي إلى قلبه؛ رحم اليهودي هذا العالم المسلم، فطعنه في قلبه بالخنجر حتى يقضي عليه، يقول أهل السير: أنه نزل دمه من قلبه وكتب على الجدار (الله) قال الذهبي: ربما يكون هذا كرامة، وربما يكون صادف أن الحروف التصقت فكتبت (الله) على الجدار، ورؤي في ذاك اليوم أن أبا بكر النابلسي كانت الملائكة تظلله وهو ينحر ويسلخ جلده من دون لحمه.(364/8)
نسبته إلى الإسماعيلية والنصيرية
الإسماعيلية من أجداد الخميني وتوارث مذهبهم في عقيدته، وهي فرقة ملحدة ضالة مضلة، باطنية الفكرة، منهم ابن سيناء الذي ينهج نهجهم وغيره كثير: كـ ابن الراوندي، الذي ألف: الدامغ على القرآن، يقول الذهبي: ألف ابن الراوندي كتاب: الدامغ على القرآن ذاك الخبيث المعفر، وقال ابن كثير: ترجم ابن خلكان عن ابن الراوندي فوصفه بالأدب والشعر والبلاغة، ونسي عداءه للإسلام، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ثم قال: نسي ابن خلكان أن الكلب لم يأكل له عجيناً، يعني: ابن الراوندي.
فـ الإسماعيلية تغطى بها الخميني وتدثر، وهو يذكر بعض أسلافها ويمجدهم كما سوف أنقله إن شاء الله من كتبه.
والنصيرية فرقة ملحدة تنتسب إلى محمد بن نصير ترى أن إلهها القمر وأنه علي بن أبي طالب فتسجد له من دون الله، وإذا رأت الغمام دون القمر قالت: احتجب عنا ربنا، ويسجدون له إذا أطل، وهؤلاء يرى ابن تيمية أنهم كفار، وأنهم ساندوا التتار، وأنهم أدخلوا الصليبيين بلاد المسلمين، ويرى أن يقتلوا، وأن يصب السم في آبارهم، وأن يقضى على دورهم، وأن تقطع أشجارهم؛ لأنهم أكفر عنده من اليهود والنصارى.(364/9)
أجداد الخميني وآثارهم ومسيرتهم في التاريخ
من هم أجداد الخميني وآثارهم ومسيرتهم في التاريخ؟
يقول الخميني في ولاية الفقيه: إن علماءنا - يعني أجداده- ما تدخلوا مع السلاطين وما تورطوا معهم إلا دخولاً شكلياً لا حقيقياً، كـ نصير الدين الطوسي، وكـ علي بن يقطين، وكـ ابن أبي الحبيب.
يا عجباً! تباً لك أيها الضال! أهؤلاء علماؤك وقدوتك؟!
نصير الدين الطوسي يقول عنه ابن القيم: عدو الدين الطوسي، وحرب الدين الطوسي، والملحد بالدين الطوسي، نصير الدين الطوسي هذا ملحد بالله كافر، نصب نفسه إماماً من الأئمة، ولما أتى هولاكو لحرب بغداد كان وزيره نصير الدين الطوسي، فماذا فعل؟ قال لـ هولاكو، وهو يستفتيه: هل يجوز أن ندخل بغداد والخليفة المسلم فيها؟ قال: نعم.
يجوز لك ذلك لمصلحة أن تذبح المسلمين، وأن تستولي على نسائهم، وأن تقتل أطفالهم، وأن تدمر بيوتهم.
هذا هو نصير الدين الطوسي الذي يقصده الخميني والذي حفر للأمة قليباً.
ومن أجداد الخميني ابن العلقمي الذي يحمل فكره، ويحمل مبادئه وأصوله.
ابن العلقمي كان وزيراً للخليفة العباسي المستعصم في بغداد وقد كان هذا الخليفة ضعيف الإرادة، كان مسلماً يؤمن بالله واليوم الآخر لكنه ضعيف، فأتى ابن العلقمي فحمل حقداً على علماء الإسلام وعلى عباد الله الصالحين، يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء، ويقول ابن كثير: حفر للأمة قليباً فوقع فيه قريباً، أي: حفرة عميقة فوقع فيها قريباً، أتى ابن العلقمي في الخفاء فكاتب هولاكو وكاتب جنكيز خان، وقال لهما: اقدما إلى بغداد، وهما في جزر في بئرا وفي نواحي ومشارف الصين وأفغانستان وإيران، فاستدعاهم إلى بغداد، وأتى إلى الخليفة كالناصح وقال: أرى أن تعطل الجيش وأن تعطل عنهم المئونة، فأنت لا تحتاج إلى الجيش الكثير، فصدقه الخليفة فأعلن فصل خمسة عشر ألفاً من الجنود، أطلق سراحهم، ثم أتى إلى الثكنات العسكرية فعطلها، ثم أتى إلى الخليفة ففرق بينه وبين الوزراء، ففتت في عضد الأمة الإسلامية، ثم كاتب ذاك وقال: اقدم علينا، فلما قدم ذلك بجيش جرار لا يعلمه إلا الله، استعدت الأمة الإسلامية في بلية، وفي مصيبة ما شهد التاريخ لها نظيراً أبداً.
تغرب كل شمس إلا شمس ذاك اليوم، يوم أتى التتار إلى بلاد الإسلام، يوم أتوا إلى بلاد محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي، يوم أتوا إلى دار الخلافة، يوم أتوا إلى دار الحكمة وإلى أرض هارون والمأمون والمعتصم، وأحمد بن حنبل، وأبي حنيفة، وإسحاق بن راهويه، وأبي تمام، والبحتري والعلماء والأدباء والشعراء، أقبل الحقد والكفر يجتاح الإسلام، ويجتاح لا إله إلا الله.
أتدرون ماذا فعل ابن العلقمي جد الخميني؟
خرج في الليل وصافح جنكيز خان وعانقه، وقال: أبشر بالفتح، وحلف له بالله إن الله ينصرك، وكان في وزارته مع هولاكو نصير الدين الطوسي، وقيل: إنه لم يجتمع جنكيز خان وهولاكو وهو الصحيح، بل كان نصير الدين الطوسي مع هولاكو وكان ابن العلقمي مع جنكيز خان، فلما عانقه أمسى المسلمون ولبسوا الأكفان، واستعدوا لموعود الله، {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
فوقفوا في جنبات نهر دجلة، ووقف التتار في الجنب الآخر، وأتى ابن العلقمي في الليل وأمر جنوده أن يطلقوا النهر، فأطلقوا النهر فغرق كثير من المسلمين ولا حول ولا قوة إلا بالله، وأخذ النهر يدخل البيوت والغرف ويجتاح الآمنين ويدمر النساء والأطفال ويدخل المساجد ويعبث بالمكتبات، وفي الصباح أتى التتار فاقتحموا النهر، ودخلوا يعملون في عباد الله، قتلوا في اليوم الأول ثمانمائة ألف مسلم موحد يشهد أن لا إله إلا الله، ثم أخذ ابن العلقمي يوزع لهم المسلمين ويقدم لهم، وكلما أراد التتري الكافر أن يرحمهم أبى ابن العلقمي حتى يقتلهم، وفي الأخير أخذه الله أخذ عزيز مقتدر.
أما الصليبيون فلما نزلوا في قبرص، وفي عكا، وقريباً من طرابلس، نزل أجداد الخميني وقدموا المؤن، وقدموا الأطباء، وقدموا الخدمات، وقربوا السفن للصليبيين، ولذلك يقول ابن تيمية في منهاج السنة في (1/ 5): هذا وهم يرون أنَّا أكفر من اليهود والنصارى، وأنهم دائماً حرب ضد الإسلام والمسلمين -كلام ما معناه- فلا إله إلا الله كم سلوا سيفاً ضد الإسلام، كلما أتى مجرم وحاكم كانوا معه على دين الله.(364/10)
حزب الليكود يبارك ثورة الخميني
أما إسرائيل فقد بارك حزب الليكود ثورة الخميني، وأرسلوا له برقيات، وفاوض مستشارهم وسفيرهم في فرنسا الخميني قبل أن يقدم في طريقه إلى طهران قبل الثورة، وجلس معه مندوبون، والعجيب أنه كذب على الله ورسوله، وعلى الإسلام والمسلمين، وقال: سوف نحرر فلسطين، وهو في الخفاء يتصل بهم ويعاملهم، وأما في الظاهر والجهرية فيعلن أنه ضدهم وأنه حرب لهم، وأنه سوف يدمر الصهيونية العالمية، ولكنه ما دمر إلا عباد الله، وما كاد إلا لأولياء الله، صواريخه جهزت، سألته صحفية إيطالية: لمن تريد بهذه القوة؟ قال: أريد تدمير إسرائيل، وبين لحظة وأخرى وإذا بقواته تتوجه إلى العراق، ويدمر كثيراً من البيوت الآمنة، والمساجد الآهلة، والأطفال والنساء، فأين إسرائيل؟ وإذا بمستشار إسرائيل وخبراء إسرائيل يفدون إليه في طهران، ويقدمون له الخدمات العسكرية، ويستشيرهم ويستشيرونه.(364/11)
عقيدة الخميني(364/12)
عقيدته في القرآن
يرى الخميني الشرير أن القرآن ناقص وهذا ليس بكذب عليه، ويرى أن القرآن الذي بأيدينا إنه ناقص ولا يوثق به، وابن العسكري له كتاب: رفع الارتياب عن إثبات تحريف كتاب رب الأرباب، وعندهم سورة الولاية قرأتها ورأيتها مصورة، وفيها زيادات باطلة محرفة، ويرون أنها أنزلها الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم، وزادوا في القرآن وغيروا، والخميني لا يحفظ القرآن بل يحفظ بعض آيات منه، وإذا تكلم فإنه يلحن في القرآن يرفع المنصوب، وينصب المرفوع، ويرفع الحال والمجرور كذلك، ولا يحسن نطق القرآن تماماً، يستشهد بالآية فيكمل من آية أخرى، فهو يلحن كأنه ما قرأ، فهو لا يرى قراءة القرآن فليس القرآن موثوقاً لديه.(364/13)
عقيدته في الأنبياء
أما عن الأنبياء فيقول في الحكومة الإسلامية في الصفحة (52) وذكر ذلك في المقدمة: هذا ولأئمتنا منزلة لا يبلغها ملك مقرب ولا نبي مرسل.
يرى أن أئمته خير من الأنبياء والرسل الذين عصمهم الله وزكاهم وتولاهم وجعلهم أشرف البشر وأطهر الناس وخير الناس، فيرى أن الأئمة خير من الأنبياء، بل يرى في رسائله، وقالها في خطبته في عيد اليهود: إن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه يفهم أكثر من الرسل، وأن علمه أعظم من علم الرسل، وأن فضله وشرفه أعظم من فضل وشرف الرسل.
فموقفه من الأنبياء تمييز الأئمة على الأنبياء، وتعظيم الأئمة على منزلة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.(364/14)
عقيدته في كربلاء والنجف ومشهد وقم
وعن كربلاء، يقول: "والحسين مدفون بـ كربلاء "، والصحيح أنه ليس مدفوناً هناك عند أهل العلم وعند أهل التاريخ، يقول في كتابه ولاية الفقيه: فإذا اقترب العبد يعني: من القبر، فعليه أن يستقبل القبر ولا عليه من القبلة ويصلي إليه ركعتين، يعني: قبر الحسين.
ويرى أن قبر علي الرضا في مشهد في إيران، ولذلك كان عباس شاه الحاكم الصفوي الملحد يزور مشهداً ويطوف بـ مشهد ويحج إلى مشهد، ويقول شاعرهم:
طف بالطفوف وحي اليوم مغناها فعند مكة معنى غير معناها
وعباس الصفوي هو الذي حارب الخلافة العثمانية.
وقد كان من أجداده المجوس وقد ذكر أنه كان يطوف على قدميه حافياً على قبر أسرة آل بهلوي، الذي منهم محمد شاه رضا بهلوي ويقول: هنا الحج ليس في مكة.
فـ الخميني يرى أن مشهداً وقم والنجف وكربلاء كلها أفضل من مكة ومن المدينة المنورة.
ويرى أنه لا مانع أن يصلي إلى قبر الحسين، ويقف عنده ويدعو بما استطاع، فـ الحسين يسمعه ويجيب دعوته، والصحيح أن الحسين ليس هناك، وأنه بريء مما لفق الخميني عليه.(364/15)
عقيدته في الصحابة
يرى الخميني أن الصحابة كفرة بالله العظيم إلا ستة، أبو ذر وسلمان وعلي وعمار بن ياسر، والمقداد بن عمرو وصهيب وقيل اسم آخر، لكن خلاصة الأمر أنه يرى أن الستة -واختلفوا في هؤلاء الستة- مسلمون وغيرهم كفرة بالله العظيم، ويقول لما قال الله عز وجل: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] يقول: الفائدة من قول الله عز وجل: (عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) حتى يخرج كفار الصحابة، لأنه كان تحت الشجرة أبو بكر وعمر وعثمان فلو قال الله: لقد رضي الله عن الذين يبايعونك تحت الشجرة، لدخل فيهم أبو بكر وعمر وعثمان لكن الله أخرج المؤمنين وترك الكفار كـ أبي بكر وعمر وعثمان على حد قوله، فقال: لقد رضي الله عن المؤمنين فأخرجهم بكلمة المؤمنين، ولو أطلق -يقولها في تحرير الوسيلة - القول لدخل فيها هؤلاء، ويقول: لما قال الله متحدثاً عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا} [التوبة:40] إنه حزن لأنه ليس مؤمن بالله العظيم، فسلاه الرسول صلى الله عليه وسلم وهو معه في الغار، إلى غير ذلك من الافتراءات، فهو يرى تكفير الصحابة، وأنهم كفروا بالله.
وأما الجبت والطاغوت عند الخميني فهو أبو بكر وعمر، إذا تلا المصحف أو من قرآنه ومرت به كلمة الجبت والطاغوت توقف وقال: الجبت أبو بكر والطاغوت عمر، وفي سراب من إيران صورة موثوقة وهذا الكتاب موجود عندنا في المكتبات، ورأيت الصورة وقد كتب أحمد الأفغاني إلى الخميني في طهران رسالة، فرد عليه بمعتقده وأظهر الإيمان وأبطن الكفر والنفاق، وفيها وثيقة يقرؤها بعد كل صلاة الخميني ومعه من الآيات كثير، كـ الموسوي وآيات الله الكبرى زاده، وأعظمي، كتبوا ووقعوا في أسمائهم ومنهم الخميني وبرسمه الخاص أنه يقول: لعن الله أبا بكر وعمر، كذا قال: إنهما خانا، ثم قال: اللهم اقطع دابرهما واقطع نسلهما ونكل بهما، في دعاء كثير يأتي في صفحة ونصف من المطبوع من الصفحات الوسط، بخطوطهم ثم يوقعون ثم يقرءونه وهم يؤمنون بعده.
أما موقفه من عائشة البريئة المبرأة الصادقة الصديقة من فوق سبع سموات فقد اتهموها بالفاحشة، فبرأها الله، ونقل عنه صاحب الرسائل والمسائل أنهم يقولون: يا ملعونة، نعوذ بالله.
يقول شاعرهم، وقد قرأت هذه القصيدة وهي تقع في سبعمائة بيت وهي للأزري شاعر من شعراء الخميني يقول:
ثلاثون ألفاً تحفظها وآية من كتاب الله تنساها
فمعنى البيت كيف تقولون أيها المسلمون: أنها تحفظ ثلاثين ألف حديث وهي نسيت آية من القرآن، يعني يقصد بذلك في قصة الإفك لما غضبت رضي الله عنها وحزنت، وقال لها صلى الله عليه وسلم كما في صحيح البخاري من حديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وغيرهم والزهري لما قال لها صلى الله عليه وسلم: {يا عائشة! إن كنت بريئة فسوف يبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فتوبي إلى الله واستغفريه} فأرادت أن تقول كما قال يعقوب عليه السلام: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف:18] فنسيت من الغضب اسم يعقوب من الحزن والغم قالت: كما قال أبو يوسف، فقال: وآية من كتاب الله تنساها.
فهم يرون عائشة في هذا المستوى وكذلك يرى الخميني.
وأما معاوية رضي الله عنه.
فيقول الخميني في كتاب: الحكومة الإسلامية وكانت الخلافة منزوعة من أمير المؤمنين يعني: علي في فترة حتى تولاها معاوية فتقرب بها إلى أقربائه، فنال لعنة الله في الدنيا وغضب الله في الآخرة.
يرى أن معاوية ملعون، وأن الله غضب عليه وهو خال المؤمنين وكاتب الوحي وهو إن شاء الله من الذين توفي الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، رضي الله عن معاوية وأرضاه.(364/16)
موقف الخميني من الخلافة
موقف الخميني من الخلافة الراشدة: يرى الخميني أن أبا بكر وعمر وعثمان ليس لهم حق، وأنهم اغتصبوا الخلافة، وأنهم تمردوا على أمر الله، وخانوا رسالة الله، ورسول الله صلى الله عليه وسلم، واغتصبوا الخلافة من علي بن أبي طالب، وأن علياً هو الحاكم في المعنى لكنه في تلك الفترة كان منزوع الصلاحية كما يقول، فيقول: توقف أمير المؤمنين لأنه نزعت منه الصلاحية في فترة حكم هؤلاء حكم الجبت والطاغوت وحكم عثمان، وإلا فإنه الحاكم، يقصد بذلك علياً رضي الله عنه، الذي يقول: [[والله الذي لا إله إلا هو لا يأتيني أحد يعظمني على أبي بكر وعمر إلا جلدته ثمانين جلدة حد المفتري]].
دخل علي على عمر يوم طعن، فقال: [[واحبيباه! السلام عليك ورحمة الله وبركاته يا أمير المؤمنين! والله لطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر وعمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر، وخرجت أنا وأبو بكر وعمر، فأسأل الله أن يحشرك مع صاحبيك]].
علي رضي الله عنه الذي كان يثني الثناء العطر على أبي بكر، وفي مسند أحمد في أول الأحاديث بأسانيد صحيحة يقول علي رضي الله عنه وأرضاه: [[كان الرجل من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إذا حدثني عن الرسول صلى الله عليه وسلم استحلفته، فإذا حلف صدقته، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر -ما استحلف أبا بكر - ثم تلا الحديث الذي فيه كفارة الذنب وهو الركعتين بعد الوضوء]] وهو حديث صحيح صححه العلماء، فيكفي من علي فخراً وشرفاً هذه التزكية لـ أبي بكر رضي الله عنهم جميعاً.
إذاً يرى أن الخلافة التي بعد النبوة أنها خلافة ظالمة فاجرة آثمة وأنها ليست شرعية، وليس لهم صلاحية في تولي الخلافة.(364/17)
موقفه من علماء الإسلام
يرى الخميني في تحرير الوسيلة، وفي كتاب ولاية الفقيه، وفي غيرها من كتبه، أن علماء الإسلام خانوا الرسالة وخانوا الإسلام، وأنهم تقربوا إلى السلاطين، وهذا إثم وفجور، ولا يصح التقرب في نظره إلى السلاطين إلا إذا كان التقرب فيه منفعة، فقلنا له: يا خميني مثل من؟ قال: مثل نصير الدين الطوسي، يوم تقرب من هولاكو في مصلحة ومنفعة، قلنا له: أحلال أن يتقرب نصير الدين الطوسي بذبح المسلمين، وحرام أن يتقرب مالك بن أنس إمام دار الهجرة لـ هارون الرشيد، وأن يتقرب أحمد إلى المعتصم ويوصيه وينصحه، وأن يتقرب الفضيل لـ هارون، وأن يقترب إسحاق بن راهوية وعلماء الإسلام فيناصحونهم ويراسلونهم حرام هذا يا خميني وأما نصير الدين الطوسي فحلال؟! عجيب أمرك! {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] {وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ} [الأنعام:138] {فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة:85].
إذاً علماء الإسلام مجروحو العدالة في نظره، ولا يوثق بكتبهم وهم علماء ضلال كما في خطبه التي ألقاها في طهران وفي قم أكثر من مرة.(364/18)
تمييزه العنصري
الخميني ولو تظاهر فهو متعصب للمجوسية، وهو ينادي بإعادة مجد فارس، وهو ينال من كرامة العرب، ويوم أعلن الثورة كان يقول لبعض الممثلين من بعض الدول: إن الخليج لا أنادي به إلا أن يكون إسلامياً ولا أريد أن يكون عربياً ولا فارسياً، وما هي إلا لحظات، وإذا بـ آية الله منتظري وهو خليفته من بعده، وولي عهده يقول: الخليج فارسي وسوف يبقى فارسياً، ويقول آية الله سرخاوي: لن نتنازل عن فارسية الخليج.
فأين هذا الكلام؟ وأين هذا التعصب؟ وقد كتب في ميثاقه: لا يتولى الحكومة في طهران إلا من كان أصله وجده من إيران وأما غير ذلك فلا يمكن، إلى غير ذلك من النقولات، التي أظهرت للعالم أنه هو أستاذ التمييز العنصري في العالم، فهو الذي شجع إسرائيل وأيدها، وسوف أنقل نقولاته إن شاء الله وآتي ببعض الأخبار التي تبين ماذا فعل مع قضية الفلسطينيين؟ وما هي موقفه من القضية؟ وما هو أسباب هذا الموقف ومنتجات هذا الموقف؟
إذاً فهو يحمل التمييز العنصري، وهو يرى أن فارس خير من العرب، ونحن لا نجادل في هذه القضية، فإن كان على العموم، فهي معروفة وإن كان على الخصوص: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13] ولا ندعو إلى تفضيل جنس على جنس، ولكن ندعو ليكون عباد الله الصالحون إخواناً تحت راية الله: {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103].
إن كيد مطرَّف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
أين أنت يا خميني من سلمان الفارسي الذي يقول عنه صلى الله عليه وسلم فيما يروى عنه في الحديث: {سلمان منا آل البيت}
جلس سلمان في مجلس رضي الله عنه، فافتخر هذا أنه من قيس وهذا من تميم فقال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
وأينما ذكر اسم الله في بلد عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
يقول محمد إقبال:
إن كان لي نغم الهنود وذلهم لكن ذاك الصوت من عدنان
فأي تمييز وأي عنصرية أتت بها العمامة السوداء، التي تحمل الضغينة والبغض والحقد على عباد الله الصالحين.(364/19)
مصادر التلقي عند الخميني
ما هي مراجع الخطابة التي ينقل منها؟ ما هي الكتب التي في حصيلته، وخطبه، ورسائله، وكشوفه، واستقراءاته؟ كتب الخميني أولها: الكافي للكليني، والكليني هذا أستاذ قديم وشيخ للـ خميني، توفي ودفن في قم، ولذلك الخميني يسكن في قم ويقدس قم، ويسبح بحمد قم، لأن الكليني مدفون في قم، فيعتبرها مدينة مقدسة، والكليني هذا أتى بكلام تشيب منه الرءوس، قال في الكافي: بنسخ القرآن، وبالبداء، وبالرجعة، وبسب الصحابة، وبلعن الشيخين وبتكفير السلف الصالح.
فكتابه المصدر الوحيد الكافي، وعليه الشافي شرح للكافي، وهناك أصول للطبرسي، والعسكري وابن المطهر لا طهره الله وغيره كثير، فهذه مصادره.(364/20)
موقفه من صحيح البخاري
إن الخميني يرى أن صحيح البخاري لا يوثق به، اسمع إلى الخميني وهو يقول في ولاية الفقيه -لقد حرصت أن أجد هذا الكتاب مباشرة، لكن نقلت عنه من رسائل محققة منقحة بواسطة كتاب: وجاء دور المجوس - يقول: والبخاري لا يوثق بنقله، ففيه كذب عظيم، وفيه غرائب وعجائب، لا يصدقها إلا مأفون البربر وعجائز السودان أي: لا يصدق أحاديث البخاري إلا مأفون البربر أي: مجانين البربر وعجائز السودان، يقول: فيه غرائب وعجائب وكذب، فنقول لك: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
أتهاجم صحيح البخاري الذي جعله الله من أعظم الكتب في الإسلام؟! البخاري الذي رجاله كالنجوم في السماء في الليالي السود.
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
البخاري الذي كل رجل من رجاله أمة من الأمم {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24].
البخاري الذي عُرِض على الجهابذة والحفظة، فمحصوا وعاشوا وسهروا في ليالي الشتاء ليخرجوا حديثاً واحداً، فرجعت أبصارهم، يرجع {الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك:4].
ترد هذا التاج العظيم الذي قدمه للأمة.
أيها العميل الضال عميل شامير! تهاجم صحيح البخاري الذي جعل الله له القبول، فالمنابر تتحدر بـ صحيح البخاري والإذاعات الإسلامية والصحف، والندوات والحلقات، تقبل الله من البخاري ورحمه الله.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا خميني المجامع
هذا هجومه الساحق على صحيح البخاري، ولذلك صحيح البخاري إذا رؤي عندهم كأنه كتاب شعوذة، وسحر وكهانة، وربما يمزق ويداس بالأقدام، ويقولون: لا عبرة به ولا يوثق به، فيا سبحان الله! لولا أن المجال ضيق والمقام لا يتسع لنقلت لكم نقولات من الكافي بواسطات، وبأسانيد مظلمة، نقولها يضحك منها السفيه، فكيف باللبيب!(364/21)
كتب الخميني ومؤلفاته
صدر للخميني كما أسلفت أربعة كتب، وصدر له رسائل وهو يلقي خطباً، والعجيب أن عيد اليهود الذي أتى به أنوشروان جد الخميني المجوسي الفارسي، عيد النيروز خطب فيه الخميني، وأعلن فيه أن هذه الثورة مقدسة، وأنها للمستضعفين والمحرومين، ولكن فوجئنا به يسحق المحرومين من الفلسطينيين وأمثالهم، وكوّن منظمة أمل، فسحقت مخيمات الفلسطينيين وأبادتهم، وأنزلت بهم شناعة، وفي الأخير أتى الخبراء الذين ذبحوا المستضعفين والمحرومين، وأدخلهم طهران، وأسكنهم في فنادق قم، وأنزلهم وصافحهم، وهنئوه بالثورة، وباركوا له بالنصر، فعلى ماذا النصر؟!
أنصر على عباد الله؟! أنصر على الحرمين؟! أنصر على الكتاب والسنة؟ أنصر على الأولياء؟ أنصر على الرسالة الخالدة والصحابة؟! أم نصر على العمالة والضلالة؟!
وكتاب الحكومة الإسلامية هذا ربما يسميه أحياناً بعض الأوقات ولاية الفقيه أو الحكومة الإسلامية وهو منشور ومتداول في كثير من البلاد، ونقل عنه علماء الإسلام، وولاية الفقيه يتكلم فيه ويأتي بفرعيات ليظهر أنه فقيه، والحقيقة أنه فقيه في المذهب الجعفري، فهو بركة النجف وهو أستاذ الفلسفة، درسها في جامعة طهران، وكان يدرس الناس في النجف بعد صلاة الفجر، وهو ملم بالمذهب الجعفري ويفتي فيه إلى هذا المستوى.
وأما كتاب تحرير الوسيلة فقد تكلم فيه وأما كتاب الجهاد الأكبر أو جهاد النفس فيعلن فيه مفهوم الجهاد في الإسلام.(364/22)
رأي الخميني في المتعة
رأيه في المتعة كرأي أجداده، فيرى أنه يجوز للرجل أن يتمتع بامرأة فيعقد عليها عشرة أيام، أو شهراً أو سنة، فيتمتع فيها ثم يفارقها، وهذا في الإسلام حرام لحديث علي -من رواية علي الذي يتعلق به ويتشبث به الخميني - أن الرسول صلى الله عليه وسلم حرمها آخر العهد، وحديث سلمة بن الأكوع عند مسلم، لكنه عمي عن ذلك.
قد تنكر العين ضوء الشمس من رمد وينكر الفم طعم الماء من سقم
فلم يؤمن بذلك بل كفر بهذا الحديث، وأسس المتعة وقال بها، وأفتى بها.(364/23)
الخميني ووثيقة لعن الشيخين
سلف الحديث عن هذه الوثيقة، وهي مصورة وموجودة، وهو يمكن أن يتنازل عن أكبر القضايا، أما لعن الشيخين فلن يتنازل عن لعن أبي بكر وعمر أبداً، فهو يقول في مجالسه العامة والخاصة، وطولب بعض مقربيه من بعض علماء المسلمين أن يتنازلوا عن هذا، فأبوا، ورفضوا، وطلبوا كل شيء إلا هذا المقال، فهو من وثائقه المحفوظة، ووقع بختمه، وبتوقيعه وإمضائه، وتقرأ بعد كل صلاة عنده هذه الأيام.(364/24)
موقف الخميني من القضية الفلسطينية
وهناك كتاب: أمل والمخيمات الفلسطينية، وكثير من الرسائل والمحاضرات تتحدث عن هذا، يوم أتى وأعلن أنه سوف ينصر الفلسطينيين نصراً مؤزراً وأنه سوف يدخل القدس منتصراً، وأنه سوف يسحق إسرائيل، وسوف يزيلها من على وجه الأرض، ويقول آية الله منتظري: لقد دربت عشرة آلاف لدخول فلسطين أرادت إسرائيل ذلك أم أبت، حينها ارتاح الفلسطينيون لهذا، وصفقوا، وقاموا وقعدوا إلا من رحم الله، وزاروه وأثنوا عليه، وقالوا: هذا هو فجرنا وأملنا، وهذا هو نصرنا إن شاء الله، وما هي إلا أيام وليالٍ، وإذا طائرات الخميني تذهب فتغلط في مسارها، وتحول وجهتها، وإذا صواريخه التي سوف يدكدك بها إسرائيل فيدكدك بها العراق، وغيرها من بلاد الإسلام.
وإذا بجيوشه وبحرسه الثوري، يتحول عن مساره، وإذا القضية الفلسطينية تضيع، وليته وقف، ليته أخذ الحياد وسكت، لكنه عاون إسرائيل، وباركت إسرائيل ثورته، وأخذت صحف إسرائيل تنشر المقالات وصور الخميني في الصفحات الأول بعد الثورة بسنوات، ثم نفاجأ وإذا بـ حزب أمل يزحف على مخيمات الفلسطينيين فيسحقها سحقاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتا، يسحقها لماذا؟ لتنتصر إسرائيل، فأين العهود؟ وأين الانتصارات؟ وأين الزعزعة؟ وأين تلك الجعجعة التي سمعناها؟ ولكن:
فإما أن تكون أخي بصدق فأعرف منك غثي من سميني
وإلا فاطرحني واتخذني عدواً أتقيك وتتقيني
وفي الأخير استقرت الرؤية، وظهر الحق ووضح للناس أنه عميل، وأنه يريد أن يدخل إسرائيل بلاد الإسلام ويتعاون معها، بالفعل تعاون حقيقة لا نقول هذا هيجاناً ولا حماساً ولا عاطفة، ولكن بحقائق وكتب، ونقولات ومنشورات ومحاضرات.(364/25)
موقف الخميني من الجهاد الأفغاني
راد الله عز وجل أن يهيئ فئة من الناس ليثبتوا الجهاد الصحيح الإسلامي، فلما دوخ بالحكم الظالم في كابول، وتولى الحكم الشيوعي هناك، عادت روسيا بقواتها وبعتادها وصواريخها وطائراتها، فسيطرت على بلاد الأفغان، فقام ثلة من عباد الله يشهدون أن لا إله إلا الله، ورفعوا لا إله إلا الله، ونزلت جبال الأفغان تتحدى من السهول وهم يحملون السيوف ويحملون البنادق البسيطة وعلى الخيول وهم يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وبالفعل صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً، لقد أذاقوا روسيا الويلات، حتى يقول ريجان الرئيس الأمريكي وهو يتهزر ويضحك على الروس لأنهم ضحكوا عليه في فيتنام، يقول: لقد دوخ المجاهدون الأفغان روسيا صفعة لم تنساها أبد الدهر، لقد لقنوها صفعة، وبالفعل لقد خجلوا بها بين العالم ولقد ضحكوا على عقول الروس، وانسحبوا، وكان أحدهم يرفع هذه الإشارة، كأنه سلم، وانتصر وذلك في جنيف، عندما وقع بعض الممثلين عن المجاهدين ألا يهاجموا الروس وقت الانسحاب، انظروا الاستسلام! انظروا الاستهزاء والذلة! الاتحاد السوفيتي الذي يعد نفسه من كبريات الدول، بل من الدولتين العظيمتين، يطلب من المجاهدين أن يعطوه عهداً وميثاقاً ألا يضربوه حتى ينسحب، فماذا فعل المجاهدون؟ ما تركوه، بينما تنسحب قواته من قندهار وغيرها إلى الشمال لتزحف؛ أطلقوا عليها مائتين وعشرة صواريخ، ويقول عبد رب الرسول سياف: إننا سوف نلاحقهم حتى في موسكو لننتصر منهم لأن البلاد ليست بلادهم لأنها بلاد الله.
وقال حكمتيار: إلى متى هذه المجازر والمذابح وقد سلم الروس بالانسحاب، قال: نذبح منهم حتى نكافئ العدد الذي ذبحوا منا، ثم نرى هل نرى لهم أحقية في بلادهم أم لا؟ كلام يشبه هذا.
ولذلك هذا الجهاد لما قام، ورأيتم كرامات الله ونصر الله سبحانه وتعالى:
يا أمة النصر والأوراح أثمان في شدة الرعب ما هانوا وما لانوا
هم الرعود ولكن لا خبوت لها خسف ونسف وتدمير وبركان
كم ملحد ماجن ظن الحقوق له زفوا له الموت مراً وهو مجان
وبلشفي أتى كالعير منتخياً رأى المنايا فأضحى وهو جعلان
ردوه كالقرد لو بيعت سلامته بشعبه لشراها وهو جذلان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقت بالكلاشنكوف نيران
يسعى فيعثر في سروال خيبته في أذنه من رصاص الحق خرصان
حينها يوم رفعت الراية، ماذا فعل الخميني؟ ليته وقف موقف الحياد، لكن في أول الجهاد يقول: سوف أدمر الروس سوف أزيح روسيا عن أفغانستان، لتصبح إيران وأفغانستان دولة واحدة، ومضت الأيام، وليته سكت واختفى، لكن نصب جنوده في مشارف الطرقات يردون المجاهدين ويسلبون القوافل، ويرسل الصواريخ على مخيمات المجاهدين ويتعامل مع روسيا، ويمد أنابيب الغاز في شركة إيرانية روسية، ليسعف الروس أعداء الله عز وجل بالغاز، فإذا هو العميل والعدو والضال والذي نصب العداء لعباد الله عز وجل، خمسة آلاف خبير روسي الآن يعملون عند الخميني في تشغيل كثير من قواته وعتاده، لكنه نقول له مت بغيضك.
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً أبشر بطول سلامة يا مربع
رسالة الله سوف يبقيها، والمجاهدون سوف ينتصرون، وبلاد الله سوف ترتفع، والحرمان سوف يبقيان عتيقان عتيدان قويان طاهران، والقرآن سوف يبقى رسالة خالدة يشق طريقه، وسوف يقيم دعائمه في مشارق الأرض.
كل سماء في السماء لنا وكل أرض في الأرض لنا.
هذا موقفه من الجهاد الأفغاني، موقف متخاذل، موقف عدائي، موقف يطعن في ظهور المجاهدين من الوراء ومن الخلف، ولذلك أعلن زعماء المجاهدين الأفغان أنه قد أضر بهم إضراراً بيناً، وقد أساء بجهادهم وأساء بقتالهم أيما إساءة فعليه من الله ما يستحقه.(364/26)
التقية عند الخميني
التقية أن تجعل بينك وبين الشيء وقاية، وهم يرون هذا مذهباً ويرونه عقيدة، ويرى الخميني في كتبه، أن جعفر الصادق يقول: التقية ديني ودين آبائي، فمن لا يستخدمها فليس مني، أو كما قال، فـ الخميني يكذب وفي الظاهر يرى أن هذا ديناً، تجلس مع الخميني ومع أعوانه، فيقرون لك بأنك صادق وأنك صائب في كلامك، وما قلته صحيح ولكنهم يبطنون غير ما يظهرون، ولذلك ذكر ابن تيمية في منهاج السنة، من الصفحة الخامسة في المجلد الأول وما بعدها: أنهم من أجهل الناس بالمنقولات، ومن أضلهم في المعقولات، واستخدامهم للتقية كاليهود يوم يظهرون أنهم أسلموا وآمنوا ولكن في الخفاء أبطنوا النفاق.(364/27)
كلام الخميني عن الإمام المهدي المنتظر
يرى الخميني أن الإمام الثاني عشر من أئمة أجداده دخل السرداب، وسوف يخرج ولكنه ما خرج إلى الآن، وإذا خرج فسوف يقتل ثلاثة آلاف مسلم من الظلمة على اعتقاده، سوف يقتلهم بالحرم، وسوف يطهره الله من الظلمة، وسوف ينصر المستضعفين والمحرومين، وإذا لم يخرج فللفقيه أو الولي أن يقوم بهذا، يعني نفسه هو، فهو يرى أنه في مقام ينوب عن المهدي ذاك ويقوم مقامه.
وفي كتاب الخميني والقول بعصمة الأنبياء، يقول الخميني من بعد الصفحة العاشرة: إن المهدي المنتظر سوف يحقق نصراً باهراً ما حققه الأنبياء والمرسلون، أي أن هذا المهدي المنتظر في السرداب سوف يحقق نصراً وسوف يحقق توفيقاً ما حققه الأنبياء والمرسلون.(364/28)
الحزب الجمهوري الأمريكي يؤيد الخميني
ثم نأتي إلى المقالات والمنشورات والاستقراءات وما قيل عنه وما ذكروا عنه، العجيب أنه استخدم التقية والكذب على الناس والتهريج، لما ظهر للناس قال: سوف أنهي أمريكا من على وجه الدنيا، وسوف أدمرها، وعلم بالاستقراء من صحف الجارديان البريطانية أن كارتر والحزب الجمهوري أيد ثورة الخميني، ولذلك اغتبط كثير من الجمهوريين ووصل بعضهم إلى طهران، وطلبوا من الجيش أن يأخذ موقف الحياد وألا يتدخل مع آل بهلوي ومع الخميني ليأخذ الخميني الفرصة وبالفعل أوقفوا قائد الجيش الإيراني فما تدخل، فبارك الأمريكان هذه الثورة وقد تعامل معهم وتفاوض معهم، وقال منتظري: لا بأس أن نقيم علاقات ودية وطيبة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنهم إذا خطبوا يوم الجمعة يقول آية الله منتظري: سوف ننهي دابر أمريكا من على الأرض، سوف نحاربها حرباً شعواء، سوف نقاتلها قتالاً عظيماً ما شهد التاريخ له مثيلاً.
ولكنهم يباركون له ويبارك لهم، فما هذا الكذب، وما هذا التمويه، وما هذا التزييف؟! وإذا أردتم فاقرءوا المنشورات التي قيلت في الصحف والمجلات، خاصة الغربية، التي تناقلت خبر الثورة في أمريكا وفي غيرها، والتي حضر المحررون هذه الأخبار وقدموها للناس.(364/29)
صحيفة البرافدا الشيوعية تشيد بالخميني
الصحيفة الناطقة باسم الحزب الشيوعي هي البرافدا وهي تصدر في موسكو، وهي ما تقول إلا ما يقوله الشيوعيون والحزب، وأول ما ظهر الخميني قالت: هذا رجل دين متخلف متعصب، سوف يسير بـ إيران إلى الهاوية، وما هي إلا أيام وليالٍ وإذا هو يرسل في الخفاء وفي جنح الليل المراسلات وتحسين العلاقات مع الحزب الشيوعي، وإذا هي في الصباح تخرج عنواناً بارزاً مع صورة الخميني وتقول: لقد انتصر الخميني وثورته ليقود إيران إلى بر السلام والازدهار والأمن.
انظر إلى الموقفين والمقالتين! وانظر كيف ينزل هذا الرجل نفسه في تلك المنزلتين! فهو إذاً تعامل مع الشيوعيين على الأفغان، وتعامل مع إسرائيل ومع أمريكا على الفلسطينيين والمسلمين عامة، وإذاً خطب يوم الجمعة إنما هي شيء يناقضه في الخفاء، ويظهر للناس الولاء ولكنه يحمل العداء.(364/30)
منظمة أمل صنيعة من صنائع الخميني
موسى الصدر متزوج من قريبة الخميني، والحسين حفيد الخميني ابن ابنه متزوج من قريبة موسى الصدر الذي اختفى ولم يعد، وربما يكون هو المهدي المنتظر ربما يخرج لهم من السرداب!! فأسس هذه المنظمة، قيل له لماذا أسستها؟ قال: لتنهي وجود إسرائيل ولتفتح القدس، وفوجئنا وإذا هي تتمركز في الجنوب وإذا بأفراد جيشها يأتون من إسرائيل، وإذا هي تنصب وتمد شريطاً لتحمي إسرائيل من هجمات المسلمين من الفلسطينيين وغيرهم، وما تذهب الأيام وإذا بها تطوق المخيمات وتنزل بالصواريخ والقذائف وتضرب بالرشاشات على الآمنين والأطفال والنساء، أليست هذه المنظمة من صنائع الخميني؟(364/31)
إسرائيل تعتبر الخميني وثورته نصراً لها
إن إسرائيل في الظاهر تسب الخميني وهو يطلب منها هذا، يطلب منها ومن إذاعة وصحف إسرائيل أن تسبه وأن تشهر به، فتظهر له أنه طاغوت وأنه عدو لها، وهو يسبها في الإذاعة وفي الصحف ويوم الجمعة وفي خطبه وندواته، ولكن في الخفاء يجلس مع الخبراء ويعاهدهم ويواثقهم على إزاحة الظلم عنهم، وهو يعتبرهم مظلومين؛ لأنهم استولوا على عباد الله وقتلوا أولياء الله وأخذوا بلاد الله فيفعل معهم ذلك.
ولذلك خبراء إسرائيل خمسمائة سفير الآن وصلوا إلى أماكن الطاقة من إسرائيل، وحزب الليكود دائماً يصوت لصالح الخميني، وهو يتصل بهم عن طريق الهاتف مباشرة، بالتلفون يكلم الوزراء ويكلمونه، والأمر عادي جداً، وهم يتعاونون معه لسحق عباد الله عز وجل ولحرب أولياء الله، فيعتبرون أنه قد انتصر أو أنه نصر مؤزر لهم، وهذا حقيقة أثبتها الاستقراء والنقولات والتاريخ.
يا خميني الردى يكفي ملاما قد ملأت الكون رجساً وحراما
أنت قسيس من الرهبان ما أنت من أحمد أكثرت الخصاما
اتخذ السبحة مترين وخذ عمة سوداء واصبغها رخاما
صرت حرباً لبني إسلامنا ولإسرائيل برداً وسلاما
عباد الله: هذه مقالة وإن شئتم سموها جلسة، تظهر شيئاً من الواقع، وأما المذاهب والطوائف والمشارب، فما كان للحديث مجال هنا لضيق الوقت أن نتحدث وسوف تكشف للمطلع والمستقرئ ولمن أراد الحق، ولكن أردت أن أتكلم عن هذا الرجل؛ لأنه كثر فيه القيل والقال، وبعضهم يكفره بأمور فرعية ربما لا تكفره لو كانت هي فقط، وربما بعض الناس ينقل عنه نقولاً ما ثبتت، لكن توخيت والله العالم سبحانه وتعالى أن ننقل من كتبه، ومن مراجع أهل العلم، ونستقي ما قال، وأن أحرص أن أنقل شبه الكلام، أو حول الكلام، ليكون هذا ظاهراً للعيان وليكون واضحاً.
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراطك المستقيم.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(364/32)
رجال من الجنة
إن الله سبحانه وتعالى نظر إلى قلوب عباده فلم يجد أبر ولا أزكى ولا أطهر من قلوب الصحابة.
فاختارهم لصحبة نبيه، وحملة لدينه، وشعاعاً يضيء لهذه الأمة فنصروا الدين، وقاتلوا مع نبيه وقتلوا، ولا ينصر الدين في أيامنا هذه إلا بأمثالهم:
أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع(365/1)
التجارة الرابحة
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الناس! متى كانت أمة محمد عليه الصلاة والسلام ضائعة؟! ومتى كانت لاهية؟! ومتى كانت اهتماماتها هوايات؟! ومتى كان ليلها ضياعاً ونهارها تفلتاً عن منهج الله؟! متى كنا نجعل الفن هواية؟! ونجعل الكرة مهمة؟! ونجعل الرسم مبدأ؟!
متى كان سقطة الناس نجوماً ونجومها مطاردين مبعدين؟!
كان ذلك يوم انطمست معالم {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
أيها المؤمنون يا دولة الحق ويا عصبة الرسول محمد
بثكم ربكم شعاعاً من الفجر على رغم من طغى وتمرد
فاسمعوا قصة الوفاء بـ بدر صاغها من يريد إياك نعبد
جنة الله بشرت بكرام يقرع الباب بالتحية أحمد
يا معالم! يا فجر! يا تاريخ! ويا كل مسلم وموحد!
يا ولاة أمورنا إذا الكفر ألقى بتلابيبه وأرغى وأزبد
اقرءوا سيرة الرسول كنوز كل أنفاسه ودر وعسجد
عنوان هذه الخطبة: رجال من الجنة.
كان أجدادنا رجالاً يحبون الجنة فدخلوا الجنة، فلما خلف مَنْ بعدَهم تنكروا للجنة، فما أحبوا طريقها: {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [صّ:16] فما باعوا أنفسهم لله وما شروا منه السلعة، وما قدموا أرواحهم.
خلق الله الجنة فقال: تكلمي، فقالت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] وخلق لها خلقاً، قال: أريد أن تدخلوا الجنة، قالوا: ما الثمن؟ قال: أرواحكم، قالوا: أين رجال البيع وسوق الشراء؟ قال: المعركة، قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل، فأنزل الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] وأنزل الله: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23] وأنزل الله: {فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَاباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} [آل عمران:195].
المبادئ لا تقوم إلا على الرجال، والمبادئ لا تزرع إلا في الدماء، ولذلك كان معلمنا عليه الصلاة والسلام شجاعاً بما تعنيه كلمة الشجاعة من معنى، وجاء أصحابه شجعاناً، أبو بكر صديق، وعمر قتيل، وعثمان ذبيح، وعلي يضرج بدمائه، قتل من أصحابه صلى الله عليه وسلم (80%).(365/2)
الحديث عن معركة أحد
يقول عليه الصلاة والسلام قبل معركة أحد بيوم واحد على المنبر: {والذي نفسي بيده ما من قتيل يقتل في سبيل الله؛ إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم قتل في الدنيا، اللون لون الدم، والريح ريح المسك}.
وفي حديث آخر: {إن الله يقول للشهداء يوم القيامة: من قتلكم؟ قالوا: أعداؤك، قال: فيم قتلتم؟ قالوا: فيك، قال: غفرت لكم}.
اليوم أريد أن أطوف معكم بيوم أحد تطوافةً تحيي القلب، لنرى كيف كان أجدادنا وكيف أصبحنا! ماذا قدمنا للإسلام؟ أين شهداؤنا؟
وأين بطولاتنا؟
وأين أثرنا في نشر هذا الدين؟
أين الدماء؟
وأين الأموال؟
وأين السهر؟
وأين الفداء؟
وأين التضحية؟
لا شيء!!(365/3)
استشارة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة في موقع المعركة
وقف عليه الصلاة والسلام على منبره قبل أن تبدأ معركة أحد بيوم، فاستثار الناس، وأعلن القتال على أبي سفيان وعلى المشركين، وأخبر بما فعل المشركون من اعتداءاتهم المتكررة على المدينة، ثم استشار أصحابه فقال: {ما ترون أيها الناس؟ أنقاتلهم في الطرقات، أم نخرج إليهم إلى جبل أحد؟ فأما كبار الناس فقالوا: يا رسول الله! بل نبقى مكاننا في طرقاتنا، وفي بيوتنا، وفي منازلنا، فإذا دخلوا علينا قاتلناهم، فوافقهم}.
ولما انتهى الكلام خرج مجموعة من أصحابه وشبابه، ثمانون شاباً، فلبسوا السيوف وأخذوا الخوذ على الرءوس، وأتوا يرتجزون خارج المسجد بصوت مرتفع:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
ثم هتف شاب منهم في العشرين من عمره، فقال: {يا رسول الله! اخرج بنا إلى أحد، لا تحرمنا دخول الجنة، والله إني أريد أن أدخل الجنة} ووقف عليه الصلاة والسلام على المنبر يسمع القول الحار، ويسمع النشيد الخالص، فتهتز كل شعرة من جسمه، وتثور كل قطرة من دمائه، ويعلم أن الجنة قد فتحت أبوابها، وأن الله قد تجلى لعباده، فيقول لهذا البطل الشاب: {وبم تدخل الجنة؟} أين شبابنا في العشرين؟ وما دورهم وهمهم؟
جمع الطوابع، واستماع الأغنيات، وهوايات المراسلة، وتشجيع النوادي، والسهرات في المقاهي، والسفر إلى الخارج، والتزلج على الثلج، وتربية الحمام، وصيد الصقور في الصحراء وفي الفصول الربيعية، هؤلاء شبابنا!!
قال: {وبم تدخل الجنة؟} قال: {باثنتين؟ بأني أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف، فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام دمعاً سخياً ساخناً، ورفع يديه وقال: إن تصدق الله يصدقك} {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(365/4)
خروج النبي وأصحابه إلى أحد
وخرج عليه الصلاة والسلام إلى المعركة، وبدأت معركة أحد، وقبل المعركة بساعة سل عليه الصلاة والسلام سيفه، وقال: {من يأخذ هذا السيف؟ قال الناس: نحن جميعاً نأخذه، قال: من يأخذه بحقه؟ قال أبو دجانة: وما حقه يا رسول الله؟ قال: حقه أن تضرب به في الكفار حتى ينحني}.
هل سمعتم بسيف ينحني من الضرب؟ نعم بكف أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام.
فأخذه فقام وهو يرتجز:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
فضرب به حتى انحنى، ورده منحنياً إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وظهرت البطولات، وفتحت أبواب الجنة، وشاركت الملائكة، ودفعت أبواب السماء بكتائب يقودها جبريل، ونزل على جبل أحد، وأصبحت القيادة المشتركة بين جبريل ومحمد عليه الصلاة والسلام، بل قال أهل العلم: القائد الأعلى محمد عليه الصلاة والسلام، وبدأ أصحابه عليه الصلاة والسلام يقدمون تضحيات ما سمع التاريخ بمثلها، لا والله لا في التاريخ النصراني، ولا اليهودي، ولا الشيوعي، ولا قبل التاريخ ولا بعد التاريخ، ولا في الجاهلية، ولا في الإسلام أن سمعنا برجل قدم شجاعة كشجاعتهم ذلك اليوم، لأنها إما حياة وإما موت، إما أن يزال الدين من على وجه الأرض، أو أن ينتصر الحق.(365/5)
نماذج من شباب الجنة
وسوف أعرض نماذج من شباب الله الذين دخلوا جنة عرضها السماوات والأرض.
وقف عبد الله بن جحش لما رأى السيوف تطيح بالرءوس والرماح تلعب بالأكتاف قال: يا رب! أسألك هذا اليوم، أن تلاقي بيني وبين عدو لك شديد حرجه، قوي بأسه، كافر بك، فيقتلني، ثم يبقر بطني ويجدع أنفي، ويفقأ عيني ويقطع أذني، فألقاك يا رب بهذه الصورة فإذا قلت لي يوم القيامة: لم فعل بك هذا؟ فأقول: فيك يا رب!
وقاتلت معنا الأملاك في أحد تحت العتادة ما حادوا وما انكشفوا
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرف
واندفع مصعب بن عمير بالعلم، وحمل الراية، واستبسل استبسالاً ما سمع الدهر بمثله، فضرب ثمانين ضربة وقطع بجانب العلم.
ثم اندفع قتادة بن النعمان وواصل المسيرة فضربه كافر فأسقط عينه اليمنى حتى أصبحت معلقة على خده بعرق واحد، فأتى إلى القائد العظيم عليه الصلاة والسلام وهو في الصف الأول مثخن بالجراح، فقال: يا رسول الله! عيني، قال: ادن مني، فدنا منه فرد عينه بيده، وقال: باسم الله، فعادت أجمل من الأخرى وأحدّ.
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فصارت على حسن أول حالها فياحسنما عين ويا حسنما خد
وتقدم سعد بن الربيع فقاتل فقتل، فاندفع دمه يقذف قذفاً على الأرض، فقال عليه الصلاة والسلام: {أين سعد بن الربيع؟ قالوا: لا ندري يا رسول الله! قال: يا زيد بن ثابت اذهب والتمس سعد بن الربيع، قال زيد: فأتيت فإذا هو في حفرة ودمه قد غطاه في الحفرة، وأصبح في الرمق الأخير -مودعاً الدنيا مستقبلاً الآخرة، وهو يطل على حياة جديدة، على قصور وأنهار وأزهار، وعلى مكالمة الله- قال: كيف تجدك يا سعد بن الربيع؟ قال: أبلغ رسول الله السلام، وقل له جزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته، نشهد أنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم تبسم ومات}.
ثم تقدم أنس بن النضر ففتك فتكاً عجيباً في الصفوف، فلما ضرب سال دمه وقال: إليك عني يا سعد! والذي نفسي بيده إني لأجد ريح الجنة من دون أحد، وصار الصوت في المدينة، وارتفع صياح النساء، وأصبحت الغارة تشن من قرب عاصمته عليه الصلاة والسلام، والملائكة والسماء والأرض مشتبكة بين الكفر والإيمان، إما سعادة ونصر، وإما سحق وإبادة، فثار حنظلة شاب من المدينة لما سمع الصوت وهو جنب، فاخترط سيفه من الغمد، فذهب فقاتل فقتل في سبيل الله، فرفعته الملائكة في السماء، والرسول عليه الصلاة والسلام يشاهد جثمانه وتنهل دموعه على عينيه ويقول: {والذي نفسي بيده، إني أرى حنظلة تغسله الملائكة بين السماء والأرض في صحاف الذهب بماء المزن} سلوه فيم قتل؟ قالوا: في الله، وقال: ولم تغسله الملائكة؟ قال أهله: مات جنباً.
وتقدم حمزة رضي الله عنه فقتل سبعة من القادة ثم أثخن بالجراح، ورمي بحربة فلقي الله، فوقف عليه الصلاة والسلام على حمزة، وعلى الشهداء، وقال لـ حمزة وقد رآه مقطعاً أمامه: {والذي نفسي بيده لا أقف موقفاً أغيظ لي من هذا الموقف، والذي نفسي بيده لئن ظفرت عليهم لأمثلن منهم بسبعين، ثم قال: أنتم شهداء، والله شهيد، وأنا على ذلك شهيد} وهو شهيد عليه الصلاة والسلام أنهم شهداء.
ثم أتى عبد الله بن عمرو الأنصاري فقاتل حتى قتل وقطع إرباً إرباً، فبكى ابنه، فقال عليه الصلاة والسلام: {ابك أولا تبك، والذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، فقال: تمن، قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: إني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً} وارتفعت أرواح الشهداء، وقتل سبعون، وسال دمه عليه الصلاة والسلام من جبينه، ودخل المغفر في رأسه، وانكسرت رباعيته، وأثخن بالجراح حتى سقط على الأرض.
فأتى والد أبي سعيد قال: {يا رسول الله! أسألك بالله أن تأذن لي أن أمص دمك -وهو الدم الذي يسيل من الجرح- فتقدم فمص الدم، فقال عليه الصلاة والسلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا}.
ولما انتهت المعركة، وقف عليه الصلاة والسلام ودمه يغلي على حمزة وعلى إخوانه من الشهداء، متأثراً مجروحاً، لكي يعلم أن مبدأه سوف ينتصر وسوف يبقى والعاقبة للمتقين، قال: {صفوا ورائي لأثني على ربي} قال بعض الفضلاء: الله أكبر تثني على ربك وأنت جريح؟!
تثني على ربك وأنت مصاب؟!
تثني على ربك وقد قتل أصحابك؟ نعم.
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
هذه بطولات أهل الجنة، وهم سلفكم الصالح، وهم والله الذين نصروا هذا الدين، ورفعوه في معالم الدنيا، ونشروه في بقاع الأرض، ولم يقدموا عليه مالاً ولا أهلاً ولا ولداً.
عباد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد بهم هبوا إلى الموت يستجدون رؤياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدون لنا مجداً أضعناه
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم.(365/6)
نص حديث: (إذا تبايعتم بالعينة) وشرحه
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين وقدوة الناس أجمعين وعلى آله وصبحه أجمعين.
أيها الناس! إن القائد المعصوم، والمضحي الأول، والفدائي الأول، والمعطي الأول عليه الصلاة والسلام يقول في الخلف؛ الذين خلفوا السلف، الذين انحصر الإسلام على رءوسهم، الذين سلموا الأرض لقمة سائغة للأعداء، الذين تركوا بيت المقدس في كف اليهود، الذين سلبت منهم الأندلس وأفغانستان وبلاد كثيرة، يقول لهم: {إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم} رواه أحمد وصححه بعض العلماء.
فما معنى هذا الكلام؟(365/7)
تبايع بعض الناس بالعينة
لقد تبايع الناس بالعينة إلا القليل، وسقطوا في البيع المحرم، بل أدهى من ذلك وأمر، فقد أكلوا الربا، وشربوا الربا، ولبسوا الربا، وبنوا بيوتهم من الربا، فكيف ترجو من رجل مرابٍ أن ينصر دين الله؟ رجل أعلن الحرب على الله، أينصر دينه؟! أيكون من أوليائه؟!
الله يحرم عليه الربا ويلعن المرابي، ويعلم أن الربا حرام، ويجمع أهل العلم على تحريم الربا، ثم يصطك متناسياً لاهياً ويرابي.(365/8)
ترك الجهاد
{وتركتم الجهاد} تُرِكَ الجهاد منذ عهد بعيد، فلم يجاهد شعب لله، ولم تجاهد أمة، ولم يرتفع علم الجهاد، ولم تسر الأمة مساراً صحيحاً في الجهاد، أمة أترفت وميعت، فأصبحت أمة زائفة راسبة، كأنها لم تكن يوماً من الدهر أمة الشهداء، أمة حمزة ومصعب بن عمير وخالد بن الوليد، وسعد بن أبي وقاص، تركت الأمة الجهاد تماماً، وأصبح الجهاد عندها مستنكراً، بل يسمونه في الوسائل الغربية همجية وبربرية، أما إسفاف الكفر، وأما سحق الشعوب، أما قتل شعب مسلم في فلسطين فعدل، وأما قتل مليونين من أفغانستان فعدل، أما إذا قام المسلمون برفع لا إله إلا الله فهمجية وبربرية، وتردد وسائل الإعلام الناقصة المتخلفة المفترية هذه الكلمات، وأصبحت توجه السهام لدعاة الإسلام وتسميهم بأبشع الألقاب: الأصوليين، الفوضويين، الفضوليين.
عجيب أمركم! من هو الأصولي والفوضوي؟! من هو الذي طرح خده للمستعمر؟! من الذي أصبح وسيلة وأداة في كف أعداء الله عز وجل؟! أقوم يريدون أن تعود لنا المكرمات والأمجاد، أم قوم سلخوا من مبادئهم وأعرافهم وتقاليدهم الإسلامية؟(365/9)
الرضا بالزرع
{ورضيتم بالزرع} أمة مزارعة، والزرع ليس بحرام؛ لكن إذا أصبحت البطون مقدمة على {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وأصبح الحرث والزراعة مقدمة على مسألة العبودية لله، وعلى نصر الدين في أقطار الأرض، وعلى تشجيع العلماء والدعاة، وعلى بث الوعي في الأمة، وعلى تعليم الناشئة، وعلى تربية الأطفال تربية مستقيمة، فالأمة لم تبعث مزارعة، والزراعة نتركها لغيرنا إذا أردنا أن ننصر دين الله، ولا تمنعنا الزراعة من نصر دين الله، فلنكن مزارعين؛ لكن ومجاهدين قبل ذلك، ولا يفهم من الكلام أن من زرع أو حصد أو استثمر أو عمل أو تاجر فقد ارتكب أمراً محرماً، فالله يأمر بذلك، لكن لماذا لا نقدم الدين أولاً؟! ولماذا لا نضحي لـ (لا إله إلا الله) أولاً؟! إذا أشغلتنا المزارع عن مبادئنا فلا حياها الله ولا بياها، وقد هدد الله وتوعد أن من رضي بالحياة الدنيا واطمئن بها أن يصليه نار جهنم.
{ورضيتم بالزرع} فما أصبحنا نفتخر أمام العالم إلا بالمزارع والحدائق، وكنا نفتخر أمام العالم بأنا أهل العدل والإنصاف، وأهل الإسلام والإيمان والتوحيد، والشهداء الذين أزالوا الرِق من العالم، وأصبحنا الآن نخبر الناس أننا مزارعون من الدرجة الأولى، وحراس، وتجار، وصناع.(365/10)
الاهتمام بالمواشي والأنعام
{وأخذتم أذناب البقر} أسلوبه عليه الصلاة والسلام لاذع لأولئك الذين تركوا دين الله، وأصبحت مواشيهم ودواجنهم في بيوتهم أعظم عندهم من نصرة الدين، وقد وجد هذا، فوالله إن في الأمة من يغضب لبقره أكثر من غضبه لمبادئه الإسلامية.
الدين ينتهك، والمنكرات والفواحش تنتشر، وتعطيل كثير من أمور الإسلام، ومع ذلك لا غضب، أما إذا مست وظيفة العبد، أو منصبه، أو شيء من مصالحه، أو بيته أو أرضه، أقام الدنيا وأقعدها.
فمن هو المسئول عن الدين إلا أنتم؟ ومن يبلغ هذا الدين إلا أنتم؟ ومن يحمل مبادئه في الناس إلا أنتم؟
{وأخذتم أذناب البقر} وقس على البقر أمثالها وأمثالها من الدواجن، والحمام، والغنم، والصقور، وفن الهوايات التي تعلق بها السفهاء ولو كانوا كباراً في السن، فأصبح الواحد منهم كبيراً في جسمه، طفلاً في عقله، يلعب بالصقر، ويتفرج الصباح والمساء على دواجنه ومزارعه، ودين الله لم يقدم له كلمة، ولم يقدم له درهماً ولا ديناراً، ولم يكن عوناً لنشره في الأرض، ماذا أريد أن أقول بعد هذه المقدمة؟
أقول: نحن في موطن صيفي، وهذه المنطقة كغيرها من مناطق البلاد الإسلامية تحتاج إلى دعوة، وتحتاج إلى رواد محمد عليه الصلاة والسلام، وإلى حملة قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، أن ينشروا الدعوة في القرى والبوادي والمدن، وأن يكونوا دعاة فضيلة، يقول عليه الصلاة والسلام: {بلغوا عني ولو آية} ويقول: {نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع} أين آلاف الخريجين من الجامعات؟ وأين آلاف الطلاب من الثانويات؟ وأين القضاة؟ أينتشر السحر والكهانة والشعوذة والشرك في المناطق والقرى والبوادي؟
أيخيم الجهل على كثير من الناس حتى لا يعرف الإنسان أنه يؤدي صلاته أداء إسلامياً؟
فأين أولئك؟ ألن يسألهم ربهم؟ ألن يسألهم معلمهم وشيخهم صلى الله عليه وسلم؟
فيا دعاة الإسلام! ويا حملة المبادئ! لا نريد منا أن نكون كمن قدموا أرواحهم في أحد.
فلا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
لكن نريد أن نقدم شيئاً للدين؛ بنشر الكتاب الإسلامي، والكلمة الطيبة، والشريط الإسلامي، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وإصلاح الناس، وأن نسعى في سعادتهم وإنقاذهم من الظلمات، وإنقاذهم من النار، وإدخالهم جنة عرضها السموات والأرض.
أيها الناس! صلوا على الحبيب عليه الصلاة والسلام، وأكثروا من الصلاة والسلام عليه، وأفيضوا بالتحيات عليه في هذه الساعة المباركة، وعلى أصحابه الكرام والتابعين لهم بإحسان، جمعنا الله بهم في دار السلام.
اللهم أصلحنا ظاهراً وباطناً، اللهم وفقنا لما تحبه وترضاه، اللهم اهدنا سبل السلام، اللهم أصلح من وليته علينا، اللهم ولِّ علينا خيارنا ولا تول علينا شرارنا، اللهم ولِّ علينا من يرجوك فينا ويخافك فينا ويرحمنا فيك.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(365/11)
وصايا لقمان
لقد حكى الله تعالى لنا على لسان لقمان ما أوصى به لقمان ابنه من الوصايا الجامعة لخيري الدنيا والآخرة.
وكانت الوصية بالتوحيد في مقدمة تلك الوصايا نظراً لأهميتها وعظيم قدرها ثم ثنى بالوصية ببر الوالدين وطاعتهما، وثلث بالعبادات، وختمت الوصايا بالوصية بلزوم الأداب الفاضلة والأخلاق الكريمة.(366/1)
حقيقة الحكمة
الحمد لله رب العالمين، الحمد الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً، أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
شكر الله لكم اجتماعكم وحضوركم واستقبالكم، وجمعنا الله بكم في دار الكرامة، فإن هذه المجالس من أعظم ما يتقرب به إلى الله عز وجل، هي مجالس المتقين، وأولياء الله إذا اجتمعوا ذكروا الله، وكما يجتمع الصالحون في هذه الدنيا على ذكره يجمعهم الله عز وجل في جنته على محبته.
من كان ملتمساً جليساً صالحاً فليأت حلقة مسعر بن كدام
فيها السكينة والوقار وأهلها أهل العفاف وزينة الأقوام
أيها الإخوة الكرام! ذكر الله قصة لقمان عليه السلام في القرآن بسورة، وتكلم الله عز وجل عن كلام هذا الرجل الصالح، الذي أصلح الله قلبه.
وكان لقمان مولى من الموالي، لكن رفع الله عز وجل ذكره بالتقوى، كان مملوكاً ولكن أحيا الله قلبه بالتوحيد والإيمان، ذكر في ترجمته: قال له مولاه: يا لقمان! ائتني بأطيب شيء في الإنسان، وبأخبث شيء فيه واذبح ذبيحة، فذبح ذبيحة وأتى بلسانها وقلبها وقال: هذا أطيب شيء إذا طاب، وهذا أخبث شيء إذا خبث.
يقول سبحانه وتعالى عنه في القرآن: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ) [لقمان:12] ما هي الحكمة وما معناها، وكيف نعرفها أيها الكرام؟
الحكمة كما قال السلف: مخافة الله، وفي أثر يروى عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {رأس الحكمة مخافة الله}.(366/2)
معاني الحكمة في القرآن
والحكمة إذا أطلقت في القرآن فلها معنيان اثنان: إذا ذكرت مع القرآن فمعناها السنة: {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَة} [الأحزاب:34] وإذا ذكرت وحدها فمعناها وضع الشيء في موضعه، ومعناها التسديد في الأمور، يقول سبحانه: {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة:269] ولا حكمة لفاجر ولا سداد لعاصي، ومن عصى الله خذله الله، خذله في كلامه وأفعاله وحاله، ومن فجر نزع الله الحكمة من قلبه والنور.
يروى أن يوسف عليه السلام -وهذا يذكره أهل التفسير في قصصه- لما همت به المرأة وهم بها، ذكر واعظ الله وبرهان الله، ورأى أباه يعقوب عليه السلام وهو يعض بأسنانه على أنامله ويقول: يا يوسف! لا تزنِ فإن من زنى كالطائر ينتف ريشه.
وهذا كالعاصي إذا أقدم على المعصية، فإن الله ينزع منه النور أولاً، والحكمة والسداد ويخذله، ويجعله من أبعد الناس عن التسديد في الأمور.(366/3)
عبادة الشكر
{وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} [لقمان:12] ثم فسرها الله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان:12] لا إله إلا الله ما أعظمها من حكمة! ورأسها شكر الله عز وجل، ولم يفسرها سبحانه وتعالى بمنصب أو بشهادة أو بمال، أو بثروة أو بمكتب أو بمطلوب، بل جعلها شكره سبحانه وتعالى.
قيل لأحد الصالحين: ما شكر الله؟ قال: أما شكر العينين فالبكاء -يعني: من خشية الله- وشكر القلب الحياء، وشكر اللسان الثناء، وشكر الأذنين الإصغاء.
هذا هو الشكر، يقول: شكر العينين البكاء، وعين بكت من خشية الله لا تمسها النار، وأما شكر القلب فالحياء من الله عز وجل؛ أن يعيش مراقبة الله وخشية الله، وأما شكر اللسان فالثناء على الله؛ التسبيح والتحميد، والذكر وتلاوة القرآن، هذا هو شكر اللسان، وشكر الأذنين الإصغاء للحكمة ولقول الله عز وجل.
والشكر ذكر في آيات كثيرة من القرآن أستعرضها معكم أيها الأبرار الأخيار! فإنا نسأل الله عز وجل أن ينظر إلينا في هذا المجلس نظر رحمة، وأن يعلم أنا اجتمعنا لذكره ولطاعته، أتينا من قبائل شتى، ومن أسر متعددة، ومن ألوان مختلفة، ومن أماكن متباينة، جمعنا الرضوان فيه سبحانه وتعالى والرحمة، ولعل الله أن يقول لنا في آخر المجلس: انصرفوا مغفوراً لكم فقد أرضيتموني ورضيت عنكم، فيا ربنا نسألك أن تغفر لنا ذنوبنا وخطايانا.
يقول الله عن الشكر: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] ويقول سبحانه وتعالى في الشكر: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7] ويقول سبحانه وتعالى في الشكر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123] وقال سبحانه وتعالى عن الشكر أيضاً لما ذكر سبحانه وتعالى آل داود قال: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] وقال سبحانه وتعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} [البقرة:152].(366/4)
حقيقة الشكر
كيف نفسر الشكر؟
قالوا: هي أن تثني على المنعم بإنعامه، وأن تجعل نعمته في طاعته ولا تخالف أمره، وهذا من أعظم ما فُسر به، ويقابل الشكر كفران الجميل قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28].
لكن تعالوا نستعرض معاني الشكر، يقول سبحانه: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] جمع داود عليه السلام آل داود -هذا في التفسير- وكان عددهم ستة وثلاثين ألفاً، رجالاً ونساءً فخطب فيهم وبكى وقال: يا آل داود! إن الله أنعم عليكم بنعم ظاهرة وباطنة، أتريدون أن تبقى؟ قالوا: نعم.
قال: قيدوها بالشكر.
والله ما خلع نعمة عن عبد إلا يوم يخلع العبد طاعة الله، والله عز وجل ما حبس نعمة عن عبد إلا يوم يعرض العبد عن مرضاة الله، رجل أو أنثى.
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بتقوى الإله فإن الإله سريع النقم
قالوا: أحد الصالحين نظر بنظرة واحدة إلى منظر لا يحل له فنسي القرآن بعد أربعين سنة.
قال لهم داود: صلوا في كل ساعة وتناوبوا الليل والنهار، فوزعهم إلى جماعات؛ فما كان يمر عليهم ساعة في الليل والنهار إلا وقوم يذكرون الله ويسبحون الله ويصلون لله: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً} [سبأ:13] وهذا مصدر، أي: هكذا فاعملوا: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
سليمان بن داود عليه السلام في قصصه أجرى الله له الريح، كما قال سبحانه وتعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ:12] وهذا هو الملك العظيم، يوم قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] فسخر الله له الريح، فكان يأمرها أن تنقله من مكان إلى مكان، فتأتي كالبساط تحته فتحمله ومعه الأمراء والوزراء، والعلماء والجيش، وتنقله من مدينة إلى مدينة، وهذا ما يبلغه العلم الحديث أبداً، وأي علم يبلغ هذه الدرجة؟! ويقول الله في وصف الريح إذا أراد أن يهبط، {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] لأن الإنسان يتساءل إذا رفعت الريح سليمان ومن معه كيف تهبط به، أهناك مدرجات أم تصطدم به في الأرض أم ماذا تفعل؟ قال سبحانه: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] ومعنى رخاءً: أي أنها تتدرج في خفة سرعتها حتى يقع على الأرض: {رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص:36] حيث أراد من الأرض، إذا قال: اهبطي هنا لا تهبط بقوتها، بل تترسل رويداً رويداً حتى يهبط بسلام.
ارتحل مرة من المرات إلى الهند من أرض فلسطين -كان يسكن عليه السلام في فلسطين - فأمر الريح أن تحمله فحملته، فلما أصبح في الجو مع الناس على البساط؛ غطى شعاع الشمس عن فلاح يزرع في الأرض، فحجب الشمس عن هذا الفلاح، فنظر الفلاح فرأى سليمان عليه السلام بين السماء والأرض ومعه الحاشية، فقال الفلاح وهو بالمسحاة يخدم الأرض: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، قالوا: فارتفعت هذه الكلمة إلى الله؛ لأن سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، وأمثالها تصعد إلى الله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] انظر كيف نسب الضمير إليه وحده، فمرت على سليمان هذه الكلمة، فقال للريح: اهبطي هنا، فهبط بجانب الفلاح، قال: يا فلان! ماذا قلت؟ قال: قلت: سبحان الله! لقد أوتي آل داود ملكاً عظيماً، قال: والذي نفسي بيده لقولك سبحان الله أحسن مما أوتي آل داود.
ويقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {لأن أقول سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس -وفي لفظ- أو غربت} قالوا: وأفضل حلية حلية الشكر، تجمل الناس بالذهب ولكن أصبح بلا إيمان لعنة، واتخذوا القصور، ولبسوا الملابس الفارهة، وركبوا السيارات؛ لكن لما تجردت عن الشكر ما أصبح لها طعم، ولا لون.
لبسنا حالياً من كل وشي فما سترت ملابسنا الخطايا
وأحسن لباس لباس التقوى {وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ} [الأعراف:26].(366/5)
شكر المرأة لله
يقول بعض العلماء: إذا أرادت المرأة أن تتجمل فلتتجمل بتقوى الله، فما لبست أعظم من تقوى الله حلة، لا ذهباً ولا فضة.
هل عرفت المرأة أن أعظم حلة تتحلى بها هي تقوى الله؟ هل علمت المرأة المسلمة أن حجابها وسترها، وعفافها وذكرها أعظم زينة يزينها الله بها في الدنيا والآخرة: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:90 - 89].
هل علمت المرأة أمام الموضات، وأمام الغزو، والزحف الماكر، والعدوان والحرب على المرأة، أن زينتها في حفظ عرضها ونفسها ودينها وعفافها وتربية بنيها؟ والله! إن هذه المرأة التي تتكشف وتتبرج، وتتزين للناظرين، وتعرض نفسها سلعة للعيون، وتحاول أن تقدم نفسها في صورة بهية -على زعمها- لهي من أشوه النساء في الدنيا والآخرة.
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كن الكلاب ولغن فيه
أراد الإسلام أن تكون المرأة درة في صدف، وأراد الكفار والفجار والمعرضون أن تكون سلعة معروضة كاللحم عند الجزار، تراها العيون وتلمسها الأيدي، فأقول هذا بمناسبة ما هو شكر المرأة لله؟ شكرها التقوى والحجاب والعفاف، قال تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] وهذه الجاهلية أدهى وأطم من تلك الجاهلية، من سمع في الجاهلية الأولى أن المرأة تمر على خياط في عهد أبي جهل فتقف معه وتخلو به، وتركب مع السائق الساعات الطويلة وهي متزينة متجملة متعطرة، فقدت زوجها ونسيها زوجها وغاب عنها وغاب عنها الإيمان؟
هل علم أن امرأة كانت تجوب السوق من الصباح إلى صلاة الظهر تخالط الهندوكي والسيخي والمسيحي والفاجر المعرض المتهتك؟ متى كان هذا؟ ألا إن هذا كفر بنعمة الله عز وجل، وهذا من أسباب السخط والمحق -والعياذ بالله- في الأمة، ويوم تصل المرأة إلى هذا المستوى فقد كفرت بأنعم الله، وقد جحدت معروف الله.(366/6)
كيفية شكر الله
قال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} [لقمان:12] يا لقمان! اشكر لله.
يقولون: داود عليه السلام قال: يا رب! كيف أشكرك؟ ما أستطيع أن أشكرك، قال: يا داود! أتعلم أني أنا المنعم؟ قال: نعم.
يا رب! قال: فقد شكرتني.
ضاع فرس لـ جعفر الصادق رحمه الله قال: والله لئن وجدت فرسي؛ لأشكرن الله شكراً من أعظم ما يشكره به الشاكرون، فلما وجد الفرس وركبه قال: الحمد لله رب العالمين، قالوا: أين الشكر؟ قال: قد قلته، قلت: الحمد لله رب العالمين.
ولذلك لما أراد الله أن يثني على نفسه قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1] وقال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [فاطر:1] وهي من أعظم الكلمات؛ حتى إن عمر رضي الله عنه مر على أعرابي في السوق فقال: يا أعرابي! كيف حالكم -ليس من القضايا المهمة أن يدري عمر ماذا حدث للبدوي هذا لكن يريد أن يسمع كلامه- قال الأعرابي: الحمد لله يا أمير المؤمنين! قال عمر: إياها أريد، يعني: أريد الكلمة أن تنطقها وأن تقولها لتكتب في ميزان حسناتك وهي من أعظم الكلمات.
{وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12] هذا تعبير القرآن وبلاغته وهذا سر بقاء القرآن، فهذه الوثيقة -المصحف- معنا ألف وخمسمائة سنة، ووثيقة ماركس اثنتان وسبعون سنة وداسها جرباتشوف بجزمته وهو من أبناء وأحفاد ماركس، لكن قرآننا يثبت عظمته، ويثبت جماله وجلاله، وبقاءه وخلوده وحفظ الله له.
سمعتك يا قرآن والليل واجم سريت تهز الكون سبحان من أسرى
فتحنا بك الدنيا فأشرق نورها وسرنا على الأفلاك نملؤها أجرا
{وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [لقمان:12] من صلَّى صلَّى لنفسه، من صام صام لنفسه، صحَّ عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: يقول الله تبارك وتعالى: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً} والله لو كان العالم -كل العالم- على تقوى أتقى الأتقياء؛ يصلون ويصومون ويذكرون، ولم يكن فيهم رجل واحد ما زاد في ملك الله ذرة.
{يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً}.
{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان:12] يستغني الله عز وجل {وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [التغابن:6].
والله عز وجل هو الغني سبحانه وتعالى، لا تضره معصية العاصي ولا تنفعه طاعة الطائع، قال: ومن كفر بهذه النعم؛ فإن الله غني حميد، أي: لا يحتاج إليهم وليس في حاجتهم، وإنما تسببوا لأنفسهم بويل وخسران وبضر في الدنيا والآخرة.
والآن انتهى من المقدمة؛ وعرفنا بلقمان وترجمته وحياته في آية واحدة.
والقرآن لا يأتي بالحزئيات التي أشغلنا أنفسنا بها، ولد عام كذا وكذا في يوم كذا وكذا وفي ساعة كذا وكذا، وكان يأكل كذا وكذا، وكان له من الأطفال كذا وكذا، لا.
فالقرآن يأتي بقضايا كلية، يوم يتكلم عن الكلب في سورة الكهف ما أتى بلونه، وبعض المفسرين يقول: لونه أسود، قال الآخرون: لا.
مبرقش، قال الآخرون: لا.
أحمر يميل إلى الصفرة، ما بقي إلا أن يقولوا: بنفسجي، القرآن ما عرض لهذا، بل أتى بالمقصد وسماه كلباً، ويقول للرسول صلى الله عليه وسلم: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً} [الكهف:22].
وقال عن الطعام والشراب: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259] قالوا: كان شرابه التوت، قال قوم: لا.
عصير الزيتون، وقال قوم: لا.
ما بقي إلا الميراندا أو الببسي، فالقرآن ما عرض لهذا ولكن أتى بقواعد كلية، فترجم للقمان في آية، ثم تكلم عن وصاياه.(366/7)
وصايا لقمان لابنه
والوصايا هي الحث على خير والتحذير من شر، وأعظم وصية في الحياة الوصية بالتقوى، سئل ابن تيمية في المجلد العاشر من الفتاوى من رجل من المغرب يقول له: يا شيخ الإسلام! أوصني، قال: أما إن سألتني على الوصية فلا أعظم وصية من وصية الله للناس لمن عقلها وتدبرها: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] فهذه أعظم وصية وهي أعظم شهادة في الدنيا أن اتقوا الله.
وقد وصى عليه الصلاة والسلام أصحابه بوصايا عديدة، وكان يوصي الرجل بحسب ما يراه من استعداد: {أتى رجل فقال: أوصني يا رسول الله! فإن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} حديث صحيح رواه الترمذي وغيره، ويقول عليه الصلاة والسلام عند الترمذي عن ابن عباس: {احفظ الله يحفظك -وهي من أعظم الوصايا- احفظ الله تجده تجاهك} الحديث.(366/8)
التحذير من الشرك بالله
قال: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} [لقمان:13] أي: يوصيه: {يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] أولاً: قال: يا بني! وهذا أدب تربوي، وعليك أن تعتبر بهذا الكلام؛ أنك إذا أردت أن تدعو الناس فعليك أن تلين لهم في الخطاب، وأن تأخذهم بالمحبة وأن تأخذهم بسهولة من اللفظ ويسر من الكلام، يا بني! هذه قضية تربوية قال: يا بني! يا حبيب قلبي! يا أقرب الناس إلى روحي! لا تشرك بالله.
والشرك له صور متعددة، فليس هو عبادة الصنم والحجر والوثن فقط، بل له صور، وبعض العلماء يقول: من توله بلعبة حتى قدمها على حُبِّ الله ووالى من أجلها وعادى من أجلها؛ فقد أشرك بها لقوله سبحانه وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية:23].
وأحد المفكرين كذلك يقول: الكرة تعبد من دون الله.
هذه الكرة التي يلعب بها، بلغ حال بعضهم أن عبدها من دون الله، فترك الصلاة من أجلها، وأخر الصلاة من أجلها، وبعضهم يجمع من أجلها الصلاة على المدرجات الظهر والعصر، فأفتى نفسه من أجل ألا تفوته المباراة، وبعضهم إذا -وقد عرض في سؤال وأظنه معتوهاً أو أحمقاً- حان الأذان، وخاف أن يذهب إلى المسجد فيفوته الشوط والمباراة؛ فرش غترته أمام شاشة التلفزيون وقام يصلي وهو ينظر إلى المباراة! وهذا حدث، وكان يركع سريعاً ويسجد سريعاً؛ حتى يجمع بين الحسنيين، وهما حسنيين كوجهه في الحسن وكعقله ورشده، فأي حب بعد هذا الحب؟!
بل بلغ بهم الولاء والبراء حتى يقول بعضهم: أنا هلالي حتى الموت، أو نصراوي حتى الموت، وهي أقرب إلى النصراني، سبحان الله! أحفاد خالد بن الوليد وعمر بن الخطاب هلاليون حتى الموت! وأنا لا أهاجم الأندية لذاتها، فأنا عضو شرف في نادي الهلال، لكن يوم يسجد نادي الهلال لله، ويوم يدعو أصحابه إلى مبادئ الله، ويوم تتجه النوادي إلى الله وهم إخواننا وأبناء عمومتنا؛ لكن حينما نلتقي نحن وإياهم تحت مظلة لا إله إلا الله محمد رسول الله، فإن صلوا وعرفوا الله، وتوضئوا وقرءوا القرآن؛ فنحن وإياهم سواء، ورسالتنا واحدة وهم دعاة.
يقولون: أن رجلاً كان هلالياً وامرأته كانت نصراوية، فتبارى الفريقان فانتصر أحدهما على الآخر، فاحتدم البيت، وقام الخصام حتى طلق الرجل زوجته، إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم، فأي تربية وأي ولاء هذا؟
وبعضهم ببعض اللعب تبلغ به الشغف، مثل البلوت، تجد بعضهم مسلوب الإرادة، فتجده يلعب من صلاة العشاء إلى الساعة الثانية ليلاً، لا ذكر ولا صلاة، ولا قرآن ولا تسبيح، ولا دعاء ولا تبتل، ولا طلب علم ولا تحصيل، يلعب هذه اللعبة ويهيم بها ويراها في المنام فهل بعد هذا حب؟ وهل بعد هذا ولاء؟
والله عز وجل يريد من العبد أن يعيش ذاكراً الله دائماً وأبداً: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة:152] {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:191].
يقولون: كان شيخ الإسلام ابن تيمية لسانه لا تفتر عن ذكر الله، قالوا: نراك يا أبا العباس! ما تفتر أبداً عن ذكر الله، قال: قلبي كالسمكة، إذا خرجت السمكة من الماء ماتت، وقلبي إذا ترك الذكر مات.
فانظر إلى الحب، يحبهم ويحبونه.
يقول ابن القيم: ليس العجب من قوله يحبونه؛ فإنهم يحبونه لأنه منعم، لكن العجب من قوله يحبهم، خلقهم ورزقهم وأحياهم وأعطاهم ثم قال: يحبهم.
فنسأل الله أن نكون وإياكم من أحبابه، ومن أقرب الناس إليه، فإنه -والله- الفوز في الدنيا والآخرة، لكل من أراد أن يكون من الصالحين الأخيار.
{يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] بدأ أولاً بالعقيدة، وهذه المسألة كما ترى هي التي دائماً نكررها للناس، فقضيتنا الكبرى هي العقيدة، وبعض الناس يقول: لا يحتاج أن تتكلمون في العقيدة أو: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] عرفناه ونحن في الابتدائية، ولا تشغلونا بالعقيدة ويكفي، ولا والله لا يكفي، بل نتكلم عن العقيدة اليوم وأمس وغداً، وهي قضيتنا الكبرى وهي رسالة الرسل عليهم السلام، وهي أعظم القضايا على الإطلاق، فلذلك بدأ بها.
والمسلم دائماً يكون حكيماً، إذا أتى إلى مجتمع أو أناس، ورآهم في شيء من الانحراف يبدأ بالعقيدة، فكيف تصحح مفاهيم الناس في السنن وهم معرضون عن العقيدة؟!
إنسان يأتي إلى قوم من البادية، يدعوهم إلى تربية اللحى وتقصير الثياب، ماذا ينفعهم إذا ربوا لحاهم، وقصروا ثيابهم، وهم لا يعرفون الله بأسمائه وصفاته، ولا يعرفون عظمته ولا يعرفون كماله وجلاله؟
وماذا ينفع الملحد أن يطلق لحيته، ويقصر ثوبه، وهو زنديق قلبه كقلب الحمار؟
هذا لا ينفع.
قال: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} [لقمان:13] فالشرك أعظم ذنب عصي به الله عز وجل، والشرك وصفه الله عز وجل بأوصاف:
{إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} [المائدة:72] {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31] {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فالله عز وجل جعل أعظم الذنوب الشرك.
قال ابن مسعود في الصحيح: {يا رسول الله! أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وقد خلقك} وقال نوح عليه السلام لابنه: يا بني! لا تشرك بالله ولو مُزِّقت وسحقت أو كما قال.
وكانت رسالة نبينا عليه الصلاة والسلام عن التوحيد، وصح عنه أنه قال: {من قال: لا إله إلا الله مخلصاً من قلبه دخل الجنة} ومعنى مخلصاً من قلبه أي: يعمل بمقتضاها، أما أن يقول: لا إله إلا الله، لكن أبرد من الثلج، تخرج من لسانه لا معنى لها.
يقول: لا إله إلا الله، وهو عبد للأغنية!
يقول: لا إله إلا الله، وهو متعلق بالفيلم والشاشة!
ويقول: لا إله إلا الله، وبيته سكنة لإبليس!
يقول: لا إله إلا الله، وقلبه وثن!
يقول: لا إله إلا الله، وهو كالخواجة في تصرفاته وخلقه وسلوكه!
يقول: لا إله إلا الله، وهو لا يعرف من الإسلام لا رسماً ولا اسماً ولا قرآناً ولا ذكراً ولا صلاة جماعة!
يقول: لا إله إلا الله، وهو يحارب الملتزمين والأخيار والأبرار وأهل الدعوة وأهل العلم!
يقول: لا إله إلا الله، وهو يحبذ أن ينتصر الكافر على المؤمن!
يقول: لا إله إلا الله، وهو يعجب بالكفار ويذكرهم في المجالس.
ولذلك فروخ العلمانية وأذناب الماسونية دائماً ينفخون في أبواق أعداء الله أهل الحضارة القوم هنالك أهل العظمة والتصنيع أهل التكنولوجيا أما نحن فأهل الرجعية -يقول عن نفسه- وأهل التخلف والعالم الثالث، والدول النامية، ومن هذا القبيل هذا رجل مغرور بالله، وهذا رجل مخبول، وهذا رجل بعيد عن الله، فمعنى لا إله إلا الله مخلصاً من قلبك؛ أن تكون عابداً لله.
سليمان الأعمش الذي ترجم له الذهبي الراوي المحدث لما حضرته الوفاة قال لابنته: يا بنية! لا تبكي عليّ فوالله ما فاتتني تكبيرة الإحرام في الجماعة خمسين سنة، فما الحال في رجل يقول لا إله إلا الله وليس بينه وبين المسجد إلا مائة متر أو خمسين متر لكنه لا يصلي فيه! يسمع الله أكبر تدوِّي من على المنارة لكن لا يصلي في المسجد، وليس عنده عذر، هل بقي في قلبه إيمان! ماذا تنفعه لا إله إلا الله! فتجد هذا متهتكاً في الحدود.
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
منائركم علت في كل ساح ومسجدكم من العباد خال
والله لو كان في قلبه إيمان لمشى في الظلام، يروى في الحديث: {بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة} كثير من الصالحين، ومن الشباب والأخيار يمشي في الثلج إلى المسجد، وفي شدة البرد القارص، الذي كالسكاكين، لكن في قلبه وقود هائل من الإيمان.
والله سمعت أنا من شاب من نيجيريا -هذا الشاب من أعبد عباد الله عز وجل- يقول لي: الحمد لله ولو أنام قبل الفجر نصف ساعة فقط، ثم أسمع الأذان -ويسمعني الله عز وجل الأذان- فلا يمكن أن أبقى ولو لحظة، حتى يقول: نام مرة واقترب الأذان؛ فكأنه ما سمع الأذان، فرأى الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقول: استووا استووا وعدلوا الصفوف قال: فاستيقظت مباشرة؛ لأن من استنار قلبه بنور الله أيقظ الله فطنته على تقوى من الله ورضوان.(366/9)
من صور الإشراك بالله
يقول: {لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:13] من أعظم الذنوب في الأرض الشرك، والصور الموجودة الآن التي تنتشر: الكهانة والسحر والشعوذة، وقد انتشرت كثيراً.
ومن صورها كذلك الولاء للكافر والبراء من المؤمن.
ومن صورها كذلك تعظيم الكفار على حساب المؤمنين.
ومن صور الشرك: الاستهزاء بآيات الله، بالمصحف، بأهل الاستقامة، بالرسول صلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وبالمساجد وبالإسلام.
ومن صوره كذلك قول بعضهم الإسلام دين رجعية، والإسلام لا يصلح أن يواكب العصر، والإسلام انتهى، وهذه {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً} [الكهف:5] هذه من المسائل.(366/10)
الوصية ببر الوالدين
ثم قال: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [لقمان:14 - 15] تقوى الله والصلاة تنبي عن بر الوالدين، والذي يترك الصلاة لا تجد فيه خيراً، وبر الوالدين من أعظم الأعمال الصالحة التي نلقى بها الله، ويوم فسد بعض الجيل ووقعوا في ترك الصلوات، والسيئات والمخدرات؛ أتوا من العقوق ما لم يأت به أبو جهل ولا أبو لهب.
هل تصدقون أن أحداً ضرب أمه أكثر من سبع مرات بيده وهو يدعي أنه مسلم؟ ورأينا شيخاً كبيراً في السبعين يبكي ودموعه تسيل من على لحيته يشكو من ابنه، أي إسلام بقي مع هذا؟!
فالله قرن حقه بحق الوالدين: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].(366/11)
الوصية بمراقبة الله
أيها المسلمون: ويستمر السياق، ويأتي لقمان عليه السلام ليقرر لابنه قضية أن الله يعلم الغيب، وأن الله يطلع على السرائر، وأن الله لا تخفى عليه خافية، وأن الله عز وجل قريب من العبد، وأن الله بعلمه سبحانه وتعالى وبشهوده وبحسابه وباطلاعه مع العبد، وهذا تقرير العقيدة وتقرير التوحيد، قال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] يقول: يا بني! إذا تسترت وراء الجدران فالله معك، إذا تسترت بالحيطان فالله يراك.
وإذا خلوت بريبة في ظلمة والنفس داعية إلى الظغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
جلس صفوان بن أمية مع عمير بن وهب تحت ميزاب الكعبة في الحرم في مكة، والرسول عليه الصلاة والسلام في المدينة، وكان آنذاك صفوان وعمير كافرين ومشركين بعد معركة بدر، قال صفوان: يا عمير بن وهب! أما ترى ماذا فعل محمد بنا في بدر، قتل آباءنا وإخواننا وأقاربنا فما رأيك؟
فقال عمير بن وهب: والله -أو أقسم بآلهته- لو وجدت من يقوم بأهلي وأطفالي لذهبت إليه في المدينة فقتلته.
قال صفوان - وهم تحت الميزاب ما معهم إلا الله-: أنا أقوم بأهلك وأطفالك وأزواجك، الهدم هدمي والدم دمي والحياة حياتي.
فأخذ عمير سيفه، فحشاه بالسم شهراً كاملاً، حتى أصبح السيف أزرق، ثم ذهب إلى المدينة، فلما دخلها دخلها بعد صلاة العصر وسيفه معه، فرأى عمر عمير بن وهب أقبل يريد المسجد، والرسول صلى الله عليه وسلم بين الصحابة في المسجد، وليس عند الرسول صلى الله عليه وسلم سيف ولا رمح ولا حراسة.
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
وإذا العناية لاحظتك عيونها نم فالحوادث كلهن أمان
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] أي: يحفظك.
فرأى عمر رضي الله عنه عمير بن وهب مقبلاً، فرأى في عيونه الشيطان، فأخذه عمر بتلابيبه ومحاميل سيفه بيد واحدة -وكان عمر قوياً، قوة الإيمان- وأدخله المسجد عند الرسول عليه الصلاة والسلام، فأجلسه صلى الله عليه وسلم للتحقيق:
و
السؤال
يا عمير بن وهب! ماذا قدم بك؟
الجواب
قدمت لأفدي الأسارى الذين عندك، يعني آخذ بمالي الأسارى الذين أسرتهم في بدر وهذا الكلام كذب.
قال عليه الصلاة والسلام: لا والذي نفسي بيده! لقد جلست في يوم كذا أنت وصفوان بن أمية تحت ميزاب الكعبة فقال لك: كذا وكذا وقلت له: كذا وكذا، أليس كذلك يا عمير؟
قال عمير: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله.(366/12)
دور المراقبة في إصلاح الفرد والمجتمع
فعلم الغيب واطلاع الله على كل خافية قضية كبرى لا بد أن نعرفها، ونحن لو عرفناها ما كان وقع ما وقع، وما كان وجد من الشباب من أفطر في رمضان، فقد وجد من الجيل من يذهب في نهار رمضان تحت الكباري وفي الغابات والمنتزهات يأكل ويشرب في النهار، يستحي من الناس: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء:108] يعني: نظر الناس إليه أعظم من نظر الله عز وجل، لو وجد الإيمان بأن الله مطلع على كل خافية؛ ما كان هناك خلوة بالأجنبي والأجنبية من النساء، وما كان هناك خيانة زوجية، من الرجال لنسائهم، بأن يعاشر أجنبية لا تحل له، أو تعاشر أجنبياً من دون زوجها، وتخون الله وشرع الله ولا إله إلا الله والحجاب والدين، والاحترام والخلق، وتنكر كل شيء من مبادئها، وتنسى القبر الضيق يوم تحشر فيه وحيدة، وتنسى العرض على الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ} [الأنعام:94] ما معنى هذه الآية؟
يقول: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} [لقمان:16] أصغر من البرة مثل السمسم، انظر إلى الوصف وتأمل: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان:16] صخرة مقفلة وهي داخلها: {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} [لقمان:16] يعني ملقاة في البحر أو في البر: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] وهذا وصف عجيب دقيق، إذا كان مثقال سمسمة يأتي بها الله عز وجل، فكيف بمن سجلت حسناته وسيئاته في سجلات؟ {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام:59].
{إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان:16] انتهى من الوصايا.
أولاً عرض العقيدة، وتحدث عن بر الوالدين، ثم تكلم عن الأسماء والصفات بشيء من الأفعال والاشتقاق.(366/13)
الوصية بالصلاة والمحافظة عليها
بعد ذلك أتى إلى العبادات، قال تعالى: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17]
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17] وقضية الصلاة في حياة المسلم هي قضية الإسلام والدين، وهي أكبر قضية بعد التوحيد، نادى بها رسول الله عليه الصلاة والسلام، وما بلغ الجيل مبلغ ترك الصلاة إلا يوم دخلوا في باب الكفر، ودخلوا الإلحاد والزندقة.
وقضية أن يترك الإنسان الصلاة معناها أنه يكفر، إلا أن يعود إلى الإسلام، ومعناها أنه كتب على نفسه أنه مرتد، وأحل دمه للسيف، وعرضه وماله، يقول عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} ويقول: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} وهي أحاديث صحيحة، ويقول في الصحيح: {والذي نفسي بيده! لقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا، فأحرق عليهم بيوتهم بالنار} نعوذ بالله من النار.
ترك الصلاة كفر، وما أظن مسلماً يظن أنه بقي معه ذرة من إيمان ويترك الصلاة، ووالله! ما يدري الإنسان ويتعجب كيف يبلغ بالإنسان مبلغاً أن يسمع بالرسول عليه الصلاة والسلام والقرآن وقيام الساعة ولقاء الله عز وجل والجنة والنار والصراط والميزان ثم يترك فريضة واحدة؟! كيف يستطيع؟ هل يعيش مطمئناً؟ هل يستطيع أن يأكل ويشرب وهو يعلم -مثلاً- أنه ما صلى المغرب، وأنه تركها قطعاً؟! ماذا ينتظر هذا إلا أن تنزل عليه صاعقة تلعنه وتخزيه من السماء؟! أعوذ بالله من الخذلان والخسار.
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ} [لقمان:17] وهي زاد الداعية وزاد المسلم {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة:45 - 46].
فقضية الصلاة هي زاد المسلم في الحياة، كان يقول عليه الصلاة والسلام إذا اهتم واغتم: {أرحنا بها يا بلال} {وكانت قرة عينه في الصلاة} ذكر عمر الصلاة وهو في سكرات الموت فقال: [[الصلاة الصلاة! لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة]].(366/14)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [لقمان:17] ميزتنا نحن عسكريون ومدنيون، كباراً وصغاراً رجالاً وإناثاً، أنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ويوم يبلغ بالإنسان أن يموت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في قلبه يتبلد إحساسه ويصبح كالبهيمة، ويموت تماماً، والذي تموت الغيرة في قلبه معناه أنه ليس عنده لله وقار ولا مكانة، قال سبحانه وتعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79] والله يقول: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
الأمر بالمعروف واجب عليّ وعليك، فليس هناك هيئة خاصة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وليس هناك فئة أو كيان يجب عليها وحدها فقط أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أنا وأنت جميعاً إن لم نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر؛ فإنا معرضون لغضب الله وسخطه وعذابه.
الرجل في بيته، والمرأة في بيتها، والأستاذ في مدرسته، وكذلك العامل والموظف والفلاح والتاجر إنها رسالتنا، لكن انظر إلى واقعنا يوم تركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أصبح أهل المعصية أكثر، وأصبحت لهم الصولة والجولة، وأصبحت لهم المكانة، وأصبح الإنسان ما يستحي أن يعرض بضاعته من اللهو واللغو.
بالله عليكم في عهد السلف الصالح، هل يستطيع أحد أن يأتي بأدوات الغناء على مستواهم القديم في المدينة المنورة في جانب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبيعها ويعرضها للناس، هل يستطيع أحد أن يفتح مكاناً ويحلق لحى المسلمين، يقول أحد الدعاة: رأيت صالون حلاقة اسمه صالون النشامى، والنشامى هؤلاء معناهم الأبطال، يعني: حلق لحى النشامى، هؤلاء كم هم أبطال، وكم هم أخيار، وكم فيهم من الرجولة هؤلاء النشامى الذين جعلوا لحاهم تحت الأقدام!
ويقول: رأى في صالون آخر صالون اللحية الغانمة، ولعلكم تسمعونها في شريط أطب مطعمك، يقول: صالون اللحية الغانمة، ما لها من لحية ليس فيها من الغنم شيء! وإنها -والله- بعيدة من الله.
إنما أقول: سُكِتَ عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونحن نقول: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر باللين وبالحكمة وبالموعظة الحسنة وبالكلمة المؤداة.
تصور لو أن عاص من العصاة كصاحب من يروج الأغاني يمر عليه عشرون أو ثلاثون مني ومنك ومن الناس يقولون: اتق الله، الغناء حرام فقط، ثم الثاني ثم الثالث ثم الرابع ثم الخامس إلى أن يبلغ العدد عشرين في يوم؛ أما يعود في البيت ويسأل نفسه ويقول: عشرون أو ثلاثون مروا عليّ اليوم كل يقول: اتق الله اترك الغناء، أجل حدث شيء، والناس كلهم يخالفوني إذاً أتوب إلى الله.
ولكن نرى المعاصي واستمرأناها، وآكلناهم وشاربناهم وجالسناهم وأصبحت هذه من الخفيفة، حتى إذا نهيت عن بعض الأمور؛ كأن ترى الإنسان يشرب باليسرى فتقول: لا تشرب باليسرى، فيقول لك زميلك: يا أخي! أولاً: خلِّ حالك في شأنك، الأمر الثاني: نفسك نفسك، ثالثاً: يا أخي! ما تعرفون دائماً إلا الشرب والأكل بالشمال واليمين، كلها واحدة والأمر فيه سعة.
وإذا قلت له في اللحية قال: ما تعرفون إلا اللحى دائماً وتقصير الثياب والقضية أكبر من تقصير الثياب، فالقضية قضية إسلام، حتى يضيع الدين ويصبح مقطعاً ممزقاً بين يدي هؤلاء الذين لا يعرفون سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا يتصوروا الإسلام.
ويقول بعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} [لقمان:17] وهذا فيه حرارة يقول:
أقسمت أن أوردها حرة وقاحة تحت غلام وقاح
إذا سألت الله في كل ما أملته نلت المنى والنجاح
معناه أنه يذوق حرارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال: واصبر على ما أصابك، سوف تضرب أو تؤذى أو تسب، أو تجرح، فاصبر على ما أصابك.(366/15)
صور من حياة السلف في الأمر بالمعروف
كان أحد الصالحين -ترجم له الذهبي - يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر قال: فيضربونه في بغداد حتى يغمى عليه، فيرشونه بالماء فيستفيق فيقول: وعزتك وجلالك لآمرن بالمعروف وأنهى عن المنكر، نعم.
محمد صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر رموه بالحجارة حتى سال الدم من قدميه الشريفتين ولسان حاله يقول:
إن كان سركم ما قال حاسدنا فما لجرح إذا أرضاكم ألم
إن كان هذا يرضيك فأهلاً وسهلاً بالجرح، وأهلاً وسهلاً بالضرب، حتى لما جرحت إصبعه عليه الصلاة والسلام قال:
هل أنت إلا إصبع دميت وفي سبيل الله ما لقيت
يقول: الأمر سهل في سبيل الله، وفي طاعة الله وفي مرضاة الله سبحانه وتعالى، وقصص الآمرين بالمعروف كثير منهم النابلسي عالم من علماء المسلمين، محدث كبير ترجم له أهل العلم، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، كان إذا وقف في الصلاة فكأنه سارية، كان يخرج ومعه سكين في جيبه، فإذا رأى جرار الخمر شققها، لكن هذا إذا كان التغير باليد لمصلحة أعظم، أما إذا علمت أنك لو غيرت بيدك؛ كانت المفسدة أعظم فلا يجوز لك أن تغير بيدك؛ لأنك سوف تجر مفسدة أعظم من ذلك.
وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان} فهو على مستويات بقدر المصلحة.
والتغيير باليد مهمة السلطة التنفيذية.
فكان هذا العالم - النابلسي - يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكان يؤدب ويحلق رءوس المبتدعة من غلاة الصوفية الذين يخالفون السنة، أتى مرة في مجلس الحديث فسأله سائل عن الحكام الفاطميين، والحكام الفاطميين أكثرهم زنادقة، كـ الحاكم بأمر الله الذي كان زنديقاً ملحداً، فكان إذا خرج إلى السوق سجد له الناس، فقالوا للنابلسي: ماذا ترى في الحكام الفاطميين؟ وهو في القاهرة لأن النابلسي كان في القاهرة، والحاكم موجود في القاهرة وهو يدرس الحديث في المسجد، قال النابلسي: من كان عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بسهم واحد، وليرم الفاطميين بتسعة أسهم، وبلغت السلطان الكلمة بعد صلاة العشاء مباشرة بعد الدرس، وأرسل إليه الجنود، فقالوا: قم يريدك السلطان، فعرف أنه من أجل الكلمة فتبسم وقال: حسبنا الله ونعم الوكيل، معناها: أنني بعت نفسي من قبل: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة:111].
ووصل إلى السلطان، وكانت الكلمة قد بلغت السلطان خطأ، قال النابلسي: إن من كان عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بسهم وليرم الفاطميين بتسعة، فبلغت السلطان: إن من كان عنده عشرة أسهم فليرم النصارى بتسعة وليرم الفاطميين بسهم واحد، وهذه أسهل من الأولى، فقال له الحاكم بأمر الله -عليه غضب الله فهو ملحد زنديق-: يا نابلسي! قال: نعم.
قال: أنت الذي يقول قبل العشاء في مجلس الدرس: من كان عنده عشرة أسهم فليرمنا بسهم واحد وليرم النصارى بتسعة أسهم، قال: لا.
الفتوى خطأ، قال: كيف؟ قال: قلت: من كان عنده عشرة أسهم فليرمكم بتسعة وليرمِ النصارى بسهم.
فسلط يهودياً عليه وقال له: اسلخ جلده كما تسلخ الشاة قبل أن تذبحه، فنكسه وعلقه بأرجله في الشمس.
ومما يروى أنه وُجد من يظلله كرامة من كرامات الأولياء.
ولما بلغ اليهودي سلخ جلده إلى القلب رحمه اليهودي! فطعنه بالسكين في قلبه فمات، وكان يتبسم وهو يسبح، يقولون: كان منكوساً ودمه يقطر وهو يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر.
وهذا من أعظم ما يكون عند مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو واجب على كل مسلم ما دام حياً في عقله وفي إدراكه أن يأمر بحسب استطاعته: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان:17].(366/16)
الوصية بلزوم الأدب والأخلاق
الآن ينتقل إلى السلوك والأدب، قال تعالى: {وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان:18] لا تصعر خدك للناس، والصعر داء يصيب الجمل في عنقه فيصبح مصعوراً دائماً يمشي كذا، ولذلك المتكبر تجده كالطاوس، يقولون: أحمق الناس المتكبر، فهو يرى الناس لا شيء، وهو أتفه الناس لديهم، فهو يتعالى على الناس ولكن الله يقول: اخسأ لن تعدو قدرك، ومن تواضع لله رفعه، ومن تكبر على الله وضعه، وجزاء المتكبر أن يحشر يوم القيامة في صورة الذر؛ يطأه الناس بأقدامهم يوم العرض الأكبر، فهو سمين بدين كبير لكن يأتي في صورة الذرة؛ لأنه تضخم في الدنيا فصغره الله وحجمه يوم العرض الأكبر.
من صفات المتكبرين أنه يحب أن يتحدث مع الناس دائماً في الطريق، فلا يحب أن يمشي وحده، ودائماً تجده يتكلم ولو كان كلاماً لا نفع فيه، لكن يحدث الذي عن يمينه، والذي عن يساره ويشير بيده.
ومنها كذلك أنه لا يجود بالسلام، بل دائماً ينتظر منك أن تسلم عليه؛ لأنه يرى نفسه في رتبة عالية، كيف أسلم على هؤلاء الجنود وأنا أعلى مستوى؟! فتجده لا يبذل السلام، وتجده إذا دخلت في مكتبه يعطيك رءوس أصابعه، كأنه يقطر عليك السلام بالقطارة، ولا يمزح إلا مع مثله أو أعلى منه؛ لأنه يقول: إذا مزحت قلَّت هيبتي، ومحمد صلى الله عليه وسلم مازح الأطفال، ومازح العجائز عليه الصلاة والسلام، وما زاده الله إلا رفعة.
ومن صفات المتكبر: أنه غضبان دائماً بدون شيء، فتجده إذا خرج من بيته كأن زوجته ضربته على وجهه، فدائماً غضبان بدون سبب، لكن غضب الكبر، يقول:
وجوههم من سواد الكبر عابسة كأنما أوردوا غصباً إلى النار
هانوا على الله فاستاءت مناظرهم يا ويحهم من مناكيد وفجار
ليسوا كقوم إذا لاقيتهم عرضاً أهدوك من نورهم ما يتحف الساري
تروى وتشبع من سيماء طلعتهم بوصفهم ذكروك الواحد الباري
من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم مثل النجوم التي يسري بها الساري
وهؤلاء أولياء الله وأحباب الله.
ومن صفات المتكبر أنه يستخدم دائماً: أنا وفعلت وقلت وراجعت ودخلت وخرجت، ويترجم لنفسه في المجالس دائماً، فيكون أمقت الناس عند الله عز وجل وأبعدهم من الله.
{وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً} [لقمان:18] فالخطر بالأيادي، ونفخ الصدر، والصعر بالوجه كلها من علامة المتكبرين.
{وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:18 - 19] يعني: امش قصداً إلى حاجتك وبتؤدة وسكينة {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً} [الفرقان:63].
ثم قال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} [لقمان:19] لا ترفع صوتك فوق اللازم، فهذا هو أدب القرآن، فيتدخل القرآن حتى في قضية تنظيم الصوت، لأن الواثق من نفسه يتكلم بهدوء، والمسلم عاقل رشيد في ألفاظه، تجد الآن أبعد الناس عن الطاعة والمسجد ليس عندهم عقول، فينادي زميله في الشارع فتسمعه من وراء كيلو مترات عدة، أو تراه يصفر لزميله تصفيراً، ولكن لو كان ملتزماً لما عمل ذلك.
وتجد بعضهم يلعن زميله قبل أن يلقاه وقبل أن يسلم عليه، ويصيح صياحاً، وقد قال تعالى: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان:19].
يقول: يا بني! لا تفعل هذه الأفعال، يا بني! حياة الإيمان أعظم، يا بني! المؤمن منظم في الحياة، يا بني! هناك آداب لا بد أن تسلكها.
فلا إله إلا الله ما أعظمها من وصايا!
بدأ بالعقيدة والعبادة وبر الوالدين ثم العبادة ثم الأخلاق والسلوك، فهل لنا أن نعود من هنا فنتدبر هذه الآيات، ونعيد قراءتها في التفسير، كـ تفسير ابن كثير، ونجعلها قضيتنا الكبرى حتى نطبقها في واقعنا وحياتنا لنعيش حياة السعادة، وحياة الإيمان: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس:9 - 10].
فالحمد لله أولاً وآخراً، وسراً وجهراً، والحمد لله ليلاً ونهارا، ً الحمد لله الذي جمعنا بكم، والحمد لله الذي جعلنا نتكلم عن الإيمان، والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(366/17)
الصرخة الأخيرة
اليهود أعداء الله أعداء الرسل والأنبياء أعداء التاريخ أعداء القيم والأخلاق الفاضلة وفي هذه المادة عرض سريع لتاريخهم الأسود مع الله عز وجل ومع الأنبياء وعلى رأسهم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.(367/1)
اليهود أهل مكر وغدر
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيءٍ فقدره تقديراً.
وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً.(367/2)
اليهود يدسون السم للنبي صلى الله عليه وسلم
أيها الناس: انتهى صلى الله عليه وسلم من خيبر بعد أن طوقها، يوم خان أهلها، ونقضوا الميثاق، وأساءوا المعاملة، وتجرءوا على العهود، انتهى من حصار خيبر منتصراً فاتحاً، وكان جائعاً -بأبي هو وأمي- جائعٌ وجبال الدنيا تعرض عليه ذهباً وفضة، جائعٌ والقناطير المقنطرة توزع على يديه لفقراء المسلمين، احمر وجهه من الجوع، وقد فتح الخزائن، وفتح القناطير المقنطرة، فأتته امرأة من اليهود ودعته إلى طعام، وهو أكثر الناس بل إمامهم في التواضع، يقول: {لو دُعيتُ إلى كراعٍ لأجبت، ولو أهدي إلي كراع لقبلت}.
دعته لطعام -حكمة من الله ليظهر الله أستارهم، وليهتك أسرارهم، وليظهر عوارهم- فأجاب معه ستة من الصحابة، وقدمت له اليهودية شاةً مصلية مشوية، وقالت: تفضل كل، وقد سألت الناس: أي عضوٍ من الشاة يعجبه أن يأكل؟ قالوا: يأكل الذراع، فحشت الذراع سماً أزرق حتى أصبح سماً زعافاً لا يُطاق، فأقبل عليه الصلاة والسلام يأكل ليتألف قلبها وهو القريب السهل المتواضع، الذي عطف الله عليه الأرواح وجمع عليه الأنفس، رفع الذراع، ولاكه بأسنانه، ووضع فمه الطاهر الشريف على الذراع، ولما أصبح ذراع الشاة في فمه؛ أنطق الله ذراع الشاة بإذنه وقدرته، فقال الذراع: يا رسول الله! لا تأكلني أنا مسمومة سمتني اليهودية لتقتلك، فلفظه ورماه.
يا ألله! محمدٌ يقتل؟! محمدٌ يغتال؟! محمدٌ تدبر له مجزرة؛ لترتكب أعظم مقتلة في تاريخ الناس، وأعظم جريمة في مسيرة البشرية، وأعظم غيلةٍ في تاريخ الكون؟
إذا قتل محمد؛ فلتمت العدالة، ولينته السلام، ولتقتل الحرية، وليكفن التاريخ، وليدفن الدهر، قال الذراع: لا تأكلني يا رسول الله! سمتني اليهودية، فرمى بالذراع، ولكن السم سرى في جسمه بأبي هو وأمي؛ ليرزقه الله مع النبوة الشهادة، ليكون سيد الأنبياء والشهداء، وإمام الأولياء، ورسول من خلق الأرض والسماء، جُمعت له المحاسن:
هذا الذي جاء والأبحار مالحةٌ فمز فيها فصار الماء كالعسلِ
هذا الذي ردَّ عيناً بعدما فقئت وريقه قد شفى عين الإمام علي
من الذي دبر له المقتلة، والمجزرة، والغيلة؟
إنهم الذين يقتلون شيوخنا في فلسطين.
إنهم الذين يبقرون بطون النساء في فلسطين.
إنهم الذين يهدمون مساجدنا في فلسطين.
قتلة الأنبياء.(367/3)
اليهود يسبون الله ويقتلون الأنبياء
ماذا قالوا عن الباري جلَّ في علاه، الذي تفرد بالجمال والكمال والجلال، الغني؟ يقولون: فقير! الغني فقير! يقولون عن الواحد الأحد: فقير!
أوحى الله لموسى فقال: يا موسى! قل لبني إسرائيل: أفقيرٌ أنا وأنا أغنيت من في السماوات والأرض؟!
أفقيرٌ أنا وأنا أطعمت الكائنات، وأنا أطعمت المخلوقات؟!
أفقيرٌ أنا -يا موسى- ويدي سحاء الليل والنهار؟!
أرأيت ما أنفقت من يوم خلقت السماء والأرض فإنها لم تنقص مما في يميني.
يقول كما في الحديث القدسي: {يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وأنسكم وجنكم، قاموا في صعيدٍ واحد فسألوني فأعطيت كل واحدٍ مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر}.
واليهود يقولون: الله فقير! اسمع رد القرآن قال: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران:181] الحمد لله فقد سمع الله، ويكفي أنه سجل عليهم أنه سمع، وشهد، يكفي سمعنا كلامهم، وسجلناه عندنا وعرفناه: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عمران:181] ما هو الرد؟ {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل عمران:181] والله! وعزة الله! وكلمات الله! إنها تسجل عليهم لتحفظ في يومٍ ليس فيه شفيع ولا خلة ولا نصير ولا مولى.
ثم قال سبحانه وأدهى من ذلك، وأعتى، وأطغى، وأظلم: {سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ} [آل عمران:181] وهذا سحب ملفات الماضي، يقول: أدهى وأعتى وأجور وأطغى وأظلم وأبطش: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ} [آل عمران:181].
ألم يدبروا لقتل لمحمد صلى الله عليه وسلم وقتلوا أربعمائة نبي، على رأسهم زكريا ويحيى، شدخوا رءوسهم، وقتلوهم، ونشروهم، وسفكوا دماءهم؟
الأنبياء يقتلون؟! {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ} [آل عمران:181].
هم الذين دبروا المكيدة.
ثم قال سبحانه وتعالى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:181 - 182] ثم التفت القرآن إليهم: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} [آل عمران:183] قال سبحانه وتعالى: {فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:183] إن كنتم صادقين أنكم لا تتبعون إلا أنبياءكم فلمَ قتلتموهم؟!(367/4)
اليهود يشهدون زوراً
أتى مجرمٌ من يهود المدينة ووصل مكة -ومحمدٌ عليه الصلاة والسلام في المدينة - ليؤدي أظلم شهادة في التاريخ، فاستقبله الوثنيون المشركون الذين أخرجوا محمداً عليه الصلاة والسلام من مكة، الذين طاردوه، وشردوه، وآذوه، وسبوه، وشتموه، وقاتلوه، وحاربوه، استقبل المجرم كعب بن الأشرف، فلما رأوه ألبسوه برداً -ألبسه الله النار والخزي- ثم استقبله كفار مكة في مجلسٍ كبيرٍ حاشد ليؤدي أظلم وأطغى وأبغى شهادة في التاريخ، قالوا: يا كعب! عندك علم التوراة، أنت عندك علم ليس عندنا -فهم أميون عرب لا يقرءون وليس عندهم كتب- نسألك يا كعب! بالذي شق البحر لموسى وأنجاه من فرعون هل أرسل الله محمداً رسولاً؟ هذا السؤال الأول.
السؤال الثاني: نسألك يا كعب بن الأشرف! بالذي شق البحر لموسى ونجاه من فرعون هل نحن أهدى سبيلاً أم محمد؟
اسمع الجواب، اسمع الخونة أهل الغدر والخيانة ونقض المواثيق.
قال: ما دام أنكم سألتموني بالتوراة وبالذي شق البحر لموسى وبالذي أنجى موسى من فرعون -يعني: متحرج بلغت عنده الأمانة والذمة والورع المنتهى- ما أنزل الله على بشرٍ من شيء، قال: حتى موسى ما أتاه وحي، ولا غيره ولا سواه ولا قبله ولا بعده.
وأما أنتم فأشهد أنكم أهدى من محمد سبيلاً.
فأتى القرآن ليرد عليه، لا مفاوضات، لا حوار، لا جدل منطقي، لا استدراج، لا نتيجة لا مقدمة لا خاتمة، قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:50] أبو جهل الوثني النجس النذل المشرك؛ أهدى من محمد الطاهر العادل البار؟!
محمد المعصوم، المنزل عليه جبريل، المذكور في التوراة والإنجيل، صاحب الغرة والتحجيل أزكى منه أبو جهل؟! يا وثن يا ملعون! اسمع رد القرآن قال: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً} [النساء:50] لا مفاوضات يقول سبحانه: لأنه لم يستدرجه في جدال، ولا برهان، ولا دليل، قال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ} [النساء:52] أنت ملعون أصلاً، لا تستحق أن يسمع منك، ولا تفاوض، ولا يقال لك: أين التوراة؟ أين الإنجيل؟ يكفي أنك ملعون؛ لأنك قدمت شهادة آثمة يدوسها التاريخ بقدمه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:52].
هؤلاء هم أبناء أولئك السلالة، والفصيلة، والنوع، قتلة الأنبياء الذين سبوا الواحد الأحد.(367/5)
اليهود يتهمون الله بالبخل
أتوا إلى من خلق السماوات والأرض، إلى العادل جلَّ في علاه الذي خلق العدل، فقالوا: يد الله بخيلة، لا ينفق كثيراً على الناس، فقال سبحانه يرد عليهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] يعني: بخيلة.
انتهت الشبهة بإيجاز، ذكر كلامهم للتاريخ وللدهر وللبشرية، يحفظه من يحفظه، ويعلمه من يعلمه، ويجهله من يجهله، التاريخ المفضوح المعروض للناس؛ تاريخ اليهود، قال سبحانه: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] هم قالوا: يدٌ واحدة، والله له يدان اثنتان كلتاهما يمين، سحاء بالخير الليل والنهار، وكان الرد من الله فقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64].(367/6)
تأديب القرآن لليهود
ثم أدب القرآن اليهود في أكثر من موطن، يبين لنا أفعالهم وشنيع تصرفاتهم، ويعرض تاريخهم الكائد المكشوف، قال: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام:91] يا كعب! يا كاذب! يا مفتري ما أنزل الله على بشرٍ من شيء؟!! قال سبحانه: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى} [الأنعام:91] التوراة التي في يدك تتأكل بها، وتزور على الناس، وتخادع البشر: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً} [الأنعام:91] هذا صنيعهم في فجر تاريخ الإسلام مع رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.(367/7)
اليهود يغدرون بالنبي صلى الله عليه وسلم
دعوه وقالوا: نتفاوض معك يا محمد! ولا ينادونه بالرسالة تكبراً وبغياً وحسداً، يقرءون في التوراة اسمه، ورسمه، وصفته، وقالوا للأنصار: سوف يبعث لكم عربيٌ من مكة رسولٌ من عند الله؛ فلما رأوه عرفوا الصفة بالمكتوب، والصوت بالصورة، والمقروء بالمشاهد، قالوا: لا.
اختلف الوصف، قال سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] بعدما وصفتم وبشرتم وأخبرتم؛ كفرتم؟!
هذا هو محمد عليه الصلاة والسلام، دعوه للمفاوضة وذهب عليه الصلاة والسلام، ولم يأخذ حرساً، ولا موكباً، ولا خدماً، ولا حشماً، ولا جنوداً، ولا بنوداً.
رعاية الله أغنت عن مضاعفةٍ من الدروع وعن عالٍ من الأطم
ظنوا الحمام وظنوا العنكبوت على خير البرية لم تنسج ولم تحمِ
كأنه وهو فردٌ من جلالته في موكبٍ حين تلقاه وفي حشمِ
وقد كان يحرس من الناس فأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] لا تتخذ حرساً، لا يحميك إلا الله، لا تتخذ جنوداً، ولا موكباً، عناية الله تكفيك، ورعاية الله معك، والله يحوطك بعيني رعايته، فلا تتخذ أمامك ولا خلفك ولا معك من يحوطك، يحفظك الله فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين.
وانطلق بلا حراسة، تعرض لعشر محاولات اغتيال ونجا منها بأعجوبه، فبقي معلماً حتى أدى الرسالة.
فوصل اليهود معه ثلاثة، قالوا: تعال إلى الظل يا أبا القاسم! الخونة يظللونه من الشمس! فقربوه من الجدار فجلس موكلاً أمره إلى الباري، مفوضاً أمره إلى الواحد الأحد، القوي العزيز، المطلع على السرائر، الواحد الأحد: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] أوكل أمره إلى الله: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ * فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر:44 - 45] حسبنا الله ونعم الوكيل هي كلمة محمد صلى الله عليه وسلم، جلس ولسان الحال يقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، والمكيدة تُجرى على السطح، فقربوا صخرة ضخمة يدفعها أربعة منهم وقربوه من الظل، ليسقطوا الصخرة من على الجدار على رأسه، يقتل من؟ أزعيم؟! أفضل الزعماء.
أعالم؟ معلم العلماء.
أصالح؟ سيد الصالحين، يقتل! فقربوا الصخرة وبقي ثوانٍ لتسقط على رأسه الشريف؛ لتنتهي هذه النفس الطاهرة وهذه الروح العامرة ويقتل محمد ليبكي التاريخ، ويندب الدهر، وترثي الدنيا كل الدنيا، ثوانٍ وإذا بالوحي من السماء، قم قم، اذهب اذهب، اخرج اخرج، الموت أقبل منك، يدبرون قتلك، فوثب عليه الصلاة والسلام، وتأخر عن الظل وعن الجدار فوقعت الصخرة مكانه، فدعاهم: يا أعداء الله! وجهز جيشه لبني النضير واستلمهم صلى الله عليه وسلم وأذلهم.(367/8)
إن تنصروا الله ينصركم
وهاهم الآن يكررون تلك الأفعال الشنيعة، لكن هناك كان يقابلهم رجال، قابلناهم بسيد الخلق عليه الصلاة والسلام، بأطهر من خلق الله، وأشجع من برأ الله، وأعدل من أوجد الله، وواجهناهم بـ عمر، أعدل البرية في عهده، الذي هز الدنيا بقميصه المرقع، الذي قرقر بطنه على المنبر من الجوع عام الرمادة فقال: [[قرقر أو لا تقرقر والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]]
أيا عمر الفاروق هل لك عودةٌ فإن جيوش الروم تنهى وتأمرُ
رفاقك في الأغوار شدوا سروجهم وجيشك في حطين صلوا وكبروا
تغني بك الدنيا كأنك طارق على بركات الله يرسو ويُبْحِرُ
دخل بيت المقدس بثوبه الممزق، فقال له الصحابة: البس يا أمير المؤمنين؟ أين خدمك؟ أين حشمك؟ أين موكبك؟ فهز إصبعه، وقال: [[نحن قومٌ أعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]] واستلم المفاتيح.
تعود لنا المقدس إذا عدنا إلى رب المقدس، إلى من أوجد بيت المقدس، تعود لنا فلسطين إذا مرغنا لرب العالمين أنوفنا في الطين.
وأتى صلاح الدين ليقود الأمة، من هو صلاح الدين؟ ما هي بطاقته الشخصية؟ ما هو حسبه؟ ما نسبه؟ مسلمٌ، عبدٌ لله، ولي من الأكراد: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] من نصر الله؛ نصره الله، حبشياً، هندياً، تركياً، فارسياً، تركمانياً، أي بشرٍ وجنسٍ ينصر الواحد الأحد ينصره الله.
أبو لهب القرشي الهاشمي في النار، وبلال العبد الحبشي في الجنة.
ولا تحسب الأنساب تنجيك من لظىً ولو كنت من قيسٍ وعبد مدانِ
أبو لهب في النار وهو ابن هاشمٍ وسلمان في الفردوس من خراسان
صلاح الدين من أي بيت؟ من بيت امرأة تحفظ القرآن.
يا نساء المسلمين! أين من حفظت ابنها القرآن؟ أين من علمت ابنها السنة؟ أين من ردعت عيون ابنها عن المقت والرذيلة والخنا والزور؟ أين من سكبت الطهر في أرواح أبنائها ليخرجوا لنا نسخاً مكررة من صلاح الدين؟
حفظ صلاح الدين الأيوبي الكردي القرآن، وحافظ على تكبيرة الإحرام، لم تفته تكبيرة الإحرام في حياته، كان يقوم الثلث الأخير ويدعو الواحد الأحد: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] النصر من عند الله، وكان يقرأ الموطأ، وكان محدثاً مهتدياً فنصره الواحد الأحد، ورد بيت المقدس.
فإن بقينا على ذنوبنا وخطايانا وإسرافنا مع ربنا؛ فسوف ينشئ الله نشئاً آخر، وجيلاً آخر، متوضئاً، صالحاً، طاهراً، تالياً لكتاب الله، ليعيد لنا بيت المقدس، أما أن نأتي بعقائد هشة، وبولاءٍ منقوص، وبعدم ثقة في الباري وتفويض إليه واتباعٍ لرسوله؛ فأنَّى هذا: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} [آل عمران:165]
أمتي! أمة الإسلام! أمة محمد عليه الصلاة والسلام!
أمتي! أمة القرآن!
أتلقاك وطرفي حاسرٌ أسفاً من أمسك المنصرمِ
كيف أغفيت على الظلم ولم تنفضي عنك غبار التهم
ألإسرائيل تعلو رايةٌ في حمى المهد وظل الحرمِ
أوما كنت إذا البغي اعتدى موجةً من لهبٍ أو من دمِ
اللهم أعد لنا أمجادنا، وارفع أعلامنا، وسدد سهامنا، وثبت أقدامنا، ورد فلسطين محررةً إسلامية، ورد لنا المسجد الأقصى كريماً معززاً من يدِ يهود.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.(367/9)
اليهود قوم بهت
الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكرا، أحمده حمداً لا ينتهي، وأصلي على النبي المعصوم، هادي البشرية، ومهدم كيان الوثنية، وعلى آله وصحبه ومن سار على منهجه إلى يوم الدين.
دخل عليه الصلاة والسلام المدينة، أقبل فاتحاً، طرد من مكة شريداً.
يا طريداً ملأ الدنيا اسمه وغدا لحناً على كل الشفاه
وغدت سيرته أسطورةً يتلقاها رواة عن رواه
هل درت من طاردته أمةٌ هبلٌ معبودها شاهت وشاه
طُرد وحيداً فريداً فقيراً فأسس دولةً في المدينة ملأت السماوات والأرض.(367/10)
عبد الله بن سلام يعلن إسلامه
واسمعوا إلى رجلٍ من اليهود يروي أول يومٍ وصل فيه الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، وهو عبد الله بن سلام رضي الله عنه؛ لأنه أسلم وآمن بمحمدٍ عليه الصلاة والسلام، وبشر بالجنة، وهو الذي شهد شاهدٌ من أهلها، يقول سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] شهد منكم شاهد، صاحب التوراة، قارئكم وعالمكم عبد الله بن سلام، شهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق، كيف استكبرتم! كيف طغيتم! كيف بغيتم! كيف كذبتم!
قال: كنت في السوق فإذا برجلٍ يصيح في السوق: يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، فانقلب السوق بما فيه.
من الذي تكلم؟ أفصح من تكلم.
من الذي خطب؟ أفصح من خطب.
من الذي تحدث؟ أعدل من تحدث.
انقلب السوق، كان إذا تكلم عليه الصلاة والسلام توقفت القلوب، وسالت الدموع، وهاجت الأرواح، واشتعلت الأنفس.
وإذا خطبت فللمنابر هزةٌ تعرو الندي وللقلوب بكاءُ
قال: {أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله} هذا هو فجر التاريخ، هذا هو إمام الإنسانية، انقلب السوق، ترك صاحب البضاعة بضاعته، وصاحب السمن سمنه، وبائع الغنم غنمه، وبائع الجمال جماله، والجزار جزارته، والنجار نجارته، والبزاز بزه، وأقبلوا زرافات ووحداناً، سعوا إليه وهو معتلٍ في السوق كأنه سيفٌ مسلول أو علم منصوب، أو بدر في كبد السماء، فاقتربوا، قال ابن سلام رضي الله عنه وأرضاه يوم أراد الله أن يهديه: فاقتربت معهم، وزاحمت فنظرت إلى وجهه أولاً فإذا هو ليس بوجه كذاب، بل وجه صادق، تعرف الصادق من وجهه، وعباراته، وكلماته، وخطراته، وسكناته، ولحظاته، فنظرت إلى وجهه فرأيت النور البهجة الإشراق الصدق العدل
وجهه يملأ المكان نوراً.
وجهه يملأ الأرواح سروراً.
وجهه يملأ الأنفس حبوراً.
وجهه فقط يهتدى به.
يقول عمه أبو طالب:
وأبيض يستسقى الغمام بوجهه ثمال اليتامى عصمة للأراملِ
يكفيك شاهد أن تنظر في وجهه، حتى يقول ابن رواحة:
لو لم تكن فيه آياتٌ مبينةٌ لكان منظره ينبئك بالخبرِ
لا تطلب أدلة، لا تطلب براهين، انظر إلى وجهه، فقط صعِّد نظرك في هذه البسمات، والقسمات، والرسمات؛ لترى النور يفاجئك ويدخل قلبك.
قال: فنظرت إلى وجهه فإذا هو ليس بوجه كذاب، ثم تكلم عليه الصلاة والسلام فقال: {أيها الناس! أطعموا الطعام، وصلوا الأرحام -اسمع الكلمات والدرر والجواهر وكان اليهود يسمعون مع المسلمين- وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام} فقام عبد الله بن سلام فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، فسأله من أين أنت؟ قال: من اليهود، فتعجب عليه الصلاة والسلام ورحب به وحياه، وأخبره بما أنزل الله عليه، وما ذكر الله من أخبار موسى، فإذا الرسالة نفس الرسالة، وإذا المعنى هو المعنى، وإذا الدليل هو الدليل.(367/11)
موقف اليهود من ابن سلام
قال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت -يبهتون، يخونون، يغدرون، أهل زور، أهل كذب، لا تخبرهم أني أسلمت، لكن ادعهم -يا رسول الله- إلى بيتك أو إلى المشربة، واجعلني خلفك في غرفة واسألهم عني، ثم أخرج وأقول: أسلمت، واسمع ماذا يقولون، فأخذه ووضعه في غرفة وأغلق عليه، ثم دعا من اليهود عشرة من أحبارهم، ومن دجاجلتهم، من الذين يتأكلون بالتوراة، المزورين على الله ثم التاريخ، قال: كيف عبد الله بن سلام فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا، وعالمنا وابن عالمنا، وحبرنا وابن حبرنا، وسيدنا وابن سيدنا.
فقيههم وعالمهم هو عبد الله بن سلام، وهؤلاء عشرة قد شهدوا، فقال صلى الله عليه وسلم: كيف لو أسلم؟ قالوا: أعاذه الله من ذلك -يقولون: حماه الله من أن يسلم لك، أو يصدقك، أو يتبعك- قال: اخرج إليهم، فخرج وقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله.
قالوا: شرنا وابن شرنا، وخبيثنا وابن خبيثنا، وكاذبنا وابن كاذبنا، قال سبحانه: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10] هذا هو الشاهد، فلم لا تسلموا؟! عرف الحق وهو عالمكم، فلم لا تتبعون الحق؟ فما المعنى؟
المعنى أننا نجابه قوماً سبوا الواحد الأحد، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بالشرائع، واغتالوا الحق، وحاربوا العدل في الأرض، فليس لنا معهم إلا أن نعود إلى الله ونفوض أمرنا إلى الله، ونلجأ إلى الواحد الأحد، ونستجير به منهم، لننتصر عليهم.
فيا من أراد أن تنتصر الأمة! انصر الإسلام في نفسك وبيتك وأسرتك ومدرستك وناديك.
يا من أراد أن تعود لنا أرضنا، ويُحمى عرضنا، ويُكف الظلم والذبح والقتل والتشريد عن أبنائنا! استلهموا الرشد من الواحد الأحد، اطلبوا النصر من الله، الجئوا إلى الله، جددوا التوبة معه سبحانه.
يا ألله! كان المسلمون في القادسية، واليرموك، وعين جالوت، وحطين إذا حضروا المعركة رفعوا أكفهم إلى الله، والآن نحضر فنرفع شكاوينا إلى المجالس الكافرة، وإلى الأندية الغابرة، ونتكفف ونستجدي الأمم!
يا ألله! صلاح الدين يوم حضر في حطين، يقاتل أعداء رب العالمين، أهل الصليب، قال لجيشه: امكثوا، لا تبدءوا المعركة حتى يصعد الخطباء في العالم الإسلامي على المنابر، فإنها ساعة استجابة، فإذا بدأ الخطيب يخطب، وتنزل النصر من السماء؛ بدأنا المعركة.
فلما صعد الخطباء المساجد في العالم الإسلامي، ماذا فعل؟ ألقى خوذته، ومرغ وجهه في التراب، واستقبل القبلة، وبكى وناشد الله النصر، وتوجه بجيشه فأحرقوا الصليب وأهله، وفتح بيت المقدس {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160].
أيها الناس! أسأل الله باسمه الأعظم، الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، وأسأله بأسمائه الحسنى، وصفاته العلى، أن ينصرنا نصراً مؤزراً.
اللهم ارفع راياتنا وأيّد بيناتنا، اللهم انصرنا على عدوك وعدونا، اللهم انصرنا على قتلة الأنبياء الذين سبوك وسبوا كتبك، وآذوا رسلك.
اللهم مزقهم، اللهم احرقهم، اللهم دمرهم، اللهم شردهم.
اللهم اجعلهم عبرةً للمعتبرين، وعظة للمتعظين، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق، اللهم وحد صفوفهم، اللهم ألف بين قلوبهم، اللهم ردنا إلى الكتاب والسنة رداً جميلاً، اللهم ارفع الضائقة عنا، اللهم ارفع الكرب، وفك الخطب، فأنت نعم الرب.
اللهم إنهم استأسدوا، وبطشوا، وسفكوا، وآذوا، وسبوا، وشتموا، اللهم فنصرك الأكيد، وبطشك الشديد، يا ذا العرش المجيد.
اللهم أهلِك يهود، اللهم اكفنا شرهم بما شئت يا رب العالمين.
اللهم صلِّ وسلم على النبي المجتبى، والرسول المصطفى، اللهم اعرض عليه صلاتنا وسلامنا في هذه الساعة المباركة، جزاء ما قدم وبلغ ونصح وبيّن.
اللهم صلِّ عليه وعلى آله وسلم، وعلى أصحابه ومن سار على منهجه إلى يوم الدين، اللهم ارض عن خلفائه الراشدين المهديين، ومن سار على منهجهم يا رب العالمين.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلامٌ على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(367/12)
أما بعد
إن الداعية المسلم لا يعرف الكسل والخمول، ولا يعرف التوقف عن تبليغ دعوته مهما سجن أو عذب، إنما هو كالنخلة يثمر وينتج في كل زمان ومكان؛ ينشر دعوة ربه ويُعبِّد الناس لخالقهم.
وهو يتصف بالأسلوب الدعوي المعروف عن سيد الدعاة محمد صلى الله عليه وسلم ويتصف بصفات الداعية الحق.(368/1)
لله الأمر من قبل ومن بعد
الحمد لله، أحمده تعالى على جميل إنعامه وإفضاله، وأشكره على جليل إحسانه ونواله، له الحمد على أسمائه الحسنى وصفات كماله ونعوت جلاله، وله الحمد على عدله قدراً وشرعاً، وله الحمد في الآخرة والأولى وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق العلي الكبير، تعالى في ألوهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته، تعالى في أحكامه وأفعاله عن الشريك والوزير، وتقدس في أحديته وصمديته عن الصحاحبة والولد والولي والنصير، وتنزه في صفات كماله ونعوت جلاله عن الكُفُؤ والنظير، عز جاهه وتقدست عظمته، عظم شأنه عن المنازع والمغالب والمعين والمشير، جل في بقائه وغناه عن المطعم والمجير، فسبحانه ما أعظمه وأحلمه وأجله! وما أكمله! وما أقواه! وما أغناه! عليه توكلت وإليه أنيب وهو حسبي ونعم الوكيل.
من أين أبدأ؟!
من أين أبدأ والمحامد كلها لك يا مهيمن يا مصور يا صمد
من أين أبدأ وهو الذي مدح نفسه قبل أن يمدحه المادحون، ووصف نفسه قبل أن يصفه الواصفون، وأثنى على نفسه قبل أن يثني عليه المثنون، كيف أبدأ؟
من أين أبدأ والمحامد كلها لك يا مهيمن يا مصور يا صمد
احترت في أبهى المعاني أن تفي بجلال قدرك فاعتذرت ولم أزد
الحمد لله جزيل العطاء، مسدي النعماء، كاشف الضراء، معطي السراء، الحمد لله عالم السر والجهر، الحمد لله عالي القهر والقدر، الحمد لله المتكفل بالأقوات، المدعو في الملمات والمدلهمات، كاشف الكربات، المرجو في الأزمات، الحمد لله على كل نعمة أنعم بها، وعلى كل بلية صرفها، وعلى كل أمر يسره، وعلى كل قضاء قدره، وكل مكروه كفاه، وكل حادث لطف فيه، الحمد لله كم أعطى من النعيم، كم منح من الخير العميم، كم تفضل به من النوال الجسيم، عمت نعمه، وانصرفت نقمه، تضاعف كرمه، الحمد لله على تمام المنة، الحمد لله بالكتاب والسنة، الحمد لله على نعمة الإسلام، وتواتر الإنعام، توالت فضائله وعم نواله، وحسنت أفعاله وتمت أقواله، الحمد لله نور الجميل، واهب العطاء الجزيل، شافي العليل، المبارك في القليل، أجود من أعطى، وأشرف من أوفى.
يا غافلاً عن إله الكون يا لاهي تعيش عمرك كالحيران كالساهي
ارجع إلى الله واقصد بابه كرماً والله والله لن تلقى سوى الله
من قبله فهو المقبول، من حاربه فهو المخذول، من التجأ إليه عز، من توكل عليه كفاه، من أطاعه تولاه، من عاداه قصمه، من بارزه حطمه، من أشرك به أحرقه.
فوالله لو صغنا من الدمع قصة وصار كتاب الحب بالدم يكتب
وسرنا على الأجفان نمشي محبةً على النار نشوى أو على الجمر نسحب
لما بلغت ما تستحق جهودنا فكل ولو نال المشقة مذنب
الكل مذنب ومقصر، الكل معترف وأنا أول المعترفين: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، النبي الخاتم، والإمام المعصوم، والأسوة الحسنة، والقدوة المثلى، شرف الحواضر والبوادي، زينة النوادي، أعظم هادي، وأفضل حادي.
يا طريداً ملأ الدنيا اسمه وغدا لحناً على كل الشفاه
وغدت سيرته أسطورة يتلقاها رواة عن رواه
ليت شعري هل درى من طاردوا عابدو اللات وأتباع مناة
هل درت من طاردته أمة هبل معبودها شاهت وشاه
أما بعد:
فعنوان محاضرتي "أما بعد" وأما بعد وأما قبل فلله الأمر من قبل ومن بعد، ليس لنا من الأمر شيء، وليس لنا مع قدرته حول، وليس عندنا لأمره رد، وما لنا لقضائه حيلة، وما لدينا مع قدرته تدبير، هو الفعال لما يريد ونحن العبيد، إن تشرفنا فالطين أصلنا، وإن افتخرنا فالتراب مردنا، وما لمن خلق من ماء مهين أن يشمخ بأنفه أو يزهو بعلمه، أو يعجب برأيه، سبحانك! اعترفت بذنبي وتقصيري أمامك.
يا أنت يا أحسن الأسماء في خلدي ماذا أعرف من متن ومن سند
تقاصرت كلم الأوصاف عندكم لما سمعنا ثناء الواحد الأحد
والله لو أن أقلام الورى بريت من العروق لمدح السيد الصمد
لم نبلغ العشر مما يستحق ولا عُشر العشير وهذا غاية الأمد
يا رب! يا حي يا قيوم! يا لطيف! أنت الكامل وأنا الناقص، أنت الغني وأنا الفقير، أنت القوي وأنا الضعيف، أنت الحي وأنا الميت، أصابع المذنب تشير إلى الغفار، ألسنة الفقر تدعو الغني، أكف الضعف ترفع للقوي، الميت يمدح الحي القيوم، الغريق ينادي يا ذا الجلال والإكرام! الكلمات والإشارات عاجزات، البلاغة والبيان والتعبير تعلن التبشير، لا يعلم ما يستحق إلا هو، ولا يحيط بعلمه سواه، لا يقدر قدره إلا إياه، لا يحسن الثناء عليه غيره، إن قدسته أو سبحته أو مجدته فهو الذي علمني، إن حمدته أو كبرته أو وحدته، فهو الذي ألهمني، إن عبدته أو شكرته أو ذكرته فهو الذي أكرمني، صفات المدح في الكاملين ذرة من كماله، نعوت الفضل في الأبرار نفحة من أفضاله، ألسنة المادحين، وأقلام الواصفين، حائرة في جلاله، من أنا حتى أمدحه؟! من أنا حتى أمجده؟! من أنا حتى أثني عليه؟! أنا الذي خلقت من تراب أصف الملك الوهاب؟! أنا الذي صور من طين أذكر جلال رب العالمين؟! إن الخجل يملأ فؤاد من خلق من ماء مهين، إذا قام يشدوا بأوصاف أحكم الحاكمين.
اللهم إن أشرف تاج نحمله تمريغ الأنف على التراب لجلالك، اللهم إن أعظم وسام نحمله وضع الجباه على الأرض لعبوديتك، أنا الظالم لنفسه، المعترف بتقصيره، المقر بذنبه، أنت الواجد الماجد الغني الحميد، عز جاهك، جل ثناؤك، تقدست أسماؤك، لا إله غيرك.
قد كنت أشفق من دمعي على بصري فاليوم كل عزيز بعدكم هانا
يا ألله! سجد وجهي لك، يا ألله! خشع سمعي وبصري لك، يا ألله! رغم أنفي لك، يا ألله! ذلت رقبتي لك، يا ألله! وجل قلبي منك، يا ألله! التجأت نفسي إليك، يا ألله! حسن ظني فيك، يا ألله! طاب الحديث عنك، يا ألله! كمل التوكل عليك.
إليك وإلا لا تشد الركائب ومنك وإلا فالمؤمل خائب
وفيك وإلا فالغرام مضيع وعنك وإلا فالمحدث كاذب(368/2)
الوصايا العشر
أما بعد:
فقد وقفت عشراً واستفدت عشراً:
أولاها: اللجوء إلى الله في الملمات، وقصده في الكربات، وسؤاله في الأزمات.
ثانيها: أن مع العسر يسراً، ومع الكرب فرجاً، ومع الضيق سعة، وبعد الشدة رخاء.
ثالثها: أنه ليس لك في المصائب إلا الله، وما لك عند الدواهي إلا الله، وما معك في الخطوب إلا الله: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62] فوحدوه وأخلصوا له العبادة، وأطيعوه واهتفوا بولائه، وادعوه، والتجئوا إليه، واسجدوا له، واشكروه.
رابعها: أن العلماء يصيبون ويخطئون، والدعاة يحسنون ويغلطون، والمصلحون يسددون ويعثرون، إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، فهو المصيب بلا خطأ، والمسدد بلا غلط، والمصلح بلا عثرة: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4].
خامسها: أن الكتب تعرف منها وتنكر، وتقبل وترد، وتوافق وتخالف، إلا الوحي كتاب وسنة، ففيه الصحة كلها، والصواب أجمعه، والحق أتمه وأكمله، والعدل أوله وآخره.
سادسها: أنه ليس لأحد أن يدّعي أنه المخول وحده لنصرة الدين، ولا التكلم باسمه، فدين الله منصور، شاء من شاء، وأبى من أبى: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89].
نصر محمداً العربي صلى الله عليه وسلم سلمان الفارسي، وصهيب الرومي، وبلال الحبشي، وصلاح الدين الكردي، ونور الدين التركماني، وإقبال الهندي.
سابعها: أن الرفق هو الطريق الأمثل للدعوة، وأن الكلمة اللينة هي السحر الحلال، وأن الأسلوب السهل هو مصيدة الرجال، فاسأل الله أن يصلح النية والذرية، وأن يوفق الراعي والرعية.
ثامنها: أن غالب محاضرات الدعاة، وندوات العلماء، حسن وصواب، وحق وعدل، والقليل النادر غلط وخطأ؛ لعنصر البشرية وضعف الإنسانية، وانتفاء العصمة وانقطاع الوحي.
تاسعها: وجدت أن الأمة لايشفي عليلها ولا يروي غليلها، مقطوعة من فنان، ولا طرح من علماني، ولا هيام من شاعر، ولا خيال من فيلسوف، إنما يحييها ويرفعها ميراث من نبوة، وتركة من رسالة، وأثارة من وحي: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
عاشرها: وجدت أن الأمة قد تكون غير منتجة، ولا مخترعة، ولا مكتشفة، ولا مصنعة، ولكنها لا تعيش بلا إيمان، ولا تحيا بلا رسالة، ولا تشرف بلا منهج: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
تلك عشرة كاملة، أهديها لمحبي النصح وعاشقي الفضيلة وطلاب الحقيقة، وشباب الإصلاح ورواد المعرفة: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْأِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود:88].
دعها كما شاءها الرحمن جارية الله يحفظها والله يرعاها
لها من الوحي نور تستضيء به وبهجة الغار تبدو في محياها(368/3)
أسلوب الداعية في الدعوة
أما بعد:
فهذه عشر سنوات طويلات قصيرات، فيها حسنات وسيئات، ومضحكات ومبكيات، مرت بسرورها وحزنها، ونعيمها وبؤسها، وغناها وفقرها، ولذتها ومعاناتها.
فتصرمت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أيام
ثم انبرت أيام هجر أعقبت صبري أسىً فكأنها أعوام
ثم انقضت تلك السنون وأهلها فكأنها وكأنهم أحلام
انتهت هذه العشر عندنا، ولكن ما انتهت عند الله: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52].
أما بعد:
فإن الداعية ليس له حقل واحد لا يعمل إلا فيه، بل حقول متعددة، وميادين مختلفة، ومنابر شتى، فالدعوة لا يحدها حد، ولا يحصرها حصر، ولا يقيدها قيد.
إن الدعوة تجري في دم الداعية، يقولها كلمة، يصوغها عبارة، ينشدها قصيدة، يدبجها خطبة، ينقلها فكرة، يؤلفها كتاباً، يلقيها محاضرة.
إنها قد تكون مع النفس محاسبة ومراقبة، وتكون مع الأم براً وحناناً، ومع الأب شفقة ورحمة، ومع الابن تربية وأدباً، ومع الجار إحساناً وبراً، ومع المسلم مصافاة ومودة، ومع الكافر دعوة وحواراً، فهذا إبراهيم الخليل عليه السلام يتلطف بأبيه، يا أبتي! يا أبتي! يا أبتي!
وهذا نوح ينوح على ابنه: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود:42]
وهذا لقمان يترفق بابنه وفلذة كبده، يا بني! يا بني! يا بني!
وهذا موسى يعطف على فرعون، وهذا مؤمن آل فرعون يقول لقومه: يا قومي! يا قومي! وهذا مؤمن آل ياسين، ينادي وهو في الجنة: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس:26]
إن الدعوة هم لازم، وواجب دائم، فهي معك في السيارة والطيارة والسفينة، وفي النادي والجامعة والمزرعة والمتجر، قد تدعو بسيرتك أكثر من كلامك، وتدعو بصفاتك أعظم من خطبك، وتدعو بخلقك أحسن من محاضراتك، ليس للداعية وقوف.
سجن يوسف فدعا في السجن، وطرد نوح فدعا في السفينة، وحوصر محمد صلى الله عليه وسلم فدعا في الشعب، وطوق فدعا في الغار، وطرد فأنشأ دولة.
قيل لشيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله سره: إن السلطان أمر بإخراجك إلى قبرص، قال: والله إن بي من السرور والفرح ما لو وزع على أهل الشام لوسعهم، والله إني كالغنمة -هذا لفظه- لا تنام إلا على صوف، إن خرجت إلى قبرص دعوتهم إلى لا إله إلا الله فأسلموا، وإن سجنت خلوت بعبادة ربي، وإن قتلت فأنا شهيد.
ليس من المهم عند الداعية، أن يكون له جمهور حاشد أو حفل بهيج أو مستمعون كثر، المهم أن يقول الحق، وأن يأمر بالمعروف، وأن ينهى عن المنكر، وأن يحمل الميثاق بأمانة، وأن يبلغ الشريعة بصدق: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] بعض الأنبياء لم يستجب له أحد، والبعض استجاب له واحد أو اثنان، والبعض جماعة، وبعضهم دعا عمره كله ثم قتل ولم يطعه بشر، وأنبياء آخرون مكثوا السنون الطويلة يدعون ثم نشروا بالمناشير.
سيدي علل الفؤاد العليلا أحيني قبل أن تراني قتيلا
إن تكن عازماً على قتل روحي فترفق بها قليلاً قليلا(368/4)
صفات الداعية(368/5)
الداعية تابع محمد صلى الله عليه وسلم
إن الداعية ليس فناناً يداعب العواطف ويلعب بالمشاعر، ويتفقد مكامن التأثير في النفس، وليس شاعراً يسلب الألباب ويسافر مع الخيال، ويهيم في أودية الضلال، وليس فيلسوفاً يقنن القوانين ويضرب الأقيسة، ويحدد المقدمات، ويخلص إلى النتائج، وليس سلطاناً يفرض كلمته، ويؤدب أمته، ويحشد جنوده، ويرفع بنوده.
وليس تاجراً يجمع الدراهم، ويكنز القناطير المقنطرة، ويرصد الشيكات، ويضارب بالأسهم.
الداعية شيء آخر، إنه تابع لمحمد عليه الصلاة والسلام، ابن بار برعيته، وتلميذ نجيب في مدرسته، طالب متفوق في جامعته، يسري حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم في دمه، ويشع في قلبه، ويضيء طريقه، ويملأ وجدانه، ويلهب ضميره.
الحب ليس رواية شرقية بأريجها يتروج الأبطال
لكنه الإبحار دون سفينة ومرادنا أن المحال محال(368/6)
الداعية لا يعرف التوقف عن الدعوة
الداعية ليس له إجازة ولا انتداب ولا مخصصات ولا عادات، الداعية ليس له حفل مولد، ولا مهرجان تخرج ولا حفل وداع، ولا مناسبة استقبال، بل هو مع الأنبياء؛ تلقاه على الرصيف، وفي الدكان، ومع أهل الحرف، مع النجار والخباز، والنساج والبناء، مع الناس باختلاف أذواقهم، ومشاعرهم وطبقاتهم، وألوانهم وأجناسهم، داعياً للملك والمملوك، داعياً للأمير والوزير، داعياً للكبير والصغير، داعياً للأنثى والذكر، داعياً للأبيض والأسود، الداعية باع نفسه من الله، فلا يطالب ولا يضارب ولا يعاتب ولا يحاسب، فاتورة تعبه مدفوعة في الآخرة: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5].
شيك أجرته مصروف من بنك: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] وسند أمواله موقع عليه: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79].
بعنا النفوس فلا خيار ببيعنا أعظم بقوم بايعوا المختارا
فأعاضنا ثمناً أجل من المنى جنات عدن تتحف الأبرار(368/7)
الداعية لا ينتظر مكافأة من أحد
الداعية لا ينتظر شهادة حسن سيرة وسلوك من البشر، ولا نياشين يعلقها على صدره، ولا نجوم يضعها على أكتافه، ولا صورة ذكرى يرفها في مجلسه، إنه يريد تاج: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة:119].
ويطمع في نجوم: {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة:54] ويرغب في نياشين: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] الداعية لا يعين بقرار جمهوري، ولا بوثيقة حكومية، ولا بانتخاب من الجمهور، الداعية لا يأتي عن طريق صناديق الاقتراع، ولا المجلس النيابي، ولا الهيئات البرلمانية، فهو فوق الكنجرس، واللوردات والشيوخ، إن الله عينه، والواحد الأحد هيأه، والرحمن استأمنه: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] الداعية مولاه الله، وإمامه محمد، وبيته المسجد، ومذكرته القرآن، وزاده التقوى، وعصاه التوكل، ولباسه الزهد، ومركبه اليقين، وطريقه الهدى، ومراده الجنة: {دعها فإن معها حذاءها وسقاءها ترد الماء وترعى الشجر حتى يلقاها ربها}
أنا ربي الله والدين أبي ورسول الله دوماً قدوتي
ولي القرآن نور ساطعٌ وإلى الكعبة دوماً قبلتي
الداعية لا تتوقف دعوته مع التخرج من المدرسة الليلية، ولا من مكافحة الأمية، ولا من الجامعة، ولا من المجالس الفقهية، ولا من المجامع العلمية، جامعة الداعية: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت:33] وشهادته: {بلغوا عني ولو آية} ووثيقة تخرجه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر:94] الداعية لا ينتظر راتباً شهرياً، ولا مكافأة سنوية، ولا إكرامية مالية، ولا هتافاً جماهيرياً، ولا شكراً من الوزير، ولا ترقية من الفريق، ولا ثناء من مدير المدرسة، راتبه: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ} [فاطر:30] مكافأته: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً} [الحشر:8] إكراميته: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} [الحجر:46].
هتافه: لا إله إلا الله، شكره {سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد:24] ترقيته: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
الداعية لا ترفع له أقواس النصر، ولا تعلق صوره، ولا ينتظر قصائد مدح، ولا ملحمات ثناء، ولا مقامات تبجيل، أقواس نصره: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً} [الفتح:1].
صوره المعلقة: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود:1] مديحه: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] مقامات تبجيله: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139].
وثيقتي كتبت في اللوح وانهمرت آياتها فاقرءوا يا قوم قرآني
والوحي مدرستي الكبرى وغار حرا تاريخ عمري وميلادي وعرفاني(368/8)
اللين وحسن الخلق
أما بعد:
فالداعية رحيم رفيق، قريب حبيب، سهل لين، صبور شكور رحيم؛ لأن الرحماء يرحمهم الرحمن؛ ولأن إمامه محمد صلى الله عليه وسلم أرسله الله رحمة للعالمين وهو يقول: {من لا يَرحم لا يُرحم} يقول أحد العلماء: ينبغي للمسلم إذا رأى الكافر أن يتمنى إسلام هذا الكافر رحمة به وشفقة عليه أن يدخل النار.
رفيق؛ لأن الله رفيق يحب الرفق، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع الرفق من شيء إلا شانه} والرفق يسهل الصعاب، ويقرب البعيد، ويلين القاسي، ويطوع العاصي، ويجذب القلوب.
قريب: فهو يدنو من النفوس، وتحبه الأرواح وتعشقه الضمائر، وتهفو إليه البشر، قريب منهم متواضع كما كان قدوته ورسوله عليه الصلاة والسلام.
حبيب؛ تحبه القلوب، تفرح إليه، تشتاق لقدومه، تأنس بطلعته: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم:96].
يقول أحد الفضلاء: إذا سافرت ولم يبك عليك أصحابك، فراجع أخلاقك.
سهل لين؛ فهو كمعلمه صلى الله عليه وسلم، سهل في كلامه، فلا يتفيهق، ولا يتنطع، ولا يتشدق، ولا يتعمق، ولا يتكلف، سهل في أفعاله، فلا شطط، ولا يحملهم العبء ولا يجشمهم مشقة، صبور على الملمات والأزمات، صبور على الكربات والفواجع والحوادث والكوارث، يجوع فيصبر، يُسَب فيصبر، يُجلد فيصبر، يُحبس فيصبر، يُبكت فيصبر، يُكذّب فيصبر، يُؤذى فيصبر.
وانظروا إلى الأنبياء، أما نوح فازدجر، وأما صالح فقيل له: كذاب أشر، وأما هود فقُهِر، وأما زكريا فنشر، وأما يحيى فنحر، وأما موسى فضاق به المفر، وأما عيسى فافتقر، وأما محمد فابتلي فصبر، وأعطي فشكر، فعليهم الصلاة والسلام جميعاً، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل:127] وقال: {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5] وقال: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [المزمل:10] {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران:134] {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون:96].
والداعية شكور؛ شكور على النعمة، يُعطى فيشكر، يُسدد فيشكر، يُفتح عليه فيشكر، يأكل فيشكر، يلبس فيشكر، ينام فيشكر، يصح فيشكر، يمرض فيشكر، يعافى فيشكر، يبتلى فيشكر، يغتني فيشكر، يفتقر فيشكر: {وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:144] {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم:5] {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم:7].
لك الحمد يا رحمان ما هلَّ صيب وما تاب يا من يقبل التوب مذنبُ
لك الحمد ما هاج الغرام وما همى الغمام وما غنى الحمام المطربُ(368/9)
معرفة قيمة الزمن
أما بعد:
فإن الداعية يعلم أن الحياة ليست فرصة لتقلد منصب، ولا الظفر بإمارة، ولا العثور على وزارة، ولا جمع تجارة، ولا التشرف بسفارة، وليست الحياة عنده متعة يقضيها في اللهو واللعب، ليس عنده إجازة يقضيها على ضفاف الأنهار، ولا في قمم الهملايا، ولا عند شلالات نياجرا، ولا في أبراج كوالالمبور، ولا في حضور عيد الأم، وليس عند الداعية أرصدة في البنوك الربوية، وليس له هم في مراقبة البورصة العالمية، ولا الاهتمام بأسواق الذهب ولا بأسعار البترول، فكنزه وماله وغناه ومستقبله في جنات تجري من تحتها الأنهار، فلا يجهزه إلا: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن:54] ولا يفرحه إلا: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين:24] ولا يسره إلا: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين:25] ولا يسعده إلا: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة:24] ولا يطربه إلا: {حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ} [الرحمن:72] ولا ينعشه إلا: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان:20].
الداعية ليس له سفر مع ألف ليلة وليلة، ولا أنس بـ أبي نواس، ولا خلوة مع بدائع الزهور، ولا توثيق من الزير سالم، ولا سند من شمس المعارف.
سهره مع صحيح البخاري، أنسه مع ابن تيمية، خلوته مع رياض الصالحين، توثيقه من يحيى بن معين، سنده من سفيان الثوري:
هيهات رحلة مسرانا جحافلنا كما عهدت وعزمات الورى أنفُ
في كفك الشهم من حبل الهدى طرف على الصراط وفي أرواحنا طرفُ
الداعية لا يفتخر بصداقات المشاهير، ولا نجوم الكرة، ولا نجوم الفن، ولا كواكب المسرح، ولا الساسة العمالقة، ولا الفلاسفة العباقرة، ولا رموز الثقافات، فله صداقات ومودات، مع نوح وإبراهيم، وموسى وعيسى، ومحمد، عليهم الصلاة والسلام، وله علاقة بـ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وله اتصال بـ أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب.
الداعية ليس منهمكاً في زوايا الغرام، ولا مع قصاصات الهيام، ولا مع آهات الهجر، ولا زفرات الجوى، وأوجاع العيون السود، زفراته من: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك:8] وآهاته من: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} [النساء:56] وأوجاعه من: {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة:27 - 29].
أما بعد:
فإن الداعية تتقلب به الأيام، وتتغاير عليه الليالي، وتختلف عليه الساعات، وتتعاقب عليه السنون، رضاً وغضباً، وسروراً وحزناً، شبعاً وجوعاً، منبر وحبس، شكر وشق، إقبال وإدبار، منحة ومحنة، عطية وبلية، أمل وألم، وهو مع ذلك عبد الله، ينزل مع القرآن أينما نزل، ويهبط مع الوحي أينما هبط، ويسافر مع الرسالة الخالدة أينما سافرت، ويرتحل مع القرآن أينما ارتحل، يصلي في القصر والحبس، في الجماعة والمزرعة، في الحاضرة والبادية، يسبح في النادي والمنتزه، يكبر في المسجد والسوق.
الداعية عنده شهادة أكبر من شهادات الأرض، ولديه وثيقة أعظم من وثائق أهل المعمورة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] وعنده تزكية أجل من كل تزكية: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173].
أيها الداعي الذي عبد الله طريق النجاة فيك قويم
أدعياء الضلال سُحار فرعون وأنت العصا وأنت الكليم(368/10)
العيش مع القرآن والسنة
أما بعد:
فقد قرأت عشرات المجلدات والمصنفات والمؤلفات، فما وجدت كالقرآن حسناً وجمالاً، بهجة ونظرة، قوة وفخامة، صدقاً وعدلاً، سادةً وإشراقاً.
وطالعت مئات المجلات والجرائد والدوريات والصحف، فما رأيت كالسنة عطاءً وبركة، سلوة وعزاءً، توعية وتربية، إرشاداً ونصحاً، تعليماً وتقويماً.
وسمعت آلاف الكلمات والأبيات، واللطائف والنكات، فما وجدت كذكر الله إيماناً ويقيناً، وروحاً وطمأنينة، وأنساً ورحمة، وثواباً وأجراً.(368/11)
الداعية متعدد المواهب
أما بعد:
فإن الداعية قد يكون غنياً كسليمان، وقد يكون فقيراً كعيسى، وقد يكون صحيحاً كإبراهيم، وقد يكون مريضاً كأيوب، وقد يطول عمره كنوح، وقد يقصر عمره كيوشع، وقد يكون ملكاً كداود، وقد يكون خياطاً كإدريس، وقد يكون راعياً للغنم كموسى، وقد تمر به الحالات جمعياً من غنى وفقر، ونصر وهزيمة، ونعيم وبؤس، وصحة ومرض، وعافية وبلاء، كمحمد صلى الله عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين وسلم.
لأجل دينك ذاق القتل من قتلوا كأنما الموت في ساح الوغى عسلُ
ترى المحبين صرعى في ديارهم كفتية الكهف للرضوان قد نقلوا
وقد يكون الداعية واسع الخير، متعدد المواهب، كثير الإحسان، عظيم البر، كـ أبي بكر الصديق، يدعى من أبواب الجنة الثمانية، فلله دره، ما أجمله! ما أقواه! ما أصدقه!
وقد يكون صارماً حازماً قوياً شديداً في الحق، ذا صولة في الدين، ذا هيبة في الملة، كـ عمر بن الخطاب.
وقد يكون هيناً ليناً، سهلاً قريباً حيياً حليماً سخياً كـ عثمان بن عفان.
وقد يكون مقداماً شجاعاً، أبياً مضحياً فدائياً بطلاً كـ علي بن أبي طالب.
وقد يكون الداعية بحراً في العلم، دائرة معارف، موسوعة في الشريعة كـ ابن عباس.
وقد يكون خطيباً لوذعياً يرسل الكلمة كالقذيفة، ويبعث الحرف كالشهاب، ويطلق الجملة كالبركان، كـ ثابت بن قيس بن شماس.
وقد يكون الداعية شاعراً، يرسم الحرف في القلب، ويصنع البيت كالضياء، وينشد القصيدة كقطعة الماس كـ حسان بن ثابت.
وقد يكون للداعية حشم وخدم، ومال وجمال، وعيال كـ عبد الرحمن بن عوف.
وقد يكون الداعية فقيراً معدماً مملقاً، لا بيت ولا قصر ولا دار ولا عقار، ولا دينار كـ أبي ذر.
وقد يتولى الإمامة كـ معاذ، ويتولى القضاء كـ علي، والأذان كـ بلال والمواريث كـ زيد، والقيادة كـ خالد، والإمارة كـ أبي عبيدة، وقد يتكلم الداعية من بلاط السلطان كـ الزهري، وقد يتكلم من تحت الأرض من القبر كـ الزركشي، وقد يبجل ويحتفل به كـ مالك بن أنس، وقد يذهب دمه هدراً ورأسه شذراً كـ أحمد بن نصر الخزاعي.
الداعية كالهدهد، قطع الفيافي والقفار، ليبلغ رسالة الواحد القهار، العظيم الغفار، جلّ في علاه، يقول أبو معاذ الرازي: ويل لمن كان الهدهد خيراً منه، فكيف يبلغ الهدهد التوحيد وأنت ما بلغت التوحيد: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النمل:25] وقد يكون الداعية كالنملة، يحذر قومه، وينذر بني جنسه: {لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] وكالنحلة يجمع أطايب الحديث ويكنز أحسن المعرفة: {ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [النحل:69].
فيا حب زدني في هواك صبابة ويا قلب زدني في هوى مهجتي حبا
لعلي إذا جئت المحصب من منى نحرت فؤادي كي أفوز به قربا(368/12)
الثبات على المبادئ
إن أهم صفة من صفات الداعية، أنه صاحب مبدأ، وحامل رسالة، وله منهج، قد يغلظ أو يرفق، يقسو أو يلين، يقبل أو يدبر، يواجه أو يهادن، لكنه صاحب مبدأ، قد يحاور ويفاوض، ويرد ويقبل، ويأخذ ويعطي، ويغضب ويرضى، لكنه صاحب مبدأ، له ثوابت لا يتخلى عنها، وربما تنازل عن الحواشي ليبقى الأصل، وربما ترك التعليق ليبقى المتن، وربما تخلى عن الإطار لتبقى الصورة.
وقفة:
اللهم إن أجل ما نملك دماؤنا، اللهم فاسفكها في سبيلك، أسألك أن تسفك دماءنا لترتفع لا إله إلا الله محمد رسول الله ولينتصر المنهج الحق، منهج السلف، منهج أهل السنة والجماعة في الأرض.
الداعية هو الناطق الرسمي للملة: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ} [الكهف:29] والسفير الأول للشريعة: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب:45] والمندوب الدائم لمحمد صلى الله عليه وسلم: {نضر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها فأداها كما سمعها، فرب مبلَّغ أوعى من سامع} الأمين العام للقيم: {إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص:26].
الداعية له في كل قلب سفارة، وفي كل عقل محطة، وفي كل مجلس قناة، الداعية تقرؤه في الصحيفة، وقد تطالعه في المجلة، وقد تنظر إليه في الشاشة، تصلي وراءه في المحراب، تسمعه على المنبر، تلقاه في السوق، تصافحه في الحديقة، تجلس بجانبه في الحافلة، تعانقه في الطائرة، تقاتل وراءه في المعركة، تراه في العرس، تشاهده في الجنازة، يصافح الملك، يمسح رأس اليتيم، يرفق بالرئيس، يعطف على الأرملة، يمازح الشاب، يقود العجوز.
الداعية يرسل كلمته على ذبذبة طولها الحق، وعرضها الصدق، على هوى الإبداع، وعبر أثير المحبة، لتستقبل كلمته أطباق القلوب، وتنقل عبارته موجات الأرواح.
والدعاة درجات عند الله، منهم من يحبو، ومنهم من يمشي، ومنهم من يهرول، ومنهم من يمر مر السحاب، ومنهم من يشبه سرعة الريح، ومنهم من يحلق في سماء الإبداع، فيرتفع عن سطح الدنيا سبعة وثلاثين ألف قدم من الصدق والرفق والحق والعدل والعلم والإيمان.
إن كنت أنت بكيت من حر الجوى وسكبت في نيل الفراق دموعا
فنفوسنا ذبحت على ساح الوغى يا من يرى صرع السيوف وجوعا(368/13)
إصلاح الناس وتعبيد البشر لله
أما بعد:
فإن هم الداعية إصلاح الناس وتعبيد البشر لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، وأن يكون الدين كله لله، فليس همه المال ولا الجمال، ولا الجاه ولا المنصب؛ لأنه مكلف بمهمة محددة: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:3].
وعنده رسالة طابعها: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات:57] وعنوانها: {قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا} يوزعها في كل قلب: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] الداعية حبيبه من أحب الله، ووليه من تولى الله، وصديقه من احترم الشرع، وعدوه من عادى الإسلام، ليس عند الداعية وقت للعداوات الشخصية، ولا فراغ لتوافه الأمور، فكل دقيقة من عمره حسنات، وكل ثانية من وقته قربات.
أعد الليالي ليلة بعد ليلة وقد عشت دهراً لا أعد اللياليا
فإما حياة نظم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
الداعية ينهمر بالآيات والأبيات، والسير والعبر، والقصص والأخبار، والفوائد والقصائد، والشوارد والفرائد، يدعو بها كلها إلى الله الواحد الأحد، ليعبد الله وحده لا إله إلا هو، مرجع الداعية قلبه النابض، ومصدره نفسه المشفقة، وحبره دمه، ومادته دموعه، وورقه حصير الخير.
الداعية لا ينسى دعوته، وهل ينسى المريض مرضه، والجائع جوعه، والمحموم حماه، وكيف يترك الداعية دعوته، وهل يترك الرسام رشيته، والنجار فأسه، والفلاح مسحاته، والكاتب قلمه.
أما واعدتني يا قلب أني إذا ما تبت عن ليلى تتوب
فهأنا تائب عن حب ليلى فما لك كلما ذكرت تذوب
ولا حرج للداعية أن يضحي بنفسه في سبيل مولاه، بل هو الحق، فليبع وقته ودمه ودموعه، وكتبه وأوراقه، وليله، ونهاره: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود:79].
لكل شيء إذا ما تم نقصان
إلا الإيمان في قلب حامله.
لكل امرئ من دهره ما تعودا وعادة أهل الحق يا صاحبي الهدى
ما مضى فات، والمؤمل غيب إلا عند الداعية، فالماضي عنده ما فات ولا مات: {عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] والمؤمل عنده حاصل لا محالة، قادم بلا شك: {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر:7].
نشيد اللاهين:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
ونشيد الدعاة:
قفا نبك من ذكرى الكتاب المنزل
أغنية الغافلين:
أخبروها إذا أتيتم حماها أنني ذبت في الغرام فداها
وملحمة الصالحين:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضبُ(368/14)
وقفة إجلال لذي الجلال والكمال
أيها الناس! أيها البشر! وقفة إجلال لذي الجلال والجمال والكمال، تقدس في علاه، لا إله إلا هو، ولا نعبد إلا إياه، ولا نرجو سواه، قال موسى لربه: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] أي همة يحملها هذا النبي! أشرقت نفسه بحب الواحد الأحد، اصطفاه بالكلام على البشر، فلما أعطاه الله الكلام، تاقت نفسه ليرى الواحد الأحد، ما أعظم الله! لا يُرى في الدنيا، ما أجل الله! لا يبصره المخلوق، ما أجله وما أشرفه! وما أرقى مكانه! لا نراه نحن في الدنيا، نحن أذل وأقل، وأكثر ذنباً وحقارة وهزالاً، وحاجة من أن نرى الله، قال الله: {قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي} [الأعراف:143] لن تستطيع رؤيتي في الدنيا، أنت بشر والبشر لا ينظر إلي في الدنيا، أنت مخلوق والمخلوق لا يراني في الدنيا، أنا أعظم من أن يراني الناس، أنا أعظم من أن يراني البشر في هذه الحياة الدنيا، تعالى الله: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
لن تراني يا موسى أبداً في الدنيا، فالجليل الكبير العظيم المتفرد بالكمال والجلال والجمال لا يراه البشر في الدنيا، على العرش استوى وعلى الملك احتوى، يعلم ما في السموات والأرض، وما بينهما وما تحت الثرى، قال: {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:143] إن كان الجبل يصمد لرؤيتي فسوف تراني، إن كان الجبل يستطيع أن يقف مكانه فسوف تنظر إلي، إن كانت أحجار الجبل فيها من القوة والصلابة والمناعة والجدارة أن تثبت فلتثبت: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} [الأعراف:143] قال أهل العلم: جبل طور سيناء، من أعظم الجبال صخوراً وحجارة، وصلابة وشدة وقوة، لكنه الواحد الأحد، أقوى من كل قوي، أغنى من كل غني، أمنع من كل ملك، أشرف من كل شريف، أعز من كل عزيز: {وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف:143] إن كان الجبل يثبت مكانه فسوف تثبت أنت، إن كان الجبل بصخوره وحجارته وعروقه وأوتاده يثبت للنظر فسوف تثبت: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143] قال سفيان: [[ساخ الجبل في البحر]] تجلى الله سبحانه تجلياً يليق بجلاله، لانكيفه ولا نشبهه ولا نمثله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11].
تجلى للجبل العظيم المدلهم الآخذ طولاً وعرضاً، الشامخ بأوتاده وقوته وجذوره وصلابته وحجاره، وصخوره فاندك الجبل وساخ، ذاب للواحد الملك الوهاب، إليه المناب والمتاب: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف:143] قالوا: ساخ الجبل، وقيل: انغمس في الأرض، وقيل: وقع في البحر: {وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} [الأعراف:143] قالوا: إنه مات، والصحيح أنه أغشي عليه، وفارق وعيه، من هول المشهد، يوم رأى الجبل يتناثر، والصخرة تدك، ورأى الحجارة تذوب فخر صعقاً عليه السلام، وغشي عليه، ثم أيقظه الواحد الأحد الذي يحيي العظام وهي رميم: {فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ} [الأعراف:143] لا أكرر هذا الطلب، سبحانك! أتأدب بين يديك، سبحانك تعاليت، يقول أهل التفسير: تقدست أن يراك الناس في الدنيا، سبحانك تعاظمت أن يراك المخلوق في هذه الحياة، سبحانك لا أسألك مسألة لا تليق بي! سبحانك أنت أعظم من أن تراك العيون! أو تدركك الأبصار، تعاليت في عليائك، ما أحسن الكلمة! وقع موسى مرمياً مغشياً عليه فلما أفاق، نفثت شفته، ونطقت لسانه: و {قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] لا أكررها مرة ثانية، أتأدب على بساط الربوبية، وفي محراب العظمة، وفي إيوان القدسية، وفي دار الوحدانية، والألوهية، وأنا أول المؤمنين، هذه وقفة عظمة، للعظيم جل في علاه.(368/15)
دعاء وتأمين
أيها الناس! إني داع فأمنوا: اللهم أبرد لاعج القلب بثلج اليقين، واطفئ جمر الأرواح بماء الإيمان، يا رب! ألقِ على العين الساهرة نعاساً أمنة منك، وعلى النفوس المضطربة سكينة، وأثبها فتحاً قريباً، يا رب اهد حيارى البصائر إلى نورك، وضلاّل المناهج إلى صراطك، والزائغين عن السبيل إلى هداك، يا رب أزل الهموم والوساوس بفجر صادق من النور، وأفق باطن الضمائر بفيلق من الحق، ورد كيد الشيطان بمدد من جنود عونك مسومين.
اللهم أذهب عنا الحزن، وأزل عنا الهم، واطرد من نفوسنا القلق، نعوذ بك من الخوف إلا منك، والركون إلا إليك، والتوكل إلا عليك، والسؤال إلا منك، والاستعانة إلا بك، أنت ولينا، نعم المولى ونعم النصير، اللهم حقق الآمال، وأصلح الأعمال، وحسن الأحوال، وسدد الأقوال.
اللهم اجمع شمل الأمة، واكشف الغمة، وانصر الدين وأتمه، اللهم وفق ولاة أمورنا لما تحبه وترضاه، اللهم اجعلهم عوناً على طاعتك للمسلمين، ودرعاً للموحدين، وإنصافاً لملة المستقيمين على منهجك يا رب العالمين، ونصرة للدعاة والعلماء والمصلحين.
اللهم أصلح القلوب، واغفر الذنوب، واستر العيوب، اللهم اقبل توبة من يتوب، اللهم أجزل العطية، واغفر الخطية، وأحينا حياة رضية، ونسألك الميتة السوية.
اللهم ألهمنا الحجة وثبتنا على المحجة، اللهم يمن كتابنا، ويسر حسابنا، اللهم اشفِ منا العلل، واغفر الزلل، وادرأ عنا الكوارث واحمنا من الحوادث.
اللهم أذهب الشك باليقين، وألبسنا ثوب الدين، وانصر إسلامنا، وارفع أعلامنا، وثبت أقدامنا، وسدد سهامنا.
اللهم بلغ رسولنا عنا الصلاة والسلام، ما غيث همع، وبرق لمع، وظبي سنح، وبلبل صدح، اللهم آته الوسيلة، وامنحه الفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً، واعطه حوضاً موروداً، وأجب شفاعته، وأكرم وفادته.
يا رب! إن البشر اعتزوا بأنسابهم، وافتخروا بأحسابهم وعزنا وفخرنا بك، فلا نكون أشقى منهم بك، يا رب إنهم جمعوا الأموال، وادخروا الكنوز، واحتاطوا بالذهب والفضة، ومالنا وكنزنا، وميراثنا دينك وذكرك.
اللهم فأغننا يوم الفقر الأكبر حتى نكون بك أغنى منهم بأموالهم، يا رب! إن البشر مدح بعضهم بعضاً، وأطرى بعضهم بعضاً، ورفع بعضهم بعضاً، ومدحنا وثناؤنا وتبجيلنا لك وحدك، اللهم إنهم أَمَّلوا من ممدوحهم جوائز وأوسمة، وعطايا وهدايا، اللهم فاجعلنا أكثر منهم حظاً بجوائزك، وأوسمتك وعطاياك وهداياك، اللهم إنا رأينا من ركن إلى محبوبه، وأنس بمرغوبه، وفزع إلى قريبه، واعتمد على صاحبه، اللهم إليك فزعنا، وعليك ركنا، وبك وثقنا، وعليك اعتمدنا، اللهم اجعلنا أسعد بك من القريب بقريبه، ومن الصاحب بصاحبه، ومن المولى بسيده، اللهم إنا رأينا الرءوس تخضع لسواك، والجباه تسجد لغيرك، والألسنة تقدس البشر، فغضبنا لذلك، وأزعجنا ذاك، فلك خضعت رءوسنا وسجدت جباهنا، وذلت رقابنا، اللهم إن نسألك الغنى يوم الفقر، والعز يوم الذل، والنجاة يوم التغابن.
يا رب حمداً ليس غيرك يحمد يا من له كل الخلائق تصمدُ
أبواب كل مملك قد أوصدت ورأيت بابك واسعاً لا يوصد
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.(368/16)
لقاء مفتوح
يعتبر هذا اللقاء بمثابة أسئلة والشيخ يجيب، فتحدث الشيخ عن أمور كثيرة منها: كيفية تعلم الخطابة والوسائل إلى الخشوع عند سماع القرآن، والوسيلة إلى ترك المعاصي، ونبذة عن أمريكا، وتصور الشيخ عنها.
كما ذكر الشيخ بعض المقطوعات الشعرية في مدح ابن باز، وابن عثيمين عليهما رحمة الله.(369/1)
وسائل تعلم الخطابة
السؤال
فضيلة الشيخ! حفظك الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أنا شاب أحب أن يكون لي دور في المجتمع في مجال الخطابة، ولكني أجد في نفسي العجز عن ذلك، فماذا أعمل حتى أصل إلى هذا الهدف الطيب، وجزاك الله خيراً؟
الجواب
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أولاً: سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
يا رياض الخير قد جئتُ وفي جعبتي أبها بلقياكم تسامى
حلَفَت لا تشرب الماء ولا تأكل الزاد ولا تلقى مناما
أو ترى الأحباب في نجد فإن لم تجدهم صار ممساها حراما
فسلام الله أهديه لكم يا رجال النبل في نجد الخزامى
أنا قد أحببتكم في الله ما كان قلبي في سواه مستهاما
ثانياً: أما هذا السؤال، وهو أن الأخ يسأل كيف يكون خطيباً مطبقاً أو خطيباً حاذقاً أو فاهماً وموجهاً في الأمة.
الخطابة هي قبل كل شيء موهبة من الله عز وجل؛ ولكنها تحسَّن، ولها وسائل تحسين وتدريب ورياضة حتى يصل الإنسان إلى مبتغاه، والمقصد أن المسلم ينبغي أن يكسب بعمله وجه الله عزَّ وجلَّ، والله تبارك وتعالى يوزع المواهب والتخصصات على الناس، فما كل واحد إلا وله تخصص، بعضهم كاتب، والآخر خطيب، والثالث شاعر، والرابع مفتي، فالمقصود أن تخدم الإسلام بالدعوة أينما كانت الدعوة.
والصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا كلهم علماء، ولا مفتين، ولا خطباء، وإنما كان فيهم الخطيب كـ ثابت بن قيس بن شماس، فاستخدم خطابته في نصرة (لا إله إلا الله) وفي الدعوة إلى (لا إله إلا الله) ومنهم الذي ليس بخطيب ولكنه مقاتل كـ خالد بن الوليد سيف الله المسلول، فاستخدم سيفه في نصرة الإسلام، ومنهم الشاعر كـ حسان أخذ القوافي يرسلها كالصواعق على رءوس الملاحدة والزنادقة والفجار.
إذاً: فعليك أن تعرف تخصصك الذي يمكن أن تخدم الإسلام به، فإن الله عزَّ وجلَّ سوف يسألك عما وهبك من الكتابة، ومن الأدب، ومن الخطابة، ومن العلم، فأخلص مقصدك لوجه الله عز وجل.
أما الخطابة فتعتمد على أمور:
الأمر الأول: أن يخلص، وأن يدعو الله ويسأله القبول والصدق، فإنه هو الذي يفتح سبحانه وتعالى؛ ولذلك ذُكر عن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه كان إذا أراد أن يتحدث قال: اللهم أنت عضدي ونصيري، بك أصول وبك أقاتل وبك أحاور، وكان يكثر من الاستغفار كثيراً ليفتح الله عليه.
الأمر الثاني: الجرأة: ولذلك يقول ابن قتيبة في عيون الأخبار: الخطابة عند العرب تُبنى على الجرأة، وهي: أن تكون جريء القلب، جريء الجنان شجاعاً؛ لأن مقابلة الصفوف ليست بسهلة، ومقابلة الناس صعبة، فهذا يأتي بأن تدرب نفسك على الخطابة، وعلى الإلقاء، وعلى الدعوة إلى الله عزَّ وجلَّ، وأن تخرج إلى القرى وإلى الضواحي فتدعو الناس، فسوف يرزقك الله القبول سبحانه وتعالى، وسوف يهدي على يديك، وسوف يكون لك باعٌ في الخطابة.
ويؤثر أن عبد الملك بن مروان، ذُكر عنه في تراجمه: أن أبناءه قالوا: نراك شاب رأسك ولحيتك، قال: من صعودي المنبر يوم الجمعة، أعرض عقلي على الناس.
وذكر ابن الجوزي في كتاب الحمقى والمغفلين: أن أحد الخطباء استقل المنبر ليتكلم، فأراد أن يقول: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، فقال: إن الله خلق السماوات والأرض في ستة أشهر، فرد عليه الناس، قال: والله لقد تقاللت ستة أشهر وأردت أن أقول ست سنوات!
الأمر الثالث: التحضير: فلا يمكن أن يتكلم الإنسان بطلاقة إلا بعد أن يبلغ من العمر عتياً، أو يصل إلى الأربعين، وفي صحيح البخاري: أن عمر رضي الله عنه وأرضاه لما ذهب إلى سقيفة بني ساعدة قال: [[فزوَّرت كلاماً في صدري]] أي: هيأه ليتكلم به عند الأنصار في سقيفة بني ساعدة.
فعلى المسلم أن إذا أراد أن يتكلم أن يحضر العناصر في ذهنه أو الموضوع، أو يحفظ الآيات والأحاديث، فلا يأتي مباشرة فيتكلم فيأتي بكلمة من البر وكلمة من البحر.
الأمر الرابع: على الخطيب أن يستقرئ أحوال الناس، فيعرف المقام الذي يتكلم فيه، فلا يتكلم في مجتمع ليسوا بحاجة إلى الكلام، مثل أن يذهب إلى أهل البادية الذين لا يعرفون التوحيد وهم واقعون في الشرك، فيتكلم في البنوك الربوية، وليس عند أهل البادية بنوكاً ربوية، أو يأتي إلى مجتمعات مرتكسة في الضلال فيتحدث لهم في جزئيات، إنسانٌ ما أسلم ولا عرف (لا إله إلا الله) ولا أنواع التوحيد، فيتحدث له عن إسبال الإزار، وعن تحريم حلق اللحى.
الأمر الخامس: أن يراعي الموقف فيعطي الناس ما يشتهون، فإن كان في خطبة جمعة فعليه أن يقصر ويوجز، وأن يطرق الموضوعات المهمة، وإن كان في درس فعليه أن يطيل وأن يتوسع بقدر الحاجة.
أما أمور الصوت، والنبرات، والنغمات، فهذه أمور أخرى.
ومِن أحسن ما كُتِب في الخطابة: كتاب الخطابة مفهومها ودلالتها أو نحو هذا العنوان، للشيخ محمد أبي زهرة وهو من أحسن الكتب في ذلك إن شاء الله، وفيه فوائد، لولا بعض الملاحظات فيه.(369/2)
الطريق إلى الخشوع عند سماع القرآن
السؤال
يقول السائل: فضيلة الشيخ: نقرأ من حياة الصحابة والتابعين أنهم كانوا يخشعون عند سماع القرآن، ويبكون عند تلاوته، ولكني لا أستطيع ذلك، فما السبب الذي جعلهم يخشعون ونحن أقل خشوعاً؟ وما هو الطريق إلى التأثر عند سماع أو تلاوة القرآن الكريم؟
الجواب
الخشوع عند تلاوة القرآن والتأثر والبكاء مدح الله به المؤمنين، وله أسباب، وكلما عظُم إيمان العبد خشع قلبُه، وخشي الله عزَّ وجلَّ، ولذلك ذكر الله العلماء فوصفهم بوصف، فقال: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فمن لم يخش الله عزَّ وجلَّ فليس بعالم ولو حفظ النصوص واستحضر الأدلة؛ لأن المسألة مسألة خشية؛ ولذلك قال مطرف بن عبد الله بن الشخير في أبي بكر الصديق مقارنة بالصحابة: [[ما فاقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة ولا صدقة؛ ولكن بإيمان وقر في قلبه]].
وعن الحسن البصري أنه قال: [[ليس الإيمان بالتحلي ولا بالتمني، ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل]] روى ذلك مالك بن أنس في الموطأ مرسلاً.
وأبو بكر رضي الله عنه وأرضاه لم يكن أعلم الناس بالفتيا وكان في الصحابة من يفتي كـ عبد الله بن عباس، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وأبي بن كعب؛ ولكن كان أبو بكر أخشى الصحابة لله سبحانه وتعالى؛ حتى تقول عائشة كما في الصحيحين: [[كان أبي رجلاً أسيفاً -أي: كثير البكاء والحزن- وكان إذا قام في صلاة الفجر قرأ سورة يوسف فما يبلغ قوله تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف:84] إلا وينهد باكياً وينهد المسجد معه من البكاء]].
وروى الإمام أحمد في كتاب الزهد: أن أبا بكر دخل مزرعة رجل من الأنصار، فرأى طائراً يطير من شجرة إلى شجرة، فبكى وقال: [[طوبى لك أيها الطائر! ترد الماء وترعى الشجر، ثم تموت، لا حساب ولاعذاب، يا ليتني كنتُ طائراً]] فهذا من خوفه لله عزَّ وجلَّ.
أما الأمور التي يحصل بها الخشية -إن شاء الله- فهي:
الأمر الأول: الصدق والإخلاص: أن تصدق في نيتك وفي إخلاصك في تلاوة كتاب ربك تبارك وتعالى، فلا تقصد به الناس ولا ثناءهم ولا مدحهم.
الأمر الثاني: أن تتدبر ما تقرأ، وأن تقف مع عجائب القرآن وغرائبه، وأن تتصور أن الذي تكلم به هو رب العالمين حقيقة سبحانه وتعالى، وأنزله على قلب الرسول عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث: أن تحسن صوتك بالقراءة وتنغمه علَّك أن تحزن وتخشع.
الأمر الرابع: أن تختار لنفسك وقت الارتياح: وهذا قاله الإمام أحمد، فالشبع الكثير لا يناسب الرقة في القراءة، أو التعب الشديد، أو النعاس، وقد أتى فيها آثار، فإن الرسول عليه الصلاة والسلام عفا عمَّن قام يصلي وهو ينعس، قال: {فليرقد لعله أن يستغفر فيسب نفسه} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فمن باب أولى قراءة القرآن، فيختار الوقت المناسب لقراءته.
الأمر الخامس: أن تتصور قلة المقام بهذه الدار، وأنه كتاب الرحيل، وأنه زاد إلى الله سبحانه وتعالى.
فإذا تم ذلك وإلا فادعُ الله وراجع فتح الباب من الاستغفار والتوبة والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى، نسأل الله أن يتقبل منا ومنكم ومن كل مسلم.(369/3)
واجب المسلم نحو المنكر في بيته
السؤال
فضيلة الشيخ: حفظك الله، السلام عليكم، أنا شاب ممن هداه الله، ولكني أشكو من المنكرات التي في بيتي، فما هو واجبي نحوها؟
الجواب
المنكرات ليست في بيتك فحسب، بل في كثير من البيوت، وكثير من المجتمعات، وكثير من المدن والقرى، ومشكلتنا ليست مشكلة قلة العلم، مشكلتنا الكبرى قلة دعوة الناس إلى (لا إله إلا الله) وتفهيمهم وتعليمهم، وهناك في المجتمعات من لا يُحسن الفاتحة، وقد اشتغل كثير من الدعاة وطلبة العلم بالرسائل والتحقيق ومن ثم ضاعت الأمة، فمسألة المنكرات ليست في بيتك فحسب، بل هي منتشرة، ونحن نرجو الله أن يغير الحال إلى أحسن، ثم إلى جهود طلبة العلم والدعاة أن ينشروا دين الله عزَّ وجلَّ، وأن ينشروا الدعوة والفهم في الناس.
وأما المنكرات في بيتك فعليك أن تكون ذا تؤدة وصبر، فإن بعض المنكرات أهون من بعض، وحمل بعض الشباب إذا رأوا المنكرات على عقوق الوالدين، فعقوا الوالدين من أجل بعض الأمور السهلة:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مُضر كوضع السيف في موضع الندى
صحيحٌ قد يكون في البيت غناء، لكن لا يحملك ذلك على ترك البيت وعقوق وقطيعة والديك لتغير هذا المنكر، فإن عقوق الوالدين من الكبائر، واستماع الغناء معصية، وعقوق الوالدين أعظم.
فأنا أدعوك إلى الصبر والحكمة في الدعوة، والحكمة أن تلين لوالديك، وأن تدعو لهم في كل صلاة، وأن تدعوهم إلى الله بالرفق، علَّ الله أن يهديهم على يديك، فإن لم تستطع فعليك بالصبر على أذاهم أو على ما يأتيك منهم، فإن لم تستطع فإن المعاصي منها ما يُقاطَع عليها، كترك الصلاة، فإن عليك أن تقاطع أهلك إذا تركوا الصلاة، أما المعاصي فتناصحهم وتصبر حتى يفتح الله عزَّ وجلَّ قلوبهم لك، والله معك إذا أكثرت من الصدق والإخلاص، والدعاء والإنابة له سبحانه وتعالى.(369/4)
السبيل إلى ترك المعاصي
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم، أنا شاب حائر، أحاول أن أغير من وضعي السيء، فأنا أترك الصلاة أحياناً، وأعمل بعض الأعمال السيئة، وكلما تركت المعصية راودتني نفسي بالرجوع إليها، فما الذي ترشدني إليه حفظك الله؟
الجواب
نسأل الله أن يتوب علينا وعليك، وكفى بترك الصلاة معصية، فإن من ترك صلاة واحدة عامداً متعمداً فقد كفر، حتى إن شيخ الإسلام ابن تيمية يرى أن من ترك صلاة واحدة عامداً حتى انتهى وقتها فلا يقضيها بعد الوقت، فإنه في تلك الفترة قد كفر بالله العظيم، وليس له أن يقضيها؛ لأنه قد مرت به فترة كفر، بل عليه أن يعود إلى الإسلام من جديد ويتوب إلى الله، ويدخل في الدين، ومضت تلك الصلاة، فتركك لبعض الصلوات أو لصلاة واحدة معناه الكفر، نسأل الله العافية، حتى قال بعض أهل العلم من المحدِّثين: ليس بصحيح تقسيم تارك الصلاة إلى متهاون وجاحد، بل من ترك الصلاة فقد كفر بلا عذر، فكيف يتركها!
فعليك أن تتقي الله، كل شيء يهون إلا ترك الصلاة فإنه الكفر، يقول عليه الصلاة والسلام: {بين المسلم وبين الكافر ترك الصلاة} من حديث جابر عند مسلم، وعند أبي داود من حديث بريدة بن الحصيب: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة، فمن تركها فقد كفر} فنعوذ بالله من التاركين للصلاة، ونسأل الله أن يهدي شباب الإسلام.
فإذا اهتديت وواظبت على الصلاة فسوف يهديك الله سواء السبيل، ويرشدك إلى أنك إذا صليت الصلوات الخمس في جماعة، وحافظت عليها ظاهراً وباطناً، وأحسنت سجودها وركوعها وخشوعها فسوف تهتدي بإذن الله مع الدعاء.
أما بقية المعاصي فلن يسلم منها أحد؛ لكن أرشدك إلى أنْ تعزم على التوبة، وأن كلما وقعت تستغفر وتتوب، وأن تفعل من الحسنات ما يمحو السيئات، والله معك.(369/5)
لا تيئسوا من واقع المسلمين اليوم
السؤال
فضيلة الشيخ: الشباب المسلم يتألم حين يرى الواقع السيء الذي تعيشه الأمة، فبعضهم قد يئس من عودة العزة والنصر للمسلمين، فما الذي توجهونه إلى الشباب الذين يعيشون مثل هذا التصور؟
الجواب
الحل بيد الشباب المسلم إذا استطاعوا وإذا علموا ذلك، الحل أن ننطلق بالدعوة والتوجيه والتوعية لوجه الله عزَّ وجلَّ، الحل أن نصدق مع الله عزَّ وجلَّ، وأن نبذل مثلما يبذل غيرنا أو عُشر ما يبذل أعداؤنا، تجدون بعض الدعوات المغرضة البدعية الشركية كيف يبذل دعاتُها والقائمون عليها من الجهود والتضحية، والإعلام والدعوات، والمؤلفات والصحف والمجلات.
فالحل مسئوليتنا نحن، أما أن ننتظر ونتمسكن ونقول: نفسي نفسي، ونتخفى في بيوتنا فهذا ليس بحل، بل بهذا نزيد الأمة وهناً إلى وهن، وهزيمة إلى هزيمة، والحق أن ندعو وأن نوجه بالحكمة وبالتي هي أحسن، وأن نقود الناس إلى صراط مستقيم.
فلو أن كل شاب اهتدى حاول أن يهدي معه شاباً آخر لهداه الله سواء السبيل: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حُمُر النعم} لكن تجد كثيراً من الشباب المستقيم ركن وانزوى عن المنابر، فلا يخطب؛ لأنه يخاف على نفسه من الشهرة والرياء، وهذا مدخل للشيطان عجيب، يأتيه من هذا المدخل ليعطله عن الدعوة إلى الله، ويأتي الشاب المتعلم الذي عنده خير كثير من العلم، فيقول له: لا تجلس للناس حتى تتمكن في العلم ويرسخ قدمك، فيضله حتى يميته، ويأتي للآخر الكاتب، فيقول له: لا تكتب، إن الكتابة شهرة، ومن هذا القبيل، إذاً بهذا ضربنا الشيطان وشتتنا.
فالحل بأيدينا إذا صدقنا مع الله عزَّ وجلَّ، فإن الناس الآن يعيشون في صحوة والحمد لله، وكم في هذه الصحوة من طالب علم، ومن خطيب لَبِق وكاتب فاهم، إذا استطاع أن يوجه قدراته لخدمة الإسلام سوف ينصر الله هذا الدين بلا محالة.(369/6)
شاب يخجل من الجلوس بين الصالحين
السؤال
أنا شاب محب للخير؛ ولكني أجد في نفسي حواجز عن مجالسة الصالحين، وأحياناً أترك مجالس الطيبين خشية أن يستهزئ بي الناس، فبمَ تنصحني؟
الجواب
هذا الأخ يشكو من الخجل أو من الحواجز التي بينه وبين الناس، أو العقدة النفسية، وحل هذا أن يجالس من زملائه وأقرانه الذين يجرؤنه على مجالسة الناس، فإنه ليس واجباً على المسلم أن يجالس الناس، قد يكون الأصلح لقلبه أن يعتزل الناس في بعض الأمور؛ لكن أن تكون لك جِبِلَّة حتى يحرمك هذا الخجل عن الفائدة والاستفادة وتوجيه الناس وتعليمهم، فهذا ليس بصحيح، قال مجاهد كما في صحيح البخاري: [[لا يتعلم العلم مستحٍ ولا مستكبر]].
فأنا أرشدك إلى تقوى الله عزَّ وجلَّ وأن تقصد في هذه مواقف الحق، وأن تبدي ما عندك فإنك على صراط مستقيم، وألا تخجل، فإنه لا يخجل إلا من ضيع شبابه في الغناء والترَّاهات وضياع الساعات وإتيان الشهوات والمعاصي والمخالفات، لا يخجل من أنار الله سبحانه وتعالى قلبه بالقرآن, ولا يخجل من يصلي لله كل يوم خمس صلوات، ولا يخجل من يتضرع كل يوم خمس مرات.
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدتُ بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيَّرتَ أحمد لي نبيا
فأنت في مقام الفخر والعزة بالإسلام، ولك العزة فلا تخجل ولا تتأخر، وإنما درب نفسك على الجلوس مع الناس، وعلى الأخذ والعطاء رويداً رويداً، وسوف تجد أن هذه العقدة تنحل بإذن الله.(369/7)
نبذة عن أمريكا
السؤال
فضيلة الشيخ: أعطِنا نُبذة عن ذهابك لـ أمريكا، وما هي تصوراتك للإسلام في أمريكا؟ ويقال: إن الشعب الأمريكي يتوفر لديه الصدق والأمانة وغيرها لا تحضرني الآن، فهل من الممكن أن تعطينا نبذة قصيرة؟
الجواب
الذهاب إلى أمريكا لا يُنْصَح به ولا يُوْصَى به؛ لكن قد يضطر المسلم إلى أن يسافر، إما لدعوة يرى أنه سوف ينفع بإذن الله، أو لعلاج لم يجد له بديلاً في بلاد المسلمين، أو لدراسة ينفع بها الإسلام والمسلمين.
من هذه الأمور ومن ضمن ما كتب الله عزَّ وجلَّ: سفري إلى أمريكا لمؤتمر الشباب العربي المسلم العاشر، في أوكلاهوما شمال أمريكا، وهذا المؤتمر حضره أكثر من أربعة آلاف شاب مسلم، وحضره من العلماء والدعاة ما يقارب خمسين داعية وعالماً ومفكراً.
والإسلام هناك ليس كما يتصور الناس، وقبل هذا الحديث أقول: إن الأخ يوم يقول: إن الشعب الأمريكي شعب صادق وأمين، فهذا إما واهم وأما ناقل خطأ، وقد أخطأ كل الخطأ، بل إن الشعب الأمريكي هو شعب الكذب والخيانة، والضلالة والجهالة، وقلة الحياء وقلة المروءة، ومن لم يصدق فليرَ ولينظر إليهم، هم يعبدون الدينار من دون الله، ولا تجد أبخل منهم في شعوب الأرض، وهم أمة قطع الله الأواصر والوشائج التي بينهم، يقف الإنسان صاحب السيارة المعطلة في الثلج من العشاء إلى ظهر اليوم الثاني ولا يجد من ينجده؛ خوفاً منه وخوفاً من البوليس وخوفاً من المتابعة.
شعب مبتور العرى ومقطوع الوشائج، وقد انخلع، وإذا انتهى الإنسان من (لا إله إلا الله) فما عليه؟! أصبحت أفعاله كلها ذنوب وخطايا، ولذلك قلت:
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسامْ
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرامْ
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عامْ
ما أرضهم أرضٌ رأيتُ ولا غمامهمُ غمامْ
وعجبت للإنسان مبتور الإرادة والمصيرْ
يسعى بلا هدف ولا خير ولا هَدي منيرْ
مركوزة قدماه في ذل المرارة والسعيرْ
زيف من الهالات في قسماته شعب حقيرْ
إذاً: فاخلع من ذهنك هذا التصور: أنهم أوفياء أو أمناء أو صادقون، هم صادقون وأمناء إذا علموا أنهم سوف يجنون منك منفعة أو مصلحة؛ ولكن إذا علموا أنه ليس عندك منفعة لهم ولا مصلحة فلماذا يتقربون منك؟! حتى يحصل الواحد منهم على ثلاثين حسنة عند الله أو أربعين؟! هو لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، ولا بالجنة ولا بالنار، فهو شعب عميل يعبد الدرهم والدينار، وشعب متمرد على الله، وهو الذي أدخل الشهوات في أذهان المسلمين، ومكر بالأديان في الأرض، ولذلك:
فواحش قد أظلمت منها السما والأرض منهم أوشكت أن تقصما
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعة ولا أعدوا لقيام الساعة
فهم قطيع كشويهات الغنم لهو ولغو وضياع ونغم
إلى آخر تلك الأبيات.(369/8)
من قصائد الشيخ عائض
السؤال
فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله حباً لا يعلمه إلا الله، وسؤالي: بما أن هذا الوقت لقاء فأسمعنا من شعرك ما تملأ به النفوس؟ وجزاك الله خيراً.
الجواب
أحبك الله الذي أحببتني فيه، وحشرنا وإياك والسامعين في روضة من رياض الجنة، أما الشعر فهناك قصائد؛ لكن لا أدري هل هناك شيء محدد من القصائد؟ إلى الآن التي وصلت أربع طلبات، منها: قصيدة الشيخ ابن عثيمين، والطلبات كلها -والحمد لله- في المشايخ، وكأننا متخصصون في مدح المشايخ، ونسأل الله عزَّ وجلَّ أن يجعل هذا في ميزان الحسنات وألا يجعل فيه رياء ولا سمعة، والمقصود أني لست بحاجة إلى أن أمدحهم وليسوا بحاجة إلى مدحي؛ لكن من باب أن يفهم الناس أنَّا نقدر العلماء وأهل العلم والفضل، فهنا في القائمة أربع قصائد، في الشيخ ابن باز، وابن عثيمين، وسياف، ورمضان.
أما الشيخ عبد العزيز بن باز فنبدأ به، وقد مر في بعض المناسبات أن بعض الإخوة كلمني أنه سوف يؤلف كتاباً يجمع فيه القصائد، اسمه: الممتاز في مدائح الشيخ عبد العزيز بن باز، قلت: حبذا لو أسميته نسيم الحجاز بالثناء على الشيخ ابن باز، وكلها سواء لكن بعضها يمتاز عن بعض، ولا بد من النسيم حتى يكون هناك ثناء عاطر، ويُطرح هذا الاقتراح، وأنا أستحسن قصيدة تقي الدين الهلالي في الشيخ ابن باز؛ لأنها جميلة، وهو محدث كبير رحمه الله، فأظنه وفد على الشيخ، وكان في الجامعة الإسلامية، فقال ما يقارب ستين بيتاً، يقول في مطلعها:
خليليَّ عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثنا أحرى
وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرا
إلى آخر القصيدة.
والمجذوب يقول:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم
فلم أرَ بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يُدمي
وقصيدة البازية قلت فيها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببتُ طلعتكم لأنها ذكرتني سَيْر أسلافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شُغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعل منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولََع بإرجافِ
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطل في إشراقه الضافي
تفتي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصدافِ
إلى آخر القصيدة.
ومنها:
أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها في نغمة الوحي من (طه) ومن قاف
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعافِ
أما الشيخ ابن عثيمين فقد زرناه قبل عشرة أيام في عنيزة في بيته، وجاءنا قبل ثلاثة أيام في أبها، يداً بيداً، مثلاً بمثل، سواء بسواء، زارنا ليفيدنا، وزرناه لنستفيد منه، المقصد أن نوع البحر هذا الذي مدحت عليه الشيخ ابن عثيمين هو بحر مسبوك، يقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه على نوع هذا البحر والقافية:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الموت نبنيها
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن ناشيها
فقلت:
دنياك تزهو وما تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
عارية المال قد ردت لصاحبها وأكنف البيت قد عادت لبانيها
والأينق العشر قد هضت أجنتها وثلة الورق قد ضجت بواكيها
واكتب على أرضهم بالدمع ملحمة من المحبة لا تُنسى لياليها
أرض بها العلم أو حاذق فطن يُروي بكأس من العلياء أهليها
عقيدة رضعوها في فتوتهم صحت أسانيدها والحق يرويها
ما شابها رأي سقراط وشيعته وما استقل ابن سينا في بواديها
ولـ ابن تيمية في أرضهم عَلَم من الهداية يجري في روابيها
إذا بريدة بالأخيار قد ظفرت يكفي عنيزة فخراً شيخنا فيها
محمد الصالح المحمود طائره البارع الفهم والدنيا يجافيها
له التحية في شعري أرتلها بمثل ما يرفع الأشواق مهديها
وأما سياف أو الإسعاف في إتحاف سياف:
سياف في ناظريك النصر يبتسمُ وفي محياك نور الحق مرتسمُ
وفيك ثورة إسلام مقدسة بها جراح بني الإسلام تلتئم
حطمت بالدم أصناماً محجلة وصافَحَتْ كفُّك العلياء وهي دمُ
ثأرت لله والدين الحنيف فلم يقم لثأرك طاغوت ولا صنمُ
على جبينك مِن سعد توقُّده وخالد في رؤى عينيك يقتحمُ
حلِّق إذا شئت فالأرواح طائرة فعن يمينك من عاهدتَ كلُّهمُ
وصغ من المهَج البيضاء ملحمة يظل يقرؤها التاريخ والأممُ
موتاً على صهوات البيد يعشقه أهل البسالة في عليائهم شمم
لا موتَ مَن تسهر اللذاتُ مقلتَه وحياته سيان في الورى والعجمُ
سياف خذ من فؤادي كل قافية تجري إليك على شوق وتستلمُ
قد صغتها أنت إسلاماً ومكرمة وفي سواك القوافي أشهر حرُمُ
كادت معاليك أن ترويك معجزة لكن تواضعك الأسمى لها كَتَمُ
كأنما أنت كررت الأُلَى ذهبوا هذا صلاح ومحمود ومعتصم
إلى آخر القصيدة.
ورمضان: أربعة أبيات:
مرحباً أهلاً وسهلاً بالصيامْ يا حبيباً زارنا في كل عامْ
قد لقيناك بحب مفعمٍ كل حب في سوى المولى حرامْ
فاغفر اللهم ربي ذنبنا ثم زدنا من عطاياك الجسامْ
لا تعاقبنا فقد عاقبنا قلق أسهرنا جنح الظلامْ(369/9)
حكم التكني بأسماء الصحابة
السؤال
ما حكم الكنية بأسماء الصحابة مثل: أبو حمزة، وأبو عمر، وليس له ولد بهذا الاسم، إنما تفاؤل؟
الجواب
الكنية بأسماء الصحابة من أشرف الكنى، والتكني وليس لك ولد جائز في الشريعة الإسلامية، وفي صحيح البخاري عن أنس رضي الله عنه قال: {دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا أبا عمير! ما فعل النُّغَير؟} وأبو عمير أخو أنس، كان طفلاً يلعب بطائر معه، صاده من ضاحية المدينة وربطه بحبل وتركه في البيت وقص جناحيه، ثم بعد فترة مات الطائر، فكانت مصيبة عند هذه الطفل الصغير؛ لأن الأحداث في أذهان الصغار أحداث عالمية كأنها الحرب العالمية الثالثة، فأراد صلى الله عليه وسلم من باب الدعوة والدخول إلى قلوب الأطفال؛ لأنه حقاً يسبي القلوب ويشتريها.
محاسنه (هُيُولا) كل حُسْن و (مَغناطيس) أفئدة القلوبِ
ولذلك يقول الله عزَّ وجلَّ: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فأراد أن يقف على نفس مشكلة الحزن التي يعيشها هذا الطفل الصغير ليربيه على (لا إله إلا الله) وليس المقصود هو الطائر، فدخل عليه الصلاة والسلام وقال: {يا أبا عمير! ما فعل النُّغَير؟} فلك أن تتكنى ولو لم يكن لك ولد.
وفائدة: بعض الزنادقة -نعوذ بالله- يقولون: المحدثون يروون أحاديث ليس فيها فائدة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لقبيلة أسلم: {أسلم سالَمها الله} ولقبيلة غفار: {غفار غفر الله لها} ولأخي أنس: {يا أبا عمير، ما فعل النُّغَير؟} فما هي الفائدة من هذا؟ قال ابن حجر: ذُكِر عن الإمام ابن القاص الشافعي أنه استخرج من هذا الحديث الأخير أكثر من عشرين فائدة، وبعضهم أوصلها إلى ستين فائدة، منها:
- جواز الصيد في الحرم المدني.
- جواز اللعب بالطائر.
- جواز تكنية من لا كنية له.
- استحباب زيارة الأحباب والأقارب ولو كانوا أطفالاً.
- جواز المزاح.
- جواز السجع بلا تكلف.
إلى غير تلك الفوائد.
فلك أن تتكنى، والعرب تستشرف الكنية، ولذلك يقول شاعرهم:
أكنيه حين أناديه لأكرمه ولا ألقبه والسوءة اللقبُ
كذاك أُدِّبتُ حتى صار من أدبي أني وجدتُ ملاك الشيمة الأدبُ
فمن أحسن ما يزرع لك الود في صدر أخيك أن تقول: يا أبا فلان؛ يا أبا طلحة، يا أبا حمزة، كما فعل صلى الله عليه وسلم يوم يربي الأجيال المتجهة إلى الله ويقول: يا أبا بكر، يا أبا حفص، يا أبا الحسن، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.(369/10)
حكم التسمي والتكني باسم الرسول صلى الله عليه وسلم وكنيته
السؤال
إذا تسمى العبد باسم الرسول صلى الله عليه وسلم وتكنى بكنيته، فما الحكم؟
الجواب
هناك حديث يقول صلى الله عليه وسلم فيه: {تسموا باسمي ولا تكنوا بكنيتي} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وحديث عارَضه يقول: {من أباح اسمي ومن حرم كنيتي} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وأهل العلم على ثلاثة مشارب في هذا:
- منهم من منع التسمي والتكني مطلقاً.
- ومنهم من أجازهما بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم.
- ومنهم من قال بجواز الكنية وحدها أو الاسم وحده، ولا يُجمَعان.
والصحيح أنها لا بأس بها إن شاء الله بعد وفاته صلى الله عليه وسلم، فإن الذي عُرف من قرائن النهي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمشي حول مقبرة بقيع الغرقد، فنادى رجلٌ رجلاً: {يا أبا القاسم! فالتفت صلى الله عليه وسلم، فقال الرجل: أريد فلاناً ولا أريدك يا رسول الله! فقال: تسموا باسمي ولاتكنوا بكنيتي} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فلما مات عليه الصلاة والسلام لنا في الظاهر أن نتسمى باسمه ونتكنى بكنيته، ووجد هذا في علماء الأمة كـ محمد بن أبي بكر الصديق وله ولد اسمه القاسم، وغيرهم كثير في علماء الإسلام ومجاهديه.(369/11)
هل البكاء في الصلاة من النفاق
السؤال
أخي الشيخ: بعد التحية والسلام، هل التباكي خلال الصلاة من النفاق؟ أرجو أن توضح لنا ذلك؟
الجواب
الله أعلم بنيتك، {إنما الأعمال بالنيات} والله هو الذي يطَّلع على الضمائر والقلوب، فإن القلوب مكان نظر الرب تبارك وتعالى، فالله أعلم، فإن تباكيت لله عزَّ وجلَّ في صلاتك فلك ذلك؛ لكن بشرط ألا تخرج بعض الحروف أو لا تشوش على الناس، أو لا تقطع قراءتك إلا من بكاء لا بد منه، أما التباكي خارج الصلاة فوارد، ولك إذا قرأتَ القرآن ولم يأتك بكاء أن تتباكى؛ لكن لا تقصد بالبكاء غير وجه الله سبحانه وتعالى.
أُثر عن الحسن البصري في ترجمته: أن رجلاً بكى في مجلسه، فقال الحسن: والله ليسألنك الله يوم القيامة عن هذا البكاء، أقصدتَ به وجهه أم لا.
فالله الله في قصد الله في العمل، وأكثر ما يدخل الرياء والنفاق ومصانعة الناس من طريق البكاء؛ لأن الواحد قد يبكي ليظهر للناس أنه خاشع، وقلبه ليس بخاشع، فلا تبكِ إلا إذا غلبك البكاء، وإذا كنت وحدك فحاول أن تتباكى أو تبكي؛ لحديث: {ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه} قال: خالياً؛ لأنه أصدق وأخلص.(369/12)
كيفية الخلاص من قرناء السوء
السؤال
فضيلة الشيخ: إني أحبك في الله، إذا أتى أحدٌ من جلساء السوء يريد أن يجالسني ويسبب لي المشاكل، فماذا أفعل؟ هل أبتعد عنه؟ أفيدونا جزاكم الله خيراً.
الجواب
أنت أخبر بظرفك، فإذا جاءك جليس، وكان من المناسب وترى في نفسك أن تدعوه إلى الله عزَّ وجلَّ فلا تذهب، وعليك باللين والمصابرة علَّ الله عزَّ وجلَّ أن يهديه على يديك، فلا تظن أن الله طبع على قلوب الناس فلا يهتدون! فإن الله هدى أهل الضلالة وكثيراً من المشركين، وقد عبدوا الأصنام وزنَوا وبغَوا في الأرض وأفسدوا فيها كل الفساد، فأنت لا تتصور أن الله طبع على قلوب الناس؛ لكن تجلس وتحاول أن تؤثرفيه.
أما إذا جربت حالك معه، وأيست منه، فعليك أن تتهرب منه؛ لكن ليس بمقابلة الجفاء، إذا جلس تقوم مباشرة، أو إذا صافحك تسحب يدك، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما كانت معاملته مع الناس هكذا: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] والله يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] صافح الكفار، وصافح اليهود، والمنافقين عليه الصلاة والسلام ودعاهم.
فاللين مطلوب، يقول سبحانه وتعالى: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً} [البقرة:83] فعليك أن تحسن من خلقك بالبسمة وباللين؛ لكن الموادَّة شيء آخر، فلا تواده، ولا تحبه، أو تصانعه، أو تجامله، أو تزوره:
لكن إذا بُليتَ به فكن كأنك لَمْ تسمعْ ولَمْ يَقُلِ
حتى يجمِّل الله ويسد الحال.(369/13)
حكم الاحتفاظ بالصور للذكرى
السؤال
فضيلة الشيخ: حفظك الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ما حكم من يحتفظ ببعض الصور للذكرى؟
الجواب
الصور كثر الكلام فيها، وكثرت فيها المؤلفات والفُتيا، وعرفتم أنتم الذي وقع من كثرة ما تُكُلِّم في الصور، الصور لا تجوز إلا لضرورة ملحة يحتاجها المسلم في حياته، أما صور الذكرى والتعظيم فهي محرمة، وهذا من أحسن ما قيل، وهذا الذي يظهر لي.
والله أعلم.(369/14)
الشرود في الصلاة لا يلزم منه سجود السهو
السؤال
الذي يفكر ويسرح في الصلاة ماذا يفعل؟ هل يسجد سجود سهو أم ماذا؟
الجواب
هذا عليه أن يتقي الله عزَّ وجلَّ قبل أن يبدأ؛ لأن الهيام أو الشرود أو السرحان في الصلاة على أنواع:
ألا تفقه هل قرأت الفاتحة أم لا، وهذا عند كثير من أهل العلم يبطل الصلاة؛ لأنك لم تعرف أنك قرأت الفاتحة، ولم تعرف ماذا قلت.
أما أن يشرد قلبك وتأتيه خطرات فهذا لا يسلم منه أحد، ولا يمكن أن يتخلص من هذا الوارد؛ لأن الشيطان يأتي إذا أقيمت الصلاة فيوسوس ويقول للعبد: اذكر كذا، اذكر كذا.
أما سجود السهو فتسجده إذا تركت واجباً من واجبات الصلاة، أما أن تسهو أو تتذكر شيئاً في الصلاة فلا تسجد؛ لأنه لم يقم على ذلك دليل، والناس يبتلون بهذا، ولو كان هناك أثر لعُلِم ولنُقِل؛ لأن المصلين يبتلون دائماً بالشرود والنسيان والسهو في الصلاة والخطرات والواردات، وما سمعتُ في حد علمي أن هناك سجوداً له.(369/15)
الوسائل في نصح شارب الدخان
السؤال
كيف يكون النصح والإرشاد للإنسان الذي يشرب الدخان؛ لأن لدي أقارب يشربون الدخان وأحب أن أكون ناصحاً لهم؟
الجواب
يكون النصح بالوسائل التي يهديك الله إليها، أهمها: اللين: أن تلين بالتوجيه والتعليم، وأن تعطي المسألة حقها من الاهتمام والتوجيه.
لأن بعض الناس إذا أتى يدعو شارب الدخان أقام الدنيا وأقعدها على شارب الدخان وقال: ويلك من الله، ومن عذابه وغضبه ولعنته، حتى كأنه كفر بالله العظيم؛ لكن لا بد أن تأخذ كل مساحة من المعاصي حدها، وهو منهج القرآن، القرآن ذكر الشرك فذمه وعظَّمه وأكثر القول فيه، وذكر بعض الذنوب فأعطاها مساحتها وحقها؛ كالغيبة والنميمة وشهادة الزور.
فأنت عليك أن تقوم على هذا المنكر وتعرف أنه حرام، لكن لا بد أن تعرف أنك تتخاطب مع مسلم يقيم الصلاة ويخاف من الله عزَّ وجلَّ، فتخاطبه أن هذا حرام بالوسائل العلمية، بالكتب التي أُلِّفت في هذا المجال في ذم الدخان وفي تحريمه فتهديها له، أو تكتب له رسالة، أو تتصل به، أو تجلس معه وتبين له أضرار الدخان الصحية والمالية والنفسية والدينية، حتى تقنعه إقناعاً، أما الغضب فلا يقنع أحداً، فأنت تحرجه بالغضب وبالتهديد، فربما يجاملك يوماً من الأيام، ولكنه ما اقتنع، والدعوة تُبنى على الاقتناع.(369/16)
أسهل الطرق لحفظ العلم
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فضيلة الشيخ: أحبك في الله، ما أسهل طريقة لحفظ العلم؟ جزاكم الله خيراً.
الجواب
حفظ العلم، أوله: حفظ القرآن، ووسائل حفظ القرآن تكمن فيما يأتي:
الوسيلة الأولى: تقوى الله عزَّ وجلَّ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282] فإن مَن اتقى الله فتح الله عليه، وسهَّل له أموره، وحفَّظه ما تعلم.
الوسيلة الثانية: كثرة الاستغفار والتوبة: ذُكر عن ابن تيمية أنه يقول: إنها تصعُب عليَّ المسألة فأستغفر الله أكثر من ألف مرة -أو أقل- فيفتحها الله عليَّ.
والذنوب سبب للنسيان والذهول والشرود، فعليك أن تكثر من الاستغفار إذا أردتَ أن تحفظ، وقبل أن تحفظ، وبعدما تحفظ.
الوسيلة الثالثة: أن تقلل من المحفوظ: فلا تكثر على نفسك، فإن من أخذ العلم جملة ضيعه جملة كما يقول الزهري.
فلا يمكن أن تأخذ العلم في يوم أو يومين، أو أسبوع أو شهر، بل تأخذه قليلاً قليلاً، قطرة قطرة، وآية آية، وحديثاً حديثاً، فقلل من المحفوظ فهو أصل عظيم للحفظ.
الوسيلة الرابعة: أن تكرر ما تحفظ: كأن تأخذ أربع آيات أو خمس آيات فتكررها كثيراً خمسين مرة إلى مائة مرة قبل أن تنتقل إلى غيرها من الآيات.
الوسيلة الخامسة: أن تقرأ ما حفظت من القرآن في الصلوات والنوافل.
الوسيلة السادسة: أن تذاكر العلم الذي حفظته: كأحاديث حفظتها من رياض الصالحين أو بلوغ المرام فتذاكر زملاءك وإخوانك، وإن كان لك تلاميذ أن تعقد معهم جلسة؛ لأن العلم يحيا بالمذاكرة.
الوسيلة السابعة: أن تعمل بما علمت: ليحفظك الله عزَّ وجلَّ ما تعلمت.
الوسيلة الثامنة: أن تحقق المسائل، فإنه حفظ للعلم، وتخرج وتنقح، وتؤلف إذا بلغت درجة التأليف.(369/17)
وقفة مع القلوب وأمراضها
السؤال
أرجو أن تتحدث عن أمراض القلوب وعلاجها مع الأدعية إذا أمكن؟
الجواب
أمراض القلوب على قسمين:
أمراض الشبهات، وأمراض الشهوات.
أمراض الشبهات في المعتقد.
وأمراض الشهوات في العمل.
أمراض الشبهات شك وريبة ووسوسة تصل إلى الزندقة والإلحاد نعوذ بالله من ذلك.
وأمراض الشهوات كحب المعاصي، كالزنا والسرقة، والاعتداء على الناس، والبغي في الأرض، والغيبة، وأكل الأموال المحرمة، هذه من الشهوات.
فأما علاج مرض الشبهات فالعلم واليقين، قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] فاليقين عند الشبهات وعند الصبر الشهوات.
فأول ما أوصيك به: طلب العلم، قال ابن دقيق العيد: أصابتني وسوسة في بدء حياتي فسألت العلماء فقالوا: عليك بطلب العلم فطلبتُ العلم فأذهب الله عني الوسوسة -أي: الشبهات- فعليك بطلب العلم والجلوس مع العلماء وقراءة كتب السلف الصالح من كتب الحديث والتفسير والفقه ليُذهب الله عنك مرض الشبهة.
وأما علاج مرض الشهوة فبالصبر بعد إحسان صلاة الفريضة ظاهراً وباطناً، والتزود بالنوافل، وكثرة الدعاء والذكر وتدبر القرآن، هذه إن شاء الله تذهب مرض الشهوات.
والدعاء الذي أنصحك به هو:
ما ثبت في صحيح مسلم: عن عائشة أن الرسول عليه السلام كان يدعو ويقول: {اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون، اهدني لما اختُلف فيه من الحق بإذنك، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم}.
وكان من دعائه: {يا مثبت القلوب! ثبت قلبي على دينك}.
ومن دعائه أيضاً: {يا مصرف القلوب والأبصار! صرِّف قلبي على طاعتك} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {اللهم اهدني وسددني}.
وقوله: {اللهم ألهمني رشدي وقني شر نفسي}.
وقوله: {ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار}.
وقوله: {ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب}.
وأسأل الله لي ولكم جميعاً أن يتقبل منا ومنكم، وأن يثبتنا وإياكم بالقول الثابت حتى نلقاه إنه على كل شيء قدير.(369/18)
أريد أن أكون شاعراً
السؤال
يقول السائل: إذا أردتُ أن أكون شاعراً في الإسلام، فماذا أفعل؟
الجواب
الشعر لا يأتي بالقوة وبالعصا، ولكن بالموهبة، فمن كانت عنده موهبة فلينمها، ومن كان غير ذلك فليُرح نفسه؛ لأن كثيراً من أهل العلم ومن السلف الصالح ومن الصحابة لم يكونوا شعراء، وإنما بذلوا بما أعطاهم الله عزَّ وجلَّ، ولذلك بعض العلماء يرى أن الشعر يزري بالعلماء وطلبة العلم، حتى يقول الشافعي:
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
فبعضهم يرى أنه خفة وطيش وأنه يزري؛ لكن الصحيح أنه إذا اقتُصِد فيه ووُجِّه للدعوة الإسلامية وخدمة العلم، فهو -إن شاء الله- في خير، أما إذا أردت أن تكون شاعراً فاتبع الآتي:
الأمر الأول: إن كانت عندك موهبة فنَمِّها بالاطلاع وبكثرة محفوظ الشعر، يقولون: أن تحفظ آلاف الأبيات من الشعر، وخاصة الشعراء الذين أجادوا كـ المتنبي وأبي تمام وجرير والبحتري ومن كان في طبقتهم.
الأمر الثاني: أن تقرض الشعر وأن تقلل من قرضه، حتى تعتمد على الكيف لا الكم؛ لأن بعض الشباب إذا بدءوا في الشعر خصصوا كل يوم عشر دقائق فقط، فتأتي مهزوزة، فهو لا قرأ في الأدب ولا اطلع، وإنما يُشْعِر دائماً بدون قواعد، وبعد سنوات ينتهي، فالمقصد أن تطالع كتب الأدب كثيراً، ولا يشغلك الشعر عن العلم؛ لكن يكون له أوقات، وذُكر في الأدب: أن شعراء اجتمعوا عند نهر، فقال أحدهم: ما رأيكم لو أن كل واحد منا يصنع بيتاً في هذا المقام، وكان معهم رجل ليس بشاعر، فنَظَم كلٌّ منهم بيتاً وأَلَحُّوا على هذا الذي ليس بشاعر أن يأتي ببيت، فلما ألَحُّوا قال:
كأننا والماء من حولنا قوم جلوس حولَهم ماءُ
انظر ما أحسن هذا الأسلوب، والبيان، والبديع!! فبعض شعر الناس من هذا القبيل، حتى ذكر ابن عبد ربه في العقد الفريد أن بعضهم يقول:
الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ والأرض فيها الماءُ والأشجارُ
ظاهر البيت بيت، ليس مكسوراً، هو بيت شعر؛ لكنه لا يحمل أي معنى جديد.
فالشعر يعتمد على أربعة أمور:
أولها: البحر: وبحور شعر العرب ستة عشر بحراًً، وزاد الأخفش بحراً فصارت سبعة عشر بحراً.
ثانيها: القافية: أن يكون على قافية، فلا يأتي المرء بالراء ثم ينتقل إلى الشين ثم إلى الطاء ثم إلى الخاء ثم إلى الجيم، فهذا لعب.
ثالثها: الأسلوب: فإن النَّظْم شيء والشعر شيء آخر، وابن مالك عندما يقول:
قال محمد هو ابن مالك أحمد ربي الله خيرَ مالكِ
ولا يجوز الابتدا بالنكرة ما لم تفِد كـ (عند زيد نمرة)
فإنما هو نَظْمٌ وليس بشعر، لكن الشعر مثل قول المتنبي:
وقفتَ وما في الموت شك لواقفٍ كأنك في جفن الردى وهو نائمُ
تمر بك الأبطال كلمى هزيمةً ووجهك ضحَّاك وثغرك باسمُ
فهذا الأسلوب لا بد منه.
رابعها: الخيال: فلا بد أن يكون عند الشاعر خيال يتخيل الأمور، فما يقول: لا الشمس شمس، ولا المسجد مسجد، ولا الميكرفون ميكرفون، هذه أمور مسلَّمة؛ لكن يأتي بصورة بديعة، مثل قول بشار بن برد:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا وأسيافنا ليلٌ تهاوى كواكبُه
أو كقول امرئ القيس:
مُكِرٌّ مُفِرٌّ مُقْبِلٌ مُدْبِرٌ معاً كجلمود صخر حَطَّه السيلُ مِن عَلِ
إلى غير تلك التشبيهات، فهذا الخيال لا بد منه.
ولذلك تجد الآن شعراً في الساحة، ليس فيه خيال ولا أسلوب ولا روي ولا قافية، وإنما هو كلام عادي، وإذا أراد أن يُسَمَّى شاعراً أتى بأمور إذا سألتَه هو عن معانيها ما استطاع أن يجيبك، يقول: هذه رموز ومصطلحات لا يدركها الناس العاديون، وربما كان مستواه أضعف من مستواك، حتى يجعلك تقول: بارك الله فيك، فتح الله عليك، أنا ما أردت هذه القصيدة؛ لأنه يقول:
في وهج الليل سرحتُ
ونمتُ في جنح الضحى
ثم سقط عليَّ الشاطئ بلمعانه
وإذا بريق الشمس فوق حاجبي
فماذا أفعل؟
فإذا قلتَ: بارك الله فيك، استنبط لنا من هذه الكنوز ومن هذه البضاعة، قال: لا.
أنت مستواك ضعيف، عقلك ما بلغ إلى هذا الرقي العلمي.
فنقول له، جزاه الله خيراً: يبقى هو وبضاعته وسوف يثبت المتنبي وأبو تمام وجرير عنه أنه شاعر فحل!(369/19)
شعر في أهوال يوم القيامة
السؤال
الشيخ عائض: إني أحبك في الله، هل نظمت شعراً في أهوال الآخرة؟ فإن كان الجواب نعم فأرجو منك أن تسمعنا شيئاً من ذلك.
الجواب
عندي القصيدة التي مضت (الدمعة الخرساء) هي من ذكر أهوال الآخرة:
دنياك تزهو وما تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
عارية المال قد ردت لصاحبها وأكنف البيت قد عادت لبانيها
والأينق العشر قد هضت أجنتها وثلة الورق قد ضجت بواكيها
يا رب نفسي كبت مما ألم بها فزكها يا كريم أنت هاديها
إلى آخر القصيدة، هذا ما يحضرني أني نظمت فيه، لكن لَمَّا ذكرني فمن أعظم ما قرأتُ صراحةً في أهوال الآخرة قصيدة لأحد الشعراء في عهد نور الدين، وهو المؤسس -حقيقةً- لدولة بني أيوب أو الأكراد، وهو من العلماء والفضلاء والزهَّاد، حتى يقال: إنه سادس خلفاء الإسلام، كان من أعدل الناس، وكان يصلي الليل إلا قليلاً، ويصوم أكثر الأيام، ولا يسمع الموعظة إلا بكى، وجاهد في سبيل الله حتى أتته جروح وشروخ في أرجله من كثرة ما ركب الخيل، عمل مهرجاناً في دمشق، مهرجاناً حافلاً كبيراً، حضره أمراؤه ووزراؤه وقوّاده وجيشه والناس، فأتى هذا العالم والناس قد اكتضوا في المهرجان فوقف أمام نور الدين محمود فألقى قصيدة كأنها تتقطع من القلب، يقول لـ نور الدين هذا:
مثِّل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مسلماً فاحذر بأن تأتي ومالك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
إلى أن يقول:
هذا بلا ذنب يخاف لهوله كيف المصر على الذنوب دهور
قصيدة مما تقارب أربعين بيتاً، فلما قالها قيل: أغمي على نور الدين محمود، فسقط من على كرسيه على الأرض مغشياً حتى رُشَّ بالماء، وكان يقول: هي أول توبتي في الإسلام.
ومن أحسن ما قرأتُ كذلك من الشعر في الدار الآخرة قصيدة للشاعر الكبير ابن عثيمين الذي توفي قبل سنوات، وقد رَثى علاَّمة من علماء نجد اسمه عبد الله العجيري، يقول في قصيدته وهي مَرْثِيَّة محزنة:
هو الموت ما منه ملاذٌ ومهربُ متى حُطَّ ذا عن نعشه ذاك يركبُ
نؤمل آمالاً ونرجو نتاجها وعلَّ الرجا مما نرجيه أقربُ
ونبني القصور المشمخرات في الهوا وفي علمنا أنا نموت وتخربُ
نشاهد ذا عين اليقين حقيقة عليه مضى كهل وطفل وأشيبُ
ولكن علا الرانُ القلوبَ كأننا بما قد رأيناه يقيناً نكذِّبُ
إلى الله نشكو قسوة في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندبُ
إلى آخر تلك القصيدة.(369/20)
من تاب تاب الله عليه
السؤال
أنا شاب ابتليت بصحبة سيئة، ووقعت في بعض المحرمات والكبائر، فما هو السبيل للرجوع إلى الله؟ وهل إذا تبتُ تُقبل توبتي؟
الجواب
سبحان الله! لا تُقْبَل توبتُك وقد قُبِلَت توبةُ المشركين الذين عبدوا الأصنام والأوثان من دون الله، وزنوا، وسرقوا، وكذبوا، وفجروا، وألحدوا؟! لا.
بل أنت من أحب الناس إذا تبت إلى الله عزَّ وجلَّ: {للهُ أفرحُ بتوبة عبده من أحدكم كان على راحلته عليها طعامه وشرابه فضلَّت منه فوجدها فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح} ونداء الله للناس صباح مساء: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وقوله جل ذكره: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
وعند مسلم عن أبي موسى رضي الله عنه قال: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها}.
وعند مسلم عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {والذي نفسي بيده، لولم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم آخرين يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم}.
وعند مسلم عن معاذ رضي الله عنه في الحديث القدسي: {يا عبادي! إنكم تذنبون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم}.
وورد عنه صلى الله عليه وسلم عند الترمذي أنه قال: {كل ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون}.
فنسأل الله أن يتوب علينا وعليك، فإذا تبت فأكثر من الاستغفار، وافعل من الحسنات ما تكفِّر السيئات: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22] ثم عليك أن تجانب جلساء السوء فلا تجلس معهم، إلا أن ترى أنك تستطيع أن تحولهم وتُقْبِل بقلوبهم على الله فلك ذلك.
شروط التوبة:
الأول: أن تعزم على ألا تعود إلى ما كنت تفعل.
الثاني: أن تندم على ما فعلت من المعاصي.
الثالث: أن ترد حقوق الناس إن كانوا من أهل الحقوق؛ كأخذ مال، أو غصب ملك، أو انتهاك عرض، عليك أن ترد هذه الحقوق إلى أهلها إن استطعت، وإن رأيت أن ثمة مضرة أو أنه سيجلب عليك بعض الأمور التي لا تُحمد عقباها، فعليك أن تتصدق به على نية صاحبه إذا كان مالاً، والله يتولانا وإياك.
جزى الله الشيخ خيراً على تفضله لإجابة الأسئلة، ونسأل الله عز وجل أن يجعلها في موازين أعماله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(369/21)
من عوامل النصر والهزيمة
إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش هذه المرحلة الحرجة الموسومة بالضعف والهوان بعيدة عن النصر وذلك لأسباب عديدة، وكما أن النصر لابد له من عوامل فكذلك الهزيمة لابد لها من أسباب، فمن عوامل النصر والهزيمة ما تجدونه في طيات هذا المادة.(370/1)
موجز في عوامل النصر والهزيمة في الأمة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، أما بعد:
هذه المحاضرة بعنوان: من عوامل النصر والهزيمة، وعناصرها كما يأتي:
عوامل النصر:
طلب الشهادة.
رفع راية الجهاد.
القتال لتكون كلمة الله هي العليا.
الشجاعة الإيمانية.
الدعاء واللجوء إلى الواحد الأحد.
التوكل على الله تبارك وتعالى.
الإعداد: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ} [الأنفال:60].
التوبة النصوح، وترك الخطايا والذنوب.
تسخير وسائل العلم والإعلام لخدمة الدين.
إصلاح المناهج الدراسية.
إقامة القسط وتوخي العدل.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وعوامل الهزيمة:
عدم الثقة بالله تبارك وتعالى.
الاغترار بالكثرة والقوة.
الإرجاف وتصديق الشائعات.
التخذيل في صفوف الذين آمنوا.
الترف والترهل.
اشتغال الأمة بالتوافه.
ضعف الهوية الإيمانية.
الإسراف في المباحات الملهية.
اهتمام الأمة بصغار المسائل على حساب كبارها.
عدم ربط الأمة بعلمائها.
التنازع والاختلاف.
النفاق في الأمة؛ النفاق الاعتقادي والنفاق العملي.(370/2)
عوامل النصر في الأمة
إذا عاش الناس لحظات الصفر، وهم يلقون مناياهم فما علينا؟ وما نحشد لهذه الأحداث، إلا كما يحشد لها الذين آمنوا ولبسوا أكفانهم في بدر وأحد، وعين جالوت، وحطين وأنتم أبناؤهم "ومن يشابه أبه فما ظلم".
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعل مثلما فعلوا
والله يقول: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140] ويقول سبحانه وتعالى: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104].
فالمسلم يموت والكافر يموت، ولكن المسلم ترفع روحه إلى الحي القيوم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27 - 30].
ونريد أن نخبر الناس في هذه الفترة الحرجة أنا أبناء الذين فتحوا ثلاثة أرباع الكرة الأرضية، بلا إله إلا الله، وأنا أبناء الذين أتوا إلى معركة أحد، وقد لبسوا الأكفان واغتسلوا، ويقول أحدهم: [[اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى]].
وأنَّا أبناء عقبة بن نافع الذي وقف في صحراء أفريقيا في الغابة، وقال: أيتها الوحوش والحشرات، ادخلي جحوركِ فإنّا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جئنا نفتح الدنيا.
فلماذا نخاف الموت والله يقول: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} [التوبة:52] هكذا ربانا رسول الهدى عليه الصلاة والسلام.
رسول الهدى بستانك اليوم أخضر وذكراك عصفور من القلب ينقر
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحذر
تذوب شخوص الناس في كل لحظة وفي كل يوم أنت في القلب تكبر
قال الله تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] يقول أحد العلماء: متناً وسنداً، فنحن أمة الوحي، أمة تتلقى تعاليمها من الله، وترتفع أرواحها إلى الله، وتعيش لله، وهي أمة الخلافة في الأرض، متى ما تمسكت بالدين كانت شجاعة، فَلِمَ الخور والجبن؟
يقول أحد الشجعان في إحدى المعارك:
لترم بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين
يقول: ترمي بي المنية حيث شاءت إلا في حفرة النار، نار جهنم، ويقول: أقدم جمجمتي؛ لترتفع لا إله إلا الله.
الطرماح بن حكيم، وهو أحد الصحابة، كان يبتهل إلى الله -يوم أن كانت الأمة تصدر من الإيمان، يوم أن كانت تشرب ماء زمزم، يوم كانت عند الركن والحطيم -يقول:
أيا رب لا تجعل وفاتي إن أتت على شرجع يعلى بخضر المطارف
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف
إذا فارقوا أوطانهم فارقوا الردى وساروا إلى موعود ما في المصاحف
يقول: يا رب لا تقتلني على فراشي، لا تجعلني أموت حبطاً في المستشفى، في غرفة الباطنية، كما ماتت الأمة حبطاً من كثرة ما أكلت وشربت، وأصبح عندنا شهداء البطون، هم أهل غرف الباطنية، وأصبح المستشفى الواحد يرحب بالمرضى، ولكن من بطونهم لا من جماجمهم، فيقول:
ولكن شهيداً ثاوياً في عصابة يصابون في فج من الأرض خائف
{مد ابن رواحة يده إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ثم قال يا رسول الله! على ماذا تبايعنا؟ -في العقبة - قال: أن تنصروني وتحموني مما تحموا منه نساءكم وأهليكم وأطفالكم، قال: فإذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة -ولم يقل لكم الدنيا- قال: ربح البيع، والله لا نقيل ولا نستقيل}.
يقول أحد الصحابة يوم أن رباه رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، على بذل النفس في وقت الخطر:
إذا ما فررنا كان أسوا فرارنا صدود الخدود والكرام المناكب
صدود الخدود والقنا متشاجر ولا تبرح الأقدام عند التضارب(370/3)
الأول: طلب الشهادة
أول عامل من عوامل النصر: طلب الشهادة، وتسليم النفس لمن خلقها، وهي وديعة عندك تتحرى لحظة الصفر لتقدمها لمن أودعها، والله سبحانه وتعالى يقول للنفس: {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر:28].
ولا يرجع الشيء إلا بلبيك، فبدأت من الله ولا تعود إلا إلى الله، والله يقول في صك المعاهدة الذي وقع عليه أهل بدر وأحد، وأهل الأحزاب، والقادسية واليرموك: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111].
وفي صحيح البخاري أن رسول الهدى عليه الصلاة والسلام يقول وقد شرفه الله بالرسالة أعظم من الشهادة، يقول: {والذي نفسي بيده، لوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل، ثم أحيا ثم أقتل} ولذلك قادهم وفتح المستعمرات والقلاع، وخطب أصحابه على منابر الأندلس، وصلوا إلى السند، وذهبوا إلى بخارى، محمد عليه الصلاة والسلام هو واجهة الأمة.
هذا الرجل العظيم بأبي هو وأمي، يأتي في معركة بدر فيقود المعركة بنفسه، ويحضر أحداً فيتدرع بدرعيه، ويقاتل، ويقول الله سبحانه وتعالى له ليكون قدوة للأمة في الشجاعة والمحاربة: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] يفر بعض أصحابه وجيشه في غزوة حنين وهو في خط النار -في الخط الأول- فلا يفر، بل يستل السيف وينزل من على البغلة، ويقول:
أنا النبي لا كذب أنا بن عبد المطلب.
فحياه أحد شعراء العروبة ولو أنه قومي، لكن هزته شجاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال:
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها
وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب قولها أفعالها
كان يضرب ألف مقاتل مع مالك بن عوف النصري من هوازن، أخذ التراب وقال: {شاهت الوجوه} فما بقيت عين إلا دخلها التراب، وصمد للمعركة حتى انتصر انتصاراً باهراً.
يقول علي بن أبي طالب وهو من أشجع الناس، لكن شجاعته تلاشت في شجاعة الشيخ الكبير والأستاذ الجليل، يقول: [[كنا إذا اشتد بنا الخطر وحمي الوطيس، اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أقربنا من القوم والحرب]] ولذلك تربت الأمة على الشجاعة، ودلفت كتائبه إلى نهر دجلة والفرات والنيل تبايع الله وتفتح الدنيا بلا إله إلا الله، وأصبح الصحابي الواحد منهم يكبر فينصدع الإيوان، وينهدم القصر، وتنفتح القلعة.
تعال يا من حاله في وبال وروحه مغروسة في عقال
يا راقداً لم يستفق عندما أذن في صبح الليالي بلال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
معاذ بن عفراء في الخامسة عشرة من عمره، وأهل الخامسة عشرة اليوم يشترون اللاصق ويضعونه على النوافذ، ويغمى عليهم قبل أن يأتي الكيماوي؛ لأن الجبان يموت باليوم ألف مرة، والشجاع لا يموت إلا مرة واحدة.
معاذ بن عفراء يدخل المعركة وهو في الخامسة عشرة يقول: أين أبو جهل؟ قالوا: ذاك، فلما بدأ الهجوم، وأعلنت حالة الطوارئ، وبدأ السيف يقطر من الدماء، انطلق هو وأخوه على أبي جهل فجعلوه شذر مذر، ويعود بسيفه لا طائشاً ولا رعديداً ولا جباناً، ويقول: يا رسول الله! أنا قتلته، ويقول أخوه: أنا قتلته، فيتبسم القائد العظيم، ويحيى الجيل الخالد، جيل القرآن، ويقول: {كلاكما قتله}.
متى كانت هذه الأمة أمة ساقطة تخاف الموت، أمة ترى في المنام الموت وهي تود أنها بالأعراب، أو تجد مغارة أو مدخلاً تولي عن نفوس المستعمر، أو عن اليهودي، أو عن الماركسي؟ متى كانت كذلك إلا يوم أبطلت طلب الشهادة.
خرج ابن رواحة من مسجده عليه الصلاة والسلام يقاتل في مؤتة، فقال الصحابة: يعود إلينا ابن رواحة بالسلامة، قال: لا.
لا يريد السلامة، ما خلق إلا ليقتل، وما رفع الرأس فوق الرقبة إلا لينسف، لكن في سبيل الله، أبناء شامير وأبناء ديكسمان، يقتلون في سيناء تحت الدبابات المصرية من أجل راية النمرود.
البلاشفة الحمر يقتلون في أفغانستان من أجل راية لينين واستالين.
وأنتم أحفاد صلاح الدين! وطارق بن زياد، ومحمود بن سبكتين! فيقول ابن رواحة:
لكنني أسأل الرحمن مغفرة وطعنة ذات فرع تقذف الزبدا
حتى يقال إذا مروا على جدثي يا أرشد الله من غاز وقد رشدا
فيقتل في المعركة ويمر الصحابة ويسلمون على قبره ويبكون ويقولون: يا أرشد الله من غاز وقد رشدا، هذه هي الحياة.
علي بن أبي طالب يأتي في صفين، فيتبسم لما رأى قرينه يبارزه، فوضع الدرع من على جنبه، يعني من الشجاعة، يقول: أبارزك وأنت عندك درع وأنا بلا درع، ثم يقول:
أي يومي من الموت أفر يوم لا يقدر أم يوم قدر
يوم لا قدر لا أرهبه ومن المقدور لا ينجو الحذر
أما يقتل في اليوم الواحد العشرات بحوادث السيارات؟ أما سمعنا أن بعض الناس أكل عصيداً حاراً فتفجر في بطنه، أو نشب عظم في حلقه، فمات شهيداً على الفراش، أو جلس في المسرح وهو ينشد أغنية ليحيي بها الأمة الهامدة! أو يقدم مسلسلاً فزلق من على المسرح فوقع على أم رأسه فمات؟!
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
سعد بن الربيع يدبج دمه في المعركة ويقول له سعد بن معاذ: ماذا تريد يا سعد بن الربيع؟ وهو من أهل الآخرة، قال: [[أبلغ رسول الهدى عليه الصلاة والسلام مني السلام، وقل جزاك الله خير ما جزى نبياً عن أمته، والذي نفسي بيده لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً]] وهذا قبل أن يلقى الجنة، لكن رأى العلامات: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30].
فطلب الشهادة إذا رسخ في الأمة، وأصبح يعيش معها في أدمغتها، وتفكيرها، ومشاعرها، أصبحت أمة شجاعة، لا تخاف، ولا تجزع ولا تخرج إلى البوادي، لا تتدثر بالألحفة والأغطية، لأنها أمة سلاح.(370/4)
الثاني: رفع راية الجهاد
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف:4] مثل صفوف الصلاة، يقول محمد إقبال:
نحن الذين إذا دعوا للصلاتهم والحرب تسقي الأرض جاماً أحمرا
يقول: إذا حان أذان الظهر أو العصر ونحن في المعركة، أوقفنا القتال، وهذه هي صلاة الخوف، التي في الصحيحين.
جعلوا الوجوه إلى الحجاز وكبروا في مسمع الروح الأمين فكبرا
يقول: نحن إذا لقينا المعركة، وأذن المؤذن كبرنا واستقبلنا الحجاز إلى الكعبة، فإذا كبرنا كبر جبريل في السماء، فارتفع تكبيرنا إلى الواحد الأحد: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10].
ولكن الأمة يوم خانت حيّ على الصلاة، خانت حيّ على الكفاح، ولما خانت صلاة الفجر، ولم تصل صلاة الفجر في الجماعة، خانت الجبهة، ولم تستطع أن تصمد صموداً هائلاً يسمع به الناس وتسمع به إسرائيل وروسيا ومن وراءهما.
ولكن الأمل في الله، ثم فيكم أنتم يا أهل صلاة الفجر، لا نوم بعد الفجر.
أتنام يا خدن العقيدة كيف تغفو يا أخاه
أتنام والفجر الجميل إذا تبدى في حياه
الليل ولى هارباً يخشى الأذاة الطغاه
رفع راية الجهاد في سبيل الله، بأن تُدَرَّس أبواب الجهاد، وتُعلن صريحة على الناس.
كان المسلمون في القرن الثالث والرابع -لما تلقوا هجمات عاتية- يدرِّسون كتب الجهاد، ويوزعون أحاديث الجهاد، وتكون الخطب في الجهاد، فعلى خطباء الجُمع، وعلى الأئمة والعلماء أن يحركوا وازع الجهاد في سبيل الله، والجهاد أميت في العالم الإسلامي، فتولت الأمة خطيئة ما سمع الدهر بمثلها.
أصبحنا ندافع، وأصبحنا نقول: ليس لنا أطماع في بلاد الله، كيف وإسرائيل تقطن بيت المقدس؟ كيف وجرباتشوف موسكو ليست له؟ كيف وأعداء الله عز وجل يرثون في الدنيا، لا.
الدنيا للمسلمين كما قال تعالى: {أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء:105] الدنيا ليست لهؤلاء الزنادقة العملاء، هم دخلاء في الدنيا، الواجب تطهيرها منهم، نعم لنا أطماع، لنا أن نزيحهم تماماً، وأن نملأ أفواههم تراباً، وأن نرفع راية الجهاد راية لا إله إلا الله.
إن العلمنة أوحت للأمة أنه لا يجوز للمسلم أن يعتدي حتى على الكافر، وليبقى الكافر يعايش المسلم، ويسمون المعايشة إنسانية، هذا الأمر لا يمكن بالمنطق، أتعايش شامير وجرباتشوف وأذنابهم وعملاءهم وتبقى ويبقى البعث؟! لا.
فلا بقاء للكفر في الأرض مادام هناك لا إله إلا الله، ولا إله إلا الله، من مبادئها تكون أو لا تكون البشرية، تبقى أو لا يبقى أحد.
لأنها كونية التعاليم، ربانية المغفرة، ولا إله إلا الله كلمة خطيرة، ما دمر قوم نوح بالغرق إلا من أجل لا إله إلا الله، ولا أتت الصيحة إلا من أجل لا إله إلا الله، ولا جيئ بالجنة والنار إلا من أجل لا إله إلا الله، وراية الجهاد.(370/5)
الثالث: القتال لتكون راية الله هي العليا
نحن حقيقة لا نقاتل من أجل وطنية، والوطنية نزعة شركية تعبد من دون الله، وإلا فوطني كل أرض ذكر فيها اسم الله، كابول وطني صنعاء وطني، بغداد وطني، الكويت وطني الجزيرة وطني:
في الشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وأينما ذكر اسم الله في وطن عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
لم يكن لنا حدود يوم ملكنا الدنيا، كان عمر في المدينة يحكم اثنتين وعشرين دولة، وكان هارون الرشيد يحكم ثلاثة أرباع آسيا، وكان المعتصم يهدد حدود بلغاريا الآن.
كان من طموحات عمر بن عبد العزيز، أن يفتح ما وراء سيحون وجيحون، لماذا؟ حتى تطبق لا إله إلا الله في الكرة الأرضية.
لأن هؤلاء الحشرات إما يحرقون أو إلى النفايات، لأن الأرض من خلقها؟ الله، ومن خلق الذي عليها؟ الله.
وماذا يريد الله من الخليقة؟ {وَأَنِ اعْبُدُونِي} [يس:61] لا إله إلا الله، نريد أن ترسخ في قلوب الناس.
جاء رجل كما في الصحيحين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: {يا رسول الله! الرجل يقاتل رياء، ويقاتل سمعة، ويقاتل شجاعة، ويقاتل ليرى مكانه، أي ذلك في سبيل الله؟ قال عليه الصلاة والسلام: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله} أتقاتل من أجل أمتار من الأرض، أو سيارة، أو منصب.
ألا بلغ الله الحمى من يريده وبلغ أكناف الحمى من يريدها
قتل أحد الناس في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام فقال الصحابة: هنيئاً له الجنة يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: {كلا والذي نفسي بيده إن البردة التي غلها تتلظى عليه في نار جهنم} لأنه سرق بردة، غلها من الغنيمة، فأخذها فكانت حظه من الجهاد.
وخرج أحد الأبطال من المدينة، يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أحد فحمل السيف، وما ترك شاذة ولا فاذة إلا أتبعها بسيفه يضربها ثم أصابه جراح في رأسه حتى وصل عضده، فجزع فاتكأ على سيفه حتى خرج من ظهره، فلم يعرف الصحابة لماذا قتل، ومتى قتل، فقالوا: هنيئاً له الجنة، قال صلى الله عليه وسلم: {كلا والذي نفسي بيده إنه من أهل النار} فذهبوا فوجدوه قد قتل نفسه.
إن القتال من أجل أن تكون لا إله إلا الله أعلى وأجل، من أجل أن تسيطر لا إله إلا الله في الأرض، وأن تكون إياك نعبد وإياك نستعين هي التي توجه الناس، وتوجه الشعوب والأمم والدول.(370/6)
الرابع: الشجاعة الإيمانية
الرسول صلى الله عليه وسلم ربى أصحابه على حالة الاستنفار، فالترهل والكسل، والجبن والخور لا يعرفه أحد منهم، يصعد المنبر ويخطب، ويمسك السيف في أول أيامه، يعلن حالة الاستنفار والحرب على أبي سفيان من على المنبر، أعلنه يوم الجمعة، فيستشير الصحابة صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر وهم جلوس -كانوا أحياناً يصلون بالسيوف- فيقول: ما رأيكم نقاتل أبا سفيان في المدينة أو نخرج له؟
وكان يريد صلى الله عليه وسلم أن تكون المعركة داخل المدينة؛ لأن حرب المدن دائماً المدافع ينتصر بإذن الله على المهاجم، وهذا هو الرأي الصحيح، قال: تكون الحرب داخل المدينة، حتى يقتل أبو سفيان وجيشه في الأزقة وفي المنحنيات، وفي مجامع الطرق، فصوت كبار الصحابة على هذا الرأي، ودخل مالك بن سالم من الأنصار، شاب في العشرين من عمره، وعليه ريشة نسر وقد سل سيفه وقال: {يا رسول الله! اخرج بنا إلى أحد أيسبي أبو سفيان سبايانا ويأخذ غنمنا ونقاتل داخل المدينة، يا رسول الله! لا تحرمني دخول الجنة، فو الذي نفسي بيده لأدخلن الجنة} ذكرها ابن إسحاق.
فقال صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم على المنبر من هذه الحرارات والتوقدات، قال: {وبم تدخل الجنة؟ قال: بخصلتين قال: ما هما؟ قال: أحب الله ورسوله، ولا أفر يوم الزحف} فيخرج صلى الله عليه وسلم إلى أحد ويدير المعركة على رأس أبي سفيان، وهكذا سلّم صلى الله عليه وسلم راية الجهاد على المنبر لـ عمرو بن العاص، وسلّمها لكثير من المقاتلين، وقال على المنبر: {وأخذ الراية خالد بن الوليد ففتح الله عليه}.
فالقرارات العسكرية كان يعلنها صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة، ولم تكن خطب الجمعة تقتصر على الغسل من الجنابة فقط، ولا على التيمم ولا تحريك الأصبع، لا.
خطب الجمعة للا إله إلا الله، وإماطة الأذى عن الطريق، في الاقتصاد، والأدب، والحياة، هي لعالم الغيب والشهادة، هكذا أرادها عليه الصلاة والسلام.
الشجاعة الإيمانية، مثل خالد، كان يصلي بالمسلمين في اليرموك، وكان جيشه أقل من ثلاثين ألفاً، وجيش الروم ما يقارب ثلاثمائة ألف، انظر الفارق، عشرة أضعاف، قال: [[إني مصلٍ بكم الفجر، ثم إني مكبر فإذا كبرت الأولى فاركبوا الخيول، يعني الخيالة -الكمندوز- وإذا كبرت الثانية: فيمموا العدو، وإذا كبرت الثالثة: فابدأوا باسم الله]] فكبر أبو سليمان، وبدأ في التكبيرة الثالثة: وقد بدأ الهجوم الصاعد وكان خالد قد خاض مائة معركة في الجاهلية والإسلام، لم يهزم في معركة.
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله يشعلها وخالد في سبيل الله يذكيها
ولا أتى بقعة إلا سمعت بها الله أكبر تدوي في نواحيها
ما نازل الفرس إلا خاب نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
يوم مات كان يقول: [[فلا نامت أعين الجبناء]] يقول: الليلة فرحة الجبناء من السعود؛ لأنهم سوف يسمعون أن خالد بن الوليد مات، ومعنى ذلك أنهم سوف يعلقون العقود الكهربائية، ويرقصون ليلهم إلى الفجر، لأن هذا عيد وفرح وسرور، ولكن خلف لهم خالد ألف خالد، وخلف لهم صلاح ألف صلاح، وخلف لهم طارق ألف طارق.
ويعيشها الإنسان مثل المعتصم.
المتوكل على الله عز وجل، أتاه المنجمون عندما أراد أن يفتح عمورية فقالوا: احذر، برج الذنب الآن قد استكمل، فإذا أتى برج العقرب فاغز الروم، وهل يتعامل المعتصم مع النجوم؟ أمة تعرف لا إله إلا الله، تعرف: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] قال: آمنت بالله وكفرت بكم، والله لأغزون هذا اليوم، وتحرك بتسعين ألفا.
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
ولكن ما هو برنامج الجيش؟ جعل ابن مرزوق محمد بن الحسن الشيباني الإمام والمفتي والخطيب للجيش، إنها أمة تصلي الصلوات الخمس، وتقرأ القرآن ولها حزب من القرآن، أمة تتهجد وتتصل بالله.
وصل المعتصم إلى المعركة، ودمر عمورية، وانتصر بإذن الله، وقال له أبو تمام يحييه:
أين الرواية أم أين الدراية كم صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
بهارج وأحاديث منمقة ليست بنفع إذا عدت ولا غرب
فالنصر في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب
النصر بالقتال، النصر بالاعتزاز بقدرة الواحد الأحد.
ويعيش ابن المبارك، عالم محدث وراوية، لكن العالم الإمام في المنبر وفي المحراب ينقلب إلى أسد في الجبهة.
إن تصنيف الناس إلى تخصصات واجب، لكن إذا طغى تخصص على تخصصٍ آخر وأعدمه فليس بوارد، فـ ابن المبارك يخرج من الحرم وهو المفتي، فلامه الفضيل بن عياض على ذلك وقال: تخرج من الحرم وتقاتل، وتترك الصلاة فيه، والصلاة الواحدة بمائة ألف صلاة، وكان ابن المبارك أفقه، فقال: نعم أخرج.
بغض الحياة وخوف الله أخرجني وبيع نفسي بما ليست له ثمنا
إني وزنت الذي يبقى ليعدله ما ليس يبقى فلا والله ما اتزنا
ويقاتل ابن المبارك في المعركة، ويقتل سبعة في يوم واحد، فيرسل له الفضيل يلومه، ويقول: تركتنا، وتركت الحرم والدروس، فيكتب له:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك بالعبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
هذه مصداقية الشجاعة الإيمانية التي ورثها المسلمون من معلمهم الكبير عليه الصلاة والسلام.
شيخ البخاري أبو إسحاق وإذا قال البخاري: أبو إسحاق، فهو الفزاري الذي يقول البخاري عنه: أشجع من عرفنا في الإسلام أبو إسحاق الفزاري، فقال الرجل: لا.
ليس بصحيح هذا، فغضب البخاري فقال: أشجع الناس في الإسلام والجاهلية.
وأبو إسحاق شيخ محدث، قتل ألف مقاتل مبارزة بدون سيف، كان عنده مثقال من الحديد لا أدري كم وزنه، ذكره الذهبي، وكان قوي الجسم، فإذا خرج الفارس يبارز أبا إسحاق فر أبو إسحاق أمامه، ثم يلتفت إليه فجأة فيضربه على رأسه، فيوقعه على الأرض بدمائه.
كان أبو إسحاق من أشجع الناس على الإطلاق، وقد حياه الخلفاء في عهده، لأنه كان محدثاًَ يعرف حدثنا ورواه فلان، ويعرف الجرح والتعديل، لكنه إذا حضر المعركة عرف الجرح والتعديل من نوع آخر.(370/7)
الخامس: الدعاء والاتصال بالواحد الأحد
الرسول صلى الله عليه وسلم في بدر يسهر الليل.
نامت الأعين إلا مقلة تذرف الدمع وترعى مضجعك
حتى سقط رداؤه من على جنبه الشريف صلى الله عليه وسلم، فيقول أبو بكر: يا رسول الله! بعض مناشدتك لربك، يعني يكفي، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أعرف بالله، ويعرف صلى الله عليه وسلم أن أقرب الناس من الله الملحين، والله يحب الإلحاح، ويحب سبحانه وتعالى الذي يسأله كثيراً.
الله يغضب إن تركت سؤاله وبني آدم حين يسأل يغضب
فكان صلى الله عليه وسلم يقول طيلة الليل: {اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد بعد اليوم} فنصره الله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ} [الأنفال:9] فقبل الله الاستغاثة.
ولقد سمعت في شريط يتكلم عن غزوة بدر وهو حسن، لكن بعض العبارات لا بد أن تضبط بضابط الشريعة، لأن البياض إذا زاد أصبح برصاً، وهذه الكلمات مثل الوردة تشم ولا تعك، سمعته يقول: اتصل صلى الله عليه وسلم في ساعة الصفر في المعركة اتصالاً مباشراً بالله عز وجل فوق العرش، وقال: عاوز ألف من الكمندوز، قال: فنزل جبريل يقود ألف مقاتل، ونزل بهم في الحال، وجبريل هو قائد الفرقة الثامنة والثلاثين والمتخصصة في النسف والإبادة.
ونقول لهذا: لا.
لا بد أن تضبط عبارتك بضابط الشريعة، نزل جبريل تحت لواء الرسول صلى الله عليه وسلم.
قالوا للأصمعي: ما هو أشرف بيت قالته العرب؟
قال: أشرف بيت قول حسان يوم بدر:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
هذا أشرف بيت، إي والله، من هو تحت اللواء؟ جبريل نزل تحت لواء الرسول صلى الله عليه وسلم، وأهل العلم من أهل السنة يقولون: كانت الملائكة والصحابة تحت لواء الرسول صلى الله عليه وسلم بالإجماع، والمعلوم عند أهل السنة: أن الملائكة كانت تتلقى أخبارها وأوامرها ونواهيها في المعركة والإقدام من العريش من قيادة الرسول عليه الصلاة والسلام.
فأشرف بيت قالته العرب هو هذا:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
يقول: هل عندكم مثلنا؟ عندكم مثل جبريل ومحمد تحت الألوية، أما لواؤنا في بدر فكان أسود يعلن حالة الخطر، وكان تحته الرسول صلى الله عليه وسلم وجبريل، والرسول صلى الله عليه وسلم أشرف عندنا من جبريل عليه السلام.
علي بن موسى بن الرضا كان وزيراً في عهد المأمون، من آل البيت من بني هاشم، فمدح الحسن بن هانئ جميع الخلفاء وترك هذا الأمير، فغضب الأمير، فاعتذر إليه، وقال فيه قصيدة يحييه ويذكر جبريل مع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الرسول جده عليه الصلاة والسلام لأمه، رضي الله عنهم جميعاً، فقال في مدحه:
قيل لي أنت واحد الناس في كل معنى من الكلام بديهي
لك من جيد القريض مديح ليس يعرى عن مفخر مكتسيه
فعلام تركت مدح ابن موسى وهو أحرى بأعظم التنويه
قلت لا أستطيع مدح إمام طهر الوحي بيته وذويه
ما عسى أن أقول في مدح من قد كان جبريل صاحباً لأبيه
أي: الرسول صلى الله عليه وسلم.
فلا بد من الشجاعة والدعاء والاستغاثة بالله عز وجل حتى في أوقات الخطر، وكان صلى الله عليه وسلم يقول قبل المعركة: اللهم منزل الكتاب ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم، وذكر الله عز وجل في المعركة فقال: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:147] فماذا قال: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ} [البقرة:251].
فيا أيها الإخوة: نحن بحاجة إلى الدعاء وخاصة في المدلهمات يقولون: قتيبة بن مسلم كان في معركة، فالتمس محمد بن واسع فأخبروه أن محمد بن واسع يرفع أصبعه ويدعو ويقول: يا حي يا قيوم اللهم انصرنا قال: والله لأصبع محمد بن واسع خير عندي من ألف سيف شهير، ومن ألف شاب طرير.
وانتصر بإذن الله.
فالله الله في الدعاء واللجوء إليه، خاصة في هذه الليالي في السجود، أن يحمي الله عقيدتنا، وإسلامنا، وأن ينصرنا، وأن يجعل الدائرة على أعدائنا.(370/8)
السادس: التوكل على الله
لن تهزم أمة تنطلق وتقول: حسبنا الله ونعم الوكيل: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان:58] وكان الأنبياء يقول أحدهم: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى:10] فالتوكل على الله عز وجل: أن تفوض الأمر إليه، وأن تعتمد عليه، وأن ترضى بنصره، وأن تعرف أن من سننه القدرية والأمرية الشرعية، أنه ينصر أولياءه، وأن الظالم لا ينصر، ولا يقف معه، وأن الباغي يهزمه سبحانه وتعالى، ونحوها من السنن التي استفاضت في الكتاب والسنة، فالتوكل عليه، أن تعلم أنك التجأت إليه: {فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة:56] فمن يغلب حزب الله؟!
توكلنا على الرحمن إنا رأينا النصر للمتوكلينا
الله معنا، والشيطان مع المجرمين: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد:11] {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257].(370/9)
السابع: الإعداد
يقول سبحانه وتعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال:60] ويقول سبحانه: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة:46].
أمة تؤمن بالأسباب، وتعلم أن المسبب سبحانه وتعالى هو الذي يقدر وبيده الأمر والحكم، وعنده مقدار كل شيء: إذا أراد أمراً فإنما يقول له كن فيكون، أمة لا تتخلى ولا تتغافل ولكنها تتوكل.
اعقلها وتوكل، وقد بارز صلى الله عليه وسلم وعليه درعان، وجند جيوشه وكان يسابق بين الخيل لتستعد للمعركة، وكان يباري بين أصحابه ويناظر معهم، ويشجع صلى الله عليه وسلم ويركب الأوسمة، ويدعو صلى الله عليه وسلم للشجعان، وينفل الغنيمة، حتى يقول: صوت أبي طلحة خير من مائة فارس في المعركة، وكان يدعو لـ خالد لأنه أبلى بلاءً حسناً.
ويقول علي بن أبي طالب: {ما سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يفّدي أحداً بأبيه وأمه إلا لـ سعد، يقول له يوم أحد، وهو يعطيه الأسهم، ارم سعد فداك أبي وأمي} ويكفي سعد بن أبي وقاص أنه دمر امبراطورية كسرى ولعب بها وسحقها على التراب.
سعد بن أبي وقاص، هو الذي أعلن لا إله إلا الله في المدائن.
فالمطلوب أن نعد إعداداً عقدياً وعسكرياً، وهو الواجب والمفروض؛ لنكون أمة مرهوبة الجانب.
والأمم والشعوب لا تهادن إلا القوي، ولا تحترم إلا القوي؛ لأننا في عصر التكتل والقوة، لا يؤمن إلا بالسوط والسيف والحديد والنار.
كان في القرن الثاني رجل في الحرم المكي يطوف، وكانت عنده امرأة جميلة، فكان يقول لأحدهم: لا تنظر إلى المرأة، قال: بل سأنظر وماذا في النظر! قال: انتظر قليلاً فذهب إلى جرابه، وأخرج السيف مصلتاً، وقال: إن كنت شجاعاً فانظر، فغض طرفه، فقال هذا الرجل:
تعدو الذئاب على من لا كلاب له وتتقي مربض المستأسد الضاري
وهذه قاعدة معروفة.
الأمم والشعوب، لماذا تحترم بعضها؟ للقوة، وإلا فالدول الصغار ضيعت في دقائق وثوان؛ بسبب أنه ليس عندها قوة ومناعة، لأن العالم الآن ولو عنده هيئة الأمم، وعنده مجلس الأمن، لكنه عالم ظالم، فتجد في البند الثالث من بنود مجلس الأمن يقول: إذا اعتدت دولة من الدول الخمس التي تملك حق النقض "الفيتو" على دولة، فلا يحق للدول أن تتدخل.
الآن روسيا - الاتحاد السوفيتي سابقاً- لما اعتدى على أفغانستان أسمعتم أن دولة تدخلت؟ لا؛ لأن ميثاق الأمم الظالم هكذا.
ثم يقول في البند الرابع: وإذا اعتدت دولة تساندها دولة من الدول الخمس دائمة العضوية التي تملك حق النقض، فلا يحق لدولة أن تتدخل ضد هذه الدولة ولو كانت فقيرة، فإسرائيل الآن لما أخذت فلسطين، هل وقف لها أحد؟ لا.
فهذا ظلم، فعلى المسلمين أن يعرفوا أن العالم هذا لا يريد إلا القوة، ولا يحترم إلا القوي.
يقول زهير بن أبي سلمى، ولو أننا نخالفه في البعض ونوافقه في البعض، يقول:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدّم ومن لا يظلم الناس يظلم
فأما الشطر الثاني فنكفر به، وأما الشطر الأول فنؤمن به.(370/10)
الثامن: التوبة النصوح والعودة إلى الله
إن أكبر أسباب الهزيمة في المعركة هي الذنوب والخطايا.
كان عمر رضي الله عنه وأرضاه يقول لـ سعد: [[يا سعد بن وهيب -أي: ابن أبي وقاص - يا سعد بن وهيب! لا يغرنك قول الناس إنك خال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، وأقربهم إلى الله أتقاهم، الله الله يا سعد في المعاصي]].
يقول: اتق الله وإياك والمعاصي في المعركة، وأخبره أنهم لن ينهزموا إلا بالمعاصي، فالأمة إذا أخفقت في عالم الجهاد، والقتال، وفي المعركة، فسبب ذلك معاصيها وجرائمها وفواحشها، وتقصيرها مع ربها.
{يا عبادي! إنكم تذنبون في الليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً، فاستغفروني أغفر لكم}: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور:31].
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله(370/11)
التاسع: تسخير وسائل الإعلام لخدمة الدين
إننا نريد من الصحيفة أن تحدثنا عن عمر، وخالد، في الافتتاحية الصباحية، وأن تشرح صدورنا في الصباح وهي تكلمنا عن أبي حفص، وعن سيف الله المسلول خالد بن الوليد، وعن أبي بكر وعلي.
نريد أن تحدثنا عن كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، نريد حياة لا نريد موتاً، ولا نريد أن تطمس النور في قلوبنا وأن تضيع أفكارنا، ولا نريد السقوط، بل نريد حياة تستمد مددها من لا إله إلا الله.
نريد صحيفة في الصباح إذا قرأها الجيل أشرقت أنوارهم وأساريرهم، وأنارت قلوبهم، وعادت الحياة إلى ضمائرهم، هذا هو القرآن باختصار.
ونريد شاشة تعرض لك التوحيد، تعرض لك على جنباتها وقسماتها: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
تعرض: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] تعرض: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7].
نريد تراجم لمحمد عليه الصلاة والسلام، مع سيرته في الجهاد، مع أيامه الخالدة، هذا هو المقصود؛ إذا أريد للأمة أن تحيا حياة جادة هادفة قوية، وأن تبقى منتصرة رأسها في السماء.(370/12)
العاشر: إصلاح المناهج الدراسية
إصلاح المناهج الدراسية، ألا يربى الجيل فقط على الأمور العلمية، أو الثقافية المجردة بدون رابطة من العقيدة، نعم نعرف أن الطلاب يعرفون خَبَزَ، وصاغَ، وخاطَ وزرعَ وأكلَ وشربَ، لكن على الأمة أن تربى من أول يوم على قل هو الله أحد.
وهناك في الصف الثاني الابتدائي قصة طه والطبلة، كان لـ طة طبلة يضرب عليها نحن نريد: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3].
وإلا فالنصوص كثيرة، والمقطوعات كثيرة، نحن نريد أن يربى الشباب على سير السلف الصالح، وحديث المصطفى عليه الصلاة والسلام، وسير أئمتنا وعظمائنا، حتى يخرج الطالب من الابتدائية وهو يحمل روح الجهاد ويتمنى الجهاد في سبيل الله.
نود إصلاح المناهج الدراسية بحيث تستمد فطرتها من الكتاب والسنة، وقد أكثرت الأمة في جوانب ليست بحاجة إليها، مثل مناهج الجغرافيا فإنك تجد التفصيل في مدن وصادرات وواردات وتضاريس ومناخات، تجده مثلاً يتحدث عن أسبانيا، وتبقى في ست عشرة صفحة، وهو يكلمك عن هذا البلد، وهذا مفيد، لكنه على حساب ما هو أهم منه! يكلمك عن العاصمة والصادرات والواردات، والإعلانات، ودرجات الحرارة، والصيدليات المناوبة، فإذا أثقل الطالب بهذه المعلومات على حساب قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام، والتفسير، والحديث، والفقه؛ أصبح الطالب غير مستطيع أن يجمع بين الأمرين، يقول ابن تيمية:
إن اللبيب إذا شكى من جسمه مرضين مختلفين داوى الأخطرا
إنسان مصاب بسرطان وزكام، فأتوا به إلى المستشفى، فقال الأطباء قبل أن يعالج من السرطان لا بد أن نعالجه من الزكام، فأيهما أفضل يحيا مزكوماً أو يموت مشافى من الزكام! مرض السرطان هو الأخطر فيعالج منه، كذلك مرض انهيار المعتقد أو عدم الصلة بالله عز وجل يقدم أولاً.(370/13)
الحادي عشر: إقامة القسط وتوخي العدل
قال تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل:52].
وقال ابن تيمية في الفتاوى المجلد الثاني: إن الله ينصر الأمة العادلة، ولو كانت كافرة، وإن الله عز وجل يهزم الأمة الظالمة، ولو كانت مسلمة.
وهذا أمر معلوم، فالظلم منذر بالانهزام، والتبخر، والتدهور، فمن أراد النصر فعليه بالعدل وإقامة القسط، والميزان الذي أنزله الله عز وجل على الناس.(370/14)
الثاني عشر: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وهو واجب الأمة جميعاً قال صلى الله عليه وسلم: {نضّر الله امرءاً سمع مني مقالة فوعاها، فأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع} أمة يميزها بين الأمم أنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر: {أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110] انظر التعبير، كان الناس موجودين فخرجت عليهم هذه الأمة من الصحراء، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله.
قال عمر كما في الصحيح: [[والذي نفسي بيده لا يتم أول هذه الآية حتى يتم آخرها]] إي والله لا نكون خير أمة حتى نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله، وحتى تتصل الأمة بالله مباشرة، وتعتمد على ألا تقر المنكر والفاحشة والجريمة، لكن بشرط، أن تعرف صلاحية النهي عن المنكر والفاحشة والجريمة، كما يقول ابن تيمية، في كتاب الجهاد: "ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عن المنكر بلا منكر"
هذه الحكمة التي ذكرها سبحانه وتعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل:125].
فإن بعض الناس قد ينهى عن منكر فينتج منكراً أعظم منه، ويريد أن يأمر بالمعروف فيأتي بمنكر بدل المعروف، ويفوت من المصالح، بسبب أسلوبه وعرضه، والله يقول لرسوله عليه الصلاة والسلام: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].(370/15)
عوامل الهزيمة(370/16)
الأول: عدم الثقة بوعد الله الواحد الأحد
إن النفاق هو الذي جعل بعض الناس لا يتصل بالله، كما سمعنا بعضهم يقول: القوة الفلانية لا يغلبها أحد! فنقول: نحن أمة مسلمة، تتصل بالله، قال: ولو!
فالمنافقون مع الرسول عليه الصلاة والسلام، عندما نزل الخندق وقد ربط على بطنه حجراً فضرب صلى الله عليه وسلم الكدية التي عرضت للصحابة -وأصل الحديث في البخاري - فلمع كالبرق فلما ضرب صلى الله عليه وسلم الصخرة، تبسم صلى الله عليه وسلم وهو جائع في وقت: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} [الأحزاب:10] فقد اجتمعت فيه قوات هائلة من المشركين، واليهود والمنافقين في حلف كافر ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: أُريتُ قصور كسرى وسوف يفتحها الله عليّ، فضحك المنافقون وتغامزوا وقالوا: عجيب أري قصور كسرى والواحد منا لا يأمن أن يبول من الخوف، فيقول سبحانه وتعالى مخبراً عنهم: {مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} [الأحزاب:12].
ولكن -إي والله- لقد دخلت كتائبه مكبرة مهللة وفتحت قصور كسرى وقيصر، وطبقت عدلها في العالم، ووصلت إلى قرطبة والحمراء، وسبحت بحمد الله على نهر اللوار، مصداقاً لرسالته، ولعهده، ولميثاقه مع الله تبارك وتعالى، أليس هذا هو الصحيح؟!
يجلس الرسول صلى الله عليه وسلم في غار ثور، فيقول أبو بكر: {يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لرآنا} فيتبسم -تبسم الشجاع، همة تطوي الزمن- وقال: {ما ظنك باثنين الله ثالثهما} ويقول لـ سراقة وهو يلاحقه: {سوف تسور بسواري كسرى} فيتبسم سراقة، هذا الطريد من أهل مكة يعدني بسوار أعظم امبراطور في العالم، وبعد سنوات يسور سراقة السوارين في عهد عمر ويبكي ويقول: [[صدق خليلي، صدق خليلي، صدق خليلي]].
هو الحق: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] إنها الثقة بالله.
أبي بن خلف وهو كافر مجرم، كان يعلف فرسه ويقول له: سأقتل عليك محمداً، فسمع ذلك صلى الله عليه وسلم فتبسم وقال: أنا أقتله إن شاء الله، وفي أحد يأتي ويتسلل ليقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيرسل عليه صلى الله عليه وسلم خنجراً فيقع في لبته فيموت، إن الأمة فقدت مصداقية الثقة، فلابد على الأمة أن تثق بالله، وتداوم على الاعتزاز به، والاتصال بجنابه.(370/17)
الثاني: الاغترار بالكثرة والقوة
بعض الأمم تغتر بكثرة جيوشها، وأعدادها، وترهب العالم بها ومن هذه الأعداد أحياناً ما يكون خيالياً، ومجازفاً فيه، يرهبون بأعداد الجيوش، وينسون أن قوة الله لا تغلب، والصحابة قد مضت بهم التجربة، فقد كانوا في بدر ثلاثمائة والكفار ما يقارب ألفاً، وانتصروا عليهم، ولكنهم كانوا في حنين اثني عشر ألفاً، فنظر أبو بكر إلى كتائب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي اثنا عشر ألفاً ليس عدداً سهلاً بل في الحديث الحسن: {لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة} أي لا يغلبون بسبب القلة، لكن قد يغلبون بسبب آخر، فيقول أبو بكر: [[لن نغلب اليوم من قلة]].
فأراه الله وأرى الصحابة أن السر ليس في الكثرة والقلة، بل السر في النصر ولا إله إلا الله، فلما بدأ الهجوم، ذهب الاثنا عشر ألفاً وفروا، ولم يبق منهم إلا ستة، فيقول سبحانه: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].
يقول: أين كثرتكم؟ {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [آل عمران:123].
أنتم في بدر كنتم قليلي العدد، لكن كنتم صادقين بـ (لا إله إلا الله) والثقة بـ (لا إله إلا الله) وحمل لا إله إلا الله، وأنتم في حنين اثنا عشر ألفاً، لكنكم وليتم.
إذاً لا تنفع الكثرة، ولا تنفع القوة العاجزة المنفصلة عن الاتصال بالله عز وجل، أبداً.
وإذا نظرنا إلى الفرس فقد كان عددهم ما يقارب مائتين وثمانين ألفاً، ومع سعد بن أبي وقاص قيل ثمانية وعشرون ألفاً وقيل أربعة وعشرون ألفاً في القادسية، وسحقهم سحقاً، ودمرهم تدميراً.
وكان الروم ثلاثمائة ألف، وخالد بن الوليد معه ثلاثون ألفاً، فألقاهم في النهر مثل الجرذان، وصبهم على وجهوههم في النهر، ودخل بهم في هذا المضيق، وحاربهم في مضيق حتى سحبهم بالسلاسل وانتصر، لأن الله معه.(370/18)
الثالث: الإرجاف وتصديق الشائعات
قال تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ} [الأحزاب:60] المرجفون: أهل الشائعات.
هؤلاء الذين يبثون في قلوب الناس والمجتمع الرعب والخوف دائماً يأتون بشائعة، حدث كذا، وسمعنا كذا، وهؤلاء قوم ليس لهم عمل في الدنيا إلا نقل الأنباء، ويسمون وكالة الكذب، وكالة (يقولون) وكالة (حدثني الثقة) وليس عندهم ثقة، ووكالة سمعت وأخبرني فلان، ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {بئس مطية الرجل زعموا}.
وإني أحذر من نقل الشائعة ومن ترديدها، ومن الإذعان لها، وهي مرض خطير انتشر في الأمة واستشرى، وكثّر حواجزنا النفسية، وعطل جهودها، وأفسد كثيراً من قلوب الناس، وجعلهم أمام شبح من الخيال، يحرسونه ليل نهار، فالشائعات المغرضة مرة تنشر عن العلماء، ومرة عن أهل الخير، ومرة عن ولاة الأمر، ومرة عن البلاد، ومرة عن مصادر البلاد، ومرة عن الافتقار، فأصبح الناس يصدقونها وأصبحت تنتشر فيهم انتشار النار بالهشيم، وموقفنا منها على ثلاثة أضرب:
الأول: أن يكون مصدرنا دائماً التثبت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء:36].
الثاني: ألا نحدث بكل ما سمعنا، يقول عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: {كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع} إذا رأيت الرجل يحدث بكل شائعة وبكل خبر، فهو كذوب، ومفتن ودجال، سواء تأكد أو لم يتأكد فهو كذوب، وسوف يكذب مهما كان.
الأمر الثالث: أن نردها إلى أولي العلم: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء:83] فنرد هذه الأخبار إلى العلماء، ونطلب آراءهم وفتواهم، ونطلب مواقفهم؛ لأنهم أكثر تجربة، وأنور قلوباً، وأخلص معتقداً، وأكثر علماً: {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] هذا موقفنا من المرجفين والإرجاف، وأكثر ما يدار في الساحة إرجاف، وبعض الناس يموت بالإرجافات، وأشياء من الخوف.
فقلت لقلبي إن نبت بك نبوة من الهمِ أقصر أكثرُ الروعِ باطلُ
أكثر هذه هواجس وخيالات ما أنزل الله بها من سلطان.(370/19)
الرابع: التخذيل في صفوف الذين آمنوا
في الناس مخذلون، يقول سبحانه وتعالى عن المخذلين: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ} [التوبة:47]
التخذيل: كأن يقول: ما أكثر جيش العدو! سمعنا أن دباباته كذا وكذا، وأن عنده مزدوجاً يطلقه من مدينته فيقع في الحرم مباشرة، وبعضهم وصف لنا بعض الصواريخ لم تحدث ولا صنعت في العالم، حتى سمعت أحد الشباب يحدث في مجموعة من الشباب قال: عندهم أجهزة صغار كالراديو يحملها بيده، يأتي الجندي فإذا رأى الدبابة أطلق عليها إشعاعاً، فيقسم الدبابة نصفين، وهذا لم يصنع إلى الآن، ولا توجد عند أي قوة، لا أمريكا ولا روسيا أبداً.
فإذا سمع الناس هذه يموتون، يقولون: مادام أنهم يقسمون الدبابات بالشعاع كيف نحن ونحن بشر.
وهؤلاء المخذلون دائماً في صفوف المسلمين، حتى إنهم كانوا في صفوف الرسول صلى الله عليه وسلم وفي صفوف أصحابه، يتحدثون بهذه الأخبار، والله أنذر منهم وحذر وقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة:47].
ولما خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بألف مقاتل إلى أحد، كان عبد الله بن أبي يتبعه ثلاثمائة، فانخذل وسط الطريق، وليته اكتفى، ولكن قال: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] يقول لأصحابه: عودوا، وأنتم تعرفون أني مع الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن لا نريد أن نفزع العدو، نريد أن نقاتل من المدينة، وأن نعرف ما سبب هذا القتال.
يا عدو الله! لا تعرف ما سبب هذا القتال، يا مجرم! لا تعرف أنها بين لا إله إلا الله وبين لا إله والحياة مادة، لا تعرف أنها بين النور والظلام، لا تعرف أنها بين التوحيد والإلحاد؟ فهو يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم مخطئ، يقاتل من أجل أرض أو وطن أو بحيرة أو مستعمرة.
لا.
الرسول يريد أن تسلم الكرة الأرضية لله رب العالمين، فيقول: لا ندري ماذا يريد الرسول صلى الله عليه وسلم، فبعض الصحابة كادوا أن يصدقوه، بل إن طائفتين اثنتين هما بنو حارثة وبنو سلمة كادتا أن تفشلا، قال جابر وهو من بني سلمة: [[والله ما وددت أنا لم نفشل يوم أحد، لأن الله قال: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران:122]]] {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران:122] انظر التعبير المحكم، فردهم الله بعد المعركة وقد قتل بعض الصحابة، فقال عبد الله بن أبي عليه غضب الله وقد فعل: يا ليتهم أطاعوني! نصحتهم ألا يخرجوا إلى المعركة ولكنهم لم يطيعوني فقتلوا، قال سبحانه: {قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] يقول: تموت أنت مثل الحمار، ومات بعد شهرين ولف بأكفانه ودس في التراب.
أيهما أشرف هذا أم أنس بن النضر الذي قتل في المعركة، والذي ارتفعت روحه إلى الله، ويقول: [[يا سعد إليك عني والذي نفسي بيده، إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]] وعبد الله بن عمرو الأنصاري الذي يقول عنه صلى الله عليه وسلم لابنه جابر بعدما قتل عبد الله: {يا جابر ابكِ أو لا تبكِ، والذي نفسي بيده ما زالت الملائكة تظلل أباك بأجنحتها حتى رفعته، والذي نفسي بيده يا جابر! لقد كلم الله أباك كفاحاً بلا ترجمان، فقال: تمن، قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمنّ، قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً}.
والتخذيل في الصفوف موجود في كل مكان، حتى في أفغانستان، فقد وجد أن بعض الناس من الذين ذهبوا إلى هناك كان يخذل المجاهدين، وقد أخبرنا بعض القادة يقول: أتانا أناس هنا، وقال: نرى أنكم أخطأتم في قتال روسيا، هذه دولة عظمى، وكان أحدهم يهز بعض القادة ويقول: أنت تضرب روسيا بثيابك هذه! لكنهم لما ثبتوا غلبوهم بإذن الله.(370/20)
الخامس: الترف والترهل
إن تنصل الأمة عن أمور الجهاد، وعن أمور التقشف والبذاذة الإيمانية والرجولة إلى أمور الترهل والاستخذال، والتكاسل والإحباط المعنوي، والترف خطير جداً، وقد عاشته الأمم، وولت.
لماذا اجتاح التتار العالم الإسلامي؟ لم يكن عند العالم الإسلامي دروس في الجهاد، ولم يكن هناك أمة مستعدة للجهاد، بل كانت الجواري تباع في بغداد وأنا أعرف مقطوعات لا أذكرها هنا، عن ولادة وحمدونة وفلانة وفلانة، جواري كن يكتبن أبيات غزل على صدورهن وينزلن إلى السوق في بغداد، فسلط عليهم جنكيز خان، مثل الحمار لا يعرف لا إله إلا الله، أتى من سيبيريا كالدب الأسود، فدخل بألف ألف مقاتل واجتاح العالم الإسلامي، وأتى بالموسيقى الحالمة، والبلوت والباصرة، فدمرها مع أصحابها في نهر دجلة، ولما انبرى وازع الجهاد عند ابن تيمية في الشام، وقف على المنبر يعلن حالة الجهاد، ويأخذ الكوب من الماء ويشربه في السابع عشر من رمضان، ويقول: أفطروا أيها الناس فإنكم في جهاد، فيقولون: كيف نغزو التتار؟ قال: والله لننتصرن عليهم، فيقوم السلطان أمامه، وهو يرتجف يقول: قل إن شاء الله، قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً.
وينتصر الإسلام في شقحب، ويكسر رءوس التتار، وترتفع لا إله إلا الله.
وأمير أندلسي قالت له أمه وكانت عاقلة، بها من الصرامة على منهج زوجها، ولكن ابنها كان طائشاً في حياته، مترهلاً، كان يصبح الصباح، وهو نائم إلى الضحى لا يدبر أموره، حتى اجتاحه ابن تاشفين، فقالت له أمه وهو يبكي مأسوراً:
ابك مثل النساء ملكاً تولى لم تحافظ عليه مثل الرجال
وللمحافظة على لا إله إلا الله يجب أن تربى الأمة تربية جهادية، عصامية، وأن تكون دائماً متأهبة للخطر، وأن تكون دائماً قوية، فو الله لا يقترب منها أحد.
وانظر الآن على الخارطة إلى الشعوب التي تملك قوى، كيف تقدر وتحترم؛ فنحن في شريعة الغاب، وأمة الغاب لا تؤمن إلا بالقوة كما سلف.(370/21)
السادس: اشتغال الأمة بالتوافه في حياتها
تجد المنشورات والدوريات أكثرها عن الهوايات، شباب وأبناء لا إله إلا الله، وأحفاد أبي بكر وعمر، شُغلُهم الصور، وهوايتهم المراسلة، يريد أن يكون مراسلاً في الحياة.
الطفل الذي يعيش في باريس أو في موسكو أو في واشنطن، هذا طفل يعيش في بلاد الله، في بلاد الإسلام له رسالة أخرى، مراسلته أن يرسل لا إله إلا الله في الأرض، مراسلته: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) مراسلته: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:67] رسالتنا: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1].
الهواية الثانية: جمع الطوابع، فشبابنا في الابتدائية والمتوسطة والثانوية أكثرهم يقولون: هوايتي جمع الطوابع.
كيف يجمع الطوابع؟ وهل عنده وقت يجمع الطوابع؟ وما الفائدة من جمع الطوابع؟
ويأتي آخر، فيقول: ما هي اللعبة التي تناسبك؟ فيأتون بصورة اللعبة، حتى إن بعض الأطفال يلعبون بالطائرات والدراجات والساعات حتى يبلغ العاشرة وهل هذه لعب للأطفال، وقد كان ابن عباس في العاشرة يفتي الأمة.
ابن عباس في الثامنة من عمره دخل على ميمونة بنت الحارث كما في الصحيحين وحفظ لنا حديث: {اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض، ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض، ولك الحمد رب السموات والأرض، ولك الحمد الحديث}.
كان ابن عباس يدخل مع عمر رضي الله عنه في مجلس الشورى -الندوة العالمية- ويحضر وهو شاب عمره فوق البلوغ بسنوات، وبعضهم الآن لا يجيد أن يأخذ غرضه من السوق، ولا يمكن أن ينهي بيعه وشراءه.
محمد بن القاسم خاض معركة بين الهند والسند وعمره سبع عشرة سنة وانتصر.
إن السماحة والريادة والندى لـ محمد بن القاسم بن محمد
قاد الجيوش لسبع عشرة حجة يا قرب ذلك سؤدداً من مورد
ومن الاشتغال بالتوافه مسابقة الضياع، انظر الآن لبعض المجلات، كل المسابقات ليس فيها شيء لا من الكتاب ولا من السنة، ولا من الأدب الإسلامي ولا من التاريخ الإسلامي، يقول: هذه الأرقام العمودية إذا جعلتها أرقاماً أفقية تخرج لك اسم دولة عربية عاصمتها كذا، وتظل تفكر ساعة ونصف حتى تعرفها، فهذه تسمى مسابقة الضياع، إلهاء الأمة حتى تسقط في الهاوية، لكن اسألوا عن آية، أو عن ترجمة صحابي، أو في معلومة نافعة.(370/22)
السابع: ضياع الهوية الإيمانية
قال تعالى: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:139] هذه هوية المؤمن وجنسيته، والإسلام يحيي من يحمل لا إله إلا الله من أي جنس، ولكنه لا يعترف بمن يكفر بـ (لا إله إلا الله) ولو كان من بني مخزوم.
تعرفون أن أبا طالب لم يؤمن بلا إله إلا الله فأين مصيره؟ وأبو جهل من بني مخزوم عارض لا إله إلا الله، فهو في النار.
فالهوية الإيمانية؛ أن نكون أمة إسلامية واحدة، أخي هو المسلم في أي مكان دمي مع دمه، وهويتي مع هويته، ويدي بيده.
إن يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
الذي جمع صهيباً الرومي من الروم، وسلمان من فارس، وبلالاً من الحبشة، وأبا بكر من قريش، على كلمة لا إله إلا الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً} [آل عمران:103] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات:10] {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} [الأنفال:63].(370/23)
الثامن: الإسراف في المباحات الملهية
فنحن الآن أمة عمارات وفلل، وأمة شقق ومفروشات، الإعلانات التي في الشوارع كلها إما عن مطعوم أو مشروب أو ملبوس أو مشموم، إعلان العطورات يأخذ ثلاث صفحات من الصحف اليومية، غير إعلانات الأسمنت، وإعلانات من أضاع مالاً، ومن سقطت عليه قطة فماتت، وغيرها من هذه الإعلانات المبروزة، حتى أصبحت بالكمبيوتر تلمع تلميعاً تأخذ البصر، يكاد ضوؤها يذهب بالأبصار، كلها إما في مطعوم أو مشروب أو ملبوس.
ذهب أحد الدعاة إلى ألمانيا إلى مدينة سكومونيس، فوجد إعلاناً عن إطارات يوكوهاما، فاستأجر لوحة بجانبها وكان فقيراً أول مرة نزل بالمدينة، وكتب: أنت لا تعرف الإسلام، إن كنت تريد معرفة الإسلام فاتصل بتلفون كذا وكذا، ونزل بالمدينة وهو داعية مشهور، وبعد سنة كان عدد من أسلم على يديه مائتين وخمسين ألفاً.
فأين الدعايات عن الإسلام؟ أين الدعايات عن الشريط الإسلامي والكتاب الإسلامي؟ أمة تؤمن بالإعلانات، وأمة تعيش العمارات، وكأن المستقبل عند كثير من الشباب أنه إذا تخرّج من الجامعة أن يتزوج وأن يشتري سيارة وأن يبني فلة، ويحصل على وظيفة، فإذا حصل على ذلك كأنه خاض بدراً وأحداً وحطين وعين جالوت.
والرسول صلى الله عليه وسلم لم يربِ الصحابة على هذا، يقولون: نريد الدنيا، قال: لا.
نريد الجنة، هل قال لأحد من الصحابة: نوليك منصباً وتسلم، قال له الأنصار: ماذا لنا إذا نصرناك؟ قال: الجنة، لأنه ليس عنده شيء من حطام الدنيا، عنده خبز الشعير، وعنده بيوت من طين، لكن عنده صلى الله عليه وسلم جراحات في سبيل الله، ونسف للرءوس، فإن أردتم فالجنة، ولذلك أكثر الصحابة الذين قدموا التضحيات لم يظفروا بشيء من حدائق ومفروشات الدنيا، وذهبوا إلى الله، وأتى يزيد بن الوليد في القرن الأول، وأتى فلان وفلان وأخذوا المفروشات والمطعومات وسكنوا القصور، فجعلوا هوايات الناس واهتماماتهم إلى الدنيا، وصرفهم عن منهج الله، وهو أعظم ما يعطلهم عن السير إلى الله عز وجل، حتى إن بعض الشباب حريص أن يأخذ مع كل وارد وكل موديل سيارة، وتجد مجموعة من الشباب يتحدثون عن السيارات، ميزة الياباني على الأمريكي كذا، والفرنسي على الياباني كذا، أهذه أمة؟! أهذا جيل سوف يكوّن مستقبلاً؟!
متى تجد من يتحدث عن ابن رواحة وسعد بن معاذ وابن عباس وأبي بن كعب وفي الآيات، وفي نشر الدين، وفي رفع لا إله إلا الله؟!(370/24)
التاسع: اهتمام الأمة بصغار المسائل على حساب كبارها
لقد صار شغل كثير من الشباب تحريك الأصبع، أمة استهلكت كل ليلة ثلاث ساعات في تحريك الأصبع، والله لقد وجدت شاباً منزعجاً لأنه رآني لم أجلس جلسة الاستراحة، قال: العالم لا بد أن يكون قدوة، كيف لا تجلس جلسة الاستراحة؟ قلت: الأمر فيه خلاف، والمخالف يعذر من خالفه، وأنا أرى الجلوس أحياناً والترك أحياناً.
لكن أقول: لا نترك هذه المسألة، ولا نترك السواك ولا نترك جلسة الاستراحة، ولا تحريك الأصبع، ولكن نعطيها الحجم الذي أعطاها الرسول صلى الله عليه وسلم.
لماذا لا نتحدث عن قضايا الولاء والبراء والتوكل، والتوحيد، وتصحيح مسار الناس، وإصلاح الفرد والمجتمع، وحقوق الجار، وحق المرأة ومكانتها في الإسلام، ونشر الدين في الأقطار والبقاع، والاهتمام بثقافة عصرية موجهة من الكتاب والسنة؟! ثم نعطي هذه المسائل دورها، أما أن تعيش حياتك كلها منزوياً في جلسة الاستراحة، وفي تحريك الأصبع فماذا ستنتج للأمة؟! ونعرف أن الكثير لا يركز إلا على كتاب العبادات، حتى إن باب السلم والحدود والجنايات كأنه محذوف من الشريعة، وتجد -الآن- الذي يسأل في مسألة تحريك الأصبع، إذا سألته في باب السلم، أو العينة، أو باب الربا، فإنه لا يعرف، مع أن الشريعة متكاملة، حتى إني سمعت كثيراً من الناس يقول: الدعاة لا يعرفون إلا اللحى وتقصير الثياب.(370/25)
العاشر: عدم ربط الأمة بعلمائها
من خصائص الإسلام أنه يربط الجيل بعلمائه قال تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7] {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11].
ومن خصائص الإسلام أنه لا يصلح حال الأمة، حتى يتولى الريادة والصدارة فيها ورثة محمد صلى الله عليه وسلم في شريعته ومنهجه.
والأمة قصرت من جانبين: التقصير الأول: من جانب الجيل، أنه تخلى في بعض الفترات أو أحياناً عن الثقة بأهل العلم، وأهل العلم ليسوا بمعصومين، فقد يخطئون ويؤجرون على أخطائهم، هذا إذا كان عن اجتهاد وقصدوا الحق، والرسول عليه الصلاة والسلام، قال في الصحيح: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} فيظن بعض الناس، أن العالم لا بد أن يكون معصوماً، ولا يخطئ أبداً ولا يهم ولا ينسى، وهذا خطأ، فإنه قد يتأول , وأدلكم على كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لتعرفوا بعض أسباب أخطاء بعض العلماء.
الثاني: قد يكون هناك تقصير من بعض أهل العلم والدعاة كألا ينزل إلى الشباب، وميزة علماء الإسلام أنهم علماء عامة، كما يقول محمد أحمد الراشد في المنطلق، وصدق رفع الله منزلته يقول: من ميزة علماء الإسلام أنهم علماء عامة، تبحث عن الإمام أحمد فتجده في السكة والشارع، وتجده في المسجد، وفي السوق يخالط الناس، أما علماء الشرق والغرب من الأمم الأخرى، فهم علماء مكيفات، يتصلون بالأمة من تحت المكيفات ولا يتصل بهم إلا بواسطة مذكرات ومؤلفات، أما علماء الأمة، فمع الجيل والشباب، يذهب معهم ويأتي، وما عهد في علماء الإسلام إلا أن أحدهم أحياناً قد يأكل مع تلاميذه ويتغدى مع تلاميذه، وينام مع تلاميذه، وبيته مفتوح للخارج والداخل، ليعيش هموم الأمة وهموم الجيل، وهذه مسائل يجب التنبيه عليها كثيراً.
إن هذه الميزة هي التي أكسبت الإمام أحمد مكانة في أهل السنة، بينما علماء المبتدعة علماء خاصة، أحمد بن أبي دؤاد، أحمد المعتزلة، وأحمدنا أحمد بن حنبل.
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
ولا يحسب التمتام أني هجوته ولكنني فضلت أهل المكارم
أحمد بن أبي دؤاد يجلس مع السلطان ولا يخرج إلى الناس، ولا يأذن لأحد ولا يتصل بأحد، أما الإمام أحمد بن حنبل فتأخذ الجارية بيده إلى السوق، والطفل يكلمه.
حمل مرة حطباً في السوق، فأتاه الوزير الفتح بن خاقان، فقال: أنا أحمل عنك يا أبا عبد الله، فقال: لا.
نحن قوم مساكين لولا الستر لافتضحنا.
فهذا الذي يحمل الحطب، حمل الأمة في فتنة القول بخلق القرآن، لقد شيعه أكثر من مائة ألف، حتى أعلنت حالة الطوارئ في بغداد وخرج جيش الخلافة، يحبس الطرق والمنافذ ومعهم العصي، ومعهم الأسلاك بأيديهم يضبطون حركة الناس، دخل الناس يتوضئون في الضحى ولم ينتهوا من الوضوء إلا في صلاة العصر.
وابن تيمية عالم عابد، أتدري ما هو برنامجه اليومي؟ يصلي الفجر في المسجد ويبقى إلى طلوع الشمس، فيدرس إلى الضحى وينزل إلى السوق، ويأمر بالمعروف وينهي عن المنكر، ويدخل على البقالين أهل الحوانيت، ويوم الخميس يزور ابن تيمية المارستان، وهم المجانين، ويسلم عليهم ويدعو الله لهم، ويقرأ عليهم القرآن، ثم يزور المستشفى، ثم يزور المقبرة، فلما مات هذا العالم، شيع جنازته أكثر من مائة ألف، وشيع جنازته من النساء ستون ألفاً، وخرج نائب السلطنة، ومن أراد منكم أن يقرأ فليقرأ في البداية والنهاية لـ ابن كثير وليقرأ ما كتب عن حشد جنازته الرهيبة، ويقرأ عن حياته رضي الله عنه وأرضاه.
مقصودي بهذا أن الأمة بحاجة إلى العلماء الذين يعيشون معهم، يعيشون مع البائع، والتاجر، والمهندس والفلاح، وفي كل مجال تجد الداعية والعالم يتنقل بينهم، ولا بد أن يكون هذا الجسر ممدوداً بين العلماء والجيل، ويوم ينقطع هذا الجسر سوف تنكص الأمة على أم رأسها في الهاوية.(370/26)
الحادي عشر: التنازع والاختلاف
طالما عاشت الأمة فترة الردود، أن تتلاطم على وجهها فيما بينها، هذا يرد على هذا، وهذا يقبح هذا، والردود لها نفع وفائدة متى كانت مصلحتها أعظم، لكن ليس في مسألة خلافية تتعرض لطلبة العلم والعلماء وفيها سعة، والنصح محتمل، ورأيت كتباً وهي موجودة في الساحة، وقد يكون الدليل مشتركاً لي ولك، وقد يكون فيها راجح ومرجوح، وقد لا يعاقب الله من أخطأ في هذه المسألة لأنه متأول.
ولا أعني بذلك الردود التي تبين الحق، وترد الخطأ، لا.
فهذا واجب على الأمة، كردود ابن تيمية وردود علماء الإسلام قديماً وحديثاً، فهذا وارد، لكن أعني أن هذه الغارات وهذه النزعات، وهذا الغضب والتشنج في الردود، وتجهيل بعض العلماء الفضلاء ونسيان الحسنات، ليس من منهج أهل السنة في الردود، والله يقول: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46].
فالتنازع فشل واختلاف، والله يقول: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران:105].
أيها الإخوة: يقول ابن تيمية في مختصر الفتاوى: الإجماع حجة قاطعة، والاختلاف رحمة واسعة، وقصده في الفرعيات التي اختلف فيها أهل العلم، والتي قننها ونظّرها في كتاب رفع الملام عن الأئمة الأعلام.(370/27)
الثاني عشر: النفاق في الأمة
إن في الأمة نفاقاً اعتقادياً ونفاقاً عملياً، في الأمة الإسلامية؛ أمة المليار الذي هززنا به العالم وخوفنا به إسرائيل، وزلزلناها، وإسرائيل مليونان ونحن مليار، هذا المليار فيه منافقون نفاقاً اعتقادياً، يكفرون برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، ويستهزئون بمبادئه، ويستهزئون بـ (لا إله إلا الله) ويستهزئون بالطواف والصلاة والحجر الأسود، هؤلاء يفعلون في الأمة فعل النار في الهشيم، وهم أقدر على الأمة من العدو الخارجي؛ لأنهم يكونون خطاً داخلياً ضارباً من الخلف والوراء، وهم يلدغون في وقت الغفوة والغفلة.
ينام بإحدى مقلتيه ويتقي بأخرى المنايا فهو يقظان نائم
الذي يقول: الدنيا لم ترَ النور منذ أن وضع الهاشمي عليها رداءه؛ فمن هو الهاشمي؟ ومن هو القائل؟ القائل: معروف لديكم، والهاشمي هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي أطلق النور وأوصل لا إله إلا الله إلى العقل، والذي حرر البلدان من رق العبودية إلى الإسلام، أيصفه بهذا؟!
هذا نفاق تعيشه الأمة، ولا يزال الإنسان يسمع بين الفينة والأخرى من يشكك في المعتقد والرسالة.
وأما النفاق العملي فحدث ولا حرج، الأمة فيها من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وترجو النصر لهذه الأمة والخلافة في الأرض! بل أصبحت هذه مناهج عند بعض الناس، يكيف عليها حياته، ويسمونها كذبة إبليس، يكذب قطاع هائل من الموظفين والمسئولين والأساتذة من أجل هذه الكذبة، وبعضهم يمزح كذباً ويقول: كذبة بيضاء وهي تسود وجوههم، فليس هناك كذب أبيض ولا أسود، الله أمر بالصدق، وبالنصح والوفاء بالعهد، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {ثلاث من كن فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النفاق حتى يدعها.
إذا حدث كذب، وإذا اؤتمن خان، وإذا وعد أخلف} وفي الحديث الآخر: {وإذا خاصم فجر، وإذا عاهد غدر} فهي خمس خصال نعوذ بالله منها، وهي من عوامل الهزيمة، ويوم تتكمن في أمة فإنها لا تستحق النصر، وتكون متخلفة، ومتوعدة بجيش عرمرم يسحقها ويفنيها، لأنها لم تؤد الأمانة ولا قامت بالاتصال به سبحانه وتعالى، ولا قامت بالخلافة التي أرادها الله لها في الأرض.
أسأل الله أن ينصرنا، وأن يعيدنا إليه، وأن يثبت أقدامنا، ومن أراد بنا سوءاً فأسأل الله أن يشغله بنفسه، وأن يجعل تدميره في تدبيره.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم إذا أردت بعبادك فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين، ولا مفرطين، ولا مضيعين، إنك على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(370/28)
إخوان القردة والخنازير
اليهود أمة ملعونة، نقضت العهد، وبدلت الدين، واستحلت الحرام، واشتهرت بالكيد والمكر والتحايل، والقرآن العظيم حافل بقصصهم ومخازيهم السيئة وفي هذه المحاضرة يذكر الشيخ مخازيهم التي ذكرها القرآن مع الأنبياء على مر التاريخ.(371/1)
ذكر حديث البخاري في عداوة اليهود لجبريل عليه السلام
إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، رضيه قدوة للعالمين، وحجة على الناس أجمعين، على قوله تقاس الأقوال، وعلى فعله توزن الأفعال، وعلى حاله تصحح الأحوال، فهو المعصوم بأبي هو وأمي، وهو الطيب أينما حل وارتحل، وهو المبارك أينما كان، كلامه طيب، وفعله طيب، ونَفَسه طيب، فلا إله إلا الله! يا فرحة من اقتدى به واتبع سنته وسار على منواله، ولا إله إلا الله! كم خسر من ترك طريقه وضل عن شريعته وتعامى عن سنته عليه أفضل الصلاة والسلام.
ومعنا في هذه الجلسة الإمام البخاري وهو ينقلنا إلى كتاب التفسير من صحيحه الكتاب العظيم، الذي شق طريقه في الدنيا، والذي أعلن قوته على مر العصور، وأثبت جدارته بين كتب البشرية، لأنه قصد به وجه الله أولاً، ثم هو كلام خير الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام.
يقول: باب: قول الله سبحانه وتعالى: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:97] ثم ساق بسنده إلى أنس رضي الله عنه قال: {أتى عبد الله بن سلام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة، فقال: يا رسول الله إني أسألك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، قال: وما هي؟ قال: ما هي أول أشراط الساعة؟ وما هو أول طعام أهل الجنة؟ ولماذا يُشبه الولد أمه أو أباه؟ فقال عليه الصلاة والسلام -وهو يجيب على هذه الأسئلة الثلاثة العويصة المشكلة؛ التي لا تُعلم إلا بوحي من فوق سبع سموات- قال: أخبرني بهن جبريل آنفاً -أي: قبل قليل- قال ابن سلام: ذاك عدو اليهود من الملائكة، ثم قال عليه الصلاة والسلام: أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب.
وأما أول طعام أهل الجنة فزيادة كبد الحوت.
وأما كيف يشبه الابن أمه أو أباه، فإذا سبق ماء الرجل أشبه أباه أو نزع إلى أبيه، وإذا سبق ماء المرأة نزع إلى أمه، قال عبد الله بن سلام: صدقت بأبي أنت وأمي، والله ما يعلمها إلا نبي، أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، يا رسول الله: إن اليهود قوم بهت -أي: أهل زور وافتراء- فاسألهم عني، فجعله عليه الصلاة والسلام وراءه في مشربة -وهي الغرفة الصغيرة- ثم جمع أحبار اليهود -إخوان القردة والخنازير- أمامه عليه الصلاة والسلام، قال: كيف ابن سلام فيكم؟
قالوا: سيدنا وابن سيدنا -وفقيهنا وابن فقيهنا- وخيرنا وابن خيرنا، قال: أفرأيتم إن أسلم، قالوا: أعاذه الله من ذلك، فخرج عليهم ابن سلام فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله -فنخسوا وتنافخوا- وقالوا: شرنا وابن شرنا، وانتقصوه -وسيئنا وابن سيئنا، وخبيثنا وابن خبيثنا-}.
ساق الإمام البخاري هذا الحديث على هذه الآية لأنه يريد أن يفسر كل آية صح تفسيرها بسنده، لأنه اشترط الصحة حتى في التفسير: {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ} [البقرة:97].
فأتى بالشاهد من الحديث: أن اليهود يعادون جبريل، فلما قال عليه الصلاة والسلام: {إن جبريل أخبرني بها آنفاً، قال ابن سلام: ذلك عدو اليهود من الملائكة}.(371/2)
أسباب عداوة اليهود لجبريل
عادى اليهود عليهم لعنة الله جبريل عليه السلام لثلاثة أسباب، ذكرها أهل العلم:
أول سبب: أنه نقل الرسالة منهم إلى غيرهم، فإنهم ظنوا أن عندهم صكاً شرعياً على الرسالة لا تنزل إلا فيهم، ويقولون: لا يبعث إلا منا، فقالوا: جبريل نقل الرسالة إلى محمد وهو من العرب، فاشتهرت رسالته العالمية فاضطربت رءوس اليهود لهذا الخبر، إذ كيف يأخذ الرسالة منا؟! وأكثر رسل العالم من اليهود، ومع ذلك قتلوهم وكذبوهم، وألحدوا في كتب الله.
والسبب الثاني: لأنه ينزل بالخسف والتدمير.
ولذلك سمعت بعض الخطباء العصريين يقول: والله عز وجل إذا أراد أن يدمر أمة أرسل عليهم جبريل، وله ستمائة جناح، ولا يستعمل إلا جناحاً واحداً، ولذلك لما أتى قرى قوم لوط كانوا أربع قرى قيل: فيها أربعمائة ألف، وقيل: ثمانمائة ألف فأخذها من عروقها وجبالها وصخورها وتلالها حتى رفعها إلى السماء حتى سمع الملائكة نباح كلابهم وصياح ديكتهم ثم أنزلها على وجهها في الأرض، فهو لم يستخدم إلا جناحاً واحداً، فلذلك هم يغضبون عليه يقولون: إنه يدمر وليس مثل ميكائل يأتي بالنبات وبالمطر وبالغيث في تؤدة وسكينة.
والسبب الثالث: لأنه فضح مفترياتهم، وأخبر بأباطيلهم، أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بأسرارهم، لما أتى بالقرآن قال: هؤلاء ألحدوا في دين الله، هؤلاء دخلوا وغيروا كلام الله، هؤلاء قتلوا الأنبياء، هؤلاء اعتدوا في السبت، هؤلاء فعلوا وفعلوا، فقالوا: فضحنا أمام الرسول صلى الله عليه وسلم.(371/3)
الحديث عن بني إسرائيل من القرآن والسنة
الآن نستمع إلى القرآن وإلى الحديث النبوي وهما يتحدثان عن بني إسرائيل، والعجيب أن سورة البقرة يقف معها الناس في صلاة التراويح، وأنت تسمع كأن سورة البقرة كلها لبني إسرائيل، قال سيد قطب في الظلال: لا بد من هذا النسف والإبادة والتدمير في أول القرآن لبني إسرائيل لأنهم عاشوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة جيراناً، ولأنهم أتوا بمفتريات في العالم، فلا بد أن يبدأ القرآن ليصفي الساحة من طريق الرسول صلى الله عليه وسلم، وليكشف أباطيلهم وتهريجهم وخرافاتهم، ثم يأتي بعدها بالتحلية، قال أهل الفهم: التخلية أولاً ثم التحلية.
فالتخلية أن يخلي الساحة، ينظف الساحة ثم يأتي بتحلية الشرائع والأديان، تحدث القرآن عنهم في أكثر من مقطع وأكثر من سورة حتى كاد القرآن أن يكون لهم، ولذلك ما تقرأ في سورة إلا وتفاجأ: ولقد أرسلنا موسى حتى ورد عن ابن تيمية أنه قال: رحم الله موسى عليه الصلاة والسلام كاد القرآن أن يكون كله عنه، لماذا؟ لأن الحرب بينه وبين فرعون كانت في الجو والبر والبحر، العصا مع الثعابين كانت تقفز في الجو، وكان ينازله في الميدان وفي القصر وفي البحر، فاشتبكت كل القوات وهو أكبر صراع عالمي شهده التاريخ، ومكايدهم في القرآن كثيرة نأخذ عيونها أو مجملها أو خطوطها العريضة لنكون على بصيرة، ومن أعظم ما يتبصر به المؤمن أن يعرف أهل الإلحاد والكيد وأهل الصهيونية العالمية حتى يزداد إيماناً وثقة بالله.
والعجيب أنك إذا قرأت في كتب الإلحاد ازدادت ثقتك بالله إذا كان عندك أصل أصيل من الإيمان، وفقه في الدين، فإن الله امتن على رسوله عليه الصلاة والسلام بقوله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55] أي: نفصل لك الآيات حتى تكون على بصيرة، والذي لا يعرف الجاهلية لا يعرف الإسلام، والذي لا يذوق الحر لا يعرف نعمة البرد، والذي لا يطعم المر على لسانه لا يرى للحلاوة حلى، ولا للعذوبة عذوبة.
ولذلك قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[إنما تنقض عرى الإسلام عروة عروة من أناس دخلوا في الدين ولم يعرفوا الجاهلية]] فكان أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام أعظم الناس إيماناً ويقيناً وصدقاً وإخلاصاً، لأنهم عرفوا الجاهلية، وعرفوا مرارة الإلحاد والكفر، ثم ذاقوا حلاوة الإسلام، ولذلك ما كان علمهم إشغالاً للذهن وجدلاً كما هو علمنا الآن إلا من رحم الله، بل كان علمهم واقعاً يتعلمون الآية فينشرونها في ليلة واحدة في المدينة، يتعلمون الحديث فيعلمونه الناس جميعاً.
علي بن أبي طالب يتعلم حديث الوضوء فيبقى في كل مكان يجمع الناس ويتوضأ، ويقول: هكذا رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ، هذه هي الشريعة، هل هناك ألغاز؟ هل هناك أسرار؟ هل هناك أشياء مخبأة وراء الكواليس؟ لا والله، يقول الأستاذ علي الطنطاوي في أول كتاب قصص من التاريخ: مبادئنا نعلنها يوم الجمعة من على المنبر، ما عندنا أسرار، ولا أحاجي، ولا ألغاز ولا دسائس، نحن المسلمين مبادئنا تدور حول لا إله إلا الله والصلاة والتيمم والوضوء والمسح على الخفين والغسل من الجنابة، وهي التي علمها الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، أما غيرها فوالله ليس في جعبتنا ولا في حقائبنا شيء.
فـ علي أتى بعد عثمان، وعمر بعد أبي بكر يبينون للناس هذه الشريعة التي تلقوها من الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول أحد علماء المسلمين: من ظن أن هناك شيئاً لم يأت به صلى الله عليه وسلم ولم يعلمه عامة الناس فقد ادعى أن الرسول صلى الله عليه وسلم خان الرسالة وحاشاه أن يخون، أما الرسالة التي أتى بها فهي في القرآن عليه الصلاة والسلام.(371/4)
من صفات اليهود أنهم قوم بهت
سبب الحديث:
الرسول عليه الصلاة والسلام قدم مهاجراً من مكة إلى المدينة، وأمست مكة في ثوب حزن وأصبحت في حداد، وبكت وبكى عليه الغار.
وبكى الغار على فرقاك لو أسعفته الرجل أضحى في مسير
والصحارى حافلات بالمنى تتلقاك بتصفيق مثير
والرمال العفر صارت حللاً عجباً من قلبك الفذ الكبير
انطلق عليه الصلاة والسلام ووصل إلى المدينة واستفاقت المدينة على أذان بلال وكانت في جاهلية جهلاء كما يقول أبو ريشة الشاعر المعروف يقول في طريق الهجرة:
يا عمي لا تدعني هنا وحدي ما لي سواك من مفضال
فتلقاه بالدموع وسارت بهم الخيل في شعاب التلال
واستفاقت يعني: المدينة.
واستفاقت على صباح جديد ملء آذانها أذان بلال
فلما استفاقت نفضت فراش الشرك والوثنية، واستقبلت الرسول عليه الصلاة والسلام.
عبد الله بن سلام عالم وحبر من أحبار اليهود، وهو الذي قال الله فيه: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف:10].
من هو الشاهد؟ ابن سلام عليه السلام ورضي الله عنه وأكرم مثواه.
ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] من عرفوا؟ الرسول عليه الصلاة والسلام، صفاته مكتوبة في التوراة بلونه، وبشرته، وطوله، وقِصَره، وبما يتكلم به، صفاته مكتوبة كلها في التوراة فلما أتوا قارنوا كما يقول ابن القيم: بين النسخة التي أتى بها موسى والتي أتى بها محمد صلى الله عليه وسلم؛ فوجدوا الوصف واحداً، فأتى الحسد فنظر في قلوبهم فقال: لا ليس هذا بالوصف، كنا نظن أنه هو واكتشفنا الآن أنه ليس هو، وقبل كانوا يخطبون في المدينة ويقولون: سوف يقدم من أرض ذات جبال سود -يعني: مكة - وسوف يأتي إلى أرض ذات نخيل -يعني: المدينة - وفعله كذا، واسمه محمد وأحمد، فلما أتوا إليه نظروا فملأ الحسد قلوبهم، فقالوا: ليس هو، فقال الله عز وجل: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
لما دخل المدينة عليه الصلاة والسلام اجتمع عليه الناس في السوق، ففزع الناس يريدون أن ينظروا إلى هذا الخبر، فإنه نبأ عظيم ما طرق الدنيا منذ خلقها الله إلى الآن مثل هذا الخبر {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَأِ الْعَظِيمِ} [النبأ:1 - 2].
هل هناك أعظم نبأ من أن يبعث الله رجلاً واحداً من الأمة يحيي قلوب الأمة كلها، ويقودها، ويقول: من يذهب معي في طريقي فالجنة، ومن تخلف عني فالنار، فذهب عبد الله بن سلام وهو من اليهود، قال: انجفل الناس -يعني: اجتمع الناس- على الرسول عليه الصلاة والسلام، فكنت فيمن انجفل، قال: فأتيته فنظرت إلى وجهه فعرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب.(371/5)
اليهود تكذب بنبي يعرفونه كما يعرفون أبناءهم
رجل يأتي من بين الصخور التي تحرق الإنسان، وتسود بشرته، يأتي وهو كفلقة القمر ليلة أربعة عشر، عرقه كالجمان ينسكب، رائحته كالمسك الأذفر؛ إذا دخل البيت بقيت رائحة البيت أياماً، إذا مر من هذا الطريق يعرف الناس أنه مر من هنا، يده كالديباج، يقول أنس: والله ما مسست حريراً ولا ديباجاً ألين من كفه صلى الله عليه وسلم.
قيل لـ أبي هريرة: كيف كان وجهه صلى الله عليه وسلم؟ قال: والذي نفسي بيده لكأن الشمس تجري في وجهه.
وقيل لـ أنس: كيف كان وجهه صلى الله عليه وسلم؟ قال: هل رأيتم البدر ليلة أربعة عشر؟ قالوا: نعم، قال: والله لقد نظرت إلى البدر أو القمر ليلة أربعة عشر، ونظرت إلى وجهه صلى الله عليه وسلم ووالله لوجهه أجمل من القمر ليلة أربعة عشر.
فلما رأى عبد الله بن سلام هذا الوجه ذُهل وعرف أنه ليس بوجه كذاب، لأن وجه الكذاب دائماً معسوف مغضوب عليه معقود، الكذاب دائماً يظهر الكذب على وجهه، لكن الصادق نظراته صادقة، ولمحاته صادقة، ووجهه صادق.
قال: فعرفت أنه ليس بوجه كذاب.
يقول ابن رواحة شاعر الأنصار، البطل المقدام الذي قدم روحه رخيصة يوم مؤتة، يوم غلت الدراهم والدنانير على أهل المغالاة قدم روحه يقول:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فقط يكفي المنظر، قال ابن سلام: فسمعته يتكلم عليه الصلاة والسلام، واسمع إلى الكلمات كأنها الدر بل أغلى من الدر، أو كأنها الجواهر بل أغلى من الجواهر.
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيت بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
لو ذاقها مدنف قامت حشاشته ولو رآها غريب داره لسلا
انطلق يتكلم، فيقول عليه الصلاة والسلام: {يا أيها الناس! أطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، وصلوا الأرحام، وأفشوا السلام، تدخلوا الجنة بسلام} وراوي الحديث -والحمد لله- هو عبد الله بن سلام.
فلما سمع هذا الكلام انطلق وآمن بالله فكانت له هذه القصة.
يقول عليه الصلاة والسلام: {لو آمن بي عشرة من علماء اليهود لآمن بي اليهود جميعاً} لكن لم يتموا عشرة، فالنصاب لم يكتمل، لأن الله كتب عليهم اللعنة، بل أسلم منهم ثلاثة أو أربعة.(371/6)
من مكائد اليهود عليهم لعائن الله المتتابعات(371/7)
من مكائد اليهود: افتراؤهم على موسى عليه السلام
المسألة السادسة: افتراؤهم على موسى عليه السلام: كان موسى عليه السلام رجلاً حيياً ستيراً يحب الستر، فيه حياء وخجل، كان يندى جبينه أن يتعرض شيء من جسمه لرؤية الناس، فكان إذا أراد أن يغتسل يذهب فيختفي وراء الجبال ثم يتستر بشجرة ثم يغتسل لأن الله رباه وأدبه، فقد تربى بوحي الله، أما هم كانوا إذا أرادوا أن يغتسلوا اغتسل بعضهم أمام بعض.
ويقفزون في النهر سواء الرجال والنساء، فيقول بعضهم لبعض: أتدرون لماذا موسى لا يغتسل معكم؟ قالوا: لا ندري، قالوا: لأنه آدر، يقولون: ليس له آلة، وقيل في كلام آخر مريض، ليس عنده آلة الرجولة، قال: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
وفي صحيح البخاري أن موسى عليه السلام لما اغتسل أخذ عليه إزاراً، وجعل ثوبه على حجر فلما نزل يغتسل فر الحجر بالثوب، فخرج في إثره فأتى الحجر جهة بني إسرائيل فأقبل موسى فعلموا أنه ليس به داء فيقول موسى: ثوبي حجر! وأخذ يضرب الحجر، قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر ندبٌ.
أي: من آثار الضرب في الحجر، قدرة من الله عز وجل.(371/8)
من مكائد اليهود: إقامة الحد على الضعيف وترك الشريف
السابعة: إقامة الحد على الضعيف وتعطيله عن الشريف: وهذا الذي ذكر عنهم صلى الله عليه وسلم لما أتي بالمخزومية التي سرقت فأرادوا الشفاعة لها، فقال: {أتشفعون في حد من حدود الله! إنما أهلك الذي كانوا من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} وحاشاها أن تسرق!
فإذا كان الزاني من أسرة عريقة يأتون فيحممون وجهه بالحمم -بالفحم- وأما إذا كان من أسرة ضعيفة رجموه حتى يموت، فلعنهم الله بهذا، لأنهم نقضوا الميثاق.(371/9)
من مكائد اليهود: فعل الحيل المحرمة على الشرع
الثامنة: ومن حيلهم الباطلة إذابة الشحم وبيعه كما في صحيح مسلم عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحم أذابوه فجملوه فباعوه} قال الله عز وجل: {إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ} [الأنعام:146] حرم الله عليهم الشحوم، فأتوا إلى الشحم فقالوا: إنه شحم، صحيح أنه حرام، لكن إذا سخناه بالنار وأذبناه فليس بحرام، فأخذوا الحيل المحرمة، يقول ابن القيم: هي من أفضح الحيل المحرمة.
ومنها: أنهم لا يتناهون عن منكر فعلوه، وهذه الأمة وقعت في كثير مما وقع فيه بنو إسرائيل، كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه، يقول عليه الصلاة والسلام: {إنما أهلك الذين كانوا من قبلكم أن الرجل كان يلقى الرجل فيقول: يا عبد الله اتق الله! لا تفعل كذا، ثم لا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه من آخر النهار}.
أي: بعض الناس تجده فاجراً لا يصلي ولا يعرف كتاب الله عز وجل، فتمر به فتقول: يا عبد الله اتق الله! صلِّ مع الناس يفتح الله عليك، فلا يصلي، فيأتي في المساء يدعوك فتذهب إليه وتجالسه وتقول: أحسن الله مثوبتك، ما أكرمك وما أحسن خلقك! فهذا من جنس فعل بني إسرائيل، قال الله عز من قائل: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
فمن رأى المنكر ولم ينكر ولو بقلبه فهو من تلك الطبقة الذين يرون المنكر فلا ينكرون، ولذلك ورد في حديث أن جبريل عليه السلام أمره الله أن يزلزل قرية عن مكانها، فقال: يا رب فيها رجل صالح يعبدك ويسجد لك ويسبح ويكبر، قال: به فابدأ، فإنه ما تمعر وجهه في ذاتي.
من فضائحهم المخزية: أنهم ما استفادوا من العلم -نعوذ بالله من علم يكون وبالاً علينا، اللهم إنا نعوذ بك وبوجهك الكريم من علم لا ينفعنا- فإن هذا هو الخزي والعار، ومضرة العلم في جانبين: أن تتعلم علماً فلا تستفيده أو لا تبلغه للناس، ولا تعمل به، يقول عز من قائل في بني إسرائيل: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5].
الحمار تحمل عليه مجلدات فتح الباري والمغني والمجموع ورياض الصالحين، فلا يدري الحمار أن تلك الكتب وما فيها من هدى يحملها على ظهره، واليهود كذلك، حفظوا التوراة ولكن ما عملوا بما فيها من أحكام، قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
ولذلك فهذه الشهادات لا تسقينا شربة ماء ومن خطط الماسونية في مؤتمراتهم يقولون: الثامن من البنود: أن يفصلوا طلبة العلم والدعاة عن طبقة العامة، وهذه أكبر جريمة، حتى يأتي طالب العلم عنده دكتوراه فيقول: أنا وصلت الآن في تحقيق مخطوطة في مطبعة بولاق، وموجودة منها نسخة في برلين، فأنا مشغول بالاتصال وتنسيق المواعيد حتى أحقق هذه المخطوطة، ويموت هو والمخطوطة ويدخل قبره، وأهل القرية ما تعلموا سورة الفاتحة، ويأتي يوم القيامة فيحاسبه الله، يقول: عندي رسالة دكتوراه، قال: ليس عندنا دكتوراه، الدكتوراه معناها: كبير التوراة، أي: كبير في التوراة، لأنها كلمة إسرائيلية.
فالمقصد أن من خطط الماسونية أن يفصلوا طلبة العلم عن الناس، فإذا وقع ذلك ما أصبح أحد يقول: قولوا لا إله إلا الله أو اقرءوا بسم الله، وتعم الفاحشة والبلوى، يقول سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] هذا إسرائيلي {فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
وهذا هو بلعام بن باعوراء عالم كبير من علمائهم، لكنه ما استضاء بالعلم ولا علم أحداً، بل خيلاء في صدور المجالس على الكنب بجانب السلطان، فلما أراد الله أن يبتليه وأن يمتحنه قال له أحد الأنبياء: اذهب إلى أولئك الكفار وادعهم إلى الدين الخالص، فذهب فرشوه؛ حيث أعطوه قصراً وزوجوه منهم، وأعطوه شيئاً من الذهب والفضة، فأرسل إلى النبي أنه قد كفر بالآيات البينات، وأنه قد ارتد على عقبيه، فمسخه الله عز وجل وقيل: أنزل لسانه حتى أصبحت على صدره، حتى ما يستطيع أن يتكلم، هذا في الدنيا.
فيقول عز من قائل لمحمد صلى الله عليه وسلم: (واتل عليهم) أي: واتل على طلبة العلم، واتل على الدعاة، واتل على هؤلاء الذين يريدون أن ينقذوا الأمة، إياك أعني واسمعي يا جارة: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} [الأعراف:175].
أعطيناه الآيات في صدره ليرتفع {فَانْسَلَخَ مِنْهَا} [الأعراف:175] يقول ابن القيم: ما أحسن هذا الشبه! يقول: إن الثعبان يكسى بجلد فإذا أراد أن يخلعه انسلخ منه، وكذلك الإنسان إذا تكسى بثوب جميل وأراد أن يتعرى منه انسلخ منه، فما قال سبحانه وتعالى تخلى وإنما قال: {فَانسَلَخ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} [الأعراف:175 - 176] لكن مشيئة الله عز وجل {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ} [الأعراف:176] أحب التراب والدنيا، وأحب الخلود وقنع بالدون فأعطاه الله ما تمنى.
وأنت إن كانت همتك عالية أعطاك الله ما تمنيت، فإن كانت همتك في الصلاح أصلحك الله، وإن كانت همتك في الفساد لم يعنك ولم يوفقك: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ} [الأنفال:23].
فهذا كفر بآيات الله فاتبع هواه فمثله كمثل الكلب، انظر كيف مثل الله بني إسرائيل مرة بالحمار ومرة بالكلب، {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176].
الكلب تأتي به وتجعله في الظل، كأن تدخله في غرفة مثلاً تجده يمد لسانه ويخرجها ويلهث وبطنه تضطرب، أو تخرجه في الشمس فتجده يمد لسانه ويخرجها وبطنه تضطرب، هذا مثل لمن تعلم فلم يتغير في سلوكه شيء، ولم يبلغ شيئاً، فهو سواء تعلم أو لم يتعلم، وما أبلغه من مثل! وما أعجبها من قصة لمن اتعظ واعتبر!(371/10)
من مكائد اليهود: افتراؤهم أنهم أبناء الله وأحباؤه
التاسعة: ومن مفترياتهم أيضاً: قولهم إنهم أبناء الله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ} [المائدة:18] الآية.
قيل لبعض الصالحين: من أين لك من القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ قال: من قوله سبحانه وتعالى: {قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} [المائدة:18] فلو كانوا أحباب لله ما عذبهم الله بذنوبهم، فهم يرون اليوم أنهم شعب الله المختار وأنهم الأمة الوسطية، والصفوة من الناس، قتلت فتاة يهودية قبل يومين في فلسطين في قرية من القرى فيقول شامير: أدعو بالغضب الإلهي على الفلسطينيين.
وهو يقتلهم من ثلاثين سنة، يقتل الألوف المؤلفة منهم ويشردهم في الأرض.
أما الغضب الإلهي فلا يقع إلا على الفلسطينيين، أما هو فلا يأتيه غضب إلهي: {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] فالمقصود: أنهم يرون أنهم أبناء الله وأنهم الشعب المختار وصفوة البشرية عليهم لعنة الله كلما أصبح الصباح وأمسى المساء.
وقالوا: إن الله فقير عليهم لعنة الله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا} [آل عمران:181].
طلب منهم الأنبياء النفقة في سبيل الله؛ فقالوا: إن الله فقير، ما دام يطلب أموالنا فهو فقير! ونسوا أن الذي خلقهم ورزقهم هو الله!
{لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ * ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [آل عمران:181 - 182].
ويقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] قال ابن عباس: بخيلة.
يقولون: الله عز وجل لا ينفق كثيراً على الناس لأن بعض الناس فقراء، ولو أنفق الله عليهم لكانوا أغنياء، قال سبحانه وتعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة:64] انظر العبارة كأنها صاعقة: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة:64] ما قال: (بل يداه مبسوطتان) ثم سكت بل قال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64].
ولذلك أحد الصالحين قرأها من القرن الثاني يوم كانوا يفهمون القرآن ويتدبرون القرآن فبكى كثيراً يوم قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] بكى، ولما أتى قال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة:64] رفع صوته حتى ارتج المسجد لينصر دين الله.
قال: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة:64] ثم بكى، ثم التفت وإذا الخطاب كأنه صاعقة: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] فلا أغنى من الله، ولا أجود منه ولا أكرم منه سبحانه وتعالى.
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ} [البقرة:113]
العجيب أن ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم في الصفحات الأولى قال: سوف يقع في طوائف هذه الأمة ما وقع في اليهود والنصارى، تأتي اليهود وتقول: ليست النصارى على شيء.
أي: هم على باطل، وتأتي النصارى وتقول: ليست اليهود على شيء.
أي: هم على باطل، ووجد هنا اتجاهات ومشارب، يقوم المشرب والاتجاه يقول: إن الاتجاه الآخر ليس على حق، بل هو مخطئ دائماً، أما نحن فالحمد لله مصيبون! وتذهب إلى أولئك فيقولون: أما نحن فأصبنا كل الإصابة وأولئك مخطئون.
هل نزل عليكم وحي من السماء؟! هل تكلم معكم الرسول عليه الصلاة والسلام؟ لا والله إنه ليس إلا الهوى القاتل، نعوذ بالله من الهوى!
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة:30].
هذه كذبة على الله عز وجل، فإن الله لم يلد ولم يولد، والولادة أو الجنس من أحط درجات الصفات البشرية، تعالى الله عن ذلك سبحانه وتعالى لأنه لا يليق به سبحانه وتعالى، فقالوا هم: إن عزيراً ابن الله، وكذبوا على الله، وهذه فرية يستحقون بها التدمير والإبادة، وقد فعل بهم سبحانه وتعالى ذلك.
{وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة:111] وهذا هراء {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111].
أعندكم وثائق؟! أعندكم صكوك تدخلون بها الجنة من الله عز وجل، أو صكوك غفران كاذبة ظالمة غاشمة خاطئة؟!
ومنها: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ} [البقرة:88].
قال الإمام البغوي: يقولون: عندنا علم انغلفت قلوبنا عليه فلا نحتاج إلى علمك، يعني: علم الرسول صلى الله عليه وسلم، وقيل: عندنا من الفقه ما لا نحتاج إلى ما تأتينا به، وقيل: عندنا علم فلا نسمع لما جئت به أنت، قلوبنا مغلفة مجلدة بعلم.
{وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة:88].
وقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ} [النساء:50] قيل: السحر، وقيل غيره {وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا} [النساء:50] ذهب سيدهم كعب بن الأشرف من خيبر إلى أبي سفيان فقال أبو سفيان يسأله: باللات والعزى: من منا الأهدى: نحن أم محمد؟ يعني: أقوم سبيلاً.
قال: أنتم أقوم سبيلاً.
قال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ} [النساء:50] يعني: كعب بن الأشرف {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا} [النساء:50] فقال الله عنهم: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} [النساء:51 - 52] نعوذ بالله من اللعنة!
{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة:80].
فيقولون للمسلمين: نمكث في النار أياماً معدودة: ستة أو سبعة أيام أو عشرة أيام بالكثير وبعدها نخرج، وتخلفونا أنتم، يعني: المسلمين، فكذبهم الله عز وجل وذكر أنهم يمكثون فيها مخلدين، ويعتق الله كل مسلم بما يقومهم من اليهود والنصارى، يقول الله للمسلم يوم القيامة: هذا اليهودي أو هذا النصراني عتقك من النار، خذه واجعله في النار بدلاً عنك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.(371/11)
من مكائد اليهود: رفضهم أن يدخلوا الباب سجداً
أما مكائدهم فمنها التي ذكر الله عز وجل: دخولهم الباب يزحفون، فإن الله سبحانه وتعالى قال لهم: {وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] قال بعض المفسرين: باب أريحا لما فتح الله على موسى عليه السلام تلك البلاد قال لهم موسى: إن من نعمة الله عليكم يوم نصركم ويوم أنقذكم من فرعون الطاغية أن تدخلوا متواضعين سجداً يعني: ركعاً، تدخلون من باب المدينة متواضعين، خشعاً لله كما دخل صلى الله عليه وسلم يوم الفتح، فإن الله لما فتح له ونصره يوم فتح مكة تواضع على البعير وخشع، حتى قيل في بعض الروايات: سالت دموعه تواضعاً لله، فرفعه الله، فإن من تواضع لله رفعه، فقال لهم موسى: ادخلوا متواضعين لما نصركم الله وأنقذكم، فأبوا، يقول الله عز وجل: {وَقُولُوا حِطَّةٌ} [البقرة:58] أي: يا رب احطط عنا ذنوبنا، مثل إذا قلت: غفرانك، غفرانك، أو غفْراً غفْراً، أي: اغفر لي، فقال لهم موسى: قولوا: حطة، كلمة خفيفة معناها: يا رب اغفر لنا، فدخلوا يزحفون على أستاهم ويقولون: حنطة في شعرة، بدل حطة يقولون: حنطة، {فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة:59] الآية.
فلما بدلوا هذا الكلام غضب الله سبحانه وتعالى عليهم من فوق سبع سموات وأخزاهم وأذلهم.(371/12)
من مكائد اليهود: قتلهم الأنبياء
قيل: إنهم قتلوا في غداة واحدة عشرات الأنبياء لأنه كان يبعث لهم جملة من الأنبياء، أتوا بيحيى عليه السلام فذبحوه وقطعوا رأسه، ثم أخذوا رأسه وألقوه في حضن أبيه زكريا، فانتفض زكريا عليه السلام فطاردوه بالسيف، وفي تاريخ ابن كثير في ترجمة زكريا عليه السلام أنه شرد منهم فأتت شجرة فلما رأته شرد، معجزة من الله انكشفت له وانقسمت نصفين فدخل فيها، فأخذ الشيطان بطرف ثوبه فوجدوا ثوبه فعرفوا أنه في الشجرة، فأقاموا المنشار من رأس الشجرة فقسموه مع الشجرة نصفين، هذا الذي ثبت في مقتله عليه السلام، فكانوا يقتلون الأنبياء، لذلك قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:181].
فائدة: هل هناك قتل الأنبياء بحق؟ ما دام قال الله سبحانه وتعالى: {وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران:181] فهل هناك قتل الأنبياء بحق؟ هل يحق لهم في سورة أخرى أن يقتلوا الأنبياء؟ لا.
هذا من شدة ظلمهم وعتوهم، فكأن المعنى يقول: يا ليت هناك أطرف سبب يعتذرون به، ويكون سبباً ليكون لهم جزء واحد على مليون من الحق، لكن والله لا يوجد واحد على مليون، إنما هو ظلم وعتو وعدوان منهم.(371/13)
من مكائد اليهود: ما وقع في قصة البقرة
ومنها: قتلهم النفس في قصة البقرة، حيث كان هناك إخوة وكان لهم عم غني فأتوا إلى عمهم، فذبحوه وأخذوا تركته، وخافوا أن يُكتَشف أنهم قتلوا عمهم، فأتوا إلى موسى فقالوا: إن عمنا قتل البارحة، ولا ندري من قتله، وأخذوا يتباكون كتباكي إخوة يوسف عند يعقوب، فأوحى الله سبحانه وتعالى إليه أن خذوا بقرة، فإذا ذبحتموها؛ فخذوا شيئاً من رجلها فاضربوا به الميت، فسوف يحييه الله وسوف يتكلم بمن قتله، هذا هو التفسير الصحيح للقرآن بهذه الآيات: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] انظر إلى البلادة في أذهانهم وإلى الغباوة، ليتهم أخذوا أي بقرة وذبحوها وانتهت المسألة والمشكلة، لكن ترسخ الإلحاد في أذهانهم والمكر والخداع، قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ} [البقرة:67 - 68]-ليست بكبيرة هرمة ولا بصغيرة بل هي وسط، أراد الله بذلك أن يعجزهم، لأنهم تمادوا في السؤال، وقد كان يكفيهم أي بقرة غير مشروطة بوصف، فطلب من الوسط، والوسط دائماً صعب، ولذلك جعل الله الأمة وسطاً، وأكبر ما يشكلك في حياتك أن تكون وسطاً، ولا يستطيع إلا القلة من الناس أن يكونوا وسطاً: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ * قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا} [البقرة:68 - 69] انظر التحفظ والورع، وإلا فما دخلهم باللون فقال: {قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ} [البقرة:69] واللون الأصفر في البقرة نادر جداً، لو قال: سوداء؛ كانت أسهل، ولو قال: بيضاء؛ كانت أسهل، لكن صفراء، ومع ذلك: فاقع لونها، وليس فيها لون آخر: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} [البقرة:70] ثالث مرة، بعد الصفراء فاقع لونها، {إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ} [البقرة:70].
{قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ} [البقرة:71] يعني: ليست بعاملة أي فهي مرتاحة دائماً في البيت: {وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيهَا} [البقرة:71] أي: قيل ليس فيها لون، فهي صفراء ليس فيها بقعة سوداء ولا بقعة بيضاء، فاقع لونها تسر الناظرين {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} [البقرة:71].
أتدرون أين وجدوا البقرة؟ أورد ابن كثير روايات وهي من الإسرائيليات ونحن نتخذ منها مواقف ثلاثة دائماً:
أما ما أيدها كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم قبلناها ووضعناها على العين والرأس، وأما ما خالف كتابنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم لم نلتفت إليها، وأما ما لم يصدق ولم يخالف رويناه للناس: {وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج} {وإذا حدثكم بنو إسرائيل فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم}.
قال ابن كثير وهو يروي قصتهم: بحثوا في القرى فما وجدوها، بحثوا في المدن فما وجدوها، بحثوا في البوادي فما وجدوها، سمعوا أنها عند عجوز في ناحية من نواحي البلدة، فذهبوا إليها فأضعفت عليهم الثمن حين علمت أنهم لا يزكو لهم غيرها، قالوا: يا خالة يا عمة نريد البقرة، هذا الوصف الذي قال لنا موسى عليه السلام انطبق على بقرتك، قالت: من أين؟ بقرتي فيها كذا وكذا وتفعل كذا وكذا، وهي من ذرية ومن سلالة كذا وكذا، فقالوا: خذي ما شئت من المال، قالت: لا أرضى إلا إذا ذبحتموها تملئوا جلدها لي ذهباً، فوافقوا على ذلك، فجمعوا حليهم وأموالهم ثم أخذوا البقرة فذبحوها، فسلخوا جلدها ثم ملئوه ذهباً وأعطوه العجوز.
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فأخذوا رجل البقرة قال تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [البقرة:73].
فأخذوا شيئاً من الرِجْل فضربوا به الميت فقام، قال: قتلني هؤلاء الذين أتوا يشتكون، فأخذهم السلطان وسحبهم إليه، ثم عاد هذا بحفظ الله ورعايته نائماً ميتاً.
فهذه هي قصة البقرة وقصة إفكهم فيها، فإذا سمعت بذكر البقرة فهذا ملخص تعنتهم وجدالهم وكثرة مسائلهم فيما لا يعنيهم.(371/14)
من مكائد اليهود: القرية التي كانت حاضرة البحر
ومنها: قصة القرية حاضرة البحر، وهي قصة مبكية محزنة، هذه القرية كانت حاضرة على شاطئ البحر، وكانت في نعيم وأمن وسلام، الله عز وجل قال لبني إسرائيل: لا تعتدوا في السبت أي: لا تصيدوا السمك يوم السبت، صيدوا في كل الأيام إلا يوم السبت قالوا: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [البقرة:93].
وهم دائماً يقولون: سمعنا وعصينا، فنصح العلماء منهم وقالوا: يا أيها الناس! نخاف من الله أن يخسف بنا، فلا تصيدوا السمك يوم السبت، قالوا: فابتلاهم الله، يوم الأحد ويوم الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة فلا تأتيهم سمكة، إلا أن يبحثوا عنها في البحر، ويذهبوا بالقوارب والشباك ويجدوا ويجتهدوا وبكل كلفة يأتي شيء، وأما يوم السبت فتأتي شُرّعاً، حتى تملأ الساحل، حتى ما بقي إلا أن تصافحهم وتعانقهم، والمقصود أن الله ابتلاهم يوم السبت: {تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ} [الأعراف:163].
فأتوا وكان فيهم دهاء أحمق أوصلهم ذكاؤهم إلى الدرك الأسفل من النار، فاستخدموا الحيل المحرمة التي ذكرها ابن القيم في إعلام الموقعين، فقالوا: إن الله عز وجل نهانا عن الصيد مباشرة، لكن لو حفرنا أخاديد حتى تنشب الأسماك في هذه الأخاديد أو نسد عليها بالماء فما ترجع إلى البحر ونصيدها يوم الأحد! فحفروا الخنادق ومجاري الماء ووضعوا الشباك، فأتت الأسماك تدخل؛ فكلما امتلأت سدوا ما بينها وبين البحر فلا تستطيع أن تعود، ويأتون يوم الأحد فيأخذونها، فقال لهم الصالحون منهم: يا أيها الناس! إنكم ألحدتم في دين الله، وعصيتم الله، وتجاوزتم حده، هذا خطأ، قالوا: لا.
ما أخطأنا، يقول الله تعالى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] ليس هناك أمكر منهم، فلما نصحهم أخيارهم وأبرارهم ولم ينتصحوا، فقال الصالحون: والله لا نساكنكم في قرية، اجعلوا بيننا وبينكم حاجزاً في القرية، وهذا هو المنهج الصحيح في التعامل مع المنكر وأهله، أما أن يأتي الإنسان ويجعل غترته على رأسه يذهب يصلي ويقول: الله المستعان! اللهم أصلح شباب المسلمين، ولا يأمر ولا ينهى ولا يوجه ولا ينصح ويقول: نفسي نفسي، فأقول: ليس في الإسلام نفسي نفسي، نفسي نفسي تكون يوم القيامة أما في الدنيا: {لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه أخذاً، ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليخالفن الله بين قلوبكم، أو يلعنكم كما لعن الذين من قبلكم} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فبنوا حاجزاً بينهم، لكن ذلك بعد أن أعذروا إلى ربهم ولعلهم يتقون، وهذا واجب الداعية أول ما يعذر نفسه إذا دعا الناس، ويوم القيامة لا يخزيك الله يوم يخزي الفاسقين، لأنك أعذرت وبلغت.
والأمر الثاني: (لعلهم يتقون) علّ الله عز وجل أن يفتح عليهم، فعصوا وتمردوا وأبوا، وفي صباح الباكر خرج هؤلاء الصالحون ينظرون إلى أولئك، فسمعوا صياحاً مثل صياح القردة وأصوات الخنازير، فأشرفوا من السور وإذا الشق الآخر أو القسم الآخر من المدينة، وإذا هم قد أصبحوا قردة، وفي بعض الروايات من التفسير أن رجلاً كان يعرفهم يقول: يا فلان أأنت فلان؟ وهو قرد فيهز رأسه أن نعم، ويقول لفلانة: أأنت فلانة؟ فتقول: نعم، أي تهز رأسها!
ولما أخبر سبحانه وتعالى قال: {كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة:65].
فما اكتفي بوصفهم أنهم قردة؛ لكن قردة خاسئين،
و
السؤال
هل هذه القردة تناسلت؟ أي: القردة الذين نراهم في السودة وفي القرعة هم من إخوان شامير ورابين وهؤلاء اليهود، أم هم أبناء عمومتهم، أم هم فصيلة أخرى؟ الله أعلم والراجح أنهم قضي عليهم وما تناسلوا، وأما القردة الموجودة فخلق آخر، حول الله أولئك إلى مثل هؤلاء القردة.
والله عز وجل أنعم على اليهود من النعم ما أنعمها على أحد من العالمين، أعطاهم المنّ والسلوى وظلل عليهم الغمام لما كانوا في طور سيناء، عندما تاهوا أربعين سنة، ويقول لهم موسى: ادخلوا معي هذه القرية، قالوا: {فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة:24].
نحن نريد شيئاً جاهزاً أي: لا نريد أن ندخل في حروب مع الناس، لكن إذا فتحت القرية أنت وأخوك فسوف ندخل، أما أن نقاتل وننشب في الناس فلا، فدعا عليهم موسى أن يتيهوا في الأرض، فتاهوا أربعين سنة يأتون إلى طرف سيناء يريدون أن يخرجوا، فيقولون: أخطأنا الطريق فيعودون، فإذا وصلوا إلى الطرف الآخر ضاعوا، وهكذا أربعين سنة، وتكفل الله لهم وأنعم عليهم نعماً كثيرة، ففجَّر لهم من صخرة مربعة اثنتي عشرة عيناً لأنهم اثنا عشر سبطاً أي: اثنا عشر قبيلة كل قبيلة خمسون ألفاً، فهم ستمائة ألف كما يقول ابن جرير: فكانت لكل قبيلة عين.
وكل قبيلة لا تشرب من عين الأخرى، فأتوا يشربون، فقالوا: أين الطعام؟ هذا الماء بارد لكن أين الطعام؟ يتشرطون! قال: ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أحسن طعام، فأتى لهم بالسلوى، وهي طيور مشوية يسقط عليهم في الصباح في موائد، ويقدم طازجاً فيأكلونها ويقولون: أين الحلوى؟ أي: يقصدون ما يتحلون به بعد الغداء، قال: هذا المن، فكانوا يأخذونه من على أوراق الشجر ويأكلونه، قالوا: هذا الماء وهذا الطعام لكن أين الظل؟ نبقى في الشمس؟! قال: يظلل الله عليكم بالغمام، فكان الغمام يسير معهم أفواجاً مع قبائلهم، فلما بقوا في هذه النعمة، قالوا: لا يصلح هذا؟ لا يصلح المن ولا الماء البارد ولا السلوى ولا يصلح الغمام، قال: ماذا يصلح؟ قالوا: {فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا} [البقرة:61].
قال موسى: أعندكم عقول؟! {أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة:61].
أي البصل والثوم بالمن والسلوى قالوا: لا نريد إلا هكذا! طبائعهم مثل الخنازير والقرود.
يقال: إن حماراً قدم له شيء من طعام طيب فيقول: برأسه كذا، أي أنه يريد أن يأكل برسيماً؛ لأنه تربى عليه، لذلك الجعلان ما يتربى إلا على دحرجة القاذورات، وأمة اليهود أخبث أمة على وجه الأرض، حتى يقولون: إنهم عضو أشل في تاريخ الأمة، ونحن نخاف أن نغتاب اليهود هذه الليلة، فالمقصود أنهم أعطوا المن والسلوى ولكن ما شكروا الله، فقال موسى: اهبطوا مصراً -قيل: أرض فلسطين - فإن لكم ما سألتم، وإنما فسرت بـ فلسطين لأنها نونت فدل على أن البلد المعروف غير مقصود وإلا لمنعت من الصرف، فليست مصر المعروفة التي هي عاصمتها القاهرة، والتي زلزلت مرة يوم كان أحد فراعنتها يحكم بالطاغوت، وبغير شريعة الله، فأراد الله أن يؤدبهم فتزلزلت مصر، فأراد هذا الطاغية أن يلين بالله عز وجل ويخشع ويبكي ويراجع حسابه مع الله؛ فقال شاعر من الشعراء: لا تخف، قال: ماذا؟ قال:
ما زلزلت مصر من كيد ألمَّ بها لكنها رقصت من عدلكم طربا(371/15)
من مكائد اليهود: عبادة العجل
والأمر الخامس: عبادتهم العجل، نجاهم الله عز وجل، حتى أتى يهودي إلى علي بن أبي طالب ولن تجد أفطن من علي بعد الثلاثة، حاد الذهن، تصل كلماته إلى القلوب مباشرة، ولذلك يقول ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله: حسدته الأمم على ذكائه.
إي والله، رهيب الذكاء، ويدخل النار فيه طائفتان: طائفة أحبته حتى قدسته ورفعته فوق منزلته يجرها الله على وجوهها حتى يدخلها النار وهؤلاء هم الباطنية، وطائفة أبغضته حتى قطع البغض قلوبها فتدخل النار.
فـ علي رضي الله عنه يأتيه هذا اليهودي يقول: هيه يا أبا الحسن ما رأيتم شجرة فقلتم لرسولكم: اجعل لنا شجرة ذات أنواط، كما تعرفون في الحديث أن الصحابة لما نزلوا شجرة قال بعضهم: وكان حديث عهد بجاهلية كما في سنن أبي داود من حديث أبي واقد الليثي: {اجعل لنا ذات أنواط نعلق عليها سيوفنا كما يعلق المشركون}.
قال: ما خرجتم من المعركة يا أبا الحسن إلا قلتم لرسولكم صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، فقال علي: [[وأنتم ما خرجتم من البحر حتى قلتم لموسى عليه السلام: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة]].
يروى عن علي أنه قيل له: كم بين الأرض والعرش؟ وعلي رضي الله عنه لا يعرف، لأنه ما قاسها، فقال: [[بين العرش والأرض دعوة مستجابة]].
قالوا: كم بين المشرق والمغرب؟ قال: مسيرة الشمس يوماً.
فلن تجد أثقب من ذهنه رضي الله عنه وأرضاه لإخلاصه وعبادته.
الشاهد: أن بني إسرائيل خرجوا من البحر، فلما خرجوا أتى السامري، واسمه موسى العزيز السامري، فهذا الغاوي المغوي اسمه موسى وكان في الركب الذي نجاه الله من البحر، وموسى بن عمران النبي الكريم عليه الصلاة والسلام اسمه: موسى كذلك وتسميه اليهود (موشي) وموشي ديان اسمه موسى في الأصل لكن يسمونه موشي، فموسى عليه السلام رباه فرعون في القصر معه، لكن انظر هداية الله عز وجل، وموسى هذا الغاوي المغوي السامري رباه جبريل:
فموسى الذي رباه جبريل كافر وموسى الذي رباه فرعون مرسل
والهداية من الله، والمصلح هو الله مع الدعاء والأسباب، يربى بعض الأبناء في البيت، ويقرأ دائماً عليه القرآن صباح مساء، ويسمع الذكر والمحاضرات والهداية والأنوار تشع فيأبى، وإنسان في بيت مظلم، لا يسمع إلا الغناء والمغنين والمغنيات الأحياء منهم والأموات، ولكن روحه تتوقد للإسلام: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [الروم:19].
عكرمة بن أبي جهل يأتي من صلب أبي جهل الذي يتردى يوم القيامة على وجهه في النار، وعكرمة يقول يوم اليرموك: من يبايعني على الموت، فيلبس أكفانه بعد أن يغتسل ويتحنط ويتطيب، ويضرج بالدماء ويذهب في سبيل الله، فسبحان الله! ونوح عليه السلام يقول لابنه: اركب معنا، قال: لا {سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنْ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود:43] فصعد فلما أصبح في رأس الجبل وإذا بالماء يعلو، فيمد عنقه في الجو يظن أنه سوف يُفوت قدرة الله عز وجل فوصل الماء إلى عنقه فأخذ يتطاول حتى أعماه الماء.
إبراهيم عليه السلام يأتي إلى شيخ ضال يقول له: {يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ} [مريم:43] أتاني علم من السماء وهو علم لا إله إلا الله، أتيتك به، قال: اعتزلني وإلا رجمتك، سبحان الله! أب ضال وابن صالح، وابن ضال وأب صالح، قدرة الله سبحانه وتعالى!
فلما خرجوا من البحر قال لهم السامري: أتدرون ماذا معي في هذا القرطاس أو في هذا الوعاء؟ قالوا: ما ندري، قال: هذا قبضة قبضتها من آثار جبريل عليه السلام يوم مر من البحر، وسوف أجعلها في حليكم فإنها تحدث أصواتاً، قالوا: وما الفائدة منها؟ قال: الفائدة أنه إلهكم، قالوا: وموسى كيف يذهب يكلم الله عز وجل من طور سيناء وإلهنا هنا، قال: نسي موسى، فموسى عليه السلام قال: يا بني إسرائيل أستأذنكم سأذهب لألقى ربي عز وجل، وكان موسى إذا أراد أن يذهب لمكالمة الله صام ثلاثين يوماً، استعداداً وتهيؤاً روحياً حتى يلقى الله عز وجل، لأنه يبقى أربعين ليلة والنور على وجهه بعد المكالمة، قال بعض المفسرين: فذهب موسى، وفي أثناء الطريق وجد خلوف فمه متغيراً لأنه صام كثيراً، فأخذ سواكاً يتسوك به، فلما كلمه الله لماذا أزلت آثار الصائم وهو أحب إليَّ من ريح المسك؟ قال: يا رب! ظننت أن هذه الرائحة متغيرة، قال: عد فصم عشرة أيام: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف:142] فعاد فصام عشرة أيام فلما صام عشرة أيام قال: يا بني إسرائيل أستأذنكم سأذهب لألقى ربي في طور سيناء.
المكالمة ضخمة تحتاج إلى لقاء، وتحتاج إلى حضور قلب، فلما مشى قال السامري: نسي موسى، قالوا: نسي ماذا؟ إلهكم هنا وذهب يكلمه -انظر إلى الغباء فيهم- قالوا: أين الإله؟ قال: اجمعوا لي الحلي، فجمعوا الحلي فصاغه حتى جعله على شكل العجل، ثم أدخل هذه الحفنة التراب فيه ثم أتى يصوت فيه فأحدث رجة وصوتاً قال: هذا إلهكم، فسجدوا لهذا العجل.
أتى موسى عليه السلام، وإذا عجل من ذهب واقف أمامه، قال: ما هذا؟ قالوا: هذا إلهنا!! سبحان الله! أربعون سنة، ومجاهدة مع فرعون وحادثة البحر، ومعجزات عظيمة ومع ذلك لم يستفيدوا منها شيئاً.
حتى إنه من الغضب ألقى الألواح وفي نسختها خير لهم وهدى.
يقول ابن تيمية: رحم الله موسى، وإلا كيف يلقي الألواح وفيها كلام الله، قال: لكن لما علم الله إخلاصه غفر له وسامحه، قال: فألقى الألواح وأخذ برأس أخيه، يبدأ بهارون، هارون أكبر من موسى يقال بسنة، لكن كان حبيباً قريباً إلى القلوب يعني: لما رآهم يعبدون، قال: لا هذا ليس بإلهكم، اتقوا الله ولم يستطع أن يفعل شيئاً.
فلما أتى موسى عليه السلام أخذ برأس أخيه وبلحيته يجره إليه، يقول: كيف توافقهم على هذا {قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:94] خفت أن أقوم فيهم فينشقون قسمين فتقول: لماذا تتصرف قبل أن آتي؟ لأن موسى عليه السلام إذا وفد عند بني إسرائيل أصبحوا مثل الغنم إذا رأت الأسد، وهارون عليه السلام يتصرفون في حضوره.
أما موسى فلا يستطيعون، لأنه قوي أمين، ولذلك يصفه عليه الصلاة والسلام بالقوة يقول: {كأنه من أزد شنوءة} فلما عبدوا العجل قال إنهم: إن من توبتكم أن تقتلوا أنفسكم، قالوا: كيف نقتل أنفسنا؟ قال: يأخذ كل واحد منكم سكيناً بيده وسوف ينزل الله عليكم ظلمة شديدة حتى لا يرى الإنسان ابنه ولا خاله ولا عمه فتدركهم الشفقة، فأنزل الله عليهم الظلمة فجعلوا يتقاتلون بالسكاكين حتى قتل كثير منهم، ثم قال موسى: كفوا تاب الله عليكم، فتابوا.(371/16)
حب الأنصار
لقد وجد في الناس من يبغض ويقاتل ويسب الأنصار، وقد تحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أن من علامة النفاق بغض الأنصار، ومن علامة الإيمان حبهم.
وتحدث الشيخ في درسه هذا عن مناقب الأنصار، ومواقفهم الشجاعة ضد الكفر والشرك، وذكر بعض عظمائهم وعلمائهم وشهدائهم الذين برزوا في مجال العلم والشجاعة والفداء، والشعر.
كما تعرض الشيخ لعقيدة أهل السنة والجماعة في الأنصار، وتكلم عن واجب الأمة الإسلامية نحوهم.(372/1)
منزلة المهاجرين ومنزلة الأنصار
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
معنا هنا -بإذن الله وعونه وتوفيقه- موضوع خطير وشائق في نفس الوقت، وهذا الموضوع عقد له الإمام البخاري باباً منفصلاً، فقال: (باب: علامة الإيمان حب الأنصار رضوان الله عليهم وأرضاهم).
ثم قال رحمه الله تعالى: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني عبد الله بن عبد الله بن جبر، قال: سمعت أنساً عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: {آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق: بغض الأنصار} وإذا كنا أسلفنا الحديث معكم في مشروع حفظ حديث في كل جلسة، وسبق معنا حديث في الجلسة الماضية الذي رواه الترمذي وأحمد: {أن رجلاً أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ، فدلني على باب جامع أتمسك به، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} وهذا الحديث حسن، وهو من قواعد هذا الدين، ولا بأس أن نأخذ في هذا الأسبوع هذا الحديث العظيم الذي هو حديث ولاء، وحديث عقيدة، وحديث محبة، لمن نصر الله ونصر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال أنس: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: {آية الإيمان: حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار} فجعله البخاري في أمور الإيمان، ليجعله من العقيدة، وليدخل أعمال القلوب في مسمى الإيمان كما هو من عقيدة أهل السنة والجماعة، وسوف يطول -إن شاء الله- الحديث مع الأنصار، ومع حياتهم، لنتقرب بحبهم إلى الله الواحد القهار.
فإن الله سبحانه وتعالى قد امتدحهم في أكثر من آية، وامتدحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ثبت عنه عليه أفضل الصلاة والسلام أنه رأى امرأة مقبلة، فقال: {ممن هذه المرأة؟ قالوا: من الأنصار، قال: والله الذي لا إله إلا هو! إنهم لمن أحب الناس إلي} ولذلك يقول الله تبارك وتعالى في سورة التوبة: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة:117] فجعل الأنصار بعد المهاجرين.(372/2)
موقف أبي بكر مع الأنصار
لما اجتمع -الأنصار- في سقيفة بني ساعدة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت لم يعين خليفة -على الصحيح من أقوال أهل العلم- لكنه لمحَّ ولم يُصِّرح صلى الله عليه وسلم، وعرض ولم يبين، فقدم أبا بكر رضي الله عنه، وامتدحه على المنبر قبل أن يموت بليالٍ عليه أفضل الصلاة والسلام بليالٍ وقال: {لا يبقين في المسجد خوخة إلا سدت -والخوخة الباب الصغير بين البيتين أو الدارين- إلا خوخة أبي بكر} ويقول: {والله لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر، ولكن صاحبكم - يعني: نفسه صلى الله عليه وسلم - خليل الرحمن} وثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم: {سمع عمر يُصلي ويُكِّبر قال: من المكبر؟ قالوا: عمر، قال: يأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر}.
فيقول عمر بعدها: [[رضيه صلى الله عليه وسلم لأمور ديننا، أفلا نرضاه لدنيانا]] ثم يقول عمر عن نفسه: [[والله لئن أقدم فيضرب عنقي في غير حد من حدود الله، لكان أفضل من أن أتقدم أمة فيهم أبو بكر رضي الله عنه]].
والمقصود من هذا أن الأنصار اجتمعوا -رضوان الله عليهم جميعاً- في سقيفة بني ساعدة، ولم يكن معهم أحد بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان قصدهم من هذا الاجتماع هو أن ينصبوا خليفة منهم -أي: يكون من أهل الأنصار- فلما بقي جثمان الرسول الله في البيت وسلم عليها أبو بكر، أتى عمر فقال: [[يا أبا بكر! دعنا ندرك الأنصار؛ لئلا يختلف في أمر هذه الأمة]].
قال عمر: [[وكنت قد زوَّرت كلاماً في صدري -أي: هيأت كلاماً- حتى أتكلم به إلى الأنصار -أي: أعرض لهم قضية الخلافة، أنها لابد أن تكون في قريش وفي المهاجرين- قال: فمضيت أنا وأبو بكر، وأبو بكر لم يهيئ كلاماً]]؛ لأنه كان مشغولاً رضي الله عنه، ظل يتكلم في الناس في المسجد، وأخبرهم بموت الرسول صلى الله عليه وسلم، وهدأ من روعهم، وسكَّتهم، فانشغل بهذه الأمور عن تهيئة خطبة للقاء الأنصار، قال عمر: فدخلت أنا وأبو بكر على الأنصار، فوجدناهم يجتمعون على سعد بن عبادة رضي الله عنه، وهو مريض، وهم يختلفون فيمن يُولون الخلافة بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال عمر: وكان في أبي بكر رضي الله عنه حدة - سرعة في بعض الأمور- كنت أُداريه -وهذا ثابت- وكنت قد زوَّرت كلاماً في صدري لأتكلم، قال: فأسكتني أبو بكر رضي الله عنه، ثم تكلم، قال عمر: [[والله ما ترك كلمة زورتها في صدري إلا أتى بأحسن منها]] ثم قال: أنتم أهل الدار! وأنتم الأنصار، منا الأمراء ومنكم الوزراء، يأبى الله على المؤمنين إلا أن تكون الإمرة في هذا الحي من قريش، ثم أخذ يستلينهم بالكلام ويدعو لهم بما قدموا للإسلام والمسلمين من خدمة ونفع، وفي الأخير رضوا، فقال أبو بكر: يا عمر! مد يدك لأبايعك، فقال عمر: والله لا أتقدم أُمةٌ أنت فيها، فقال أبو بكر: رضي الله عنه في صدق -لأنهم لا يريدون الحياة الدنيا، ولا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً- فقال: يا أبا عبيدة! مد يدك لأبايعك، فقال: والله لا أبايع وأنت فينا، فبايعوا أبا بكر رضي الله عنه ثم بايعه الناس.(372/3)
تقديم المهاجرين على الأنصار في القرآن
قال أبو بكر رضي الله عنه: [[إن الله قدَّمنا قبلكم في القرآن، فقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة:117]]] ثم يقول سبحانه وتعالى بعد أن مدح المهاجرين: {وَالَّذِينَ تَبَوَّأُوا الدَّارَ وَالْأِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر:9] هؤلاء هم الأنصار رضوان الله عليهم.
من كان يريد الله والدار الأخرة فعليه أن يحبهم من قلبه، ونشهد الله على محبتهم، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما أتى بهذا الحديث؛ لأنه خاف وخشي من قوم يأتون -فيما بعد- يبغضون الأنصار -وفعلاً وقع ذلك- وحدث أن قوماً سلوا السيف على الأنصار وقتلوا أبناء الأنصار، سلبوا أبناء الأنصار الماء البارد، ومنعوهم إياه، واستبيحت المدينة ثلاثة أيام.
ولذلك أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يثبت للأمة ووللناس أن من الإيمان حب الأنصار، وأن من النفاق بغض الأنصار، فالله سبحانه وتعالى قدمهم قبل غيرهم، وأخرهم على المهاجرين.(372/4)
رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الأنصار إلى المدينة
وأول ما نبدأ مع الأنصار! مع رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لكن قبل أن يصل صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، بايعهم يوم العقبة.(372/5)
مبايعة الأنصار للرسول صلى الله عليه وسلم في العقبة
أتى الأنصار -قيل في رواية: ما يقارب السبعين- ووصلوا إلى العقبة، وأتى صلى الله عليه وسلم، فخرج من مكة متخفياً حتى لا يراه مشركو قريش، فلما وصل صلى الله عليه وسلم إليهم جلس عليه أفضل الصلاة والسلام بين أظهرهم وتكلَّم ثم تكلم العباس، ثم قام عبد الله بن رواحة رضي الله عن ذلك المجاهد، وقال: {يا رسول الله! ماذا تريد منا؟ على ماذا نبايعك؟ قال: تبايعوني على أن تمنعوني مما تمنعوا منه نساءكم وأطفالكم؟ فقال ابن رواحة: فما لنا -يا رسول الله- إذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة! قال ابن رواحة: ربح البيع! والله لا نقيل ولا نستقيل} أي: ليس هذا خيار ولا استقالة إنما هو بيع نافذ، ولذلك يقول ابن القيم رحمه الله لما وصل إلى هذه الكلمة، وقد سال قلمه ونسي نفسه رضي الله عنه، وقال في قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111].
قال ابن القيم: قالها ابن رواحة رضي الله عنه، هذا العقد أنزله الله سبحانه وتعالى، وأتى به جبريل عليه السلام، وأمضاه محمد صلى الله عليه وسلم، والسلعة هي الجنة، والثمن أرواح المؤمنين، فربح البيع ولا خيار فيه ولا استقالة.
من هذا اليوم والرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن الله سوف ينصر هذا الدين بالأنصار رضي الله عنهم، وإلا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم فكَّر في قبيلة من قبائل العرب ليذهب إليها، وفي الأخير هداه الله عزَّ وجلَّ إلى المدينة إلى يثرب لتكون هي دار الإسلام.(372/6)
النبي صلى الله عليه وسلم يهاجر إلى المدينة
مضى صلى الله عليه وسلم في الهجرة ووصل المدينة، وعند الوصول استقبله الأنصار، حتى إنهم كانوا يخرجون كل يوم -رضوان الله عليهم- من الحفاوة والإكرام والتبجيل لرسول الله- يخرجون كل يوم في الظهيرة؛ فيقفون حتى تشتد حرارة الشمس، ثم يعودون إلى المدينة لينتظروا الرسول صلى الله عليه وسلم، وفي يوم من الأيام خرجوا، فلما قربت الظهيرة، واشتدت عليهم حرارة الشمس رجعوا وهم ما يقارب الخمسمائة -كما في السيرة- رجعوا بسيوفهم إلى المدينة، فخرج يهودي على رأس نخلة، فرأى راكبين وعرف أنهما: الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، فرفع سيفه حسداً وغيظاً وحقداً، قال: يا بني خولة! -أي: الأنصار، جدتهم خولة - هذا حظكم جاء -أي: نصيبكم- يقصد الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال أنس: [[فو الله ما أنسى انتشاب الأنصار لسيوفهم وهروعهم وخروجهم لاستقبال الرسول صلى الله عليه وسلم]] وفي خروجهم كانت الجواري والأطفال ينشدون في سكك المدينة.
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحباً يا خير داع
قال أنس: [[يومان في حياتي والله لا أنساهما أبداً: يوم أن دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، والله لقد رأيت الأنصار يبكون من الفرح]] ولذلك يقول الشاعر العربي الأول:
طفح السرور عليّ حتى إنني من عظم ما قد سرني أبكاني
فإن السرور إذا طفح وزاد مقداره في قلب الإنسان أبكاه.
واليوم الثاني يقول أنس رضي الله عنه: [[يوم أن مات رسول الله صلى الله عليه وسلم]] هذان اليومان لا ينساهما أنس مدى الحياة.
دخل صلى الله عليه وسلم وكان استقباله في دار عمرو بن الحارث من العوالي تجاه مكة، نزل صلى الله عليه وسلم هناك ثم ارتحل واستقبله الأنصار عند دورهم ومنازلهم، وكانت القرى متبعثرة في المدينة، فكان كلما مر بقرية سلَّم عليهم صلى الله عليه وسلم ثم تبسم لهم، وكان يأخذون خطام الناقة يريدون أن يونيخوها في دارهم ليكون لهم شرف ومنزلة، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتبسم ويدعو لهم بالخير، ويقول: {دعوها فإنها مأمورة} الناقة مأمورة من الله سبحانه وتعالى، لا يمكن أن تنيخ إلا في المكان الذي كتبه الله وقدَّره وقضاه، وكانت ترتحل والناس يُشاهدونها، والرسول صلى الله عليه وسلم يريد من ذلك أن ينزل عند أخواله من بني النجار، ليكرمهم بالنزول، وبني النجار هم أهل المسجد الآن -مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم- وهم خير دور الأنصار، ثم بنو عبد الأشهل، ثم بنو حارثة، ثم بنو ساعدة، هؤلاء دور الأنصار، وهي ثمان دور، لكن عدَّ منها صلى الله عليه وسلم أربعة، ولما وصلت إلى دار بني النجار، قامت الجواري -البنيات الصغيرات- يقلن:
نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار
وهذه الأبيات أوردها ابن حجر في غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان صلى الله عليه وسلم يتَّبسم وهو يرى الأطفال ويدعو لهم.(372/7)
نزول النبي صلى الله عليه وسلم في دار أبي أيوب
لما أناخت به الراحلة وقف صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله! حيهلاً وسهلاً انزل! فقال صلى الله عليه وسلم: لا.
لأنه يعرف أن هذا ليس أول نزول للناقة، ثم قامت ثاني مرة، ثم مضت -قليلاً- ثم وقفت مكانها، فلما نزل صلى الله عليه وسلم قيل: أول من صافحه من الأنصار -وهذه منقبة له- أبو أيوب رضي الله عنه.
ولذلك لما رأى ابن عباس أبا أيوب دخل البصرة دمعت عيناه، وقال: [[والله لأكرمنك كما أكرمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لأسكننك العِلّية هذه الليلة، وأسكن أنا في سفل البيت]] فسكن ابن عباس وهو أمير البصرة، في الدار السفلى وأسكن أبا أيوب في الدار العليا لإسكانه الرسول صلى الله عليه وسلم، فنزل صلى الله عليه وسلم واغتنم أبو أيوب هذه الفرصة؛ فأخذ رحل الرسول صلى الله عليه وسلم من على الناقة، فكان بنو النجار يقولون: عندنا يا رسول الله! فكان يتبسم ويقول: {المرء مع رحله} أي: المرء مع جهازه ورحله، فأخذ أبو أيوب يمضي أمام الرسول صلى الله عليه وسلم حتى دخل بيته، ثم قال: {يا رسول الله! اسكن في هذا البيت في العلية، قال: صلى الله عليه وسلم: إنني أُريد هذا المكان الأسفل ليكون أرفق لي} ليدخل إليه الناس عليه أفضل الصلاة والسلام ويكون أقرب له، فلما مكث صلى الله عليه وسلم فترة، صادف في ليلة من الليالي أن أبا أيوب رضي الله عنه وأرضاه كان عنده إناء من الماء سقط عليه من العلية، فقام بشملته وزوجته يمسحان الماء خوفاً أن ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكانوا إذا أصلحوا الغداء والعشاء قال لزوجته: [[لا نأكل حتى يأكل رسول الله]] فينزل الصحفة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيأكل عليه أفضل الصلاة والسلام، فإذا عادت الصحفة بدأ أبو أيوب وامرأته يتمازحان ويتسابقان على آثار الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أكل منه.
وفي اليوم الثاني لما نزل الماء نزل أبو أيوب -وهو ثابت في السيرة- وقال: يا رسول الله! لا أسكن في العلية في دار أنت تحتي أبداً، فارتفع صلى الله عليه وسلم في تلك الدار حتى بنيت له غرفاته عليه أفضل الصلاة والسلام.(372/8)
بعض مناقب الأنصار في استقبال الرسول عليه الصلاة والسلام
وأما مناقب الأنصار فسوف أسوقها كما ساقها كثير من الحفاظ والمؤرخين، نسوقها على الأشخاص البارزين، وعلى الوقعات وعلى العلماء والشهداء، وعلى ما مدحوا به في كتاب الله وسنة رسول الله، ومن أشعار العرب من الأنصار رضوان الله عليهم وأرضاهم.(372/9)
سعد بن عبادة يكرم رسول الله صلى الله عليه وسلم
سعد بن عبادة بن دليم، سيد الخزرج، هذا الرجل منذ أن وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وقد أقسم بالله لا تغادر صحفته بيتاً فيه رسول الله، فكانت صحفته يحملها أربعة، وكان من أكرم العرب، فكانت تدار مع رسول الله في أي بيت نزل فيه، حتى تقول عائشة رضي الله عنها عن سعد بن عبادة: [[ما أكرمه! والله ما مسنا الجوع منذ رأينا صحفته]] أو كما قالت رضي الله عنها.
لكن لما انتقل إلى العالية وابتعد عن المدينة، أصبح هناك بُعد بينه وبين الرسول صلى الله عليه وسلم في الجوار، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يزوره إلى هناك، بل زاره حافياً عليه الصلاة والسلام في سكك المدينة.
يقول علماء الإسلام: ما عرفنا ثلاثة أجواد في الإسلام والجاهلية من نسق واحد إلا سعد بن عبادة بن دليم، فإنه جواد من أجواد الإسلام، وأبوه: عبادة بن دليم وجده دليم كذلك كان من أجواد الجاهلية، هذا النسب العريق في الجود.
وثبت عن سعد رضي الله عنه أنه نحر مائة ناقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والسبب: أنه أتاه ابنه قيس، وقال: [[يا أبتاه! والله لقد رأيت الجوع بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم اليوم قال: كيف عرفته؟ قال: عرفته في صوته ورأيته في وجهه، فأخذ الحربة، قالوا: وجاء الرسول الله وهو ينحر، قال: ولِمَ؟ قال: والله لأشبعن كواسر المدينة وعوافها]] يعني: الطيور، فنحر وكان ثرياً غنياً آتاه الله كثيراً من المال كان -كما يقول الذهبي عنه في سير أعلام النبلاء - يرفع يديه بعد كل صلاة، ويقول: اللهم إني لا جود إلا بفعال، اللهم إني أسألك ما أجود به في سبيلك، فأعطاه الله سبحانه وتعالى، وهو سيد من السادات، فأخذ الحربة فما أنزلها من يده حتى نحر مائة ناقة، ثم قال: عليّ برسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل المدينة، فأشبع أهل المدينة حتى أكل معهم اليهود في ذاك اليوم.
هذا سعد بن عبادة الذي يقول عنه السلف: كان الرجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جوع، ينطلق الصحابة بالرجل والرجلين، وأما سعد بن عبادة فينطلق بالثمانين إلى المائة إلى بيته.(372/10)
أم سليم تستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم
ومن الشخصيات البارزة في استقبال الرسول صلى الله عليه وسلم أم سليم: وهي زوج أبي طلحة رضي الله عنه وعنها، والتي يقول فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الحديث الصحيح: {دخلت الجنة البارحة، فرأيت الرميصاء في الجنة} هذه أم سليم، وهي أم أنس رضي الله عنها وأرضاها.
لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، تخيلت في ذهنها وفي فكرها أعظم هدية يمكن أن تقدمها لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فما وجدت إلا ابنها الوحيد أنساً رضي الله عنه، وهل هناك أعظم وأحب إلى الإنسان من الابن؟
فأخذت أنساً وعمره عشر سنوات، ولبسَّته وطيبَّته، وقالت: هيَّا معي! وأخذته بيده وقدمت على رسول الله وهو في البيت، فسَّلمت عليه صلى الله عليه وسلم، وقالت: {يا رسول الله! هذا أنس ابني، فلذة كبدي، وشجى روحي، يخدمك في حياتك، فادع الله له؟ فتأثر صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم اغفر ذنبه، وأكثر ماله وولده، وأطل عمره} فلَّبى الله سبحانه تعالى هذا الدعاء العظيم، فرأينا أن الله أطال عمره، حتى أنه كان أطول الصحابة رضوان الله عليهم عمراً، وأكثر الله ماله ونسله وولده، نسأل الله أن يغفر ذنبه، وهذا حاصل بإذن الله وبحوله وقوته.(372/11)
موقف الأنصار في حنين
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، اجتمعت قبائل العرب -غطفان وهوازن- على النبي صلى الله عليه وسلم بعد الفتح، وأمّروا أميراً منهم اسمه: مالك بن عوف النضري، وقد كان شاباً، فجمعوا وجوه العرب، وقالوا: نقطع دابر محمد أبداً، وكان مالك بن عوف يسقط في الشوك، ويقول: هبوا لي محمداً لقد دنس قريشاً، فجمعوا من القبائل ما يزيد على عشرة آلاف فرد من قبائل غطفان وهوازن وغيرها من قبائل العرب، ثم خرج بهم أميرهم إلى الطائف، ومن مكيدته أن أخرج معهم الإبل والغنم والبقر، وخرج بالأطفال والنساء حتى ترك الطائف بلا سكن، لئلا يفر أحد.
التقى مالك بن عوف ورسول الله صلى الله عليه وسلم في وادي حنين، وهو وادي في تهامة مما يقابل الطائف - نزل صلى الله عليه وسلم بالوادي وكان بينه وبين غطفان وهوازن جبل، فقال صلى الله عليه وسلم: {من يحرسنا هذه الليلة وله الجنة؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله!} فمن حكمة الله سبحانه وتعالى أن خرج هذا الرجل وجلس في رأس الجبل يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم والجيش، وجيش مالك بن عوف في الجهة الثانية من الجبل مما يواجه جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان جيش رسول الله عشرة آلاف تقريباً، قال بعض أصحابه صلى الله عليه وسلم وقد نظر إلى الجيش وتبسم وقال: لا نغلب اليوم من قلة، فجعل الله سبحانه وتعالى أول المعركة هزيمة، ليخبرهم سبحانه وتعالى في قوله: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة:25].
يقول: إذا كان النصر بالكثرة أو بالقوة.
أو العتاد والسلاح، فما لكم وليتم مدبرين؟! لكن يخبرهم أن النصر من عند الله.
نزل عليه أفضل الصلاة والسلام ومعه عشرة آلاف بعضهم من مسلمي الفتح، لم يدخل الإيمان قلوبهم، فخرج حارس الرسول صلى الله عليه وسلم وقعد في رأس الجبل، ومكث طوال الليل، فلما قرب الفجر نام هذا الحارس، وتحرك مالك بن عوف النضري ومعه ما يقارب عشرة آلاف، وهو من أغنى العرب وأشجعهم، وجعل وراءه النساء والأطفال وكذلك الإبل والبقر والغنم، حتى يقول ابن هشام وغيره: كانت إبلهم أربعة وعشرين ألفاً، وكانت الغنم لا يحصيها إلا الله عز وجل، حتى يقول بعض أهل السير: كانت أربعين ألف رأس! قال مالك بن عوف وقد سلَّ سيفه: يا معشر هوازن! -وهو من هوازن- إما أن تطيعوني هذا اليوم وإلا لأتكئن على ذبابة هذا السيف على بطني فيخرج من ظهري، لكنهم رفضوا، فقالوا: نطيعك هذا اليوم.
فصعد إلى رأس الجبل ونام حارس الرسول صلى الله عليه وسلم، وما استيقظ إلا والجيش عند رأس الجبل، فأخذ الجيش يرسلون الرمل -الحصباء- على الرسول صلى الله عليه وسلم يرجمونهم، حتى قال كثير من أهل السير: إنها أصبحت كالغمامة على جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفاق صلى الله عليه وسلم واستفاق الناس.
أما الإبل والخيول فهربت، فكان الرجل يركب خيله أو فرسه ويركب جمله، فيأبى الجمل أن يعود خائفاً مما حدث، فكانوا يطلقونها وينزلون من على ظهورها ويعودون يمشون، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه ثبت؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ} [النساء:84] أي: حرام عليه أن يفر ولو فر الناس، فركب صلى الله عليه وسلم بغلته وسلَّ سيفه، وقد فر الناس -جميعاً- إلا ستة خرج بهم، ثم استقبل صلى الله عليه وسلم الجبل وقد أقبل مالك بن عوف معه عشرة آلاف، بنسائهم وأطفالهم وإبلهم وغنمهم وبقرهم، حتى يقول ابن أبي حاتم: كأن الجبل أقبل معهم، فأقبل صلى الله عليه وسلم، ثم لمَّا رآهم نزل من على بغلته وسلَّ سيفه، وقال:
أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
فضرب وجه كتيبة مالك بن عوف النصري حتى ردها على عقبيها، وقال للعباس: {نادِ في الناس} وكان العباس قد آتاه الله صوتاً جهورياً قوياً حتى كان ينادي أطفاله وهم في حرة واطن، يناديهم من بيته من المدينة، فقال وقد رفع سيفه: [[يا أهل سورة البقرة! يا من بايع رسوله تحت الشجرة! هلموا رحمكم الله، فما رأى الرسول صلى الله عليه وسلم أحداً مقبلاً، قال الرسول: نادِ في الأنصار، أي: علّ الله أن يعطيهم حمية هذه اليوم، فقال: يا معشر الأنصار! يا حماة الدار! يا من فعلوا وصنعوا، فلم يستجب أحد، قال: نادِ في الخزرج -قال: الخزرج أشجع- فنادى في الخزرج، فلم يأتِ أحدٌ، قال: نادِ في بني الحارث -بني الحارث من الأسرة الرابعة- لكنهم كانوا من أشجع الناس ويسمون شربة الموت- فلما سمعوا وكانوا كلهم ثمانين شخصاً، لما سمعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شرَّفهم من بين قبائل العرب واختصهم، نزلوا من على جمالهم وخيولهم، وكانوا يرمون أنفسهم فيأخذ أحدهم سيفه وغمده، فيكسر الغمد على ركبته ليأتي إلى الصوت، ففتح لهم صلى الله عليه وسلم الطريق حتى وصلوا إلى مالك بن عوف فاجتدلوا، قال العباس: والله أني كنت أسمع شظايا تكسير السيوف من على رءوس الناس، كانت تتطاير من كثرة الضرب]] حتى يقول صلى الله عليه وسلم وهو يتبسم وهو في محشر المعركة: {الآن حمي الوطيس}.
حتى يقول أهل السير: لم تنقل هذه الكلمة إلا من الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما ارتفع النهار وإذا الناس قد عادوا إلى رشدهم، وكان أبو سفيان ذلك اليوم من مسلمة الفتح، ما تمكن الإيمان في قلبه، يقول: ما يردهم اليوم إلا البحر - البحر الأحمر- ويقول صفوان بن أمية: اليوم بطل السحر نعوذ بالله، يقول: اليوم بطل السحر، فلما نصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، قالوا: ما أتت صلاة الظهر إلا والأسارى مصفدين بجنبه صلى الله عليه وسلم، وخص صلَّى الله عليه وسلم كتيبة من الأنصار مهمتها أن تستولي على الإبل والبقر والغنم والنساء.(372/12)
إسلام مالك بن عوف النضري
أما مالك بن عوف النصري فإنه فرَّ على رجليه، وترك جيشه، ثم تبعه الناس ففروا! فقال صلى الله عليه وسلم: لا نتركهم حتى ندخل عليهم الطائف، فأخذت هذه الغنائم في وادي حنين، ودخل صلى الله عليه وسلم وراءه بجيشه حتى دخل عليهم في الطائف، فكبتهم صلى الله عليه وسلم في الحصون، وحاول الرسول صلى الله عليه وسلم أن يطيل في المحاصرة، ولكن وجوه العرب تدَّخلوا في المسألة، وأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! نصرك الله وأخذت نساءهم وأطفالهم، وإبلهم، وبقرهم، وغنمهم، ثم تريد أن تذله أمام الناس؟ نريد منك يا رسول الله! أن ترتحل إلى حنين، وكأنك تريد أن تعتمر، فإذا نزلت في الجعرانة -بكسر الجيم- لحقك مالك بن عوف النصري يعتذر إليك، قال صلى الله عليه وسلم: حِباً وكرامة! فعاد صلى الله عليه وسلم بجيشه إلى موطن الغنائم في الجعرانة ونزل هناك صلى الله عليه وسلم، ولما صلى العصر من اليوم الثاني وإذا بـ مالك بن عوف النضري وممن معه من مشايخ هوازن وغطفان وكانوا سبعة وهو سابعهم، وكان شاباً، فبعد أن صلى النبي صلى الله عليه وسلم العصر بالناس التفت فقام مالك بن عوف النضري وقال في قصيدة يمدح الرسول صلى الله عليه وسلم ويريد أن يتشفع في الأطفال والنساء والأموال، قال:
ما إن سمعت ولا رأيت بمثله في الناس كلهم كمثل محمد
أوفى وأعطى للجزيل إذا اجتدى وإذا تشأ يخبرك عما في غد
وإذا الكتيبة حركت أنيابها في السمهري وضرب كل مهند
فكأنه ليث على أشباله وسط الهباءة خادر في مرصد
فتبسم صلى الله عليه وسلم وأجلسه، وقال صلى الله عليه وسلم: {ما تريد يا مالك؟ فإن الصدق أحب إلي من كل كلام، قال: يا رسول الله! أريد النساء والأطفال وأريد الأموال، قال صلى الله عليه وسلم: اختر! إما الأموال وإما النساء والأطفال؟ قال: لا أعدل بنسائنا وأطفالنا شيء، فقام صلى الله عليه وسلم في الناس فاختطب، فقال: إن ما عندي وما عند بني هاشم فنرده إلى مالك، وأما أنتم فمن شاء منكم فليرد وسوف أعطيكم من أول غنيمة} فسكت الناس وبعضهم، قالوا: نرد، فقال صلى الله عليه وسلم: {يرفع لنا عرفاؤكم خبركم} فكان كل عريف يرفع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم ردوا، والحقيقة أن الجميع ردوا، فردوا أطفاله ونساءه وقالوا: يا رسول الله! المال؟ قال: {لا يعود لك منه شيء} فذهب إلى الطائف بنسائه وأطفاله بعد أن أسلم عند الرسول صلى الله عليه وسلم.(372/13)
موقف الأنصار من توزيع الغنائم في حنين
أما الغنائم -وهذه هي الشاهد- فأتى صلى الله عليه وسلم فاستدعى أبا سفيان الذي يقول: لا يردهم إلا البحر، قال: خذ مائة ناقة، أما الأنصار الذين تكسَّرت سيوفهم على رءوس الناس من الصباح فلم يعطهم النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، قال: أين صفوان الذي يقول: الآن بطل السحر؟ قال: خذ مائة ناقة، قال: أين عباس بن مرداس؟ قال: أنا سيد حنين قال: خذ خمسين ناقة، قال وكان شاعراً:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين عيينة والأقرع
وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع
يقول: تعطني نصف مائة وهؤلاء تعطيهم من مائة ناقة فكيف تعطيني النصف؟
فتبسم صلى الله عليه وسلم وأخذ يردد الأبيات، ويقول وقد كسره صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يتعلم الشعر، قال:
أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة
فتبسم أبو بكر وكان عالماً بالشعر، وقال: [[صدق الله حيث قال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس:69]]].
ثم وزَّع صلى الله عليه وسلم، وقال: أين الأقرع بن حابس سيد بني تميم؟ قال: هأنا يا رسول الله! قال: خذ مائة ناقة، أين عيينة بن حصن سيد غطفان؟ قال: أنا من جزارة، قال: خذ مائة ناقة، فلما وزعها صلى الله عليه وسلم أتى حكيم بن حزام قال: أعطني من هذا المال يا رسول الله! قال: أتنظر إلى هذين الجبلين وقد امتلأ الجبل بالضأن -أي: الغنم- قال: نعم! قال: خذها لك، فأتى في اليوم الثاني، وقال: يا رسول الله! زدني، قال: خذ مائة من الإبل، فأتى في اليوم الثالث: قال: زدني! فنظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو من سادات قريش كان حكيم بن حزام، يكسو الكعبة سنة، وتكسوها قريش سنة، فالتفت إليه صلى الله عليه وسلم وقال: {يا حكيم! إن هذا المال حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيه، فينظر كيف تعملون}.
فقالوا: يا رسول الله! والله لا أرزأ أحداً بعدك -أي: لا أسأل أحداً بعدك من الناس- حتى أنه ترك عطاءه في عهد أبي بكر وعمر تركه، فقال عمر: [[أشهدكم أيها الناس أن حكيم بن حزام رفض عطاءه الذي كتب له من بيت المال من أجل كلمة الرسول صلى الله عليه وسلم]].
فلما أتم صلى الله عليه وسلم توزيع الغنائم؛ نظر الأنصار أنهم لم يصبهم شيء -لا بعير ولا شاة ولا بقرة- فاجتمعوا في سور هناك في حديقة طويلة، وقال بعضهم: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم! هذه سيوفنا تقطر من دماء غطفان وهوازن، وقد أعطى صناديد نجد وتركنا، فسار الكلام بينهم حتى انتشرت هذه المقالة، فبلغت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستدعى صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة سيدهم وقد مات سعد بن معاذ، وقال: {يا سعد! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قال: يا رسول الله! هو ما سمعت، قال: أين رأيك وفقهاء الأنصار؟ قال: وهل أنا إلا من قومي؟ -أي: أرى ما يرى قومي- قال: اجمع لي قومك ولا يدخل معكم في الحديقة أحد؟ فجمعهم رضي الله عنهم جميعاً، وأخرج كل من كان من سواهم، إلا رجلاً يقول للأنصار "خال": فلما دخل صلى الله عليه وسلم، سلَّم على الأنصار فردوا واستقبلوه عليه الصلاة والسلام، قال: هل من غيركم أحد معكم؟
قالوا: إلا ابن بنتنا -أي: يقول لهم: خال- قال: ابن بنت القوم منهم؛ فتكلم صلى الله عليه وسلم، فقال: يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟
أما أتيتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله بي، أما كنتم متفرقين فجمعكم الله بي، أما كنتم فقراء فأغناكم الله بي؟
فنكسوا رءوسهم، وهم يقولون: المنة لله ورسوله، فرفع صلى الله عليه وسلم رأسه، وقال: يا معشر الأنصار! والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدَّقتم: أتيتنا فقيراً فأغنيناك، وأتيتنا طريداً فآويناك، وأتيتنا شريداً فنصرناك؟
قالوا: المنة لله ولرسوله.
قال: يا معشر الأنصار! ألا ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟
والله ما تذهبون به خير مما يذهبون به، ثم قال: والله لو سلك الناس شعباً وسلك الأنصار شعباً ووادياً لسلكت شعب الأنصار ووادي الأنصار، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار، الأنصار شعار والناس دثار.
يا معشر الأنصار! إنكم سوف تلقون بعدي أثرة -أي: أناس يستأثرون بالدنيا عليكم.
فاصبروا حتى تلقوني على الحوض، قال أنس: والله ما انتهى إلا ودموعنا قد أخضلت منها لحانا -رضي الله عنهم وأرضاهم- قالوا: رضينا برسول الله صلى الله عليه وسلم قسمة وحظاً عن الناس}.
فأرضاهم صلى الله عليه وسلم بهذه المقالة، وأظهر لهم السر في توزيع الغنائم، ولذلك يقول: {اصبروا حتى تلقوني على الحوض} فكان بعض الأنصار الذين وجدوا في أنفسهم من بعض الناس الذين استأثروا عليهم بالمناصب والأموال، كان يبكي ويقولون: يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: اصبروا، ولكن والله ما صبرنا -أي: تواضعاً منه- ولذلك لما أتى معاوية رضي الله عنه دَخْلَ المدينة، استقبله الناس إلا الأنصار؛ لأنهم كانوا في صف علي رضي الله عنهم، ولا نخوض فيما جرى بينهم، فكلهم مرضي عنهم، ليجمع بينهم سبحانه وتعالى في جنته، ومن الذين نزع الله الغل من صدورهم، فدخل معاوية رضي الله عنه بعد أن حج، دخل لزيارة مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فاستقبله كل الناس إلا الأنصار لم يستقبلوه، فوجد في نفسه، فصلى الجمعة، وقال لهم بعد الصلاة: يا أيها الأنصار! أين رواحلكم؟ استقبلني الناس ولم يستقبلوني! فقام رجل منهم، قيل: إنه عبادة بن الصامت، فقال: أمَّا خيولنا فطاردنا بها أباك يوم بدر، وأما رواحلنا فطاردناك بها أباك يوم حمراء الأسد، وكان حليماً رضي الله عنه فسكت، فقال: فماذا تريدون مني؟ قال: نريد أن تعطينا كما أعطيت الناس، فقال معاوية: ما أوصاكم الرسول صلى الله عليه وسلم بشيء؟
قالوا: نعم أوصانا بأن نصبر حتى نلقاه على الحوض، قال: فاصبروا حتى تلقوه على الحوض، فرجع البكاء كما كان في الأنصار رضوان الله عليهم، لأن معاوية احترمهم وقدَّرهم ورفع منزلتهم.
هذا موقف الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في حنين مع الأنصار -رضوان الله عليهم- فهم أفضل الناس بعد المهاجرين بالإجماع.(372/14)
موقف الأنصار يوم بدر
افي يوم بدر؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يريد أن يخرج بالأنصار إلى كفار قريش، فلما نزل صلى الله عليه وسلم قريباً من بدر، مكث عليه أفضل الصلاة والسلام هناك، وقال يستشير الناس: {يا أيها الناس ماذا ترون؟} أي: في لقاء الأعداء، والسر أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريد كلمة الأنصار؛ لأنهم عاهدوه يوم العقبة أن يمنعوه مما يمنعوا منه نساءهم وأطفالهم، لكن العجيب! أن المتكلم كان من المهاجرين والرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد المهاجرين أن يتكلموا، فقام المقداد بن عمرو فتكلم بكلام قوي، قال: [[يا رسول الله! والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون، بل نقول: أذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون]].
فاستبشر النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، ثم قال: {أيها الناس! ماذا ترون؟ -يريد الأنصار- فقام سعد بن معاذ سيد الأنصار رضي الله عنه وقال: يا رسول الله! كأنك تريدنا؟ قال: أجل.
قال: يا رسول الله! صدقناك وبايعناك وآويناك، والله ما أخذت من أموالنا فإنه أحسن مما تركت، فاقطع حبل من شئت، وصل حبل من شئت، وحارب من شئت، وعاهد من شئت، والله! إننا لصبر في الحرب، وصُدُّق عند اللقاء، والله لو استعرضت بنا البحر ما تأخر منا رجل واحد، وعسى الله أن يريك منا ما تقر به عينك، فتهلل وجهه صلى الله عليه وسلم، وقال: سيروا وأبشروا؛ فإن الله وعدني بإحدى الطائفتين، إما العير وإما الرجال والنصر}.
هذا موقف سعد بن معاذ ولذلك رفعه الله بصدقه في هذه المواقف.
سعد بن معاذ شهيد الإسلام رفعه الله بموقف ذكره الذهبي في سير أعلام النبلاء: أن سعداً رضي الله عنه لما مات أُصيب بسهم في الأكحل، فأنزله صلى الله عليه وسلم في خيمة في المسجد وأتى يعوده، فقال سعد ينادي الله عز وجل: [[اللهم إن كنت لا أبقيت حرباً لرسولك صلى الله عليه وسلم مع اليهود فابقني لهم، وإن كنت أنهيت الحرب مع اليهود فاقبضني إليك]] فاندثر عليه الجرح وسال الدم، وحضر صلى الله عليه وسلم مراسيم وفاته، قالت عائشة رضي الله عنها -وهذا ثابت-: [[والله إني كنت أسمع بكاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من بكاء عمر وأبي بكر وأنا وراء صائر الباب]] وحضر صلى الله عليه وسلم حتى تغسيله وكان يكف صلى الله عليه وسلم ثيابه، ويقول الناس: لماذا يا رسول الله؟ قال: {والله ما رأيت موقع قدم إلا وفيه ملك حضر جنازة سعد رضي الله عنه} ولما توفي -وهو حديث حسن بطرقه- اهتز له عرش الرحمن سبحانه وتعالى، وأن الملائكة حفت بالعرش تقول {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4].
ولذلك يقول حسان في قصيدته الرائية في الديوان:
وما اهتز عرش الله من فقد هالك سمعنا به إلا لموت أبي عمرو
يقول: حسان بن ثابت ما سمعنا أحداً اهتز له عرش الرحمن إلا لـ سعد أبي عمرو رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك جلس الأوس والخزرج -قبيلتا الأنصار- يتفاخرون على سبيل الدعابة والمزاح، قالت الأوس: عددوا لنا مكارمكم يا معشر الخزرج! قال الخزرج: منا أربعة حفظوا وجمعوا القرآن في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنا فلان الذي فعل ومنا الذي غسلتَّه الملائكة، فلما انتهوا؛ قالت الأوس: لا نباريكم إلا بواحدة: منا الذي اهتز له عرش الرحمن، وهو سعد رضي الله عنه.
وثبت أنه شيَّعه من الملائكة سبعون ألف ملك، مضوا في جنازته رضي الله عنه وأرضاه، هذا هو الرجل الذي صنعه الإسلام والقرآن، وما قصدنا من ذكر هذه الأمثلة والشواهد، تضييع الوقت والتسلية، ولكن لنرتفع بأرواحنا أو نحبهم على الأقل؛ فإن المرء يُحشر مع من أحب، فإذا لم نستطع أن نفعل كما فعلوا أو نصنع كما صنعوا؛ فلنحبهم في الله عز وجل، ولذلك بلغ بهم النصيحة لله ولرسوله وللمؤمنين أن قدموا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على حب آبائهم وأمهاتهم.(372/15)
موقف عبد الله بن عبد الله بن أبي بن سلول مع أبيه
رجع صلى الله عليه وسلم من غزوةٍ من الغزوات، وفي تلك الغزوة كان معه المنافقون، منهم: عبد الله بن أبي بن سلول قائد لواء النفاق -نسأل الله السلامة- وكان من الخزرج، وقد كان الأنصار يريدون أن يملكوه عليهم قبل أن يُهاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم، وقد كان فيه صحة في الجسم وبسطة في المال، ولكن داخله النفاق، فخرب ظاهره وباطنه نسأل الله السلامة.
نزل هذا الرجل مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة، فتشاجر رجل من الأنصار مع رجل من المهاجرين، فوصل الخبر إلى عبد الله بن أبي قال: صدق القائل صاحب المثل: " جوع كلبك يتبعك، وسمن كلبك يأكلك" ثم قال: والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذهب رجل بهذه المقالة وهو زيد بن أرقم إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله! سمعت عبد الله بن أبي بن سلول يقول هذا اليوم كذا وكذا والله لو كان قالها في غيرك وفي غير الإسلام لما رفعتها إليك يا رسول الله! فأتى الأنصار وجوههم وكبارهم إلى الرسول، وقالوا: يا رسول الله! لا تصدقه، عبد الله بن أبي بن سلول لا يقول هذا، فيحلف الفتى زيد بن أرقم وكان شاباً، فيقول الأنصار: لا يقول ذلك يا رسول الله.
وفي الأخير كان الرسول صلى الله عليه وسلم مقتنعاً بهذه المقالة، فعاد هذا الشاب، وقال: فأخذني ما قرب وما بعد من الهم حتى كاد يقتلني، كيف أكذب وأنا سمعت الرجل يقول هذا الكلام؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ في عصر ذاك اليوم قوله سبحانه وتعالى: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ} [المنافقون:8].
فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم فدعا زيد بن أرقم على مرأى ومسمع من الأنصار، ثم فرك أذنه صلى الله عليه وسلم، وقال: {لقد صدق الله كلامك وأذنك} أو كما قال صلى الله عليه وسلم، أي: أن أذنك التي سمعت صدَّقها الله من فوق سبع سموات، ثم سرى الخبر إلى عبد الله بن عبد الله بن أبي، الذي قال أبوه هذه المقالة، وظن أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يقتله، فقال: [[يا رسول الله! إن أبي قال ما سمعت، وقد أنزل الله سبحانه وتعالى ما أنزل عليك، وأنا سمعت أنك تريد قتله، وأنا لا أرضى أن أرى قاتل أبي يمشي على الأرض، فإن كنت تريد قتل أبي أتيتك -الآن- برأسه ووضعته بين يديك]] لأنه رضي الله عنه مؤمن وأبوه منافق، فقال صلى الله عليه وسلم: {بل نترحم على أبيك حتى يلقى الله}.
وعندما رجع عبد الله بن أبي المدينة وصل إلى أسوارها؛ فقام عبد الله بن عبد الله بن أبي فسلّ سيفه ووقف على مدخل المدينة، فلما دخل الناس واجتازوا وقف، فلما رأى أباه قال: [[والله لا تدخل حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدخول، قال: ولَمْ؟ قال: لأنك الأذل ورسول صلى الله عليه وسلم الأعز: {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} [المنافقون:8] فإن أذن لك وإلا أخرجناك من المدينة، قال: تفعل بي وأنت ابني؟ قال: كما سمعت! فذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقالوا: يا رسول الله! ائذن لـ عبد الله بن أبي أن يدخل المدينة، فتبسم صلى الله عليه وسلم وقال: ائذنوا له، فأذنوا له فدخل]].
هذا من الأنصار رضي الله عنه وأرضاه وهذا من كمال التوحيد وكمال الموالاة، وقد جعل الله سبحانه وتعالى عقيدة الولاء والبراء جزءاً من عقيدة أهل السنة والجماعة يلقون بها الله سبحانه وتعالى.(372/16)
كرامات الأنصار
سوف أستعرض بعض كرامات الأنصار والكرامة -كما تعرفون- من معتقد أهل السنة والجماعة، يثبتها الله ويجريها على يد رجل صالح يعمل بالكتاب والسنة.(372/17)
كرامة لأسيد بن حضير
ممن أعطاهم الله سبحانه وتعالى الكرامة من الأنصار أسيد بن حضير، هذا الرجل البطل المجاهد قام في ليلة من الليالي يقرأ سورة الكهف في صلاة الليل، فأخذ فرسه يمور في مكانه، وكادت تفتك من رباطه، وكان ابنه يحيى نائم، فخاف على ابنه من الفرس، فاستعجل في الصلاة وسلّم، ثم نظر؛ فإذا بشيء كالظلة أو كالغمامة فيها مصابيح على رأسه في الليل، فخرج فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال: كنت قد قرأت البارحة في صلاة الليل؛ فإذا أنا كالظلة على رأسي فيها كالمصابيح ما هي؟
قال صلى الله عليه وسلم: {والله إن تلك الملائكة تنزلت لقراءتك، والله لو بقيت تقرأ إلى الصباح، لرأها الناس، لا تختفي عنهم} هذا أسيد بن حضير رضي الله عنه.(372/18)
كرامة عباد بن بشر
وأما عباد بن بشر، فقد كان من شباب الأنصار الذين قُتِلوا يوم اليمامة، قتل بأكثر من عشر ضربات بالسيف في وجهه، ولقي الله عز وجل بهذه الشهادة التي تكتب له عند الله.
جلس ذات ليلة مع الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأسيد بن حضير، فلما خرج عباد بن بشر وأسيد جعل الله لهم نوراً يرونه أمامهما، فلما انفصل هذا من طريق وهذا من طريق آخر، انفصل نور مع هذا ونور مع هذا، حتى أوصلهما بيتهما في ظلمة الليل، وهذه من الكرامات التي ثبتت لهم رضوان الله عليهم.(372/19)
كرامة قتادة بن النعمان
قتادة من الأنصار رضوان الله عليهم، كان يوم أحد يقاتل مع رسول صلى الله عليه وسلم، فضرب على وجهه بالسيف، فنزلت عينه حتى أصبحت في خده، فأتى صلى الله عليه وسلم، فلما رآه وعرض نفسه عليه ورأى عينه قد نزلت في خده ردها صلى الله عليه وسلم بيده، وقال: باسم الله! فعادت، قال الأنصار: والله إنها كانت أجمل من الأخرى.
ولذلك يذكر أن ابن قتادة دخل مع فتية عند عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة للمسلمين، فأراد أن يتعرف عليهم وكان من علية الناس، فقال لأولهم: ابن من أنت؟
قال: أنا ابن أمير البصرة عام كذا وكذا، وأنت؟ قال: ابن أمير الكوفة، فكان رضي الله عنه يغضب ويشيح بوجهه؛ لأن المؤهلات عند عمر تختلف عند أهل الدنيا، فلما أتى دور هذا الأنصاري، قال: ابن من أنت؟
قال:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فدمعت عينا عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه وقال:
تلك المكارم لا قعبان من لبن شيباً بماء فعادا بعد أبوالا
يقول: تلك هي المكارم التي يريدها الإنسان، المكارم في الدار الآخرة، لا قعبان من لبن: أي: أسان من لبن، شيباً بماء، أي: خلط بماء وقدمت للضيف من أجل الصيت والسمعة، فشربها الضيف فعادت بولاً.
فيقول: مراتبكم ومناصبكم ودنياكم لا تساوي مع هذه شيئاً، هذه هي المكارم إن كنتم تريدون مكارماً.(372/20)
شهداء الأنصار
أما شهداء الأنصار رضي الله عنهم فقد قُتِلَ منهم (70%) تقريباً وما أهلكهم إلا السيف في ذات الله عز وجل، وروى عن الحسن البصري أنه قال: [[إذا أتى الأحياء يوم القيامة، أتت الأنصار بأكثر شهداء الأرض]].(372/21)
أنس بن النضر من شهداء الأنصار
أنس بن النضر رضي الله عنه خال أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه يقول أنس: [[كان خالي أنس بن النضر قد تخلف عن معركة بدر؛ لأن معركة بدر أتت في عجلة، ولم يتهيأ لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما دعا لها الناس، ولما تخلف كان أنس بن النضر، كلما صلى صلاة، قال: والله لئن جمع الله بين رسوله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين، ليرين الله ما أصنع]] قال أنس: [[وهاب أن يقول: لأقاتلن حتى أستشهد؛ لأن القلوب بيد الله عز وجل، قال: ليرين الله ما أصنع]] فلما أتت معركة أحد، قام صلى الله عليه وسلم على المنبر وقد طوق أبو سفيان بالجيش بما يقارب ثلاثة آلاف مقاتل، ما يقارب ثلثي اتجاهات المدينة، ليقطع خط الرجعة على الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخذ السير على المواشي من الإبل والبقر والغنم والسوارح كلما سرحت، وكان يؤذي أهل المزارع، فقام صلى الله عليه وسلم على المنبر يوم الجمعة، فقال: {أيها الناس! أما علمتم أن أبا سيفان قد نزل بجانب المدينة، فماذا ترون؟} فقام عبد الله بن أبي يصلي مع الرسول صلى الله عليه وسلم -يصلون ويزكون ويصومون لكنهم منافقون نفاقاً أكبر مخرجاً من الملة- فقال: يا رسول الله! والله ما قاتلنا حياً من أحياء العرب في المدينة إلا انتصرنا عليهم، فنرى أن تقاتلهم داخل المدينة، وصدق في هذا الرأي وهو كذوب وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يرى أن يُقاتلهم داخل المدينة في السكك؛ لأنه سوف يجعل المقاتلة على السطوح، وسوف يرصد لهم كمائن في أطراف السكك، وسوف يدبر لهم مكيدة، فلما علم شباب الأنصار بذلك وكان منهم أنس بن النضر -وحمزة رضي الله عنهما في ثمانين خرجوا من المسجد- كأنهم ما أرضاهم هذا الرأي فخرج بعضهم فلبس أكفانه منهم أنس بن النضر، وعادوا بسيوفهم مصلتة وهم يرتجزون وكان من رجزهم كذلك:
لبث قليلاً يشهد الهيجا حمل لا بأس بالموت إذا حان الأجل
ثم قام رجل اسمه سالم من بني مالك بن الحارث، وقال: {يا رسول الله! أتخذ سوارحنا ولم نضارب أتمنعنا من دخول الجنة؟ والله لأدخلن الجنة، فتبسم صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر وقال: بماذا تدخل الجنة؟ قال: بحبي لله ولرسوله، ولا أفر يوم الزحف} ودخل حمزة وعلى عمامته ريش النسر، وقال: {يا رسول الله! نخرج إليهم لا نبقى في عقر دارنا؛ لأن ما غزي قوم بعقر دارهم إلا ذلوا، فقال صلى الله عليه وسلم: انتظروا! فانتظروا فنزل صلى الله عليه وسلم واغتسل.
تقول عائشة: اغتسل صلى الله عليه وسلم ولبس درعه ولامته على رأسه، ثم سلَّ سيفه، وخرج على المنبر ليعيد الخطبة مرة ثانية، ويُحرضَّهم على القتال، وعلى مبارزة الأعداء، فقالوا: يا رسول الله! لعلَّنا أكرهناك لعلنا فعلنا، فأنزل الله عز وجل: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:121]}.
خرج صلى الله عليه وسلم بالناس، وقال له سبحانه وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران:159] أما أن ترجع مرة ثانية فلا.
فخرج أنس بن النضر مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما أصبحوا في الطريق عاد عبد الله بن أبي بن سلول إلى المدينة؛ لأنه منافق لا يريد القتال، فقال: يطيع الأغْلِمَة ويترك رأينا -أي: في أمس يوم الجمعة- ثم قال: لا أخرج! فأطاعه ثلاثمائة فانخذل بهم، ثم أتت بنو حارثة الأبطال الشجعان، الذين قاتلوا في حنين، وأرادوا أن يفشلوا، فانتظروا في ظهر الجبل، وتلبثوا فقالوا: نعود إلى المدينة، ثم أتى بنو سلمة، وأرادوا أن يفشلوا مرة ثانية، وهم قبيلة جابر، فتلبثوا بالجبل، فأرسل لهم صلى الله عليه وسلم من ينذرهم وهو أبو جابر الذي كلَّمه الله كفاحاً بلا ترجمان، قال: {اذهب إليهم وادعهم إلى الله وإلى جنة عرضها السماوات والأرض} فأتى إليهم، وقال: ماذا تفعلون؟ ثم حثا في وجوه بعضهم بالتراب، قال: تفعلون برسول صلى الله عليه وسلم هذا؟! فاعتصموا بالله وأرشدهم الله، فذهبوا إلى المعركة، قال سبحانه وتعالى: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [آل عمران:122].
قال أنس: والله ما وددنا أن كِدْنا نفشل، والله يقول في الآية: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران:122] لا نريد أننا فعلنا هذا، لكن نريد أننا فعلنا -والحمد لله- ما فعلناه؛ لأن الله عصمنا، ثم قال: {وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا} [آل عمران:122] حضرت المعركة، وابتدأ القتال، أما أنس بن النضر فلمَّا رأى الناس انهزموا أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض أدوار المعركة أخذ سيفه، وكسر غمده على ركبته، ثم لف رأسه بعمامة، ثم قال للأنصار: أستودعكم الله، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ثم لقيه سعد بن معاذ وهو سيدهم، وقال: [[يا أنس بن النضر! ماذا تصنع؟ قال: إليك يا سعد، فوالله إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]] أي: أجد نسيم الجنة يدخل في أنفي دون أحد -أي: قريباً من أحد - فقاتل حتى قُتِل، قال أنس: [[والله لقد وقفت عليه وإن فيه أكثر من ثمانين ضربة، بالسيوف والرماح]].
قال: وما عرفنا من هو هذا القتيل إلا أن أخته عرفت أنه أخوها ببنانه أي: بأصابعه.(372/22)
عبد الله بن عمرو بن حرام من شهداء الأنصار
أما عبد الله بن عمرو بن حرام -والد جابر - فقد قام قبل أن يقاتل في غزوة أحد في الليل فصلى، ثم رأى في المنام أنه قد قتل، وأن الله قد كلَّمه في الجنة، فأيقظ ابنه جابراً في الليل -ما عنده إلا ولد واحد وسبع بنات- قال: [[يا جابر! إنني رأيت أنني من أول من يقتل في المعركة، وقد رأيت كأني دخلت الجنة وكلمت الله، فاستوصي بأخواتك خيراً، وأستودعك الله فقال جابر: فما شككت أنه مقتول ذاك اليوم]] قال جابر: فحضرنا المعركة، فقتل أبي، فأتيت إليه فوجدته مقطعاً يبن يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم ينظر إليه وينفض التراب من على وجهه ولحيته، فأتت عمتي - فاطمة بنت عمرو بن حرام - تبكي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {تبكينه أولا تبكينه، ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفعتموه، ثم قال صلى الله عليه وسلم: يا جابر! تعال! قال: فأدناني صلى الله عليه وسلم، فقال: إن الله كلَّم أباك كفاحاً} كلَّمه بلا ترجمان، وهذا ثابت في الصحيح، وقد صححه ابن كثير في تفسيره، عند قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران:169] الآية.
فقال الله لـ عبد الله: {يا عبدي! تمن؟ قال: أتمنى أن تعيدني إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن؟ قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً، قال: فأخبر إخواننا بما فعلت، وبأننا لقيناك فرضيت عنا ورضينا عنك، فأنزل الله مصداق ذلك: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [آل عمران:169 - 170]}.
قال أنس في الحديث: {فجعل الله أرواحهم في حواصل طير خضر، تأكل من شجر الجنة، وتشرب من أنهارها، وتأوي إلى قناديل معلقة في السماء}.(372/23)
حرام بن ملحان من شهداء الأنصار
ومن شهدائهم رضي الله عنهم وأرضاهم: حرام بن ملحان، كان من القراء، أرسله عليه أفضل الصلاة والسلام تجاه حنين ليدعوهم إلى الله ومعه نحو سبعين رجلاً من القراء، وكان هؤلاء القراء من خيرة شباب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا غدر بهم عامر بن الطفيل فقال: يا حرام! انتظر قليلاً حتى أذهب إلى أناس فأجمعهم لتقرأ عليهم مما علمَّك الله؟
وهذا كافر لا يريد مما علَّمه الله ولا يريد القرآن، لكن بمكيدة أن يجمع القبائل، ليقاتلوا هؤلاء القراء، فذهبوا إلى القبائل، فقال: عليكم بالسيوف والرماح وتعالوا! فقاتلوا عصابة أتت لمحاربتكم، فأتوا فطوقوا السبعين فقتلوهم عن بكرة أبيهم، ولذلك مكث صلى الله عليه وسلم يقنت شهراً في الصلاة، ربما بكى وربما دعا على رِعل وذكوان لمَّا فعلوا به صلى الله عليه وسلم وبقرائه.
جاء عامر بن الطفيل إلى حرام بن ملحان فقال له: تعال لأكلمك! فاقترب منه واستأمنه، فأشار عامر لرجل من ورائه، فقال: اطعنه بالرمح إذا كلَّمته، فلما أصبح يُكلمه ويناجيه أتى رجل من ورائه من قبائل رعل، فأدخل الرمح من ظهر حرام حتى خرج من صدره، فلما خرج الدم أخذ حرام الدم من قلبه ثم ضرب به وجه عامر بن الطفيل، وقال: [[فُزت ورب الكعبة]] وهذا الحديث في البخاري في (باب: الجهاد) ثم مات رضي الله عنه وأرضاه شهيداً بإذن الله عز وجل.(372/24)
سعد بن الربيع من شهداء الأنصار
ومن شهدائهم: سعد بن الربيع الذي قتل يوم أحد، فقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت ليتفقد سعد بن الربيع في القتلى، فلمَّا وجده قال له: كيف تجدك يا سعد؟ قال: أجد ريح الجنة، أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فبلغه مني السلام، وقل للأنصار: لا عذر لكم ما بقي فيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيكم عين تطرف، فجاء زيد بن ثابت فأخبر صلى الله عليه وسلم، فقال: عليك وعليه السلام.(372/25)
البراء بن مالك من شهداء الأنصار
البراء بن مالك هو الذي يقول فيه صلى الله عليه وسلم: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك} وكان البراء إذا دخل في المعركة أقسم على الله، فينصرهم الله عز وجل، فلما التقوا في تستر قال المسلمون: يا براء! أقسم على الله أن ينصرنا هذا اليوم، فتوجه البراء، وقال: [[يا رب! أقسم عليك أن تنصرنا هذا اليوم وأن تجعلني أول قتيل]] فلبس رضي الله عنه أكفانه فنصرهم الله وكان رضي الله عنه وأرضاه أول قتيل.
ولذلك يقول عمر: [[لا تولوا البراء بن مالك جيشاً فإنه مهلكهم]] أي: هو لا يريد البقاء، فيتهالك بنفسه ويدخل بنفسه في غمار المعركة، حتى أنه يوم اليمامة دخل بنفسه وبكل صعوبة خرج رضي الله عنه وأرضاه من المعركة.(372/26)
عمير بن الحمام من شهداء الأنصار
ومن شهدائهم أيضاً عمير بن الحمام: وقف يوم بدر يأكل تمرات في يده، فقال صلى الله عليه وسلم: [[يا أيها الناس! قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض، والله ما بينكم وبين أن تلقوا ربكم إلا أن تقتلوا هؤلاء، أو يقتلكم هؤلاء]] فقال عمير بن الحمام: [[بخٍ بخٍ، إنها لحياة طويلة إذا بقيت إلى أن آكل هذه التمرات، ثم رمى بها، ثم أخذ سيفه وخلع درعه من عليه، وقاتل حتى قُتِلَ]].
وقد ثبت في الحديث: {أن الله ضحك منه؛ لأنه لقي العدو حاسراً بلا درع} ضحك عجباً منه سبحانه وتعالى ضحكاً يليق بجلاله، وفي الحديث: {إن ربك يضحك من الرجل يلقى العدو حاسراً} ومنهم: عمير بن الحمام رضي الله عنه وأرضاه.(372/27)
من عظماء وعلماء الأنصار
أما عظماء الأنصار رضوان الله عليهم؛ فإن الله شرَّفهم برسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ورفع قدرهم، فتعلموا العلم النافع الذي هو قال الله وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان الرجل منهم يبقى مع الرسول صلى الله عليه وسلم السنة والسنتين وأقل من ذلك، فيخرج معلماً ومفهماً للناس؛ لتيسير الله لهذه الشريعة: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:17]؛ ولذلك ينبغي على طلبة العلم أن يفهموا أن هذه الشريعة ميسرة، وقد لمح لذلك ابن الوزير في العواصم والقواصم، وقال: إن الذي عسَّر هذه الشريعة هم القرون المتأخرة، حتى قالوا لطالب العلم وللداعية: لا يمكن أن تخرج إلى الناس أو تنفع الناس حتى تدرس وتحضر وتقرأ وتجمع، وهذا من تلبيس إبليس ليعطل طاقات الأمة، وليلعب بأفكارها، وليضيع الدعاة وطلبة العلم والعلماء من الأمة، وإلا فإن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أحدهم إذا تعلم سورة مضى بها في الناس ينشرها لوجه الله سبحانه وتعالى.
وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وعنده من الأحاديث القليل، لكنَّ بركة العلم ونوره وهدايته جعلته يقوم بهذه المهمة، فالمقصود: الإخلاص وقصد الله بالعمل، وهو المطلوب في هذا الدين، ليس التكثير؛ فإن الله عزَّ وجلَّ يقول: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر:1 - 2].
ويقول مالك بن أنس رحمه الله: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم بنور يقذفه الله في قلب العبد، وحديث يعمل به خير من آلاف مؤلفة لا يعمل بها، وإنما صلاح العلم العمل به ونشره في الناس.(372/28)
أبي بن كعب من قراء الأنصار
من علمائهم في العلم: أبي بن كعب سيد القراء، جاء رجل من أهل العراق، فقال: رأيت عمر رضي الله عنه جالساً بجانبه شيخ أبيض الرأس، أبيض اللحية، يرتعد من الحمى، فقلت لـ عمر من هذا الشيخ؟ قال [[ثكلتك أمك أما عرفته؟! هذا سيد المسلمين أبي بن كعب]].
وكان أبي قد سأل الله عز وجل الحمى؛ لأنه سأل رسول صلى الله عليه وسلم: {يا رسول الله! هل يُكَّفر عنا ما نصاب به من همٍّ وغمٍّ ومرض؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم! حتى الشوكة يشاكها العبد، فقال: اللهم إني أسألك حمى لا تعطلني عن جهاد ولا فريضة ولا حج ولا عمرة H/>>} فمكثت به الحمى ثلاثين سنة، حتى يقول الذهبي: وجد الحمى ثلاثين سنة، حتى ابيضت لحيته ورأسه، وكان كل من اقترب منه يجد فيه الحرارة، فـ أبي هو سيد القراء وعالم من علماء الأنصار.
ومن علمائهم: زيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وأبو الدرداء، وعبادة بن الصامت، وأبو سعيد الخدري، وجابر بن عبد الله رضي الله عنهم وأرضاهم.(372/29)
حسان بن ثابت
صلى الله عليه وسلم، وقال: {أيها الناس! أما يحق لرجال نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسيوفهم أن ينصروه بألسنتهم؟!} لأن الرسول صلى الله عليه وسلم تعرض لهجاء من شعراء المشركين، كانوا يهجون الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله بن رواحة: هأنا يا رسول الله -أي: أنصرك- وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى ذلك، لكن رأى عبد الله بن رواحة ليس في درجة حسان في القوة في الشعر، فقام حسان وقال: {أنا لها يا رسول الله! قال: بماذا؟ قال: عندي لسان لو وضعته على حجر لفلقه، وعلى شعر لحلقه، ثم أخرج لسانه وضرب به أرنبة أنفه، فتبسم صلى الله عليه وسلم، وقال: اللهم أيده بروح القدس} أي: بجبريل.
أتى حسان فكان ينشد له صلى الله عليه وسلم، وكان من بني النجار، وكان صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: {اهجهم وروح القدس يؤيدك} روى ذلك البخاري في باب إنشاد الشعر في المسجد، واستدل بهذا.
مر عمر وهو متولي الخلافة، وحسان ينشد في المسجد -في خلافة عمر فلحظ إليه- كأن عمر يكره إنشاد الشعر في المسجد، قال حسان: [[أنشدت في المسجد وفيه من هو خير منك، ثم قال لـ أبي هريرة: أليس كذلك؟ قال: بلى]].
فهذا من فعله رضي الله عنه، ولذلك كلما أتى شاعر بقصيدة فيها هجاء للرسول صلى الله عليه وسلم؛ قام حسان يذب عن عرض الرسول صلى الله عليه وسلم، يقول في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم والأنصار والمهاجرين يوم بدر يقول:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
انظروا إلى هذا الشرف العظيم، جعل جبريل ومحمد تحت لواء الأنصار رضوان الله عليهم، يقول:
وفي يوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
وأبو سفيان بن الحارث ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، تعرض لمقام الرسول صلى الله عليه وسلم فرد عليه حسان بقصيدة يقول فيها:
عدمنا خيلنا إن لم تروها تثير النقع موعدها كداء
إلى آخر ما قال ويقول فيها:
ألا أبلغ أبا سفيان عني مغلغلة فقد برح الخفاء
بأن سيوفنا تركتك عبداً وعبد الدار سادتها الإماء
هجوت محمداً فأجبت عنه وعند الله في ذاك الجزاء
أتهجوه ولست له بكفء فشركما لخيركما الفداء
فلما سمعه صلى الله عليه وسلم دعا لـ حسان رضي الله عنه وأرضاه، وكان حسان -دائماً- ينافح ويكافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسانه، وقد تعمر حسان مائة وعشرين سنة -ستين في الإسلام وستين في الجاهلية- وتوفي بعد أن أحسن المدائح في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل ثورته وجهده وكل ما معه من مديح في الرسول صلى الله عليه وسلم، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {اهجهم! والله لهو أشد عليهم من نضح النبل}.
حتى إن حسان كان يستهزئ بهم في قصائده؛ لأنه من كبار شعراء الإسلام.
يُذكر أن الحارث بن هشام أخو أبي جهل كان قائد من قواد معركة بدر ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما انتصر صلى الله عليه وسلم فر ببغلته وترك المعركة، وكان الحارث من أكبر زعماء العرب، حتى يقول الشاعر:
أحسبت أن أباك يوم هجوته وسببتني كـ الحارث بن هشام
لكن لما رأى السيوف تعمل عملها في المعركة؛ فر وترك المعركة على بغلة، وأخذ حسان رضي الله عنه هذه الفرصة، وقال في قصيدة طويلة:
إن كنتِ كاذبة الذي حدثتني فنجوت منجى الحارث بن هشام
ترك الأحبة أن يقاتل عنهم ونجا برأس طمرة ولجام
فتمنىَّ الحارث ابن هشام أنه قد قتل وأنه ما سمع هذه الأبيات، كلها خدمة في سبيل الله، ونصرة لله سبحانه وتعالى من الأنصار، فانظر إليهم كيف نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدمائهم وأموالهم وشعرهم، وكل ما أوتوا من قوة؟! حتى أن كعب بن زهير وفد على الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن هجا الرسول صلى الله عليه وسلم وكان قد أهدر النبي صلى الله عليه وسلم دمه فقال: {من وجده من الناس فليقتله} فكان يخرج في القبائل وينام في النهار ويمشي في الليل من خوف القتل، فلما طال عليه الوقت، وطال عليه الجوع والعري والظمأ، أتى فذهب إلى المدينة، ونظم قصيدة للرسول صلى الله عليه وسلم، وأتى فنام عند أبي بكر، وقال: أريد أن تشفع لي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد أهدر دمي في قبائل العرب، والله ما استلذذت بنوم ولا ذقت طعاماً، وما رأيت أهلي، فرق له أبو بكر، وقال: [[هل عندك شعر تقدمه للرسول صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم.
]] فأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر، وسلَّم عليه، وقال قصيدته المشهورة:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول متيم إثرها لم يفد مكبول
ثم قال:
إن الرسول لنور يستضاء به مهندٌ من سيوف الله مسلول
نبئت أن رسول الله أوعدني والعفو عند رسول الله مأمول
إلى أن يقول:
مهلاً هداك الذي أعطاك نافلة القرآن فيها مواعيظ وتفصيل
لا تأخذني بأقوال الوشاة ولم أذنب ولو كثرت فيّ الأقاويل
وقال كل خليل كنت آمله لألهينك إني عنك مشغول
ثم يقول:
حتى وضعت يميني ما أنازعها في كف ذي نقمات قوله القيل
يقول: كلامي صارم وماض! لا يقبل التلبيس ولا التأويل (في كف ذي نقمات قوله القيل) فمدح المهاجرين وترك الأنصار، يقول:
زالوا فما زال أنكاس ولا كشف عند اللقاء ولا ميل معازيل
أي: لماذا تمدح المهاجرين وتترك الأنصار؟ لأن الأنصار غضب منهم كعب رضي الله عنه؛ لأنهم أكثر من نبَّه الرسول صلى الله عليه وسلم عليه، يقولون: عليك بالرجل، فوجدها في نفسه، فما ذكرهم في القصيدة فغضب صلى الله عليه وسلم، فقال: أين الأنصار؟ فأتى في اليوم الثاني، ونظم قصيدة فقال:
من سره كرم الحياة فلا يزل في مقنب من صالحي الأنصار
الناصرون نبيه وكتابه يوم الكريهة بالقنا الخطار
فرضي صلى الله عليه وسلم عنه، وهو صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يذكر في مجلس ولا في عقيدة ولا في أقوال ولا في عمل مما يختص بالولاء والبراء إلا ويذكر معه الأنصار.(372/30)
عقيدة أهل السنة والجماعة في الأنصار
ولذلك لابد وأن نعتقد حبهم حب الأنصار قربة إلى الله عزَّ وجلَّ، وأن بغضهم -نعوذ بالله- من الكفر والنفاق، كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث: {آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار}.
وفعلاً! وُجِدَ من الناس من يبغضهم ويحاربهم، حتى أن مسلم بن عقبة المري، الذي يُسميه أهل السنة والجماعة مشركاً، قاد جيشاً إلى المدينة وحارب أهل المدينة واستباحها ثلاثة أيام، حتى تركهم يستسقون الماء ولا يُسقون، ويطلبون الطعام ولا يُطعمون، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم: {من كاد أهل المدينة أذابه الله كما يُذاب الملح في الماء}.
وجعل صلى الله عليه وسلم من أعظم ما يمكن أن نتوسل به إلى الله هو حب الصالحين والأنصار رضوان الله عليهم.
قال العلماء ممن شرحوا هذا الحديث: إنما نحبهم في الله عز وجل؛ لما فعلوا من نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتاب الله ودينه، لكن ما جرى بينهم كأن يبغض بعضهم بعضاً، فهذا لا يدخل في هذا الباب.
أما في عقيدة أهل السنة والجماعة فنحبهم في الله عز وجل، ونتقرب إلى الله بحبهم، ونرى أن من أبغضهم أنه بغيض عند الله عز وجل، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الناس يزيدون والأنصار ينقصون، فالله الله من تولى من أمر أمتي شيئاً فعليه بالأنصار، ليقبل من مُحسِنهم ويتجاوز عن مسيئهم}.
الناس يزيدون -وهذا بالاستقراء والسبر في الحوادث والتواريخ- كل فئة زادت إلا الأنصار؛ فإنهم أخذوا ينتهون رويداً رويداً حتى لم يبق منهم إلا الأسر القليلة؛ لأن السيف -دائماً- يمضي عليهم، وبالاستقراء في معارك المسلمين التي حضرها الأنصار: كان أكثر الشهداء هم من الأنصار، وأنشأ الله منهم دول بني الأحمر في الأندلس، وينتسبون إلى سعد بن عبادة، ومنهم قبيلة مجاهدة من أقوى المجاهدين الأفغان، والذين كبدوا الشيوعية، وقتلوا الملاحدة، أعظم قتل هم الأنصار، ويسمون في تاريخهم (قبائل كادس) وهم ينسبون إلى الأنصار رضوان الله عليهم، وهم من أشجع القبائل.
جعل الله للأنصار النصر واللواء المعقود، ونسأل الله أن يُوردهم الحوض المورود، ويُوردنا معهم رضوان الله عليهم، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {اصبروا حتى تلقوني على الحوض} لم يقل: يوم القيامة، ولكنه قال: الحوض، وهذا دليل على أنهم يردون معه صلى الله عليه وسلم.
ولذلك جعلهم صلى الله عليه وسلم شعاراً، يقول: {الأنصار شعار والناس دثار} والشعار: هو الذي يلي الجسد، يقول: أنتم خاصتي وعيبتي ونصحي ومشورتي وبطانتي، وما سواكم فهم دثار كاللباس الخارجي.(372/31)
واجبنا نحو الأنصار
إن من الواجب العظيم علينا نحوهم أن نعرف حقهم، ومعرفة حق الأنصار بأمور منها:
أولاً: أن نستقرئ سيرهم، وأن نمعن فيها، ونعرف كيف قدموا للإسلام من نصر وبذل وعطاء ووثاق.
ثانياً: أن نحبهم في الله عز وجل.
ثالثاً: أن نترضى عنهم، وندعو لهم بالمغفرة، وبالدرجات العالية عند الله عز وجل.
اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا.
اللهم إن نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صلِّ على رسولك محمد وعلى آله وصحبه من المهاجرين والأنصار، الذين شرفتهم يا رب العالمين بحماية الدار.
اللهم احشرنا معهم تحت ظلك، وتحت لواء نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، وارض عنهم، واجعلنا ممن يتولاهم ويبغض مبغضهم، إنك على كل شئ قدير.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(372/32)
هجوم على الكعبة
تعرضت الكعبة المشرفة لغزو قبل البعثة، وقص نبأ ذلك في كتابه، في سورة قصيرة تحمل من المعاني والصور واللطائف ما ستجده في ثنايا هذا الدرس إن شاء الله.(373/1)
مقدمة عن سورة الفيل
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
عنوان المحاضرة: (هجوم على الكعبة).
أولاً: وقبل أن أبدأ: أسأل الله ألا يجعل حظنا من هذه المحاضرات واللقاءات هذا المديح الذي تسمعونه دائماً، فإنه إذا كان هذا هو نصيبنا وحظنا فقد خسرنا في الدنيا والآخرة، وقد مُدِح أحد الأئمة من الشافعية أمام الناس فبكى وقال:
إذا كان هذا الدمع يجري صبابةً على غير سعدى فهو دمع مضيعُ
فإذا كانت الثمرة هي هذا الإطراء والمديح، فإن هذا -أولاً- ليس مطلباً للعلماء ولا للدعاة، فإن المديح لقوم يعشقونه ويحبونه ويسعون إليه، ويحاولون من الجماهير أن يقولوا كلمتهم سواء أكانت صادقة أم كاذبة في مديحهم، أما أهل العلم والدعوة خاصة من يخاف الله فهم يريدون منكم الدعاء، فأنا أطلب منكم الدعاء لأهل العلم ولأهل الدعوة على مثل هذه اللقاءات؛ كفضيلة الشيخ جابر المدخلي، وعلى من يكون سبباً في الخير دائماً وأبداً؛ أن يزيده الله تسديداً وتوفيقاً وتأييداً وحفظاً ورعاية.(373/2)
تشريف الله لمكة بجعلها حرماً آمناً
ثانياً: أطلب منكم شكر المولى سبحانه وتعالى على أن جعلكم في هذا البلد الآمن، والله يتحدث لنا عن بيته في القرآن وعن هذا البلد الأمين كيف دافع عنه، وكيف رد عنه المعتدين والغزاة منذ أن بُنِي هذا البيت والله عزَّ وجلَّ يدافع عنه، ولكن اسمع منطق الجاهلية والوثنية، اسمع إلى أبي جهل وأبي لهب وهم يقولون: إذا اتبعنا محمداً تخطفنا الناس من الحرم، فالله يقول لهم: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57] يقول سبحانه وتعالى: أما مَكَّنَّا لهم الحرم؟! أما صددنا عن الحرم الهجوم؟! أما جعلناه حرماً آمناً؟! {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الأنفال:26] وفي سور أخرى يذكِّر الله المسلمين بمن فيهم رسولهم المعصوم عليه الصلاة والسلام ويقول لهم: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} [التوبة:25] فلله الحمد، لكن جزاء هذه النعمة الجليلة أن نشكره سبحانه وتعالى ولا نكفره.
ولا تكون أعمالنا مناقضة لأقوالنا فإن الشكر بالأعمال، ومِن شُكْرِه سبحانه وتعالى أن يصفَّى هذا الحرم الآمن من كل ما يخالف منهج الله في الأرض ومن كل ما يغضب الله عزَّ وجلَّ مِن مِثل الربا، والسفور الفاضح الذي يعارض شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، المعاصي بما فيها: الدخان، والمجلات الخليعة، وأشرطة الكاسيت الغنائية، والفيديو المهدِّم، واللباس المحرم، والاختلاط الآثم الذي نهى عنه ربنا سبحانه وتعالى ورسوله، كل هذه الصور تنافي قدسية هذا المكان واحترام هذا المكان الذي يذكِّرنا اللهُ بها في سورة الفيل.
وإنها بديعة في التصوير وبعض المفسرين يقول: سماهم الله بأصحاب الفيل، ولم يذكر أسماءهم مع أن القائد العسكري هو أبرهة، ولكن من احتقاره عند الله عزَّ وجلَّ ومن صغره وذلته لم يذكر الله اسمه، إنما ذكرهم بأصحاب الفيل، فكأن الذي يقود المعركة هو الفيل، وكأن الذي يدبر الخطط العسكرية الفيل، وكأن الذي يأتي إلى الهجوم على الكعبة هو الفيل، أما هم فإنهم أصحابه وأتباعه فحسب، هذه لمحة يشير إليها كثيرٌ من أهل التفسير.(373/3)
سورة الفيل قصيرة معجزة غنية بالفوائد والعبر
ثالثاً: سمعنا هذه السورة: بسم الله الرحمن الرحيم، {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:1 - 5] هذه السورة في حد ذاتها -وهي من أقصر السور- معجزة وفيها تحدٍّ؛ ولكن فيها عشرون مسألة، ولعلي لا أكون مستطيعاً أن أذكرها برتابة فاعفوني من الرتابة في التسلسل، ولكني سوف أذكر أغلب القضايا التي أشار إليها المفسرون، وأحرص -بإذن الله وهو الموفق عزَّ وجلَّ- على أن أربطها بواقع الناس وبواقع الأمة الذي تعيشه في هذا الزمن، وما هي مفاجآت القرآن؟ ما هو مجرى القرآن في حياتنا؟ ما هو أثر هذا القرآن الذي يُتلى علينا في الدروس والصلوات والمحاضرات واللقاءات؟(373/4)
تفسير قوله تعالى: (ألم تر كيف فعل ربك)
قال ابن عباس: [[الخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، ومعناه: ألم تسمع، لأنه ما رأى]] إذ أن الرسول صلى الله عليه وسلم وُلِد في ذاك العام، عام الهجوم على الكعبة ولد فيه عليه الصلاة والسلام، إذن فهو لا زال طفلاً رضيعاً عمره عند بعض المفسرين (50) ليلة، فلم يرَ أصلاً ولم يحضر عليه الصلاة والسلام ولم يرَ الفيل ولم يرَ الطير الأبابيل.
والرؤية -كما قال بعض المفسرين الآخَرين-: تعني: ألم تعلم، فهي رؤية علمية.
أي: أنه يقول: أما سمعت الأخبار؟ أما قرأت التاريخ؟
وقال بعضهم كـ القرطبي: بل رأى عليه الصلاة والسلام بعض آثار ما وقع لأهل الفيل؛ فإنه رأى صلى الله عليه وسلم قائدَ الفيل وسائسَه مقعدَين في مكة، فالذي قاد الفيل وهو من اليمن والذي ساسه رآهما صلى الله عليه وسلم مُقْعَدَين قد أصابهما العمى؛ فقيرَين يسألان الناس عند البيوت.
فيقول: هذه من آثارهم.
وقال بعضهم: بل رأى عليه الصلاة والسلام بعض الحجارة، فورد في الأثر: [[أن أم سلمة رضي الله عنها كان عندها صحفة مملوءة من الحجارة السوداء المخططة بأسماء جنود أبرهة]] كل جندي باسمه نزل من السماء عليه حجرٌ كالعدسة وكالحمصة، مكتوب عليه اسمه حتى لا يقع في جندي آخر.
فـ أبرهة له حصاة مكتوب عليها: أبرهة الأشرم القائد الأعلى للقوات المسلحة، فلا تغلط، هذه زكاة جنايته، فتأتي عليه مباشرة.
هذه من ضمن لمحات المفسرين.
وقال بعضهم: {أَلَمْ تَرَ} [الفيل:1] أي: ألم نخبرك، وقد أخْبِر عليه الصلاة والسلام بما أوحى الله إليه سبحانه وتعالى، والله عزَّ وجلَّ يستثير رسوله كما قال المفسرون: شوَّاقٌ للخطابات، فيقول: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] حتى يكون صلى الله عليه وسلم سامعاً لما سوف يأتي، ويقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر:6] فالله عز وجل يريد أن يشوق رسوله عليه الصلاة والسلام للقصة حتى يعيشها، وقد أخطأ بعض المفسرين صراحةً حتى من عاشوا للكتب قالوا: حادثة الفيل وقعت قبل مولده عليه الصلاة والسلام بأربعين سنة، وهذا خطأ، وقد ذكر مثل هذا: الأعمش، وعكرمة، والصحيح أنه وُلد عليه الصلاة والسلام عام الفيل وقال ابن إسحاق: ولد عليه الصلاة والسلام عام الفيل، وفي الصحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخْبَر بذلك أنه ولد صلى الله عليه وسلم عام الفيل}.(373/5)
جمال التعبير في قوله: (كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ)
يقول بعض العلماء: إنما قال: ربك؛ ليستعز به عليه الصلاة والسلام، وهذه تسمى النسبة، فإن كل خادم يفرح بمخدومه، حتى ترى مخدوم الباشوات دائماً يفرح أنه ينتسب إليهم، وتجد له سلطة محلية وأثراً في المجتمع؛ لأنه يعرف أن من يسنده قوي، فتجده دائماً يتكلم للناس ببهرجة وبقوة لأنه ينتسب إلى أولئك، فالله عز وجل يقول للرسول صلى الله عليه وسلم: افرح بنسبتنا، أنا ربك، أنا الذي فعل بأعدائك ما فعلت، أنا الذي حطمهم، أنا الذي سحقهم فافرح بنسبتك إلي، حتى أن بعض الشعراء يقول:
شرف النفوس دخولها في رقهم والفخر تحمله من المتعبدِ
وقال آخر:
لا تدعني إلا بيا عبدها فإنه أشرف أسمائي
ولذلك شرف الله نبيه فقال: {الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ} [الكهف:1] وقال: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن:19] وقال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} [الإسراء:1] فهو عبده، ثنى العبودية له عليه الصلاة والسلام، وفي الصحيح: {لا تَطْرُوني كما أطْرَتِ النصارى عيسى بن مريم إنما أنا عبد الله ورسوله} فيحب عليه الصلاة والسلام هذه النسبة.
حتى نُسِبَ لأحد الشعراء في القرن الرابع أنه قال:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
وقال: ربك، ولم يقل: ربهم، فإن هذا ليس فيه اشتراك، فالله رب الجميع؛ فرب أبرهة هو الله، ورب الفيل الله، ورب عبد المطلب الله، ورب الرسول الله، ولكن لما أتى في موقف التمايز لأن هنا هجوماً ودفاعاً، هنا حزبان، هنا أناس يؤمنون بالله ويحملون المبادئ الخالدة، وأناس يحملون لواء الشرك، فقال: ربك، ليس بربهم الآن، هو ربهم صراحة -كما يقال- ربوبية في العامة، أما الربوبية الخاصة فلمحمد عليه الصلاة والسلام.(373/6)
قصة أصحاب الفيل
{بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1]:-
أولاً: اسمحوا لي أن أذكر لكم القصة مختصرة، ثم أبدأ بالتفاصيل على ما قال أهل العلم وأهل التفسير، ثم نخرج بقضايا ودروس.
مجمل القصة: أن أبرهة الأشرم كان نصرانياً يحمل دين المسيح، وهؤلاء يحملون مبادئهم حتى ولو كانوا في عصر الجاهليين؛ فإن الإنسان لا بد أن يعيش بعقيدة، فتجده يضحي من أجل عقيدته ولو كانت باطلة ولو كانت بعثية أو ماركسية أو شيوعية أو علمانية، بل هم أكثر تضحية من كثير من المسلمين، حتى تجد من طلبة العلم من وسوس له الشيطان فشغله بنفسه عن أن يكون معسكراً وحاملاً للمبادئ، ورجلاً للكلمة، وصاحب قرار آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، أبرهة ليس من هذا الصنف، أبرهة يحمل مبدأ، بنى كعبة في صنعاء، وطلب من العرب أن يتجهوا لها ويتركوا كعبة الله في البيت العتيق، أخذته قذر النجاسة والنحاسة واللقافة فبنى تلك الكعبة وجعلها أكبر من هذه الكعبة؛ فغضب العرب ولطخوا كعبته، فغضب هو وأقسم بآلهته أن يطأ أرض الحرم وأن يهدِّم كعبة الله، هذه رواية، وقال بعضهم: بل إن ملك النصارى في الحبشة القائد الأعلى لها ورئيس أبرهة أمره أن يذهب إلى أرض العرب فيحطِّم كعبة العرب التي بناها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام، فجهز جيشاً عدده ستون ألفاً، بقي عليهم عشرة ويصبحون كجيش أبي إسحاق:
سبعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
وقيل: تسعون ألفاً، ومشى بستين ألفاً ومعه فيل جعله في أول الجيش، وبعضهم يقول: ثمانية فيلة؛ ولكن الذهبي يقول: الفيل الذي ذكر في القرآن كأنه متميز؛ ولذلك لم يذكر الله السبعة الباقية، فدعا بالفيل وركبه ومشى واخترق قبائل الجنوب ولم تعترضه إلا قبيلة ماعز وشهران، فسحقهم وغلبهم، وقامت له قبيلة خثعم، فغلبها، وهذه صراحة بالنسبة لعصرنا تسمى قوة عظمى، فالدول العظمى بالمفهوم العصري الآن مثل أمريكا والاتحاد السوفيتي سابقاً، أو ما يحل محلها كـ الصين أو فرنسا أو بريطانيا، فهم كانوا عند العرب قوة عظمى، فما استطاعت القبائل المقاومة فانهزمت، حتى وصل إلى الطائف، وحصل بعض المقاومة لكن أبا رغال أحد الممسوخين الخاسرين قام وقال: أدلك على طريق البيت؛ لأن أهل الطائف اعتذروا إلا أبا رغال هذا، فلما دله ومات أبو رغال أخذ العرب يرجمون قبره، فكان كل عربي إذا أراد أن يحج يمر أولاً بـ الطائف ليرجم قبر أبي رغال؛ لأنه دل أبرهة.
ونزل أبرهة وأصبح في المغمس، تمركز في المغمس، والحقيقة أن أول الجيش قد يكون في المغمس وهو في طرف مكة كما تعرفون من جهة الطائف، وأوله كان في وادي محسر الذي نهرول فيه لأنه موطن عذاب، فكيف بمن يصاحب أهل العذاب ويجالس أهل المعاصي وأهل المنكرات؟! وكيف بمن يرضى بهم إخوة؟! وكيف بمن يعكف على معاصيهم؟! وكيف بمن يجعلهم أولياء له؟! ستجدهم أخلاء له في الدنيا والآخرة، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67].
فما دام أنه مكان عذاب فقد أُمرنا أن نسرع فيه في الحج؛ لئلا يصيبنا ما أصاب أولئك، فكيف بمن خالطم ورضي أفعالهم واتخذهم من دون الله أولياء؟ {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة:22].
وَصَل هناك ونزل، ثم أرسل جنوده فجمعوا كل إبل الحرم وغنمه ومواشيه وجماله وجعلها وراء البيت، هذا أول فعله، أما كفار قريش فأتاهم الخبر، والمشرك مهزوم من الداخل، المشرك لا يحمل لواءً، ولذلك لا تحارب بمشرك، وأحد العقديين في هذا العصر يقول في مذكرة له: موحِّد واحد يغلب ألف مشرك.
أي: ألف مخلِّط، ولذلك لا نلقى العدو بمشركين، ولا منهارين، ولا مبتدعة، لا بد من إخلاص التوحيد، فإنه لو كان في الحرم موحدون لرفعوا (لا إله إلا الله) ولخرجوا يلبسون الأكفان.
يا بني قومنا سراعاً إلى الله فقد فاز من يموت شهيدا
سارعوا سارعوا إلى جنة قد فاز من جاءها شهيداً سعيدا(373/7)
استطراد في غزو بريطانيا لليمن
معذرة: فقد أرادت بريطانيا أن تعتدي على اليمن من عدن، وكان هناك في إحدىالقلاع من يحمل لواء التوحيد في عهد بريطانيا عند احتلالها عدن، فقد زحفت بدباباتها وطائراتها وأخذت تضرب صنعاء، فقام أحد العلماء -والقصة مشهورة وربما كررتُها- فأخذ في خطبة يوم الجمعة يكلم اليمنيين الموحدين أن يصدوا هجوم الإنجليز، فيقول لهم على المنبر في خطبة الجمعة بعد أن حمد الله وأثنى عليه، يقول مخاطباً بريطانيا:
يا بريطانيا رويداً رويدا إن بطش الإله كان شديدا
إن بطش الإله أهلك فرعو ن وعاداً من قبلكم وثمودا
والطائرات تضرب صنعاء وهو في أثناء الخطبة يقول:
لا تظنوا هدم المدائن يوهي عزمنا أو يلين بأساً صلودا
إن تبيدوا من البيوت بطيار اتكم ما غدا لدينا مَشِيدا
فلنا في الجبال تلك بيوت صنَعَتْها أجدادنا لن تبيدا
فالنزال النزال إن كنتم مِـ مَّن لدى الحرب لا يخاف البنودا
يقول للطيارين: انزلوا في الأرض، نحن لا نستطيع أن نصعد إليكم، ولكن إن كنتم رجالاً فانزلوا.
لتروا من يبيت منا ومنكم موثقاً عند خصمه مصفودا
ما خضعنا للترك مع قرب الديـ ـن منا فكيف نرضى البعيدا
يقول: ما خضعنا للترك وهم مسلمون، فكيف نخضع لكم أنتم أيها الإنجليز الخواجات أعداء الله ورسوله؟!
وهم في الأنام أشجع جيش فاسألوهم هل صادفونا فهودا؟!
أفترجوا إنجلترا في بلاد الله تباً لسعيها أن نبيدا
كذبت -والإله- لا كان إلا بعد ألا نبيد أو أن تبيدا
بعد أن تُسفك الدماء على الـ أرض وتروي حقولنا والمزيدا
يا بني قومنا سراعاً إلى اللـ ـه فقد فاز من يموت شهيدا
وهذا هو الشاهد، سراعاًَ إلى الله -إلى الجنة- وقد قالها عليه الصلاة والسلام في بدر، وقالها في أحد، وأخبر أن الجنة تُفتح لأولياء الله الذين يسندون ويحامون ويذبون عن مبادئهم، فقد فاز من يموت شهيداً.
سارعوا سارعوا إلى جنة قد فاز من جاءها شهيداً سعيداًَ
والبسوا حلة من الكفن الغالي وبيعوا الحياة بيعاً مجيدا
خرج اليمنيون، ولبسوا الأكفان، وأخذوا البنادق، فهزموا بريطانيا وردوها.(373/8)
تكملة قصة أصحاب الفيل
فلو كان عبد المطلب موحداً لخرج بالأكفان ولأعلن صيحةً على الصفا، ووقف عند الحجر الأسود وألقى خطبة توحيد حماسية، لكن ماذا فعل؟
ترك الساحة وأتى إلى كفار قريش وهم منهارون ليس عندهم مبدأ قال: تسلقوا رءوس الجبال، واحتموا برءوس الجبال، فخرج ليأخذ أطفاله ويحملهم ويأخذ زوجته بيدها ويترك أمواله، حتى إن بعض المفسرين يقول: تركوا الذهب وحفروا له حُفَراً.
انظر إلى الجبن! خائفون من الكيماوي! وفروا إلى رءوس الجبال، ومن كان لديه قليل من الذهب والفضة حفر له في الأرض وصعد بأهله وبذريته إلى رءوس الجبال، أما عبد المطلب وهو القائد العسكري وأشجع القوم فقد بقي لحظات، فتذكر أن إبله في المغمس ترعى قدرها مائتا جمل، فأخذ عصاه وذهب بأعيان مكة، وقال: استأذنوا لي على أبرهة أكلمه، وظن أبرهة أن الرجل سوف يفاوض وأن عنده اقتراحات وأنه قبل (15) يناير عنده خطط سلمية، قبل الاعتداء!! وعبد المطلب هو جد الرسول صلى الله عليه وسلم، كان جميلاً طويلاً كأنه القمر ليلة أربعة عشر، وكان داهية من دهاة العرب؛ لأن الله لا يرسل إلا من أناس ذوي رِفعة، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب}.
فلما رآه أبرهة خشع له ووقره ونزل عن سريره واستقبله على البساط في الأرض، قال: ما عندك؟ قال المترجم: يريد رد ماله وإبله، قال: ظننتُ أنك عاقل رشيد، بيتك ودينك ودين آبائك أتيت أهدِّمه، وتطلب في الجمال! ردوا له جماله أما البيت فسأجعله حتى أجعله قاعاً صفصفاً، وكان عبد المطلب ذكياً؛ لأنه يدري أن المقاومة فاشلة ومنتهية طبعاً، فالمشركون لا يستطيعون المقاومة، فلاحظوا أن أولئك أقرب إلى الله؛ لأن أبرهة نصراني أقرب إلى الله من حيث الديانة المسبقة، قال: أنا رب الإبل وللبيت رب يحميه، فسلَّم له الجمال وأخذ يسوقها حتى أدخلها في بيته بـ مكة، ثم أخذ حلق الكعبة ووقف يهزها وهو يخاطب الله:
يا رب إن المرء يمنع رحله فامنع رحالَكْ
لا يغلبنَّ صليبهم ومحالهم أبداً محالَكْ
يقول: يا رب! الرجل منا يمنع بيته ويحمي بيته بالسلاح، وأنت احمِ بيتك، أنت الذي كلف إبراهيم عليه السلام أن يبنيه، امنع بيتك واحمِ بيتك، ثم قال: لا يغلبن صليبهم، أتى بالصليب، والصليب قديم، وسوف يبقى ما بقوا في الأرض يقول: إنهم أتوا يحملون الصليب أنا رأيتهم، قال:
لا يغلبن صليبهم ومحالهم أبداً محالَكْ
ثم ارتفع، فلما صعد إلى رءوس الجبال بعد أن علم أن المحاولة فاشلة، وأنه لا يستطيع المدافعة، فوقف كفار مكة يتفرجون كيف تُهْدَم الكعبة، وينظرون من أين يدخل أبرهة الآن ورأوا أطفالهم عندهم وزوجاتهم وشاهدوا الموقف؛ ولكن يقول الله عزَّ وجلَّ: {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ * أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف:79 - 80] توقف الدهر وتوقف التاريخ، وانتظر الناس ما سيحدث، فليس هناك قوات مسلحة أصلاً تحمي البيت، وليس هناك حكومات موجودة تحمي علم الإسلام، وليس هناك صواعق تنزل، ولا رياح يشاهدونها ولا طوارئ في الكون لكن انتظروا، وحرَّك أبرهة الفيل، الآن بدأ الهجوم، حركه في المحسر، فمضى الفيل قليلاًَ ثم لف وجهه إلى الجهة اليمانية، فضربوا وجهه وحوَّلوه فأبى أن يذهب، أي: (غرَّز) حاولوا فيه ولكنه رفض، يوجهونه إلى اليمن فيمشي، ويوجهونه إلى البيت فيأبى، لأن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يأبى.
لما أتى الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ونزل على الصلح حرَّك ناقته فوقفت مكانها، فضربها صلى الله عليه وسلم فرفضت، فأتى الصحابة قالوا: {خلأت ناقة الرسول عليه الصلاة والسلام -أي: انهارت وفشلت وخارت قواها-قال صلى الله عليه وسلم: لا والذي نفسي بيده، ما خلأت وما هو لها بخلق، ولكن أدركها ما أدرك الفيل}.
فلا تحسبن هنداً لها الهجر وحدها سجية نفس كل غانية هندُ
لا تحسب الناقة أن هذا هو سببها، بل سببها هو سبب الفيل، والفيل سببه هو سبب الناقة.
وحينها ترجل عليه الصلاة والسلام وأراد المصالحة، وأخذ سهيل بن عمرو يصالحه، لأنه تذكر صلى الله عليه وسلم أن الناقة خافت، لأن هذا البيت له قداسة والله سبحانه وتعالى يحميه.
في الأخير: أمر أبرهة أن يتحرك الجيش، فبدأت الطوابير تزحف؛ ولكن قدرة الباري سبحانه وتعالى أعظم، وإذا بجبال مكة تُثار بطير أتت من جهة البحر -كما قال بعضهم- وقال بعضهم: بل خلقت من شيء من السماء، بكلمة (كن) فكانت، وسمعت أنا بعض العصريين يقول: انطلقت من قواعد {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] والحقيقة أني رأيت في (تفسير القرطبي) أنه أتى بأمور عجيبة، وقال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه: [[كان للطير مخالب كمخالب الكلاب]] وقال بعضهم: كان الطائر الواحد يحمل ثلاثة أحجار، حجر في منقاره، وحجر في رجله اليمنى وحجر في رجله اليسرى، وسارت كالغمامات، حتى أن صاحب (الظلال) يسميها: جولات استطلاعية.
ولك أن تسميها أنت؛ لكن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يهلكهم بهذا، فثارت عليهم ثم وقفت على رأس البيت كالغمامة، وأخذت تنزل حمولتها؛ لكن الصحيح عند أهل العلم أنها لم تعُد مرة ثانية لتحلِّق، كانت الواحدة منها فقط تنقل مرة ثم تذهب ولا تعود، فأصابت أول الحجارة، فكانت لا تُخْطئ، وقال: لم يخطئ ولو حجرٌ واحدٌ جندياً واحداً؛ لأن الرامي هو الله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] فالرامي حقيقةً هو الواحد الأحد.
رمى بك الله جنبيها فهدمها ولو رمى بك غير الله لم يُصِبِ
وبقيت على هذا فترة، قالوا: وكان كلما انتهى فوجٌ منها أتى فوج، وقالوا: وكانت تأتي من جهة البحر الأحمر، حتى أن بعض المفسرين قالوا: ربما ثارت من جانب البحر، أما الحجارة فليست من حجارة الدنيا، بل صنعها الله بكلمة (كُنْ) وقال مجاهد: لفَّتها الريح حتى اشتدت فأصبحت حارة قوية، فكانت الطيور ترمي على الناس، وكان تقتل الجيش حتى قُتل كل الجيش، ولم يبقَ إلا أبرهة واثنان أو ثلاثة معه، أما أبرهة فأراد الله أن يعذبه، فتساقط جسمه أُنْمُلة أُنْمُلة، فكان كل عضو يسقط منه، حتى أصبح كالفرخ الصغير في صنعاء، ثم تفجر صدره وخرج قلبه منه {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] وقالوا: الفيل أخذ حسابه وقُتل في المحسر، حتى أن بعضهم قال: بل رجع ثم أرسل الله عليه صاعقة فأحرقته.
إن من المهم أن الله أهلك هذا الجيش، وهو ستون ألف مسلح من أقوى جيوش العالم في ذاك العصر، مع أقوى قائد، أرسل الله عليهم طيراً أبابيل، ولذلك يقول سبحانه وتعالى لأعدائه: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:29] وفي سورة يس يقول: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس:28] قال أهل العلم: لأنهم لا يستحقون أصلاً أن يرسل عليهم بجنود من الملائكة، فهم أصغر وأحقر من ذلك، بل يكفيهم طير، كما أن النمرود لما عصى الله وتعدى حدوده وانتهك محارمه؛ سلط الله عليه بعوضة، فدخلت في أنفه فوَلْوَلَت وأهلكته.
فأعداء الله يهلكهم سبحانه وتعالى بمصارع سهلة سهلة حتى يُضْحِك عليهم التاريخ والدهر.
هذا ملخص القصة، ولكن نعود مع قضايا السورة، والعجيب أن الله عزَّ وجلَّ في كتابه سبحانه وتعالى لم يدخل في تفاصيل القصة؛ لأنه ليس هناك مصلحة تتعلق بها، ولذلك لا يتكلف العبد أن يأتي بأمور ما وردت في الأحاديث الصحيحة، إنما أتى الله بموجز عن القصة يذكر الرسول عليه الصلاة والسلام، فيقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1] وإنما سماهم أصحاب؛ لأنهم اصطحبوا معهم الفيلة واغتروا بقوتها، وهم أقل عقولاً وتدبيراًَ وذكاءً من الفيل، وكما يقول العرب:
أَرَبٌّ يبول الثعلبان برأسه لقد ذل من بالت عليه الثعالب
ولقد خاب من كانت سيادته بيد الفيل، ولقد خاب من سماه الله عز وجل صاحب الفيل، فجعلهم الله عزَّ وجلَّ نكالاً للآخرين.
أما الفيل -أيها الإخوة- فإن سبب اختياره -وهذه لمحة وقد أشار الجاحظ في كتابه (الحيوان) إلى شيء من هذا- هو:
أن الفيل أكبر الحيوانات؛ ولذلك استطاع أن يمشي معهم.
ثم إنه غبي؛ ولذلك ورطوه في هذه المقتلة، والواجب عليه -لو كان عنده ذرة عقل- ألا يتدخل معهم في هذه الحرب الخاسرة؛ لأنها مكشوفة من أول الطريق؛ لكنه ثقيل الدم، حتى أن ابن الرومي يقول لأحد الثقلاء:
أنتَ يا هذا ثقيلٌ وثقيلٌ وثقيلُ أنتَ في المنظر إنسانٌ وفي الميزان فيل
وتقول العرب: لا يحس الفيل بالخوف أبداًَ؛ ولذلك اختير لأن يكون في أول الجيش، وتقول العرب: الخيل إذا رأى الهجوم فر، والحمار إذا رأى الهجوم فر، والبغل إذا رأى الهجوم فر، إلا الفيل فإنه لا يفر؛ ولذلك قاتل به أنو شروان، ورستم في القادسية، وقاتل به الأعاجم دائماً، فهو لا يفر؛ لأن قلبه ثقيل؛ حتى يقول كعب بن زهير:
لقد أقومُ مقاماً لو أقومُ به أرى وأَسْمَعَ ما لو يسمع الفيل
ُ
يظل يرعد إلا أن يكون له من الرسول بإذن الله تنويل
يقول: يا رسول الله! سامحني، اعف عني، والله إنك خوَّفتني يوم أهدرتَ دمي إلى درجة أن الفيل لو هدَّدتَه لخاف وهو فيل، فكيف بي أنا عبد؟! فاختير لهذا، ويُجْمَع على: أَفْيال، فِيَلَة، وفُيُول، هكذا جمعُه، وما علينا مِن جمعِه؛ لكن الله جمعه وأصحابَه في وادي محسر وأهلكهم.(373/9)
تفسير بقية السورة
.(373/10)
نسبتهم إلى الفيل وكيدهم في تضليل
{أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل:1]:-
قالوا: سكت الله عزَّ وجلَّ عن تفصيل الحادث لأنه حادث عظيم، والله عزَّ وجلَّ يعمم في القرآن ويهوِّل؛ ولذلك لا يذكر الله عزَّ وجلَّ التفاصيل، مثل قوله: {فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى} [النجم:54] ولم يخبرنا ماذا غشَّى، وقال في سدرة المنتهى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم:16] ولم يخبرنا ماذا يغشى السدرة حتى أخبرنا الرسول عليه الصلاة والسلام، وهذا من هول المقام، أنك تهول الحادث، ولذلك تقول العرب: لقي جزعه، لقي ما لقي، ووجد ما وجد، وحصَّل ما حصَّل.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2]:-
هذا يُسَمَّى لفّاً ثم يأتي النَّشْر، فهذا اسمه: لف ونَشْر.
{أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2]: قال أهل العلم: كادوا كيداً وكاد الله كيداً، فغلب كيد الله كيدهم، وعند أهل السنة لك أن تطلق أن الله يكيد بمن كاده؛ لكن ليس من صفات الله أنه يكيد كيداً مجرداً أو مطلقاً؛ فإن الله يمكر بمن يمكر به، والله يخادع من يخادعه، ويستهزئ بمن يستهزئ به، والله عزَّ وجلَّ يقول: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] وقد ذكر سبحانه وتعالى أنه يستهزئ بمن يستهزئ به، وقال سبحانه وتعالى: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79].
أما المكيدة في هذا فهي في أمور:
أولاً: من المكيدة أن أبرهة الأشرم أخذ العيون عن العرب، فلم يدرِ كفار قريش حتى نزل في الحرم، لم يدرِ كفار قريش -وهذه النتيجة- أنه أغلق عنهم العيون والجواسيس وقطع عنهم الخطوط الإمدادية حتى وصل.
الأمر الثاني: شتت شمل العرب مما جعل القبائل خلفه.
الأمر الثالث: من المكيدة أنه لم يهاجم كفار قريش في بيوتهم، وإنما هاجم البيت وحده، إذ أنه لو هاجمهم لربما دافعوا، بل قال: انظروا الكعبة، خلوا بيني وبين الكعبة، فأبطل الله كيده وقال: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2] أي: في ضياع وخطأ، وكل من كاد الله جعل الله كيده في نحره، ولذلك يُحذِّر من محاربة الإسلام؛ لأنه مهما رأيت الباطل ينتفش ومهما رأيته يعلو فإنه سوف ينهار لا محالة، ولذلك لا تغتر الآن بالصيحات الإعلامية القائلة: إن المسلمين أُبيدوا بكذا، وأنهم اضطهدوا، وأنهم سجنوا، فإن العاقبة للمتقين، والله عزَّ وجلَّ يقول: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:51 - 52] واسمع الله يقول: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] ويقول سبحانه وتعالى: {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] إلى آيات كثيرة يخبر سبحانه وتعالى فيها أن العاقبة والنصر لأوليائه لا محالة، فلذلك لا تستبطئ نصر الله، ولا يهولنَّك ويهمنَّك ما ترى من كثرة إبادات المسلمين، أو علمائهم، أو دعاتهم، وقيام الكفار عليهم، وكثرة جيوش الكفر وتخطيطه ومكره فإن الله ولي الذين آمنوا.
قال: {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل:2] وما بعد هذا الكيد من كيد، وما بعد هذا التضليل من تضليل ولذلك لا يُسمع بجيش في جاهلية ولا إسلام رجع بنتيجة سيئة وبهزيمة كما رجع أبرهة، رجع باثنين معه، ورجع وجسمه يتساقط في الطريق، وخسر ستين ألفاً كانوا معه، وهم من أكثر أعداد الجيوش في ذلك العصر.(373/11)
إرسال الطير عليهم وقتلهم شر قتلة
قال: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ} [الفيل:3]:-
أبابيل: قال مجاهد: مجتمعة، كانت تأتي أفواجاً كالغمامة، وقال بعضهم: متفرقة، والله أعلم، ومفرد أبابيل: إِبُّوْل، وإِبِّيْل، ولا يهمنا هذا، ولكن قيل: أبابيل -كما يقول بعض المفسرين- لأن لها هَمْهَمَة، ويقال: إذا أقبلت سمعوا لهذه الطيور زمجرة وصياحاً وإنذارات مبكرة حتى تختفي، وقال بعضهم: لا.
بل كانت تأتي على صفوف، فكان الصف الأول ينزل حمولته، ثم يأتي الصف الثاني ويلقي ما معه، ثم الثالث، وكأنها مرتبة من الواحد الأحد فسبحان الذي علَّم! وسبحان الذي خلق! وسبحان الذي كتب الكتاب على الصخور! وسبحان الذي أرسل! وسبحان الذي أعد! انظر إلى قدرة الباري، ولله عزَّ وجلَّ في خلقه شئون، وقد يستحدث الله الأمر في لحظة، فلله جنود لم تروها، وجنود ترونها.
قال: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:3 - 4]:-
سجيل: وورد أيضاً: سجين وهو طين محموم، فيجوز هذا عند أهل اللغة أن تكون بالنون وباللام مثل قولك: جبريل، وجِبرين عليه السلام، الأرض تمطر سجيلاً وسجيناً، والحجارة من السجيل يقال: إنها حجارة مغلية، أُغْلِي عليها، الله أعلم أين أُغلي عليها! وأين خُلِقَت! خُلِقَت بكلمة {كُنْ فَيَكُونُ} [البقرة:117] ثم كُتِبَ اسم الجُنْد عليها، وكانت عند أهل العلم سوداء، وقال بعضهم: محمرة، وكتب عليها أسماء الجنود، وكان يحمل الطائر الحجارة ثم يلقيها كما سلف معنا.
قال: {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل:4] وفي الآية جمال بلاغي اختتمت باللام؛ لأنه من لوازمها أن تختم باللام، لأن كلمة الفيل في آخرها لام، فالله عزَّ وجلَّ لجمال القرآن أراد أن يختم أواخر الآيات بفواصل جميلة وهي: اللام، فأتى بها سبحانه وتعالى، ومنها قوله: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5].
قال: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5]:-
العصف المأكول باختصار هو: الزرع إذا أُكل، وقيل: الزرع إذا قطِّع، وقال بعضهم: العصف المأكول هو: النبت الذي لا ثمر فيه؛ فإنهم لا ثمرة فيهم أبداً؛ لأنهم سحقوا وما كان عندهم مبادئ، ولا يحملون أفكاراً، والله سمى أعداءه أنهم كالوحوش وكالبهائم، قال سبحانه وتعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] وقال عنهم سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} [محمد:12] فانظر إلى هذا الرابط من التشبيه أن جعل سبحانه وتعالى هؤلاء الحقراء الأعداء الجبناء كالعصف الذي لا يحمل ثمرة، والذي لا يقوم بمبدأ، ولا يحمل رسالة، وليس عنده تأثير ولا إيمان ولا توحيد، فهو كالزرع الذي لا يحمل ثمرة.
أما لماذا وصفهم الله بالعصف المأكول: فإن منظرهم يوم قتلوا كمنظر العصف الذي وقعت فيه البهائم، أي: عاثت فيه تماماً، ولعبت في لعباً، حتى أنه يُقال: كان يوجد رأس الجندي على مسافة أميال من جثته، ورمي بحجر، وقال بعضهم: كان الحجر يقع على رأسه ويخرج من دبره والعياذ بالله، وقال بعضهم: يقع الحجر في كتفه ويخرج من الجهة الأخرى، أي: أن الجنود مُزِّقوا تمزيقاً عجيباً، حتى أنه وُجد أن الجيش الستين ألفاً في مساحة ضيقة في وادي محسر، وكلهم (مُلَخْبَطُون) أولهم على آخرهم، فيقول سبحانه وتعالى: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل:5].(373/12)
العبر والعظات المستفادة من سورة الفيل
.(373/13)
رفع معنويات النبي صلى الله عليه وسلم
الأمر الأول: رفعٌ لمعنويته عليه الصلاة والسلام:-
أي: إن الذي نصر الجاهليين وهم مشركون، وصدَّ عنهم العدوان، فسوف ينصرك وأنت الذي يحمل رسالته ويسجد له ويسبح بحمده، فتوكل عليه، فما دام أن الله دافع عن البيت، وهو يقول لكفار قريش: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص:57] فالله يدافع عن حرم المشركين وهم مشركون فكيف بالمؤمنين؟!
ولذلك نأخذ من هذا الدرس من العنصر الأول: إن هذا البيت لا تحميه قوة في الأرض؛ لأن الله سبحانه وتعالى تكفل بحمايته، وإن من لوازم الحماية أن يُشكر سبحانه وتعالى حتى يُدافع سبحانه وتعالى عن مجموع الحرم، أما البيت نفسه، فقال أهل العلم: لا يمكن الاعتداء عليه، إلا إذا كتب الله في آخر الزمان -كما ثبت في الصحيح-: {أن جيشاً من الحبشة سوف يُقدم على الكعبة فينثرها حجراً حجراً بقضاء من الله وقدر} لكن قبل هذا لا يستطيع أحد أن يمس الكعبة؛ لأنها بيت الله.(373/14)
منة الله على أهل الحرم
الأمر الثاني: أن في هذا مِنَّة مِن الله سبحانه وتعالى على مَن هم حول الحرم:-
فإن الله سبحانه وتعالى ذكرهم بنعمه؛ أنه صد عنهم المعتدي والغازي وقال سبحانه وتعالى على لسان إبراهيم: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:35 - 37] فاستجاب الله دعاءه في بلد من أجدب بلاد العالم ومن أكثر بلاد العالم قحالة وجدابة وقحطاً، ورزقهم الله سبحانه وتعالى الثمرات من كل أنحاء الأرض، الآن لك أن تدير نظرك في المتاجر وتنظر في المحلات، يحج الحجاج وعددهم يصل إلى الملايين فلا يشكو أحدهم جوعاً، ولا ظمأ، ويمر الإنسان بأنواع الفاكهة، وأنواع اللحوم، بينما يرى الصخور حول الحرم لا تنبت ولا تزهر ولا تثمر؛ لا نهر ولا ساقية، ولا جدول ولا غدير، ولا بستان ولا حديقة، إلا ما ثمره الناس أنفسهم في الحدائق، ومع ذلك جعلها الله بلداً آمناً مطمئناً {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] لا يشعر بخوف.(373/15)
تحدي أهل المبادئ الهدامة
في ذلك تحدٍ لأهل المبادئ الهدامة ولأعداء الله عزَّ وجلَّ عموماً وخصوصاً، ولمن يحمل كل فكر يعارض الله في الذي أنزله على رسوله عليه الصلاة والسلام أن يكون جزاؤه كهذا الجزاء، فالباطل مهما انتفخ سوف ينمحي لا محالة وينهار، فلا يفرح به، ولذلك تجد المهزومين هزيمة معنوية نفسية في داخلهم يقولون: يا أخي! من تحارب أنت؟! أتحارب هذه القوة العظمى، الخمس الدول الدائمة العضوية؟! أتحارب هؤلاء الذين صنَّعوا الذرة والقنبلة النووية، وما أدري ما بعده؟! يا أخي! دعنا نكون واقعيين نكون واقعيين؟ نعم.
ولكن مع الكتاب والسنة، وأن الله أقوى، وأن الله سبحانه وتعالى له الحكمة البالغة، ولذلك يقول عن نفسه سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] وهؤلاء لا يهمون المسلم أبداً في قليل ولا كثير؛ فإن الله قال عنهم: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110].(373/16)
النصر لله ولرسوله ولحرمه
أيضاً -أيها الإخوة- من حقوق هذا البيت علينا -كما أسلفتُ؛ لكني أبسط هذا بسطاً مقرباً- أن نكون أنصاراً لهذا البيت، ولا نكون أنصاراً له إلا إذا اعتنقنا رسالة من بُعث في هذا البيت وهو الرسول عليه الصلاة والسلام، وحملناها بقوة وبتضحية وبجد وبإخلاص ونشرناها في الناس، ولا نكون أمناء على هذا البيت إلا إذا أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} [الحج:41] وأعظم تمكين أن نكون حماة البيت، وأعظم تمكين أن نكون مجاورين للبيت، وأعظم تمكين أن يجعلنا الله سعداء بالصلاة في هذا البيت: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج:41] وما أحسن ختام الآية! أي: يوم أن يُقلب ظهرُ المِجَن يَقلب الله مِجَنَّه.(373/17)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
ومنها أيضاً أن علينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر من أجل قداسة هذه البلاد، فإن لها قداسة خاصة، لا تعصباً لبلد على بلد، ولكن مأوى القلوب، ومهبط الوحي والرسالة، ومقر البيت الأمين، والحجر الأسود، وزمزم، فلهذه القدسية علينا أن نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.(373/18)
تجنيب هذا البلد المعاصي الظاهرة والباطنة
ومن حقوق هذا البلد أن نجنبه المعاصي الظاهرة والباطنة، كالبنوك الربوية، فإنه لا يجوز أصلاً وجودها في العالم الإسلامي، وفي الحرم أدهى وأمر، فإنه لا يجوز بحال من الأحوال أن تبقى، ولا يجوز تَكشُّف المرأة في بيت الله الآمن الذي دافع عنه سبحانه وتعالى، والذي أرسل الطير الأبابيل من أجل بيته، ولذلك له قداسة، ومن قداسته ألا يُلوَّث بمعصية، وقد رئي أن المرأة تدخل الحرم بدون عباءة وغطاء، ثم تأتي وتطوف ببيت الله الذي دافع عنه سبحانه وتعالى، والذي ذكَّر الله الناس بنعمه، فتجد المصلين بالألوف لا يأمر أحدٌ منهم ولا ينهى، وتجد الاختلاط والمناظر التي لا تصلح.
ومن تدنيس هذا البيت كذلك: أن تجد المناظر التي تخالف شرع الله عزَّ وجلَّ في مثل المتاجر التي تحيط بالحرم، وهي تبيع المعاصي التي نهى عنها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، وأجمع أهل العلم على تحريمها، مثل: أشرطة الغناء، ومحلات الفيديو، ومحلات المجلات الخليعة، ومحلات الألبسة الكاشفة العارية التي تظهر المرأة في صورة مزرية، والغش والدجل، وجلوس كثير من الناس في الحرم يغتابون ويقطِّعون أوقاتهم في القيل والقال وفي الاعتداء على أعراض المسلمين، فالبدع التي تشاهَد أحياناً في الحرم، وهي تخالف منهج الرسول عليه الصلاة والسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.
وقف عليه الصلاة والسلام عند الكعبة -وهذا الحديث يُروى عنه- فقال: {ما أعظمكِ وما أشد حرمتكِ! ووالذي نفسي بيده، لَلْمسلم أعظم حرمةً منكِ} ونظر عليه الصلاة والسلام وهو في حمراء الأسد إلى مكة فبكى عليه الصلاة والسلام، وقد أخرجه أهلها، ومن صلى منكم العشاء البارحة في الحرم سمع ما قرأ لنا الإمام: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30] فيعيش الإنسان وهو في الصلاة مستشعراً التحدي لهذا النبي المعصوم من الجاهلية، ومعاناته، وكأنه داعية مطارَد يتعرض مرة للحبس، ومرة للقتل، ومرة للإخراج من البلد، وفي الأخير أُخرج عليه الصلاة والسلام، فيلتفت وبناتُه الأربع في مكة، وتباع أملاكُه عليه الصلاة والسلام، ويُضطهد ويُعادَى، ثم يلتفت ويبكي ويقول لـ مكة: {والذي نفسي بيده، إنكِ لَمِن أحب بلاد الله إلي، ولولا أن أهلك أخرجوني ما خرجتُ} فانظر إليه، وقد تربى في مكة، وأولى أن يكون في مكة ومع ذلك يُطرد منها عليه الصلاة والسلام.
لكن سبحان الله! مع الصبر والتحمل في ذات الله عزَّ وجلَّ يدخل بعد ذلك بعشرة آلاف مسلح، ويقول له سبحانه وتعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح:1 - 2] فهل تبجَّح بالفتح عليه الصلاة والسلام؟! هل أزهق الأرواح؟! هل قتل الأنفس صلى الله عليه وسلم؟! أتدرون ماذا فعل؟ في الصحيح: أنه {نكَّس رأسه عليه الصلاة والسلام حتى إن عثنونه ليكاد يمس واسطة الرحل تواضعاً لله، ودمعت عيناه} ودخل عليه الصلاة والسلام طائعاً خاشعاً، ويتقدم كفار قريش الذين أخرجوه، قال: {ما ترون أني فاعلٌ بكم؟ -يقول: أخرجتموني وحاربتموني وضربتم بناتي وأهنتموني وكذبتموني وآذيتموني فماذا ترون؟ ما هو الجزاء؟ - قالوا: أخٌ كريمٌ وابن أخٍ كريم -سبحان الله ما أحسن العقل! - قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء} فلذلك اكتسب عليه الصلاة والسلام بهذا النصر تاريخاً مجيداً سوف يبقى إلى قيام الساعة.(373/19)
إن الله عزَّ وجلَّ يُحدث بما يشاء متى شاء
أيضاً من قضايا السورة أن الله عزَّ وجلَّ يُحدث ما يشاء متى شاء، وأن قدرته لا تتناهى سبحانه وتعالى.(373/20)
إن أعداء الله مهما كبروا سيصغروا
ومنها أن أعداءه مهما كبروا -كما قلتُ- فإنهم {كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41].
وأن أجهل الناس هم مَن حارب الله عزَّ وجلَّ وضادَّه، ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ} [يوسف:52] و {إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ} [يونس:81].(373/21)
على أهل الحرم واجب زائد على غيرهم
ومن قضايا السورة أن علينا واجباً زائداً شرعياً خلافاً لغيرنا، علينا بمداولة البيت، وواجب آخر: أن نكون ناصحين مؤثرين في الناس؛ فإن الشعوب الإسلامية الآن تهبط في مهبط الوحي، وأتت لترى أبناء الحرم هل يحملون الرسالة؟! هل هم قائمون بأمر الله وأمر رسوله عليه الصلاة والسلام؟! هل هم يأمرون أو ينهون؟! هل حملوا الميثاق حملاً صحيحاً؟! يأتينا الآن من كافة أنحاء العالم الإسلامي، وخاصة في مثل هذا الموسم، ومثل رمضان، ومثل الحج، فما هو واجبنا نحوهم؟
واجبنا أن ننقل لهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نتعاون معهم لِما يرفع الإسلام ويقويه، وأن نكون نحن وإياهم أسرة واحدة، وأن نقدم صورة جميلة عن الإسلام.
رأيتُ في كتاب عن سيرة شاعر باكستان محمد إقبال، يقول: إنه وفد إلى هنا يريد الحج، والبعيد عندما يسمع عن أهل الجزيرة فيظن أنهم على طراز طلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، وربما يُفاجأ إذا وجد العكس، أليس من المفاجأة أنك تجد أناساً من سكان الحرم يشربون الدخان بجانب الحرم، ويشربون الشيشة وقد حلقوا لحاهم؟! أما تفاجأ إذا رأيتَ أناساً من أهل الحرم يدخلون مسبلين ثيابهم؟! أما تفاجأ إذا رأيتَ نساءً ممن يدخلن الحرم، تدخل الواحدة منهن كاشفة متعطرة متجملة تفتن الرجال وهي تطوف وتسعى؟! أما تفاجأ أنك ترى البنك الربوي من أربعة عشر طابقاً بجانب الحرم؟! كلها مفاجآت تحزن المسلم، فيقول إقبال: أين التاريخ الذي كنتُ أقرؤه؟! أين أبناء الجزيرة وحَمَلة المبادئ؟!
فـ محمد إقبال أتى إلى مكة ورأى الناس أخذ يحدث نفسه يقول: أين أحفاد الخلفاء الراشدين؟! فالخلفاء الراشدون من هنا، محمد عليه الصلاة والسلام من هنا، والصديق من هنا، والفاروق من هنا، وعلي من هنا، وعثمان من هنا، وخالد من هنا، كل الأخيار من هنا، ففوجئ فيقول:
وأصبح عابدو الأصنام حماة البيت والركن اليماني
يقول: يا رب! أنت مننت على عكرمة وعلى خالد وغيرهما، كانوا يعبدون الأصنام، فهديتهم وأصبحوا يحفظون الحرم، فأين أولئك الملأ؟! أين أولئك النفر؟! أين أولئك السادة؟! وهناك قصائد طويلة قد ذُكرت في كثير من الأشرطة فلا أكررها.
فالمقصود: إن واجبنا كبير -أيها الإخوة- وأنه لا يكفي للإنسان أن يحج أو يعتمر فقط ويذهب ويكون سلبياً، وما ترى أضعف ولا أقل ولا أذل من إنسان يحمل عنده مبدأ ثم لا يخدم مبدأه، يحج ويعتمر ويطوف ويسعى ثم لا يأمر ولا ينهى ولا يؤثر، ولا يرشد ولا ينصح ولا يوجه، وتصوَّر لو أن هذه الألوف المؤلفة كانت تنصح وترشد وتهتم لَمَا بقي هناك منكر، وما بقي هناك فاحشة، ولتقلص الفساد: {لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63] وقد ذكر قبله سبحانه وتعالى فقال: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى بْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].(373/22)
شكر الله وطاعته على نعمه
من الشكر لله عزَّ وجلَّ: أن تقام طاعتُه في الأنفس والآفاق:-
وإقامة طاعة الله في الأنفس تكون بامتثال أمره سبحانه وتعالى في كل نفس بما كسبت، فهو القائم على كل نفس بما كسبت، وعلى المسلم أن يربي نفسه على الطاعة، وأن يكون له نوافل من التعبُّد، وأن يستكفي بالله عن الناس، ويحتمي بأمر الله، وأنه عزيز سبحانه وتعالى.
والطاعة في الآفاق بإقامة شرع الله، وأن تعرف أنه سوف يُقام شرع الله، وسوف تكون العاقبة للمتقين، ولذلك كما سبق في أحاديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقول في الصحيح: {إن الله زوى لي مشارق الأرض ومغاربها وإن ملك أمتى سيبلغ ما زوي لي منها} فسوف يبلغ الله دينه {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف:8] فلا بد أن يبلغ الله نوره مشارق الأرض ومغاربها؛ لكن المسألة التي أسأل نفسي وأسألكم وأعرضها عليكم هي: لنكن جنوداً لله، لنكن أنصاراً لله، لأن الله سوف ينصر دينه سواءً أكان النصر بنا أم بغيرنا: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد:38] فلا يكونون كسالى أمثالكم، ولا عاطلين ولا منحرفين.
أيضاً -أيها الإخوة- مر في التاريخ أن الحرم دنِّس بمعاصٍ وببدع وخرافات، ومع ذلك دافع الله عنه لأن البيت بيته، يقول بعض العلماء: لأن الله يريد أن يجعل العاقبة لأهل البيت، وهم ملتزمون بالسنة على طاعته، فذب الله عن بيته بغض النظر عمن كان في البيت، فإنه قد يوجد فيهم المشركون وأهل البدع والخرافات والمنحرفون عن منهج الله، فليس هذا بعبرة؛ وفيهم من يعصونه، فلا تظنوا أن الدفاع عن البيت رضا الله عمن جاور البيت، فلو ظُنَّ أن دفاعه عن البيت هو رضاه عن أهله لكان الله راضياً عن عبد المطلب، وعن أبي جهل، وعن أبي لهب، وعن الوليد بن المغيرة، ودافع الله عنهم، إنما كان الدفاع لأجل البيت، فلا يظن ظانٌُّ ولا يتبجح متبجح بحسن عمله، حتى إني أسمع من أهل المعاصي من يقول: إن الله ما أنعم علينا بهذه الثمرات في هذا البيت إلا لطاعتنا واستقامتنا، وهذا ليس بصحيح ولا يلزم؛ فإن الله سبحانه وتعالى استجاب دعاء إبراهيم في دعائه إياه في قوله: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37] فاستجاب الله دعاءه، وأخبر سبحانه وتعالى أنه سوف يمتع حتى الظالم ثم يضطره إلى عذاب أليم.
أيها الإخوة! لا أريد أن أطيل، وليبقَ هناك وقت للأسئلة، وما في السورة من لمحات يكفي، وما أردتُ أنا أن أشرح شرحاً مفصلاً لطلبة العلم لأن هذه محاضرة، بل أردتُ أن آخذ العبر منها والمقاصد العامة والخطوط العريضة.(373/23)
الأسئلة
.(373/24)
عقد الزواج في الحرم
السؤال
ما حكم عقد الزواج في الحرم، هل ورد فيه شيء من السنة؟
الجواب
لا أعلم فيه حديثاً صحيحاً عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ولا عن أحد من السلف، ولا من الصحابة، ولا من التابعين أنهم كانوا يتوخَّون عقد الزواج في الحرم، والعقد على كل حال صحيح، ولكن ليس له ميزة حتى يتخذه الناس سنة، فتجد كثيراً من الناس إذا رأوا بعض المشايخ ذهبوا يعقدون داخل الحرم، ويروا الذاهب والآيب فيظنون أن فيه أثراً، هذا ليس فيه أثر، والواجب النصيحة في هؤلاء أنه ليس هناك ميزة له، وأنه ما ورد فيه نص، وأن على الناس أن يقتدوا بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا، ولو كان فيه خير لدل الأمة إليه عليه الصلاة والسلام، فإن الخير كل الخير في اتباعنا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولاحظوا المفاجآت أن من يعقد في الحرم يكون زواجه على خلاف الشريعة، فتجده يسرف في الحفلات، ويدخل فيها ما حرم الله عزَّ وجلَّ مما يخالف الشرع، كبعض المخالفات الشرعية، مثل الإسراف أو التبرج والاختلاط، وأصل العقد في الحرم لا ينفع، فلذلك يعتبر ديناً ساذجاً عند بعض الناس، تجدهم يقفون على الجزئيات ويضيعون كبار المسائل، مثل أهل العراق، يستفتون ابن عمر في دم البعوضة وهم الذين قتلوا الحسين بن علي رضي الله عنه.
فلا يرد في ذلك، والأحسن أن ننبه الناس على هذا حتى ينتبهوا على أنفسهم لمثل هذا الأمر.(373/25)
طريقة الأمر بالمعروف في الحرم
السؤال
كيف آمُر أنا في الحرم وأنهى؟
الجواب
تأمر لأنك مسلم {من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان} تأمر بلسانك، تقول: يا أمة الله! تحجَّبي، يا فلان! اترك هذا، تأمر وترشد، إذا رأيت شركاً أو بدعة أو خرافة أو في البيت فتأمر وتنهى، {فالرسول صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معلِّقاً تميمة وهو يطوف، فأخذ صلى الله عليه وسلم التميمة فقطعها عليه الصلاة والسلام، وقال: ما هذه؟ قال: تكشِف عني الوهن، قال: لا تزيدك إلا وهناً} فأمر عليه الصلاة والسلام ونهى وهو يطوف بالبيت، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الطواف أفضل من الذكر؛ لأن الذكر لازم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعدٍّ، وهو أنفع بإذن الله سبحانه وتعالى.(373/26)
التعامل اللائق مع المسلمين الوافدين إلى الحرم
السؤال
ماذا نفعل مع الإخوة القادمين من البلاد الإسلامية الذين ذكرتَهم، ما هو دورُنا معهم؟
الجواب
أولاً: علينا أن ندعو لكافة المسلمين بالعزة والنصرة في أنحاء الأرض، وأن نشاركهم المشاعر ونشاركهم الأزمات التي يعيشونها، فإنهم يعيشون في مآسٍ، سبحان الله! حتى أنك لا تجد الأخبار إلا على المسلمين وأنت عليك أن تستقرئ هذا، والمقارع على المسلمين، والحرب على المسلمين، حتى اتهام الإعلام ينصب على المسلمين في مسمياتهم؛ كأصوليين، ومتطرفين، ومتزمتين، وكأنهم هم أعداء الملة وأعداء الأرض، فواجبنا أن ندعو الله لهم؛ لأن المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضاً.
ثانياً: علينا أن ننفعهم بما استطعنا، فإن بعضهم يَفِد وهو فقير؛ لا يستطيع النفقة، مثل الذين هم في الحرم، فمن عنده مال يعطي لمثل هؤلاء خاصة الملتزمين بشرع الله عزَّ وجلَّ.
ثالثاً: علينا أن نعطيهم من وسائل الدعوة، كأن ننصح، ونلتقي بهم، ونجلس معهم، ونشرح لهم هذا الدين الذي بُعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونعظهم في أنفسهم وعظاً بليغاً، ونهدي لهم الشريط الإسلامي، والكتيب الإسلامي، ونقف معهم.
رابعاً: علينا أن نربط بيننا وبينهم صداقة، وهي الحب الإيماني، مثل أن نأخذ عناوينهم ونراسلهم ونشد من أزرهم ونسأل عن أخبارهم وما يلزمهم، ونخبر أهل العلم هنا.
فهذه من الواجبات التي تحضرني حول هؤلاء الإخوة المسلمين، الذين ربطنا الله سبحانه وتعالى معهم برابطة الإيمان.(373/27)
من أعظم المناقب حضور مجالس الخير
السؤال
هنا قصيدة لأحد الإخوة، وأنا أعتذر لإلقائها؛ لأن فيها بعض الثناء، وأظنها نبطية؛ ولكن نذكر مطلعها.
الجواب
باسم الذي سخر لنا الكون كله هذا وصلى الله على خير الأنام
وعلى كل حال أعتذر من إلقائها، سواء أكانت نبطية أو عربية، أسأل الله أن يغفر لصاحبها وأن يثيبه على مشاعره الإسلامية الطيبة، وحضوره أعظم، ومن أعظم المناقب أن يحضر الإنسان مجالس الخير؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل للخير أولياء وللشر أولياء.
إن عمر بن الخطاب قطعت يد سارق في عهده، فرأى الناس يجتمعون وراء هذا السارق في كل مكان، فأخذ عمر حفنة من التراب ونثره على وجوه هؤلاء وقال: [[شاهت هذه الوجوه التي لا ترى إلا الفساد]] فتجد بعض الناس يحضر مجالس الخير دائماً، وبعض الناس مع مجالس الشر، فأراد الله عزَّ وجلَّ هذا، فإن الذي يرضيه هو هذا سبحانه وتعالى.(373/28)
حكم الاستهام في البنوك
السؤال
حكم الاستهام في البنوك؟
الجواب
أصلاً مسألة المساهمة قد أُكثر من الكلام عليها، وقد أفتى أهل العلم، كسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز قبل ليالٍ في هذا المكان بتحريمها من الكتاب، والتعامل مع البنوك الربوية، وهذا من تحصيل حاصل، وما أظن أحداً في هذا المسجد إلا ويعرف الحكم، ونحن لا تنقصنا الفتيا، بل ينقصنا التقوى، والعمل بما نعلم، وأن نكون قائمين لله عزَّ وجلَّ بأنفسنا؛ لأن حجة الله بالغة، وعلى ذكر كلمة حجة الله بالغة يقول أحد الأئمة، اسمه ابن هشام يقول: حجة الله خالدة وليست بالغة، فرد ابن تيمية وقال: بل هو حجته البالغة سبحانه وتعالى، وتحسر ابن تيمية وقال: سبحان الله! حجة الله ليست بالغة وقد أقامها سبحانه وتعالى في الأنفس والآفاق؟! وله الحجة المطلقة سبحانه وتعالى لكن أهل الهوى يفعلون هكذا.(373/29)
بعض البدع في ليلة سبعة وعشرين من رمضان
السؤال
يفعل الناس في ليلة السابع والعشرين بعض الأمور التي ما ورد بها سلطان من الله.
الجواب
أنت أفتيت نفسك، فمثل تجمعات الناس في ليلة السابع والعشرين، لم يأت بها أصل من الرسول عليه الصلاة والسلام، وهي من الأمور المبتدعة التي خالفت شرع الله سبحانه وتعالى، وتخالف سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر معلوم لديكم، ولا يجوز للإنسان أن يجتمع مع هؤلاء، أو يحتفل معهم، أو يجلس معهم في مجالسهم، بل عليه أن يبقى على سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، وكلما أتاك أحد بشيء قل: هل فيه أثر؟ هل ثبت في سنن المعصوم عليه الصلاة والسلام؟ فهذا هو المطلوب.(373/30)
كيف يتصرف من جالس مبتدعاً
السؤال
أنا أجلس مع بعض المبتدعة في الحرم، فماذا أفعل؟
الجواب
ادعُهم إلى السنة، وأخبرهم بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم بالتي هي أحسن، ستكسب أمرين:
الأمر الأول: أنك أقمت الحجة عليهم.
الأمر الثاني: أنك تعصمت بدعوتك من أن يؤثروا فيك بدعوتهم، فمن أهل العلم من يقول: من لا يدعو يُدعى، فإنك إذا بقيت سلبياً أثروا فيك؛ لكن إذا كنت لا تتكلم معهم وتحاول ألا تجلس في مجالسهم لأنهم شبهة فلن يؤثروا فيك، قال ميمون بن مهران: لا تدخل على السلطان ولو كنتَ تنصحه؛ فإنه يضيع دينك، ولا تجلس مع صاحب البدعة، ولو قلتَ أرشدُه؛ فإنه يورد فيك ما لا تورد فيه، ولا تختلِ بامرأة ولو قلتَ: إني أعلمها القرآن؛ فإن الشيطان ثالثكما، كما قال عليه الصلاة والسلام.(373/31)
قضاء العطلة الصيفية
السؤال
وماذا أفعل في العطلة الصيفية، عطلة الربيع هذه؟
الجواب
أصلاً مثل هذه الأسئلة إجاباتها سهلة ومعروفة، وبعض الإخوة تُسَلَّم له الورقة فيريد أن يكتب فيها أي شيء، مثل: دلوني على طريق الاستقامة، وماذا أفعل في عطلة الربيع؟ أصلاً ليس عند المسلم فراغ، أما ماذا تفعل عليك أن تدعو إلى الله، وتحصن نفسك بالإيمان، وبعض الناس يتمنى أن يوجد له وقت زائد ليشتريه بالدراهم والدنانير ولا يوجد له وقت، فالحمد لله ليس عندنا فراغ أصلاً، ولسنا في حاجة إلى أن نسأل هذا السؤال؛ لأن الله ذكَّرنا بأنه سوف يحاسبنا على أوقاتنا: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
هنا بشريات إلى أنحاء العالم وإلى كثير من الإخوة أصحاب الصحوة في كندا والصحوة في كثير من المناطق، وقد يتعجب أحدٌ منكم ويقول: أصحوة في كندا؟! فربما رأى بعضكم فيلماً لأحد علماء الذرة الذين خرجوا من المناجم من تحت الأرض وهو ملتحٍ، وهو مسلم، خرج من تحت الأرض بعدما انهار الاتحاد السوفيتي حيث كان يصنع في المعامل الذرية ويشتغل في الأجهزة النووية، خرج على سطح الأرض وهو يدعو إلى الإسلام؛ لأن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يقيم الحجة على أهل الأرض، فلا تظن أن الإسلام فقط في حدود المناطق الإسلامية أو لا يتعدى الجزيرة، لا.
بل الإسلام في كل مكان، حتى أن بعض الإخوة الذين وصلوا من كندا يقولون: الشريط الإسلامي يصل إلى المسلمين في كندا بعد أسبوع، وعندهم صحوة عارمة، والمصحف -تَصَوَّروا- أنه في ولاية بيزيا يُستعار المصحف في البيت -من قلة المصاحف عندهم- فإذا انتهى أهل البيت أعاروه جيرانهم في اليوم، ثم من الجيران إلى الجيران؛ لأنهم بحاجة إلى دين، فقد انهارت المبادئ إلا مبدأ محمد صلى الله عليه وسلم، وشهقت الأطروحات وانتهت، وما بقي إلا أطروحة محمد صلى الله عليه وسلم، حله للناس، وما بقي إلا هذا الدين، فـ الاتحاد السوفيتي انهار الآن، ولا بد من بديل، وهو الإسلام.
وحزب البعث انكسر ظهره قبل سنة، ولا بد من بديل، وهو الإسلام.
والأنظمة العلمانية تعلن فشلها وانهيارها، ولا بد من الإسلام، ومثلها كثير من المبادئ، فمن يأتي من بلاد بعيدة سلوه، سلوا من يأتي الآن -مثلاً- من اليمن، أو من السودان، أو من الجزائر، يخبركم أن الصحوة قادمة.
ففي اليمن: الشيخ عبد المجيد الزنداني ينصت له الشباب بعد صلاة الجمعة أكثر من نصف مليون، ويرفعون المصاحف وينشدون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وفي السودان: اسألوا أخبارهم من يأتي من علماء السودان، لا تسألوا غيرهم، فهناك أمور عجيبة! حتى أن بعض الإخوة في الإغاثة سافر إلى السودان، وقَدِم إلى شيخ هنا فكلمه بكلام عجيب، قال: والله إنا نسير المائتي ميل، كلها أرض خضراء بالبر والشعير والذرة، وتحقق فيهم قوله سبحانه وتعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} [الجن:16].
وفي الجزائر؛ هناك فيلم موجود رآه بعض الإخوة من الدعاة؛ سبعمائة امرأة متحجبة يذهبن إلى قيادة الدعاة يردن الإسلام، يردن محمداً صلى الله عليه وسلم.
فالآن الحل البديل والوحيد هو الإسلام، فعليك أن تشارك أنت في هذه المسيرة، ولا تظن أن الله سبحانه وتعالى سوف يخلف وعده، فإن وعده الحق سبحانه وتعالى وقوله الصدق، ولا بد أن تكون العاقبة للمتقين.(373/32)
قصيدة الفيل
ونبقى الآن مع قصيدة الفيل، ومع الأخ ناصر.
قصيدة الشاعر/ ناصر:-
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
الحقيقة أن الشيخ ورَّطني جزاه الله خيراً قبل المحاضرة، يقول: أعِنْدَك قصيدة حول هذا الموضوع؟ فقلت: أحاول إن شاء الله، فكانت هذه الأبيات السريعة وترددتُ في إلقائها، لكن اقبلوها على عِلاَّتها:
قلتُ:
يا شيخنا قد تولى صاحب الفيلِ أباده الله بالطير الأبابيلِ
لكن في عصرنا مليونُ أبرهة للهدم قد هيَّئوا شتى المعاويلِ
لهم فعائل سوء ينزوي خجَلاً من مثلها لو رآها صاحب الفيلِ
لم يهدموا كعبة الإسلام يحفظها مِن كل صاحب شر ربُّ جبريلِ
لكنهم أعلنوا هدماً وخلخلةً بلا توانٍ على وحيٍ وتنزيلِ
هم من بني قومنا أَعْجِب بما فعلوا ليسوا يهوداً ولا من أهل إنجيلِ
أعزهم ربهم بالدين فانسلخوا منه فيا لهم من قوم مهابيلِ
قاموا بحرب على الإسلام واجتهدوا في قمع أربابه من دون تعليلِ
لم يرتفع صوت أهل الحق في بلد إلا أُبيدوا بتشريدٍ وتقتيلِ
شجاعة فذة في أهل ملتهم وإن رأوا الخصم بالوا في السراويلِ
صيد الأرانب من أسمى مطالبهم وليلهم كله (يا عَيني، يا لِيلي)
تجاهلوا علماء الحق وافتتنوا بأهل فن وألعاب وتمثيلِ
كالوا الشتائم للأخيار واجتهدوا في رميهم بأكاذيبٍ وتضليلِ
حثالةٌ تدعي ذُلاً ومنقصةً رحماك يا ربِّ من قومٍ تنابيل
ذلت بهم أمة الإسلام وانخدَعَت لأنهم ألبسوها ثوب تمثيلِ
يا فتية الحق إن الخير مرتَقَبٌ بمثل صحوتكم يا خيرة الجيلِ
وصلى الله على محمد.(373/33)
ثلاث قضايا مهمة عن الدعوة في هذا العصر
تعقيب الشيخ/ عائض القرني:-
بعد هذه الأبيات معي ثلاث قضايا أقولها باختصار:(373/34)
واجب الدعاة والعلماء
القضية الأولى: وهي من قضايا الساعة، واجب العلماء على الدين: وأهل العلم، وخاصة كبار العلماء الذين لهم قدم صدق في الإسلام، والذين عرف منهم قول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والنصيحة لله ولرسوله، كسماحة الشيخ عالم الأمة/ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ/ محمد العثيمين، وغيرهم من العلماء والدعاة لهم واجب الاحترام والتبجيل، والذب عن أعراضهم، وسماع فُتياهم، وأخذ مشورتهم، والدنو منهم؛ لأننا نجد أن بعض من في نفسه هوىً أنه قد يبديه، حتى أنه قبل البارحة في جدة وردت أسئلة، وقالوا في الأسئلة عن هذا الموضوع كثيراً، فسبحان الله، كيف أشقى الله بعض العباد بالتكلم في أهل العلم، وجعل أعراض أهل العلم طُعْمَةً لهؤلاء ليرفع الله منازل العلماء! ولكن ليس على الإنسان المسلم أن يسكت في مثل هذه المجالس، بل عليه أن يذب، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {مَن ذب عن عرض أخيه المسلم ذب الله عن وجهه النار يوم القيامة} هذا ورد في حديث، فكيف بعالم؟! أو كيف بداعية؟! أو كيف بطالب علم له أثرٌ طيب وبالغ؟! فلا يسكت الإنسان، وعليه أن يذب عنهم وأن يحامي ويدافع، وإن لم يفعل فإن الله يدافع عن الذين آمنوا.
رأيت في قصص بني إسرائيل، وهذا يورده أهل العلم، أن موسى عليه السلام كلم الله عزَّ وجلَّ فقال: يا رب! مسألة واحدة، قال: ما هي يا موسى؟ قال: أن تكف ألسنة الخلق عني فإنهم يسبونني، قال: يا موسى! ما اتخذتُ ذلك لنفسي، إني أخلقهم وأرزقهم ويسبونني.
وفي صحيح البخاري: {يسبني ابن آدم ويشتمني ابن آدم، فأما سبه إياي فإنه يسب الدهر، وأنا الدهر، أصرِّف الليل والنهار كيف أشاء، وأما شتمه إياي فيقول: إني اتخذت صاحبة وولداً، وأنا الله لا إله إلا أنا لم أتخذ صاحبة ولا ولداً} فهذا في حقه سبحانه وتعالى الذي هو مبرأ عن النقص، والذي هو الكامل المطلق تبارك وتعالى فكيف بالناس؟!
أيضاً لا يتصور الناس أن العلماء معصومون، فإنهم قد يخطئون في بعض المسائل مجتهدين، فيأجرهم الله أجراً واحداً.(373/35)
الاشتغال بالتربية
القضية الثانية: أن على شباب الصحوة والجيل أن يشتغلوا بالتربية: لأن تربية الناس، ومخاطبة العامة، ونقل الدعوة إلى من لم تصله هو الأفضل والأمثل والأحسن؛ لأننا ما عندنا إلا تربية الناس: {وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ} [النمل:92].
مهمة طالب العلم والداعية والخطيب أن يبين للناس ما نُزِّل إليهم، ليس عليه أمور أخرى إنما هو البيان والتربية، أي: كلامٌ مما ينفع الناس ويهديهم سواء السبيل ويشرح لهم ما يشكل عليهم من أمور دينهم، فالإلحاح على تربية الناس هو الأمر المطلوب؛ فإن بعض الناس قد اشتغل -مثلاً- ببعض الأفكار التي ليس لها أثر، أو اشتغل ببعض القضايا التي لا تهم الناس، فنشأ جيل ليس عنده تربية ولا علم، فأصبح في تفكيرهم عَوَج بسبب سوء التربية.(373/36)
نصيحة للخطباء
القضية الثالثة: هناك بعض الأسئلة فحواها: ما هي النصيحة للخطباء؟: ومن واقع الزمالة للخطباء ومن معرفة من تتاح لهم الخطابة فإني أطلب من إخواني الخطباء أموراً:
الأمر الأول: التقصير في الخطب على الناس: ألا يثقلوا على الناس في خطابة الجمعة، فإن الخطبة الطويلة مهما كانت جميلة فإنها مملة، وإن الرسول عليه الصلاة والسلام لحكمته رأى أن قِصَر خطبة الرجل وطول صلاته مَئِنَّة من فقهه فلا يطيل على الناس؛ لأن بعض الخطباء يخطب في الناس ساعة، وكأنها محاضرة، فيفقدها أهميتها، ثم يتلعثم في الكلام، ويعيد ويبدئ في الموضوع.
الأمر الثاني: ألا يجرِّح الهيئات ولا الأشخاص ولا المؤسسات ولا الجهات: فإن المنبر هذا لإسداء الحكمة، ولرد القلوب لبارئها، ولإصلاح الأنفس، ولاستجداء الرحمات من الله عزَّ وجلَّ، أما أن تكون الخطب سباً وشتماً فهذا أصلاً ليس من سياسة المنبر في الإسلام ولا من منهج الرسول صلى الله عليه وسلم، بل كان عليه الصلاة والسلام يقول: ما بال أقوام يصنعون كذا وكذا، فما كان يصرِّح عليه الصلاة والسلام.
الأمر الثالث: أن على الخطيب أن يتكلم في أمور تهم الناس ويعيشونها في واقعهم؛ ويسندها بالأقوال الصحيحة من القرآن الكريم، ومن سنة محمد عليه الصلاة والسلام، لأن بعض الخطباء يدخل في قضايا خرافية جدَلية، أو يرد على فكر قد انتهى، أو يأتي بقضايا لا يعيشها الناس مثلاًَ، وهذا ليس من الصحيح.
الأمر الرابع: أن على الخطيب أن يتأكد من الأحاديث الصحيحة؛ فلا يورد حديثاً ضعيفاً ولا موضوعاً إلا على سبيل البيان، أن يبين ضعفه أو وضعه، لأن بعض الخطباء كحاطب ليل، يورد من الخزعبلات التي تصد الناس عن معرفة المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا من الخطأ بمكان.
هذه بعض النصائح والفوائد، وعسى الله عزَّ وجلَّ أن ينفع، وأن يتقبل منا ومنكم صالح العمل، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.(373/37)
كلمة للنساء
وقبل أن أنتهي لدي كلمة موجزة في دقيقة للنساء:
تحضر دائماً في كل محاضرة مجموعة هائلة من النساء، وهن داعيات خرِّيجات، ومهمة المرأة أن تكون مؤثرة في بنات جنسها، مثلاًَ: الدعوة في الحرم، فربما تكون المرأة المسلمة الداعية الآن أسمع صوتاً من الرجل وأنفع منه في مجال الدعوة للمرأة في مسائل الحجاب، والسفور، والاختلاط في الحرم، فأنا أطلب من الأخوات المسلمات أن يحملن منبر الدعوة والتأثير، وأن يقمن بما أوجب الله عليهن من هداية بنات جنسهن، وألا يتراجعن عن هذا الطريق الذي رسمه محمد صلى الله عليه وسلم لرجال الإسلام ولِبَنات الإسلام.
أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية، وأشكركم على الحضور، وأشهد الله على محبتكم فيه.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلَّم تسليماً كثيراً.(373/38)
كيف يذبح الإسلام؟
الهجمات المنظمة وغير المنظمة على الإسلام معروفة، والدس والمؤامرات الموجهة ضد الصحوة الإسلامية لا تخفى، وقد طعن الإسلام من جهات متعددة وجوانب شتى، فما ترك العدو باباً يمكنه الطعن في الإسلام منه إلا وجهه، وهذه المحاضرة تذكر بعضاً من ذلك، توضيحاً للحق، وتنبيهاً على الباطل.(374/1)
الطعن في القرآن
الحمد لله، نحمده تعالى ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
عنوان هذا الدرس: كيف يذبح الإسلام؟
اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل، فاطر السماوات والأرض، عالم الغيب والشهادة، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون؛ اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك؛ إنك تهدي من تشاء إلى صراطٍ مستقيم.
إخوة الإسلام عباد الله الصالحين: هذه المحاضرة لا بد منها، ولا بد من بيان الطرق التي ذبح بها الإسلام على طول تاريخه الطويل، وهذه الطريقة التي أريد أن أتحدث عنها هذه الليلة هي ذبحٌ للإسلام على الطريقة الإسلامية، وليست على الطريقة اليهودية ولا النصرانية ولا الشيوعية، لكنها ذبحٌ إسلامي بسكين المسلمين، وعلَّي أن أنفذ إلى مسائل يحتاجها الجيل؛ أسأل الله سبحانه وتعالى أن ينفعنا بها، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل.
ولابد للداعية أن يتحدث عن مغابن الشر وخفاياه، والداعية لا يتحدث من نفسه شوقاً إلى الحديث، ولكنه يتحدث مضطراً؛ كما قيل لأحد المحدثين وقد حضرته سكرات الموت كما ذكر الذهبي في السير وقال: كان في سكرات الموت، فسمع رجلاً يقول: حدثنا فلان عن فلان، وهذا الكلام طيبٌ إلى قلبه؛ لأنه في طول حياته كان يعيش على حدثنا حدثنا فاستيقظ وجلس، وأخذ يقول: حدثوني، قالوا: أنت في سكرات الموت، قال:
سقوني وقالوا لا تغن ولو سقوا جبال سليمى ما سُقِيتُ لغنتِ
والبيت هذا لـ مجنون ليلى كما قيل، فإنهم قالوا: سقوه الخمر ثم رفع عقيرته يغني، قالوا: لا تغن، قال: تسقوني الخمر ولا أغني؟!
والمقصود بالبيت: أن طالب العلم والداعية مضطر إلى أن يتكلم اضطراراً عن واقع المسلمين، وعن واقع الأمة، وأن يتقي الله سبحانه وتعالى، وأن يبين للناس الميثاق، قال سبحانه وتعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] وقال جلت قدرته: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160].(374/2)
إهمال القرآن
أيها الإخوة الفضلاء: ذبح الإسلام بعدة سكاكين؛ فذبح في قرآنه، في الكتاب الخالد الذي أنزله الله سعادة للناس كما قال تعالى: {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} [طه:1 - 3] القرآن الذي جعله الله تعالى حلاً للأزمة الحضارية التي يعيشها الناس.
كيف طعن في القرآن؟! كيف ذبح كتاب الله؟!
تصوروا الداهية الدهياء والمشكلة العظيمة التي ذُبح بها القرآن.
نحن عرب قح أنا وأنت ننطق الضاد من مخرجها، ونتكلم العربية الفصحى لكننا بلينا بأنا لا نستطيع أن نجود كتاب الله حتى يأتي الأعاجم، فيدرسوننا كتاب الله، العجم يحفظون القرآن، ويجودون القرآن، ويعلموننا مخرج الضاد، ويؤلفون في ذلك رسائل، ويأتون إلى قحطان، والأزد، ومذحج، ومضر، وربيعة، القبائل العربية التي أنزل الله القرآن بلغتها وقال فيه: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر:28] وليس هذا انتقاصاً من الأعاجم فإن الله يقول: {فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام:89] والإسلام هذا ليس صكاً شرعياً للعرب، ولا للأكراد، وليس حقاً فقط للهنود، لكنه للأفغان والعرب والهنود والأتراك والأكراد والتركمان وكل من حمل الإسلام.
لكني أخبركم بالمشكلة والداهية حتى تتصوروا عظم هذه المأساة: إن طلابنا الآن في المساجد لا يدرسهم إلا أعاجم!
إن طلابنا جميعاً في المدارس بعد صلاة العصر والمغرب، لا يدرسهم ولا يعلمهم كتاب الله ولا يعلمهم مخارج الحروف، ولا تجويد القرآن -وهو قد نزل بلغتي ولغتك- إلا الأعجمي من أفغانستان وباكستان، هذا هو الأمر الأول.(374/3)
تحجيم القرآن وإقصاؤه عن الحياة الواقعية
الأمر الثاني: أن يحجم وقت القرآن، فلا يدرس إلا في حصصٍ كالضائعة، إما في السادسة، أو في الأسبوع مرة، فيخرج المتخرج بعد ست عشرة سنة، وهو لا يجيد أن يقرأ سورة ولو قصيرة بالتجويد، فلا يعرف القلقلة، ولا الإشمام، ولا الإدغام، ولا الإظهار، وكأنك تحدثه من قاموسٍ ملغىً.
الثالث: محو القرآن من حياة الناس، فقد أتى هذا القرآن ليقود البشرية إلى النجاة، فجعل القرآن ليقرأ فقط على من به مس، وهو رقية للقلوب، ورقية للأرواح، وللأبصار وللبصائر، وللأجيال، وللشعوب، وللحضارات؛ لأن منزله الله عز وجل: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
أسلم أحد المستشرقين بمعجزة، وسبب إسلامه قال: أول ما فتحت القرآن قرأت في أول سورة البقرة قوله تعالى: {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة:1 - 2] فعلمت أنه لا يتحدى إلا من يعلم أنه لا يدخله النقص، ولا يقول ذلك إلا الإله، لأن المؤلفين الآخرين كل مؤلف يبدأ في كتابه المقدمة: وإن وجد نقصٌ فليعذر، ومن وجد فهو من نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله بريئان، ومن وجد شيئاً من خطأ فليصلحه أو يتصل بي، هكذا يقول المؤلفون، أما الله فيتحدى ويقول: (الم) أي: من هذه الأحرف نظمنا وبنينا وقلنا هذا القرآن، لا ريب فيه.
ثم يقول سبحانه وتعالى في موقعٍ آخر: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] ولذلك لا يوجد كتابٌ غير القرآن إلا وفيه أوهام، حتى صحيح البخاري بين شيخ الإسلام ابن تيمية في المجلد الثامن عشر أن في صحيح البخاري أوهاماً، ولست أنزع ثقة البخاري الليلة من صدوركم، لكني أريد أن أصل إلى أن هذا القرآن العظيم نزعت ثقته بطريقة أو بأخرى من الأجيال، فأصبح رقية، وأصبح يفتتح به الحفل، وأصبح يقرأ على الأموات من سورة يس على أن حديثها ضعيف، وعلى أنه لا يقرأ وقت الوفاة لما قال المحدثون، وهذا ليس غرضي، لكن هذا القرآن جاء مُنظّراً للبشرية.
فذبح الإسلام أولاً في القرآن، ثم عورض بالقوانين الوضعية، فأخذت بعض الشعوب الإسلامية المادة الثانية عشرة من نابليون، والثالثة من هتلر، والرابعة من لينين، والخامسة من القرآن، فما اتفق مع أهوائهم أخذوه، قال سبحانه وتعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] إما أن تأخذ الإسلام جملة أو تتركه جملة، أما أن تأخذ ما يوافق هواك، وترفض ما يعارضه، فهذه خيانة لله ولرسوله وللمؤمنين.(374/4)
الطعن في السنة ورواتها(374/5)
التشكيك في حجية السنة
ذبح الإسلام في السنة: بالتشكيك فيها، وأنها ليست بحجة، وأنها ظنية مشكوك فيها باتهام رواتها، واتهم الرواة، هذه ثلاث مسارات في السنة:
أما التشكيك في السنة: فأول من بدأ بذلك الخوارج، الخلف البدعي عليهم غضب الله؛ فإنهم لا يأخذون من السنة -كما قال ابن تيمية - إلا بما وافق ظاهر القرآن، حتى الرجم لا يأخذونه، وقالوا: ليس في القرآن، ولا نأخذ من السنة إلا ما وافق القرآن أو ما كان أصله في القرآن، فأول من ذبح الإسلام في السنة الخوارج، ثم صار من بعدهم العقلانيون المرتدون المرتزقة يمثلون هذا التيار.
معمر القذافي حاكم ليبيا ألف الكتاب الأخضر، ونفى في خطبه حجية السنة، وكأنه المقصود والله أعلم كما قال العلماء بقوله صلى الله عليه وسلم: {رب شبعان ريان على أريكته يأتيه الحكم من أمري أو النهي من نهيي فيقول: حسبكم القرآن؛ ما وجدتم من حلال في القرآن فأحلوه، وما وجدتم من حرامٍ فحرموه، ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه} فرفض السنة، وله مقالات وكتابات يقول فيها: السنة ليست بحجية، بل تهجم على المعصوم صلى الله عليه وسلم، وقال عنه: كان يناسب فئة عربية بادية، أما الآن فتطورت الحضارة، وتطورت عقول البشر، فلا يناسبها كلامه عليه الصلاة والسلام.
وقالت فئة: ظنية الثبوت وظنية الدلالة، مع أن أهل السنة يأخذون بأحاديث الآحاد في العقائد والعبادات والمعاملات والكليات والجزئيات، وللشيخ الحافظ الألباني رسالة في حجية حديث الآحاد، وهو قول المحدثين وأهل السنة والجماعة، وللأحناف قول لكنه مرفوض، وهو أن حديث الآحاد لا يؤخذ به في العقائد، وهذا معناه أن نلغي كثيراً من الأسماء والصفات التي ثبتت للمولى سبحانه وتعالى بالأحاديث؛ كالضحك وكالعجب، وقد أثبت ذلك أهل السنة والجماعة.(374/6)
اتهام الرواة
ولما عجزوا عن الطعن في ألفاظ الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأن ألفاظ المعصوم صلى الله عليه وسلم قوية بليغة فيها إعجاز، ولذلك لا تستطيع أنت ولا غيرك من العباقرة أن يحيك مثلها؛ مثل: {إنما الأعمال بالنيات} من يستطيع أن يحيك مثل هذا الكلام؟! أو: {احفظ الله يحفظك} وقوله صلى الله عليه وسلم: {أوتيت جوامع الكلم} حتى يقول الزبيري قاضي اليمن عن الرسول صلى الله عليه وسلم:
ما بنى جملةً من اللفظ إلا وابتنى اللفظ أمةً من عفاء
يقول: المعجزة فيك أنك تبني حديثاً فتبني بهذا الحديث هذا ملايين من البشر، فما استطاعوا الطعن في حديثه، فطعنوا في الرواة، ومن هؤلاء: أبو رية ألف عن أبي هريرة واتهمه بالكذب.
وأحسن من دافع عن أبي هريرة عبد المنعم صالح العلي، وهو عراقي حكم عليه صدام حسين بالإعدام غيابياً، وهو يعيش في الإمارات، ويكتب باسم محمد أحمد الراشد صاحب المنطلق , العوائق والرقائق والمسار، فلله دره، على أن في بعض كتبه ملاحظات لا يخلو منها البشر، لكن على كل حال ألف دفاعاً عن أبي هريرة، ولو رشح كتاب في هذا العصر أن يكون كتاب هذا العصر -أو هذا القرن- لكان كتاب دفاع عن أبي هريرة.
فذبح الإسلام في السنة المطهرة التي أتى بها المعصوم عليه الصلاة والسلام، والتي هي مكملة للقرآن.
فإذا سمعت الرجل ينادي بالقرآن فحسب، فاتهمه بالبدعة، فلابد من القرآن ومن السنة، لابد من قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام.(374/7)
النيل من عصمة النبي صلى الله عليه وسلم
ذبح الإسلام بالنيل من المعصوم العظيم عليه الصلاة والسلام، ومن جنابه الشريف وتعرض الطاعنون لأخلاقه وسلوكه ولدعوته، فأتوا إلى هذا المعصوم الذي صفاه الله واصطفاه، وزكى الله سمعه وبصره، وقلبه ومنهجه، ودعوته وأخلاقه؛ فاتهموا سيرته عليه الصلاة والسلام، وهناك كتب في الساحة، وكما قال صلى الله عليه وسلم لما مر ببيوت الأنصار، وهم يبكون على قتلاهم في أحد: فقال: {لكن حمزة لا بواكي له} يقول: كلٌ يبكي على شهيده إلا حمزة.
فقد قلت الغيرة والبكاء على منهج الرسول عليه الصلاة والسلام، مع أن بعض الكيانات إذا طعنت بكلمة من كيانات أخرى قامت الدنيا وقعدت، وخرجت البيانات الرسمية، والنفي القاطع، والدفاع، وقام الإعلام، وقام الخبراء، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم يُنال ويُتعرض له في عرضه عليه الصلاة والسلام وفي منهجه وفي دعوته؛ ولا يغار إلا القليل؛ مع أنه إذا سقطت عدالته المعصومة عليه الصلاة والسلام سقط منهجه في الأرض، ولا يخفى على أحد ما تعرض له عليه الصلاة والسلام من هجمات؛ آخرها ما فعله المجرم سلمان رشدي لا سلمه الله ولا أرشده، وخذله، وأخذه أخذ عزيزٍ مقتدر، والعجب أن تأتي بعض الطوائف المبتدعة، فتعلن الإعدام عليه في منابر يوم الجمعة في طول بلادها وعرضها، أما أهل السنة المعنيون بالأمر، فلا يردون بكلمة، ولا يعترضون بخاطرة، ولا يرسلون برقية، ولا يغضب منهم غاضب، ولا يخطب منهم خطيب، وهو يعرض لإيمانهم ولمسيرتهم:
أتسأل عن أعمارنا أنت عمرنا وأنت لنا التاريخ أنت المحرر
عليه الصلاة والسلام، فهم يصلون إلى هذا في التعرض له صلى الله عليه وسلم ولمنهجه.(374/8)
الطعن في الصحابة
رابع مما ذبح به الإسلام: الطعن في الصحابة والنيل من عدالتهم وذكر ما شجر بينهم، وتضخيم أخطائهم، وإذا رأيت الرجل ينال من الصحابة فاعرف أنه مبتدع، وأن في قلبه مرضاً، قال ابن تيمية في منهاج السنة: لا يحق دفع الفيء إلى طائفة من الطوائف المبتدعة؛ لأنهم ما اتبعوا الصحابة بإحسان، لأن الله قال في أتباع المؤمنين: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر:10] وهؤلاء قد نالوا من الصحابة.
ومن أبناء المسلمين اليوم من ينال من الصحابة الذين زكاهم الله، واختارهم لصحبة الرسول عليه الصلاة والسلام، ترى من عظمة الصحابة أنهم استطاعوا أن يعيشوا مع الرسول عليه الصلاة والسلام، وأن يقدموا جماجمهم ودماءهم، وأن يحفظوا لنا السنة، وأن يعرفوا المنقول والمعقول، فهم أصدق الناس ألسنة، وأخلصهم قلوباً، وأوضح الناس منهجاً، وأبر الناس وأكرم الناس رضوان الله عليهم.
قال ابن حجر في الإصابة: والصحابة مزكون عدول كلهم، فإذا رأيت صحابياً فلا تتكلم، فلا تبحث عن ترجمته، فهو من قوم قد رضي الله عنهم وزكاهم، أما غيرهم فيزكيه يحيى بن معين أو أبو حاتم، أو ابن حبان، أو الذهبي، أو ابن حجر، أما الصحابة فلا يتدخل ابن حجر ولا الذهبي ولا ابن معين.
نيل من الصحابة كـ أبي هريرة، وأبي ذر، وألف في أبي ذر كتاب ينسبه إلى الماركسية، كتبه سخروف قبل أن يعلن تمرده على المذهب الشيوعي، تكلم عن أبي ذر بكتاب، وزعم أن أول من تكلم عن النظرية الاشتراكية في العالم أبو ذر وكذبوا لعمر الله، حتى شوقي يقول للرسول صلى الله عليه وسلم:
الاشتراكيون أنت إمامهم لولا دعاوى القوم واللأواء
وهذا خطأ، فليس هو إمام الاشتراكية صلى الله عليه وسلم، وليس إمام الديمقراطية، وإنما أتى بمنهجٍ خالد هو كما قال عنه تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30].
ومنهجه صلى الله عليه وسلم كما قال الأفغان في نشيدهم وبلغتهم:
نامني نظام غربية نامني نظام شرقية
مصطفى مجتبى حبيبي يا محمدا
أنا أرفض النظام الغربي، وأرفض النظام الشرقي، ولكني أتبع محمداً المعصوم الحبيب صلى الله عليه وسلم، وإن المسلم ليفخر بهذه التجليات الإيمانية في أفغانستان والجزائر.
رصيد الإسلام مليون امرأة في الجزائر، قبل جمعتين يذهبن إلى صناديق الاقتراع متحجبات، بعد صلاة الجمعة سبعمائة ألف شاب على مذهب أهل السنة والجماعة في الجزائر يسيرون في طوابير -وهتافهم الخالد يهز العمارات- ويقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
أليس هذا انتصاراً لهذا الدين وتصديقاً لمن قال: المستقبل لهذا الدين؟!
دعها سماويةً تجري على قدرٍ لا تفسدنها برأي منك منكوس
وسوف يكون لنا مرور على هؤلاء قريباً.(374/9)
الطعن في تراثنا وحضارتنا(374/10)
تشويه التاريخ الإسلامي
وذلك بالدس فيه، يذبحون التاريخ الإسلامي بالدس فيه، وإخفاء محاسنه، وإظهار المساوئ، وتجد لهم نقمة على التاريخ، جعلوا تاريخنا كتاب الأغاني لـ أبي الفرج الأصفهاني، وكتاب المحاضرات للأصفهاني، وكتاب المستطرف في كل فن مستظرف، الذي هو كما يقول بعض الناس: من السرة وما تحت، هذا هو التاريخ الذي يقدمونه للناس في مسرحيات ومسلسلات، ويأتون بثلاثين مجلداً في الأغاني ويقولون: هذا تاريخكم قالوا عن: هارون الرشيد: كان يشرب الخمر، وعنده جوار يغنين له، حتى إذا قرأت ترجمة الرشيد في الأغاني أو في المستطرف تظن أن الرجل ما همه من حين يصبح إلى أن يمسي إلا في شرب الخمر، وفي الغناء والرقص والطبل واللعب.
هذا الذي دوخ المشرق، وفتح الممالك، ودمر القلاع بلا إله إلا الله، وأقام علم أهل السنة والجماعة، وفتح الفتوح، وجند الجنود، وأخذ العلماء استشاريين، أهذا يكون هالكاً؟! ويأتون بـ المعتصم فينزلونه منزلة كأنه فيها يمزح ويلاعب، وكأنه بطال عاطل ما عنده إلا هذه الهوايات فقط.
المعتصم الذي دك الجيوش، وأحرق المدن حتى لما كانت عمورية تحترق، احترقت بعدها بساعة مدينة أخرى، كما يقول أبو تمام:
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجربِ
وهكذا يذبحون التاريخ.
يقدمون لنا في التاريخ الحجاج، ويقدمون أبا مسلم الخراساني، ويقدمون لنا في التاريخ المستعصم آخر الخلفاء، وكل ضائع أو سفاك أو مجرم.
أما أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وصلاح الدين وعمر بن عبد العزيز ونور الدين محمود وهذه القائمة البيضاء فيخفونها ولا يبدون إلا تلك، فحسبهم الله! ويظهرون للناس أن هذا هو تاريخكم فاقبلوه، وليس تاريخنا هذا، تاريخنا أجمل من الشمس في رابعة النهار.
أيضاً أيها الإخوة الكرام: يذبح الإسلام عموماً بوصفه بأقبح الأوصاف، وبأنه لا يلائم العصر، ويقولون: نخشى من الأصوليين أن يرتقوا؛ لأنهم سوف يتطرفون في أفكارهم أو يشددون على الناس، أما العلمانيون والديمقراطيون والشيوعيون فأذكياء وعباقرة.
أبناء أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب، الذي كان يحكم ثلاثة وعشرين دولة من المدينة المنورة لا يصلحون؟! أحفاد هارون الرشيد الذي كان يتحدى السحاب لا يصلحون؟! ويقولون: الإسلام كان يصلح لفترة من الفترات، أما وقد وصل التقدم الحضاري إلى هذا المستوى فإنه لم يعد صالحاً للناس، والله يقول: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [آل عمران:85] سبحان من أنزل هذا الكتاب وهذه السنة!
إن الدنيا لم تعرف الإسلام حتى تجعله حلاً حضارياً لمشكلات البشر؛ لأن الغرب والشرق يرون صورة الإسلام في مسار المبتدعة، أو مسار البعث في بغداد، أو مسار العلمنة، أو مسار الماركسيين العرب، ولا يرون الحل الإسلامي الحضاري ماثلاً أمام الحياة.(374/11)
الطعن في اللغة ووصفها بالعقم
أيضاً طعنوا في اللغة العربية، وذبحوا الإسلام في اللغة العربية، قال حافظ إبراهيم:
رموني بعقمٍ في الحياة وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي
وسعت كتاب الله لفظاً وغايةً وما ضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أسماء لمخترعات
اللغة العربية عدد ألفاظها 40 مليون كلمة، واللغة الإنجليزية (40 ألف) كلمة، اللغة العربية تستطيع أن تقول في المعنى الواحد عدة مفردات، لكل مفردة مؤديات ومقاصد، مثل: وقف وقام ونحو ذلك من المترادفات، ولكلٍ مدلول وأقول استطراداً: نحن من رداءتنا في العربية نحسب أن الكلام كله مترادف، نقول: (اقعد واجلس) بمعنى واحد، وهذا خطأ عند أهل اللغة، فإنهم يقولون: اقعد لمن كان نائماً، ويقولون: اجلس لمن كان واقفاً، فلا تقل للنائم اجلس، ولكن قل اقعد، وقل للواقف: اجلس، ولا تقل: اقعد؛ لكن نحن أوردناها هكذا.
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
وقال الطاعنون: هذه اللغة العربية ليست لغة صناعة، ولا لغة تكنولوجيا؛ لأنها لا تستطيع أن تأتي بهذه الأمور، قلنا: لماذا؟ قالوا: لأن هناك مستجدات مثل: ميكرفون، مثل التلفزيون، مثل التليفون، هذه ليست في العربية، ولا يعرفها سيبويه ولا ذكرها في الكتاب، فقال العلماء: نحن نستطيع أن نقولها وأن نصوغها بالعربية، والعربية تتحمل، فاتفق المجمع اللغوي في دمشق على وزن: فعَّالة على أكثر المصنوعات فقالوا: سيارة، وطيارة، وحفارة، وحراثة، وسماعة، ونقالة وهكذا، ولذلك ما ضاقت اللغة العريية أبداً؛ لكنهم يريدون أن يطعنوا فيها حتى لا تصلح.
وأول من طعن طه حسين؛ لأنه من مدرسة غربية فرنسية ينادي باللغة العامية، يقول: لابد من الكتابة باللغة العامية، فالصعيد يتكلم بلغة الصعيد، وأهل نجد بلهجة نجد، وأهل الجنوب بلغة أهل الجنوب والشمال بلغة أهل الشمال، فلتكن الكتابة كذلك يريد إضاعة اللغة العربية والقضاء عليها، لكن الله حفظها بالقرآن والسنة فله الحمد سبحانه والشكر.(374/12)
الطعن في الأمة وحربها بشتى الوسائل(374/13)
الطعن في العلماء والدعاة
مما ذبح به الإسلام: الطعن في العلماء والدعاة، ووصفهم بالتخلف والتزمت وضيق النظرة.
وهذه سهام ترشق صباح مساء على العلماء والدعاة، فيقال: لا يعرفون، لا يجيدون، متطرفون، أصوليون، فضوليون، سبحانك ربي! أما المجرم العميل الذي يحارب الله ورسوله، فلا أدري ما أقول عنه.
وأما العلماء فدائماً تعلق عليهم هذه الشعارات حتى يُحارب الإسلام؛ لأن مصادر التلقي عندهم أهل العلم، فإذا أُبطلت عدالتهم فمن نقبل؟ ومن سيفتي؟ ومن يعلّم؟ من يرشد الناس وينصحهم؟
إذا أميتت عدالة أهل العلم والدعوة ضاعت الأمة.(374/14)
الحرب النفسية على المسلمين
إن الهزيمة النفسية تعمق في قلوب المسلمين، فيرى المسلم أن الغالب والقوي والمصنع والمخترع والمكتشف غيره، أما هو فلا يستطيع أن يقدم للبشرية شيئاً، نحن نعيش أزمةَ هزيمةٍ نفسيةٍ، حتى تجد أننا ننظر للغرب والشرق أنهم دول غالبة، مثل دول الفيتو، التي هي دول كافرة، ولها حق النقض، وهي دائمة العضوية، وهي التي تورد وتصدر، أما الدول الإسلامية، فكما قال الأول:
ويقضى الأمر حين تغيب تيمٌ ولا يستشهدون وهم شهودُ
فيعترضون فلا اعتراض، ويوافقون فلا موافقة، إن وافقوا أو اعترضوا، إن غابوا أو حضروا، فنحن ننظر الآن بهزيمة نفسية أننا لا نستطيع أن نفعل مثلما فعل هؤلاء، صنعوا، وأنتجوا، وينظر الناس حتى بنقصٍ في التوحيد أنهم لا يُستطاع أن يغلب هؤلاء ولا يُستطاع عليهم؛ حتى يشك أحدهم في القدرة الإلهية، ويأتي الأطفال فيقولون: هل يستطيع الله أن يغلب الاتحاد السوفيتي؟!! سبحانك! الله يدمرهم بأسلحتهم، وفي وقتٍ من الأوقات أبادهم الواحد الأحد، قال: {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [يوسف:21] يقول أحد العلماء: إن انهيار الاتحاد السوفيتي كان تحت مظلة آية: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] فهو الذي يغير ولا يتغير، ويبدل ولا يتبدل، وأكثر ما رشقت به الأمة أن الأطفال في البيوت يتربون على هزيمة نفسية، فيتصور أن هذا الكافر لا يغلب، وأنه المخترع، أما المسلم فلا يستطيع أن يخترع ولا أن يكتشف، ولا يقدم ولا ينتج.
ونحن الذين فعلنا بأنفسنا ذلك، لم نقدم صراحة للبشرية في الفترة الأخيرة إلا ما رحم ربك، لا في دينها ولا في دنياها، الواجب أن نكون نحن المؤثرين في الغرب والشرق، لكن غزينا في عقر دارنا، وأصبح المبشرون في كل جهة؛ في المستشفياتِ، والمدارس، والمصحات، والمعامل، والمؤسسات، والشركات، فنشكو حالنا إلى الله.(374/15)
دس المستغربين في مؤسسات المسلمين المختلفة
أيضاً أيها الإخوة: مما ذبح به الإسلام إيجاد نخبةٍ مستغربة الفكر، أجنبية العقل، تخلع هالة المعرفة عليها والثقافة والذكاء، وترطن بلغة الأجنبي، وتزعم الذكاء والعبقرية.
وبالمناسبة فإن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في اقتضاء الصراط المستقيم: يرى التكلم باللغة الأجنبية لغير حاجة بين العرب المسلمين علامة من علامات النفاق؛ لكن بالضوابط، ولا تحملوا كلامي على غير محامله، مثلما حمل خطاب الشيخ ابن باز الذي دافع فيه عن الدعاة على غير محله؛ فذهب الناس، وقالوا: ابن باز يرشق الدعاة، ابن باز يرد على الدعاة، ابن باز يحذر من الدعاة، وهو يذب عن الدعاة، وأنا وإخواني من طلبة ومشايخ ممن كانوا حضوراً يعرفون ماذا يريد الشيخ.
فلا تحملوا كلامي على غير محمله، فتنقلوا عني وتقولوا: يقول لنا: من يتعلم الإنجليزية منافق، أنا لا أقول هذا اسمعوا العبارة، يقول ابن تيمية: من تحدث بلغة أجنبية بين المسلمين العرب دون حاجة فذلك من علامات النفاق؛ يعني: عند أمه وفي البادية في خيمة وعند جده، يقول: good buy يعطيه أبوه الشاي، وهو لا يعرف نواقض الوضوء فيقول: Thank you فهذا علامة النفاق، أي: أنه معجب بأولئك، وأنه مجمرك، هذا مقصود ابن تيمية، ألا يكون الإنسان ملغماً من داخله لأنه علامة النفاق، بل يكون معتزاً بالعربية الفصحى، قائماً على لغة القرآن، محترماً للمبادئ، يحمد الله أن جعله من أمةٍ فصيحة، أمةٍ عربية معطاءة، لا أدعو إلى القومية لكن إلى لغة القرآن.
هذه النخبة المثقفة ترى نفسها أنها هي التي تجيد تسيير الأمور، وأنها هي الصالحة، وأن عقليتها متفتحة، وأما العقليات المغلقة فهي عقليات الدعاة وطلبة العلم والملتزمين، هؤلاء أهل اللحى والثياب القصيرة لا يستطيعون أن يفهموا، ولهم فهمٌ خاص، فالغربي أوجد هذا، وفرضه على المسلمين في نواديهم، وفي مجامعهم، وفي أماكنهم، وفي قراراتهم، حتى سيرت الأمة كما شاء الغربي.(374/16)
إشغال عامة المسلمين بالمعيشة فحسب
ومما ذبح به الإسلام إشغال عامة المسلمين بالمعيشة فحسب؛ من طعامٍ وشرابٍ ومسكنٍ وزواجٍ ووظيفة، فلا تجد من يفكر في هموم الإسلام إلا قليلاً، يشعرون المسلم منذ أن يصلي الفجر وهو في همومه، من ورشته إلى بيته، إلى طعامه، إلى ثلاجته، إلى أطفاله، يشتري ويأكل، ويبني ويسكن، عنده عمارات، وعنده دور، وعنده دخل، وعنده فلوس، همه المعيشة فقط، وليس معنى ذلك أني أدعو إلى التجرد من الدنيا وتركها والانقطاع والرهبنة، لكن إلى الاعتدال، فإن أمر الله أعظم، فلابد من التضحية في سبيله، الصحابة برعوا وتاجروا وجاهدوا، لكن أعظم قضية عند الواحد منهم لا إله إلا الله، بالله عليك كيف يصبح أبو بكر الصديق؟! تظن أنه يتفكر في بيع الجمال والبقر؟ إنه كان يتفكر ماذا يقدم لهذا الدين، ما هي الوسيلة التي ينصر بها دين الله، والآن الملايين المملينة من العالم الإسلامي يعيشون في هامش المعيشة، حتى ضيق على العالم الإسلامي في معيشته ودخله، فأصبح يطارد اللقمة من مكان إلى مكان، حتى لا يشتغل فقط إلا بأطفاله ومعيشته وسياراته، ولا يتحرك للدين، ولا يخدم مبادئ الله عز وجل، ولا يعلم كيف يصلي الصلوات الخمس ويصوم رمضان، ويعتمر ويحج، تمر به الأيام والأشهر، ولم يقدم للدعوة شيئاً.
أنا أعرف أن الأمة ليست كلها خطباء ولا دعاة ولا محاضرين، لكن فليذيعوا الشريط، ولينشروا الكتيب، تبرع، ابن مسجداً، شد من أزر الدعاة، ادعُ لهم بظهر الغيب، ذب عن أعراضهم، حاول أن تستخدم مهارتك أو قوتك التي منحك الله في نصرة الإسلام، إذا أتيت لتنام فاسأل نفسك: ماذا قدمتُ للإسلام في هذه الليلة؟ إن المستعمر نجح نجاحاً باهراً في ذبحه الإسلام حين جعل العامة يشتغلون بأنفسهم ولا يشتغلون بالإسلام.(374/17)
طرق أخرى يذبح بها الإسلام(374/18)
شغل الطالب بالجزئيات
الثاني عشر: ذبح الإسلام في أن أشغل الكافر المبتدئين في طلب العلم بجزئيات المسائل؛ كيف تفرغون الطاقة والجهد في هذه الأمور على حسب الكليات.
فيتركون أصول المسائل، والقواعد العامة، وينشغلون بالجزئيات، وقد جعل ابن القيم مداخل الشيطان ستة مداخل:
يسعى الشيطان أولاً إلى أن يكفر العبد، فإن لم يستطع رماه بالبدعة، فإن لم يستطع ابتلاه بالكبيرة، فإن لم يستطع فبالصغائر، فإن لم يستطع أرهقه بالمباحات، فإن لم يستطع أشغله بالمفضول عن الفاضل.
ومن جزئيات المسائل: تحريك الإصبع في الصلاة، وهي سنة لا بد أن نفهمها ولا بد نعيها، لكن يا إخوة لا تؤخذ المجالس كلها في تحريك الإصبع، نأتي إلى مجتمعات بعضهم لا يصلي، وبعضهم ينتشر فيهم الزنا، وبعضهم الربا، فنشغلهم بتقصير الثوب، فهذا غير سديد، لا بد أن نخبرهم أن تقصير الثوب سنة، وأن تطويل الثوب على الكعب حرام، لابد، لكن كم تأخذ منا المسائل الكبرى.
الرسول عليه الصلاة والسلام يرسل معاذاً إلى اليمن فيخبره بالكليات والقواعد العامة ويقول: {ليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإذا أجابوك وأطاعوك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة}.
فنصيحتي أن نفعل مثلما فعل أحمد بن حنبل وابن تيمية، نجتهد في الكليات والأصول، ونعطي الجزئيات حقها وحجمها، لا نضيعها ونهملها، ولا نعطيها أكبر من حجمها.
يا أخي الإسلام ينتهك في العالم طولاً وعرضاً، المسلمون يذبحون، أجهزة الإعلام في العالم تهاجم العلماء، وتهاجم الإسلام والقرآن والسنة، وأنت في مسجد في قرية تلاحق جماعة على مسألة تحريك الإصبع وجلسة الاستراحة، وبينك وبينهم شجار ومجلس وأخذ وعطاء وردود، كتب في التصوير أكثر من خمسين مؤلفاً صغيراً وكبيراً.
فينبغي ألا نشغل المسلمين ولا نشغل الأمة بهذه القضايا الجزئية التي بعضها متهالكة أكل عليها الدهر وشرب، سئل شيخ الإسلام ابن تيمية: لم لم تؤلف في الفروع كتاباً؟ قال: مسائل الأصول أهم؛ لأنه يريد منهجاً ربانياً يقوم الأمة عليه.(374/19)
انصراف العلماء إلى الترف العلمي
الثالث عشر مما ذبح فيه الإسلام: انصراف كثيرٍ من العلماء إلى مسائل ثانوية من الترف العلمي، ككثرة الشروح لمتنٍ شرح عشر مرات، واستحداث إشكالات وافتعال معارف كلامية لا وجود لها في أرض الواقع.
صراحةً ما مثلنا ينقد لكن ننقل ما قاله بعض العلماء الفضلاء: إن كثيراً من أهل العلم اشتغل في بعض الأمور والشروح والأمة تضيع، يعني: قد تجد بعضهم في بيته يشرح متناً في الفقه قد شرح عشر مرات، فيتكلم عن المسألة، ثم يشرحها، ثم يحدث عليها إشكالات، ثم يكتب على الحاشية حاشية، والشباب والجيل والنساء والأمة تضيع، ولم يخرج إليهم ولم يجلس معهم، والترف العلمي لم يكن من هدي الصحابة، كان عمار إذا سأله السائل عن مسألة يقول: أكان هذا بعد؟ فإذا كان تجشمناه لكم، أي: قال: لا، قال: إذا وقعت تطوي الشمل إليها، إذا وقعت حللناها، وقال بعض السلف: نحن بما وقع أشغل منا بما لم يقع؛ وبعضهم الآن يتحدث عن المهدي المنتظر، من أين يخرج؟ وبعضهم رد برسالة قالوا: أدنى الأرض هل هي غور الأردن أو جزيرة العرب؟ قال أحدهم: غور الأردن، وقال الآخر: جزيرة العرب ما الفائدة؟! يقول سبحانه وتعالى في القرآن: {فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم:3] بحيرة طبرية متى تجف؟ وأين نخل بيسان؟ ومن أين أتى فيل أبرهة؟ هل أتى من السروات أم من تهامة؟ وسوق عكاظ هل هو قريب من ذي المجاز أم بعيد عنه بخمسة كيلو؟ وجدة هل هي جَدة أم جُدة أم جِدة؟ وجازان هل هي جازان أو جيزان؟ هذه مسائلهم، يستحدثون بها الاشكالات.
والحمد لله قد أخبرونا أن عكاظاً في الجزيرة ليس في قبرص ولا في البرازيل، إذاً فدعونا نقرأ الكتاب والسنة وننقذ البشرية، وهذه مسائل مستهلكة أكل عليها الدهر وشرب، هذه مقصودها استهلاك وقت العلماء ووقت المفكرين، العالم الغربي يصنع وينتج ويدير القرار، ويحرك الاقتصاد في العالم، ويحرك المشاريع، والقرار يؤخذ ويُعطى، وتحرك به ملايين، وأنت تعلمنا موقع سوق عكاظ؟ من أين أتى أبرهة؟!!! أبرهة أتى بفيل، أهلكه الله ودمره والعظة أن التوحيد انتصر، والكفر هلك، بعض المفسرين الأوائل مثل صاحب تفسير الخازن يقول: كلب أهل الكهف قيل مبرقشٌ أسود، وقيل: أحمر على عينيه نقطتان، والأربعة الطيور التي أخذها إبراهيم قالوا: باز وبطٌ ودجاجٌ وحمام، أقول: يا أخي ما عليك بط ووز، لسنا في حديقة الحيوانات، الله عز وجل أخبرنا بأربعة طيور، وأخبر بالكلب، والمقصود العظة من القصة، ولو كان فيها مصلحة ما تركها سبحانه وتعالى ولكان ذكرها، فلا ينبغي إشغال الأمة بتفاهات وبخلافيات تمزق وقتها عليها.(374/20)
التخويف من الإسلام
أيضاً مما ذبح به الإسلام: تخويف الرأي العام من الإسلام، ووصفه بالمارد الجبار، الذي سوف يحرم على الناس كل شيء ويشقيهم، ويدخلهم قفص الأوامر والنواهي، قرأت مقابلة في الشرق الأوسط مع أحمد آية زعيم الحزب الاشتراكي في الجزائر أهلكه الله ولا سلمه، والحمد لله خرج من مظاهرة ستين ألفاً والملايين المملينة تريد الإسلام، يقول: أخشى من هؤلاء أن يحرموا كل شيء، عليك غضب الله! يحرمون كل شيء وهم أتباع محمد صلى الله عليه وسلم الذي: {يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] أنت تريد أن تشرب الخمر دائماً، هم يقولون: لا، كلوا الطيبات واتركوا الخبائث، فيحذرون المسلم منها، قال: هؤلاء سوف يسفكون الدماء، ويقيمون المشانق، ويفتحون السجون، وما علم أن الإسلام رحمة، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] فيتخوف الرأي العام، حتى إن الناس الآن يخافون من الملتحين، حتى من أبناء المسلمين، بسبب ما يشيعه عنهم الإعلام الغربي إذ يقول: المتطرفون في الجزائر يقومون بمظاهرة، المتطرفون في أسيوط يخرجون بعد صلاة الجمعة يكبرون، المتطرفون في السودان يطالبون بالحكم الإسلامي، فمن يحكم عليهم بالتطرف؟ أتباع محمد صلى الله عليه وسلم يريدون الحل الإسلامي الحضاري يقدمونه للناس، بدل الحثالات البشرية التي تجمعت في عصابات تحكم الناس في ضمائرها ومعتقداتها.
فخوفوا الناس من الإسلام، وخوفوهم من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، وهم أهل الرأفة والرحمة.(374/21)
تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
الخامس عشر: تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحجة أنه تدخل في حريات الناس الشخصية وإثارة للفتن.
قرأت في صحف الكويت وهي ما زالت عندي في الملف، في العدد (16) لـ صوت الكويت، قالوا: القطان والبلالي يأتونا بهرطقات عندما يقولان: إن اعتداء صدام علينا بسبب معاصينا.
ويقولون: هيئات الأمر بالمعروف جهازٌ بوليسي يطارد الناس في حرياتهم، ثم يأتون بقصص مفتعلة على الهيئات، قالوا: رجل الهيئة يدخل رأسه من السيارة ويقول: يا فاجرة أنتِ زوجة الرجل هذا؟
وهل يستطيع أحد أن يقول هذا؟! رجال الهيئة يتدخلون في حريات الناس، يطاردون عباد الله!
إنهم يفتعلون هذه الأمور حتى يخوفوا الناس، يقولون: صلّ ولا تتحدث لأحد، بمعنى: أن المنكر من صلاحيات الناس، ليس من صلاحياتك أن تنهى وأن تأمر.
إنه يوم أن تترك الأمة النهي والأمر تموت.
قال ابن تيمية في المجلد الأول: لا بد للعبد من أمرٍ ونهي، وأنا لا أدري ماذا يريد الشيخ ابن تيمية، إن كان يريد لا بد للعبد من أمرٍ ونهي أن يكون مأموراً ومنهياً، فهذا صحيح، وقد ذكره في مواضع، يقول: لا بد للعبد في الحياة أن يكون مأموراً من الله منهياً منه سبحانه وتعالى، ومن رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن الإنسان لا يترك سدى، وقد يريد به أن يكون آمراً وناهياً آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر، والوجهان صحيحان إن شاء الله.(374/22)
امتصاص دماء الشعوب في معارك معينة
السادس عشر: امتصاص دماء الشعوب في البلاد الإسلامية في ثورات ومعارك يستفيد منها غيرهم.
فما أضعف الشعوب الإسلامية! في تركيا قدموا بركاً من الدماء وخزانات، ثم أتى مصطفى أتاتورك الرجل الصنم عليه غضب الله، فلوى عنق الإسلام، وأخذ المصحف وداسه أمام البرلمان، وأخذ امرأة متحجبة من حزبه، ودعاها أمامه، ثم أخذ حجابها وقطعه أمام جزمته، وقال: لا حجاب بعد اليوم، وألغى اللغة العربية، وأغلق المساجد، وأدخل خيوله وبغاله في المسجد الأعظم في اسطنبول والشعب المسكين يريد الإسلام، فهو بلد مسلم، منهم محمد الفاتح.
يريدون لا إله إلا الله محمد رسول الله، فقال لهم مصطفى أتاتورك: قدموا دماءكم وانصروا دين الله، فقاموا وحاربوا، فلما سفكت دماؤهم استغل الفرصة هو.
الباكستان أرض محمد عرب وأبي الأعلى المودودي ومحمد إقبال.
نفسي فدتك أبا الأعلى وهل بقيت نفسي لأفديك من أهلٍ ومن صحبِ
أما استحى السجن من شيخٍ ومفرقه نور لغير طلاب الحق لم يشبِ
فلما أتى محمد علي جناح أخذ مقاليد الحكم ورفض الإسلام.
ابن باديس في الجزائر رحمه الله، من مدرسة السلف الصالح، ومن مدرسة أهل السنة والجماعة، والجبهة من مدرسة عبد الحميد بن باديس فهو الذي درسهم وعلمهم، فسر القرآن في خمس وعشرين سنة في جنوب الجزائر، حتى كانوا يأتون له في يوم التفسير -أظنه مساء الجمعة- على البغال والجمال من أنحاء الجزائر ودرسهم، فلما انتهى من سورة الناس بعد خمس وعشرين سنة، قام وبكى أمام الألوف المؤلفة، وقال: ليس المقصد من تفسيري لكم القرآن أن تكونوا نسخاً متكررة ميتة، إنما مقصودي أن تدمروا فرنسا، فقاموا يكبرون من المسجد، وخرجوا يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
فذبحوا الفرنسيين على الطريقة الإسلامية، ولذلك يقول ميتران قبل أربع ليالٍ: إنني لا أستطيع أن أتدخل في الجزائر، لقد علم أنه لا يستطيع لأن الشعب مسلم:
إن بني عمك فيهم رماح
ولو كان في غير الجزائر لتدخل؛ لكن الجزائريين أمرهم معروف، وشجاعتهم، ومروءتهم وحزمهم معروفة.
والآن بعد طرد الفرنسيين من أولى أن يسير البلاد بالكتاب والسنة؟ لقد جاءوا بجوار رجل اسمه محمد خروبة، كان مجرماً سفاكاً فأتوا به فوضعوه، فسفك دماء الإسلاميين، وشنق العلماء، وقتل الدعاة، وفتح الزنزانات، هذا جزاء الشعوب.
ثم يقال للإسلام: نعم في المسبحة، ونعم في السواك، وفي صلاة الاستسقاء، وفي القراءة على المصروع، أما في تسيير الأمة فلا.(374/23)
فصل الإسلام عن الحياة
السابع عشر: ركن الإسلام عن الحياة وأخذ الإسلام كشعارٍ يبارى به وينافح، والإيمان به في مسائل معروفة فحسب.
وهناك بعثي تسمعهم يقولون عنه في الأخبار: وقد حضر صلاة العيد، وهناك بعثي آخر يقولون عنه: حضر المولد النبوي الشريف.
يا عدو الله تذبح ثلاثين ألف في مسلم في حماة وتحضر المولد؟!
إن رداء الإسلام الذي يحملونه شعار ولافتة فقط، ولكن الله سبحانه وتعالى يظهر الخبايا، والله سبحانه وتعالى كما قال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142].
فالإسلام يركن من التعامل والفاعلية والتأثير إلى أن يصبح شعارات وكلمات رنانة براقة تذهب بها الريح، قال: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17].
وهذا صدام لما أتت أزمة الخليج ادعى العودة، وجمع العلماء، وأخذ يبكي في المحاضرات، وأخذ يصلي أمام الناس، يصلي ليخدع الناس، وهو الذي قتل العلماء وشنقهم وطردهم في مشارق الأرض ومغاربها، وغيرهم كثير.(374/24)
إرعاب العالم من كلمة الجهاد
الثامن عشر: إرعاب وإرهاب العالم من كلمة الجهاد وأنها همجية وبربرية وإزهاقٌ للأنفس.
الطائرة الأمريكية التي أسقطت، وبعض الناس اتهموا بها الليبيين، وهم لا يفعلون ذلك حماهم الله، فقالوا: هم الذين أسقطوها، حاولوا قالوا: قدموا لنا الجناة لا بد أن نحاكمهم، يقول القذافي في بعض مقابلاته الصحافية: إن لم تقف أمريكا وبريطانيا وفرنسا عن تهديدي فسوف أربي لحيتي وأكون أصولياً منذ اليوم، يقول: إن كانوا سيعقلون، وإلا سوف أطلق لحيتي وسوف أقود الأصولية؛ لأن الأصوليين يقولون: بايعونا في سوق الخضار، لا بل في سوق الجنة، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ} [التوبة:111].
لما احتل الشيوعيون كابل كان هناك عمال في طهران، من أهل السنة أفغان، وهذا الخبر بث في هيئة الإذاعة البريطانية، سمعوا الخبر، فماذا فعلوا بعد أن سمعوا أن الشيوعيين أخذوا الحكم في كابل، توجهوا مباشرة بالفئوس والمعاقل إلى السفارة الروسية فهدوها، ثم أخذوا علم روسيا فأحرقوه، ثم أخذوا يدورون في السفارة يقولون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
وقد علموا العالم الإسلامي درساً من أعظم الدروس في حياة الشعوب.
فأعداء الإسلام يرهبون الناس الآن من كلمة الجهاد، ويقولون: الآن انتهى وقت الجهاد والمقاتلة بين الشعوب، والآن الموافقة سلمية، واتفاق إنساني، ووفاق دولي، ولا يجوز للإنسان أن يرفع كلمة الجهاد؛ لأنها تزلزلهم وتخيفهم، ولا بد من الجهاد، ولا تحيا الأمة إلا بالجهاد، وقد روى أحمد رحمه الله في المسند وصححه ابن القطان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {إذا تبايعتم بالعينة، وتركتم الجهاد، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى تراجعوا دينكم} ومعنى الحديث يقول: إذا فتحتم مكاتب عقارية، وتركتم رسالة الإسلام، وانشغلتم في زراعة البطاطس والبقدونس فقط، وتركتم الرسالة الخالدة، وأخذتم أذناب البقر في الحراثة والزراعة -وهذه لا نبطلها لكن بقدر- سلط الله عليكم ذلاً، وقد حدث هذا في كثير من أنحاء العالم الإسلامي.(374/25)
فصل العالم الإسلامي عن بعضه
تاسع عشر: فصل العالم الإسلامي بعضه عن بعض، وإيصاله إلى تمزقٍ لم يعهد مثله في التاريخ، وجعله دويلات متناحرة.
ففي كل بلدة تسمع الحرب والانقلابات، دويلات صغيرة، وفي كل مكانٍ أمير المؤمنين ومنبر، يقول الشاعر:
مما يزهدني في أرض أندلس ألقابُ معتصمٍ فيها ومعتضدِ
ألقاب مملكةٍ في غير موطنها كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسدِ
دولٌ أكثر من التراب، ولا تأتي إلا في ولاية من ولايات أمريكا، خمسة وعشرون دولة ما تأتي مثل جمهورية من جمهوريات روسيا، إما أذربيجان، أو كازاخستان، أو روسيا البيضاء، ولذلك بريطانيا لما استعمرت العالم العربي جعلت بين كل دولة ودولة مشكلة، لا تخرج إلا وتضع في الحدود مشكلة حتى يتقاتلوا عليها كل يوم، فمشكلة بين حدود مصر وليبيا، وبين السودان ومصر وبين العراق والأردن، وبين الأردن وسوريا، وهكذا مشكلات وحروب طاحنة، فتمزيق العالم الإسلامي في دويلات مقصود، وإلا فالعالم المسلم ليس له حدود، وجنسيته الإيمان، وهويته لا إله إلا الله، وبلاده كل أرضٍ أشرقت عليها شمس الرسالة.(374/26)
كبت الصوت المسلم
رون: كبت الصوت الإسلامي في مجال التأثير والفاعلية.
فكأنه يجوز لكل أحدٍ أن يتكلم وأن يكتب وأن يحاضر، إلا الصوت الإسلامي، يقول شوقي:
أحرامٌ على بلابله الدوح حلالٌ للطير من كل جنسِ
نفي إلى أسبانيا، وأخذ ينشد من هناك ويقول: تطردوني من مصر وأنا من أبناء مصر؟! يقول:
أحرام على بلابله الدوح حلالٌ للطير من كل جنسِ
تسمع كل الأصوات إلا أصوات أهل العلم والدعوة يريدونها أن تكبت وأن تخفت؛ لأن أهل العلم والدعوة يقولون الحق ويصدقون، ولأنهم لا يخافون في الله لومة لائم، وأعظم شيء أنهم على منهجٍ رباني.(374/27)
التضييق على الرؤية الإسلامية في الاقتصاد
الحادي والعشرون: عدم إعطاء الاقتصاد الإسلامي الفرصة ليقدم الخيار، ولينقذ الناس من ورطات الربا، وجعل الربا هو الأصل.
فالآن جعلوا الربا هو الأصل، وجعلوا الاقتصاد الإسلامي هو المستثنى، فأصبح في العالم الإسلام البنوك الربوية طولاً وعرضاً، وأصبح الربا مفروضاً على الناس، وأصبح بعض المنتسبين للإسلام الآن إذا أقنعته بأنه محرم قال: نحن لا نستطيع أن نعيش إلا بالربا، لا بد من الربا.
سبحان الله! شريعة بعث بها محمدٌ صلى الله عليه وسلم حلت شئون العباد والبلاد صغيرة وكبيرة إلا مسألة الربا؟ حاشا وكلا! وألف حاشا! بل أتى صلى الله عليه وسلم بها، وجعل لها حلاً عليه الصلاة والسلام، لكنه ما قدم الخيار في الاقتصاد الإسلامي، وفرض على الناس الربا فرضاً، وتورطوا في الربا، وأصبح الواحد يأكل من غبار الربا إن لم يأكل منه.(374/28)
إلقاء التهم على الملتزمين
الثاني والعشرون: وصف المستقيمين بالتطرف والتزمت والتشدد.
أنا الآن أقف أمامكم، وأنا أسألكم بالله العلي العظيم إذا كانت مدرسة أحمد بن حنبل؛ مدرسة أهل السنة والجماعة، ومدرسة ابن القيم، ومدرسة ابن تيمية، والشيخ محمد بن عبد الوهاب، المدرسة الإسلامية التي بعث بها محمد صلى الله عليه وسلم متطرفة متشددة متزمتة، ففي من يكون العدل؟! وفي من يكون الإنصاف؟! وفي من يكون التوازن؟! هل سمعتم أحداً ممن مكن في العلم وقامت قدمه يكفر مسلماً؟ هل سمعتم عالماً أو داعية يحرم حلالاً؟ تشويه، متطرفون، متزمتون، متشددون.
أسألك بالله أليس شرفاً أن تكون متبعاً لمحمد صلى الله عليه وسلم؟!
والتعليقات الآن عند الرأي العام على الملتزمين فقط.
وتجد الآن من يخالف السنة، أو يشرب الخمر، أو يشتغل بتناول المخدرات أو يكون مروجاً لها أو يسمع الأغنية المحرمة التي أجمع أهل العلم على تحريمها أو يسهر الليالي الحمراء، أو يضيع وقته، أو لا يحضر صلاة الجماعة، أو يهجر القرآن، أو يحلق لحيته، أو يطيل ثوبه، ومع ذلك لا يجد لائمة من الرأي العام، لكن الشاب الملتزم بسبب تغير وانتكاس المفاهيم، وعدم عقلانية الناس إلا من رحم ربك؛ حين يحافظ على الصلوات الخمس، ويقصر ثوبه، ويترك لحيته؛ لأنه يحب القائمة البيضاء، محمداً وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً، والله الذي لا إله إلا هو لولا هذه القائمة بعد الله كانت أنوفنا في التراب والطين.
هل عندنا تاريخ غير محمد صلى الله عليه وسلم وهذه القائمة؟! بهم نباري الأمم، لا يستطيع أحد منهم أن يقول كلمة يستنقص بها واحداً منهم؛ حتى أرغمت على الحقيقة أنوفهم إرغاماً.
هارف في كتابه الأوائل يقول -وقد كررت قوله وأكرره والحقيقة تفرض نفسها-: أجدني مضطراً أن أقول: إن العظيم الأول في العظماء المائة في العالم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف لا نباهي الناس ولا نفتخر أننا من أتباعه؟! لكن تجد الشاب يأتيني أو يأتي غيري من الإخوة الدعاة قال: والله يا أخي! أنا والله خجلان أريد أن أطلق لحيتي، لكن أبي وإخواني يستهزئون بي وفي جزيرة العرب أو في البلاد الإسلامية عموماً يستهزئون بك، قال: وأنا أريد أن أقصر ثوبي، لكن إخواني والجيران ربما يضحكون علي في المجالس، سبحان الله!! يضحكون عليك لأنك اتبعت الرسول صلى الله عليه وسلم؟! أصبح هؤلاء هم المعنيون بالتعليقات المرة التي لا يستحي منها أصحابهم، والله العظيم إنه لشرف لنا وللمسلمين أن يرى الإنسان هذه المسيرة.
يخبرني أحد الدعاة المشهورين يقول: رأيت في الجزائر مسيرة خرجت بعد صلاة الجمعة، قال: وإذا هم على منهج أهل السنة والجماعة، اللحى والثياب والزي الإسلامي، قال: فبكيت والله حتى سالت دموعي من رأس لحيتي، ومن يستطيع ألا يبكي؟! أنا سمعت أحدهم في هيئة الإذاعة البريطانية فيسألونه واسمه عبد القادر، يقولون: إنكم سوف تكونون مصدر شقاء للشعب الجزائري؟ قال: سبحان الله، الدين الذي أنزله الله سعادة للبشر أيكون شقاءً للإنسان؟! يقول سبحانه وتعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] أي أن الأفكار الغربية والشرقية المستوردة هي شقاء للإنسان والشريعة الإسلامية هي السعادة، وكيف لا يفرح العبد حين يرى الألوف المؤلفة اتجهت إلى الله عز وجل، وصلَّت وكبرت، وأحبت محمداً صلى الله عليه وسلم؟! لكنها التربية الماكرة التي صنعها العميل من وراء الستار، وأخرجها للناس، وجعلها هي الحل، وجعلها هي الأصل، وجعل غيرها طارئاً عليها.
ما كنت أظن حتى في المجتمعات القبلية أنهم يلومون الشباب إذا اقتدوا بالسنة، المجتمعات التي كان الواحد منهم إذا قال له: تعدني أن تأتي؟ قال: نعم، قال: ماذا بيني وبينك؟ قال: هذه وجعل يده على لحيته، وإذا قال له في أمر جعل يده على لحيته، معناها: قطع الرءوس ودون ذلك خرط القتاد، إذا وضع يده على لحيته، فهي الخطورة القصوى التي لا بد أن تنفذ، يقول أحدهم: إذا ما تم هذا الأمر فاحلقها فيقول: لا.
مصانة مكرمة، والآن تحلق مجاناً، معذرةً لا أريد جرح الشعور، وأنا أعرف أن بعض الناس يحضر معي عندهم إيمان ومتبعون ولكنهم أخطئوا في حلق اللحى، أنا لا أريد أن أعلق عليهم، ولا أريد أن أجرح مشاعرهم، هم إخواني وزملائي، ووالله إني أحبهم لأصل الإيمان في قلوبهم؛ لكن أرجوهم اتباع محمد صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] أخشى أن يخرجوا ويقولون: كفرنا، أو فسقنا، أنا أقول: أخطئوا وعصوا ولا بد أن يتوب الله علينا وعليهم وهم إخواننا وأبناء عمومتنا، لكن والله نريد أن يكتملوا في اتباع سنته عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أتى بسنةٍ لا بد أن تكون ظاهرة وباطنة، تقولها قوية: أنا مسلم متبع للسنة ولا تخجل من أحد؛ لأنك على الحق وغيرك على الباطل، يقول سبحانه وتعالى في الجبناء السفهاء من المنافقين: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ} [النساء:8].
فنصيحتي لإخواني: أن يتحملوا الاستهزاء والاستخفاف والاحتقار والتعليق، ويعلموا أنها في ميزان الحسنات، قال سبحانه وتعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].(374/29)
تذكير بعناصر المحاضرة
أعود إلى عناصر المحاضرة مختصراً:
ذبح الإسلام بالطعن في أمور:
الطعن في القرآن.
والطعن في السنة بالطعن المطهرة، في الرسول المعصوم عليه الصلاة والسلام.
وفي النيل من الصحابة.
في تشويه التاريخ الإسلامي.
في وصف الإسلام بأقبح الأوصاف.
في هدم اللغة العربية.
في الطعن في العلماء والدعاة.
الهزيمة النفسية التي يعيشها المسلمون عموماً.
إيجاد نخبة مستغربة الفكر أجنبية العقل.
إشغال عامة المسلمين بالمعيشة فحسب.
إشغال المبتدئين في طلب العلم بالجزئيات.
انصراف كثير من العلماء إلى مسائل ثانوية من الترف العلمي.
تخويف الرأي العام من الإسلام.
تعطيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
امتصاص دماء الشعوب في البلاد الإسلامية في ثورات ومعارك يستفيد منها أعداؤهم.
ركل الإسلام عن الحياة وأخذ الإسلام كشعارٍ فحسب.
إرهاب وإرعاد العالم من كلمة الجهاد.
فصل العالم الإسلامي وتمزيقه إلى دويلات.
كبت الصوت الإسلامي في مجال التأثير.
عدم إعطاء الاقتصاد الإسلامي الفرصة ليقدم الخيار.
وصف المستقيمين بالتطرف والتزمت والتشدد.(374/30)
خاتمة فيها فوائد وتنبيهات
أيها الفضلاء! إكمالاً لهذه المحاضرة ألتقي بكم إن شاء الله لمن أراد مساء الثلاثاء في محاضرة بعنوان: مدرسة أهل السنة والجماعة في جامع شباعة في خميس مشيط يوم الثلاثاء مساءً بعد المغرب، يوم: 3/ 7/1412هـ والدعوة عامة.
لأنه لا بد من ذكر معالم هذه المدرسة، مدرسة أهل السنة والجماعة، ووصفها وصفاً مفصلاً حتى تتضح للناس وتكون على جلية.(374/31)
التوجه إلى الدعوة إلى الله والمشاركة في أعمال الخير
أيها الإخوة الكرام! خطابٌ موجه يوجهه الأخ لأخيه المقصر؛ مثل المتخلف عن صلاة الجماعة، مثلاً:
رجل يتهتك في الغناء.
رجل لا يقيم السنة على مظهره، هنا خطاب كتبه بعض الفضلاء من الدعاة وهو الأخ الداعية: عبد الله بن سعد بن منشط القحطاني كتب كتاباً بديعاً ورقه تجدونها في خارج المسجد مسددة بالآيات والأحاديث وأقوال أهل العلم، يقول:
الأخ الصديق: -الخطاب المفتوح- حفظك الله السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أما بعد:
قال الله جل وعلا: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات:55] ثم استطرد في كلام كالعسل المصفى، أنصح بهذه الرسالة أن تعطى للذين لا يحضرون صلاة الجماعة ولأمثالهم.
إخوتي الفضلاء! هنا بعض المسائل، وهنا كذلك رسالة وهي مأذون لها من الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي ترسل إلى بايع أفلام الفيديو من أرادها يجدها يعني: تسلمها أنت لبايع الفيلم الفيديو حتى يتقي الله ويتوب من فعله هذا؛ لأنه يهدم الملة والدين بسبب ما يفعله من نشر الفيديو المحرم، فهذا تجدونه إن شاء الله، وإذا أحببتم الاتصال والاستفسار أو السؤال فمؤذن المسجد هو الواسطة إن شاء الله.
أيضاً أيها الإخوة الفضلاء! نبهت في كثيرٍ من المحاضرات والدروس عن مسائل مهمة، من أهمها عندي بناء المساجد، لأن الأمة الآن تتجه إلى الله سبحانه وتعالى، وتزدحم المساجد بالمصلين، وكثر الأخيار من عباد الله الصالحين مع كثرة السكان، فالناس يريدون مساجد وقد نبهت عن جامع النماص وجامع تنومة ومسجد في بني الاسمر، وجامع في تريبان وبعض المساجد في مناطق تهامة.
أنا أرى أن نحث كثيراً من الأخيار على جمع التبرعات، وإلى إنشاء المساجد فهي من أنفع ما يكون في عباد الله عز وجل.
أيضاً هناك اقتراح أقدمه هذه الليلة: كثير من الإخوة إما طالب عنده راتب أو معلم، أو موظف، وكذلك الأخوات المعلمات والمربيات والموجهات؛ كل هؤلاء عندهم رواتب، فليت لكل واحد من الجميع صندوق يسمى صندوق الآخرة؛ لأنا -نسأل الله العافية- صرفنا أكثر ما أعطينا في الدنيا؛ في مطاعمنا، ومساكننا، وملابسنا، وسياراتنا، ثم ماذا نقدم للآخرة؟
ماذا نعطي للآخرة؟
ما هو رصيدنا عند الله عز وجل؟
هذا الصندوق يعطي الإنسان من التبرع إلى المسجد وللشريط الإسلامي، وأشكر من وصل منهم تبرعات إلى المساجد، ولكن لا زالت المساجد الآن تحتاج إلى من يقيمها ومن يدعمها، فالله الله في الاجتهاد في هذا لأنه نوعٌ من الجهاد.(374/32)
توجيه حول آداب الاتصال بالهاتف
أيضاً كلمة على استطراد، الاتصال بالهاتف له آداب، ومرحباً بأصواتكم وأصوات مثلكم ممن يتصل مستفسراً أو سائلاً أو ناصحاً أو موجهاً، والعبد المسلم لا يمل من صوت إخوانه، لكن هناك آداب يراعيها المسلم، حتى نكون أمة منظمةً كما أرادها الله ورسوله عليه الصلاة والسلام، وليس معنى ذلك التبرم أو التضايق من الاتصال معاذ الله؛ فإنه شرفٌ للعبد أن يتصل به إخوانه، لكن هناك أوقات كأوقات الصلاة؛ إذا أذن المؤذن فإنه لا اتصال، ويعذر أهل المدن لتفاوت الوقت، أيضاً الاتصال في أوقات الوجبات وهي تختلف من بيتٍ إلى بيت، الاتصال مثلاً في أوقات مثل بعد الحادية عشر ليلاً، فقد انتهى الليل وذهب، ما أخرك يا أخي من العصر والمغرب والظهر والعشاء تقوم تتصل بي بعد الحادية عشرة.
أيضاً -أيها الإخوة- لا تنسوا لطيفة من اللطائف: إن بعض الفضلاء إذا اتصل أخذ دقائق معدودة وطول وعرض في مسألة السلام، وأنا لقيته أمس: كيف حالكم؟
كيف حال أطفالكم؟
عساكم طيبين؟
مع العلم أن هناك ازدحاماً في الاتصال؛ يعلم الله أحياناً العشرات منها، في أوقات محدودة، ويريد الإنسان أن يقضي طلباً أو يوضح مسألة، أو يفتي بما أعطاه الله، فيأتي هذا الأخ من حسنه ومن حسن معاملته وأخلاقه فيحبسك في السلام، وكيف حالكم؟
قلت: طيبون قال: لعلكم مرتاحون؟
قلت: الحمد لله، قال: كيف حال الأهل؟ قلت: طيبون والحمد لله، كيف حال الزملاء؟!!
قائمة من التحقيقات، اختصر يا أخي! قل: السلام عليكم، كيف حالكم؟ وادخل في السؤال.
أيضاً يا أخي! من الأدب -حفظكم الله- الاختصار في السؤال لا تعطني القصة، مثلاً بعض الإخوة وقعت منه طلقة، فأخبرني بقصته مع زوجته، من مذكراته في الحياة: متى تزوج، وكيف عاش معها، ثم وصل إلى النتيجة! أعطني أنا ماذا تريد أن تقول لي، السؤال فقط وأفتيك، لأن الناس بكثرةٍ كاثرة يتصلون، هذه من الآداب.
أيضاً إذا اتصلت بك، أو اتصلت بي لا تقل: ألو، قل: نعم، وإذا اتصلت قل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما ألو فأرجوكم أن تتركوها، وتعالوا بكلماتنا المعهودة، الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يسير الأمة على كلمات إيمانية، أتى أبو ذر إليه وهو في الحرم عليه الصلاة والسلام فحياه أبو ذر بتحية الجاهلية: عمت صباحاً يا أخا العرب، قال صلى الله عليه وسلم: {إن الله أبدلني بتحية خيراً من تحيتك، قال: ما هي؟ قال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته}.
إذا اتصلت بك فرد السلام وسلم تكن بيننا التحايا الإسلامية؛ هذه بعض المسائل التي أردت أن أنبه عليها علّ الله أن ينفع بها.(374/33)
اعتذارات وشكر
أيضاً أيها الإخوة! ربما وقع في المحاضرة أني قلت ميتران رئيس وزراء فرنسا، وهو رئيس الدولة، ونستغفر الله ونتوب إليه، وهذه لا يسجد لها سجود سهو، نقرها ونقول: فإن كان رئيس وزراء أو رئيس دولة فهو واحد، واغتياب الفرنسيين الكفرة جائزٌ باتفاق أهل العلم، وحتى إسرائيل اغتيابها جائز ومطلوب؛ لأنها دولة توسعية، سبحان الله اكتشفنا أنها دولة توسعية، ولها نوايا سيئة في المنطقة، ومما اكتشف أن لها نوايا سيئة، ونحن لا نسيء الظن بالناس لكن ظهر لنا أن لها نوايا سيئة.
أيها الإخوة الكرام! شكر الله لكم، ثم أشكر باسمكم من حضر وعنده امتحان غداً، لكنه التوقد للإسلام والحب للخير والتكاتف والتضامن؛ لأن تكثير سواد المسلمين في مثل هذه المجالس دليلٌ على صدقه وإخلاصه ونصحه، وأعرف أن فيكم من هو أبلغ مني وأفصح، وأعلم وأفضل؛ لكن أراد أن يكثر السواد، كما قال محمد أحمد الراشد: تكثير السواد، ومراغمة أهل الباطل، ولذلك كثر السواد يوم عرفة، ويوم الجمعة، وإظهار سواد المؤمنين أنه كثير كما يظهر أهل الباطل بكثرتهم وبعددهم، فأنت اليوم أتيت تكثر السواد، وأتيت تناصر أولياء الله عز وجل، وأتيت تدرس مع أهل السنة فيمن درس، وأتيت أنت اليوم ترفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله، فكتب الله أجرك، وممشاك، وعودتك، وجلوسك، وأثابك، وكساك حلة، ورعاكم الله على إخلاصكم وعلى تضحياتكم.
أيضاً لا يفوتني أن أشكر الذين يكتبون الرسائل أنهم لأول ليلة حضروا فلله الحمد، وهي والحمد لله فتوحات من الله، ليس منا ولا من أحدٍ من الناس، الفضل فضل الله، أن يهدي الشباب وأن يردهم إليه رداً جميلا، بالأمس كان لا يصلي أحدهم ولا يأتي الفجر، واليوم هو ولي من أولياء الله، أخذ المصحف والسواك وتعلم السنة، والأدعية الصباحية والمسائية، واستنار {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الأنعام:88]، ويقول سبحانه وتعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] وإذا رأيت العبد يفرح لإخوانه لكي يزيد عددهم، ويفرح للإسلام فاعرف أنه مخلصٌ صحيح القلب، أما الذي يغضب من كثرة الملتزمين وكثرة الأخيار فهو مريض القلب وحسبه الله.(374/34)
الخطاب للأمة جمعاء
أيضاً من هذا المنبر أنا لا أخاطب أبناء الجزيرة فقط، أنا أخاطب من هنا العالم الإسلامي، كل مسلم يحضر معي، وليس عندنا هنا شاميٌ ولا حجازيٌ ولا يمنيٌ ولا سودانيٌ ولا مصري؛ لأن محمداً صلى الله عليه وسلم أتى بلافتة: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] اسمحوا لي وقد كررت عليكم لكن أعيد الأبيات:
أنا الحجاز أنا نجد أنا يمنٌ أنا الجنوب بها دمعي وأشجاني
بالشام أهلي وبغداد الهوى وأنا بـ الرقمتين وبـ الفسطاط جيراني
وفي ربا مكةٍ تاريخ ملحمةٍ على ثراها بنينا العالم الفاني
في روضة المصطفى روحي ووالهفي في روضة المصطفى عمري ورضواني
النيل مائي ومن عمان تذكرتي وفي الجزائر آمالي وتطوان
دمي تصبب في كابل منسكباً ودمعتي سكبت في سفح لبنان
فأينما ذكر اسم الله في بلدٍ عددت ذاك الحمى من صلب أوطاني
أيضاً من يحضر منكم عليه أن يكون داعية في بلده، الإخوة السودانيون ينقلون الشريط والكتاب الإسلامي إلى بلدهم ويعيشون الصحوة هناك، الإخوة من الجزائر، الإخوة من سوريا، الإخوة من المغرب، من كل مكان، عليهم أن يكونوا دعاةً لمنهج الله، من الكويت، من الإمارات، من قطر، من البحرين، من عمان؛ لأن بلدنا واحد، ولا بد أن نسعى إلى توحيد الشمل، وإلى تأليف الكلمة، تحت لا إله إلا الله محمد رسول الله، فمثل هؤلاء يذهبون بالشريط الإسلامي وبالكتاب حتى يساهموا؛ لأنه يتصل بالهاتف والله يتصل بالهاتف حتى من بلادٍ نائية يقولون متى تصل الأشرطة، ولم نعرف لهم عنواناً، ولا نعرف بريداً، ولا نعرف كيف نوصل لهم؛ لأنهم قد يفقدون بعض الدعاة في بعض الأماكن، أو المنهج السديد، أو بعض الكتب، ترى دائماً الإخوة هنا يطلبون أن يتعاونوا وأن يأخذوا، وأهل الخير مستعدون للوقوف معهم حتى يكونوا وإياهم تحت مظلة واحدة.
أيضاً لا نسمح لأحد أن يحمل الحزازيات والتفرقات والعنصريات ليفرق بين المسلمين، كل هذه الأمة أمة واحدة، أراد الله عز وجل أن تكون أمة واحدة، لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى، فأتقانا أكرمنا عند الله: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:13].
أيضاً أيها الإخوة الكرام لا يكفي -وقد قلت هذا وأقوله ويقوله غيري- أن يحضر الواحد منا في هذا المجلس ثم يذهب، لا بد أن يكون مؤثراً وداعية في الشريط والكتاب، يستغل المجلس فيحوله إلى مجلس خير، أنت تشتغل في شركة، تشتغل في مؤسسة، في بقالة، في دائرة، في مدرسة، في جامعة، عليك أن تكون أنت اللبنة، ومباركاً أينما كنت.
يقول ابن القيم: المبارك أينما كان هو الذي يدعو الناس في كل مكان.
أي أن قضية الإسلام تكون معك مثلما قال أبو الأعلى المودودي: الداعية المسلم كالذي به صداع فهو لا ينسى صداعه.
الذي عنده صداع في رأسه ينزل إلى السوق ولا ينسى الصداع، وأنت تحمل فكرتك.
يا إخوة دعونا نكون في مستوى من التأثير والمشاركة والفاعلية والتضحية كمستوى المبشرين، يذهب أحدهم إلى الشرق والغرب، وإلى حر أفريقيا وبرد سيبيريا حتى ينشر الدين المنسوخ، الدين المزعوم أنه للمسيح، ونحن على الإسلام لماذا لا نؤثر وندعو ونكون لبنات خير، التاجر في تجارته بماله، وصاحب الرأي برأيه.(374/35)
النصيحة الصريحة خير من المجاملة
ثم أمرٌ آخر: يوجد أيها الإخوة أحياناً مذهب المجاملة؛ تبرمجنا على المجاملة، حتى ما تجد صراحة في الألفاظ ولا في المناصحة، وأحياناً لا تجد إلا مادحاً، تسأله عن الدرس قال: كل شيء على ما يرام، المحاضرة، الأطروحات، القضايا قال: كل شيء طيب، فإذا خلا إلى زملائه قال: فيه كذا وكذا، ولكن كذا وكذا، وفعل كذا وكذا!
دعونا نتصارح، ومن رأى منا خطأً في أخيه فلينصحه، وليوصيه بينه وبينه بحكمة، {وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3].
أيضاً أريد أن أوضح مسألة: يا أيها الإخوة قد يفهم عنا بعض الناس أنا نريد أن نتشفى في بعض الناس، أو أنا نريد التهجم أو التجريح ومعاذ الله، ما يريد الداعية إلا أن يهتدي الناس، هل نريد لمسلم أن يعذبه الله بالنار؟! يقول الإمام أحمد: والذي نفسي بيده لوددت أن يجعلني الله فداءً لأمة محمد عليه الصلاة والسلام.
ثم إنا نسأل الله عز وجل لنا ولكم التوفيق، وأن يصلح الراعي الرعية، وأن يجعل أعمالنا خالصة لوجهه الكريم، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، ونسأله سبحانه وتعالى لنا ولكم هدايةً وسداداً.
كما لا يفوتني أن أنبه أن من عنده تبرعات، أو مشاركة، أو استفساراً، أو ورقة، أو نصيحة، فعليه أن يؤديها إلى هذا المسجد والقائمين عليه، وهي تصلني إن شاء الله، ثم أنبهكم أن الدرس المقبل إن شاء الله سوف يكون مع أسئلتكم، لنعيش معكم فيما طرحتموه وما سألتموه، وأشكركم شكراً جزيلاً، وأسأل الله أن يجمعنا بكم في دار الكرامة، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(374/36)
إبراهيم إمام التوحيد
إن قصة إبراهيم عليه السلام من أروع القصص في القرآن الكريم، ذلك لما فيها من المواقف العظيمة التي جعلته أبو الأنبياء عليهم السلام وقد عرض الشيخ حفظه الله إلى بعض المواقف لإبراهيم عليه السلام، وبين ما فيها من العبر والعظات؛ حتى نقتدي به في سيرنا إلى الله تعالى، وفي دعوتنا إليه سبحانه(375/1)
قصة هاجر مع إسماعيل في مكة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
روى الإمام البخاري رحمه الله تعالى من طريق عبد الرزاق بن همام الصنعاني، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي تميمة السختياني وكثير بن كثير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أول ما اتخذ النساء المنطق من قبل: أم إسماعيل - هاجر - اتخذت منطقاً وذلك لتعفيِّ أثرها على سارة، ثم هاجر بها إبراهيم عليه السلام إلى مكة، فنزل بها قريباً من رابية -وهو مكان البيت اليوم، وكانت هذا الرابية مرتفعة عن الأرض- فلما أنزلها عليه السلام هناك، كان معها جراب من تمر وسقاء من ماء، ومعها ابنها إسماعيل، فلما أنزلهما مكان البيت أو قريباً منه، ولى وتركهما، فالتفتت إليه هاجر -وهي مولاة- وقالت: لمن تتركنا يا إبراهيم؟ فلم يجبها بشيء، ولم يلتفت إليها، فقالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم.
قالت: إذاً لا يضيعنا، فلما اختفى وراء الجبل، التفت ودعا الله عز وجل ورفع يديه وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
ثم تولى عنهم وتركهم، فأتت المرأة الصالحة تربي ابنها، فنفذ الماء، ونفذ الطعام من التمر، فأتت ترتفع لترى في جبال مكة أين تجد الماء.
قال: ابن عباس: لكأني بها تسعى بين الجبلين -أي: بين الصفا والمروة - سبعة أشواط، وتقول وهي تكلم نفسها: صه، - تسكت نفسها لترى هل تسمع صوتاً، أو ترى ساكناً أو حياً- ولم يكن في مكة من البشر أحد، فطافت سبعة أشواط -فهو طوافنا اليوم- ثم عادت إلى مكانها، وأخذ ابنها يتلوى على الأرض من شدة العطش، فنزل ملك من السماء -قيل: جبريل وقيل غيره، وليس في رواية البخاري أنه جبريل- فبحث بجناحه فخرج الماء، فأخذت تعدل الماء وتقيم التراب حوله وتقول: زمزم -أي: تزمزم الماء- وهذه من عادة قبائلهم إذا اشتغلوا في أمر، كأنها تنشد، أو كأنها تفزع، أو تسلي نفسها وتزمزم.
قال عليه الصلاة والسلام: {رحم الله أم إسماعيل، لو تركت زمزم لصارت عيناً معيناً} أي: لو تركتها ولم تجمع عليها التراب، ولم تعدلها لصارت عيناً معيناً في مكة ثم نزل هناك ركب من جرهم، وجرهم قبيلة انتقلت إلى مكة، وهي من القبائل العربية التي سوف يتزوج منهم إسماعيل كما سيأتي نزلوا في طرف مكة، فرأوا غراباً عائفاً -وقيل: حدأة- وإذا هو فوق ماء زمزم، فقال هؤلاء الركب: إن الطائر معه الماء، فاقتربوا فلما رأوا هاجر قالوا: ننزل حول الماء؟ قالت: لا.
فاصطلحوا معها على أن ينزلوا معها على حسن الجوار، فنزلوا، فأعطوها الطعام، وأعطتهم الماء، فلما شب إسماعيل عليه السلام تزوج منهم، وكان شاباً ظريفاً عاقلاً آتاه الله الحكم صبياً، فأصبح أرحامه أصهاره من جرهم.
فلما شب فيهم -عليه السلام- أتاه أبوه بعد حين يزوره سيد من سادات الأنبياء، وسيد الكرماء والشجعان عليه السلام أتى يزورهم فوجد امرأة إسماعيل عليه السلام وهي في البيت، فطرق عليها وهو شيخ حسن الهيئة، عليه هندام الوقار والسكينة، وعليه علامات التوحيد، فقال: أين زوجك؟ -وهو ابنه لكنها لم تعرفه- قالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف أنتم؟ قالت: في حالة ضيقة، وفي شر حال، فقال: إذا أتى زوجك فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يغير عتبة بابه.
فأتى إسماعيل في المساء فسألها: هل أتاكم من أحد؟ قالت: أتانا شيخ حسن الهيئة، قال: هل سألكم عن شيء؟ قالت: نعم.
سألنا عن هيئتنا وطعامنا، فأخبرته أنا بشر حال، قال: هل أمركِ بشيء؟ قالت: نعم.
هو يقرأ عليك السلام، ويأمرك أن تغير عتبة بابك.
قال: ذلك أبي، والحقي بأهلك.
ثم تزوج زوجة أخرى صالحة، وأتاهم أبوه يزورهم مرة ثانية، فدخل على امرأته وقال: أين زوجك؟ قالت: خرج يطلب لنا صيداً -وكان يطلب الصيد في جهة نعمان، والعرب كانت تصيد من نعمان، وهو من أجمل الأودية عند العرب، وقد صوروه في الشعر حتى كأنه قطعة من حديقة، أو كأنه فيحاء في بستان، وإذا أتيت إلى نعمان لم تجد فيه إلا الشوك، ولذلك قيل:
ألا أيها الركب اليمانون عرجوا علينا فقد أضحى هوانا يمانيا
نسائلكم هل سال نعمان بعدنا وخب إلينا بطن نعمان واديا
وهو الوادي الذي فوق عرفات وفيه عين زَبِيْدَة.
فقالت: خرج يطلب لنا صيداً، قال: كيف حالكم؟ قالت: في أحسن حال والحمد لله، قال: إذا أتى فاقرئي عليه السلام، ومريه أن يثبت عتبة بابه؛ فأتى فسألها فأخبرته وقالت: هو يقرئك السلام، ويأمرك أن تثبت عتبة بابك، قال: ذاك أبي، وأنت العتبة، وهو يأمرني أن أمسككِ.(375/2)
زواج إبراهيم عليه السلام من سارة
هذا الحديث من رواية ابن عباس، ولفظه قريب من هذا أو نحوه وفي هذا الحديث مسائل، تعرض لها أهل التفسير والحديث والفقه وأهل السير والتاريخ.
أول مسألة: زواج إبراهيم عليه السلام من سارة، وقصة سارة مع الملك وفي ذلك فائدة: فإن القرآن يأتي بالقواعد والحقائق والأصول، ولكنه لا يتعرض للخلافيات التي لا فائدة منها، ولذلك لما ذكر قصة أهل الكهف لم يخبرنا بلون كلب أهل الكهف، ولا أين ناموا، ولا جهة الكهف، ثم قال للرسول عليه الصلاة والسلام: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً} [الكهف:22].
أي: لا تدخل نفسك إلا في مسائل علمية، وقواعد شرعية تستفيد منها، أما الجدل البارد الذي لا ينبني عليه حكم فليس هناك طائل من إيراده.
فالقرآن يأتينا بقصة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في خطوط عريضة، وفي جمل باهرة منها بناء البيت، ومنها الدعوة إلى التوحيد، ومنها جدل إبراهيم الحق مع الملك وسوف يأتي.
ومنها: قصة البعث، وبعث الله عز وجل للطيور بين يدي إبراهيم عليه السلام إلى غير ذلك من القصص.
أما سارة فهي امرأة حرة، تزوجها إبراهيم عليه السلام، وعلمها التوحيد، وأرضعها لبن (لا إله إلا الله) منذ الصغر، وكانت من أجمل نساء زمانها، قال ابن كثير: أجمل النساء في العالمين سارة ومريم، وقيل: عائشة بنت الصديق رضي الله عنها وأرضاها.(375/3)
هجرة إبراهيم عليه السلام من حران
ثم هاجر إبراهيم من حران وحران هذه هي بلد شيخ الإسلام ابن تيمية.
بنفسي تلك الدار ما أحسن الربى وما أحسن المصطاف والمتربعا
وهي حران قريبة من دمشق في بلاد الشام، هاجر منها ابن تيمية إلى دمشق بعد أن ترعرع وشب فيها
هاجر إبراهيم عليه السلام بـ سارة، فمر بملك من ملوك الدنيا، جبار عنيد، كان كلما سمع بفتاة جميلة اغتصبها من أهلها فلما وصل إبراهيم بزوجته، سمع به الملك فأرسل جنوده فأخذوا هذه المرأة الصالحة العابدة القوامة الزاهدة ولكن من يعتمد ويتوكل ويحفظ الله يحفظه سبحانه وتعالى.
التجأ إبراهيم إلى الله عز وجل ودعا الله أن يحفظ عليه زوجته، فأخذوها من بين يديه، وكان قد قال لها: إذا قدمت على الملك وسألك عن نسبك فقولي: أنا أخت إبراهيم.
وصدق؛ فإنها أخته في العقيدة والدين، وأخته في النسب الأول، فكلهم من آدم وحواء.
وصلت إلى هذا الجبار، ودخلت عليه، واقترب منها وهي متوضئة طاهرة، فدعت الله عليه؛ فجفت يده ورجله، فقال لها: ادعي الله لي أن يطلق يدي ورجلي، فدعت له فانطلق، ثم أتى يقترب منها، فدعت عليه، فجفت يده ورجله، فاقترب ثالثة، فدعت عليه بعد أن أطلق، فجفت يده ورجله، فقال: أتيتموني بشيطانة! اذهبوا بها فخرجت من عنده وأخدمها هاجر التي هي أم إسماعيل، جعلها مولاة وهدية لها، فقال لها إبراهيم: كيف كان الأمر؟ قالت: منع الله الفاجر وأخدم هاجر.
وقد قال بعض أرباب التفسير: إن الله سبحانه وتعالى أطلع إبراهيم عليه السلام بمسيرة سارة، إلى أن وصلت إلى الملك، وبموقفها مع الملك، حتى عادت ليطمئن قلبه ويسكن، فقال لها إبراهيم لما عادت: والله لقد رأيتك منذ ذهبت إلى الآن.(375/4)
هجرة إبراهيم إلى مكة
فلما أخذ هاجر أتت بإسماعيل، فاغتاضت منها سارة، والغيرة مركوزة في طبيعة النساء، وكأن الغيرة ولدت مع النساء منذ أن خلق الله المرأة إلى اليوم ولما أتت بإسماعيل لم يكن عند سارة ولد ولا بنت، فاغتاضت منها وغارت، فأخذ إبراهيم عليه السلام هاجر إلى مكة.
وسبحان الله! كيف اختار الله مكة من بين بلاد الأرض، لتكون مهبط الوحي، وليكون منها الإشعاع الرباني، والرسالة الخالدة، وليتخرج منا أساتذة التوحيد الذين رفعوا علم (لا إله إلا الله) فهي بحق جبال تصهر الرجال بحرارتها وبشظف عيشها، فتخرجهم رجالاً يقودون عجلة التاريخ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
فـ مكة مسقط رأس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وهي التي ولد فيها أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وخالد، والصنف المختار من أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
وصل إبراهيم عليه السلام إلى مكة، وقبل أن يأمره الله بالبناء اختار ذلك الموقع، قال بعض أهل العلم: لأنها وسط الدنيا، وقد أثبت العلم الحديث فيما سمعنا وقرأنا أن من صعد على سطح القمر رأوا أن وسط الدنيا هو الجزيرة العربية أو ما يقاربها، ووسطها هي الكعبة المشرفة، ولذلك سماها الله تعالى أم القرى، فهي تثبت الإشعاع في كل مدينة، ومنها لا بد أن تبعث الرسالة ويهبط الوحي على رسول الهداية صلى الله عليه وسلم.
ولما وصل إبراهيم إلى هناك، وضع لهم جراباً من تمر وسقاءً من ماء وتولى إلى الله عز وجل، واختفى وراء الجبل، وابتهل إلى الله يقول في دعائه الحبيب إلى القلوب: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم:37] وصدق عليه السلام، فإن مكة من أقحل بلاد الأرض، حتى يقول أحد المفكرين: يا سبحان الله! عناية الله، ونور الله، وهدايته تأتي من السماء بوحي خالد على رسول عظيم شريف، في بلاد ليس فيها حدائق ولا قصور ولا أنهار ولا دور، ولا فيها معطيات الحياة، ليس فيها إلا شجر من الشوك طلعه كأنه رءوس الشياطين، وحجارتها تتلظى بالنار وتتوقد، فبعثه الله عز وجل ليقول: إن الآخرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
لم يبعثه في بغداد دار السلام، ولما وجدت بعد، وسميت بدار السلام؛ لأنها ذات حدائق غناء، ولم يبعثه في دمشق، ولم يكن هناك دمشق التي فيها البساتين الفيحاء ونهر بردا.
ولم يبعثه كذلك في أنطاكيا، ذات القصور الشاهقة، والحدائق الوارفة ولم يبعثه في بلاد أخرى ذكرت في التاريخ بجمالها وروعتها، بل بعثه هنا، ليقول: إن دعوتك للآخرة لا للدنيا.
فلما أتى عليه السلام قال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم:37].
وكأنه علم أنه سوف يقوم هناك بيت محرم {رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم:37].
وقد رأينا ورأى التاريخ وسمعت الدنيا الملايين المملينة في كل حج تهوي بأفئدتها، ملوكاً ومملوكين، علماء وعامة، رؤساء ومرءوسين، أغنياء وفقراء يهوون بأفئدتهم إلى البيت العتيق.
فلما ولى إبراهيم عليه السلام، وبقي الحال على ماكان، تزوج إسماعيل -كما مر- من جرهم، وجرهم هؤلاء ذكرهم زهير بن أبي سلمى يوم يقول:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله رجال بنوه من قريش وجرهم
يميناً لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم
يمدح هرم بن سنان وقيس بن زهير لما تداركا عبساً وذبيان.(375/5)
أمر الله لإبراهيم أن يذبح إسماعيل
ولما درج وبلغ إسماعيل زاره أبوه، وكانت هذه هي أول زيارة يزوره فيها، وذلك لما درج وبلغ السعي، وأصبح حبيباً إليه عليه السلام، وتخلل مسلك الروح منه، وكان أحب الناس إليه
قد تخللت مسلك الروح مني ولذا سمي الخليل خليلاً
فأراد الله أن يخلص قلب إبراهيم من هذا الحب لهذا الابن له سبحانه وتعالى، لأنه خليل الرحمن فلما وصل إلى مكة رأى فيما يرى النائم أن قائلاً يقول: اذبح ابنك! فتعوذ بالله من الشيطان، وتوضأ وصلى، ثم رأى الرؤيا مرة ثانية وثالثة، وعلم أنها رؤيا حق ولذلك قال الإمام البخاري: باب رؤيا الأنبياء حق، وقال إبراهيم: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102].
وخرج في الصباح فعرض الرؤيا على الابن الصالح وانظر إلى التربية الصالحة والهدي المستقيم، فلما عرض عليه الرؤيا لم يقل له: إني أفارقك، أو إني أتركك برهة من الزمن، لا.
بل قال: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات:102] ولم يقل آمر غيري بذبحك، لكن أنا أذبحك ويا لها من مصيبة! ويا لها من مسألة شاقة على الأنفس! ومثل لنفسك أن تؤمر أنت أن تذبح بيدك وسكينك أحسن أبنائك إليك ولو ابتليت ببلاء غير هذا لتحملت؛ كأن يسقط ابنك من على السطح، أو يزلق فيموت، أو يذهب أدراج الرياح، أما أن تؤمر أنت فتأخذ سكيناً وتأخذ ابنك فتبطحه على الأرض، وتجلس على صدره فتذبحه إنه لبلاء عظيم! بل من أعظم الابتلاء في تاريخ البشرية، لكن هكذا يثبت العظماء.
ألا لا أحب السير إلا مصعداً ولا البرق إلا أن يكون يمانيا
وأتى في الصباح واستدعى ابنه: {قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات:102].
فلم يشاوره، ولم يقل له: ادرس الموضوع واعطني النتيجة ولم يقل انظر: إما أن تكون طائعاً وإما عاصياً، فأنا أقوى منك، والله أمرني، وأنت طفل صغير، سأذبحك سواء رضيت أم لم ترضَ، لا.
بل قال له: ما هو ردك؟ فقال في هدوء وفي حياء وفي صبر، ويا لها من تربية! قال: يا أبتِ افعل ما تؤمر.
قال أهل التفسير: خاطبه بالأبوة في مقام الحنان، حتى وهو يعتدي على روحه بأمر الله عز وجل، قال: يا أبتي، من الحنان والشفقة وحق الأبوة وما قال: افعل ما تأمر أنت، وإنما تؤمر من الله، لأنه صدق بوحي من الله {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات:102] قالوا: ما أحسن هذا الاعتراض! فلم يقل: ستجدني من الصابرين، وإنما قال: إن شاء الله، فصبري بالله، واتكالي على الله، وحفظي على الله {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات:103] الضمير يعود إلى إبراهيم وإسماعيل، فقد أسلم إبراهيم نفسه إلى الواحد الأحد، فإنه قد أمر بمشقة، ووده لو أنه هو المقتول، وأنه ما رأى هذا المنظر، وأسلم إسماعيل نفسه إلى الله سبحانه وتعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] قال أهل التفسير: ما استطاع أن يذبحه على ظهره، فجعله على وجهه ليذبحه من قفاه؛ لأنه يخشى أن ترسل العينين شعاعاً من المحبة إليه، وأن يرى وجه ابنه فتدركه الرأفة والرحمة فيعصي أمر الله، ولكنه تلَّه على وجهه ساجداً لله عز وجل، لئلا يرى وجهه أبداً حتى يذبحه إن هذا بلاء عظيم، ولا تستطيعه النفوس إلا من أسلم وجهه لله، وعلم أن ابتلاء الله عز وجل معه الخلود والبقاء والحياة فأتى بالسكين {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] قال أهل العلم: لم يقل: أجلسه أو أقعده، وإنما تلَّه بقوة، لُيري الله أنه ينفذ الأمر بحماس وقوة.
وإبراهيم صاحب مواقف خالدة في القرآن، فقد قال الله تعالى حاكياً عنه: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات:103] كلها مواقف تشهد له بالقوة، لأن المسلم ينبغي عليه أن يأخذ أحكام الله وتنفيذ أوامر الله بالقوة، أما البرود والكسل والخنوع فليس في دين الله، ولذلك يقول الله ليحيى عليه السلام: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] خذه بقوة، ولا تأخذه ببرودة ويقول الله عن المنافقين: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ} [النساء:142].
ولذلك باستطاعتك أن تميز بين المؤمن والمنافق بمقامهم في مقامات الولاية والعبودية، فالمؤمن يأتي إلى الصلاة بحرارة، ويقرأ القرآن بحرارة، ويستمع إلى الخطب والمواعظ وحلق الذكر بحب وشوق وحرارة، والمنافق يأتي ببرودة، سواء صلى مع الجماعة أو لم يصل، وإن فاته فلس واحد من ماله جزع وهلع عليه، ولكن إن فاته دينه وصلاته فلا يهمه ذلك ولا يشعر بأن النفاق قد خرق قلبه
أما إبراهيم فأسلم وتلَّه للجبين، فلما أخذ السكين ليذبحه أتى لطف الله عز وجل، وأتت رحمته سبحانه وتعالى، فلم تذبح السكين، ومن عادة السكين أنها تذبح، ولكن حكمة الله عز وجل أن يمنعها من الذبح والبحر يغرق، ولكن قدرة الله تمنعه أن يغرق موسى عليه السلام والنار تحرق -وهذه من سنن الله الكونية- ولكنها لا تحرق إبراهيم عليه السلام والسكين تذبح ولكن بقدرة الله جعلها لا تذبح أبداً، فمنعها من عنق إسماعيل لأنه بريء طاهر عفيف والاغتيالات تتوجه إلى الناس لتفتك بهم، لكن رسولنا صلى الله عليه وسلم سلم حصل أكثر من عشر محاولات اغتيال.
عناية الله أغنت عن مضاعفة من الدروع وعن عال من الأطم
قال الله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات:107] نزل عليه من الجنة، فأخذ السكين وذبح الذبح العظيم وهو الكبش ورد السكين إلى مكانها.
ومدحه الله أبد الدهر وأثنى عليه وقال: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} [الصافات:106].
فهو بلاء خالد، لكن خلَّد الله ذكره يوم أن قال: {وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء:84] فرفع الله ذكره أبد الدهر.(375/6)
بناء إبراهيم وإسماعيل البيت العتيق
وعاد العودة الثانية، وإذا إسماعيل قد أصبح فتىً قوياً يصارع الرجال، ويستطيع أن يقوم بمهام الرسالة، ويستطيع أن يبني معه، فيوحي الله عز وجل إلى إبراهيم عليه السلام، ويقول: يا إبراهيم! ابن هنا بيتاً.
فيأتي إبراهيم ليبني بيت الله سبحانه وتعالى الذي من عفر وجهه في تلك العرصات صادقاً رزقه الله الصدق والإخلاص.
ولما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ثورة القرامطة عندما ثاروا في الكعبة، وقتلوا ما يقارب ثلاثين ألف حاج، قتلوهم في الحرم، قال: وقتلوا بعض العلماء، فلما أتوا إلى عالم من العلماء بالسكين ليقتلوه حول الحجر قال:
ترى المحبين صرعى في بيوتهم كفتية الكهف لا يدرون كم لبثوا
ثم سقط قتيلاً، قال ابن كثير: فهنيئاً لك ذلك المضجع، وهنيئاً لك ذلك المرقد، فإنها من أحسن البقاع، شرفها الله وأزال عنا كل رجس فمن ذهب لعمرة أو حج فليغتنم تربية روحه في تلك البقاع، وليمرغ وجهه في تلك العرصات، وليدع الله بصدق وهو يطوف ويسعى أن يرزقه الإنابة والهداية، فإنها من أعظم الوقفات في الحياة الدنيا.
فلما أتى إبراهيم عليه السلام، قال: يا إسماعيل! إن الله يأمرني أن أبني البيت، قال: أو أمرك ربك؟ قال: نعم.
وهل تعينني على ذلك؟ قال: نعم أعينك عليه.
قال ابن عباس: كأني بإبراهيم عليه السلام وقد ارتفع على الجدار وإسماعيل يناوله الحجارة وهو يضعها ويبني.
أتدرون ماذا كان هزيجهم؟ وماذا كان نشيدهم الخالد؟ كانوا يقولون: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127].
يحسنون ويبنون لوجه الله، ويجاهدون ويدعون، ومع ذلك يقولون: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم والفاجر يفجر ويعصي ويزني ويكذب ويغتاب، ومع ذلك يقول: ورحمة الله وسعت كل شيء.
فإبراهيم عليه السلام كان يقول: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127] لئلا يكون في العمل رياء وأتوا يبنون حتى وصل إلى مكان الحجر الأسود، فأمره الله عز وجل أن يبقي مكانه، فلما انتهى من البناء وقف والتفت إلى الحي القيوم، ودعا الله أن يبارك في هذا البناء، وأتاه جبريل بالحجر الأسود، وهو أبيض كاللبن، كالجوهرة البيضاء، أنزله من الجنة، فسلمه إلى إبراهيم وقال: ضع هذا الحجر في هذا المكان، ليستلمه الناس.
قال ابن عباس: [[والذي نفسي بيده، لقد نزل الحجر أبيض كاللبن، فسودته خطايا بني آدم، حتى أصبح أسود]] وصح عنه صلى الله عليه وسلم في حديث أنه قال: {من استلم الحجر الأسود بصدق كان للحجر الأسود لسانان يوم القيامة يشهدان لمن استلمه بصدق في الحياة الدنيا} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
فمن استلم الحجر الأسود أو قبله وهو صادق ومشتاق ومخلص؛ أنطق الله الحجر الأسود يوم القيامة بلسانين ناطقين، يشهد لمن استلمه بحق في الحياة الدنيا.
والحجر الأسود له قصة مسيرة في التاريخ، فإنه اعتدي على عرضه وعلى كرامته في عهد القرامطة، يوم أن وفدوا من الأحساء إلى البيت العتيق، ووفد معهم الفاجر أبو طاهر الجنابي، وأخذ بسيفه على جمله يقتل الحجيج، وهو يقول:
أنا بالله وبالله أنا يخلق الخلق وأفنيهم أنا
ثم تقدم أحدهم بدبوس من حديد بيده، فقال: يا معشر المسلمين! يا أيها الحمير! تقولون: إن الله يقول: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران:97] نحن دخلناه الآن فأين الأمن؟ فقال له بعض العلماء: هذا من باب الأمر لا من باب الخبر.
أي: أن الله يأمرنا أن نؤمن البيت، وأنت قد أخفته، فتقدم بخنجر فطعن العالم فقتله، ثم أتى إلى الحجر الأسود فضربه ثلاث ضربات بهذه الدبوس فانفلق منه ثلاث فلق، وهذا هو ما تجدونه فيه من التكسير، لأنه قد وقع عليه ثلاث ضربات، وإلا فإنه كان أملس كالثوب الأملس فاجتمع بعض الملوك، فجمعوا بعض المسك والغارية، وخلطوا بعضها ببعض، وألصقوه في الحجر.
وأخذوا الحجر وأركبوه على سبعمائة جمل، كلما مشى جمل أصابه الجرب وأهلكه الله فسقط الحجر من عليه، فيركبونه على جمل آخر، فيموت الجمل الآخر، حتى مات سبعمائة جمل، ووصل إلى الأحساء، وبقي معهم حتى اجتمع سلاطين الدولة الإسلامية ودفعوا مبلغاً هائلاً من الدارهم والدنانير والذهب حتى أعيد الحجر إلى مكانه ولله حكمة في ترك هؤلاء الغوغاء يأخذون الحجر، وله حكم في الأحداث التي وقعت في التاريخ، فهو الحكيم: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23].
بنى إبراهيم عليه السلام البيت، ونزل ووقف عند المقام الذي نحن نصلي فيه اليوم، وفيه يقول الله عز وجل: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125] فوقف هناك، ودعا الله كثيراً، فأمره الله أن ينادي في الناس جميعاً أن يحجوا إلى هذا البيت، وأن يأتوا إليه، فإنه بيت الرحمن جل جلاله، وفيه الهداية والنور وفي السماء الدنيا بيت آخر كالكعبة، يطوف به كل يوم -كما في رواية المفسرين- سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه أبد الدهر فلما انتهى أمره الله أن ينادي في الناس بالحج، فارتفع على جبل من جبال مكة، فنادى في الناس، قال ابن عباس أو غيره من المفسرين: فسمعه الناس في أصلابهم، فقال: من أراد الله به الخير فليأت إلى البيت، لبيك اللهم لبيك.
قال تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} [الحج:27 - 28] يأتوك رجالاً، أي: مترجلين يمشون على أقدمهم {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج:27] على كل بعير ضامر أي: ضعف من شدة السفر.
دخل رجل على ابن سيرين العلامة الكبير، وكان ابن سيرين يعبر الرؤيا، ويئولها، وكان عنده تأييد إلهي في الرؤيا كما يقول الذهبي، ولذلك ذكروا عنه أموراً عجيبة، ولشدة تقواه لله عز وجل وزهده وإخلاصه رزقه الله تعبير الرؤيا أتاه رجل فقال: رأيت حمامة أخذت جوهرة في المنام فأخرجتها أصغر مما كانت، ثم أخذتها فأخرجتها مثلها، ثم أخذتها فابتلعتها فأخرجتها أكبر منها، فما تعبيرها؟ وكان ابن سيرين فيه خفة روح ودعابة، مع تقواه واتصاله بالله عز وجل، فكان يضفي على جلاسه وسماره شيئاً من المزاح ومن الدعابة السلمية العفيفة فقال: هذا مثلي ومثل الحسن البصري وقتادة بن دعامة السدوسي -وهم كانوا علماء في عهده- أما أنا فأسمع الحديث فآتي به كما هو، فهذا معنى أن الحمامة أتت بالجوهرة كما هي، وأما قتادة فإنه ينقص من الحديث فنقصت الجوهرة، وأما الحسن البصري فإنه يدبج ويوشح الحديث فيأتي أكثر مما هو.
وبينما هو جالس أتاه رجل عليه ملامح التقوى والزهد والعبادة، فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فنظر إلى السائل قليلاً ثم قال: أنت تحج هذه العام ويتقبل الله منك.
فقال الجلاس: ولماذا؟ قال: لأن الله يقول: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج:27] وبينما هم جلوس إذ دخل فاجر من الفجار -نسأل الله العافية- فقال: إني رأيت في المنام أني أؤذن، فقال: أنت تسرق وتقطع يدك.
قال: ولماذا؟ قال: يقول الله عز وجل: {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف:70].
قال الراوي: فو الله ما مرت فترة إلا وحج هذا، وسرق هذا ورأينا يده على باب الإمارة قد قطعت.
ومن أراد أن يتثبت من هذه القصص فليرجع إلى سير أعلام النبلاء، في ترجمة ابن سيرين، وحلية الأولياء لـ أبي نعيم، والبداية والنهاية لـ ابن كثير، وغيرها من الكتب.
الشاهد: أن إبراهيم عليه السلام نادى فاستجاب له من استجاب، وأما إسماعيل فأقام هناك وتزوج من جرهم، فهو جد رسولنا عليه الصلاة والسلام، وفي حديث ضعيف في سنده كلام، يقول عليه الصلاة والسلام: {أنا ابن الذبيحين} فالذبيح الأول إسماعيل، الذي عرضه إبراهيم عليه السلام للذبح، والذبيح الآخر هو عبد الله أبو الرسول عليه الصلاة والسلام مباشرة؛ فإن عبد المطلب لما جفت بئر زمزم نذر نذراً أن إذا أخرج الله الماء أن يذبح أحد أبنائه، وكانوا عشرة، منهم: عبد الله والحارث، وحمزة، وأبو طالب، والعباس، وأبو لهب فلما خرج الماء أقرع بين العشرة أيهم يخرج نصيبه ليتقرب بذبحه إلى الله -وهذا في الجاهلية- فخرج السهم على عبد الله والد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففداه بعشر من النوق، فأتى السهم الآخر، فوقع عليه، ففداه بعشرين، حتى وصلت إلى مائة، ففداه بها فكان الرسول صلى الله عليه وسلم ابن الذبيحين.
وهل الذبيح الأول إسماعيل أم إسحاق؟ فيه خلاف، لكن الصحيح أنه: إسماعيل، وعليه كلام ابن كثير وابن القيم والذهبي وشيخ الإسلام ابن تيمية.
ولذلك يقول كعب الأحبار لأحد الخلفاء: [[والله الذي لا إله إلا هو، لقد علم اليهود أن الذبيح إسماعيل، لكنهم حسدوكم فقالوا: إنه إسحاق]] وذلك لأنه شرف لنا أن يكون جدنا إسماعيل، فهو جد الرسول عليه الصلاة والسلام، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم عدناني لا قحطاني، والعرب قحطان وعدنان، فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث من عدنان وأنصاره من قحطان، وهم الأوس والخزرج رضي الله عنهم.(375/7)
مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن
المسألة الثانية: مواقف إبراهيم عليه السلام في القرآن.
وقد أسلفت في الحديث أن الله عز وجل لا يذكر في القرآن إلا المهمات الكبرى والقواعد التي ينبغي أن يستفاد منها، ولذلك من العجيب أن تجد بعض المفسرين يدندنون حول على بعض المسائل الخفيفة التي لا طائل منها، كأن يقول أحدهم: أرم: في أي بلد؟ وكم طول أعمدتها؟ وطول الخضر عليه السلام ولون بشرته وأشياء لا طائل منها.
ولذلك يقول سيد قطب وهو يتحدث عن القرآن وعن حياته مع القرآن: إنني عشت وأنا في الطفولة مع القرآن، فكان للقرآن طعم خاص في قلبي يوم أن كنت أسمع القرآن مباشرة، فلما كبرت وأتيت أدرس القرآن في المدارس وجدت القرآن ممزقاً.
أي: أن القرآن مزق ببعض كلام الإسرائيليات، والقصص والأحاديث، وكثرة إدخال النحو والصرف فيه، ونحن لا ننكر فائدة النحو والصرف واللغة، لكن أن يحوَّل القرآن إلى كتاب نحو كأنك تقرأ في كتاب سيبويه، أو يحول إلى كتاب تاريخ كأنه البداية والنهاية، أو كتاب جغرافيا كأنك تقرأ في الأطلس فهذا لم ينزل القرآن من أجله، إنما القرآن كما يقول أبو الأعلى المودودي في كتاب كيف تقرأ القرآن وهذا الكتاب له خصائص ليست في كتاب آخر، يقول: فأول خصيصة: ينبغي على قارئ القرآن أن ينزع كل تصور مسبق عن القرآن، فيأتي إلى القرآن وهو يتصور أنه كتاب الله، وأنه كتاب هداية.
الأمر الثاني: أن يعلم أن القرآن لا يوافق أي كتاب آخر من تأليف البشر، فإنهم في تآليفهم يقولون: في هذا البحث ثلاثة أبواب، وفي الباب الأول ثلاثة فصول، وفي الفصل الأول ثلاث فقرات وخاتمة، ومقدمة المشرف والأعضاء وهذا ليس في القرآن، يقول أبو الأعلى المودودي: بينما أنت تقرأ القرآن التربوي الرافع -أي: المتحدث- تقرؤه وهو يتحدث لك عن حدائق الدنيا، وعن النخيل والأعناب، وأصوت الأطيار وخرير الماء، وعن الزهور والورود، يريد أن يبين لك التوحيد، وإذا هو ينتقل بك إلى عذاب القبر وبينما يصيبك الخوف والوجل من عذاب القبر وتسأل الله العافية والسلامة، وإذا به يتركك من هذا المكان ويدخل بك على الملوك؛ ليعلمك كيف ينبغي أن يعيشوا، وأن يحكموا شرع الله، وعلى القضاة وماذا ينبغي عليهم من السياسات الشرعية وإذا به ينتقل بك إلى ساحة الجهاد، وصليل السيوف وضرب الرماح وأنت هناك، وإذا به يتركك وينتقل بك إلى البيت والمرأة، والطلاق والنكاح، وماذا ينبغي أن يعيش المسلم في بيته، وما هي الأمور التي ينبغي أن تحكم في البيت هذا هو كتاب الله، لم يؤلف مثل تأليف البشر.
الأمر الثالث: أنه لم يتفرد في فن من فنون الدنيا ولقد ألف العلامة الكبير طنطاوي جوهري كتاباً في التفسير، وأراد الخير، لكن قالوا: في كتابه كل شيء إلا التفسير، أراد أن يفسر القرآن فأتى بكل شيء إلا التفسير، أتى حتى بالهندسة في القرآن، فهو: يستدل على أن هناك مثلثاً وأنه موجود بقوله سبحانه وتعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ} [المرسلات:30] قال: هذا يدل على أن رسم المثلث زواياه منفرجة.
والخط المستقيم هو أقرب خط بين نقطتين، لقوله سبحانه وتعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6].
إلى أمور أخرى، وسبقه إلى ذلك الفخر الرازي، الذي قالوا فيه: إنه من أساطين الدنيا، وقد ألف كتاباً في التفسير يقع في ستة عشر مجلداً، لكنك إذا قرأته كأنك تقرأ في كتاب الطب أو في كتاب هندسة أو كتاب كيمياء أو فيزياء، وليس هناك إلا بعض اللمحات عن التفسير، حتى قالوا: فيه كل شيء إلا التفسير.
فالمقصود: إن القرآن ليس كتاب تاريخ، فلم يعتنِ بالتاريخ تلك العناية، ولم يخبرنا أن إبراهيم عليه السلام ولد عام كذا وكذا، وأنه كان طويلاً أو كان قصيراً، أو طوله كذا وكذا، أو عنده أبناء، وكان يفطر بكذا، ويتغدى بكذا، ويتعشى بكذا لم يخبرنا بشيء من ذلك.
وليس كتاب جغرافيا؛ فلم يخبرنا بالقارات ولا بالدول، وليس بكتاب هندسة؛ فلم يأت بالأشكال ولكنه كتاب هداية ونور وصلاح وفلاح، وهذه هي القضية الكبرى التي ينبغي أن تفهم.(375/8)
موقف إبراهيم مع النمرود
أما مواقف إبراهيم في القرآن فهي كثيرة، وسأذكر لكم هذه المواقف لنتعلم عقيدة أهل السنة والجماعة من هذه المواقف، يقول بعض العلماء: حق على من أراد أن يتعلم العقيدة أن يتعلمها من مواقف الأنبياء في القرآن مع قومهم.
يقول الله سبحانه وتعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].
هذا النمرود بن كنعان الذي ملك الدنيا، يقول ابن عباس رضي الله عنهما، وقد ذكره ابن كثير في سيرة إبراهيم عليه السلام، قال: ملك الدنيا أربعة: مؤمنان وكافران، فأما المؤمن الأول فهو سليمان عليه السلام، قال الله عنه: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص:35] الآخر: ذو القرنين عليه السلام.
وأما الكافران: فـ النمرود بن كنعان، وبختنصر، وقد أحسن الأخير؛ لأنه أباد اليهود من الأرض أول مرة، وهتلر أبادهم المرة الثانية، وينبغي لهم أن يبادوا مرة ثالثة؛ لأن الوتر مطلوب في الإسلام فـ بختنصر قطع دابرهم وتتبعهم حتى قتلهم قتل عاد وثمود، وأتى هتلر -سود الله وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه- فأدخلهم وهم أحياء في الأفران، ولذلك إذا سمعوا بالنازية يغشى عليهم من الخوف والهلع وبقي لهم ثالث موحد يدوسهم على التراب أحفاد القردة الخنازير، وهذا قريب إن شاء الله.
فأتى إبراهيم عليه السلام ودخل على هذا الملك والله عز وجل أخبر عن الأنبياء أنهم يدخلون على السلاطين، وأنهم يتحدثون مع الطغاة، فقد أخبرنا أن إبراهيم دخل على النمرود، وأخبرنا أن موسى دخل على فرعون وسنقف مع القصتين لنرى ما هو الاختلاف بين الحوار والجدل، وما هي المناظرة التي وقعت، وما هي البينونة بين هذه القصة وبين تلك إبراهيم عليه السلام دخل على هذا الفاجر، فدعاه إلى الله عز وجل، قال الله عز وجل عنه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة:258] أي: أعطاه الله الملك، ثم حاج إبراهيم في ربه سبحانه وتعالى! كأن تقول لابنك -ولله المثل الأعلى-: أعطيتك، وشريت لك سيارة، ثم ما كان منك إلا أن تترك الفرائض وتترك مجالس الخير، وتذهب تعصي الله عز وجل وتضيع وقتك!
{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] دخل إبراهيم وأراد أن يفحمه، فقال الملك: ما هي علامات ربك؟ قال: يحيي ويميت ولذلك موسى لم يقل هذا لفرعون؛ لأن فرعون درس في هذه المدرسة، فلو قال له ذلك لقال: أنا أحيي وأميت.
فموسى عليه السلام تجنب هذا، لأنه ضيع الوقت مع فرعون فقال النمرود: أنا أحيي وأميت.
قال: كيف تحيي وتميت؟ قال: تعالوا بأسيرين، فأخرجوا محبوسين من السجن، فقال: هذا سوف أحييه وأعتقه، فقد عفوت عنك، وهذا سوف أميته، فضربه بالسيف وهذا ليس في اللغة ولا في العقل ولا في النقل أنه إحياء وإماتة، لكنه فاجر مجاهر بالفجور، فما موقف إبراهيم عليه السلام؟ هل من الحكمة أن يقول: لا والله ليس هذا بإحياء وإماتة، ويضيع الوقت معه، ثم يحلف ذلك أن هذا إحياء وإماتة، ثم يقول: قدم شاهدين وأعطني بينة؟ لا.
بل قال له: مادام أنك تحيي وتميت فما شاء الله تبارك الله عليك: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] ولذلك يسمى هذا في الجدل (الإفحام) ومن أحسن من كتب فيه: الدكتور زاهر بن عوض الألمعي، في كتاب: الجدل في القرآن قال: مادام أن عندك هذه الإمكانيات والقدرات التي ما اكتشفناها إلا اليوم: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258] ولو كان يستطيع أن يواصل في هذه القضية لواصل، لكنه ما استطاع أن يرد: {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258].(375/9)
مقارنة موقف إبراهيم مع النمرود وموقف موسى مع فرعون
هذه هي المناظرة التي نجح فيها إبراهيم عليه السلام، أما موسى عليه السلام فأتى من نوع آخر، دخل على فرعون، ولما أصبح على العتبات، ماذا أوصاه الله عز وجل؟ هل قال له: ارفع صوتك، أو ثبت جنانك، أو هيئ خاطرك؟ لا إنما قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] ما ألطف الله بعباده! وما أحسن دعوة الرسل وما أحسن أسلوبهم في القرآن! {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
من يدري؟ لعل الله أن يفتح عليه، ولذلك على الداعية ألا ييأس من الناس، فلو رأيت الإنسان يشرب الخمر ويزني ويسرق سبعين مرة، فلا تيأس منه، لأن مفاتيح القلوب بيد الله، قال: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] قيل: يتذكر النعم، أو يخشى من العذاب.
فدخل موسى عليه السلام، فلما أصبح في الإيوان، ورأى الوزراء والأبهة والأمراء والسيوف والدولة والملك؛ خاف، قال الله: {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45].
يخاطب ربه مع أخيه هارون، ويقولان: يا رب نخاف من هذا الفاجر أن يفرط، أي: يستعجل علينا، ولا يتركنا نُسلم عليه، ويمكن أن يحبسنا أو يضربنا ضرباً مبرحاً {أَوْ أَنْ يَطْغَى} [طه:45]: يتجاوز في العقوبة، فإذا كان استحقاقنا خمسين جلدة، يجلد كل واحد منا مائة جلدة، فيقول سبحانه وتعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه:46] أي: أنا معكم فلا تخافا، إنما تكلم والله معك فدخل عليه، وهو رجل شاب، وكان قد قتل واحداً منهم، ثم ذهب يرعى الغنم، وإذا به يأتي بإزار من صوف، ومعه عصا كان يرعى ويهش بها على الغنم، أتى من الصحراء ويدخل على هذا الطاغية، الذي ما يرى الشمس إلا من السنة إلى السنة من الرفاهية والكبر، فيأتي وإذا هو منتفش كالطاوس على كرسيه.
يقول الحسن البصري: قاتل الله فرعون! كان طياشاً -سفيهاً- لأن العاقل ولو كان كافراً فإنه يترك الإنسان المتحدث الوافد عليه حتى يتحدث، ولذلك ملوك العرب كانوا يتركون الوافد حتى يلقي ما عنده، ويشرح غرضه، ويلقي رسالته أما هذا فلما رأى موسى وهارون جلس وقال: من ربكما يا موسى؟ كان الواجب أن يتركهم حتى يتكلموا، لكنه قاطعهم فقال: من ربكما يا موسى؟ قال الزمخشري: فلله در جواب موسى من جواب.
لم يقل: ربي الذي يحيي ويميت؛ لأنه سوف يضيع عليه الوقت كما ضيعه النمرود بن كنعان، وموسى عليه السلام قد درس رسالة إبراهيم، وعرف مجريات حياته ودقائقها، فإن الله يعلم كل رسول برسالة الآخر، فقال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] قال الزمخشري: لله درك من مجيب! ولله در جوابك ما أحسنه! فإن هذا هو الإفحام.
ذاك يدعي الألوهية، وعنده نهر صغير فقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ولم يقل: ربنا سميع وبصير لأن أهل السنة والجماعة يقرون بصفات الله عز وجل، ويقرون كذلك بأن للمخلوق صفات، فهم يقولون: الله عالم، له علم يليق بجلاله، والإنسان عالم له علم يليق به، ويقولون: الله حليم، له حلم يليق بجلاله، والإنسان قد يكون حليماً له حلم يليق به فلو أتى موسى عليه السلام، لكان ذلك مدخل لفرعون إلى قياس الاشتراك، فلو قال: ربي سميع، لقال فرعون: وأنا سميع، والناس سوف يصدقونه، ولو قال: ربي عليم، لقال فرعون: وأنا عليم، ولو قال: ربي حي، لقال فرعون وأنا حي لكنه أتى بصفتين ليست في فرعون -لأنه يدعي الألوهية-فقال: {رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] فعرف الكذاب أنه لا يعطي كل شيء خلقه ثم يهديه.
وما فائدة قوله: {ثُمَّ هَدَى} [طه:50]؟ قالوا: هدى كل شيء إلى خلقه.
يقول سبحانه وتعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:3] ولما قرأ سيد قطب هذه الآية سال قلمه في سورة الأعلى فنسي نفسه، فأتى بصفحات في هداية الله للحيوانات، وأتى بأعاجيب يحسن بنا أن نعود إلى الظلال لنقرأ هذه القصص وهذه الأعاجيب، يقول: من هدى الأسماك حتى تهاجر من المحيط الهندي إلى المحيط الأطلسي في وقت البيض، فتبيض هناك لأن ذلك، المحيط يتجمد، فإذا فقست بيضها هاجرت هذه المواليد والزواحف لتعود إلى أمهاتها! ومن هدى الجراد أن يأتي في موسم الصيف، فيفر من بلد إلى بلد؟ ومن هدى النحلة حتى يقول كريسي موريسون، ينقل عنه سيد قطب يقول: لعل راداراً يوحي إلى هذه النحلة بمكانها، كيف تهاجر وتترك خليتها ثم تقطع آلاف الأميال وتعود إلى الخلية! قال سيد قطب: نعم.
إن الله عز وجل يقول: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ * ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً} [النحل:68 - 69].
الشاهد: أن موسى عليه السلام دمغه، فلما اندمغ احتار، ثم بعدها: {قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى} [طه:51] يقول: إن كان الله عز وجل سوف يبعث الناس يوم القيامة، فأين تذهب القرون الأولى عندما تموت ولا تعود؟ فبإمكان موسى أن يقول له: ما دخلك يا حقير في هذه المسائل، لكنه تأدب في الخطاب؛ لأن الله أوصاه: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44]
ولكن: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52] ولله دره من جواب! فإنه لم يقل: لا يضل وسكت، لأنه لو قال: يضل وسكت؛ لقال الناس: إذاً ينسى، ولم يقل: لا ينسى وسكت؛ لأنه لو قال: لا ينسى وسكت، لقالوا: إذاً يضل، فنفى عنه الأمرين، نفى عن نفسه أن إذ وضع شيئاً في مكان فيضل عليه مكانها، أو ينسى أين وضعها بل هي في سجلات محفوظة عنده سبحانه وتعالى.(375/10)
إبراهيم عليه السلام ومسألة إحياء الموتى
وهذا موقف ثان في القرآن يتحدث الله عنه باستفاضة ففي آخر سورة البقرة يعرض الله عز وجل مشهد البعث والنشور للناس ويحسن بالداعية أن يستلهم هذه المواقف لعرض الدعوة على الناس؛ لأن مسألة البعث والنشور من أخطر المسائل في حياة الإسلام، فهما قضيتان: قضية توحيد الله عز وجل، وقضية الإيمان باليوم الآخر، يذكرهما الله عز وجل دائماً.
ولذلك يقول الله تعالى بعد قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [البقرة:259] وفي قراءة: (نُنشرها) أو (نَنشرها) {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259] قال بعض أهل العلم: إنه عزير، النبي الصالح من بني إسرائيل، خرج فمر بقرية كانت جميلة، ذات رواء، فيها أطيارها، وأشجارها وأنهارها، وفيها سكانها، ثم مر بها بعد فترة وإذا هي قد تهدمت، فلا أنيس فيها، ولا صائح ولا مجيب ولا حبيب ولا قريب، فالتفت إليها وقال: {أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة:259].
وكان معه حماره، وعليه طعامه وشرابه -ولا يهمنا طعامه وشرابه من أي شيء يكون- فأراد الله عز وجل أن يعلمه، وكما يقول أحد الأساتذة الكبار الخطباء، قال: أدخل الله عزيراً في المختبر هو وحماره، فأخرجه وهو يؤمن بالله واليوم الآخر فأجرى عليه عملية الموت والإحياء مات الرجل ثم مات الحمار، والطعام والشراب في الخرج ما تغير بشيء وبعد مائة سنة أيقظ الله عز وجل هذا الرجل الصالح، فقال له: كم لثبت؟ فنظر إلى الشمس وكان الوقت بعد العصر، وكان قد توفي في الصباح -كما يقول أهل التفسير- ولما بعثه الله بعثه بعد العصر، فقال: لبثت يوماً أو بعض يوم.
إما يوماً كاملاً، ولكن أخاف أني ما أكملت اليوم؛ لأن الشمس لم تغرب بعد، إذاً بعض يوم، وهذا من الورع والاحتياط في الحساب.
فقال سبحانه وتعالى: {بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة:259].
هذا الطعام موجود منذ مائة سنة، لم تتغير رائحته ولا طعمه، ولا لونه، ففتح فوجد اللحم كما هو، ووجد الماء والعصير كما هو لم يتغير، لكن الحمار غير موجود، لأنه لو كان الحمار موجوداً أمامه لشك كذلك في أنه بقي مائة سنة، فالتفت فلم يجد الحمار، ووجد العظام أمامه قال سبحانه تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} [البقرة:259] قالوا: أعاد الله عز وجل الحمار أمامه، فركب العظام وهو ينظر -بعد أن علم أن الحمار غير موجود- ثم كساه الله لحماً -كما ذكر سبحانه وتعالى في الخلق- فلما كسي لحماً ركب أعصابه فيه، ثم أعطاه دماً، ثم أعطاه جلده وشعره، ثم خلق فيه الروح؛ فانتفض الحمار، فإذا هو حي أمامه هل في ذلك شك؟!
{وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا} [البقرة:259] قيل: ننشزها: نركب بعضها في بعض، أو نحييها، وقيل: ننشرها بعد أن ماتت {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259].
ثم قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} [البقرة:260] قال المفسرون: مر إبراهيم عليه السلام بجيفة ميت، قيل: إنه حيوان ميت على ساحل البحر، وإذا بالغراب ينهش منه ويذهب، والحدأة تأكل منه، والنسور والطيور وغيرها، فقال إبراهيم: سبحان الله! الله عز وجل يحيي الأموات بعد أن تموت، ولحوم هذه تذهب في بطون هذه كيف ذلك؟
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَال أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} [البقرة:260] أنت أستاذ التوحيد، الذي تربي الناس على التوحيد والعقيدة وتتكلم بهذا الكلام؟! {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260].
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {ليس الخبر كالمعاينة} وقال كما في صحيح البخاري: {نحن أولى بالشك من إبراهيم} أي: لو كان إبراهيم شاكاً لشككنا نحن، وهذا من تواضع الرسول عليه الصلاة والسلام، فإنه يقول: إبرهيم أقوى منا إيماناً، وأعرف منا بالتوحيد، وأقوى يقيناً، فلو شك لشككنا، فنحن أولى بالشك منه.
قال الله عز وجل: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة:260] قد آمنت لكن أريد يقيناً عندما أرى الأمر مباشرة فأجرى الله سبحانه وتعالى عملية البعث بين يديه، ولم يقل له: إني سوف أحيي فلاناً أو فلاناً، لكن: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} [البقرة:260] وقد اختلف أهل التفسير في الطير، وقد ذكره صاحب فتح القدير، فقال بعضهم: هي بط ووزة وحمام ودجاج، وقال بعضهم: ليس فيها أوز، فيها حمام زاجل، وقال بعضهم: بل فيها نسر، وقال بعضهم: بل حدأة وغراب وهذا ليس فيه طائل، وإنما هي أربعة أصناف من الطيور {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} [البقرة:260] الصر: هو القطع، وقيل: هو الضم وما أحسن أسلوب القرآن! فإن الله عز وجل لا يتكلم في القرآن إلا بالجملة الراقية العظيمة التي تملأ الأذنين جلالة وتملأ القلب محبة ورهبة ولذلك انظر كيف يتحدث القرآن بكلام لو تحدث عنه الناس بهذا الأسلوب، لتبدل الكلام، ألم يقل الله سبحانه وتعالى: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} [ق:10].
فلو تحدثنا عنه لقلنا: والنخل طويلات، لها ثمر طيب لكن الله سبحانه وتعالى قال: باسقات، جمع باسقة، في بلاغة وإبداع! وقال: لها طلع، ولم يقل: ثمر، لأن الطلع فيه حياء ورواء وإجماع للذهن، وإحياء للقلب، وقال: نضيد؛ كأنه حب منضود، أو كأنه عقد نقض بعضه على بعض فسبحان من أنزل هذا القرآن!
فأخذ إبراهيم عليه السلام الطيور الأربعة، فقطعها، ثم جمع جثثها، شعرها ولحمها ودمها وعظامها، جمعها وخلطها، ثم وزعها على رءوس الجبال، وكانت رءوسها عنده، ثم نزل إلى الوادي والجبال حوله، ثم دعا وقال: تعالي باسم الله؛ فأخذ كل عضو يأتي إلى مكانه الجناح يأتي حتى يرجع إلى مكانه، ويأتي الشعر إلى مكانه وهكذا حتى رفرفت ثم خرجت من بين يديه فإذا هي أحياء بإذن الله.
قال الله: {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} [البقرة:260] ولم يقل: يأتينك على مهل، أو يأتينك يتدحرجن؛ وذلك لأن السعي فيه معنى الحياة قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس:82 - 83].
ثم قال الله تعالى: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260] لماذا قال الله في هذه الآية: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260] وقال عند عزير: {قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة:259]؟
الآيتان وراء بعض، والقدرة والحكمة وجدت هنا وهناك، فلماذا هذا الاختلاف؟
الجواب
عزير كان عنده شك في إحياء القرية، فناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير، ليقرر له حقيقة القدرة، وإبراهيم عليه السلام لما قال الله عز وجل له: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى} [البقرة:260] فهو قد نفى عن نفسه الشك، فما يناسب أن يقول: أعلم أن الله على كل شيء قدير؛ لأنه قد علم، لكنه قال له: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة:260] فهو صاحب عزة وحكمة، فناسب أن يختم هذه بهذه، وهذه بهذه ولذلك أنا أنصح نفسي وإياكم بالاعتناء بخواتم الآيات؛ لأنها ما تأتي إلا لحكمة، فالله عز وجل إذا ذكر المغفرة والتوبة في سياق الآيات قال: والله غفور رحيم، وإذا ذكر الحدود والعزة والحكمة قال: والله عزيز حكيم، وإذا ذكر الرزق والعلم والعطية والإذن قال: الفتاح العليم الوهاب، سبحانه وتعالى.
سمع أعرابي قارئاً يقرأ من حفظه قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] إلى قوله تعالى {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [المائدة:38].
فقال القارئ: والله غفور رحيم.
فقال الأعرابي: لا يكون هذا أبداً، قال القارئ: ولم؟ قال: لأنه لا تأتي المغفرة والرحمة بعد هذا، إنما الذي يناسب هو العزة والحكمة.
فرجع إلى المصحف فوجدها كما قال الأعرابي وهذا من حكمة الله عز وجل في كتابه الكريم.(375/11)
الكلمات التي ابتلى إبراهيمَ ربُهُ بها
يقول الله سبحانه في موقف آخر مع إبراهيم: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124].
إبراهيم هنا هو المفعول فهو الذي ابتلاه الله سبحانه وتعالى بكلمات وبماذا ابتلاه سبحانه وتعالى؟ وما هي هذه الكلمات؟
قيل: هي قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة:124].
القول الثاني: أنها أوائل سورة المؤمنون، قال ابن عباس: [[ابتلاه الله عز وجل بثلاثين آية، من أول سورة المؤمنون، - ترفع على الحكاية- وعشر من سورة الأحزاب: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} [الأحزاب:35] والبقية، وعشر من سورة المعارج وسورة التوبة]]
وقيل: ابتلاه بخصال الفطرة، وهي: قص الشارب، وتقليم الأظافر، والوضوء.
والأحسن أن يقال: ابتلاه عز وجل بالتكاليف الشرعية، فقام بها على أحسن قيام؛ فجعله الله للناس إماماً، ومن قام بالتكاليف الشرعية جعله الله للناس إماماً {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} [البقرة:124] أي: واجعل من ذريتي أئمة؛ فأجابه الله: {قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124] أي أن كل ظالم ولو كان من ذريتك لا يناله العهد، ولا يناله التوفيق ولا الهداية ولا السداد هذه من مواقف إبراهيم في القرآن.(375/12)
إبراهيم وإلقاؤه في النار
ومن مواقفه: إلقاؤه في النار وهو من أعظم المواقف التي تعرض لها في حياته، والتي أظهرت فضله ومنزلته، والعجيب أنه لما ألقي في النار تخلى عنه كل أحد إلا الله عز وجل، فأتاه جبريل وقال له: هل لك حاجة؟ قال: أما إليك فلا، وأما إلى الله فنعم.
فلما ألقي قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فجعلها الله برداً وسلاماً عليه، ولو جعلها برداً فقط لمزقته بالبرودة والزمهرير ولو جعلها سلاماً فقط لاقتضى أن يكون فيها حرارة، ولكن جعلها برداً وسلاماً؛ فخرج بإذن الله، وسلمه الله عز وجل، وكرر الله هذه القصة لأوليائه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(375/13)
خصائص إبراهيم عليه السلام وصفاته في القرآن
يتميز إبراهيم عليه السلام في القرآن عن الأنبياء بثلاث ميز:
الأولى: أن الله ذكر بعض صفاته كثيراً أكثر من غيره من الأنبياء.
الثانية: أنه عرض دعوته بالآيات والتفكر في مخلوقات الله أكثر من غيره.
الثالثة: أنه واجه صعوبات مع أبيه ومع بيته قبل أن يذهب إلى الناس ولذلك يذكره الله عز وجل كثيراً، يقول الله عز وجل عنه: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ} [هود:75] أواه: أي: كثير التأوه من الذنوب، وقيل: كثير الاستغفار، وقيل: كثير التوبة حليم: أي: أنه شفيق رحيم فإن الله تعالى ذكر هذه الآية بعد قصة ذهاب الملائكة إلى قوم لوط ليدمروهم، فأشفق عليهم إبراهيم عليه السلام، وأخذ يجادل فيهم القوم مهلكون، وإبراهيم عليه السلام قام وترك الغداء معهم وقام يجادلهم في قوم بلغوا من إجرامهم كل مبلغ، فهذه علامة الحلم.
وقد ذكره الله في الشجاعة فقال: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات:93].
وذلك عندما ذهبوا إلى عيدهم، فأتى بفأس فمال على الأصنام فضربها حتى كسرها، وكانت من زبرجد ومن زجاج ومن ذهب وفضة، وأخذ الفأس فعلقه على الكبير الأبله، فأتوا إليه، ومن حقارتهم أنهم يهونون من شأن مخالفيهم: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتىً يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} [الأنبياء:60].
لأن أهل الضلال الآن إذا سمعوا بأهل الإصلاح وأهل الخير قالوا: هناك أناس يدعون أنهم سوف يدعون إلى الله عز وجل وينشرون العلم، والصهيونية العالمية تفعل هذا مع الدول الإسلامية، وتهون من شأنها، وأما نحن إذا أخبرنا عنهم فنقول: الإرهابيون، القتلة، حتى نخوف نساءنا وأطفالنا منهم، فنتصورهم في المنام، وهم يهونون من شأننا.
وإبراهيم عليه السلام له روغتان: روغة شجاعة، وروغة كرم قال تعالى: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] أي: من روغته وسرعته أتى بعجل.
إذاً: من صفاته: الكرم والشجاعة والحلم وهذه ميزة القيادي، وقد كانت موجودة في أبي بكر، فقد قال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح البخاري: {يا أبا بكر! إن فيك شبه من إبراهيم عليه السلام} أو نحواً من هذا.(375/14)
أثر بركة إبراهيم عليه السلام في مكة
ولما أتى إبراهيم عليه السلام إلى مكة ترك الأثر العجيب المبارك إلى قيام الساعة، ولا بد أن أستعرض معكم في هذه العجالة بعض المسائل:
أولاً: ما جاء في ماء زمزم وفضلها: فقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ماء زمزم شفاء سقم، وطعام طُعم} فهو يشفي -بإذن الله- السقيم لمن تعالج به وعرف قدره، قال ابن القيم: وأتاني مرض أعيا الأطباء، فنزلت وأخذت من ماء زمزم، ورقيت نفسي فتشافيت بإذن الله فمن أحسن ما يستشفى به الاستشفاء بماء زمزم، ومن استشفى به شفاه الله عز وجل بإذنه سبحانه.
وطعام طعم، أي: أنه يكفيك عن الطعام، وأنك لو بقيت على ماء زمزم لشبعت بإذن الله، إن كنت تقصد الإشباع، فقد جاء في الحديث: {ماء زمزم لما شرب له} وقد بقي عليه أبو ذر أربعين ليلة، يقول: حتى تكسرت عكن بطني من السمن.
ومن المسائل: هل يجوز أن يتوضأ بماء زمزم أم لا يجوز؟
المسألة خلافية بين أهل العلم: فبعضهم كره أن تتوضأ منه؛ لأنه ماء طاهر مبارك، فلا يمتهن بالوضوء والصحيح أنه يتوضأ منه، فقد جاء في مسند الإمام أحمد من حديث علي وأسامة بن زيد {أن الرسول عليه الصلاة والسلام توضأ وشرب من ماء زمزم} وقد ورد أن الرسول عليه الصلاة والسلام أدخل أصابعه في الصحفة فبارك الله في الماء الذي خرج من أصابعه، فتوضأ الناس من هذا الماء، وهو أشرف من ماء زمزم، فمن باب أولى أن يتوضأ منه، وكذلك يجوز أن يغتسل به من الجنابة، وهذا هو الصحيح إن شاء الله.
وكيف شرب الرسول صلى الله عليه وسلم منه؟ ثبت أنه شرب منه واقفاً قيل: لكثرة الزحام، وقيل: لعجلته صلى الله عليه وسلم، وقيل: ليبين الجواز، وهذا كله وارد، فمن شرب مرة واقفاً فقد خالف الأولى، والأحسن أن يشرب جالساً، ومن كان في زحام أو مشقة أو عجلة فله ذلك.
المسالة الثانية: تحريم مكة على لسان إبراهيم ودعوته لها بالبركة، فإنه حرمها ودعا لأهلها بالبركة، فبارك الله فيها، ولذلك عندما قال إبراهيم لزوجة إسماعيل: ما طعامكم؟ قالت: اللحم والماء.
قال: هل لكم طعام غيره؟ قالت: لا.
ليس لنا إلا اللحم والماء.
فدعا لهم بالبركة فيه قال ابن عباس: فما ينفرد أحد من الناس في غير مكة باللحم والماء إلا لم يوافقاه، إلا في مكة فيوافق العبد اللحم والماء.
فلا يستطيع الإنسان أن يعيش دائماً على لحم وماء إلا في مكة.
المسألة الثالثة: فضل الزوجة الصالحة، وأنها علامة الخير وإذا آنست المرأة زوجها بالصلاح وأظهرت له الخير والبركة، بارك الله في البيت، ولذلك إبراهيم عليه السلام أمر إسماعيل عليه السلام أن يطلق امرأته الأولى؛ لأنها دائماً تتشاءم، فالخير موجود ومبذول، والماء كثير، والبيت واسع، ولكنها دائماً تقول: بيتنا ضيق، وسيارتنا لا تصلح، وأثاثنا من أخس الأثاث، ونحن في شدة وفي ضنك، والناس مرتاحون إلا نحن فهذه ليس فيها خير ولا بركة فإن المرأة الصالحة ولو كانت تأكل خبز الشعير فإنها تحمد الله، وتقول: نحن في نعمة وارفة، وفي ظل ممدود، ونحن في بركة وخير، وهذه هي علامة الخير والبركة.
ومن المسائل: فضل التوكل على الله عز وجل، فإن إبراهيم ترك أهله وترك زوجته وطفله وذهب متوكلاً على الله فحفظهم الله.
وفي الختام: نسأل الله عز وجل لنا ولكم الهداية والسداد والتوفيق، وأن يتولانا وإياكم، وأن يرعانا ويفقهنا في دينه، وأن يبصرنا بشرع نبيه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(375/15)
احرص على ما ينفعك
بين لطائف اللغة ونصوص الشريعة، تتنقل بنا هذه المادة، في حديث عن أحكام التمني والتحسر، وضوابط (لو) و (لولا).
تتخلل ذلك أحاديث عن بعض الشخصيات كالحطيئة والحجاج، وكابن المسيب وابن جبير، وبعض الإضافات التي تضمنتها الأسئلة بعد المحاضرة.(376/1)
أحكام (لو) في الشريعة واللغة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
ومع أحاديث من صحيح البخاري في كتاب التمني، يتساءل ويسأل الأكثر! عن لفظٍ يُطلقه كثير من الناس، ما صحة هذا اللفظ؟ وما مدى مصداقية هذا اللفظ؟ وهل يعارض هذا اللفظ القضاء والقدر؟ وما هو موقف القرآن والسنة من هذا اللفظ؟
قال رحمه الله تعالى: باب ما يجوز من اللَّو وقوله تعالى: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود:80] ما هي كلمة "لو"؟ والبخاري سرد أحاديث على "لو ولولا" هل يجوز لك أن تقول: لو؟ لو فعلت كذا لكان كذا وكذا؟
عندما تمرض فتقول: لو أني ذهبت إلى الطبيب قبل مرضي لما مرضت؟ يرسب ابنك، فتقول: لو أني ذاكرت مع ابني أو راجعت له دروسه ما رسب، هل هذا جائز أم لا؟
ذلك ما سوف يجيبنا عليه الإمام البخاري، وسوف يحلق بنا المصطفى عليه الصلاة والسلام في أحاديث لندخل رياضاً يانعة، ولنسمع أقوال أهل العلم وهم يحللون هذه الألفاظ (لو ولولا).(376/2)
قول لوط لقومه: (لوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّة)
قال: وقوله تعالى: {لوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّة} [هود:80].
لوط عليه السلام هو الذي قال هذه المقالة، لما هجم عليه المجرمون يريدون ضيوفه من الملائكة، وكان قوم لوط قوم سوء -أهل فاحشة- فلما رآهم خرج إليهم، وقال: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود:78] أما عندكم إيمان؟ أما عندكم عقول؟
ثم تأسف وتحسر! وقال من شدة الغضب: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} [هود:80] لو أستطيع أن أقارعكم وأجاولكم وأصاولكم هذا اليوم لفعلت، ثم انتقل وقال: {أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود:80].
ما هو الركن الشديد؟
الأسرة القوية، قال: يا ليت عندي قوة في نفسي هذا اليوم، أو يا ليت عندي أسرة قوية وعشيرة مؤيدة لأخمدكم هذا اليوم.
قال عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ هذه الآيات: {رحم الله أخي لوط، لقد كان يأوي إلى ركن شديد} والركن الشديد هو الله عز وجل فيقول: كأن الرسول عليه الصلاة والسلام تعجب! كيف يقول: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، وكأنه نسي الله من الغضب، ولا أقوى وأجل وأعظم من الله!! لكنه قالها مع الغضب.(376/3)
" لو " في حديث عن يوسف
والرسول عليه الصلاة والسلام كان يتابع بعض قصص الأنبياء باستغراب، وربما علق عليه الصلاة والسلام، قرأ سورة يوسف يوم وصل يوسف السجن ويوم عاد الرسول إلى الملك، فقال عليه الصلاة والسلام: {رحم الله يوسف! لو لبثت ما لبث يوسف في السجن لأجبت الداعي} كأنه يقول: يوسف أفضل منا على هذا، ويوسف عليه السلام رفض أن يخرج من السجن إلا ببراءة، قال الملك: أريد أن أستخلصه لنفسي، قال: لا.
{ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف:50].
يقول: لا أخرج حتى يكتب لي براءة أني ما خنت وما أخطأت وما تعديت؟ وفي الأخير خرج ببراءة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أكبر قيمته.(376/4)
" لو " في حديث عن موسى والخضر
وقرأ صلى الله عليه وسلم سورة الكهف، وتابع القصة باستغراق بين موسى والخضر عليهما السلام، فلما انتهت القصة، قال عليه الصلاة والسلام وهو يتبسم: {رحم الله موسى! لوددنا أنه صبر وقص علينا من نبأهما} يقول: ليته مكث قليلاً حتى يزداد علماً بهذه السيرة والرحلة العجيبة الغريبة.(376/5)
حديث البخاري في باب ما يجوز من اللو
ثم قال البخاري: باب ما يجوز من اللو؛ لأنه ورد عند مسلم وابن ماجة وأبي داود وأحمد بألفاظ متباينة، يقول عليه الصلاة والسلام: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله، وإن أصابك شيء؛ فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل} فالآن هل يجوز لنا مع هذا النهي في الحديث أن نطلق "لو" وأن نتلفظ بها؟ هذا ما سيظهر لنا من مقصود البخاري.
قال حدثنا علي بن عبد الله.
علي بن عبد الله هو: المديني شيخ الإمام البخاري، إمام كبير وأمير المؤمنين في الحديث، كان حفظه للحديث كالسحر، يقول البخاري على جلالته في الإسلام: ما استصغرت نفسي عند أحد إلا عند علي بن المديني.
قال: حدثنا سفيان بن عيينة، سفيان في السند اثنان: سفيان الثوري وسفيان بن عيينة وكلاهما جليلان، وحماد في السند اثنان: حماد بن سلمة وحماد بن زيد وكلامها جليلان أيضاً.
حدثنا: أبو الزناد، عن القاسم بن محمد، قال: {ذكر ابن عباس المتلاعنين، فقال عبد الله بن شداد: أهي التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو كنت راجماً امرأة من غير بينة؟ قال: لا! تلك امرأةٌ أعلنت} الشاهد هنا "لو".
أما قصة هذا الحديث فهو أنه أتى رجل إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: يا رسول الله! إذا وجد الرجل مع امرأته رجلاً آخر ماذا يفعل؟
فكره عليه الصلاة والسلام هذه المسألة؛ لأنها لم تقع بعد والإنسان يطلب ستر الله وعفوه وكرمه، فكره صلى الله عليه وسلم المسألة، ولم يجب عليه الصلاة والسلام الرجل، فوقع الرجل في هذه المغبة والمسألة، فذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فشكى امرأته إليه، فقال عليه الصلاة والسلام: {البينة وإلا حد في ظهرك، قال: يا رسول الله! والله ما كذبت ولا كُذبت، قال: البينة وإلا حد في ظهرك} أنت قاذف والقاذف يجلد ثمانين جلدة، قال: {يا رسول الله! ما كذبت ولا كُذبت} وخرج يسأل الله أن يجعل الله له مخرجاً، إما أن يجلد وتفارقه زوجته؛ لأنه قاذف، وإلا أن يقيم البينة، وتُرجم زوجته، فأنزل الله عز وجل الحل لهذا الملاعنة في سورة النور، فاستدعاها صلى الله عليه وسلم واستدعاه، ووعظه بالله وذكَّره بلقائه وموعوده والعرض عليه، فلاعن وتقدم، ثم أخذها وذكرها بموعود الله والعرض على الله، والوقوف بين يديه، فتقدمت، وفي الأخير قال عليه الصلاة والسلام: {انظروا لها وقد حملت! إن أتت به كيت وكيت فهو شبيه بزوجها، وإن أتت به كيت وكيت فهو شبيه بالرجل الذي رميت به} فوضعت بالرجل التي رميت به، نسأل الله العافية!
قال عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده! لولا ما سبق من الكتاب لكان لي ولها شأن} أي: لولا آية سورة النور لكان لي ولها شأن -يعني: الرجم- وقال عليه الصلاة والسلام: {لو كنت راجماً امرأة من غير بينة} أي: لرجمتها، فـ"لو" هنا استخدمها صلى الله عليه وسلم.(376/6)
شروط جواز استخدام " لو "
يجوز استخدام (لو) بشروط: ألا تعارض مشيئة الله تبارك وتعالى، فإذا عارضت القضاء والقدر حرم استخدام (لو) فلا يقع إنسان في حادث ومصيبة، فيقول: لو فعلت كذا وكذا؛ لما وقعت عليك المصيبة، هذا معارضة للقضاء والقدر، لكن لك أن تتحسر على أمر فات عليك، تقول: لو كنت في شبابي، أو لو استقبلت من شبابي ما استدبرت؛ لتبت إلى الله عز وجل، هذا تأسف على العمل الصالح وقد جوَّزه بعض أهل العلم.
فيجوز إطلاقها لمن جزم بمشيئة الله سبحانه وتعالى وهذا رأي ابن حجر العسقلاني في الفتح.
وإن كان العمل للاستقبال فيجوز ذلك، وهو قول القاضي عياض المالكي، تقول: لو أتت العطلة الصيفية لحفظت القرآن، أما الماضي فلا يجوز عند القاضي عياض، لكن سوف يرد عليه أهل العلم برد وهو ما كان فيه مصلحة وفائدة، كان يتحسر عليها ويقول: لو أني استطعت أن أذهب إلى الجهاد لذهبت وفي الحديث: {لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي} فالرسول عليه الصلاة والسلام تحسَّر على أمر فات ومضى.
نواصل مع البخاري في صحيحه ثم نأتي إلى المسائل التي في الحديث.
قال عطاء: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء، فخرج عمر رضي الله عنه، فقال: الصلاة يا رسول الله! رقد النساء والصبيان، فخرج ورأسه يقطر يقول: {لولا أن أشق على أمتي -أو على الناس- لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة} الحديث.
(لولا) هنا ليست كـ (لو) فإن لو أداة امتناع الشيء لامتناع غيره، تقول: لو أتاني الضيف لأكرمته، فما أكرمته لامتناع مجيئه، لو ذاكر الطالب لنجح، امتنع نجاحه لامتناع مذاكرته.(376/7)
بعض المعاني التي تستخدم فيها (لو)
تأتي (لو) على معانٍ: تأتي بمعنى: إن الشرطية، كقوله سبحانه وتعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة:221] أي: وإن أعجبتكم، فـ (لو) تأتي شرطية.
وتأتي للتقليل: التمس ولو خاتماً من حديد، وفي الحديث: {أن امرأة أتت إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فعرضت نفسها؛ ليتزوجها المصطفى صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها، فأتى رجل فخطبها، فقال عليه الصلاة والسلام: أعندك شيء؟ قال: لا، قال: التمس ولو خاتماً من حديد، فذهب فلم يجد شيئاً، فقال: أعندك شيء من القرآن؟ قال: نعم.
قال: ماذا عندك؟ -في بعض الروايات- قال: سورة البقرة، قال: زوجتك إياها بما معك من القرآن} والشاهد: التمس ولو خاتماً من حديد، فـ (لو) هنا للتقليل.
ولو أني بليت بهاشمي خئولته بنو عبد المدان
لهان عليَّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
يقول الشاعر: يا ليت الذي يخاصمني على مستواي! لكنه رجل متبذل، يخصمني وهو رجل حقير صغير، حتى إن ابن القيم كما في شفاء العليل في "كتاب القدر" يقول: بلينا -والله- بالمبتدعة أفراخ الصابئة وأذناب المجوس! أي: أنهم يهاجمون أهل السنة والجماعة.
ثم قال: ولو أني بليت بهاشمي: أي: من بني هاشم، من أسرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
خئولته بنو عبد المدان: وهي أسرة كبيرة من العرب.
لهان علي ما ألقى: أي لو كان خصمك فيه قوة، لهان عليك.
ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني: والعرب يصيبها المضض إذا كان خصمه حقيراً ثم أذله، ولذلك يجدون مضاضة أن يذلهم الحقير.
الحارثي أحد شعراء العرب وعظمائهم في نجران، أتت إليه امرأة عجوز فضربته على وجهه، لأنه قتل ابنها، قال: ليتها صاحبة معصم تكون ضربتني على وجهي، كأنه يقول: عجوز وتضربني؛ لأنه مكتف مقيد كالأسد، قتل ابنها وقتل أشراف قومها، ثم رسم قصيدة يقول:
وتضحك مني شيخة عبشمية كأن لم تر قبلي أسيراً يمانيا
إلى آخر القصة، والشاهد: أن (لو) تستخدم للتقليل.
وتستخدم (لو) للعرض تقول: لو تنزل عندنا أكرمناك، لو تأتينا أتحفناك، ولو تسعدنا شرَّفناك.
وتستخدم للحصر: لو فعلت كذا لكان أحسن، لو ذاكرت كان أفيد، لو صليت كان أنفع، لو ذكرت الله كان أعظم لأجرك.
وتستخدم بمعنى (هلاّ) قال تعالى: {لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77].
في الرحلة الطويلة لموسى عليه السلام مع الخضر وكان فيها أعاجيب، كما قال تعالى عن الجن: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً} [الجن:1] العفاريت يقولون: القرآن عجبٌ، وكثير من الناس لا يعجبون من القرآن! وفي آخر المطاف نزل الخضر وموسى عليهما السلام فاستطعما أهل القرية فلم يطعموهما بسبب اللؤم والبخل:
لا يقبض الموت نفساً من نفوسهم إلا وفي يده من نتنها عودُ
عيد بأية حال عدت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تجديدُ
إلى أن يقول:
إني نزلت بكذابين ضيفهم عن القرى وعن الترحال محدودُ
جود الرجال من الأيدي وجودهم من اللسان فلا كانوا ولا الجودُ
فالخضر رأى الجدار يكاد أن يسقط فقام فبناه، قال موسى: سبحان الله! قوم حملونا بالسفينة بغير أجر وخرقت السفينة، وقوم لم يطعمونا وبنيت لهم الجدار {قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف:77] قال: هلاَّ من باب الأدب.
وتستخدم: للتمني، قال سبحانه: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء:102] لكن ما تنفعهم كرة؟ يقول أهل الجحيم في الجحيم: ياليت لنا عودة إلى الدنيا، لكن (لولا) للتمني.
وتستخدم شرطية جزائية: لو جئتني أكرمتك، ولو ذاكرت نجحت.
قال أحد العرب وقد سرقت إبله من قبيلة مخاصمة محاربة، فذهب إلى قومه فقال: أنجدوني!
كانوا جبناء حتى أن بعض القبائل العربية قبل الإسلام كانت القبيلة تقية ورعة، قالوا: فيها جبن، حتى أن الحطيئة يسب قبيلة يقول:
قُبِّيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
يقول: ماشاء الله! ما أحسن هذه القبيلة، لسكونها ووقارها وورعها لا يغدرون بالناس، وهذا من جبنها، وهو يعني: الذم، فذهبت القبيلة إلى عمر رضي الله عنه، فقالت: يا أمير المؤمنين! سبنا وشتمنا، قال عمر: عليّ به! فأتي بـ الحطيئة، وقد كان من كبار الشعراء؛ لكنه بذيء اللسان، وفي مجلس عمر دخل أمير أهل العراق الزبرقان بن بدر قال: سبني يا أمير المؤمنين! وأتى ثانٍ وثالث، قال: سبني يا أمير المؤمنين! قال عمر: ماذا يقول فيكم أيتها القبيلة؟ قالوا:
يقول:
قبيلة لا يغدرون بذمة ولا يظلمون الناس حبة خردل
قال عمر: ياليتني كنت كذلك، وعمر يدري أنه يسبهم؛ لأنه يعرف الذم.
يا أمير المؤمنين إنه يقول:
ولا يردون الماء إلا عشية إذا صدر الوراد عن كل منهل
يقول: من الخوف والجبن لا يزاحمون على الماء إلا بعد صلاة المغرب، قال عمر: ذلك أبعد للزحام.
وعمر يمررها كلها لكنه يأتي بأمور لا تسمح، وفي الأخير قال للزبرقان: ماذا قال فيك الحطيئة؟
قال: يقول فيّ:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي
قال عمر: ما سبك! يقول: اجلس في بيتك فإنك مطعوم ومكسي، قال: أنا خادم، قال: لا.
قال: ويقول:
أزمعت يأساً مبيناً من نوالكم ولا يرى طارق للحر كاليأس
قال: صدق ما سبك! قال: اسأل حسان، وحسان هو طبيب المهنة، "أعطوا القوس باريها" فأتى حسان فجلس، فذكر عمر له البيت، فقال حسان: ما سبه وإنما سلح عليه!
فقال: عمر: أنزلوا الحطيئة في بئر، فأنزلوه فيها، فأخذ يصيح كالثعلب من آخر البئر، وألقى قصيدة أبكت عمر رضي الله عنه وأرضاه، يقول:
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
يقول: يا أمير المؤمنين! يا عمر بن الخطاب! أجلستني في قعر البئر وأطفالي في الصحراء، بماذا تلقى الله، وتقول لله عز وجل في أطفالي.
ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ضيعت كاسبهم في قعر مظلمة فاغفر عليك سلام الله يا عمر
إلى آخر القصيدة فبكى عمر وأطلقه، وشرى أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم، قال: حرام عليك أن تهجو أحداً، فلما مات عمر كان يريد أن يهجو؛ فيتذكر عهد عمر فيسكت حتى مات، فما هجا أحداً بفضل الله.
المقصود: أن هذا الرجل سلبت إبله فذهب إلى قبيلته فاستنجد القبيلة، فقالوا: لا ننصرك، سبحان الله! فألقى قصيدة رائعة يقول فيهم:
لو كنت من مازن لم تستبح إبلي بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
يقول: لو كنت من القبيلة تلك، ما أخذوا إبلي؛ ولكن أنا منكم، أنتم فسلة يا ضعاف إلى أن يقول:
قوم إذا الشر أبدى ناجديه لهم هبوا إليه زرافات ووحداناً
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهاناً
انظر إلى الشجاعة! لا يقول: إذا أتى رجل يصيح فيهم: يا قومنا أجيبوا داعي الله! تعالوا فقد أحيط بي، فيقولون: أعطنا بينة، هل يشهد معك أربعة أنهم أخذوا إبلك الشاهد أن "لو" تأتي: للتمني وتأتي في مواضع أخرى.
أما "لولا" التي يقول فيها ابن حجر: هي أداة امتناع لوجود، كما في الحديث: {لولا أن أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} ما معنى هذا؟
يقول عليه الصلاة والسلام: {لولا أن أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة} وجدت المشقة فامتنع الأمر.
قال عطاء: فخرج عمر رضي الله عنه وأرضاه، والرسول عليه الصلاة والسلام كان منشغلاً في بيته -غالباً- وقت صلاة العشاء، فلما انصرف الرسول صلى الله عليه وسلم أتى النساء والصبيان، لأن الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، كانوا أهل مهنة، فأبطأ عليهم صلى الله عليه وسلم وهم أهل أشغال في النهار، فنام كثير منهم، فأتى عمر وكان رضي الله عنه جريئاً، فقال: يا رسول الله! يا رسول الله! يا رسول الله! نام النساء والصبيان، فخرج صلى الله عليه وسلم تقطر ظفائره بالماء، وفي لفظ: أنه وضع خاتمه على ناصيته الشريفة يزيل الماء، وقال: {لولا أن أشق على أمتي؛ لأمرتهم بالصلاة هذه الساعة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، فهو صلى الله عليه وسلم لا يريد المشقة، قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فهو عليه الصلاة والسلام يتجنب كل ما فيه مشقة، ويكره التنطع والتعمق والتشديد على الناس.
قام الرسول صلى الله عليه وسلم في رمضان يُصلي من الليل، فوجد قوماً يُصلَّون بصلاته صلى الله عليه وسلم، فترك الصلاة في الليلة الرابعة، قالوا: لماذا يا رسول الله؟ قال: خشيت أن تكتب عليكم.
وفي الحديث: {كان يترك كثيراً من العمل خشية أن يكتب على الأمة} عليه أفضل الصلاة والسلام.
كان يقوم في الصلاة يريد إطالتها فيسمع بكاء الطفل من آخر المسجد، فيخفف الصلاة لما يعلم من وجد أمه عليه.
لكن كيف يرقد النساء والصبيان ثم يقومون للصلاة ولم يتوضئوا؟
قال أهل العلم: يحمل الحديث على محملين:
الأول: أنهم نعسوا ولم يرقدوا، والنعاس يسمى رقاداً، أي: أول الرقاد يسمى نعاساً ولم يكن متمكناً.
والأمر الثاني: أن في الحديث أمراً مسكوتاً عنه، ومن يخبرنا أنهم توضئوا أم لا؟ وإلا فالحديث على ظاهره -إن شاء الله- على قول من قال: إن النوم لاينقض الوضوء.
عن عبد الرحمن وهو الأعرج قال: سمعت أبا هريرة رضي الله عنه يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك} وفي رواية البخاري {مع كل وضوء} وهذا الأمر يقتضي الحث والندب على السواك، ويعلم أن السواك ليس بواجب على الناس، لقوله صلى الله عليه وسلم: {لولا أن أشق على أمتي؛ لأمرتهم} فانتفى الأمر والوجوب لما فيه المشقة.(376/8)
النهي عن الوصال
وعن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: {واصل النبي صلى الله عليه وسلم آخر الشهر وواصل أناس من الناس، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لو مدَّ بي الشهرُ لواصلت وصالاً يدع المتعمقون تعمقهم، إني لست مثلكم، إني أظل يُطعمني ربي ويسقيني}.
معنى الحديث: أن الرسول عليه الصلاة والسلام صام يوماً من الأيام ثم واصل، والمواصلة هنا، أي: مواصلة الليل بالنهار، فالرسول صلى الله عليه وسلم صام الليل مع النهار، فأتى أناس من الصحابة يريدون المواصلة، فقال عليه الصلاة والسلام: {أنا لست كهيئتكم! أني أظل يطعمني ربي ويسقيني} فواصل، فقال صلى الله عليه وسلم: {لو مد بي الشهر لواصلت بكم} يعني: تحدٍّ حتى يظهر من يستطيع أن يصبر ممن لا يستطيع أن يصبر، كالمنكل بهم صلى الله عليه وسلم.
ومعنى: {إني أظل يطعمني ربي ويسقيني} ليس معناه: أنه يطعمه الطعام، ويسقيه الشراب، فإنه ليس بصائم على هذا، لكن معناه: أنه يطعمه سبحانه وتعالى من المعارف والإشراقات والوحي والنور والحكمة ما يشبع به.
يقول الأندلسي:
فقوت الروح أرواح المعاني وليس بأن طعمت ولا شربتا
أي: إن قوت القلب هو أرواح المعاني والألفاظ والإبداعات ودلالات الألفاظ، والمعاني: هي التي تشبعك، وليس الطعام والشراب كما عند كثير من الناس.
فالرسول صلى الله عليه وسلم يُطْعم بالوحي، ويُسقى بالحكمة، فلا يظمأ.
قال ابن القيم عند هذه: نعم، هذا ما يدير الله عليه من المعاني والحكم، ثم أتى بأبيات، وهي لأحد العرب يخاطب محبوبته حاكياً عن ناقته لكنَّ ابن القيم قلب هذه الأبيات وجدها لتكون في حب العبد لمولاه تبارك وتعالى، يقول:
لها أحاديث من ذكراك تشغلها عن الشراب وتلهيها عن الزاد
لها بوجهك نور تستضيء به ومن حديثك في أعقابها حادي
إذا تشكت كلال السير أسعفها سوق القدوم فتحيا عند ميعاد
وهي من أحسن الأبيات، ذاك الشاعر يقول: أمشي بناقتي فتكل، فأُحدثها بأخبارك فتتشجع -انظر إلى الكذب الكثير- قال: فإذا أظلم الليل رأت من الأنوار فتوقت ومشت.
الشهرزوري يقول عنه ابن خلكان: له أبدع قصيدة عند العرب في معنى النور يقول:
لمعت نارهم وقد عسعس الليل ومل الحادي وحار الدليل
فتأملتها وفكري من البين عليل وطرف عيني كليل
وهذا كما قال سبحانه وتعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:224 - 227].
{إني أظل يطعمني ربي ويسقيني} قال: "لو مد" والشاهد من الحديث (لو) وهي أداة امتناع لامتناع.(376/9)
نبذة عن حياة سيد التابعين
سعيد بن المسيب، حيا الله سعيد بن المسيب سيد التابعين بلا مرية، اختلف أهل العلم أيهم سيد التابعين؟ قالوا: سعيد بن المسيب، أو الحسن البصري أو أويس القرني، قالوا: أما في الزهد فـ أويس؛ فإن فيه أحاديث، وأما في العلم والنقل والفقه فـ سعيد بن المسيب، وأما في أعمال القلوب والرقائق فـ الحسن البصري.
وسعيد بن المسيب قرشي زهري، كان قوي الشخصية إلى الحد الذي يفوق الحصر، رفض أموراً كثيرة عُرِضَت عليه، جلد وابتلي ورفع الله منزلته، كان يجلس بعد الفجر، وكانت ثيابه بيضاء، وكان يعتني بالطيب والسواك والوضوء، وكان يستقبل القبلة، قالوا: كان يجلس متربعاً حتى يؤذن لصلاة الظهر وهو يذكر الله، وقيل عنه: إنه كان يصوم كثيراً من الأيام، وما رئي إلا قليل من الأيام وهو مفطر.
ويقول: والله ما فاتتني تكبيرة الإحرام مع الإمام أربعين سنة، وما نظرت إلى ظهر أحدٍ في الصلاة إلا إلى الإمام، قال: ولما وقعت معركة الحرة، التي دبرها يزيد بن معاوية، ولو أن بعض المؤرخين ينفي هذه المعركة عن يزيد، ويبرئ ساحته من المعركة، لكنه أرسل مسرف بن عقبة، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {لا يكيد أهل المدينة أحد إلا انماع كما ينماع الملح في الماء} في لفظ: {لا يكيد أحد المدينة إلا أنماع كما يذوب الملح في الماء} فأرسل جيشاً من دمشق فدخل المدينة، فاستباحها ثلاثة أيام، وقتل أبناء المهاجرين، والأنصار، وخرجوا من المسجد خائفين، قال سعيد: -كما في سيرته-[[فبقيت في المسجد كلما حضر وقت الصلاة أسمع الأذان من قبره صلى الله عليه وسلم]] هكذا ورد وهذه الرواية هذه صحيحة.
يقول سعيد: سمعت أبا هريرة يقول: {نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال} وصال الليل بالنهار، وقد فعله بعض الصحابة والتابعين، ولكن هذا مردود عليهم بالسنة، قال الذهبي: فعرضنا عبد الله بن الزبير وكان من أقوى الناس على العبادة، يمر به ليلة -كما في سيرته- فيجعل الليل من صلاة العشاء إلى صلاة الفجر قائماً يقرأ، والليلة الثانية راكعاً إلى صلاة الفجر، والليلة الثالثة ساجداً إلى صلاة الفجر، وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء بسند صحيح عنه: كان يصوم سبعة أيام ليلاً ونهاراً ويفطر في اليوم الثامن، سبعة أيام سرداً، ويفطر على سمن الأبقار، وكان عابداً من الدرجة الأولى، طاف بالبيت يوم أن اقتحم السيل الحرم، فطاف في السيل رضي الله عنه وأرضاه، ولم يكن كبير جثمان وإنما كان نحيفاً، ذكر أنه كان إذا خطب ارتجت له نواحي الحرم من صلابة صوته وشجاعته، وهو الذي قتله الحجاج: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
إذاً ورد النهي عن الوصال والسرد، وسرد الأيام -أي: صيام الدهر- منهي عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد، لا صام من صام الأبد}.
أي: أنه ينهى أن يصوم الإنسان كل الأيام وعليه بالسنة أن يصوم ويفطر، أما السرد فمنهي عنه، وأما الصحابة الذين فعلوا ذلك؛ فيحمل على أنه ما بلغهم النهي، رضي الله عنهم وأرضاهم.(376/10)
حديث: (ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: {سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن الجدار أمن البيت هو؟ قال: نعم.
قلت: فما بالهم لم يُدخلوه في البيت؟
قال: إن قومك قَصُرت بهم النفقة -أو قَصّرت بهم النفقة- قلت: فما شأنُ بابه مرتفعاً؟
قال: فعل ذاك قومك ليدخلوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا، ولولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية، فأخاف أن تُنكرَ قلوبهم أن أدخل الجدار في البيت وأن ألصق بابه في الأرض}.(376/11)
المعنى الإجمالي لحديث بناء الكعبة
يقول عليه الصلاة والسلام لما قالت له عائشة رضي الله عنها وأرضاها: يا رسول! هل الجدار هذا من الكعبة؟ قال: نعم، قالت: فلماذا لم يدخل بالكعبة؟ قال: إن قومك -أي: قريش الكافرة- وهذا فيه جواز إطلاق القوم الوثنيين في النسبة، أن تقول للمسلم: قومك ولو كانوا مشركين، والله يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ} [هود:25] وقال في صالح: إلى قومه، وقال في هود: إلى قومه، فسَّماهم أقواماً لهم بنسبة العنصر والنسب لا بنسبة الديانة والخلق والعقيدة.
قال: {إن قومك قصرت بهم النفقة} ما وجدوا مالاً ليدخلوا هذا الجدار في الكعبة، قالت: فلماذا الباب مرتفع؟ أما ترى باب الكعبة كيف ارتفع إلى أعلى؟
قال عليه الصلاة والسلام: فعل ذلك قومك عمداً، ليدخلوا من شاءوا ويتركوا من شاءوا.
كيف يدخلوا من شاءوا؟
الآن لا يدخل الكعبة إلا بسلم فكان يجتمع أربعون لا يمكن أن يدخل غيرهم من أهل الرأي والمشورة المسنين منهم، فإذا دخل واحد ليس من أهل الندوة أو أهل الرأي، ضربوه في صدره فيقع على قفاه، وأما بني هاشم فيدخلون ولو كانوا صغاراً؛ فإنهم الأسرة المجيدة، القوية وأسرة الريادة، وأما غيرهم فلا يدخل إلا الكبار.
فقال صلى الله عليه وسلم: {ولولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية، فأخاف أن تنكر قلوبهم، أن يدخل الجدر في البيت وأن ألصق بابه في الأرض} أي: لفعلت.(376/12)
قضايا في حديث بناء الكعبة
في هذا الحديث قضايا:
أولها: مخاطبة الناس على قدر عقولهم، فالرسول عليه الصلاة والسلام يخاف من الكفار يوم أسلموا أن يبدل شيئاً من الكعبة فيقول الكفار: انظروا! حتى الكعبة ما تركها حتى بدَّلها، فترتد وتنكر قلوبهم، فتركها صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: [[إنك لست مُحدِّثاً قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان على بعضهم فتنة]] ولذلك حق على الداعية والمتكلم أن يُقدِّر قدر المجتمع والبيئة التي يعيش فيها، لا يأتي إلى أناس لا يعرفون الأبجديات في الإسلام، ويقول: ذهبت القدرية، والمعتزلة والمرجئة، والجهمية، والأشاعرة إلى كذا، وذهب أهل السنة إلى كذا، عقولهم لا تدرك هذه المستويات من الدقة والخلافات والتعمق، فهذا أمر لا بد أنُ ينتبه له.
قال علي رضي الله عنه [[ w=8000267>> حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يكذب الله ورسوله]] فحق علينا أن نُحدِّث الناس بما يعرفون.
والقضية الثانية: قوله صلى الله عليه وسلم: {فأخاف أن تنكر قلوبهم}.
إن على الداعية أن يتَّلمس المنافذ للدخول إلى القلوب، لكن لا يأتي إلى أمور كأنها غيبيات ما سمعوا بها فتنكر قلوبهم، فيصابون بكبت نسأل الله العافية.
والقضية الثالثة: لما حدثت عائشة رضي الله عنها ابن الزبير بهذا الحديث وهو خليفة -تولى الخلافة ست سنوات- هدم البيت، وأدخل الجدار في الكعبة، فأتى عبد الملك يطوف بالكعبة، فهدمها وأعادها على ما كانت عليه في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام.
لقد كان الناس حديثو عهد بجاهلية، ولكن لما ماتوا أتى ابن الزبير في خلافته، فأدخل الجدار داخل الكعبة، لكن عبد الملك بن مروان قتل ابن الزبير، صلبه عند الحجون بواسطة الحجاج، فغضب حتى لا تكون الكعبة من مشاريع ابن الزبير، فنقضها وأعادها على البناء الأول، وأخذ عبد الملك يقول: كذب ابن الزبير، ألا يستحي من الله، يقول: إنه سمع عائشة تقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لولا أن قومك حديثو عهد بالجاهلية، لأدخلت الجدر في البيت، وألصق بابه في الأرض} فقال العلماء بجانبه: صدق ابن الزبير، قالت عائشة هذا عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
ولما أتى هارون الرشيد بمشروع آخر لتوسعة الكعبة استشار الإمام مالك، فكتب له الإمام مالك: يا أمير المؤمنين! لا تفعل ذلك، فإن فعلت ذلك؛ أصبحت الكعبة لعبة للملوك، كلما أتى إنسان غضب على الذي قبله، قال: باسم الله! تُهدم الكعبة وتُبنى من جديد، فتوقف هارون الرشيد بهذا الرأي السديد الحازم، فبقيت على أصلها كما كانت في عهده صلى الله عليه وسلم.(376/13)
إحراق الكعبة
يقال: إن الكعبة أحرقت مرتين:
المرة الأولى: لما أرسل عليها الحجاج بن يوسف الظالم قذائف المنجنيق، ركب الراجمات على جبل أبي قبيس، ثم أخذ يُطلق المنجنيق وهي حجارة كبرى تقدر برأس الإنسان، وكان يسحبها أربعة جنود، وكان لها شيء من جلود وحديد وسبائك وأعواد قوية، فإذا سحبت عادت القذيفة ثم أطلقت، فضربت البيت، وقد كان ابن الزبير في داخل البيت عائذاً بالله سبحانه وتعالى، وكان يسمى "عائذ البيت" فوقعت فاحترقت الكعبة، فلمع بارق في الجو، وارعد الرعد، حتى سمع للرعد زلزلة في جبال مكة، فخاف الجنود وتوقفوا، فقال الحجاج: ما عليكم! هذه ذنوب تهامة.
والمرة الثانية في عهد جعفر الصادق، يقال: كان يصلي فانطلقت شرارة من نار من بيت قريب من الكعبة فوقعت في لباس الكعبة فاحترقت.(376/14)
سعيد بن جبير والحجاج
وما دام أننا تعرضنا للحجاج، فلا بأس أن نعيش مع الحجاج للاستفادة من قصته مع سعيد بن جبير أحد التابعين الأخيار، من الذين لهم أحاديث في هذا الباب، وكان من الناقمين على ظلم الحجاج.
كان مع العلماء في بئر جمان، فهرب من الحجاج وبقي هارباً، قيل: سبع أو ثمان سنوات، فظفر به الحجاج، وأتي به، وأدخل على الحجاج كما في تحفة الأحوذي في المجلد الأول- قال له الحجاج: من أنت؟ قال: أنا سعيد بن جبير.
قال: بل أنت شقي بن كسير، جعل مكان سعيد: (شقي) ومكان جبير: (كسير) قال: أمي التي سمتني أعلم، قال: شقيت أنت وشقيت أمك.
ثم قال الحجاج: والله لأصلينك في الحياة ناراً تلظى -يقول ذلك لأحد العباد والزهاد والعلماء الكبار- قال سعيد بن جبير: لو أعلم أن ذلك إليك لاتخذتك إلهاً، قال الحجاج: علي بالعود، فأتي بجارية مغنية فضربت العود، فبكى سعيد بن جبير، قال الحجاج: أتبكي من الطرب؟
قال: لا والله.
لكن الجارية خلقت وسخرت لغير ما خلقت له، وعود قطع من شجرة فسخر لغير ما خلق له، قال: عليّ بالذهب والفضة، فنثروها بين يديه، فقال: سعيد بن جبير: إن كنت جعلت هذا المال لتدرأ به عذاب الله فنعم ما فعلت، وإن كنت أخذته رياء وسمعة فوالله لتحاسبن عنه عند الله يوم القيامة.
فقال الحجاج: خذوه، ووجهوه إلى غير القبلة؛ فقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة:115] قال: اطرحوه أرضاً، قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} [طه:55] قال: لو كنت مظلوماً لانتصرت، قال: {وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} [إبراهيم:42] فلما أرادوا ذبحه قال: يا قاصم الجبابرة، اقصم الحجاج، يا قاصم الجبابرة! اقصم الحجاج! يا قاصم الجبابرة اقصم ظهر الحجاج، اللهم لا تسلطه على أحد بعدي.
فلما ذبح سعيد بن جبير ذكر بعض أهل السير أن رأسه كان يتدهده ويقول: (الله الله) فأتى الحجاج فدخل باب الإمارة وحك يده، فامتلأ جسمه بلاء من دعوة سعيد بن جبير، فوضع نفسه على السرير وأخذ يخور كما يخور الثور شهراً كاملاً، لا يأكل ولا يشرب، وورم جسمه، وخرج منه دمل يحكه فينزل منه قيح وصديد ودم، يقول: والله ما مرَّت بي ليلة إلا رأيت كأني أسبح في الدم.
ويقول: لقد رأيت كأن القيامة قامت، فرأيت عرش الله بارزاً، ورأيت كأن الله حاسبني فقتلني عن كل إنسانٍ قتلةٍ، إلا سعيد بن جبير فقد قتلني به سبعين مرة، وهذا في تراجم سعيد في سيرة الحجاج، هذا على ذكر الحجاج وأمره إلى الله عز وجل، وهو من عصاة الموحدين أمره إلى الله لا نشهد له بجنة ولا نشهد عليه بنار، وقد ذكر في ترجمته: أنه مر على قبره ومعه بعض قرابته وقيل: أخوه، فسمعوه يصيح في القبر -نسأل الله العافية- فقال أحد أقاربه: رحمك الله يا أبا محمد! تقرأ القرآن في الحياة وتقرأ القرآن في القبر.
أين هذا القرآن لكنه يريد أن يعتذر له.(376/15)
شرح حديث: (لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار)
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، ولو سلك الناس وادياً وسلكت الأنصار وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار أو شعب الأنصار}.
في هذا الحديث يُحبب الرسول صلى الله عليه وسلم الهجرة ويُقدِّمها على النصرة، فالمهاجرون أفضل بلا شك من الأنصار، قال تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة:117] فقدم المهاجرين على الأنصار، ويوم توفي عليه الصلاة والسلام اجتمع الأنصار، وقالوا: الخلافة فينا، فأتى أبو بكر وهم في سقيقة بني ساعدة وهم في ضجة قال: ما لكم؟ قالوا: فينا الخلافة، قال: لا.
قالوا: منا أمير ومنكم أمير، قال: لا.
ثم تكلم أبو بكر بكلام أشفى العليل وأروى الغليل، وقال: بدأ الله بنا في القرآن وقدَّمنا عليكم، جزاكم الله من أهل وعشيرة خيراً، نحن الأمراء وأنتم الوزراء، فرضيوا وبايعوا أبا بكر رضي الله عنهم جميعاً، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {لو سلك الناس وادياً أو شعباً لسلكت وادي الأنصار وشعب الأنصار} وفي صحيح البخاري: {آية الإيمان حب الأنصار} والأنصار هم من ناصر الرسول عليه الصلاة والسلام في دعوته يوم أتى المدينة، وكل من عادى الأنصار أذابه الله عز وجل كما يذوب الملح في الماء، ولذلك أتى الشاعر الأخطل التغلبي الفاجر، فقال:
ذهبت قريش بالمكارم والندى واللوم تحت عمائم الأنصار
فابتلاه الله عز وجل بسوء الخاتمة، لأنه تنقَّص أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذاً: لا تظن بأنه يكون محظوراً عليك استخدام "لو" فهي مقروءة كثيراً في القرآن، قال سبحانه وتعالى عن رسوله صلى الله عليه وسلم: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ} [الأعراف:188] فأمره أن يقول: "لو" وهذا لا ينافي القضاء والقدر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام يُؤمن بمشيئة الله، فمن آمن بمشيئة الله وأن تصاريف الأمور بيده سبحانه فلا بأس عليه.(376/16)
شرح حديث: (لو استقبلت من أمري ما استدبرت)
وقال عليه الصلاة والسلام: {لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي}؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ساق الهدي، فما أحل من إحرامه صلى الله عليه وسلم، وقال للصحابة: احلوا من احرامكم بعمرة، أي: اجعلوها عمرة، قالوا: كيف يا رسول الله؟
لأنهم لا يستسيغون هذا وهو صلى الله عليه وسلم محرم، فأخبرهم أنه قد ساق الهدي، والذي يسوق الهدي من بلده يبقى في إحرامه، فقال: {لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما سقت الهدي} ففيه التحسر على الأمر الفاضل الذي فاتك، فلك أن تتحسر عليه إذا كان فيه منفعة دينية شرعية تليق بك، ويقول عليه الصلاة والسلام كما عند الترمذي من حديث أبي كبشة الأنماري: {ورجل يقول: لو أن الله آتاني مثل فلان، أو مثل ما آتى فلان، لعملت مثل ما عمل} وقد جعل الرسول عليه الصلاة والسلام الناس أربعة: رجل عنده مال وعلم يعمل به ما يرضي الله، فهذا مأجور مشكور، ورجل ليس عنده مال ولكن عنده علم، فقال: لو أن الله عز وجل آتاني مالاً لفعلت به مثل ما فعل فلان، فهو مأجور وهما في الأجر سواء -مفهوم الحديث: ورجل جاهل آتاه الله مالاً فعمل به في المعاصي، فهو مأزور مدحور، ورجل رابع لم يؤته الله مالاً، وهو جاهل فقال: لو آتاني الله مالاً لفعلت به مثل ما فعل فلان، فهما في الوزر والإثم سواء.
فالرجل الأول: أخذ شيئاً أو تمنى شيئاً لا يعاند به القضاء والقدر ولا المشيئة وفيه خير، والثاني: تمنى هذا.(376/17)
مواطن (لو) في القرآن
أما مواطن "لو" في القرآن، قال سبحانه وتعالى: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا} [آل عمران:154] قال المنافقون في معركة أحد لبعضهم البعض: {الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَأُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران:168] جلس فريق من المنافقين، وقالوا لإخوانهم من المنافقين: لا تخرجوا إلى أحد، ننذركم الحرب، لو كنا نعلم أن هناك نصراً أو فائدة لخرجنا، فلما خرجوا وقتلوا قالوا: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168] وهذا خطأ وفيه معارضة للكتاب والسنة، وقد ذمها الله عز وجل؛ لأنها عارضت القضاء والقدر، ويقول سبحانه وتعالى راداً عليهم: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} [آل عمران:154] فأخبر سبحانه وتعالى أن القضاء والقدر سبق أنه يغلب كل غلاَّب، وأنه لا يغلب القضاء والقدر أحد.
وقال سبحانه وتعالى عن المنافقين: {لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة:42] في معركة تبوك يقولون: يا ليتنا نستطيع أن نخرج معكم، لكن كذبوا ليس لهم همة ولا مقصود ولا مطلوب، فقالوا: لو استطعنا لخرجنا معكم، ويعلم الله أنهم يستطيعون، يقول أحدهم: {ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة:49].
ويقولون: لو استطعنا يا رسول الله لخرجنا معك، لكننا لا نستطيع، وقالوا: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ} [آل عمران:167] لأنهم كذبوا وعارضوا القضاء والقدر: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} [آل عمران:168].
وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء:78] والبروج هي: الحصون أو القصور، والمشيدة هي: التي ترمز بالشيد من حصانتها، فالله يقول: {يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَة} [النساء:78] {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة:109] فلو جاءت هنا في القرآن على الجواز، ولكن هناك للذم.
إذاً "لو" تجوز في ثلاثة مواطن:
أولها: إذا لم تعارض قدر الله ومشيئته.
الأمر الثاني: إذا كانت للاستقبال، جاز استخدامها.
الأمر الثالث: إذا كانت لمصلحة دينية وفائدة شرعية فاتت العبد، كما لو فاتت الصلاة على العبد وقال: لو أني استيقظت، لو أني فعلت أو لو أن لي منبه لتنبهت وتحسَّر على هذا الأمر، فهذا جائز.
أما استخدامها بعد العجز وعدم بذل الأسباب، فهذه محرمة، كمثل من كان لا يذاكر فرسب، فيقول: لو أني ذاكرت لنجحت، فهذا عارض القضاء والقدر بـ (لو) ثم بكسبه فعل أمور محرمة.(376/18)
القوة المطلوبة من المؤمن
يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي يرويه مسلم: {المؤمن القوي} القوي في كل شيء؛ في الإرادة والبذل والعزيمة وليس في الجسم؛ لأن الله لم يذكر الأجسام في القرآن إلا في موطنين.
موطن ذكر أنها مِنّة للملك طالوت على بني إسرائيل، فقال: {وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ} [البقرة:247] لأن الملك يحتاج إلى جسم.
والموطن الثاني: ذكره في مذمة للمنافقين، فقال: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].
لا بأس بالقوم من طول ومن قصر جسم البغال وأحلام العصافير
قال: {المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير} الخيرية موجودة وأصل الخير فيهما موجود، لكن التفاوت النسبي الإضافي عند المؤمن القوي الذي يحبه الله عز وجل، مؤمن قوي في دعوته، قوي في تأثيره، قوي في إرادته، أحب إلى الله عز وجل من المؤمن الضعيف.
الآن عمر بن الخطاب أحب إلى الله عز وجل من آلاف مؤلفة من المؤمنين الذين ضعفوا في الإيمان.
عمر قوي في جسمه، كان يمشي كأنه راكب على فرس، وقوي في إرادته، وفي مشيته.
مر أناس في سكة من سكك المدينة من الشباب الذين لم يهتدوا، والشاب إذا اهتدى وقلَّ علمه يبدأ بأمور ربما لا تنضبط كثيراً على السنة، فأخذوا يتماوتون في مشيتهم، نكسوا رءوسهم وكسروا أجنحتهم ومشوا في السكة، يظنون أن هذه تدخلهم في العشرة المبشرين بالجنة، فقالت عائشة: من هؤلاء؟
قال الناس: هؤلاء قوم اهتدوا تائبين إلى الله عز وجل، هؤلاء نُسَّاك عباد، قالت: [[كذبوا والله! لقد كان عمر أخشى لله، وكان إذا مشى أسرع، وإذا قال أسمع، وإذا ضرب أوجع]].
فأما إذا مشى أسرع: فإنه كان يتفلت تفلتاً كأنه رضي الله عنه وأرضاه الصخرة إذا نزلت من الجبل.
يقول امرؤ القيس:
مكر مفر مقبل مدبر معاً كجلمود صخر حطه السيل من عل
وقال المتنبي:
أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت وإذا سقت فإني الجوداء
لم يجد أحداً يمدحه، فمدح نفسه!!
وكان عمر رضي الله عنه إذا خطب يسمع صوته من في السوق.
وكان إذا ضرب أوجع: إذا ضرب الأعداء أو أهل البدع أو أهل المعاصي أو عزر رضي الله عنه وأرضاه، تطير الشياطين من الرءوس بضربه، وقد كان من أضرب الناس حتى في المعركة بالسيف، ومن ضمن ما ذكره الشُّراح في كتبهم -وتحتاج إلى سند- أن عمر رضي الله عنه وأرضاه عطس والحلاق يحلق له رأسه عند الجمرات فأغمي على الحلاق.
وقد سمعت -في شريط- لأحد الخطباء وهو يخطب يوم الجمعة يقول: عمر رضي الله عنه وأرضاه لقوة إيمانه ويقينه، لما أدخل القبر أتاه الملكان يسألناه! فانتفض من قبره، وقال للملكين: من ربكما؟!
وهذه مبالغات تحتاج إلى أسانيد ومن أخبره ومن دخل مع عمر رضي الله عنه وأرضاه.
إن ما نحفظه عن عمر رضي الله عنه وأرضاه هو الصدق والإخلاص والعدل والإيمان والحب والطموح.(376/19)
الحرص على الخير والاستعانة بالله
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {احرص على ما ينفعك} يصاب الإنسان بعاملين مؤثرين: (الكسل والعجز) العجز في القلب، والكسل في الأعضاء، وإذا أصيب الإنسان بالعجز والكسل؛ فاغسل يديك منه فليس فيه خير، من بذر بذرة "ليت"، نبتت له شجرة "لعل" يقطف فيها ثمراً يُسمى الخيبة والندامة، وأكثر ما تمر "سوف" على أهل العجز والكسل، تقول له: احفظ القرآن؟ يقول: سوف أحفظ إن شاء الله، و"سوف" هذه تأخذ معه عشر سنوات! لماذا لا تصلي جماعة؟
قال: إن شاء الله سوف أصلي ويفتح الله عليّ.
فالعجز في القلب، والكسل في الجوارح، ولذلك تجد بعض الناس وهو ضعيف البنية لكنه قوي الإرادة، وتجد بعض الناس من أكبر الناس جسماً -على العكس- لكنه ضعيف الإرادة والتفكير.
قال: {احرص على ما ينفعك} قال أهل العلم: الحرص على المنفعة هو: أن تبذل كل سبب ليحصل لك النفع، العلم لا يأتي إلا بسبب، المال والرزق لا يأتي إلا بسبب، الاستقامة والتوجه والالتزام لا يأتي إلا بسبب، أما إنسان يقول: لو أراد الله أن يهديني لاهتديت، سبحان الله! جبري في المعصية قدري في الطاعة، يقول لك: لماذا كذبت على الله وسرقت؟ قال: لأن الله كتب عليَّ أن أسرق، قلنا له: سلمنا لك جدلاً! ولكن، لماذا تركت -جدلاً- صلاة الفجر -مثلاً- في وقتها؟
قال: حتى يقدر الله لي ذلك.
{احرص على ما ينفعك واستعن بالله} يقول أهل العلم كـ ابن تيمية: إن الحرص والسبب لا بد فيه عون من الله عز وجل، والمداومة على (إياك نعبد وإياك نستعين) والناس في (إياك نعبد وإياك نستعين) على ثلاثة أقسام:
قسم يعبدون الله ويستعينون به، وهؤلاء مؤمنون.
وقسم يعبدون الله ويستعينون بغيره، وهؤلاء فجرة.
وقسم يستعينون بالله ويعبدون غيره، وهؤلاء مشركون.
كان بعض المشركين يستعين بالله ويعبد غيره، وبعض الفجرة يعبد الله ويستعين بغيره، والمؤمن يعبد الله ويستعين بالله سبحانه وتعالى، والعبادة لا بد فيها من الاستعانة، وإذا لم يعنك الله عز وجل؛ فلن تستطيع أن تعمل أي عمل، قال مطرف بن عبد الله: والله لو كان الإيمان وأردت أن أدخله هنا إلى قلبي؛ ثم لم يرد الله عز وجل ما دخل الإيمان قلبي أبداً.(376/20)
الرضا بالقضاء والقدر
{واستعن بالله ولا تعجز} كرَّر صلى الله عليه وسلم "لا تعجز"؛ ليبين لنا سبب الكسب وطلب الإرادة منه؛ لأن للعبد مشيئة تحت مشيئة الله عز وجل، والعبد يوم يعلم الله توجهه وحرصه يعصمه الله عز وجل، أهل النجاح والتفوق، وأهل الكسب والأخذ والعطاء ما منحهم الله ما لديهم إلا لأنهم توجهوا إليه -سبحانه وتعالى- وطلبوا ما عنده.
ومن أعظم الكسب: الدعاء، وترك المعاصي، والاستغفار، والسهر على المصلحة، حتى يحصل لها صاحبها.
{وإذا أصابك شيء، فلا تقل: لو أني فعلت كذا لكان كذا، فإن "لو" تفتح عمل الشيطان} الشاهد من الحديث: لماذا تفتح "لو" عمل الشيطان؟
قال القاضي عياض وابن حجر: لأن "لو" إذا حدثت وسوس العبد وقال: لو أني فعلت كذا لكان كذا وكذا؛ فشك في قضاء الله وقدره، فدخل في الارتياب، وهو فعل الشيطان، ولذلك تجد الناس يتسخطون في القضاء والقدر.
ابن الراوندي -وتكتب ابن الريوندي محيي الدين الكلب المعفَّر- وكثيراً ما أذكر قصته لأنه يعترض على القضاء والقدر، رأى أعرابياً عنده بستان، وعنده خيالة، وعبيد ومال، فالتفت إلى السماء وقال: هذا العبد عنده كذا! وأنا الذي أكيل الدنيا ما أعطيتني شيء؟ ثم رمى بالخبزة في نهر دجلة، فابتلاه الله عز وجل في حياته ودنياه، لأنه اعترض على القضاء والقدر.
لذلك يقول بعض الناس: يا رب! لماذا قدرت عليَّ كذا؟ ماذا فعلت يا رب؟ سبحان الله! جلَّ الله سبحانه وتعالى! بل يفعل ما يريد سبحانه وتعالى: {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] سبحانه ما أجله! {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
ومقامك من القضاء والقدر -وهي تدور حول كلمة "لو"- ثلاث مقامات:
الأول: أن تؤمن أنه من عند الله عز وجل.
الثاني: أن تشكر الله عز وجل على النعمة.
الثالث: أن تحمد الله أنه لم يجعل المصيبة في دينك واستقامتك.(376/21)
تمني النبي صلى الله عليه وسلم من يحرسه في ليلة من الليالي
قال الإمام البخاري: باب: قوله صلى الله عليه وسلم: ليت كذا وكذا.
ليت هنا للتمني، وتحمل معنى: الترجي، والحديث عن عائشة رضي الله عنها قالت: أرق النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال: {ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، إذ سمعنا صوت السلاح، قال: من هذا؟ قال سعد: يا رسول الله! جئت أحرسك، فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه} قال أبو عبد الله: وقالت عائشة: قال بلال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولي إدخر وجليل
فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم.
في الحديث قضايا: أرق: أي أصابه الأرق وهو: السهاد ونفران النوم عن النائم.
قال المتنبي:
أرق على أرق ومثلي يأرق وجوى يزيد وعبرة تترقرق
وسكن نابغة ذبيان بدار العرب، فقال:
فبت كأن العائدات تركن لي فراشاً به يغلو فراشي ويقشب
حلفت يميناً غير ذي مثنوية ولا علم إلا حسن ظن بصاحب
والمقصود: أن الأرق هو شيء ينتاب الإنسان قبل نومه، يطرد النوم عنه ويُسمى عند بعضهم: بالسهاد.
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم المسهدا
فلما أرق صلى الله عليه وسلم وكان حول المدينة يسكن كثير من اليهود قتلة الأنبياء، قال: {يا ليت رجلاً صالحاً} -أي: أميناً- وقيل: إنه بعد الصباح دخل المدينة {يحرسني الليلة} ما هو الجمع بين هذا الحديث وقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67].
قالوا: هذه الآية متأخرة عن الحديث، فلما نزلت: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة:67] ترك صلى الله عليه وسلم الحرس وبقي في رعاية الله عز وجل.
قال: "ليت" هي الشاهد، وهنا تمنى عليه الصلاة والسلام فدل على أن هذا جائز، ولك أن تتمنى الخير، أو أي أمر.
{ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة، إذ سمعنا صوت السلاح} سعد لابس للسلاح متهيئ لحراسته صلى الله عليه وسلم، وسعد هو ابن أبي وقاص، وله منقبة أنه صالح؛ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: رجل صالح، بل هو أحد العشرة المبشرين بالجنة، وصاحب القادسية، وخال الرسول عليه الصلاة والسلام، الذي فداه بأبيه وأمه يوم أحد.
{من هذا؟ قال: سعد يا رسول الله! جئت لأحرسك، فنام النبي صلى الله عليه وسلم حتى سمعنا غطيطه} والغطيط هو صوت يردده النائم.
قال أبو عبد الله، أي: البخاري.
وقالت عائشة قال بلال، لما هاجر بلال من مكة إلى المدينة، وأصيب بالحمى -والحمى تؤثر في الإنسان حتى في الكلام- فسألته عائشة رضي الله عنها فقالت: يا بلال! كيف تجدك؟
قال بلال رافعاً عقيرته وكان صوته جميلاً ندياً يسري إلى القلوب، ولذلك كان مؤذناً.
فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل تبدون لي شامة وطفيل
قال البخاري: فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فسكت وسكوته إقرار، لأن بلال يقول: ألا ليت شعري، يقول بلال: يا ليتني بين أودية مكة، ولذلك حن الصحابة لـ مكة، فلما سمع صلى الله عليه وسلم هذه الأبيات، قال: اللهم إن إبراهيم دعا لـ مكة بالبركة، اللهم إني أدعو للمدينة في مدها وصاعها بالبركة، اللهم اجعل ضعفي ما جعلته من البركة في مكة في المدينة، اللهم انقل حمى المدينة إلى ذي الجحفة، فانتقلت الحمى هناك.
وهذه الأبيات أرق وألطف ما سمع في الأدب العربي، وليست لـ بلال وإنما هي لشاعر جاهلي، تأخر على بابه وجيرانه وخلانه فبدى على جبل في مكة فقال:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بوادٍ وحولي إذخر وجليل
وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل تبدون لي شامة وطفيل
الإذخر: شجر، والجليل: قيل شجر وقيل ثمر، ولكن كأنه جبل.
وهل أردن يوماً مياه مجنة: مجنة سوق من أسواق العرب في مكة.
وهل تبدون لي شامة -جبل- وطفيل -جبل آخر- وهذا من الحنين إلى الديار، وهذا من أحسن ما ذكرته العرب، قال الأصمعي: أبكت العرب في شعرها العجوز على شبابها.
انتهينا من شاهد البخاري أنه يجوز استخدام "ليت"، فلك أن تقول: ليت فلاناً أتانا هذه الليلة، وليت ابني ذاكر هذه الليلة، وليتنا قرأنا شيئاً من القرآن، هذا جائز، ولم ينازع فيه العلماء كما نازعوا في "لو" التي مرت معنا.(376/22)
الأسئلة
.(376/23)
خروج آدم وحواء من الجنة
السؤال
ما رأيك في مقولة علماء النفس إن السبب في إخراج أبينا وأمنا من الجنة هو دافع التملك؟
الجواب
هكذا فليكن الكذب!! وهذا قول الذين لا يعلمون، وعلماء النفس ليسوا مفتين في الإسلام، ولا يفتون في القضايا الشرعية، بل يفتون في فنهم، ويبقون حتى نحتاج إلى علمهم، ولا نزري بهم، فلهم ملكة خاصة بهم، لكن سمعنا من يقول: إن من يكثر القراءة في كتب علماء النفس يصاب بمرض، وأقصد علماء النفس الكفار، أما علماء النفس المسلمين فلا يدخلون في هذا، فلهم أجر وقدم صدق، ونحسبهم والله عز وجل حسيبهم أن فيهم الأخيار والذين يريدون الخير.
لقد وجد علم النفس عند الناس، فالآن ماذا نفعل؟
يأتي الأوروبيون والأمريكان بتربية، فنقول: نعوذ بكلمات التامات من شر ما خلق، ليس عندنا إلا حديث فقط!
وإذا أتوا بعلم النفس؛ نقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق! لا، بل ديننا فيه تربية، وعلم نفس، وكل ما يتعلق ببني الإنسان، فنخرج لهم علم النفس من القرآن، لكن إذا أتوا يطعنون في القواعد والأصول عندنا نقول: توقفوا بارك الله فيكم، مكانك تحمدي أو تستريحي.
وأما قول الأخ السائل فهذا ليس بصحيح، وهذا خطأ، وإنما أخرج آدم عليه السلام من الجنة بسبب معصيته، كما ذكر سبحانه وتعالى، فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:121] لم يقل: (تملك وحب التملك) وإنما قال: فغوى، كيف يعاندون القرآن؟ ألا يستحون على وجوههم.(376/24)
بعض أخطاء الكُتَّاب
السؤال
كاتب يكتب عن الصحابة رضي الله عنهم، وله كتاب اسمه ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه وخلافته، فيها حقائق لا يقولها مسلم عن الصحابة؟
الجواب
هذا الرجل يؤخذ من كلامه ويرد، وهو يحتاج إلى تعليم في الحديث النبوي، وإلى توجيه إن كان حياً أو إن كان ميتاً، ومثله أخوه وابن عمه وابن خالته عباس محمود العقاد، الذي هو مشهور عندنا كثير، أتى فتكلم بكلام يقول: معاوية كان يلعب بأهل الشام على هواه! حتى صلى بهم الجمعة يوم الأربعاء، سبحان الله! هذه في معاوية في الميزان، ألا يستحي من الله! فـ معاوية أحد الصحابة، ثم يأتي بالرسول عليه الصلاة والسلام أشرف وأعظم من خلق الله، فيأتي يقارن بينه وبين نابليون في العسكرية، وفعل ذلك سعيد حوى -سامحه الله- في كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث قارن بين المصطفى الذي {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم:3 - 4] وبين كلب فرنسي، إذا نظرت إليه وأنت متوضئٌ انتقض الوضوء، فيقول: هذا في الحربية كذا، وهذا صاحب نظرية الاطلاع واكتساح المعركة والمواقع العدائية، وما أدري ماذا فعل، والرسول صلى الله عليه وسلم فعل هذا، أما يستحي من الله! تقارن بين الرسول صلى الله عليه وسلم وهؤلاء!
والعقاد له فلتات، لكنه كاتب في القمة، له كتاب ما يقال عن الإسلام يتكلم فيه عن خصائص الإسلام ويرد على أباطيل خصومه وهو من أحسن كتبه، ولديه حسنات في كتبه مثل كتاب عبقرية عمر، صفات الرجل الممتاز، ومفتاح شخصية عمر، لكنه أتى بأمور لا يوافق عليها، مثل قوله في ترجمة علي: علي صدوق لأنه شجاع، وشجاع لأنه صدوق، ومعاوية أسد هصور وعلي جمل صبور.
أتشبه الصحابة بالحيوانات!
هؤلاء خير جيل أخرج للناس، لا بد من توقيرهم واحترامهم رضي الله عنهم، إذاً فلينتبه لهذا الكاتب.
وأدهاهم وأظلمهم وأغشهم طه حسين الذي يدعونه عميد الأدب العربي! كذبوا على الله، بل الشيخ علي الطنطاوي أحسن منه أسلوباً وأحسن فكرة وأنقى عقيدة، وأحسن إبداعاً، والله ما أعلم أني قرأت لأحد مثل الشيخ علي الطنطاوي من الأدباء والمفكرين العصريين في جودة الأسلوب، وإن شئتم فاقرءوا قصص من التاريخ، ونحن المسلمون، فيجعلون طه حسين عميد الأدب العربي؛ لأنه عميل فرنسا في الأدب، لا والله، المازني خير منه، والرافعي أحسن وأحسن وأجود لكنه أسلوبه يعقد، لكنه أقرب إلى أهل الإسلام بل دافع عن فكرة الإسلام كثيراً، وعباس محمود العقاد أحسن من طه حسين، وأمر المرين طه حسين بل هو أمر من الثلاثة:
وما شر الثلاثة أمَّ عمروٍ بصاحبك الذي لا تصحبينا
توفيق الحكيم، توفيق السفيه الخلق والتكلف والرأي العفن نعوذ بالله، صاحب المسرحيات المزرية بالإسلام، وصاحب السفه بعد أن كبر، فهذا أمره إلى الله: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
خير منه في الساحة سيد قطب والشيخ علي الطنطاوي، وأبو الأعلى المودودي في كتاباتهم وكذلك، أبو الحسن الندوي الزاهد العابد المؤثر، صاحب الثمانين عاماً الذي طاف العالم بأدبه، حتى يقول في مسيرة الحياة: والله لقد ألقيت كلمة في الكويت، لقد رأيت الناس يصرعون ويغمى عليهم ويرشون بالماء.
ولقد صدق فهو من أكثر الناس تأثيراً حتى في قلمه، وممن يقرأ لهم كذلك محمد قطب وسعيد حوى، إلا بعض الكتب لـ سعيد حوى مثل كتاب تربيتنا الروحية، فيعرض عنه ويسجر به في النار، لأنه صوفي من غلاة الصوفية، رحمه الله وتجاوز الله عنه لحسناته الكثيرة.(376/25)
الحجاج في الميزان
السؤال
هل الحجاج أول من وضع النقط على الحروف في القرآن والتشكيل، ما صحة هذا القول؟
الجواب
هذا القول صحيح، الحجاج هو الذي أمر بوضع النقط وهذه من حسناته، ومن حسناته أنه كان يقرأ القرآن كثيراً، وكان المصحف في جبته والسيف معلق، وكان السيف يشتغل وهو يقرأ القرآن، لكن أين تأثير القرآن على الحجاج؟
يقول الحسن البصري: يقرأ الحجاج القرآن على أناس فيهم جذام لا يسمعون، يقرأ على أناس معهم من النبط -ويل للنبط من شر قد هبط- ويبطش بطش الجبارين، ويلبس لباس الوعاظ، ويفعل فعل الفسقة، فأمره إلى الله.
ومن حسناته أنه كان كريماً، كان يبذل المال بذلاً، وكان يدعى إلى مائدته في الإفطار فحيضرها الألوف في الغداء.
ومن حسناته: أنه أقام الجهاد، وتتَّبع الخوارج فلم يترك لهم عيناً ولا أثر، لكنه سفك دماء العلماء، وأهان كثيراً من الصحابة، وقتل كثيراً من الأبرياء، فعلمه عند الله عز وجل.
يقول: نام ليلة فنهض ثم رفع رأسه، قال لحرسه: الله أكبر! فاجتمعوا عنده، قال: أجمعوا لي كل من كان خارجاً من بيته هذه الساعة وأودعوه في السجن، فأتوا يجمعون الناس، فأتوا إلى رجل قد انعزل عن الناس ويقرأ القرآن في المسجد، وحينما كانوا يجمعون الناس قال وهو يقرأ في المصحف: إنه عمل غير صالح -ابن نوح- أو عَمِلَ غير صالح، استدعوا لي القارئ فلان بن فلان من المسجد، فأتوا به فظن الحرس أنه متهم فسجنوه ستة أشهر في هذا الآية، فأتى الحجاج فقال: أخرجوا المتهمين، قال: أنت لماذا سجنت؟
قال: كنت أقضي حاجتي في الصحراء فقبضوا عليّ الحرس، قال: اجلدوه، وأنت لماذا سجنت؟
قال: سجنني ابن نوح عليه السلام، قال: لماذا؟
قال: لأنه عمل عملاً غير صالح، قال: أطلقوه، هذا الحجاج بن يوسف الثقفي.(376/26)
المسيَّب أم المسيِّب
السؤال
ما هو الصحيح سعيد بن المسيَّب أو سعيد بن المسيِّب؟
الجواب
المشهور سعيد بن المسيَّب بالفتح أما المسيب بالكسر فنقلت عنه مقولة لكني لم أقرأها في كتب الحديث والتراجم، يقول: سيب الله من سماني المسيَّب، أي: بصفته أنه ضائع مسيب، وليس بضايع بل محفوظ عند الله، ولكن لم تصح عنه هذه المقالة، وهي خاطئة، وليست بثابتة عنه، والصحيح أنه ينطق سعيد بن المسيَّب، ضبطها البخاري ومسلم وأهل السنن والمسانيد.(376/27)
قراءة سورة الكهف يوم الجمعة
السؤال
ما صحة حديث قراءة سورة الكهف في يوم الجمعة؟
الجواب
هذا الحديث رواه الدارقطني بسند صحيح، وصححه الأرنؤوط في زاد المعاد وغيره من العلماء، فهو صحيح، فاقرأها ولا عليك، ينير الله لك عشرة أيام بلياليهن.
وفي الختام: أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، والحمد لله رب العالمين.(376/28)
من هم الأصوليون؟
إن الأنبياء عليهم السلام أرسلهم الله عز وجل إلى أقوامهم ليدعوهم إلى عبادة الله سبحانه، فمنهم من آمن، ومنهم من كذب وآذى رسل الله بكثير من الاتهامات الباطلة، والادعاءات الزائفة، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن العلماء والدعاة سيبتلون كما ابتلي الرسل، وهاهم في عصر الابتلاء يتهمون بالرجعية والأصولية وغير ذلك من أنواع الادعاءات والإشاعات.
وفي هذه المادة عرض لمنهج أهل السنة والجماعة في التعامل مع الإشاعات بالإضافة إلى ذكر خصائص أهل السنة والجماعة.(377/1)
منهج أهل السنة في التعامل مع الشائعات
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد الصادق الأمين.
أما بعد:
أيها الناس! فمن صفات أهل السنة أنهم يتثبتون من الشائعات، على حد قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] فإذا تبين الخطأ وعرف مَن هو صاحبه، ومَن وراءه، فهو على أحد قسمين:
الأول: إما رجل استتر بخطئه؛ فمنهج أهل السنة أن يردُّوا عليه بخُفية، ولا يشهِّرون به، ولا يفضحونه على رءوس الأشهاد.
الثاني: وإن أشهر خطأه، وأعلن تمرده، كان عليهم لزاماً أن يظهروا ردهم وأن يشهِّروا على الناس جوابهم، وكان لزاماً على أهل السنة ألا يكتموا الردود، ولا يكتموا الدفاع عن منهج الله؛ لقوله تبارك وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] ويقول سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران:187] كان لزاماً على علماء الإسلام ودعاته أن يبينوا ولا يخشون في الله لومة لائم، ويقولوا كلمة الحق فصيحة هادئة ناصعة.
المسألة الثانية: دعاة الصحوة وعلماؤها منضبطون وحكماء، ضبطوا أعصابهم حين لم يستطع الدَّعِيُّ أن يضبط أعصابه، وتحكموا في عقولهم حين لم يستطع العميل أن يتحكم في عقله، وثبتوا في أماكنهم حين لم يستطع المتلبس بالنفاق أن يتحكم في موقعه.(377/2)
واقع الحرب المعلنة ضد الملتزمين
المسألة الثالثة: لقد أظهر البغاة من العلمانيين اليوم حربهم سافرة على أولياء الله، وشهَروا سيوفهم وردُودهم، وردَّدوا سخرياتهم في الصحف والمجلات وفي وسائل الإعلام، وليس لنا وسيلة إلا منبر محمد عليه الصلاة والسلام، نقف أمام الرأي العام لنحاكمهم تحت مظلة قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
ولا زال أحد كتابهم المرموقين وشعرائهم اللامعين الذي اكتسب سطوعاً ولموعاً، وما كان له أن يسطع ويلمع؛ لأن من لم يتجه إلى الله فلا سطوع له، ومن لم يحكِّم (لا إله إلا الله) فلا لموع له؛ لكن أبى إلا أن يسطع ويلمع، وليته سطع ولمع على حساب دنياه، وشهرته، ولكن ما كفاه ذلك حتى أخذ الملتزمين والصالحين جسوراً إلى أهدافه، وأخذهم عوابر إلى مخططاته، هذا الكاتب طالعنا في جريدة الشرق الأوسط يوم الجمعة العدد (4371) وهو يتحدث عن التغيرات التي يطمح إليها، تغيرات كيان الدين الإسلامي، وتغيرات المبادئ الخالدة، وتغيرات المنهج الرباني الذي شرفنا الله به؛ ولكنه بذكاء عجيب يأخذ إشارات وعمومات من الإسلام لينفث سُمَّه وحقده وحسده وضغينته، يقول في هذا العدد -وهو يطالب بتغيير في بُنية المجتمع، ومسيرته والتزامه-: ولم يكن من الطبيعي ولا من المعقول أن تتم هذه التحولات الحضارية الهائلة دون أن تتبعها تغييرات مادية وفكرية واجتماعية.
أنحن أغبياء إلى هذه الدرجة؟!
ألا نعرف اللغة العربية؟! ولا نعرف مقاصد الكلام، وماذا يريد أن يقول؟!
يريد هدم الإسلام لَبِنَة لَبِنَة، وتدمير صرح الفضيلة، وهذا الكاتب والشاعر المشهور قرأتُ في مجلة الدعوة قبل ثمان سنوات مقابلة له قدمت في أمريكا، ظن أنها لن تصل إلينا؛ لكن الله أوصلها إلينا، فقد سئل عن حالنا -وهو من أبناء الجزيرة -: كيف حالكم في الجزيرة؟
قال: ما رأينا النور منذ ثلاثة آلاف سنة إلى الآن! ونقول: أما أنت صدقت فلم ترَ النور إلى الآن، ولكن نحن والله رأينا النور، وعشناه وأبصرناه ومشينا فيه، وشربنا منه {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [النور:35].
أما نحن -أيها الكاتب- فقد أتى محمد عليه الصلاة والسلام وأخرجنا من الظلمات إلى النور {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257]
أين ما يدعى ظلاماً يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد سرينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحدوه خطاه
{أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].
عرضت مقولته على سماحة الشيخ: عبد العزيز بن باز فقال: إن اعتقد ما يقول فقد ارتد عن الإسلام، وعليه أن يجدد إسلامه ويدخل في الدين من جديد.
يقول في ذلك العدد: والحوار الذي يدور حول القضايا المفتوحة يجب أن يتم في جو هادئ بعيداً عن التشنج -اسمع الحكمة، واسمع العلم والمنطق- بعيداً عن التشنج والانفعال، بعيداً عن استعداء السلطة على الرأي الآخر، وبعيداً عن الاتهامات التي تلقى في أماكن الصلاة وبلا مبالاة.
ما هو الحوار المقصود؟ حوارٌ بأن يجعل الشريعة مستعدة لأن نتفاوض عليها، وأن يؤخذ منها ما يُراد، ويترك منها ما يُراد: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة:85] ثم يكون هو حكيماً ويكون هو أستاذاً ومنظراً وعالماً، ومن أين له العلم؟! وعجبتُ له كل العجب! ورأيتُ له مقالة سيئة وقد كتبت رداً عليها، ولكن لم ينشر.
وأتاني والله عشرات من الشباب مجروحةً مشاعرهم، باكيةً عيونهم، متأثرةً أرواحهم؛ لأنه يلدغهم من حيث لا يشعرون، ثم يأتي بخنجره ويجزرهم علانية أمام العالم بحجة الحكمة والحوار والهدوء.
ولو كان خصمي ظاهراً لاتقيته ولكنه يا قوم يبري ويلسعُ
هو لم يشهِّر، ولكنه لدغ ولسع، يأتيك يمدح العقيدة ثم يبث السم، يأتيك بالرسالة في الإسلام ثم يكبت الإسلام، يأتيك بالاستفاضة في المناهج الربانية ثم يدوس المناهج الربانية.
أيها الكاتب! أيها الأديب! أسألك بـ {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:7 - 8] أن تحكم عقلك إن كان لا دين لك، من الذين يسحتقون هذه الردود وسط العاصفة! هو يكتب في عين العاصفة، وهو الذي يثير علينا العاصفة، أعدوٌّ من الخارج وعدوٌّ من الداخل؟! أيلدغنا في وقت حرِج مقابل الدبابات المعتدية الغاشمة الجاثية على حدودنا، ونقابل جيوشاً جرارة تريد مقدساتنا، فيتركنا في الوقت الحرج، فيغير علينا؟!
وأسالك -يا أيها الكاتب- بالذي جعل لك عينين، ولساناً وشفتين، وهداك النجدين، أن تقف وتفكر؛ من الذين أسسوا العدل في العالم؟! من الذين خاطبوا العدل في النور، وأوصلوا الفتوح إلى الدور، وعمروا القصور بعدل في القصور؟! من الذين طهروا الشعوب؟! من الذين قضوا على الفجور والخمور والعُهر، إلا أبناء (لا إله إلا الله).(377/3)