موت معاوية بن معاوية الليثي
ومعجزة له صلى الله عليه وسلم في حديث معاوية بن معاوية الليثي، وضعف هذا الحديث بعض أهل العلم، وقواه ابن حجر في الإصابة في ترجمة معاوية بن معاوية الليثي، ومفاد القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بالجيش إلى تبوك وخلف معاوية بن معاوية الليثي في المدينة لأنه مريض، فلما أصبح صلى الله عليه وسلم في تبوك أتاه الخبر أن معاوية بن معاوية الليثي قد توفي فقام صلى الله عليه وسلم فصف الناس وصلى بالجيش من تبوك على معاوية وهو في المدينة ثم سلم صلى الله عليه وسلم ثم قال: {لقد صلى على معاوية بن معاوية الليثي سبعون ألف ملك، فقالوا: يا رسول الله! لماذا؟ قال: كان يقرأ قل هو الله أحد قاعداً وقائماً وعلى جنبه} قوى ابن حجر هذا الحديث واستحسنه وعضده بطرق له، وضعفه على انفراد بعض أهل العلم وذكره ابن الجوزي في صفة الصفوة فبتر الحديث، وأصل الحديث عند أبي نعيم في الحلية ولكن حديثه في الحلية لا يستقيم والعهدة على ابن حجر ومن أحيل على ملء فليحتل.(331/15)
بعض كرامات عمر بن الخطاب
وأما غير الرسول صلى الله عليه وسلم في مثل هذه الأخبار فهي من باب الكرامة، إذا أخبر أحد الصحابة أنه رأى خبراً وكان هذا الخبر صحيحاً فهي كرامة، ففي تاريخ داريا للمؤرخ الداري بسند جيد قال: كان عمر رضي الله عنه يصلي بالناس يوم الجمعة على المنبر، فلما كان في أثناء الخطبة، قطع الخطبة مباشرة وقال: يا ساريةُ! الجبلَ، يا ساريةُ! الجبلَ، يا ساريةُ! الجبلَ، فلما نزل سأله الناس: مالك يا أمير المؤمنين؟ قال: جلَّى لي الله الأرض فرأيت سارية وقد أحيط به، فقلت: اعتصم بعد الله بالجبل، فالتجأ إلى الجبل فنجاهم الله هو وأصحابه، ولما قدم سارية سألوه فقال: كدنا نهلك وأحيط بنا حتى سمعت صوت عمر يوم الجمعة يقول: يا ساريةُ! الجبلَ، فعمدت إلى الجبل فنجانا الله، وهذه الكرامة أوردها صاحب تاريخ داريا بسند جيد.
هذا علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم.(331/16)
الصلاة على النجاشي
من هو النجاشي؟
النجاشي هو ملك الحبشة، وكل من ملك الحبشة لقبه النجاشي، وكل من ملك اليمن لقبه: قَيْل، وجمعه أَقْيال أو قِيل بالكسر، ومن ملك الروم لقبه: قيصر، ومن ملك بلاد فارس لقبه: كسرى، إلى آخر تلك الأسماء للملوك الذين يملكون تلك البلاد، اسم هذا النجاشي أصحمة.
وإنما صلى النبي صلى الله عليه وسلم على النجاشي لثلاثة أسباب:
السبب الأول: لأنه لم يصل عليه في الحبشة، فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الغائب.
السبب الثاني: قيل فيه تأليف لقلوب ملوك العرب؛ لأنه ما دام صلى الله عليه وسلم يصلي على أولئك؛ فمن باب أولى أن يصلي أو يترحم على هؤلاء.
السبب الثالث: لموقفه الكريم الشريف الماجد من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم لما هاجروا إلى الحبشة، فكان حقاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي عليه صلاة الغائب، وتجتمع هذه الأسباب أو تفترق إنما المقصود: أنه صلى عليه صلى الله عليه وسلم.
وعند البزار بسند فيه ضعف تقويه رواية الدارقطني في كتاب الأفراد: أن رجلاً قال: انظروا ينعى إلينا علجاً من علوج الحبشة أي: يخبرنا بموت علج وهي صفة فيها رذالة وتحقير، والعلج مفرد علوج، وقد تجمع جمع قلة على أعلاج كأسياف، فقام عليه الصلاة والسلام فصلى عليه، فأنزل الله عز وجل: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء:159] رواية البزار ضعيفة كما قلت لكم، لكن قد تكفي بعض هذه الأسباب الثلاثة في أن يصلي الرسول عليه الصلاة والسلام، وإنما المقصود: أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى عليه.(331/17)
حكم الصلاة على الميت في المسجد
العنصر الرابع: ما حكم الصلاة على الميت في المسجد؟ وما مناسبة إيراد هذه المسألة في هذا الباب وفي هذا الحديث الذي أتى به البخاري؟ وهل في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر المسجد من غيره أو قال: اخرجوا بنا من المسجد إلى الصحراء؟
نقول: وردت لأن في الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {اخرجوا بنا أو هيا بنا نصلي على هذا} فعلم أن الخروج من المدينة، ومن روايات أخرى عند غير البخاري أنه كان في الصحراء، فقام عليه الصلاة والسلام في الصحراء فصلى بهم، والمسألة: هل يجوز أن نصلي على الميت في المسجد؟ لأهل العلم أقوال:(331/18)
قول الحنفية والمالكية في الصلاة على الغائب
ذهبت الحنفية والمالكية إلى أنه لا يصلى عليه في المسجد، وأن الصلاة في المسجد إنما هي صلاة الأحياء، وأن الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه يصلي في الصحراء ليقترب من المقبرة، وليكثر الجمع، وليتعظ في الصحراء بالميت، ولئلا يدخل بالميت المسجد، ربما لا يعلم حال الميت فلا يكون المسجد ذريعة لدخول أموات كثيرين ربما كانوا غير مسلمين، أو ربما غير مستقيمين -من الفسقة- وغيرهم إلى غير تلك الأسباب.(331/19)
أرجحية مذهب الإمام أحمد والشافعي وجمهور العلماء في حكم صلاة الغائب
وذهب الإمام أحمد والشافعي وجمهور السلف، وقال ابن حزم في المحلى: لا أعلم مخالفاً من الصحابة، إلى أنه يصلى عليه في المسجد، والجبانة والصحراء أفضل، ودليلهم: ما روي عند أبي داود وعند بعض أهل السنن: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على سهيل وسهل ابني بيضاء في المسجد} قال القرطبي: لا تلبسوا علينا ما دام أن الحديث ورد؛ فبطلت الآراء المضادة للحديث، وصدق، فإنه إذا أتى الحديث فحسبك به، فما دام أن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على هذين الرجلين في المسجد؛ فهو دليل على جواز الصلاة المسجد، في وهو مذهب الشافعي وأحمد وجمهور السلف وهو الصحيح في هذه المسألة.(331/20)
وقفة مع سعد بن أبي وقاص
ثم ورد من حديث عائشة أنها قالت -لما توفي سعد رضي الله عنه وأرضاه-: [[مروا به علينا لندعو له]].
p=1000193>> سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أحد المبشرين بالجنة، وأحد أهل بيعة الرضوان ومن أهل بدر ومن الذين توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض، توفي كما يقول أبو يعلى في مسنده في بادية قلهى، فلما توفي هناك حمل إلى الصحراء فصلي عليه، فقالت عائشة: مروا بـ سعد علينا لندعو له، يعني: على حجر نساء الرسول صلى الله عليه وسلم.
وعند الذهبي في سير أعلام النبلاء: أنه لما توفي سعد قالت له ابنته وأظنها عائشة: يا أبتاه! أتموت في الصحراء بعد أن صاحبت الرسول صلى الله عليه وسلم فأحسنت صحبته؟ قال: اسكتي لا تبكي علي، فوالله إني من أهل الجنة، قال الذهبي رحمه الله: صدق فهنيئاً له ومريئاً إنه من أهل الجنة.
وقد اعتزل الفتنة -من باب الاستطراد للفائدة- وخرج لما اختلف علي ومعاوية -رضي الله عن الجميع- إلى الصحراء, فجاءه ابنه عمر وقال: يا أبتاه! أتتبع الضأن في هذه الرءوس وتترك الأمة تختلف في الملك، قال: اغرب عني فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي} والحديث في صحيح مسلم بهذا اللفظ بدون قصة: {إن الله يحب العبد الغني الخفي التقي} من حديث سعد.
فمروا بـ سعد رضي الله عنه فقال بعض الصحابة: لا تصلوا عليه في المسجد، فقالت عائشة: {ما أسرع ما نسي الناس! والله، لقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على سهل وسهيل ابني بيضاء في المسجد} وصدقت رضي الله عنها وأرضاها، فالصلاة في المسجد جائزة، والأولى أن يصلى عليه في الصحراء؛ لأنه النبي صلى الله عليه وسلم داوم في الصلاة على الناس في الصحراء وخرج بهم إلا في بعض المواطن التي تقتضي الجواز، والسنة إذا وردت مطلقة ثم ورد ما يخالفها من أمر فإنما يحمل على الجواز إذا فعله صلى الله عليه وسلم على مذهب من يخصص القول الصريح بالفعل الخاص به صلى الله عليه وسلم، وهنا أحيل طلبة العلم إلى كتاب اسمه: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام لأستاذ جليل في جامعة أم القرى وهو مطبوع وموجود بالأسواق.(331/21)
الترجيح في حكم الصلاة على الغائب
العنصر الخامس: هل يصلى على الغائب؟
لأهل العلم فيه سبعة مذاهب أوردها، ثم أذكر الراجح منها، إن شاء الله.
الول: الجواز مطلقاً: وهو قول الشافعي وأحمد.
الثاني: المنع مطلقاً وهو قول المالكية والحنفية.
والثالث: ابن عبد البر قال: يجوز أن يصلى على الغائب في اليوم الذي يموت فيه.
والرابع: قال ابن حبان: إن كان في جهة القبلة صلي عليه وإن لم يكن فلا يصلى عليه، لأن النجاشي في جهة قبلته صلى الله عليه وسلم وهذا كما قال ابن حجر جمود.
والخامس: لا يصلى عليه إلا إذا مات في أرض لا يصلى عليه فيها، وهذا رأي أبي داود صاحب السنن، والروياني من الشافعية، والخطابي منهم أيضاً، وسوف يأتي توجيه كلامهم.
والسادس: خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يقولون: لأن الله جلَّى له الأرض فرأى النجاشي، أما غيره فمن يجلي له المكان حتى يرى الميت؟
واعتمدوا على حديث لـ ابن عباس عند الواقدي بسند ضعيف لا يصح: {إن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى جلى لرسوله صلى الله عليه وسلم عن النجاشي حتى رآه} وعند ابن حبان عن جابر: {لقد صلى صلى الله عليه وسلم على النجاشي وإنه ليراه} وعند أبي عوانة: {صلى صلى الله عليه وسلم وقد جلى له الله جنازة النجاشي} أو كما قال، فقال هؤلاء: هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
والسابع: خاص بـ النجاشي -أي أن صلاته صلى الله عليه وسلم على النجاشي ليس فيها عموم- لأن الفعل لا يعم إذا لم يقارنه القول، وهو مذهب لبعض الأصوليين كما قاله الشوكاني في إرشاد الفحول: الفعل لا يعم ما لم يقترن بالقول، فأي الأقوال أرجح وما دليل كل قول؟(331/22)
مذهب الإمام أحمد والشافعي في الصلاة على الغائب
أما قول الإمام أحمد والشافعي: أنها مشروعة، فاستدلوا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم صلى على النجاشي وصلى على معاوية بن معاوية الليثي، وقال عليه الصلاة والسلام: {قوموا نصلي على هذا} فاقترن قوله بفعله صلى الله عليه وسلم ولم يرد مانع فيبقى العموم، وقاعدة حمل العموم على وجهه أقرب من تخصيصه ببعض المخصصات الفعلية، وهذا هو المذهب الصحيح، بل من فقه وفهم المحدثين أن يحملوا العموم دائماً على أصله، وهذا قول وسوف يأتي كلام عنه.(331/23)
مذهب الحنفية والمالكية في الصلاة على الغائب
وأما الحنفية والمالكية قالوا: لا يشرع ذلك، ولكن هذا فيه ضعف، واستدلوا على ذلك بأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: صلوا على الغائب، وإنما فعل هذا في ظرف من الظروف أو في حالة من الحالات فلا تعم، وإلا لبين للناس بياناً عاماً على كثرة من يموت من الصحابة، وكثرة ما فعل الصحابة وصلوا فلم يصلوا على الغائب، فإن هذا خاص، وربما يشارك المذهب السابع، لكنهم قالوا: لا يشرع مطلقاً وسكتوا عن قضية النجاشي.(331/24)
قول ابن عبد البر في الصلاة على الغائب
وأما ابن عبد البر فقال: في اليوم الذي يموت فيه، ولكن يرد عليه بأن العلة مجهولة، فنقول له: ما علة تخصيصه باليوم الذي يموت فيه؟
أو ما هي العلة لنجعل هذا يوماً خاصاً بالصلاة فيه، فإذا تجاوزت الأيام أو زادت لا نصلي عليه؟
فالعلة مجهولة، ولابد من استحضار العلل إن كانت عند الاحتجاج معقولة فتقبل.(331/25)
قول ابن حبان في الصلاة على الغائب
وأما ابن حبان فقال: لمن كان في جهة القبلة، قلنا: وليس عليه دليل وهذا كما قال ابن حجر جمود، ولا تكفي الواقعة التي وقعت ما لم يقرنها بعلة معقولة، أو بدليل صريح وإلا فالعبرة بالعموم.(331/26)
مذهب أبي داود والروياني وغيرهما في الصلاة على الغائب
وأما من قال: لا يصلى عليه إلا إذا مات في أرض لا يصلى عليه فيها فهذا له وجه من النظر، وقرائن الحال والسياقات تؤيد ما ذهبوا إليه، وهذا مذهب الروياني والخطابي وأبي داود فكأن هذا مذهب طيب، لكن نقول: هل نقل لكم أن الحبشة ليس فيها مسلمون ولم يصلوا على النجاشي أم لا؟
وأما من قال: خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم فليس بظاهر؛ لأن الأحاديث ضعيفة وليست بقائمة، ولأنه لا يؤخذ من دلالتها الخصوصية له صلى الله عليه وسلم ولو جلي له عن النجاشي.(331/27)
مذهب بعض الأصوليين في الصلاة على الغائب
وأما من قال: خاص بـ النجاشي، فيرد عليهم بما رد على ابن حبان وذلك بأنه جمود، والصحيح أن يقال: الصلاة على الغائب المسلم مشروعة وتتأكد إذا لم يصل عليه في المكان الذي توفي فيه، وتتأكد إذا كان له خطب وله بلاء حسن في الإسلام، كأن يكون مجاهداً، أو مدافعاً أو مسئولاً له مكانة في الدين وفي نصرته، أو عالماً من العلماء، أو داعيةً من الدعاة أو شيخاً جليلاً، فيتأكد هذا، فهي مشروعة في الأصل وتتأكد بهذه الأمور إذا لم يصل عليه في بلاده، وإذا كان له بلاء حسن وكان له مقام، ولا نريد أن نتوقف عند هذه المسألة لأنها وردت عرضاً وسوف تتكرر معنا عند الصلاة على الميت الغائب.(331/28)
الصلاة على الغائب فرض كفاية
وهنا مسألة: هل من صلى على الغائب يسقط فرض الكفاية؟
ذهب بعض أهل العلم إلى أنه يسقط فرض الكفاية، وذهب الآخرون إلى أنه لا يسقط، والصحيح أنه يسقط فرض الكفاية؛ لأن المصلين ولو كانوا غائبين فهم مسلمون، ويقوم بعضهم بهذا العمل الشرعي فيسقط عن البعض الآخر، ولأن الصلاة فرض كفاية إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين ولم يلزم الرسول صلى الله عليه وسلم بقية الصحابة الذين يتخلفون عن الجنائز أن يصلوا على الميت إذا لم يحضروا الصلاة عليه، فعلم أنها فرض كفاية تسقط بمن صلى عليه.(331/29)
مسائل النعي
العنصر السادس: ماذا يؤخذ من قوله: {نعى النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه النجاشي ثم تقدم فصفوا خلفه فكبر أربعاً} النعي إذا أطلق في الشريعة فهو على قسمين: بمعنى: الإخبار وبمعنى: التضجر.
فأما إن كان معنى نعى: أخبر، وهذه اللغة تحتمل هذا وهذا، يقال: نعى فلان فلاناً -أي: أخبره وقد تعدى إلى فعلين- ويقال: نعى فلان على فلان -أي: بكى عليه وتضجر من موته- فأما بمعنى: الإخبار فينقسم إلى قسمين: ممدوح ومذموم.(331/30)
الإخبار الممدوح
النعي الممدوح في الإسلام: هو الذي يخبر بموت صالح أو مسلم لقصد الصلاة عليه، والدعاء له، وحضور جنازته، ودفنه والاتعاظ بموته، هذا هو النعي الممدوح في الإسلام، وهو الذي عهد عنده صلى الله عليه وسلم ومن أفعال الصحابة، فكان ينعى -أي: يدعو الصحابة ليصلوا عليه- فهذا هو الممدوح.(331/31)
النعي المذموم والنهي عنه
والنعي المذموم: هو ما كان لتشهير الميت، ولتزكيته، ولرفع صيته، ولتأبينه، ولإشغال الناس به، كما يحدث في بعض الصحف وبعض وكالات الأنباء، إذا مات رجل ولو كان كافراً عدواً لله، أشغلوا الناس بموته وأخبروا وأبرقوا وأعلنوا فهذا مذموم؛ لأن فيه إشهاراً لهذا الرجل؛ ولأن فيه فعلاً من أفعال الجاهلية، فأما فعل أهل الإسلام فإنه من الباب الأول، وكانوا في الجاهلية إذا مات الميت يخبرون بهذا من باب النعي، فيذكرون الناس بموت الرجل وعلى المنائر ويعلنون في الأسواق لرفع صيته ولذلك يقول الأول:
ألا أصبح الناعي بخير بني أسد بـ عمرو بن مسعود وبـ السيد الصمد
يقول: أخبرنا هذا الناعي بموت هذين السيدين الجليلين المذكورين وهما جاهليان، والصمد من تصمد إليه الناس- أي: تتجه إليه، وهذه من المعاني في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص:1 - 2] فإن من المعاني عند أهل التفسير -كما قال الرازي - أنه هو الذي تصمد إليه الكائنات سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في حاجاتها وقيل: هو معنى آخر أي: أصم لا جوف له، والصمد هنا: أنه سيد معروف يقصده الناس.
وفي تاريخ ابن عساكر أن جحدر بن عدي لما حكم عليه الحجاج بالقتل، استدعاه من اليمامة، وجحدر بن عدي هذا كان فتاكاً، ينصب الكمائن للقوافل، كلما مرت قافلة في نجد من اليمامة سلبها وأخذها، فأرسل الحجاج كذلك عصابة من جنوده فاستولوا على جحدر وربطوه وأركبوه جملاً واتجهوا به إلى الحجاج ليعدمه، فلما مر جحدر بن عدي في طريقه وإذا بحمامتين على نخلتين تتجاوبان قال:
وإني شاقني فازددت شوقاً بكاء حمامتين تجاوبان
تجاوبتا بصوت أعجمي على غصنين من غرب دان
فكان البان أن بانت سليمى وفي الغرب اغتراب غير داني
إذا جاوزتما صخرات نجد ونخلاً باليمامة فانعياني
فقولا جحدرٌ أمسى عتيقاً يحاذر ضرب مسلول يماني
أي فأخبرا الناس بموتي وشهرا بموتي لأنني كنت سيداً من سادات العرب.
وقال طرفة بن العبد لابنته لما حضرته الوفاة:
إذا مت فانعيني بما أنا أهله وشقي علي الجيب يابنة معبد
هذا النعي المذموم للشهرة.(331/32)
النعي بمعنى البكاء والنياحة
وأما النعي بمعنى النياحة ودعاء الويل والثبور والتأسف فهو على قسمين:
القسم الأول: بكاء، وهذا لا شيء فيه، بل هو من الرحمة والرقة، وأدخله بعض أهل العلم في السنة، وأما بكاء فيه تضجر وتسخط ومخالفة لأمر الشارع فهذا هو المذمة.
أما البكاء من الرحمة فقد بكى عليه الصلاة والسلام في أكثر من واقعة، ففي الصحيح: {أنه صلى الله عليه وسلم ذهب ليزور سعد بن عبادة فأتى فإذا هو مغمى عليه فقال: أمات أخي؟! وبكى صلى الله عليه وسلم}.
وكذلك في الصحيح عن أنس: {أن بنت الرسول صلى الله عليه وسلم زينب دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحضر ابنها وقد حضرته الوفاة، فأرسل إليها وقال: مروها فلتصبر ولتحتسب، فإن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بأجل مسمى، فذهبت فأرسلت إليه أو عزمت عليه ليأتين، وكان صلى الله عليه وسلم كما في كتاب الحج -رجلاً سهلاً- فأجابها خاصة أنها ابنته وفلذة كبده رضي الله عنها، وصلى الله عليه وسلم، فقام وقام معه الصحابة فسلمت له ابنها فأخذت نفسه تقعقع كما تقعقع الشنة بيده صلى الله عليه وسلم فأخذ يبكي وقال له ابن عوف: ما لك يا رسول الله قال: هذه رحمة يجعلها الله في قلب من يشاء من عباده}.
وفي الصحيح أيضاً من حديث أنس لما توفي ابنه إبراهيم قال: {تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} فهذا البكاء عند بعض أهل العلم جائز وهو من رقة القلب، ومن الرحمة، ومن تذكر الوفاة، وبكى عليه الصلاة والسلام في أكثر من حديث، إنما هذا شاهد على جواز البكاء بل هو مطلوب.(331/33)
أصناف الناس في البكاء
والناس ثلاثة أقسام في هذه المسألة: طرفان ووسط.
الطرف الأول: من يبكي فيدعو بالويل والثبور ويولول ويصيح ويتسخط؛ فهذا مذموم ومأزور غير مأجور ولا مشكور، والطرف الذي يقابله: طرف لا يبكي، فتجف عينه ويقسو قلبه فهذا مذموم أيضاً، والطرف الثالث المتوسط: هو الذي يبكي البكاء الوارد، فيحزن قلبه، وتدمع عينه، ولا يقول إلا ما يرضي الله عز وجل، فإن الله لا يعذب بدمع العين ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا اللسان كما قال عليه الصلاة والسلام.
قال ابن تيمية لما تعرض للكلام عن أن الفضيل بن عياض ضحك على القبر لما دفن ابنه علي، فتكلم ابن تيمية في هذه المسألة وقال: هل مقامه هو المقام المطلوب؟ أو حاله هي الحالة المطلوبة؟ يعني: أن الإنسان يضحك إذا مات ابنه أو لا؟
قال بكلام ما معناه: ورد على الفضيل واردان، وارد الخوف والبكاء والرقة لموت ابنه، ووارد الرضا والتسليم لله عز وجل، فلم يحتمل قلبه إلا وارداً واحداً، ففضل وارد الرضا فتبسم وضحك على قبر ابنه، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فكان قلبه أكبر وصدره أوسع، وهو أعلم بربه، فاحتمل الواردين الاثنين: وارد الرقة والبكاء ووارد الرضا فجمعهما في قوله: {تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول إلا ما يرضي ربنا -هذا الرضا- وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون} فجمع البكاء وجمع الرضا عليه الصلاة والسلام ومقامه أشرف.(331/34)
البكاء المذموم
وأما القسم الثاني من أقسام البكاء: قسم النياحة والتضجر والسخط، وهذا هو المذموم وصاحبه مأزور غير مأجور ولا مشكور، وفي حديث أنس في البخاري: {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على قبر وعليه امرأة تبكي فقال لها صلى الله عليه وسلم: اتقي الله واصبري، قالت: إليك عني فإنك لم تصب كمصيبتي، ولم تعرفه صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب صلى الله عليه وسلم قالوا لها: إن هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلحقته -فلم تجد عنده بوابين- فقالت: يا رسول الله! إني لم أعرفك -كالمعتذرة- فقال صلى الله عليه وسلم: إنما الصبر عند الصدمة الأولى} يعني: ليس هذا وقت الصبر، ولو صبرتي عند الصدمة الأولى كان أأجر وأفضل، فما أقرها الرسول صلى الله عليه وسلم عند بكائها لما بكت.(331/35)
معنى عذاب الميت ببكاء أهله
في الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أنه لما حضرته الوفاة قال لأهله: {إني أحذركم أن تنوح علي نائحة، فإني أبرأ مما برئ منه صلى الله عليه وسلم، قالوا: وما الذي برئ منه صلى الله عليه وسلم؟ قال: برئ من النائحة والصالقة والحالقة والشاقة} وفي حديث: {النائحة إذا لم تتب توقف يوم القيامة وعليها درع من قطران وسربال من جرب} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، وفي حديث ابن عمر: {الميت يعذب ببكاء أهله عليه} وسوف تأتي مسألة: هل الميت يعذب ببكاء أهله إذا بكوا عليه، وما هو هذا العذاب، وما هي أقوال أهل العلم والراجح؟
أما مسألة هل الميت يعذب ببكاء أهل عليه؟ فقد ورد من حديث عمر وابن عمر والمغيرة بن شعبة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم بألفاظ متقاربة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه} وهذا الحديث أصل في المسألة، وقابل أهل العلم هذا النص وغيره من النصوص بأقوال، كلهم يريد الخير والحق والصواب لكن بعضهم مصيب له أجران، وبعضهم مخطئ له أجر واحد، فهي ستة أقوال.
القول الأول: قول من قال: الباء هنا حالية فمعنى، ببكاء أهله عليه أي: في حالة بكائهم عليه، أي: يعذب الوقت الذي يبكون عليه، نسأل الله العافية والسلامة، وأن يثبتنا الله يوم يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة والدنيا والآخرة، ففهم أنه ما أن يوضع في القبر ويبتدئ بكاء أهله عليه إلا ويعذب، فالباء هنا حالية، أي: حالة كونهم يبكون فهو يعذب، وهو رأي متأخر.
والقول الثاني: أن هذا خاص بالكافر، أن الكافر هو الذي يعذب ببكاء أهله عليه، وأما المؤمن فلا يدخل في ذلك، وهذا رأي لـ عائشة رضي الله عنها، ولها كلام آخر يخالف هذا الكلام في عمومه، تقول: [[والله ما كذب ابن عمر، ولا كذب أبوه ولكنهم أخطئوا]] لأنهم يقولون بهذا الحديث: {إن الرسول صلى الله عليه وسلم مر بقبر من قبور اليهود فإذا به يعذب فقال: إنه يعذب ببكاء أهله عليه -وفي لفظ- مر على يهودية يبكي عليها أهلها فقال: إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في قبرها}.
فعلى هذا الرأي يكون العذاب خاصاً بالكفار ولا يدخل فيه المسلمون.
القول الثالث: يعذب الميت مطلقاً سواء كان مسلماً أو كافراً إذا بكى عليه أهله، وهو رأي لـ أبي هريرة كما في مسند أبي يعلى بسند مقبول قال: يقول أبو هريرة: [[والذي نفسي بيده، إن الشهيد ليخرج في سبيل الله أهريق دمه، وقتل جواده، فتبكي عليه سفيهة فيعذبه الله ببكاء هذه السفيهة]] هذا رأي لـ أبي هريرة.
القول الرابع: يعذب إذا أمر بذلك وأقره ولا يعذب إذا نهى، وسوف يأتي الترجيح.
القول الخامس: العذاب توبيخ من الملائكة لحديث أبي رافع عند أحمد: أن رجلاً أغمي عليه فأخذت أخته تصيح تقول: وا عضداه! وا ناصراه! وا حبيباه! وا سنداه! وا كاسياه! وا مطعماه! فلما استفاق قال: والله ما قلت كلمة إلا قال لي الملك: أأنت تطعمها؟ أأنت تسقيها؟ أأنت تتكفل برزقها؟ يوبخه الملك فمعنى العذاب هنا: التوبيخ.
القول السادس: يتألم الميت لبكائهم، فهو لا يعذب وإنما يتألم ويصيبه مرارة وألم ولا يرتاح في قبره لأنهم يبكون عليه، وهذا رأي الطبري والقاضي عياض وشيخ الإسلام ابن تيمية، وابن تيمية صرح بهذا وقال: إنما ألم لا عذاب.
والراجح هو الرأي الرابع: وهو الذي دلت عليه النصوص ورجحه كثير من المحدثين، وعليه سياقات الأحاديث والاعتبارات والشواهد التي تسانده في صحيح البخاري وصحيح مسلم وهو الذي يقول: يعذب بالميت إذا أمر بذلك أو أقر ولم ينه، وأما إذا نهى ولم يقر فلا يعذب إن شاء الله، ولذلك كان الصحابة إذا حضرتهم الوفاة ينهون أهلهم وأصدقاءهم أن يبكوا عليهم، ويمنعونهم من ذلك لئلا يعذبوا ببكاء هذا الحي، هذا هو الرأي الراجح في هذه المسألة وهو ما إذا أقر ورضي ولم ينه وهو يعلم أنهم سوف يعملون ذلك، وأما إذا نهى ولم يرض بذلك ولم يقره فإنه لا يعذب ولو بكي عليه أو نعي بعده، هذا هو خلاصة ما أتى في هذه المسألة.
وأما كلام ابن تيمية أنه يتألم، فإن نصوص الأحاديث تدل على أنه يعذب فأي قرينة تصرف اللفظ الظاهر الصريح، واللغة تؤيد أن العذاب عذاب؛ أعني أنه قد عرف من اللغة أنه يعذب؛ فنحمله كما حمله ابن عمر وعمر والمغيرة وغيرهم من الصحابة رضوان الله عليهم وأرضاهم.(331/36)
الأسئلة
.(331/37)
حكم الصلاة على الميت داخل المقبرة
السؤال
ما حكم الصلاة على الميت داخل المقبرة؟
الجواب
لأهل العلم في هذه المسألة أقوال وكل له دليل، منهم من قال: لا يصلى عليه إذا انتهى، وأخذوا بعموم النهى عن الصلاة على المقابر، ومنهم من قال: يصلى عليه لمدة شهر، واستدلوا بحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قبر منبوذ إلى شهر فصفنا خلفه} أو كما قال رضي الله عنه.
ومنهم قال: يدعى له ولا يصلى عليه صلاة الجنازة لأنه قد أصبح في قبره.
والصحيح ما قال ابن عباس ونتقيد بالمدة الزمنية وهي إلى شهر؛ فإن إيرادها له فائدة، وإيراد التقنين والتحديد في الشرع إنما هي لفائدة، لابد إذا علمت العلة وكانت معقولة فإنا نأخذ بها، والعلة معقولة في تحديد ابن عباس بشهر، لأن ما بعد الشهر إما زيادة في إصابة المصاب، وإما أنه فتح باب للناس ليجعلوا المقابر مساجد يصلون دائماً على موتاهم فيها، فتحديد شهر جيد لمن غاب عن الجنازة، فمن غاب وأتى وقد مات حبيبه أو قريبه أو أحد المسلمين فله أن يصلي عليه صلاة الجنازة.
وأما النهي العام عن الصلاة على الجنائز وقول مرثد الغنوي في حديثه: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يصلى إلى القبور ولا يجلس عليها} [[وقول عمر -في الصحيح- لـ أنس وهو يصلي إلى القبر: القبر القبر]] أي: لا تصل إليه أو لا تصل عليه، فهذا فيما له سجود لأنه يخشى أن تكون فيه عبادة أو شبه تقرب إلى الأموات، أما صلاة الجنازة فإنها دعاء لا ركوع لها ولا سجود، فالصحيح أنه يصلي عليه صلاة جنازة إلى شهر إذا لم يصل على هذا الميت لأمر ما، أما إذا صلى فيكفي وإذا مر عليه فليدع له وإن دعا له بلا صلاة فحسن.(331/38)
مدة الصلاة على الغائب
السؤال
هل لصلاة الغائب مدة محددة ثم لا تجوز بعد هذه المدة؟
الجواب
ما علمت لصلاة الغائب تحديداً، ولو حدد لألزمنا ابن عبد البر ولقال: وأنتم من أين أخذتم الشهر؟ فإن فعله صلى الله عليه وسلم في الصلاة على القبر المنبوذ غير الصلاة على الغائب، لأن هذه حادثة عين وهذه حادثة عين، ولا يقتضي العموم في هذه المسألة أن تعمم في الأخرى، فصلاة الغائب صورة تختلف عن الصلاة على القبر المنبوذ وابن عبد البر يقول بيوم للغائب ولو قلنا: شهراً لقال: من أين لكم إلى شهر؟ ونحن قلنا: لـ ابن عبد البر: من أين لك إلى يوم؟ فيبقى على المطلق حتى يأتي مخصص أو حديث أو سياق يبين المدة فلا أعرف في ذلك شيئاً.(331/39)
مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله كما في فتح الباري
السؤال
في أي كتاب نجد تفصيل مسألة تعذيب الميت ببكاء أهله عليه؟
الجواب
أورد هذا ابن حجر في صفحة (155) من الفتح وذكر هذه الاحتمالات وقال: يحمل على أمرين: إن كان علم من أهله أنهم سوف يضجون ويصجون ويبكون وينوحون ويندبون فالأولى أن ينهاهم، فإن لم ينههم اشتمل له العذاب، وإن علم أن فيهم صبراً وسكينة فلم يأمر ولم ينه فإنه يحمل على السلامة فلا يعذب إن شاء الله.(331/40)
حكم قراءة القرآن عند القبر
السؤال
ما حكم قراءة القرآن عند القبر؟
الجواب
لا أعلم في قراءة القرآن عند القبر حديثاً صحيحاً، وقد أسلفنا في الدرس الماضي أن سورة (يس) وما ورد فيها عن معقل بن يسار أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: {اقرءوا على موتاكم ياسين} ولهذا الحديث شواهد لكن الصحيح أنه ضعيف، فلا يعمل به في مثل هذه المسألة الخطيرة، بل يتوقف، وما أعلم في القراءة على القبر أنها واردة إلا من فعل ابن عمر، ولكن لا يؤخذ بمثل هذا الفعل خاصة وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفعله ولا أحد من أصحابه، ويتوقف فيها، ولابد من حديث صحيح صريح يدل على سنية أو جواز القراءة على القبر، فإذا لم يرد فلنتوقف ولا نقرأ على القبر لقوله عليه الصلاة والسلام: {من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد}.(331/41)
مناظرة بين ابن عمر وابن عباس
السؤال
اذكر لنا المناظرة التي حدثت بين ابن عباس وابن عمر؟
الجواب
ابن عمر وابن عباس رضي الله عنها في جنازة بنت لـ عثمان بن عفان في مكة قال: جلسوا على شفير القبر فأخذ بنات عثمان يبكين على أختهن وعمر بن عثمان جالس، فقال ابن عمر لـ عمر بن عثمان: انه هؤلاء النسوة فإن الميتة تعذب ببكائهن.
قال ابن عباس معترضاً: قد كنا نقول بهذا القول وكان أبوك -يعني عمر رضي الله عنه- يقول بهذا القول، فجئت معه لما اعتمر حتى أصبحنا من قرب من المدينة، فإذا بـ صهيب بن سنان رضي الله عنه؛ فسلم عليه عمر، فدخلنا المدينة فما لبث عمر إلا أن طعن رضي الله عنه فدخل صهيب يبكي على عمر ويقول: وا حبيباه! وا صفياه! وا قرة عيناه! فقال عمر رضي الله عنه: لا تفعل يا صهيب! فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه}.
هذا الكلام لـ ابن عباس موافق إلى الآن مع ابن عمر، ثم قال ابن عباس: فأخبرت عائشة بذلك، فقالت: والله ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، ولا كذب عمر رضي الله عنه، ولكنه وهم، وإنما مر صلى الله عليه وسلم بقبر يهودية، وأتت بالحديث الذي سلف معنا، أن أهلها بكوا على قبرها فقال: {إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه} ثم قال: قالت رضي الله عنها: كيف يعذب ببكاء أهله والله يقول: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18]؟! ثم أخذ ابن عباس يساعد رأي عائشة ويقول: وقال الله عز وجل: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] يعني: أن الضحك مقدر على العبد وأنه من جبلاته ومفطور عليه، فما هو ملك العبد في أن يملك الضحك والبكاء؟
والشاهد هنا: أن ابن عباس وعائشة يقولان: لا يعذب، وأوردناه؛ لأنها مناظرة ومن باب إيراد عائشة رضي الله عنها قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18] فنقول: هذا عموم ويخصصه حديث عمر وابن عمر والأحاديث التي قالت: {إن الميت يعذب ببكاء أهله} والعموم إذا خصص بقي عمومه في الأفراد التي لم تخصص، والفرد هنا هو الميت الذي ذكر.
في الجملة لا يعذب هذا ولا هذا ولا تزر وازرة وزر أخرى من حيث المبدأ، لكن هذا الحديث خصص، وهذا أحد الردود.
والأمر الثاني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بكى، وبكاؤه عليه الصلاة والسلام من الأمر الجائز الذي ليس فيه نياحة، وكأن هذا لا يستقيم ولا يظهر منه فرد، لكن زيادة أن اليهودية تعذب من الزيادات التي لم تنقل لأهل العلم بل جمهور الصحابة أو أكثرهم لم يعلموا هذه الزيادة فبقي على الأصل، وأما قول ابن عباس: {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم:43] فإن البكاء في أصله جائز، ولكنه قد يقترن بأمر يجعله من غير الجائز أو من المكروه أو المحرم، ومنه: البكاء بالويل والثبور على الميت فيعذب به، هذه مسألة اختصرنا الكلام فيها، وهناك ردود على عائشة رضي الله عنها في باب أصول الفقه لا يدخل في باب الحديث؛ أو لا نريد أن نستطرد لأنه سوف يمر معنا تكراراً إن شاء الله.(331/42)
قاعدة جلية في المطعومات والمشروبات
السؤال
نسمع بعض أهل العلم يقول: الأصل في الأشياء الإباحة والحل، فهل الأصل في جميع الأمور هو الإباحة؟
الجواب
ما أصله الحل هو ما لم يرد شيء يحرمه، قد تكون في المطعومات والمشروبات، أما في العبادات فإن الأصل فيها الشرع يعني: الأمور التكليفية أو الأمور التعبدية التي أتى بها صلى الله عليه وسلم فالأصل فيها: أننا لا نتعبد الله إلا بنص منه صلى الله عليه وسلم من الكتاب أو السنة أو ما أجمعت عليه الأمة، والإجماع لا بد أن يستند كذلك إلى نص، فأما الأصل في الحل فهذا في المطعومات والمشروبات، أما العبادة والأمور التكليفية فأمرها ضيق، ولابد من دليل من المعصوم عليه الصلاة والسلام، فلا ترتفع إصبع ولا توضع يد إلا بدليل، حتى إشارة السبابة في الصلاة ما فعلناها إلا بدليل منه صلى الله عليه وسلم، وإلا لأصبح الأمر فوضى، ودخل من دخل فهذا أمر ضيق وقد تكلم ابن تيمية عن هذه القواعد وعن الجمع بينها في المجلد التاسع عشر والمجلد العشرين من فتاويه بأحسن كلام، ويأتي بكلام القاعدة في المطعومات والمشروبات وقاعدة في الطهارة وقاعدة في الأمور التعبدية فليعلم ذلك.(331/43)
معنى (الألم) عند شيخ الإسلام ابن تيمية
السؤال
هل مقصود ابن تيمية بالألم العذاب؟
الجواب
لكن ابن تيمية يقول: إنه كالمغتاظ أو المتأسف، لأن ابن جرير الطبري هو وابن تيمية والقاضي عياض يقولون: متألم -يعني: أنه لا يريد ذلك ويتأسف على ذلك الفعل- ولو كان بمعنى: أنه العذاب المعروف المحسوس الذي يحس فإنه يكون موافقاً لمن ذهب إلى ذلك، وابن تيمية أتى بهذا في المجلد الحادي عشر -وأظنه أشار إليه في المجلد العاشر- ومقصده: أن يكون من باب الحزن والهم والغم الذي يمر على القلوب لا من باب التعذيب الذي يصل الجسم ويذوقه العبد فيتألم من التعذيب المحسوس، لكن يقصد من باب الأمور التي يتألم منها القلب كأنك ترى منظراً يشغلك ولا ترتاح إليه فتتألم، لكن الحديث نص صريح في التعذيب.(331/44)
حكم زيارة النساء للقبور
السؤال
مسألة زيارة النساء للقبور؟
الجواب
مسألة زيارة النساء للقبور مسألة طويلة اختلف فيها أهل العلم على رأيين: رأي يرى أن للمرأة أن تزور القبر، واستدلوا بأدلة:
منها: أن النسخ عام من مخصص فليس للرجال دون النساء فقال: {ألا فزوروها} فاقتضى دخول المرأة مع الرجال في هذا النسخ العام.
ومنها: أدلة {لعن الرسول صلى الله عليه وسلم -في رواية- زوارات القبور} قالوا: المكثرات، أما زائرات: فإن هذا على القلة، فلها أن تزور على القلة.
ومنها: حديث أنس في البخاري: {مر صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي على قبر فقال: اتقي الله واصبري} فنهاها عن البكاء ولم ينهها عن الزيارة.
ومنها: حديث عند الترمذي من طريق عطاء: [[أن عائشة مرت بقبر أخيها عبد الرحمن فبكت وقالت:
وكنا كندماني جذيمة برهة من الدهر حتى قيل لن يتصدعَا
وعشنا بخير في الحياة وقبلنا أصاب المنايا رهط كسرى وتبعَا
فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معَا
ومنها: حديث عند مسلم تقول عائشة: {كيف أقول يا رسول الله إذا زرت المقابر؟ فأخبرها صلى الله عليه وسلم} فلو أنه كان ينهاها لكان قال: لا تقولي ذلك ولا تقولي شيئاً ولا تزوري المقابر.
ومنها: حديث عن أم عطية في البخاري في الجنائز: {نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا}.
وقابلهم فريق من أهل العلم وقالوا: لا تزور المرأة، واستدلوا بأدلة منها: خوطب بحديث بريدة وغيره الرجال فقال: "فزوروها" والنهي كان للرجال في أول الحين أما النساء فلهن أحاديث تخصهن.
ومنها: أن المرأة التي قال لها صلى الله عليه وسلم: اتقي الله واصبري قالوا: إنه نهاها عما فعلت، فنهيها عن زيارة القبور من أجل الندبة، فنهاها صلى الله عليه وسلم وقال: اتقي الله، فاتقي الله تقتضي اتقي الله ولا تزوري، واتقي الله ولا تفعلي هذا، وما هو المقصود إذاً من نهي المرأة إلا مثل هذا الأمر، ومن الأدلة -أيضاً- حديث: {ارجعن مأزورات غير مأجورات} على ما قيل فيه، ثم إن المرأة لم يعهد في عهد الصحابة أنها كانت تذهب مع الرجال، والرسول صلى الله عليه وسلم قال من حديث أم عطية: {نهينها عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا} قالوا: لم يعزم لأن هناك عجائز أو كبار السن أو ثابتات قلوب لا يندبن ولا يصرخن.
ولست أرجح، هذه المسألة معروضة للأمة ولطلبة العلم وكل يجتهد في هذه المسألة إن استطاع أن يجتهد أو يوفق ويبني على النصوص، لكن الذي أرى والله أعلم على فهمي القاصر بعد أن رأيت كلام أهل العلم أن المرأة تمنع من زيارة القبور لثلاثة أسباب:
السبب الأول: النهي ورد عاماً ثم أتى التخصيص للرجال.
السبب الثاني: لما يخشى عليهن من الفتنة -فتنة النساء- لأنهن أرق قلوباً وأكثر تضجراً.
السبب الثالث: للأحاديث التي وردت منها: {اتقي الله} ومنها: {ارجعن مأزورات غير مأجورات} هذا الذي تميل إليه النفس.
وفي الختام أتوجه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال، وأن يتجاوز عنا وعنكم سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، وسوف نصلي العشاء إن شاء الله ثم نصلي صلاة الغائب إن شاء الله الذي وافته المنية صباح هذا اليوم فرحمه الله وأسكنه الله فسيح جناته، وسوف يصلي بنا فضيلة الشيخ سعيد شعلان جزاه الله خيراً.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.(331/45)
من مهبط الوحي
مجال التربية والتعليم هو مجال بناء الرجال، ولم يشهد التاريخ منذ بزوغه معلم ومربِّ مثل النبي صلى الله عليه وسلم، ونجاح تربيته عليه الصلاة والسلام لعوامل وأسباب منها: أنه كان داعية قولاً وعملاً فكان المتأثر بدعوته أولاً هو نفسه، وأن دعوته ارتكزت على أسلوب اللين والحكمة، وبث روح الألفة والمحبة بين أتباعه المدعوين(332/1)
فضل مهبط الوحي
إن الحمد لله نحمده ونستعينه، ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:102] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} [النساء:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} [الأحزاب:70 - 71].
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
سلام الله عليكم يا جيران بيت الله! سلام الله عليكم يا سكان الحرم! سلام الله عليكم يا من سكن هذه البقعة الطاهرة! سلام الله عليكم يوم اجتمعت قلوبكم على محبة لا إله إلا الله، وتوحدت أرواحكم في السير في منهج لا إله إلا الله، وأُشْرِبت قلوبكم محبة لا إله إلا الله!
من مهبط الوحي من هنا سارت لا إله إلا الله قوية، ومن هنا انبعثت لا إله إلا الله متوهجة، ومن هنا غرست لا إله إلا الله في قلب كل موحد، وإن كان لي من شكر في أول اللقاء فإني أشكر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى على أن أجلسني مع هؤلاء الأخيار الأبرار، ثم أشكر مدير هذا المعهد، فضيلة الشيخ/ حمدان السُلمي على تفضله ودعوته للحضور إلى هذا المكان، ثم أشكر الأساتذة وأشكركم يا معشر الطلاب!
من مهبط الوحي، من هنا، من قلوبكم الصادقة، من أرضكم المنيبة المخبتة سارت لا إله إلا الله، ولا يجدد مسيرة لا إله إلا الله إلا من أتى من مثل هذه البقعة ومن أمثالها، ومن مهبط الوحي بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم للعالمين بشيراً ونذيراً، ومن مهبط الوحي قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] ومن مهبط الوحي وقف أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه خليفةً المسلمين زاهداً وعابداً يبكي الليل والنهار، ليجدد المسيرة بعد وفاة الرسول عليه الصلاة والسلام، ومن مهبط الوحي كان الخليفة عمر رضي الله عنه يقف على المنبر، وعليه برد مرقع بأربعة عشر رقعة، يبكي ويقول لبطنه وهو يقرقر من الجوع: [[قرقر أو لا تقرقر، فوالله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدمٌ له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
عمر الذي كان يضرب أقدامه بالعصا ويقول: [[يا عمر! والله الذي لا إله إلا هو لئن لم تتق ربك ليعذبنك الله عذاباً لم يعذبه أحداً من العالمين]].
ومن مهبط الوحي نشأ عثمان بن عفان، قال صلى الله عليه وسلم قبل غزوة تبوك: {من يجهز جيش العُسرة وأضمن له الجنة؟ فيقول عثمان: أنا، فتنهار دموعه صلى الله عليه وسلم على خديه، ويقول: اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، اللهم اغفر لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ما ضرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم}.
ومن مهبط الوحي نشأ علي بن أبي طالب يقف في ظلام الليل يبكي ويتململ تململ اليتيم ويبكي بكاء الثليم، ويقول: [[يا دنيا يا دنية! طلقتك ثلاثاً لا رجعة بعدها، غري غيري، زادك حقير، وسفرك قصير، وغربتك موحشة، آه من لقاء الموت وبعد السفر ووحشة الطريق]].
فيا أبناء أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي: يا من سكن في مهبط الوحي! يا جيران بيت الله! إن لبيت الله حقوقاً من الجيرة: الحياء من الله عز وجل، والحياء من الله هو: حفظه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، وإنكم أهل المنزل وأهل الدار، إنكم أول من يُطالب من الناس بحفظ ورعاية بيت الله، إنكم جيران بيت الله، وللجار حقوق.
أولها: الحياء.
حياء من إلهي أن يراني وقد ودعت صحبك واصطفاكا
فما دام أن الله جعلكم سكان هذا البيت في مهبط الوحي، أفليس عليكم حقوق أعظم من حقوق العامة من الناس، ومن حقوق البشرية؟ إي والله! إنه حفظ الله تبارك وتعالى في السر والعلن، وكلمتي هذه توجه إلى مدير المعهد، ثم إلى الأساتذة، ثم إلى الطلاب.(332/2)
مسئولية المدراء
فأقول لمدير المعهد: سلام الله عليك، إنك كما تعرف أنك مسئول عن هذا الجيل أمام الله، وإنه لا خير فيَّ إذا لم أقل: اتق الله، ولا خير في المنصوح إذا لم يقبلها.
قال رجل لـ عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[يا أمير المؤمنين! اتق الله، فوالله إن لم تتق الله ليعذبَّنك، فجلس عمر يبكي، ويقول: لا خير فيَّ إذا لم أقبل قولك -اتق الله- ولا خير فيك إذا لم تقل لي: اتق الله]].
وهذه هي المسئولية وهي الوصية العامة، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] وإنما أقول ذلك لمدير المعهد؛ لأنه هو الموجِّه والمربي والأب لهذا الصَّرح، فحيثما يتجه وحيثما يجعل من نفسه قدوة، سوف يراه هذا الجيل، وسوف يكونون في ميزان حسناته، فوالله الذي لا إله إلا هو لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم.
ما يساوي ذهب الدنيا! ومال الدنيا! وسيارات الدنيا! وكنوز الدنيا؟! كلها والله هباء منثور في جنب هداية هذا الجيل، وهداية شاب واحد إلى الله بالقدوة، وبالكلمة المؤثرة النفَّاذة، وبالتصرف السليم، وبالتربية التي تنتهج تربيته صلى الله عليه وسلم، فحي هلاً بك مديراً تقود هذا الجيل، وتغرس في نفسه لا إله إلا الله، فإن الله سوف يسألك يوم القيامة عن هؤلاء، والله ليست القضية قضية إدارة ومدير فحسب، وليست القضية أنظمة ولوائح فحسب، لكنها مسئوليةٌ مِنَ الذي رفع السماوات بلا عمد، ومسئوليةٌ مِن الذي بسط الأرض على مدد، ومسئوليةٌ مِنَ الذي خلق الإنسان في كبد.(332/3)
مسئولية الأساتذة
وأنتم أيها الأساتذة: يا قادة الجيل! يا معلمي أبناء المسلمين! أما علمتم أن آباءنا جعلوا الأبناء بين أيديكم أمانة؟ أما علمتم أن فلذات أكبادنا أرواحنا جلسوا على الكراسي ينظرون ماذا تقولون وما تتصرفون؟ أما علمتم أنكم ورَّاث المصطفى عليه الصلاة والسلام؟ فلا إله إلا الله كم هي المسئولية! ولا إله إلا الله كم هي الأمانة! ولا إله إلا الله ما أعظم التبعة! فيا إخوتي الأساتذة! اتقوا الله في أجيالنا وأكبادنا، فوالله إنهم بكم؛ إن استقمتم استقاموا، وإن اعوججتم اعوجوا، فليست المسئولية أن تلقي درساً، أو حصةً، أو محاضرةً وتخرج، لا.
إن فوق ذلك أمراً عظيماً، إنك أتيت خليفة لمحمد صلى الله عليه وسلم لتعلمهم الإيمان، وتغرس في قلوبهم الحب والطموح، فالإيمان تسكبه قبل أن تسكب هذه الحصة، ولو كنت أُستاذاً في أي فن؛ في التفسير أو في الفقه أو في الحديث، أو في التاريخ أو في الجغرافيا، إن الله سوف يسألك يوم القيامة {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام:94].
إذا قيل أنتم قد علمتم فما الذي عملتم وكل في الكتاب مرتب
فيا ليت شعري ما نقول وما الذي نجيب به إذ ذاك والأمر أصعب
إلى الله نشكو قسوةً في قلوبنا وفي كل يوم واعظ الموت يندب
{أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [البقرة:44].
يا أساتذة المسلمين: يا مدرسي المسلمين! يا مربي أجيال المسلمين! أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم، وتسكبون لا إله إلا الله في القلوب وما دخلت قلوبكم؟! أتحبون الإيمان أن ينتشر وما نشرتموه في الفصول؟! أتريدون الدعوة المؤثرة في الأجيال وما تأثرت بها نفوسكم؟!
عجيب! إن هذه الآية صارت قارعة لبني إسرائيل تقرعهم على رءوسهم؛ لأنهم يأمرون ولا يأتمرون، يوجهون ولا يتوجهون، يأمرون بالسنة، ولكن لا تظهر السنة عليهم، فقال الله لهم: ({أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ} [البقرة:44].
أنتم أساتذة، وأنتم معلمون، وأنتم مربون وتنسون القرآن أفلا تعقلون! أليس هناك عقول تعرف هذه المسئولية! والله- عز وجل- يقول في بني إسرائيل: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5].
سبحان الله! إن الذي يحمل المعلومات في رأسه، ثم لا يطبقها في دنيا الواقع، ثم لا يكون داعية مؤثراً، ثم لا يكون مستقيماً، ثم لا يكون سنياً على منهج محمد صلى الله عليه وسلم فهذا ذهنه سلة مهملات، وتموت المعلومات في ذهنه، ويطفأ النور في قلبه، وتموت الإرادة في روحه؛ ولا يستفيد من علمه أبداً؛ قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176].
ما أكذب الكلمة التي لا يصدقها العمل! وكثير من الناس يجيدون الأقوال، لكن أين الأعمال؟! كيف نريد أن تستقيم بيوتنا؟ كيف نريد أن يهتدي شبابنا ونحن ما أقمنا الإسلام في أشخاصنا؟!
فيا أيها الأساتذة: سامحوني -لطف الله بكم- إذا كنت قوي العبارة، أو صعب الأسلوب، فوالله إن هذا الكلام موجه إليَّ قبل أن يوجَّه إليكم.
أيها الأساتذة الأبرار: أنتم صفوة المجتمع، فإذا أقمتم الإسلام في قلوبكم؛ قام في تلاميذكم وفي طلابكم.
فالأستاذ هو القدوة.
سبحان الله! كيف يتجه الطلاب إلى الخير إذا اتجه الاستاذ إلى الخير، وكيف ينحرفون إلى الشر إذا انحرف إلى الشر، يقول: كونوا صادقين ثم يكذب! يقول: كونوا متبعين لمحمد صلى الله عليه وسلم ثم يخالف! يأمر بالمحافظة على الصلاة ثم لا يحافظ! يأمر بتلاوة القرآن ثم لا يتلو! أي أسلوب هذا؟!
إنه الأسلوب الجاف الذي أعلن إخفاقه عند الأمم جميعاً حتى عند الكفار، فهذا الأمريكي الذي كان من أكبر دعاتهم دايل كارنيجي في كتاب دع القلق وابدأ الحياة يقول: إنك لا تعلم تلميذاً من التلاميذ ما لم تقم بعملك.
سبحان الله! حتى الكافر عدو الله وحتى الخواجة يعرف أن هذا العلم لا يسري في الناس حتى يكون المعلم متمثلاً لذلك.
أرأيتم أعظم من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! أسمعتم بأهدى منه؟! أطرق أذهانكم أعظم منه في التاريخ؟! أطرق العالم أشرف منه؟! لا والله.
دعها سماوية تجري على قدرٍ لا تفسدنها برأي منك منكوس
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63].(332/4)
الرسول المعلم
كان تدريسه عليه الصلاة والسلام وتعليمه على ثلاثة أضرب:(332/5)
النبي صلى الله عليه وسلم هو المتأثر الأول بدعوته
أولها: أنه كان هو المتأثر بدعوته صلى الله عليه وسلم لا يأمر الناس بشيء إلا وهو أقرب الناس إليه، وأكثر الناس تمثلاً بهذا الأمر، يقول: يا أيها الناس! اتقوا الله! خافوا الله! اخشوا من الله! فيكون أخوف الناس لربه صلى الله عليه وسلم.
يقول مطرف بن عبد الله بن الشخير عن أبيه: {دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي ولصدره أزيز من البكاء كأزيز المرجل} وهو القدر إذا اجتمع غلياناً، ويقول ابن مسعود في الصحيح: قال لي صلى الله عليه وسلم: {اقرأ عليَّ القرآن، قلت: كيف أقرأ عليك القرآن وعليك أنزل؟! قال: إني أحب أن أسمعه من غيري، قال: فاندفعت أقرأ القرآن، فلما بلغت قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء:41] قال: حسبك الآن، فنظرت فإذا عيناه تذرفان}.
هكذا يكون التأثير بالدعوة، هكذا يكون القيام بحق الدعوة، يقول ابن أبي حاتم: {كان عليه الصلاة والسلام يدور على بيوت الأنصار في الليل الدامس، فسمع امرأة عجوزاً تقرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] فأخذ يبكي عليه الصلاة والسلام! وهي لا تدري أنه يستمع إليها، ويقول: نعم أتاني، نعم أتاني}.(332/6)
كان أسلوب النبي صلى الله عليه وسلم في التعليم باللين والحكمة
والأسلوب الذي استخدمه صلى الله عليه وسلم في الدعوة -وأنتم أيها الدعاة والأساتذة والمعلمون! - اللين والحكمة، أرسل الله موسى عليه السلام لفرعون شيخ الطغاة، والدجال الكبير، والأفاك الأثيم، فقال له ولهارون: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
إن العصا لا تغرس الإيمان والحب والطموح، إن العصا ليست وحدها التي تهدي إلى الصراط المستقيم، إن العصا ليست التي تخرج العصاة من الدمار والعار والشنار إلى الإيمان والسلام، والعدل والحب والطموح {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] القول اللين يغرس لا إله إلا الله في القلوب، القول اللين يسكب الدعوة في الأرواح، القول اللين تحبه القلوب وتعشقه النفوس.
فيا أيها الأساتذة: أسلوبه عليه الصلاة والسلام كما تعرفون: اللين، يعرض الدعوة لا يجرح الشعور، يحب للناس ما يحب لنفسه، رفيقاً رحيماً قريباً من القلوب صلى الله عليه وسلم، يريد أن ينقذ الإنسان، وأنت بمقامك في الفصل اجعل من أكبر مهماتك أن تنقذ أبناء المسلمين من النار، قبل أن ينجحوا في الامتحان ينقذوا من غضب الواحد القهار، ولا يتحصَّل ذلك إلا إذا أحببت لهم ما تحب لنفسك، ومن الأساتذة من يتشفَّى في طلابه، ومنهم مَن ترك الأمانة وراء ظهره، ومنهم من جعل عباد الله خَوَلاً، واستهان بالرسالة، وهذا إن شاء الله قليل، أو لا يوجد في هذا المجتمع، وهذا الصرح مشيد، لكن ينبه خوفاً من أن يقع هذا في بعض الفترات، أو بعض الأزمنة.(332/7)
بث النبي صلى الله عليه وسلم روح الألفة والإخاء بين الناس
والأسلوب الثالث الذي فعله صلى الله عليه وسلم في الأمة أنه بثَّ روح الأُلفة والإخاء، وروح التواد في الناس، يقول الله له: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال:63] والعرب كقرون الثور كلما كسرت قرناً ظهر لك قرن، العرب قبل الإسلام كانوا قتلة متمردين مشاغبين لا يجمعهم ملك ولا إدارة، ولا حضارة ولا ثقافة، فلما جاء عليه الصلاة والسلام وحَّد بين القلوب.
فجعل أبا بكر! أخاً لـ بلال الحبشي، وجعل عمر القرشي أخاً لـ صهيب الرومي، وعثمان العبشمي! أخاً لـ سلمان الفارسي، فاجتمعت والله القلوب.
فمهمة الأستاذ أن يجمع هذه الأرواح تحت مظلة لا إله إلا الله.
إن كيد مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد
أو يختلف ماء الوصال فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد
أو يفترق نسبٌ يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد
إي والله! ليست مبادئ أبي جهل، ولا أبي لهب الذين وقفوا عند الركن والحطيم وزمزم فكفروا بلا إله إلا الله، فأدخلوا النار، أما بلال فأتى من أثيوبيا (الحبشة) يحمل لا إله إلا الله، فدخل الجنة.
دين أساسه التقوى، وفاعليته لا إله إلا الله، ومظلته الإخاء، هذا أمر لا يغيب، والأساتذة يوم يخرجون من بيوتهم متوضئين قاصدين بعملهم وجه الله، متوكلين على الله -الله أكبر! - كم يجعل الله على أيديهم من الفتوح؟! الله أكبر كيف يغرس الله بأيديهم شجرات الإيمان؟! الله أكبر كيف تلين لهم القلوب وتنقاد لهم النفوس؟! الله أكبر كيف يجعل الله عز وجل هداية الأجيال على أيديهم؟! هذا في جانب الأساتذة؛ القدوة والأسوة، وضع التكلف، ومعرفة الأمانة وحمل الرسالة، وبث الإخاء وغرس الإيمان، وهذا لا يخفى عليهم إن شاء الله أبداً.(332/8)
خطاب إلى طلاب العلم
أما أنتم إخوتي الطلاب: أما أنتم يا زرع المستقبل! أما أنتم يا أيها الأمل المشرق للأمة الإسلامية! يا من على أكتافكم تقام معالم لا إله إلا الله محمد رسول الله! فإني أسألكم بالله الذي لا إله إلا هو بحمل الإيمان، أن نحمل قبل العلم الإيمان {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَاْلإيمَانَ} [الروم:56].(332/9)
التلازم بين العلم والإيمان
أيها الإخوة الطلاب: علم بلا إيمان هباء منثور، كتاب بلا إيمان كلام مصفَّف، قصيدة بلا إيمان هذر مذر، طالب بلا إيمان جثة من اللحم، فصل بلا إيمان قطيع من البهائم.
إخوتي في الله: الإيمان يوم تخرج من بيتك يكون في ذهنك وفي قلبك، إن أكبر الرسائل التي تحملها في الحياة الإيمان؛ الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر وبما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم.
يا إخوتي في الله: إننا يوم نحمل الإيمان يفتح الله لنا كل باب خير ويغلق عنا كل باب شر، ومعنى ذلك: ألا نطلب العلم- كما يفعل الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، يقول عز من قائل: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] لا يهم إلا علم البطون وعلم القدور، وعلم الفروج وعلم المتع الدنيوية، وعلم الوظائف والمناصب، وعلم السيارات والموديلات، هذا علم لا يوصل صاحبه إلا إلى القبر، ثم يتركه ويعود، لكن أنت يُطلب منك أن تأخذ علماً يوصلك إلى رضوان الله، إن علماً لا يدخل معك القبر ليس بعلم، علم لا يمرُّ بك على الصراط ليس بعلم، علم لا يسقيك من الحوض المورود ليس بعلم؛ لأن الله ذكر العلم في القرآن على ثلاثة أضرب:
علم ضار.
علم شرير.
علم النهي.
{وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ} [البقرة:102] وهؤلاء الذين يتعلمون للدنيا وللشهادات وللمناصب وللوظائف، والله يعطيهم من المناصب والوظائف والشهادات ما أرادوا، لكن لا يعطيهم من حرث الآخرة شيئاً {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:16].
هذا العلم ليس بنافع، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله تبارك وتعالى لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من أعراض الدنيا لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها يوجد من مسيرة أربعين عاماً} وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من تعلَّم العلم ليماري به السفهاء أو ليجاري به العلماء، فليتبوأ مقعده من النار} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
إذا ما لم يفدك العلم خيراً فليتك ثم ليتك ما علمتا
وإن ألقاك فهمك في مغاوٍ فليتك ثم ليتك ما فهمتا
فناده إذا سجدت له اعترافاً بما ناداه ذو النون بن متى
وأكثر ذكره في الأرض دأباً لتذكر في السماء إذا ذكرتا
فيا طالب العلم: الإيمان الإيمان! يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم: {يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الروم:7] وقال عنهم: {بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ} [النمل:66].(332/10)
تقوى الله ومراقبته
المسألة الثانية يا إخوتي في الله: رقابة الله تبارك وتعالى، وهي وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم لطلبة العلم، يقول في الترمذي بسند حسن لـ ابن عباس: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدَّة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف} ورقابة الله معناها: أن تجعل من الله رقيباً عليك، وهذه هي درجة الإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه، فإنه يراك.
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل عليَّ رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ساعة ولا أن ما تخفي عليه يغيب
يا من تستر بالجدران بالمعاصي! الله يراك وهو الواحد الديان، يا من وقف وراء الحيطان وظن أنه يخفى عن نظر الرحمن! الله يراك آناء الليل وأطراف النهار.
فيا أخي في الله: يا طالب العلم! لا تدنِّس عملك ولا علمك بالمعاصي فالمعاصي تدنيس للعلم، قال أحد الصالحين: نظرت نظرة لا تحل لي فقال أحد العلماء: أتنظر هذه النظرة، والله ليعاقبنَّك الله بها ولو بعد حين، قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
{فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13] هذا في بني إسرائيل، طلبوا العلم ونقضوا ميثاق الله، وجاهروا الله بالمعاصي، خلوا فانتهكوا المعاصي، واقترفوا حدود الله، وانتهكوا حرماته؛ فلعنهم الله وطبع على قلوبهم، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ} [البقرة:282].
أتدري ما هو الذكاء؟ أتدري ما هو التفوُّق العلمي؟ إنه تقوى الله عز وجل.
ترجم الذهبي لـ ابن الراوندي الملحد الزنديق، الفيلسوف الخبيث، قال: كان ذكياً ولم يكن زكياً كان يتوقد ذكاءً لكن ذهنه مظلم، وقلبه موحش، ولم تسكن لا إله إلا الله ومحمد رسول الله في قلبه، ثم قال الذهبي: فلعن الله الذكاء بلا إيمان، وحيا الله البلادة بالتقوى.
ماذا يستفيد الإنسان من ذكاء لا يوصله إلى رضوان الله؟ ماذا يستفيد من شهادة لا تبلغه رضوان الله، ولا تدخله الجنة؟.
فاعمل لدار غداً رضوان خازنها الجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
فرقابة الله -يا إخوتي! - وتقوى الله هي التي تراد من هذا العلم.(332/11)
تحصيل العلم الشرعي وثمرته
المسألة الثالثة لطلبة العلم: هو التحصيل العلمي للعلم الشرعي، لا أشرف في الحياة بعد الفرائض من طلب العلم الشرعي! والتحصيل وتحقيق المسائل هو الهدف الأكبر والنبيل الذي يشغف له طلبة العلم.
ولو كان هناك أشرف من طلبة العلم العاملين لاستشهدهم الله سبحانه على ألوهيته {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
فيا طلبة العلم: استشهدكم الله على وحدانيته وعلى ألوهيته؛ فقوموا بالشهادة بحقها وهو العمل والتحصيل، والتحصيل معناه: أن تبذل وقتك وجهدك في تحصيل العلم الشرعي، في تقييد الفوائد، وفي حضور مجالس العلم، وفي استصحاب الكتاب الإسلامي، والشريط الإسلامي، وأن يكون وقتك ويومك، وليلك ونهارك، كله تحصيلاً علمياً.
إن الوقت رخيص عند المسلمين إلا من رحم الله، لكن عند أعداء الله غالٍ وعزيز، كيف يرخص الوقت عندنا؟! أليس عندنا قرآن وسنة، أما عندنا فرائض ونوافل؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] تعالى الله أن يخلقنا للعبث.
{أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115] فيا من سار وراء المجلة الخليعة! أفحسبتم أنما خلقنكم عبثاً؟! ويا من سارت حياته وراء الأغنية الماجنة! أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً؟! ويا من قضى ليله ونهاره في الجلسات التي لا تنفع ولا تجدي! أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً؟! ويا من جلس في المقاهي والملاهي التي تصُدُّ عن ذكر الواحد القهار! أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً؟!
أنت مسلم، أنت طالب علم ومعنى ذلك: أن تحفظ لحظاتك وسكناتك مع الله، يقول ابن تيمية: إنه لا يحق لي أن أضيع وقتاً من حياتي، إذا فترت بدأت في الذكر - أي من العبادة- ويقول: إنها لتعجم علي المسألة الواحدة فأسبح وأذكر الله وأستغفره أكثر من ألف مرة، فيفتحها الله عليَّ.
سبحان الله! الله هو الفتاح العليم، فمسألة التحصيل وحفظ الوقت من أعظم القضايا التي ينبغي أن تغرسها في ذهنك، نحن أمة ليست عاطلة، لا ينبغي أن نشكو العطالة والبطالة وأين نقضي الوقت؟! نسمع الشاب يقول: تعال نقضي الوقت، تعال نقطع هذا اليوم، تعال نمضي هذه الساعات، سبحان الله! أمسلم وطالب علم يشتكي من طول الوقت؟ لا والله! يقول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس الصحة والفراغ}.(332/12)
الاستغفار والتوبة
والمسألة الرابعة التي ينبغي أن يلاحظها طالب العلم هي: مسألة الاستغفار والتوبة دائماً وأبداًَ {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] ثم إن كثرة الاستغفار معناها: أن تشعر دائماً أنك مذنب، وهذا يحتاج إلى كلام طويل وبسط مديد.(332/13)
مسائل لابد من التنبيه إليها
لكن أنبه إلى أربع مسائل وجدت في الساحة الإسلامية بين شباب الصحوة، ولا بد أن ينبه عليها باستمرار.(332/14)
أهمية الاهتمام بالنوافل بعد الفرائض
مسألة عدم الاهتمام بالنوافل بعد الفرائض، لقد وجد شباب مسلم متجه إلى الله، يعمل بالسنة حتى في الثوب واللحية والسواك، وهذا أمر يبشر بالخير ويرفع الرأس، فنحمد الله على ذلك، لكنَّ هذه الاستقامة الظاهرية تحتاج إلى نوافل وإلى وقود، وإلى تربية روحية، فيا طلبة العلم! هل سألنا أنفسنا عن قيام الليل؟ هل سألنا أنفسنا عن ركعتين في السحر حين ينزل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى السماء الدنيا؛ نزولاً يليق بجلاله، فيقول: هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟
هل قلنا لأنفسنا: هل قمنا في السحر فرفعنا أيدينا وكفينا وقلنا: يا رب: يا فتاح يا عليم! افتح علينا وعلمنا؟ هل شكونا على الله ما نلاقي من صعوبات؟ هل شكونا عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذنوبنا وخطايانا؟ هل سألناه العفو والمغفرة؟
قلت لليل هل بجوفك سرٌ عامرٌ بالحديث والأسرار
قال: لم ألق في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسمار
ركعتا الضحى، فهاتان الركعتان كانتا من أحب شيء عند السلف الصالح، ولا تأخذ منا إلا دقائق، وهي صلاة الأوابين، وهي تعادل ثلاثمائة وستين حسنة، وتكفِّر من الذنوب ما الله به عليم، هل توضأنا في الضحى يوم يشتغل أهل الوظائف في وظائفهم، وأهل الدور بدورهم، وأهل الأعمال بأعمالهم، فتوضأنا وصلينا ركعتي الضحى؟
القرآن كلام الله عز وجل، هذا الكتاب الخالد، بالله هل سألنا أنفسنا كم لنا من ورد في اليوم والليلة؟ سمعنا أن طالب علم يقول: والله لقد مرت بي ستة أشهر ما قرأت في المصحف، سبحان الله! ستة أشهر ما وقعت عيناك على النور وعلى الصراط المستقيم! ستة أشهر ما وقعت عيناك على كلام الله! وعلى الدواء والبلسم الشافي! ستة أشهر وأنت ما أوردت نفسك وأدخلت في قلبك هذا النور الوهاج! ستة أشهر وأنت تعيش الحرمان والوحشة!
نعم.
وجد من يغلِّب المجلات الإسلامية وأنا أقول: المجلات الإسلامية، وما بالكم إذا كانت المجلات الخليعة، مجلة المرأة الخليعة الماجنة، مجلة البعد والفحش والشر والخبث، هذا لا يتكلم معه في مثل هذه الجلسة؛ لأنني أتكلم في المعهد العلمي في مهبط الوحي في مكة لا أتكلم في هذه الناحية أنه بعيد أن يوجد منا من يغلِّب المجلة الخليعة على القرآن! لكن وجد من يأتي بالمجلة الإسلامية، فتأخذ من وقته الساعات، ثم ينام وما قرأ شيئاً من كتاب الله، سبحان الله! روحك القرآن وهو نورك وطريقك.
سمعتك يا قرآن والليل سابح سريت تهز الكون سبحان من أسرى!
فتحنا بك الدنيا فأشرق نورها وسرنا على الأفلاك نملؤها أجرا
فيا سبحان الله! ما هو واقعنا إذا تركنا القرآن؟ وما هي بيوتنا؟ والله تصبح بيوتنا أرخص من الرخص، تصبح بيوتاً ماجنة وحقيرة وهزيلة وصغيرة، وتصبح قلوبنا كتلة من اللحم.
فالقلب إذا لم تدخل فيه القرآن أصبح كالبيت الخرب.
في الترمذي عن ابن عباس مرفوعاً: {إن الذي ليس في قلبه شيء من القرآن كالبيت الخرب} يقول عليه الصلاة والسلام في صحيح مسلم: {اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعاً لأصحابه، اقرءوا البقرة وآل عمران، اقرءوا الزهراوين؛ فإنهما يأتيان، أو تأتيان كغمامتين، أو غيايتين، أو فرقان من طير صواف}.
فالله الله في الإقبال على العلم الشرعي، فهذا من التحصيل العلمي الشرعي وحفظ الأوقات، ووجد كذلك في الساحة الإسلامية تغليب النوافل وكثرة الذكر والأوراد الصباحية التي صح عن الرسول عليه الصلاة والسلام قولها بعد الفجر وبعد المغرب وعند دخول المسجد وعند الخروج.
أطالب علم وفي المعهد العلمي وليس له أوراد من الذكر؟! نام طالب عند الإمام أحمد، وكان هذا الطالب مسافراً، فوضع له الإمام أحمد ماءً عند الباب؛ ليستيقظ ويصلي في الليل، فقام الإمام أحمد ورأى الماء ولم يصل هذا الطالب، قال الإمام أحمد: سبحان الله! ما صليت البارحة؟! قال: أنا مسافر، قال: سبحان الله! طالب علم ليس لك ورد بالليل!
مسروق بن الأجدع العالم العراقي، من يوم خرج من العراق إلى أن حج ورجع من مكة ما نام مضطجعاً، إنما إذا أراد أن ينام صلَّى ثم نام ساجداً.
لا تعرضن بذكرنا في ذكرهم ليس الصحيح إذا مشى كالمقعد
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعةٍ فما سقطنا لأن الحافظ الله(332/15)
خطر النفرة والتباغض بين شباب الإسلام
ومما وجد في الساحة الإسلامية بين الشباب النفرة والتباغض إلا عند من رحم الله، من حسد وضغينة وحمل ونميمة في المجالس واستهتار البعض بالبعض والسخرية والاستهزاء، وهذا يخالف كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [آل عمران:103] وفي الحديث الذي يروى عنه صلى الله عليه وسلم: أنه نظر إلى الكعبة، فقال: {ما أجلك! وما أعظمك! وما أشد حرمتك! والذي نفسي بيده للمؤمن عند الله أشد حرمةً منك} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ولا يسلمه ولا يحقره، بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم}.
فيا إخوتي في الله: نزع الضغينة واجب شرعي، أن نتآخى ونتآلف وأن يصل بعضنا بعضاً وأن نتزاور في الله وأن نتحاب في الله، وأعظم مهمة بيننا معشر الطلاب! أن إذا رأينا المخطئ أخطأ أن نقول له أخطأت، هل ذهب أحد منا إلى أخيه، فأخذه بينه وبينه وسدده ودعاه ونصحه لينقذه من النار؟.
تعمدني بنصحك في انفراد وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوعٌ من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تعط طاعة(332/16)
نصائح للشباب
إخوتي في الله! ومع هذه الأمور أنصح نفسي وإياكم بالتخلي عن المعاصي التي وجدت في الساحة؛ الشريط الغنائي الماجن، فالأغنية الماجنة أفسدت الجيل وحببت الفواحش إلى الشباب، ودلتهم إلى طريق المرأة الماجنة وإلى الزنا والعياذ بالله.
الغناء بريد الزنا، ويوم يسمع الشاب الأغنية الماجنة معنى ذلك: أن حب كتاب الله سيخرج من قلبه، ويوم يسمع الأغنية معناه: يتخلَّى عن مبادئه الأصيلة، ويوم يسمع الأغنية معناه: أن نفسه ترغب في الفواحش، إلا من رحم الله.
والأغنية الماجنة ليس لها مكان في مجتمعنا، والأغنية الماجنة حرام أن تدخل بيوتنا، الأغنية الماجنة هدَّمت من الجيل ومن الشباب ما لم تهدمه قنابل الاستعمار وصواريخه وطائراته في سنوات كثيرة.
فما هو الحل؟ الحل الشريط الإسلامي أن يدخل البيت وأن يسمع ويشجع وينشر بين الناس، وقد علمت أن هذا المعهد المشيد اهتم بهذه الناحية، فلله الحمد وله الشكر والثناء الحسن، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أن القائمين عليه دعاة قبل أن يكونوا مديرين، وقبل أن يكونوا كذلك مسئولين كانوا علماء يقودون النشء والجيل، هذا أمر ينبه عليه.
وكذلك مما ينبه عليه: المجلة الخليعة التي أخذت مكان صحيح البخاري وصحيح مسلم، وبيت علم ليس فيه صحيح البخاري وصحيح مسلم، أو يتدارس هذا الميراث، ليس بيتاً على المستوى الذي يراد به في الإسلام.
إن الأصالة في علومنا هي قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم، إن العمق في رسالتنا أن تأتي الآية والحديث في الجلسة وفي الدرس.
العلم ما قيل فيه قال حدثنا وما سوى ذاك وسواس الشياطين
فأدخل بيتك قال الله، وأدخل بيتك قال رسول الله، وأدخل قلبك قال الله، وأدخل قلبك قال رسول الله حينها تسعد وتفلح تنجو من غضب الله.
أسأل الله لي ولكم توفيقاً وهدايةً ورشداً، أشكر الله تبارك وتعالى على أن أراني الوجوه وجوه سكان الحرم، أهل مهبط الوحي الذين أجدادهم حملوا الرسالة العالمية إلى الإنسان إلى أن بلغوها سمرقند وطاشقند ونهر اللوار وأسبانيا الأندلس المفقود، سلام عليكم مرة ثانية، وشكراً لمديركم ولأساتذتكم، وشكراً لكم، وأسأل الله أن يجمعني بكم مرة أخرى، وإن عز اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم وفي جنة عرضها السماوات والأرض إن شاء الله نسعد بكم، يوم يتقبل الله عنا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شِبْتُ في الرق فاعتقني من النار
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(332/17)
الأسئلة(332/18)
مقولة: (هذه سنن يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها) والرد عليها
السؤال
بماذا أرد على من أقول له: اتق الله وتمسك بسنة النبي صلى الله عليه وسلم ويرد بقوله: إن هذه سنن يثاب فاعلها ولا يُؤثَم تاركها، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم، هذا يتبع الرسول في أمور ولكنه لا يتبعه في أمور أخرى، فيأخذ شيئاً ويترك شيئاً وهذا من الخطأ البين.
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد خيراً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
إن على المسلم الذي رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً أن يتبع هذا الرسول عليه الصلاة والسلام، فوالله الذي لا إله إلا هو لا نجاة لك، ولا فلاح، ولا سعادة، ولا تفوق، ولا اتجاه، ولا استقامة إلا أن تتبع هذا الرسول عليه الصلاة والسلام {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] نسب إلى ابن تيمية أنه قال: من اعتقد أنه سوف يهتدي بهدى غير هدى الله الذي أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
يا إخوتي في الله! إن علامة من يترخص في السنن أنه سوف يقع في الترخص في الفرائض، وفي الإسلام خطوط ودفاعات ثلاث: الدفاع الأول: الفرائض، والدفاع الثاني: السنن، والدفاع الثالث: الآداب، فمن ترك الآداب عاقبه الله بترك السنن، ومن ترك السنن عاقبه الله بترك الفرائض، ومن ترك الفرائض ابتلاه الله بالكفر، فإذا رأيت إنساناً يخل بالسنن فاعلم أنه سوف يخل بالفرائض، وهذا معناه الترخص وهو شعبة من الفسق -نسأل الله العافية- أما أنت -يا أخي الداعية! - فعليك أن ترفق وأن تلين في دعوتك، وأن تسأل الله الهداية للمدعو، وأن تخبره أن من أتى بالصلاة هو الذي أتى -مثلاً- بتربية اللحية، وأن من أتى بالزكاة هو الذي أتى بتطهير الثوب، فليأخذ الإسلام جملة.(332/19)
الفتور وسلبياته
السؤال
فضيلة الشيخ/ عائض! والله إني أحبك في الله الواحد الأحد وبعد: فإني الآن صرت في فترة أعاني فيها من الفتور في كل شيء؛ في الدعوة والعبادة والزيادة في طلب العلم، وصرت أقترف من الذنوب ما الله به عليم، فما هي النصيحة التي توجهها إليَّ؟
الجواب
أحبك الله الذي أحببتنا فيه، أولاً: كلنا ذاك الرجل الذي تشكو منه أنت، وحلنا جميعاً أن نتوب ونستغفر الله عز وجل، ومما أوصيك به ونفسي ثلاثة أمور:
أولها: هذا القرآن أن تشفي به مرضك، وأن تجعله خدنك وأنيسك دائماً وأبداً، وأن يكون المصحف في جيبك، تقرأ منه صباح مساء، آناء الليل وأطراف النهار.
ثانيها: أن تبتهل إلى الله فإنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الفتاح العليم، وأن إذا سجدت تنادي بصوت خافت أن يفتح عليك، وأن تقول: يا مقلب القلوب! ثبت قلبي على دينك، ويا مصرف القلوب! صرف قلبي على طاعتك، وأن تدعوه بحرارة وبصدق، وبخشوع وبخضوع فسوف يفتح الله عليك، وتدعو في أدبار الصلوات وفي السحر وفي كل وقت، فسوف ترى الفتح من الله.
ثالثها: أوصيك بقراءة الحديث النبوي، وقراءة سير الصالحين من الصحابة والتابعين والأئمة كالإمام أحمد، وسفيان الثوري، وابن تيمية، وغير هؤلاء فإنهم سوف يشحذون - إن شاء الله - دينك ويوقدون جذوة الإيمان في قلبك، ويقودونك إلى صراط مستقيم.
ومن الأمور التي أوصيك بها: ألا ترافق الأشرار وأن تتخذ لك من الأخيار صحبة ترافقهم، فإن رفقة الشرير كالأجرب، فإن الجرباء تعدي الصحيحة، لكن ما سمعنا أن الصحيحة تعدي، أو تجعل الجرباء صحيحة.
أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سوياً في البضاعة
ثم قلل من كثرة المباحات التي تصرفك عن الطاعات، فكثرة المزاح وكثرة الخلطة وكثرة الكلام بغير ذكر الله تشغل القلب، وما دام أنك اعترفت بالذنب فأنت على صراط مستقيم.
في الترمذي قوله صلى الله عليه وسلم: {يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: يابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني إلا غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني، غفرت لك ذلك ولا أبالي، يابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} غفر الله لي ولك ولكل مسلم.(332/20)
معنى قول الله تعالى: وما قدروا الله حق قدره
السؤال
ما معنى قول الله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]؟
الجواب
معنى هذه الآية: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام:91]: أي ما أقاموا لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وقاراً وتقديراً كما ينبغي لجلاله ولعظيم سلطانه ولعظيم قدره، ونوح عليه السلام لام قومه على ذلك، قال: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:13] يعني: ما لكم لا توقرون الله، والتقدير والوقار معناهما: أن يكون لله عز وجل في قلبك من الهيبة والجلال والقداسة ما يستحقه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فإنه أعظم عظيم، وأجل جليل، فحق الله عليك أن تقدره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حق قدره، وأن توقره حق توقيره {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [الحج:30] {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] وهذا التقدير معناه: أن تقدر كل ما يتصل به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فتقدر وتحترم رسوله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وأسماء الله وكتابه وبيته، والمسجد وأولياء الله، وكل من له نسبة بالله عز وجل تقدره وتوقره؛ ليحبك الله وليجلك، ومن عظم الله عظمه الله، ومن استهان بشيء من حدود الله، أو بأسمائه، أو بصفاته؛ أهانه الله وأذله وقمعه وخسأه، نسأل الله العافية والسلامة.(332/21)
التوبة النصوح والنجاة من الرياء
السؤال
فضيلة الشيخ: كيف يتوب الشاب إلى الله التوبة النصوح، وكيف النجاة من الرياء؟
الجواب
أما التوبة النصوح فقد مر حديث عنها في الكلمة، لكن عليك إن تبت أن تكثر من الدعاء والنوافل وقراءة القرآن، وأن تشغل فراغك بالطاعات، فلا تأتي المعصية إلا في الفراغ.
والأمر الثاني: بالتخلية، ألا تنظر بعينيك إلى حرام، ولا تسمع أذنيك حراماً، ولا ترافق رفقة يقودونك إلى الحرام.
والأمر الثالث: عليك أن إذا استقمت وتوجهت أن تدعو الله كثيراً بالثبات، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم.
أما الرياء فلك فيه حلان:
الأول: أن تعتقد أنه لا ينفع ولا يضر إلا الله، لا يحيي ولا يميت إلا الله، ولا يرزق ولا يعدم إلا الله، ولا يحبب ولا يبغض إلا الله، ولا يقرب ولا يبعد إلا الله، فهو بيده النفع والضر سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فتتجه بعبوديتك إليه، وتطلب الأجر منه {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وصح عنه صلى الله عليه وسلم: {أن أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة: عالم، وجواد، وشجاع، يؤتى بالعالم، فيقول: لم تعلمت العلم؟ أما علمتك العلم؟ قال: نعم يا رب! قال: فما عملت فيه؟ قال: تعلمته لوجهك وعلمت الجاهل وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: إنما تعلمت ليقال عالم، وقد قيل خذوه إلى النار، فيجرجر على وجهه حتى يوضع في النار} فنعوذ بالله من ذلك، فهذا مبدأ لا بد أن يفهم.
الثاني: عليك بدعاء الكفارة الذي صح عنه صلى الله عليه وسلم لما شكا له الصحابة الشرك والخوف من الرياء، قال: {ليقل أحدكم: اللهم إني أعوذ بك من أن أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم}.(332/22)
نسيان القرآن وعقوبة ذلك
السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: ما مصير من حفظ أجزاء من القرآن ونسي منه بعض السور، أفيدونا أفادكم الله؟
الجواب
حفظ القرآن من أشرف الأعمال {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49] وفي أثر إلى عبد الله بن عمرو بن العاص القرشي: [[من حفظ القرآن فقد استدرج النبوة غير أنه لا يوحى إليه]] وعنه صلى الله عليه وسلم في حديث يقبل التحسين: {عرضت علي ذنوب العباد، فلم أجد أعظم ذنباً من رجل أوتي سورة من القرآن فنسيها، لا يقل أحدكم نسيت القرآن، ولكن يقول: نُسِّيت، فإن الشيطان هو الذي أنساه} وفي حديث في سنده نظر {من حفظ القرآن ثم نسيه، لقي الله وهو أجذم} قال أبو عبيد القاسم بن سلام: معناه: أقطع لا حجة له.
إخوتي في الله النسيان له أسباب إما أن يكون جبلي، وإما أن يكون كسبي، وأكثر ما نشكو حالنا إلى الله في الكسبي، وأكبر أسباب نسيان القرآن الذنوب والخطايا والمعاصي، ومنها: ترك مراجعة القرآن، وعليك بأربع وسائل في حفظ القرآن:
أولها: أن تتقي الله وتكثر من التوبة والاستغفار.
ثانيها: أن تقلل من المحفوظ الذي تحفظه.
ثالثها: أن تراجع هذا القرآن.
رابعها: أن تعمل به، وتصلي به في نوافلك وفي فرائضك، وتطبق ما سمعت من القرآن فإنه لم ينزل إلا للعمل، ولم ينزل لقضية السمر، أو للمتعة، حاشا وكلا.(332/23)
تطبيق أمور الشريعة مع ضيق الوقت
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته: إن طلبة العلم في هذا اليوم فيهم رغبة للعمل الصالح ولله الحمد، لكن لا يستطيعون أن يطبقوا كثيراً من الأمور التي يتعلمونها من أمور الشريعة لأسباب منها ضيق الوقت، وأنه لو عمل جميع ما علمه لما بقي وقت للطلب، فما هو العمل؟
الجواب
أولاً: مسألة الفرائض لا يعذر العبد على تركها أبداً، بل لا بد من القيام بالفرائض، ومن تركها فحكمه معروف لديكم ومفهوم.
يقول عمر فيما صح عنه: [[إذا أقبلت قلوبكم، فأكثروا من النوافل، وإذا أدبرت فألزموها الفرائض]].
والسنن الظاهرة لا يعذر طالب العلم ولا المسلم في التمسك بها، لأنها لا تحتاج إلى وقت، والسنن الظاهرة التي كان يقوم بها صلى الله عليه وسلم، أما مسألة النوافل فهي على الطاقة والجهد والوقت، لكن لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه} فأنا أدعوكم إلى الاقتصاد في العمل الصالح والمداومة عليه، فأنت لا تكلف نفسك فوق طاقتها {طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} [طه:1 - 2] لكن عليك بالقليل، وداوم وسوف تلقى الفتح والنجاح، والسعادة والنجاة في الدنيا والآخرة، قال أبو هريرة: {أوصاني صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهم حتى أموت: أن أوتر قبل أن أنام، وصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى}.
فعليك بالقصد والمداومة وسوف تلقى خيراً منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(332/24)
صفة المكر في القرآن
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم: ما معنى قول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران:54] مع علمنا بأن صفة المكر ليست من الصفات الحميدة، وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
ورد في القرآن وفي السنة آيات وأحاديث فيها بعض الصفات التي أتت على المقابلة، كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء:142] قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة:79] وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيرُ المَاكِرِين} [آل عمران:54] وقوله صلى الله عليه وسلم: {لا يمل الله حتى تملوا} وهذه فيها أقوال لأهل العلم منها: أن هذا على المقابلة، وليس معناها المكر الذي يعرف عند الناس، لأنه صفة مكر، ولا تنسب إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى صفة المكر، بل له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أعلى كل صفة وأحسنها، صفات الأولى من صفات الكمال والجلال والعظمة، قالوا: على المقابلة يعني لا يمل: لا يقطع ثوابه.
{وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ} [آل عمران:54] قالوا: ليس إلا للمقابلة، وليس مرادفه، لكن يحمل على المجاز، أما هذه الآية وغيرها فإني أكل علمها إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فهو الأعلم به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لكن الذي أعتقده ويعتقده أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل تنسب له صفات الكمال والجمال، لا نكيف ولا نمثل، ولا نعطل ولا نشبه، أما صفات النقص فننفيها عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما مالا نعلمه فنكل علمه إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ونؤمن به، فنعمل بمحكمه ونؤمن بمتشابهه.(332/25)
الطريقة المثلى للإخلاص
السؤال
ما هي الطريقة المثلى للإخلاص؟
الجواب
مر في مبحث الرياء: أن عليك أن تعرف أن الله هو النافع الضار، الخلاق العليم، الرازق المعدم، المحيي المميت، فتطلب الثواب من عنده، وفي صحيح مسلم: {أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا جمع الخلائق، قال: أين الذين أشركوا معي في عملهم لي؟ -أو كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى- اذهبوا إلى الذين كنتم تراءون فخذوا أجوركم منهم}.
ومر بالدعاء {اللهم إني أعوذ بك من أشرك بك شيئاً وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم} لكن عليك أن تعتقد هذا اعتقاداً جازماً، وأن تطالب نفسك بالإخلاص مع قراءة سيرة المخلصين كالأئمة والصحابة والتابعين وغيرهم.(332/26)
حكم الغناء الماجن
السؤال
ما رأي فضيلتكم في الغناء الغير ماجن؟
الجواب
الغير ماجن! ما هو الغناء الغير ماجن؟! ما أسكر كثيره فقليله حرام، كل هذا إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث، بل هذا بلغ أكثر من قلتين وهو خبث من أصله فهو خبيث من أصله، أما أن يقسم الغناء، ما بقي علينا إلا أن يؤتى غناء إسلامي وغناء غير إسلامي، ثم يتطور الحال نعوذ بالله من ذلك، فيأتي خمر إسلامي، وخمر غير إسلامي.
ليس في الغناء إلا غناء معروف، والغناء هو: ما أطرب وما هيج وما شجن، فالغناء كله حرام، ولا أعرف أن فيه حلالاً، لكن بعض الناس ترخص فيه، حتى بعض من تنسب إليه الفتيا ترخص في هذا الأمر وهو محجوج بالسنة، وكل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب ذاك القبر عليه الصلاة والسلام فهو المعصوم، وبضاعة لم تخرج من كيسه فيها شيء من غشش، ودراهم لم تخرج من مكانه، أو من داره عليه الصلاة والسلام فيها بهرج، فأنت عليك ألا تأخذ الكلام إلا من المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، ففي صحيح البخاري عن أبي مالك الأشعري قال: يقول عليه الصلاة والسلام: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف} واستحلالها معناه: كان محرماً فحللوه، والغناء محرم.
قال ابن القيم:
قال ابن عباس: ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خبية الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
إلى آخر ما قال
فمن سمع الغناء في الدنيا، حرمه الله الغناء في الجنة، وقد ثبت في مسند أحمد رحمه الله مرفوعاً: {إن في الجنة جواري يغنين يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، نحن الناعمات لا نبأس، طوبى لمن كنا له وكان لنا}.
ومضار الغناء
أولاً: أنه ينزع محبة الله عز وجل ومحبة رسولنا من القلب، ويأخذ وقت الذكر والقرآن، ويؤخر عن وقت الصلاة، ويحبب الفواحش، ويأتي بالوحشة، ويهيج الخيال عن الواقعية، حتى إن أهل الغناء دائماً يعيشون في خيال، تجد الناس مهمومين بمصيبة وهو يضحك ويطرب، تجد الناس مسرورين بمناسبة وهو في هم وغم؛ لأن عقله أصبح مثل عقل الفلاسفة، كما يقول الذهبي في عقل واحد من غلاة الصوفية ترك الطعام ثلاثة أيام -مثل أهل الغناء- قال: فرأيت صوراً جميلةً أمامي ما أدري أظنها صورة ملائكة، قال الذهبي: والله ما رأيت ملائكة، ولكن عقلك طاش وخاش وفاش.
فهؤلاء الذين يعيشون على الوتر والغناء والشريط الماجن والأغنية عقولهم خاشت وفاشت وطاشت، لا علم، لا أصالة، لا عمق، لا توجه، لا إدراك، لا فهم فقط المعشوقة والعشيقة وليلة كذا وليلة حمراء، وعلى جفون القمر، ومع النجم اللامع، ويوم تغرب الشمس، هذا الكلام المنفوش الذي لا يعتمد على أصالة، {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرض} [الرعد:17].(332/27)
الاستهزاء والسخرية بالشباب الملتزم
السؤال
فضيلة الشيخ: هناك أمر خطير يقع به بعض الشباب هداهم الله، وهو الاستهزاء بإخوانهم المتبعين لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم والملتزمين لمنهجه الصحيح فما هي نصيحتك لهؤلاء الشباب؟
الجواب
أنا أحيلهم على كتاب الله عز وجل، فإن الذي يستهزئ بالشباب الملتزم والمستقيم معناه يستهزئ بالإسلام، أتدري أيها المستهزئ بماذا تستهزئ؟ أنت تستهزئ بلا إله إلا الله محمد رسول الله، أنت تستهزئ بالقرآن، أنت تستهزئ بالرسالة الخالدة التي انبعثت من مكة، يعني كأنك تأتي بمعولك لتهدم صرح الإسلام، {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] كل شيء يُضحك منه إلا الإسلام حاشا وكلا، اقترب من كل شيء، أو داعب في كل شيء إلا في الدين، وفي هذه الرسالة، وفي هذا الصرح المنيع، وفي هذا الكتاب الخالد، وفي هذه السنة النبوية، وفي العلماء والدعاة والمتقين، حذار حذار! فهو العار والنار واللعنة {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] أناس في معركة تبوك أخذوا يضحكون ويمزحون ويستهزئون بالقراء، فأنزل الله على رسوله هذه الآية.
يا أيها الإخوة الأبرار! كلنا مجتمع واحد، نحن في الإسلام جمعية كبرى عضوها كل فاضل يتقي الله عز وجل، ليس ما عندنا مطاوعة وعصاة، ليس عندنا رجال دين ورجال دنيا، نحن كلنا ينبغي أن نطيع الله عز وجل، أما مسألة متطرفون، فهذه أنتجتها الصهيونية العالمية، رابين وشامير وموشي ديان، ووزعتها هيئة الإذاعة البريطانية العميلة للصهيونية، وقال: هؤلاء المتطرفون المتزمتون.
عجيب! متى كان شامير مفتياً يحلل ويحرم وتقبل فتواه، وأخذها السذج عندنا فكتبوها ونشروها، ووزعوها وبرمجوها، وقالوا: هؤلاء مطاوعة، وهؤلاء متزمتون، أئذا تمسك الإنسان واستنار صار متزمتاً؟! أئذا اهتدى صار متطرفاً؟! أئذا اتبع محمداً صلى الله عليه وسلم تطرف؟! أإذا أشرق قلبه وأشرقت روحه واهتدى وعرف الله تطرف؟! أما قبل كان متوسطاً، لا والله! بل المتطرف كل التطرف والهاوي على جرف هارٍ فانهار به في نار جهنم هم الذي لا يعرفون الله، ولا يعرفون القرآن، ولا يعرفون المسجد، وسوف يرون غداً.
سوف ترى إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار(332/28)
حكم ضرب الطلاب في المدارس
السؤال
فضيلة الشيخ: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أنا طالب علم ومدرس للقرآن الكريم، هل يجوز لي أن أضرب الطلبة الصغار للتعليم والأدب حيث قال لي بعض الإخوة: لا يجوز ضربهم.
وإذا قلت يجوز فما دليلكم؟
الجواب
أما مسألة أنك أستاذ قرآن فهذا شرف لك في الحياة الدنيا وفي الآخرة، حياك الله وحيا الله مهمتك، وأنت الآن في المقدمة وفي الدرجة الأولى في المسيرة إلى الله عز وجل {خيركم من تعلم القرآن وعلمه} وأما مسألة ضرب بعض الطلبة فلك ذلك، وهذا من باب التعزير، وهو باب مستقل بعد أبواب الحدود عند المحدثين والمفسرين والفقهاء، لكن لا بد في هذا التعزير من حكمة.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضرٌ كوضع السيف في موضع الندى
والتعزير يكون في حالة أن تكون المصلحة المترتبة عليه أكبر من المفسدة الجالب لها، وأنت لك أن تعزر هذا الطالب بشيء من الأدب، ولكن باختلاف الطلبة عندك، ولا تجعلهم في مقياس واحد، طالب مهذب مؤدب يخاف الله ويريد الله وما عند الله، وهو صادق في تعلمه، لكن أخطأ مرة، عثر جواده ونبأ سيفه، فلا تضربه ضرباً مبرحاً كضرب الحمير، هذا ليس من الأدب، وفي حديث حسن يقول عليه الصلاة والسلام: {أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم}.
قال ابن القيم: ليس في الحدود.
وذوي الهيئات هم: أهل القيم والأصالة والإبداع، والخير والهدي المستقيم، هذا إذا أخطأ مرة فقل: عفا الله عنك أأنت تفعل هذا؟!
تأخر عثمان رضي الله عنه وأرضاه يوم الجمعة، فقال له عمر: عثمان وتأتي في هذا الوقت! يقول: ليس غير عثمان! أنت عثمان على جلالتك وقوتك ومكانتك وتأتي في هذا الوقت، قال ابن القيم في مدارج السالكين: موسى عليه السلام أتى بالألواح فألقاها وفيها كلام الله- وهذا خطأ- وأتى إلى أخيه فجره بلحيته وهو نبي- وهذا خطأ- فالله غفر له ذلك، على حد قول الشاعر:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحد جاءت محاسنه بألف شفيع
أما طالب متهتك متهوك، مستهتر مستهزئ، فلك أن تؤدبه بشيء من التعزيز، لكن قد جعل الله لكل شيء قدراً.
القاضي يختار في تأديب الطلاب ألا تزيد عن أربعة أسواط، فلا يضربه أربعين سوطاً كأننا في حدود زنا أو خمر، بل يضرب سوطاً أو سوطين إلى ثلاثة أو إلى أربعة، فإذا وصلت إلى أربعة فأمسك، لكن بعضهم إذا ضرب سوطاً عن عشرة فله أجر عشرة أسواط يعني يضرب بنية صادقة وبإخلاص وبشجاعة وبإقدام كأنه يجاهد مع المجاهدين الأفغان، لكن عليك أربعة أسواط، لكن أسواط ليست على كيفك!(332/29)
قصيدة للشيخ/ عائض
السؤال
بسم الله الرحمن الرحيم، فضيلة الشيخ: هل تذكر لنا من قصائدك ما تروح به عن أنفسنا قليلاً وجزاكم الله خيراً؟
الجواب
من القصائد قصيدة المجاهدين الأفغان -على ذكر المجاهدين الأفغان- وقصيدة لسماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز، لأنه في صرح علمي، وإلا فهناك قصائد أخرى، لكن لما وجدنا في الصرح العلمي هذا حبذا أن نذكر قصيدة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز فهو علم ولا تحتاج الأعلام إلى تعريف، ونحن نتقرب إلى الله بحبه، وقد مدحه كثير من الشعراء والأدباء، وبعض طلبة العلم قال لي: سوف يصنف كتاباً اسمه الممتاز في مدائح الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز، وممن مدحه تقي الدين الهلالي عالم المغرب والمحدث الكبير حيث يقول:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل باز إنهم بالثنا أحرى
وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرا
ومن مدح المجذوب يقول:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلة فقلنا حديث الحب ضرب من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم
فلم أر بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
ولي قصيدة فيه جزاه الله خيراً اسمها" البازية" قلت:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعلٍ منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولع بإرجافي
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطلُّ في إشراقها الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصدافِ
وبالمناسبة هناك أرجوزة أريد ذكرها، لأن الشباب موجودون ونضع في كل مقام ما يناسبه، وأرواح الشباب لطيفة خفيفة ظريفة وهي تحتاج إلى بحر الرجز، وبحر الرجز خفيف ظريف لطيف، هذه الأرجوزة كانت في سفري إلى أمريكا اسمها أمريكا التي رأيت، سمعها الكثير منكم، لكن نعيدها ففيها معانٍ إسلامية - إن شاء الله - يستفاد منها:
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي ولي
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاً باكرا مشاركاً لحفلكم وشاكرا
وحملتنا في السما طيارة تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديك
يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا
وهذه أخبار هذي النشرة مسافة السير ثلاث عشرة
من الرياض عفشنا ربطنا وفي نيويورك ضحىً هبطنا
أنزلنا في سرعة وحطنا وقد قصدنا بعدها واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سيارة مستقبلين جهة السفارة
منزلنا في القصر أعني ريديسون يا كم لقينا من قبيح وحسن
في بلد أفكاره منكوسة تثقله بصائر مطموسة
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعة وما أعدوا لقيام الساعة
فهم قطيع كشويهات الغنم جد وهزل وضياع ونغم
فواحش قد أظلمت منها السما والأرض منها أوشكت أن تقصما
من قتل العمال في بولندا ومن أتى بالرق في يوغندا
من دمر البيوت في نزاكي من ضرب اليونان بالأتراك
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة
أما القبائح فأخذت إلى الشرق، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه ما صنعنا طائرة ولا سيارة ولا دفاية ولا ثلاجة.
أحد العلماء في مجلس يشرح الروض المربع في الفقه الحنبلي، بعض الشباب المتطور -المتدهور وليس المتطور- قال: يا شيخ! الناس صعدوا على سطح القمر وأنت تشرح الروض المربع، قال: نعم، لكنك الحمد لله لا درست الروض المربع ولا صعدت على سطح القمر، لأنه ما جلس معنا على الأرض ولا صعد معهم إلى القمر {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ} [النساء:143].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبيه صحبه أجمعين.(332/30)
نداء من نادي الشهيد
هذا الدرس خطاب إلى أصناف ثلاثة من الناس: الشيوخ، والشباب، والنساء، مخصصاً لكل صنف نصائح عظيمة، وفيه بيان ضرورة الإيمان في الحياة وحال الأمة بلا إيمان، وأن العلم والأدب والشعر لا ينفع بلا إيمان.(333/1)
حقيقة الشهيد
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله عليه وسلم، حامل لواء العز في بني لؤي، وصَاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المؤيد بجبريل، المعلم الجليل، صلى الله وسلم عليه كلما تضوَّع مسك وفاح، وما غرد حمام وصاح، وكلما سجى بلبلٌ وناح، وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
إن السلام وإن أهداه مرسله وزاده رونقاً منه وتحسيناً
لم يبلغ العشر من قول يبلغه أذن الأحبة أفواه المحبينا
أكرر سلامي ثانية وثالثة ورابعة بلا انتهاء؛ لماذا؟ لأنكم تركتم بيوتكم ووظائفكم وأعمالكم وتركتم كل ما يلهيكم وأتيتم إلى مجلس من مجالس الذكر؛ لأنكم جلستم تستمعون لـ (لا إله إلا الله) ولـ (قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم)؛ لأنكم جلستم هنا تعلنون أن الانتصار للإسلام، وأن البقاء للإسلام، وأن الفجر والمستقبل للإسلام، ثم لي عطفة وشكر لنادي الشهيد، ولي معهم وقفة، فشكر الله لهم أن فعلوا هذا وليس بغريب عليهم، فالأصل فيهم أن يفعلوا هذا، هم وجدوا من أبناء أناس يحملون لا إله إلا الله، هم أبناء قوم يسجدون لله، هم من أصلاب قوم شهدوا أن لا إله إلا الله، وزعوا لا إله إلا الله على البشرية، فهم أبناء خالد وصلاح الدين وطارق.
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عموداًَ
فليس بغريب أن يجمعونا ليسمعوا قول ربنا تبارك وتعالى، فلا والله ما خلقنا للعب، وما خلقنا للهراء، وما خلقنا للضياع، خلقنا أمة رسالة، ومبدأ، ومنهج.
أقول لأهل نادي الشهيد: مَن هو الشهيد؟ من هو الشهيد الذي جعلتموه عنواناً لناديكم ونسبتم ناديكم إليه؛ لأن الشهداء في الساحة كثير، أنا سمعت إذاعة شيوعية ملحدة تتبع لإذاعة موسكو -إذاعة استالين وماركس ولينين وهرتزل - أعداء البشر، سحقت الإنسان، وأكلته وقتلته، والمذيع يقول في أحد الشيوعيين لما قُتِل اغتيالاً: لقد ذهب الشهيد وحُمِل على الأكتاف إلى مثواه الأخير.
وسمعنا وقرأنا في بضع الصحف أن فناناً سَقَط من مكان فقالوا: شهيد الفن، وآخر سموه شهيد الأغنية، وثالث سموه شهيد المرأة، وشهيد الحب، وشهيد الجمال.
فمَن هو الشهيد يا أهل نادي الشهيد؟
الشهيد: هو الذي بذل مهجته لله، الشهيد هو الذي باع روحه من الله، الشهيد هو الذي سكب دمه في سبيل الله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ} [التوبة:111] يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الشهداء: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً} [النساء:69] فأنتم -يا أهل نادي الشهيد- كأنكم تريدون أن الشهيد هو الذي يرفع دينه، ويسجد لربه، ويبذل نفسه، ويبيعها من الله.
ثم أشكركم ثالثة لأنكم جعلتم هذا الجمع تحت سقف السماء ما أدخلتمونا بيتاً ولا صالة ولا قاعة، أجلستمونا هنا لنتفكر في آيات الله: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] فنحن نتأمل في هذه الليلة عظمة الباري، نحن نقرأ التوحيد هذه الليلة في النجوم وفي القمر في النسيم العليل وفي خضرة الأرض وفي الجبال التي تلوح يمنة ويسرة في كل شيء.
وفي كل شيء له آية تدل على أنه الواحدُ
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحدُ
فالآن أنا أدعوكم أن تأخذوا من بيوتكم درساً في التوحيد، وأن تنظروا إلى مَن رَفَع السماء، مَن زينها بهذه النجوم! مَن جملها! مَن أبدعها! مَن ركَّبها بلا عمد! وانظروا إلى الجبال مَن أرساها! مَن سواها، مَن صبَّها في أمكنتها! تبارك الله.
وانظروا إلى الخضرة مِن حولكم، فوالله إنها لآيات عجيبة! وإنها لفرصة أن تجددوا توحيدكم وإيمانكم وإخلاصكم وعقيدتكم.
في الصحيحين عن أنس قال: {قدم رجل من العرب - ضمام بن ثعلبة رضي الله عنه، قدم يريد توحيداً وإيماناً، ويريد أن ينجو بنفسه من النار- فلما تخطى الصفوف والرسول صلى الله عليه وسلم جالس بين الناس متكئاً قال: أين ابن عبد المطلب؟ - أي: الرسول عليه الصلاة والسلام - قالوا: هو ذاك الأبيض الأمهق المرتفق، قال: يا ابن عبد المطلب! قال: قد أجبتك، قال: إني سائلك ومشدد عليك في المسألة، قال: سل ما بدا لك.
قال: يا رسول الله! مَن رفع السماء؟ قال: الله، قال: مَن بسط الأرض؟ قال: الله، قال: مَن نصب الجبال؟ قال: الله، قال: أسألك بمَن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أرسلك إلينا رسولاً؟ فتربع وقال: اللهم نعم.
قال: أسألك بمَن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم.
قال: أسألك بمَن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال، آلله أمرك أن تأخذ من أغنيائنا صدقة فتردها على فقرائنا؟ قال: اللهم نعم.
فلما انتهى من أركان الإسلام، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنك رسول الله، أنا ضمام بن ثعلبة أخو سعد بن بكر، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص ثم وَلَّى، فقال عليه الصلاة والسلام: مَن سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا.
وفي لفظ: أفلح ودخل الجنة إن صدق}.
يا حبذا الجنة واقترابُها طيبة وبارد شرابُها
ويا حبذا النفوس المؤمنة، ويا حبذا الذين عرفوا الله ولقاء الله.
وكلمتي هذه الليلة أوجهها إلى ثلاثة أصناف: إلى الشيوخ الكبار، وإلى الشباب، وإلى النساء.
إلى الشيوخ، كبار السن، أهل الشيب، من انحنت ظهورهم، من امتدت فقراتهم، وتعبوا من الحياة، وملوا منها، ومن سئموا من أيامها.
وإلى الشباب، إلى الذين هم في أول الطريق، إلى الذين ترفرف نفوسهم، إلى الذين تلمح نفوسهم الشهوات، ويريدون أي شيء في الحياة.
وإلى النساء، إلى إماء الله في بيوت الله، لعل هذا الشريط أن يبلغ النساء، ولعل المرأة المسلمة أن تسمع هذا الشريط.(333/2)
نصائح للشيوخ
أما الشيوخ من آبائي، وأنا أراهم أمامي: فشكر الله لهم نفوسهم الشابة يوم جلسوا يجددون العهد مع الله وقد اقتربوا من القبور: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ} [فاطر:37] قال ابن عباس: [[هو الشيب]].(333/3)
التوبة إلى الله
فيا من أتاه نذيره في لحيته وفي رأسه! أما أتاك النذير؟ أما اقتربت من القبر؟ أما أصبحت قاب قوسين أو أدنى من حفرة مظلمة؟ ماذا فعلت في آخر الحياة؟ بماذا تختم صحيفتك؟ بماذا تلقى الله يوم العرض الأكبر؟
يا أيها الشيخ الكبير! ألا راجعت سجلاتك مع الله؟ ألا عدت إلى صحائفك مع الواحد الأحد؟ هل علمت أنك أخطأت في أول العهد؟ هل علمت أنك كذبت أو غششت أو زنيت أو قتلت أو رابيت؟ هل تبت إلى الله توبة نصوحاً؟
يقول سفيان الثوري أحد علماء الإسلام: [[من بلغ الستين سنة فليشترٍ كفناً]] ويقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {من بلغه الله ستين سنة فقد أعذر الله إليه} أي: قطع عذره وحجته، ما حجتك عند الله أيها الشيخ إذا لقيت الله؟ أتقول: يا رب! لو أمهلتني أتوب، إلى متى يمهلك؟! تقول: يا رب! لو أخرتني لعدت إليك، إلا متى يؤخرك؟!
فيا أيها الشيخ الكبير! اتقِ الله، واستغفر الله، وتب إلى الله واشتر لك كفناً.
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ
ويا حريصاً على الأموال يجمعها أقصر فإن سرور المال أحزانُ
من يتق الله يحمد في عواقبه ويكفه شر من عزوا ومن هانوا
فالزم يديك بحبل الله معتصماً فإنه الركن إن خانتك أركانُ
وقف شيخ كبير السن من بني إسرائيل أمام المرآة -وكان في عهد بعض الأنبياء- وقد عَبَدَ الله أربعين سنة، ثم أدركه الخذلان، فانحرف وعصى الله أربعين سنة، فلما أصبح في الثمانين نظر إلى المرآة فرأى شيبة في لحيته، قال: يا رب! أطعتك أربعين سنة، ثم عصيتك أربعين سنة، فهل تقبلني إذا عدت إليك؟ سبحان من عطاؤه ممنوح! سبحان من رزقه يغدو ويروح! سبحان من بابه مفتوح!
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزال مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
عند الترمذي بسند صحيح: {يا بن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا بن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا بن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة} فأتى هذا الشيخ وقال: يا رب! أطعتك أربعين سنة ثم عصيتك أربعين سنة فهل تقبلني إذا عدت؟ فسمع قائلاً يقول: أطعتنا فقربناك، وعصيتنا فأمهلناك، وإذا عدت إلينا قبلناك.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرارِ
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبتُ في الرق فاعتقني من النارِ
هل من شائب وشيخ كبير رأى لحيتَه؟ والله إن من أعظم النُّذُر ومن أعظم ما ينذركم بالموت والفراق: هذا الشيب.
مر الإمام أحمد، إمام أهل السنة والجماعة -رضي الله عنه، يحفظ ألف ألف حديث (مليون) - مر على شباب فقالوا: ما هذا الشيب يا أبا عبد الله؟ قال: والله ما مثَّلْتُ الشبابَ إلا بشيءٍ كان في إبطي أو في يدي ثم سقط مني.
وأبو العتاهية نظر إلى لحيته -هذا الزاهد الشاعر- فوجد الشيب قد غطاها فقال:
بكيت على الشباب بدمع عينٍ فلم يغن البكاء ولا النحيبُ
ألا ليت الشباب يعود يوماً فأخبره بما فعل المشيبُ
ماذا فعل بك؟!
أرقد روحك وأسكت قلبك، تشرب الماء لكن ليس له حلاوة وطلاوة كالماء الذي تشربه في الصبا، ترى الجمال فلا تهش للجمال، يومك قليل، وأكلك قليل، منزوي الظهر، محدودب الفقرات، فهل فكرت في تلك الحفر؟!
ومر شيخ كبير على شباب ولحيته بيضاء، فقال له بعض الشباب: مَن باعك هذا القوس؟ - يعني: اللحية البيضاء - قال: أعطانيه الدهر بلا ثمن، وسوف يعطيكم مثله بلا ثمن.
فيا أيها الشيخ الكبير: وصيتي لك تدور على أمور:
الأمر الأول: أكثر من التوبة والاستغفار، اجعل حياتك ونهارك وليلك توبة واستغفاراً، إذا اقتربت الركاب من مكة للحجاج هشت وبشت وأسرعت، وأنت اقتربت من وادي المنحنى، ومن الحفرة المظلمة، ومن لقاء الله، إذا اقترب أهل الوفادة من بيوتهم رأت رواحلهم بيوتهم فأسرعت، وكان صلى الله عليه وسلم إذا اقترب من المدينة آيباً هش وأسرع حتى يدخل المدينة فأنت على أبواب المدينة، اقتربت من دخول المدينة، إما جنة وإما نار {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].(333/4)
الزهد في الدنيا
الأمر الثاني: أن تقلل رغبتك في الحياة الدنيا، سلبت سمعك وبصرك وقوتك وأنت لا تزال تعمر حياتك:
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمرانُ
جربت الفقر والغنى، وجربت الجوع والشبع، فلم تجد كطاعة المولى، والله مهما أكلت وشربت ولبست لن تجد كتقوى الله، قال أحد الخلفاء من بني العباس: " أكلت الأكل بأنواعه، وشربت الشرب بأنواعه، ونكحت الحلال، وجلست في صدور المجالس، وطَقْطَقَتْ بي البغال، وصُفَّ الجيشُ أمامي، وافترحتُ بالنصر، وخَفََقَت البنودُ على رأسي، فما وجدت كتقوى الله تبارك وتعالى ".
فأوصيك أن تقلل وأن تخفف فإن وراءك عقبة كئوداً، وإن أمامك منحنىً خطيراً.
دُخِل على أبي ذر وهو شيخ كبير فما وجد في بيته ما عنده إلا شملة وعصاً وقعباً كالصَّحْفَة.
لكن انظروا إلى بيوتنا الآن! انظروا ماذا فعلنا في البيوت؟! كنبات، ومأكولات، ومشروبات، وثلاجات، وبرادات، وسيارات، ومفروشات، والعمل لا يرضي رب الأرض والسماوات، زَيَّنا الجدران، ولَمَّعنا الحيطان، وأكثرنا من النمارق، ولكن عملنا قليل: صلاة مغشوشة، وأموالنا - إلا من رحم الله - في الربا، والزنا فاشٍ، والغناء منتشر.
فوصيتي لك -أيها الشيخ الكبير- أن تتوب، وأن تقلل من الحطام.(333/5)
الحذر من شهادة الزور
الأمر الثالث: ألا تقرب شهادة زور من قبرك، فإنا رأينا وسمعنا بعض الشيوخ -نسأل الله العافية والسلامة- أنه لما اقترب من القبر ختم صحيفته بشهادة زور، بعضهم الآن أصبح في المحاكم الشرعية للبيع والشراء، يبيع دينه وذمته بألف ريال، يشترون شهادته، وهو ما حضر ولا نَظََرَ، ولا شَهِدَ ولا رَأَى، فيشهد بالله العظيم؛ فيحلل أموالاً حراماً لقوم، ويحرم أموالاً حلالاً لقوم، فأين الذمم؟! وأين الإيمان؟! شيخ كبير يفعل هذا؟! وبعضهم جعل مجلسه للغيبة والنميمة، إذا قلت له: قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، قال: ساعة وساعة.
لا.
ليست ساعة وساعة، بل ساعة وثلاث وعشرون ساعة، فيجعلون ساعة للصلوات وللعبادة لكنها مغشوشة، وثلاث وعشرون ساعة للمعاصي، كثير من المجالس غيبة ونميمة وزور وبهتان وتعرض لأعراض المسلمين، فنعوذ بالله من الخذلان في آخر العمر.
فيا شيوخنا! ويا كبارنا في السن! بمن نقتدي؟ وإلى من ننظر؟ أما رأيتم ما فعلت ذنوبنا وخطايانا ومعاصينا! ما نزل القطر ولا هطل المطر! بل جفت الآبار، وانقطعت الأمطار، وماتت الأشجار، وذبلت الأزهار، وغضب الواحد الجبار، كل يوم نخرج نستسقي ونجرب تجارباً كلها تبوء بالفشل؛ لأننا خرجنا إلى المصلى بقلوب قاسية، وثياب مبهرجة، سياراتنا من الربا، وملابسنا من الربا، وقصورنا ودورنا من الربا، ونسمع الغناء، ونهرج مع الغيبة والنميمة والفحش إلا من عصم ربنا، فعودة نصوحاً يا شيوخ الإسلام.(333/6)
نصائح للشباب
أنتم يا شباب الإسلام، وأنتم يا حفظة العقيدة، وأنتم يا أحفاد مصعب وسعد بن معاذ وسعد بن أبي وقاص وطارق وخالد، سلام الله عليكم، وشكراً لكم هذه الطلعات الإيمانية، لك الحمد يا رب أنْ أوجدت من شبابنا شباباً رفضوا الجاهلية، وقالوا لأهل الكرة: عندنا خير من الكرة؛ أن نسمع: (قال الله وقال رسوله صلى الله عليه وسلم) قالوا لأهل الغناء: عندنا خير من الغناء، أن نجلس في ذكر ما أنزله رب الأرض والسماء، قالوا لأهل الساعات الحمراء: عندنا خير من الساعات الحمراء؛ أن نجلس مع معلم الخير صلى الله عليه وسلم، فلك الحمد.
شباب الحق للإسلام عودوا فأنتم مجدُه وبكم يسودُ
وأنتم سر نهضته قديماً وأنتم فجرُه الباهي الجديدُ
أتى خالد بن الوليد وهو شاب فامتطى سيفه ليحطم رأس كل من لا يقول لا إله إلا الله، شاب جرى الإيمان في لحمه ودمه، شاب خاض مائة معركة، يقول شاعر النيل حافظ إبراهيم في خالد:
تسعون معركة مرت محجلة من بعد عشر بنان الفتح يحصيها
وخالد في سبيل الله مشعلها وخالد في سبيل الله مذكيها
وما أتت بقعة إلا سمعت بها الله أكبر تجري في نواحيها
ما نازل الفرس إلا فر نازلهم ولا رمى الروم إلا طاش راميها
فأنتم أبناء خالد بن الوليد وتعرفون في المساجد وفي الدروس وفي الندوات وفي حمل لا إله إلا الله، أما أتباع شامير ورابين وموشي ديان أعداء البشر فيعرفون في المسارح وفي الزنا وفي الربا وفي غضب الله ولعنته ومكره.(333/7)
وقفة مع الشباب
لي وقفة مع الشباب:
أولاً: أقول للشباب: ماذا تنتظرون؟ هل تنتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم؟ هل تنتظرون إلا لعنة الله، وغضبه، وأخْذ الله، ومقته، وعذابه؟
أقول لهم: ما لهم؟ أي حياة يعيشونها؟ أين يسيرون؟ في ماذا يقضون ليلهم ونهارهم؟
أقول لهم: ألا يتقون الله؟ جعلوا مصحفهم المجلة الخليعة! وتلاوتهم الأغنية الماجنة! ومسجدهم ملعب الكرة! أنا لا أحرم ملعب الكرة، ولا أحرم الكرة؛ لكن إذا بلغت إلى حدٍ تعارض فيه الصلاة وتلغي الصلاة وتكون تحزبات وولاءً لغير الله فإنها تكون غضباً وسحقاً ومحقاً.
إذاًَ فيا أولئك الشباب الغائبين الذين ما حضر منهم أحد: اتقو الله في مستقبلكم، اتقو الله في أمتكم، أما قرأتم التاريخ؟
مصعب بن عمير يأتي في جبة فيراه النبي صلى الله عليه وسلم فتدمع عيناه، ترك الدنيا وزهرتها ومناصبها، وسكب روحه في سبيل الله.
أنس بن النضر يقول له أحد الأنصار، وهو سعد بن معاذ: [[عُدْ إن الناس فروا، فقال: إليك عني يا سعد! والذي نفسي بيده! إني لأجد ريح الجنة من دون أحد]] ويُضرَب بثمانين ضربة في سبيل الله.
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وثوابا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لصاغها حلياً وصاغ الكنز والدينارا
ويأتي جعفر بن أبي طالب شاب قاتل الروم، فيأخذ الراية بيده اليمنى فتُقطع، فيأخذها باليسرى فتقطع، فيضم جناحيه على الراية وهو يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
والروم روم قد دنا عذابها كافرة بعيدة أنسابها
فيا شبابنا! يا أمل المستقبل! يا زهرة الغد! يا بسمة الفجر! لماذا هذا الإعراض عن (قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم)؟ أما رأينا ماذا فعل الله بالشباب الذين أعرضوا عنه؟ أصابهم بمقت من عنده وأصابهم بمرض، قال تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5].
فيا شباب الإسلام! أوصيكم بثلاث وصايا:(333/8)
طلب العلم وأهميته
الوصية الأولى: علم الكتاب والسنة: أن تقبلوا على العلم جادِّين، مثابرين، لا يفوتكم درس ولا محاضرة ولا كتاب إسلامي ولا شريط إسلامي، تحفظون أيامكم ولياليكم وساعاتكم مع الواحد الأحد، فإذا حفظتم أوقاتكم حفظكم الله من فوق سبع سماوات، ومن حفظ الله حفظه الله، ففي سنن الترمذي ومسند أحمد بسند صحيح: أنه صلى الله عليه وسلم قال لـ ابن عباس: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعت الأقلام وجفَّت الصحف}.
فيا إخوتي في الله، حفظ العلم وحفظ الوقت إنما يكون مع الله الواحد الأحد.(333/9)
الإقلاع عن المعاصي والتوبة من ذلك
الوصية الثانية: أوصيكم ونفسي بالتوبة من المعاصي، وبالرجوع عن الخطايا والذنوب، وباستغفار الواحد الأحد من السيئات؛ فإن الذنوب موبقات ومحبطات ولعنات والعياذ بالله، يقول الله في بني إسرائيل: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13] ابتلاهم الله بقسوة القلوب وباللعنة وبأنهم نسوا حظاً مما ذكروا به من العلم بسبب معاصيهم: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30].
فالله الله في حفظ الله والانتهاء عن المعاصي، حفظ الله في السمع والبصر، والفرج والبطن، واليد والرجل والجوارح، لا يزال العبد حافظاً لله حتى يحفظه الله، لا يزال العبد يتقي الله حتى ينجيه الله عز وجل، عين تنظر إلى الحرام لا تحرم عليها النار، أذن تستمع إلى الغناء قد يحرم عليها دخول تلك الجنة التي فيها كل خير وكل فضل وكل بركة.
فيا إخوتي في الله! عاقبة المعاصي وخيمة، وانظروا فعلها في كثير من الشباب الذين انحرفوا، الذين كثير منهم يسكن في مدننا وقُرانا وفي أريافنا، كثير منهم تركوا المساجد، تركوا الصلوات الخمس، عقوا الوالدين، وقطعوا الرحم، واستمعوا إلى الغناء، زنوا، ورابوا، وفَجَروا، حينها ضيَّع الله مستقبلهم، وأطفأ نورهم، وأذهب بركتهم، قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16].(333/10)
الاعتناء بالجليس الصالح
الوصية الثالثة التي أوصي بها شبابنا: اختيار الجليس الصالح، يقول عليه الصلاة والسلام: {مثل الجليس الصالح والجليس السوء كبائع المسك ونافخ الكير، فبائع المسك إما أن يحذيك من طيبه أو تشتري منه، ونافخ الكير إما أن تكسب منه رائحة منتنة أو يحرق ثيابك} وهذا الجليس الصالح، الشاب الصالح الداعية العالِم العابد الزاهد تكتسب منه خلقاً، وتكتسب منه ديناً، وتكتسب منه فضلاً، أما الشقي -والعياذ بالله- فلن تكتسب منه إلا بُعداً من الله، ولن تكتسب منه إلا غضباً من الواحد الأحد -نعوذ بالله- يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف:67] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101].
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه: [[تزودوا من الإخوان فإنهم ذخر في الحياة وفي الآخرة، قالوا: في الحياة صدقت، أما في الآخرة فكيف؟ قال: يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الكافرين والمنافقين والفجرة: {فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ * وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء:100 - 101] فلو كان له صديق صالح لنفعه]] وهذا استشهاد عجيب.
قال الشافعي وقد كتب للإمام أحمد مقطوعة من أحسن ما يكتب من الشعر يقول:
أحب الصالحين ولستُ منهم لعلِّي أنال بهم شفاعة
الشافعي يتواضع وهو العابد الزاهد يقول للإمام أحمد: إن من نعمة الله علي أني أحب الصالحين لكني لست من الصالحين، أما نحن فبإساءتنا وذنوبنا ومعاصينا نبرئ أنفسنا، يغضب أحدُنا إذ قيل له: يا بعيداً عن الله، والفَسَقَة يغضبون إذا قلت لأحدهم: يا فاسق، وقد فَسَقَ من سنوات، والفاجر فَجَرَ من عشرات السنوات، إذا قلت له: يا فاجر ذابَحَك وحاربك، والشافعي يقول:
أحب الصالحين ولستُ منهم لعلِّي أن أنال بهم شفاعة
وأكره من تجارته المعاصي ولو كنا سواء في البضاعة
يقول: والحمد لله أنا أكره العصاة ولو كنتُ من العصاة؛ أكره من يتعدى حدود الله، ومن ينتهك حرمات الله، ومن يستهزئ بشرع الله، إلى أن يقول في شعره:
تعمدني بنصحك في انفرادٍ وجنبني النصيحة في الجماعة
فإن النصح بين الناس نوع من التوبيخ لا أرضى استماعه
فإن خالفتني وعصيت أمري فلا تجزع إذا لم تُعْطَ طاعة
فرد عليه الإمام أحمد وقال:
تحب الصالحين وأنت منهم وهم بك يرجون الشفاعة
لأنه قرشي هاشمي ينتمي إلى لرسول صلى الله عليه وسلم، يقول: من داركم خرج البز الأبيض، ومن نهركم جرى ماء الحياة، ومن عُمْلتكم أتى الصيرفي الممتاز محمد عليه الصلاة والسلام، أنت تحب الصالحين وأنت من الصالحين، ومنكم قد أتتنا الشفاعة، من محمد صلى الله عليه وسلم.
يا إخوتي! لا يغتر مغتر بجلساء السوء -والعياذ بالله- أو الرضا بأفعالهم أو بزياراتهم، لا بهدف دعوتهم ولا بهدف التأثير فيهم، هذه كلمتي للشباب وسوف يكون لنا عودة معهم في دقائق.(333/11)
نصائح للنساء
أما النساء: فانظروا إلى واقعنا وواقع نسائنا، ونحن نشكو من واقعنا تجاه النساء، فما بلغتهن الدعوة كما ينبغي؛ لأن المرأة لا زالت تعيش جهلاً، والمرأة ما سمعت كثيراً: (قال الله، وقال رسوله صلى الله عليه وسلم) الشباب والرجال يجدون دروساً ومحاضرات ودعوات وكتباً وأشرطة، لكن نشكو حالنا إلى الله من جانب النساء أنهن - إلا من رحم ربك - في عزلة وضيق، في بُعد عن سماع النور أو عن كلمة الحق، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6].
وأنا أنادي أختي المسلمة بثلاثة أمور:(333/12)
تقوى الله في السر والعلن
الأمر الأول: أن تتقي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في الصلوات الخمس، وأن تحسن صلاتها خشوعاً وخضوعاً وركوعاً، وأن تتقي الله في عينها وفي سمعها وفي كل عضوٍ من أعضائها، وأن تعلم أنه سوف يعرضها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى للحساب: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم:93 - 95].(333/13)
طاعة الزوج
الأمر الثاني: أطالبها أن تطيع زوجها وأن تتقي الله في زوجها، وواجب زوجها عليها أن تحفظه في الغيب في نفسها وماله، وأن تتقي الله في غيابه وحضوره، وأن تطيعه في طاعة الله، وأن تقوم بخدمته، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، دخلت جنة ربها} فهنيئاً لتلك المرأة المسلمة.(333/14)
تربية الأبناء على الإيمان
الأمر الثالث: أسألها بالله العظيم أن تحسن تربية أبنائها، وأن تحسن تربية الجيل المسلم، وأن تربي أبناءها على طاعة الله وعلى ما يرضي الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، يقول شوقي:
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباًَ طيب الأعراقِ
الأم روض إن تعاهده الحيا بِريٍّ أورق أيما إيراقِ
فالمرأة المسلمة أُرْسِل إليها هذه الكلمة: أن تتقي الله في هذا الجيل الذي تربيه في البيت، ما هو واجبها؟ واجبها: أن تسقي ابنها (لا إله إلا الله) مع اللبن، واجبها أن تجعله ابناً مولوداً على الفطرة وعلى الإسلام، على التوجه إلى الواحد الأحد؛ لأننا في حاجة ماسة للإيمان.(333/15)
أهمية الإيمان في الحياة
أيها الإخوة الكرام! نحن أخذنا ملاذَّ الحياة، ولا ينقصنا من التقدم المادي شيء لكننا بحاجة إلى الإيمان، وإن كنا نحن الذين نهدي للناس الإيمان، ونحن الذين يخرج من أكياسنا ومن عملتنا ومن دارنا ومن جزيرتنا ومن مقدساتنا الإيمان؛ لكننا بحاجة إلى الإيمان وليس العلم فحسب.(333/16)
العلم بلا إيمان وخطره
فإن العلم بلا إيمان كفر وإلحاد، جاء أتاتورك في تركيا فأبطل الخلافة، أتى بالعلم ولكنه كفر بالإيمان والقرآن، واعتدى على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم في أول خطاب ألقاه على الجماهير، وأتى بـ العلمانية، علم وإلحاد ينقصه إيمان يساوي أتاتورك.
غاندي في الهند أتى بالعلم لكنه كفر بالإيمان فأبطل الله مسعاه، وأصبح ممقوتاً من الصف الإسلامي.
وغيره وغيره كثير كـ هتلر قاتلِ الشعوب وعَدُوِّ الإنسانية، ونابليون.
أما محمد عليه الصلاة والسلام فأتى بالإيمان والعلم: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19].
الأعرابي البدوي الذي يرعى ناقته في الصحراء علمه صلى الله عليه وسلم أن لا إله إلا الله، مرُّوا بأعرابي يصلي في الصحراء فقال له أحد الملحدين: لمن تصلي؟ قال: لله، قال: هل رأيته؟ قال: سبحان الله! الأثر يدل على المسير، والبعرة تدل على البعير، وسماء ذات أبراج، وليل داج، ألا تدل على السميع البصير؟! إي والله تدل على السميع البصير.
إمام أهل السنة والجماعة الإمام أحمد يقول له أحد الزنادقة الملاحدة: دلنا على دليل قدرة الباري، قال: بيضة الدجاجة -قاتلك الله- أما سطحها ففضة بيضاء، وأما باطنها فذهب الإبريز، تفقس فيخرج منها حيوان سميع بصير ألا تدل على السميع البصير؟! بلى.
تدل على السميع البصير.
سَلِ الليلَ: مَن كساه الجلباب؟
وسَلِ النجومَ: مَن جمَّلها؟
وسَلِ السماءَ: مَن رفعها؟
وسَلِ الزهرةَ: مَن أنبتها وشذَّاها؟
سَلْ كلَّ شيء.
اسمع إلى شاعر السودان، والحمد لله أن وجد في ساحتنا الإسلامية من الشعراء المؤمنين الذين يحملون لا إله إلا الله، شاعر السودان إبراهيم بدوي كان عبداً صالحاً لله، يصلي الصلوات الخمس، عرف طريقه إلى الله؛ لأنه يوجد في الساحة شعراء فجرة استخدموا الأدب لكن في عداء الإسلام، وفي عداء محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الاستهزاء بالقرآن وبالمقدسات، أما شاعر السودان فيقول في ابتهالاته:
بك أستجير ومن يجير سواكا فأجر ضعيفاً يحتمي بحماكا
أذنبت يا ربي داهمتني ذنوب ما لها من غافر إلاَّكا
إبليس يخدعني ونفسي والهوى ما حيلتي في هذه أو ذاكا
ثم نظر إلى الكون وتأمل الحياة وقال وهو يعلن التوحيد:
قل للطبيب تخطفته يد الردى من يا طبيب بطِبِّه أرداكا
من؟! اللهَ!
قل للمريض نجى وعوفي بعد ما عجزت فنون الطب من عافكا
من؟! الله!
وقل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاكا
الله ضرب النحل مثلاً، والنمل مثلاً، والبعوضة مثلاً، قال سبحان وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة:26] وقال في النمل: {قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} [النمل:18] وقال الله للنحل: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68].
يقول كيريسي موريسون العالِم الأمريكي في كتاب الإنسان لا يقوم وحده وهو مترجَم ونَقََلَ منه سيد قطب مقطوعات يقول: ما للنحلة تخرج من خليتها وتعود في الظهيرة بشذا الزهر؟! مَن علَّمها الخلية؟! أعندها جهاز أو إيريال؟! قال سيد قطب: لا ليس عندها جهاز ولا إيريال، ولكن الذي خلقها أوحى إليها ودلَّها وعلَّمها {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل:68].
فيقول شاعر السودان:
وقل للنحل يا طير البوادي ما الذي بالشهد قد حلاكا
الله!
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
فالحمد لله الجليل لذاته حمداً وليس لواحد إلاَّكا(333/17)
الوصية بحفظ الله تعالى
وطلبنا لجميع الثلاثة الأصناف الذين تكلمت معهم الليلة وهم الشيوخ الكبار في السن، والشباب، والنساء، طلبُنا لهم أن يحفظوا الله، فالله يقول: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ} [إبراهيم:24] ثم قال بعدها: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].(333/18)
احفظ الله يحفظك
إن الذي يحفظ الله في شبابه يحفظه الله في شيخوخته.
يروى أن أبو الطيب الطبري عالم شافعي بلغ الثمانين من عمره، أتى إلى السفينة فقفز من السفينة إلى الشاطئ، فأتى الشباب ليقفزوا فما استطاعوا، قالوا: كيف تستطيع وأنت شيخ ولا نستطيع ونحن شباب؟! قال: هذه أعضاء حفظناها في الصغر فحفظها الله لنا في الكبر.
وحدثنا بعض دعاة الجزائر - البلد المسلم التي قدمت مليوناً من قتلاها يوم سحقت مليوناً من أعداء البشر من الفرنسيين -أن داعية من المسيلة وهي بلد في الجزائر شاب عرف الله، شاب اهتدى إلى الله، لا يغادر مصحفُه جيبَه، الصلوات الخمس ما يفارقها ولو يفارق رأسُه جثتَه، انقلبت به سيارته وهو في طريق من مدينة إلى مدينة، وأصبح في الرمق الأخير وهو في سكرات الموت أغمي عليه أربعة أيام، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما ترك قراءة الفاتحة لحظة واحدة ليلاً ونهارًا مدة أربعة أيام ثم توفي، لأنه عاش على الفاتحة، ومات بمعاني الفاتحة، ويدخل قبره على الفاتحة، ويحشر يوم يُحشر الناس على الفاتحة.(333/19)
جزاء من لم يحفظ الله
في مناطقنا شاب -وقد شهدها شهود عيان- وُجِد في حادث انقلاب سيارة ومسجلته تصدح بأغنية، والمغنية تقول: هل رأى الحبُ سكارى مثلَنا؟
وهو في الرمق الأخير يردد: هل رأى الحبُ سكارى مثلَنا؟
ما رأى الحب أفشل منكم في الحياة، ولا رأى مثلكم سكارى: {سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
يقول ابن القيم في كتاب الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي: أتوا إلى رجل ماجن في سكرات الموات يقولون له: قل لا إله إلا الله، قال:
يارب سائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجابِ
قالوا: قل لا إله إلا الله، قال:
يارُب قائلة يوماً وقد تعبت أين الطريق إلى حمام منجابِ
وقال ابن أبي الدنيا: قيل لأحد التجار: قل لا إله إلا الله، قال: خمسة في ستة كم تصير؟ سوف تعرفها إذا بعثر ما في القبور، وحصل ما في الصدور.
القضية: كيف نحفظ الله؟ وكيف نتوصل إلى أن نعيش؟ لأن المسألة ليست مسألة مناصب ولا وظائف ولا مسألة مال، إن كانت المسألة مسألة مناصب ففرعون طَمَّ وعَمَّ في المنصب العالي فقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه.
وإن كانت المسألة مسألة مال، فـ قارون أخذ أموال الدنيا وأخذ مفاتيح الدنيا قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ} [القصص:81].
إذاً: المسألة التي أتى بها صلى الله عليه وسلم مسألة إيمان، أوصلها إلى القلوب، بالله عليكم من يستطيع بغير إيمان أن يفعل كفعل الصحابة؟
عمير بن الحُمام، أحد شباب محمد صلى الله عليه وسلم يأتي في معركة بدر فيرى الكفار ويأخذ تمرات يأكلها من الجوع، فيقول صلى الله عليه وسلم: {والذي نفسي بيده! -يا أهل بدر - قد اطلع الله عليكم، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم، والذي نفسي بيده! ما بينكم وبين الجنة إلا أن يقتلكم هؤلاء فتدخلون الجنة، قال: يا رسول الله! ما بيننا وبين الجنة إلا أن يقتلنا هؤلاء وندخل الجنة؟ قال: إي والذي نفسي بيده، فألقى التمرات وقال: والله إنها لحياة طويلة لو بقيت لآكل التمرات، ثم أخذ غمد سيفه وكسره على ركبته وقال: اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى} فأخذ الله من دمه.
يجود بالنفس إن ظن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود
ننتصر بالإيمان، ونثبُت في الساحة بالإيمان، ونقاوم الأعاصير والأحداث بالإيمان، ونحمي مقدساتنا بالإيمان.
أمَا رأيت الدب الأحمر كيف يزحف منخسئاً خاسراً ذليلاً؟! أما رأيت كيف تنهزم طائراته وصواريخه ودباباته وقنابله أمام الكلاشنكوف؟! لماذا؟ لأنهم قالوا: حسبنا الله ونعم الوكيل.
فرَّ موسى عليه السلام من فرعون ووراءه ما يقارب مليوناً من جيش فرعون، والبحر أمامه، الموت الموت، قالوا: أمامك البحر وخلفك فرعون، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فشق الله له طريقاً في البحر يبساً.
إبراهيم عليه السلام، أتوا به إلى النار المحرقة فألقوه فيها، قال: حسبنا الله ونعم الوكيل، فما أصابه شيء.
محمد صلى الله عليه وسلم أتاه الأعداء من كل جانب فقال: حسبنا الله ونعم الوكيل {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:174].
والآن يشهد العالَم انتصار المجاهدين الأفغان، وانتصارهم انتصارٌ لشعبنا ولأمتنا ولبلادنا، ويشهد العالَم كل العالَم هزيمة روسيا، لماذا؟!
لأن المجاهدين خرجوا متوضئين صائمين مصلين، قيل لهم: تعالوا إلى هيئة الأمم المتحدة، قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ هيئة الأمم المتحدة، قيل: تعالوا إلى مجلس الأمن، قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ مجلس الأمن، قيل: تعالوا إلى جنيف، قالوا: آمنا بالله وحده وكفرنا بـ جنيف، ونزلوا يقاتلون ويصبرون ويجاهدون.
في جحفل من بني الأفغان ما تركت كراتهم للعدا صوتاً ولا صيتاً
قوم إذا قابلوا كانوا ملائكة حسناً وإن قاتلوا كانوا عفاريتاً
وانسحب الملحد يضحك على نفسه، واقترب فتح كابول {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء:97] فمن أراد أن ينتصر فلينتصر بالإيمان: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ} [آل عمران:160] وإسرائيل لما افتقرت الساحة لجيش مؤمن عربدت يميناً وشمالاً.
وإن شاء الله أن هذه الانتفاضة مؤمنة مسلمة تشهد أن لا إله إلا الله، لكن ثلاثين سنة ما عرف شامير الكلاشنكوف الموحِّدة والسجدات المفردة واللمعات المؤمنة والوضوء واللجوء إلى الله: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] وقال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} [آل عمران:126] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران:173 - 174].
قد كنت في مناسبة أدعو كل فلسطيني على وجه الأرض أن يأخذ من أفغانستان درساً لا ينساه؛ فإن فلسطين لن تتحرر إلا بـ (لا إله إلا الله) وبيت المقدس لا يعود إلا بـ (لا إله إلا الله) ولا يعود لحظيرة الإسلام ومجد الإسلام إلا يوم يأتي أبناؤه يرفعون علم لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن الذي باع الحياة رخيصةً ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
أمْ مَن رمى نار المجوس فأطفأت وأبان وجه الصبح أبيض نيِّرا(333/20)
حفظ الله في الصلاة
أقول: إن من أعظم ما نحفظ الله به سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الصلوات الخمس، وفي بعض المذكرات الموجودة في الساحة أن بعض الجيوش العربية لما دخلوا فلسطين لقتال إسرائيل قال أحد القادة المشهورين في الدول العربية - لما قيل له: نصلي الظهر قبل المعركة -: لا.
الظهر إذا رجعنا إلى بلادنا، بَلاش رجعية في هذا المكان، فأخذه الله أخذ عزيز مقتدر، والذي لا يعرف الله يسلط الله عليه من لا يعرفه، فر هذا القائد بنفسه وترك جزمته في إسرائيل.
يقول شاعر اليمن أعمى القلب والبصر:
فأطفأت شهبَ الميراج أنجمُنا وشمسُنا وتحدت نارَها الخطبُ(333/21)
حالة الأمة بلا إيمان
لا نصر لنا ولا بقاء ولا استمرار إلا بالإيمان، بحث الناس عن السعادة ووالله لن يجدوها إلا في كتاب الله وفي سنة الرسول عليه الصلاة والسلام، يقول الله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
وقال تعالى: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:33 - 35].
أمة بلا إيمان قطيع من الضأن، وعين بلا إيمان مقلة عمياء، وقلب بلا إيمان كتلة لحم، وكتاب بلا إيمان كلام مصنف، ولذلك لا يستنفع المواهب بلا إيمان، نحن لا نريد شعراء فحسب لكن نريد شعراء مؤمنين، ولا نريد علماء فحسب لكن نريد علماء مؤمنين، العالم إذا لم يكن خاشياً لله كان مثل ابن باعوراء عالم اليهود: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في علماء بني إسرائيل مَثَلُهُم {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] حمارٌ عليه مجلدات على ظهره، يقول شاعر على لسان حمار توما الفيلسوف الأحمق:
قال حمار الحكيم توما لو أنصف الدهر كنت أُرْكَبُ
لأنني جاهل بسيط وصا حبي جاهل مُرَكَّبُ(333/22)
الإيمان والأدب والشعر
إذا عُلِم هذا فلا ينفع العلم إلا بإيمان، والشعر والأدب لا ينفع إلا بإيمان، ولذلك أتى شعراء فطاحل من أقوى الشعراء في العلم لكن ملاحدة زنادقة.
أبو العلاء المعري من أكبر الشعراء- اسمه سليمان بن أحمد- يناجي الليل، شعره كالسحر الحلال يقول في منظومة استلطفها ابن القيم والذهبي:
يا راقد الليل أيقظ راقد السمر لعل في القوم أعوان على السهر
يود أن ظلام الليل دام له وزِيدَ فيه سواد السمع والبصر
ليته اكتفى بهذا الجمال وليته سكت؛ لكنه اعترض على الشريعة يقول وهو يستهزئ بالقرآن والسنة:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار
بعد ماذا يا ملحد تستجير بمولاك؟ بعد أن استهزأت بالشريعة؟ يقول: كم دية اليد؟ قالوا: خمسمائة دينار ذهباً، قال: في كم تُقَْطَع؟ قالوا: في ربع دينار، قال:
يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له ونستعيذ بمولانا من النار
فرد عليه علماء السنة وشعراء أهل السنة بيَّض الله وجوهَهم.
يقول الشاعر عبد الوهاب المالكي راداًَ عليه بِرَدٍّ يدمغه ويسحقه يقول:
قل للمعري عار أيما عاري جهل الفتى وهو عن ثوب التقى عار
لا تقدحن بنود الشرع عن شبهٍ شرائع الدين لم تقدح بأشعار
فأخذ الله أبا العلاء أخذ عزيز مقتدر: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] لكن تعال إلى الشاعر الموحد أبي نواس، وحَّد الله في شعره، رؤي في المنام بعد أن مات، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: بثلاثة أبيات قلتها في النرجِسة - النرجِسة: زهرة جميلة تأتي في الحدائق - يقول أبو نواس:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
فغفر الله له بذلك وأدخله الله الجنة.
يقول كعب بن مالك في قصيدة له وقيل: هي لـ ابن رواحة يسب قريشاً وينتصر للإسلام:
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغلب الغلاب
قريش إذا أرادت العرب أن تسبها تسميها سخينة، فيقول كعب بن مالك: يا سخينة! أتغلبين الله؟!
زعمت سخينة أن ستغلب ربها فليغلبن مغلب الغلاب
{فتبسم صلى الله عليه وسلم بعد حين وقال: يا كعب! نزل جبريل يقول: إن الله يشكرك على ذاك البيت}.
فيا أهل الإبداع! ويا أهل الأدب! ويا أهل القصص! ويا أهل الشعر! ألا تريدون أن تدخلون الجنة بالشعر؟
حسان يقرب له صلى الله عليه وسلم المنبر ويقول له: {اهجهم وروح القدس معك} أي: جبريل، فيقول حسان:
وبيوم بدر إذ يصد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد
فيشكر الله له ويكون قائد الشعراء إلى الجنة.
لكن حداثي مستهتر من أبناء بلدنا وأمتنا، استنشق هواء جزيرتنا، وشرب ماءها، وجلس تحت سمائها، وتظلل تحت أشجارها، يقول في المربد في بغداد سافر إلى هناك يقول في معنى قصيدته:
جزيرتنا ما رأت النور منذ ألقى عليها رداءه الهاشمي، من هو الهاشمي يا عدو الله؟ الهاشمي: هو الذي أخرج الجزيرة من الظلمات إلى النور، الهاشمي: هو الذي رفع لا إله إلا الله في الأرض، الهاشمي: هو الذي مرت كتائبه إلى المحيط الأطلنطي، الهاشمي: هو الذي قُتِل أصحابُه في طاشقند وسمرقند ليرفع العدل والسلام في العالم، الهاشمي: هو الذي أتى إلينا نحن الأمة الأعرابية المتخلفة الرجعية البدوية، طويلة الأظفار منتنة الرائحة فأخرجنا إلى النور فأصبحنا ملوكاً للدنيا:
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار مِن خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبت الكنوز فكسرت أغلالها
لما رآها الله تمشي نحوه لم تبتغِ إلا رضاه سعى لها
فأمدها مدداً وأعلا شانها وأزال شانئها وأصلح بالها
{هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2].
قال الأستاذ النبيل البارع علي الطنطاوي بيض الله وجهه في كتابه قصص من التاريخ فصلاً يبكي القلوب قبل العيون يرد به على الملاحدة، يقول: " نحن المسلمين، سلوا كل سماء في السماء عنا، وسلوا كل أرض في الأرض عنا، نحن المسلمين، سلوا عنا نهر الجانج واللوار، وصحراء سيبيريا من بنى منبر العدل، من أطلق عنان الإنسانية، من حطم كيان الطاغوت، من نشر البراء في العالَم، نحن المسلمين، منا أحمد ومالك والشافعي وأبو حنيفة وابن تيمية وابن القيم، نحن المسلمين، منا حسان وابن رواحة وأبو تمام والمتنبي ومحمد إقبال، نحن المسلمين، منا خالد وسعد وطارق وصلاح الدين وعقبة بن نافع ".
إلى آخر تلك المقالة التي تكتب بماء الذهب، وهو رجل إذا كتب فكتابته سحر حلال، وهي أقوى من كلامه إذا تكلم، بل هو أديب العربية لا طه حسين، فعدو الله ذاك ليس بأديب العربية؛ لأنه تزندق في كتاباته ويقول: بدر وأحد وقعت بين قبائل عربية لأحقاد بينها في الجاهلية، واستهزأ بكثير من معاني الإسلام، فليس بـ عميد الأدب العربي ولا كرامة؛ بل عميده مثل هذا الأديب الصادق، مثل سيد قطب ومحمد قطب وأبو الأعلى المودودي وأبو الحسن الندوي، أولئك الصفوة المختارة التي عرفت الكتاب والسنة وسجدت لله الواحد الأحد.
فأنا أدعو نفسي وإياكم بالإيمان، اصدقوا الله في قلوبكم وفي أفكاركم وفي أقلامكم وفي منشوراتكم وفي خطبكم، ويوم نوفق إلى الطريق ويوم يرزقنا الله إيماناً ملوكاًَ ومملوكين، ورؤساء ومرؤسين، وأمراء ومؤتَمِرين، وأدباء ومتأدبين؛ حينها تسعد الحياة ونكون خير أمة أخرجت للناس، حينها نكون مجتمعاً مثالياً: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران:110].
أيها الإخوة! أكرر شكري لكم وأسأل الله أن يحفظني وإياكم بحفظه وأكرر شكري ثانية لنادي الشهيد الذي استضاف هذا الجمع هذه الليلة، وشكراً لأمير هذه المنقطة الذي حضر، ومعنى حضوره أنه شجع انتصار الكلمة المؤمنة والدعوة الصادقة والرسالة القائمة لتسعد هذه البلاد ويسعد هذا الشعب، ويكون هذا الجيل جيلاً موحداً، جيلاً يعرف الله ويسجد لله ويحمي مقدسات الله عز وجل، فإن نجاتنا بالإيمان وسعادتنا بالإيمان.
آخيتمونا على حب الإله وما كان الحطام شريكاً في تآخينا
إن السلام وإن أهداه مرسله وزاده رونقاً منه وتحسينا
لم يبلغ العشر من قول يبلغه أذن الأحبة أفواه المحبينا
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
وما بقي من وقت فلبعض الأسئلة، ثم نقوم للصلاة، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(333/23)
الأسئلة
.(333/24)
سلمان رشدي وكتابه آيات شيطانية
السؤال
ما رأيك في كتاب سلمان رشدي المسمى: آيات شيطانية وذلك أن الخميني أباح دمه والأزهر يرفض هذا إلا بعد المناقشة والبينة؟
الجواب
سلمان رشدي هندي، وهو يحمل الجنسية البريطانية ويقيم في لندن، وله مقالات ومنشورات وهو أديب وله لغات، وقد كتب هذا الكتاب لكن علماء أهل السنة لا يزالون يتوقفون حتى تأتيهم البينة؛ لأن مصادر الأخبار هي: هيئة الإذاعة البريطانية، والإذاعات العالمية، وسمعتم أن الخميني أباح دمه، وهذا لا يعني أن ذلك بسبب استهزائه بالرسول صلى الله عليه وسلم في الكتاب، فقد يستهزئ بأهل البدعة وأهل الرفض، وهذا أمر آخر، وقد يكون استهزأ بالرسول صلى الله عليه وسلم والملائكة والدين فهذا أمر آخر، كذلك علماء الأزهر توقفوا ليقرءوا الكتاب ويَرَوه، وكذلك علماء السنة حتى يروا ما هي المداخل على هذا الكتاب، ولذلك في آخر جمعة خطبها الرئيس علي خامنئي يقول: إنه سوف يعفي عنه إذا رجع عن كتابه.
لكن نقول: كل منشور وكتاب وكل مقالة لا بد أن تُرَى وتُبْصر، ولا يؤخذ بالأخبار الشائعة والإعلام حتى يُقرأ ويُنظر ما فيه، وهو الآن يسحب من المكتبات العالمية لكن لا يكفي سحبه، إنما يحاكَم هذا الرجل بعد أن يدرَك ما في هذا الكتاب، وماذا قال فيه، وهنا مسألتان:
1 - مسألة التثبت فيما قيل.
2 - مسألة ما هي مصادر التثبت؟
فالتثبت قال فيه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات:6] ومصادر التثبت الشهادة والرؤية والثقة، وأما هذه الهيئات في العالم فإنما هي مجرد أخبار ولها مصالح، ولكن إذا تواترت قد يُسْتأنس بأخبارهم، هذا أمر.(333/25)
حكم الغناء في الإسلام
السؤال
ما حكم الغناء في الإسلام؟ وما هو الغناء الماجن؟
الجواب
الغناء في الإسلام على القول الصحيح من كلام أهل العلم - وهم الجمهور الذين يمتلكون أدلة - أنه محرم، وقد استدلوا بآيات وأحاديث منها: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحِرَ والحرير والخمر والمعازف} واستحلالها يكون بعد التحريم، وصح عنه صلى الله عليه وسلم عند ابن خزيمة وغيره أنه قال: {إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة، وصوت عند مصيبة} قالوا: الصوت عند النعمة هو: الغناء، والصوت عند المصيبة هو: النياحة، قال ابن القيم في غناء أهل الجنة لأنه في مسند الإمام أحمد بسند جيد: {إن في الجنة نساء يغنين يقلن: نحن الخالدات فلا نبيد، ونحن الناعمات فلا نبأس، طوبى لمن كنا له وكان لنا} قال ابن القيم ناظماً هذه في المنظومة الطريفة:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإ نسان كالنغمات في الأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
يقول ابن تيمية: الغناء بريد الزنا، وهو يحبب الفاحشة ويكره إلى العبد ذكر الله، وتلاوة كلامه، والأنس بالدعاء، ومناجاة الله، وأثبت ابن القيم في إغاثة اللهفان أنه من أخطر ما يكون على القلوب، وأنه يؤسس الجريمة في القلب، نسأل الله العافية والسلامة.(333/26)
صلاة الجماعة حكمها وأهميتها
السؤال
الصلاة في المساجد وصلاة الفجر هل من كلمة حولها؟
الجواب
نعم.
قد اتفقنا من قبل أن أكبر ما نحفظ به الله الصلوات الخمس: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45] ويوم يُتهاون بالصلوات؛ حينها يعم الربا والزنا والفحش والجريمة وتعاطي الحبوب المخدرة والسكر والبعد والفجور عن الله عز وجل.
فالصلوات الخمس جماعة هي التي تنجيك وتصفي قلبك وتحفظك مع الله، وأولها صلاة الفجر يوم يستيقظ الناس، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم عند مسلم أنه قال: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه في ذمته بشيء فأدركه كبه على وجهه في النار} الحديث، الله الله في الصلوات جماعة، فإنها من أعظم الأعمال ومن ترك الصلاة فقد كفر: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} وبرئت منه الذمة وأصبح دمه حلالاً.(333/27)
التوبة وعدم اليأس
السؤال
هل من تعليق على قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر:53]؟
الجواب
جزى الله خيراً من ذكَّر بالتوبة، فنحن جلسنا هنا مذنبين ونقوم مذنبين، ونمسي مخطئين ونصبح مخطئين: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] فيا من عطاؤه ممنوح، ويا من نواله يغدو ويروح، ويا من بابه مفتوح، جلسنا مذنبين مخطئين معترفين بالتقصير؛ فاغفر لنا، فإنك أنت السميع البصير، نسأل الله لنا ولكم غفرانه فإنه يقول: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [آل عمران:135 - 136].(333/28)
واجب المعلمين نحو المتعلمين
السؤال
ما هو واجبنا كمعلمين نعلم أطفال المسلمين؟
الجواب
حياك الله، وما أعظمها من قضية! فهي تحتاج إلى محاضرات، كيف نحمل الإيمان لأبناء المسلمين في الفصل؟ كيف نلقن أبناء المسلمين وأطفالهم الإيمان في الفصل؟ نحمل رسالة لا إله إلا الله ونلقنهم على الكراسي، هذه ذمة المسلمين، وجيلهم وضعوهم بين أيديكم.
أيها الأستاذ! واجبك أن تدخل وأنت تحمل الإيمان وتزرع لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قلوب هذا الجيل، حينها يتقبل الله منك، ويرفع الله درجتك.
نقل لي أحد الدعاة أنه قرأ في بعض المقالات أن داعية في إحدى البلاد العربية دخل مدرسة وهو يحمل رسالة وإيماناً، ومدير المدرسة لا يحمل رسالة ولا إيماناً، فأراد أن يقلص من جهود هذا الأستاذ فأعطاه حصة الرسم لأن الرسم ضياع، يرسم بطة ودجاجة على السبورة، ويضيع أوقات الناس لكن إذا استخدم الرسم فيما وضع له لكان جيداً، فقال: أما هناك حصة غير الرسم؟ قال: ما معك إلا الرسم، فدخل الفصل فرسم زهرة على السبورة، ثم نظر إلى الطلاب فألقى محاضرة عن التوحيد، مَن خلق الزهرة؟ ومن سواها؟ حتى بكى الطلبة أمامه.
وأستاذ آخر -وهذا واقع- دخل فصلاً، فقال: ما هي الحصة لديكم؟ فقالوا: قرآن.
قال: القرآن تدرسونه في المسجد، هذه حصة رياضة، فانظر إلى البون بين هذا وذاك، ذاك يحمل إيماناً جعل من الرسم طريقاً إلى الجنة، وهذا لا يحمل رسالة ولا إيماناً فترك القرآن من ساحته وقلبه.
إذاً: اتقوا الله -يا أساتذة الإسلام- في أبناء المسلمين، في تحفيظهم كتاب الله، وغرس شجرة الإيمان في قلوبهم.(333/29)
أفضل الأوقات لاستغلال قراءة القرآن
السؤال
ما هي أفضل الأوقات لقراءة القرآن؟
الجواب
أفضل أوقات لقراءة القرآن: بعد صلاة الفجر، وهذا محمد إقبال شاعر ال الباكستان دخل على ظهير الدين شاه أو أسد الدين شاه الأفغاني -وهي موجودة في روائع إقبال - فقال له: أوصيك بتقوى الله وأن تقرأ القرآن مع الفجر.
وذكر سيد قطب في الظلال أن أحسن أوقات قراءة القرآن: في الفجر.
وقبل هذا وأحسن من هذا: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء:78] يوم أن تتنسم الزهور ويطل الفجر وتذهب النجوم، ويعلو النسيم، حينها تقرأ القرآن فتنشرح روحك للقرآن، يقول ابن الصلاح: إن من قرأ القرآن في الفجر سدده الله في حركاته وسكناته في النهار، هو روحك وتأملك وحياتك وإشراقك، وبعد الفجر لا بد أن يكون لك ولو صفحات من المصحف.(333/30)
الاستهزاء بأمور الدين
السؤال
ماذا تنصح شباباً يستهزئون بالشباب الملتزمين ويستهزئون ببعض أمور الدين؟
الجواب
عالجتُ مثل هذه القضايا؛ لأنها انتشرت كثيراً، وأسأل الله أن يكف هذا المرض الخطير وأن يصلح شباب المسلمين ويوفقهم للاستقامة: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66].
فيا أيها الإخوة! ليس معنا إلا الدين، ما هو الذي نمتلكه في الحياة إلا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ما هي أصالتنا؟ ما هو تاريخنا؟ ما عمقنا؟ ما هو منهجنا إلا الكتاب والسنة فإذا أتينا نحارب الملتزمين به والمستقيمين معه فكأننا نهدم بمعول من غضب ومن سحق ومحق في هذا البناء الذي بناه محمد عليه الصلاة والسلام، فنسأل الله أن يهدي أولئك، وأن يردهم إليه رداً جميلاً، وأن يتقبل منا ومنكم خالص الأعمال.
شكراً لكم أولاً وآخراً.
وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(333/31)
وإذا مرضت فهو يشفين
المرض ابتلاء من الله للمؤمن يكفر به الخطايا والذنوب كما دلت على ذلك أحاديث المصطفى صلى الله عليه وسلم، وأمراض القلوب أعظم من أمراض الأبدان.
وهذا الدرس تفصيل لأحكام تتعلق بالمريض.(334/1)
المرض كفارة للذنوب والخطايا
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:190 - 193].
سلام الله عليكم ورحمته الله وبركاته
ولا نزال مع حديثه صلى الله عليه وسلم وكلامه العذب وسيرته العطرة ومع ميراثه الضخم وتراثه الفذ، فعليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، جزاء ما قدم للإنسانية وما أعطى للبشرية وما أهدى للإنسان.
يستفتح البخاري رحمه الله تعالى كتاباً آخر وهو كتاب المرضى، وقد انتهينا من كتاب الأدب ولم يبق فيه إلا ما يندرج فيما قبله، أو أحاديث مكررات.
يقول البخاري رحمه الله تعالى: كتاب المرضى -شافاكم الله من المرض- قال تعالى: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة:201].
ونحن نسأل الله لنا ولكم العافية ففي مسند الإمام أحمد بسند جيد عن العباس أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال له: {يا عمي يا عباس! سل الله العفو والعافية} وكان أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه -في المسند - يقول: [[اسألوا الله العفو والعافية فإنه لم يؤت أحد بعد اليقين خيراً من العافية]] والعافية في الأبدان والأديان والبلدان، فالعافية في الأبدان: صحة وقوة ونشاط، والعافية في الأديان: سلامة ونجاة ومنهج، والعافية في البلدان: أمن ورخاء وازدهار.
باب ما جاء في كفارة المرض، والمسلم لا يأتيه شيء يصيبه إلا كفَّر الله به من خطاياه كضربة الشمس والجوع والظمأ والهم والغم فكل ما أصابك فهو كفارة لك فاحتسبه في ميزان الواحد الأحد، وقول الله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] هذه الآية أبكت أبا بكر الصديق فعندما نزلت هذه الآية تفصم ظهر أبي بكر وهو بجانب الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تماط فقال له صلى الله عليه وسلم: {مالك؟! قال: يا رسول الله! يقول الله تعالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] وكيف العمل بعد هذه الآية، كلفنا من الأعمال ما نطيق ولكن كيف نعمل بعد هذه الآية أإذا وقع منا كل سوء عاقبنا الله {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِه}) [النساء:123] قال صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تهتم؟ ألست تغتم؟ قال: بلى.
يا رسول الله! قال: فذلك كفارة}.
فالحمد لله الذي جعل لنا هذه الأمور كفارة وإلا فخطايانا ملأت السهل والجبل، وإذا لم تدركنا رحمة الله وعفوه وكرمه فقد هلكنا، إذاً كل ما يصيب المسلم فهو كفارة.
وابن عباس عاش ليلة طويلة بطيئة النجوم هادئة السحر يبكي حتى الصباح من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123].(334/2)
شرح حديث عائشة في أن المصائب تكفر الذنوب
قال البخاري رحمه الله حدثنا أبو اليمان الحكم بن نافع هذا الرجل شيخ البخاري وهذا الحديث لا يتلقى إلا بالسند:
أصح وأعلى ما سمعناه في الندى من الزمن المعروف منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا عن الغيث عن كف الأمير تميم
وهذا البخاري سنده كنجوم الليل كل رجل فيه ولي من أولياء الله إن شاء الله، فشيخ البخاري هذا كان من العباد الكبار بكى من خشية الله حتى عمي، ووجد في السلف الصالح من بكى من خشية الله حتى عمي، منهم: الترمذي صاحب السنن بقي يبكي في الليل من العبادة حتى عمي، ومنهم: يزيد بن هارون الواسطي بكى حتى ذهبت عينه اليمنى ثم بكى حتى ذهبت عينه اليسرى فقال له تلاميذه: أين العينان الجميلتان؟ -كما في سير أعلام النبلاء للذهبي - قال: أذهبهما والله بكاء السحر.
من تلظي لموعه كاد يعمى كاد من شهرة اسمه لا يسمى
وقال سعيد بن المسيب سيد التابعين: لا خير في عين لا تعمى من كثرة البكاء.
وبكى حتى عميت عينه وبقي على عين واحدة؛ لأن الحياة مرحلة:
طول الحياة إذا مضى كقصيرها والفقر للإنسان كالإعصار
ولكن الحياة الأبدية التي فيها لذة وسعادة هي دار القرار، وأتفه الناس وأحقرهم وأصغر الناس وأجهلهم من جعل هذه الحياة متاعاً قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
قال أخبرنا شعيب، وهو شعيب بن حمزة الحمصي أحد الثقات الأعلام وكذلك العباد؛ لأن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان كانوا يتعلمون العلم للعمل، يقول الإمام أحمد: كتبت المسند -أربعين ألف حديث يعني: بالمكرر- ما من حديث فيه يقبل العمل إلا عملت به إن شاء الله حتى أنني وجدت حديثاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختفى في غار ثور ثلاثة أيام، فاختفيت في غار في الكرخ ثلاثة أيام، هذا الاتباع وهذه الأصالة والنبل حتى لحقوا بركبه صلى الله عليه وسلم.
قال الزهري محمد بن شهاب الزهري القرشي العلامة الكبير، حافظ الدنيا، كان من أتقى عباد الله لله، كان صادقاً لا يكذب، حلف بالله الذي لا إله إلا هو لو نادى منادٍ من السماء: إن الكذب حلال ما كذبت في حياتي، وفي الناس من لو نادى منادي من السماء وقد نادى منادي من السماء وهو القرآن والسنة أن الكذب حرام ويكذبون، ونعوذ بالله من الكذب.
له مع السلطان مواقف أثبت فيها صدقه وشجاعته، جلس الناس عند الخليفة الأموي الذي يلقب الأحول هشام بن عبد الملك الذي يقول فيه الفرزدق:
يقلب رأساً لم يكن رأس سيد وعينان حولاوان بادٍ عيوبها
هذا هشام سجن الفرزدق لما مدح زين العابدين علي بن الحسين لما قال أهل الشام وهم حول الكعبة وعلي بن الحسين يطوف، فأراد هشام أن يطوف فما استطاع من الازدحام فوقف معه الأمراء والوزراء حتى ينتهي الناس وهم كالبحر حول الكعبة، فأتى علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب زين العابدين -الذي يقول عنه الذهبي في سير أعلام النبلاء: كان يسجد كل ليلة ألف سجدة- فأتى وفي يده خيزران وكان وجهه كالقمر ليلة أربعة عشر والمسك يفوح من ثيابه وهو ابن بنت رسول الله:
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
فلما رآه الناس انقشعوا من حول الكعبة، وأخذ بعضهم يحطم بعضاً يفسحوا له الطريق، ليس عنده حرس ولا جند لكن أصالته تأتي من قلبه الكبير ومكانته في الأمة، فأخذ يطوف وهو يتبسم للناس وهم يحاولون تقبيل يده، فيسحبها من الناس فقال أهل الشام لـ هشام بن عبد الملك: من هذا؟ فـ هشام أخذه الحسد والغيرة وقال: ما أعرفه! سبحان الله! ما تعرفه:
بينما يذكرنني أبصرنني عند قيد الميل يسعى بي الأغر
قلن تعرفن الفتى قلن نعم قد عرفناه وهل يخفى القمر
فقام الفرزدق وهو جالس فعرفه بقصيدة ما طرق التاريخ في المدح مثلها، يقول:
هذا الذي تعرف البطحاء وطأته والبيت يعرفه والحل والحرم
هذا ابن خير عباد الله كلهم هذا التقي النقي الطاهر العلم
هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله بجده أنبياء الله قد ختموا
يغضي حياءً ويغضى من مهابته فما يكلم إلا حين يبتسم
بكفه خيزران ريحها من عبق من كف أروع في عِرْنِيْنِه شمم
ما قال لا قط إلا في تشهده لولا التشهد كانت لاؤه نعم
فأسكته وسجنه.
فالمقصود: أن الزهري دخل على هشام هذا وهو في دمشق، فقال هشام بن عبد الملك وكان بطاشاً يبطش بالرجال عنده سيف وسلطة وقوة، الخلافة تحت يديه وهو يحمل على علي بن أبي طالب لأن بني أمية فيهم نواصب يحملون على علي رضي الله عنه وأرضاه، والنصب: بغض أهل البيت، ويقول بعض بني أمية: إن الذي تولى كبره في فتنة الإفك هو علي بن أبي طالب سبحان الله! أتقى الناس وأزهد الناس وأخشى الناس أبو الحسن يتولى كبره! والذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول ذاك المنافق الخبيث، لكن بعض بني أمية يقولون: لا.
الذي تولى كبره علي بن أبي طالب.
فأتى عالم فقال له هشام: من الذي تولى كبره؟ قال: عبد الله بن أبي بن سلول، قال: كذبت.
الذي تولى كبره علي بن أبي طالب فقال العالم: الخليفة أعلم بما يقول، وجلس، قام الثاني فقال له الخليفة: من الذي تولى كبره؟ قال: عبد الله بن أبي، قال: كذبت، وقال: الخليفة أعلم بما يقول، معنى ذلك السيف الأملح، فقام الزهري فقال له هشام بن عبد الملك: من الذي تولى كبره؟ قال: عبد الله بن أبي بن سلول، قال: كذبت، قال: بل كذبت أنت وأبوك وجدك، حدثني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن عائشة صاحبة الإفك: أن الذي تولى كبره عبد الله بن أبي بن سلول، وحدثني عروة عن عائشة: أن الذي تولى كبره كذا ووالله لو نادى منادٍ من السماء أن الكذب حلال ما كذبت، فتزلزل الملك وقال: لعلنا هيجنا الشيخ اجلس اجلس.
إن الصادق يظهر في هذه المواقف، وهذا الزهري قال له هشام: اكتب لي أحاديث، فكتب له أربعمائة حديث وبعد سنة استدعاه وقال: ضاع ذاك الدفتر الذي أمليت علينا من الأحاديث، أعد عليَّ تلك الأحاديث، فأملاه، فأخرج ذاك الدفتر وهذا الدفتر الجديد فقارنوا بينهما قالوا: فوالله ما أسقط حرفاً واحداً.
قال: أخبرني عروة بن الزبير من ذاك البيت الأصيل ابن حواري الرسول صلى الله عليه وسلم كان عالماً بحراً يقولون: يلف حبوته في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام فما ينزل حبوته حتى يقرأ ربع القرآن، ونحن إذا قرأ الواحد منا جزءاً أو حزباً قال: يا رأسي! يا بطني! يا رجلي! إن لعينك عليك حقاً وإن لنفسك عليك حقاً، الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، أما أحاديث الرخص وأحاديث الطعام والطب فنحفظها، فنحن برحمة الله عز وجل لا من عملنا ولا من قوتنا.
قالت عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم: {قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها} وهذه بشرى تزف لكل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر.(334/3)
مسائل في قوله تعالى: (مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ)
ومن الآية {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] فيها قضايا:
القضية الأولى: هل كل من عمل سوءاً يجزَ به؟
القضية الثانية: ما مناسبة قوله تعالى: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123].
القضية الثالثة: هل الجزاء أو النكال أو العذاب كفارة أو رفع في الدرجات؟(334/4)
هل كل من عمل سوءاً يجز به
السؤال
هل كل من عمل سوءاً يجزى به؟
الجواب
لا.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بعد آية الجزاء: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:30] فكثير من السيئات تستوجب النكال والعذاب في الدنيا والآخرة لكن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يعفو، فلسنا نجازى بكل إساءاتنا بل يعفو سُبحَانَهُ وَتَعَالَى وهذا ملموس، يقول ابن القيم في الفوائد: احذر المعاصي فإنها في الطريق.
يعني: أنها لك كميناً في طريقك تثور عليك بعد أيام ولو بعد أربعين أو خمسين سنة.
قال بعض أهل السير والتراجم وهي من الإسرائيليات: أن يعقوب عليه السلام لما فات يوسف عليه أربعين سنة كان ذلك جزاء له لما قال لأبنائه: أخاف أن يأكله الذئب، ولم يقل أتوكل على الله، ففقده أربعين سنة يبكي عليه، وقال أحد التابعين: نظرت نظرة لا تحل لي فقال لي أحد المشايخ والعلماء: أتنظر إلى الحرام؟! والله لتجدن غبها -أي: نتيجتها- ولو بعد حين، قال: فنسيت القرآن بعد أربعين سنة.
وجاء الإمام الشافعي كما في ترجمة وكيع بن الجراح المحدث صاحب كتاب الزهد، وكان يسمى شيخ الإسلام من رجال البخاري ومسلم، جاء إليه الشافعي فقال: سمعت أنك من أحفظ الناس، يقول ابن المبارك: حفظنا تكلف أما حفظ وكيع فهو جبلة فطرة، قال: فما هو أحسن شيء في الحفظ؟ قال وكيع: جربت الأدوية وجربت كل شيء فوجدت أحسنها ترك المعاصي، فقال الشافعي:
شكوت إلى وكيع سوء حفظي فأرشدني إلى ترك المعاصي
وقال اعلم بأن العلم نور ونور الله لا يهدى لعاصي(334/5)
مناسبة قوله تعالى: (وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً)
القضية الثانية:
ما مناسبة قوله تعالى: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] الولي: من تولاك وتوليته، والنصير: قد لا يكون ولياً بل قد يكون ناصراً ولو كان كافراً، ولذلك قد يستنصر المسلم بالكافر فلا يسمى ولياً ويسمى نصيراً، فإذا استنصر المسلم بالمسلم كان ولياً نصيراً فإذا فصل ينتهي بالواو فهي للمغايرة، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] لم يقل ولياً لأنه والياً في الأمور وهذا معلوم، وإنما قال هادياً للقلب ونصيراً للحياة، قالوا: هداية القلب وهداية السيف، فالله سبحانه وتعالى ينصر أهل المناهج السديدة في الهداية وينصر أهل المبادئ الرشيدة في النصرة والولاية.
ولـ ابن تيمية طوفان وكلام بديع في هذا المعنى لا يحسنه إلا هو لكن وقته يطول.(334/6)
الراجح أن المرض كفارة ولا يرفع الدرجات
القضية الثالثة:
الذي يعلم عند الجمهور أن المرض كفارة وليس رفعاً للدرجات واستدلوا على ذلك بأحاديث وآيات منها هذه الآية: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء:123] ولم يقل يرفع درجته ويثاب، ومنها الحديث الصحيح: {ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها من خطاياه حتى الشوكة} والحديث الصحيح الآخر: {ما يصيب المسلم من هم ولا غم ولا وصب ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها خطاياه} والحديث الثالث الصحيح: {يا أبا بكر! ألست تمرض وتهتم وتغتم فإن ذلك كفارة} إذاً: هذا الراجح إن شاء الله.
قيل لـ أبي عبيدة وهو مريض: هنيئاً لك رفع الدرجات -هذا في مسند أبي يعلى - قال: لا والله، لكنه حط للسيئات.
فيظهر والله أعلم وهو الراجح أن من أصابه مرض فقد حط الله عنه سيئاته بحسب هذا المرض، ولذلك فرح الصالحون بالمرض.
قال أبو الدرداء: أحب ثلاثاً يكرهها الناس: أحب الفقر؛ لأن فيه مسكنة لربي، وأحب المرض؛ لأن فيه كفارة لخطيئتي، وأحب الموت؛ لأن فيه لقاء لربي.
وفي الحديث الصحيح: {من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه} اتفق الشيخان على إخراجه.
قال حافظ الحكمي رحمه الله في منظومته البديعة الرائعة:
ومن لقاء الله قد أحبا كان له الله أشد حبا
وعكسه الكاره فالله اسأل رحمته فضلاً ولا تتكل
والموت فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءه
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ما من مصيبة تصيب المسلم إلا كفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها}.
وورد عن أبي بكر عند الترمذي رفعه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام: {كل شيء يصاب به العبد فهو كفارة} أو كما قال عليه الصلاة والسلام، ومن كلام أبي بكر عند بعض المحدثين: [[حتى الحاجة يضعها أحدكم تحت إبطه فيفقدها فيقول: إنا لله وإنا إليه راجعون]].
والمصيبة إذا أتت من مرض أو غيره فعلينا فيها ثلاث واجبات:
الأول: أن نقول: إنا لله وإنا إليه راجعون: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
الثاني: أن نحتسبها في ميزان الكفارة عند الله عز وجل.
الثالث: أن نحمد الله عز وجل على أنه لم يجعلها في ديننا ومعتقدنا وجعلها في أبداننا ومالنا:
إذا أبقت الدنيا على المرء دينه فما فاته فيها فليس بضائر
فما رضي الدنيا ثواباً لمؤمن وما رضي الدنيا عقاباً لكافر
كل شيء إلا الدين والمعتقد، فإذا كنت تفقر وتمرض ويموت أبناؤك ويهدم بيتك وتسحق سحقاً وتمزق ويفصل أعضاؤك، لكن قلبك فيه لا إله إلا الله وأنت تحب الله ورسوله فلا والله ما فاتك شيء.(334/7)
أقسام المرض
والمرض قسمان:
1/ مرض قلوب.
2/ مرض الأجسام.(334/8)
أمراض القلوب
ولـ ابن تيمية في أول المجلد العاشر من فتاويه رسالة القاعدة العراقية في الأعمال القلبية تحدث بحديث كأنه الشهد إذا انسل أو كأنه الماء الزلال أو كأنه النسيم العليل أو كأنه الحب إذا سرى من قلب محب إلى قلب محب، وفصل المسألة وقال: القلوب تمرض أعظم من مرض الأبدان، لكن بعض الناس يمرض قلبه فلا يحس إلا إذا أصابه زكام أو حرارة أو التهاب لأن حياته حياة الأجسام أما القلب فميت.
يقول المتنبي:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
إذا مات الميت وأتيت تطعنه بالخنجر أو تفصل من يده فماذا يضره؟ يقول عبد الله بن الزبير لأمه أسماء العظيمة الرائدة المربية: يا أماه! ما علي من الحجاج إذا قتلني -فالقتل سنة وشهادة- لكن أخاف أن أقطع ويمثل بي، فضحكت وتبسمت تبسم الشجاعة التي تجيد تربية الأبناء، وقالت: وما عليك، لا يضر الشاة سلخها بعد ذبحها، فاستبسل بنفسه وقتل، ورفع على مشنقة الموت وأصبح عالياً كأنه العلم، وسفل الذين عادوه في الله عز وجل.
فمرض القلوب خطير وله أسباب:
السبب الأول: وهو أفتكها وأعظمها وهو الذي يدمر البيوت والدور والعمار والقصور والشعوب والأمم، ويهلك المجتمعات، ويجعل الذكي غبياً، والوجيه متأخراً، والرائد متخلفاً، والمحب مكروهاً، والمقرب مطروداً، والمنعم عليه بائساً، والغني فقيراً، والكبير صغيراً، إنها الذنوب والخطايا أعاذنا الله وإياكم من الذنوب والخطايا، وأول مصائب الذنوب والخطايا: أنها تميت القلب، وهذا أعظم مرض فيصبح لا يشعر ولا يحس، تفوته صلاة الجماعة أمر عادي لكن لو فاتته عشرة ريال لأقام الدنيا وأقعدها وبحث وقلب البيت ظهراً على عقب، أما مصيبة الدين فلا يحس بها؛ لأنه مات قلبه، فتراه لا يقرأ في اليوم في الأربع والعشرين ساعة شيئاً من القرآن، ولكن الأخبار اليومية لا تفوته، أبداً، ودرجات الحرارة والصيدليات المناوبة لا تفوته أما سورة الأنعام والأعراف وطه وهذه الأسس والمبادئ التي أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام من فوق سبع سماوات، فيقول: نقرأ يوم الجمعة إن شاء الله إذا فرغنا أو في رمضان أو إذا مات أحد الجيران.
إن اليوم الذي يمر عليك دون أن تقرأ فيه قرآناً هو من أشد الأيام بؤساً عليك، وقد خسرته من عمرك، تمر علينا الساعات ولا نسبح ولا نهلل إلا من رحم الله أنا أتكلم عن القاصرين، ولكن إذا أتى الغروب فلا نعد الساعات التي فاتتنا بلا تسبيح، لكن كم تكلمنا من هذر ومذر وشذر؟ ومن هذا الكلام الذي ليس تحته طائل في الأسعار والأشجار والأمطار، وتزوج فلان وطلق فلان، وأحاديث مشبوهة كأن عليها ظلام بهيم فنشكو حالنا إلى الله، فأعظم الأسباب في أمراض القلوب المعاصي.
السبب الثاني: كثرة المباحات، وقد ذكرها ابن القيم في مدارج السالكين بكلام عطر صدي شجي، والمباحات إذا كثرت أبطلت الإحساس في القلب.
ما هي المباحات؟
كثرة النوم، وكثرة الأكل، وكثرة الخلطة في الناس، وكثرة المزاح، وكثرة الكلام، فإذا زادت هذه كلها عن حدها؛ أتتك كآبة وضيق وقسا قلبك من هذه الكلمات والأمور الواردة.(334/9)
مرض الأجسام
والمرض الثاني: مرض الأجسام وهو سهل بسيط بجانب مرض القلوب، ومرض الأجسام لا يعد بالمقارنة مع مرض القلوب شيئاً.
بعض الناس على السرير الأبيض مريض ولكن قلبه حي، وبعض الناس يمشي ويسعى على أقدامه وقلبه ميت؛ لأن هذه حياة بهيمية وتلك حياة إسلامية وفرق بين الحياتين.
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
والمرض في القرآن إذا أطلق فهو على نوعين:
1/ مرض الأجسام.
2/ ومرض القلوب.
{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ} [الفتح:7] فالمرض هنا مرض الأجسام وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى في مرض القلوب: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة:10] وقال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ * أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ} [التوبة:124 - 127] ومرض القلوب في القرآن قسمان:
1/ مرض الشهوة.
2/ مرض النفاق.
مرض النفاق مثل هذه الآية: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة:125].
ومرض الشهوة مثل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب:32] قالوا: مرض شهوة وهذا من تقسيمات وإفادات محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسيره أضواء البيان وهي من أحسن ما يقال.(334/10)
حديث آخر للبخاري في تكفير المرض للذنوب
قال البخاري رحمه الله: حدثنا عبد الله بن محمد حدثنا عبد الملك بن عمرو حدثنا زهير بن محمد عن محمد بن عمرو بن حلحلة عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ما يصيب المسلم من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه}.(334/11)
حال المؤمن والمنافق مع الشدائد
وعنه صلى الله عليه وسلم قال: {مثل المؤمن كالخامة من الزرع تُفَيِّئُها الريح مرة وتعدلها مرة، ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة} يضرب الرسول عليه الصلاة والسلام مثلاً للمؤمن والمنافق في باب المرض فالمؤمن كالخامة: قيل هي وليدة الزرع المائسة الرطبة الراوية كالزرع، التي تقبل التمايل؛ لأن الزرعة دائماً تقبل الميلان وهي كسنبلة البر؛ لأن ساقها رقيق فهي تميل من الريح يمنة ويسرة وأي شيء يؤثر عليها.
وقد قرأت في كتاب أن ملكاً من ملوك الهند استدعى الرسامين في عهده وقال: أريد رسمة بديعة لا أحسن منها، فرسموا له رسومات، وكان من أبدع الرسامين رجل هندي رسم سنبلة زرعة من القمح وقد هبط عليها عصفور فأتى بهذه اللوحة فأعجبت أهل الهند جميعاً، فوضعها على قصره فمر رجل أعور قال: هذه الصورة فيها عيب، قال الحرس: ويلك، فقادوه -بعدما أقر أهل الهند أنها أحسن رسمة- إلى الملك، فقال الملك: ما هو العيب؟ قال: العيب فيها أنه ما أمال الزرعة لما رسمها؛ لأن العصفور إذا هبط عليها مالت ولا تبقى منتصبة، قال: صدقت ثم شطب اللوحة.
فالمقصود: أن هذه الزرعة أدنى شيء يؤثر فيها، فالمؤمن دائماً بين الأمراض والحسرات والنكبات، دائماً يمنة ويسرة في كبد، تراه دائماً إما طفله يموت، أو بنته تمرض، أو ولده يرسب، أو سيارته تصدم، أو هم أو غم ليحتحت الله عنه الخطايا، أما المنافق فتجمع وتحمل عليه المواد مادة على مادة حتى يسلخ مرة واحدة فما يأتيه إلا كير جهنم، فهذا مثل المؤمن ومثل المنافق.(334/12)
حال المؤمنين وقت الشدائد
كان خالد بن الوليد يستبشر بالصداع وبالحمى، وهي علامة الخير في الرجل؛ لأن المنافق دائماً بدين سمين لا يتأثر أبداً، تجده في الحياة منعماً يعيش في رغد لكنها في الحقيقة عذاب، وحياة ضنك ولو أنها في الظاهر رغد يقول أبو تمام:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت ويبتلي الله بعض القوم بالنعم
والحمى تأتي الصالحين كثيراً، وسبب موت أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالحمى فقد دخل عليه الصحابة وقالوا له: [[يا خليفة رسول الله! ماذا يوجعك؟ قال: الطبيب يدري، قالوا: أشكيت أمرك إلى الطبيب؟ قال: نعم.
قالوا: ماذا قال؟ قال: إني فعال لما أريد]] هو الله عز وجل، فأخذها أحد الناظمين وقال:
كيف أشكو إلى طبيبي ما بي والذي قد أصابني من طبيبي
وإذا شكوت إلى ابن آدم إنما تشكو الرحيم على الذي لا يرحم
وبعض الناس يقول أمام الناس: أنا مريض من عشرين سنة سبحان الله! تشكو الله الذي فوق سبع سماوات أنه أمرضك وإذا عافاك لا تخبر الناس! والله أمر بكتم الأمراض لتبقى سراً بين العبد وبينه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وأما النعمة فقال: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى:11] وفي سنن البيهقي بسند حسن: {إن الله إذا أنعم على عبد أحب أن يرى أثر نعمته عليه}.
وهذا الوزير ابن هبيرة الحنبلي الكبير وهو ولي من أولياء الله صاحب كتاب الإفصاح يقول لما حضرته سكرات الموت: فقدت عيني هذه من أربعين سنة والله ما علمت زوجتي وهي معي في البيت، لأن الشكوى على الله، عجيبة سيرته أوردها صاحب طبقات الحنابلة وسير أعلام النبلاء وهو من الحفاظ الكبار، حج بالناس وهو وزير الدولة العباسية فانقطع الماء في منى فرفع يديه يستسقي فنزل الماء والغيث من السماء وفيه ثلج، فبكى وقال: يا ليتني سألت الله المغفرة.
والخليفة المستنجد أعجب بوزيره فقال:
صفت نعمتان عمتاك وخصتا فخيرهما حتى القيامة يذكر
وزهدك والدنيا إليك فقيرة وزهدك والمعروف في الناس ينكر
ثم يقول:
ولم أر من ينوي لك السوء يا أبا الـ مظفر إلا كنت أنت المظفر
كل ما نوى له أحد من المبتدعة أتى من تحته؛ لأن الله ينصر أولياءه، ومما يجدر أن نشير إليه أن الأحنف بن قيس ذكر الذهبي في ترجمته أنه فقد عينه ثلاثين سنة وما أخبر بها أحداً لكن من يستطيع هذا! الزكام إذا أصاب بعض الناس اليوم أخبر أهل الحي وعطس في المسجد وشكا وبكى وناح وقال: ثلاثة أيام وأنا في هذا الزكام، اللهم ارفعه عنا اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الضراب وبطون الأودية ومنابت الشجر، تقوم القيامة من أجل الزكام فقد جعلنا مستوياتنا وقلوبنا في هذه الدرجة!!!
وعمران بن حصين ذكر عنه ابن حجر في الإصابة أنه مرض أربعين سنة، فما قام من على الفراش حتى كانت الملائكة تصافحه في السحر بأيديها، قال ابن تيمية: نعم.
صافحته في السحر بأيديها فلما اكتوى تركت مصافحته.
وقالوا عن أيوب عليه السلام أنه مرض ثمانية عشر سنة فقالوا له: ادع الله بالشفاء، قال: أنا تشافيت خمسين سنة فإذا تساوى المرض والعافية دعوت الله، بقيت سنوات كثيرة، لكن من يستطيع هذا إلا أهل الصدق عند الله! أما نحن فكما قال الفضيل بن عياض لما قرأ قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد:31] قال: اللهم لا تبلونا فتفضحنا.
الستر الستر فإن العملة إذا عرضت على الصراف أخرج البهرج منها، ما كل شيء يدخل النار فيخرج ذهباً أحمر فإن بعضها يخرج فحماً فنحن نسأل الله العافية ألا يبلونا فيفضحنا.
وقالوا عن الإمام أحمد كان ذهباً فدخل النار فخرج ذهباً أحمر في فتنة القول في خلق القرآن، على أنه نحيف هزيل لا يجد اللحم إلا من الأضحية إلى الأضحية، عنده بقشة فيها كسار شعير، يطوف الدنيا ويسعى الفراسخ في جمع الأحاديث من اليمن وخراسان ومصر وبغداد ودمشق حتى يقول ابنه: لقد رأيته أحياناً تكاد هذه -أي: اللحم الذي تحت خذيه- تلتصق بهذه من الضعف، كان يصبغ لحيته بالحناء وكان ربما انحنى من الهزال والتعب، يخرج إلى السوق يقتضي الحطب على يديه فيأتي أهل السوق وبعض الوزراء من بني العباس يأخذون الحطب لأنه إمام أهل السنة والجماعة فيقول: نحن قوم مساكين، لولا فضل الله لا فتضحنا، فلما أتت فتنة القول بخلق القرآن وجاء الحزب البدعي التحالفي ضد أهل السنة؛ كان هو الإمام المعتبر وكان أسداً هصوراً مثل الليث إذا غضب، قامت الدنيا وقعدت وطوق بيته بالجيش وبالحرس وسلت السيوف عند أذنيه وهدد بالموت فقال: لا.
ولا يكون هذا، وفي الأخير رفع الله منزلته لما صبر: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24]:
علو في الحياة وفي الممات بحق أنت إحدى المعجزات
هذا يقال في الإمام أحمد وفي أمثاله.(334/13)
حال المنافقين وقت الشدائد
وأما المنافق فقليلة أوصابه وأحزانه لأن رَغَدَه الحياةُ، والله عز وجل لا يجمع للعبد سعادتين وراحتين في الدنيا والآخرة إلا النادر، ولا يجمع شقوتين على العبد إلا النادر، قال يهودي للشافعي: ما بالنا نحن أقل منكم أمراضاً وأنتم تمرضون وأنتم مسلمون؟! قال الشافعي: لأن هذه هي جنتكم وهذا سجننا، فإذا خرجنا منها خرجنا إلى الجنة وخرجت أنت إلى النار، وهذا رد بديع مليح، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في المنافقين: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4]:
لا بأس بالقوم من طول ومن عرض جسم البغال وأحلام العصافير
أما الأجسام فممتلئة، والشخصيات فارهة لكن لا قلوب
لقد ذهب الحمار بأم عمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
والقلب إنما يكون لأهل القلوب الذين يسكبون فيها القرآن والسنة، قال: {ومثل المنافق كالأرزة لا تزال حتى يكون انجعافها مرة واحدة} الأرزة هذه هي: الأرز الذي ينبت في لبنان هذه الشجرة المتينة وقيل الصنوبر لكن لا يهمنا هذه أو تلك إنما هي شجرة متينة لا تؤثر فيها الريح، ولذلك تمر المصائب بالناس، والمؤمن دائماً مصاب وأما المنافق فلا يمر به شيء في الغالب، حتى إن بعض المنافقين وبعض الفجرة يستهزئ بمصائب المؤمنين ويشمت بهم، ويقول: فلان نسأل الله العافية نظن من ذنوبه مات ابنه ورسب أولاده، وهو لا يفكر في نفسه.
وعروة بن الزبير قطعت رجله من الفخذ فقال الناس الذين إيمانهم ضعيف: أظن عروة ما قطعت رجله إلا لذنب أصابه، ولم يدر أنها رفعة في الميزان، وأنها حط من الخطايا، فقال عروة:
لعمرك ما مديت رجلي لريبة ولا حملتني نحو فاحشة رجلي
ولا قادني فكري ولا نظري لها ولا دلني فكري إليها ولا عقلي
وأعلم أني لم تصبني مصيبة من الله إلا قد أصابت فتى قبلي
ثم قال البخاري رحمه الله: وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع من حيث أتتها الريح كفأتها فإذا اعتدلت تكفأً بالبلاء، والفاجر كالأرزة صماء معتدلة حتى يقصمها الله إذا شاء} هذا بلفظ آخر وهو من سياق هذا الحديث ومعانيها واحدة.
وقد أكثر الأدباء في المرض وفي التكلم عنه، وأكثروا من ذكر محمدتهم من مكث الأمراض وصبرهم على ذلك، ويقول بعضهم في أبيات معناها: إنه إذا مرض حبيبي وزرته مرضت أنا من النظر إليه، وإذا زارني وأنا مريض تشافيت من النظر إليه يقول:
مرض الحبيب فزرته فمرضت من خوفي عليه
وأتى الحبيب يزورني فشفيت من نظري إليه
واستدل بها ابن القيم وهي من أحسن ما يقال، يقول أبو تمام حبيب بن أوس:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم وتذنبون فنأتيكم ونعتذر(334/14)
واجب المسلم تجاه المريض
وواجبنا نحو المريض:
الزيارة الشرعية طلباً للثواب من الله ففي صحيح مسلم: {من زار أخاه المسلم إذا مرض لا يزال في خرفة الجنة حتى يمسي} وفي لفظ صحيح آخر: {شيعه سبعون ألف ملك حتى يمسي} وفي الصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {حق المسلم على المسلم ست -وفي رواية خمس- ومنها: وإذا مرض فعده}.
وللزيارة آداب منها:
1/ أن تتوخى الوقت المناسب لزيارته، وتختار أحسن وقت لزيارته كالعصر أو المغرب أو الصباح بحسب المريض وظروفه، وأما أن تفاجئه في وقت لا يزار فيه فهذا ليس بصحيح، وهو تعكير للصفو، وربما يذهب الإثم بالأجر وبعضهم يطرق عليك وسط الليل، فتقول ماذا؟! فيقول: سمعت أنك مزكوم فأتيت أزورك في الله عز وجل، أهذه زيارة؟!
2/ أن يخفف الجلوس لديه إذا زاره، ولا يتأخر طويلاً في الجلوس، وإنما يبقى عنده بقدر ما يسأل عن حاله، ويدعو له، فإن بعض الناس ربما يطيل على المريض حتى يزداد مرضاً إلى مرضه، إلا إن علم بارتياح المريض لبقائه معه.
3/ أن يكون كلامه مناسباً للموقف، فإذا مرض أحد الناس فلا يأتي بكلمة عن القبر، أو رجل مزكوم أو أصابه جرح بسيط في يده فيقول: نسأل الله العافية، فلان بن فلان أصابه الزكام فما زال به الزكام حتى أرداه في القبر، وفلان أصابه جرح فتسمم من الجرح حتى بترت يده! وإن كان من أهل الآخرة فيرجيه برحمة الله عز وجل ويقربه من النعيم ويحسن ظنه بالله تبارك وتعالى.
ولا يزال الحديث مستمراً مع أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يصب منه} في الصحيحين عن معاوية: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين} ومفهوم المخالفة أن الذي لا يريد الله به خيراً لا يفقه في الدين، وهنا: {من يرد الله به خير يصب منه} أي: تصيبه مصيبة من مرض أو نصب أو غيرهما.(334/15)
باب: أشد الناس بلاءً الأنبياء
قال البخاري رحمه الله: عن عبد الله بن مسعود قال: {دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فقلت: يا رسول الله! إنك توعك وعكاً شديداً، قال: أجل، أوعك كما يوعك رجلان منكم، قلت: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي ذلك لأن لك الأجر مرتين؟ قال: أجل ذلك كذلك، ما من مسلم يصيبه أذى أو نصب أو غم أو حزن أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه}.(334/16)
باب: عيادة الأعراب
وبعض الناس لا يصبر للمرض.
ذكر البخاري في كتاب المرض: أن الرسول عليه الصلاة والسلام زار أعرابياً من الأعراب من البادية وكان مريضاً بالحمى، فوضع صلى الله عليه وسلم يده عليه وقال: {لا بأس طهور إن شاء الله} يعني: الحمى طهور لك من الذنوب والخطايا، فقال الأعرابي: ليس بطهور بل حمى تفور على شيخ كبير تزيره القبور، يقول: أهذه الحمى طهور إنها تهزني هزاً عنيفاً؛ لأنه ما تمكن في الإسلام قلبه.
يقولون: دخل ثعلبان في غرفة فأكلا من الدجاجة حتى تنعما وشبعا فانتفخت بطونهما، فقاما يخرجان من المكان الذي دخلا منه فما استطاعا فوقف أحدهم يشكو على الآخر يقول: من أين نخرج، وما هو المصير؟ قال: غداً في الزبالة -يعني: إن صاحب البيت سوف يأخذهم ويقتلهم ويرميهم- جاء بها ابن القيم في كتاب الفوائد مثلاً لمن نسي الله وموعوده ولقاءه وأكل وتنعم على حساب دينه واستقامته وسلوكه، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم إذاً.
فمات الأعرابي من تلك الحمى، فمن سخط فله السخط ومن رضي فله الرضى.(334/17)
باب: عيادة الصبيان
وقال البخاري: باب عيادة الصبيان.
هل يزار الطفل؟ وذكر رضي الله عنه وأرضاه أن الرسول عليه الصلاة والسلام زار ابن ابنته زينب رضي الله عنها وأرضاها وسلم عليه وأخذه وهو يقعقع في سكرات الموت فبكى صلى الله عليه وسلم فزيارة الطفل واردة وهل يزار من الرمد؟ قال أهل العلم: لا يزار من رمد العينين، وبعض الأمراض لا يزار منها مثل الزكام الخفيف، ومثل الأمراض التي لا تعطل المسلم على فراشه وإنما يسأل المسلم عرضاً إذا لقي وإذا وجد.(334/18)
باب: وضع اليد على المريض
ثم قال البخاري: باب وضع اليد على المريض:
هل توضع اليد على المريض أم لا؟ هذا من الأنس واللطافة، وهي من أخلاق محمد صلى الله عليه وسلم، أتى إلى سعد بن أبي وقاص أحد العشرة المبشرين بالجنة وقائد المسلمين في القادسية ووجده مريضاً في مكة بعد الهجرة فوضع يده عليه، ودعا له بالبركة والصحة والعافية.
قال جابر أغمي علي من المرض، فما وعيت بنفسي إلا والرسول عليه الصلاة والسلام تمضمض ومج في وجهي، فانتبهت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأسي، ووضع صلى الله عليه وسلم يده.
قال سعد بن أبي وقاص: والله الذي لا إله إلا هو ما زال برد يده صلى الله عليه وسلم على صدري حتى بعد عشرين أو ثلاثين سنة، لما جعل الله فيه من البر والبركة والطيب لكن ليس لأحد غيره صلى الله عليه وسلم.
كان يُفْلت يده للأعراب وهو حاج فيأخذ الأعرابي يده فيمسح بها وجهه وبعضهم يبل يده في الماء ويشرب الماء، وفي المسند للإمام أحمد في ترجمته التي أوردها أحمد شاكر وهي موجودة عند الذهبي وغيره أن الإمام أحمد وجد شعرة من شعره صلى الله عليه وسلم فأخذ يبلها في الماء ويضعها على عينه ويبلها في الماء ويستنشقها ويشمها ويضعها في الماء ويمص ماءها، قال الذهبي: والهف نفسه على شعرة من شعره صلى الله عليه وسلم، وهذا لكمال الحب الذي أوجدته سيرته صلى الله عليه وسلم في القلوب.(334/19)
باب: وجوب عيادة المريض
قال البخاري: باب وجوب عيادة المريض.
وعن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أطعموا الجائع، وعودوا المريض وفكوا العاني} وصح عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: {يقول الله يوم القيامة لابن آدم: يابن آدم! جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فما أطعمته أما علمت أنك لو أطعمته وجدت ذلك عندي؟ يابن آدم! مرضت ولم تعدني، قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان مرض فلم تعده؟ أما أنك لو عدته وجدت ذلك عندي} وفي حديث يقبل التحسين أورده صاحب كشف الخفا ومزيل الإلباس: {الناس عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم إلى عياله}.
ولو أن في سند الحديث ضعفاً عند بعض أهل العلم لكن بعضهم يحسنه بشواهده، والجزاء من جنس العمل.
قال البخاري: وعن البراء بن عازب أحد الصحابة الشباب رضي الله عنهما قال: {أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع، نهانا عن خاتم الذهب} خاتم الذهب ودبلة الذهب للرجال حرام لا يقبل أي فتية هزيلة، أو أي ترخص في دين الله عز وجل، ومن لبس خاتماً في يده أو دبلة فإنما تقلد جمرة من نار فليلبسها أو يتركها، وإذا رأيت إنساناً يفعل هذا ويماحر النصوص فاعلم أنه مسلوب العلم أو واهم أو جاهل يعلم، ويلحق بذلك الأقلام المذهبة التي هي من ذهبٍ خالص، والسلاسل والميداليات فهذه حكمها التحريم لأنها تبذل للنقدين، ولأن فيها علواً، ولأن استخدامها للزينة التي حرمها الرسول صلى الله عليه وسلم للرجال، وأما المموه بالذهب فهو موضوع آخر، لكن الذهب الخالص الذي يستخدم في السلاسل والأقلام والدبل والخواتم حرام، فينبه على الناس لأن هذه العادة انتشرت وصادمو النصوص بعاداتهم واستقراءاتهم الهزيلة التي لا تنفعهم عند الله عز وجل.
ولبس الحرير حرام على الرجال فعند أحمد في مسنده بسند صحيح عن علي رضي الله عنه وأرضاه، قال: {أخذ صلى الله عليه وسلم قطعة من ذهب في يده وقطعة من حرير وصعد المنبر وقال: هذان حلال لإناث أمتي حرام على ذكورها} وهو نص في أن الذهب والحرير للنساء ليس فيه تحريم حتى الذهب المحلق لا كما قال بعض الناس أنه محرم؛ بل الصحيح للعموم في الأحاديث هذه وفي غيرها أنه حلال المحلق والمسلسل والمقطع وغيره، وهذا شبه إجماع ينقضه ابن الجصاص في كتاب الأحكام وهو حنفي، وقد قاله كثير من العلماء في هذا العصر.
{نهانا عن خاتم الذهب، ولبس الحرير، والدِّيباج، والإستبرق، وعن القسي والميثرة} فالحرير لا يلبسه الرجال إلا في حالتين:
إما مرض شديد مثل شدة حكة، أو مرض جسمي يرى أهل الطب أن علاجه أن يلبس الحرير فليلبس ذلك، ففي الصحيحين من حديث أنس وغيره: {أن عبد الرحمن بن عوف والزبير شكيا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حكة في جلودهما فأمرهما صلى الله عليه وسلم بلبس الحرير} والناحية الثانية أن يلبس لإرهاب العدو وقت مصافة الأعداء في وقت الحرب فلا بأس بذلك، فقد شكي لـ عمر أن أهل الروم يأتون بلباس من حرير فيفتنون المسلمين قال: البسوا ذلك، أو كما قال رضي الله عنه وأرضاه، وبعض الأمور المحرمة قد تحل لأمور أو لمناسبات أو مصالح أعظم منها مثل مشية الخيلاء حرام، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أباحها لـ أبي دجانة لما اختال بين الصفين وقال: {إن هذه مشية يبغضها الله إلا في مثل هذا الموضع}.
والإستبرق نوع من الحرير وقيل أجود منه وهو نوع آخر أملس أغلى، والقسي ثياب من اليمن تأتي مخططة.
والميثرة يقولون كذلك: لحاف يأتي من اليمن يأتي مخططاً يوضع قيل من حرير أو من غيره ويركب عليه.
{وأمرنا أن نتبع الجنائز ونعود المريض} وهو الشاهد {ونفشي السلام} وترك بقية الحديث لأن الشاهد عيادة المريض فليحتسب المسلم في عيادة المريض.(334/20)
باب: عيادة المغمى عليه
قال: باب عيادة المغمى عليه:
انظر إلى البخاري يأتي بأمور لا ينتبه إليها إلا من فقه ودقَّقَّ، هل الإنسان الذي أغمي عليه وأغشي وفقد وعيه بأمر ما هل يعاد أم لا؟
عن ابن المنكدر أنه سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يقول: {مرضت مرضاً فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودني وأبو بكر وهما ماشيان -من الحفاوة أنهما ماشيان إما قصداً وإما توافق- فوجداني أغمي علي، فتوضأ النبي صلى الله عليه وسلم ثم صب وضوءه علي، فأفقت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! كيف أصنع في مالي، كيف أقضي في مالي؟ فلم يجبني بشيء حتى نزلت آية الميراث}.
يقول أبو ذر فيما صح عنه: {كان الرسول صلى الله عليه وسلم يأتيني في بيتي فيصافحني إذا رآني قال: فأتاني مرة فلم يجدني فجلس على السرير، فلما أتيت التزمني فكانت أحسن} كان الغالب أن يصافحه مصافحة فأتى مرة فلم يجده فجلس على السرير ينتظره، ينتظر أحد تلاميذه وطلابه وحسنة من حسناته، فلما أتى صلى الله عليه وسلم صافح أبا ذر والتزمه فكانت أحسن يعني: من كثرة الحفاوة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يكرم أحداً من أصحابه يلتزمه أو يشبك أصابعه في أصابعه كما في سنن أبي داود بسند صحيح، قال معاذ رضي الله عنه وأرضاه: {خرجت من المسجد فأخذ صلى الله عليه وسلم يدي فشبك أصابعه بأصابعي وقال يا معاذ: والله إني لأحبك لا تدع دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك}.
هل تشبك الأصابع في المسجد، البخاري من يقظته وفطنته يأتي بهذا الباب لأنه عند الترمذي في حديث كعب بن عجرة في سنده كلام وفيه ضعف، قال صلى الله عليه وسلم: {إذا ذهب أحدكم متوضأ إلى المسجد فلا يشبك بين أصابعه} لكن البخاري يقول: باب تشبيك الأصابع في المسجد، ثم من أين يأتي لنا بحديث قال: {قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة العشاء وقال: المؤمن للمؤمن كالبنيان وشبك بين أصابعه} فهو في المسجد صلى الله عليه وسلم متوضأ، فلا بأس بتشبيك الأصابع، فبعض الاتحافات منه صلى الله عليه وسلم من باب التكريم لأصحابه يكرمهم بهذا العمل عليه الصلاة والسلام.(334/21)
باب: فضل من يصرع من الريح
من يصيبه الصرع من الجان ما جزاؤه عند الله إذا كان مسلماً؟
هل يذهب عقله هدراً؟
هل ليس له مثوبة؟
هل يساويه الله بمن تمتع بالعقل؟
فإن من أعظم النعم نعمة العقل ونعمة الإدراك فيأتي البخاري بحديث ابن عباس قال لـ عطاء بن أبي رباح: {ألا أريك امرأة من أهل الجنة تمشي على الأرض- أريك امرأة أصبح مكانها وموقعها في الجنة تمشي في الأرض- قال: بلى.
قال: تلك المرأة السوداء أتت الرسول عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله! إني أصرع وإني أتكشف فادع الله لي} يصيبها الصرع فتفقد عقلها ووعيها وقد انتشر هذا الصرع في هذا الزمن لقلة الأذكار، وقلة الوضوء، وقلة قراءة القرآن في البيت، فالبيت الذي يدندن فيه المغني والمغنية كيف لا يصرع أهله، والبيت الذي لا يجيد تلاوة القرآن، والأذكار الصباحية والمسائية، كيف لا يصرع؟ ولكن هل سمعتم بإنسان يحافظ على أذكار الصباح والمساء وآية الكرسي والمعوذات وسورة الإخلاص والتهليل والتكبير يصرع أهله؟ لا.
ولذلك لو ربي الأطفال على هذا فإنهم لا يصرعون إن شاء الله، {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر:42] ولا جنده {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آل عمران:175] أما أولياء الله فلا، لكن لما قلت الأذكار وقراءة القرآن وكثر الغناء والكلمات البذيئة أتى هذا الأمر.
تقول: {يا رسول الله! إني أصرع فادع الله لي، قال: إن شئت صبرت ولك الجنة، وإن شئت دعوت الله أن يعافيك، قالت: بل أصبر، لكن أدع الله ألا أتكشف فدعا لها} فهي من أهل الجنة.(334/22)
باب: فضل من ذهب بصره
وذكر البخاري في أهل المصائب في أعضائهم جوارحهم أبواباً منها:
فضل من ذهب بصره: وقد أورد حديث أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن الله عز وجل يقول: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة} والحبيبتان: العينان، لأنهما من أحب الأعضاء عند الإنسان وهما النوران والجوهران، ولقد ابتلى الله بذهاب العينين كثيراً من الناس لرفع الدرجات منهم: ابن عباس الحافظ العالم صاحب الدراية والرواية المفسر الكبير رضي الله عنه وأرضاه، فقد ذهب بصره في آخر حياته، فدخل على قوم فكأن بضعهم شمت به، وقال: لا تصاب بمكروه يا ابن عباس! ففهم ابن عباس، فقال:
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
قلبي ذكي وعقلي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مشهور
يقول: إذا أخذ الله هاتين الحبيبتين فقد عوضني الله خيراً منهما، والله إذا أخذ شيئاً عوض خيراً منه، قالوا لأحد العمي وكان مزاحاً: ما الذي عوضك الله يوم أخذ بصرك؟ قال: لئلا أرى من أمثالك أحداً، فمما يعوض الله الأعمى: الحافظة
.
ومنها: أن الله عز وجل قد يعلم أن هذا العبد خير له أن يذهب بصره لئلا يرى المفاتن والمحرمات وينتهك حدود الله عز وجل، ولكي تزهد نفسه في الدنيا وليبني له الله قصراً مشيداً في الجنة، وليكفر عنه سيئاته والعوض العظيم هو الجنة: {إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} وورد عند الترمذي في الإصابة بالولد، قال صلى الله عليه وسلم: {يقول الله عز وجل لملائكته وهو أعلم: قبضتم ابن عبدي فلان؟ قالوا: قبضناه، قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم.
يا رب، قال: فماذا قال عبدي؟ وهو أعلم.
قالوا: حمدك واسترجع -أي قال: الحمد لله إنا لله وإنا إليه راجعون- فقال الله عز وجل لهم: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد} جزاء ما صبر وحمد الله عز وجل.(334/23)
باب: عيادة النساء للرجال
عادت أم الدرداء رجلاً من الأنصار.
هل تعود المرأة الرجل إذا مرض، ويعود الرجل المرأة إذا مرضت أم لا؟!
في الأمر تفصيل: إذا كانت من المحارم فلا بأس بعيادتها، أو من غير المحارم إذا انتفت الشبهة بأن تكون طاعنة في السن كسن والدته أو أكبر، ولم يكن هناك ريبة، فلا بأس بالسؤال عنها وإغلاق هذا الباب أولى، أما المحارم فإن عيادتهم واجبة كالخالة أو العمة أو البنت أو الأخت كما فعل عليه الصلاة والسلام، أما إذا سمع الإنسان ببنات الناس يمرضن فيطرق بيوتهن أريد زيارة فلانة بنت فلان! فلا زيارة ولا قدوم ولا أجر ولا مثوبة، وقيل للإمام أحمد: عطست امرأة أفؤشمتها؟ قال: رجل أحمق، ما بقي يشمت هذه المرأة إلا هو! وتوقف الإمام أحمد في الرد على المرأة إذا سلمت، ولكن الصحيح أنها إذا سلمت ولم يكن هناك فتنة فرد عليها رداً موجزاً وعليكم السلام، أو إذا لم يكن هناك فتنة فسلم أنت وقل: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، أما السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ورضاه ومرضاته وكيف أصبحتم، وكيف حالكم، وأهلاً وسهلاً، وصبحكم الله بالخير، وكيف حال الإخوان والجيران، فيستمر ساعة إلا خمس دقائق فهذا من الحمق، وهذا من مداخل الفتنة والريبة.(334/24)
الأسئلة
هنا سؤال يلفت الانتباه لأنها قضية كبرى يقول:(334/25)
نصيحة لطلاب العلم
السؤال
بعض من تسموا بطلبة العلم، وهيأت لهم الدولة كل الوسائل، ومع ذلك نائمون في سباتهم لا يعملون لطلب العلم ولا التحصيل، وهم أصبحوا عالة على مجتمعاتهم، ووبالاً على أمتهم فما حكم الشرع فيهم؟
الجواب
أنا أشاركك في الفكرة أنه وجد في المجتمع من أهل التقصير كثير ممن هيئت لهم الأسباب، وتهيئة الأسباب توفيق من الله عز وجل ثم من أهل الخير القائمين على ذلك فنحمد الله عز وجل على ذلك، ووجد أن هناك كسلاً، يعرف ذلك من يعايش التدريس، أو من يصحح في الامتحانات أو يرى في المقابلات المستوى العلمي الهابط، والسبب في ذلك الزهد في طلب العلم وكثرة المثبطات، ربما يرتاح كثير من طلبة العلم بالجلوس ساعة أو ساعتين على شرب إبريق من الشاي، وفي هذا الوقت ألف ابن تيمية كتاباً كاملاً وقد سلف في مناسبات أنه ألف كتاب التدمرية من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، وقرأناه سنة فما فهمناه لأنها {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف:25] فالوقت الضائع هذا سببه الخمول والكسل وعدم معرفة طرق التحصيل، وهذه الكليات والمعاهد والمؤسسات العلمية إنما تعطي الإنسان أموراً تجريبية واستقرائية ومفاتيح لطلب العلم، أما العلم الغزير، والتحصيل العلمي، وتحقيق المسائل فلا يحصل إلا بمدارسة الكتب ومراجعة طلبة العلم والعكوف في البيت مع المكتبة، وحضور الجلسات وندوات الخير والمحاضرات والدروس وكثرة التعليم والتحقيق والمسائلة والمذاكرة، أما أن يبقى الإنسان هكذا! فلا يمكن أن يحصل على طائل من العلم، وقد يكون عنده نسبة من العلم، لكن قال أحد الحكماء: يُهلك الأجسام نصف طبيب، ويهلك الأديان نصف عالم، ويهلك الجيل نصف مربي، لأنه يريد أن يوجههم وما عنده إلا نصف فقط فلو كان جاهلاً لاعتذر وقال سامحوني ما عندي تربية.
ونصف عالم يهلك الناس ولو كان جاهلاً لتعلم أو لتواضع وعرف نفسه، ولو كان عالماً لأفاد لكن يرى أنه عالم وهو ليس بعالم هذه هي المشكلة.
وأسباب التحصيل تندرج في أمور:
الأمر الأول: تقوى الله الواحد الأحد، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم تقواه.
الأمر الثاني: كثرة التوبة والاستغفار.
الأمر الثالث: أن يكون لك همة في طلب العلم ولا تقل كبرت ولا شخت ولا شبت فأصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام تعلموا العلم كباراً.
الأمر الرابع: أن يكون لك مكتبة سمعية ونظرية تقرأ وتسمع، ويكون شغلك الشاغل هذا، ثم يكون لك مذاكرة مع طلبة العلم واستحضار، ولا تفوتك أي فائدة، ولا بد أن تعلق وتقول دائماً: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114].
وأسباب حفظ العلم كما يقول ابن هبيرة الحنبلي صاحب الإفصاح: أسباب تحصيل العلم وحفظه ثلاثة:
السبب الأول: العمل بالعلم: فإذا عملت أنت بالأحاديث حفَّظك الله الحديث، والذي يريد أن يحفظ كتاباً في الذكر لكنه لا يقرأ الأذكار الصباحية والمسائية وعند النوم وعند القيام فإنه لن يحفظه بل ينساه.
السبب الثاني: التصنيف: إذا بلغت إلى درجة أن تبحث المسألة وتحققها فهذا يثبت معك العلم لأنك تخرج الحديث وتراجعه وتحققه وتسأل عنه وتبحث فيثبت ويرسخ.
السبب الثالث: التعليم: تعليم الناس نحن نقول إننا لسنا أهلاً لأن نجلس أمام هذه الوجوه لأن في الجمع من هو أعلم منا؛ لكن ليثبت العلم ولأن الإنسان يشحذ نفسه إذا علم أن عنده درس أو عنده إلقاء أو محاضرة أو كلمة فتراه راجع المسائل وحقق الأحاديث ورجع إلى التراجم، وأما إذا لم يعلم أن وراءه طلب ولا كلمة ولا درس فقد لا يهتم بهذا، فالعلم يحفظ بالتعليم والتصنيف والعمل به، فيدعو طلبة العلم إلى أن ينفقوا مما أعطاهم الله عز وجل ويزكوا هذا الميراث وهذا الكنز الذي معهم وهو الدعوة إلى الله عز وجل، ومن كان في قرية أو مدينة أو بادية أو ضاحية فإذا ذهب إلى أهله فليكن رسول خير وداعية إسلام يتحدث بما سهل الله عز وجل، فإن الناس لا يريدون كثرة علم، يريدون أي حديث بشرط أن تكون مخلصاً صادقاً متمكناً مما تقول، تسأل الله منه المثوبة وحسن العرض وحسن الخلق للناس فسوف يستفيدون: {بلغوا عني ولو آية} {نضر الله امرءاً سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع}.
أسأل الله لي ولكم القبول والهداية والرشد، وأن يعيننا وإياكم على الدنيا والآخرة، ويسهل لنا أمورنا جميعًا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(334/26)
صحيح الأخبار في وصف النار
وردت آيات وأحاديث صحيحة كثيرة في صفة النار، وعذابها، وجحيمها، وطعامها وشرابها.
وقد أورد الشيخ حفظه الله في هذا الدرس المبارك طائفة كبيرة منها، وختم بذكر بعض الأذكار التي تقي قائلها من عذاب النار.(335/1)
خوف السلف من النار
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وإمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
وأسعد الله لياليكم بالمسرات، درسنا هذه الليلة بعنوان: (صحيح الأخبار في وصف النار) نعوذ بالله من النار، وقد سبق معنا في الدرس الماضي، وصف الجنة في الكتاب والسنة، وقد ذُكر هناك ما أعد الله عز وجل لأوليائه في الجنة من نعيم خالد، وما هيأ لهم سُبحَانَهُ وَتَعَالى من نعيم مقيم، فوصف أبواب الجنة وسررها، ولباسها وما فيها من خير عميم، وكيف يدخلها أهل الجنة، وكم صفوفهم، وما هي أزواجهم، وما هو طعامهم، وشرابهم، ومن أول من يدخل الجنة، ورؤية الله عز وجل إلى مسائل أخرى.
وفي هذه الليلة نأتي إلى بحث عن النار أعاذنا الله وإياكم من النار، وجنبنا كل قول أو عمل أو فعل يدلنا على النار.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن آحاد المجرمين: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ * فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ * وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة:30 - 37].
{خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة:30]: الغل جمع اليدين وراء الظهر، وقيل: جمعها عند الذقن بالسلاسل.
{ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة:31] أي: أصلوه نار جهنم التي تتلظى، لا يراها راء أو يدخلها داخل إلا سقطت فروة وجهه في النار.
{ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة:32]: يسلك فيها سلكاً حتى تخرج -والعياذ بالله- من فمه ودبره، فتمر مروراً كلما انتهت تعود من أوله.
وقال سبحانه: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} [الأحزاب:66] فتقلب يمنة ويسرة: {يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا * وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} [الأحزاب:66 - 67] وقال سبحانه: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف:74 - 75].
والخلود هنا لغير الموحدين، أما عصاة الموحدين فلا يخلدون في النار، فقد يدخلون النار فمنهم من يمكث ألف سنة ومنهم من يمكث مائة سنة، ومنه من يمكث سنة، نعوذ بالله من النار.
وعقيدة أهل السنة -كما مر معنا في درس بعنوان: (عقيدتنا) أنهم لا يقولون بتخليد أهل الكبائر في النار، بل ربما دخلوها ثم أخرجوا، كما سوف يأتي معنا في بحثنا هذه الليلة إن شاء الله.
وقال سبحانه: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً * لِلطَّاغِينَ مَآباً * لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَاباً * لا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلا شَرَاباً * إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً * جَزَاءً وِفَاقاً * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * إِنَّهُمْ كَانُوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً * وَكَذَّبُوا بِآياتِنَا كِذَّاباً * وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً * فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَاباً} [النبأ:21 - 30].
وهناك أمور تصرفنا عن نار جهنم أذكرها بحول الله: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185] وقال سبحانه: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ * وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:6 - 11].
أيها المسلمون! اسمعوا إلى أخبار الصالحين وهم يتعوذون من النار: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66] فقد وصف الله الصالحين بأنهم يتعوذون من عذاب النار، وأنهم يسألون الله أن يصرف عنهم عذاب النار، فوالله لا ضنك ولا أسى ولا لوعة إلا في النار، والفائز من زحزح نفسه وأنجى نفسه من النار، اللهم نجنا من النار.
ذكر أهل العلم بأسانيد جيدة أن عائشة رضي الله عنها وأرضاها زوجة الرسول عليه الصلاة والسلام كانت تردد الآية من قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ * إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ} [الطور:27 - 28] قال أحد الرواة أظنه مسروق أو الأسود بن يزيد يقول: [[سمعت عائشة ترددها في صلاة الضحى وتبكي فذهبت إلى السوق وعدت، فأتيت وهي تبكي وترددها]].
وأما ابن عمر فذكر عنه صاحب الزهد وكيع بن الجراح، أنه قرأ قوله سبحانه وتعالى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54] فبكى حتى أُغمي عليه ورش بالماء.
وابن وهب ذكر عنه الذهبي في المجلد الثامن في السير أنه سمع ابنه يقرأ: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر:47] فأغمي عليه حتى حمل على أكتاف الرجال.
أما ابن تيمية فيذكر عن علي بن الفضيل بن عياض أحد الصالحين الزهاد الكبار، قام أبوه يصلي بهم في الحرم فقرأ سورة الصافات، وكان ابنه علي من أخشى الناس لله، وكان وراءه في الصف فقرأ الفضيل: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:24 - 26] فأغمي على ابنه وحمل إلى البيت، فحركوه فإذا هو قد مات، وقد ذكرها ابن كثير وشيخ الإسلام ابن تيمية وهي قصة صحيحة، فهذا خوف السلف.
جاء رجل من الأعراب إلى عمر، قال: يا عمر! الخير لتفعلنه قال: فإن لم أفعل؟! قال: لتفعلنه أو لتكرهنه، قال: فإن أكرهت، قال: أما تخاف النار؟ -وهذا في كلمة طويلة في أبيات ذكرها أهل التاريخ، فبكى عمر - وقال: بلى والله أخاف النار.
وأبو بكر وعثمان وعلي، كانوا من أخشى الناس لله سُبحَانَهُ وَتَعَالى وكان أحدهم إذا ذكر النار زفر زفرة، ولاع لوعة، وتذكر ذكرى وكان لذكرهم فائدة في عملهم وخشيتهم وصدقهم لله، ونريد من هذه الأمور أن تتحول إلى أعمال صالحة في حياتنا ومراقبتنا لله تبارك وتعالى.(335/2)
مسائل في وصف النار
وبقي علينا مسائل في هذا الدرس:(335/3)
الاستعاذة من عذاب النار
أولها: الاستعاذة من النار، أوصي نفسي وإياكم بكثرة الاستعاذة من النار، فعند مسلم عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {قل أعوذ بالله من عذاب النار وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجال} فمن استعاذ من عذاب النار سبع مرات -كما يأتي معنا بحديث- قالت النار: اللهم أجره مني، وفي حديث صحيح ثلاث مرات، وفي حديث الحارث بن مسلم لما أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {ألا أدلك على عمل؟ قال: بلى.
قال: إذا صليت الصبح فقل: ربِّ أجرني من النار سبع مرات، وإذا صليت المغرب فقل: ربِّ أجرني من النار سبع مرات} وهو حديث صحيح نص على صحته ابن القيم.
إذاً فأوصي نفسي وإياكم بعد الفجر والمغرب بترداد (ربِّ أجرني من النار) سبع مرات، قال صلى الله عليه وسلم: {قل اللهم أني أعوذ بك من عذاب النار وعذاب القبر وإنه لعذاب بئيس} قال الله عن فرعون وأهله: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر:46] أي: في القبر: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:46] فالنار يعرضون عليها وهم في القبور، فإذا قبر الإنسان فهو -والله- إما في روضة من رياض الجنة، أو في حفرة من حفر النار.
فالقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
فليعلم هذا، ولذلك يفتح له روزنة -أو نافذة- فيرى مقعده في الجنة إذا كان من أهل النار، ويقال له هذا مقعدك في الجنة لو كنت من أهل الجنة، فيزداد بؤساً وندامة، ويفتح له لهيب ونار وحرقة إلى النار حتى يبعث؛ ولذلك المجرم يقول: اللهم لا تقم الساعة، فيستمر في ندم وحسرة حتى يقيم الله الساعة.
وعند مسلم عن أم حبيبة وهي زوجة المصطفى عليه الصلاة والسلام وهي ابنة أبي سفيان قالت: {اللهم متعني بأبي أبي سفيان وبأخي معاوية، فقال لها عليه الصلاة والسلام: لقد سألت الله لآجال معدودة، ولأرزاق مقسومة، ولأيام مضروبة، ولوسألت الله لأخيك ولأبيك أن يعيذهما الله من عذاب القبر وعذاب النار كان أفضل} أي: تقول: متعني بأبي وأخي وطوّل أعمارهما، كما يقول أحدنا للآخر: طوَّل الله عمرك، وعمره لا يطول، إنما الأفضل أن يقول: وقاك الله من عذاب النار، بيّض الله وجهك، غفر الله لك، زحزحك الله عن النار، فسألت ربها فقال عليه الصلاة والسلام: {لقد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة، وأرزاق مقسومة - أي: انتهى- ولو سألت الله أن يعيذهما الله من عذاب النار وعذاب القبر كان أفضل} فنسأل الله أن يعيذنا وإياكم من عذاب القبر وعذاب النار.
وصح عند أبي يعلى من قوله عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ما استجار عبد من النار في يوم سبع مرات، فقال: اللهم أجرني من النار إلا قالت النار: يا رب! أجره مني} فالاستعاذة سنة واردة وأوصيكم بها بعد التشهد وفي أدبار الصلوات، وفي السجود وفي آخر الليل وفي كل مناسبة، أن تستعيذوا وتستجيروا بالله من النار.(335/4)
الترهيب من النار
المسألة الثانية: الترهيب من النار، مهما وصف الواصفون فوالله لا يأتون على وصف النار، ومهما حسبوا، ومهما نسبوا إن أجسامنا لا تقوى على النار.
كان عمر بن عبد العزيز الخليفة إذا ذكر النار أغمي عليه على المنبر، وكان عمر رضي الله عنه كما قالت عاتكة زوجته لما سئلت: كيف كان ليل عمر؟ قالت: ما كان ينام كما ينام الناس، عنده ماء بارد فإذا اقترب منه النوم غسل وجهه ثم ذكر الله، فإذا أغفى إغفاءة غسل وجهه وذكر الله، ثم إذا انتصف الليل توضأ وقام يصلي حتى الفجر، قالت له زوجته: لو نمت يا أمير المؤمنين! أمتعب في الليل ومتعب في النهار؟! قال: [[لو نمت في النهار لضاعت رعيتي، ولو نمت في الليل لضاعت نفسي]] رضي الله عنه وأرضاه، ولذلك سعد في الدنيا والآخرة، ويروى أن الرسول عليه الصلاة والسلام رأى عمر عليه ثوب أبيض قال: {البس جديداً، وعش حميداً، ومت شهيداً} فلبس جديداً، وعاش حميداً على فطرة الله التي فطر الناس عليها، وعلى الإسلام، ومات مطعوناً شهيداً.
قال عدي بن حاتم الطائي والحديث متفق عليه {قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: استعيذوا بالله من النار، ثم قال: اتقوا النار، ثم أشاح بوجهه عليه الصلاة والسلام ثم قال: اتقوا النار، ثم أعرض بوجهه وأشاح، قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة}.
يا أيها المسلمون! شق التمرة، الريال، الدرهم، البسمة، المنفعة، كلها صدقة ووقاية من النار، من أراد أن يجعل بينه وبين النار وقاية فالعمل الصالح: {وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} [البقرة:281] فالاتقاء أن تجعل شيئاً من العمل يقيك عذاب الله وغضبه ولعنته.
وقال أبو هريرة -والحديث متفق عليه- قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الصفا، لما أنزل الله عليه: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء:214] فنادى عليه الصلاة والسلام بطون مكة: يا بني عبد مناف! يا بني هاشم! يا بني عبد المطلب! يا عباس عم رسول الله! يا فاطمة بنت محمد! ناداهم بطناً بطناًَ، وقرابة قرابة، فاجتمعوا فقال: {إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، يا بني عبد مناف! أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا بني عبد المطلب! أنقذوا أنفسكم من النار لا أغني عنكم من الله شيئاً، ثم قال: يا عباس! أنقذ نفسك من النار لا أغني عنك من الله شيئاً، يا فاطمة بنت محمد! أنقذي نفسك من النار لا أغني عنك من الله شيئاً} ثم قال أبو لهب: تباً لك! ألهذا دعوتنا؟ فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد:1 - 5].
وأما قوله عليه الصلاة والسلام عند مسلم من حديث ابن مسعود {يؤتى بالنار يوم القيامة لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك} تصور النار تقاد بسبعين ألف زمام والزمام لا يعلم قوته إلا الله، وهي تموج وتهيج على الناس في الموقف، يحطم بعضها بعضاً وتتميز من الغيظ، وتسطو على الناس في الموقف فيفر منها الناس، ومع كل زمام سبعون ألف ملك فكيف بها؟! نعوذ بالله من النار، وأما أبواب جهنم فصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الجنة لها ثمانية أبواب والنار لها سبعة أبواب} رواه أحمد بسند صحيح.
فهذه حكمة بالغة أن جعل الله للجنة -كما سلف- ثمانية أبواب، ورضوان خازنها، وجعل للنار سبعة أبواب ومالك خازنها يقول أهل النار: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف:77] وقد مر معنا أن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، ويأتي عليه يوم وهو كضيض من الزحام، نسأل الله من فضله.
وأما النار فسبعة أبواب، لا يعلم ما بين المصراعين إلا الله، فلهذه ملؤها ولهذه ملؤها، حكمة بالغة من الواحد الأحد، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الجنة لها ثمانية أبواب، والنار لها سبعة أبواب} رواه أحمد بسند صحيح.
وعلى كل باب -في الصحيح- خزنة وحجاب وحراس في الجنة والنار، وورد أن النار لما ذكر سبحانه عليها تسعة عشر، قال أبو جهل: أنا أكفيكم بعشرة واكفوني بتسعة، عليه لعنة الله، وقد قال الله بعدها: {لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ * وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً} [المدثر:28 - 31] فقال: ليسوا ببشر وإنما ملائكة، الواحد منهم قد يحيط بالناس، وقال أبو جهل: أتدرون ما هو الزقوم؟ قالوا: لا ندري، قال: التمر والزبد -التمر والدهن- عليه لعنة الله، فيقول: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان:49] يقول: ذق من هذا التمر والزبد، إنك أنت العزيز الكريم، قال: أتدرون ماذا يمنينا محمد؟ قالوا: نعم.
قال: سحر، فيرده الله على وجهه إلى النار ويقول له: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ} [الطور:15] أهذا هو السحر أم لا؟(335/5)
شدة حر نار جهنم
ومنها شدة حر جنهم نعوذ بالله من حر جهنم، قال عليه الصلاة والسلام -والحديث متفق عليه عند البخاري -: {ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم، قالوا: يارسول الله! إنها كانت كافية، قال: فإن نار جهنم فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً} فهذه نار الدنيا وهذه نار جهنم والعياذ بالله، نارنا هذه جزءاً من سبعين جزءاً من نار جهنم، وفي بعض الروايات: {أنها غمست في البحر سبعين مرة، حتى بردت ولولاها ما طاقها الناس} نعوذ بالله من النار التي أعدها الله للمعرضين.
لون جهنم: في الحقائق والنظريات العلمية التي وصل إليها العلم المتطور اليوم هو أن آخر درجات الحرارة تسود فيها النار، ولذلك في محاضرة مع عالم مسلم وعالم كافر، قال له المسلم: ما هي آخر نظرية توصل لها العلم الحديث؟ قال: توصلنا في العلم الحديث أننا إذا أشعلنا النار وبلغت درجة الحرارة ألفاً، بعد أن تحمر النار، فإنها تبيض، قال: فإذا ابيضت قال: ترتفع ألف درجة، قال: فماذا يحدث؟ قال: تسود النار تماماً، قال عندنا هذا في السنة، قال: في أي كلام؟ قال: روى الترمذي بسند صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، وأوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، وأوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة} فقال الرجل: لا إله إلا الله محمد رسول الله! وقصته معروفه وإسلامه منظور مشهود، والحق ما شهدت به الأعداء.
وإننا نعرض هذا ليعلم الناس أن الناس غاية ما يصلون إليه من العلم إنما هو موجود في كتابنا وسنة نبينا عليه الصلاة والسلام، وقد أعطاني أحد الفضلاء قبل أيام كتاب الأوائل وفيه مائة عظيم في العالم، وقد ألفه مايكل هارف، أَلَّف مائة عظيم، أتدرون من هو الأول؟ إنه محمد عليه الصلاة والسلام، وهذا الأمريكي حاقد وغاضب وخصم وعدو ولكن يقول: الحقيقة هي التي فرضت نفسها، حيث أني لم أجد في المرتبة الأولى في عظماء العالم على مر التاريخ وفي بقاع الدنيا والقارات الخمس كمحمد عليه الصلاة والسلام، فيقول المترجم العربي: على رغم أنفك، فهو سيد الخلق، فهو الأول.
وهذه نأخذها حقائق ليظهر للذين انبهروا بحضارة الغرب، وقال أحدهم -كما عرض علينا في أحد الدروس- قال: لو حملنا الأمريكان على ظهورنا لما أنصفناهم، جعلك أنت تحملهم على ظهرك، أما نحن فنبرأ إلى الله أن نحمل أحداً منهم، لماذا؟ إن قدموا شيئاً فالذي خلق أدمغتهم هو الله، والعلم ليس حِجْراً عليهم، لكن انظر إلى محمد عليه الصلاة والسلام الذي يقول شوقي فيه:
المصلحون أصابع جمعت يداً هي أنت بل أنت اليد البيضاء
يمدح الرسول عليه الصلاة والسلام ويقول محمود غنيم:
أتطلبون من المختار معجزة يكفيه شعب من الأموات أحياه
إحياء القلوب أعظم من اكتشاف الذرة والكهرباء والسيارة والطائرة، أحيا شعوباً، ثم ترك هذه العقول تكتشف وتخترع وتقدم للناس، فهذا هو الفرق بين هذا العلم.
وللعلم فإن الرجل الواحد والخمسين في عظماء العالم هو عمر بن الخطاب، وأتى بـ هتلر في العظماء وكان رقمه أربعة وسبعين، فهذا هتلر الذي دمر الناس، أتدرون كم قتل هتلر؟ قتل خمسة وثلاثين مليوناً في الحرب العالمية الثانية، أكبر من قتل من ذرية آدم الأحياء هو هتلر، وأتى باليهود الذين سحقوا البشرية فجعلهم من العظماء، وقد ظل سعيه، وإنما نأخذ الشاهد: أن محمداً عليه الصلاة والسلام في المرتبة الأولى.
ومن لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول(335/6)
وصف عمق جهنم
وأما قعر جهنم نعوذ بالله من جهنم، قال: أبو هريرة: {كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: فسمعنا وجبة -يعني: وقعة حجر، أو سمعوا صوتاً هائلاً- فقال صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذا؟ -ولم يخبرهم بل سمعوا بآذانهم- قالوا: لا ندري، قال عليه الصلاة والسلام: هذه صخرة أُلقيت من سماء النار ومكثت سبعين خريفاً ووصلت الآن إلى قعر جهنم} وجهنم عند أهل السنة والجماعة دركات، والجنة درجات، قال ابن قتيبة: الدرجات مرتفعة، والدركات نازلة، فلا تقل للدرج العالي: دركات، ولا تقل للدرج النازل: درجاً، بل قل: دركات، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرا} [النساء:145] فهم في الدرك الأسفل، فهي دركات نعوذ بالله منها.
أبو طالب ذب عن الرسول عليه الصلاة والسلام وحماه، ووقاه وحفظه، ودافع عنه، فماذا كان جزاؤه؟ شفع له الرسول صلى الله عليه وسلم: فجعله الله في ضحضاح من النار، وأبو طالب لا يخرج من النار وهو خالد مخلد في النار، فجعله الله في ضحضاح من النار، في أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه، وهو أخف الناس عذاباً، وقد ورد في الصحيح: {إن أخف الناس عذاباً رجل يوضع بين أخمص قدميه جمرة يغلي منها دماغه} فنعوذ بالله من النار.(335/7)
سلاسل جهنم
ورد عند أحمد والترمذي بأسانيد صحيحة، أن الرسول عليه الصلاة والسلام ذكر السلسلة من سلاسل جهنم، فقال عليه الصلاة والسلام {لو أن حديدة -وأشار إلى الجمجمة- وقعت من السماء وما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة عام، وقعت هذه السلسلة قبل الليل لوضعت في الصباح، وإن هذه الجمجمة لتوضع في سلسلة في جهنم من أولها إلى آخرها، فلا تقطعها إلا في أربعين خريفاً}.(335/8)
حيات جهنم وعقاربها
أما حيات جهنم وعقاربها: فقال عليه الصلاة والسلام: {إن في النار حيات كأمثال أعناق البخت} والبخت: نوع من الجمال تأتي في السودان وشمال ليبيا، وفي أمثالها من بلاد أفريقيا، قالوا: هي الجمال التي لها سنامان، لكن الحية كأعناق البخت، وفيها ما هي كأعناق البغال، وحسبك إذا كانت الحية كذلك، ولكننا نسأل الله ألا يرينا تلك فإن أجسامنا على النار لا تقوى، ونسأله أن يزحزحنا عن النار.(335/9)
المرور على الصراط
ابن رواحة الشجاع البطل هذا أحد أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام الذي قتل في مؤتة، وقد تقدم معنا يوم باع نفسه من الله، وقال: {يا رسول الله! ماذا علينا؟ فقال: أن تحموني مما تحمون منه نساءكم وأطفالكم وأموالكم قال: فإذا فعلنا ذلك؟ قال: لكم الجنة، قال: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل} فقام من مجلس العقد، قال ابن القيم: والبيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تفرقا فقد وجب البيع، ماذا حدث؟ ذهب فقتل شيهداً في سبيل الله في مؤتة في أرض الأردن، وكان قبلها قد أخذ المصحف وزوجته معه، وأطفاله حوله فوضع رأسه في حجر زوجته ورفع المصحف وقرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] فبكى حتى كادت أضلاعه تختلف، وهو شاب، قالت امرأته: مالك؟ قال: [[أخبرنا الله بالورود ولم يخبرنا بالصدور]] أي: أخبرنا يقيناً أننا نرد {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] لكن {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً} [مريم:72] فنحن لا ندري، أما الورود فيقيناً أننا نرد جميعاً، أما الصدور فنسأل الله من فضله، والصحيح عند أهل العلم أن هذا الورود على الصراط، وليس هو دخول النار، يعني: تمرون عليها، فالأنبياء والرسل والصالحون والأولياء والعلماء والملوك والأغنياء والفقراء كلهم يمرون على متن النار، على الصراط، طوله شهر وهو أدق من الشعر وأحر من الجمر وأحد من السيف، يمر أناس كالبرق، وكلمح الطرف، وآخرون كالفرس المضمر الجواد، وبعضهم كمن يمشي، وكمن يحبو، ثم من يكردس على وجهه في النار.(335/10)
شراب أهل النار
أما شراب أهل النار فهو كالمهل، فسره عليه الصلاة والسلام بأنه عكر الزيت، وهو الحار الذي يغلي من الزيت، يشربه الشارب غصباً، من وراء أنفه يشربه، فتنخلع أمعاؤه وتتقطع في الأرض من دبره، وكلما تقطعت أنشأ الله له أمعاء، فيشرب وتتقطع وهكذا أبد الآبدين، نعوذ بالله من ذلك، وهذا عند أحمد والترمذي وابن حبان والحاكم بأسانيد صحيحه، أنه كعكر الزيت إذا قرب وجهه سقطت فروة وجهه في هذا الزيت أو في الإناء.
قر السم حتى امتار فروة رأسه من السم صلٌّ قاتل اللسع مارده
وهذا ذو الرمة يصف حية تلدغ، والحيات السود إذا لدغت عند العرب سقطت الجفون من سمها في الأرض، ووصفوا عذاب جهنم في بعض كتب المفسرين بذلك، ولكن أين جهنم من عذاب الدنيا؟ عذاب الدنيا سهل وبسيط.
يقول سعيد بن جبير للحجاج: قال له الحجاج في مناظرة حارة ساخنة بينه وبين سعيد بن جبير، عالم المسلمين المحدث الزاهد العابد، وقد أتي به إلى الحجاج بن يوسف السفَّاك فأجلسه أمامه، قال: يا سعيد بن جبير! والله لأقتلنك قتلة ما قتلتها أحداً من الناس، قال: يا حجاج! اختر لنفسك أي قتلة أردت، والله لا تقتلني قتلة إلا قتلك الله بمثلها، فقتله، ثم نام الحجاج في تلك الليلة فرأى كأنه يسبح في الدم، وكان في الصباح يبكي ويقول: رأيت كأن القيامة قامت، وكأني أوقفت عند الصراط، فقتلني الله بكل رجل قتلته قتلة واحدة، وهو قد قتل مائة ألفٍ، وقتلني بـ سعيد بن جبير سبعين مرة.
وهذا الجزاء من جنس العمل، يقول له سعيد بن جبير لما أراد قتله: لا إله إلا الله محمد رسول الله خذها يا حجاج حتى تلقاني بها عند الله يوم القيامة، ولذلك لما مروا على الحجاج -كما عند المؤرخين- سمعوه يعذب في القبر ويصيح في الليل، فيقول أخوه محمد: رحمك الله يا أبا محمد! تقرأ القرآن في الحياة وتقرؤه في القبر، فهو يعتذر له أمام الناس، ماأحسن ذاك القرآن في القبر! ونحن نقول: الله يتولى الأمور، ولا نشهد لأحد بجنة ولا نار، لكن نقول: الحجاج نبغضه ونعتقد أن بغضه من أوثق عرى الدين.(335/11)
طعام أهل النار
أما طعام أهل النار فالزقوم، {لو أن قطرة من الزقوم قطرت في الدنيا لأفسدت طعام أهل الدنيا عليهم، فكيف بمن كان طعامه الزقوم} رواه الترمذي والنسائي وابن ماجة، بأسانيد صحيحة، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنها: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات:65] قال الأصمعي: جمع هارون الرشيد العلماء والأدباء قال لهم: كيف يصف الله لنا طلع الزقوم بأنه كرءوس الشياطين ونحن ما رأينا رءوس الشياطين؟ فسكتوا جميعاً فدخل أحد الأعراب من أهل اللغة، فقال: فيم تتحاورون؟ أعرضوها علي، قالوا: وصف الله لنا طلع الزقوم بأن طلعها كأنه رءوس الشياطين، فكيف يصف لنا شيئاً ما رأيناه؟ قال: إن العرب تصف شيئاً معلوماً بشيء مجهول تسمع به، قالوا: أتحفظ شيئاً؟ قال: أحفظ قول امرئ القيس:
أيقتلني والمشرفي مضاجعي ومسْنُونَة زرق كأنياب أغوال
والأغوال مارأيناها، فيصف المسنونة الزرق، كأنيابها يعني: الرماح، يقول هذا امرؤ القيس الفاجر، وقد دخل على امرأة غير محرم له ويقول:
حلفت لها بالله حلفة فاجر لناموا فما إن من حديث ولا صال
فقالت: لحاك الله إنك فاضحي ألست ترى السمار والناس أحوالي
ثم تهدده بزوجها، وتقول: زوجي سوف يقتلك، قال -وهو قائد الشعراء إلى النار، وقائد الحداثة، وبالمناسبة قد يأتي من شعرهم شعر مليح وفصيح وجميل، لكنهم مفسدون في قلوبهم المظلمة التي ما رأت النور- قال:
يقتلني والمشرفي مضاجعي أي: سيف أو رمح يصنع في بلاد مُشْرَف.
المشرفي: رمح وقيل: سيف، و (مضاجعي مسنونة زرق كأنياب أغوال) يعني: ما يستطيع قتلي، فأحالهم على شيء مجهول تسمع به العرب.
إذاً: العجيب أن الزقوم شجر يحيا وسط النار، وهذه حكمة بالغة، وقدرة نافذة، فسبحان من أخرج الحي من الميت! وأخرج الميت من الحي! لا أرانا الله تلك الأماكن ولا تلك البقاع، وزحزحنا الله وإياكم عن النار.(335/12)
غلظ أجسام أهل النار
أما غلظ أجسامهم: فعند مسلم في صحيحه والترمذي قال عليه الصلاة والسلام: {ضرس الكافر في النار مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث} ونقول: آمنا وصدقنا، قال الشافعي: آمنا بما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا بما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله، ومن كذّب بهذه الأخبار فهو ملعون زنديق مارد حظه السيف، من كذب بشيء مما صح عن المعصوم عليه الصلاة والسلام فالنار مثواه خالداً مخلداً فيها، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً ولا ينظر إليه، ولا يزكيه وله عذاب أليم.(335/13)
الغمس في النار
أما الغمس في النار: فصح عنه صلى الله عليه وسلم عند مسلم أنه {يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار -تظن أن أهل النار ما كانوا منعمين، والله كانوا منعمين، كانوا في الفلل البهية والقصور الرضية، والمطاعم الشهية، والملابس الثرية، في كل ما يريدون لكنهم فجروا مع الله فما وجودوا السعادة، وتجد بعض المؤمنين لا يجد كسرة الخبر في اليوم، فيأتي الله بذاك المجرم- فيغمسه غمسة في النار ثم يخرجه، فيقول: هل رأيت نعيماً قط، هل مر بك نعيم قط؟ قال: لا -والله- يارب ما مر بي نعيم قط، ويؤتى بأهل البؤس في الدنيا من أهل الجنة، فيغمس غمسة في الجنة} هذا الفقير المطرود بالأبواب الذي لا يزوج إذا خطب، ولا يشفع ولا يقبل ولا يعطى ولا يقدم ولا يصدر، فيغمسه الله في الجنة غمسة {فيقول: هل مر بك بؤس قط؟ فيقول: لا -والله- يارب! ما مر بي بؤس قط} وهذا من أهل الجنة.
أتي بـ البراء بن مالك، وهو البطل أخو أنس بن مالك أحد الأنصار كان عليه ثوبان ممزقان من أفقر الناس، شاب لا يملك درهماً ولا ديناراً وعنده أسرة كبيرة، دخل على الرسول عليه الصلاة والسلام فقال عليه الصلاة والسلام: {رب أشعث أغبر ذي طمرين لو أقسم على الله لأبره، منهم البراء بن مالك} يعني: لو حلف على الله لأبر يمينه.
ولذلك كان المسلمون إذا حضروا في غزوة قالوا: يا براء! نسألك أن تقسم على الله -أن تحلف على الله- أن ينصرنا، أي: بلغ من الولاية وحب الله والرسول له أنه يحلف ويقسم على الله فيجري الله قسمه، وهذه خصوصية لبعض الناس.
حضروا في تستر، وكان القائد أبا موسى مع أهل فارس، فلما حاصروا الحصن، قالوا: يا براء! أقسم على الله أن ينصرنا هذا اليوم، قال: أنظروني قليلاً، فذهب واغتسل وتحنط ولبس أكفانه، وأتى بغمد السيف فكسره على ركبته، وقال: يارب! أقسم عليك هذا اليوم أن تنصرنا وأن تجعلني أول شهيد، وبدأت المعركة، فقتل أول الناس وانتصر المسلمون.
بعنا النفوس فلا خيار ببيعنا أعظم بقوم بايعوا الغفارا
فأعضنا ثمناً ألذ من المنى جنات عدن تتحف الأبرارا
فلمثل هذا قم طروباً منشداً يروي القريض وينظم الأشعارا
ويقول محمد إقبال وقد مرت كثيراً: -
نحن الذين استيقظت بأذانهم دنيا الخليقة من تهاويل الكرى
حتى هوت صور المعابد سجداًَ لجلال من خلق الوجود وصورا
ومن الألى دكوا بعزم أكفهم باب المدينة يوم غزوة خيبرا
أَم من رمى نار المجوس فأُطفئت وأبان وجه الصبح أبيض نيرا
ومن الذي باع الحياة رخيصة ورأى رضاك أعز شيء فاشترى
هم أصحاب محمد عليهم الصلاة والسلام.(335/14)
الشفاعة في خروج عصاة الموحدين من النار
خروج أناس من النار بالشفاعة، فمن معتقدنا نحن أهل السنة والجماعة أن الموحدين لا يخلدون في النار، قال الشيخ حافظ بن أحمد الحكمي رحمه الله في منظومته العقدية:
لكن عصاة من أولي التوحيد قد يدخلونها بلا تخليد
فمن مات وهو صاحب كبائر قد يدخل النار أو قد تدركه شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكن لو دخل النار وهو موحد فلا يخلد في النار، فالسارق والزاني وشارب الخمر ومن أحدث كبائر والقاتل، قد يدخل النار ولكن لا يخلد في النار، والدليل على ذلك ما في الصحيح من حديث أبي موسى، قال: قال سول الله صلى الله عليه وسلم: {يدخل أهل الجنة الجنة، وأهل النار النار، فيقول الله: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان -هذه رحمة أرحم الراحمين- فيخرجون من النار وقد امتحشوا واسودوا وتغيرت ألوانهم، فيغمسون في نهر الحياة، نهر عند باب الجنة فيدخلون صفر الألوان مكتوب عليهم الجهنميون، عتقاء الله من النار، وهؤلاء هم آخر من يدخل الجنة من أهل الجنة} ولعلمكم أن آخر من يدخل الجنة، رجل من هؤلاء، يقول: يارب -هذا الموحد أما المشرك فلا يطمع أبداً في الدخول وهو خالد مخلد في النار: {مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} [المائدة:72] {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48] فالمشرك الجنة محرمة عليه أبداً، فآخرهم كما في الصحيحين برواية طويلة من حديث أبي هريرة، يخرجه الله، يقول: {يا رب! أخرجني من النار، قشبني ريحها، وأحرقني ذكاؤها، قال الله: يابن آدم! إن أخرجتك من النار أتسأل غير ذلك؟ قال: لا يا رب! فيعطي ربه من الوعود والمواثيق ما الله به عليم فيخرجه، فإذا أخرجه رأى الجنة، قال: يا رب! قربني من باب الجنة، قال: ما أغدرك يابن آدم! أتسألني غير ذلك؟ قال: لا والله يا رب -الحديث في الصحيحين - فيقربه الله فيرى نعيم الجنة، قال: يا رب! أدخلني الجنة، فيضحك الله} وهذا معتقد أهل السنة والجماعة أن الله يضحك ضحكاً يليق بجلاله، لا نكيفه ولا نمثله ولا نشبهه ولا نعطله، ولما قال صلى الله عليه وسلم: {يضحك ربنا، قال أعرابي بدوي عنده: لا نعدم من رب يضحك خيراً} الأعراب لهم دواهي، يقول: لا نعدم من رب يضحك خيراً، وصدق أنه مادام أن الله يرحم ويضحك فنرجو رحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ونسأله فضله {فيدخله الله الجنة، فيقول: تمن، فيتمنى، فيقول: لك ذلك وعشرة أمثال من ملك أهل الدنيا} لكن موضع سوط فيها خير من الدنيا وما عليها.
أقلهم ملكاً من الدنيا ملك وعشرة أمثالها من دون شك
لكنما موطن سوط فيها خير من الدنيا وما عليها(335/15)
بعض مكفرات الذنوب والخطايا
فمعتقدنا أن الموحدين قد يدخلون النار، لكنهم يخرجون برحمة أرحم الراحمين، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: مكفرات الذنوب والخطايا عشرة، من فاتته ولم يدرك ولا واحدة، فليبكِ على نفسه ولا يلومن إلا نفسه، وقد شرد على الله شرود الجمل الشارد على أهله، وقد ذكرها في المجلد العاشر والحادي عشر من مجموع الفتاوى.
أولها: المصائب المكفرة.
ثانيها: الحسنات الماحية.
ثالثها: دعوات المؤمنين له.
رابعها: ما يجد في سكرات الموت.
خامسها: شفاعة المسلمين في صلاة الجنازة له.
سادسها: ما يلقى في القبر.
سابعها: هول العرصات، والهول يوم العرض الأكبر.
ثامنها: شفاعة الرسول عليه الصلاة والسلام.
تاسعها: شفاعة الولي، أو شفاعة الصالح من أقاربه.
عاشرها: رحمة أرحم الراحمين.
فإذا فاتته فليبكِ على نفسه.
وأما بعث النار، فإذا جمع الله الأولين والآخرين كما في الصحيحين، قال الله: {يا آدم! أخرج بعث النار قال: يا رب! من كم؟ -أي: من أمته- قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون} فذلك يوم يشيب الولدان {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} [الحج:2].
نور الدين محمود زنكي، السلطان الكردي الأيوبي الذي فتح الله به البلاد، وجمع الله به كلمة العباد، كان من أولياء الله الكبار، كان يصلي في الليل، وهو عم صلاح الدين الأيوبي، يقول الحارس إذا أتى نصف الليل أيقظني للصلاة، فأيقظ أطفاله وزوجاته، وجواريه وجنوده، فقاموا يصلون حتى الصباح، استعرض جيشه وهو أكثر من مائة ألف في دمشق، فيه العساكر والدساكر والجنود المجندة، والبنود والأعلام، وكان يعدها لفتح بيت المقدس لكن مات قبل ذلك، فلما كان في يوم المهرجان دخل عليه عالم من العلماء فقال له في قصيدة للسلطان:
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إن قيل نور الدين جاء مُسلِّماً فحذار أن تأتي وما لك نور
حرمت كاسات المدام تعففاً وعليك كاسات الحرام تدور
فغشي على السلطان حتى رش بالماء.
ففي ذاك اليوم، يقول آدم: كم يا رب؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، {فذهل الصحابة وقامت شعور رءوسهم، وقالوا: يا رسول الله! كيف العمل؟ قال: أبشروا فإن من يأجوج ومأجوج من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، ثم قال عليه الصلاة والسلام ألا ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قالوا: الله أكبر، قال: أما ترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة؟ قالوا: الله أكبر، قال: فأبشروا فإنكم في الأمم التي قبلكم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود أو كالشعرة السوداء في الثور الأبيض} نسأل الله من رحمته.
أما أعمالنا فو الله نحن نعرف أنفسنا، لا أعمال، وهي مدخولة ومشكوكة، وهي عرجاء، ولكن نحن نضع أنفسنا تحت رحمة أرحم الراحمين، أن يتغمدنا برحمته، فلن يدخل أحد الجنة بعمله، ولكن برحمة أرحم الراحمين!(335/16)
أهل الكبائر تحت المشيئة
ومن معتقد أهل السنة أن أهل الكبائر قد يدخلون النار، وإذا تابوا تاب الله عليهم، وقد يشفع فيهم الرسول عليه الصلاة والسلام، لكن قد يدخل شارب الخمر النار، قال أهل العلم: يقاس على شارب الخمر في الكبائر متعاطي المخدرات، والحشيشة وما في حكمها، بل قال ابن تيمية: الحشيشة أضر وأعظم، ووجد من الأنواع هذه الفتاكة أنها أعظم ضرراً من الخمر؛ لأنها قد تسبب هيجاناً وجنوناً وصرعاً وانقطاع نسل وقتلاً وتأبيداً في شرود العقل، فهي أشد وأنكى من الخمر.
وقد قال عليه الصلاة والسلام والحديث عند أحمد بسند حسن: {من شرب الخمر لم يرض الله عنه أربعين ليلة} شربها مرة يبقى الله غضباناً عليه أربعين ليلة، ويقاس به متعاطي -ولو حبة- المخدرات: {فإن عاد كان على الله حقاً أن يسقيه من طينة الخبال، قالوا: وما طينة الخبال يارسول الله؟ قال: صديد أهل النار} وفي ألفاظ: {عصارة أهل النار} قيح أهل النار، ودمهم وصديدهم، فهذا شارب الخمر.
والزناة ولو كانوا موحدين قد يدخلون النار ولهم أفران إذا لم يتوبوا وهي قدور هائلة محماة تضطرم بأهلها، يجمع الله الزناة من الرجال والنساء فيها، فتتمصخ جلودهم.
والسارق له حظه، والقاتل له حظه، وقد يدخل أهل العصاة بمعاص أقل كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح لما قال لـ معاذ: {ألا أدلك على ملاك ذلك كله، قال: بلى يا رسول الله! قال: كف عليك هذا، وأشار إلى لسانه، قال: وإنا لمآخذون بما نتكلم به يا رسول الله؟! قال: ثكلتك أمك يا معاذ! وهل يكب الناس في النار على مناخرهم -أو قال: على أنوفهم- إلا حصائد ألسنتهم}.
رب كلمة يقولها الإنسان لا يلقي لها بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً، أو نظرة أو همزة أو إشارة معها استخفاف بمحارم الله وتعد على حدود الله، فنسأل الله أن يتوب علينا وعليكم.
سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولا يزال مهما هفا العبد عفا
يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا
ومر معنا أن النار دركات، وأن الجنة درجات، وأن من الناس من يدخل دركات النار بحسب أعمالهم، والجنة درجات كما في الدرس السابق.(335/17)
أول من تسعر بهم النار
أما المسألة الثامنة عشرة: أول من تسعر بهم النار ثلاثة، نعوذ بالله من أعمالهم:
عالم ومجاهد وكريم: يؤتى بعالم فيقول الله: أما علمتك العلم؟ قال: بلى يا رب! فيقول: ماذا فعلت، والله أعلم؟ قال: علمت الجاهل وأمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر، فيقول الله: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله: إنما تعلمت ليقال عالم، خذوه إلى النار، فيسحبونه على وجهه حتى يلقى في النار، ويفعل بالمجاهد المرائي والكريم المرائي كذلك، ولما سمع معاوية الحديث بكى حتى مرّغ وجهه في التراب، وقال صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16].
أما تفسير قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً} [مريم:71] فقد مر والصحيح عند أهل العلم أن جميع الناس يمرون على النار، من على الصراط، وهو الورود، ثم ينجي الله المتقين من على الصراط، ويذر الظالمين ومن استحق العذاب فيها جثياً، نسأل الله السلامة.(335/18)
الحروز من النار
أيها المسلمون! هذا الدرس بعنوان: صحيح الأخبار في وصف النار، وهو مجمل لما ورد من صحيح الأخبار، أما الضعيفة أو الواهية فتجنبتها، وهناك أخبار تشيب لها الرءوس، لكننا نخبركم بحروز عن النار، إذا فعلتموها أحرزتم أنفسكم، علّ الله أن يتولانا وإياكم:(335/19)
التوبة النصوح
أولها وأعظمها: التوبة النصوح، أن نمسي وإياكم تائبين ونصبح تائبين: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53] {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].
وباب التوبة مفتوح حتى تطلع الشمس من مغربها، ولا يزال كل يوم كلما برق بارق، وكلما سطع نجم وأضاء، ونزل قطر من السماء، وكلما لمع ضياء، وترقرق الماء، فلله تائب من الأولياء يعود.
هذا اليوم أتت رسالة من رجل اسمه المطبقاني من المدينة، أعلن توبته، ويريد أن تُقص توبته ولا يخبر باسمه، وأموره عجيبة فقد كان من الأثرياء التجار الكبار -أنا لا أذكر اسمه لكن أسرته معروفة- وقد سافر إلى أوروبا فأنفق مليوناً في عطلة من العطل في الفجور والإجرام والخسارة، وفي الأخير عاد وصلَّى صلاة التراويح في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام المسجد النبوي وسمع المقرئ وهو يقرأ: {إِذَا وَقَعَتْ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ * خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ * إِذَا رُجَّتْ الأَرْضُ رَجّاً} [الواقعة:1 - 4] فَرُج قلبه وبعد الصلاة أتي عليه وهو مغمى، وحمل وأعلن توبته.
وقد وعدني أحد الإخوة بقصص كثيرة سوف نسمع إليها ونعرض لها في دروس ممن تاب وأناب، فحلنا من الورطة وخروجنا من هذه المدلهمة والنار التوبة النصوح.
{إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها}.(335/20)
المحافظة على الفرائض
الأمر الثاني: المحافظة على الفرائض بخشوع وخضوع ووضوء، بتفكر وتدبر، جماعة، فأعظم ما ينجيك من المعاصي الصلوات الخمس جماعة، وأعظم ما يردك عن المخالفات الصلوات الخمس جماعة، وأعظم ما يجعلك مؤمناً حاراً حياً الصلوات الخمس جماعة: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت:45].
ابن تيمية يسأله رجل يقول: أصبت بسهم مسموم -يعني: عشق- وبعض العشق يقتل، وبعضه يخرج الإيمان والقرآن وحب الله من القلب، وبعض العشق يترك الإنسان كالدابة بهيمة- قال: ماذا أفعل؟ قال: عليك بالصلوات الخمس جماعة، وأكثر من الدعاء أدبار الصلوات، وفي السجود، وفي آخر الليل.(335/21)
ذكر الله دائماً
ومنها: ذكر الله دائماً وأبداً، فلا ينجي من عذاب الله كذكر الله، ومنها -أيها الأحباب- قرآن الله وكتابه وكلامه، بالقراءة بتدبر وتلاوة وحرارة، وبحفظ ما يستطاع من القرآن.
ومنها الانتهاء عن المعاصي.
اتقِ الله الذي عز وجل واستمع قولاً به ضرب المثل
اعتزل ذكر الأغاني والغزل وقل الفصل وجانب من هزل
كم أطعت النفس إذ أغويتها وعلى فعل الخنا ربيتها
إن أهنا عيشة قضيتها ذهبت لذاتها والإثم حل
كيف يستفيق قلب ينام على الأغنية ويستيقظ عليها، قرآنه المجلة الخليعة، والفيديو المهدم، والمسلسل المخرب؟! كيف يستفيق ميت؟ فلذلك لا يرى النور.
فأوصي نفسي وإخواني أن يستجيبوا لله وللرسول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال:24] ما هي الاستجابة؟
هي أن تدخل الإيمان قلبك وإلا سوف تكون ميتاً: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] ظلمات الشهوة والمعصية، الانتهاء عن المعاصي، الغناء الماجن، وتسمعون كثيراً من التركيز عن الغناء؛ لأن ابن تيمية قال: هوبريد الزنا، وقال بعض أهل العلم: هو الذي يحبب النفاق ويزرعه ويغرسه، وقال غيرهم: ما أدمن عبد على سماعه إلا وقع في الفاحشة الكبرى، ومنها: إطلاق النظر في المحرمات، ومنها: سفور المرأة، وتبرجها وذهابها مع السائق بلا محرم، ومرورها على الخياطين والمغرضين والباعة بلا محرم، كل ذلك سبب للفساد والجريمة التي وقعت وتقع، إذا لم يتب التائبون ويعود المعرضون إلى الواحد الأحد، فهذه مسائل تنجي صاحبها من النار.(335/22)
المحافظة على صلاة الفجر
ومن أعظم ما أقول لكم: صلاة الفجر جماعة، قال عليه الصلاة والسلام: {من صلَّى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه ومن أدركه كبه على وجهه في النار} والحديث عند مسلم، وقال بعض العلماء: المعهود أن من صلَّى الفجر في جماعة لا يصاب بكبيرة ذاك اليوم، ولذلك لا تجد مصلياً صلى الفجر في جماعة يتناول المخدرات أو يزني أو يسرق أو يقتل، لهذا بإذن الله يحفظه الله ويسدده لأن حرزه صلاة الفجر.(335/23)
التهليل وفضله
ومن الحروز أيضاً: تهليل مائة تهليلة، بصيغة: {لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، من قالها في يوم مائة مرة غفرت له مائة سيئة وكتبت له مائة حسنة، وكانت له عدل عشر رقاب -كأنما أعتقها- وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأتِ أحد بأفضل مما جاء به إلا رجل عمل بعمله أو زاد عليه} رواه البخاري عن أبي هريرة.
وهذه حروز ومن شاء فليعتبر، ولعل الله عز وجل أن يجعل لنا ولكم سبيلاً إلى رضوانه، وباباً إلى رحمته، نسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يجنبنا وإياكم النار والعار والشنار والدمار.
{رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران:192 - 193] {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان:65 - 66] {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران:185].(335/24)
الأسئلة(335/25)
من عقائد أهل السنة: الإيمان بوجود النار الآن
السؤال
هل النار موجودة الآن؟ وما معتقد أهل السنة والجماعة في ذلك؟
الجواب
معتقد أهل السنة والجماعة أن الجنة والنار موجودتان الآن، ومخلوقتان وأنهما لا تفنيان، قال الشيخ حافظ الحكمي
والنار والجنة حقاً وهما موجودتان لا فناء لهما
أي: موجودتان الآن ومخلوقتان، فالصحيح أن النار مخلوقة، وخالف في ذلك الفلاسفة أذناب الصابئة وفروخ المعرضين والملحدين الزنادقة، فقالوا: تخلق يوم القيامة وأنكروا خلقها، فقالوا: تخلق على صورة تعذيب تمثيل، فعليهم لعنة الله، بل هي مخلوقة اليوم وموجودة، ولا تخلق فيما يأتي بل هي الآن موجودة.
هذا معتقد أهل السنة والجماعة، والنار لا تفنى ولو نقل هذا عن بعض أهل العلم فهي مقولة، إما لا تثبت عنه وإما أنه واهم، والصحيح أن من في الجنة خالدون فيها أبداً، ومن في النار خالدون فيها أبداً.(335/26)
الجن وأحكامهم في الآخرة
السؤال
هل يدخل الجن النار؟
الجواب
سبق في الدرس الماضي أنه عرض سؤال هل يدخل الجن الجنة؟ قال ابن تيمية يجيب على هذا
السؤال
ليس في الكتاب والسنة تصريح أن الجن يدخلون الجنة، لكن ورد في سورة الرحمن ما يشير إلى أنهم سوف يدخلون لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن الحور العين: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن:56] فدل على أن الجن يدخلون.
أما دخول الجن النار فقد ورد صريحاً، قال سبحانه:
ويقول الجن عن أنفسهم: {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً * وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن:14 - 15] فعصاتهم يدخلون النار، فهذه من المسائل.(335/27)
حكم سفك الدم في البلد الحرام
السؤال
طالعتنا جريدة المدينة اليوم بفتاوى بعض العلماء المخالفين، يستنكرون فيها عمل الطغمة الفاسدة في بيت الله الحرام، في الحج العام الماضي، نرجو التوضيح؟ وهل علينا واجب نحو ذلك؟ وماهو موقفنا من هذه الطغمة؟
الجواب
أولاً: أيها الأخ: قتل هؤلاء المجرمين عدالة، وسوف يكون هناك محاضرة يوم الأربعاء -إن شاء الله- في الرياض بعنوان: قتل المجرمين عدالة، وسوف يؤتى بالنصوص من الكتاب والسنة، ومواقف أهل العلم والنقولات من بعض المشايخ عن هذه المسألة وسوف تصلكم الأشرطة، وموقفنا أن نقول: إن قتلهم من العدالة، وهؤلاء زنادقة، وارتكبوا أعظم جرائم في الدنيا، فإنهم لم يسرقوا ويزنوا، بل فعلوا أعظم من السرقة، والزنا، ماذا فعلوا؟ سفكوا الدم الحرام في الشهر الحرام في البلد الحرام.
وهؤلاء في قتلهم دروس:
أولها: أن إقامة شرع الله في الأرض سلام وأمان للبلاد والعباد وأنها سعادة، وأن من لم يقم شرع الله فسوف يقع في مدلهمات وتمزق وويلات، وفي انحراف وإرهاب وفي قتل وإعدامات، كما فعلت الشعوب من حولنا، لمَّا لم يطبقوا شرع الله: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].
يقتل القاتل عندهم ثم يتركونه سبع سنوات، ثم يخرج اليوم الثاني، يزني الزاني ويفجر الفاجر، ويرهب الراهب، ويأتون بمدلهمات ويقتلون قتلاً ذريعاً، وفي الأخير تطلمس الفتاوى وتخرج وتميع القضايا فيخرجون من الباب الثاني للسجن، فيقعون في خوف عظيم.
أين الرواية أم أين الدراية كم صاغوه من زخرف فيها ومن كذب
بهارج وأحاديث منمقة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
فالنصر في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا في السبعة الشهب
وفيها الدرس الثاني: أن الله يحمي المقدسات ومهما حاول مختف أن يختفي، فإن الله سوف يفضحه على رءوس الأشهاد.
والثالث: أن هذه البلاد قامت على الكتاب والسيف: {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] كتاب وسنة وسيف ينصر، ودرس للزنادقة من أهل الحداثة، أن سيفاً قطف تلك الرءوس لجدير أن يمر على رءوسهم مرة ثانية ليقطفها؛ لأنهم يعادون الإسلام والكتاب والسنة، والمقدسات وولاة الأمر، فجدير على سيف أخذ دماء أولئك أو قطف رءوسهم يوم الخميس أن يقطف رءوسهم يوم الجمعة، أليس الصبح بقريب!
كذا مضت الأيام في الناس عبرة مصائب قوم عند قوم فوائد(335/28)
حكم السكنى في بلد اسمه: الزقوم ونحوه
السؤال
أنا شاب أسكن في قرية، واسم هذه القرية: الزقوم، فهل أنتقل من هذه القرية أو عليَّ خوف؟
الجواب
لا عليك، باسم الله عليك، تبقى في القرية وأعيذك بكلمات الله التامات من شر ما خلق، نسأل الله أن يحميك من بين يديك ومن خلفك، وعن يمينك وعن شمالك، وما عليك -إن شاء الله- خوف، وأن تبقى في القرية، وتسكن فيها، وما عليك خوف منها، لكن إذا أردت أن تدخل فقل: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
يقولون: في قرية اسمها: جهنم، حتى يقول صاحبها وهو بدوي أعرابي شاعر سكن في هجرة من الهجر، قال:
قال يا ديرتي جعلش من العام تسعين عام ولا حل الحياة وسط جنات
جعلش جهنم من جهنم تصيرين حشائش تأكلني أدناش وأولاش
هذا أنا ما أنطق الكاف؛ لأن الكاف ينطق عندهم بلهجة ثانية.(335/29)
قصيدة اللحية والتعليق عليها
السؤال
أحد الإخوة طلب مني قصيدة اللحية؟
الجواب
أنا كررتها كثيراً لكن أوردها:
كرر العلم يا كريم المحلى وتدبره فالمكرر أحلى
وهذا شاعر حربي بطل، وهو داعية من الدعاة، وهو شاعر بالعربي وبالنبطي، وقد دخل على مجموعة فرآهم حالقين لحاهم، وهو من قبيلة الحروب، والحروب حرب على أعداء الله، فيقول في الحالقين:
ياربعنا ياللي حلقتم لحاكم ويش ترمونها في القمامة
ذي سنة ما سنها مصطفاكم علامة ياشينها من علامة
ترى اللحى زيناتكم هي حلالكم لها مع الخير وقار وشهامة
وترى اللحى يوصي بها مصطفاكم صفوة قريش اللي رفيع مقامه
شابهتم الكفار شغلة عداكم ومن شابه الكافر عليه الملامة
عفواً لعل الله يغفر خطاكم وتفوزوا يوم اللقاء في القيامة
هذه وصيتي كان ربي هداكم أقولها يالربع ومع السلامة
هذا من أحسن ما قيل في هذه القصيدة، فلا ضرر عليك بتسمية القرية حفظك الله، لكن إذا حصل أن اجتمع أهل القرية والمسئول والإمام ومشائخها وحولوا الاسم فيجوز لهم ذلك، ولا يسجدوا سجدتي السهو، لا عند المالكية ولا الحنابلة ولا الشافعية ولا حتى الأحناف، بل يغيرون اسمها والحمد لله.(335/30)
حديث (ليس منا من استنجى من ريح)
السؤال
ما صحة الحديث {ليس منا من استنجى من ريح}؟
الجواب
الحديث سنده غير صحيح ومعناه صحيح، فلا يستنجى من الريح، وإنما يستنجي أهل البدع، والريح لا يستنجى منه، إنما يستنجى من الغائط والبول، لكن الحديث لا يصح سنداً.(335/31)
حكم الاستهزاء بعذاب القبر والنار
السؤال
بعض الناس إذا ذكرتهم باليوم الآخر، والنار والجنة وعذاب القبر، استهزءوا وتجاهلوا ويأتون بفكاهات على أهل النار؟
الجواب
هؤلاء إذا فعلوا ذلك ولم يعلنوا توبتهم إلى الله، فهؤلاء زنادقة منافقون كفرة والعياذ بالله: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] ومن ثبت عنه أنه استهزأ بالجنة أو بالنار أو بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بالقرآن، فيشهد عليه ويرفع أمره إلى السلطان أو القاضي، ليرى حكم الله فيه ويقطف رأسه، فهو حلال الدم ويتقرب بدمه إلى الله.
وأنا قد ذكرت لكم أن بعض الفجرة من أهل الحداثة، في بلد من البلدان يقولون: كان يدرس في الكلية فيخرج في الفسحة، فيجمع معه فروخ الماسونية، وأذناب استالين ولينين، ويجلس معهم يشربون الببسي في الفسحة، فيقولون: حدثنا بالحديث النبوي، قال: حدثتني عمتي قالت: حدثتها جدتها، أن خالتها قالت: قال أبو هريرة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم للصحابة: أتدرون ما الببسي؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: سبحان الله ما تدرون ما الببسي! قوموا عني، فيضحكون، فهذا قد أُفتي فيه أنه زنديق مارد ملحد.
ولذلك قصائدهم التي تنشر الرموز هم يريدون فيها الاستهزاء، حتى يقول أحدهم: إن ابن أبي هاشم -يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم- نشر رداءه، وقد سبق أن عُرفوا -لعنهم الله لعنة تحيط بهم إن لم يتوبوا- وأنا أركز عليهم دائماً، وذلك مما رأينا من إصرارهم والمحاربة للكتاب والسنة في بلد قام على الكتاب والسنة، بلد المقدسات والحرمين، ثم يأتون من أبنائنا ممن يستنشقون هواءنا، ويشربون ماءنا، فيأتون بهذا الكلام الإلحادي، فحسبنا الله عليهم ونعم الوكيل!
فيا أيها الأخ! عليك أن تدعوهم بالتي هي أحسن، وإن كانوا سوف يستهزئون ويستمرون فلا تكلمهم ولا تجلس معهم: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] فتقطع المجلس وتظهر الغضب، ولا تجاريهم في كلامهم.(335/32)
حكم المنافق في الآخرة
السؤال
أنا شخص أخشى على نفسي النفاق، فهل المنافقون مخلدون في النار؟
الجواب
نعم.
المنافق مخلد في النار، والنفاق قسمان: نفاق عملي ونفاق اعتقادي.
النفاق الاعتقادي: كأن ينكر اليوم الآخر، أو يكذب الرسول صلى الله عليه وسلم في الباطن.
النفاق العملي مثل: من إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، والنفاق العملي: لا يخرج من الملة، لكنه نقص في الإيمان وذم.
والنفاق الاعتقادي مخرج من الملة، وصاحبه كافر، وخوفك من النفاق علامة إيمانك وخيرك وإخلاصك، فلا يخاف النفاق إلا مؤمن، ولا يأمن النفاق إلا منافق، هذا كلام الحسن البصري معلقاً في البخاري.(335/33)
حكم توبة من أصاب حداً ولم يرفعه إلى القاضي
السؤال
رجل ارتكب حداً من الحدود، لكن لم يذهب إلى القاضي ليقيم عليه الحد، فتاب بينه وبين نفسه هل تقبل توبته؟
الجواب
نعم تقبل توبته، وقد أصاب كل الإصابة، وعند الحاكم من حديث ابن عباس، وأورده ابن حجر في بلوغ المرام: {من ابتلي بشيء من هذه القاذورات، فليستتر بستر الله، فإنه من يبدي لنا صفحته نقم فيه حد الله} فالصحيح من ابتلي بحد، فعليه أن يستتر ويتوب بينه وبين الله، ولا يذهب إلى القاضي أو المسئول ليخبره بما أصاب، وقد تقول: إن ماعزاً والغامدية والجهنية ذهبوا إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، أقول: حدث هذا، وقد رجموا وقتلوا وكان جزاؤهم أنهم في الجنة، حتى قال عليه الصلاة والسلام في الغامدية: {إني لأراها تنغمس في أنهار الجنة} وقال: {لقد تابت توبة لو وزعت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم} فحصل هذا.
أما المسلم لو أتى كبيرة فعليه أن يتوب ولا يذهب إلى الحاكم، وإنما يتوب بينه وبين الله، والله يتوب على من تاب.(335/34)
كيفية طلب العلم
السؤال يقول: أريد أن أطلب العلم فكيف أطلب العلم؟
الجواب
هذا كلام طويل، وسوف يخرج كتيب بعد أسبوعين أو ثلاثة اسمه: كيف تطلب العلم، يخبرك هذا الكتاب بطريقة طلب العلم حفظاً ومطالعة وقراءة ومذاكرة ومناقشة فانتظره قريباً، وسوف يأتي إن شاء الله.(335/35)
كيف يكون التخفيف في الصلاة
السؤال
يقول صلى الله عليه وسلم: {إذا أمَّ أحدكم الناس فليخفف} كيف يكون التخفيف؟ وكيف يكون الإمام فقيهاً في الإمامة؟
الجواب
التخفيف هو شبه صلاته عليه الصلاة والسلام، لا يذهب روعتها وروحها، ولا خشوعها وخضوعها، كأن ينقرها نقراً، بعض الناس إذا صليت معهم كأنك في تمارين رياضية، حتى ما تنتهي الصلاة وقد انقطع قلبك، فما تقول: سبحان ربي الأعلى وإذا هو قد وقف، سبحان ربي العظيم إلا وقد وقام، وهذه ليست بصلاة، وبعضهم إذا صلى أطال حتى يتوب الناس من الصلاة خلفه، فتجد بعض المهتدين يأتي الفريضة فيبقى يطيل ويطيل فيها حتى يذهب الخشوع والخضوع.
أحد الناس العوام أخبرني أنه سافر مرة إلى الرياض فمرَّ بطريقه بمسجد، فترك أهله -امرأته وأخواته وبناته- في السيارة في الشمس ودخل مع إمام مشهور بالإطالة، حتى إن هذا الإمام صلَّى معه رجل آخر من المنطقة الجنوبية، قال عنه: يجلس في السجود حتى تنسى أين أنت، هل أنت في المملكة أو في مدغشقر، أي: في السجود دماغك ينقلب، حتى لا تتذكر هل أنت ساجد أو نائم، فلما سلم -هذا الرجل الثاني- قام وقال: يا شيخ! مبروك، قال: على ماذا؟ قال: والله الفريضة الواحدة معك مثل حجة كاملة كاملة.
فالرجل الأول ترك أطفاله في السيارة في الشمس، قال: فدخلت معه في أول ركعة في الصف الأول، وأتت الصفوف وراءنا، قال: فقرأت الفاتحة وما أحفظ من سور -كل ما يحفظ من سور قرأها- قال: ثم قرأت التحيات، ثم صليت على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم استغفرت ثم سبحت، ثم دعوت الله، قال: في الأخير كنت أنظر في المحراب هل الإمام موجود، -أي: خاف لو يكون راح يتغدى أو ينام- قال: فلما رأيته أطال قلت: هذه الركعة الأولى فكيف بالركعة الثانية والثالثة والرابعة، وأهله حموا في السيارة، فقطع الصفوف، قال: وصليت أربع ركعات وهو لا يزال في الأولى.
ولذلك هذا الإمام نحي عن الإمامة.
فالصحيح أن تصلي صلاة الرسول صلى الله عليه وسلم التي علمها لـ معاذ في صلاة العشاء، حيث كان يصلي بهم بعد الفاتحة، بمثل: سبح اسم ربك الأعلى، والشمس وضحاها، والضحى والليل إذا سجى، وأمثالها وأشباهها، فلا هذا ولا هذا، والإنسان عليه أن يكون فقيهاً، ويعرف أحوال الناس، لأن بعض الناس يقول: ما علي منهم والله لا أجامل أحداً، ولا أريد إلا الله، وهذا جيد لكن والجماعة التي وراءك، شيخ كبير: طفل صغير، مريض، وذو حاجة، هل تحبس الناس؟ لا.
وكذلك لا تذهب خشوع الصلاة، فكن فقيهاً واقرأ هديه صلى الله عليه وسلم في الصلاة، كما في زاد المعاد، لـ ابن القيم.
وفي ختام هذا الدرس: نسأل الله لنا ولكم التوفيق والهداية، وأستبيحكم عذراً على من لم أجب على سؤاله؛ لضيق الوقت، ولها -إن شاء الله- مواقف أخرى، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(335/36)
معركة بين التوحيد والإلحاد
إن توحيد الله وإفراده بالعبودية والبراءة من الكفر هي أهم ركيزة في دين الإسلام، وهي دعوة الرسل أجمعين، وهي تمثل صراعاً ومعركة منذ أن خلق الله البسيطة وما عليها، صراعاً بين الحق والباطل، بين الخير والشر، وهذا الصراع سنة من سنن الله الكونية، فما هي أسباب هذا الصراع؟ وما هي فوائده؟
والصراع موجود حتى في الأدب والمقالات والكلمات، وللإلحاد مدارس خاصة مثل مدرسة التلمساني وأبي العلاء المعري، وليس لنا سعادة إلا بالرجوع إلى التوحيد والالتزام بدين الله لنحيا حياة هادئة مطمئنة بعيدة عن ضنك العيش؟ لكن ما هو الواجب المتحتم علينا في هذا الصراع؟(336/1)
الصراع بين الحق والباطل
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
رفيقي من بعد اللظى والأسى قفا ولا تريا جنح الظلام الملازم
فهيا فهذا معبق الشيخ عائض وحسب الحجى إن قلت معبق عالم
ألم تريا الأزمان كيف ظلمننا فما مقسط فيها بواهي الدعائم
أعائض للخلان فيك منازل لدينا ولكن يوم عمرو وحاتم
إذا ارتاد بيت الله في حي صفونا سعادتنا فيمن بباب الحوائم
ألست ترى هذي الوجوه برفعة فليس لها الكفر العنيد بهادم
أعائض بات السعد حوزة عالم وما كان لولا أنت ضربة جاثم
فيا رب فاحفظ شيخنا من بعلمه مدينتنا تزهو لفضل الغنائم
هذه مقدمة كتبها أحد إخوانكم في حي السعادة، مرحباً بأخينا الحبيب وشيخنا الفاضل: الشيخ عائض بن عبد الله القرني الذي سوف يتحفنا هذه الليلة بما وهبه ربه جل وعلا، ونسأل الله عز وجل أن يجعل هذه المحاضرة في ميزان حسناته يوم القيامة، وألا يحرمكم الأجر الذي حدى بكم إلى الحضور إلى هذه المجالس الطيبة العطرة، وأسأل الله جل وعلا أن يكون هذا العلم الذي أعطيه الشيخ عائض حجة له يوم القيامة لا حجة عليه، وأسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم ويجعلنا وإياكم ممن يستمع فيتبع أحسن الكلام وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، عنوان المحاضرة: معركة بين التوحيد والإلحاد.
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذّكر أو أراد شكوراً، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، بعثه الله هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلَّغ الرسالة، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته،
لـ جدة حشد من شباب محمد لها من بني الإسلام كل موحد
أضاءت لياليها بنور أحبة وكبرت الدنيا على كل مفسد
أنا من رسول الله أروي قصائدي فأتحف ربوع القلب يا خير منشد
بعثت له دمعي وأهديته دمي وأسلمت للرحمن وجهي ومقصدي
عندي تحيتان: الأولى: خاصة لفضيلة الشيخ عبد العزيز الحمدان أثابه الله وبارك الله في جهوده ودعوته، وقد لبيت دعوته ولسان حالي يقول:
أتاني رسولك مستعجلاً فلباه شعري الذي أذخر
ولو كان يوم وغىً قاتماً للباه سيفي والأشقر
أصرف نفسي كما اشتهي وأملكها والقنا أحمر
وتحية عامة لكم يا أهل الصحوة في مدينة جدة، يا حملة لا إله إلا الله، يا من رفعوا لافتة: (إياك نعبد وإياك نستعين).
هذه ليلة لا تغيب نجومها لأنكم حضرتم هنا، تعلنون بحضوركم أن البقاء للتوحيد وللإسلام، وأن الانتصار للا إله إلا الله، قال تعالى: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
نعم.
عنوان المحاضرة: (معركة بين التوحيد والإلحاد) وهي معركة قديمة منذ وجد آدم وإبليس، ومروراً بموسى وفرعون، وإبراهيم والنمرود، ومحمد صلى الله عليه وسلم وأبي جهل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
معركة بين (لا إله إلا الله) و (لا إله والحياة مادة) بين المسجد والخمارة، بين المصحف المرتل والمجلة الخليعة، بين التلاوة الحسنه والأغنية الماجنة، بين تجمع المساجد وبين الشاطئ البعيد، بين المرأة الملتزمة المتحجبة وبين المرآة العلمانية السافرة، بين الكاتب المبدع المؤمن والكاتب الزنديق الملحد، وبين الصحفي الذي يرجو الله ويخاف الله ويأمل لقاء الله وبين الصحفي المتهتك الذي ينشر الجنس والفحش والتمرد على آيات الله، بين العالم المؤمن والعالم المجرم.(336/2)
النور من الله
أنا أروي في هذه الليلة صراعاً بين التوحيد والإلحاد، يبدأ هذا الصراع بوسط التاريخ، ولا أعتني أن أبدأ من أول التاريخ، وحسبك من القلادة ما أحاط بالعنق، يقول سبحانه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] يقف فرعون واعظاً في الجماهير، هذا المجرم السفاك الذي أدخل المجلة الخليعة، والأغنية الماجنة، شارب الخمر، صاحب الليلة الحمراء، يقول لموسى الصحوة، موسى الإيمان، موسى الإمام، موسى النور.
أين ما يدعى ظلام يا رفيق الليل أينا إن نور الله في قلبي وهذا ما أراه
قد مشينا في ضياء الوحي حباً واهتدينا ورسول الله قاد الركب تحذوه خطاه
قال تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} [النور:40] من يعطيه النور؟ الشاطئ!! الأغنية!! الكأس!! المجلة الخليعة!! الفيديو المهدم!! ريفر سايد!! لوس أنجلوس!! باريس!! بانكوك؟!!
لا.
لا يعطيه النور إلا من أنزل النور، القائل: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:257] ويقول سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام:122] كثير من الناس أموات، يأكلون ويشربون ويغنون ويرقصون، ويسمرون ويسهرون، ولكنهم أموات غير أحياء، لم يروا النور ولا عرفوا الرسالة، ولا سجدوا لله، فهم في عالم الأموات، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44].
يسمع الأغنية لكن لا يسمع الله أكبر، ويسمع الكلمة الماجنة ولا يسمع حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح، قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179] وقال تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر:26].
قال سيد قطب: يظهر أن الرأي العام يضغط على فرعون، فيريد فرعون أن يستأذن الرأي العام في أن يذبح موسى.(336/3)
أسباب الصراع بين الحق والباطل
والصراع سنة من سنن الله لثلاثة أسباب:
أولاً: الصراع دائم: والله عز وجل خلق الخير والشر بجانبه، والليل والنهار، والرشد والضلال، والنور والظلمة، هكذا قال تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ} [البقرة:251] وفي هذه الآية قراءة مشهورة، قال تعالى: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض) ويقول سبحانه: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20].
أتظن أنك تعيش وحيداً في المسجد والصلاة وليس لك عدو؟! لا.
قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] ما أحسن الختام، قال: هادياً: يهديه بالعلم.
ونصيراً: ينصره بالسيف أو بما يقوم مقام السيف.
قال سبحانه: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت:2 - 3].
ثانياً: إن العاقبة للمتقين:
يا من يظن أنه سوف يلغي المسجد فالمسجد سوف يبقى، والقرآن سوف يعيش، ومكة، وزمزم، والحجر الأسود، وشباب الصحوة، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ.
يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر:52].
العاقبة للمتقين يمر الباطل بالحق، وينتصر الحق بإذن الله.
ما هي فوائد هذا الصراع؟
من فوائد هذا الصراع:
1 - يمحص الله أولياءه ويظهر الصادقين، ويبطل كيد المنافقين , ويخزي الظالمين.
أجر ومثوبة لأولياء الله.
2 - ويتخذ منكم شهداء، تقطع الرءوس، وتضرب الأعناق، وتسيل الدماء في سبيل الله، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(336/4)
نماذج من الإلحاد عبر التاريخ(336/5)
قصة موسى وفرعون
أعود إلى موسى وفرعون:
قوله: (وليدع ربه) أي: أتحداه وأتحدى ربه، وهذا منطق الكفر والإلحاد، وسوف أذكر لكم نماذج من الإلحاد المتطور الذي دخلت عليه التكنولوجيا، الإلحاد الذي بلغ النجوم وتطور مع الأصل.
{إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} [غافر:26] عجيب! أصبح فرعون واعظاً! أصبح حليماً حكيماً ويخاف أن يبدل دينكم؛ أتظن يا فرعون أن موسى حداثياً أو علمانياً، أو مطرباً.
قال: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر:26] يخاف أن يزعزع الأمن؛ فزعزة الأمن تأتي من موسى وأمثاله، أما مروج المخدرات فلا يزعزع الأمن! أما الذي يكتب الكفر في الصحف ويشتري الزندقة ويرسلها في البلاد طولاً وعرضاً، ويأتي بصور الجنس والفيديو المهدم فلا يزعزع الأمن! لكن موسى لأنه يخطب الجمعة، وتخاف أن يظهر في الأرض الفساد تخاف على الأمة منه.
متى كان فرعون حكيماً ومتى كان المجرم حليماً؟ الذي يقول: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الزخرف:51] فأجراها الله من فوق رأسه.
ويقول كما قال تعالى: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص:38].
قال ابن تيمية: "ولم ينكر الصانع ممن سبق إلا فرعون" أنكره في الظاهر وأما في الباطن فإنه اعترف به، ولذلك قال له موسى كما قال الله تعالى: {قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً} [الإسراء:102] لقد علمت أيها المجرم! أيها الخسيس الملحد! أن ما أنزل هذه الآيات إلا الله، الليل والنهار، الشمس والقمر، الهواء والماء والضياء؛ كلها من رب الأرض والسماء.
دخل موسى يدعو إلى لا إله إلا الله، إلى التوحيد، فقال له المجرم وهذا من رعونته وفشله: {فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} [طه:49] قال الزمخشري: لله در موسى من جواب:
قال موسى كما قال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] ولو قال موسى: ربنا حكيم: لقال أنا حكيم، لأنها صفة نسبية مشتركة، ولو قال: ربي عليم، لقال: أنا عليم، لأنها أيضاً صفة نسبية مشتركة، ولو قال: ربي قدير، لقال فرعون: أنا قدير، لأنها صفة مشتركة، لكن قال: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] قال: فلكمه على وجهه، أي أعطاه كفاً حاراً على وجهه وهذا فعل طائش.
وانظر إلى
الجواب
أعطى كل شيء خلقة، أعطى النملة خلقها، مع النملة قلب وعينان، وأذن وسمع وبصر، تأخذ الحبة وتدخرها للشتاء، من علمها أنه سوف يأتي الشتاء؟! من علَّم النحل أن تجتني الثمرة وتجمعه في الخلية، فيخرج عسلاً، ومن علَّم الطفل يوم خرج من بطن أمه أن يرضَع من ثدي أمه ويتناول اللبن؟ ذاك هو الله.
والنحل قل للنحل يا طير البوا دي ما الذي بالشهد قد حلاكا
وإذا ترى الثعبان ينفث سُمَّهُ فاسأله من ذا بالسموم حشاكا
واسأله: كيف تعيشُ يا ثعبانُ أو تحيا وهذا السم يملأ فاكا
وينتهي الصراع مع موسى وفرعون بنتيجة مخزية لفرعون، يقول الله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} [القصص:8].
لقد أخطئوا كثيراً ولقد أساءوا في الحسبان، عندما تمردوا على الله، وحاربوا المساجد، وأدخلوا الجنس البلاد، لقد دعوا إلى نزع الحجاب عن المرأة، والعلمنة والحداثة سفاحاً جهاراً نهاراً، إنهم كانوا خاطئين، فأغرقه الله في البحر، وانتصر موسى وبقي التوحيد، واستمر العهد، ولكن الصراع لم ينته بعد، وينتهي الصراع يوم يقول الله: {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى:7].
فيا شباب الصحوة! ربما تذَّمر متذمر، وخاف خائف من كثرة المفاسد وهذه هي الحياة، فالرسول عليه الصلاة والسلام أخلص الناس، وأصدقهم وأبرهم، لم ينه المفاسد في عهده، وما زال الفساد موجود.
جلد صلى الله عليه وسلم الزاني، ورجم الزاني الثيب، وجلد شارب الخمر، وقطع يد السارق، وقتل القاتل، وهذا دليل على وجود الفساد في ذاك المجتمع، لأن سنة الله وحكمته وأمره نفذ، وهي سنة كونية أن يكون هناك صراع عالمي بين الخير والشر، وتستمر الملحمة.(336/6)
قصة إبراهيم عليه السلام مع النمرود
يدخل إبراهيم عليه السلام إمام التوحيد وأستاذ العقيدة، شيخ لا إله إلا الله، الذي أتى بالتوحيد الصادق، يدخل على النمرود، فيقص الله لنا القصة في قالب جميل بديع أخّاذ، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّي الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة:258] من أخص خصائص الله أنه يحي ويميت.
ولا يحيي ويميت إلا الله، والملوك يموتون، والأطباء يفنون:
مات المداوي والمداوى والذي صنع الدواء وباعه ومن اشترى
وبقى الله!!
تقضون والقدر المسيّر ضاحك وتقدرون فتضحك الأقدار
ولا يدري الإنسان متى يموت، قال: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة:58] كذاب ملحد مجرم، ولا يريد إبراهيم أن يسيره في الزندقة ويضيع الوقت معه، قال: كيف تحيي وتميت، فدعا أسيرين، فأطلق أحدهما، قال: هذا أحييته وهذا أمته؛ وهذا خطأ، فتركه إبراهيم فرضاً وجدلاً، وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:258] فانظر أمامك إن الذي أتى بها من المشرق هو الله.
تتبدى كل يوم وترسل أشعتها، والذي كلفها هو الله، فبهت وانهزم وانتصر التوحيد، ولكن بقي الصراع بين التوحيد والإلحاد.(336/7)
قصة صاحب الجنة
يقول سبحانه عن ملحد ومؤمن دخلا بستاناً جميلاً وحديقة غناء بين الشجر والماء، فالشجر يدلك على الله، والماء يدلك على الله:
وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد
تأمل درس التوحيد في النبات والحيوان، درس التوحيد في الأفلاك.
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات بأن الله ليس له شريك
قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] وقال تعالى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65] قال تعالى: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} [الكهف:37].
قال أهل العلم: ترك الحديقة واستدل بخلقه يقول: أنت كيانك، وهيكلك، وقلبك وعيناك من الذي خلقها وأبدعها؟ قال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21] نومك ويقظتك دروس في التوحيد لو أبصرت ولكن قليل من يبصر.
وهزمه ولكن بقي الصراع بين التوحيد وبين الإلحاد، بين الإسلام والعلمنة، وبين أولياء الله وأعدائه، والخاتمة لأولياء الله.(336/8)
قصة العاص بن وائل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم:77].
العاص بن وائل هذا المجرم أتى بعظم بالٍ وحته أمام الرسول عليه الصلاة والسلام في تحدٍ سافر، فيه سوء أدب أمام معلم الخير عليه الصلاة والسلام، أمام من أتى بلا إله إلا الله كما أتى بسعادة الإنسان.
قال: يا محمد! أتزعم أن الله يحيي هذا العظم بعد أن يميته، قال: {نعم.
ويدخلك النار}.
لا يحييه فقط، لكن يحييه ويدخلك النار، فأنزل الله وثيقة العقيدة فقال: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس:78] قال: وأغفل الله اسمه، وهذا من عدم تعظيمه وتشريفه، من هذا الذي أتى ليضرب لنا مثلاً؟!
من هذا الحقير الذي أتى ليتفلسف علينا بعد أن كبرناه وأطعمناه وسقيناه وأشبعناه؟
قال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79] وانتهى الصراع، ولكنه لم ينته ويستمر مع الخلفاء والوزراء والعلماء والزعماء والفقهاء والكتّاب والصحفيين والشعراء حتى يرث الله الأرض ومن عليها.(336/9)
قصة الوليد بن يزيد مع المصحف
قال ابن الأثير في التاريخ، 5/ 289: تولى الوليد بن يزيد الأموي الخلافة متأخراً، فلما تولى الخلافة كان فاجراً، ونسب إليه في التاريخ أنه كان ملحداً -والعياذ بالله- قال: ملأ بركة من الطيب (عطراً) وكان يشرب الخمر، فإذا سكر قفز في البركة، وقال: أطير إلى أين أطير -قل: إلى جهنم- فيطير على وجهه.
وأخذ المصحف -كما يقول ابن كثير وابن الأثير والذهبي وغيرهم- ونصبه ليرى أي آية تخرج له، يرى هل هو سعيد أو شقي؟ يرى هل هو موحد أو ملحد؟ ففتح المصحف، فخرج له قوله تعالى: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} [إبراهيم:15] فتح المصحف فأخرج الله له آية تؤدبه، فألقى المصحف وعلقه ورماه بالسهام، وقال:
تهددني بجبار عنيد فهأنذا جبار عنيد
إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد
هذا الوليد بن يزيد المجرم الذي تهتك وأبكى عيون العلماء، وهو قريب من عصر النبوة، وبعض الحفاظ يقول: ذكره الرسول عليه الصلاة والسلام في الأحاديث -قال تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134] لكن أريد أن أبين لكم أن الشر من قديم، والعداء على المسجد من قديم، والعداء على الصالحين والمصحف والعلماء والأولياء من قديم.
أتى وأخذ قروداً وكلاباً معه وأراد أن يشرب الخمر على ظهر الكعبة، فقتله الله في الطريق، من يقول هذا، راجعوا التاريخ وكتب الحديث، يقول: أنت يا قرآن تهددني بجبار عنيد، وهأنذا جبار عنيد، أنا في الأرض.
إذا ما جئت ربك يوم حشر فقل يا رب مزقني الوليد
هذه كلمة جرحت مشاعر المسلمين، ومع العلم أنه خليفة المسلمين وما كان له أن يفعل ذلك، لكنه الصراع بين الحق والباطل.
وقبله بسنوات كان عمر بن عبد العزيز، فانظر الفرق بين الطائفتين، ذاك يحمل التوحيد والإيمان، ويبكي يوم الجمعة ويصلي الليل كله، ويوزع الأموال، ويقف على الأرملة ويتقلب بالليل باكياً فتقول له زوجته فاطمة: مالك لا تنام؟
فيقول: كيف أنام وأمة محمد عليه الصلاة والسلام في عنقي؟
ذاك العظيم عزل كل الوزراء الخونة في حكومة سليمان بن عبد الملك وأخذ الصالحين والعلماء وجعلهم جلاسه، اختار سبعة من العلماء للاستشارة، وقال: إياكم وثلاث:
لا تغتابون في مجلسي، ولا توشون بمسلم إليَّ -يعني لا تخربون بيني وبين الناس- ولا تمزحون، وكانوا يحدثونه ويحدثهم في الآخرة فيقومون وكأنهم قاموا عن جنازة، لا إله إلا الله!(336/10)
الإلحاد في الأدب
دخل الإلحاد حتى في الأدب، عندنا أدب ملحد، وأدب مؤمن، وهناك أدب يبث، وباستطاعتنا بالوثائق أن نثبت أنه فجور، وقد أثبت من قبل كما تعرفون، وسوف يثبت إلى قيام الساعة، لأن الله يأبى إلا أن يكون صراع في القصائد القصص، المسرحيات، الخطب.(336/11)
أدب أحد الشعراء الملاحدة
يأتيك أحد الشعراء الملاحدة كما ذكر ذلك ابن الجوزي في صيد الخاطر يقول:
أيا رب تخلق أغصان رند وألحاظ حور وكثبان رمل
وتنهى عبادك أن يعشقوا أيا حاكم العدل ذا حكم عدل
سبحانك اللهم؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
يقول ابن الجوزي: هذا المفضوح أصابه الله بقارعة، ودائماً الملاحدة يلطمهم الله لطمات، قال تعالى: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ} [التوبة:126] يقولون: إن أحد الشباب الملاحدة دخل مستشفى، ودخل عليه الدعاة، فقالوا: تب، كم يأتيك من الحوادث، كم يأتيك من الأمراض، كم يأتيك من اللطمات، فيتوب إذا عاد على السرير، فإذا خرج نفث علينا بقلمه وبكفره وبزندقته.
يقول:
أيا رب تخلق أغصان رند أي: كيف تخلق الشجر الجميل.
وألحاظ حور: نساء جميلات.
وكثبان رمل وتنهى عبادك أن يعشقوا: وتقول العشق حرام، أيا خالق العدل! ذا حكم عدل؟ فيأخذه الله.
والحسن بن هانئ: دخل هذا المجرم على سلطان فنسي الله، ونسى رهبة الله وعظمته، نسي ملك الملوك الذي نواصي الملوك بيده.
وابن أبي ذئب دخل عليه الخليفة المهدي في مسجد المدينة، وابن أبي ذئب المحدث قرين الإمام مالك، الزاهد العابد يحدث فقام أهل المسجد جميعاً إلا ابن أبي ذئب لم يقم، فقال له: لماذا لا تقوم لي كما يقوم الناس؟
قال: أردت أن أقوم لك، فتذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت القيام لذاك اليوم.
قال: اجلس، والله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.
يقول الأوزاعي لما سألوه: كيف وجد عبد الله بن علي العباسي.
عبد الله بن علي العباسي عم أبي جعفر المنصور، الذي قتل في ساعة واحدة في دمشق ستة وثلاثين ألف مسلم، دخل عليه والسيوف مسلولة على رءوس الجنود، فزجره ونهاه وأمره، قالوا: كيف تجرأت عليه، قال: والله لما دخلت عليه صوره الله لي كأنه ذباب، وتصورت كأن عرش الله بارزٌ على الناس.
قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر:51] والمقصود أن هذا تهتك على شرع الله.(336/12)
أدب الحسن بن هانئ
الحسن بن هانئ دخل على السلطان فقال:
ما شئت لا ما شاءت الأقدار فاحكم فأنت الواحد القهار
فصرعه الله كما يصرع أعداءه، وأخذه أخذ عزيز مقتدر، وأصابه مرض عضال، كان ينبح منه كما ينبح الكلب، ويقول في سكرات الموت:
أبعين مفتقر إليك نظرت لي فأهنتني وقذفتني من حالقِ
لست الملوم أنا الملوم لأنني علقت آمالي بغير الخالق
أي: أنا لا ألومك، أنا ألوم نفسي، لأني ادعيت لك الألوهية وتعلقت بغير الله، قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم:65] وقال تعالى: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً} [ص:5] وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ} [الفرقان:60] الرحمن سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الذي تقطع جماجمنا لتبقى العقيدة من أجله والعبادة له سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهو تشريف لنا ليس لغيرنا.(336/13)
أدب أبي العلاء المعري
أبو العلاء المعري أسرف على نفسه، وكان يكتب أدب الإلحاد، وليس الإلحاد جديداً، الإلحاد في الأدب قديم، ولا تستغربوا إذا قرأتم بعض المقطوعات في المنشورات وهي إلحادية فإن شيخهم أبو العلاء المعري.
يخاطب الله، سبحان الله! وإنما أذكر هذا لنبين الكفر والإلحاد: {وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ} [الأنعام:55].
عرفت الشر لا للشر لكن لتوقيه
ومن لا يعرف الشر جدير أن يقع فيه
يخاطب الله عز وجل فيقول:
ونهيت عن قتل النفوس تعمداً حتى بعثت لقتلها ملكين
وزعمت أن لها معاداً ثانياً ما كان أغناها عن الحالين
يقول: يا رب! كيف تحرم قتل النفس العمد، وأنت ترسل ملكين وقت سكرات الموت تقتل الناس؟! ولماذا تخلق الإنسان إذا أردت أن تميته؟! أعوذ بالله، وتعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً.
قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة:64] هذا هو الإلحاد، مدرسة الأدب المدبلجة التي تتظاهر لنا بالإسلام وفي باطنها سم مدفون من الإلحاد والفجور والعياذ بالله.(336/14)
أدب التلمساني
قال ابن تيمية في الفتاوى (2/ 471) عن الفاجر التلمساني: أما هو فأخبث القوم وأعمقهم في الكفر، ثم قال: ولهذا كان يستحل جميع المحرمات حتى حكى عنه بعض الثقات أنه قال: البنت والأم والأجنبية شيء واحد، وليس في ذلك حرام علينا، وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا: حرام، فقلنا: حرام عليكم.
وكان يقول: القرآن كله شرك، ليس فيه توحيد، وإنما التوحيد في كلامنا.
هذا الفاجر التلمساني -يسمونه عفيف التلمساني - عنده مدرسة وكتب منشورة في العالم الإسلامي تطبع، هذا المجرم يقول هذا الكلام، وله صحف تؤيده وتؤيد مساره، وآخر ما رأيت هذه الليلة مقالة على مقالة الفاجر التلمساني في صحيفة جنس فاضح، فيها تحليل ما حرم الله، دعوة إلى تهتك الأمة وعدم وجود شريعة، والقائل صاحب الصحيفة يقول فيها:
"إلى متى تظل الركائز المعرفية للإنسان حكراً على شيء يمكن أن يكون ويمكن ألا يكون".
معنى الكلام: لماذا يبقى الدين هذا؟ لماذا تبقى لا إله إلا الله؟ هل رأيتم الله؟ مكن أن يكون ويمكن ألا يكون؟
هذه كلمة عصرية كتبت قبل أسبوع هنا في البلاد، أليس هذا هو الإلحاد، أصبحت الأمة مثل الأبقار لا يعرفون ولا يفهمون مقاصد اللغة.
حدثنا بعض الدعاة: أن بعض العرب ذهبوا للدراسة في أمريكا، وبعضهم إذا ذهب يظن أن الله في الجزيرة فقط فيقول: كانوا يجتمعون، ويتبادلون الزوجات والعياذ بالله.
وهذا ثابت عنهم، والناقل داعية بصير يعرف ذلك، وهذه تسمى طريقة التلمساني التي يقول فيها ابن تيمية في المجلد الثاني: "ويرى هذا أن البنت والأم والأجنبية شيء واحد" يقولون: كان يستخدم بناته -عليه غضب الله- ويريد الذين لا يؤمنون بالله من أفراخ العلمنة أن يوصلوا الأمة إلى هذه المأساة وإلى هذه النهاية.
والمصيبة والضربة القاصمة أنهم يقولون: الدين شيء خاص بك، صلاة الضحى والاستسقاء لك، لكن لا تأمر بالمعروف ولا تنه عن المنكر، يزعجهم أن تخرج إلى الشاطئ وتنهى وتغضب ويتمعر وجهك، فوالله ثم والله ثم والله إن لم نخرج إلى الشواطئ والسكك والشوارع؛ فنأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ليغضبن الله علينا، ثم ندعوه فلا يستجيب لنا، ثم يلعنا كما لعن الذين من قبلنا، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
إن الإسلام السلبي هو إسلام النوافل الخاصة، ورسول الهدى عليه الصلاة والسلام لا يعترف بهذا، وهذه الفلسفة التي ينثرها بعض الناس يقول: هذا وقت الفتن فر منه فرراك من الأسد، ويأتون بحديث أبي سعيد الصحيح عند البخاري: {يوشك أن يكون خير مال المرء المسلم غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر؛ يفر به من الفتن} فينزوي في شقته ويغلق بابه، ويترك الأمة تمور -والعياذ بالله- في الفجور والخمر والسفور، واختلاط الأجانب بالأجنبيات وانهداد الأمة، هذا أول ما يُبدأ به، أول ما تأتي المصيبة على هذا المتخلي.
وقد ورد في الإسرائيليات: أن جبريل عليه السلام، نزل يدمر قرية وفيها عابد، فأخبر ربه بالعابد والله يعلم، قال: به فابدأ، أسمعني صوته لكنه لم يتمعر وجهه غضباً لي.
ما للأمة؟! ماذا أصاب الجيل؟! ماذا أصاب الشباب؟! ماذا أصاب العلماء؟!
المنكرات صباح مساء، لا نطالبهم بالضرب ولا بمد الأيدي، مد الأيدي له جهات مسئولة، لكن اتقوا الله، كلمة: اتق الله، كلمة: تحجبي يا أمة الله، كلمة: حرام، لا يجوز، كلمة: خافوا من الله، ما للأمة سكتت؟!
يقول عليه الصلاة والسلام في الصحيح وهذا عند أحمد: {لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر، ولتأخذن على يد السفيه ولتأطرنه على الحق أطراً، أو ليخالفن الله بين قلوبكم} الحديث.
يقول سفيان الثوري: أنا إن لم آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر أغمي عليَّ، وقد ذكروا ذلك عنه.
ولكم أن تعودا إلى ترجمته.
يغمى عليه ويفقد شعوره، لا أن يصل إحساس الإنسان إلى أن يتبلد ويموت:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
إنما يريد هؤلاء الشباب أن ينقذوا الشباب ويحفظوا أمن الأمة، وأمن الصحوة، وأما لو تركناها لمسيرة التلمساني وفروخه وأتباعه، ضربوا الأمة على دماغها ضربة لا تفلح بعدها أبداً.
وكان ابن تيمية إذا صلى الفجر سبح إلى طلوع الشمس، ثم يصلى ركعتين وينزل إلى السوق، وعنده مقص في جيبه يقص به شوارب البطائحية الفرقة المبتدعة، وعنده عصا يجلد ويؤدب ويقيم الموازين، ويتكلم للبقالين ومعه تلاميذه، ويأمر بالحجاب، ويأمر من أسبل إزاره أن يرفعه، والحليق أن يربي لحيته، هذا هو الإسلام وهذا هو الدين، ليس الجلوس تحت المكيف، وتأليف الرسائل التي كأنها قطع السندوتش، وليس التفكير من أدب راقي أو من برج عاجي، والإسلام لا يعترف بالمفكرين ويعترف بالعلماء الذين يحملون قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم، وهؤلاء العلماء يقول سبحانه فيمن كتم علمه: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] وقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
من منا لا يحفظ الفاتحة؟!
{بلغوا عني ولو آية} {نضر الله امرأً سمع مقالتي فأداها كما سمعها} لا نريد عواطف ولا حماساً هائجاً، ولا نريد تصرفات بالكلام، نريد فعلاً منضبطاً ينهي المفاسد بالبلد وينهي الإجرام ويحد من الفواحش، ينهي تسجيلات الجنس والكاسيت والفيديو المهدم والمجلات الخليعة، وتبرج النساء وانحطاط العلمنة، نريد فعلاً حكيماً منضبطاً حتى يؤدي ثمرته.
وقد ذكر شيخ الإسلام في الفتاوى، قال: ولهذا حدثني الثقة، أن ابن سبعين كان يريد الذهاب إلى الهند وقال: "إن أرض الإسلام لا تسعه، لأن الهند مشركون يعبدون كل شيء حتى النبات والحيوان".
وابن سبعين من الملاعين وله مدرسة موجودة إلى الآن، قال: أريد أن أخرج إلى الهند، لأن عندهم حرية فكر وعندنا إرهاب فكر، عندنا نحن المسلمون إرهاب فكر، لكن الهند عندهم حرية فكر، لأنهم يعبدون النبات والحيوان.
يريد أن يتفسخ مثلما يفعل بعض الناس بالذهاب إلى بانكوك، يحج أو يعتمر ليهدم لا إله إلا الله هناك، وليلغي إياك نعبد وإياك نستعين.
إذاً فالضياع من قديم، وإذا نظرت تجد ذاك حتى في العهد البدائي من العهد الإسلامي، كان يريد أن يذهب إلى الهند أما هنا فيوجد فقهاء وعلماء وأخيار ودعاة وصالحون، ويريد أن يأخذ حريته ونفسه هناك، مثلما يفعل بعض الناس اليوم، يذهب يعربد ويعود لاغياً ملهياً، هداه الله ورده إلى صوابه.
وأنا أعرف رجلاً ألف كتاب صراع بين الإسلام والوثنية، في مجلدين، ومن يقرؤه كأنه يقرأ لـ ابن تيمية، وهو من أهل هذه البلاد.
هذا الرجل فيه ذكاء عجيب، ولكن قبل أن يلحد هذا الرجل يشم رائحة الإلحاد من هذا الكتاب، وما كانت الخاتمة؟ ألحد وكفر بالله.
ثم خرج من البلاد وألف كتاب الأغلال ويعني بالأغلال المسجد ومكة وزمزم والحجر الأسود، وخرج وهو الآن في سن الثمانيين، ومن رآه يقول: كأن الليل أظلم في وجهه، وأصابه الله بالتعاسة والتعب والاضطراب، حتى ذهب إلى مدينة عربية، ثم انتقل إلى الأخرى، وهو بين الفينة والأخرى يكاد ينحر نفسه.
قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
رأيت يوم الخميس الماضي جريدة الظهيرة، وفي افتتاحيتها خطٌ كبير تقول فيه: طبيب السرطان ينحر نفسه، هذا أشهر طبيب في العالم كان يعالج المرضى من السرطان، أصابه فراغ داخلي، عالج المرضى ولكن لم يعالج روحه، يعيش في ضنك، والله كتب عليه ذلك، فأخذ السكين ثم دخل المطبخ وذبح نفسه ومات، وصورته موجودة، وهذا مثبت في وكالات الأنباء.
وهذا يدلنا على أن التعاسة موجودة حتى يسلم الإنسان وجهه لله ويعود إلى الله، ووالله لا يرى النور ولا يرى السعادة، ولو ملك الدور والقصور والمناصب، والسيارة الفخمة، حتى ينهج منهج الصالحين.
وبعض الملاحدة إذا أرادوا أن يجتمعوا بـ المقالح والبياتي خرجوا سراً بينهم، وعندهم مدن معروفة بفنادق يجتمعون فيها، ويوزعون أدوارهم كيف يكتبون؟ ما هي طريقة العرض في الصحف؟ وما هي المرحلة القادمة لكي نبث سمومنا وأفكارنا؟ فيأتوننا كل يوم بدبلجة وكل يوم بتخطيط، وكل يوم بثوب جديد.(336/15)
طريقة الملاحدة في التوفيق بين الإيمان والإلحاد
وقد ذكر ابن تيمية في الجزء الثاني من الفتاوى قال: فيقول هذا ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف.
اسمع: يقول: من هؤلاء الذين يفرقون بين الإلحاد، هذا منطق الإلحاد، هذا منطق النفاق: {إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62] هؤلاء يقولون: لماذا تكفرون الناس؟
إنسان يسب الله ويسب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويسب الإسلام، ويسب الكعبة، ويسب أبا بكر وعمر، فإذا كفرناه قالوا: متعجلون متهورون متطرفون متزمتون، لا يحق لكم ذلك.
وقالوا: لا تكفروا الناس، ولا تثوروا الناس علينا، الناس فيهم خير وأنتم تسيئون ظن الناس بنا، ولقد جلست مع أحد الأدباء النفعيين، أدب البطن والنفع، أدب الباذنجان والجرجير الذي لا يرضاه ابن الدين، تنصب له اللافتات لكنه لا يحمل إياك نعبد وإياك نستعين؛ فهو متهالك ميت ليس عنده جذوة إيمان، ومنذ أن خلقة الله لم يتمعر وجهه لله، قلت له: لماذا هذا المجال يفتح؟ لماذا أنت تكون سبباً ولافتة يعملون المفاسد من تحتها؟ قال: لا تسيء الظن بشبابنا، فهل نقرأ الكفر ولا نسيء الظن؟! قال تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً} [النساء:62].
يقول ابن تيمية: فيقول هذا: ليس بين التوحيد والإلحاد إلا فرق لطيف، مثلما تعرفون، يقول: يمكن ألا نتوافق بالآراء ولا نختلف بدون إزعاج واستثارة.
قال سيد قطب: "لا.
إنه التوحيد لا يقبل أنصاف الحلول، إنه التوحيد لا يرضى بالخلط بين الأمزجة والأفكار، إنه التوحيد لا يرضى بالجمع بين المتناقضات.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون:1 - 6] توحيد خالص أو كفر خالص.
وتقريب وجهات النظر واللعب بدين الله حرام، وإنما ذكرت هذا لأن بعض الناس قد يأتي بحسن نية أو بضعف أو بجهل في الإرادة أو بسوء نية فيقرب بين الأفكار، ولا بأس أن يكتب هنا من الإيمان، ولك مجال، واترك هؤلاء مالك ولهم، الله يحاسبهم.
ويكون منطقنا نفسي نفسي إننا في الآخرة مسئولون عنهم، نحن نتكلم لهم.
أعجبني كاتب مسلم يقول في كتاب له: من أتانا في كتاب مليح يتوافق مع القرآن والسنة قبّلنا رأسه، ومن أتانا بكلام كفر ملأنا فمه تراباً.
قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:104].
قال ابن دقيق العيد: إنما استولى التتار على بلاد المشرق لظهور الفلسفة فيهم وضعف الشريعة.
وصدق فقد وقع هذا، فإنه إذا ضعفت معالم الشريعة في الأدب، والعلم، والسوق الشارع؛ انهزمت الأمة.
والأمة لا تهزم بعددها وقلتها، وإنما تهزم بمعاصيها وذنوبها، قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].(336/16)
السلاجقة والتوفيق بين الشرع والإلحاد
السلاجقة كانوا يقودون المسلمين مع التتار، لكن السلجوقي يصلى في المسجد ويشرب الخمر، لا يعرف حتى الفاتحة، إسلام شكلي عليه وصايا.
يقول ابن دقيق العيد:
استولى التتار علينا بذنوب هؤلاء الذين لا يفهمون الإسلام، ويريدون إحساناً وتوفيقاً، ويريدون مزج المجتمع والأمزجة، العلماني مع المسلم، والمصلي مع الفاجر، والشاطئ الأحمر مع المسجد، المصحف مع المجلة الخليعة، هذا لا يصلح، ولا يقر، قال تعالى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر:3] الخالص: الغير مشوب بشيء من المعاصي، ومن الرياء والسمعة، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [يونس:22].
وما فعلته العلمانية بالعالم الإسلامي مثلما فعل التتار ببلاد المشرق، وهو الصراع بين التوحيد والإلحاد، وسوف يستمر هذا الصراع.(336/17)
التوفيق بين الشرع والإلحاد عند أتاتورك وبيلا ومحمد علي
أتى الأتراك أولئك المساكين الأحباب سلام الله عليهم، قدموا دماءهم، ويوم انتصر مصطفى كمال أتاتورك وتولى الرئاسة مزق المصحف، وألغى الإسلام، أين إيمان الأتراك؟! أين إسلام الأتراك؟! قدموا دماءهم من أجل هذا المجرم، وهم أهل الخلافة.
وأتى أهل الجزائر فقدموا أكثر من مليون قتيل، حتى طردوا الفرنسية وأتى أحمد بن بيلا هذا المتشدق بالإسلام الذي حفظ القرآن في السجن، وأتى ليستجلب شباب الصحوة وأصحاب الرأي العام، حتى يؤيدوه.
قال تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:14 - 16].
أتى أحمد بن بيلا فألقى الإسلام، ويسميه إسلام الحيض، وإسلام الغسل من الجنابة، ويقول: صلوا صلاة الاستسقاء، وربما صلى الجمعة أحيانا بموكبه، ولكن السذج صدقوه، ولكن أين تحقيق الإسلام؟ أين الإعلام المسلم؟ أين تحكيم القرآن والسنة في حياة الناس؟
وأتى محمد علي جناح، وصدقه أهل باكستان، وأيدوه، ولما تولى أول مرسوم، جعل دين البلاد العلمنة، فأين الإسلام والإيمان والكعبة؟
وهكذا قال تعالى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذريات:53] الطغاة لم يتواصوا، فلم يوصِ أتاتورك ابن بلا ولا أوصى ابن بلا محمد علي جناح، ولكنهم قوم طاغون، ويستمر الطغيان في الطاغين حتى يرث الله الأرض ومن عليها.(336/18)
من أخبار الضُلاّل عند الموت(336/19)
أخبار ابن الفارض
أحد هؤلاء الموسوسين المهلوسين وهو ابن الفارض حضرته سكرات الموت، فرأى أهوالاً في سكرات الموت فقال:
إن كان منزلتي في الحب عندكم ما قد لقيت فقد ضيعت أيامي
أمنية ظفرت نفسي بها زمناً واليوم أحسبها أضغاث أحلام
يقول: كنت أظن أنني مهتدي وأنا ضايع: قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] يقول أهل العلم: بدا لهم في سكرات الموت.
ويقول بعضهم: بل بدا لهم في القبر.
وقال فريق من أهل العلم: بل بدا لهم في الآخرة، وأنا أظن والله أعلم أنه بدا لهم في سكرات الموت، فإن الله يظهر للفاجر فجوره وللموحد توحيده.
وكان ابن المبارك وهو في سكرات الموت يتبسم قالوا: مالك يا أبا عبد الرحمن تتبسم؟ قال: لمثل هذا فليعمل العاملون، وهي بشرى المؤمنين، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} [فصلت:30] قالوا: عند سكرات الموت، وهي بشرى المؤمن، تقول له الملائكة: لا تخف ولا تحزن، وأما الفاجر والملحد والمتهتك، فتقول له الملائكة: ويلٌ لك، ويل لك يا عدو الله، فيأتيه الحزن والرعب، ويأتيه قوله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47].
ذكر وكيع في كتاب الزهد أن ابن عمر قرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر:47] فبكى حتى كادت أضلعه تختلف، قالوا: مالك يا أبا عبد الرحمن، قال: أخشى أن يبدو لي من الله ما لم أكن أحتسب، نسأل الله أن يثبتنا وإياكم على الإيمان، ونعوذ بالله أن يظهر لنا ما لم نكن نحتسب وما لم يكن ببالنا يخطر.
إن المؤمن في هذا العصر الفاسد المفسد على خطر عظيم، ولولا الله ثم هؤلاء الأخيار الأبرار الذين يحفظ بهم البلاد وأمنها وسكينتها ورشدها وإسلامها، لذهبت الأمة سدى.(336/20)
التلمساني في نزعه الأخير
الفاجر التلمساني وهو في سكرات الموت، قالوا: تغير واضطرب، وأخذ يهذي بكلام، فقالوا: قل لا إله إلا الله، قال: لا أعرف، قل لا إله إلا الله، قال: لا أعرف، قال تعالى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ} [إبراهيم:27].
يقول ابن القيم في كتاب الجواب الكافي: حضّروا رجلاً عاشقاً، يعني فناناً مطرباً، والأمة مصدرة للفنانين والمطربين، ولا ينقصها مطرب ولا فنان، بل ينقصها مهندس وطبيب، أما الفنانون فبكثرة كاثرة أسأل الله أن يهديهم، هذا المطرب حضرته سكرات الموت، وكان يعرف تن، تن، تن ولا يعرف (قل هو الله أحد) ولا يعرف (حم.
تنزيل الكتاب) يعيش على الأغنية الماجنة، قالوا: قل لا إله إلا الله، قال:
أين الطريق إلى حمام منجاب
يعني أغنيته في الحياة كانت هذه.
وسمعت مقطوعة للشباب هي كفر، يقول: الله الأول أحبك يالوطن ثاني.
هل سمعت الشعر الحديث المطور التكنولوجي، تعالى الله بل تفرد الله، وتعالى الله عما يقول الفسقة علواً كبيراً.(336/21)
احتضار أحد التجار
وقال ابن أبي الدنيا في كتاب المحتضرين، حضّرنا رجلاً من التجار، كان يضرب على وتره، وبعض التجار ساقط في تجارته يعبد الدرهم والدينار {تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة} والحديث في صحيح البخاري، وبعضهم يعبد الموديل الجديد من السيارات, وبعضهم يعبد الوظيفة وبإمكانه أن يسجد حتى يحصل على الوظيفة، وبعضهم يعبد الشهوة، وهناك أناس يعبدون الواحد الأحد، نعم وهم أنتم أيها الأخيار الأبرار، وهم أنتم يا من رفع التوحيد:
فإما حياة نظَّم الوحي سيرها وإلا فموت لا يسر الأعاديا
رضينا بك اللهم رباً وخالقاً وبالمصطفى المختار شهماً وهاديا
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى للمطايا طيب ذكراك حادياً
يقول إذا سرينا في ظلام الليل وأنت قائد المسيرة فلا نخاف، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وفي ذات مرة كلمني أحد الشباب، قال: أنا مصروع، قلت: من جان؟ قال: لا.
ذهب بلبي حب فتاة.
أعوذ بالله، قلت له: هل تصلى الفجر في المسجد؟ قال: لا أصلى الفجر.
وابن تيمية يصلى صلاة الفجر في المسجد، وهذا مرهم يعالج القلوب، ولا يعرفه إلا أهل الفجر في المسجد، أما الذين ينامون أو يلعبون الكيرم إلى صلاة الفجر فلا يجدون مرهماً ولا طباً، وفي الصحيح يقول عليه الصلاة والسلام: {من صلى الفجر في جماعة، فهو في ذمة الله؛ فالله الله لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء، فإنه من طلبه أدركه، ومن أدركه كبه على وجهه في النار} يسقط أهل المخدرات في المخدرات لأنهم لم يصلوا الفجر في جماعة، ويجلس السفهاء في الشارع يتهتكون على بنات المسلمين لأنهم لم يصلوا الفجر في جماعة، ويفسدون في البلد وينشرون الإلحاد لأنهم لم يصلوا الفجر في جماعة، وقس على ذلك.
هذا التاجر ذكره ابن أبي الدنيا: قلنا له: قل لا إله إلا الله، قال: خمسه في ستة، كم تصير؟ قلنا قل لا إله إلا الله، قال: خمسة في ستة كم تصير؟ تصير إلى سوء المصير.
وذكر ابن تيمية أن الشيخ إبراهيم الجعبري -أحد المشايخ الصالحين- قال: رأيت في منامي ابن عربي وابن الفارض وهما شيخان، وابن تيمية يؤيد هذه الرؤيا.
ابن عربي هذا صاحب الفصوص الذي أبطل النصوص، وصاحب الفتوحات المكية، وهو ظلم وظلام والعياذ بالله، وابن الفارض.
يقصد ابن تيمية أن الشيخ الجعبري رأى ابن عربي وابن الفارض في المنام وهما شيخان أعميان يمشيان ويتعثران، ويقولان: كيف الطريق؟ أين الطريق (اهدنا الصراط المستقيم)؟ أين طريق المسجد؟ أين طريق الاستقامة؟ أين طريق التوبة؟ وانتهيا وهما لا يعرفان (إياك نعبد وإياك نستعين) لا يعرفان لا إله إلا الله.
وأنا أعرف أن هناك فرقاً في العالم تتبع ابن عربي، وقد كشف زيفها ابن تيمية وفضحها على رءوس الأشهاد، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عن هؤلاء: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
والأستاذ الشهرستاني -يسمى الأستاذ من ذكائه- ذكي متوقد، لكن ليس كل ذكي زكي بعضهم ذكي، لكن يستخدم ذكاءه في الإلحاد والكفر والتعرض للصالحين، وعداوة أولياء الله، والطعن في الدين.
هذا الشهرستاني ينسب إليه أنه قال:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها وطوفت طرفي بين تلك المعالم
فلم أرَ إلا واضعاً كف حائرٍ على ذقن أو قارعاً سن نادم
ما معنى الأبيات:
يقول: أنا بحثت في الجامعات والمؤسسات عن الهداية فلم أجدت إلا محتارين، وجدت الناس حيارى، أين الهداية هذه.
فرددت عليه ببيتين، قلت:
لعلك يا أستاذ ما زرت أحمداً رسول الهدى المبعوث من خير هاشم
فوالله لو قد زرته الدهر مرة لما كنت نهباً للصقور القشاعم
أنت لم تعرف طيبة، ولم تعرف القرآن ولا زمزم، ولا عرفت الحديث، وذهبت تلتمس الهداية عند الرازي وعند ابن سبعين، وعند ابن عربي، فتقول: كلهم حيارى، نعم حيارى، لكن اذهب إلى أبي بن كعب، وابن عباس، ومعاذ وابن تيمية، ومالك، وأحمد والشافعي، وأبي حنيفة فكلهم والله مبصرون، على هدىً من ربهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].(336/22)
أبو العلاء المعري بعد الموت
ذكر ابن كثير عن أبي العلاء المعري الملحد الزنديق -لا ندري ما الله صانع به، أما كلامه فإلحاد وزندقة- قال: لما توفى وضعوه في قبره فجاءته حية -وهذا في البداية - قال: فأخذت فرجه بفمها، وأخذت لسانه بذنبها، قال تعالى: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} [فصلت:16] وعذاب القبر نقره ونشهد به، ولو لم ينقل لنا لعلمنا أن عذاب القبر موجود قطعي عند أهل السنة والجماعة، لكن قصدي أن مثل هذه القصة ينقلها حافظ، وهي مصير هؤلاء الخونة المعرضين عن الله، ووالله إن القلق لعذاب الله لهم في الحياة الدنيا شديد، وإنهم ليعيشون حياة الضنك.
يقول أحد الدعاة سافر إلى روسيا ومر بـ موسكو: قال: ورأيت هناك معسكراً يجتمع فيه البشر -وهذا في عهد جرباتشوف - فذكرت قوله تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً} [طه:124] قال: والله إنهم مثل الحمير، لا يجدون الخبز، جعلوا لهم الماء في صحون، مثل الحيوانات يشربون في صحن واحد.
وفي ذات يوم سافرت إلى واشنطن والتقينا بأحد الدكاترة، رئيس معهد الفكر الإسلامي، وقد رأينا أن نسأله مال هذا الشعب المبهوت؟! الشعب الأمريكي، لا رقي في الروح ولا اطمئنان، ولا سكنية، كل يلهث، عليهم البهت والاضطراب، قلنا: ما لهم؟ تبسم وقال: والله الذي لا إله إلا هو منذ أن وصلت إلى أمريكا وأنا أتذكر قوله تعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} [الأنعام:110] لا يصبحون مطمئنين أبداً، يصبح يلهث ويملك المادة، ويملك كل شيء لكن السعادة لا يملكها، والله لن ينالها {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون} [الأنعام:110].(336/23)
كونوا أنصار الله
إنها مسيرة من الصراع العالمي كما أسلفت، ونحن في هذه اللحظة نعيش هذا الصراع وسوف يعيشه من بعدنا، ولكني أقول لكم: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} [الصف:14] كونوا في صف حزب الله، كونوا مع الله، أيدوا لا إله إلا الله، فوالله إن الساكت لشيطان أخرس، وإنما افترى على نفسه وكتم ما آتاه الله من علم معرفة، وأساء إلى مصيره ومستقبله مع الله، إن دعاة العلمنة يدعون إلى العلمانية والإلحادية والبعثية والشيوعية والنصرانية واليهودية فأين أنت يا موحد؟ أين أنت وأنت رجل الكلمة الحقة؟ أين أنت وأنت الثابت على الكلمة الأصيلة؟ أين كلمتك؟(336/24)
الإصلاح في جانب النساء
الصراع في جانب النساء: صراع بين المرأة الوقورة المتحشمة المتحجبة، والمرأة المتهتكة المعرضة عن منهج الله، المرأة التي تدوس الحجاب وتتشدق على الصالحين، المرأة التي لا تستحي على شرفها وعرضها وشرف أبيها وأمها.
يريدون أن تنقلب المرأة من عاقلة متحجبة أرادها الإسلام: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى} [الأحزاب:33] يريدون أن تكون المرأة عارضة أزياء، ودعاية للصابون وللصحف والمجلات والميراندا والببسي والشركات، يريدون أن تكون المرأة كالحذاء، سافرة في الفنادق والمنتديات والمنتزهات، يريدون أن تكون جندية مرور أو في الجيش تصارع الأبطال.
أي مصيبة هذه؟ وكيف يصبح المجتمع وهذا حاله؟ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النور:19].
وواجب المرأة هنا أن تجاهد وتدعو وتتحرك بلا إله إلا الله، وأن تنشر دعوة الله في صفوف النساء، وأن تكون قائمة على منهج الله، يقول عليه الصلاة والسلام: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم} هذا والله المكسب.
فيا أمة الله كوني داعية، وجهي جيل النساء والأمهات أن يعتصمن بالحجاب، وبتقوى الله والستر والعفاف، وأن يكن كما أراد صلى الله عليه وسلم.
من هو الذي أعلن حقوق المرأة هو زولا الفرنسي، الذي يقول: أنا أشك في المرأة أنها إنسانة، وألف كتاباً في الجنس؟
أهو نزار قباني الذي ألف ديوان العاشقين عليه غضب الله؟ وأنا أنصحكم لا تدخلوا شعره بيوتكم، أخرجوا دواوينه وشعره من بيوتكم، وليقل كل واحد منكم: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق ثلاثاً.
يقول في سمير العاشقين وهو يخاطب المرأة:
يجوز أن تثوري
يجوز أن تعربدي
يجوز أن تخرجي
عارية أمام الناس
هذا من شعره، وهناك شعر أطم، أجلل هذا المنبر، وأقدس هذا المكان أن أذكره فيه، وأحترم هذه الوجوه الغالية والقلوب المؤمنة أن يذكر أمامها مثل هذا الكلام على صاحبه غضب الله اللهم انتقم لنا منه.
وشعره هذا يسري في البيوت، والله لقد بلغ بعض القرى، وله ثلاثة دواوين كبرى ديوان واحد يستطيع أن يدمر به مدينة كاملة، بل شعباً كاملاً.
ماذا نقول للمرأة؟ أين كتاب الله؟ أين سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؟ أين كتب أهل العلم؟ أين من ينشرها في الناس؟ تترك الساحة لمثل هؤلاء الفجرة الذين لا يؤمنون بالله، قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام:116] إن تطعهم والله يلغون المسجد، ولا إله إلا الله! وغداً إذا أطعتهم ووافقتهم تخرج بنتك، ثم لا تستطيع أن تخرج عليها ولا أن تأمرها ولا أن تنهاها.
فيا رب احفظ علينا عرضنا، وشرفنا، وديننا، وكرامتنا في ظل لا إله إلا الله.
قال تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50] معاذ الله أن نرضى بغير حكم الله، ما دام أن لنا قراراً في الأرض ونريد شرعة الله، وأن نحيا حياة سعيدة.
ويوم نتخلى عن الدين، والله لتضيع مقدساتنا وسعادتنا، والصراع سوف يستمر، ومن لم يعش هذا الصراع فهو مدفون وسوف يعيش في عالم الأموات وهو مكفن، يأكل ويشرب لكنه لا يصارع.(336/25)
المجاهدة بالنصيحة
والله يحب من أوليائه المجاهد والدفاع، قال تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ} [المائدة:35] ويقول سبحانه: {يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة:54] ويقول سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة:111].
ذكر الإمام أحمد بسند جيد عن أبي ذر قال: {بايعني صلى الله عليه وسلم خمساً وأشهد عليها سبعاً، وعرف بي تسعاً أو -كما قال- أن لا أخاف في الله لومه لائم}.
وروى ابن حبان عن أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه قال: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بخمس -وفي رواية بثمان- أن أقول الحق ولو كان مراً} وذكره ابن حجر وصححه في بلوغ المرام قل الحق ولو ذهب رأسك.
وعند البخاري من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه وأرضاه قال: {بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على شهادة أن لا إله إلا الله وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم -وفي لفظ- واشترط علي النصح لكل مسلم} فالله الله في النصح: {الدين النصيحة، الدين النصيحة، الدين النصيحة} إنها لوصيتي وإن واجبنا أن نأمر بالمعروف وننهي عن المنكر وهو الصراع الذي يعيشه الإنسان في الشارع، وفي المقهى والمدرسة وفي ملعب الكرة، وفي الصحيفة والمجلة.
أنا أمامي مئات من الشباب الأخيار صفوة المجتمع صفوة هذه المدينة حضروا هنا: فيهم الطبيب وصراعه مع الوثنية في عيادته، فيهم الأستاذ وصراعه مع الوثنية في فصله، وفيهم الأديب وصراعه مع الوثنية مع أدبه، وفيهم الصحفي وصراعه مع الوثنية في الصحافة، فالله الله {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد:7] وقال تعالى: {إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران:160] أسأل الله أن ينصرنا وإياكم، وأن يرعانا وإياكم، وأن يتولانا وإياكم، وأن ينصر دينه وكتابه وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.(336/26)
الأسئلة(336/27)
كيفية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
السؤال
شاب يحلق اللحية فيجد الغلظة والفظاظة من الملتزمين فنرجو النصيحة؟
الجواب
وأنت في توبة طيبة كأنك تريد الهداية الكاملة المطلقة، وما قلته يا أخي فنحاكم هؤلاء جميعاً إلى شرع الرسول عليه الصلاة والسلام، ونقول: إن الله تعالى يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقول: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [آل عمران:159] ويقول: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] فالفضاضة ليست واردة حتى مع طاغية الدنيا فرعون، أرسل الله موسى وهارون فقال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44].
يا أخي: إن وجدت إنساناً أغلظ عليك بهذا فاعلم أن الكل لا يفعلون هذا، إن عندنا حكماء فطناء ألباء، لا يظن السامع أن الناس كلهم متطرفون كما يقولون، والله ما سمعنا أنهم أزعجوا أو أنهم روعوا الأمن، وما سمعنا أنهم أحدثوا في البلد فتنة، ولا زلزلوا الكيان، وإنما سمعنا الانضباط والحكمة والرشد والحمد لله، فأنت تحمّل هذه منا، ونضمن إن شاء الله ألا تعود إليك، ولكن نطالبك أمام هذا الجمع الحافل أن تطلق لحيتك كما أطلقها رسول الهدى عليه الصلاة والسلام، فهو حبيبك وما حضرت هنا إلا لتحيي سنته، وترحب بدعوته وشرعته، وما حضرت هنا إلا لصلاح فيك وإشراق في قلبك، غيرك يوم أن حضر الناس هنا حضر في الشاطئ، وغيرك يوم أن أتى الناس يسمع المحاضرة هنا بقى يسمع الأغنية الماجنة، وغيرك يوم رفع الناس المصحف رفع المجلة الخليعة، فإنها ليلة أنت تولد فيها إن شاء الله بدعوات المؤمنين.
هي ليلة فيها ولدت وشاهدي فيما رأيت الأرض والمريخ
فنسأل الله أن نكون شهداء لك، وأن تكون شهيداً لنا عند الله على الهداية والاستقامة، ونسأل الله أن يثبتك وشباب الأمة، وأن يزيد فيكم من الصلاح.(336/28)
فضل جيل الصحوة
السؤال
ما رأيك في شباب الصحوة؟
الجواب
الجواب واضح، وماذا تتوقع مني أن أقول: قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [القلم:35 - 36] ماذا تريد مني أن أقول في أناس سجدوا لله يوم سجد غيرهم للكيرم والبلوت وكأس الخمر والمجلة الخليعة؟ ماذا تريد مني أن أقول في أناس جددوا هويتهم لله، يوم هوى غيرهم المذاهب الهدامة؟ ماذا تريد مني أن أقول في أناس شرفت بهم البلاد والعالم الإسلامي وأصبحوا تاجاً على رأس أمة محمد عليه الصلاة والسلام؟
والله إن القلب لينتعش إذا رأى هذه الوجوه الغالية الثمينة عند الله، يأتي الإنسان بلا كلام، فكأنه يتلقن من وجوههم الكلام فيندفع قوياً متكلماً، ماذا يقول في شباب الصحوة.
شباب الصحوة الأمن والطمأنينة والسعادة.
شباب الصحوة القوة والمناعة والحكمة.
شباب الصحوة الهداية والاستقامة والالتزام.
شباب الصحوة الإشراق والإبداع والكنز للأمة.
أتظن أنا سوف نساويهم الليلة بمروج المخدرات، أو بفروخ العلمنة، أو بأذناب الحداثة، أو بالمتهتكين، أو بالنفعيين، أو بأكلة الرز الذين لا يعرفون (إياك نعبد وإياك نستعين) أو بالمردة الذين يريدون تلصيق الأمزجة والأقوال وجمعها في بوتقة واحدة كما يقولون، لا.
يا أمة المجد قومي مزقي الحجبا وأشعلي في ليالي دهرك الشهبا
أتذكرين صلاح الدين سفسطة من غير بذل صلاح الدين قد ذهبا
قبر العظيم إذا ما زاره ذنب رغا وأزبد لا حييت يا ذنبا
لو أخبروا عمر الفاروق نسبتهم واسمعوه الرزايا أنكر النسبا
أبواب أجدادنا منحوتة ذهباً فما لها كلها قد أصبحت خشبا
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وجيلنا اليوم من أعدائنا شربا
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غابتها غضبا
عافوا حياة الخنى والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا(336/29)
نصيحة للشباب
السؤال
نريد كلمة للشباب؟
الجواب
أوصي الشباب في هذه المرحلة أن يحملوا الغيرة، ويجيدوا الوسيلة في تبليغ هذه الغيرة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولا تكون الوسيلة خطأ، مقصدكم جليل وممتاز.
والطريقة هي: العودة إلى العلماء والمشايخ والدعاة الكبار، ونوصيكم بالشورى ولا ندعو إلى عمل عجول طائش تكون مفسدته على الشباب، وردة فعله على شباب الصحوة سيئة، فليسأل الإنسان نفسه، وليتق ربه، لا نقول للإنسان مت، لا تحمل غيرة، هذا يصبح ميتاً ويصبح حيواناً، اشتعل بالغيرة في داخلك، ولكن نفذها في تصريف حكيم ينهى المنكر.
يقول ابن تيمية في المجلد الثامن والعشرين: ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عن المنكر بلا منكر.
بعض الناس إذا نهى عن منكر يأتي بمنكر أطم، ويأتي بمصيبة أعم، ولكن العلم وشورى الإخوة، وخطباء المساجد، والأئمة المشايخ، هي الطريقة السليمة لإنكار هذا المنكر وهذا هو المطلوب.
وندعو الشباب إلى إنكار المنكر مع العلماء والمشايخ متى قاموا بإنكار المنكر، وإلا ماذا ننتظر، هل ننتظر أن يحل بنا ما حل بالقرى التي كانت من قبلنا لما أعرضت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ هل ننتظر قارعة من قوارع الله عز وجل؟
قبل فترة كنت في القويعية وبعد المحاضرة قام القاضي وأعلن في الناس أنه من غدٍ لا يباع أي شريط للغناء في هذا البلد أبداً، قال: وأخبرنا أنه اجتمع التجار في هذا البلد واشتروا تسجيلات الغناء وحوّلوها إلى تسجيلات إسلامية، وقبلهم بفترة اجتمع أهل الزلفي وفعلوا ذلك، وحوّلوا تسجيلات الغناء إلى تسجيلات إسلامية، وقام قاضيهم، وقال: من بعد هذا لا يباع شريط غناء أبداً.
وهل هذا إلا النور، وهل هذا إلا الصلاح، وهل واجب القضاة والدعاة وطلبة العلم إلا أن يفعلوا هذا، أما أن يبقى الإنسان على وضع، ويفضي أسراره في هيجان وعواطف وسب وشتم في المجالس ليس بصحيح، ندعو إلى الحكمة الحية المنفذة المؤثرة التي تنفع، وكم أعجبنا ورفع رءوسنا ما فعلتم أيها الأخيار، فسلام الله عليكم.
أيها الإخوة: يظهر من بعض الأسئلة أن بعض الناس يريد أن نظهر له عيوباً من عيوب الصحوة، ولا أدري ماله:
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
ويقول صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: {إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث} يريدكم معصومين لا تخطئون أبداً ولا تذنبون، لا لكنهم يصلون الجماعة خمس صلوات، ويحملون القرآن والسنة، ويتمنون الشهادة صباح مساء، ويحافظون على أمن البلاد، لكنهم حكماء يريدون تثبيت المعروف وإنهاء المنكر وإنقاذ الأمة، لكنهم يريدون إسعاد المرأة في الدنيا والآخرة، هذه تكفيهم، الواحدة منها خير من الدنيا وما فيها، أما أنك تريد عيوباً فليس عندنا شيء، كلهم بركة ونور وهداية.
أقلوا عليهم لا أباً لأبيكم من اللوم أو سدوا المكان الذي سدوا
أولئك قوم إن بنوا أحسنوا البنا وإن وعدوا أوفوا وإن عقدوا شدوا(336/30)
كيفية تغيير المنكرات
السؤال
يخبرنا الأخ بالمنكرات التي تقع في جدة؟
الجواب
أيها الأخ الكريم:
تكاثرت الظباء على خراشٍ فما يدري خراش ما يصيد
وأنا أعرف أنها من اليمين والشمال ومن فوق ومن تحت، لكن بجهودك أنت وإخوانك وإخلاصك -بإذن الله- وتنوركم وتحمسكم -وأمامي حشد هائل- وجه الوجهة الصحيحة، لأن الشعب مسلم، الشعب لا يريد إلا لا إله إلا الله، والأمة تريد (إياك نعبد وإياك نستعين) هؤلاء الذين يدندنون بالعلمنة ليس لهم نصيب، أنا أعرف والله لو قام علماني في مسجد يريد أن يلقي خطبه لضربة الناس بالأحذية وأخرجوه، فلماذا الأمة كلها تريد الله والدار الآخرة، والناس يرحبون بالكلمة اللينة الهادئة الوقورة، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
يحيون الابتسامة، يحيون من يدخل إلى قلوبهم، ما سمعت أنا نصحنا رجلاً فأنكر علينا النصيحة أو رد علينا رداً لأنه على الفطرة، قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم:30] مؤمن في الأصل، ونريد أن تخاطبوهم بالفطرة وأن تدعوهم إلى العودة والله معكم.(336/31)
أثر خطبة الجمعة على الناس
السؤال
شخص يتحدث عن خطب الجمعة، وما لها من أثر في الناس، ويريد توجيههم؟
الجواب
يا إخوة! خطب الجمعة تكون حكيمة لا تكون ميتة، لا تكون دائماً في الحيض والغسل من الجنابة، والمسح على الخفين، بل تكون في شئون الحياة، لكن بدون تعرض أو جرح أو شتم، وتكون في الإيمان والسياسة، والاقتصاد والإعلام والأدب، تخاطب مشاكل الأمة، لكن بقالب من الحكمة والاتزان، والكلام الهادف الصادق، الذي لا يثير شغباً ولا مشاكل ولا يهيج الناس هيجاناً منحرفاً، إنما يفهم الناس بالواقع ويبصرهم بالعلاج، ويبصرهم الصواب ويعرفهم بالخطأ، هذه هي خطبة الجمعة.
وأبو بكر رضي الله عنه كان يخطب الجمعة في حروب الردة في شئون الساعة، يتكلم ماذا فعل أهل الردة، وعمر يتكلم عن الجيوش، وعن أخبار المعارك التي تقع في الأقاليم والجبهات، ويتكلم عن الاقتصاد الذي في دولته، ويتكلم عن عام الرمادة، وماذا حل بالأمة، فأنت تكلم عن الأحداث، الناس في أزمة في الخليج، وأنت تتكلم في كل جمعة عن المسح عن الخفين وبيع العينة، ينامون في المسجد وينتقض وضوءهم، فعليك أن تتكلم عن أحداث الخليج بمنطق القرآن:
التوكل على الله، إخلاص التوحيد، التضرع إلى الله، بماذا تصاب الأمم، تدمير الشعوب بالذنوب والخطايا، قال تعالى: {فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:43].(336/32)
اختلاط العلماء بالشباب
السؤال
شكوى من عدم نزول العلماء إلى الشباب؟
الجواب
هذا يوجد، ولكن الآن بدأ التنبيه على العلماء والدعاة والقضاة في النزول إلى الشباب، أن يكونوا علماء عامة، مثل علماء أهل السنة والجماعة.
ابن تيمية كان عالم عامة، كان يجلس في المسجد والشارع وفي السكة، وكان الإمام أحمد مع الشباب دائماً، والعالم لا يصنع من فراغ، العالم لا يعترف به أن يكون في برج عاجي تحت مكيف يأتي بأفكاره من فوق، لا.
بل لا بد أن يخالط الناس، والرسول صلى الله عليه وسلم كان رجلاً يمشي بين الناس، قال تعالى: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} [الفرقان:7].
فأنا أطلب من العلماء أن يأكلوا الطعام ويمشوا في الأسواق، ويجلسوا مع الشباب، وهذا أمر معلوم وفيه بركة، لكن البقية الباقية ينزلون مع الشباب ويسمعون همومهم وطموح الشباب، لا بد أن نجمع بين أمرين: بين حماس واندفاع الشباب، وبين حكمة الشيوخ والعلماء، لأن العالم بدون حماس خيشة، والشاب بدون حكمة وعلم سيل جارف، فلا تضبط هذا إلا بهذا، فعلى العالم أن ينزل خطوة، والشباب أن يتقدموا خطوة، وتلتقي المسيرة وتصلح بإذن الله، والحمد لله قد سمعنا أن حصل هذا وهناك ملتقى ويحضره الخطباء والدعاة في هذا المكان.(336/33)
واجب الشباب في تغيير المنكر والأمر بالمعروف
السؤال
لماذا لا ينزل الشباب إلى الأسواق والشواطئ، للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأن هذا يجتمع فيه الصغير والكبير ويحدث فيه من المفاسد ما الله به عليم؟
الجواب
أنا قلت هذا وأنبه إليه وأطلب من الشباب أن ينزلوا لكن بالكلمة وبالقول، لا بمد اليد والإزعاج، يأمرون وينهون، بل وجود كثرة من الشباب الأتقياء الأخيار بشكلهم ومظهرهم الإسلامي؛ ينهي ويحرج أهل الفواحش وأهل المعاصي، وكم رأينا من أناس يشرب أحدهم الدخان ويشيش ويختلط بالأجنبيات فإذا رأى الشباب ارتدع وخاف، وصاحب المعصية ذليل، كما يقول الحسن البصري: والله إن ذل المعصية في قلوبهم ولو طقطقت بهم البراذين.
فمهما كان صاحب المعصية فهو ذليل ينهار سريعاً.(336/34)
طلب الدعاء بالغيث
نسأل الله عز وجل أن يسقينا وإياكم غيث القلوب وغيث الأرض فإن الله قرن بينهما، يقول سبحانه وتعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16].
وغيث الأرض: المطر ونحن بحاجة إليه، فأما غيث الأرواح والقلوب فقد أتى به عليه الصلاة والسلام، يقول في الصحيحين: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً} فهذا الغيث ننتظره وقد سمعناه، وننتظر من الله أن يغيثنا، وعسى ألا تكون معاصينا وتخلفنا عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتقاعسنا وسكوتنا ألا تكون هذه من النكبات التي جربناها في القحط.
أيها الإخوة: أنا أذكر أننا استسقينا ما يقارب أربع مرات أو خمس مرات وما نزلت قطرة، لأننا يوم خرجنا المصلى خرج منا أناس أموالهم في البنوك الربوية، وخرج أناس بيوتهم مليئة بالأشرطة الغنائية، وخرج أناس عند مخداتهم المجلات الخليعة، وخرج أناس لا يصلون في المسجد، وخرج أناس يتنكرون للسنة، وخرج أناس يغتابون وينمون ويشهدون الزور ويعصون الله ولا نبرأ أنفسنا كلنا ذاك الرجل، فدعونا ولكن سددنا باب الإجابة بالذنوب: {يا رب! يا رب! يا رب! ومطعمه حرام وملبسه حرام ومشربه حرام فأنى يستجاب له!} فنريد من الأخيار أن يسارعوا في إنقاذ الأمة، والنهي عن المنكرات قال تعالى: {لَوْلا يَنْهَاهُمْ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمْ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمْ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة:63].
لماذا لا ينهون؟ أين المتكلم؟ أين الدعاة؟ أين الخطباء؟ أين العلماء؟ الله يلوم أولئك يقول: أين هم يتكلمون للأمة ويتكلمون للجيل وينهون عن المنكرات ويأمرون بالمعروف.
يا أيها الإخوة: إن الأمانة أمانة في أعناق الدعاة وطلبة العلم وشباب الصحوة أن يجعلوا للفساد حداً لئلا ندمر تدميراً ما بعده تدمير قال تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً} [الطلاق:9].
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي عصيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
ربنا إننا سمعنا منادياً للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا، ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا، وتوفنا مع الأبرار، ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً، ربنا إن الناس اتجهوا إلى المناهج الأرضية واتجهنا إليك فلا تحرمنا رحمتك وعفوك ورشدك ونورك.
اللهم إن أعطيت الناس من أسباب الدنيا فاعطنا من أسباب تقواك، ومن الإيمان بك أعظم الأسباب.
اللهم إن الناس تعلقوا بحبال الدنيا ومناهج الدنيا وتعلقنا بحبلك ومنهجك فلا تسلمنا لغيرك يا رب العالمين!
نسألك توفيقاً وهداية ورشداً ونوراً وبصيرة، ونسألك أن تهدي ولاة الأمر وأن تصلحهم وأن تريهم الحق حقاً وترزقهم اتباعه، وتريهم الباطل باطلاً وترزقهم اجتنابه.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وسلام الله عليكم ورحمته وبركاته.(336/35)
من ميراث الرسول عليه الصلاة والسلام
ابتدأ الدرس بمقدمة عن معجزات الرسول وحسن أخلاقه، ثم ذكر بعض الأوامر التي أمر بها الرسول صلى الله عليه وسلم كالصلاة جماعة، والتوبة والاستغفار، والاستزادة من النوافل من قيام ليل وصدقة، وعقب بالتحذير من السفور والأغاني وضياع الوقت، ذاكراً وسائل حفظ الوقت والمكفرات العشر للذنوب والمعاصي، واختتم الدرس بالإجابة عن الأسئلة.(337/1)
مفتاح التغيير في حياة العرب(337/2)
ثناء وابتهال
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، وتبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً، الذي له ملك السماوات والأرض، ولم يتخذ ولداً ولم يكن له شريك في الملك وخلق كل شيء فقدره تقديراً.
اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول ومثلما نقول، لك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالقرآن، عز جاهك، وجل ثناؤك، وتقدست أسماؤك.
لا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي النار سطوتك، وفي الجنة رحمتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، أنت رب الطيبين، وأنت سند المضطهدين، وأنت عضد المهضومين، وأنت ملجأ العابدين، لا إله إلا أنت، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا.
اللهم صل وسلم على من أرسلته هدايةً ورحمةً للعالمين، بلغت به الرسالة، وأديت به الأمانة، ونصحت به الأمة، وهديت به الإنسانية، وأنرت به أفكار البشرية، وزعزعت به كيان الوثنية، صلى الله وسلم على صاحب الحوض المورود، صلى الله وسلم على صاحب الصراط الممدود، صلى الله وسلم على من كسر الله به ظهور الأكاسرة، وقصر به آمال القياصرة، الذين طغوا وبغوا حتى أرداهم ظلمهم في الحافرة، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
لا إله إلا الله، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون.
لا إله إلا الله كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.
لا إله إلا الله خالق الليل والنهار.
لا إله إلا الله تسبح له الحيتان في البحار.
لا إله إلا الله تقدسه الأسماك في الأنهار.
لا إله إلا الله تفوح باسمه الأزهار.
لا إله إلا الله يحمل دعوته النبي المختار.
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العلى الذي أنزل هذا الغيث، أن ينزل على قلوبنا غيثاً كهذا الغيث، فإنه إذا رحم رحم، وإذا عفا عفا، وإذا منّ منّ، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد:16] ثم قال: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد:17].
فيا من أحييت الأرض بعد موتها، بعد أن ذبلت الأزهار، وتقطعت الأشجار، وفلت الحدائق، وماتت البساتين، أنزلت غيثاً مريعاً من السماء فأحييتها فإذا هي مزهرة، نسألك يا أحد، يا فرد يا صمد، يا من له الملك في الدنيا والآخرة، يا قيوم! من يرحمنا إذا لم ترحمنا!
ومن يغفر لنا إذا لم تغفر لنا!
ومن يسترنا إذا لم تسترنا!
اجتمعنا والله في مرضاتك، وجلسنا والله في بيتك، إن الملك من ملوك الدنيا لو طرقه الناس للبى دعواتهم، وأنت ملك الملوك.
إن الملوك إذا شابت عبيدهم في رقهم عتقوهم عتق أبرار
وأنت يا خالقي أولى بذا كرماً قد شبت في الرق فاعتقني من النار
اللهم كما جمعت بيننا في هذا المجلس فاجمع بيننا في جنة عرضها السماوات والأرض، مع النبي محمد، مع نوح وإبراهيم وموسى، مع أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].
عباد الله! إن الرسول عليه الصلاة والسلام يوم أراد الله أن يحيي به القلوب، أرسله فأيقظ الأرواح، كان العرب قبل الإسلام أمواتاً، كانوا يعبدون الحجر والشجر والأوثان، يزنون، يغشون، يكذبون، يقطعون الأرحام، يتلاعنون، فلما أراد الله أن يحيي قلوبهم بعث محمداً عليه الصلاة والسلام: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2]
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها(337/3)
فضل لا إله إلا الله
أتى عليه الصلاة والسلام بكلمتين من أتى بهما يوم القيامة وعمل بمقتضاهما؛ فتح الله له باب الجنة، ومن لم يأت بهما؛ فلن يفتح له باب الجنة وهو من الخاسرين، أتى بـ (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) فمن طرق بهما باب الجنة؛ فتح الله له.
يقول عمر بن الخطاب وهو في سكرات الموت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {من توضأ فأحسن الوضوء، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول؛ فتحت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء} فأبواب الجنة الثمانية تفتح لك أيها العبد الصالح، يابن من سجدوا لله، يابن من رفعوا لا إله إلا الله، يابن من ماتوا على علم لا إله إلا الله، فليس بغريب أن تهتدي لكن الغريب أن تضل عن سبيل الله: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122] {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام:125].
جلس عليه الصلاة والسلام في مسجده في المدينة، المسجد الذي خرج علماء الدنيا، وقادتها، جلس بين الصحابة، فأتاه رجل من البادية يريد الإسلام، فلما تخطى الصفوف قال: أين ابن عبد المطلب؟ يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو ابن عبد الله لكن جده عبد المطلب أشهر في العرب من أبيه، حتى يقول عليه الصلاة والسلام وهو يقاتل الأبطال في المعركة:
{أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب}
قال: {أين ابن عبد المطلب؟ قال عليه الصلاة والسلام: قد أجبتك، قال: أسألك مسألة فلا تغضب علي، قال: سل ما بدا لك، قال: من رفع السماء؟ قال: الله، قال: من بسط الأرض؟ قال: الله، قال: من نصب الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال: الله، قال: أسألك بمن رفع السماء، وبسط الأرض، ونصب الجبال وجعل فيها ما فيها، آلله أرسلك؟ قال: اللهم نعم، قال: أسألك بمن رفع السماء وبسط الأرض ونصب الجبال، آلله أمرك أن تأمرنا بخمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال: اللهم نعم، فأخذ يسأله حتى انتهى من أركان الإسلام، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، والله لا أزيد على ما سمعت ولا أنقص، أنا ضمام بن ثعلبة، أخو بني سعد بن بكر، ثم ولى وفك عقال ناقته، وركبها، فقال عليه الصلاة والسلام: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا}.
هذا طريق الجنة أيها المسلمون، هذا طريق السعادة أيها الأبرار، هذا طريق النجاة أيها الأخيار:
فقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حقاً مصليا
توضأ بماء التوبة اليوم مخلصاً به ترقَ أبواب الجنان الثمانيا(337/4)
من معجزات الرسول صلى الله عليه وسلم
وقف عليه الصلاة والسلام يوم الجمعة على المنبر في مسجده في عز الصيف، وفي شدة الحرارة، يقول أنس: والله ما في السماء من سحابة ولا غيم ولا قزعة، وبينما هو يخطب عليه الصلاة والسلام، بين يديه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، والشهداء والأخيار، وهو في أثناء الخطبة دخل أعرابي من البادية، من الباب الغربي للمسجد، فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يغيثنا؛ فقد تقطعت السبل وجاع العيال وضاع المال، فوالله ماتلعثم عليه الصلاة والسلام الصلاة، ولا توقف ولا فكر، وإنما رفع يديه في أثناء الخطبة، ثم قال: {اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا} قال أنس رضي الله عنه وأرضاه: والله الذي لا إله إلا هو، ما في السماء سحاب ولا غيم، ولقد أزبدت السماء وأرعدت في لحظات، ثم أمطرت والله ما نزل عن منبره إلا والمطر يتحدر على وجهه الشريف، وهو يتبسم من هذه النعمة ويقول: {أشهد أني رسول الله}.
ونحن نشهد أنك رسول الله، ونشهد أنك بلغت الرسالة، ونحن نشهد أنك أديت الأمانة، وأنك دللتنا على طريق الجنة، وبقي المطر أسبوعاً كاملاً، وفي الجمعة الثانية قام عليه الصلاة والسلام يخطب، فدخل ذاك الأعرابي من نفس الباب، فقال: يا رسول الله! جاع العيال، وضاع المال، وتقطعت السبل من كثرة الأمطار، فادع الله أن يكف عنا الغيث، فرفع صلى الله عليه وسلم وعليه وسلم يديه وهو يتبسم من هذا الأعرابي الذي أتى أولاً يطلب الغيث ثم هو يريد رفع الغيث، وهو يقول: {اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر} قال الصحابة: والله الذي لا إله إلا هو ما أشار إلى مكان إلا وقع فيه الغيث.
معجزاته عليه الصلاة والسلام عند أهل العلم في الإسلام ألف معجزة وأكثر، كل معجزة تكفي إلى أن يسلم بها الكافر، ويذعن لها المتكبر، ويدخل بها الفاجر في الدين.
وكان له جذع نخلة يخطب عليه يوم الجمعة بأبي هو وأمي عليه أفضل الصلاة والسلام فقال للأنصار: اصنعوا لي منبراً أخطب عليه، فأتوا بمنبر من خشب، فلما قام يخطب عليه وترك الجذع الأول -جذع النخلة- قال جابر بن عبد الله: فلما تركه سمعنا للجذع حنيناً كحنين الإبل، وبكاءً كبكاء الأطفال، حتى سمعه أهل المسجد.
جذع من خشب يبكي للرسول عليه الصلاة والسلام، هذا الحديث في البخاري ومسلم، قال: فانحدرت دموعه عليه الصلاة والسلام ونزل إلى الجذع يدهدهه، ويسكته:
يا خير من دفنت في القاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم
أخذ يدهده العود ويقول: اسكت بإذن الله أنا رسول الله حتى سكت.
يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر:1 - 3] خرج عليه الصلاة والسلام على كفار قريش وهم في الحرم، فقال: {يا أيها الناس! قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، يا أيها الناس! لا أغني عنكم من الله شيئاً، يا أيها الناس! إني نذير لكم بين يدي عذاب شديد، قال أبو جهل: لا أسلم لك، ولا أومن لك، ولا أصدقك حتى تشق لي القمر ليلة أربعة عشر، والقمر في سماء مكة، فقال عليه الصلاة والسلام: إن شققته أتسلم وتؤمن؟ قال: نعم، فدعا ربه صلى الله عليه وسلم وقال: اللهم شق هذا القمر، ثم أشار بيده فانشق القمر فلقتين، فلقة ذهبت إلى عرفات، وفلقة ذهبت إلى جبل أبي قبيس، قال: اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد، فقاموا ينفضون ثيابهم ويقولون: سحرنا محمد، سحرنا محمد}.
فيقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ * وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ * وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر:1 - 4] جاءهم والله بآيات يشيب منها الوليد، ويسلم منها الكافر، جاءهم والله ببينات ومواعظ تتدكدك منها الجبال، لكن أين القلوب؟ فما أسلم إلا القليل.(337/5)
صاحب الخلق العظيم
هذا الرسول الذي بعثه سُبحَانَهُ وَتَعَالى بالقرآن قال له مرة من المرات: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] أعظم الناس خلقاً، وأجل الناس، وأفضل الناس، وأحلم الناس، وواجبك أيها المسلم أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم قدوتك، وأن يكون إمامك ليقودك إلى الجنة:
ومما زادني شرفاً وفخراً وكدت بأخصمي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك يا عبادي وأن صيرت أحمد لي نبيا
مدحه الله في القرآن فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] عاداه قرابته، وأبناء عمه وأعمامه وجيرانه، وأخرجوه من مكة، فطاردوه في كل مكان، آذوه، هدموا بيته، ضربوا بناته، وهاجر إلى المدينة، وبعد أن عاد منتصراً إلى مكة جمعهم والسيف على رءوسهم قال: {ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء} أي: عفا الله عنكم، سامحكم الله، غفر الله لكم ذنوبكم، فتباكوا بين يديه وقال أبو سفيان: لا إله إلا الله ما أرحمك! ولا إله إلا الله ما أوصلك! ولا إله إلا الله ما أبرك! فقال الله له: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].(337/6)
تواضع الرسول
هذا الرسول عليه الصلاة والسلام كان من أشد الناس تواضعاً، مرت به عجوز وهو يأكل على التراب تمرات عليه الصلاة والسلام، أفضل وأروع وأشرف من خلق الله، والعجوز مشركة، قالت: انظروا إليه يأكل كما يأكل العبد، ويجلس كما يجلس العبد، فقال: {إنما أنا عبد لله} {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى} [الإسراء:1] {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن:19] {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1].(337/7)
حلم يفوق الخيال
أتاه أعرابي من البادية، فسحب جبته عليه الصلاة والسلام حتى أثرت الحاشية في عنقه، فالتفت إلى الأعرابي قال: {ماتريد؟ قال: أعطني من مال الله الذي عندك لا من مال أبيك ولا من مال أمك، فأراد الصحابة أن يضربوا هذا الأعرابي، قال: اتركوه، وأخذه عليه الصلاة والسلام وشبك أصابعه بأصابعه، وذهب به إلى بيته، فأعطاه مما أعطاه الله، فيقول الأعرابي: جزاك الله من أهل وعشيرة خير الجزاء}.
أي خلق هذا الخلق؟! كان عليه الصلاة والسلام يأبى أن يعظم وأن يمدح، يقول: {لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله}.
حضرته سكرات الموت، فتواضع لله وسكرات الموت تلاحقه، وهو يبل خميصة بيده ويضعها على وجهه ويقول: {لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم أعني على سكرات الموت} ثم قال: {لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد}.(337/8)
من أوامر الرسول صلى الله عليه وسلم
أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمور، وأعظم ما أمرنا به بعد التوحيد -بعد شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله- الصلوات الخمس، إنها العهد الذي بين العبد وبين الله، إنها ذمة الله، إنها حبل الله، إنها مفتاح لجنة عرضها السماوات والأرض أعدها الله للمتقين.(337/9)
الصلاة عماد الدين
من أتى بالصلوات الخمس في يوم القيامة بيض الله وجهه، وأسعده في الدنيا والآخرة، وما تعرض للجحيم، ولا تردى في النار، ومن تهاون بالصلاة شقي في الدنيا والآخرة، وكانت معيشته ضنكاً وداره جحيماً، فهو يصلى عذاباً دائماً أبداً في الدنيا والآخرة، من أراد أن ينقطع من حبل الله انقطع من الصلوات الخمس، من أراد أن تحيط به لعنة الله ترك الصلاة، فتارك الصلاة يرتكب أكبر جريمة في تاريخ الإنسان، تارك الصلاة -يا عباد الله- كافر، يقول عليه الصلاة والسلام: {العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر} يقول عليه الصلاة والسلام: {بين المسلم والكافر ترك الصلاة} فإذا تركها فقد خرج من الدين , وقد باء بغضب الله ولعنته.
قال بعض أهل العلم: من ترك صلاة فرض واحد عامداً متعمداً؛ فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً ولا كلاماً، ولا يزكيه ولا ينظر إليه وله عذاب أليم.
تارك الصلاة تستجير منه الحيتان في البحر، تارك الصلاة تشكو منه الأسماك في الأنهار، تارك الصلاة تبكي منه النملة في جحرها.
تقول الببغاوات والعجماوات لرب الأرض والسماوات: يا رب منعنا القطر بتارك الصلوات، والله يقول من فوق سبع سماوات: {أبي تغترون؟ أم عليّ تجترئون؟! فبي حلفت لأنزلن فتنة تدع الحليم حيراناً} رواه الترمذي، ويقول: {وعزتي وجلالي لولا الشيوخ الركع والأطفال الرضع لخسفت بكم الأرض خسفاً}.(337/10)
المحافظة على صلاة الجماعة
والصلاة -يا عباد الله- لا تقبل إلا جماعة إلا من عذر يبيح للمسلم أن يتخلف عنها، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء:102] ويقول: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة:43] ويقول عليه الصلاة والسلام: {والذي نفسي بيده لقد هممت أن آمر بالصلاة، ثم أخالف إلى أناس لا يشهدون الصلاة معنا، فأحرق عليه بيوتهم بالنار، والذي نفسي بيده لو يعلم أحدهم أنه يجد عرقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد العشاء معنا} ويقول عليه الصلاة والسلام: {بيننا وبين المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر لا يستطيعونها} {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35].
يقول عليه الصلاة والسلام للأعمى وقد سأله هل يجد له رخصة قال: {أتسمع حي على الصلاة حي على الفلاح؟ قال: نعم.
قال: فأجب فإني لا أجد لك رخصة} حديث صحيح.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من سمع النداء فلم يأت؛ فلا صلاة له إلا من عذر} ويقول عليه الصلاة والسلام في حديث فيه نظر: {من رأيتموه يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان} وذلك لقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة:18] والصلاة في الجماعة من أوجب الواجبات، ولا يتخلف عنها إلا منافق معلوم النفاق.(337/11)
صلة الرحم
ومن الأمور التي ينبه عليها صلة الرحم: يوم يقطع الإنسان رحمه يقطعه الله من فوق سبع سماوات وفي الحديث الصحيح: {خلق الرحم ضعيفة فتعلقت بالعرش، قالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك، قالت: نعم يارب قال: فذلك لك} قال: فأنزلها سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلى الأرض، فمن وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22 - 23] فقاطع الرحم أصم أبكم أعمى لا يفهم شيئاً، قاطع الرحم تلحقه اللعنة في كتاب الله عز وجل، وقاطع الرحم يقترف أكبر جريمة في التاريخ بعد ترك الصلاة، ولو نزل غيث من السماء لعم الناس إلا قاطع الرحم، ولو نزلت رحمة من عند الواحد الأحد لنالها كل أحد إلا قاطع الرحم، ولذلك كان أوصل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما عاداه قرابته وقاطعوه، ودخل مكة منتصراً، أتاه ابن عمه أبو سفيان بن الحارث، فأخذ أطفاله وخرج في الصحراء، لأنه آذى الرسول عليه الصلاة والسلام، وحاربه وقاتله وشتمه، قال الصحابة: أين تذهب يا أبا سفيان؟ قال: أذهب بأطفالي أموت بهم جوعاً وعرياً وظمأً في الصحراء، قالوا: عد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقل له كما قال إخوة يوسف ليوسف: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فأقبل بأطفاله، وقال: يارسول الله! سلام الله عليك: {تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ} [يوسف:91] فبكى عليه الصلاة والسلام، وقال: {لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:92] وصلة الرحم، ليس معناها أن تصل من وصلك بل وأن تصل من قطعك، وأن تعفو عمن ظلمك، وأن تعطي من حرمك: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الرعد:21] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] وفي الحديث: {إذا جمع الله الأولين ليوم القيامة اجتمعوا جرداً مرداً حفاة عراة غرلاً بهماً، فينادي سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في ذلك اليوم بصوت يسمعه من قرب ومن بعد: لمن الملك اليوم، فلا يجيبه ملك مقرب ولا نبي مرسل، فيجيب نفسه بنفسه: لله الواحد القهار، فيقول: أين الكاظمون الغيظ والعافون عن الناس؟ فيقومون يتخطون رقاب الناس، حتى يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ثم ينادي: أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون؟ فيقومون يتخطون الناس، حتى يظلهم الله في عرشه يوم لا ظل إلا ظله، ثم ينادي: أين المتحابون بجلالي؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي، فيقومون يتخطون الناس حتى يظلهم الله في عرشه يوم لا ظل إلا ظله}.
يا عباد الله! صلة الرحم من أعظم الأعمال، بالزيارة، بالمواصلة، بالهدية، بالدعاء؛ عل الله عز وجل أن يرحمنا من فوق سبع سماوات، ما تأخر القطر إلا بالذنوب، وما جف الماء إلا بالعيوب، وإذا رجعنا وتبنا إلى الله؛ غفر الله لنا ذنوبنا ظاهرها وباطنها.(337/12)
الصدق مع الله
ومن الأمور التي ينبه عليها -عباد الله- الصدق مع الواحد الأحد، الصدق مع الله (الإخلاص) وهذا عمر وهو من المخلصين الكبار، يمرغ وجهه في التراب، ويبكي وهو خليفة المسلمين، وقائد الأمة الإسلامية بعد أبي بكر، تولى الخلافة الراشدة، وكان يصلي الجمعة وفي جبته أربع عشرة رقعة، وذهب الدنيا وفضتها وكنوزها تحت يديه يقرقر بطنه من الجوع فيقول: [[قرقر أو لا تقرقر، والله لا تشبع حتى يشبع أطفال المسلمين]].
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه(337/13)
سؤال عمر ربه الشهادة
أتي رضي الله عنه وأرضاه في آخر حجة حجها، فوقف عند الجمرات، ورفع يديه وهو صادق، لأن الله إذا علم الصادق؛ أعطاه ما تمنى قال تعالى: {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ} [محمد:21] وقال سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] فرفع يديه وقال: [[اللهم إني أسألك شهادة في سبيلك، وموتة في بلد رسولك]].
يجود بالنفس إن ضن البخيل بها والجود بالنفس أغلى غاية الجود(337/14)
رؤيا عمر قبل استشهاده
فعاد رضي الله عنه والصحابة يقولون: كيف تطلب الشهادة في المدينة؟! إن الذي يطلب الشهادة يخرج إلى الثغور، إلى بلاد الكفار يقاتل، قال: [[هكذا سألت الله وأسأل الله أن يلبي لي ما سألت]] فعاد إلى المدينة وفي أول ليلة نامها رأى في المنام كأن ديكاً ينقره ثلاث نقرات، فخرج في الصباح وذهب إلى امرأة صالحة تفسر الأحلام اسمها أسماء بنت عميس، فسألها ما هو تعبير الرؤيا والأحلام، فبكت، قال: مالك تبكين؟ قالت: أستودع الله نفسك الذي لا تضيع ودائعه، يقتلك رجل من العجم ويطعنك بالخنجر، قال: إنا لله وإنا إليه راجعون، حسبي الله، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، الله المستعان: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].(337/15)
استشهاد عمر
بينما عمر في صلاة الفجر يصلي، أراد الله أن يشرفه بالشهادة، في أحسن فريضة (صلاة الفجر) وفي أحسن مكان (مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام) فلما كبر وركع تقدم له أبو لؤلؤة المجوسي من فارس، رجل مجرم، حاقد على الإسلام، فأخذ خنجراً سمها بالسم شهراً كاملاً حتى أصبحت زرقاء، ثم ضربه بحدين ثلاث ضربات، ست طعنات، فوقع على وجهه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، الله أكبر، حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم، ثم التفت بعد الركعة الأولى قال: من قتلني؟ وتقدم ابن عوف أحد الصحابة فأكمل الصلاة، قالوا: قتلك أبو لؤلؤة المجوسي، قال: [[الحمد لله الذي جعل منيتي على يد رجل ما سجد لله سجدة]] قال أنس: فرفعناه على أكتافنا، ودماؤه تثعب على ثيابنا، وكأن القيامة قامت، قال: فوالله ما ذكر مالاً ولا ولداً، ولا زوجة ولا ميراثاً، وإنما يقول: هل أكملت الصلاة؟ قالوا: لا.
قال: هل صليت؟ قالوا: لا.
قال: الله المستعان!
فذهبوا به إلى البيت فوضعوه على حصير عنده، فرفع الحصير عن التراب، ومرغ وجهه وهو يبكي والناس يبكون حوله ويقول: يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه، يا من لا يزول ملكه ارحم من زال ملكه، ثم قال: صدق الله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] فوضعوه على الفراش، ووضعوا تحت رأسه مخدة قال: انزعوا المخدة عن رأسي، عل الله أن يرحمني، فقال علي بن أبي طالب: يا أمير المؤمنين! طوبى لك الجنة، توليت فكانت ولايتك رحمة، وأسلمت فكان إسلامك نصراً، وهاجرت فكانت هجرتك فتحاً، قال: [[ليتني نجوت كفافاً لا لي ولا علي]] ثم قال: يا ليت أمي لم تلدني، يا ليتني كنت شجرة تعضد، يا ليتني ما عرفت الحياة، وهو من الصادقين الكبار، وهو من الزاهدين الأخيار، وهو من أعظم من صام بعد أبي بكر وبعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
عمر بن الخطاب رضي الله وأرضاه، كان يطوف على رعيته في الظلام الدامس، ويقول: يا رب أتحاسبني بكل طفل، وبكل يتيم وبكل مسكين، وكان يبكي ويقول: كم قتلت يا عمر من أطفال المسلمين! فرضي الله عن تلك الروح الطاهرة، وسقى الله تلك العظام شآبيب الرحمة، وألحقنا بهم في دار الصدق.
والمقصود من هذا الكلام: هو الصدق مع الله والإخلاص فإن من أخلص لله في عبادته، رزقه الله بالصدق صدقاً، وبالإخلاص إخلاصاً.(337/16)
عبد الله بن عمرو بن حرام الأنصاري تظله الملائكة
لما حضرت معركة أحد بين الكفار والمسلمين، بين قريش والمهاجرين والأنصار، خرج عبد الله بن عمرو الأنصاري فقال: يارب اللهم خذ من دمي هذا اليوم حتى ترضى، ثم اغتسل ولبس أكفانه، فلما أتى المعركة، قاتل حتى صلاة الظهر، ثم قتل، قالت أخته: والله لقد وجدت فيه أكثر من ثمانين ضربة بالسيف، قالت: فرأيت الرسول عليه الصلاة والسلام فأتيته فقلت: يا رسول الله، هل أخي في الجنة فأصبر وأحتسب أم في غير ذلك، فسوف ترى ماذا أصنع؟ قال: تبكين أو لا تبكين، فما زالت الملائكة تظلله حتى رفعتموه، والذي نفسي بيده، لقد كلم الله أخاك بلا ترجمان، قال: يا عبدي تمن، قال: أتمنى أن تردني إلى الدنيا، فأقتل فيك ثانية، قال: إني كتبت على نفسي أنهم إليها لا يرجعون، فتمن، قال: أتمنى أن ترضى عني فإني قد رضيت عنك، قال: فإني قد أحللت عليك رضواني لا أسخط عليك أبداً، فجعل الله روحه وأرواح إخوانه الشهداء السبعين في حواصل طير، ترد الجنة فتشرب من مائها، وتأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
هذا ثواب الصدق يوم يصدق الإنسان مع الله، يوم يعلم الله عز وجل أنه صادق يرزقه هذا الثواب العظيم في الدنيا وفي الآخرة، فنسأل الله لنا ولكم الصدق.(337/17)
حقوق الجيران
ومن الأمور التي ينبه عليها، والتي قصرنا فيها جميعاً: حقوق الجيران، من أكبر نعيم الدنيا أن يوفق الله بينك وبين جار صالح، وإذا كتب الله عليك تنغيص الحياة، جعل لك جار سوء لا يستر زلتك، ولا يعفو عن خطيئتك، ولا يسامحك، يلاحقك في الليل والنهار.
آسية امرأة فرعون عليها السلام لما حضرتها الوفاة قالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ} [التحريم:11] قال ابن القيم: انظر كيف طلبت الجار قبل الدار، الجار قبل الدار، وكانت العرب تقول: الجار قبل الدار، ولا تنزل الدار إلا بالجار، حديث الوصية بالجار يقول أبو ذر: {خرجت مع الرسول عليه الصلاة والسلام في ليلة من الليالي والقمر متمكن من السماء، خط لي خطاً وقال: لا تخرج من هذا الخط حتى آتيك، قال: فخرج فسمعت خطيفاً كالحدأة وكالصقور والنسور، وعلمت أنها الجن، اجتمع بهم صلى الله عليه وسلم: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن:33]
فهو رسول الإنس والجن، والله أرسله في تلك الليلة ليتكلم مع الجن قال: فإذا كالحدايا وكالصقور والنسور تخاطف من حولي، فأردت أن أخرج فتذكرت قوله صلى الله عليه وسلم: لا تخرج من هذا الخط حتى آتيك، قال: فمكثت مكاني حتى آخر الليل، فأقبل عليه الصلاة والسلام وإذا رجل معه يكلمه طويلاً، كلما مشى كلمه، وأخذ بتلابيب ثيابه، فلما انتهى إلي صلى الله عليه وسلم قال: كيف أنت يا أبا ذر؟ قلت: هممت أن أخرج يا رسول الله! فتذكرت وصيتك، أبطأت عليّ، قال: لو خرجت من هذا الخط ما عدت أبداً حياً، أتدري من هؤلاء الذين أتوا إلي؟ قلت: لا والله يا رسول الله! قال: هؤلاء الجن، خاطبتهم، وأسلم منهم نفر كثير وأصلحت فيما بين قبيلتين منهم، وجعلت لهم كل عظم لم يذكر اسم الله عليه، وكل روث يوضع في الأرض، فهذا طعام لهم وذاك طعام لدوابهم، ثم قال: يا أبا ذر أرأيت الذي يكلمني في صفد القمر؟ قلت: نعم يا رسول الله! قال: ذاك جبريل، والذي نفسي بيده ما زال يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه} أي: يجعل له حقاً في الميراث.(337/18)
شكوى أحد الصحابة أذى جاره
ورد في السنن أن رجلاً أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يا رسول الله! جاري آذاني، ما يترك عورة إلا اقتنصها، ولا محرماً إلا انتهكه، إن غبت ما أمنته على أهلي، وإن حضرت سبني وشتمني، ماذا أفعل يا رسول الله؟ قال: اصبر واحتسب، فإن الله يأجر الصابرين، فعاد فصبر واحتسب لكن نفد الصبر -لأن الإيمان إذا لم يسكن في القلوب لم تدخل الرحمة- فعاد إليه صلى الله عليه وسلم فقال له: اصبر واحتسب فقال: يا رسول الله! ولكن نفد الصبر، قال: خذ متاعك واخرج في الطريق واجلس في السكة أمام الناس، فأخذ زوجته وأطفاله، وأخذ متاعه من البيت، وجلس في طريق الناس، فكان المصبح إذا أصبح قال: مالك يا فلان؟ قال: آذاني جاري، قال: لعنه الله، والممسي إذا أمسى قال: مالك يا فلان؟ قال: آذاني جاري قال: لعنه الله، فلما استحق اللعنة سمع الرجل فأتى إلى جاره فقال: عد والله لا أوذيك أبداً} لكن بعد ماذا؟ بعد الأذية.(337/19)
تحذير النبي صلى الله عليه وسلم من أذية الجار
يقول عليه الصلاة والسلام: {والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: من يا رسول الله؟ خاب وخسر، قال: من لا يأمن جاره بوائقه} أي: آذاه.
أين الإيمان؟ أين الصلوات الخمس؟ أين مفهوم لا إله إلا الله؟ أين أثر القرآن في القلوب؟ أين تأثير الإيمان في النفوس؟ لو كان مؤمناً ما آذى جاره، لكن ما دخل الإيمان في قلبه، فتعدى على الجيران، ينتهك المحرمات، ويتعدى بشتى التصرفات، ولا يخاف من رب الأرض والسماوات، سبحان الله! ألا يرتدع العبد كلما ذكر القبر، والله إنها حفرة من أظلم الحفر، وإنها ضيقة وموحشة.
يقول عثمان رضي الله عنه وقد رأى القبر: [[ما أضيقه وما أظلمه وما أوحشه]].
والقبر فاذكره وما وراءه فمنه ما لأحد براءه
وإنه للفيصل الذي به ينكشف الحال فلا يشتبه
والقبر روضة من الجنان أو حفرة من حفر النيران
إن يك خيراً فالذي من بعده أفضل عند ربنا لعبده
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
العار كل العار على من لم ينجه الله من النار، والندامة كل الندامة لمن دخل القبر بلا زاد، والخسران كل الخسران، والخذلان كل الخذلان، والحرمان كل الحرمان لمن طرح في القبر، ثم تولى عنه الأصحاب والأحباب والأولاد والأحبة، وبقي مرتهناً بعمله.
يقول عمر بن عبد العزيز: [[ويلكم أيها الناس! أتدرون ماذا يقول الموت؟ قالوا: ما ندري، قال يقول: ذهبت بالعينين، وأكلت الحدقتين، وفصلت الكفين من الساعدين، والساعدين من العضدين، والقدمين من الساقين، يا أيها الناس! كم من غادٍ ورائح إلى الموت! قد وسد التراب، وترك الأحباب، وفارق الأصحاب، غنياً عما ترك، فقيراً إلى ما قدم]] يتمنى الميت أن يستطيع أن يقول في القبر: لا إله إلا الله، فما يستطيع أن يقول: لا إله إلا الله؛ يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} [سبأ:54].
مر أحد الصالحين بالمقبرة في ظلام الليل، والسماء تمطر فقال: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير؛ آنس الله وحشتكم، ونور الله ظلمتكم، ثم تولى، فنام تلك الليلة، فرأى أحد الأموات في المنام، قال: يا فلان، أتدري ماذا فعل الله بنا؟ قال: ما أدري؟ قال: والله لقد نور علينا قبورنا هذه الليلة بسبب قولك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير آنس الله وحشتكم ونور الله ظلمتكم، يا فلان! والله لقد حيل بيننا وبين لا إله إلا الله، نريد أن نقول: لا إله إلا الله، فما نستطيع أن نقول لا إله إلا الله، يا فلان! والله لو تدري بعظم لا إله إلا الله لقطعت بها عمرك جميعاً، وإنما يكون ذلك في هذه الدار.
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدهر نبنيها
أين الملوك التي كانت مسلطة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
اعمل لدار غداً رضوان خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
أبيض الوجه من لقي الله بعمل صالح، الفائز يوم القيامة من زحزح عن النار، السعيد من سعد في بطن أمه وسعد في الأرض، وسعد في القبر وسعد على الصراط، فنسأل الله أن يسعدنا وإياكم يوم العرض الأكبر، يوم الحسرات، والندامات، يوم البكاء والصرخات، نسأل الله ألا يعرضنا وإياكم على النار.(337/20)
حق المسلم على أخيه
ومن المسائل التي يجدر الإشارة إليها: حق المسلم على المسلم، نظر عليه الصلاة والسلام إلى الكعبة فقال: {ما أعظمك وما أجلك! والذي نفسي بيده للمسلم أعظم منك حرمة عند الله} {المسلم دمه حرام، وماله حرام، وعرضه حرام} المسلم أطهر من ماء الغمام، المسلم أحب إلى الله من أي بقعة في الأرض، المسلم يدافع الله عنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} [الحج:38].
إذا اعتدي على المسلم في ماله، دافع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عنه.
وحق المسلم أن إذا مرض فعده، وإذا مات فاتبع جنازته، وإذا عطس فشمته، وإذا استنصحك فانصحه، وإذا أراد منك خيراً فقدمه له، صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله يوم القيامة وهو يحاسب العبد: {يابن آدم! مرضت فلم تعدني أما علمت أن عبدي فلاناً مرض فلم تعده، أما علمت أنك لو عدته لوجدت ذلك عندي، يابن آدم! جعت فلم تطعمني، قال: كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلان بن فلان جاع فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي} والجزاء من جنس العمل.(337/21)
التوبة والاستغفار
ومن المسائل التي ينبه عليها: التوبة والاستغفار والعودة إلى الله، ونحن نشكو حالنا وتقصيرنا وذنوبنا إلى الواحد الأحد، فلا يغفر الذنوب إلا الله، ولا يستر العيوب إلا الله، ولا يكشف الضر إلا الله، ولا يبرئ ولا يعافي، ولا يرحم إلا الله، فنسأل وهو الذي فوق سبع سماوات أن يعفو عنا وعنكم، وأن يغفر لنا ولكم قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وقال سبحانه: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
يا من أذنب وأخطأ! يا من أسرف وتمرد! يا من بعد عن الواحد الأحد! يا من شرد عن الفرد الصمد! عد إلى الله، فباب الله مفتوح، ونواله ممنوح، وعطاؤه يغدو ويروح: {يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها} فنسأل الله أن يتوب علينا وعليكم.
يارب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي نسيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
فيا حافظ النفوس، ويا بارئ الأرواح، أسألك أن ترحمنا رحمةً ظاهرة وباطنة.(337/22)
توبة قاتل المائة
يقول عليه الصلاة والسلام: {كان في من كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً} أخذ سيفه وهو ظالم فاجر، فأخذ تسعة وتسعين من الأنفس المعصومة فقتلها، فلما تلطخ بالدماء، وتلطخ سيفه بسفك الأبرياء، تذكر رب الأرض والسماء، وتذكر العرض على الواحد الأحد يوم القيامة، فذهب إلى الناس فقال: هل لي من توبة؟ قالوا: اذهب إلى ذاك الرجل الذي يعبد الله في هذا الغار، فاسأله هل لك من توبة، فذهب إلى رجل عابد ما عنده من العلم شيء، عابد لكنه جاهل، فدخل عليه فطرق عليه الغار، فخرج هذا الرجل، فقال: يا فلان! قال: نعم.
قال: قتلت تسعة وتسعين نفساً، فصرف وجهه عنه، وقد أخطأ في هذا العمل، لأنه يغلق باباً فتحه الله، ويقطع حبلاً مده الله، قال: هل لي من توبة؟ قال: لا توبة لك، فأخذ سيفه فقتله، فوفى به المائة، ثم رجع إلى الناس فقال: أيها الناس! هل لي من توبة؟ قالوا: اذهب إلى ذاك العالم، عالم بصير بالأحكام فقيه في الدين: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] قال: يا أيها الرجل! هل لي من توبة؟ قال: ماذا فعلت؟ قال: قتلت مائة نفس، قال: من يغلق عليك باب التوبة؟ باب التوبة مفتوح، حتى تطلع الشمس من مغربها، فأتى هذا الرجل فقال: تب إلى الله واستغفر الله، قال: أين أذهب؟ قال: القرية التي عصيت الله فيها هي قرية ظلم وأهلها فجرة، يعينونك على المعصية، فتب إلى الله، وهاجر من قريتك إلى قرية بني فلان، بعض القرى تعين على الصلاح، بعض القرى تعين على إقامة لا إله إلا الله، بعض القرى يتواصى أهلها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولكن بعض القرى ظالم أهلها، يتعاونون على الإثم والعدوان والفساد، وانتهاك الحرمات وتعدي حدود الله الواحد القهار، فذهب هذا الرجل تائباً إلى الله الواحد الأحد، فلما مشى في الطريق، أدركه الموت فمات وما سجد لله سجدة، ولا ركع لله ركعة، ولا تصدق بصدقة، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، نزلوا من فوق سبع سماوات، أما ملائكة الرحمة فتقول: يا رب! هذا العبد خرج تائباً يريدك ويريد المغفرة، فجزاؤه أن تغفر له، وأما ملائكة العذاب، فتقول: يا رب! هذا الرجل ما سجد لله سجدة، ولا ركع ركعة، ولا تصدق بصدقة، فجزاؤه النار، قال الله تبارك وتعالى: إنني الحكم العدل ولست بظلام للعبيد، قيسوا ما بين المسافتين من المكان الذي مات فيه والقرية التي خرج منها، وما بين المكان الذي مات فيه والقرية التي خرج إليها، فما وجدتموه أقرب إليها فهو من أهلها، إن كان أقرب إلى الصالحة فهو صالح، وإن كان أقرب إلى الفاجرة فهو فاجر، ثم أوحى الله من رحمته وفضله إلى تلك القرية الصالحة أن تقاربي، وأوحى إلى تلك أن تباعدي، فتقربت بجبالها، ومهادها وصخورها، فقاسوا ما بين المسافتين، فوجدوه أقرب إلى تلك القرية، قال: يا ملائكتي! أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة.
هذه رحمة الله، قتل مائة نفس معصومة، سفك دماءهم، ثم تاب الله عليه.(337/23)
قصة أصحاب الغار الثلاثة
يقول عليه الصلاة والسلام: {كان في من كان قبلكم -والحديث في صحيح البخاري وصحيح مسلم - ثلاثة أواهم المبيت إلى غار} ثلاثة من بني اسرائيل، ذهبوا يطلبون إبلاً لهم ضلت، وقيل غنماً وقيل غير ذلك، فأدركهم المبيت في الليل، إلى غار في الجبل، فدخلوا الغار في ظلام الليل؛ لأن بيوتهم بعيدة فلما دخلوا الغار، أنزل الله القطر من السماء، فانحدرت صخرة من الجبل فسدت عليه فم الغار، في مكان لا أنيس فيه إلا الله، ولا حافظ إلا الله، ولا قريب إلا الله، ولا مسدد ولا هادي إلا الله، فحاولوا أن يصرفوها عن فم الغار فما استطاعوا، وهم بعيد عن الأهل والدار؛ لا زوجة ولاولد، ولا أخ ولا صديق ولا حميم، ولكن الله فوق سبع سماوات، فجلسوا يتباكون، فقال أحدهم: ما لكم؟ قالوا: أهلنا حجزنا دونهم وأطفالنا {قال أحدهم: والله لا ينجيكم هذه الليلة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم} أي: فكل من كان منكم عنده عمل وسريرة بينه وبين الله، أو فعل حسنة في الدهر فليذكره هذا اليوم عل الله أن يرحمنا بها، قال الأول: أنا أتكلم، قالوا: تكلم، قال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان شيخان كبيران، وإني كنت لا أقدم عليهم أهلاً ولا مالاً، وإنه قد نأى بي طلب الشجر، فلم أرح عليهما إلا وقد ناما فحلبت إبلي وأتيت إلى والدي ليشربا، فوجدتهما نائمين، قال: فأخذت الإناء بيدي وصبيتي وأطفالي يتضاغون من شدة الجوع عند أقدامي، فما سقيتهم قبل والدي، وما أيقظت والدي لئلا أزعجهم من النوم، فبقيت حتى طلع الفجر، والإناء في يدي، وأبنائي يتباكون عند قدمي، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك؛ فافرج عنا ما نحن فيه، قال: فانفرجت الصخرة، لكنهم لا يستطيعون الخروج، وقام الثاني وقال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي ابنة عم جميلة من أجمل النساء، راودتها عن نفسها فأبت، فلما ألم بها الفقر، أتيت إليها فذكرتني الله عز وجل فانصرفت عنها، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء مرضاتك؛ ففرج عنا ما نحن فيه، فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج، وقال الثالث: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أجراء يعملون عندي فأعطيتهم أجرتهم إلا رجلاً واحد أردت أن أعطيه فغضب فترك أجرته، فأخذت أجرته فثمرتها حتى أصبحت إبلاً وغنماً وبقراً وشيئاً كثيراً من المال فلما أتى قلت: خذ هذا المال أجرتك، قال: لا تستهزئ بي، قلت: هذا مالك، فأخذه فما ترك لي شيئاً، اللهم إن كنت فعلت هذا ابتغاء وجهك وما عندك؛ ففرج عنا ما نحن فيه، قال: فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون، وفيه دليل على أنه لا ينجي العبد إلا العمل الصالح، لا يحفظه الله عز وجل إلا بالعمل الصالح، وهذا مصداق لقوله صلى الله عليه وسلم: {احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف}.(337/24)
قصة صاحب المحرقة
في الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: {كان رجل من بني إسرائيل أسرف على نفسه في الخطايا والذنوب، فلما أدركته الوفاة، قال لأبنائه: كيف أنا لكم؟ قالوا: من خيرة الآباء، قال: فإني ما فعلت مع الله جميلاً أبداً، ما تركت منكراً إلا أتيته، فإذا مت فاجمعوا لي حطباً، ثم حرقوني بالنار، ثم اسحقوني ثم ذروني، عل الريح أن تذهب بي في كل مكان} سبحان الله! ظن أن الله لا يحييه، كما بدأه أول مرة: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراًى * إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً} [الإنسان:1 - 2] وقال تعالى: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس:78 - 79].
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا
{فلما مات جمع له أبناؤه الحطب، وأحرقوه بالنار، ثم أشعلوا جثمانه، ثم سحقوه، ثم ذروه في الريح، فأخذته في كل مكان، فقال الله له: كن، فكان رجلاً} {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:40] {فلما أصبح أمامه رجلاً قال: يا عبدي ما حملك على ما فعلت؟ قال: يا رب خفتك وخشيت ذنوبي، قال الله عز وجل: أشهدكم أني غفرت له وأدخلته الجنة}.
فيا أيها الناس! التوبة التوبة، والاستغفار الاستغفار إلى الواحد الأحد، فإنه لا يهلك على الله إلا هالك، والمكفرات كثيرة، نسأل الله أن يغفر لنا ولكم الذنوب والخطايا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا هو، ولا يستر العيوب إلا هو.
بعض الناس يقاطع أخاه وقريبه وجاره المسلم، وتمر عليه السنوات الطوال لا يسلم عليه؛ وهذا من أعظم المنكرات، ولا يفعله إلا من قسا قلبه، وأصبح من الفجور بمكان، ونسي الله واليوم الآخر، فإن كانت القطيعة من أجل الدنيا، فهذا يحرم -كما في الحديث الصحيح-: {ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام، يلتقيان فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام}.
ويوم يلقى المسلم المسلم، ويصافحه تتحات خطاياهما كما تحات ورق الشجر في الشتاء، ويوم يصد عنه يصد الله عنه يوم القيامة، وهذا من أعظم الإجرام، فوصيتي لكل مسلم أن يتقي الله في إخوانه المسلمين، وألا يهجرهم خاصة الأرحام، خاصة من جعل الله بينك وبينهم قرابة في الحياة الدنيا، فإن الله يسألك يوم القيامة: ماذا فعلت فيهم؟ من أعظم وأكبر المعاصي أن تقطعهم، ولذلك من قطع رحمه، قطعه الله عز وجل، فهذا ينبه عليه أنه من المنكرات ومن الفواحش الكبار التي ينبغي أن نعي أمرها وحكمها، لنتوب إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عل الله أن يرحمنا: {الخلق عيال الله، أقربهم إلى الله أنفعهم لعياله} وهذا أمر يعلم.(337/25)
الاستزادة من النوافل
من المسائل التي يجدر التنبيه إليها، مسائل النوافل -يا عباد الله- أحد الصحابة أتى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام فقال: {يا رسول! أريد مرافقتك في الجنة، قال: أو غير ذلك؟ قال: لا.
قال: فأعني على نفسك بكثرة السجود، فإنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة}.
فالذي أوصي به نفسي وإياكم كثرة النوافل، والتقرب إلى الله عز وجل، إنك ما سجدت لله سجدة إلا رفعك بها درجة، ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام فيما يرويه عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: {وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه}.(337/26)
النوافل وأنواعها
والنوافل أنواع، أولها: نوافل الصلاة، وفيها سنن الرواتب وسنن مطلقة، ومن أعظمها عشر ركعات بعد الفرائض: ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر، قال ابن تيمية: "من داوم على ترك هذا النوافل كان فاسقاً ترد شهادته" العشر هذه لا بد منها، إلا من مرض أو سفر، فهذا عذر.
والسنن المطلقة منها الضحى وهي صلاة الأوابين، ويوم تركع ركعتي الضحى، يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وفي بعض الآثار فيها نظر: {انظروا لعبدي ترك أشغاله وأعماله وأتى يتملقني ويدعوني، أشهدكم أني غفرت له} يقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {يصبح على كل سلامى من الناس صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس؛ تصلح بين اثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته، فتحمله عليها أو تحمل متاعه عليها صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان من الضحى}.(337/27)
فضيلة قيام الليل
ومن السنن كذلك: قيام الليل، ومن استطاع قيام الليل؛ فقد فاز بأسعد اللحظات، وهو من أجل القربات إلى الواحد الأحد، وخاصة في الثلث الأخير من الليل حين: يتجلى الله إلى سماء الدنيا، وينزل إلى سماء الدنيا نزولاً يليق بجلاله فيقول: {هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من داع فأجيبه؟} فيجيب الله دعوة المضطر في تلك الساعة، فأوصيكم ونفسي بهذه الساعة ولو بركعتين يداوم عليها العبد دائماً وأبداً.
فمن استطاع أن يقوم من آخر الليل، فليؤخر الوتر حتى يصليه من آخر الليل، ومن خاف على نفسه ألا يوتر، فليوتر قبل أن ينام، يقول أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه: {أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت: بركعتي الضحى، وبصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وأن أوتر قبل أن أنام} فهذه وصيته صلى الله عليه وسلم.(337/28)
الصدقة
ومن النوافل: الصدقة، يوم يضم عليك القبر لا يوسعه عليك إلا الصدقة، يوم تدنو الشمس من الرءوس ويبلغ الكرب النفوس، لا يظلك يوم القيامة إلا صدقتك، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
يقول عليه الصلاة والسلام: {كل إنسان في ظل صدقته يوم القيامة حتى يقضى بين الناس} ويقول عليه الصلاة والسلام: {ما من يوم تطلع فيه الشمس إلا وملكان يناديان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقاً خلفاً، والآخر يقول: اللهم أعط ممسكاً تلفاً} فالله الله في الصدقة، والتقرب بها بالقليل والكثير، فإنها لا تضيع عند الله الذي لا تضيع ودائعه، في خزائن عند الله يوم العرض الأكبر، يقول عليه الصلاة والسلام: {إذا تصدق العبد بصدقة، فإن الله يقبلها بيمينه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم فلوه، حتى تبلغ مثل جبل أحد}.(337/29)
كثرة الذكر والاستغفار
ومن النوافل: كثرة الذكر والاستغفار، فأوصيكم ونفسي بكثرة الذكر قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [آل عمران:190 - 191] وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب:35] وقال: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ} [العنكبوت:45] وقال: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
أتى شيخ كبير إلى المصطفى صلى الله عليه وسلم، قال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ؛ فدلني على عمل أتشبث به، قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} يقول عليه الصلاة والسلام: {لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} وفي لفظ: {أو غربت} فالله الله في كثرة الذكر والتهليل والتكبير صباح مساء، عند الترمذي بسند حسن: {من قال: سبحان الله وبحمده غرست له نخلة في الجنة} ويقول عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح: {ألا أدلكم على ما هو أرفع لكم في درجاتكم وخير لكم من إنفاق الذهب والورق، وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله}.(337/30)
منكرات شائعة
ومن الأمور التي أنبه عليها مما انتشر في المجتمعات يأتي:(337/31)
سفور المرأة
فإن الله عز وجل حرم على الرجل أن ينظر إلى زينة المرأة الأجنبية، التي لا تحل له، وهذه قد يتهاون فيها في بعض الأماكن وخاصة في القرى، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول من فوق سبع سماوات: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} [النور:30].
فعلى المسلم أن يحجب أهله ومن له سلطة عليهم من الأجانب، فإن النظر إلى الأجنبيات المحرمات لا يحل، ومن استتر بستر الله ستره الله، ومن استظل بظل الله أظله الله، فعلى المسلم ألا يتساهل في هذه القضية.
وقد يتساهل في الخلطة بين الأقارب، كبنت العم وبنت الخال، وأخو الزوج لزوجة أخيه، وقد يتساهل ويجلس مع بعض المتبرجات، وهو أمر منكر يلاحظ، ولا بد أن ينهى عنه؛ لأنه يغضب الله الواحد الأحد.(337/32)
مسألة الغناء
ومن تلك الأمور مسألة الغناء الماجن الرخيص الذي يحبب الفاحشة والزنا، ويحبب العشق والوله، ما دخل الغناء في بيت إلا خرج منه القرآن، ولا دخل الغناء في قلب إلا خرج منه القرآن، ولا دخل الغناء في نفس ِإلا خرج من هذه النفس حب الله ورسوله، وجزاء من ترك الغناء مخافة لله أن يسمعه غناء الجنة، قيل لـ ابن عباس: ما هو غناء الجنة؟ قال: إذا اشتهى أهل الجنة الغناء، أرسل الله عليهم ريحاً باردة تهب فتصطك أغصان الجنة، فتحدث أصواتاً عجيبة، قال ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الـ إنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان(337/33)
حفظ الوقت
بقيت مسألة، وهي مسألة حفظ الوقت عند المسلم، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116].
والوقت -يا عباد الله- من أغلى ما يصان، وهو أغلى من الذهب والفضة، يقول عليه الصلاة والسلام: {نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ} وهذا حديث صحيح، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يسأل عن أربع} وذكر من هذه الأربع: {وعمره فيما أبلاه} فوالله لا يغادر الإنسان يوم العرض الأكبر الموقف وهو أجرد أمرد أغرل أبهم عريان حتى يسأله عز وجل عن هذا العمر، عن الدقائق والثواني، عن الساعات والأيام والليالي.
دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
والذكر هو العمل الصالح، وهو أفضل ما يتقرب به إلى الله عز وجل.(337/34)
وسائل حفظ الوقت
والوقت يحفظ بأمور:-
أعظمها ذكر الله عز وجل، ثم التنفل لمن وجد فسحة في الوقت؛ لأن الله يحاسب العبد يوم القيامة على هذه النعمة، يقول: أما فرغتك من أشغال الدنيا؟ أما جعلتك تتسود وتتربع وتتخول في الأرض؟ فيقول: نعم يا رب! قال: فماذا فعلت؟
فإني أرشد نفسي وإياكم من وجد فراغاً، وعدم شغل أو لم يجد عملاً يشغله، أن يتقرب إلى الله بالنوافل، وبكثرة التهليل والاستغفار، ومن كان تالياً لكتاب الله فليستصحب هذا الكتاب العظيم، فإنه زاد القبر، ولا زاد للإنسان إلا ما وعاه من هذا العمل الصالح، فلا ينفع يوم القيامة إلا ما قدمه العبد لنفسه.
حضرت معاذاً الوفاة رضي الله عنه وأرضاه قال: [[مرحباً بالموت، حبيب جاء على فاقة، ما أفلح من ندم، اللهم إنك تعلم أني لم أحب الحياة لغرس الأشجار، ولا لجري الأنهار، ولا لعمارة الدور، ولا لرفع القصور، ولكن كنت أحب الحياة لثلاثة أمور: لأمرغ وجهي في التراب ساجداً لك، ولأزاحم العلماء بالركب في حلق الذكر، ولصوم الهواجر في شدة الحر، طلباً لما عندك يا رب العالمين]] وهذا هو العمل الصالح الذي يقرب العبد يوم القيامة.
يا خادم الجسم كم تسعى لراحته أتعبت نفسك فيما فيه خسران
أقبل على الروح واستكمل فضائلها فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
وأكثر ما يمكن أن يخشى على الإنسان منه أن يضيع وقته بالمعاصي، فإن كثيراً من المجالس غيبة ونميمة وشهادة زور، تنتهك فيها المحرمات، ويغضب فيها رب الأرض والسماوات، وتتنزل اللعنات، نعوذ بالله من ذلك، هذه المجالس تقرب من النار، ومن غضب الواحد القهار، ومن الدمار والعار، والشنار في الدنيا والآخرة، فعلى المسلم أن يصون سمعه وبصره، وأن يتقي الله في شيخوخته وشبابه، لا يختم لنفسه بخاتمة لا تحمد عند الله؛ فإن الأعمال بالخواتيم، فإن بعض الناس يسدده الله فيصلي ويصوم ويحج ويعتمر، ثم تكون خاتمته خاتمة سوء، فيدهده على وجهه في النار؛ لأنه بعد الطاعة ينتهك محرمات الله عز وجل، كأن يغتصب قطعة أرض لا تحل له، كل هذا يحاسبه عليه الله يوم العرض الأكبر، يقول عليه الصلاة والسلام: {من اغتصب شبراً من أرض طوقه من سبع أرضين يوم القيامة} يطوقه: أي في حلقه، وقال أهل العلم: يخسف به في الأرض سبع مرات، كما أخذ هذا الشبر بحده من سبع أرضين، فنسأل الله العافية والسلامة.(337/35)
مكفرات الذنوب والخطايا
والمكفرات التي يمكن أن تغسلنا من الذنوب والخطايا، ويمكن أن نستظل بها وأن نتعالج من أمراضنا بها، عشر مكفرات:
أولاً: المصائب المكفرة، كلما أصابتك مصبية؛ فاحتسبها في جنب الله، من جوع ومن ظمأ، من هم، أو غم أو موت ولد أو مصيبة، يكفر الله بها من خطاياك.
المسألة الثانية: الحسنات والصالحات؛ فإنها ترفع الدرجات عند الواحد الأحد.
الأمر الثالث: دعوات المسلمين لك، فكن حسن الخلق قريباً من المسلمين؛ فإنهم سوف يحبونك ثم يدعون لك بظهر الغيب.
الأمر الرابع: دعوة المسلمين لك إذا كنت جنازة، إذا أحضرت أمام الصفوف، وقام عليك التكبير، وفارقت الأخت والأم، والزوجة والولد والأحفاد والأجداد، والدور والقصور، وتخلى عنك القريب والبعيد، فإذا دعوا لك في الجنازة بصدق؛ شفعهم الله فيك.
الأمر الخامس: سكرات الموت، وما نلقاه فيها من شدة وكرب، ومن عرق.
السادسة: ما تجده في القبر؛ فإن للقبر ضائقة وضمة لو نجا منها أحد لنجا منها سعد بن معاذ الذي اهتز له عرش الله من فوق سبع سماوات، ما سلم من ضمة القبر كما في بعض الآثار إلا سعد بن معاذ الذي شيعه ألف ملك، فالقبر يخفف عنك من السيئات، وبعضهم ينجو بعمله الصالح من عذاب القبر.
السابعة: هول الطلوع والخروج من القبر، يوم يبعث ما في القبور، ويحصل ما في الصدور، فإذا خفت كان لك كفارة.
الثامنة: شفاعة سيد الخلق عليه الصلاة والسلام؛ نسأل الله ألا يحرمنا وإياكم شفاعته، وأن يدخلنا في ظل شفاعته، وأن يجعلنا ممن يشرب من حوضه شربة لا نظمأ بعدها أبداً، فإذا انتهت هذه التسع ولم يجد إحدى هذه التسع في نفسه؛ جاءت العاشرة، وهي رحمة أرحم الراحمين، فإذا لم تدركه رحمة أرحم الراحمين كب على وجهه في النار، فنعوذ بالله من النار.(337/36)
الأسئلة(337/37)
الصدقة على السؤال
السؤال
هل يؤجر المتصدق على أي سائل؛ خصوصاً أن بعضاً من السؤَّال يحتالون على الناس؟
الجواب
قد أمر الله ألا ينهر السائل، بل يستمع منه، فإن كان عندك قرائن ودلائل، وعندك شواهد على أنه ليس بصادق، فانظر فإن تصدقت فأعطيت؛ فلن تضيع عند الله عز وجل، وإن أمسكت فلا عليك حرج، أما إذا ظهر لك بمظهر، وليس لديك دلائل أنه فقير، أو صادق أو كاذب، فأعطه، ففي بعض الآثار ولو أن فيها ضعفاً: {أعط السائل ولو جاء على فرس} فإنها لا تضيع عند الله عز وجل، فهذا السائل ما قام وسكب ماء وجهه أمام الناس إلا وهو يحتاج إلى معونة المسلمين، فعليهم مساعدته، فمن يتصدق فهو مأجور ومشكور، ولاينتهر السائل في المساجد، بل يترك إلا إنسان ظهر كذبه، وتكرر هذا الكذب، فتنبه عليه السلطة، ويؤخذ ويزجر، وينصح.(337/38)
كفارة الصلاة بلا خشوع
السؤال
ما هي كفارة الصلاة من غير خشوع؟
الجواب
ليس هناك كفارة إلا محاولة العودة إلى الخشوع؛ يقول عليه الصلاة والسلام: {إن من الناس من ينفتل من صلاته وماكتب له إلا عشرها، إلا تسعها، إلا ثمنها} وبعضهم تكتب صلاته كلها، بحسب مراقبة الله في الصلاة والخشوع، فالإنسان إذا سها وخرج قلبه، أو فات فعليه أن يعود وليس عليه كفارة، لكن قال أهل العلم: من سها في صلاته، وما درى هل قرأ الفاتحة أو لا، فعليه أن يعيد هذه الركعة، أما من شرد ذهنه قليلاً، فهذا ليس عليه كفارة، وعليه أن يستغفر ربه، وأن يحاول الخشوع في الصلاة، ولا يسلم من هذا الذهول، والهواجس والخطرات، أحد من الناس.(337/39)
حكم اللعن
السؤال
ما حكم اللعن والدعاء على الآخرين، وما حكم التهاري؟
الجواب
هذا السؤال فيه ثلاث مسائل، التهرية واللعن والدعاء، أما الدعاء فيقول صلى الله عليه وسلم: {لا تدعوا على أموالكم ولا على أنفسكم، لا تصادفوا ساعة من الله يستجاب فيها فيجيب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى} فعلى المسلم أن يتقي الله في أهله، وفي ماله وولده، فإن بعض الناس يدعو على أطفاله من غير تعمد؛ فتصادف من الله وقتاً إجابة فتعمد إلى هذا الطفل أو هذا المال أو هذه الزوجة، فتكون خسارته في الدنيا والآخرة، ولا يستخدم هذه الألفاظ، إلا من قل إيمانه ومراقبته لله عز وجل، ولا بأس أن يتكلم المرء بعض الكلام الذي يؤدب، أما الدعاء فأجرح ما يكون.
أما التهاري ودعوة الجن فهي على قسمين: من قصد أن الجن يضرون وينفعون من دون الله وأن لهم تأثير، أو أنهم يخلقون ويميتون، وينفعون أو يضرون، ويرزقون أو يفقرون فهذا مشرك، عليه أن يتوب إلى الله عز وجل، وأما أن يكون قالها كلمة ولا يعتقد ما فيها، إنما دعا الجن، فهذا مذنب وعليه إثم من الله؛ لكنه ما أشرك وهو على نيته.
وأما اللعن: فإن اللعن معناه الطرد والإبعاد من رحمة الله، وإذا لعن المال قلت بركته، وقل حاله، مرت امرأة مع الرسول صلى الله عليه وسلم معها ناقة فقالت للناقة: لعنها الله، قال عليه الصلاة والسلام: {خذي ما عليها واتركيها فإنها ملعونة، لا تصحبونا بملعون} فمن لعن شيئاً من ماله قلت بركته، ولا يستفيد من هذا المال، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ليس المؤمن بالطعان ولا باللعان ولا الفاحش البذيء} فأوصي نفسي وإياكم بترك اللعن ونظافة اللسان، فإن الله طيب يحب الطيب سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(337/40)
ولائم العزاء وحكمها
السؤال
ما حكم التجمعات والولائم في عادات العزاء؟
الجواب
تجمعات وولائم العزاء كما علمتم من المنشورات التي نشرتها هيئة كبار العلماء كالشيخ عبد العزيز بن باز، وغيره من العلماء أنها أمر مبتدع، الذي يقع بين القبائل وفي القرى من ذهاب جماعة إلى جماعة، واستقبال أولئك لهم، ثم السلام عليهم وتعزيتهم في الميت ما فعلها الرسول عليه الصلاة والسلام ولا أصحابه، وقد قال: {من أحدث في أمرنا ما ليس منه فهو رد} يقول جرير بن عبد الله: [[كنا نعد الاجتماع على المآتم من النياحة]] فلذلك نهى علماؤنا عن ذلك بهذه الأدلة، فأنا أقول بعد هذه النصوص: إن هذا أمر لا يجوز، وأن على المسلمين أن يتبعوا سنة الرسول عليه الصلاة والسلام ويتركوا البدعة، فلا فلاح لهم إلا باتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، أما أن نقول: هذه عادتنا، وهذه تقاليدنا، ونشأنا عليها نحن وآباؤنا وأجدادنا فلا يصح لأنه معارضة للشريعة، وشريعة الله تنزل على الناس ليحكموا بها، لا ليتحكموا فيها، فإذا عرف ذلك فالأولى للإنسان أن يترك تلك التجمعات ونصب الخيام، أو استقبال وافد من كل قبيلة في مجلس استقبال، فهذا ليس بوارد ولا عليه دليل، وقد نبه علماؤنا عليه، لكن يكتب رسالة أو يتصل أو يذهب بنفسه وحده إذا كان قريباً أو بينه وبينه صلة، أما التجمع هذا فإنه منكر، من أين لنا دليل على هذا التجمع؟ ونحن لا نحكم إلا بالشريعة.
وهذه التجمعات من النياحة؛ لأنها من شعارات الجاهلية، وشعارات أهل الأوثان من قريش قبل الإسلام.(337/41)
التعزية الشرعية
السؤال
ما هي السنة في العزاء؟
الجواب
سنة الرسول صلى الله عليه وسلم في الميت أنه إذا مات أن يأتي الناس فيحضرون مراسيم غسله، والصلاة عليه ودفنه، ولا بأس أن يجلسوا في المجلس، لا بأس أن يجلسوا في القرية، ويقرءوا ما يسر الله من القرآن والذكر الطيب والحديث، لكن أن يستقبلوا الناس وتذهب جماعات وتأتي جماعات ووفود، هذا ليس من السنة.
والناس إذا حكموا السنة، فإن الله سوف يهديهم سواء السبيل، وينهى عن مجالس العزاء؛ لأنها تُوهم أن هناك نقصاً في شريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، والأمر الثاني: لم يرد فيها دليل من الكتاب ولا من السنة {ومن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} لم يفعلها صلى الله عليه وسلم ولا الصحابة الأخيار، فنحن لا نفعل إلا ما فعلوا، ونترك ما تركوا.
وفي الختام أسأل الله لي ولكم التوفيق والهداية والنجاة من النار، اللهم بعلمك الغيب وبقدرتك علىالخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الغنى والفقر، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.(337/42)
استثمار الأدب في خدمة الدعوة
الأدب في الإسلام له دوره ومجاله في نشر الإسلام والدعوة إليه، وقد شجع الرسول الصحابة على الشعر المحمود في موطنه.
فأمتنا هي أمة الأدب والعلم والفكر والجمال.(338/1)
الأمة الإسلامية أمة العلم والأدب
الحمد لله الذي كان بعباده خبيراً بصيراً، وتبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكوراً، والصلاة والسلام على من بعثه ربه هادياً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، كانت أعيننا عمياً ففتحها بإذن الله، وكانت رءوسنا مخفوضة فرفعها بعون الله:
إن البرية يوم مبعث أحمد نظر الإله لها فبدل حالها
بل كرم الإنسان حين اختار من خير البرية نجمها وهلالها
لبس المرقع وهو قائد أمة جبتِ الكنوزَ فكسَّرت أغلالها
صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فإنها سعادة لي أن ألتقي بهذه الوجوه الباسمة الغانمة في هذا النادي، الذي أتى القائمون عليه ليثبتوا للناس أننا أمة العلم، يوم كانت الجاهلية تُخيِّم على الأذهان، وأننا أمة الفكر يوم سيطرت الهلوسة والهوج على عقول الناس.
وأننا أمة العلم والجمال والفن العفيف المسير بطاعة الله على نور من لا إله إلا الله، يوم عرف الناس أن الفن والجمال بالمعصية والصد عن سبيل الله، فنحن أمة علم، وأمة أدب نثراً وشعراً، ندل به على الله، ونسير به إلى الله، نحتسب بالبيت الشعري ما نحتسبه بالكلمة، ونحتسب في البيت الشعري ما نحتسبه بالتسبيحة التي يسبحها العابد في المسجد؛ لأن الله أرسل رسل هداية، كما يقول ربعي بن عامر يوم أن دخل على رستم فهز إيوانه، فقال له رستم: ماذا جاء بكم؟ قال ربعي: [[جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام]].
فالرسول صلى الله عليه وسلم يوم أتى لنا -نحن أمة العرب- قبل الأمم الأخرى: ماذا كان مجدنا؟ وماذا كان تاريخنا؟ وما هي ثقافتنا؟ وما هي معرفتنا؟ لا شيء قال الله: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فأخرج أعراباً كان أحدهم يطارد الضبع، ولا يدري ما تاريخه، ولا ما مصيره! ولا لماذا خلقه الله! فوضأهم بماء التوبة، وأسمعهم أذان بلال، وأسجدهم لله على الصحراء، ونفض كل ذرة من ذرات الشرك من قلوبهم؛ فانطلقوا يهللون ويكبرون، أخذوا سيف الله تحت لا إله إلا الله، وساروا على أمواج بحر الله يُعلون لا إلا الله في المعمورة، فمات بعض الصحابة في طاشقند، ومات بعضهم في نهاوند، على أبواب القسطنطينية، وماتوا على مشارف أسبانيا، وفي رُبَى نهر الجانج، حتى قيل لـ عمر حين قال: مَن الذي قُتل في نهاوند؟ قال الأحنف: قتل فلان وفلان وفلان، وأناس لا نعرفهم، فدمعت عينا عمر وقال: [[لكن الله يعرفهم]] الله يعرف الذين قتلوا من أجله وبسببه لينشروا راية لا إله إلا الله، يعرفهم يوم يجمع الأولين والآخرين.(338/2)
شهيد القسطنطينية
ولذلك يقول الشيخ الكبير أبو أيوب الأنصاري الذي استضاف النبي صلى الله عليه وسلم يوم أن نزل إلى المدينة، فكان له شرف مقدمه عليه الصلاة والسلام؛ يوم أتى إلى أهل المدينة، كما يأتي النسيم العليل إلى صدر المريض، أو كما يأتي الماء البارد إلى كبد الظمآن الشديد الظمأ أو كما تأتي العافية إلى المحموم، دخل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة.
فاستفاقت على صباح جديد ملء آذانَها أذانُ بلال
فتسابق الصحابة ليأخذوا رحله عليه الصلاة والسلام، وليكون لهم شرف استضافته صلى الله عليه وسلم، ليتشرفوا برؤيته عليه الصلاة والسلام، ولكن كان ذلك السبق لـ أبي أيوب.
أتى فأخذ بزمام ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {دعوها فإنها مأمورة} لأنها مسيَّرة في خدمة دعوة لا إله إلا الله، فلما نزل صلى الله عليه وسلم، سبق أبو أيوب إلى رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم للناس وهو يبتسم: {المرء مع رحله} ثم قام باستضافته، وانتهت حياة أبي أيوب، لكن إيمانه لم ينتهِ، وحين كَبُر وشاخ، وأصبح يدبُّ على عصا كان إيمانه وقلبه شابين لم يهرما ولم يشيبا، فكثير من الناس شابٌّ، ولكنه كهل في تفكيره وإيمانه، وكثير من الناس قوي في جسمه، ولكنه هزيل ضعيف في يقينه وإيمانه: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون:4].
فقال أبو أيوب للصحابة - وهو في دمشق -: [[خذوني فوالله لأقاتلنَّ معكم الروم - وقد نيف على مائة عام - قالوا: كيف نأخذك وقد عفا الله عنك وعذرك عن الجهاد، قال: لا.
إني سمعت الله يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] وأنا ثقيل فوالله لأنفرنَّ]] فلما وصل إلى أبواب القسطنطينية، قال: [[اللهم لا ترجعني من هنا وادفني في هذا المكان، حتى تبعثني يوم القيامة، بين قوم كفار، أقول بينهم: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك]] ولبَّى الله له ما سأل؛ لأنه كان صادقاً، فلما انتهت المعركة، مات ودفن عند أبواب القسطنطينية، وهو مدفون هناك، وأرضه ومنزله في طيبة الطَّيِّبة؛ لكنه دفن في القسطنطينية ليشهد الإنسانية أننا حملة رسالة.(338/3)
محمد إقبال يصف حال المسلمين
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسـ ـمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
فهذا شاعر الباكستان - محمد إقبال - أعجمي في لغته، لكنه متيقظ متنور، عربي في قلبه وفي فطرته، أتى يحج في مكة قبل خمسين سنة، وظن أنه سوف يلقى أبناء الصحابة، وأحفاد التابعين، حملة الرسالة الذين رفعوا لا إله إلا الله، ودوخوا كسرى وقيصر، وبنوا المساجد في المعمورة، حتى أصبحت مآذنها سبابات، كما يقول الأستاذ علي الطنطاوي في قصص من التاريخ، يقول: دخلت أسبانيا، فرأيت المآذن كأنها سبابات فبكيت والله؛ لأن المساجد حولت إلى خمارات.
حين تحولنا نحن من لا إله إلا الله إلى غيرها، حولت مساجدنا التي بناها أجدادنا إلى خمارات، وإلى أرض للدعارات، وإلى حانات للفسق والخيانة والعهر، مات أصحاب الرسالة، ومات حملة لا إله إلا الله، فحج محمد إقبال شاعر الباكستان، فأخذ يتلمح في وجوه الناس، فإذا أناس لا يعيشون لله - إلا من رحم الله - الوجوه كأنها أتت من باريس، أين السنة التي تظهر على الوجوه؟ القلوب كأنها مستوردة، فهمُّ أحدهم قصر وسيارة، ووظيفة ومنصب، فأين حملة الرسالة؟ فبكى، وسجل قصيدته شكوى وجواب، يقول وهو يبتهل إلى الله ويطوف:
من ذا الذي رفع السيوف ليرفع اسـ ـمك فوق هامات النجوم منارا
كنا جبالاً في الجبال وربما سرنا على موج البحار بحارا
أما سار خالد بن الوليد على موج النهر؟!
أما ركب سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وقال للخيل -وكانت ثلاثين ألفاً-: [[يا خيل الله اركبي]] فسمعت الصوت فاقتحمت النهر، فجمد الله لهم النهر فساروا عليه، كما جمد الله البحر لموسى عليه السلام؟!
أما وصل عقبة بن نافع إلى أطراف المحيط وقال: [[والله لو كنت أعلم أن وراءك أرضاً لخضت بفرسي هذا المحيط، حتى أبلغ دعوة الله في تلك الأرض؟!]]
.
أما وقف عقبة بن نافع وهو في أرض أفريقيا، يتكلم في الغابات ويقول: [[يا أيتها الغابات! أخرجي وحوشك، وثعابينك، وذئابك، وسباعك، فإن معي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم]]؟! فوالله لقد خرجت الأسود من الغابة، وخرجت الثعابين، وزحفت الحيات، ثم سار بجيشه.
ولذلك يقول محمد إقبال:
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
دخلنا قبرص لا بجيش ولا بكتائب، أذن مؤذن المسلمين، فانقشعت كل قلاع قبرص، وأعلنوا الإستسلام ورفعوا أيديهم؛ لأنهم سمعوا الأذان.
بمعابد الإفرنج كان أذاننا قبل الكتائب يفتح الأمصارا
لم تنس أفريقيا ولا صحراؤها سجداتنا والأرض تقذف نارا
كم سجدنا في أفريقيا! وكم سجد أجدادنا في سيبيريا وفي آسيا! ولكن حين تغير الحال وأتى أناس لا يسجدون لله، ولا يعرفون الله؛ فسلط الله عليهم أعداءهم، فساموهم سوء العذاب، واستذلوهم، وأهانوهم ومقتوهم أمام العال؛ لأن من لم يعرف الله يسلط الله عليه إنساناً لا يعرف الله سبحانه وتعالى، والذي لا يخاف الله يسلط الله عليه مجرماً لا يخاف الله عز وجل، فالله عز وجل يبتلي من لا يعرفه ولا يتقرب إليه بمن لا يعرفه ولا يتقرب إليه.(338/4)
مكانة الأدب في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
وهذا النادي نادي أدب، والأدب عندنا نحن المسلمين، ليس أدب غناء، وليس بأن يأتي المسلم القوي العاقل فيتماجن كما تتماجن المغنية، ويذهب بعقله كما تذهب الممثلة السافرة!
نحن أمة رجولة ودعوة، وأمة رسالة، نجيد الشعر، لكن في مواضعه، فرسولنا ومعلمنا صلى الله عليه وسلم أجاز الشعر، واستمعه؛ ومع أنه لم يقله عليه الصلاة والسلام، لكنه هش وبش وحيَّا شعراءه في مسجده، ألم بقرِّب المنبر لـ حسان وقال: {اهجهم وروح القدس يؤيدك}؟
أما جمع الشعراء في مسجده صلى الله عليه وسلم، وقال: {اهجوهم وانتصروا؛ فإن الله عز وجل يحب من المؤمن أن ينصره بكنانِه، وينصره بلسانِه} فجهاد الكلمة، وجهاد اليد، وجهاد القلب، وجهاد المال مطلوب.
ويقول إقبال كذلك في المقطوعة نفسها - ولا أظن أنه نُظَم مثلها -:
أرواحنا يا رب فوق أكفنا نرجو ثوابك مغنماً وجوارا
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهـ ـدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاً وصاغ الحلي والدينارا
أتى محمود بن سبكتكين أحد سلاطين الإسلام، الذي كان يملك المشرق، وسجادته ومصحفه بشماله -كما يقول الذهبي - ومسواكه دائماً بيمينه، والذي يراه يقول: عابد من العُباد، ثوبه بسبعة دراهم، وعنده من الجيوش التي يقول فيها أحد الشعراء:
ففي جيشه خمسون ألفاً كـ عنتر وأمضى وفي خُزَّانه ألف حاتم
مضى بالجيش، فلما عبر نهر السند، أتى إلى بعض ملوك الهند، وإذا صنم هناك، فقال له الملك: " خذ هذا الصنم -رشوة - واتركنا في بلادنا، قال: هذا الصنم من ذهب، والله لا آخذه مالاً ولا أحوزه كنزاً؛ لأنه عُبد من دون الله " فأتى بالملك فقتله، ثم جعله فوق الصنم، ثم أشعل النار في الصنم وفي الملك، ولذلك يقول محمد إقبال:
كنا نرى الأصنام من ذهب فنهدمها ونهدم فوقها الكفارا
لو كان غير المسلمين لحازها كنزاًَ وصاغ الحلي والدينارا(338/5)
أدبنا وأدب الأعداء
فنحن إنما نجتمع في مثل هذه الجلسة، لنتطلع على أخبارنا وعلى سيرنا وعلى قصصنا، لأن أعداءنا يقولون: إنه ليس عندنا أدب، والأدب كل الأدب في مجدنا وتاريخنا، فهم ماذا قدموا للبشرية من أدبهم، ومن سخفهم، ومن قبحهم، ومن حقارتهم؟ قدموا المرأة الخليعة، قدموا كأس الخمر، قدموا المجلة الممسوخة من مراقبة الله، قدموا الأغنية الماجنة، قدموا الملهى والمرقص، قدموا الضلال، قدموا الصد عن الله عز وجل وهدم دين الله في أرضه، ونحن قدمنا لا إله إلا الله، ورفعنا لا إله إلا الله، وعلمنا الناس أن يقولوا: لا إله إلا الله، بنينا مساجد يُسبح فيها بحمد الله صباح مساء، وتخرج من مسجده صلى الله عليه وسلم ألف شهيد وشهيد، وألف عالِم وعالِم، وألف عابد وعابد، وألف مفكر ومفكر، كان ينطلق الصحابي الواحد، وليس عنده من الخبز إلا ما يسد جوعته، وجبة واحدة، كسرة من الخبز وسيف في غماد، ثم ينطلق مهللاً ومكبراً، يريد أن يرفع راية لا إله إلا الله محمد رسول الله.
فيا إخوتي في الله! تعالوا لنرى كيف عاش صلى الله عليه وسلم بالأدب، وكيف كان يعيش مع النوادي الأدبية، التي يجب أن تتحول -وهي الآن في طريقها- إلى أن تؤدي للأمة رسالتها الحقيقية، وتؤدي كلمة الحق، وتنفع شباب الإسلام، وتردهم إلى الله عز وجل، مسجده صلى الله عليه وسلم في المدينة بُني من طين، ليس من (بُلُك) ولا من حديد، ولا فيه زخرفة، وليس فيه كهرباء، وليس فيه (زل شيرازي) وليس فيه (كنبات) ولا زينات ولا زخارف، بل لُبينات من طين، لكنه منارة من منارات الأرض تتلقى نور السماء، كان إمامه محمد صلى الله عليه وسلم تلتقي به القلوب كل يوم خمس مرات، وفكر في ذهنك أنت: أن الرسول صلى الله عليه وسلم سوف يصلي بك العشاء الليلة، وسوف تسمعه يقرأ، ثم يسلم، ثم تصافحه وتسلم عليه , وتجلس معه، أي شعور وأي كرامة! وأي نعمة فوق هذه النعمة! عاش الصحابة هذا الشعور، فكان صلى الله عليه وسلم، يصلي بهم وهو رسول الله، وأكرم مَن خَلَقَ الله، وأرفع من أوجد الله عز وجل، فيلتفت إليهم، ووجهُهُ كالقمر ليلة البدر:
لو لم تكن فيه آيات مبينة لكان منظره ينبيك بالخبر
فيتحدث معهم، فإذا هو مفتي الأمة، وليس في فن خاص؛ في الفرائض دون الفقه، أو في الفقه دون الفرائض، أو في التفسير بلا حديث، لكنَّ الله أفاض عليه من نعمته، فهو بحر لا ساحل له، يأتي إليه ملوك العرب فيعلمهم ويعطيهم، وتأتي المرأة بطفلها تستفتيه، فيأخذ طفلها -شفقة ورحمة ورقة- فيُقَبِّل طفلها ويضمه بين يديه، حتى يقول الله له: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] أي: عظيم هذا الخلق الذي تتعامل مع الناس به، عظيم هذا التحمل الذي تسري في الأمة به، ويقول له: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ} [آل عمران:159] أي: أنت لَيِّن، وأنت سهل، وأنت حبيب للقلوب، تحبك الأرواح، ولذلك يقول أحد المفكرين: " نحن العرب قبل أن يبعث الله فينا محمداً صلى الله عليه وسلم، لا يجمعنا أحد، لا سيف عنترة، ولا صحفة حاتم ولا جود هرم بن سنان أبداً؛ لأننا -كما يقولون- كقرون الثوم، كلما كَسَرتَ قرناً، وجدتَ داخله قروناً، فلمَّا أتى عليه الصلاة والسلام، تسامح كل التسامح، نسي الحقد والغضب، كظم غيظه، بش للناس، كان قريباً إلى الأرواح والقلوب، فكيف لا يحبونه؟! وكيف لا يتمنون الجلوس معه؟!
يقوم في الصلاة -وانظروا إلى هذا المشهد- فيريد أن يطمئن ويقر عينه بالصلاة مع الله؛ لأنها قرة عينه، يريد أن يطيل الصلاة وأن يتدبر الآيات في الصلاة، وهو يصلي بالناس، فيسمع بكاء الطفل، فيعلم أن أمه تجد مشقةً وهي تصلي، فيتجوز في الصلاة ويسلِّم، ثم يلتفت إلى الناس فيقول: {أيها الناس! إني أريد أن أطيل الصلاة، فأسمع بكاء الصبي، فأتجوز في صلاتي كراهية أن أشق على أمه} صلى الله عليك وسلم يا صاحب الخلق العظيم! {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ويأتي في صلاة العصر بطفلة -وهي بنت ابنته صلى الله عليه وسلم-: {فيحملها على كتفه، ويصلي إماماً بالناس، فإذا سجد وضعها في الأرض، وإذا قام رفعها} من يفعل ذلك؟! إنه صلى الله عليه وسلم، يريد أن يكون قدوة للناس أجمعين.(338/6)
الأدب في مسجد الرسول
جانب الأدب في مسجده صلى الله عليه وسلم، كان دوره أن يستمع إلى ما جمل وطاب من الكلمات، والخطب والمواعظ، فهو أفصح من نطق بالضاد، وأفصح من استخدم العبارة وأجاد الكلام صلى الله عليه وسلم، يرتقي المنبر يوم الجمعة، لا يُحضِّر الكلمة، ولا يكتب الخطبة؛ لأنه أمي لا يقرأ ولا يكتب، يقول الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الجمعة:2] فهو لم يدرس، ولم يكتب ولم يتعلم، بعث بعد أربعين سنة، فإذا هو أفصح خطيب، وإذا هو أكبر مفتي، وإذا هو أعظم قائد، وإذا هو أجل مُرَبٍّ في المعمورة صلى الله عليه وسلم، يندفع يوم الجمعة يتكلم فلا يتلعثم بحرف، فما تسمع في المسجد إلا البكاء، يقول أحمد شوقي:
وإذا خطبتَ فللمنابر هزة تعرو الندي وللقلوب بكاء
يقول أنس: والله إني كنت ألتفتُ يوم الجمعة، فإذا الناس لهم خنين في المسجد، وكل وضع رأسه على ركبتيه من البكاء؛ لأنه كان يوصل القلوب بالله عز وجل.(338/7)
الأعشى يمدح الرسول
ومِن الطُّرف أن الأعشى -ونحن في مقام الأدب، وسوف نأخذ من هذه القصة عبراً- وكان الأعشى شاعر بكر بن وائل، يقول عن قبيلته وهو يمدحها:
لما التقينا كشفنا عن جماجمنا ليعلموا أننا بَكر فينصرفوا
قال البقية والهندي يحصدهم ولا بقيةَ إلا السيف فانكشَفوا
أتى يريد أن يسلم، ويريد أن يهديه الله عز وجل، ولكن كأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى علم عدم محبة الهداية من قلبه، والله سبحانه إذا علم منك حب الخير والهداية، والمسير إليه هداك وتولاك ورعاك: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال:23 - 24] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69] وقال سبحانه: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف:5] هم الذين زاغوا، فأزاغ قلوبهم بعد أن زاغوا.
فأتى هذا الرجل من اليمامة وأراد المال والدنيا، ولم يرد الهداية، فركب ناقته وكان أعْشَى لا يبصر إلا قليلاً، فلما ركب ناقته نظم قصيدة عصماء من أجلِّ القصائد عند العرب، يمدح بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يعطيه من مال الدنيا وذهَبِها وفضَّتِها، وجهل هذا الشاعر أن نعمة الله ورحمته أجلُّ: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] فالسعادة عند المسلم ليست ذهباً وفضة، أو سيارة أو قصراً، أو منصباً أو وظيفة، فهذه والله أتفه من الحذاء الذي في أرجلنا! وكل هذه الأمور لا تساوي جلوسك في المسجد ساعة تسبح وتقرأ القرآن، أو تدعو الله عز وجل! والله لو طلعت الشمس على كنوز الدنيا وذهبها وفضتها، ثم قلت -كما صح في صحيح مسلم.
سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر -وهن أربع كلمات- لما كانت الدنيا كلها تعدل هذه الكلمات الأربع، يقول صلى الله عليه وسلم: {لأن أقول: (سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر) أحب إلي مما طلعت عليه الشمس} فهذه الدنيا زهيدة رخيصة، وسخيفة لا يعشقها إلا السخفاء، إنما نحن نتمول منها، نأكل ونشرب، ونسكن ونتعاطها؛ لأننا نمتهنها، أما إذا دخلت قلوبنا فنعوذ بالله منها.
فأتى الأعشى يريد الدنيا، يقول عَزَّ مِن قائلٍ: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] من أراد الدنيا يؤتيه الله من الدنيا، ومن أراد منصبها يعطيه من مناصبها، ومن أراد ذهبها وفضتها فليأخذ من ذهبها وفضتها، ولكن من أراد التقوى أعطاه الله من التقوى، ومن أراد العلم والفقه في الدين أعطاه الله من العلم والفقه في الدين: {كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً} [الإسراء:20] فركب الأعشى ناقته، وأخذ يترنَّم على الناقة، يجهِّز قصيدة؛ ليعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم، ويقول:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم مسهدا
شباب وشيب وافتقار وثروة فللَّه هذا الدهر كيف ترددا
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تزور محمدا
متى ما تناخي عن باب ابن هاشم تراحي وتلقي من فواضله يدا
ثم أتى ببيتين من أحسن الأبيات، ويا ليته نفع نفسه بها واتعظ بها وأفادته في الحياة! لكن لم تنفعه، يقول:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألاَّ تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
فهذه موعظة؛ لكن ما اتعظ بها صاحبها، وكم من واعظ لا يتعظ، وكم من ناصح لا ينتصح، وكم من إنسان يرى الحق ولكن لا يتبعه! يقول الله عز وجل للإنسان: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] أي: فلماذا لا يهتدي؟! ولماذا لا يسلك الطريق الصواب؟!
فذهب هذا الرجل فلقيه أبو سفيان - وكان أبو سفيان عدواً للرسول في تلك الفترة - فقال: إلى أين يا أعشى؟ قال: أذهب إلى محمد الذي يزعم أنه نبي صلى الله عليه وسلم قال: ماذا تريد؟ قال: أريد أن أمدحه بقصيدة؛ كما أمدح ملوك العرب، فيعطيني مائة ناقة، هذا مراده، وهذا مقصده، ولو كان يريد الهداية لسهل الله له الهداية، ولو كان يريد الاستقامة لأعطاه الله الاستقامة، لكن أراد الدنيا، فقال له أبو سفيان: أنا أعطيك مائة ناقة وعد من هنا؛ لأن أبا سفيان خاف أن يسلم هذا الشاعر -وقد كان وزارة إعلام متنقلة- فيفضح الجاهلية، ويندد بها في شعره، فرده بمائة ناقة فعاد، ولما قرب من الرياض، في ديراب - المكان المعروف الذي ذكره المؤرخون -وقصته ناقته، فإذا هو ميت، فلا دين ولا دنيا، لا ناقات سلمت له ولا حياة سعد بها، ولا (لا إله إلا الله) تمكنت في قلبه، ولا توجَّه إلى الله، فهذا هو التباب والخسار، وبقي هذان البيتان شاهدين عليه، يشهد كل بيت عليه، لأنه لم يتعظ.
فالرسول عليه الصلاة والسلام كان يستمع للشعر وكان يقبله.(338/8)
ابتسام الرسول صلى الله عليه وسلم عند إلقاء بعض القصائد عنده
يقول الأسود بن شريح: {وفدت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول الله! إني مدحت الله بقصيدة}.
و
السؤال
هل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يحب المدح؟ نعم: {لا أحد أحب إليه المدح من الله} لأن الله يستحق المدح، وهو أهل للثناء والمدح، وكل مخلوق تمدحه، فربما قد تبالغ في مدحه أو تزيد، إلا الله تبارك وتعالى، وهو يحب المدح، أمَا مدحَ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نفسَه في القرآن؟ أمَا قال: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص:1 - 4]؟ أمَا قال: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان:1]؟ أمَا قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام:1]؟ بلى.
تبسَّم صلى الله عليه وسلم لما سمع أن هذا الشاعر له قصيدة يمدح الله عز وجل، فقال: {إن ربك يحب المدح} ثم أنشده ما تيسر.(338/9)
توجيه طاقات الأمة إلى الله
ولذلك كان عليه الصلاة والسلام، يريد أن يوجه طاقات الأمة إلى الله، فنحن في الإسلام لا نطرد الشاعر لأنه شاعر، ولا نقول له: لا مجال لك عندنا في الإسلام، بل نرحب به ونقول: ديننا يحيي هذا الفن، ولك مكان بيننا، فانصر الله بكلمة الشعر، بدلاً من أن تصف به حسناء، أو تتغزل بامرأة معصومة موقرة عفيفة، أو تتطلع بالشعر على عورات المحصنات الغافلات المؤمنات، فتوجه بالشعر إلى الله واخدم هذه الرسالة الطاهرة، وارفع من قيمة الدين، وتحدَّث عن كل شيء في الحياة، لكن بشرط أن تتقي الله.
يقول ابن كثير في البداية والنهاية: " لما توفي أبو نواس، وكان أبو نواس من شعراء الدولة العباسية - وكان من الفساق في شعره وفي حياته، وعلمه عند الله -فلما توفي رئي في المنام، قيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي وأدخلني الجنة، قالوا: بماذا؟ قال: نظمت قصيدة وصفت فيها الوردة، ثم رددتها إلى قدرة الله عز وجل ".
فانظر كيف دخل الجنة من هذا الباب، فقد أتى إلى وردة باسقة في بستان، فوصفها، فأدخله الله الجنة، وقد أورد هذه الأبيات ابن كثير في تفسير سورة البقرة، ومنها:
تأمل في نبات الأرض وانظر إلى آثار ما صنع المليكُ
عيون من لجين شاخصات بأحداق هي الذهب السبيكُ
على قضب الزبرجد شاهداتٌ بأن الله ليس له شريكُ
فأدخله الله بهذه المقطوعة الجنة.
ثم يقول ابن كثير في ترجمة جرير الشاعر قال: " رئي في المنام، قالوا: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، قالوا: بماذا؟ قال: أذَّنتُ وحدي في البادية حيث لا يراني إلا الله؛ فغفر الله لي بذلك الأذان ".
هل أعظم من المسلم حين يكون في سفر ويصبح وحده في الصحراء لا يراه إلا الله، ولا يطلع عليه إلا الله، فينزل من سيارته، أو من مركوبه، ويقف ويتوضأ ثم يؤذن في الصحراء، يرفع كلمة التوحيد في الصحراء، حيث لا يسمعه إلا الشجر أو الحجر أو المدر، لأن هذه تشهد له يوم القيامة، ولذلك كان صلى الله عليه وسلم يريد أن يدخل الإنسان إلى هذا الدين وإلى أبواب الجنة، إن كنت متكلماً خطيباً فاتقِ الله في خطابتك، واخدم بها هذا الدين، وإن كنت شاعراً مطبقاً مصقعاً فادخل أبواب الجنة بشعرك، وارفع به راية الإسلام، وإن كنت راسماً فناناً فاتقِ الله في رسمك واخدم به دينك، ارسم ما يقرب قدره إلى الأذهان، ممَّا لا روح فيه، ولا تضاه خلق الله، ولكن قرب الطبيعة إلى الناس، علمهم قدرة الله، بين لهم كيف خلق الله الزهرة، وكيف أبدع لونها، وكيف أرسل شذاها، وكيف جمل مرآها، وكيف سوَّى معناها؛ لتنال المحبة من الله عز وجل والرضا.
إن من أراد دخول الجنة ما عليه إلا أن يصدق مع الله، ثم ليفتح باباً له، فإن الأبواب بعدد الأنفاس.(338/10)
قول الصحابة للأدب والشعر
ضكان عليه الصلاة والسلام يعلم الصحابة أن يقولوا الشعر والأدب -لأننا في ناد للأدب والشعر والثقافة- فكانوا يرتجزون، ليسوا كمثلنا على الكراسي الآن، نقول القصائد العصماء، ونقول القصائد التي نكسر بها رءوس اليهود لكن في الواقع ما كسرنا رأس أحد، أما هم فإن عبد الله بن رواحة يقول - وهو يحمل الراية في مؤتة، وهو يحمل سيفه وقد كسر غمد سيفه على ركبته - يقول: والله لا أعود إلى الدنيا، ثم يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
فهو يحلف على نفسه أن تنزل إلى المعركة.
فنزل مع الغروب، وأدركته الراية، لأنه هو القائد الثالث من القواد الذين عيَّنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا ثلاثة آلاف في مقابل مائتي ألف، فلما أتى الغروب قال للناس: إني صائم ولا أستطيع المقاتلة، فناولوني شيئاً آكله، فناولوه عرق لحم، فأخذ منه قطعة - لقمة - فأراد أن يستسيغها وأن يبتلعها فما استطاع - فهو يسمع مع الغروب تحطيم السيوف، ويسمع الرماح وهي تتكسر على رءوس الأبطال، ومعه أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم - قال: والله لا آكل من هذا ولا آكل إلا في الجنة - إن شاء الله - ثم رمى بالعرق من يده، ثم أقبل وهو يقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
يقول: أما تسمعين حَطَمَة السيوف؟ من يكره الجنة؟!
الذي يبقى في الحياة، ويحب أن يحيا بلا طاعة ولا عبادة، ولا اتصال بالله يكره الجنة.
وقبله أتى الشاب جعفر رضي الله عنه وأرضاه، فأتى يقول:
يا حبذا الجنة واقترابها طيبة وبارد شرابها
إي والله، أمَّا الدنيا فليست بطيبة، لأنك إذا شبعتَ في الدنيا تنغصتَ بذلك، وإذا سررت وفرحت بأبنائك نغص عليك الموت هذه الفرحة، وإذا اجتمع أهلك فرقهم هاذم اللذات، وإذا صحَّ جسمك أتاه الهرم والأمراض والتعاسة، وإذا رأيت ببصرك، وأمعنت النظر، أتاك العمى والعمش، وإذا سمعت الصوت الجميل بأذنَيك، فهي مرحلة ويصيبك بعدها الصمم أو تموت، فهي دنيا منغصة، يقول الحسن البصري: [[ابتغوا لأنفسكم داراً غير هذه الدار، فإن الموت قد فضح هذه الدار]].
حتى يقول عبد الملك بن مروان لما حضرته الوفاة -كما ذكر عنه الذهبي في المجلد الرابع من سير أعلام النبلاء - يقول: [[أنزلوني من على عرش الملك وسريره، فأنزلوه، فأخذ يمرغ وجهه في التراب ويبكي، ويقول: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه، وسمع وهو في سكرات الموت غسالاً ينشد، فقال: يا ليت أمي لم تلدني! يا ليتني كنت غسالاً! يا ليتني ما توليت أمر الأمة!]] قال سعيد بن المسيب: [[الحمد الذي جعلهم يفرون عند الموت إلينا، ولا نفر إليهم]] ولذلك يقول علي فيما حُفِظ عنه رضي الله عنه وأرضاه وهو يبكي على منبر الكوفة يوم الجمعة:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
أموالنا لذوي الميراث نجمعها ودورنا لخراب الدار نبنيها
أين الملوك التي كانت مسلطنة حتى سقاها بكأس الموت ساقيها
فاعمل لدار غداً رضوانُ خازنها والجار أحمد والرحمن بانيها
قصورها ذهب والمسك طينتها والزعفران حشيش نابت فيها
فلذلك كان من المهم عند المسلم أن يعمل لتلك الدار.
والشاهد من هذه القصة، أن العمل والاتجاه إنما يكون لدار البقاء لا لدار الفناء.
التي لا بقاء فيها، فهي دار ذاهبة مرتحلة.(338/11)
مساجلة شعرية بين يدي الرسول
وحين أتى وفد بني تميم يريدون أن يسلموا بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم اختاروا سبعة من رؤسائهم، اختاروا أحلمهم، وخطيبهم، وشاعرهم، وسيدهم، وشجاعهم، وكريمهم، ثم وفدوا، وأتوا بُحلة من الديباج اشتروها بستين ناقة، ولما وفدوا قالوا: يا رسول الله! قال: نعم، قالوا: قبل أن نسلم بين يديك لا بد أن نفاخرك، قال: بماذا تفاخروني؟ قالوا: عندنا شاعر العرب الزبرقان بن بدر، وعندنا الخطيب حاجب بن زرارة، فقال صلى الله عليه وسلم: لا بأس، فجمع صلى الله عليه وسلم الناس في المسجد، ليريهم سهولة الدين، ويريهم سماحة الدين فاجتمعوا جميعاً، فقام خطيبهم يتكلم ويمدح بني تميم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهوا قال: انتهى خطيبكم؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: أين ثابت بن قيس بن شماس؟ -خطيب الصحابة- فقال: هأنذا يا رسول الله! فقال رسول الله: قم، اللهم أيده، وثبِّت جنانه، وسدِّد لسانه، وهذه دعوات الرسول صلى الله عليه وسلم تكفي له أبداً، فقام على المنبر وافتتح خطبةً ما سمع الناس بمثلها، كأنها صواعق، حتى أنزل العرق من جبين كل أحد منهم، وأعلنوا الاستسلام بين يدي خطيب الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم قام الزبرقان بن بدر شاعر بني تميم، فقام يمدح بني تميم:
نحن الملوك فلا حي يغالبنا منا الملوك وفينا تنصب البِيَعُ
فألقى حوالي خمسين بيتاًَ في مدح بني تميم، وسكت عن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أنت يا حسان؟ قال: عندك يا رسول الله! -وحسان بن ثابت شاعر الإسلام، شاعر الدعوة - قال: أتستطيع أن ترد على هذا؟ - لأن هذا بهت الناس، جاء بقصيدة جزلة قوية، ارتجلها وأعد لها، ومحص كلماتها، والموقف عجل، لا يتحمل أن يعد حسان، بل يَرُد في الحال، فقال حسان عندي رد لهم يا رسول الله! عندي لسان لو وضعتُه على شعر لحلقه، ولو وضعتُه على حجر لفلقه، ثم أخرج لسانه وضرب أرنبة أنفه، ثم ألقى قصيدة عصماء، فكانت أعظم من قصيدتهم، وقالوا: غلب خطيبك خطيبنا، وشاعرك شاعرنا، مدَّ يدك نبايعك على لا إله إلا الله، فدخلوا في دين الله.(338/12)
تنوع تخصصات الصحابة
والرسول عليه الصلاة والسلام كانت لديه الاستعدادات الدعوية، فكان يوظف المؤهلين والمتخصصين في وظائفهم، فـ أبو بكر رجل الخلافة بعد موته صلى الله عليه وسلم، لأنه يجيد إدارة الأمة، وتصريف الأمور، وعمر رجل الحزم والمواقف الجادة، وعثمان رجل السكينة والحياء، وعلي رجل المنبر والكلمة النافذة في الأجيال، الصانعة للقلوب، وابن مسعود رجل الدعوة، والسريان في الناس وتخريج الأجيال، وابن عباس رجل القرآن، يستخرج كنوزه ودرره، وزيد بن ثابت فرضي، وخالد بن الوليد ضارب الأعناق في سبيل الله، وسعد بن أبي وقاص الذي حطم إيوان كسرى وزلزل امبراطورية الظلمة الخونة، أعداء الله في الأرض، قد علم كل أناس مشربهم، {أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد:17] فمن كان واديه علم، فليصل بالعلم إلى طاعة الله، ومن كان واديه عبادة، فليصل بعبادته إلى الله، ومن كان عنده مهنة أو تجارة، فليخدم بتجارته شريعة الله، ومن كان عنده أدب وفن وخطابة، فليخدم بأدبه دعوة الله، ومن كان جندياً فليحمل راية الله، ومن كان فلاحاً فليتق الله في زراعته وليرفع من مستواه عند الله، فالمراد منا أن نكون عبيداً لله، وما عندنا رجال دين، ورجال آخرون لا يشتغلون بالدين، الذي لا يشتغل بالدين يشتغل بالباطل، وبالسخف، وباللهو، وباللعب، يقول عز من قائل: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].(338/13)
الاجتماع من أجل مدارسة أمر الأمة
اعلم أن الرسول عليه الصلاة والسلام أوقف حياته وحياة أصحابه لخدمة هذا الدين، يقول ابن القيم: " ما كانت تمر به لحظة صلى الله عليه وسلم، إلا ويصرفها في طاعة الله " ونحن في هذا النادي نجتمع لنتدارس أمر أمتنا، كيف كنا بالأمس! وكيف أصبحنا اليوم! يا سبحان الله!
يقول الأول لما رأى مجدنا، ورأى مساجد طويلة عريضة ولا يصلي فيها إلا صف، والحارات والأحياء مكتظة بالسكان! فأين الأمة الحية؟! أين أمة الرسالة؟! أين أحفاد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد وطارق؟! أين هم؟! أماتوا؟!
أرى التفكير أدركه خمول ولم تبق العزائم في اشتعال
وأصبح وعظكم من غير نور ولا سحر يطل من المقال
وعند الناس فلسفة وفكر ولكن أين تلقين الغزالي
منائركم علت في كل ساحٍ ومسجدكم من العباد خالي
اتقوا الله، زخرفنا المنائر، جملنا المساجد، تباهينا بالعمران، لكن القلوب ميتة.
وجلجلة الأذان بكل حي ولكن أين صوت من بلال
أما الأذان والمؤذنون فإنهم على الأوقات، لأن هناك أجراً، ولكن لا مصلين، لا علم يُدرس في المساجد، لا فقه في الدين، لا تحمس لرسالة الله عز وجل، فموقفنا هذا ينبغي أن يكون أحسن وأحسن، أقرب إلى الله وأقرب وأجد، لأن الأمة التي تحمل الرسالة، لا تشتغل من الدنيا إلا بما تقوم به حياتها، ولا تأخذ من الدنيا إلا حاجتها، فليُعْلم ذلك، فإنه من العلم الذي لا بد أن يعلمه الناس، وهو معلوم عند الكثير.(338/14)
معايشة الرسول والجلوس معه
إن واجبنا -أيها الإخوة الفضلاء! - أن نستقرئ تاريخ رسولنا صلى الله عليه وسلم، وأيامه ولياليه، فإن العيش معه هو والله عيش السعادة، وإن حلاوة الإيمان لا تحصل حتى تتعرف على أحاديثه، وعلى أسرار كلامه، وتستقرئ سيرته، كيف كان يأكل ويشرب، كيف كان يصلي ويجلس ويصوم ويزكي ويعتمر، لأن الله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21].
نسينا في ودادك كل غالٍ فأنت الآن أغلى ما لدينا
نلام على محبتكم ويكفي لنا شرفاً نلام وما علينا
ولمَّا نلقكم لكنَّ شوقاً يذكرنا فكيف إذا التقينا
تسلى الناس بالدنيا وإنا لعمر الله بعدك ما سلينا
الذي يريد أن يهديه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الصراط المستقيم، فليجعل من حياته عملاً صالحاً وليجعل من رسول الله صلى الله عليه وسلم قدوة له.
قيل لـ ابن المبارك: [[كيف تذهب وتتركنا، وتجلس وحدك في البيت؟ قال: أنتم لا خير فيكم، أنتم تغتابون الناس، وأنا أجلس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع الصحابة، قالوا: كيف تجلس وبينك وبينهم مائة وعشرين سنة؟ قال: إني أقرأ في الكتب أخبارهم وأعلامهم، فكأني جالس معهم]] جلوسك من صحيح البخاري، وصحيح مسلم جنة إن كان في الدنيا جنة، وسعادة إن كانت في الدنيا سعادة، أحسن لك وأولى من أن تجلس مع المعرضين الصادين عن الله عز وجل.
وأسأل الله عز وجل -كما جمعنا في هذا المجلس الطيب العامر، والنادي القوي الموجَّه- أن يجمعنا في مستقر رحمته، يوم يتقبل الله عنا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة، وعد الصدق الذي كانوا يوعدون، اللهم بعلمك الغيب , وبقدرتك على الخلق، أحينا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا ما كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة، برحمتك يا أرحم الراحمين، سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى على محمد وعلى آله وصبحه وسلم تسليماً كثيراً.(338/15)
الأسئلة
.(338/16)
من قصائد الشيخ عائض
السؤال
فضيلة الشيخ هل يمكن أن تسمعنا قصيدة من قصائدك؟
الجواب
لا بأس بذلك، سبق في الكلمة أنني ذكرت أنه نسب إلى علي رضي الله عنه قوله:
لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها
فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها
ولي قصيدة على تلك القصيدة اسميتها: دمعة الخنساء:
دنياك تزهو ولا تدري بما فيها إياك إياك لا تأمن عواديها
تحلو الحياة لأجيال فتنعشهم ويدرك الموت أجيالاً فيفنيها
عاريّة المال قد ردت لصاحبها وأكنف البيت قد عادت لبانيها
والأينق العشر قد هضت أجنتها وثلة الورق قد ضجت بواكيها
يا رب نفسي كبت مما ألم بها فزكها يا كريم أنت هاديها
هامت إليك فلما أجهدت تعباً رنت إليك فحنت قبل حاديها
إذا تشكت كلال السير أسعدها شوق القدوم فتعدو في تدانيها
حتى إذا ما كبت خوفاً لخالقها ترقرق الدمع حزناً من مآقيها
فإن عفوت فظني فيك يا أملي وإن سطوت فقد حلت بجانيها
إن لم تجرني برشد منك في سفري فسوف أبقى ضليلاً في الفلا فيها
وهنا أبيات من قصيدة نظمتها في موسم الحج، في الدعاة:
يا مجمع الخير حيوا لي محياه نداء حق من الفصحى سمعناه
قد أطرب الأذن فانصاغت لنغمته وأطرقت برهة تصغي لفحواه
يقول للجيل والإيمان رافده عودوا إلى الله فقد ناداكم الله
يا رب عفوك لا تأخذ بزلتنا وارحم أيا رب ذنباً قد جنيناه
كم نطلب الله في ضر يحل بنا فإن تولت بلايانا نسيناه
ندعوه في البحر أن ينجي سفينتنا فإن رجعنا إلى الشاطي نسيناه
ونركب الجو في أمن وفي دعة فما سقطنا لأن الحافظ الله
فلا تغرنك الدنيا وزينتها فإنها طلل قد هد أعلاه
كن كالصحابة في زهد وفي ورع القوم هم ما لهم في الناس أشباه
عُبَّاد ليل إذا جن الظلام بهم كم عابد دمعه في الخد أجراه
وأسد غاب إذا نادى الجهاد به هبوا إلى الموت يستجدون لقياه
يا رب فابعث لنا من مثلهم نفراً يشيدوا لنا مجداً أضعناه(338/17)
أثر المدارس الأوروبية الأدبية على فكر الشباب المعاصر
السؤال
فضيلة الشيخ لقد اتجه الأدباء في هذا العصور الحديثة إلى المدارس الأدبية الأوروبية الكافرة، وأصبحوا ينهجون منهجهم، ويتبعون بعض أفكارهم، مما أثر على فكر الشباب المعاصر، فما رأيكم في هذا؟
الجواب
هذا الكلام واقع، والشيوعية الماركسية جربت نشر الإلحاد بالمادة وبالاقتصاد قبل ما يقارب أربعين سنة، فنجحت بعض النجاح، فلما أتى الأدب واشتغل الناس بالثقافة، وردت إلى السوق بالأدب، وهذا الأدب الإلحادي يصد الإنسان ويجعله أديباً منسلخاً عن قيمه ورسالته ومبادئه، ولذلك وجد في العالم العربي شعراء ألحدوا بالله عز وجل، وكفروا به؛ لأنهم اتجهوا إلى الفن، وظنوا أن معنى الأدب أن ينسلخ الإنسان عن إيمانه، وأتوا بقصائد الكفر والإلحاد، مثل قصيدة بشارة الخوري، المسيحي، الذي يقول عن القومية العربية مهاجماً بها الدين:
بلادك قدمها على كل ملة ومن أجلها أفطر ومن أجلها صم
هبوا لي دينا يجعل العرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
يقول: سيروا بجثماني على دين برهمٍ، ولا تذكروا لي الإسلام، إذا كان يفرق بين العروبة، فكفر بهذه الكلمة، وأتى السياب في العراق بقصائد يستحي الإنسان أن يقولها، وأتى أدونيس وهو شاعر فلسطيني، سمى نفسه باسم صنم من أصنام اليونان التي كانت تعبد من دون الله، ثم ألحد بشعره، فأتت هذه الموجة تدعو الناس أن يتجهوا إلى هذا المذهب الفكري المنسلخ من لا إله إلا الله، ولكن بقي الحق في الساحة، لأن سنة الله تعالى في الخلق أن تبقى عصابة تدافع عن الدين بالأدب وبالشعر وبالنثر وبالخطابة وبالقصة وبالموعظة وبالعلم وبالعبادة، فأبقى الله عز وجل من يذب عن دينه من الأدباء الصالحين، ومن التمس أدبهم وجده، لكن هذا السؤال يحتاج إلى محاضرة واستقراءٍ لما قالوا في الساحة، ولما تكلموا به ولما كفروا في شعرهم به -نعوذ بالله من ذلك- فإن بعض الكلام يُسْتَحيا أن يُذْكَر في مثل هذا المجلس، ونكرم مجلسنا أن نذكر كلامهم فيه.(338/18)
التشكيك في قدرة كعب بن زهير الشعرية
السؤال
بعض أدباء الشعر يشكك في قدرة كعب بن زهير الشاعرية، ويخبر أحدهم أنه في قصيدته البردة بنى منها خمسة عشر بيتاً على وزن أبياتٍ لـ كعب بن مالك.
الجواب
أولاً هذا الكلام الوارد عارٍ من الدليل، وما أعرف أحداً من أهل العلم ولا أهل السير، ولا أهل التاريخ، ذكر هذه القضية.
أولاً: كان كعب بن زهير مزنياً من مُزَينة، وكعب بن مالك أنصاري، رضي الله عنه أورضاه.
ثانياً: كيف يُنكَر أن القصيدة لذاك الرجل، وهو فحل في الشعر لا يقارَن، وهو ابن زهير بن أبي سلمى، الذي كان من شعراء العرب، فما هو دليله على إيراد هذه الكلمة؟ على أن حديث بانت سعاد، ضعيف عند المحدثين، بأنه ألقاه عند الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لكنه يستند أولاً إلى أن القصيدة في جودتها وفي أصالتها، لا بد أن لها أصلاً، ولا يقولها إلاً مثل كعب، أما هذا الكلام فليس بصحيح، من ثلاثة واجهات:
أولاً: بُعْدُ ما بين الرجلين.
ثانياً: شاعرية كعب بن زهير، فهو أقوى من شاعرية كعب بن مالك فكيف يحتاج إليه؟!
ثالثاً: أنه ذكر التوبة والإنابة فيها، والرجوع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وأما كعب بن مالك فلم يقع منه ذلك في تلك الفترة حتى يذكر هذا.(338/19)
حكم الإسلام في الهجاء بالشعر
السؤال
من المعروف أنه حدث في عصر من عصور الإسلام معركة كانت بين جرير والفرزدق، بالشعر يهجو بعضهم بعضاً، فما هو رأي الإسلام في مثل هذا الهجاء بين الأخ وأخيه المسلم؟
الجواب
نعم، هذا الكلام ورد، ولذلك ألفت النقائض، والعجيب أن مطابع النصارى، مثل مطابع لبنان، لا تخرج إلا النقائض، أمسكت عن الشعر الإسلامي الذي يستفاد منه، وديوان حسان وأمثاله، ثم أخذت النقائض ونشرتها بين الناس وبين الأمة العربية الإسلامية، لتثير الدخيلة بينهم والضغائن والحقد والغش، كما وقع بين جرير والفرزدق، وكلاهما من بني تميم.
النقائض: هذا يهجو هذا، وهذا يرد عليه، وربما تطرق للقبيلة بأسرها فهجاها، وصح عنه صلى الله عليه وسلم، أنه قال: {إن من أفرى الفرى أن يهجو الشاعر القبيلة بأسرها} وهذه فرية على الله عز وجل، فرأي الإسلام أن هذا الأمر حرام، وسب المسلم أو شتمه أو لعنه كقتله، نعوذ بالله من ذلك، فليُعْلم - بارك الله فيكم - أن هذا فرى، وأنه دجل وضياع للعمر، وأنه صد عن طاعة الله عز وجل، ولا يفعل ذلك إلا من سفه نفسه، وليس له رسالة في الحياة، وهؤلاء نأخذ شعرهم مثل جرير والفرزدق في جانب الأدب والاستشهاد، أما في جانب القضايا الاجتماعية والأخلاق، فلا نأخذ ديننا إلا من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(338/20)
الأمنية العذبة في شرح حديث الغربة
إن الغربة سنة كونية شعر بها الإنسان أم لم يشعر، فلها مفهوم عام وخاص، ولها أنواع وحالات، بل ولها أناس يتصفون بها.
فما معنى الغربة؟ وما هي حقيقتها؟ وما هي أنواعها؟ ومن هم الغرباء؟ وما هي صفاتهم؟ وما هي أحوالهم؟ هذا ما أجاب عليه الشيخ حفظه الله في هذا الدرس بالشرح والتفصيل والتوضيح بالأمثلة من التاريخ والواقع.(339/1)
ابن عمر وحديثه عن الغربة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً.
والصلاة والسلام على حامل لواء العز في بني لؤي، وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي، صاحب الغرة والتحجيل، المذكور في التوراة والإنجيل، المعلم الجليل، الهادي النبيل، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وأشهد أن لا إله إلا الله، شهادة تكون لي ولكم حجة عند الله {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89].
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته.
بين يدي الحديث:
أتيتُ من أبها بلاد الجمال أقول: أهلاً مرحباً بالرجال
تعالَ يا من قلبه في العلا يهوى المعالي ويحب الجلال
أحبكم في الله سبحانه يجمعنا الله بدار الكمال
روض النبي المصطفى وارفٌ أزهاره فاحت بريا الجمال
ميراثه فينا جميل الحلى وأنتم أحفاده يا رجال
نعم فهذا الحديث عن الغربة، يوم يعيش المسلم غريباً بين أهله، غريباً في حَيِّه، غريباً في مجتمعه، غريباً في أمته.
ولنستمع خاشعين إلى حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي يفيض روحانية وهداية ونوراً، وكأن لسان الحال للقارئ يقول للمصطفى صلى الله عليه وسلم:
بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني اللواتي قد أتيتَ بها أرى بها الدر والياقوت متصلا
لو ذاقها مذنف قامت حشاشتُه ولو رآها غريبٌ دارُه لسلا
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي، وقال: {كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل} كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل، كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: [[إذا أصبحتَ فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وخذ من صحتك لسقمك، ومن حياتك لموتك]] رواه الإمام البخاري وابن ماجة والإمام أحمد والبيهقي وأبو نعيم، وجَمٌّ غفير من أهل العلم
والحديث صحيح وفيه قضايا:
القضية الأولى: من هو ابن عمر، صاحبنا هذه الليلة، حياه الله وبياه وحيا الله جهده وإيمانه وإخلاصه، إنه تلميذ من مدرسة المعلم الكبير محمد صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي من معلم.
ابن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب.
نسب كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمودا
عاش مع الرسول عليه الصلاة والسلام الإيمان والحب والطموح، وتعلم في مدرسته، وله أحاديث ذكر صاحب كتاب الزهد الإمام وكيع بسند حسن، أن ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه من كثرة خشيته لله عزَّ وجلَّ ومن كثرة بكائه، قرأ من سورة المطففين حتى بلغ قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فبكى حتى أغمي عليه، وهي والله من أعظم الكلمات، وهي والله عبرة للمعتبر، يوم يتصور المسلم والمسلمة، والذكر والأنثى يوم يقوم من القبر لرب العالمين!
أيُّ منظرٍ هذا؟
أيُّ هَولٍ هذا؟
أيُّ دهشٍ هذا؟
وهذا استطراد ولكن لحكمة! ولذلك روى ابن كثير أن الخليفة العباسي المهدي دخل المسجد النبوي على صاحبه الصلاة والسلام، فقام له الناس جميعاً إلا ابن أبي ذئب فقال له المهدي: قام لي الناس إلا أنت، قال: كِدت أقوم، فذكرت قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:6] فتركت هذا القيام لذاك اليوم، قال المهدي: اجلس فوالله ما بقيت شعرة في رأسي إلا قامت.
ابن عمر في صحيح البخاري أنه رضي الله عنه وأرضاه قال: {كنتُ عَزَباً، وكنتُ أنام في المسجد، وكان الناس يرون الرؤى فيعرضونها على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الصبح -فأراد ابن عمر أن يشارك الناس، ويرى رؤيا، فكان يتمنى أن يرى رؤيا في المنام علَّه يظفر بعرضها على المصطفى عليه الصلاة والسلام- فرأيتُ في المنام كأن رجلين أتياني فأخذا بيديَّ -باليمنى واليسرى- فذهبا بي إلى بئر مطوية، فإذا بها بئر مطوية، ولها قرنان، فخفتُ، وفزعت، فقال لي الملكان: لَمْ تُرَعْ، لَمْ تُرَعْ -أي: لا تخف، لا تخف- قال: ثم أعطياني قطعة من حرير، لا أُشير بها إلى روضة في الجنة إلا طارت بي إلى تلك الروضة، فلما أصبحتُ في الصباح، استحيت أن أعرض الرؤيا على رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، فعرضهتا على حفصة، فعرضتها على الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: نِعْم الرجل عبد الله، لو كان يصلي من الليل، قال نافع: فوالله الذي لا إله إلا هو ما كان عبد الله ينام من الليل إلا قليلاً} كان يسجد في الحرم، ويبكي، ويقول في سجوده: اللهم إنك تعلم أني ما تركت الخلافة لقريش إلا من مخافتك، أي نعم والله: {كن في الدنيا كأنك غريب} بقي هذا الحديث يرن في ذهنه صباح مساء، لا ينساه أبداً إنها وصية محمد عليه الصلاة والسلام.
كان زاهداً بمعنى الزهد، ثيابه وماله وبيته كثياب ومال وبيت من ترك الدنيا لوجه الله عزَّ وجلَّ.
ابن عمر رضي الله عنه وأرضاه كان ذكياً في مجلسه صلى الله عليه وسلم، كان يقول: قال صلى الله عليه وسلم مرة من المرات: {شجرةٌ مَثَلُها كمَثَلِ المسلم، حدثوني ما هي؟ -والحديث في الصحيحين - فوقع الناس في شجر البوادي، ووقع في نفسي: أنها النخلة، فاستحييت، فقال عليه الصلاة والسلام: هي النخلة، فأخبرت أبي فقال: ودِدْتُ أنكَ قلتَ ذلك، وأنها بكذا وكذا من الدنيا} أو كما قال.
كان يقرأ كل ليلة: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر:9] ويبكي ويقول: [[هو عثمان بن عفان]] مضى لسبيلِه وما تدنس من الدنيا بشيء، بقي إيمانه وإخلاصه وزهده وعبادته.(339/2)
فضايا في حديث الغربة
أما قضايا الحديث:
فأولها: ما هو المعنى المتجه للحديث، عند الفقهاء من المحدثين؟
والقضية الثانية: ما هية الغربة التي أشار إليها الحديث؟
وأول ما نتناول بالدراسة في هذه الليلة:
الغربة الأولى: غربة أهل السنة بين أهل البدعة.
الغربة الثانية: غربة المسلمين بين الكفار.
الغربة الثالثة: غربة المستقيمين بين المتفلتين، والعصاة.
وغربة أهل السنة، هي أهم ما ندرسه في هذه الليلة، حيث:
نعرِّج بمبدأ البدعة، كيف انتشرت، وكيف حاربها صلى الله عليه وسلم.
ثم نمر بـ عمر بن الخطاب حصن الإسلام رضي الله عنه وأرضاه، ونقف مع مبتدع يجلده عمر، ويؤدبه.
ثم نمضي إلى علي بن أبي طالب وهو يصارع البدع، ويلاحق المبتدعة، ويحرقهم بالنار.
ثم مدرسة واصل بن عطاء الابتداعية، وموقف الحسن من ذلك.
ثم المأمون وما أدخل في ديار الإسلام من بدع، وموقف أهل السنة والجماعة على رأسهم الإمام الموفق الجهبذ العظيم أحمد بن حنبل.
ثم نمُرُّ بـ أحمد بن نصر الخزاعي يوم ذُبِح كما تذبح الشاة من أجل نصرة السنة، شهيداً في سبيل الله.
ثم المدرسة الكبرى التنظيرية العلمية العملية، الميدانية، التي أسس كيانها شيخ الإسلام ابن تيمية.
ثم التفوق السني العجيب الذي حققه الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وموقف الدنيا في تلك الفترة منه ومن دعوته.
ثم مسائل في الحديث، تمر معنا إن شاء الله.(339/3)
شرح صدر حديث الغربة
يقول ابن عمر رضي الله عنهما: {أخذ صلى الله عليه وسلم بمنكبيَّ، وفي لفظ: بمنكبِي}.
ولكن الأخذ بالمنكب فيه دلالة وأي دلالة، فقد كان عليه الصلاة والسلام حبيباً إلى القلوب
كان سهلاً إلى الأرواح
كان ليناً كما وصفه الله بقوله سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
وقوله تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128].
كان ربما شبك أصابعه بأصابع أحد الصحابة، ليُظهِر الأُنس والوداد والقرب، يقول معاذ كما في: سنن أبي داود بسند صحيح: {أخذ صلى الله عليه وسلم بيَدِي، فقال: يا معاذ! والله إني لأحبك} انظر! ما أحسن القسم! {والله إني لأحبك، لا تدعن في دبر كل صلاة أن تقول: اللهم أعني على ذكرك، وشكرك، وحسن عبادتك} جاءه جرير بن عبد الله البجلي، فقال: {يا رسول الله! أنا رجل لا أثبت على الخيل، فضرب في صدره، وقال: اللهم اجعله هادياً مهدياً} فثبت على الخيل بإذن الله، أيُّ حبٍّ؟
وأيُّ سِعَةِ خاطرٍِ؟
وأيُّ فيضٍ من الحنانِ تركه في الدنيا عليه الصلاة والسلام؟!
كان ابن عمر في تلك الفترة شاباً، والشاب تضره نفسه عُجْبٌ وزَهْوٌ ولِبْسٌ وعطرٌ وطِيبٌ وأخذٌ وعطاءٌ وتناولٌ وتداولٌ لكن لقنه صلى الله عليه وسلم درساً لا ينساه، قال: {أخذ بمنكبَيَّ، فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل} وهذا ترقٍ عند المحدِّثين.(339/4)
الغربة والغرباء
يقول له: {كن في الدنيا كأنك غريب}: أرأيتَ الغريبَ الذي نزل في بلدة ليس له زوجة، ولا ولد، ولا والدة، ولا أحباب ولا أصحاب، ولا أصدقاء، ليس له دار، ولا قصر، ولا مزرعة ولا بستان، يريد صلى الله عليه وسلم من ابن عمر ومن المسلم أن يكون هكذا.
أرأيت الغريب المضطهد، الذي لا يُنظَر إليه بعين الرأفة والرحمة بين قوم غرباء، يرون أنه نزل ليرتحل؟! يريد صلى الله عليه وسلم من ابن عمر ومنا أن نكون ذلك.
أرأيتَ الغريبَ الذي لا يدري متى يرتحل، لا يعرف البلدة، ولا يعرف في البلدة معروفاً؟
غريبٌ من الخلان في كل بلدة إذا عَظُمَ المطلوبُ قلَّ المُساعِدُ
فقال له صلى الله عليه وسلم: {كن في الدنيا كأنك غريب} أرأيت هذه الدنيا، إنها دنيا، ويكفي أنه اشتق اسمها من الدنو، أو من الدناءة، من الدنوِّ: من قرب تصَرُّمِها وانتهائها ولقائنا بالله عزَّ وجلَّ: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] هذه الدنيا يريد صلى الله عليه وسلم منا أن نكون فيها غرباء.(339/5)
غربة أهل الاستقامة بين أهل المعاصي
والغربة على أنواع:
غربة الرجل في أهله وفي بيته: يوم يريد الإسلام أن يدخل بيته، ولكن زوجته وأطفاله وجيرانه لا يريدون الإسلام، فهو غريب يُدخل السنة؛ فيُخرجونها يتكلم بالسنة فيُسكتونه، يفعل السنة فيُحاربونه فهو غريب.
وغربة الشاب في أسرته: يوم يهديه الله عزَّ وجلَّ صراطاً مستقيماً، يوم يدله على سبيل النجاة، فيجد أول من يحاربه في البيت أبوه وأمه، وأخوه وأخته، فيقف غريباً، وهذه والله غربة من أعظم الغرب!
وغربة المرأة الصالحة في بيت لا يدين بالولاء للسنة، تبقى غريبة تصارع الأحداث بضعفها، تريد من بيتها أن يكون بيتاً إسلامياً مستقيماً على هدي محمد صلى الله عليه وسلم فتفاجأ! فإذا البيت يحاربها، والزوج والأب والابن، حينها تكون غريبة في بيتها، ولها ما للغرباء! والغرباء جزاؤهم جيرة محمد عليه الصلاة والسلام في الجنة، والغرباء جزاؤهم أن يرفع الله مقامهم عنده سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؛ هذا أمر.
{كن في الدنيا كأنك غريب} تشبيه وإلا فالحقيقة أنه ليس بغريب؛ ولو قال: كن في الدنيا غريباً، لاقتضى أن يكون هناك معنىً آخر؛ لكن قال: {كن في الدنيا كأنك غريب} ولو أنك في الواقع لستَ بغريب: أبوك موجود، وأخوك، وزوجتك، وأطفالك، وبيتك؛ لكن تخلص من هذا لتكون غريباً.(339/6)
من صفات الغرباء
والغرباء من صفاتهم:
أولاً: قوم يعتقدون أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويعتقدون ما يعتقده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والغرباء: لا يفارقون الصلوات الخمس جماعة، إلا من عذر شرعي قاهر.
والغرباء: يُظهرون السنةَ على محيَّاهم وفي ملابسهم وفي حركاتهم وسكناتهم.
والغرباء: دَيْدَنُهم: قراءة كتاب الله عزَّ وجلَّ، وتدبر القرآن.
والغرباء: يتدارسون السنة، ويعملون بها ويحبون بها.
والغرباء: لا يجدون ضغينة على عباد الله وعلى المسلمين كافة جماعات وأفراداً وأحزاباً وانتماءات، ما داموا في مظلة الإسلام، ومظلة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وقد ذكر الذين صنفوا كـ أبي عثمان الصابوني، وابن بطة، من الحنابلة، وأبي الوفاء وابن الجوزي من صفات الغرباء وصفاً عجيباً، فإن وصف الغرباء لا يقتضي أن يحملوا شهادات، ولا يقتضي أن يتَوَلَّوا مناصب، ولا يقتضي أن يكون لهم وظائف، ولا يقتضي أن يكونوا بيضاً أو حمراً أو سوداً، وإنما أن يكونوا أتقياء، أولياء لله تبارك وتعالى.
{كن في الدنيا كأنك غريب} هذا الذي يريده صلى الله عليه وسلم.
ولدتك أمك يا ابن آدم باكيا والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسرورا(339/7)
بداية الغربة
أول ما تقع على التراب: تقع غريباً لا ثياب، ولا مال، ولا جاه، ولا أسرة، ولا منصب، ولا بيت، ولا وظيفة، ولا أي شيء؟!
فيوم تقع تبكي، وهذا البكاء، بعضهم يفلسفه، ويقول: (لأنك خرجت من السعة إلى الضيق) بطن أمك أوسع من الدنيا وما فيها.
دنيا الطغيان
دنيا الفجور
دنيا المعاصي
دنيا الشهوات
دنيا الشبهات
ولكن صحَّ عند البخاري: أن أول ما يولد المولود يغمزه الشيطان وينغزه، إلا عيسى بن مريم عليه السلام فسلم من ذلك، فيبكي المولود يوم ينْغَزُه الشيطان، وكأنه يقول لهذا المولود: تَحَرَّ وانتظرْ حرباً شعواء، فسوف أحاربك إلى آخر ساعة.
يوم يقول الله عزَّ وجلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} [فصلت:30 - 31].
حضرت الوفاة عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ورحم الله تلك العظام، فهو الشاب الذي قاد الأمة، وجدد أمرها في القرن الأول، حضرته الوفاة، فأصبح في سكرات الموت، فدخلت زوجته فاطمة بنت عبد الملك، فقال: [[يا فاطمة! اخرجي من بيتي، فإني أرى نفراً ليسوا بإنس ولا جن]] قال أهل العلم: هم ملائكة قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت:30] وقال سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ} [الأنبياء:102].
وذكر عن الإمام أحمد الزاهد العابد، الذي أصبح جسمه كالعود من كثرة الصيام والعبادة، وكثرة الإنابة والدعاء، الذي كتب أربعين ألفاً من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحفظ ما يقارب ألف ألف حديث بالآثار والموقوفات والمقطوعات، الذي وقف حصناً مع أهل السنة في وجه البدعة، جُلِد بالسياط، ومع ذلك حضره الموت، وجاء إبليس يصارعه حتى في سكرات الموت، يا إبليس، ما وجدت إلا الإمام أحمد، إمام أهل السنة والجماعة تصارعه؟
أما علمت أنه رجل تربى وخلط دمه ولحمه بالسنة، فأخذ يعظ أنامله ويقول الإمام أحمد: [[لا بَعْدُ، لا بَعْدُ]] أي: ما نجوتُ من مكيدتك أيها الكائد الخبيث، هذه فتن، يتعرض لها المغترب يوم يسافر بغربته وإيمانه وسنته، إلى الله عزَّ وجلَّ.(339/8)
حقيقة الغربة وأحوال الغرباء
قال صلى الله عليه وسلم: {كن في الدنيا كأنك غريب} ثم ترقى عليه الصلاة والسلام إلى درجة أعلى فقال: {أو عابر سبيل} وعابر السبيل: أعظم من الغريب الغريب: يقيم يوماً أو يومين أو ثلاثة أو شهراً أو سنة، لكن عابر السبيل: لا يقيم.
وأعرف الناس بالدنيا، وحقيقتها: محمد عليه الصلاة والسلام، كان يقول: {ما لي وللدنيا، وإنما مثلي ومثل الدنيا كراكب، قال في ظل شجرة ثم سار وتركها} حديث صحيح.
الرسول صلى الله عليه وسلم تتوالى عليه ثلاثة أيام لا يجد فيها كسرة خبز.
فما لنا نشبع من الموائد الشهية؟
ونركب المراكب الوطية؟
ونسكن في المنازل البهية؟
كفاك عن كل قصر شاهق عمداً بيت من الطين أو كهف من العلم
تبني الفضائل أبراجاً مشيدة نصب الخيام التي من أروع الخيم
إذا ملوك الورى صفوا موائدهم على شهي من الأكلات والأدم
صففت مائدة للروح مطعمها عذب من الوحي أو هدي من الكلم
نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بيتُه من طين، إذا نام وصل رأسه إلى الجدار، وأرجله إلى الجدار الآخر، أظهر الناس عن حجر واحد يوم يحفرون الخندق يربطون بطونهم من الجوع، وأظهره على حجرين صلى الله عليه وسلم، عاش عبداً رسولاً لكن ادخر الله له الرضوان، فقال عز وجل: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى:5] يقول وهو يتلو هذه الآية، ويبكي: {والذي نفسي بيده لا أرضى وأحد من أمتي في النار، والذي نفسي بيده لا أرضى وأحد من أمتي في النار} فصلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً.
فعابر السبيل: لا يأخذ إلا ما يكفيه في الطريق
دخلوا على أبي ذر رضي الله عنه وأرضاه وهو في سكرات الموت يبكي، قالوا: [[ما لك؟ قال: استثقلت من الدنيا، وأكثرت منها، وورائي عقبة كئود، لا يجوزها إلا المُخِِفّ، قالوا: ما هي دنياك يا أبا ذر؟ فنظروا في بيته، فوجدوا شملة: (فراشاً يفترشه) ووجدوا قعباً، ووجدوا صَحفة وعصا!! أهذا استكثار من الدنيا؟ قالوا: ما معك شيء، قال: إن خليلي صلى الله عليه وسلم قال لي: {ليكن زادك من الدنيا كزاد الراكب} ليكن متاعك من الدنيا كمتاع الراكب]] رضي الله عنه وأرضاه.
أرسل عمر رضي الله عنه وأرضاه سلمان الفارسي، الذي استجاب لـ (لا إله إلا الله).
سلمان الذي كفر بالطاغوت
سلمان الذي ترك النار وعَبَدة النار وأباه وأهله وأجداده وزوجته وأطفاله، وأتى يركب القفار والبحار حتى وصل إلى المدينة، فكان جزاؤه أن يقول له صلى الله عليه وسلم فيما يُروى عنه: {سلمان منا آل البيت} وهي والله وسام من أعظم الأوسمة، يوم يُترك أبو لهب، وأبو طالب، المدهدهان على رءوسهما في النار، أما سلمان الفارسي فهو من أهل البيت.
يجلس العرب في حلقة، فينتسبون لأجدادهم، وترابهم، فيقولون لـ سلمان: من أبوك؟ قال:
أبي الإسلام لا أب لي سواه إذا افتخروا بقيس أو تميم
رضي الله عنك وأرضاك.
أرسله عمر رضي الله عنه وأرضاه أميراً إلى العراق، فذهب على حمار انظر إلى صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، الذين فتحوا الدنيا! يركبون الحمير!
الذين أسسوا حضارةً عالميةً مشرقةً وضَّاءةً يركبون الحمير!
فوصل، فلما خرج أهل العراق، لاستقباله، قالوا لـ سلمان: أرأيت أميراً أرسله عمر إلينا اسمه سلمان الفارسي؟ قال: أنا سلمان الفارسي، قالوا: لا تضحك علينا، قال: أنا والله الذي لا إله إلا هو سلمان الفارسي!! فعجبوا وذهلوا من هذا الدين، الذي الأمير فيه كأنه أفقر فقير في الناس!!
فسكن هناك، وأخذ راتبه، فوزعه على ثلاثة أنحاء: قسم يتصدق به، وقسم يهديه لإخوانه، وقسم يتقوت به وقيل: كان يتصدق بكل المال، ويتقوت من خصفه الذي يخصفه بيده رضي الله عنه وأرضاه.
يأتي عمر رضي الله عنه وأرضاه، وهؤلاء عالم الغربة، وأهل الغربة والاستقامة، فيرسل سعيد بن عامر الصحابي الجليل إلى حمص، فيبعثه فيقول: اعفني يا أمير المؤمنين، قال: [[أتولونني الخلافة في عنقي، ثم تتركونني؟ والله لتتولين الإمرة لي]] فذهب رضي الله عنه وأرضاه، ولما سافر من المدينة، قالت زوجته: [[عندي مال كثير، أعطيك إياه تستنفقه لك، أو تضعه في تجارة بيني وبينك، فأخد المال فتصدق به في سبيل الله، فقالت: أين المال؟! قال: أعطيناه شريكاً، يضاعف لنا به أضعافاً على الدرهم الواحد إلى سبعمائة درهم]] فصدقت وسكتت.
دخل حمص، وأخذ هذا الغريب يَعْدِل في الناس ويصلي بهم، حتى مرَّ عمر رضي الله عنه وأرضاه على أمرائه وولاته في الأقاليم، فأخذ سعيد بن عامر وسأل أهل حمص عنه: كيف سعيد بن عامر؟
أي: كيف مسيرته فيكم؟
كيف عدله؟
كيف زهده وورعه؟
فكلهم أثنوا خيراً، لكن أخذوا عليه أربعاً من الخصال: ما هي الأربع؟
قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: [[اللهم إني ما علمت فيه إلا خيراً، اللهم لا تخيب ظني فيه، قالوا: أما الأولى: فيُصرع بين أيدينا، وأما الثانية: فلا يخرج لنا يوماً من أيامه من الأسبوع، فلا نراه ولا يرانا، وأما الثالثة: فإنه لا يخرج حتى يرتفع النهار، وأما الرابعة: فإنه لا يخرج في الليل، مهما طرقنا عليه بابه]].
لا يخرج علينا في الليل، قال عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقد نكس رأسه، ودموعه تهراق على خديه: [[اللهم لا تخيب ظني في سعيد بن عامر، قم يا سعيد، فقام يتكلم، فقال: يا أمير المؤمنين، والله لوددت أن أكتم هذا الأمر، فأما والحالة هذه فسأتكلم، فأمَّا قولهم: أني أصرع، فقد حضرتُ مشهداً ما وددت أني حضرته: رأيت خبيب بن عدي وهو يُقتل في مكة، وأنا مع المشركين آنذاك، فسمعته يقول للكفار: اللهم احصهم عدداً، واقتلهم بدداً، ولا تغادر منهم أحداً، فكلما تذكرت ذاك المشهد صرعت، ووددت أنني نصرته، وأما اليوم الذي لا أخرج فيه للناس: فأنا رجل ليس لي خادم، وزوجتي مريضة، أغسل ثيابي، وأنتظر جفافها، أو أغسل ثيابي وثياب أهلي في هذا اليوم -سبحان الله! أيُّ حياةٍ هذه الحياة، حياة الغرباء؟ - وأما الليل لا أخرج إليهم: فقد جعلت النهار لهم، والليل لربي تبارك وتعالى:
قلت لليل هل بجوفك سر عامر بالحديث والأسرار
لَمْ ألْقَ في حياتي حديثاً كحديث الأحباب في الأسحارِ
وأما قولهم: لا أخرج حتى يرتفع النهار، فزوجتي مريضة، فأنا أصنع إفطاري بنفسي، فإذا أفطرتُ خرجتُ إليهم، فرفع عمر يديه إلى السماء يبكي، ويقول: الحمد لله الذي لم يخيب ظني في سعيد بن عامر]]
سلام على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورحمة الله وبركاته.
إن لم تؤخذ السيرة والعقيدة، والمبادئ الأصيلة والسلوك منهم، فمن أين تُؤخذ؟ إنهم من {الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:90].(339/9)
غربة أهل السنة بين أهل البدعة
الغربة كما أسلفت على ثلاثة عناصر، أو ثلاث مسائل:
أولها: غربة أهل السنة بين أهل البدعة:
يوم تجد المسلم العالم يتسنن بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل شيء: في المعتقد، وفي حمل (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) وفي الحضور في الجماعات، وفي المحافظة على الفرائض والنوافل، وفي مضاعفة الحسنات ورفع الدرجات، وفي اللحية، والثوب، والسواك، والهدي الظاهرِ والباطن؛ لأنه ليس في الإسلام قشور، وليس في الإسلام تنافر، كله سنة، وكله يؤخذ جملة، وكله عبادة وشريعة من الله الذي لا إله إلا هو، لكن أهل البدع يأبون إلا أن يجعلوا أهل السنة يَحْيَون معهم غرباء.(339/10)
الغربة في عهده صلى الله عليه وسلم
هل علمتم أعدل من محمد عليه الصلاة والسلام؟ , هل عرفتم أنصف منه؟ , هل عرفتم أجل منه؟
لا والله! ومن زعم أن هناك في العالم -قديماً أو حديثاً- رجلاً أعظم من الرسول عليه الصلاة والسلام وأعدلَ منه، أو أكرم منه، فقد افترى على الله، وعليه دائرة السَّوء -من قال هذا القول-.
أتى يقسِّم الغنائم بين الناس، فلما قسم الغنائم صلى الله عليه وسلم، تألف بها أناساً يحبون الدنيا، قوم لا يحبون الإسلام إلا لوسائل، أعطاهم صلى الله عليه وسلم ليتألف قلوبَهم، أعطى عيينة بن حصن: مائة ناقة، والأقرع بن حابس: مائة ناقة، وأبا سفيان مائة ناقة، وصفوان بن أمية: مائة ناقة، وترك الأنصار سبحان الله! الأنصارُ يُتْرَكون! الذين قُتِل منهم في المعارك: (80%) والذين قدَّموا دماءهم رخيصة في سبيل الله، تُرِكُوا! لكن المؤمن يوم يظهر له شيء من أخيه، أو من قريبه، أو من صديقه في طريقه إلى الله يستفسر ولا يحمل ضغينة
فاجتمع الأنصار، وقالوا: {غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أعطى هؤلاء وتركنا، وسيوفنا تسيل من دمائهم} فبلغ الخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمعهم؛ فلما جمعهم أشرف عليهم، وقال كلمات كلها حرارة، وكلها صدق وإخلاص، وكلها حب ومودة، قال: {يا معشر الأنصار! ما مقالة بلغتني عنكم؟ قالوا: هو كما سمعتَ، يا رسول الله! قال صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار! أما أتيتكم ضلالاً فهداكم الله؟ أما أتيتكم فقراء فأغناكم الله؟ أما أتيتكم مشتتين فجمعكم الله؟ فنكَّسوا رءوسهم، يبكون، ويقولون: لله المنةُ ولرسوله، قال: يا معشر الأنصار! والله لو شئتُم لقُلْتُم؛ فلَصَدَقْتُم، ولصُدِّقْتُم: أتيتَنا طريداً فآويناك، وفقيراً فواسيناك، ومظلوماً فنصرناك، قالوا: لله المنة ولرسوله، فرفع صوته، وقال: والذي نفسي بيده! لو سلكَ الناسُ وادياً وشِِعباً، لسلكتُ وادي الأنصار، وشِعب الأنصار، الأنصار شعار، والناس دثار، اللهم اغفر للأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار} فأخذوا يبكون حتى سالت دموعهم من لحاهم رضي الله عنهم وأرضاهم.
لكن اسمع إلى المبتدع، يأتي ويقول للرسول عليه الصلاة والسلام: اعدل يا محمد! أي: في القسمة! قال صلى الله عليه وسلم: {ويلك! خِبْتَ وخَسِرْتَ إن لم أعدل} وضبط: {خِبْتُ وخَسِرْتُ إن لم أعدل} فمن يعدل إذا لم يعدل عليه الصلاة والسلام فقام خالد رضي الله عنه وأرضاه وسَلَّّ سيفه، وأراد أن يقتل هذا المجرم، فقال عليه الصلاة والسلام: {دَعْهُ، يا خالد! لا يتحدث الناس أني أقتل أصحابي، سوف يخرج من ضِئْضِئ هذا قوم تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية} وفي لفظٍ في: صحيح مسلم: {لئن أدركتُهم؛ لأقتلنهم قتل عاد} وبالفعل: ظهر هذا المسرح فيما بعد.(339/11)
الغربة في عهد الصحابة رضوان الله عليهم
تنتهي هذه الكلمة في مهدها، ولكنها تشب مبدءاً وتغييراً في محاربة السنة.
ويموت عليه الصلاة والسلام، ويأتي أبو بكر وحربه العَقََدِية شاملة لكل جانب، حربه رضي الله عنه وأرضاه حربٌ ظاهرة تمردٌ على الإسلام أناس يرفضون من قيام (لا إله إلا الله) وأناس يرفضون أداء الزكاة، وبالفعل حاربهم وانتصر عليهم رضي الله عنه وأرضاه.
ويأتي عمر بن الخطاب عمر الذي حمى الله به الإسلام لما طُعِن عمر بكى عليٌّ رضي الله عنه وأرضاه وقال: [[والله ما أريد أن ألقى الله بعملِ رجل إلا بعمل كعملك]] وقال أحد العلماء: " كفنت سعادة الإسلام في أكفان عمر فلما أتى عمر بخلافته الراشدة رضي الله عنه وأرضاه كان يحارب الزيادة والابتداع في دين الله، حتى كثرة الحديث لا يريدها؛ لأنها تشغل في نظره عن القرآن، فلما سمع أبا هريرة يحدث كثيراً كثيراً، قال: [يا أبا هريرة: والذي نفسي بيده إما أن تمسك عن الحديث، أو لألحقنك بأرض القردة، أرض دوس]] يعني: في بلاد الزهران.
طرق عليه أبو موسى رضي الله عنه وأرضاه، كما في: الصحيح فلم يأذن له؛ فطرق مرة ثانية؛ فلم يأذن له، فطرق ثالثة؛ فلم يأذن له، فذهب أبو موسى، وفتح عمر البابَ رضي الله عنه وأرضاه، وقال: [[يا أبا موسى: تعال، لماذا عدتَ؟ قال: سمعتُ الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليعُد} قال: والذي لا إله إلا هو لتأتيني بشاهد على هذا أو لأوجعنك ضرباً]] لا يريد الزيادة في دين الله؛ يريد التثبت، ولو أن أبا موسى ثقةٌ ثَبْتٌ، عدلٌ مُرتضى من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام، فذهب أبو موسى يرجف فؤاده إلى الصحابة، ويقول: [[أنقذوني، أنقذوني]] يريد شاهداً، قال الأنصار: [[والله لا يقوم معك إلا أصغرنا]] فشهد له، فأمضى عمر هذه السنة في الناس.
وفي يوم من الأيام جلس عمر رضي الله عنه وأرضاه وليت عمر يحضر مجالسنا، أو ليته رأى بعض مجالسنا ونحن الذين ندَّعي الغربة؛ مجالس الخلافيات الفكرية، والجزئيات التنظيرية التي لا تنفع ولا تُجْدي، مجالس التهجم على المسلمين إذا أخطأوا في جزيئات، أو خالفونا في أساليب أو فرعيات، يكيل الصاع صاعين، ولو أننا أردنا وجه الله والدار الآخرة لسعينا لجمع كلمة الإسلام، هذا يعمل على أسلوب، وهذا له مظلة، وهذا له اتجاه، نحمي عرضَه، ونُعِدُّ أنه مِن الذين أنتجوا في الساحة الإسلامية، ولهم دور في إنقاذ الهمم، وفي إمضاء هذه الصحوة وتوجيهها إلى الله عزَّ وجلَّ، وهذا له حسنة في المحافظة على معتقد السلف، هذا له حسنة في الرد على الشبه، هذا له حسنة في تعليم العوام فلماذا نصادر جهود الناس؟ لماذا نتهجم على بعضهم في المجالس؟ إسرائيل تقصفنا بالطائرات، وتغطي شمسنا بطيرانها، ونحن بيننا نتحارب؟!
وأطفأتْ شهبُ الميراجِ أنجمَنا وشمسَنا، وتحدَّت نارها الخُطَبُ
شجباً ونكراً وتنديداً بغارتها الله كم نددوا يوماً وكم شجبوا
قالوا: هم البشر الأرقى، وما أكلوا شيئاً كما أكلوا الإنسان أو شربوا
تسرُّعٌ في الفتيا موجودة في الساحة، يقول أحد التابعين للتابعين: [[والذي نفسي بيده إنكم لتفتون في مسائل، لو عرضت على عمر بن الخطاب، لجمع لها أهل بدر]].
نحن تناحرنا إلاَّ من رحم الله فيما بيننا، ردود، ومسائل جزئية؛ لكن الكفار لا يعرفون هذا، الكفار ليس بينهم ردود، فكلهم يختلفون؛ لكنهم في حرب الإسلام يتفقون.
فأتى رجلٌ عمر، فقال: يا أمير المؤمنين! قال: نعم قال: في المعسكر رجل يعارض بين الآيات قال: ماذا يقول؟ قال: يقول: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً} [الذاريات:1 - 2] كيف نجمع بينه وبين قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] قال عمر رضي الله عنه وأرضاه: تعال به {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1]: كلام كبير، من حكيم بصير، لو وقعت على الجبال، لتشققت الجبال، كلام الله، لا كلام مسيلمة، فجلده عمر حتى تاب.(339/12)
حقيقة الغربة والغرباء
الذي ذكرتُه في هذا العنصر: هو عنصر واحد من ثلاثة عناصر، سبق أن أسلفتُ الحديث عنه.
غربة أهل الإسلام بين سائر الأديان: وهذا أمر معلوم، موجود، وكثير مشهور، لا يحتاج إلى كثرة كلام.
وغربة أهل السنة بين أهل البدع: وهو هذا الذي يحتاج إلى غربلة وحديث كثير.
وغربة أهل الاستقامة بين أهل المعاصي: وأهل الفجور، والتفلُّت على أوامر الله، وتعدي حدود الله، وهو أمر لا بد أن يُتَنَبَّه إليه، وأن على المسلم -خاصةً المستقيم، الملتزم، طالب العلم، الداعية- أن يصبر، وأن يعرف أنه غريب، وأن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى يجزل له أجره، كما قال صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء} وفي لفظ: {قالوا: من هم، يا رسول الله؟ قال: النُّزَّاع مِن القبائل} ولكن هذه الرواية ضعيفة، وفي لفظ آخر: {هم الذين يتحابون في الله عزَّ وجلَّ لا على أي سبب من أسباب الدنيا} أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
وقد وجد الغرباء في هذا العصر؛ غرباء في العالم دول العالم كافرة؛ إلا من رحم الله؛ وغرباء بين المبادئ الموجودة المطروحة في الساحة فهم غرباء من هنا ومن هنا، غرباء في أفكارهم لسوء أفكار أهل الضلالة، وغرباء في صلاتهم لسوء صلاة المنحرفين، وغرباء في استقامتهم لتدهور استقامة السيئين، وغرباء في كتبهم التي يقرءونها؛ لأن كتب أهل الضلال غير الكتب التي يقرءونها، وغرباء في مسيرتهم، وفي اتجاههم، وفي عقائدهم وتفكيرهم؛ لأنهم أهل الخير.
أنبه على مسائل:
أولها: أن الغريب قد يكون واحداً، وأهل السنة والجماعة قد يكونوا شخصاً واحداً أو أشخاصاً قلة، ولا يشترط الكثرة، وأهل السنة كلهم: كل مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد نبياً صلى الله عليه وسلم، وكل من دان لله بالولاء، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالاتباع، وليست حكراً لأحد، أو لطائفة من الناس وإن ادعوا ذلك.
وكلٌّ يدَّعي وصلاًَ بليلى وليلَى لا تُقِرُّ لهم بِذاكا
فكل من حمل هذه المبادئ؛ فهو من أهل السنة والجماعة خفي أم ظهر، لبس لباساً يختلف عن لباس الناس، إن لم يكن محرماً أو لم يلبس؛ إنما المهم: أن يعتقد، وأن يعمل بما يعمله ويعتقده أهل السنة والجماعة، هذا أمر.
الأمر الثاني: أن الغربة تختلف نسبياً من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، وفي صور عن صور، وقد تكون في بعض الأزمنة غربة الإسلام:
في الحاكمية: ألا يُحَكَّم شرعُ الله في الأرض فهذه غربة في الحكم.
تكون غربة في الجهاد: ألا تُرفع رايةُ أن لا إله إلا الله في الجهاد هذه غربة في الجهاد.
فترة من الفترات: تكون غربة تطبيق السنة في حياة الأفراد هذه غربة السنة في حياة الناس.
فترة من الفترات: غربة في العلم، ونشر العلم، وهذه الغربة العلمية يوم لا ينشر العلم.
غربة مكانية: تنتشر السنة في مكان من الأمكنة؛ ولكن لا تنتشر في المكان الآخر.
في زمن تتقوى فيه السنة وتظهر؛ وتنهزم وتفشل في زمن آخر وهذه: غربة نسبية إضافية في زمن من الأزمنة.
إخوتي في الله! إن أعظم قضايا الحديث، هي: قضيةٌ رقيقةٌ من الرقائق: أن تكون غريباً، عن (إذا أصبحتَ لا تنتظر المساء، وإذا أمسيتَ فلا تنتظر الصباح).
والموتَ فاذكره وما وراءَهْ فمنه ما لأحدٍِ براءَةْ
وإنه للفيصل الذي بِه ينكشفُ الحالُ، فلا يشتبِهِ
والقبرُ روضةٌ من الجنانِ أو حفرةٌ من حُفَر النيرانِ
إن يكُ خيراً فالذي مِن بعدِهِ أفضلُ عند ربنا لعبدِهِ
وإن يكن شراً فما بعد أشدّْ ويلٌ لعبدٍ عن سبيل الله صدّْ
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وإن كان لي من شكر، فإني أشكر الله تبارك وتعالى، ثم أشكر القائمين على هذا المسجد؛ لدعوتهم، ولتسببهم في هذا الحضور، ثم أشكركم، أيها المسلمون الفضلاء النبلاء.
وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه، وسلَّم تسليماً كثيراً.(339/13)
الأسئلة(339/14)
المحبة في الله
السؤال
من الأشياء المشتركة في هذه الأسئلة: أن كثيراً من الإخوة السائلين يشعرون فضيلة الشيخ بحبهم في الله عزَّ وجلَّّ، ويرجون منه دعاءً لهذا الجمع المبارك.
الجواب
الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
وأنا أشهدكم أني أحبكم جميعاً في الله تبارك وتعالى، وأسأل الله عزَّ وجلَّ كما جمعنا في هذا الجامع؛ أن يجمعنا في دار كرامته في الجنة، وأن يجمع كلمتنا وقلوبنا وصفوفنا وأن يرفع رايتنا، وينصر هذه الأمة الإسلامية أمة (لا إله إلا الله) وأن يعيد لها مجدها، وعظمتها، وسؤددها، وكرامتها، وأن ينصر كل من جاهد لإعلاء هذه الكلمة (لا إله إلا الله، محمد رسول الله) في فلسطين، وفي أفغانستان، وأن يجعلنا كما كنا قادة للأمم موجهين للشعوب مؤسسين للحضارة.(339/15)
مؤلفات وتصانيف في الغربة
السؤال
أخٌ يسأل ويقول: لو ذكرتم بعض ما أُلِّف وصُنِّف في بيان الغربة، خصوصاً من كتب السلف.
الجواب
هناك كتاب الغربة للآجري صاحب (الشريعة) وكتابه الغربة من أحسن ما كُتِب وكتاب: (العزلة) لـ أبي سليمان الخطابي، يتكلم عن الغربة، وكتاب: (كشف الكربة في شرح حديث الغربة) لـ ابن رجب الحنبلي، ومقالة لـ ابن تيمية شيخ الإسلام، في المجلد العاشر من: (فتاويه) وهناك رسالة ماجستير في الغربة، وهي من أجمع ما جُمع قديماً وحديثاًَ للشيخ سلمان العودة، جمع المراجع القديمة والحديثة، وصنفها تصنيفاً باهراً، وهي تطبع إن شاء الله قريباً.(339/16)
أنواع البدعة وصفات أهلها
السؤال
أخٌ يسأل ويقول: ما أنواع البدعة؟ وكيف نعرف أهلها؟ وما صفاتهم؟
الجواب
لسنا بحاجة ماسة إلى أن نعرف هذه الأقسام التنظيرية للبدعة، حاجتنا إلى أن نعرف أثرها على الناس.
البدعة قسمها بعض الأساتذة الذين ألفوا، كصاحب كتاب: (البدعة: أثرها، مصادرها، آثارها) قسمها إلى (15) قسماً، منها:
القسم الأول: بدعة حسنة، وسيئة.
القسم الثاني: مكفِّرة، ومفسقة.
القسم الثالث: كبرى، وصغرى.
القسم الرابع: بدعة كذلك عبادية، وعادية.
القسم الخامس: بدعة اعتقادية، وعملية.
إلى غير ذلك من التقسيم وبعض التقاسيم يوافَق عليها، وبعضها يخالَف: كبدعة حسنة، وسيئة: ليس بصحيح، أو بدعة واجبة، ومستحبة أي: خمسة أقسام على الأمور التكليفية عند أهل الأصول: فهذا ليس بصحيح؛ بل كلها محرمة ومذمومة، ولا خير فيها أبداً.(339/17)
مرض الشهوة والنظر الحرام وعلاجها
السؤال
أخٌ يقول: من أخطر ما يتعرض له الشاب الصالح مرض الشهوة! فنرجو منكم إلقاء الضوء على هذا المرض، خصوصاً: معصية النظر إلى النساء, والنظر إلى المُرْدان.
الجواب
مرض الشهوة! من الأمراض أو من الأمور التي حارب بها أعداءُ الإسلامِ الإسلامَ؛ لأن مركب الإلحاد أو مدرسة الإلحاد التي كان شيخها وأستاذها فرعون عليه لعنة الله الذي قال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف:51] موجودة، وركبت مركب الاقتصاد قبل عشرات السنوات، ثم أتت إلى الأدب على مركب الحداثة، فبثَّت سمومها بأقلام مأجورة مرتزقة في الساحة تعتقد اعتقادهم، أو تشرب من مشاربهم، وهو مشرب زندقة، وإفكٍ، وإلحاد، وقد تولى كثير من الدعاة والمشايخ جزاهم الله عن الإسلام خيراً الردود على هذه الافتراءات بردود قوية عميقة أصيلة.
وأما مرض الشهوات: فهو مرض بَقَرَ بطنَ الأمة، يتمثل في: كأس الخمر، ويتمثل في: المرأة الفتانة المتبرجة، ويتمثل في: المجلة الخليعة، ويتمثل في: الأغنية الماجنة كلها صُبت وطُرِحَت أمام الشباب لتصدهم عن طاعة الله عزَّ وجلَّ.
ودواء مرض الشبهات: اليقين.
ودواء مرض الشهوات: الصبر قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] قال ابن تيمية: تنالُ الإمامةُ في الدين بالصبر، واليقين.
فالصبر عن الشهوات، واليقين وقت توارد الشبهات.
وأما الشهوات: فمنها النظر، الذي أشار إليه الأخ، وهو مرض فتاك، ومن أعجب ما فتك بالأمة هذا المرض، يوم يرسل الرجل نظره إلى المرأة، أو إلى الأمرد، أو ترسل نظرها إليه، حينها يَعْتَوِرُ القلب من الشبهات والشهوات، والأمراض والهموم والأسقام ما الله به عليم.
وأنا الذي جلب المنيةَ طرفُه فمن المطالَب والقتيل القاتلُ
والواجب للقلب أن يُصرف إلى المحبوب الذي يستحق الحب، وهو الله تبارك وتعالى، فإن الناس الذين في الساحة، وكثير منهم، يحملون الحب على غير محامله، شوقي يقول على نظريته: الحياة الحب، والحب الحياة لكن إذا سألناه وسألنا غيره، كأنه يقول بلسان حاله: إنه حبُّ المرأة، أو الوَلَهُ، والغرامُ، أو العشقُ، والشرود، والهُيامُ، وهذا الإسلام منه برئ، وقد أسلفتُ أن حديث: {من أحب، فعفَّ، فكتم، فمات، مات شهيداً} حديثٌ باطلٌ، كَذِبٌ، موضوعٌ، لا يمكن أن يقال ولا يصح، كما قال ابن القيم ولو كان سنده كالشمس، نحن أهل الحب، وغيرنا لا يعرف الحب.
الحب: حب الله ورسوله، والجمال: هو التملي بجمال الله المباح الذي جعله في الكون سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أما دعاة الفن، والحب، والجمال، فهم قتلة الحب والفن والجمال.
إذاًَ فأنا أدعو أخي ألا يرسل نظره، وأن يتقي الله في عينيه قال تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور:30] وعليه بأمور:
الأمر الأول: كثرة الدعاء، والتبتل إلى الله في أدبار الصلوات أن يهديه الله وأن يسدده.
الأمر الثاني: أن يتذكر لقاء الله وموعوده.
الأمر الثالث: أن يستظل بحفظ الله، وهي الرقابة التي يقولها صلى الله عليه وسلم لـ ابن عباس: {احفظ الله يحفظك} وهذه تكتب على أجنحة القلوب (احفظ الله يحفظك).(339/18)
حكم العادة السرية
السؤال
ما حكم العادة السرية؟ وما الأدلة على حكمها؟ وهل لها من آثار سلبية على الإنسان؟ وكيف يتخلص المبتلى بها؟
الجواب
العادة السرية: الذي أعرفه في المسألة: هي نقولات لأهل العلم؛ لأنني لا أعرف نصوصاً صريحة بالتحريم ولا بالإباحة، لكن هناك نصوص محتملة، ظنية الدلالة في المسألة، كقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون:7] أُخِذَ منها تحريم العادة السرية عند بعض الشافعية، وابن تيمية سئل عنها، قال: الواجب اجتنابها، ويحرم استعمال هذا الشيء أما الحديث الذي يقول: {ملعونٌ مَن نكح يده} فلا يصح عنه صلى الله عليه وسلم، لكن مما هو معلوم من مقاصد الإسلام أنها محرمة، وهذا القول هو الصحيح إن شاء الله
فعلى المسلم اجتناب هذا الشيء، وكذلك ما يضيع قلبه أو وقته في ما يقربه من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى من طاعة، وذكر، وعبادة، ومطالعة، وإذا وجد للزواج سبيلاً فليفعل، قال صلى الله عليه وسلم: {يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم، فإنه له وِجاء}.(339/19)
معنى حديث: (سيأتي زمان التمسك)
السؤال
ورد في الحديث: أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: {سيأتي زمان يكون أجر المتمسك أجر خمسين قالوا: مِنْهُم، يا رسول الله؟ قال: لا؛ بل منكم} أو كما ورد في الحديث.
فهل وقع هذا الحديث في هذا الزمان؟
الجواب
هذا الحديث أولاً: صحيح، حديث الخمسين، أو الرجل الغريب في آخر الزمان أجره أجر خمسين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حديث صحيح، وقد صححه جماعة من أهل العلم، ولا عبرة بمن خالف في تصحيحه أو ضعفه.
وأما معناه: فقال أهل العلم: معناه: كثرة الأجر، لا درجة الأفضلية، فإن للصحابة درجة من الأفضلية والسمو لا يبلغها أحد من الناس، يقول صلى الله عليه وسلم: {الله الله في أصحابي، لا تتخذوهم غرضاً، فمن أحبَّهم فبِحُبِّي أحبهم، ومن أبغضهم فبِبُغْضِي أبغضهم} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً وفضة ما بلغ مُدَّ أحدهم، ولا نصِيْفَه} إذا عُلِم هذا؛ فدرجة الفضل والصحبة لا يمكن أن يخترقها أو يتسلقها أحد؛ لكن كثرة الأجر والحصيلة في الأجر على الأعمال: المتأخر يفضل المتقدم بخمسين أجراً، أو بخمسين ضِعْفاً كأجرهم؛ وهذه واقعة في هذا الزمن، وإن لم يكن هذا الزمن زمن غربة فمتى يكون ذلك؟ يوم يوضع الكتاب والسنة، فيكون غريباً عند الناس، غربة على مستوى كبار الناس وصغار الناس، غربة في الجهاد غربة في نواحي الحياة: في السلوك، وفي الأدب وفي تنفيذ الأوامر التي أمر الله بتنفيذها غربة في الأخلاق والآداب من محبة، وصفاء، وتآخٍ كان عليه السلف؛ وجدت في هذا العصر، فمن حافظ على ضميمته في الخير كان غريباً وله ذاك الأجر إن شاء الله.(339/20)
ابتلاء الشباب وأسباب انتكاستهم
السؤال
كثير من الشباب يتعرض للابتلاء بصوره المتعددة، منهم مَن يَثْبُتُ على طريقه، ومنهم من يَنْكُصُ على عَقِبَيْه، فما نصيحتكم لكل من الفريقين؟
الجواب
أنصح إخواني بأن يتقوا الله عزَّ وجلَّ، وهذا السؤال مطروح في أي زمان ومكان.
وأما قضية من يقول: أنه يهتدي، ثم يرتد على عقبَيه، فيأتي من أسباب:
إما: أن مرض الشبهة متمكن في قلبه، لم يخرج ولو بالدعوة.
أو: أن الدعوة التي أخذته واستنقذته وجذبته؛ دعوة ضعيفة، لا تقوم على كثرة نوافل، أو عبادات، أو أوراد، أو أذكار، أو اتجاه القوة، فيمكن أن يستمر معهم فترة، ثم يترك هذا، وهذا إما من نفسه لوجود الشبهة العارمة الجياشة في قلبه، أو لأن الذين دعوه لم يكن عندهم ذاك التوجه، وتلك التربية القوية في الروح التي تجعله يصمد أمام الشبهات والشهوات.
فنصيحتي للأخ إذا اهتدى أن يكثر من النوافل، ومن الدعاء، ومن الأذكار، ومن قراءة القرآن، ومن قيام الليل، من صلاة الضحى، حتى يستمر على النهج.
أقْوَمُ ما يمكن أن يتقرب به العبد إلى الله، وأقرب الطرق إليه العبادة، قال الله للأنبياء: {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء:73] وقال في زكريا: {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء:90].(339/21)
حقوق المرأة على الرجل
السؤال
أخت تقول: نرجو من شيخنا الفاضل أن يلقي ولو كلمة بسيطة عن معاملة الرجل لأهله، ولو لم يكن ذلك مقاماً له، ولكن الحاجة ماسة لذلك، وخاصة في هذا الجمع
الجواب
كلكم أو غالبكم يعلم حق المرأة على الرجل، والله عزَّ وجلَّ ذكر ذلك في كتابه: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] هناك نصوص كثيرة، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: {الله الله في النساء! إنهن عَوان عندكم} أي: أسيرات، وقال صلى الله عليه وسلم: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} وقال في حَجة الوداع: {استوصوا بالنساء خيراً} إلى غير ذلك من النصوص، إذا عُلِمَ هذا، فحق المرأة على الرجل حقوق كثيرة:
أول الحقوق: أن يعينها على طاعة الله عزَّ وجلَّ، وأن يسلك بها الطريق المستقيم، وأن يوفر لها الإسلام الذي يريده الله في البيت، وألا يضيق عليها في عبادتها وفي سلوكها إذا أرادت الله عزَّ وجلَّ والدار الآخرة.
ومن الحقوق: حق الإنفاق أن ينفق بالتي هي أحسن؛ من كسوة، ومطعم، ومسكن طيب.
ومن الحقوق: أن يعطيها شيئاً من وقته، ومن سماحته وخُلُقه ووجهه وبذله وعطائه، كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم تُسأل عائشة عنه، فتقول رضي الله عنها وأرضاها: {كان إذا دخل علينا، دخل بسَّاماً، ضحاكاً، دعوباً، قريباً}.
في: (صحيح البخاري) في الأدب يقول صلى الله عليه وسلم: {إني لأعلم رضاكِ من غضبكِ قالت: بماذا، يا رسول الله؟ قال: إذا غضبتِ قلتِ: لا ورب إبراهيم، وإذا رضيتِ قلتِ: لا ورب محمد قالت: والله ما أهجر إلا اسمك}.
لا تحسبوا نأيَكم عنا يغيرنا إذ طالما غير النأي المحبينا
بِنْتُم وبِنَّا فما ابتلت جوانِحُنا شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا
هذا بيته صلى الله عليه وسلم يقيمه على هذا المستوى الرفيع من حسن التعامل، يأتي صلى الله عليه سلم، فيقطع اللحم مع زوجته، يَقُمُّ البيت، ويخصف النعل، ويقف معهن في حوائجهن، ويسأل عن المريضة من نسائه صلى الله عليه وسلم، قريباً حبيباً كأن اختصاصه تربية الأسرة؛ مع العلم أنه متكامل في كل اتجاهات الحياة، وأبوابها صلى الله عليه وسلم.
فهذه وصيتي لإخواني، ولعلها أن تكون بالغة منتهاها.(339/22)
عقبات الالتزام بعد الزواج
السؤال
هذا سؤال أيضاً له علاقة بالسؤال السابق، يقول سائِلُهْ: تزوجت حديثاً، وقد كنت قبل الزواج أعيش أعزب، يقول: لا أعيش إلا على طاعة الله، وحضور المحاضرات، وبعد الزواج ظهرت بعض المشكلات مع زوجتي، منها: أنها تقول: لقد تزوَّجَتْ متطرفاً أو متصوفاً فأسألك أن تنصحها جزاكم الله خيراً.
الجواب
فُهِمَ السؤالُ، وربما يكون الخطأ منك أو منها، إما أنك حملتها على الأمور التي لا تتحملها من المشقة، أو أنك نَفَّرْتَ ولَمْ تُبَشِّرْ، وعَسَّرْتَ ولَمْ تُيَسِّرْ، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {بشِّروا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا تعسِّروا} وأرسل أبا موسى ومعاذاً إلى اليمن، فقال: {بشِّرا ولا تنفِّرا، ويسِّرا ولا تعسِّرا} فربما أنك تريد إقامة أمور ليس هذا وقتها، أو أنك تريد أموراً متأخرة في الدعوة، أو في التنفيذ، جعلتها أولويات، ينبغي لك التدرج والحكمة، فالرسول صلى الله عليه وسلم أرسل معاذاً إلى اليمن، فأمره بالتدرج في الدعوة، فكان الواجب عليك وأظنك لا يفوتك هذا أن تتدرج وأن تبدأ معها بالأصول في الإسلام والفرائض، ثم تأتي إلى هذه الجزئيات والنوافل والآداب، والسلوك، فتأخذها تدريجياً على مر الأيام، أمَّا أن تجرعها التكاليف دفعة واحدة وتريد تنفيذها مرة واحدة، فليس هذا بصحيح، قال الأستاذ سيد قطب رحمه الله في مقالة -شائقة رائقة، وهي في مقدمة (الظلال) معناها: أن هذا الدين كالشجرة العظيمة، تَنْبُتُ شيئاً فشيئاً، صحيحٌ: أنها تمر عليها الريح، والشمس، وتلفحها الشمس، وربما يعتدي عليها الماء، لكنها تؤسس جذورها، هذا أشبه بالإسلام، ولكن الباطل: كالزرعة التي تنبت كنبت الربيع، تقتلها الشمس، أو يجترفها السيل، أو تحطمها الريح.
فأنت في دعوتك وفي غرس الإسلام في بيتك ينبغي أن تغرسه كالشجرة رويداً رويداً حتى ينمو ويترعرع، ويؤتي أكله.
أو يكون الخطأ منها، وهذا محتمل فقد تكون هي من بيت ما كان يعرف الإسلام إلا صلاة وعمرة وغسلاً من جنابة، ثم أتت إليك ورأت وضعك إسلامياً، وقرباً من الله عزَّ وجلَّ، فأنكرت هذا، فيكون الخطأ منها، فعليها أن تتقي الله، وأن تعينك على نفسها، وأن تتمثل الإسلام، وأن تحمد الله عزَّ وجلَّ أن الله لم يزوجها سكَّاراً مكَّاراً عربيداً، فيشقيها في الدنيا والآخرة، وهذه هي والله الخسارة أن تتزوج من يصدها عن طاعة الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.(339/23)
حكم مجلات الأزياء اقتناؤها واستخدامها
السؤال
هذا سؤال وجَّهَتْهُ إحدى الأخوات تقول: ما حكم تصفح مجلات الأزياء، وتقليد ما بها من موديلات، علماً بأن هذه المجلات تأتي من بلاد الكفر؟
الجواب
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
ليس المحظور أن تأتي هذه المجلات من بلاد الكفر، لكن المحظور مضمون هذه المجلات، وما تحمله من عري، ومن عهر، ومن فجور نسأل الله العافية والسلامة، وإدخال هذه المجلات التي تحمل صور البنات الخليعات بهذه الموديلات من أعظم المنكرات، ومن أعظم الفجور، فلا يجوز إدخالها البيوت.
وأما المرأة: فلها بأي نوع آخر أن تأخذ شيئاً، شرط أن يكون مباحاً وحلالاً، ولا يكون محظوراً من الألبسة، كالذي فيه تشبه بالرجال، أو فيه كشف لشيء من العورة، أو تشخيص للجسم بأن يكون شفافاً، فلها ذلك؛ لكن هذه الصور لا تدخلها بيتها، ولا تصطحبها؛ لأنها صور محرمة.(339/24)
الجهاد في أفغانستان
السؤال
وردت مجموعة من الأسئلة تسأل عن: حكم الجهاد في سبيل الله، خصوصاً في أفغانستان، أهو واجبٌ أم فرض عين؟ يقول: وإن كان واجباً فإن والدي لم يسمح لي بالذهاب، فهل أذهب بغير إذنه أم ماذا؟
الجواب
أما مسألة الجهاد في أفغانستان، قبل أن أتكلم في الجهاد في أفغانستان وجوباً أو فرض عين، أو فرض كفاية، أقول: على المسلم أن يتنبه لهذه القضية الكبرى، قضية المجاهدين الأفغان، هذه الأمة، الحفنة من الرجال التي خرجت ترفع السيوف؛ لترفع اسم الله على هامات النجوم، ولترغم أنف الكافر بالتراب، على المسلم أن يعيش قضيتهم، كما يعيش قضية الفلسطينيين المسلمين في أرض أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، يعيشها بكيانه، وبدعواته، وبماله، وبتحمسه، وبتوعية الناس لهذا الجهاد المقدس الذي نُفِخَ في الأمة؛ لتعود إلى كرامتها، ومجدها.
المجاهدون الأفغان أثبتوا جدارتهم في أكثر من معركة لما استعانوا بالله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهم مشكورون ومأجورون، فمشكورون منا شكراً جزيلاً؛ رفعوا رءوسنا بعد أن خجلنا واستحيينا كثيراً، من تَمَهُّن الكافر بنا، واستعباد الكافر لنا، الآن يرفعون (لا إله إلا الله) ويعلنون أنَّ (لا إله إلا الله) لا تزال تتفوق، ولا تزال بإذن الله تعلن انتصارها كلما أُذِّنَ أن (لا إله إلا الله).
أما قضية الجهاد في أفغانستان، وهل هو فرض كفاية أم فرض عين؟ فأحيلكم إلى سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز، والشيخ محمد بن صالح العثيمين، والشيخ عبد الله عزام، ومن أحيل على مليء فليَحْتَل.(339/25)
معنى التطرف والاعتدال
السؤال
وردت أسئلة تريد توضيح معنى التطرف والاعتدال، وتطلب نصيحة للشباب الملتزمين الذين تُلْحَظُ عليهم بعضُ مظاهر التشدد.
الجواب
التطرف: له حقٌ وباطلٌ:
حقه: أن هناك صوراً من صور التطرف وجدت في صدر الإسلام، وهي الخروج عن السنة، وكلما زاد أحد الناس على السنة خرج، فالسنة بين الغالي والجافي، والخوارج خرجوا عن السنة؛ لأنهم زادوا.
أولاً: ما أخذوا إلا بما يوافق ظاهر القرآن من السنة.
الأمر الثاني: في قضية الولاء والبراء: والوا أعداء الله، وتبرأوا من أولياء الله، يكفرون علي بن أبي طالب، أحد العشرة المبشَّرين والمشهود لهم بالجنة، ويذبحون عبد الله بن خبيب، ويبقرون بطن امرأته، فيخرج جنينها، ويذبحونه، ويعتذر أحد الخوارج من نصراني أخذ له تمراً من نخلته، يقول: سامحني تمرة لنصراني، ولكنه لا يعتذر من قتل مسلم، ومن تكفير علي بن أبي طالب قدم أهل العراق في عهد ابن عمر، فقالوا: [[يا بن عمر! إذا قتل المحرم بعوضة؟!]] قال: من أين أنت؟ قال: من العراق قال: قاتلكم الله! يا أهل العراق، ذبحتم الحسين بن علي، ابن بنت الرسول عليه الصلاة والسلام، وتسألونني في بعوضة؟]] فقلة الفكر في دين الله، أو أخذ العبادة منهجاً عملياً بلا علم هو تطرف؛ ولذلك الخوارج لم يدركوا حقائق العلم؛ لمن يكن عندهم فقه في الدين، يصلون ويصومون ويقرءون القرآن؛ لكن ليس عندهم فَهْمٌ ولا فقهٌ ولا حقائق، {تَحْقِرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية} إذاً وُجِد هذا؛ لكنه مَحْمَلٌ باطلٌ للتطرف، وهو ما يشُنُّه علينا أعداء الإسلام، أي: لو استقام شباب الإسلام، وأحبوا المساجد، وقاموا يحملون الدعوة الجماعية والفردية، وينشرون كتب الإسلام، وعظمة الإسلام ومَكْرُمات الإسلام يقولون: متطرفون، وهذا خطأ وباطل، وهذه تهمة لا يمكن أن يُرضى بها، والذين وجهوا التهمة، هم اليهود وأذناب اليهود.
ولو أني بُليتُ بهاشميٍّ خئولته بنو عبد المدان
لهان عليَّ ما ألقى ولكن تعالوا فانظروا بمن ابتلاني
أما الموجود الآن في الصحوة الإسلامية: فصور التطرف قليلة، يلمحها الإنسان من بادئة من الشباب في الاستقامة، يجده أن السنة: وضع اليدين على الصدر؛ لكن هو يريد أن يزيد على السنة، فيضعها على حلقه، وهذا يُخاف عليه أن يختنق، ثم يموت.
آخَرٌ: يريد أن يرصَّ قدميه بجانب صاحبه، فيرصعه رَصْعاً، ليس رَصْاً! والرص شيء، والرصع شيءٌ آخر.
رجل يُحَاجُّ في البسملة، ويقيم الدنيا في الجهر بها، وبالخفوت بها، وفي الإشارة بالأصبع، والأمهات ذُبِحت في كل مكان.
لا نقول لك: تنازل عن الإشارة، فهي سنة، ولا عن البسملة فالإخفات بها سنة؛ لكن أعط كل قضية حجمها، تحجيم القضايا، ومعرفة منازل القضايا من فقه أهل الإسلام، ومن فقه الدعاة، ومن فقه العلماء.
وُجِدَت هذه الأمور! وجد شباب يدخلون البيت، وبيوتهم كانت متخلية عن تعاليم الإسلام، فيريد أن يطبق الإسلام بين صلاة الظهر والعصر، فيقاطع أهله، ويتبرأ من أبيه وأمه من أجل سنة من السنن، حق أبيك وأمك أعظم من هذه السنة، فلا بد من إنزال هذه القضايا منازلها، لكن لا تؤخذ أنها صور (متطرفون، متزمتون، مطاوعة) حتى تغطي، لا.
إن هذه صور نادرة، ولكن الساحة والحمد لله فيها طلبة علم، ودعاة، وفقهاء، وخير كثير.(339/26)
زواج الملتزمة من غير الملتزم
السؤال
سائلة تقول: ما رأيك في زواج الملتزمة من غير الملتزم؟ وهل تؤيده؟
الجواب
غير الملتزم كلمة عامة، يعني: أن تقصد بأنه فاجر لا يصلي، فهذا أمر آخر، هذا خارج عن أبعد حدود الالتزام، وهذا لا يُقبل، فليس ممن يُرضى دينُه وأمانتُه، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الصحيح في: (الترمذي): {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته، فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض، وفساد كبير} وفي لفظ: {فساد عريض}.
أما غير الملتزم: إن كانت تقصد أنه مُخِِلٌّ ببعض السنة، وتعلم أنها تؤثر عليه إن شاء الله، فتتزوجه ولا بأس، بشرط أن يؤدي الفرائض، وأن يكون من المسلمين، فهذا لا بأس أن تتزوج به لتؤثر عليه، وإن شاء الله يكتُب الله النفعَ على يديها بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(339/27)
الغربة في طلب العلم بدون إذن الوالدين
السؤال
هل تجوز الغربة لطلب العلم، ووالدي لم يوافق على هذا؟
الجواب
إذا كان الجهاد لا يُوافَق عليه في أحاديث إلا بإذن الوالدين، فمن باب أولى العلم، فإذا لم يأذن لك أبوك في طلب العلم، فلا تذهب؛ بل اطلب ما حصل لك من العلم، وابْقَ مع والدك؛ لأنه لم يأذن لك، وبرُّ الوالد أعظم من طلب العلم؛ لأن طلب العلم الزائد على الحد الأدنى نافلة، أما علمك الذي تقوم به: صلاتك، وصيامك، فهو واجب، وقد حصل لك إن شاء الله.(339/28)
طرق الهداية كثيرة
السؤال
يقول: هو إنسان يريد الهداية، لكن لم يجد أحداً يساعده في الهداية، فماذا يفعل؟
الجواب
سبحان الله! وما لهذه الوجوه، وهذه المساجد، وهؤلاء العلماء والدعاة والمفكرون والمصلحون، لماذا وُضعوا؟ بل سوف تجد إذا وضعت يمينك في يمين أخيك، أو سألت الله الهداية، أو زرت أخاً صالحاً، أو تعرفت على الأخيار والطيبين سوف تجد من يعضدك وينصرك، ويأخذ بناصيتك، ويوجهك توجيهاً سليماً؛ لكنك يمكن أنك وقعت على أناس ليس لهم حظ في هذا الصلاح؛ فتظن أن الناس مثل ذلك، و (الطيور على أشباهها تقع) وبعض الناس لا يوفَّق إلا بأمثاله؛ ولذلك يقولون: دخلت امرأة المدينة المنورة، أظنه في عهد عمر، فرجعت مكة، فقالوا: كيف المدينة؟ قالت: صالحة، وأهلها صالحون؛ يقومون الليل، ويصومون النهار، ويصلون الضحى، وذَكَرَتْ كذا وكذا، وذهبت امرأة أخرى فسألوها عن المدينة، فقالت: ما رأيتُ في المدينة خيراً؛ أهل غناء، ومجون، وعزف، وأهل بُعد عن الله، فسألوا أحد العلماء، فقال: (الطيور على أشباهها تقع) هذه ذهبت إلى صديقاتها من المؤمنات والصالحات، فرأت الناس صلحاء، وهذه ذهبت إلى أمثالها، فرأت من مثيلاتها، فظنت أن الناس كذلك؛ فعليك أن تغير مسارك؛ لترى الهداية والنور إن شاء الله.(339/29)
مفهوم الغربة الحقيقي
السؤال
ما المقصود بالغربة في قوله صلى الله عليه وسلم: {بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ}؟
الجواب
أولاً: كلمة بدأ نُطِقَت عند المحدِّثين: بدأ، بالهمز، ونطِقَت بألفاظ صحيحة: بدا، من الظهور، وبدأ: من الابتداء شيئاً فشيئاً، والبدوّ من الظهور، كما قال عمر بن أبي ربيعة:
ولَمَّا قطعنا المِيلَ من بطن رابغٍ بَدَتْ نارُها بيضاء للمتنوِّرِ
فإن كان معنى بدا: يعني: ظهر للناس فجأة فكان غريباً، أي: غريب على الأنفس، وغريب على الناس، وغريب في الآفاق؛ لأنهم ما عهدوه، غريب في حكمهم، وفي اعتقادهم وعبادتهم، وفي أدبهم وسلوكهم.
وإن كان بدأ، بالهمز، فمعناه: بدأ قليلاً قليلاً، فكان غريباً وأصحابه غرباء، فابتدأوا غرباء مساكين، واحداً فواحداً، حتى اجتمعوا جماعة، فانتهت الغربة.
والغربة في أول الإسلام غربة استمرت نسبية حتى قضى عليها النبي عليه الصلاة والسلام وأنهاها، وما مات إلا والإسلام عزيز، والكفر هو الغريب، فلما مات بدأ الكفر يمد جذوره.
ولا بد أن يتنبه دعاة الإسلام لأمرين اثنين:
أولاً: قضية أن الساحة تصفى للإسلام، وأن العالم سوف يكون للمسلمين؛ ليس بصحيح، الكفر لا بد من وجوده، وهذه من السنن الكونية القَدَرية، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13] أي: أن الكثير لا يشكرون الله، لكن لا بد للإسلام من أرض، فلا ينمو في أذهانهم نهاية الكفر كله، ولو أن هذا ما نتمناه ونريده.
القضية الثانية: لا يحمل دعاة الإسلام على وجود الغربة أن ينزوون، ويلتفون على أنفسهم، ويقبعون في بيوتهم ويقولون: الله المستعان! ما دام أنَّا غرباء؛ فقد اغترب هذا الدين، ولا نصر لهذا الدين وانزوى هذا الدين، لا هذه نظرية خاطئة؛ لا بد أن يبذلوا جهدهم وجاههم ومالهم وكلماتهم؛ فإن الحق سينتصر بإذن الله.(339/30)
قول الشيخ في تفسير (الظلال)
السؤال
أخٌ يقول: سمعنا لكم قولاً في تفسير (الظلال) نرجو توضيح هذا القول.
الجواب
كتاب (في ظلال القرآن) للأستاذ سيد قطب: من أحسن الكتب، في ربط القرآن بالواقع، والواقع بالقرآن، وهو يقول عن نفسه: هو لم يرد أن يفسر القرآن، كـ تفسير ابن كثير، لكن أحاسيس ونسمات وخواطر عاشها هذا الرجل؛ ولا بد أن نعرف للمحسن إحسانه فنقول: أحسنت، وللمسيء إساءته فنقول: أسأت، هذا الرجل كتب كتابه وهو يتدفق معانياً كأنه يقطر من دمه، أو كأنه يكتبه برَوح وريحان، يعرف ذلك من يقرأ الكتاب، شهد له علماء الإسلام بقوته وحرارته، وشهدت قلوبنا بصدقه في كلماته، فقد عاش مجاهداً وصادقاً وداعية، أما من حيث الكلمات التي وردت في الكتاب، فليعلم السائل أن كل كتاب غير كتاب الله لا بد أن يدخله النقص، {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82] قرئت الرسالة على الإمام الشافعي خمسين مرة قال: [[خمسين مرة ما من مرة إلا أزيد وأنقص في هذا الكتاب؛ لأن الله يقول: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء:82]]] فالعصمة لكتاب الله، أما كتب البشر فكتبها بشر؛ وهناك مواضع نَبَّه عليها بعض المحدثين وقع فيها الأستاذ سيد قطب بشيء من عمد أو بغير عمد فغفر الله له؛ لكن محاسنه كثيرة.
وإذا الحبيبُ أتى بذنبٍ واحدٍ جاءت محاسنُه بألفِ شفيعِ
فمن الناس من تنغمر سيئاتهم في بحار حسناتهم، ومن الناس من تنغمر حسناتهم في بحار سيئاتهم؛ فهذا الرجل أسأل الله أن ينغمر في بحار حسناته، وأن نحكم على الناس بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف:16].
أقِلُّوا عليهمُ لا أباً لأبيكمُ مِن اللوم، أو سُّدوا المكان الذي سَدوا(339/31)
الاستهزاء بالدين وكيفية مواجهته
السؤال
يقول السائل: كثر الغرباء، وكثر المستهزئون بالدين كما ذكرتُم، كيف لنا أن نواجه المستهزئين، خصوصاً وأنهم إما إخوة، أو آباء أو أمهات؟ وهل يجوز أن نستخدم الشدة معهم إلى أن يستجيبوا لنا؟
الجواب
أولاً: مما يُطرح للدعاة -وهذا أمر معروف- أن اللين مطلوب، كلُّ حكمةٍ لِيناً، ولا كلُّ لِيْنٍ حكمةً، فالله يرسل موسى عليه السلام إلى أكبر طغاة الأرض، (إلى فرعون) فيقول له: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً} [طه:44] أي: لفرعون الذي مزق الأعراض، وداس التاريخ {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] قولاً ليناً أي: أن تكنيه بكنيته، وكنية فرعون -كما قال سفيان الثوري، عند ابن كثير - أبو مُرَّة مرر الله وجهه في النار، فيقول موسى: يا أبا مُرَّة ذلك لفرعون، فما دام هذا الخطاب لفرعون فكيف بأحبابنا، وأهلنا، وجيراننا؟
أما مسألة الاستهزاء: فهذه حقيقة من الحقائق، وهي سنة من سنن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يوجد من يستهزئ بالمستقيمين، وبالملتزمين قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] قال ابن تيمية: هادياً يهدي قلبه، ونصيراً ينصره في شريعته، أو في سيرته أو كما قال.
هذا أمر، فإذا تكفل الله لك بالهداية والنصرة، فما عليك ممن يستهزئ بك من الناس، فإنك على خير، لكن ليعلم هذا المستهتر أن هذا الاستهزاء يؤدي به إلى الكفر كما قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] لأنك تستهزئ أيها المستهزئ بالإسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم، بالرسالة الخالدة، بـ الكعبة المطهرة، بهذا الكيان العالمي الذي تركه صلى الله عليه وسلم.
ثم أنبه الإخوة ألا يجعلوا للناس طرقاً إلى أن يستهزئوا بنا؛ السنة معروفة، وهي جمال وكمال وجلال؛ لكن إذا تجاوزنا السنة، أو زدنا على السنة، أو نزلنا عن السنة، استهزأ بنا الناس، الثوب كما تعرفون إلى نصف الساق، ولك إلى ما فوق الكعبين، لكن أن تجعله إلى الركبة فهو فَنِيْلَة، وليس بثوب فيُعذَرُ الناسُ إن استهزءوا، وهذا معروف فالسنة لا يستهزئ بها أحدٌ، لكنك لا تجد من يستهزئ إلا إذا تجاوز الإنسان، إما خرج طولاً أو عرضاً.(339/32)
الحث على التبرع للمجاهدين في أفغانستان
السؤال
نرجو من فضيلة الشيخ حث الإخوة على التبرع، للإخوة المجاهدين في أفغانستان، خصوصاً وأنه يوجد الآن على الأبواب بعض الإخوة المستعدين لاستقبال التبرعات.
الجواب
وأنا بدوري أسأل الله أن تكون في ميزان الحسنات؛ لأن أولئك جاهدوا بدمائهم، وجاهدوا تحت حرارة الشمس، وعلى الرمضاء، ومع الجوع والظمأ، ونحن إذا تكلمنا تكلمنا في مكان طيَّب نقي نزيه، فنحن ندعو أنفسنا وإياكم إلى التبرع لهؤلاء المسلمين المجاهدين في أفغانستان، علَّ دراهمك هذه أن تقتل عميلاً شيوعياً، أو معادياً لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أو ترفع كلمة (لا إله إلا الله) وما يدريك لعلها نجاتك إن شاء الله.(339/33)
حكم المساهمة في الشركات
السؤال
يقول السائل: كما تعلمون كَثُرَتِ الشركاتُ والمؤسساتُ، سؤالُنا: ما حكم المساهمة في تلك الشركات والبنوك والمؤسسات؟
الجواب
هذا سؤال مركب، ليس بسيطاً.
أما البنوك: فإن كانت ربوية؛ فلا يجوز التعامل معها.
وأما الشركات: فإن كانت مساهِمة على نظام المضارَبة في الإسلام؛ فجائز، وإن كان على النظام الربوي فحرام، والفرق بين المضاربة والربا: أن الربا يشرط لك الفائدة والربح، والمضاربة: أنت وحظك، أو أنت ورزق الله لك، إن خَسِرَتِ الشركةُ خَسِرْتَ، وإن رَبِحَتْ رَبِحْتَ، وهذا نظام المضاربة، ولا بأس بالمشاركة فيها.(339/34)
ترحيب بالشيخ وقصيدة في الشيخ/ ابن باز
السؤال
أخٌ عَبَّر عن مشاعره بحضور الشيخ إلى هذا المسجد، بقوله شعراً:
حللت أهلاً يا أُخَيَّ ومرحباً في مسجد الفاروق (قد) حققت المنى
في كِلْمة للنصح قد أهديتَها لقلوبِ قومٍ زادها حُبُّ لنا
فجزاك ربُّ العالمين بعدلِه وجزاك عن قولٍ فصيحٍ قد سنا
وأخٌ يطلب القصيدة التي قلتموها في فضيلة الشيخ عبد العزيز بن باز أطال الله عمره في طاعة الله.
الجواب
أما الأخ هذا الذي رحَّب، فحياه الله وبياه، وقد زاد في البيت الأول قد, وهي تحذف؛ لأنها كسرت البيت، فأصبحت كالآجرة أو كالصخرة وسط الجدار، فعليه أن يحدف (قد).
وأنا أرد عليه أقول:
يا رياض الخير قد جئتُ وفي جُعبتي أبها بلقياكِ تسامى
حَلَفَتْ لا تشرب الماءَ ولا تأكل الزادَ ولا تلقى مناما
أو ترى الأحبابَ في نجد فإن لم تجدْهم صار ممساها حراما
أنا قد أحببتُكم في الله ما كان حبي في سواه يتعامى
وأما قصيدة سماحة الشيخ فتكررت كثيراً، لكن:
كرِّرِ الفن يا جميلَ المُحَيَّا وتدبَّره فالمكرَّرُ أحلى
أو العلم، هذا فن الإسلاميين، لا فنُّ المغنِّين والمغنيات، والماجنين والماجنات، فهم لا يعرفون الفن، ولا الجمال، ولا الحب، ولا الطموح.
قاسمتُك الحبَّ مِن ينبوعِه الصافي فقمتُ أنشدُ أشواقي، وألطافي
لا أبتغي الأجرَ إلا مِن كريمِ عَطاً فهو الغفورُ لزلاَّتي، وإسرافي
عفواً لكَ اللهُ قد أحببتُ طلعتَكم لأنها ذكَّرَتْني سَيْرَ أسلافي
يا دَمْعُ، حَسْبُك بُخلاً لا تجودُ لِمَنْ أجرى الدموعَ كِمِثْلِ الوابِلِ السافي
يا شيخُ يكفيكَ أن الناس قد شغلوا بالمغرياتِ وأنتَ الثابتُ الوافي
أغراهمُ المالُ، والدنيا تجاذبُهم ما بين منتعِلٍ منهم ومِن حافِ
مجالسُ اللغو ذكراهم وروضتُهم أكلُ اللحوم كأكلِ الأغطف العافي
وأنتَ جالستَ أهلَ العلم، فانتظَمَتْ لكَ المعالي، ولَمْ تُولَعْ بإرجافِ
بين (الصحيحين) تغدو في خمائلها كما غدا الطَّلُّ في الرافي
تشفي بفُتياكَ جَهْلاً مُطْبِقاً وترى من دقَّةِ الفهمِ دُرَّاً غير أصدافِ
إلى آخرها.(339/35)
فضل العلم وطلبه
السؤال
أخٌ يقول: من المعروف فضل العلم، وفضل طلبه والإخلاص فيه؛ لذا نريد منكم التكرم بإلقاء كلمة في ذلك، وذكر بعض مذاكرة السلف للعلم ومراجعته، وكذلك مذاكرتكم أنتم للعلم، ومن دل على خير فله أجر فاعله.
الجواب
هذا السؤال يحتاج إلى محاضرة كاملة، ولكن يُجاب عليه بمجمله، وهو أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى حث على فضل العلم، ويكفي شرفاًَ لطلبة العلم أن يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18] ويقول: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ} [القصص:80] وقال: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] إذا علم هذا؛ فطلب العلم من أعظم القربات بعد الفرائض إلى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد:19] وحق على المسلم أن يبذل جهده وطاقته في طلب العلم، وخاصة الدعاة الذين يتصدون إلى دعوة عباد الله عزَّ وجلَّ، يقول أبو إسحاق الألبيري يوصي ابنه بطلب العلم فقال:
هو العضب المهنَّدُ ليس يَنْبُو تصيبُ به مضاربَ مَن أردتا
وكنزٌ لا تَخاف عليه لِصاًَ خفيفُ الحملِ، يوجَد حيثُ كنتا
يزيدُ بكثرة الإنفاق منهُ وينقُص إن بِه كفَّاً شددتا
فبادِرْه، وخذْ بالجُهد فيهِ فإن أعطاكَهُ الله انتفعتا
وإن أوتيتَ فيه طويلَ باعٍ وقال الناس: إنك قد رأستا
فلا تأمن سؤالَ الله عنهُ بتوبيخٍ: عَلِمْتَ فهل عَمِلْتا
ثم يقول:
إذا أرداكَ فَهْمُكَ في مَغاوٍ فليتَك ثم ليتَك ما فَهمتا(339/36)
نصيحة لولاة الأمور لتسهيل الزواج
السؤال
أخٌ يقول: لو أسديتم نصحاً لولاة الأمر لتسهيل أمور الزواج؛ لأن غلاء المهور يُعْتَبر من الأسس التي تثقل كواهل الشباب فالشاب يحتاج إلى عمر طويل لبناء بيت الزوجية.
الجواب
وأنا أشارك السائل في دعوة ولاة الأمور أن ينتبهوا لهذه المسألة بوسائل، إلى أن يخفف على الشباب، وعن كواهلهم هذه المبالغ الباهضة التي أحبطت المسعى، وكان من نتائجها: أن تنتشر الفاحشةُ والانحرافُ بين الشباب والشابات، فحُق على كل مسئول أن يسعى في تسهيل هذه المهمة ليكون الزواج مُيَسراً ومُسَهَّلاً، والله من وراء القصد.(339/37)
سنة صلاة العشاء
السؤال
السائلة تقول: لاحظَت أن بعض النساء في المسجد، بعد أذان العشاء مباشرةً قُمْنَ وصَلَّيْنَ، فنحن نعلم أنه ليس قبل العشاء سنَّة، ولكنا لا حظنا هذه الظاهرة كثيراً.
فنرجو توضيح الأمر منكم للسائلة ولَهُنَّ.
الجواب
قبل صلاة العشاء، ليس هناك سنة راتبة، لكن حديث عبد الله بن مغفل المزني في: (صحيح البخاري): يقول صلى الله عليه وسلم: {بين كلِّ أذانَين صلاة، بين كلِّ أذانَين صلاة، بين كلِّ أذانَين صلاة لمن شاء كراهية أن يتخذها الناس سنة} فالمرأة التي قامت لا يُعنَّف عليها، ولا يُعابُ عليها، فهي على سنة، لكن ليست هذه السنة الراتبة، وإنما هي نافلة تَنَفَّلَتْها، وقد أصابت على حسب الحديث، ولو جَلَسَتْ تستمع الذكر أو العلم كان أحسن لها وأنفع.(339/38)
الفرق بين غربة الدين وغربة الوطن
السؤال
يقول: ما الفرق بين غربة الدين وغربة الوطن والأهل؟ وما معنى الإسلام بين غربتين؟
الجواب
غربة الوطن، هي غربة الترابيين الماديين؛ أهل الطين والحجارة، وأما المسلم وطنه كل وطن للإسلام.
وأينَما ذُكِرَ اسمُ الله في وطنٍ عَدَدْتُ ذاك الحمى مِن صُلبِ أوطاني
كل سماء في السماء لنا، وكل أرض في الأرض لنا نحن المسلمين، فليس هناك غربة وطن، ولو أنها تسمى لغوياً، وتداولت بين السلف، وبكاها الشعراء؛ لكنها غربة تنبي عن قلة الهمم.
أما غربة الدين: فهي التي يتوقد لها الإنسان حماسة، ويقوم بمواصفات هذه الغربة، وكيف يعيش الغربة
وغربة الأهل: غربة الأهل وردت؛ لكنها غربةٌ نسبيةٌ بسيطةٌ، تطلَقُ في اللغة، أما الغربة إذا أطلقت إطلاقاً عاماً فهي غربة الإسلام، القضية الكبرى، رسالتك في الحياة، دمك، ومجدك، وعظمتك هو هذا الدين.(339/39)
الزواج برجل تارك للصلاة
السؤال
أختٌ تقول: تزوَّجَتْ من رجل ترك الصلاة، وعلمت بعد ذلك أن عقدها باطل، وقد أرادت تجديد العقد، فلما طلبت من ولي أمرها رفض ذلك، وقال لها: هؤلاء الأولاد الذين جاءوا منكما ما الحكم فيهم؟ زاعماً عدم صحة الحكم، فماذا تفعل؟ هل يكفي أن تجدد عقدها بولاية ابنها، وعمره: (19) عاماً؟ ثم ما الحكم فيما مضى من عمرها معه؟ هل عليها شيء ما إذ أن زوجها تاركٌ للصلاة طوال تلك المدة، ولم تنفصل عنه؟ والآن صار يصلي والحمد لله؟
الجواب
هذه المسألة خلافية، وأنا أعتذر من الإجابة عن هذا السؤال؛ لأن فيه خلافاً كثيراً، وهو يعود إلى أصل أصيل في التفسير، وقد علمَ من فتاوى كثير من أهل العلم أنه مضطرب، لكنه يحتاج إلى تحرير، وإلى إجالة نظر، وإلى ترتيب في الأفكار، حتى لا يجابَ على عجالة، فيترب على ذلك إلزامات قد تضر.(339/40)
اختيار الزوج من قبل أولياء الأمور
السؤال
ما توجيهكم لأولياء الأمور من حيث الحرص والتأكد من استقامة الدين؛ من حيث الصلاة خصوصاً؟
الجواب
مرَّ هذا {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته، فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير} مرَّ هذا، وأن عليه -ولي الأمر- أن يتقي الله في ابنته، ألا يزوجها إلا مسلماً يريد الله والدار الآخرة.(339/41)
حكم وجود الخادمة الكافرة في المنزل
السؤال
ما حكم وجود الخادمة في المنزل؟
الجواب
المسلمة: أمرها سهل، لكن بشرط ألا يُنظر إليها، وتكون محجبة مع وجود ذي محرم لها، فإذا تعذر ذلك، كانت في مكان خاص لا يكشف عليها الرجل أبداً، وهذه الخادمة لا تدخل إلا لضرورة، كأن تكون المرأة مريضة، أو لا تستطيع الخدمة في البيت من طبخ ونحوه، أو مشغولة بتدريس أو تعليم، فللزوج ذلك، وحبذا أن تكون مسلمة.
والكافرة: لا أعلم تفريقاً، خاصةً إذا كانت كتابية، لا أعلم تفريقاً بينها وبين المسلمة؛ لأنه يتزوج بها، والزواج أعظم، لكن في الخدمة تأخذ حكم المسلمة -فيما أعرفه- وتدخل بشرط الحجاب، والتستر عن عين هذا الرجل؛ لأنه أجنبي عنها، وإذا وُجد المحرم فهو جيد، بشرط الضرورة.(339/42)
استخدام اليهود والنصارى
السؤال
فضيلة الشيخ! هذا الحديث خاص باليهود والنصارى في الاستخدام، ولكن هناك ناس يستخدمون غيرهم من الكفار.
الجواب
لا يجتمعان ديناً، لكن استخدام أهل الكتاب وارد، والزواج من أهل الكتاب وارد، وأكل لحوم أهل الكتاب وارد، وقد ورد أن كثيراً من الصالحين، من السلف استخدموا أهل الكتاب.(339/43)
الانتقادات الخاطئة عند الشباب
السؤال
مِن الناس مَن إذا رأى اهتمام الشباب بكتب السلف قال: تريدون أن تخرجوا ديناً جديداً، ومِنهم مَن يُشَكِّك في دُور النشر، وأنها للتجارة، ويقول لأصحاب التسجيلات: غرضهم للتجارة، ما نصيحتكم لهؤلاء؟
الجواب
أما الذي يُشَنِّع على الشباب إن عادوا إلى كتب السلف: فهو المشَنَّع عليه (رمَتْنِي بدائها وانسَلَّتْ) بل من أصالة طالب العلم أن يعود إلى كتب السلف، والضعف، في بعض شباب الإسلام: إما أن يتجه إلى العلم المؤصَّل، وهو مطلوبٌ في أي زمان ومكان، لكنه ينفصل عن الواقع تماماً، فلا يعيش مشكلات العصر، ولا ما يُطرح في الساحة، ولا ما يُورَد على المسلمين، فيبقى مبتوراً من المجتمع، أو يعيش في معرفة الواقع، وينقطع عن كتب السلف، فيبقى ضعيفاً هزيلاً، لا يمكن أن يجد الحلول لهذه المشكلات.
أما كتب دُور النشر والطباعة، وأنها تريد المال: فإنما الأعمال بالنيات، وإذا أرادت المال: فمَن مَنَعَها؟ المال تجارة ويُطلب، لكنه ليس لهم أجر عند الله عزَّ وجلَّ حصل أجرهم بكتبهم هذه، وبيعها، والمؤلف الذي يؤلف ليحصل مالاً حصل له المال ولا يحصل له أجرا.
كذلك التسجيل: فالأعمال بالنيات، إن أرادوا نشر الشريط الإسلامي والدعوة وتسهيل العلم؛ فلهم مرادهم وأجرهم، وإن أرادوا التكسُّب فلهم كسبهم، لكن ليس لهم أجر إلا بنسبة ما أرادوا به الأجر من الله عزَّ وجلَّ.(339/44)
الرد على من يقول: إن الإسلام دين رجعي
السؤال
فضيلة الشيخ، بعضهم يقول: إن الإسلام رجعي، فبم نرد عليه؟
الجواب
يقول الأخ: إنهم يقولون: الإسلام دين رجعية؛ لا يقول هذا إلا المتخلف، صاحب الفكر العفن، وإلا فهو لا يعرف الإسلامَ، وما درى عن الإسلامَ، وأكثر من يشنع على الإسلام الآن: نعرفهم والله، أحدهم لا يجيد قراءة الفاتحة، ولا يعرف كتاباً، يقرأ فيه على حله وترحاله، ولا يعرف حتى سيرة كثير من عظماء الإسلام، ولا يعرف أثر الإسلام في سلوكه وأدبه ومعتقداته وعبادته هذا بدائيُّ، يَهْرِفُ بما لا يَعْرِف، وعليه أن يتعلم قبل أن يتكلم.(339/45)
كثرة الوقوع في المعاصي وعلاج ذلك
السؤال
شابٌّ يشكو من كثرة وقوعه في المعاصي، كلما هرب منها رجع إليها مرة أخرى، خصوصاً مشاهدة المسلسلات التمثيلية في التلفزيون، وغير ذلك.
الجواب
الأخُ يشكو من كثرة المعاصي، وكلنا ذاك الرجل، ونحن مبتلَون بالمعاصي؛ لكن يجب أن نتقي الله عزَّ وجلَّ، وهناك حصون، منها:
الحصن الأول: كثرة النوافل كما أسلفتُ.
الحصن الثاني: التوبة.
الحصن الثالث: الاستغفار.
الحصن الرابع: صحبة الصالحين.
الحصن الخامس: التخلي عن المعاصي، كالنظر، وسماع الغناء، ورفقة الأشرار.
لكنني أنصحك كثيراً بالابتهال إلى الله أن يهديك سواء السبيل، والإكثار من قراءة القرآن.(339/46)
قصائد للشيخ
السؤال
خاتمة المطاف في هذه الأسئلة: سؤالٌ موجَّهٌ، أو طلبٌ موجَّهٌ إلى فضيلة الشيخ بإلقاء القصيدة التي قالها أثناء سفره إلى أمريكا، أو القصيدة التي قالها في المجاهدين الأفغان.
الجواب
القصيدة التي في أمريكا: قصيدتان، جِدِّيَّة، وهزْليَّة، الجِدِّيَّة تخاطب الأمة الإسلامية، كانت في مؤتمر أوكلاهوما للشباب العربي المسلم:
يا أمة ضرب الزمان بها جموح المستحيل
وتوقف التاريخ في خطواتها قبل الرحيل
سكبت لحون المجد في أذن المجرة والأصيل
وسقت شفاه الوالهين سلافة من سلسبيل
يا أمة ضرب الزمان بها جموح الكبرياء
رأس الدعي على التراب ورأس عزمك في السماء
لو كان مهرك يا مليحة من براكين الدماء
لهفا إليك اللامعون وفر منك الأدعياء
يا أمة كم علقوا بكيانها خيط الخيال
وهي البريئة خدرها فيض عميم من جلال
شاهت وجوه الحاقدين بكف خسف من رمال
موتاً أتاتورك الدعي كموت تيتو أو جمال
يا أمة في عمرها لم تحي إلا بالجهاد
كفرت بمجلس أمن من نصب المنايا للعباد
القاتلي الإنسان خابوا ما لهم إلا الرماد
جثث البرايا منهم في كل رابية وواد
ما زرت أمريكا فليـ ست في الورى أهل المزار
بل جئت أنظر كيف ند خل بالكتائب والشعار
لنحرر الإنسان من رق المذلة والصغار
وقرارنا فتح مجيد نحن أصحاب القرار
ورأيت أمريكا التي نسجوا لها أغلى وسام
قد زادني مرأى الضلا ل هوىً إلى البيت الحرام
وتطاولت تلك السنون فصار يومي مثل عام
ما أرضهم أرض رأيت ولا غمامهم غمام
أما الهزلية: فأذكر بعض الأبيات لأنها لا تخلو من فوائد! إن شاء الله:
يقول عائض هو القرني أحمد ربي وهو لي ولي
مصلياً على رسول الله مذكراً بالله كل لاهي
قد جئت من أبها صباحاً باكراً مشاركاً لحفلكم وشاكراً
وحملتنا في السماء طيارة تطفح تارة وتهوي تارة
قائدها أظنه أمريكي تراه في هيئته كالديك
يا سائل الأخبار عن أمريكا اسمع رعاك الله من يفتيكا
وهذه أخبار هذى النشرة مسافة السير ثلاث عشرة
من الرياض عفشنا ربطنا وفي نيويورك ضحىً هبطنا
أنزلنا في سرعة وحطنا وقد قصدنا بعدها واشنطنا
ثم ركبنا بعدها سيارة مستقبلين جهة السفارة
منزلنا في القصر أعني ريديسون يا كم لقينا من قبيح وحسن
وبعدها زرنا مباني الكونغرس ولم نجد مستقبلاً ولا حَرَسْ
بها ملايين حوت من الكتب في كل فن إنه هو العجب
في بلد أفكاره منكوسة تثقله بصائر مطموسة
يقدسون الكلب والخنزيرا ويبصرون غيرهم حقيرا
ما عرفوا الله بطرف ساعة وما أعدوا لقيام الساعة
فهم قطيع كشويهات الغنم جد وهزل وضياع ونغم
فواحش قد أظلمت منها السما والأرض منها أوشكت أن تقصما
من دمر العمال في بولندا ومن أتى بالرق في يوغندا
من دمر البيوت في نزاكي من ضرب اليونان بالأتراك
من الذي ناصر إسرائيلا حتى تصب عنفها الوبيلا
استيقظوا بالجد يوم نمنا وبلغوا الفضاء يوم قمنا
منهم أخذنا العود والسيجارة وما عرفنا نصنع السيارة
ومنها:
ومعنا في صحبنا العجلان أكرم به مع العلا جذلان
وصالح المنصور من بريدة يشبه سعداً وأبا عبيدة
والشهم عبد القادر بن طاشي ذو القلم السيال في انتعاش
فهو أبونا في مقام الترجمة لأننا صرنا صخوراً معجمة
وأما قصيدة الأفغان فمن أبياتها:
يا أمة النصر والأرواح أثمان في سدّة الرّعب ما هانوا وما لانوا
هم الرعود ولكن لا خفوت لهم خسف ونسف وتدمير وبركان
كم ملحد ماجن ظن الحقوق له زفوا له الموت مرا وهو مجان
وبلشفي أتى كالعير منتخيا رأى المنايا فأضحى وهو جعلان
ردوه كالقرد لو بيعت سلامته بشعبه لشراها وهو جذلان
فروا على نغم البازوك في غسق فقهقهت بالكلاشنكوف نيرانُ(339/47)
الاعتصام بالكتاب والسنة
الاعتصام بالكتاب والسنة طريق واحد يوصل إلى الجنة، ومن حاد عنهما أو عن أحدهما خاب وخسر في الدنيا والآخرة، وقد دلت الأدلة والآثار على تلازمهما معاً ووجوب الاعتصام والتمسك بهما، ولا يجوز بأي حال من الأحوال التقديم على قول الله وقول رسوله.(340/1)
الحث على اتباع الكتاب والسنة
الحمد لله الهادي، والصلاة والسلام على خيرة الحواضر والبوادي، أفصح من تكلم بالنوادي، ما هطلت الغوادي، وما صارت بذكره الأفئدة من كل مسلم إلى شريعته حادي.
سلام الله عليكم ورحمته وبركاته:
ولما جلسنا مجلساً طله الندى جميلاً وبستاناً من الحب دانيا
أثار لنا طيب المكان وحسنه منىً فتمنينا فكنت الأمانيا
وأمانينا معكم هذه الليلة أن يجمعنا الله بكم في دار الكرامة في مقعد صدق عند مليك مقتدر، يوم يتقبل الله منا أحسن ما عملنا، ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
وعنوان هذه المحاضرة: الاعتصام بالكتاب والسنة وهذا موضوع خطير وكبير، أما خطورته فلأنه يتعرض لضربات من أهل البدع والضلال على مر العصور والدهور والأعوام والأيام، وأما كونه كبيراً فلأنه شغل كثيراً من علماء الإسلام حتى خصصوه بالتأليف، وكتبوا فيه مجلدات، وكانت مجالسهم تدار فيها مواضيع مسألة الاعتصام بالكتاب والسنة.
وفي هذا الموضوع ثلاثة عناصر:
العنصر الأول: الحث على اتباع الكتاب والسنة.
العنصر الثاني: حرص السلف الصالح على الاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم.
العنصر الثالث: النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله، والتكلف والتعمق والتنطع، ووجوب الاكتفاء بالكتاب والسنة.
فإلى هذا الحديث الشائق الذي بكم يشوق، وإلى هذا المجلس الرائد الذي بكم يرود؛ نتكلم عن مسائل هذا الموضوع سائلين المولى أن يثبتنا وإياكم، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
إن الله يمدح الذين يتمسكون بالكتاب والسنة، وسر أصالة هذه الأمة وعمقها وتوجهها هو الكتاب والسنة ولذلك عندما كان أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم مكتفين بثقافة محدودة مضبوطة معينة؛ كانوا مرشدين مسددين مهديين، فلما كثرت الثقافات على القرون التي بعدهم، ودخلت البدع، وترجمت كثير من المقالات والكتب؛ دخل الزيف والدخن والدخل، ويظن كثير من الناس أن كثرة الثقافات الغريبة الوافدة بركة ونور، ولم يعلموا أنه تدهور وتورط للأمة إذا صدفت عن كتاب الله عز وجل.(340/2)
بيان اقتران القرآن والسنة معاً
وقد بدأت الأمة مع محمد صلى الله عليه وسلم بالكتاب والسنة، ثم وصلت إلى عهد المأمون يوم ترجمت الكتب؛ فأتت البدعة، قال الله: {وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ} [الأعراف:170] قال أهل العلم: يمسِّكون صيغة مبالغة، ومعناها: يتقيدون بأوامر الكتاب -وللفائدة: يقول أهل العلم: إذا ذكر الكتاب مجرداً فالسنة تدخل معه تبعاً، وإذا ذكرت السنة أصلاً فالكتاب يدخل معها دخولاً أولياً-.
وقد قيل للإمام مالك: ما النجاة؟ قال: السنة، سفينة نوح من ركب فيها نجا، ومن تخلف عنها هلك.
وقالوا لـ علي وهو على منبر الكوفة: [[ما النجاة؟ قال: الكتاب]] يعني القرآن قال ابن تيمية: لا يعنى بالكتاب إذا عني به أو قصد أو تكلم فيه أن يقتصر عليه، فإنه لو اقتصر عليه كان ضلالاً لمن اقتصر عليه -أعني وترك السنة- أي: تركه للسنة ضلالاً لا تقيده بالقرآن ولذلك يأتي من أمثال الخوارج، وصاحب الكتاب الأخضر من يدعون إلى التقيد بالكتاب لا بالسنة.
قال ابن تيمية: الخوارج يأخذون بظواهر القرآن ولا يأخذون بالسنة التي ليست في القرآن ودخل رجل من أجدادهم وأسيادهم وعملائهم مع عمران بن حصين -والحديث في السنن فقال: [[يا عمران! من أين هذه الأحاديث التي تتحدثون بها، ونحن لا نجدها في القرآن؟ قال عمران: أتجد في القرآن أن صلاة الظهر أربعاً؟ قال: لا.
قال: أتجد أنصبة الزكاة في القرآن؟ قال: لا.
قال: أتجد أحكام الصيام في القرآن؟ قال: لا.
قال: ما أسمعنا الرسول صلى الله عليه وسلم أسمعناكم، وما تركه صلى الله عليه وسلم تركناه، وما كان ربك نسياً]] وهذه المقولة لـ ابن عباس ولـ عمران بألفاظ مختلفة.(340/3)
الرسول صلى الله عليه وسلم هو القدوة المصطفاة
يقول تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12] قال أهل العلم: أي بحزم وجد وصرامة، وهي جدية الالتزام في أخذ التلقي من الكتاب والسنة؛ لنكون أمة جادة في أخذ تعاليمها من كتاب الله عز وجل ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم والله يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] فهو كتابٌ يتكلم، ونبي يترجم، ولو كان الكتاب يكفي لنزل ووزع نسخاً على الناس، ولو كان الرسول يكفي بلا كتاب لتكلم بما في ذهنه، ولكن: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} [النجم:4 - 6] فإمامنا وقدوتنا محمد رسول الله.
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
فهو صلى الله عليه وسلم معصوم، حتى يقول الإمام مالك لتلاميذه وهم يعرضون عليه الأقوال: كل يؤخذ من كلامه ويرد إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام وقال الإمام أحمد لما سئل: يا أبا عبد الله! أيهما أفضل: التبتل أو الزواج؟ والله عز وجل يقول: {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران:39]؟ أي: يحيى.
فيمدح الله يحيى، ويقول: سيداً، أي: الذي اكتملت فيه المروءة والسؤدد، وحصوراً أي: لا يأتي النساء.
قال ابن عباس: لم يكن مع يحيى إلا مثل هذا -يعني: آلة الجماع- ورفع شقصاً من الأرض.
فهذه الآية تدل على أن التبتل أفضل، قال الإمام أحمد: لا.
يقول الله عز وجل: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] فقال السائل: إن إبراهيم بن أدهم يقول: ترك الزواج أفضل، فقال الإمام أحمد: أوه! وقعنا في بنيات الطريق، عليك بالمشرب الأول أي بمحمد عليه الصلاة والسلام، فإذا ما أتى الدرهم على سكته مختوماً بخاتم محمد صلى الله عليه وسلم وإلا فهو درهم زائف لا يباع به ولا يشترى؛ لأنه صلى الله عليه وسلم المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، فالله جعل القدوة به.(340/4)
أنواع الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم
قال بعض العلماء من أهل السلوك: الاقتداء به صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أضرب:
أولاً: اقتداء به في المعتقد وقد ضل فيه أهل الأهواء في العقيدة؛ كـ الخوارج والرافضة والأشاعرة والمعتزلة.
ثانياً: الاقتداء به في السلوك وقد ضل فيه قوم؛ كضلال أهل الرهبنة من غلاة الصوفية وأمثالهم.
ثالثاً: الاقتداء به في الأحكام وقد ضل فيه قوم من أهل السياسات الذين خالفوا فيها سياسته الشرعية.
وربما ندخل على ذلك: الاقتداء بالأقوال، وقد ضل فيها بعض المتفقهة الذين جانبوا النصوص عن غير عمدٍ، وإنما تأول يؤجرون عليه أجراً واحداً، لكن لا يسوغ أن نقلدهم في خطئهم، كما بين ذلك شيخ الإسلام في رسالة رفع الملام عن الأئمة الأعلام: قال الله عز وجل: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب:36] ومعنى الآية: إن الأمر إذا أتى من الله عز وجل، ومن رسوله عليه الصلاة والسلام ظاهراً لا يقبل التأويل، أو لا يحتمل أوجهاً غير وجه واحد؛ فإنه لا يسع المسلم أن يميل عن الوجه الذي يقصده الله أو رسوله صلى الله عليه وسلم.(340/5)
الاتباع والتسليم دليل التصديق والمحبة
دعي صلى الله عليه وسلم في يوم من الأيام ليفصل خصومة بين أنصاري والزبير، فذهب صلى الله عليه وسلم، ووقف على الماء فقال الأنصاري: {يا رسول الله! إن الزبير يحبس الماء عن مزرعتي، فأمر الزبير أن يترك الماء يمر على مزرعتي.
فقال: يا زبير! اترك الماء حتى تروى مزرعتك، ثم أطلقه للأنصاري فغضب الأنصاري -وأتته نعرة الجاهلية، وتكلم مع سيد البشرية- وقال: أإن كان ابن عمتك؟!} لا إله إلا الله! أعدل وأبر أهل الأرض، وأخشى أهل الأرض يميل مع ابن العمة وابن الخالة! وهو الذي يعلنها صريحة أمام العالم من على منبره في المدينة: {والذي نفسي بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها} قال الزهري: وحاشاها أن تسرق.
لكنه العدل.
وليته يوم قال الكلام كان صحيحاً؛ غير أنه ظلم وحاد.
فغضب عليه الصلاة والسلام فقال: {يا زبير! اسقِ حتى يعود الماء إلى الجدر، ثم اترك الماء يمر} قال أهل العلم: أول كلامه صلى الله عليه وسلم كان صلحاً يصالح بينهما، والثاني كان حكماً أنزله الله على لسانه والحديث عند البخاري فنزل قوله تعالى: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] فمن حكمك في لا إله إلا الله؛ فعليه أن يحكمك في كل مسألة أتيت بها؛ لأنك عدل لا تظلم عليه أفضل الصلاة وأتم السلام.
وقال الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [آل عمران:31] قال ابن كثير، وابن جرير: نزلت هذه الآية في قوم ادعوا محبة الله فابتلاهم الله بهذه الآية، فقال الله عز وجل: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31]
يا مدَّعٍ حب طه لا تخالفه فالخلف يحرم في دنيا المحبينا
أراك تأخذ شيئاً من شريعته وتترك البعض تدويناً وتهوينا
خذها جميعاً تجد فوزاً تفوز به أو فاطرحها وخذ رجس الشياطينا
إما شريعة مقدسة، واتباع خالد، وإلا فانتهاء وارتداد ونكوص عن الطريق المستقيم، ولذلك لم يقبل الله دعواهم ولم يرض قولهم، ولم يعجبه حبهم: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} [المائدة:18].(340/6)
وصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الحث على التمسك بالكتاب والسنة
قال الإمام مالك: بلغني أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي} وهذا الحديث من بلاغات مالك بسند منقطع، وكل موطأ الإمام مالك موصول -كما قال ابن عبد البر - إلا ثلاثة أحاديث، منها هذا الحديث، فقد انقطع على ابن عبد البر، وهو جهبذ حاذق علامة، لكن أعيته الحيل أن يصله، فما وجد حبلاً يشدها إليها، فقال: ما وجدت ما أصل به هذه الآثار، منها هذا، ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: {إني لأنسى لأسن} وفي لفظ: {إني لأنسى أو أنسى لأشرع} وهذه ضبطها ابن الأثير، (أُنسى) أي: أنه ينسيه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ليشرع والمقصود أن هذا الحديث ضعيف، لكن له شاهد عند الحاكم بسند صحيح، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {يا أيها الناس! تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وسنتي} وعند الترمذي بسند ضعيف أيضاً عن جابر: {إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي} قال الخطابي: عترته صلى الله عليه وسلم يؤخذ منهم العلم، وقيل يقدرون ويوقرون، فهو من أسباب النجاة التي ينجو بها العبد: {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى:23].
أما التمسك بالكتاب فمفهوم، لكن قوله: (عترتي أهل بيتي) معناه: أن تأخذوا العلم من علمائهم، وإلا فلو ضلوا فإنهم لا ينجيهم عند الله قربهم من الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال الله: {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124].
إذا فخرت بأقوام لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
فعلم بذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أوصى بكتاب الله عز وجل وبسنته صلى الله عليه وسلم.
قال العرباض بن سارية -وهذه ساعة الوداع، ولحظة من آخر لحظات الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو يريد أن يترك الدنيا بعد حياة السهاد والجهاد والجلاد والسهر، فأراد أن يودع أصحابه بكلمة من فيض القلب، ومن شجا الروح، قال: {جلسنا عند الرسول صلى الله عليه وسلم فوعظنا موعظة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب}.
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقاً إليكم ولا جفَّت مآقينا
نكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء ففي مواقف الحشر نلقاكم ويكفينا
أرانا الله وجهه وأجلسنا الله معه وبلغنا شفاعته وثبتنا على سنته ثم قال: {فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي} قال ابن تيمية: أمر صلى الله عليه وسلم باتباع سنته وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعده أمراً عاماً، ثم خصص كما عند الترمذي من حديث حذيفة فقال: {اقتدوا باللَّذَين من بعدي: أبي بكر وعمر} فلماذا عمم صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث بالخلفاء الراشدين، وفي حديث حذيفة قال: {اقتدوا باللَّذّين من بعدي: أبي بكر وعمر} وذلك لأنهما الشيخان، وعلامتا الدنيا، وهما القائدان العظيمان.
قال ابن تيمية رحمه الله في كتاب الجهاد: لأن أبا بكر وعمر لم يتأولا في الدماء، ولا في الأموال، وأما علي فتأول في الدماء، وعثمان تأول في الأموال، فكان أبو بكر وعمر أقرب إلى هديه صلى الله عليه وسلم وإلى سنته، وكلهم مأجور ومشكور، لكن الأمر المقيد هو بـ أبي بكر وعمر، والأمر المطلق بالخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم وأرضاهم.
{فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ} وهي ما يقارب الثنايا من الأنياب، وهي أكثر عضاً على ما تمسك به: {عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة} وقد روى هذا الحديث أبو داود والترمذي بسند صحيح.
وقال عليه الصلاة والسلام كما في صحيح مسلم: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} وفي لفظ: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} فالرسول صلى الله عليه وسلم يحرص دائماً على أن يربط بين الكتاب والسنة، فهو كما في حديث المقداد بن معد يكرب: {يوشك أن يأتي رجل شبعان ريان متكئ على أريكته، يقول: هذا كتاب الله، ما أحل فأحلوه، وما حرم فحرموه، وإني قد أوتيت الكتاب ومثله معه} قال الخطابي: معنى (أوتيت مثل الكتاب) أي: بما هدي به صلى الله عليه وسلم في الباطن ظهر به في ظاهر القرآن.
وهذه الكلمة لم تتضح لي، ولكن يقول الشافعي: السنة مثل القرآن أو مثليه، على رواية: {أوتيت القرآن ومثله معه}.
والمعنى الظاهر: أوتيت القرآن ومثل القرآن من السنة فإذا عُلم هذا فعلى المسلم أن يعلم أنه لا ينجو إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة، ويوم يترك الكتاب والسنة، أو يتخاذل في الالتزام بهما؛ ينهار قوامه، ويتردى سلوكه، وليس معنا من وصية نوصي بها إخواننا إلا الالتزام بالكتاب والسنة، ولكن على فهم الصحابة؛ لأن الخوارج يقولون هم ألزم الناس بالكتاب والسنة، والمعتزلة وضُلال الأمة والرافضة، بل الباطنية يرون أنهم من ألزم الناس بالمنهج الحق وأنهم أهل الطريقة المرضية، ولكن:
والدعاوى ما لم يقيموا عليها بينات أصحابها أدعياء(340/7)
أقسام الناس في تلقي الكتاب والسنة
قال عليه الصلاة والسلام في حديث أبي موسى عند البخاري ومسلم: {مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث} ولم يقل صلى الله عليه وسلم: مثل المطر؛ لأن المطر إذا أطلق غالباً أطلق على العذاب، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ} [النمل:58] ولماذا قال: (مثل ما بعثني) ولم يقل: أرسلني؛ لأنه إذا ذكر المعتقد في الغالب ذكر البعث، وإذا ذكرت العبادات التفصيلية ذكر الإرسال.
وقال: (مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم) فذكر العلم والهدى، مع أن العلم يشمل الهدى والهدى يشمل العلم؛ لأن الهدى هنا هو العمل، والعلم هو القول: واليهود أهل قول بلا عمل، والنصارى أهل عمل بلا اقتداء؛ ولذلك غضب الله على من تعلم ولم يعمل، وأضل الله من عمل بلا علم، قال الله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:7].
فالرسول صلى الله عليه وسلم جمع بين الطريقتين فقال: {مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً} قال القرطبي: إنما شبه صلى الله عليه وسلم -وهذا في فتح الباري - إنما شبه صلى الله عليه وسلم الوحي بالغيث بجامع وجه الشبه وهو الصفاء، والأمر الثاني أن الأرض تحتاج إلى الغيث، فحاجة القلوب إلى الوحي كحاجة الأرض إلى الغيث بل أحوج ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ * اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد:16 - 17].
ثم عُلم من هذا الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قسم الناس ثلاثة أصناف:
قال: {فكان منها أرض طيبة نقية، قبلت الماء؛ فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أرض حبست الماء؛ فنفع الله بها الناس؛ فسقوا وزرعوا، وكان منها أرض إنما هي أجادب، لا تمسك ماء، ولا تنبت كلأً، فذلك مثل من نفعه الله بما بعثني به، فعلم وعلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به} وقد سبق شرح هذا الحديث، وشاهدنا منه: أن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل الناس ثلاثة أقسام: قسم استفاد وأفاد، وقسم استفاد ولم يؤثر، وقسم لا استفاد ولم يؤثر، وإنما هو كالخشب المسندة لا تعي ولا تعقل.
فقل للعيون الرمد للشمس أعين تراها بحق في مغيب ومطلعِ
وسامح عيوناً أطفأ الله نورها بأبصارها لا تستفيق ولا تعي
أما ابن مسعود رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري - يفتتح كلامه بقوله: إن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
فالهدي عمل، والحديث قولٌ، فجمعت طريقته صلى الله عليه وسلم فصارت قولاً مهدياً مسدداً، وعملاً مرضياً متقرباً به إلى الله تبارك وتعالى.(340/8)
حرص السلف على الاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم
العنصر الثاني: حرص السلف الصالح على الاقتداء بسنته صلى الله عليه وسلم.(340/9)
شرح قول البخاري: باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال البخاري في الصحيح: كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً} [الفرقان:74] قال البخاري: إماماً نقتدي بغيرنا، ويقتدي غيرنا بنا سبحان الله! ما أحسن كلام البخاري! كلام قليل لكنه كالكبريت الأحمر، وكالإكسير -إكسير الحياة- يأتي بالكلمة ويبوب لها، ولكنه يُعجز أذهان الجهابذة من العلماء أن يأتوا بمثلها ولذلك ابن القيم في كتابه إعلام الموقعين لما جاء إلى كتاب البيع أتى بتبويب للمالكية والشافعية، ثم قال: وبوب عالم جهبذ بباب أذهل به المبوبين، ثم أتى بكلام البخاري فهو يسكت الناس بالتبويب، ويشرح الآيات شرحاً راقياً، رحمه الله رحمة وافية:
سامحن بالقليل من غير عدل ربما أقنع القليل وأرضى
وأبوابه قليلة لكنها درر، والدرر قليلة في العالم، وإنما أشير بذلك إلى العودة إلى الكنوز الأصيلة، والتخفيف من ضياع الوقت، أو التقليل من صرف الجهد في معلومات، أو مصادر للتلقي ليست أصيلة في منهجية المسلم، وفي حياته المرضية التي يريدها الله منه، كـ البخاري ومسلم والترمذي وأبي داود، أهل الأصالة والعمق والريادة، والعلم الباقي الذي خلده الله لهم في الخالدين.
يقول: وقال ابن عون وهو عبد الله بن عون، راوي البخاري ومسلم، وهذا الرجل كان يتمنى رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم دائماً، فسقط من درجة وقبل وفاته بليلة رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام ثم مات.
يقول: ثلاث أحبهن لإخواني، وأوصي بها إخواني: هذا القرآن أن يقرءوه ويتدبروه، وهذه السنة أن يتعلموها، ويدعوا الناس إلى الخير.
سلَّم الله حالك، ولا فض فوك، ما أحسن الوصايا.
وقد أتى بها البخاري موقوفة على ابن عون رضي الله عنه.(340/10)
حرص شيبة الحجبي على الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم
قال أبو وائل: جلست إلى شيبة الحجبي.
وهو من عبد الدار فهو عبدلي، وهو صاحب مفاتيح الكعبة، أراد أن يغتال الرسول صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فأخذ خنجراً مسموماً، وسمه بالسم حتى أصبح أزرق اللون، وأراد أن يسطر أعظم جريمة في تاريخ البشرية، وأن يغتال أعظم رائد من رواد إنقاذ الإنسان إلى الله وإلى الدار الآخرة قال: فأخفيته تحت إبطي، فأتى صلى الله عليه وسلم يوم حنين، فاقترب من شيبة، فأراد شيبة أن يوكزه بالخنجر، فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى شيبة ووضع يده عليه، وقال: {مالك يا شيبة؟ ماذا تريد؟ قال: أستغفر الله وأتوب إليه.
قال: قل أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ثم وضع يده على صدر شيبة، قال شيبة: والله ما رفعها إلا كان أحب الناس إلي}
محاسنه هيولى كل حسنٍ ومغناطيس أفئدة القلوب
وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل البيت في الفتح، وقال لـ شيبة: سلِّم المفاتيح، قال: المفاتيح عند العجوز -وأمه هذه كانت المسئولة عن المفاتيح، تنام وتقوم وهي معها- قالت: لن أعطيك المفاتيح، قال: يا أماه! والله الذي لا إله إلا هو إما أن تعطيني مفاتيح الكعبة أو لأتكئن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، ثم سل سيفه، فقالت: خذ المفاتيح فأخذها صلى الله عليه وسلم، فلما هزها بيده وفتح الباب قال العباس: يا رسول الله! أعطنا المفاتيح لنجمع بين السقاية وبين مفاتيح الكعبة.
فقال عليه الصلاة والسلام: {لا.
خذها يا شيبة! تالدةً والدةً فيك وفي ذريتك} فالمفاتيح لا زالت عندهم إلى اليوم.
الشاهد: أنه فتح الكعبة لـ عمر وهو خليفة، فدخل عمر فرأى الذهب والفضة، ففكر، وكان كثير الفكر، متوقد الذهن، ميمون النقيبة، دائم الاستكشافات من ذهنه، يقترح دائماً؛ لأنه حي الإحساس، قوي العاطفة، مقترح جنَّد الأجناد، ودون الدواوين، ونظم الجيوش قال: لقد هممت أن أوزع هذه الثروة على فقراء المسلمين.
قال شيبة: والله لا تفعل، والله لا تفعل، والله لا تفعل، قال: ولمه؟ قال: ما فعلها صاحباك.
فنكص عمر وقال: هما المرءان يقتدى بهما.
فما دام أنه قد ذكره بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وأبي بكر؛ فقد أوقفه عند حده، وإلا لو ذكره برجل آخر لبطحه أرضاً؛ لأن عمر يبطح الرجال، ويبطح الزعماء، لكن إذا أوقف عند محمد صلى الله عليه وسلم يقف.(340/11)
قصة عمر مع ميزاب العباس
ويذكر أهل السير أن عمر رضي الله عنه خرج متلبساً قاصداً الجمعة، ومعه الدرة يخرج بها الشياطين من الرءوس، فهي علاج خاص لا يصرف إلا من صيدلية عمر، وإذا خرج بالدرة فخطر ممنوع الاقتراب، فأتى فرأى ميزاباً للعباس قطر عليه دماً، وكان قد ذبح قبل صلاة الجمعة دجاجة، فنزل الدم على ثياب عمر، وليس عنده إلا ثوب واحد، وهو خليفة المسلمين، وكنوز الدنيا تحت يديه.
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
فلما سال الدم على ثيابه ضرب الميزاب بالدرة فأوقعه على الأرض، ثم عاد إلى بيته فغسل الدم، وأتى العباس، فقال: من قلع الميزاب؟ قالوا: عمر.
قال: والله الذي لا إله إلا هو! لقد وضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده عمر فأخبره، فقال عمر: سبحان الله! أسألك بالله أوضعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده؟ قال: إي والله.
قال: والله الذي لا إله إلا هو لأتكئن لك على الأرض، ولتصعدن على ظهري، ولتردن الميزاب مكانه.
فجلس عمر، وقام العباس على ظهره، ورد الميزاب مكانه وهذا كله إكرام لصاحب تلك العين؛ ومن أجل عين تكرم ألف عين.(340/12)
عمر والوقوف عند كتاب الله
وكان الحر بن قيس من حفاظ كتاب الله، وكان دائماً عند عمر، وجلاس عمر هم حفظة القرآن، ولو كانوا صغاراً وشباباً، فأتى عيينة بن حصن بن حمل بن بدر، وهو من بني بدر، الذي يقول فيهم حاتم الطائي عندما ضرب زوجته فغضبت عليه وحلفت باللات والعزى لتذهبن عند أجمل بيوت العرب فقال لها:
إن كنت كارهة معيشتنا هاتي فحلي في بني بدر
الضاربون بكل معترك والطاعنون وخيلهم تجري
فـ عيينة هذا كان منهم، لكنه لم يشبه آباءه، بل كان متخلساً متملقاً، دخل فطرق الباب على عمر، فخرج عمر وقال: من؟ قال: أنا الأكرم بن الأكرم بن الأكرم.
قال عمر: كذبت يا عدو الله، بل أنت الأخس بن الأخس بن الأخس والأكرم بن الأكرم بن الأكرم هو يوسف بن يعقوب بن إسحاق، ففتح له الباب -وليتها كفت- فجلس، وقال: هيه يا بن الخطاب، والله إنك ما تعطينا الجزل، وما تحكم فينا بالعدل.
فقام عمر بالدرة يريد أن يؤدبه ويلقنه درساً لا ينساه حتى يموت، فأخذه الحر بن قيس وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله يقول: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199] فوقف عمر، وأنزل عصاه، وذهبت حرارته وتوقده وقد استدل بها البخاري بهذه القصة تحت هذا الباب، في مسألة التوقف إذا ذكر كتاب الله عز وجل، قال ابن عباس: [[وكان عمر رضي الله عنه وقافاً عند كتاب الله]].(340/13)
النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله
قال ابن أبي مليكة وقد كان رحمه الله مؤذن أهل مكة، ونسبوا له قصة في ترجمة الإمام مالك، وهي أنه كان يؤذن بـ مكة، وكان صوته جميلاً، فسمع بجانب المسجد مغنياً مطبلاً مزمراً يقول:
صغيران نرعى البهم يا ليت أننا إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
وهذا بيت لمجنون ليلى، يقول: يا ليته وليلى كانا يرعيان البهم، ولم يكبروا ولم تكبر البهم، ويلعب معها حياة الضياع والهيام والعشق، وجمع الطوابع والمراسلة، وصيد الدجاج والحمام فلما سمعها ابن أبي مليكة وكان قد وصل في الأذان إلى قوله: حيَّ على الفلاح، فقال: حيَّ على البهم وهو إمام معتبر، وقد ذكر البخاري أنه قال: ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذباً لأنه كان يعظ الناس.
قال: كاد الخيران أن يهلكا والخيران: أبو بكر وعمر؛ لأنهما رفعا صوتيهما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله عز وجل يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} [الحجرات:2] فرفعا أصواتهما، فلما أتاهما الخبر؛ قال عمر: والله ما كلمت الرسول صلى الله عليه وسلم إلا كأخ السرار.
وهذا هو التوقف عند كتاب الله، وأخو السرار يعني: اللين، وعدم رفع الصوت
وكان خطيب الأنصار ثابت بن قيس بن شماس يخطب بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما نزلت هذه الآية ذهب، فبقي في بيته يبكي صباح مساء، ليلاً ونهاراً، حتى قال صلى الله عليه وسلم: {يا معاذ! أين ثابت بن قيس بن شماس؟ قال: اعتزلنا يا رسول الله، ما ندري ماذا حدث له.
فذهبوا إليه وقالوا: مالك؟ قال أنزل الله تلك الآية، وأنا أرفع صوتي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنا المقصود بها، فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أخبروه أنه من أهل الجنة} وقد قتل ثابت بن قيس في اليمامة -وهو من أشجع شجعان الناس- في القتال مع مسيلمة الكذاب دهدهه الله في النار، وكان من المقاتلين المجدين الشهداء العباقرة قتل في سبيل الله؛ فكان من أهل الجنة والحمد لله.
فالتقيد بكتاب الله عز وجل، وبسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يكون بالتوقف، ولذلك ذكر بعض أهل العلم في كتبهم، كـ ابن عبد البر وأهل السنن قالوا: قام صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً فقال للناس: {يا أيها الناس اجلسوا} فسمع ذلك ابن رواحة وهو خارج المسجد فجلس رضي الله عنه في السكة، فقال له الناس: مالك؟ قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: اجلسوا؛ فجلست.
وهذا هو الامتثال.
ولذلك يأتي الباب الثالث الذي بوب له البخاري بقوله: النهي عن التقدم بين يدي الله ورسوله -وقد حصل في التبويب تقديم وتأخير- فالواجب الاكتفاء بالكتاب والسنة، وترك التكلف والتنطع، قال الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ} [المائدة:101 - 102] وهذا التقدم بين يدي الله ورسوله هو الاقتراح كما يقول سيد قطب، وهو أن تعرض أموراً من عندك ومن ذهنك تريد أن تسيَّر بها الأمة، وهي ليست في الكتاب ولا في السنة فهذا ملغي، ولا يجوز، وهو أمر محرم، واستحداث في الدين.
وسعيد بن المسيب دخل المسجد -وهذه القصة يصححها الشيخ الألباني وغيره- فدخل رضي الله عنه فوجد بعد أذان الفجر رجلاً من المسلمين يصلي ركعتين ويسلم ثم يصلي ركعتين ويسلم والسنة بعد أذان الفجر ألا يصلي إلا ركعتي الفجر، ثم صلاة الفجر، وهناك حديث يستدل به الزيدية، ويجعلون وقت بعد طلوع الفجر وقتاً سادساً من أوقات النهي، فقال سعيد بن المسيب: "يا فلان! لا تصلَّ إلا ركعتين، إني أخشى أن يعذبك الله.
فقال الرجل -بسوء فهمه-: والله لا يعذبني الله لأنني أصلي له.
قال: والله لا يعذبك الله لأنك تصلي له، ولكنه يعذبك لأنك خالفت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فليس العذاب لأنك تصلي، لكن العذاب لأنك خالفت سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، والعبادة تكون بلا زيادة ولا نقصان، كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه}.(340/14)
النهي عن كثرة السؤال
يقول سعد بن أبي وقاص فيما رواه البخاري وغيره: [[إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته]] وهذا في عهد تنزيل الوحي، أما الآن فللإنسان أن يسأل.
والإمام مالك يرى أن الحديث الصحيح الذي نهى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة السؤال، وإضاعة المال، وقيل وقال؛ أن المقصود بالسؤال هو السؤال عن الأغلوطات والتعجيز، أي: أن تعجز العلماء، فتسأل عن سؤال ليس بوارد، وفيه تعجيز للعلماء، وليس فيه نفع ولا فائدة، مثلما ذكر ابن أبي الدنيا في كتاب أدب الدنيا والدين: أن رجلاً من العوام أتى إليه فقال: أخبرنا العلماء أن نجماً إذا ظهر بعد سهيل مات الذين في الأرض جميعاً، فهل هذا صحيح؟ قال ابن أبي الدنيا: فكرهت أن أكرهه بالجواب، أو أن أكفهر في وجهه بالجواب، فقلت: أتأمل المسألة وأجد لك جواباً.
وهو يريد أن يتخلص منه.
ولذلك تجد بعض الناس يسأل عن أمور وهو في حاجة ماسة إلى معرفة أمور دينه، مثل أن يسأل بعضهم: هل تدور الشمس حول الأرض أم الأرض حول الشمس؟ أو يسأل عن أطفال أهل الفترة، أو عن أطفال المشركين وغيرها من المسائل التي لا يعقد عليها كثير فائدة، ولا يستفاد منها لا في الدنيا ولا في الآخرة، والله لن يسألنا عن دوران الأرض حول الشمس، ولكن يسألنا عن دوراننا حول سنة محمد صلى الله عليه وسلم، فليدر المسلم حول سنته صلى الله عليه وسلم، وليترك الخزعبلات والتراهات التي تضيع عليه وقته، ولا تأتي هذه الأسئلة إلا من قلة العلم، أما العلماء وطلبة العلم والجادون في حياتهم فهم أضبط الناس أسئلةً.
وقيل: كثرة
السؤال
هو أن يسأل في عهد الوحي فيُحرَّم شيء، لأن الناس كلما سألوا نزل حكم، والسكوت أحسن.
وقيل: كثرة
السؤال
هو سؤال المال، كما ذهب إليه بعض المحدثين، ولكن هذا لا يتسنى؛ لأن سؤال المال مذموم قليله وكثيره إلا للحاجة.
والصحيح: أن السؤال المنهي عنه هو السؤال عن الأغلوطات، أو عما لا ينفع في الدين.(340/15)
النهي عن الغلو والتشدد في الدين
قال زيد بن ثابت: قمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليالٍ نصلي، وتنحنحنا ليلة لما نام صلى الله عليه وسلم عله أن يسمعنا، فلما أصبح الصباح قال صلى الله عليه وسلم: {إنه لم يخف علي مكانكم البارحة، ولكن خشيت أن تفرض عليكم فلا تستطيعوها} رواه البخاري ومعنى ذلك: عدم التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، والاكتفاء بما أتى به صلى الله عليه وسلم.
وأهل الحديث والفقه إذا ذكروا باب الاعتصام بالكتاب والسنة أتوا بعده بباب الاقتصاد في العمل، لأن بعض الناس إذا اعتصم بالكتاب والسنة حاول ألا يقصر فزاد؛ فيخرج من السنة، لأن بعض الناس يخرج من السطح، أو يخرج من السقف، فقد تجد بعض الناس يتشدد في تطبيق السنة حتى يخرج من السنة، أو يترك السنة حتى يجفو السنة، والمقصود: هو اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم.
يقول ابن المنير الزين شارح البخاري -وهو مغربي-: وقد رأينا ممن تشدد في تطبيق السنة من ترك السنة.
ففي الأخير أودى به تشدده إلى ترك السنة، فتجده على قلامة الظفر، وعلى الشعرة، لا يتغاضى، ولا يعفو، ولا يصفح، ولا يتجاوز، ولا يهادن؛ وفي الأخير تجده يخرج عن السنة، وما أخرج الخوارج من السنة إلا تعمقهم وتنطعهم؛ حتى خرجوا من السنة.
وبعض الناس لا يكتفي بالنوافل، بل يزيد ويرهق نفسه حتى يترك الفرائض، يقول ابن الجوزي كما في تلبيس إبليس عن الصوفية: يقوم أحدهم يصلي الليل كله فإذا اقترب الفجر نام، فنام عن صلاة الفجر، قال: وقد رأيت أحدهم يصلي الفجر في الضحى، فقلت: يا فلان، مالك؟ قال: قمت البارحة أصلي حتى قرب الفجر؛ فنمت عن صلاة الفجر سبحان الله!
ككافلِة الأيتام من كد فرجها لك الويل لا تزني ولا تتصدقي
صلاة الفجر في جماعة أفضل من قيام ألف ليلة نافلة.
وروى الإمام مالك في الموطأ أن عمر مر بأهل صفوان بن المعطل فقال: [[أين صفوان؟ قالوا: ولمَ؟ قال: ما صلى معنا الفجر.
قالوا: قام البارحة حتى اقترب وقت صلاة الفجر فنام عنها.
قال عمر: لئن أشهد الصلاة مع المسلمين جماعة أحب إلي من أن أقوم الليل كله]] هذا هو الفقه، وهذه هي المعرفة، وهذا هو الانضباط والاقتصاد في العمل لكن بفهم.
وذكر الخطابي في كتاب العزلة قال: مررت بصوفي من غلاتهم وقد ألصق شيئاً على عينه فحجبها.
-أخذ لصقة فحجب عينه- فقلت: مالك؟ قال: إسراف أن أنظر في الدنيا بعينين! والله يقول: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10] وهو يقول: إسراف! فانظر إلى الجهل إلى أين بلغ به، ولذلك يمدح ابن الجوزي هؤلاء ويقول: فلان قام أربعين سنة فصلى صلاة الفجر بوضوء العشاء.
أولاً: نسأل ابن الجوزي: من أخبرك أنه قام أربعين سنة؟ هل راقبه أحد ليل نهار أربعين سنة؟ وإن كان هو أخبر الناس فقد راءى بعمله، وإن كانت زوجته أو صديقه فما صدقوا؛ لأنه لا يمكن أن يكون أحد ملصوق به لا يفارقه لا ليلاً ولا نهاراً، ألم يحج؟ ألم يعتمر؟ ألم ينم؟ ألم يسافر؟!
والأمر الثاني: هل هذا موافق للكتاب والسنة أم مخالف؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {أما أنا فأقوم وأنام وأتزوج النساء، وآكل اللحم، فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
ويأتي ابن الجوزي رحمه الله في صفة الصفوة ويقول: مر فلان بـ عسقلان في فلسطين فرأى رطباً على نخلة، فقال: يا رطب ما أشهاك! وما أحسنك! وما أدناك! والله لا أذوقك حتى ألقى الله، سبحان الله! لماذا ما أكلت الرطب، فرج الله عنك وعنا كل كربة؟ فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل الرطب والخيار واللحم والعسل وهو أفضل الناس، وهل تركك للرطب يجعلك من العشرة المبشرين بالجنة؟!
ويقول عن رجلٍ آخرَ عابدٍ لكنه جاهل، يقول: "الحمد لله، والله الذي لا إله إلا هو ما أكلت الرطب أربعين سنة فهل هذا فتح بدراً؟! أو رفع اللواء في حنين؟! أشرف الخلق عليه الصلاة والسلام أكل من هذا.
وهذه التراجم إيرادها إنما هو من باب التشويه لبعض السير ولا تمر هذه إلا بتعليق: هل هي موافقة للكتاب والسنة أم لا؟ لأن بعض الناس أصابهم الفالج، وأصابهم اليبس، حتى ترك بعضهم الطعام -كما يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر - ثلاثين يوماً، قال: فأجبره العلماء على أن يأكل؛ فشرب شربة فوقعت كرش الماء على الحصى فمات سبحان الله! {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة:195].
فلا بد من الاقتصاد ومعرفة السنة في ذلك؛ لأن بعض الناس يتوهم أن السنة معناها: أن تتبذل، وتضرب عن الطعام، وأن تعمل لنفسك أسابيع من التجويع، وتسهر، وتبتعد عن ملاذ الحياة، وأن تصبح كأنك في رهبنة، والرهبنة ليست بواردة، بل قد ذمها الله عز وجل فقال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد:27].(340/16)
بعض الأمثلة على كثرة السؤال
أتى أعرابي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم -وهذا من باب التعدي على الكتاب والسنة- فربط ناقته في وادي وأتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: أين ناقتي يا رسول الله؟ -ومن أدرى الرسول عنك وعن ناقتك؟! وهل بعث صلى الله عليه وسلم ليخبرك بناقتك وزوجتك وأطفالك؟! - فسكت صلى الله عليه وسلم، فقال: {أين ناقتي يا رسول الله؟ -هو يريد أن يسلم ويعرف هل الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم الغيب أم لا، فغضب الرسول صلى الله عليه وسلم، وسكت الأعرابي، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يستهديه ويتألف قلبه- فقال: ناقتك في الوادي الفلاني مربوطة بشجرة سلم -أو كما قال صلى الله عليه وسلم- فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله}.
وأورد ابن كثير أثراً في كتاب الشمائل، يقول: {أتى أعرابي يبيع ضباً في السوق -رأس ماله الضب هذا- فأتى الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوه -الرسول صلى الله عليه وسلم يستغل المناسبات في سوق عكاظ، وفي المجمع والنادي ومكان التجمع، فهو داعية يجوب كل مكان -قال: يا أعرابي! إني رسول الله إلى الناس، أسلم، واشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله.
قال: أنت رسول الله؟ قال: أنا رسول الله.
قال: من أرسلك؟ قال: الله.
قال: والله لا أسلم لك حتى يسلم لك هذا الضب.
قال: فإن أسلم الضب أتسلم؟ قال: نعم.
فقال صلى الله عليه وسلم: يا ضب! أتشهد أني رسول الله؟ قال الضب: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله} والحديث في سنده نظر، لكن أورده البيهقي في الدلائل، وابن كثير في الشمائل.
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
لكن على كل حال؛ إنما أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتألف قلب هذا الرجل حين قال: ناقتك مربوطة وإلا فهو عليه الصلاة والسلام ليس مسئولاً عن هذه الأسئلة.
وفي صحيح البخاري، قال أنس: {سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أكثروا عليه؛ فغضب؛ فجلس، فقال أبو حذافة: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك فلان.
فجلس عمر على ركبتيه لما رأى غضب الرسول صلى الله عليه وسلم، فقال: رضينا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً} وإنما غضب صلى الله عليه وسلم من كثرة الأسئلة التي ليس لها داعي، وإنما هي من باب التقدم على الكتاب والسنة، فأنزل الله في ذلك: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [المائدة:101] فاسكتوا حتى يأتي القرآن والسنة، ثم سيبين لكم الأمر، ولا تتقدموا بين يدي الله ورسوله.
قال الدارمي: ثبت بسند صحيح عن عمر أن عمرو بن العاص أتى إليه، فقال: يا أمير المؤمنين! معي في الجيش رجل يأتي إلينا فيسألنا، قال عمر: عن ماذا يسألكم؟ قال: يقول: يقول الله عز وجل: {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً} [الذاريات:1] قال عمر: هيه.
قال: ويقول: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] قال عمر: هيه.
قال: ويقول: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1] قال عمر: هيه.
قال: فيقول الرجل: كيف يقول الله هناك (والذاريات) وهنا (والمرسلات) وهناك (والنازعات)؟ فأنصت عمر، وقال: علي بالرجل، يا عمرو بن العاص! لا يفوت الرجل، والذي نفسي بيده! لئن فات الرجل ليمسنك مني عقوبة عمر ما عليه من أحد كبير أو صغير، ما يحميه من العدل حامي فذهب عمرو وأتى بالرجل، وقد تهيأ له عمر بضيافة ما بعدها ضيافة، فهيأ له عراجين النخل، ورشها بالماء لتليق بجسمه أحسن، فقال عمر: أنت الرجل الذي يقول كيت وكيت، قال: نعم يا أمير المؤمنين، وما أردت إلا الخير.
سبحان الله! ما أحسن هذا الخير! قال: ابطحوه أرضاً، فاعتلاه أمير المؤمنين، ثم ضربه وجهاً لبطن من نية وإخلاص لله عز وجل، يحتسب أجره على الله، فأغمي على الرجل فقال: رشوه بالماء، فرشوه بالماء فأفاق ولسان حاله يقول: أصبحنا وأصبح الملك لله! قال عمر: ادنوه، فأدنوه فبطحه، قال: رشوه بالماء، فرشوه فأصبح، ومرة ثالثة فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد دوائي فقد برئت والله انتهى المرض، علاج ما بعده علاج في غرفة عمليات عمر! ثم قال: احملوه إلى الجيش ولا يكلمه أحد.
فحجزوا عنه الكلام، وأضربوا عن الحديث معه سنة كاملة، وبعد سنة قالوا: يا أمير المؤمنين! صلح حاله، أصبح مستقيماً على أمر الله.
قال: اتركوه يحدث الناس.
هذا التقيد بالكتاب والسنة: أما أن يتلاعب الإنسان ويأتي يخرص تخريصات، ويضلل الأمة، ويشوه معالم الكتاب والسنة بحجة الثقافة العامة فلا هذه قداسة {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج:32] هذا دين خالد لا يقبل اللبس، ولذلك جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {لا يزال الناس يسألون، حتى يقولوا: هذا الله، فمن خلق الله؟!} ومن وجد هذا في نفسه فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم، ولا يعبث بالكتاب والسنة، فإن معنى ذلك فتح الباب لكل مهرج وموسوس ومهلوس والعياذ بالله.
وفي السير في ترجمة عمر: أن رجلاً أتى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وسأله سؤالاً وقال: {يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف.
قال صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج} وهذا الحديث متنه في سنن أبي داود عن أسامة بن شريك قال: {يا رسول الله! سعيت قبل أن أطوف.
فقال صلى الله عليه وسلم: افعل ولا حرج، فأتى الرجل إلى عمر وقال: يا عمر! سعيت قبل أن أطوف.
قال: افعل ولا حرج.
قال: صدقت، سألت الرسول صلى الله عليه وسلم قبل قليل فقال لي مثل ما قلت.
فقال عمر: خررت من يديك، تسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ثم تسألني} ولو كان في غير حياة الرسول صلى الله عليه وسلم لأدبه عمر تأديباً يردعه وأمثاله، وهذا فتح الباب للهلوسة والتخرص في دين الله.(340/17)
مسائل في الاعتصام بالكتاب والسنة ومحاربة البدع
من المسائل التي بقيت: أن أبا بكر رضي الله عنه قال في خطبة خطبها: [[يا أيها الناس! إني متبع ولست بمبتدع]].
ومن المسائل التي تهمنا أيضاً: أن عداوة إبليس تصل بالعبد إلى الشرك، فإن لم يستطع فإلى البدعة، والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، لأن المعصية في الغالب يتاب منها، والبدعة في الغالب لا يتاب منها، وهذا الكلام ينسب لـ سفيان بن عيينة: "البدعة أحب إلى إبليس من المعصية".(340/18)
الهجر وتشويه المبتدعة
وكان للسلف الصالح مناهج في محاربة البدعة، منها: ترك الكلام مع صاحبها، كما فعل سفيان الثوري مع ثور بن يزيد، فما كلمه حتى مات، ومنها: تشويه صورته أمام الناس، كما فعل واعظ بـ أحمد بن أبي دؤاد، فـ أحمد بن حنبل أحمدنا نحن، وأحمد المعتزلة وأهل البدعة أحمد بن أبي دؤاد، وكان كريماً قاضياً، لكن كرمه كان رياءً وسمعةً، كان يضيف الناس ويعطي الأعطيات، وكان يعطي في المجلس الواحد آلاف الدنانير، حتى يقول أبو تمام في أحسن قصيدة له:
لقد أنست محاسن كل حسنٍ محاسن أحمد بن أبي دؤاد ِ
وما سافرت في الآفاق إلا ومن جدواه راحلتي وزادي
ولكن أتى أحمد بن أبي دؤاد وابتدع في دين الله القول بخلق القرآن، فكان الوعاظ ينهون عنه ويزجرونه، قال الإمام أحمد وهو يبتسم: "ما أحسن هؤلاء للعامة!
يريد أن يندد بهؤلاء المبتدعة فمن مذاهب أهل السنة: التشهير بالمبتدع علناً إذا شهر ببدعته، كأن كتب في صحيفة، أو تكلم في إذاعة، أو كتب كتاباً، فواجب علماء السنة أن يردوا عليه، أما إذا سكت فيوصى في خاصة نفسه إذا لم يكن له تلاميذ وأتباع، ولا يشهر بالرد عليه؛ لأنه قد تأخذه العزة بالإثم وينحرف عن منهج الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.(340/19)
نشر السنة والفرح بها
ومن هدي أهل السنة: أنهم ينشرون السنة في مجالسهم، ويفرحون بنشرها، فقد رأى الإمام أحمد شيخاً مخضوب اللحية؛ فتبسم وفرح، وقال: إني لأرى الرجل يحيي شيئاً من سنة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فأفرح بذلك.
فثبته الله على السنة فصار إمام أهل السنة.
وفي سكرات الموت تراءى له إبليس، فكان الإمام أحمد يقول: لا.
بعد، لا.
بعد، لا.
بعد.
أي: ما نجوت منك يا إبليس، فإن إبليس كان يقول: نجوت مني، كلٌ أدركت منه إلا أنت نجوت مني، فيقول الإمام أحمد: أخاف منك، وأتوكل على الله.
فلما أصبح يردد (لا إله إلا الله) في سكرات الموت أخذوا يوضئونه، فكان يشير إلى لحيته، ويقول: خللوا لحيتي رحمك الله! وسقى الله عظامك شآبيب الرضوان، حتى تخليل اللحية في ساعة يذهل الولد عن والده، والزوجة عن زوجها، والحبيب عن حبيبه، لا تنسى هذه السنة، ويشير بأصابعه، أي: خللوا أصابعي؛ ولذلك رفعه الله مكاناً علياً بصدقه مع الله عز وجل.(340/20)
أهمية تعليم السنة ونشرها
ومن مذهب أهل السنة: أنهم لا يرتضون بديلاً عن السنة في تدريسها مهما كانت الفائدة؛ لأنه قد يوجد في بعض الأماكن أن ترد على المسلمين مصنفات أو مؤلفات أو أطروحات أو خيارات؛ فيستعاض بهذه الكتب عن السنة، وهذا شيء خطير جد خطير، فينشأ ناشئة لا يعرفون السنة، ولا يعرفون الأحاديث يعرفون ثقافة عامة، لكنها ليست منضبطة بالسنة، فالذي أوصي به إخواني: أن يكون لهم جلسات مع إخوانهم وأهلهم وزملائهم يرددون كتب الحديث كما فعل السلف الصالح؛ الصحيحين، والسنن الأربع، ومسند أحمد، ورياض الصالحين، وبلوغ المرام، والترغيب والترهيب، ترديداً دائماً في كل مجلس لتحيا السنة، فإن حياة السنة مدارستها في الأوساط.(340/21)
أصناف أهل البدع
ومما أريد أن أشير إليه في هذا المجلس أن المبتدعة أصناف: منهم مبتدع كافر ببدعته، لكن يسمى ويطلق عليه مبتدع، كما يكفر بعض الناس الذين قالوا بنقص القرآن، أو لعنوا عائشة، أو لعنوا الشيخين، وتبرءوا منهما، أو قالوا: إن جبريل خان الرسالة، فهؤلاء يكفرون بهذه المقالات وقد يفسق الرجل بالبدعة، فيبقى فاسقاً على بدعته؛ فيدخل النار على الأجناس لا على الأشخاص، لكن لا ندري هل يخلد أم لا، فإذا كان موحداً فلا يخلد وعلى كلٍ يصبح فاسقاً ببدعته، وهناك بدع طفيفة وبدع كبيرة، فالبدع الكبيرة مثل: بدع الخوارج والرافضة، والبدع الطفيفة مثل: بدع الأحكام العملية، كالأذكار والتسبيح، وهذه لها مباحث، وإنما مقصود الكلام: الاعتصام بالكتاب والسنة.(340/22)
طرق الاعتصام بالكتاب والسنة
والسؤال المطروح: ما هي طريقتنا للاعتصام بالكتاب والسنة؟
هناك ثلاثة طرق:(340/23)
دراسة السنة وتعليمها
أولاً: تدريسها وتعليمها، وتقريرها في مدارسنا وجامعاتنا ومعاهدنا، وقيام الدعاة ببثها بين الناس، وإعادة الناس إلى المشرب الأول، مشرب محمد عليه الصلاة والسلام.(340/24)
العمل بالسنة في الحياة
ثانياً: العمل بها، وتطبيقها في دنيا الواقع، وعلى السلوك، والهدي، فقد ذكر عن الإمام محمد بن نصر المروزي أو غيره: أنه ما قرأ حديثاً من الأحاديث العملية إلا عمل به.
وقيل عن الإمام أحمد: أنه كتب المسند أربعين ألف حديث بالمكرر، وقال: ما من حديث مما يعمل به إلا عملت به، قال له بعض تلاميذه: وحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم جلس في الغار ثلاثة أيام؟ قال: جلست في غار بـ الكرخ ثلاثة أيام، يوم فتنة القول بخلق القرآن، ليقتدي بالرسول صلى الله عليه وسلم.
يأتي ابن عمر بناقته في المشاعر في منى ومزدلفة فيميل بها ويدور بها، قالوا: مالك؟ قال: لعل خفاً يوافق خف ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وهذا من شدة الحرص على اتباع السنة، وإلا فالأمور العامة ليست مطلوبة، لأنها تسمى عند أهل العلم أمور اتفاقية، مثل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الإثنين، فهذا اتفاق، ومثل: أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل أكلة في الضحى، أو خرج من مكة من أعلى مكة، لأن بعض أهل العلم يقول: هذه سنة، وبعضهم يقول: أمور اتفاقية.
وقال ابن تيمية في ذلك: "كان عمر أعرف بالسنة من ابنه ابن عمر، فـ ابن عمر كان يصلي عند شجر كما في صحيح البخاري مثل عقبة هرشا، وشجرة كذا وكذا، وأما عمر فنهى عن الصلاة عند هذه الشجر، وقال: إذا أتت أحدكم الصلاة فليصل وإلا فليذهب.
فـ عمر كان أبصر وأعلم؛ ولذلك قطع تلك الشجرة لأن هذه أمور اتفاقية، وهناك فرق بين الأمر الاتفاقي العام وبين الأمر المسنون الذي ورد عنه صلى الله عليه وسلم، ومقصود به الاتباع، فليعلم ذلك.(340/25)
تبليغ الكتاب والسنة للناس
ومن أمور الاعتصام بالكتاب والسنة: تبليغ الكتاب والسنة للناس، قال عليه الصلاة والسلام: {بلغوا عني ولو آية} وهي أمور سهلة، وفي سنن أبي داود عن عبد خير قال: أتى علي بن أبي طالب فصلى بنا، ثم خرج إلى الرحبة، فأتى بماء فتوضأ، ثم قال للناس: {هكذا رأيت رسول صلى الله عليه وسلم يتوضأ} وتطبيق الوضوء للناس سنة، وتعليم هذه الأمور، لأنه قد يلقي الإنسان محاضرات ولكن ليس فيها امتثال ولا تطبيق ولا روح فلا تنفع، بينما لو طبق مسألة كأن يصلي أمام الناس، أو يتوضأ أمامهم، كما كان يفعل عليه الصلاة والسلام بأصحابه؛ لكان أجدى وأنفع، وهذا هو الأمر المطلوب في تبليغ السنة، وهو اليسر في تبليغها للناس، وهذا عهد من الله وميثاق أخذه على طلبة العلم، قال الله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187] {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] هذا باب الاعتصام بالكتاب والسنة، وأحسن من كتب عن هذا الموضوع لمن أراد أن يتوسع: الشاطبي في كتاب الاعتصام، وشيخ الإسلام في المجلد العاشر والحادي عشر، ومجلد الجهاد في الفتاوى، وابن القيم في زاد المعاد، والإمام البخاري في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، والقرطبي، وغيرهم من أهل العلم الذين كتبوا كتابات طيبة ومفيدة يحسن الرجوع إليها.
ولكن قد ترد بعض الأسئلة، مثل من يقول فعل بعض الصحابة أفعالاً ما فعلها صلى الله عليه وسلم؟
وهذا سؤال مطروح، وقد ناقشه الشوكاني في إرشاد الفحول، وغيره من العلماء، والفعل إذا فعله الصحابي وقد خالف الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا لا يلتفت إليه أبداً، وإذا فعل الصحابي فعلاً ودل عليه عموم؛ فإن هذا أمر اجتهادي من الصحابي قد يخطئ وقد يصيب، وإذا فعل الصحابي فعلاً وفعل صحابي آخر فعلاً ولم يتضح وجه السنة من فعليهما فهو أمر كذلك اجتهادي، ولكن على كل حال؛ الشوكاني وأبو زهرة لا يأخذون باجتهاد الصحابي إذا كان له اجتهاد خاص، مثل أقوال ابن عباس التي ينفصل بها في الفتيا، وهذا له مبحث، ولكن أريد أن أبين أن بعض الشواذ من أفعال الصحابة لا يقتدى بها، مثل: أن ابن عمر كان يغسل داخل عينيه في الوضوء حتى عمي، ومثل ما جاء أن ابن مسعود كان يصلي وسط الصف، يجعل جماعة عن يمينه وأخرى عن يساره ويكون الإمام في الوسط.
ويطبق بين كفيه في الركوع ويجعلهما بين ركبتيه ومثل: أن أبا هريرة كان يتوضأ إلى المنكب أو إلى الإبط، وهذا لم يفعله صلى الله عليه وسلم إلى غير ذلك من الأفعال التي شذت من بعض الصحابة، فهذه لا يلتفت إليها، وندعو لهم، ونقول: هم مأجورون على كل حال، ولكن الرسول هو القدوة، ولا بد لأفعالهم من أدلة من الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن أفعاله صلى الله عليه وسلم لا تفتقر إلى أدلة؛ لأنها دليل بذاتها.
وربما نسمع في الأسئلة ما خفي علينا في هذا الدرس، وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.(340/26)
الأسئلة(340/27)
حكم كشف الطبيب على المرأة
السؤال
هل يجوز للطبيب أن يكشف على المرأة؟
الجواب
يجوز للطبيب أن يكشف على المرأة بثلاثة شروط:
أولها: ألا توجد طبيبة مسلمة.
ثانيها: أن يكون هذا المرض يدعو ضرورةً إلى كشف الطبيب فلا يكون زكاماً ولا من الأمراض المعهودة، فدائماً تكشف وجهها أو قفاها، فهذا ليس بوارد ولا يجوز ذلك، وقد أخلت بالأدب وبدين الله، وانتهكت حدود الله، فلا بد من ضرورة ملحة تدعو لكشف الطبيب.
الثالث: وجود المحرم معها في المكان الذي يكشف عليها الطبيب، فلا ترسلها على بركة الله وتنتظرها بعد ثلاث ساعات، فهذا خطأ، ولا يجوز أن يخلو بها الطبيب إلا ومحرمها معها ابنها أو زوجها أو أخوها أو أبوها، أو أي شخص من محارمها.(340/28)
حكم حلق اللحية
السؤال
ما حكم حلق اللحية؟
الجواب
حلق اللحية حرام بالإجماع، ومن ترخص فيه فإنما اتبع هواه، وقدوته في ذلك بيجن وريجن وبوش، أما محمد صلى الله عليه وسلم فربى لحيته، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي، فليختر هؤلاء أو هؤلاء، وهناك أدلة دلت عليها كقوله صلى الله عليه وسلم: {خالفوا المجوس} {أطلقوا اللحى} {ربوا اللحى} {قصوا الشوارب} {احفوا الشوارب} {جزوا الشوارب} كلها ألفاظ منضبطة تقرب من خمسة ألفاظ.(340/29)
حكم استماع الأغاني
السؤال
ما حكم الاستماع إلى الأغاني؟
الجواب
يحرم الاستماع إلى الأغاني، ويحرم كذلك أن يغني الإنسان، أو يكون نجماً فناناً ويترك الدراسة، ويذهب يأخذ عوداً وفرقةً، فهذا يصبح ضائعاً في الدنيا والآخرة، فحرام فعله، وحرام أن يستمع الغناء؛ لأدلة كثيرة، وقد بسطت في أكثر من مناسبة، وإنما أجيب بجمل جامعة.(340/30)
حكم اختلاط الأقارب
السؤال
ما حكم اختلاط الأقارب؟
الجواب
المحارم يختلطون، لكن الأقارب التي يقصدها الأخ: كالحمو -أخي الزوج- أن يختلط بزوجة أخيه، فهذا أمر محرم، وهو منتشر في بعض المناطق، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الحمو؟ فقال: {الحمو الموت}.(340/31)
حكم كشف الخادمات على أهل البيت
السؤال
ما حكم كشف الخادمات لأهل البيت؟
الجواب
كشف الخادمة على الرجال الأجانب من أهل البيت وغيرهم لا يجوز، لأنها أجنبية وهم أجانب، ولا يسوغ كونها خادمة في البيت أن يكشف عليها، وهذا أمر منتشر، وقد أورث ذلك فاحشةً كبرى، نسأل الله لنا ولكم الطهر والسلامة.(340/32)
كيف نرد على الغزالي في نقده لشباب الصحوة
السؤال
الغزالي تعرض لشباب الصحوة ببعض الأمور النقدية، فكيف نرد عليه؟
الجواب
أولاً: الغزالي سبق في الدرس الماضي أن وقفنا معه دقائق، والرجل هذا مفكر مسلم لا ينكر ذلك ولا يدفع، وقد رد عليه كثير من طلبة العلم والمشايخ والعلماء، ومن أحسن الردود: رد الشيخ سلمان العودة عليه في الكتاب والمطبوع الموجود في الأسواق وفي الأشرطة، ورد الطحان بمقالة لكنها سهلة يسيرة، إنما أشار إلى بعض الجمل، ورد بعض الإخوة كالشيخ عبد الوهاب بن ناصر بشريط مجيد في هذا الباب، ورد بعض المحاضرين ممن أعرفهم بردود مكتوبة يريدون طبعها، ولكن على كل حال الرجل سحب على وجهه وقفاه حتى ما يدري أين القبلة، لأنه أراد أن يفتح باباً فما أغلق عليه، والحقيقة أن الأمور والمسائل التي لوحظت عليه -كما مر معنا- وقد ذكرت من بعض المسائل: تقديم العقل على النقل، والتردي في الأسماء والصفات، والحجاب وما قال فيه، ورد الأحاديث الصحيحة بالرأي، والاستهزاء بشباب الصحوة والمستقيمين وما في حكمها، وعباراته النابية التي لا تليق به، وقوله أن المرأة تشارك في الحكم والبرلمان إلى غير ذلك.
أما مسألة أهل الصحوة فإنه بمناسبة أو بغير مناسبة يأتي إلى اللحى والثياب، حتى إن أحد المشايخ أوقفه في مكة وقال: أسألك بالله يا الغزالي هل سألناك وناقشناك في اللحى؟ قال: لا ما ناقشتموني، قال: نسألك بالله هل الرسول صلى الله عليه وسلم كان مربياً للحيته وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي؟ قال: نعم.
قال: نسألك بالله هل الأصل التربية أو عدمها؟ قال: الأصل التربية.
قال: نسألك بالله الذي يدعو إلى الأصل هو المصيب أو الذي يدعو إلى غير الأصل؟ قال: المصيب هو الذي يدعو إلى الأصل.
فلذلك ما أدري هل أتاه موقف اعتراضي مع بعض الشباب، أو ضرب في مكان، أو نزل من سيارة، أو طرد من مطعم، فأخذ يأخذ على الشباب دائماً ويقول: أهل تطرف وأهل تزمت.
والحمد لله انظروا إليهم ما أحسن أخلاقهم! وما أحسن سيماء الإيمان في وجوههم! ملئوا الدنيا بالقرآن والإيمان والفهم، أيريد الغزالي أن يتخلى الشباب عن السنة؟! يريد أن يطبق الشباب مثله في السنة؟ أن يقول: صوت هذا المقرئ كصوت فيروز! أو يريد أن يسهر الشباب على شادية -إن كانت تابت تاب الله عليها- أو يريد أن يكون وردهم ورد أم كلثوم؟! أو أم يحلقوا لحاهم حتى لا يعرف هل أتوا من مكة أو من باريس أو من واشنطن؟! أو يسربلوا ثيابهم حتى نقول: الإسلام يتطور مع الزمن وليس فيه تعقيد ولا تزمت! هذا ليس بصحيح، ونسأل الله أن يهديه سواء السبيل، فإنه لو أبصر ما أبصرنا وما عشنا مع إخواننا وشبابنا شباب الصحوة لرأى ما يثلج الصدر ويرفع الرأس.
لكن أبشر هذا الكون أجمعه أنا صحونا وسرنا للعلا عجبا
بفتية طهر القرآن أنفسهم كالأسد تزأر في غاباتها غضبا
عافوا حياة الخنا والرجس فاغتسلوا بتوبة لا ترى في صفهم جنبا
شاب يقوم الليل، ويصوم النهار، ويبر والديه، وينشر الدعوة، أهذا ينتقد عليه؟! لماذا لا توجه هذه التهم لأهل العربدة، ومروجي المخدرات، وباعة المجلات الخليعات، وأهل الصفير والزفير والشهيق والتشجيع، الذين كسروا على رءوسنا الشجر والزجاج والنوافذ؟! لماذا لا يرد عليهم؟! أما هؤلاء الشباب فلا يعقل.
وقد تكرر هذا السؤال كثيراً، وكلمني بعض الإخوة في مثل هذه القضية لكن ما نريد أن نثير على الناس، وقد أتاه ما يكفيه، والذي نسأل الله أن يغفر لنا وله، وأن يتجاوز عنه، وإنه يدعى وإنا ندعوه أن يكتب كتاباً، أو يقول مقولة يتبرأ فيها مما فعل فقد أخطأ، والله هو المحاسب والموعد، فإنه قد أخطأ كثيراً مع شباب الإسلام، نسأل الله لنا وله المغفرة؛ لأن الرجل له حسنات، ونحن أمرنا أن نكون شهداء على الناس، وأن نكون عادلين في الحكم، ولا يحملنا شنآن الأقوام على التشفي بأعراضهم، فله حسنات، ومن حسناته أنه رد على الشيوعيين في وقت ما كان ينبس أحد من الناس بكلمة، وقام على كثير من الطغاة كـ عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وأمثالهما فشلحهم على المنابر تشليحاً، ومنها: أنه وجه الفكر وأتى بدرر من بنيات فكره فتح الله فيها عليه، ومنها: أن الرجل لا ينكر أنه مفسر وخطيب ومتكلم، لكن ما كل من قصد شيئاً أصاب فيه، ولا كل من أراد أمراً يترك لهذا الأمر؛ حتى يقوَّم بالكتاب والسنة.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(340/33)
وصية ابن تيمية
شيخ الإسلام ابن تيميه هو أحد العلماء الذين بذلوا أنفسهم لخدمة هذا الدين، ولإعلاء كلمته على جميع الأديان، فقد قام بنشر العلم بين المسلمين، وقد تخرج على يديه الكثير من العلماء الذين خدموا الدين بكتبهم ومؤلفاتهم العديدة، فمنهم ابن القيم وابن كثير والذهبي وغيرهم من العلماء ممن تعلموا على يديه، وقد كان المفتي الأول في زمانه والمرجع لكثير من العلماء، وقد كتب له أحد علماء المغرب رسالة يطلب فيها أن يوصيه بما فيه صلاح دينه ودنياه، وأن يدله على كتاب يعتمد عليه في علم الحديث، وأن يدله على أفضل الأعمال بعد الواجبات، وأن يرشده إلى أفضل المكاسب، فكتب له وصية جامعة، وفي هذا الدرس شرح لهذه الوصية.(341/1)
التعريف بشيخ الإسلام ابن تيمية وبعض صفاته
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المتقين، وقدوة الناس أجمعين، وعلى آله وصحبه والتابعين، أمَّا بَعْد:
فعنوان هذه المحاضرة، وصية ابن تيمية:
شيخ الإسلام، ابن تيمية يشاركنا جلستنا هذه الليلة، ويتحفكم بهدية.
أبو العباس ابن تيمية البطل المجاهد الزاهد العابد، العلامة النحرير، الكاتب العبقري.
ابن تيمية يهدي لكم هدية، ويوصي كل مسلمٍ في هذه الليلة، وصية ولسان حال ابن تيمية يقول:
أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم
وحمّلها جُهد المُحب وإنه ليضعف عن حمل القميص ويألمُ
لأنتم على بعد الديار وقربها أحبتنا إن غبتمُ أو حضرتمُ
من هو ابن تيمية؟
بين يدي الآن المجلد العاشر من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية، التي شريناها وما قرأناها، إلا القليل.
الفتاوى التي فيها ما هو أغلى من الدنيا، وأغلى من الذهب والفضة.
فيها المنهج الرباني، والفهم السلفي الصحيح للعقيدة، وفهم الكتاب والسنة.
في المجلد العاشر في الصفحة (653) يسأله سائلٌ عن مسألة ويجيب عليه ابن تيمية، لكن قبل أن أذكر السؤال، وأذكر وصية ابن تيمية، أقف دقائق مع شيخ الإسلام.
أنا لن أترجم له فقد ترجم له الأئمة، والذين ترجموا له من العلماء وصنفوا فيه أكثر من ستين عالماً، وشيخ الإسلام مجدد، حتى إن بعضهم تجاوز القنطرة فقال: ابن تيمية ليس مجدد مائة سنة، بل مجدد ألف سنة.
تقدم شاعراً فيهم خطيباً ولولاه لما ركبوا وراءه
أحد المستشرقين يقول: وضع ابن تيمية ألغاماً في الأرض -يعني: ديناميت- فجر بعضها محمد بن عبد الوهاب وبقي بعضها لم يفجر حتى الآن.
والديناميت كتب حياة، ليست الثقافة السخيفة، أو الكتابات الميتة، كتابات البيع والشراء، عليها حقوق الطبع محفوظة، وليس فيها حفظ ولا فهم، ولا وعي ولا شيء يستفاد منه، ولكن من أراد أن ينظر إلى الإبداع والروعة، وإلى العبقرية، والإشراق، وإلى الفهم، فليطالع كتب ابن تيمية.
يقول ابن القيم: كان شيخنا يكتب في اليوم كراريس.
ماذا يفعل ابن تيمية؟
يصلي الفجر ثم يجلس في مصلاه يقرأ ويردد سورة الفاتحة حتى يرتفع النهار، ثم يلتفت إلى تلاميذه ويقول: "هذه غدوتي -يعني: فطوره، غدوته الروحية- ولولاها لسقطت قواي، ثم يأخذ القلم، فيمتشقه ويسله فيكتب مما أعطاه الله بدون مرجع ولا شيء، مرجعه ما أعطاه الله في رأسه، يطالع في الآية الواحدة أكثر من مائة تفسير ثم لا يعجبه ما كتب المفسرون، يقول: فأمرغ وجهي في التراب وأبكي وأقول: يا معلم إبراهيم علمني، ويا مفهم سليمان فهمني.
فيعلمه معلم إبراهيم، ويفهمه مفهم سليمان، فيأتي بعلم ما سمع به الأولون ولا الآخرون.
كان يلوي رجلاً على رجل، ويكتب كراريس في يوم، كتب التدمرية، من صلاة الظهر إلى صلاة العصر، وقررت علينا في أصول الدين فرسب كثيرٌ منا، لأن اسمها التدمرية تدمر كل شيء بأمر ربها، كتبها في ساعة، ودرست في سنة، وشرحها الأساتذة والدكاترة، وامتحن فيها، ومع ذلك ما أفلح الكثير، وما فهمها الكثير، ابن تيمية كان متصلاً بالله، ليس عنده أحد.
دخل الإسكندرية والسيوف مصلتة في الشارع، يريدون ذبحه، قالوا: يا ابن تيمية خفف، عُد عن أقوالك، لأنه كان يهاجم المبتدعة القرامطة والباطنية والرافضة والملاحدة والذين خالفوا السياسة الشرعية، ويقولون: كلهم أعداؤك يريدون ذبحك، فيتبسم ويقول: تهددوني بالناس، والله كأنهم الذباب، وينفخ في كفه.
لأنه اتصل بالله عز وجل، ولذلك كان قوي الإرادة.
وابن دقيق العيد عالم القرن السادس، لما رأى ابن تيمية يتدفق من العلم، قال: رأيته يغلق عينيه ويتكلم، فلما فتح عينيه وسلم عليه ابن دقيق العيد، قال له: والله ما أرى أن الله يخلق مثلك، فغضب ابن تيمية من هذه الكلمة، لكن ابن دقيق العيد رأى شيئاً أذهله، رأى رجلاً يتفجر بالعلم، يجلس مع علماء الأصول، وعلماء النحو، والتوحيد، والمنطق، والفقه، والفرائض، فيشبع كلاً من علمه، وما أتى له رجلاً ينافسه إلا غلبه، وذلك بالحجة والبرهان.
كان خطيباً ومفتياً، وواعظاً وزاهداً، ومجاهداً.(341/2)
من صفات شيخ الإسلام ابن تيمية
أخذ السيف يوم وقعة شقحب، وهكذا هم علماء أهل السنة أتى التتار يزحفون كالجبال على العالم الإسلامي، فلما وصلوا إلى مشارف دمشق، خرج ابن تيمية خطيباً في الناس فجمعهم في دمشق في رمضان، وأخذ كوباً من الماء أمام الناس، وقال: يا أيها الناس! أنا مفطرٌ فأفطروا، فأفطر الناس، وقال: خذوا السلاح، فأخذوا السلاح، ودخل على السلطان، وقال: انزل قاتل: قال: السلطان أخاف أن يغلبني التتار -والتتار قد اجتاح العالم الإسلامي، وجاءوا من الصين مثل الجراد، ومن سيبريا لا يمرون بشيء إلا اقتلعوه وأزالوه، أخذوا مكتبة دار الحكمة ودمروها في النهر ومشوا بالفرسان والخيول على الكتب داخل النهر، دخلوا البيوت فجعلوها قاعاً صفصفاً- قال السلطان: لا أستطيع، قال: والله لتنصرن، قال: قل إن شاء الله، قال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، قال: واستل سيف السلطان من يده وقال: أنت حامي شريعة محمد عليه الصلاة والسلام انزل وقُد الناس، فأنزله، وأخذ ابن تيمية يقرأ سورة الأنفال والناس يبكون من قراءته، ووقف في المعركة عليه الثياب البيض، وهو آخذ بسيفه، فكان يضرب به فتتطاير شظايا السيف وتتكسر على رءوس التتار.
وكان من أقوى الناس جسماً، السبب: كثرة الذكر وكثرة الاتصال بالله عز وجل، معه وجبة في اليوم هذا إن لم يكن صائماً.
يقولون: إنه كان يأكل رغيفاً من الخبز وخيارة، وربما أكل اللحم في الأسبوع مرة، لكن ذكره هو الذي قوّاه بإذن الله، ولكن نحن ما فعلت لنا الكبسات؟! لا شيء.
عددنا اليوم مليار والحمد لله، وإسرائيل ثلاثة ملايين وقد لعبت بنا شرقاً وغرباً حتى إننا نراها في المنام.
خرج ابن تيمية وقال: لننتصرن وحضر معركة شقحب وانتصر المسلمون بإذن الله.
وكان ابن تيمية عابداً في الليل، يقول: أما الليل فقد جعلته لربي، ينام بعد العشاء قليلاً ثم يقوم يصلي إلى الفجر.
وكان وجهه عليه نور.
ولم يتزوج ابن تيمية لكن الله يقول: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38].
حتى لا يأتينا شاب اليوم ويقول: أنا لا أتزوج لأن ابن تيمية لم يتزوج، نقول له: إن الله أرسل محمداً عليه الصلاة والسلام ولم يرسل ابن تيمية، وابن تيمية من مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم، ولابد أن ننظر في ذاك.
وقد ورد أن الإمام أحمد قال لأحد الشباب: لماذا لا تتزوج؟ قال: ما تزوج إبراهيم بن أدهم، قال: أوه!! وقعنا في بنيات الطريق!! الله يقول: {وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] وعلى كل حال، الله أعلم بالسبب.
وميراث ابن تيمية هي كتبه، وقد ألف أكثر من ثلاثمائة مصنف، كل مصنف يشترى بالدماء، ولو كتب بالدم أو بماء الذهب ما أنصفه لأن كتبه مثل الذهب الإبريز، ولذلك يهاجمه النبهاني والنبهاني هذا أعمى القلب والبصر، صوفي ضال، يقول: أما كتب ابن القيم وابن تيمية فلم يرزقها الله القبول، ولا انتشرت في الأرض.
فتصدى له محمود الألوسي، وقال: أفكتبك وكتب أشياخك هي التي رزقت القبول، لا والله، لقد رزقت كتب ابن تيمية وابن القيم القبول في الدنيا، وإنها كالعسل المصفى، والذهب الإبريز، أما كتبك وكتب أشياخك فتصلح أحذية للناس.
ومخالٍ يوضع فيها الشعير للحمير.
أما هذه الكتب فنورٌ على نور، وقد جابت العالم، والآن في أمريكا تترجم فتاوى ابن تيمية، ووالله كما أخبرنا علماؤهم أنهم ذهلوا منها في الاجتماع والتربية، كيف يتكلم هذا في الاجتماع؟ من الذي فتح عليه إلا الله الواحد الأحد.
هو الفتاح.
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد:21] كانت يديه دائماً مرفوعة إلى السماء يسأل الواحد الأحد.
دخل على ابن قطلوبك فقال ابن قطلوبك: يا ابن تيمية! يقول الناس: إنك تريد ملكنا، قال: هيه ملكك!!، والله ما ملكك وملك آبائك يساوي عندي فلساً واحداً، إني أريد جنةً عرضها السماوات والأرض.
وترجمة ابن تيمية طويلة جداً وهو عظيمٌ عظيم يقول المزي -من زملائه وتتلمذ عليه-: ما أعرف قبله بأربعمائة سنة مثله، ونحن نقول ما جاء من عهد ابن تيمية وقد توفي عام (728) إلى الآن مثله، واقرءوا التاريخ إن شئتم، ولا نغالي في الرجال، لكن نحب هذا الرجل حباً عجيباً.
ونسأل الله أن يرينا وجهه في الجنة، وأن يجمعنا به في دار كرامته، إنه على كل شيءٍ قدير.(341/3)
وصية شيخ الإسلام ابن تيمية
جاء عالمٌ من علماء المغرب -حاجاً- يريد البيت، فمرَّ على دمشق؛ لأنه يسمع بـ ابن تيمية، وابن تيمية ذكره في أسبانيا وفي بلاد الإسلام، فوصل هذا العالم، والعلماء يقولون: كان العلماء إذا وصلوا إلى ابن تيمية أصبحوا تلاميذه
فإنك شمسٌ والملوك كواكبٌ إذا ظهرت لم يبدُ منهن كوكبُ
فوصل هذا العالم، فلما رأى ابن تيمية كتب له سؤالاً يقول فيه: الشيخ الإمام بقية السلف وقدوة الخلف، أعلم من لقيت بباد المشرق والمغرب -ونقول له: حتى لو ذهبت الشمال، أو الجنوب فلن تجد مثله، ولا القارات الخمس- قال الذهبي فيما ينقل عنه: كان أبوه نجماً في العلم -يعني مثل النجم- وكان جده قمراً، أما ابن تيمية فكان شمساً: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء:12].
ذاك نجم وهذا قمر، وهذا شمس، وإذا أتت الشمس، ذهب القمر والنجم.
قال السائل: أن يوصيني بما يكون فيه صلاح ديني ودنياي، ويرشدني إلى كتابٍ يكون عليه اعتمادي، في علم الحديث، وينبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات، ويبين لي أرجح المكاسب.
-علمني بمكسب يكون منه رزقي ودخلي، لأن الإسلام جمع بين الدين والدنيا، علمني هل أكون نجاراً أو خشاباً، أو مزارعاً، أو بائعاً، ما هي أفضل المكاسب يا شيخ الإسلام - ويقول: كل ذلك على قصد الإيماء والاختصار.
يقول: انتبه يا ابن تيمية! لا تسهو من قلمك، فتملأ لنا الصفحات وتكتب مجلداً في هذه الوصية؛ لأن ابن تيمية إذا نسي نفسه ذكر من العلم الكثير وكتب في المسألة الواحدة مجلداً كاملاً.
وقد أتاه يهودي بثمانية أبيات ينتقد فيها الشريعة وكان ذلك بعد صلاة الظهر، فقرأ ابن تيمية الأبيات، ثم لف الورقة وجعلها في جيبه، ثم أخرج دفتراً كبيراً وكتب فيه مائتين وأربعين بيتاً، وهي موجودة.
يقول الذهبي: كانت عين ابن تيمية كاللسانين الناطقين من الذكاء والعبقرية، حتى يقول شاعر اليمن في ابن تيمية:
وقاد ذهنٍ إذا سالت قريحته يكاد يُخشى عليه من تلهُبِهِ
فيقول السائل: يا ابن تيمية اختصر لنا في الإجابة، فالرجل مسافر وعالم ويريد أن يعود، فاكتب كلاماً بسيطاً قال: "والله تعالى يحفظه" -يعني يحفظ ابن تيمية - "والسلام الكريم عليه ورحمة الله وبركاته" فأجاب ابن تيمية فقال:
"الحمد لله رب العالمين" -لأن الرسول عليه الصلاة والسلام ورد عنه أنه قال: {كلُ أمرٍ ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله، فهو أبتر} وفي لفظٍ: {بذكر الله} وفي لفظٍ: {باسم الله} وقد ضعفت بعض الروايات لكن في مجموعها تصل إلى درجة الحسن، فهو دائماً يستفتح بحمد الواحد الأحد، وهي مناسبة جيدة، فإنه يحمد الله على نعمة العلم والفهم، ونعمة الفقه في الدين.
ومن هديه عليه الصلاة والسلام في الخطب -كما مر معنا- أنه كان يستفتحها بالحمد لله، والرسائل بالبسملة، فكأن ابن تيمية يخطب الآن بقلمه فيقول الحمد لله رب العالمين، ويقف ويضع نقطة.
أما الوصية: فسوف يفصلها شيخ الإسلام كما وردت في السؤال يقول:
الوصية الأولى: أوصني لصلاح ديني ودنياي.
الوصية الثانية: أرشدني إلى كتاب أقرأ فيه، يكون عليه اعتمادي في علم الحديث.
الوصية الثالثة: نبهني على أفضل الأعمال الصالحة بعد الواجبات.
الوصية الرابعة: أرشدني إلى أفضل المكاسب التي أستغلها في كسب رزقي، أو ما يدر علي الخير من المكاسب.(341/4)
تقوى الله وأهميتها
قال: الحمد لله رب العالمين، أما الوصية، فما أعلم وصيةٍ أنفع من وصية الله ورسوله لمن عقلها واتبعها، قال تعالى: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنْ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء:131] هذه وصية الله، التي أوصى الله بها في كتابه، وأوصى بها الرسول عليه الصلاة والسلام في سنته، فلا وصية لله أعظم من وصيته بالتقوى، أن اتقوا الله، وهي وصيته للأولين والآخرين.
قال ابن القيم في كتاب الفوائد: قال سليمان عليه السلام: تعلمنا مما تعلم الناس، ومما لم يتعلم الناس، فما وجدنا كتقوى الله، فإذا أردت أن توصي حبيبك أو ابنك أو جارك، فأوصه بتقوى الله.
وما هي تقوى الله؟ علماء أهل السنة يعرفونها:
يقول طلق بن حبيب: تقوى الله، هي: أن تعمل الحسنة على نورٍ من الله ترجو ثواب الله، وأن تترك السيئة على نورٍ من الله، تخشى عقاب الله.
ويقول ابن تيمية: تقوى الله هي: العمل بالمأمور وترك المحذور.
ويقول علي بن أبي طالب: تقوى الله: هي الخوف من الجليل، والعمل بالتنزيل، والرضا بالقليل، والاستعداد ليوم الرحيل.
الخوف من الجليل: الذي لا أجل منه، فمن لم يخف الله فليس بمتق، والعمل بالتنزيل: بالكتاب والسنة، والرضا بالقليل: من الدنيا، والاستعداد ليوم الرحيل.
وعرفها بعض علماء أهل السنة فقالوا: أن تجعل بينك وبين عذاب الله وقاية.
ثم قال ابن تيمية: "ووصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن ".
معاذ بن جبل علامة الصحابة رضي الله عنه وأرضاه، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {أعلم أمتي بالحلال والحرام معاذ بن جبل} وفي حديثٍ سعد: {يأتي معاذ أمام العلماء يوم القيامة برتوة} برمية حجر، يعني يمشي معاذ أمام العلماء برمية حجر، وتوفي معاذ وعمره اثنتان وثلاثون سنة فقط، وكل هذا العلم في اثنتين وثلاثين سنة، وهو مجاهدٌ وزاهدٌ وعابد، وداعية اليمن، كان يحبه عليه الصلاة والسلام كثيراً، صلى معه العصر فلما خرج من صلاة العصر، أخذ الحبيب عليه الصلاة والسلام أصابعه فأشبكها في أصابع معاذ وقال: {يا معاذ! والله إني لأحبك -ما أحسن الكلمة تصور أن الرسول عليه الصلاة والسلام يصلي بك العصر، ثم يمسك بيدك ويقول والله إني لأحبك- قال معاذ: والله إني لأحبك يا رسول الله! قال عليه الصلاة والسلام: يا معاذ! لا تدع في دبر كل صلاةٍ أن تقول: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك} وهذا الحديث صحيح، رواه أبو داود وغيره، كان يحبه عليه الصلاة والسلام كثيراً، ولو أنه أخذ عليه بعض المواقف.
مثل تطويله بالناس عندما صلى بهم في صلاة العشاء بسورة البقرة، والأنصار كانوا أهل عمل، يحرثون من الصباح إلى المساء، لا يقيلون ولا يرتاحون.
{وأتى رجل كدَّ على جمله يسقي نخله إلى صلاة المغرب، فلما دخل في صلاة العشاء، ومعاذ مرتاح يطلب العلم يحضر الدروس ويقرأ، فظن أن مستوى الناس مثله، فبدأ يقرا في سورة البقرة، وانتظر الرجل، وانتظر وانتظر وفي الأخير قطع الصلاة وصلى أربع ركعات، وذهب إلى البيت، قال معاذ: أين فلان؟ قالوا: ترك الصلاة وصلى وحده.
قال: منافق} ولما سمع الرجل أراد أن تكون المسألة خفيفة، لكن ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح، وأخبره، وقال: معاذ طول بنا حتى تركنا صلاة الجماعة، فدعاه صلى الله عليه وسلم وغضب عليه وقال: {أفتانٌ أنت يا معاذ! أفتانٌ أنت يا معاذ!!} قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: {من صلى منكم بالناس فليخفف فإن فيهم المريض والضعيف والكبير وذا الحاجة}.
والتخفيف هنا نسبي، لأن في سنن أبي داود بسندٍ صحيح عن عمرو بن سلمة، قال: {يا رسول الله! اجعلني إمام قومي، قال: أنت إمامهم واقتدِ بأضعفهم، واتخذ مؤذناً لا يأخذ على أذانه أجراً} يعني اقتد بالضعيف من الناس، ولا تنظر إلى الشباب ففي الناس شيوخ معك في الصلاة، ومن الناس من عنده حاجة ووراءه ضيوف، وارتباطات، وفي الناس طفل صغير، وفيهم مريض، لكن هذا التخفيف نسبي.
فلا يجعلها تخفيفاً، حتى كأنها التمارين الرياضية فلا تستطيع أن تلحقه، في الركوع ولا في السجود، فهذا ليس بصحيح، بل الوسط هو السنة.
قال شيخ الإسلام، وهو يعرض وصيته، ووصى بها: يعني تقوى الله وصى بها النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن، وكان مبعث معاذ إلى اليمن في التاسعة، وقيل في العاشرة، بعد غزوة تبوك، بعثه عليه الصلاة والسلام معلماً وقال: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب -واسمعوا يا دعاة الإسلام إلى منهج الدعوة- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليم زكاةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} وفي لفظٍ: {وإياك وكرائم أموالهم} والحديث متفقٌ عليه، لكن الشاهد هنا، قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: {اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} هذا الحديث حسن، رواه الترمذي وغيره، وابن تيمية يفيض في هذا، وقد خرج عن الإجابة قليلاً، وقد قال له السائل أوجز واختصر، ومع ذلك أوجز واختصر، ولكن نسي، أحياناً يتعرض لمسألة فيكتب فيها خمسين صفحة!!
وكلها علمٌ منقح ليس فيها إنشاء، ولا كلام ملفف، كلها علم مؤصل مبني على قواعد، فلذلك أسهب قليلاً بقلمه، ثم انطلق يتكلم عن الوصايا.
ثم قال: أما بيان جمعها -يعني جمع هذه الوصية- اتقِ الله حيثما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن.
والعبد عليه حقان، حقٌ لله تبارك وتعالى، وحقٌ للناس.
والحق الذي لله، كأنه يقصر فيه، فقال: {اتقِ الله حيثما كنت} وقوله: {حيثما كنت} أي: في أي مكان، في السر والعلن، فإنك تحتاج لتقوى الله، أحوج من الماء البارد، أو من الهواء، والذي لا يتقي الله يصيبه الخذلان كثيراً، وتضل أموره، حتى أنه ما تعكر أمرٌ ولا عسر ولا منع رزقٌ ولا جفت عينٌ ولا قسى قلبٌ إلا بالمعصية، أحد السلف يقول: أنظر كل يوم في المرآة هل أسود وجهي من الخطايا أم لا؟ وهو من التابعين الكبار.
ويقول أبو سليمان الداراني: والله إني أعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وامرأتي.
حتى الدابة ما توافقك، بل الحذاء إذا ما ركب لك فكأنه من الذنوب والخطايا!!
فإنها تقلقل حال العبد، واضطراب حال العبد من قلة تقواه لله عز وجل.
قال: "فيمكن أن يقصر في التقوى، ومن منا معصوم، فالمتكلم والسامع أهل ذنبٍ وخطيئة.
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
قال شيخ الإسلام، وهو يعرض وصيته رضي الله عنه وأرضاه، ووصى به: يعني هذه تقوى الله وصى بها النبي صلى الله عليه وسلم معاذاً لما بعثه إلى اليمن، كان مبعث معاذ إلى اليمن في التاسعة، وقيل في العاشرة، بعد غزوة تبوك، بعثه عليه الصلاة والسلام معلماً وقال: {إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم -اسمعوا يا دعاة الإسلام اسمعوا إلى منهج الدعوة- فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإن هم أجابوك لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة، فإن هم أطاعوا لذلك، فأخبرهم أن الله افترض عليم زكاةً تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، واتقِ دعوة المظلوم، فإنه ليس بينها وبين الله حجاب} وفي لفظٍ: {وإياك وكرائم أموالهم} والحديث متفقٌ عليه، لكن الشاهد هنا، قوله صلى الله عليه وسلم لـ معاذ: {اتقِ الله حيث ما كنت، واتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن} هذا الحديث حسن، رواه الترمذي وغيره، وابن تيمية يفيض في هذا، وقد خرج عن الإجابة قليلاً، يعني نسي الوصية وقد قال له السائل أوجز واختصر، مع ذلك أوجز واختصر، ولكن نسي، أحياناً يتعرض لمسألة فيكتب فيها خمسين صفحة!!
كلها علمٌ منقح ليس فيها إنشاء، ولا كلام ملفف، الإسلام دين عدالة، ودين قوة، ودين تآخي ودين كرم، لا، كلها علم مؤصل مبني، فلذلك أسهب قليلاً بقلمه، نسي نفسه، ثم انطلق يتكلم عن الوصايا.
ثم قال: أما بيان جمعها -يعني جمع هذه الوصية- اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن، والعبد عليه حقان، حقٌ لله تبارك وتعالى، وحقٌ للناس.
والحق الذي لله، كأن يقصر فيه، فقال: {اتقِ الله حيثما كنت} وقوله: {حيثما كنت} في أي مكان، في السر والعلن، فإنك تحتاج لتقوى الله، أحوج من الماء البارد، أو من الهواء، والذي لا يتقي الله يصيبه الخذلان كثيراً، وتظل أموره، حتى ما تعكر أمرٌ ولا تمشكلَ أمرٌ ولا منع رزقٌ ولا جفت عينٌ ولا قسى قلبٌ إلا بالمعصية، أحد السلف يقول: أنظر كل يوم في المرآة هل وجهي أسود من الخطايا أم لا؟ وهو من التابعين الكبار.
ويقول أبو سليمان الداراني: والله إني أعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وخلق امرأتي.
حتى الدابة ما توافقك، بل الحذاء إذا ما ركب لك فكأنه من الذنوب والخطايا!!
يعني تقلقل واضطراب حال العبد من قلة تقواه لله عز وجل، قال: فيمكن أن يقصر في التقوى، ومن منا معصوم، فالمتكلم والسامع أهل ذنبٍ وخطيئة:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه(341/5)
معاملة النبي صلى الله عليه وسلم للمذنبين
وعند مسلم في الصحيح مرفوعاً: {والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقومٍ آخرين يذنبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم} وعند الترمذي بسندٍ حسن: {كلكم خطاء وخير الخطائين التوابون} كلنا أهل خطيئة، ومن أقسم أنه ما أذنب فقد كذب وافترى على الله؛ لأن ابن تيمية يقول: والذنب كالحتم على العبد، مكتوب عليه أن يذنب، لكن يستغفر ويعود إلى الله، فلما علم عليه الصلاة والسلام، أن العبد سوف يخطئ لا محالة، قال: {وأتبع السيئة الحسنة تمحها} إذا فعلت سيئة فافعل حسنة قال تعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114].
وسبب نزول هذه الآية كما في الصحيح، أن رجلاً من الأنصار، نظر إلى امرأة -مجرد نظر- فذهب يبكي ويولول إلى محمد صلى الله عليه وسلم، انظر إلى الأبطال، وانظر إلى من عرفوا طريقهم إلى الله، أخطأ خطأً فشكى حاله إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو مستعد أن يتحمل أي شيء من أجل التطهر من هذه السيئة إما النظرة أو القبلة، ولو ذهبت نفسه من أجل ذلك.
والمرأة تزني وتأتي إلى محمد عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح فتقول: طهرني فترجم بالحجارة حتى تموت وتغمس في أنهار الجنة.
وماعز يقول: طهرني يا رسول الله! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يريد ألا يعترف، فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن يفضح الناس، يقول كما عند الحاكم بسندٍ حسن: {يا أيها الناس! من ابتلى منكم بهذه القاذورات فليستتر بستر الله} فمن السنة أنك إذا ابتليت ببلاء فاستتر وتب إلى الله، فأتى ماعز من أمامه فاعترف بالزنا، فولى الرسول صلى الله عليه وسلم رأسه لا يريد أن يفضح الناس، ويقول: {ادرأوا الحدود بالشبهات} وهو حديث حسن، فأتى ماعز من على اليمين فكلمه، فمال الرسول صلى الله عليه وسلم عن اليسار برأسه، فأتى من يساره فكلمه.
فقال في الرابعة: {أبك جنون؟ قال: لا، قال: استنهكوه -يعني شموه هل هو سكران قد شرب خمراً؟ - قالوا: ما به بأس، قال: هل أحصنت؟ قال: نعم، فأمر به فرجم، فقال: صلى الله عليه وسلم رأيته في الجنة} أو كما قال، إلى غيرها من القصص.
{وجاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يشكو قال: قبلت امرأة فماذا عليَّ؟ قال عليه الصلاة والسلام: لا أدري ما هي الكفارة} والرسول عليه الصلاة والسلام قال في حياته، لا أدري ثلاث مرات، يقول: {لا أدري تبعٌ نبيٌ أو لا} والحديث صحيح، {ولا أدري هل هو ذو القرنين أو لا} {وهل الحدود كفارات أم لا} ثلاث لا أدري، وصححها كثير من علماء السلف وهذا الحديث صححه الشيخ الألباني وهو من المتأخرين، قال علي بن أبي طالب: [[من فاتته لا أدري أصيبت مقاتله]] وقالوا: من أجاب الناس على كل سؤال فهو مجنون.
ولا أدري نصف العلم، فعليك بلا أدري إذا لم تعرف، وما عليك من غضب الناس، فإذا سئلت في مجلس، أو في مجمع، وأنت لا تعرف فقل: لا أدري، اسألوا العلماء.
فهنا الشاهد قال صلى الله عليه وسلم: لا أدري!! فأنزل الله عليه بعد ساعات: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] فدعا الرجل وتلا عليه هذه الآية وهذه فتوى، قال له: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنْ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] قيل: صلاة الفرائض، وقيل: تنفل في أول الليل وفي آخره، قال: علي هذه -يا رسول الله- خاصة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: {بل لأمتي إلى يوم القيامة}.
بشرى لنا معشر الإسلام إنا لنا من العناية ركناً غير منهدمِ
لما دعا الله داعينا لطاعته بأكرم الرسل كنا أكرم الأممِ
جئنا متأخرين في آخر الزمن ولكن أول من يدخل الجنة من الأمم أمة محمد صلى الله عليه وسلم {سمع موسى يوم أسري بالرسول عليه الصلاة والسلام، بأجور الأمة المحمدية، فقال: يا رب! اجعلني من أمة محمد -منافسة في الخير لما رأى الأجور- قال يا ليتني من أمة محمد} والحديث صحيح.
وصح عند النسائي وأحمد، أن عمر وجد ورقة صفراء في مدراسٍ لليهود -عليهم غضب الله؛ فهم ممن خالف شرع الله فاستبشر بها؛ لأن العرب أمة أمية، ليس عندهم أقلام، ولا مكتبات، ولا صحف، ولا جرائد ولا مجلات، ولا أشرطة، أمة من الصحراء: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} [الجمعة:2].
وفي الحديث: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب} فاستبشر بها عمر فقال: سأعطيها الرسول عليه الصلاة والسلام، فقال: خذ يا رسول الله! ورقة من التوراة وجدتها، فأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغير وجهه، حتى كأن حب الرمان فقئ في وجهه من الغضب، ونظر إلى عمر وقال: {أمتهوكون فيها يا ابن الخطاب؟! أمتهوكون؟ -يعني: متساقطون في الشريعة- وقيل: أفي شكٍ أنت!! والذي نفسي بيده! لو كان موسى حياً، لما وسعه إلا اتباعي، أما أتيتُ بها بيضاء} يعني: لا نحتاج إلى شرائع من الثقافات ولا إلى علم من غير الكتاب والسنة، وقد فصلا كل شيء من لا إله إلا الله، إلى إماطة الأذى عن الطريق.
وكيفية الاستنشاق والاستجمار، والمضمضة، وكيف تعفي لحيتك، وتأخذ شاربك، وتقلم أظفارك، وتحلق عانتك وإبطك، وبعدها نقول: نريد ثقافة حتى نتوسع في العلوم!!
هذه شريعته عليه الصلاة والسلام، والشاهد أنه لابد للعبد أن يذنب، ولكن الحسنات يذهبن السيئات؟(341/6)
الخلق الحسن
قال ابن تيمية: "وحق لعباده" ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: {وخالق الناس بخلقٍ حسن} فما تعريف الخلق الحسن؟ قال الإمام أحمد: الخلق الحسن: ألا تغضب، والصحيح أنه لابد للإنسان أن يغضب لأنه لا يوجد أحد لا يغضب.
يقول الشافعي: من استغضب فلم يغضب فهو حمار، يعني إنسان تنتهك محارم الله أمام عينيه، ولا يغضب بل هو حليم ما شاء الله، ويتبسم، ويقول: أعطانا الله حلماً، فنقول: بل هذه بلادة وغباوة، وإذا لم تغضب في هذا الوضع فمتى تغضب؟!
والغضب ما يطلب إلا هنا، لكن لو أن أحداً أخطأ عليه بخطأ واحد، فهل ترى من حلمه شيئاً؟! وبعضهم كثير الغضب، يشتعل، فلو قلت له كلمة غضب سريعاً، حتى قال عليه الصلاة والسلام -في الصحيح- لـ أبي ذر، وقيل لغيره لما قال له: أوصني {لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب، قال: أوصني، قال: لا تغضب} فالغضب هذا من أبواب الشيطان في دخوله على العبد.
والخلق الحسن، قالوا: وجهٌ طليق، وكلامٌ سهل.
وقالوا: هو بذل الندى وكف الأذى.
وقالوا: هو أن تعطي من حرمك، وتعفو عمن ظلمك، وتصل من قطعك.
وهذا يروى في حديث عنه عليه الصلاة والسلام، لكن في سنده نظر: {إن الله أمرني أن أصل من قطعني، وأن أعفو عمن ظلمني، وأن أعطي من حرمني} وقد طبقه عليه الصلاة والسلام في حياته، فوصل من قطعه، وعفا عمن ظلمه، وأعطى من حرمه.
وأما في الحديث الصحيح، فيقول عليه الصلاة والسلام في البخاري: {ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل من إذا قطعت رحمه وصلها} أما أنك تصل من وصلك فما فعلت شيئاً، أنت مكافئ بالحساب، وبعضهم يقول: لم يصلنا فلان فلا نصله، ولم يزرنا فلا نزوره ولم يعزمنا فلا نعزمه، وما أدانني قبل أربع سنوات، والله لا أدينه، وما شهد لي شهادة زور، والله لا أشهد له شهادة زور، ولكن لو شهد له شهادة زور، لشهد له شهادة زور.
إذاً أيها المسلمون، هذا جماع الخلق الحسن، قال سبحانه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
فما هو الخلق العظيم؟ قال مجاهد: [[الدين العظيم]] ومن العجيب أن هذا خلقه صلى الله عليه وسلم في الدين والمعاملة والاعتقاد، والأحوال والصفات.(341/7)
مكفرات الذنوب
ثم قال ابن تيمية واستطرد في الجواب وأسهب، لكني آخذ رءوس الجمل، ولب الإجابة بلفظه إن شاء الله.
قال: "وينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات، فإنه أبلغ في المحو، والذنوب يزول موجبها بأشياء"
أي: يقول: ينبغي أن تكون الحسنات من جنس السيئات، مثل ماذا؟
مثل إنسان كان يستمع الغناء، فكيف يكون المكفر له إذا تاب؟ أن يكثر من سماع القرآن والأشرطة الإسلامية، وإنسان كان ينظر إلى الحرام فعليه أن يكثر النظر في المصحف! وإنسان كان يجالس البطالين والعاطلين والفجرة فعليه أن يكثر من مجالسة الصالحين، هذا مقصود ابن تيمية، فإنها أبلغ في المحو وتزول بإذن الله الواحد الأحد.
قال: والذنوب يزيل موجبها بأشياء -وقد عدها في عشرة مواطن، وألقيتها في درس اسمه (مكفرات الذنوب العشرة) وقد ذكر العشرة المكفرات- قال أحدها التوبة: فإن التوبة كما صح عند مسلم: {تجب ما قبلها} فإن الله عز وجل يغفر ذنوب العبد إذا تاب وأناب ولو كانت ذنوبه ملء السماء والأرض، لكن إذا صدق في التوبة وأخلص، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وقال: {قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
ولكن من أصر على صغيرة فهي كبيرة، ويخشى عليه، ولذلك ورد عن بعض الشعراء أنهم أصروا على الصغائر، وقد لامَ كثيرٌ من العلماء مجنون ليلى الذي يقول في بيتٍ له:
أتوبُ إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوبي
وأما من هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوبُ
أستغفر الله! يقول: كل شيء أتوب منه، إلا ليلى هذه، فقالوا: إن كان ثبت عنه ما يقول، فهو من الذين أصروا على الذنب وهم يعلمون، ولا ينبغي للعبد أن يصر على ذنب، وتجد بعضهم يصر على صغيرة من الصغائر، تناصحه فيقول: لا أستطيع تركها، وهذا هو الإصرار بعينه، والذي يُخشى على العبد هو أن تأتيه المنية وقلبه معقودٌ على الذنب والخطيئة، فيهلك والعياذ بالله!
قال: والثاني مما يمحو الذنوب والخطايا: الاستغفار، وإن كان من غير توبة، فإن الله تعالى قد يغفر له إجابة لدعائه وإن لم يتب، فإذا اجتمعت التوبة والاستغفار فهو الكمال.
فانظر ما أحسن الكلام! إنه كلام محسوب، وكلامٌ عجيب، لا يأتي به إلا مثل ابن تيمية يقول: قد ينفع الاستغفار بلا توبة، لإنه دعاء، وقد يغفر الله لك ولو لم تتب، لكن بقولك: أستغفر الله والاستغفار له فوائد ثلاث:
الأولى: ألا يقدم الله هلاكك في الدنيا، يقول جعفر الصادق: لو نزلت صاعقةٌ من السماء؛ لأصابت كل عبدٍ إلا المستغفر، لأن الله يقول: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33].
الثاني: أنها متاع حسن في الجسم والولد، قال سبحانه: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود:90].
الثالث: أنها زيادة في المال والولد، قال نوحٌ عليه السلام: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} [نوح:10 - 12] هذه فائدة الاستغفار.
قالوا: لـ خالد بن معدان الزاهد العالم الكبير، كم تستغفر في اليوم؟ قال: مائة ألف إن لم تخطئ الأصابع، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام، أنه قال: {يا أيها الناس استغفروا الله وتوبوا إليه، فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة} وفي رواية: {مائة مرة}.
الثالث: من المكفرات التي تكفر الذنوب: الأعمال الصالحة: فوضوءك، وصلاتك، وذكرك لله واستغفارك، ودعاؤك، وحضورك مجالس العلم، واستفادتك من طلبة العلم، وحبك للصالحين، ودعاؤك بالسحر، وقيامك لليل، وصدقتك، كلها كفارة، ولن يهلك على الله إلا هالك، لأن أبواب الخير عدة الأنفاس، ولكن من يعمل؟ ثم مضى في المكفرات حتى أتى إلى كفارة المجامع في رمضان، والمظاهر، والمرتكب لبعض محظورات الحج، أو التارك لبعض واجباته، وذكر أنواع الكفارات، وهي أربعة أجناس: هديٌ وعتقٌ وصدقةٌ وصيام، ثم أسهب في هذه الأمور.
والسائل لا يريد هذا.
لكن يقول ابن القيم: لام بعض الناس شيخنا أنه يسهب في الجواب، ولكنه يريد نفع السائل، بهذا العلم، لأن السائل قد تخفى عليه أمور، فيريد ابن تيمية أن ينفعه، وهذا منهج الرسول عليه الصلاة والسلام.
عند الخمسة، ومالك والشافعي وابن أبي شيبة، بسندٍ صحيح: أن سائلاً أتى فقال: {يا رسول الله! إنا نركب البحر، وليس معنا إلا الماء القليل، فإن توضئنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟! فأجابه عليه الصلاة والسلام وقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته}.
هل يستطيع أحد أن يجيبك بمثل هذه الكلمة: هو الطهور ماؤه الحل ميتته، عرفها بمعرفتين، واختصرها في ثلث سطر، وبعضهم شرحها في مجلد، والله عز وجل ذكر مثل ذلك في القرآن، يقول سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189] أهل قريش يقولون: يا محمد! كيف يبدو الهلال صغيراً ثم يكبر ثم يصغر! هذا أسئلة تافهة مثل أسئلة الأطفال وليست أسئلة عقلاء، فهل تنتظر من القرآن أن يقول: يكبر الهلال، لأن الله يكبره ثم يصغر لأن الله يصغره، لا، بل أجاب بجواب الحكيم عند أهل البلاغة، وجواب الحكيم عند أهل البلاغة أن يسمع السؤال، فيجيبه بجوابٍ لسؤالٍ آخر قال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ} [البقرة:189] يعني كيف يبدو الهلال صغيراً ثم يكبر ثم يصغر، فقال: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة:189] يقول: لماذا لم يسألوا.
ما الفائدة من الهلال؟ ولماذا يسألون عن كبر الهلال وصغره؟!
فـ ابن تيمية استطرد ليفيد السائل، لكن نحن في عجالة وفي درس موجه للناس، فنريد أن نأخذ الجمل التي على السؤال نفسه، لنربطه بالعنوان إن شاء الله.
قال: "وجماع الخلق الحسن مع الناس أن تصل من قطعك -ومر هذا بالسلام والإكرام والدعاء له، والاستغفار والثناء عليه والزيارة له- وتعطي من حرمك -من التعليم والمنفعة والمال- وتعفو عمن ظلمك في مالٍ أو دمٍ أو عرض، وبعض هذا واجبٌ وبعضه مستحب".
وهذا قليلاً ما يطبق في المجتمع، ولا يطبقه في المجتمع إلا واحد في الألف، أما بقية الناس فبالمقاصة، يقولون: من نكد علينا؛ نكدنا عليه، ومن سبنا سببناه، ومن قاتلنا قاتلناه، ومن أخذ مالنا أخذنا ماله، وهذا ليس هو الأفضل، بل الأفضل: أن تعفو عمن ظلمك، وتعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وقد فعلها محمد عليه الصلاة والسلام.
وابن تيمية نفسه فعل ذلك، وقد ذكروا عنه أنه بشر بموت أحد حساده لما توفي فدمعت عينا شيخ الإسلام، وقال: تبشروني بموت مسلم! قوموا بنا نعزي أهله، ثم ذهبوا إلى أهل ذاك العدو لـ ابن تيمية فعزوا أهله، فبكى أطفال ذلك العدو لما رأوا ابن تيمية، وقال: أنا أبوكم بعد أبيكم!!
وهذا هو تطبيق الإسلام قال تعالى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران:134] ويذكر ابن كثير وأمثاله -استطراداً- على هذه الآية، أن هارون الرشيد، كان عنده مولى يصب عليه الماء، وكان الماء حاراً، فصب عليه الماء، فسقط الإناء بحرارته من يد الرجل، على هارون الرشيد -الذي يعرفه الناس شرقاً وغرباً، فقد كان يملك ثلاثة أرباع البلاد الإسلامية ويجبى إليه الخراج، حتى إنه وقف على قصره في بغداد، ورأى سحابة فقال: امطري حيث شئت فإن خراجك سوف يأتيني، إن ذهبت إلى المغرب فـ المغرب في دولته، وإن ذهبت إلى الهند، فـ الهند في دولته، فكلها في دولته فاذهبي حيث شئت فإن زكاة الحبوب والثمار الذي نبت بسببك سوف يأتيني إن شاء الله، هذا هارون الرشيد - فعندما سقط عليه الإناء وهو حار التفت مغضباً إلى غلامه، فقال الغلام: والكاظمين الغيظ، قال: قد كظمته قال: والعافين عن الناس، قال: عفوت عنك، قال: والله يحب المحسنين، قال: أعتقتك لوجه الله.
وهذه مواقف جيدة من سيرهم الطيبة، فهم لمعٌ في الإسلام، وهم أهل دين واستقامة، ولو أن فيهم بعض الأمور، لكن على كل حال.
هم القوم إن قالوا أصابوا وإن دعوا أجابوا وإن أعطوا أطابوا وأجزلوا(341/8)
أفضل الأعمال
قال ابن تيمية: وأما ما سألت عنه، من أفضل الأعمال -وبدأ يجيب عن الفقرة الثانية، بعد صفحات - قال: "وأما ما سألت عنه من أفضل الأعمال بعد الفرائض، فإنه يختلف باختلاف الناس، وصدق رحمه الله، فإن بعض الناس يناسبهم الذكر، وبعضهم الصيام، وبعضهم الجهاد، وبعضهم الإنفاق في سبيل الله، وبعضهم التعليم، وبعضهم نفع الناس، إلى غير ذلك من الأعمال، ولذلك لابد أن تعرف مستويات الناس، وترشد كل إنسان لما يصلح نفسه، كما فعل عليه الصلاة والسلام.
عندما جاءه عبد الله بن بسر -كما في سنن الترمذي بسند صحيح- عبد الله شيحٌ كبير عمره فوق السبعين، فقال: {يا رسول الله! إن شرائع الإسلام قد كثرت عليَّ فدلني على شيءٍ أتشبث به -وقد جاء بعصاه متوكئاً عليها، منحني الظهر، أبيض اللحية والرأس، فماذا تتوقع أن يقول له الرسول عليه الصلاة والسلام؟ يقول: عليك بقيام الليل، وهل هذا يقوم الليل، أو عليك بالجهاد في أفغانستان لا- قال: لا يزال لسانك رطباً من ذكر الله} هذا هو جوابه، فإذا رأيت الشيوخ الكبار، والعاجزين والمرضى فقل لهم: عليكم بذكر الله.
{جاءه غيلان الثقفي -وكان قوي البنية- وكان عنده تسع نسوة، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعاً، وأن يطلق سائرهن، فقال: دلني على عمل؟ قال: عليك بالجهاد في سبيل الله} لأن هذا فارس، يذبح القوم وهو بطل، يستحق هذا المستوى، وجاءه عليه الصلاة والسلام أبو أمامة فلما رآه قال: {عليك بالصيام} وجاؤه أبو ذر، قال: {أوصني قال: لا تغضب}.
لأن أبا ذر يغضب، رضي الله عنه وأرضاه وكانت فيه حده.
وجاءه رجلٌ من أهل اليمن فقال له صلى الله عليه وسلم: {أعندك من والديك أحد قال: أمي في اليمن، قال: ماذا تريد؟ قال: أريد الجهاد في سبيل الله.
قال: ففيها فجاهد} وأصل الرواية في الصحيحين بلفظ:: {ففيهما فجاهد} وعند النسائي: {أمسك رجلها فإن الجنة عند رجلها} أيترك والدته تموت جوعاً وعرياً في البيت ويذهب يقاتل!! هذا ليس بصحيح، ولذلك لابد للمسئول إذا سئل أن يسأل عن حال السائل.
والآن إذا أتيت إلى تاجر، عنده ملايين في البنوك، أتخاطبه بقيام الليل، قيام الليل من أسهل الأمور عند التجار، وهم يريدون أن يسمعوا دائماً الحديث في قيام الليل، لكن لا يريد كثير منهم أن يسمع ذكر الربا، والصدقة، وسيرة عثمان، وابن عوف، وكيف أنفقوا، وكيف أعطوا، ولا تأتي في سيرة النوافل الأخرى إلا عرضة.
وإذا جلست مع طالب علم فقير فلا تكلمه عن الإنفاق؛ لأنه ليس عنده إلا ثوبه الذي عليه، فمن أين ينفق؟! لكن كلمه في بذل العلم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمْ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمْ اللاَّعِنُونَ} [البقرة:159] أعطه من هذه الأمور، وإذا أتيت إلى السلطان وجلست معه في المجلس، فلا تتكلم عن البيع والشراء!! وتكلم عن العدل، وسيرة داود عليه السلام، وسيرة محمد صلى الله عليه وسلم وسليمان عليه السلام وعمر بن الخطاب:
البس لكل حالةٍ لبوسها إما نعيمها وإما بؤسها
هذا هو المطلوب.
قال: "يختلف باختلاف الناس فيما يقدرون عليه، وما يناسب أوقاتهم" لأن الذي يناسبني قد لا يناسبك، فأنت موظف وأنا طالب، أو أنت تاجر، وأنا مزارع، فيختلف باختلاف الناس، "فلا يمكن فيه جوابٌ جامعٌ مفصلٌ لكل أحد، لكن مما هو كالإجماع بين العلماء بالله وأمره، أن ملازمة ذكر الله عز وجل دائماً هو أفضل ما شغل العبد به نفسه في الجملة" يقول: شبه إجماع بين أهل العلم أن أفضل نافلة بعد الفرائض ذكر الله عز وجل، وهذا قدر مشترك يشترك فيه الناس جميعاً، من تاجر ومسئول وموظف ومزارع وطالب وأستاذ، فكلهم يشتركون في هذه المسألة.
ولا أفضل من الذكر، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام، من حديث أبي الدرداء، أنه قال: {ألا أنبئكم بأفضل أعمالكم، وأزكاها عند مليككم، وخيرٌ لكم من إنفاق الذهب والورق، وخيرٌ لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم، قالوا: بلى يا رسول الله! قال: ذكر الله}.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند مسلم أنه قال: {سيروا هذا جَمَدَانْ} وهو الجبل الذي مر عليه عليه الصلاة والسلام، وكان أمامه، فلما رأى جمدان هذا الجبل العظيم، قال للصحابة: {سيروا هذا جمدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيراً والذاكرات}.
هذا أسبق من يسبق، وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند البخاري من حديث أبي موسى، أنه قال: {مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره، كمثل الحي والميت} الذي لا يذكر الله ميت، تراه في المجالس ثلاث ساعات أو أربع لا تتحرك شفته يذكر الله لأنه ميت! والذي يذكر الله حي، وقال عليه الصلاة والسلام كما عند مسلم: {لأن أقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر أحب إليَّ مما طلعت عليه الشمس} وفي لفظٍ: {أو غربت}.
وقال عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه -وهذا الحديث عند الترمذي بسندٍ صحيح، وصححه الأئمة- قال: {من قال: سبحان الله العظيم وبحمده؛ غرست له نخلةٌ في الجنة}.
وللفائدة -يا أيها الإخوة- أذكركم ببعض الأحاديث أقدمها هدية لكم، وهي صحيحة، كلها على شرط الصحة، لا أذكر حديثاً إلا صحيحاً، وإن ذكرتُ حديثاً في سنده شيء بينته إن شاء الله.
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {سورة تبارك المانعة من عذاب القبر} وعند أحمد بسندٍ صحيح، {ثلاثون آية -هي سورة تبارك- شفعت لرجلٍ حتى دخل الجنة} وهي تنجي من عذاب القبر، فأوصيكم بقراءة سورة تبارك مرة في اليوم والليلة.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام، عند الحاكم والدارقطني أنه قال: {من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة، أضاء له نورٌ إلى الجمعة الثانية} وفي روايةٍ عند الحاكم صحيحة أنه قال: {أضيء له نورٌ إلى البيت العتيق} وصح عنه عليه الصلاة والسلام عند ابن حبان والطبراني والنسائي في السنن الكبرى أنه قال: {من قرأ آية الكرسي بعد كل صلاة، لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت} وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، عشر مرات، بني له بيتٌ في الجنة} فهذه من الأحاديث التي أقدمها لكم في هذه الليلة، وسوف تكون مجالاً للحديث إن شاء الله في الدروس المقبلة.
والشاهد أن ابن تيمية يرى أن الذكر -وهو شبه إجماع- أفضل الأعمال، وأنا أوصيكم بالذكر، وأن تسبح الله وتحمده، وأنت في المجلس وفي السيارة والطائرة، والمكتب، علَّ الله أن يرفع درجتك في الجنة.
وهناك حديث في سنده ضعف، عند الترمذي: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما عرج به مر بإبراهيم، قال إبراهيم عليه السلام: يا محمد! أقرء أمتك مني السلام -عليه وعلى رسولنا الصلاة والسلام، وعلى سائر الأنبياء والرسل- وأخبرهم أن الجنة قيعان، وأن غراسها سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر}.
والمطلوب من المسلم أن يحيي بيته بهذه الأذكار، وأن يدخل القرآن والدعوة ويدخل الإيمان بيته، وأن يخرج كل ما يعرضه لغضب الله، وعذاب الله، ليكون بيته من بيوت أهل الإيمان، وأهل الاستقامة.(341/9)
أرجح المكاسب
ثم مضى ابن تيمية يتكلم إلى أن قال: "وأما أرجح المكاسب -هذه الفقرة الثالثة- أما أرجح المكاسب" أيها الإخوة! ورد عند الحاكم والبزار بسندٍ صحيح عن رفاعة بن رافع رضي الله عنه وأرضاه {أنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أطيب الكسب؟ فقال عليه الصلاة والسلام: عمل الرجل بيده، وكل بيعٍ مبرور} واختلف أهل العلم في أشرف المكاسب، فقال بعضهم: الزراعة، وهذا القول للشافعية، وبعضهم قال: التجارة، فإن تسعة أعشار الرزق من التجارة، وبعضهم قال: بل من عمل اليد، لقوله عليه الصلاة والسلام في الصحيح: {ما أكل أحد أفضل ممن يأكل من كد يده، وإنَّ نبي الله داود كان يأكل من عمل يده}.
فقد كان داود عليه السلام حداداً، يحد، ويصنع السروج، حتى قال كعب بن زيد في قصيدته، كان ينسج دروعاً:
شم العرانين أبطال لبوسهم من نسج داود في الهيجا سرابيلُ
قال الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} [سبأ:10] يقولون: كان الحديد بيد داود -بقدرة الواحد الأحد- مثل العجين، يأتي بالحديد الفولاذ فيلفه كالعجين، يفعل به ما أراد {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ * أَنْ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} [سبأ:10 - 11] ما معنى "وقدر في السرد؟ " قالوا: اجعل المسمار على قدر الحلقة، لأنه يجعل المسامير في الحلق، يقول: لا تكبر المسمار فلا يدخل في الحلقة، ولا تصغره فتقضمه الحلقة وينكسر.
وكان آل داود عددهم ستة وثلاثون ألفاً، كلهم لا يأكلون إلا من كسب أيديهم، داود كان ملك الدنيا، وأكثر ملك الدنيا له، لكن لا يأكل إلا من كسب يده، من الحدادة، وكان زكريا عليه السلام نجاراً، وكان إدريس خياطاً، يقولون: كان إدريس لا يدخل الإبرة ويخرجها إلا يقول أربع كلمات، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، حتى قال له الله: {يا إدريس أما تدري لماذا رفعتك مكاناً علياً؟ -لأن الله يقول: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم:57]- قال: ما أدري يا رب! قال: يرتفع إليَّ من عملك كل يوم، مثل نصف أعمال أهل الدنيا، من كثرة الذكر} وهو جالس يخيط ويقول: سبحان الله فترتفع أعماله، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:10] وقال الحافظ ابن حجر: وأرجح المكاسب وأحسنها هو الجهاد في سبيل الله والغنائم، وأكثر رزق الرسول عليه الصلاة والسلام من الغنائم في سبيل الله، وأكثر ميزانيته في الدولة الإسلامية من الجهاد في سبيل الله، وعند أحمد بسندٍ صحيح، أنه صلى الله عليه وسلم قال: {بعثتُ بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقومٍ فهو منهم} حديثٌ صحيح، والشاهد {وجعل رزقي تحت ظل رمحي}.
فالجهاد أشرف ما يمكن أن تكسبه، ولكن يقول ابن تيمية: "أما أرجح المكاسب فالتوكل على الله" ما شاء الله، جاء بجواب لأهل القلوب، يقول: "التوكل على الله، فإنه يرزق من يشاء سبحانه" مثل ابن تيمية كان فقيراً ليس عنده مرتب، ولا إعاشه، ولا سيارة، ولا بيت، ليس عنده إلا غرفة في طرف المسجد فيها مكتبته، وعنده ثوبان، إذا اتسخ أحد الأثواب غسله وغير بالثوب الثاني، وطول يومه وهو في الجهاد والدعوة، والنصيحة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والخطابة والإفتاء، وإقامة الحدود وقمع أهل البدع والمشركين، فلذلك قال: التوكل على الله، والثقة بكفايته، يقول تعالى: {فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ} [العنكبوت:17] لا يرزق إلا الله.
قال ابن الجوزي في صفة الصفوة: رأى أحد العباد عصفوراً يقبل بقطعة لحم كل يوم، ويدخل بها في نخلة، قال: فعجبت، لأن العصفور في العادة لا يعشعش في النخل!! قال: فتسلقت النخلة، فرأيت فيها حيةً عمياء، فإذا اقترب العصفور، أحدث لها صوتاً، يخبرها به لأنها عمياء -أعطاها إنذار مبكر أنه اقترب- فتفتح فمها، فيضع اللحم في فمها ويعود، فمن الذي علم العصفور أن يعطي الحية إلا الواحد الأحد حية عمياء في رأس نخلة، سخر لها عصفوراً يأتي برزقها: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود:6].
ودل النملة أن تدخر قوت الشتاء في الصيف، فتجدها في الصيف لها مخازن في بيتها، تكدس ولا تأكل من هذه المخازن، ومملكة النمل مثل مملكة النحل، لها عاملات وملكة وشغالات، هذه الشغالات مهمتها نقل الحبوب يقولون: وخوفاً من أن تنبت الحبة، علمها الله الذي علم كل شيءٍ خلقه ثم هداه أن تخرم الحبة، فتحدث خرماً في وسط الحبة فلا تنبت، ولذلك حب النمل لا ينبت أبداً، فلو أخرجته من جحرها وذريت به الأرض فإنه لا ينبت، لأنه أصبح غير صالح للإنبات، بل للإدخار.
وللفائدة يذكر ابن القيم في كتاب مفتاح دار السعادة: أن نملةً كانت تخرج مع النمل تأخذ رزقها فرأت رجل الجرادة مرمية في الأرض، فأخذت تسحب رجل الجرادة فما استطاعت، فذهبت -وهذا من كلام ابن القيم والعهدة عليه- فذهبت إلى بيتها وأخبرت الشغالات ليعاوننَّها فجاء النمل وكان هناك رجل جالس يتدبر في خلق الله، فأخذ رجل الجرادة، فأتوا فبحثوا في المنطقة فلم يجدوا رجل الجرادة، فعادوا، فلما عادوا وقفت هي، فرد رجل الجرادة، فأتت تزعزعها فما استطاعت، فذهبت فأخبرت الشغالات فرفع الرجل الجرادة، فذهبوا ووقفت فردها، فزعزعتها فما استطاعت، فذهبت فأعطتهم خبراً، فأتوا فرفع رجل الجرادة، فاجتمعوا عليها جميعاً فقطعوها قطعةً قطعة، لأنها كذبت ثلاث مرات، وهذه القصة في مفتاح دار السعادة راجعوها إن شئتم وهي لـ ابن القيم رفع الله منزلته، والله يقول: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50].
يقول الزمخشري: لله دره من جواب! من صاحب الجواب هذا؟ إنه موسى رد بها على أحد الطغاة، يقول: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:49 - 50] يقول: أنت يا ضعيف! يا خسيس! يا مجرم! تعطي كل شيءٍ خلقه، وتهدي!!! ولذلك سيد قطب نسي نفسه عند قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى:1 - 3].
وأتى ينقل من كتب كريسي موريسون وغيره، عن أمور عجيبة لا أحب أن أطيل فيها، وللإنسان أن يراجعها في المجلد السادس في الظلال، عند هذه السورة.
يقول ابن تيمية: "وأما أرجح المكاسب فالتوكل على الله، والثقة بكفايته، وحسن الظن به" لكن يا أيها الإخوة وقد نُبه كثيراً، أن بعض الناس يفعل مثل توكل الصوفية، يأخذون لفائف ولا يغتسلون ولا يبحثون ولا يطلبون الرزق ويجلسون في المسجد، ويقولون: الرزاق هو الله، هذه حطمها عمر بن الخطاب، لأنها أسطورة كاذبة.
[[دخل عمر رضي الله عنه -والقصة مشهورة- المسجد فوجد شباباً يتعبدون وعمر ليل نهار وهو يبحث ويرتب الجيش للجهاد، ويعدل بين الناس، ويقيم الموازين، ويصلي ويحكم بين الناس، ويفض في النزاع، فقال للشباب: من أنتم؟ قالوا: عبادٌ نعبد الله، قال: من أين يأتيكم الرزق.
؟ قالوا: الله يرزقنا.
قال: أدري أن الله يرزق لكن من الذي يقدم لكم الطعام والشراب؟ قالوا: جيرانٌ لنا ومحسنون، قال: انتظروا -لم تكن عصاه معه، وكانت قريبة في البيت، فذهب وهي جاهزة عند الباب- فذهب إلى الدرة فأخذها -سلم الله الدرة- فأخرجها وأتى -يظنون أنه سوف يأتي بكبسة رضي الله عنه- فلما دخل أغلق باب المسجد، ثم نزل عليهم ضرباً، وقال: اخرجوا إن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة]] أما أن تتكدس المساجد بعشرات من أهل العطالة والبطالة، ومئات الشباب، وتبقى الورش والمكاتب والوظائف والمصانع والمزارع والمتاجر والدكاكين فوضى، فهذا لا يصلح؟ ولذلك بعض الآباء يشكون يقول أحدهم: ابني صالح، مع زملائه يزورهم في الله، لكن الدكان ليس فيه أحد، وعندي مزرعة، وسيارة، ومقاضٍ وعندي أبناء وبنات يريدون المدرسة لا يوصلهم، ولا يجلس في الدكان، ولا يساعدني في المزرعة، يعبد الله فقط.
ونقول: ليست هذه عبادة، أن تزور زملاءك بعد العصر وبعد المغرب وبعد العشاء وبعد الصبح!! بل هذا ضياع للوقت فاجلس مع أبيك، واستقم معه، وعاونه، واجعل لحضور الدروس وقتاً، ولمعاونة والدك وقتاً، فالإسلام لا يعترف بالبطالة.
قال: "وأرجح المكاسب التوكل على الله، والثقة بكفايته، وحسن الظن به -ثم أتى بالحديث-: {يا عبادي! كلكم جائعٌ إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي! كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم}.
ثم نأتي إلى الفقرة الرابعة:(341/10)
ما يعتمد من الكتب في العلوم
قال شيخ الإسلام وهو يواصل وصيته وجوابه على سؤال السائل، في الفقرة الرابعة عن كتاب مفيد في علم الحديث، وفي العلوم الشرعية، "وأما ما تعتمد عليه من الكتب في العلوم فهذا بابٌ واسع، وهو أيضاً يختلف باختلاف الناس في البلاد" فقد يتيسر له في البلاد من العمل أو من طريقه ومذهبه ما لا يتيسر له في بلدٍ آخر، "لكن جماع الخير أن يستعين العبد بربه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، في تلقي العلم الموروث عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام"، وأقول: العلم صراحةً هو علم الكتاب والسنة الذي تنجو به في الآخرة، ولكن للإنسان أن يكون له حدٌ أدنى من هذا العلم، ينفع به نفسه، ولا يعذر معتذرٌ بتخصصه أو بعمله، فلا بد أن يأخذ ما تقوم به عبادته، ليلقى الله وقد عبده على بصيرة.
قال: "وأما وصف الكتب والمصنفين فقد سمع منا في أثناء المذاكرة ما يسره الله"، يقول: ربما سمعت في أثناء الدروس منا ما يسره الله، وما في الكتب المصنفة المبوبة مثل كتاب محمد بن إسماعيل البخاري -لله دره، وما أحسن ذاك الكتاب- لكن هو وحده لا يقوم بأصول العلم، ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم إذ لابد من معرفة أحاديث أخر" فلابد أن تطلع على السنن، والمسانيد، وخاصةً مسند الإمام أحمد الذي جمع الستة إلا القليل وزاد، وهو كتابٌ عظيم، وبحرٌ واسع، ودرٌ وجوهر.
قال: "ولا يقوم بتمام المقصود للمتبحر في أبواب العلم، إذ لابد من معرفة أحاديث أخر، وكلام أهل العلم وأهل الفقه في الأمور التي يختص بها بعض العلماء، وقد أوعبت الأمة -يعني أكثرت في كل فنٍ من فنون العلم إيعاباً- فمن نور الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرةً وضلالاً" بعض الناس عنده مكتبة في بيته ملء المجلس، ولا يصلي الفجر جماعة، وبعضهم عنده مكتبة، ويعصي والديه، وبعضهم عنده مكتبة ويرتكب الكبائر: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:5] {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} [الأعراف:176].
وليس العلم بالكثرة، لكن العلم نورٌ يقذفه الله في قلب من يشاء من عباده، فرأس العلم خشية الله، ومن قام بأمور الإسلام فهو العالم، قال: ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرةً وضلالاً، القرآن وهو القرآن قال الله عز وجل: {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمىً} [فصلت:44] يقول: المنافق إذا قرأ القرآن يزداد عمى، مثل الناظر الأعشى إذا نظر إلى الشمس، لا تستطيع عيونه أن تثبت في الشمس، لكن صاحب البصيرة، يزيده الله بالكتب وسماع الأشرطة، والجلوس في مجالس أهل الفضل والعلم والمحاضرات والدروس بصيرة ونوراً ويزيده أجراً ومثوبة.
ويا أيها الإخوة! أنا أدري أن مثل هذه المجامع العامة، قد يقول قائل: لو جلست في بيتي وقرأت بنفسي، ولخصتُ وخرجت وحققت لكان أنفع لي، فأقول: قد يكون هذا، لكنك لن تنال الأجور إلا بالجلوس في هذه المجالس بغض النظر عن هذه الفائدة المباشرة.
أولاً: يذكرك الله فيمن عنده.
ثانياً: يباهي بك ملائكته.
ثالثاً: تغشاك السكينة، وتحفك الرحمة، وتنزل عليك الملائكة.
رابعاً: في آخر المجلس، يقول الله لمن جلس على ذكره: {قوموا مغفوراً لكم فقد أرضيتموني ورضيت عنكم}.
وأنا أطلب من الإخوة الكرام وأنا أعرف أنكم صفوة الناس، والجالسون أمامي هم الزبدة من المجتمع، والله يحفظ العباد والبلاد بكم وبأمثالكم، فأقول لكل أخٍ يريد الله والدار الآخرة، إذا أراد حضور محاضرة، أو درس، لأي طالبٍ أو داعية أن يأخذ معه أخاً آخر، فقط أن يدعوه في محاضرة واحدة لأنه قد يستقيم منهجه ويهتدي، ويكفي الأخ أن يحضر وينظر إلى هذه الوجوه، وهذا الجمع، فيتحول مسار حياته، وبعض الشباب كان مدمن مخدرات، وأخذه بعض الشباب، وحضروا به بعض المحاضرات واهتدى، وأصبح عبداً لله، فكل واحد عليه أن يأتي بواحد فقط وتذكروا دائماً: {لأن يهدي بك الله رجلاً واحداً خيرٌ لك من حمر النعم}.
يعني أدعه إلى درس أو محاضرة، ثم أدعه إلى العشاء عندك، تكون هذه ضريبة إن استطعت ذلك، وإن لم تستطع، فالله المستعان: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَه} [البقرة:286].
قال: ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرةً وضلالاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـ أبي لبيد الأنصاري: {أوليس التوراة والإنجيل عند اليهود والنصارى؟ فماذا تغني عنهم؟} هذا الحديث عند أحمد بسندٍ صحيح أن الرسول عليه الصلاة والسلام {نظر في السماء وقال: هذا أوان قبض العلم} قال أبو لبيد الأنصاري: {يا رسول الله! كيف يقبض العلم؟!! والله لنقرئن القرآن أبناءنا، وليقرئنه أبناؤنا أبناءهم، قال: ثكلتك أمك يا زياد! كنتُ أظنك أفقه رجل من أهل المدينة، هذه التوراة، وهذا الإنجيل عند اليهود والنصارى فماذا نفعتهم؟!} يعني ما نفعتهم زيادة الكتب، إذا لم تكن بعملٍ صالح، بل إنها لا تكون إلا خيبة وحيرة وضلالاً، وحسابهم على الله.
لقد زرت كثيراً من الإخوة، وعند كل واحد منهم مكتبة في بيته، لكنه لا يقرأ إلا اليسير منها، أو ما يستطيع أن يلم بالكثير بها، وهي تبقى معطلة، كأنها مختوم عليها، وابن تيمية يجعل رصد الكتب وتخزينها بلا استفادة من كتمان العلم.
افتتحت عندنا مكتبة في المسجد هنا طولها ستة عشر متراً في أربعة تأخذ مئات الكتب والمجلدات، وقلت للناس: من كانت عنده كتب فليوقفها باسمه، وإذا احتاجها في أي يوم فليخرجها، وهي لا تخرج من المكتبة، لكن يستفيد منها شباب الإسلام الذين يدرسون في الصيف، وكلما قرأوا حرفاً كان لك أجر، وكنت أنت المنفق، وكان ميراثاً لك: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله، إلا من ثلاث: صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالحٍ يدعو له} هذه وصية ابن تيمية رضي الله عنه وأرضاه، ورحمه الله، وجمعنا به في دار الكرامة، وهي من أعظم الوصايا، ونسأل الله عز وجل أن يجعلنا وإياكم ممن إذا استمع القول اتبع أحسنه.(341/11)
الأسئلة(341/12)
الطريقة المثلى للتخلص من المعاصي
السؤال
أنا أشرب الدخان، وأحلق لحيتي، وأنا في حرج، وأنا أبكي الليل والنهار، غلبني الشيطان، أرى الشاب الملتزم لكن لا أستطيع أن أنتصر على شيطاني، وعندي جلساء سوء، وتأتيني حالات من الهم والغم وأقدم والله على الانتحار أحياناً، فدلوني على الطريق، أنقذوا ابنكم المسكين، وادع لي بالشفاء؟
الجواب
أسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العُلى أن يهديك سواء السبيل، وأن يمن عليك بتوبة نصوح، وأن يرسل عليك من شآبيب الرحمة والرضوان ما يمسي في قلبك ويدلك على الصراط المستقيم، وأن يحبب إليك الإيمان، وأن يزينه في قلبك وفي قلب كل مسلم، وأسأل الله أن يثبتك على الحق حتى تلقاه.
أما ما سألت عن شرب الدخان فهو محرم، وقد نص أهل العلم على تحريمه، وحلق اللحية أدهى وأمر، وهي من الأمور الخطيرة، بل هي من الكبائر عند أهل السنة، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ربى لحيته، وأنه قال: {خالفوا المجوس، اعفوا اللحى، وقصوا الشوارب} وغيرها من الألفاظ الصحيحة، وأما قولك: يصيبك همٌ وغم، فأوصيك بأمور:
أولها: المحافظة على الصلوات الخمس جماعة، ثم أكثر من ذكر الله، وعليك بالقرآن والدعاء وإذا استطعت أن تشرب من ماء زمزم فاشرب وادع الله أن يريح قلبك، وأن يوسع صدرك، ثم أدعوك أن تهجر جلساء السوء، فهؤلاء أعداء الأنبياء والرسل، وهم المجرمون الذين أفسدوا شباب الإسلام، وأدعوك لحضور المحاضرات والدروس والسماع، لأن السكينة تغشى أهلها، وقد يأتيك حظك من نفحات الواحد الأحد، فتخرج وقد انغسل قلبك من أدران السوء ومن الشبهات والواردات، وإن كان لك والدة ووالد، فاسألهم الدعاء لك بالسحر، وفي أدبار الصلوات، ونحن دعونا لك بما فيه الكفاية هذه الليلة، وأما الانتحار فاعلم أن هذا لا يفعله مسلم، وأن من فعل ذلك أدخله الله النار، فمن انتحر أصبح خالداً مخلداً في النار، ولا ينتحر إلا أعداء الله، إلا الذين لا يعرفون الكتاب والسنة، ولا يعرفون المسجد، ولا ينتحر إلا الذي لا يعرف القرآن، ولا الهداية التي أتى بها محمد عليه الصلاة والسلام.
فعد إلى الله، وعليك أن تفكر في أمرك، واعلم أنها حياة ستون أو سبعون سنة ثم تنتهي بك إلى جنةٍ عرضها السماوات والأرض، أو نار تلظى، فأنقد نفسك قبل أن يأتيك اليقين، وفقنا الله وإياك.(341/13)
صلاة التسابيح
السؤال
صلاة التسابيح يسأل عنها، يقول: إني ذكرت في الركعة خمسة وستين تسبيحة؟
الجواب
والصحيح أنها خمسة وسبعون، ولذلك هو لما حسبها في أربع ركعات، وجد أنها مائتين وستين، لأنه حسب على خمسة وستين، وأقول هي خمسة وسبعون في كل ركعة، لأن خمسة وسبعين ضرب أربعة يساوي ثلاثمائة، والحمد لله، وهذا أمر معلوم لا يختلف فيه أهل العلم، وأنت لك أن تجمع وأن تسأل من أردت من أهل العلم.(341/14)
صلاة النوافل
السؤال
يسأل عن النوافل التي أوصيه بها وأدله على بعضها؟
الجواب
أقول: عليك بالنوافل التي صحت عنه عليه الصلاة والسلام، مثل العشر النوافل التي ذكرها عليه الصلاة والسلام في حديث ابن عمر: {ركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وركعتان بعد المغرب، وركعتان بعد العشاء، وركعتان قبل الفجر} بالإضافة إلى ركعتي الضحى إلى أربع إلى ست، إلى ثمان، والوتر قبل النوم، وإن استطعت في آخر الليل فهو أحسن وأفضل وأجمل، وتلاوة القرآن بكثرة، وذكر الله، والصدقة والإنفاق وبذل الدعوة والنصيحة، كلها من أعظم ما يقربك إلى الله عز وجل.(341/15)
حكم رسم أو تصوير المناظر الطبيعية
السؤال
ماذا ترون في المناظر الطبيعية سواء كانت مرسومة، أو مصورة، بالصور الفوتوغرافية؟
الجواب
المناظر الطبيعية مثل الشجر، والجبال، والسهول، والأودية، الأمور التي ليس فيها أرواح لا بأس بها، لك أن تنظر إليها، ولك أن تعلقها، وأنت بالخيار، ليس فيها بأس إن شاء الله، بل قد تدلك على عظمة الواحد الأحد.
وقد سمعت عالماً من العلماء يقول: نظرت إلى منظر خضرة وماء وشجر فبكيت، والحقيقة أنها تذكر بقدرة الواحد الأحد، وإذا أردت أن تتذكر قدرة الله، فانزل إلى إحدى الحدائق وانظر إلى الزهر: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [قّ:7].
وانظر إلى الشجر، وإلى الريح، والسحاب، والجبال والوهاد، وإلى النجم، وإلى كل شيء:
وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدل أنه واحدُ
فيا عجباً كيف يعصى الإله أم كيف يجحده الجاحد(341/16)
الإسراف
السؤال
أشكو أن قرابتي أهل إسراف، في ولائمهم، وفي عزائمهم، وأنا يظهر لي من فعل والدي وإخواني أنهم يريدون الرياء والسمعة -والعياذ بالله- فهم لا يرضون إلا بكثير من الذبائح، والأرز، وكثير من الفواكه، فلا أدري ماذا أفعل معهم؟
الجواب
أيها الإخوة! الإسراف أصبح ظاهرة، وأصبحت أكثر عزائم الناس من أجل الرياء والسمعة، والتمادح والعياذ بالله! والله يقول: {وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام:141] ويقول تعالى: {وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً * إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:26 - 27].
يموت ألوف من المسلمين جوعاً، وكثير من الناس يموتون شبعاً، فلا أدري ماذا يقول هؤلاء لربهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يوم القيامة؟ أحدهم يقدم من الولائم والذبائح، ما لا يعلمه إلا الله فيعرضها للناس، فلا يأكلون إلا عشر معشار ما قدم لهم، فماذا يفعل في النهاية؟ يصبها في الزبالة، فهؤلاء محاسبون عند الله، وهؤلاء لو اتقوا الله، ما ضيفوا من أجل الرياء والسمعة، يقول عليه الصلاة والسلام: {أول من تسعر بهم النار ثلاثة منهم كريم -كان ينفق مثل بعض الناس، يحب مسألة الرياء والسمعة، حتى يتمادح الناس به، مثل حاتم الطائي - فيقول الله: أما أعطيتك المال؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا فعلت فيه؟ قال: أطعمت الجائع وكسوت العاري، فيقول الله: كذبت! وتقول الملائكة: كذبت! ويقول الله: إنما فعلت، ليقال: كريم، وقد قيل خذوه إلى النار} فيسحب على وجهه إلى النار، لقمةٌ أو وجبة قد تدخل صاحبها إلى النار لكن اذبح على قدر الحضور، وما عليك من أحد، ومن تكلم فليتكلم، ومن سب فليسب:
فليتك تحلو والحياةُ مريرةٌ وليتك ترضى والأنامُ غضابُ
إذا صح منك الود فالكل هينٌ وكل الذي فوق التراب ترابُ
وهذا لا يعني أن تجعل العزومة على مقدار الضيوف للناس، ولا تبقي لأهلك شيئاً، لا، بل لابد أن تبقي لأهلك شيئاً.
ولابد أن يشعر الضيف أنك قدمت له شيئاً، أما أن تأتي وقد رزقك الله النعم والخيرات، والله يريد أن يرى أثر نعمته، فتغدي ضيفك تميزاً، وتقول: هذا فضل الله ونعمه والناس يموتون جوعاً في أفريقيا، فكل وسم الله! هذا صحيح لكنه ليس في أفريقيا ولا في أفغانستان، فأطعمه لحماً ورزاً وإداماً وكثف من الخير الذي يكفي الناس، لا يزيد عن حاجتهم ولا ينقص، أما أن يكون الإنسان بخيلاً فلا، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67].
اقتصد في كل أمرٍ جيدٍ فكلا الأمرين إن زاد قتل
إن زاد قتل، وإن نقص قتل فعليك بالوسط: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة:143].(341/17)
بر الوالدين
السؤال
أمي عصبية المزاج، لا أدري ماذا أفعل بها، كلما بررتها سبتني ودعت عليّ، وأنا أتقرب إليها بكل خير، ولكنها تغضب وتشتعل بسرعة؟
الجواب
نسأل الله أولاً أن يلين قلبها لك، وأن يهديها سواء السبيل، وأنت إذا علم الله أنك أوفيت معها وبررتها فلا يؤاخذك، ولو دعت عليك، فإن دعاءها ليس بصحيح، ما دام أنك بار بها، وتخدمها وتقوم بطاعتها، ثم هي تدعو عليك، فالله يعلم أنك صادق، فعليك أن تصدق الله فيها، وأن تحترمها، مهما فعلت بك، ولو ضربتك على وجهك ضرباً، أن تقابلها بالتقبيل: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء:23 - 24].
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(341/18)
من نفس عن مؤمن كربة
المؤمن يمر بكرب وابتلاءات، ولذلك النبي صلى الله عليه وسلم حث على التعاون والمؤانسة بين المسلمين في النوازل والكرب، وقد ذكر الشيخ في هذا الدرس حديث: (من نفس عن مؤمن كربة) وتحدث عن أسباب حدوث الكربة للمؤمن، وذكر بعض أدعية الكرب، وكيف كانت خدمة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، كما يوجد في هذا الدرس قصص لمن فرج الله عنهم بسبب تفريجهم لكرب إخوانهم.(342/1)
وقفات مع مسلم وصحيحه
الحمد لله رب العالمين، اللهم لك الحمد خيراً مما نقول، وفوق ما نقول، ومثلما نقول، لك الحمد بالإسلام، ولك الحمد بالإيمان، ولك الحمد بمحمد صلى الله عليه وسلم، عزَّ جاهك، وجلَّ ثناؤك، وتقدست أسماؤك ولا إله إلا أنت، في السماء ملكك، وفي الأرض سلطانك، وفي البحر عظمتك، وفي الجنة رحمتك، وفي النار سطوتك، وفي كل شيء حكمتك وآيتك، لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيت، ولك الحمد بعد الرضا، والصلاة والسلام على لسان الحق الذي بلغ الدعوة كاملة فما كتم منها من شيء، وما بخل بها صلى الله عليه وسلم.
والصلاة والسلام على أذن الخير، خير أذن وعت وحي الله وبلغته للناس، نشهد أنه بلغ الأمانة، وأدى الرسالة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حتى أتاه اليقين، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فلقد رأيت كما رأى بعض الإخوة أن يكون هذا الدرس عاماً لا يتقيد بـ صحيح البخاري؛ لأن هناك قطوفاً في السنة وأحاديث جمة غالية، أي غالية في التوحيد والإيمان والسلوك والأحكام والأخلاق، لا توجد في صحيح البخاري، فليكن هذا الدرس مطلقاً في السنة، مرة نعيش مع البخاري في صحيحه العالي، ومرة مع مسلم، ومرة مع الترمذي في تصحيحاته وتضعيفاته، ومرة مع أبي داود في جمعه المحكم لأحاديث الأحكام، ومرة في الموطأ إلى غير ذلك من الرياض الجامعة التي تركها محمد صلى الله عليه وسلم وهي ميراثه، فمن أراد سهمه ونصيبه فليأخذه، فإن الميراث الذي تركه محمد صلى الله عليه وسلم هو هذا الحديث النبوي.
من زار بابك لم تبرح جوانبه تروي أحاديث ما أوليت من منن
فالعين عن قرة والكف عن صلة والقلب عن جابر والسمع عن حسن(342/2)
حديث: من نفس عن مؤمن كربة
وقبل البدء بالحديث نقول: إن المهم أن يجتمع مثل هؤلاء النفر ليذكروا الله ويشهدوا بيوته لتتنزل عليهم رحمة الله وسكينة الله وتحفهم ملائكة الله، وهذا الحديث الذي معنا هذه الليلة يدور حول هذه القضايا، وحول هذه المقدمة والديباجة، وهو حديث من قواعد الإسلام، ولكنه لم يروه الإمام البخاري بل رواه العالم الرباني أبو الحسين مسلم بن الحجاج في صحيحه فقال: عن أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه -استمعوا إلى كلامه صلى الله عليه وسلم يوم يلقى على الأسماع فيربي القلوب- يقول: قال صلى الله عليه وسلم: {من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه إلا نزلت عليهم الرحمة، وغشيتهم السكينة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه} رواه مسلم.
ومسلم هذا الذي نسمع اسمه يدوي على منابر المسلمين، وفي حلقات العلم، وفي فصول الدراسة، وفي المجامع العامة، من هو؟
إنه علم ونجم من نجوم أمة محمد صلى الله عليه وسلم، أخلص لهذا الدين، وسعى لمشروع باهر وهو جمع الأحاديث الصحيحة كما فعل البخاري، فلما اطلع الله عز وجل على نيته وإخلاصه رفعه وحفظ كتابه: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] إن من يتكلم لله يحفظ الله كلامه، ومن يكتب لله يحفظ الله كتابته، ومن يعمل لله يحفظ الله عمله، وأما المراءون والمفترون والدجالون فلا حظ لهم في سنة محمد صلى الله عليه وسلم.
جاء أبو الحسين مسلم بن الحجاج النيسابوري فعمل هذا الكتاب العظيم الذي أُرشدكم لمطالعته لتزدادوا إيماناً ويقيناً وعلماً وفهماً وفقهاً في الدين، فلقد أخذت منا الكتب البيضاء -ولا أهاجم كل الكتب البيضاء، لكن الكتب الرخيصة التي لا تساوى حبرها الذي كتبت به- أخذت منا الساعات الثمينة وصدتنا عن كتب السلف فأصبح علمنا محجوزاً وفهمنا للدين ضعيفاً هزيلاً.
فهل من عودة إلى كتب السنة؟ وهل من جلسة مع صحيح البخاري أو مع صحيح مسلم في الرياض اليانعة، في تلك البساتين الوارفة التي تقودك إلى جنات النعيم.(342/3)
بعض صفات الإمام مسلم
الإمام مسلم ألف كتابه هذا طيلة عشرين سنة ثم قدَّمه للأمة فتقبله الله؛ لأن الله يتقبل من المتقين، وعاش حياته ما بين استغفار وذكر وما بين صلاة وعبادة متقللاً من الدنيا لا يعرف إلا بيته ومسجده، كان خفيفاً لطيفاً كما هي ثياب أهل الحديث ورائحته مسك كما هي رائحة المعلم الأول محمد صلى الله عليه وسلم، يجلس إلى تلاميذه لا كما يُحاضَرُ تلك المحاضرات الرنانة الطنانة، إنما هو حدثنا فلان عن فلان عن أبيه عن أبي هريرة فيقوم تلاميذه وقد امتلئوا إيماناً ويقيناً بالله الواحد الأحد.(342/4)
سبب موت الإمام مسلم
ولا بأس أن نورد لطيفة في سبب موته، يقول ابن كثير في كتاب " البداية والنهاية " و" الذهبي في سير أعلام النبلاء " كان سبب موت مسلم رحمه الله: أنه تحاج وتجادل هو وعالم من علماء الحديث في حديث واحد، فذهب مسلم إلى البيت بعد صلاة العشاء ليبحث عن هذا الحديث، فوضع السراج بجانبه ووضع سلة من التمر أمامه وفتح الكتاب فكان يفتح صفحة ويأكل تمرة وكلما فتح صفحة أكل تمرة ونسي نفسه، والكتاب كان كثير الأوراق ومن كثرة استغراقه في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم نسي أنه يأكل مع كل صفحة تمرة، وهذا التمر الذي يأكله سلق حار جداً من أكثر منه قتله، فلما عثر على الحديث نظر وإذا المجلد قد انتهى وإذا السلة قد انتهت من التمر، فقال: الله المستعان! فتوضأ وصلى الفجر وأتته منيته بعد صلاة الفجر، فرحمه الله رحمة واسعة، وإن كانت الشهادة بالسيف أو بالبندق أو بالعسل أو بتمر السلق فإنما يكون العمل خالصاً لله عز وجل في مرضاته تبارك وتعالى، نسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يحشرنا في زمرة الصالحين.(342/5)
النبي صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم
وهذا الحديث الذي معنا اعترض عليه أبو الحسن الدارقطني حافظ الدنيا، وعبقري الحديث في المعمورة، ولا بأس أن نورد اعتراضه بسهولة، يقول: إن الأعمش عنعن فيه - الأعمش: سليمان بن مهران - إذا قال عن فمعناه مدلس، كأنه سمع ولم يسمع، ورد الحفاظ على الدارقطني في هذا الحديث وقالوا: هو صحيح، ويكفي أن مسلماً ارتضاه، وأن الناس قبلوا كتاب مسلم، فهو صحيح.
وهذا الكلام نفاذ أخاذ حار، تعرف كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من كلام غيره، تجد الأعرابي في الصحراء يسمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من الراوي فيميز بين حديثه وحديث الناس؛ لأن حديثه صلى الله عليه وسلم أغلى من الدر، أو كأنه جواهر تتصبب على الآذان، أو كأنه قطر الغمام صافياً مصفى من السماء؛ لأنه صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه: {أوتيت جوامع الكلم} قال النووي: هي أن يجمع له الله الكلمات الطويلة في جمل صغيرة، وعند الدارقطني عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أوتيت جوامع الكلم وخواتمه وفواتحه} وعند أبي يعلى الموصلي عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أوتيت جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه، واختصر لي الكلام اختصاراً} عليه الصلاة والسلام.
فهو أفصح من نطق بالضاد، وأنتم تعرفون أنه ما تعلم في شبابه عليه الصلاة والسلام، فقد عاش حتى بلغ الأربعين من عمره ثم قال له الله تعالى: اخرج إلى البشرية فتكلم إليهم، اخرج إلى المعمورة فحدثهم بلا إله إلا الله، فخرج يحدثهم فإذا هو أفصح خطيب وأكبر قاض وأفتى مفتٍ وأبلغ بليغ، ما تلعثم في حياته كلها في كلمة واحدة، وما أراد أن يقول حرفاً فقال الحرف الذي بعده، يبقى في بيته حتى يجتمع الناس، فيقوم فيلقي خطبة تكاد الجدران أن تتباكى، وكذلك الصحابة إذا ألقاها صلى الله عليه وسلم عليهم، ويأتي عليه الصلاة والسلام فيسأله السائلون فيفتيهم في اللحظة؛ لأن كلامه وحي: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم:5].(342/6)
ذكر كرب يوم القيامة
يقول في هذا الحديث العظيم الجليل الذي ما سمع الناس به -وإني أوصي نفسي وإياكم لمن وجد في نفسه سعة أن يردد هذا الحديث طويلاً على مسمعه، وأن يعيش معه فإنه أخاذ ومؤثر في قلوب الموحدين- يقول عليه الصلاة والسلام: {من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة}.
إن يوم القيامة له كرب كما في الصحيح، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: {يخرج الناس من قبورهم فيصيبهم العرق، فمنهم من يصيبه العرق إلى ركبتيه، ومنهم من يبلغ حقويه، ومنهم من يبلغ حلقه أو حنجرته ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً} نسأل الله السلامة، فإن هذا من الكرب، وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا جمع الله الأولين والآخرين دنت الشمس من الرءوس واشتد الكرب بالنفوس وبلغ بهم الكرب أيما مبلغ، فذهبوا إلى آدم عليه السلام فقالوا: أما ترى ما نحن فيه؟ اذهب إلى ربك فاستشفع لنا فأنت من أنبياء الله ورسله، أنت أبونا، فيقول: نفسي نفسي، فتأخذ النوبة النبي بعد النبي حتى تصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقوم ويقول: أنا لها الحديث}.
واستشفع الناس بأهل العزم في إراحة العباد من ذا الموقف
وليس فيهم من رسول نالها حتى يقول المصطفى أنا لها(342/7)
الهموم والغموم في الدنيا وأسباب حدوثها
الرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {من نفس عن مسلم كربة} ما أكثر الكرب التي تصيب المسلمين، ولذلك شرع لنا الرسول صلى الله عليه وسلم دعاء الكرب وعلمه أصحابه، وكان يأتيه صلى الله عليه وسلم الكرب كما يأتي الإنسان، والله يقدر على الناس الهموم والغموم لأسباب، وأسباب هذه الهموم والغموم قد تندرج في ثلاثة أسباب، إذا أتاك هم أو غم أو حزن فاعلم أنها لأسباب ثلاثة:(342/8)
الهموم والغموم من أجل تكفير السيئات
أولاً: إما لذنب أصبته، فأراد الله أن يبتليك بالهم والغم لينقيك من الذنوب والخطايا، فإن كثيراً من الناس لا يريد الله عز وجل أن يعذبهم في القبور، فيعذبهم في الدنيا بالهموم والغموم والأحزان، وعلى ذلك ورد حديث في مسند الإمام أحمد بسند صحيح: {أن الله عز وجل لما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123] لما سمع أبو بكر هذه الآية تمَّاط رضي الله عنه حتى سمع أطيط لظهره، ثم قال: يا رسول الله! كيف العمل بعد هذه الآية: من يعمل سوءاً يجز به؟! ومن منا لم يعمل سوءاً؟ قال: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تغتم؟ ألست تمرض؟ ألست تصيبك الأمراض؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: فذلك مما تجزون به من الخطايا، ثم قال عليه الصلاة والسلام: ما من مسلم يصيبه هم أو حزن أو غم أو مرض إلا كفر الله به من خطاياه حتى الشوكة يشاكها}.
فهذا السبب الأول: إن الله قد يبتليك من الهموم والغموم والهم والتعب ما لا يعلمه إلا الله، وفي هذا يحت خطاياك كما تحت الشجرة بالشتاء، فاحمد ربك على هذا؛ لأنه لو تركك بلا هم ولا غم لكان النصف هناك، إما في القبر أو يوم العرض أو في جهنم.(342/9)
الهموم والغموم بسبب الذنوب والمعاصي
السبب الثاني: الإعراض عن الله عز وجل: فإن الله عز وجل جعل لمن أعرض عنه هماً وغماً لازماً: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].
يسكن في القصر ويركب السيارة الفاخرة، ويأكل في أحسن المطاعم، ولكن همه معقود على جبينه، لا يعرف ما هو السر، يعرض نفسه على الكتب فيقرأ ويطالع ويبحث ويستذكر، ولكن حقاً ولزاماً من الحي القيوم أنه من أعرض عنه فإنه يرميه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالهم والقلق والضنك فلا يهدأ حتى يعود إلى لا إله إلا الله وإلى بيوت الله وإلى كتابه، ولذلك الهم لازم جد لازم للمعرضين عن الله عز وجل ولا دواء لهم إلا بالعودة.(342/10)
الهموم والغموم من أجل رفع الدرجات
الأمر الثالث: من أسباب الهموم والغموم قال أهل العلم: إنها رفع للدرجات عند الحي القيوم، فالله وضع لكثير من المؤمنين درجات في الجنة قد لا يبلغها العبد بصلاته أو ذكره واستغفاره فيبلغه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ذلك إما بالمصائب وإما بالهموم والغموم فيبتليه الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بالهموم والغموم فيزيد من درجاته حتى يرتفع إلى تلك المنزلة.
فاعلم أن كل ما وصلك أنه بقضاء الله وقدره.(342/11)
تكشف الكرب بأمور وأعظمها الاستغفار
يلتفت الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الأمة ويقول: {من نفس عن مؤمن كربة} وكيف يكرب المؤمن؟ نعم يكرب المؤمن وقد كرب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأفضلهم محمد عليه الصلاة والسلام، فقد أصابته الكرب يقول الصحابة: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصابته كربة أكثر من مس لحيته، وأكثر من المطالعة في السماء وأكثر الاستغفار}.(342/12)
أذكار وأدعية الكرب
صادفت الكربة يونس بن متى عليه السلام في ظلامات ثلاث: ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة الحوت، فانقطعت الأسباب والوسائل إلا من الحي القيوم، وانقطعت كل وسائل القربى من الناس إلا من الواحد الأحد، فالتفت قلبه إلى محيي القلوب: {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فاستجاب الله له، وكشف غمه وفي سنن أبي داود بسند جيد وبعض أهل الحديث يضعف هذا الحديث يقول: {دعوة أخي ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين، ما دعا بها مكروب إلا كشف الله بها كربته}.
وفي الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {دعاء الكرب أن تقول: لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السموات والأرض رب العرش الكريم} إن من يقول هذا الدعاء يكاد ينخلع قلب السامع له؛ لأنه اتصال بالوحدانية بالله عز وجل، فعلَّم الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ابن عباس وللأمة جمعاء.
فجدير بنا أن نأخذ علاجاتنا من الكتاب والسنة، لا أن يأتي رجل أصابه قلق وهجس نفس فيذهب إلى أناس لا يصلون ويعرض أمراضه عليهم، كيف تطلب الصحة من مريض؟! وكيف تطلب الشفاء من سقيم؟! إن الدواء والبلسم في سنة محمد صلى الله عليه وسلم.(342/13)
الاستغفار وفوائده
في سنن أبي داود قال صلى الله عليه وسلم {من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً، ومن كل ضيق مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب} فأوصي نفسي وإياكم أن من أصابه هم أو حزن أو غم بأن يكثر من الاستغفار، فإن فوائد الاستغفار وردت في كتاب الله عز وجل.
فمن فوائده كما في الكتاب بالاستقراء ثلاث فوائد:-
أولها: أن الكوارث والحوادث المؤذية لا تصيب المستغفر بإذن الله، قال جعفر الصادق: لو نزلت صاعقة من السماء لأصابت كل الناس إلا المستغفر.
فالكوارث الشنيعة والمحن والفتن لا تصيب المستغفر، مصداق ذلك في سورة الأنفال في قول الله تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال:33] فالاستغفار كشف للبلايا والحوادث والأزمات.
ثانيها: من أراد سعة الرزق والعافية والمتاع الحسن فعليه بالاستغفار، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: إن المتاع الحسن والرزق والسعة في الاستغفار، وذلك أنه من داوم على الاستغفار فتح الله له فتحاً لا يخطر بالبال ولا في الخيال، ومصداق ذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى على لسان نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً * مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح:10 - 13].
الأمر الثالث: جاء على لسان هود، يقول لقومه وهو يعظهم: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} [هود:3].
فإن مما يكشف الكرب ويحطها بإذن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى الاستغفار، واعلموا أنه قد وقع أناس كثيرون في الكرب والله عز وجل يكشفها عنهم.
فمن الكرب: القحط وما ينزل في الديار والبلاد ولا يكشفه إلا الاستغفار.
قالوا لأعرابي: ما للقطر لا ينزل في بلادكم؟ قال: هدأنا من الاستغفار فجف القطار، أي المطر.
[[وأنس رضي الله عنه وأرضاه مزرعته في البصرة - مزرعة من النخل- أصابها قحط، فقام فصلى ركعتين واستغفر قالوا: مالك؟ قال: أما سمعتم قول الله تعالى على لسان نوح: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} [نوح:10] قال الرواة: فوالله إنه ما قام من مجلسه حتى أتت غمامة فطوقت على مزرعته وأمطرت حتى سالت جداولها، فنظرنا فإذا الماء داخل المزرعة ولا يوجد في خارج حدودها قطرة واحدة]] وهذا من الاستغفار والالتجاء.
وفي ترجمة شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه وجعلها في الجنة إنه يقول: إنها لتعجم علي المسألة الواحدة فأستغفر الله ألف مرة أو أكثر فيفتحها الله علي.
فبالله ما للذين يهتمون في قاعات الامتحان -وهم يجلسون كأنهم في ساحات الإعدام- لا يلتجئون إلى علام الغيوب؟ ما لهم لا يلتجئون إلى من عنده الفرج ومن بيده تسهيل القضايا سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ويستغفرون كثيراً ليفتح الله عليهم من فتوحاته؟
ابن تيمية -بالمناسبة- يقول عنه تقي الدين بن شقير: رأيت شيخ الإسلام ابن تيمية ما تفتر لسانه عن ذكر الله، فقلنا له: يا أبا العباس! نراك لا تهدأ لسانك أبداً؟ قال: قلبي مثل السمكة، إذا خرجت من الماء ماتت، وأنا قلبي إذا سكت عن الذكر مات، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] قال تقي الدين بن شقير تلميذه: فخرجت وراء شيخ الإسلام مرة من المرات في حديقة من الحدائق بحيث أراه ولا يراني في غوطة دمشق، وقد كان شيخ الإسلام في الشام في سوريا في تلك الفترة؛ لأن دمشق هي العاصمة، فكان يرسل قذائف الحق من دمشق وقد أيده الله ورفع رايته، وقد أوذي في الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أيما إيذاء، ولكن بقي اسمه وذهب أعداؤه وخصومه فيقول: ذهبت خلفه فلما أصبح خالياً رفع طرفه ودمعت عيناه وقال: لا إله إلا الله.
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس بالسر خاليا
وهذا البيت لـ مجنون ليلى، وهو يقوله لمحبوبته، ولكن فرق بين الودادين وما بين المحبوبين والمقصودين، فمقصود ابن تيمية: الواحد الأحد الفرد الصمد الحي القيوم ذو الغنى والقوة والعظمة، ومقصود ذلك عبد هزيل فقير لا يملك ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً.
يقول ابن القيم في روضة المحبين سئل ابن تيمية رحمه الله: لماذا يقول الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال:45] لماذا أوصاهم الله بالذكر وقت المعركة، لماذا لم يوصهم قبل المعركة أو بعدها، فهو يقول: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال:45] أي: وقت ما يصل المؤمنون تجاه الكفار.
فقال ابن تيمية: إن العرب على عادتهم يفتخرون بذكر المحبوب وقت الأزمات، أما سمعت عنترة يقول:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعت كبارق ثغرك المتبسم
قال: فعوَّض الله المؤمنين بذكره وقت الأزمات، قال: يقول عنترة إنه يذكر محبوبته يوم يضارب ويوم تشجي السيوف وتتقطع على رءوس الأبطال، فيقول الله عز وجل: عوضاً عما يفعل أهل الضلالة والجهالة وأهل البغي والعدوان: عودوا أنتم إلى محبوبكم، ولذلك فعل الصحابة رضوان الله عليهم، حضروا في اليرموك فقال معاذ -وقد قرأ سورة الأنفال على رءوس الأشهاد فما بقى أحد إلا بكى -قال: [[قولوا: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، فقالوا: لا إله إلا الله ولا حول ولا قوة إلا بالله]] ثم هزموا جيشاً قوامه ثلاثمائة ألف، لكن من كان الله في ميزانه وفي حزبه فأنى يغلب، فهو القوة العظمى سُبحَانَهُ وَتَعَالَى؟!(342/14)
نماذج من مؤانسة المكروب
يقول عليه الصلاة والسلام: {من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة} وبعض الناس يغرق في الكوب الصغير، أي مشكلة تأتى تدمره تدميراً عظيماً، لو انقطعت حذاؤه رأيت الهم والغم في وجهه، كأنها قامت الحرب العالمية الثالثة، فما هو المطلوب منك؟
المطلوب منك أن تجلس معه فإذا انقطعت حذاؤه وأنت تجلس بجانبه فعليك أن تواسيه: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة:156 - 157].
وتقول له: أسأل الله أن يحسن عزاءك وأن يكفر خطاياك، وأن يجبر ما أصابك فهو يتسلى ويرتاح ويفرح.(342/15)
تفريج الكربات من أفضل العبادات
قال الحسن البصري: [[يقول أحدكم: أحج، أعتمر، أصلي، أصوم، أزكي هل هذه هي العبادة فحسب؟ لا.
فرج عن مكروب صل منقطعاً صل رحماً فهذه هي العبادة]] وقد صدق، وبعض الناس ما له هم ولا غم إلا الصلاة في كل وقت، لكن إذا رآه الناس كشر بأنيابه في وجوههم، عبس وانقبض، لا يعرف صلة ولا براً ولا خلقاً ولا مساعدة ولا معاونة، أيظن العبد أن الأجور فقط في: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد؟ بل الأجور عدد الأنفاس.
أرسل الحسن البصري إلى ثابت البناني العابد الكبير، حيث جاءه رجل يريد أن يشفع له ثابت إلى رجل -لأن هذا الرجل يريد مالاً- فذهب إلى الحسن البصري، فقال: أريد من فلان أن يقرضني مالاً، وأريد أن ترسل معي ثابتاً البناني؛ لأن عنده وجهاً -صاحب وجه وجاه- قال الحسن البصري: اذهبوا إلى ثابت في المسجد ليذهب مع هذا الرجل، فذهبوا إلى ثابت فوجدوه يصلي في المسجد فأخبروه الخبر، فقال: لا.
أنا أصلي في بيت الله فلا تخرجوني منه، فرجعوا إلى الحسن فأخبروه، قال: اذهبوا إليه وقولوا له: [[يا أعيمش! -أعيمش تصغير أعمش- يا أعيمش! أظننت أن صلاتك هي العبادة كلها؟ والله لذهابك مع أخيك المسلم لقضاء حاجته خير من ألف ركعة]] فلما أخبروه ترك وذهب معهم ليشفع.
ولذلك من كان عنده جاه فليفرج به الكرب عن المسلمين، وليتوسط ويتوسل في غير حرام، وليشفع بتقديم كلمة أو يذهب بنفسه إلى المسئول ليعرض حاجة من لا يستطيع رفع حاجته، أتظنون أن الناس يستطيعون رفع حوائجهم إلى المسئولين؟ لا.
إنهم يبكون على الأرصفة لا يجدون من يرفع حوائجهم واستفساراتهم ومطالبهم، فيموتون وهي في صدورهم.
يقول صلى الله عليه وسلم: {أولئك جدد القلوب، خلقان الثياب إذا شفعوا لم يشفعوا، وإذا نكحوا لم ينكحوا، وإذا سألوا لم يعطوا، يموت أحدهم وحاجته في صدره} هؤلاء بحاجة إلى أن يمد الإنسان يد العون إليهم.(342/16)
رجل يطلب الإمارة ليخدم إخوانه
قال ابن رجب الحنبلي في كتاب جامع العلوم والحكم: كان أحد الصالحين إذا سافر مع أحبابه وأصحابه في الغزو قال: أشترط عليكم، قالوا: ماذا؟ قال: أن أكون أميركم في هذا السفر، ما يطلب الإمارة إلا إنسان لا يريد بها خيراً، لكن هذا يريد الخير، فقالوا: أنت أميرنا، فكان إذا ذهب معهم قام فقال: لا يقوم أحد منكم، فقام ليصنع الطعام وقام ليجمع الحطب فيقول: أنا الأمير اجلسوا، قال: فإذا أتوا ينامون قام يصلي وكان يحرسهم في الليل فإذا انكشف غطاء أحدهم عن رأسه وجسمه رد غطاءه عليه، فإذا أتوا ليركبوا قرب مركوب كل أحد إليه فأركبه عليه، قال: فلما توفي -وقد ذكر هذا في جامع العلوم والحكم في شرح هذا الحديث- قال: فلما توفي وجدوا على جسمه مكتوباً: براءة له من النار، قال: فأخذه المغسل وهو على جنازة الموت ووجد هذا الكتاب تحت الجلد -بين الجلد واللحم- مكتوب عليه: براءة له من النار.
فهذا العمل صالح، علمه الله من العبد حيث كان يقدم هذا العمل العظيم، ولكن لا يغفل الله عن أي عمل، ولذلك ورد في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم من رواية أبي هريرة قال: {مرَّ رجل من بني إسرائيل بشجرة كان غصنها في الطريق، فقال: أرفعه لا يؤذي المسلمين -كم من المشقة وجدها وكم من التعب؟! فكسر الغصن وحوله عن الطريق- فشكر الله له وأدخله الجنة}.(342/17)
النبي صلى الله عليه وسلم مع بيت خباب
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أربعون خصلة أعلاها منيحة العنز، ما من عامل يعمل بخصلة منها رجاء ثوابها وتصديق موعودها إلا أدخله الله الجنة} يعني: أعلى الأمور، ويدخل فيها: الابتسام والمصافحة والكلمة الطيبة وأن تفرغ بدلوك في إناء المستقي، وأن تعين أخاك المسلم فتمسك له دابته ليركب عليها، فهذا من المعاونة أو من تنفيس الكرب، وورد عنه صلى الله عليه وسلم أنه لما سافر خباب بن الأرت -أحد الصحابة- في غزوة، وكان الصحابة من عادتهم ومن عادة العرب جميعاً: أنه لا يحلب الشاة ولا البقرة ولا الناقة إلا الرجل، فالمرأة لا تحلب، فلما سافر خباب بن الأرت في الغزوة أتى صلى الله عليه وسلم إلى أهل خباب يحلب لهم الشياه- أوردها ابن رجب فما وجد عليه الصلاة والسلام إلا شاة واحدة وباقي الشياه كانت حوامل، فأخذ يحلب لهم هذه الشاة، فكانت تملأ إناءً فضفاضاً كبيراً، وكانت تكفي أهل هذا البيت وتكفي جيرانها من بركة يده صلى الله عليه وسلم، فلما عاد خباب أخبروه الخبر فعمد إلى الشاة ليحلبها فوجد حليبها أول مرة قد نقص، وذلك للفرق بين يديه وبين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.(342/18)
أبو بكر الصديق والعجوز العمياء
وأبو بكر لما توفي الرسول عليه الصلاة والسلام -وهذه قصة مشهورة قد ذكرها ابن القيم وأهل العلم- كان يصلي الفجر في مسجده صلى الله عليه وسلم ثم يخرج إلى ضاحية من ضواحي المدينة فتبعه عمر.
وعمر هو المستساغ عند أبي بكر وهو الرجل الذي يستمع له أبو بكر دائماً، حتى لما كان في سكرات الموت قال لـ عثمان: اكتب: والخليفة من بعدي، فسكت، فكتب عثمان -خاف أن تختلف الأمة- عمر بن الخطاب.
فأفاق أبو بكر وقال: من كتبت؟ قال: عمر، قال: صدقت، ولو كتبت غيره لأنبتك، حتى في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم يعرفون منزلته.
فهذا علي أبو الحسن -أمير المؤمنين الذي تقول الرافضة: أن الخلافة كانت له ولكن هضمها وحرمها- يقول على منبر الكوفة: لا يأتي رجل يفضلني على أبي بكر وعمر إلا جلدته حد المفتري.
ويقول علي رضي الله عنه وأرضاه: لطالما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: جئت أنا وأبو بكر عمر ودخلت أنا وأبو بكر وعمر وخرجت أنا وأبو بكر وعمر.
فالمسألة مكشوفة للعيان عند أهل السنة والجماعة، أن الرجلين هما أهل الخلافة ثم يأتي عثمان وعلي.
قال الإمام أحمد: من لم يثلث بـ عثمان ويربع بـ علي فهو أجهل من حمار أهله -بليد- وهذه تنطبق على الذين فضلوا علياً على الثلاثة، رضي الله عنهم جميعاً ونسأل الله أن يحشرنا معهم جميعاً.
الشاهد: فـ عمر كان يسأل نفسه: مالـ أبي بكر يخرج من المسجد كل صباح؟! فقال: لأمشين وراءه هذا اليوم، فمشى وراء أبي بكر رضي الله عنه وأرضاه -أتظنون أن أبا بكر يذهب للسياحة أو للنزهة أو يلعب كرة رضي الله عنه وأرضاه- قال عمر: فدخل في خيمة لأعرابية في ناحية من نواحي المدينة -وعمر في الجبل لا يعلم به أبو بكر - فلما خرج من الخيمة دخلت وراءه فوجدت عجوزاً عمياء حسيرة كسيرة عندها جوارٍ صغار -بنات- وعندها نوق وشياه وشيء من الغنم، فدخل عمر وقال: يا أمة الله! من أنت؟
قالت: أنا عجوز عمياء حسيرة.
قال: ومن هذا الرجل الذي يأتيكم؟
قالت: لا أعرفه -ما أعلمها أنه أبو بكر أو قال لها: أعلمي الناس أن أبا بكر يأتيك كل صباح مثلما يفعل بعض الناس حيث يدفع للفقير ريالاً ثم يتنحنح ليراه جماعة المسجد- فقال: من هذا الرجل؟ قالت: لا أعرفه.
قال: فماذا يفعل إذا أتى؟
قالت: يأتي فيقمّ البيت -أي: يكنس البيت- ويصنع لنا إفطارنا ويغسل لنا أشياءنا وينظف لنا ملابسنا، فبكى عمر وقال: أتعبت الخلفاء بعدك يا أبا بكر.
إي والله، أتعب الخلفاء بعده، وهذا هو الإسلام وهذا هو الإيمان وهذا هو القرآن الذي يمشي على الأرض، يوم جعلهم الله خير أمة أخرجت على وجه الأرض، أولها الصحابة.
ويأتي من بعدهم إنسان ينام عن صلاة الفجر يقال له: لماذا لا تصلي؟ قال: الحمد لله نحن بخير، يقول الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران:110].
إن خير أمة أخرجت للناس الذين قطعت لحومهم في سبيل الله، وسكبت دماؤهم في رفع لا إله إلا الله وفي حفظها، خير أمة أخرجت للناس من بلغوا دين الله في أخلاقهم، كان التاجر يذهب إلى جاكرتا في إندونيسيا فلا يدعو ولا يجمع الناس يوم السبت ليلقي عليهم من صحيح البخاري ولا يلقي محاضرة، إنما يتعامل بالصدق والأمانة، يمر من الشارع في جاكرتا وهو تاجر لا يحفظ إلا الفاتحة وقل هو الله أحد وقل أعوذ برب الفلق، فيرون وجهه فإذا عليه النور ويرون معاملته فإذا هي الصدق والوفاء، ويرون معاملته فإذا هو قرآن يمشي فوق الأرض، فيدخلون في دين الله أفواجاً، فلم يدخل جيش جرار ماليزيا ولا إندونيسيا بل دخلها تجار يبيعون ويشترون، فلما علم الله الصدق منهم بلغ دينه ودعوته بهذا.
فيقول عليه الصلاة والسلام: {من نفس عن مسلم كربة من كرب الدنيا نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة} يوم يجتمع الناس في يوم العرض الأكبر فتشتد الكرب عليهم فيكشف الله عن كل من كشف عن المسلمين كربة، كربة بكربة حتى يزيل الله الهم والغم عمن قدم، وهذا واقع، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في صحيح مسلم: {كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس} وفي الصحيحين عن عدي بن حاتم الطائي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يدني الله عبده فيكلمه ليس بينه وبينه ترجمان يوم القيامة، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أمامه فلا يرى إلا النار، فاتقو النار ولو بشق تمرة}.
ولكن بماذا يكون تنفيس الكرب؟
قال أهل العلم: تنفيس الكرب بأنواع وأصناف منها: إطعام الجائع، فهو تنفيس كربة؛ لأنه ليس كل الناس يستطيعون الطعام أو يجدونه.
وبعض الناس إذا شبع وأصيب بالتخمة من الكبسات وشرب الشاهي بالنعناع، قال: الحمد لله نحن في نعمة من الله جزيلة، والناس في جنوب أفريقيا وفي موزنبيق يموتون جوعاً، ومن معه ومن في عمارته ويسكن بجانبه يموت جوعاً أو لا يجد هذا النعيم، فلذلك ورد عن أبي هريرة أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: {يقول الله عز وجل: يا بن آدم! جعت فلم تطعمني قال: وكيف أطعمك وأنت رب العالمين؟!
قال: إن عبدي فلاناً جاع فما أطعمته، أما إنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي.
يا بن آدم! ضمئت فلم تسقني.
قال: كيف أسقيك وأنت رب العالمين؟!
قال: ألم تعلم أن عبدي فلاناً ضمئ ولم تسقه، أما لو سقيته لوجدت ذلك عندي.
يا بن آدم! مرضت فلم تعدني.
قال: كيف أعودك وأنت رب العالمين؟
قال: أما علمت أن عبدي فلاناً مرض، أما إنك لو زرته لوجدت ذلك عندي، فيتمنى الناس بعد ذلك أنهم يعودون إلى الدنيا} وأنهم ملئوا أوقاتهم من الأعمال الصالحة.(342/19)
شجاعة وكرم إبراهيم عليه السلام
وفي سيرة إبراهيم عليه السلام، وقد كان إبراهيم كريماً شجاعاً، وفي القرآن كان لإبراهيم روغتان، فأما الروغة الأولى: {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} [الصافات:93] هذه روغه الشجاعة، وهناك: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] فذكره الله بالشجاعة في القرآن وذكره بالكرم وكلها يقصد بها وجه الله؛ لأن بعض الشجعان يقصدون بها الرياء والسمعة، وأما إبراهيم فهو الشجاع الكريم الذي يريد بشجاعته وجه الله؛ لأنه ما كل إنسان شجاع يكون في الجنة سالماً مسلماً، ولا كل إنسان ينفق أمواله ويفرش السرادقات والمخيمات أنه في الجنة، فمن الذين يؤتى بهم يوم القيامة لتسعر بهم النار العالم والمنفق والشجاع.
فإبراهيم عليه السلام كانت شجاعته وكرمه لله، حتى يقول عز من قائل: {فَرَاغَ} [الذاريات:26] يعني: من كرمه ومن سماحته ومن جوده راغ، يعني: اختفى أو ذهب بروغان ليس صمداً عمداً، لم يذهب أمام الضيف، إنما اندس وذهب فذبح عجلاً كبيراً حينئذٍ، ثم حنذه كما في سورة الذاريات أنه سمين، فهو سمين حنيذ، ثم قدمه للضيف؛ لأن البخيل لا يروغ ولا يندس، بل يأخذ شفرته أمام الضيف ثم يسنها ويحدها ويصلي ركعتي الاستخارة ويدعو الله عز وجل إن كان الخير في أن يذبح هذا الكبش إن الله يسهل له أن يذبحه، وإن كان الشر في أن يذبح هذا الكبش فإنه يدعو الله أن يصرف عنه هذا الشر، ثم يقوم ويشاور ويعوذ بالله من الكرب فما يأتي هذا الكبش إلا وعليه من الندامة والأسف كأنك لا تأكل لحماً، بل كأنك تأكل علقماً، لأنهم يقولون: وليمة اللئيم إنما هي سقم يعني: لا يجد الإنسان فيها إلا سقماً، يعني: لا يجد الإنسان فيه شفاءً إنما هي سقم، ولذلك العرب تفتخر بأنها تبش وتهش للضيف قبل أن يصل، ولذلك ليس الكرم في كثرة الضيافة، فبعض الناس يقدم من الأطعمة شيئاً كثيراً لكنه غضبان؛ لأنهم ملئوا المجلس عليه وافترسوا أكله، لكن الكريم من العرب من يهش ويبش، يقول الأزدي:
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
فما عندي في البيت شيء، ولكن قبل أن ينزل من راحلته أحادثه وأمازحه:
وما الجود للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
فإبراهيم عليه السلام كان له قصر في فلسطين، وكان هذا القصر له بابان فقال لغلمانه وخدمه: من أتى منكم بضيف فهو حر لوجه الله، فكان هؤلاء العبيد يقفزون الجبال ويذهبون إلى أماكن الفقراء والمساكين ليأتوا بالضيوف، ووصفه الله أنه كريم في القرآن فأوتي بضيف مرة فدخل عليه وإذا بهذا الضيف كافر، يظن إبراهيم أنه موحد، فضيوف إبراهيم خصصهم أنهم موحدون، لأن الرسول عليه الصلاة والسلام -كما في الترمذي - قال: {لا تصاحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلا تقي} فإبراهيم عليه السلام يرسل ويقول: تعالوا لي بموحدين، فدخلوا برجل فما سأله إبراهيم عليه السلام فلما قرب العشاء له قال إبراهيم: قل باسم الله، قال له: لا.
لا أقول بسم الله ولا أعرف الله، قال: والله لا تتعشى، فالولاء والبراء حتى في الطعام.
كيف لا تقول بسم الله؟ هل علمت إلهاً غير الله، هل لك إله أكبر من الله؟ قال: والله لا تتعشى، فقام هذا الضيف بجوعه فأوحى الله إلى إبراهيم: كم عمر هذا الرجل؟ قال: لا أدري يا رب، قال: عمره خمسون -وقيل: ستون- أطعمه منذ ولدته أمه، وأنت استطعمك ليلة فما أطعمته! ولذلك كم من كافر يهد الجدار اليوم أو فاجر أو معرض عن الله عز وجل لا يعرف المسجد ولا يركع لله ركعة، والله يرزقه ويلبسه ويعطيه سيارة أمريكية فاخرة ويسكنه في القصور؛ لأن الله عز وجل سُبحَانَهُ وَتَعَالَى سوف يرجع إليه الناس حتى يقول أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {يؤتى بأنعم أهل الأرض -يعني: من أهل الضلال- فيغمس في النار غمسة واحدة -في ثوان- ثم يخرج من النار، فيقول الله: هل رأيت نعيماً قط؟ قال: ما رأيت نعيماً قط -نسي كل نعيم- ويؤتى بأهل الخير وأهل الإيمان، من أهل البؤس فيغمسون في الجنة غمسة، فيقول الله: هل رأيت بؤساً قط؟ قال: ما رأيت بؤساً قط} فهذا من كشف الكرب التي جعلها الله عز وجل.(342/20)
صنائع المعروف تقي مصارع السوء
ومن كشف الكرب ذكر ابن كثير في البداية والنهاية بين ترجمة الرشيد والمأمون:(342/21)
قصة رغيف الخبز
أن رجلاً من الصالحين عرض له وزير فاجر -وزير من وزراء بني العباس- فحكم عليه بعذاب مهين، فلما كان الوزير ينام في الليل قبل أن ينفذ هذا الحكم كان ينتفض خائفاً من المنام، فينام وإذا بامرأة تشير أمامه في المنام بقطعة خبز، وإذا بهذا الرجل الذي حكم عليه الوزير جالس هناك، كلما أراد الوزير أن يعمد إليه وإذا بهذه المرأة تمنع الوزير بقرص من الرغيف، وبعد ثلاث ليال ما كان ينام فيها، استدعى الرجل وقال: أسألك بالله! قال: لماذا؟ قال: رأيت رؤيا أريدك أن تخبرني بها؟ قال: قلي، قال: بعدما حكمت عليك وأودعتك السجن وأردت أن أنفذ عليك العقوبة رأيت كأن عجوزاً تحول بيني وبينك برغيف وكأنك جالس هناك، قال: أما وقد سألتني فوالله ما نمت ليلة إلا وقرص خبز عند رأسي كانت تصنعه أمي وتجعله عند رأسي، فإذا أتى الصباح تصدقت به على المساكين، فلما كبرت وحضر أمي الموت، قالت: يا بني! لا تترك الوصية، قلت: ماذا؟ قالت: هذا الرغيف لا تتركه أبداً، اصنع رغيفاً واجعله عند رأسك وأعطه المساكين، فإن الله يمنعك [[فإن صنائع المعروف تقي مصارع السوء]] قال: فوالله ما مرت عليَّ ليلة وأردت أن أنام إلا ووضعت هذا الرغيف عند رأسي وأعطيه المساكين، قال الوزير: والله لا تمسك مني عقوبة أبداً، ثم عفا عنه.
وقد ذكرها ابن كثير لمن أراد أن يعود إليها: [[فصنائع المعروف تقي مصارع السوء]] كما قال أبو بكر وصحت عنه هذه الكلمة.(342/22)
التيسير سبب لدخول الجنة
قال عليه الصلاة والسلام: {ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة} المعسر: الذي لا يجد سداد الدين أو سداد حقوق الناس، والتيسير: من صاحب دين.
فمثلاً: هو أن تؤجله أو أن تنقص من هذا الحق أو أن تسامح فيه، فالرسول عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه قال: {كان فيمن كان قبلكم رجل أتي به إليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ليحاكمه، فلما عرضه أمامه قال: خذوه إلى النار، فأخذته الملائكة إلى النار، فقال عز وجل: ردوه، فلما ردوه قال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: هل لك من عمل صالح؟ قال: يا رب! والله ما أتذكر شيئاً إلا أنه كان لي تجارة في الدنيا، فكان إذا أتى لي إنسان أو طلب مني حاجة أتجاوز عنه لعل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يتجاوز عني، فقال الله: -في غير رواية الصحيحين - فقال الله: ليس أكرم منا هذا اليوم، أدخلوه الجنة} وهذا بسبب أنه يتجاوز عن الناس وقال عز من قائل: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] فبعض الناس إذا كان له دين على الناس، شق عليهم وأخرج لهم النجوم وسط النهار صباح مساء، بعد كل صلاة وهو عند الباب: أعطوني حقي، أخذتم حقي، وهي مائة ريال أو ألف ريال، وهذا من الذين لا يريدون إنظار المعسرين، وهو في غنى وسعة، وقد جهل هذا أجر الله عز وجل، وقد فاته أجر الثواب من الله عز وجل، وهذا ليس إلا فعل اليهود.
يقولون: اليهود يدينونك ثلاثة أشهر ويأتون ليأخذوا منك بعد شهرين، ولذلك قال ابن جرير في التفسير: " لما قدم الرسول صلى الله عليه وسلم -حول قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89] قال ابن سعية: رأيت علامات الرسول صلى الله عليه وسلم -هذا ابن سعية يهودي وقد رأى العلامات في التوراة، رأى العلامات كلها أمام العين في الرسول صلى الله عليه وسلم- إلا في مسألة واحدة، أنه إذا غضِب يزداد حلماً، فما عرف هذه الخصلة فيه صلى الله عليه وسلم، فأراد هذا اليهودي أن يكتشف خصلة أن الرسول صلى الله عليه وسلم إذا غضب يزداد حلماً فماذا فعل؟ ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وقال: يا أبا القاسم! - لماذا يقولون: يا أبا القاسم؟ لأنهم لا يعترفون برسالته، إن قال: يا محمد! ليس هذا من الأدب وإن قال: يا رسول الله! شهدوا على أنفسهم، فيقولون: يا أبا القاسم- قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال: علمت أنك وفدت المدينة وأنا تاجر من تجار اليهود عندي مال فخذ هذا المال حتى يفتح الله عليك، فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم المال، وظن أن هذا صادق وأنه سوف يؤجله حتى يفتح الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى عليه، وبعد أربعة أيام أو خمسة إذا باليهودي في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر فقام اليهودي وقال: يا بني عبد المطلب! أعطوني مالي إنكم قوم مطل -يعني: أنكم تماطلون وتلعبون بصاحب الدين، انظر إلى الدهاء- فقال صلى الله عليه وسلم: إنك أجلتني حتى يفتح الله علي، قال: لا تماطلني ديني، أعطني حقي يا محمد! إنكم يا بني عبد المطلب قوم مطل، قال في الرواية: فقام عمر بن الخطاب -يقول ابن سعية: فرأيت عيناه تتدحرج في رأسه- وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا، فقال صلى الله عليه وسلم: اجلس يا عمر! أنت أولى بأن تأمرني بحسن القضاء وتأمره بحسن الطلب، ولذلك كان خلق رسول الله جليل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] فجلس عمر فقام عليه الصلاة والسلام إلى هذا اليهودي، وأخذ اليهودي يرفع صوته في المسجد والرسول صلى الله عليه وسلم، كلما رفع اليهودي صوته كلما تبسم عليه السلام وكلما زاد حلمه، ثم أعطاه فلما أعطاه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، والله! ما قرأت صفة لك في التوراة إلا وجدتها إلا هذه الخصلة، فوجدت أنها ستثبت هذا اليوم فقد ثبتت.
فأتى إلى اليهود ليخبرهم، قالوا: لا.
أصبح داعية إليهم، فقالوا: ليس بهذا، فقال الله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة:89].
والرسول عليه الصلاة والسلام عندما قدم المدينة، قال عبد الله بن سلام -أحد اليهود الذين أسلموا، وهو من فقرائهم وعلمائهم وأهل الصدارة فيهم- قال: {فلما رأيت الرسول صلى الله عليه وسلم في السوق انجفل الناس إليه، فانجفلت مع من انجفل من الناس -أي: أسرع الناس إليه، وأخذ يدخل بين الناس حتى رأى وجه الرسول عليه الصلاة والسلام- قال: فلما استثبت منه وإذا بوجهه ليس بوجه كذاب، قال: فدنوت منه، وإذا به يقول للناس -اسمع حتى الكلام كلام رسول، لا يوجد كلام ساقط بل كله كأنه الدر- قال: يا أيها الناس! أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا في الليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام، قال: فوقع الإسلام في قلبي، فذهبت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعت يدي في يده وقلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله} ما أسلم من اليهود إلا ثلاثة هذا وكعب، وابن سعية قال صلى الله عليه وسلم: {لو أسلم عشرة من أحبار اليهود لأسلم اليهود عن بكرة أبيهم} لكن ما أسلم إلا ثلاثة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأحقاف:10].
فالشاهد من بني إسرائيل عبد الله بن سلام {فأسلم عبد الله بن سلام وقال: يا رسول الله! إن اليهود قوم بهت -أي: يبهتون الإنسان ولذلك بهتوا مريم البتول عليها السلام- فقال: إن اليهود قوم بهت، وإذا سمعوا بإسلامي بهتوني، فاستدعهم يا رسول الله واسألهم عني، فاستدعاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ووضعهم أمامه، وابن سلام في مشربة -في غرفة- خلف الرسول صلى الله عليه وسلم، وقال الرسول لهم: كيف ابن سلام فيكم؟ -وهم لا يدرون أنه أسلم- قالوا: سيدنا وابن سيدنا وعالمنا وابن عالمنا وفقيهنا وابن فقيهنا -وألقوا عليه محاضرة في المجلس- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا أسلم ورزقه الله الإسلام؟ فقالوا: أعاذه الله من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اخرج يـ ابن سلام، فخرج وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله، قالوا: شرنا وابن شرنا، وأحمقنا وابن أحمقنا، فقال ابن سلام: أما قلت لك يا رسول الله؟ قال: نعم.
إنهم قوم بهت} فالتيسير على المعسر هي أن تؤجل له في المدة، أو أن تنقص له من القيمة، أو أن تسامحه، وفي الحديث: {أن أبا قتادة رضي الله عنه وأرضاه -هذا في البخاري - وفد إلى رجل فقال: أعندك سداد لمالك؟ قال: والله ما عندي سداد، قال: أسألك بالله ما عندك من سداد؟ قال: والله ما عندي من سداد، قال: والله لقد عفوت عنك لما لا يوجد عندك من سداد، قال: وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة}.(342/23)
من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة
ثم قال عليه الصلاة والسلام: {ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة} وفي سنن ابن ماجة قال ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ستر عورة مسلم ستر الله عورته يوم القيامة} فما المقصود بالستر في الحديث؟
الستر على نوعين:
أولها: ستر أهل الخير والصلاح وأهل الطاعة الذين تكبو بهم أقدامهم أو تنزل بهم ألسنتهم أو تجد منهم هفوة أو يأتي منهم أمر، فسترهم: أن تقيل عثراتهم ولا تبديها للناس، يقول عليه الصلاة والسلام -كما عند أحمد وغيره-: {أقيلوا لذوي الهيئات عثراتهم} وذوي الهيئات: أهل الصلاح والاستقامة وأهل الخير وأهل المعروف الذين تبدر منهم بادرات أو هفوات أو زلات:
من ذا الذي ما ساء قط ومن له الحسنى فقط
من ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
تريد مهذباً لا عيب فيه وهل عود يفوح بلا دخان
أتريد من الإنسان أن يكون معصوماً؟ فإذا كان الإنسان ظاهره الصلاح ويريد الخير، وحسناته أكثر من سيئاته قال: ابن المبارك رحمه الله -كما في كتاب الكفاية عند الخطيب البغدادي -: العدل عندنا -أي: عند أهل السنة والجماعة -: هو الذي زادت حسناته على سيئاته.
وقال سعيد بن المسيب -كما في ذلك-: ليس مسلم يخلو من ذنب، لكن من زاد صلاحه على فساده فهو المقبول الثقة.
فهذا هو الذي يزيد خيره على شره، فإذا كان هذا الخيِّر بدرت منه بادرة فاسكت ولا تخبر واكتم واستر واطلب من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى أن يسترك بهذا، كأن يفعل ذنباً لكن هو صالح، لكنه كتب الله عليه بعض الأفعال من المعاصي والجرائم كتأخير الصلاة يوماً من الأيام بتشاغله بشيء، بدرت منه كلمة ليست بلائقة، أو غضب غضبة فأخرجت منه بعض البذاء أو بعض الفحش، فهذا تستره وتكتم عنه ولا تخبر به، أما أن تجلس إلى الناس وتخبر وتقول: الله المستعان! ظاهرك كأنك تريد أن ترقق له وأنت تريد أن توخزه وتطعنه، ولذلك بعض الناس -كما يقول الغزالي - أذكياء في الغيبة لا يأتون ليجرحوا الناس أمام العين، ولكن يأتون أمام المجلس ويقولون: غفر الله لفلان، ليته ما وقع فيما وقع فيه، نسأل الله أن يغفر له ولنا، وهم يريدون أن يجرحوه ويقطعوا لحمه ويشربوا دمه لا يريدون إلا ذلك ويقول أحدهم: عافانا الله مما ابتلى به فلاناً ويأتي الثالث ويقول: بت البارحة مهموماً ومغموماً، قالوا: ما هو الشيء الذي همك وغمك؟ قال: مما وقع فيه فلان، وهو لا غم ولا هم ولا سهر لكن أراد أن يقطع لحمه في المجلس، فهؤلاء هم الذين يفضحهم الله على رءوس الأشهاد.(342/24)
الجزاء من جنس العمل
يقول ابن رجب: أثر عن بعض الصالحين قال: والله الذي لا إله إلا هو! إنه كان عندنا قوم ستروا عيوب الناس فستر الله عيوبهم، وكانت لهم عيوب، فلما ستروا عيوب الناس ستر الله عيوبهم، وإنه كان عندنا قوم ليس لهم عيوب فكشفوا عيوب الناس فأحدث الله لهم عيوباً، فالجزاء من جنس العمل.
إذا وجدت الإنسان يُغتاب بكثرة فاعرف أنه هو أيضاً يغتاب، وإذا وجدت أنه يطعن فاعرف أنه طاعن: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ} [آل عمران:185].
فهذا الجزاء من جنس العمل، كمن يستر على المسلمين فيستره الله، يقول ابن مسعود كما في الزهد للإمام أحمد وقد تبعه الناس يمشون وراءه: [[والله لو علمتم ما عندي من الذنوب لحثوتم التراب على رأسي]] هذا هو صحابي وهو صاحب أيادٍ وصدق في الإسلام، فكيف بنا أهل المعاصي والذنوب؟! فالواجب على المسلم أن يستر أهل الخير وأهل الصلاح.
وأما القسم الثاني: فهم المجاهرون بالمعاصي المنتهكون لحرمات الله، المعتدون لحدوده، فهؤلاء لا يستر عليهم وإنما يخبر بهم السلطان والمسئول والقاضي ليكون ردعاً لهم، وحداً للجريمة، وتبكيتاً للمعصية، فإنهم لو تركوا لحملوا الناس على المعاصي.
ولذلك يقول عليه الصلاة والسلام: {واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها -في حديث الضحاك بن قيس - فلما ذهب إليها أنيس فاعترفت فرجمها} وأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بكثير من الناس فأقام عليهم الحد، لأنهم شهروا بأنفسهم أو لأنهم أعلنوا وتقدموا إليه صلى الله عليه وسلم، ولو أنهم استتروا لسترهم الله ولما أقام عليهم صلى الله عليه وسلم حداً، يقول صلى الله عليه وسلم: {من ابتلي من هذه القاذورات بشيء فليستتر بستر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى}.
والواجب على المسلم نحو الذنوب والخطايا التي لا يسلم منها أحد: أن يتوب ويستغفر وأن يفعل من الحسنات الماحية: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135] وقال عز وجل: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود:114] وقال: {وَيَدْرَأُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ} [الرعد:22] وقال: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر:53].
فالواجب على المسلم أن يستتر بستتر الله ولا يبدي نفسه وإنما يستتر حتى يتوب الله عليه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، إلا من جاهر فهذا يخبر به.(342/25)
طريق طلب العلم
بقي في الحديث مسائل ولكن الوقت لا يكفي وهناك مسألة عظيمة من أعظم مسائل الحديث، وهي قوله عليه الصلاة والسلام: {وإن الله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه} ثم قال: {ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة} أو {من سلك طريقاً يلتمس به علماً سهل الله له طريقاً إلى الجنة} أسأل الله أن يجعل طريقكم هذا وجلوسكم هذا باباً من أبواب الجنة، فإنه قد يكفر بجلسة واحدة الخطايا والذنوب، ولذلك قال عطاء: [[مجلس الذكر يكفِّر سبعين مجلساً من مجالس اللغو]] يعني: مجالس الذنوب.
فهذا المجلس أو الجلسة الواحدة يكفر الله بها الذنوب أو الخطايا ويكفي في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: {هم القوم لا يشقى بهم جليسهم} قال ابن رجب: {ومن سلك طريقاً يلتمس به علماً} قال: إما يلتمس بالمعنى أو يلتمس بنفسه كأن يذهب إلى حلقات الذكر، إلى محاضرات الخير والدروس العلمية، لأنه ليس العجيب أن نسمع إلى الدروس العلمية أو أن نحفظها، أو أن نسمع حديثاً أو نحفظه، لأنه كان بالإمكان أن يقرأ كثير من الناس رياض الصالحين وهو في البيت أو يقرأ صحيح البخاري وصحيح مسلم وهو جالس على أريكته في البيت، ليس هذا هو سر الإسلام ولا سر العلم عند السلف الصالح، بل السر أن يجتمع السلف في بيت من بيوت الله، فيسمعون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ويسمعون (قال الله، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم) {فيباهي الله بهم الملائكة، وتتنزل عليهم الرحمة، وتغشاهم السكينة، وتحفهم الملائكة، ويذكرهم الله فيمن عنده} وإلا فإن الإنسان قد يقرأ أكثر من هذه الأحاديث، لكن وحده قد لا يحصل على مثل هذه الأجور، واجتماع القلوب سبب في إجابة الدعوة، وأغيظ ما يكون لأهل الباطل وأهل البدع مثل هذه المجالس، فهم يموتون منها.
فمن سلك طريقاً يلتمس به علماً يريد به وجه الله جعل الله هذا الطريق سبيله إلى الجنة، وجعله في حفظه ورعايته.
قال أهل العلم: الجلوس في مجلس العلم أفضل من الصلاة النافلة، ومن قراءة القرآن.
فمن جلس في المسجد أو وقف يصلى ويركع ويقوم فمن جلس هنا أفضل منه بلا شك ففي الحديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم: {أنه عليه الصلاة والسلام دخل وإذا بحلقتين في المسجد قوم يسبحون ويستغفرون وقوم يتدارسون حديثه والعلم، فقال: أما هؤلاء فيدعون الله فإن شاء أعطاهم وإن شاء منعهم، وهؤلاء يتعلمون فإنما بعثت معلماً ثم جلس معهم}.
وورد عند الطبراني: [[لئن أتعلم حديثاً واحداً أو باباً من أبواب العلم خير من أن أصلي مائة ركعة]] قال الإمام أحمد: سماع الحديث وقراءة الحديث خير عندنا من الصلاة النافلة، وقال الشافعي: الجلوس في مجالس العلم خير من الصلاة النافلة.
أسأله سُبحَانَهُ وَتَعَالى كما جمعنا في هذا المجلس أن يجمعنا في مستقر رحمته سُبحَانَهُ وَتَعَالى في جنة النعيم عنده على سندس خضر، وأن يجعلنا من الذين يرون وجهه يوم الزيادة إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
وأسأل الله أن يتقبل منا ومنكم، وأن يجعل هذه المحاضرات والدروس والكلمات في ميزان الحسنات، وأن يجعلها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى مذكورة عنده.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على محمد وسلم تسليماً كثيراً.(342/26)
الذين بدلوا نعمة الله كفراً
نعم الله جل وعلا تغمرنا من كل حدب وصوب، ولكن هناك من يبدل هذه النعمة إلى نقمة بسبب كفره وإعراضه وفسقه، وفي هذا الدرس بعض أخبار من بدلوا نعمة الله كفراً؛ وأخرى عمن قيدوا هذه النعم بشكرهم الله عليها، فإذا أنعم الله على الإنسان بالمال والبنين والأمن والاستقرار، فقد تزول وقد تبقى، وهناك أسباب لبقاء النعم وأسباب لزوالها.(343/1)
حقيقة الذين بدلوا نعمة الله كفراً
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة رسلاً أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع يزيد في الخلق ما يشاء، إن الله على كل شيء قدير، الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على معلم الخير وهادي البشر، ما اتصلت أذن بخبر، وعين بنظر، وما تألق ورق على شجر، وما هطل مطر وانهمر، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فعنوان هذا الدرس: (الذين بدلوا نعمة الله كفراً).
من هم الذين بدلوا نعمة الله كفراً؟ هو الذي ترك النعمة وراء ظهره، وارتكس على رأسه، واستدبر الصراط المستقيم، واتخذ كتاب الله ظهريا، إنه صنف من الناس يتكرر، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28].
والخطاب للرسول عليه الصلاة والسلام، وصح عن ابن عباس أنه قال: [[الذين بدلوا نعمة الله كفراً هم قريش؛ أتاهم محمد عليه الصلاة والسلام، فكذبوه ولم يطيعوه، فبدلوا نعمة الله كفراً]].
وأقول: بل قال كثير من العلماء: كل من أعرض عن كتاب الله عز وجل وعن سنة الرسول عليه الصلاة والسلام فهو من الذين بدلوا نعمة الله كفراً.
وانظر إلى أسلوب القرآن الجميل الرائع؛ رؤى وأشواق ومرئيات، ألم تر يا محمد إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً، ولم يقل نعم الله؛ لأن نعمة الله لا يؤدى شكرها، فكيف إذا ذكرت النعم، ولذلك قال الله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل:18] ولم يقل: نعم الله؛ لأن الناس إذا لم يستطيعوا لنعمة واحدة فما بالك إذا كانت نعماً.
وعند أحمد في كتاب الزهد بسند جيد مرفوعاً إلى رب العزة تبارك وتعالى أنه قال: {عجباً لك يا بن آدم، خلقتك وتعبد غيري! ورزقتك وتشكر سواي! أتحبب إليك بالنعم وأنا غني عنك، وتتبغض إليَّ بالمعاصي وأنت فقير إليَّ، خيري إليك نازل، وشرُّك إلي صاعد} وهذا شأن العبد يوم يترك منهج الله عز وجل، ويرتكس ويعرض عن الطريق المستقيم الذي أتى به محمد عليه الصلاة والسلام.
يا مسلمون! يا صادقون! أبواب الجنة أغلقت من يوم بعث محمد عليه الصلاة والسلام، أغلقت فلا يدخل الداخل إلا من طريقه:
إذا نحن أدلجنا وأنت إمامنا كفى بالمطايا طيب ذكراك حاديا
عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً إلى محمد عليه الصلاة والسلام: قال: {قال الله تعالى: يسبني ابن آدم} سبحان الله! للحديث قصة لكن قصتها لم يوردها البخاري أوردها أهل السير:
موسى بن عمران عليه السلام كان جريئاً شجاعاً في الأسئلة هو الذي يقول: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف:143] لم يقلها أحد من الناس، ولكن قالها موسى عليه السلام.
يقول في
السؤال
يا رب! أسألك مسألة، قال: ما هي يا موسى؟ قال: أن تمنع ألسنة الناس أن يتكلموا في أي: ألا يغتابوني، قال الله عز وجل: يا موسى! ما اتخذت ذلك لنفسي، إني أرزقهم وقد خلقتهم وأعافيهم ويقولون: إني اتخذت صاحبة وولداً، وأنا الله لا إله إلا أنا لم أتخذ صاحبة ولا ولداً، ولكن لفظ البخاري {يسبني ابن آدم وما كان له ذلك، ويشتمني ابن آدم وما كان له ذلك، أما سبه إياي، فيسب الدهر وأنا الدهر أقلِّب الليل والنهار كيف أشاء، وأما شتمه إياي فيقول: إني اتخذت صاحبة وولداً، ولم أتخذ صاحبة ولا ولداً} هذا بلفظ.
أيها المسلمون! كثر الكفران بالنعم، ولكن في هذه المحاضرة مسائل منها:
العنصر الأول: آثار.
والعنصر الثاني: نداءات.
والعنصر الثالث: شكر النعم.
والعنصر الرابع: النعمة الحقيقة.
والعنصر الخامس: كفران النعم.(343/2)
آثار الكفر بأنعم الله
أما الآثار: فقد ورد بعضها عن عمر رضي الله عنه وأرضاه وسند الحديث إليه حسن أنه دخل على إبل الصدقة، فقال له أحد الناس: يا أمير المؤمنين! صدق الله، يوم يقول: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس:58] وقال عمر: أتظن أن الرحمة هي الإبل، لا والله، أتدري ما رحمة الله؟ قال: لا.
قال: هي العمل بطاعة الله على نور من الله، ترجو رحمة الله.
ترك المعصية بنور من الله: أي تخاف عذاب الله، الرحمة والنعمة ليست السيارات والقصور، لأننا رأينا الناس يوم أعرضوا عن الله تحولوا إلى عصاة.
سل الشواطئ:
أرى شطآنكم أضحت خراباً وعرضاً للمفاسد والمعاصي
سل الشطآن ماذا يفعل فيها، وإنه ليؤسفني ويؤسف كل مسلم، أن تكون هذه الشطآن في الجزيرة في بلاد مهبط الوحي، أرض المقدسات وبلاد الرسالات الخالدة، لتختلط المرأة بالرجل، ولتتعرى المرأة في الماء، ولتبدي مفاتنها، ولتضيع أو تؤخر الصلوات، ولترتفع النغمة البائسة الحقيرة من الأغاني، ولتنتشر الفاحشة في جيل صحا وعاد إلى الله، أليس هذا من كفران النعم، بلى.(343/3)
الكفر بالنعم يزيلها
قال تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112].
ونعود إلى ابن عباس رضي الله عنهما، قال: القرية الآمنة المطمئنة هي مكة، (كانت آمنة مطمئنة) يسوق الله لها أرزاقها من أنحاء الدنيا، فكفرت برسالة محمد عليه الصلاة والسلام، فجعلهم الله شذر مذر، ونقول: يا أبا العباس نقبل رأسك، ويدخل في ذلك كل قرية أعرضت عن منهج الله، أبها أو جدة أو الطائف، أو باريس، أو واشنطن.
كل قرية لم تعرف نعمة الله ولم تقدر لا إله إلا الله، ولم تنضو تحت مظلة (الله أكبر) فهي قرية أعلنت فسقها وعصيانها.
ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] قال أهل التفسير: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:16] كثرنا مترفيها، يضرب العود، وتشتغل الشاشة، ويدار كأس الخمر، وتتبرج الفتاة بلا حجاب، وتضيِّع قرآنها وحجابها، ودينها وعفافها، وزوجها وبيتها، وتجوب الأسواق مع الخياطين والباعة، وتصل إلى الشاطئ، نظر العربي الأول إلى امرأته فرآها تنظر إلى رجل، فقال: عجيب! أتنظرين إلى رجل؟ والله لا تحلين لي امرأة ونظم قصيدة رائعة، يقول:
إذا وقع الذباب على طعام رفعت يدي ونفسي تشتهيه
وتجتنب الأسود ورود ماء إذا كن الكلاب ولغن فيه
فكيف لو رأى هذا العربي الشواطئ؟ كيف لو رأى الساحل السافل؟ كيف لو رأى الأسواق؟ كيف لو رأى الفتات التي تخرج بثياب يستحي الرجل والله من لبسها، فمن الرجال من يستحي أن يلبس لباس بعض النساء، تذهب ولكنها خلَّفت إيمانها، تذهب ولكنها خلَّفت حجابها، والشاهد قوله تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} [الإسراء:16] يدمرها ربها ويفنيها، ويقسي قلوب أصحابها: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} [الإسراء:16] ويقول سبحانه: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} [الطلاق:8] هنا كأين عند النحاة للتكثير النسبي {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُكْراً} [الطلاق:8].(343/4)
لبنان كفرت بأنعم الله
لبنان عاشت الظلال والبساتين، لبنان عاشت الندى والطل، لبنان عاشت الثلج والزهر، عاشت الفجر والنسيم، لكنها أعرضت عن منهج الله، ما كان يؤذن في مساجدها، ما كان هناك طلبة علم يقولون: هذا منكر وهذه فاحشة، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79].
فغضب الله، وإذا غضب الله فإن غضبه أليم شديد، وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [هود:102] عجيب أمر القرى! القرى الظالمة إذا أخذها الله فإن أخذه أليم شديد، فأخذهم الله؛ حرب وسلب، وتقتيل وخوف ومجاعة؛ حتى سمع العالم بمآسي لبنان ودموعها وجراحتها.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب(343/5)
سبأ كفروا بأنعم الله
وينتقل بنا القرآن مباشرة إلى اليمن، لنعيش قصة هائلة محزنة هناك، وقعت لأمة أعرضت عن منهج الله قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَأٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ.
فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ:17].
زيادة المرء في دنياه نقصان وربحه غير محض الخير نقصان
وكل وجدان قوم لا ثبات له فإنما هو في التحقيق خسران
أعرض عن منهج الله، قال ابن كثير وغيره من المفسرين: آتى الله كل رجل من سبأ بجانب بيته بستانين وجنتين، عن يمين وعن شمال، يخرج من بيته وبستان عن يمينه وبستان عن شماله، شجر متدلٍ ونعيم خالد، ظل وارف، وماء بارد، وطيور ترفرف، وحياة رغيدة، ولكن القلوب أعرضت عن منهج الله، مثلما يفعل الآن: بيوت وقصور وفلل وسيارات ورغد ومطاعم ومشارب، ولكن هناك من يفسد ويريد ألا ينكر عليه، ومن يفجر ويريد أن يسكت عنه، ومن يتخلع عن الدين، ويقيم المنكر ويستهزئ بالرسالة، ومن يعارض المسجد، ويقاطع لا إله إلا الله محمد رسول الله، قال تعالى على لسان نوح عليه السلام: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائي إِلَّا فِرَاراً * وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً} [نوح:5 - 7].
أيها الإخوة الذين جلسوا على الخشب والحديد: انتبهوا لا يسقط بكم كما يسقط بعض الناس برسالته ومبادئه وبإيمانه، وسقوطكم أهون؛ لأن مؤداه ينحصر بالموت، وسقوط بعض الناس إلى جهنم، يقول ابن القيم: "مرض الجسم سهل بسيط، وكسر الجسم يُجبر، لكن كسر الدين لا يجبر أبداً، وسقوط الاستقامة إنما يؤدي بصاحبه إلى نار جهنم".
فأعرضت قرية سبأ يقول ابن كثير: كانت المرأة تذهب بسلة على رأسها فتمتلئ السلة من الثمار التي تتساقط على السَّلة، ولكنهم ما قدروا هذه النعم، بل أعرضوا تماماً وفحشوا بأسلوبهم مع الله، بعض الناس يحارب الله جهراً؛ يقاطع المسجد، فلا يعرف الصلاة، ليله ونهاره غناء وتطبل
متى يهديك قلبك وهو غافٍ إذا الحسنات قد أضحت خطايا
ونحن نقول: ليت السيئة تنحصر فيهم وتتركنا، لكنَّ الشر يعم والخير يخص.
نعم إذا لم ننه وننكر، ولم ندع وننزجر؛ فإن معنى ذلك أننا سوف نُجتاح كلنا ونعوذ بالله من غضب الله.
قرية سبأ أغضبوا الله، فما حاربهم الله بجيش أو أنزل عليهم ملائكة؛ لأنهم أصغر وأذل، قال بعض العلماء: يا ضعيف العزم! يا فقير الإرادة! أتحارب الله؟ الله لما حاربه نمرود بن كنعان، أرسل له بعوضه فقتلته، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:73 - 74] ويقول سبحانه: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [سبأ:22] ويقول سبحانه: {مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت:41] أرسل الله عليهم فأرة، يقول سحبان بن وائل ليمني عند معاوية: " أيها اليمني! أخبر بكم هدهد، ونقض سدكم فأر، وتكلمت عليكم وزغة فلا تفخر، الهدهد نم عليهم عند سليمان، والفأر نقَّض عليهم جسرهم وسدهم، ولا نستنقص منهم، لأن معالم الإقبال في اليمن {فالإيمان يمان والحكمة يمانية} ولكن ذاك الجد البائس الذي ما عرف الله، جدنا جميعاً.
غيري جنى وأنا المعاقب فيكم فكأنني سبابة المتندم
غضب الله عليهم؛ فأرسل عليهم فأرة فنحت السد، فهوى السد، فاجتاحهم الماء، فصاروا شذر مذر، بكى الأطفال والشيوخ وولولت، النساء، ولكن ولات ساعة مندم! كذلك من يخرج عن شريعة الله ومن يتذمر عن رسالة الله ويغضب الله.(343/6)
قيدوا النعم بالشكر
إخوتي في الله: نعم الله لا تقيد إلا بالشكر يقول الله تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} [إبراهيم:7].
البرامكة أسرة عاشت في عصر العباسيين وزراء، وكانوا يُطْلون قصورهم بماء الذهب، لكن هل أرضوا الله؟ ما عدلوا ولا خافوا الله، وكان كأس الخمر والفتيات والغانيات في قصورهم، وتر ونغم في قصورهم، فحذرهم أحد العلماء وقال لهم: انتبهوا إن النعم لا تقيد إلا بالشكر.
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بتقوى الإله فإن الإله سريع النقم
قال: قيدوها بالشكر، لكن لم يفعلوا، وفي لحظة من اللحظات أغضب الله عليهم أقرب الناس إليهم هارون الرشيد فاجتاحهم بالسيف، قتل شبابهم ضحى، وأخذ شيوخهم وقادهم وهم يتباكون إلى السجن، حبسهم حبساً عظيماً، وقد بكى خالد بن يحيى البرمكي في السجن سبع سنوات، وطالت أظفاره؛ وما وجد ما يقلم أظفاره بعد النعيم، وطال شاربه وما وجد مقصاً، وعميت عيناه، قال له أحد الناس وقد زاره في السجن: ما هذا البلاء يا خالد؟ قال: دعوة مظلوم سرت بليل، غفلنا عنها وما غفل الله عنها!
قيل لـ علي بن أبي طالب: ما بين التراب والعرش؟ قال: [[دعوة مستجابة]].
وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ} [آل عمران:145] قيل لأحد علماء السلف: ما هو الشكر؟ قال: شكر العين البكاء من خشية الله -لأن بعض الناس إذا سمع الموسيقى بكى؛ لكنه لا يبكى عند تلاوة القرآن وسماع الذكر! كان أبو بكر وعمر تبتل لحاهما بالدموع إذا سمعوا آيات الله تتلى- قال: شكر العين البكاء، وشكر القلب الحياء من الواحد الأحد؛ إذا استحى القلب من الله فقد سَعُد في الدنيا والآخرة، والحياء لا يأتي إلا بخير، يقول الشافعي: " والله الذي لا إله إلا هو لو علمت أن شرب الماء ينقص من مروءتي وحيائي ما شربته أمام الناس " قلنا: يا شافعي لله درك! والله لقد وجد من الجيل من تفسخ عن شريعة الله بلا حياء، وأدبر عن المسجد بلا حياء، وكفر بالله بلا حياء، وسبَّ الرسول بلا حياء، وهجر القرآن بلا حياء.
إذا لم تخش عاقبة الليالي ولم تستحي فاصنع ما تشاء
فلا والله ما في العيش خير ولا الدنيا إذا ذهب الحياء
الحياء جلباب وضعه الله على وجه العبد، يستحي العبد من الله إذا هم بمعصية فعينه تقول: انظر، والحياء يقول: لا تنظر، أذنه تقول: اسمع، والحياء يقول: لا تسمع، رجله تقول: امش، والحياء يقول له: لا تمش في معصية الله، قال الشافعي في نظم:
لسانك لا تذكر بها عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً لقوم فقل يا عين للناس أعين(343/7)
النعمة قسمان
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] قال بعض العلماء: النعمة قسمان: نَعمة -بالفتح- سميت في سورة الدخان، ونِعمة بالكسر.
فالنِّعمة يدخل فيها ما قربك إلى الواحد الأحد، والنعمة بالفتح هي نعمة يشترك فيها الناس، وتشترك فيها البهيمة، الثور والحمار والخواجة الأحمق، والبلشفي الأشقر، والوثني، كل هؤلاء يدخل في هذه النعمة، وقال الله عن النعمة: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر:3].
والله عز وجل جعل لهؤلاء أكلاً وشرباً، ولذلك قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] كالأنعام في أكلهم وشربهم، وفي خروجهم ودخولهم، ولذلك لما وصفهم الله في موضع آخر أخبر أنه أعطاهم الجوارح والأعضاء، ولكن ما استغلوها، عين وأذن ويد ورجل قال تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} [الأعراف:179].
فليس أعمى من عميت عيناه، بل من عمي قلبه قال تعالى: {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46] وقال تعالى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الرعد:19] أفمن يعلم أن المسجد خير من المقهى، وأن المصحف خير من المجلة الخليعة، وأن التلاوة خير من الأغنية الماجنة، وأن صحبة الأخيار خير من الأشرار، كمن ارتكس على رأسه وأعرض عن طاعة الله وأصبح شيطاناً، يقول أحد شياطين الإنس الذين يدمرون الأجيال:
وكنت امرءاً من جند إبليس فارتقى بي الحال حتى صار إبليس من جندي
يقول: كنت في فترة من الفترات أطيع إبليس في الحاشية فقربني إبليس، ثم زاد بي الحال فتَرقيتُ حتى أصبحت أسيِّرهُ، لذلك يسمى هذا المارد الإنسي، والمارد الإنسي هو الذي يتعدى ضرره إلى الناس، بعض الناس فاسد في نفسه، لكن بعضهم يفسد مجتمعه وإخوانه، ملطخ في السر والعلانية، أينما ذهب أفسد، بينما يقول الله سبحانه عن أحد الصالحين من الأنبياء والمرسلين: {مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم:31] قالوا: كلما حل في بلدة كان مباركاً، قال المتنبي:
وكذا الكريم إذا أقام ببلدة سال النضار بها وقام الماء
الكريم عبد الله إذا حل في مجلس تحول المجلس إلى روضة من رياض الجنة، إذا سافر معك أسعدك، وإذا صحبك آنسك، وإذا فارقك دعا لك، وإذا فارقته بكيت عليه، , وأما الفاسد فشؤم عليك؛ يحل معك فتحل معه الشياطين، وتحل معه المعصية والغضب من الله، قال جعفر الصادق لابنه: لا تصاحب ثلاثة قد غضب الله عليهم: لا تصاحب من عصى الله، فقد قطع حبل ما بينه وبين الله، ولا تصاحب عاق الوالدين فهو ملعون، ولا تصاحب كذاباً، فإنه يقرب لك البعيد ويبعد منك القريب.(343/8)
النعمة بالفتح
من نِعم الله نِعم يشترك فيها الناس جميعاً، ولذلك يقول ابن تيمية في الفتاوى: لابد للإنسان من ميلادين اثنين:
ميلاد يوم أتت به أمه، وهذا يشترك فيه كل الناس والبهائم والعجماوات، والطيور والزواحف والأناسي فالكل يولدون هذا الميلاد تماماً.
الميلاد الثاني: يوم تدخل في الإسلام وتخلع جلباب المعصية وتأتي إلى الله مستقيماً سالكاً سبيل الهدى يقول ابن كثير في البداية:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سروراً
فاعمل لنفسك إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
ذكرت أن الميلاد الأول يشترك فيه الناس، لكن ميلاد الشكر الثاني هو يوم أن تكون عبداً للواحد الأحد، قيل لأحد الصالحين: كم عمرك؟ قال: عشر سنوات، قال: وأنت في الستين، قال: أما خمسون سنة فضاعت من عمري، فكانت في معصية، والعمى عمى القلب، ولو أن الله سمى العمى في سورة عبس: عمى العينين {عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس:1 - 2] وهذا في مقام العتاب، إن ابن أم مكتوم ليس بأعمى في الحقيقة، قال الله له: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس:3] قال أحد العلماء: " وما يدريك يا محمد -عليه الصلاة والسلام- أن هذا الأعمى سوف يكون منارة من منارات الأرض تستقبل نور السماء " وبالفعل كان منارة تستقبل نور السماء، ووقف هذا الأعمى بنفسه في معركة القادسية يقاتل والمسلمون يقولون: عذرك الله، أنت معذور، قال: لا والله، لقد سمعت أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {انْفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة:41] فلبث مع المسلمين وأعطوه الراية وهو أعمى لا يبصر، فقتل ودفن مكانه، يقول ابن عباس: وقد عميت عيناه ولكن ما عمي قلبه، ولا عمي دليله ولا انطمست مواعظ الله من قلبه، وقد استهزأ به بعض الناس، مستهزئ يقول: " لا بأس عليك يا ابن عباس، أحسن الله عزاءك في عينيك " قال ابن عباس:
إن أذهب الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مشهور
إسلام وإيمان، ورسالة خالدة، واتصال بالله، ينام المؤمن على الرصيف والسعادة بيده، وينام الفاجر في القصور المذهبة المفضفضة واللعنة تطارده.
سبحانك! تعطي من تشاء وتمنع من تشاء، أما عطية الإيمان فتعطيها من تحب، ولذلك في الحديث الصحيح {إن الدنيا يعطيها الله من يحب ومن لا يحب وأما الدين فلا يعطيه الله إلا من يحب} وفي الصحيحين: {من يرد الله به خيراً، يفقهه في الدين}
ارتفعت راية لا إله إلا الله من على الصفا، قال: فأذن مؤذن الفتح للقلوب على الصفا، فأتى التوفيق يطفح، فقال أبو جهل: كفرت بلا إله إلا الله، وقال أبو لهب: أعرضت عن لا إله إلا الله، وقال سلمان الفارسي في أرض فارس: لبيك اللهم لبيك، وأتى بلال من أرض الحبشة يقول الله أكبر؛ فأقم الصلاة يا بلال! أرحنا بها يا بلال! أرحنا بها يا بلال.
وأتى صهيب فباع نفسه من الله، واشترى نفسه من الواحد الأحد، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة:207] وأتى خباب بن الأرت وهو يصلح السيوف ويصقلها وهو مولى فأعاده الله ليصقل القلوب، حكمة بالغة.
أبو جهل بأُسرته تدكدك في النار، وبلال أنقذ نفسه فقصره كالربابة في الجنة.
وقل لـ بلال العزم من قلب صادق أرحنا بها إن كنت حق مصلياً
توضأ بماء الحق إن كنت مخلصاً به ترق أبواب الجنان الثمانيا
دخل ابن أبي حازم على الخليفة سليمان بن عبد الملك، هو الخليفة الذي تولى بعد الوليد مباشرة، وكانت من حسناته أن ولى عمر بن عبد العزيز، فقال لـ قيس بن أبي حازم، وهو أحد التابعين الزهاد: [[يا قيس، ما لنا نكره الآخرة، ونحب الدنيا؟ قال: لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم آخرتكم، فتكرهون الانتقال من العمار إلى الخراب]] نعم بعضهم عمر دنياه لكن خرب آخرته، فأخفق إخفاقاً تاماً.
بعض الناس لا يملك شيئاً من الدنيا، لكن يملك إيماناً وصدقاً مع الله، هشام بن عبد الملك دخل الحرم ورأى سالم بن عبد الله بن عمر أحد الفقهاء السبعة يحمل حذاءه بيديه، قيل كانت عمامته وثوبه بثلاثة عشر درهماً، فرآه الخليفة هشام ومعه الأمراء والوزراء والحاشية، فقال: يا سالم ألك إليَّ حاجة؟ قال سالم: أما تستحي أن تقول لي هذا في بيت الله؟ فانتظره هشام حتى خرج من الحرم ثم قال له: سألتك يا سالم! داخل الحرم فقلت نحن في الحرم، فقد خرجنا، هل لك إلي حاجة؟ قال: من حوائج الدنيا أو من حوائج الآخرة؟ قال: بل من حوائج الدنيا، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما سألت الدنيا من الذي يملكها فكيف أسألها منك؟! أنت فقير مسكين يظن أن الإنسان إذا ملك ملايين أو قصوراً أو دوراً أو بساتين أنه ملك الدنيا.
أنا دائماً أكرر المناظرة الحارة الساخنة؛ السكين المشحوذة بين ابن تيمية وبين ابن قطلوبك وقيل قطلوبغا، هذا سلجوقي يقرأ الفاتحة لكن ما يعرف كوعه من بوعه! دخل عليه ابن تيمية يريد أن يقوده إلى الله، ويلقنه درس في لا إله إلا الله لا ينساه، سلطان فيه خير؛ لكن يريده ابن تيمية أن يصحو من بعض الأمور، فدخل عليه، فقال السلطان: وددنا أن نزورك في بيتك؛ فإنه من حقك، قال: دعنا من كدوراتك يا ابن قطلوبك موسى كان يزور فرعون في اليوم مراراًُ، قال هذا السلطان: يزعم الناس أنك تريد ملكنا يا ابن تيمية! فضحك ابن تيمية، قال: ملكك؟! قال: نعم، قال: والله الذي لا إله إلا هو ما ملكك ولا ملك آبائك ولا أجدادك يساوي عندي فلساً واحداً، إني أريد جنة عرضها السموات والأرض.
خذوا كل دنياكم واتركوا فؤادي حراً طليقاً غريباً
فإني أعظمكم ثروةً وإن خلتموني وحيداً سليباً
الآن وجد من اهتدى وطعم الهداية، قلت وقال غيري من طلبة العلم والدعاة محاضرة بعنوان (رسالة إلى المغنيين والمغنيات) وقرئت نشرات في الجزيرة وعكاظ اعترافات سبعة أو ثمانية من أبنائنا الذين عاشوا الفن: وهو الغواية، والوتر: وهو الضياع، والكمنجة: وهي طريق إلى النار، والموسيقى: وهي سقر، فعادوا فطعموا الإيمان وسجدوا للواحد الديان فقالوا: نستغفر الله، ولا نريد أطفالنا أن ينشئوا على ذلك، وذلك أنهم ذاقوا الهداية، أحدهم اعترف بعد الهداية، وهو يحيى أبو الكرم وأبكى الناس حتى ارتج المسجد وأنتم سمعتم بهذا، قام يقرأ علينا {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق:16] وكان يغني في المحافل الدولية، وجمهوره يا ليل يا عين، رايحين من أين، رايحين من فين، ولا نحن عارفين عاوزين إيه.
قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:6 - 8] وقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد:8 - 10]
كأنه -ولله المثل الأعلى- إيقاف أمام الإنسان، أين عيناك، وأين لسانك، وأين شفتاك؟ هذا الوليد بن المغيرة في النار لم ينفعه ذهبه، كان يكسر ذهبه بالفئوس كان يكسو الكعبة مرة وقريش مرة، كان يمشي في الديباج وعنده عشرة أبناء، في اليمين خمسة وفي اليسار خمسة، لكن لما أتت لا إله إلا الله كفر بلا إله إلا الله، قال سبحانه وتعالى عنه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً} [المدثر:11] ذرني وهذا الحقير، يمتن على الله بقصوره، يتمن على الله بدوره ويتكبر على الله بذهبه وفضته: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * جَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآياتنَا عَنِيداً} [المدثر:11 - 16].
يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران
ويا حريصاً على الأموال تجمعها أقصر فإن سرور المال أحزان
نشرت بعض الصحف مقابله لأحد التجار على مستوى العالم فاكتشف أن مرضه من سوء التغذية، وعنده التصاق في الأمعاء، ما وجد أكلاً ولا طعاماً، عنده شيكات واتصالات بالهاتف إلى آخر الليل ولكن نسي نفسه، يأكل بعض الخبز على الشاهي الحار الساخن الذي يقطع الأكباد، لا يعرف المفطح ولا الدجاج المقلي ولا السلطة، ولا الأكل والشرب، فأصيب بسوء التغذية فتدكدك، فقال بعض الزهاد في مجلس: " يا ليته يوم أخفق في الدين نجح للدنيا أي: ليته قيم غذاءه، ليته نجح لنفسه، يا حسرة على هذه الدنيا إذا لم تكن في طاعة الواحد الأحد.
تزود للذي لا بد منه فإن الموت ميقات العباد
أترضى أن تكون رفيق قوم لهم زاد وأنت بغير زاد
خرج الصحابة إلى الدنيا بثياب ممزقة، ودخلوا قصور كسرى وقيصر والذهب يلوح، فلما رأى سعد الذهب في قصر كسرى، قال: الله أكبر! قيل في بعض الروايات أن القصر انصدع، فقال سعد وعيونه تدمع من هذا النعيم الذي كفر أهله وأعرضوا عنه قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] نعيم، لكن ما شكر الله فيه، قال سعد وهو يبكي: {كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ * فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان:25 - 29].
ذكر الذهبي: أنه لما فتح قتيبة بن مسلم المشرق، أتى إليه بغنيمة كرأس الثور ذهب خالص، وقيل: در وقيل: جوهر، إنما هو ذهب أو در أو جوهر، فقال للقادة حوله: أترون أن مسلماً يدفع له هذا الذهب فيقول: لا أريده، قالوا: لا.
ما نرى في الجيش أحداً يزهد في هذا الذهب أبداً، وكان قتيبة بن مسلم عبداً صادقاً حنيفاً ولم يكن من المشركين شاكراً لأنعمه، قال: والله لأرينكم أناساً من أمة محمد عليه الصلاة والسلام، الذهب عندهم مثل التراب، ثم أرسل لـ محمد بن واسع الأزدي العالم العابد الذي كان معه في الجيش، وكان يرى محمد بن واسع يدعو بإصبعه وهو يقول: يا حي يا قيوم انصرنا، فيقول قتيبة: والله الذي لا إله إلا هو، لأصبع محمد بن واسع، خير عندي من مائة ألف سيف شهير، ومن مائة ألف شاب طرير، أرسل بالذهب إلى محمد بن واسع، فلما وصلوا بهذا الذهب الكتلة، أخذها محمد بن واسع، فعادوا إلى قتيبة، فقالوا: أخذها محمد بن واسع، فقال: الله المستعان! اللهم لا تخيب ظني فيه، فمر فقير بـ محمد بن واسع، يقول: من مال الله، من مال الله، فأعطاه الذهب كله، قال قتيبة: هكذا فلتكن الدنيا.
ولما عبدنا الدنيا ضاع منا الدين، واستحوذ علينا أهل الدنيا، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28].(343/9)
(نِعمَة) بالكسر
النِعمة بالكسر: هي ما أعانك على طاعة الواحد الأحد، وهي ما ساعدك في طريقك إلى الجنة، ولذلك جعل صلى الله عليه وسلم المال مشترك، وتألف به القلوب، لكن الإيمان جعله لناس من البشر لا يشاركهم فيه أحد، فتح صلى الله عليه وسلم حنين، والحديث صحيح -فلما أتت الغنائم لم يعط الأنصار، وهم أهل بدر وأحد، الأنصار سيوف تقطر من دماء أعداء الله، الأنصار الذين قتل منهم في المعارك (80%) الأنصار أهل الشهداء والقرَّاء، تركهم عليه الصلاة والسلام، وأعطى الغنائم صناديد العرب ممن بعضهم أسلم البارحة وبعضهم قبل البارحة، فالأنصار وجدوا في أنفسهم شأنهم في ذلك شأن البشر، وقالوا: غفر الله لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يعطي الناس ويتركنا ونحن نصرناه وآويناه وحميناه، ما قالوا إلا هذا!
ومضت المقالة وارتفعت إلى محمد عليه الصلاة والسلام، فدعا سعد بن عبادة، سيد الأنصار وقال: {ما قالة بلغتني عنكم؟ قال: هو كما قيل: قال وأنت؟ قال: ما أنا إلا من قومي، أقول مثلما يقول قومي} كقول الشاعر:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
قال عليه الصلاة والسلام: اجمع لي قومك، فجمعهم في حظيرة، فأطل محمد عليه الصلاة والسلام كالبدر ليلة أربعة عشر، وقال: {يا معشر الأنصار! ما قالة بلغتني عنكم؟ قالوا: هو كما سمعت يا رسول الله! قال: يا معشر الأنصار أما أتيتكم متفرقين فجمع الله شملكم بي؟ قالوا: المنة لله ولرسوله، قال: ألم آتكم فقراء فأغناكم الله بي؟ قالوا: المنة لله ورسوله، فرفع صوته، وقال: يا معشر الأنصار، والذي نفسي بيده لو شئتم لقلتم؛ فلصدقتم ولصدقتم: أتيتنا طريداً فآويناك، وفقيراً فواسيناك، وشريداً فنصرناك، قالوا: المنة لله ولرسوله، فرفع صوته وقال: يا معشر الأنصار، أما ترضون أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وتذهبون برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رحالكم؟ فوالله لما تذهبون به خير مما يذهب به الناس، غفر الله للأنصار ولأبناء الأنصار، ولأبناء أبناء الأنصار، الناس دثار، والأنصار شعار، ولو سلك الناس شعباً ووادياً، لسلكت شعب الأنصار، ووادي الأنصار ولولا الهجرة لكنت امرءاً من الأنصار، فأجابته دموع الأنصار حتى اختضبت لحاهم} ولماذا؟ لأنه عليه الصلاة والسلام يقول: إن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من يحب، وفي البخاري يقول عليه الصلاة والسلام: {يا أيها الناس، إني أعطي بعض الناس، لما جعل الله في قلوبهم من الجشع والهلع، وأدع بعض الناس لما جعل الله في قلوبهم من الخير والإيمان؛ منهم عمرو بن تغلب} قال: عمرو بن تغلب: كلمة ما أريد أن لي بها الدنيا وما فيها.(343/10)
نداءات
يا مسلماً! أجزاء نعمة الله من الشباب وصحة الأعضاء، وسلامة البدن والأمن في الوطن، أن تنهار أمام مغريات الدنيا؟ أجزاء هذه النعمة، أن تنقض العهد بينك وبين الله؟ أجزاء هذه النعمة، أن تقطع هذه الصلة مع الله؟
يا فتاة مسلمة يا امرأة مسلمة! حفظها الله ورعاها، وحلاها وحماها، ثم تخرج على منهج الله، تخرج ولكن سافرة، تخرج غير محتشمة إلا من رحم ربك، فتنه العالم اليوم النساء، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء}.
النساء فتنة لكل مفتون، وسبب لإعراض كثير من الشباب عن الدين، امرأة تخرج من بيت زوجها متجملة متطيبة متعطرة بلا إذن، تمر على الخياط البوذي السيخي، الهندوكي الملحد، أين إيمانها؟!!
ونساء المسلمين أصبحن في معرض الأزياء على الموضات الجديدة، كان المرأة في عهده عليه الصلاة والسلام محجبة تتلو القرآن وتدارسه وتتفقه في الدين، وطائعة لزوجها، تحب الله ورسوله
إليك نشكو حالنا يا رب! وإنا لا نزال نكرر للمرأة أن تعود، وأن تعرف أن في السنن: {إذا خرجت المرأة متعطرة متجملة من بيت زوجها بدون إذنه فهي زانية} ونقول لها أيضاً: إن التوبة بابها مفتوح، وإن الله لا يزال ينادي، ويبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل.(343/11)
الصحابة ينفقون في سبيل الله
أيها الإخوة: النعم كثيرة وهي على أقسام: منها نعم ظاهرة؛ كنعمة المال، إن صرفته في مرضاة الله؛ أسعدك الله في الدنيا والآخرة، عبد الرحمن بن عوف دخل الجنة بماله، ولذلك لا يأتينا شاب يتزهد تزهد الهندوكية ويقول: الدين أن تبقى في المسجد ولا تطلب المال، ومن نام في الرصيف أفضل عند الله ممن نام في القصر! سئل ابن تيمية: أيهما أفضل الفقير الصابر أم الغني الشاكر؟ قال سماحته: بل أفضلهما أتقاهما لله، وقد ألفوا فيهما مجلدات، فأتى هو في نصف سطر، فحسم النزاع، الشافعية يقولون في بعض رسائلهم: الفقير الصابر، والأحناف يقولون: الغني الشاكر.
قال ابن تيمية: أتقاهما لله، ما عندنا الغني مذموم ولا الفقير مذموم، المذموم عدو الله غنياً كان أو فقيراً، إذا تعدَّى حرمات الله وانتهك، فهذا هو عدو الله، وإلا فـ عثمان غني، ولكن ماذا فعل بغناه؟!
قام عليه الصلاة والسلام على المنبر، وقال: {من يجهز جيش العسرة وله الجنة} هذا ضمان من محمد عليه الصلاة والسلام،
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أديت في هول الردئ أبطالها
لست الذي ينهى ويأتي نهيه لا من يكذب فعلها أقوالها
فقام عثمان وسط الناس، وقال: أنا أجهزه يا رسول الله! بماله وأحلاسه وأقتابه، فدمعت عيناه عليه الصلاة والسلام، وقال: {غفر الله لـ عثمان ما تقدم من ذنبه وما تأخر، اللهم ارض عن عثمان فإني عنه راض، ما ضر عثمان ما فعل بعد اليوم}.
ابن عوف جاءته قافلة كاملة تريد المدينة -وكان تاجراً- سبعمائة جمل محملة بالحبوب والأكسية، فدخلت المدينة، فأعلن في التجار فاجتمعوا ليشتروها، قال ابن عوف: [[كم تدفعون؟ قالوا: ندفع في الدرهم ربح درهم، قال: وجدت من زادني، قالوا: نعطيك في الدرهم درهمين، قال: وجدت من زادني، قالوا: نعطيك في الدرهم ثلاثة، قال: وجدت من زادني، قالوا: نحن تجار المدينة، وما زادك أحد، قال: وجدت من أعطاني في الدرهم عشرة إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، قال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة:261].
أشهد الله ثم ملائكته وحملة عرشه ثم أشهدكم أنها في فقراء المدينة، فقام الفقراء على ما عليها فتقاسموها، وتولى الصحابة يبكون ويقولون: سقى الله ابن عوف من سلسبيل الجنة، أليس هذا يدخل الجنة؟! أليس هذا طريق إلى الإحسان والعظمة؟! أليس هذا فوز بالدنيا والآخرة؟! بلى.
وهذا هو الكنز الثمين، والمنصب قد يكون نصرة للإسلام، وقد يكون ضد الإسلام، وقد يكون عقبة كئوداً في طريق الدعوة والدعاة.
عمر بن عبد العزيز تولى الخلافة فكان راشداً، قاد الأمة إلى بر النجاة، وأبو مسلم الخراساني تولى الإمارة، فقتل من المسلمين ألف ألف، أي: مليون، والحجاج قتل مائة ألف.
وما شر الثلاثة أمَّ عمروٍ بصاحبك الذي لا تصحبينا
قال تعالى: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه:52].(343/12)
ثلاثة من بني إسرائيل يكفرون النعمة
وفي الصحيحين عنه عليه الصلاة والسلام: {أن ثلاثة من بني إسرائيل} انظر إلى الشؤم واللؤم وانظر إلى حفظ النعم، وشكر الواحد الأحد، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم:28] ثلاثة من بني إسرائيل أقرع وأبرص وأعمى، أراد الله أن يبتليهم، فأرسل إليهم ملكاً، فذهب إلى الأقرع، فقال: ماذا تريد؟ قال: أريد شعراً على رأسي يجمله، فقد قذرني الناس، فسأل الله أن يعطيه شعراً، فجمل الله رأسه بالشعر في لحظة، -إنما أمره إذا أراد شيئاً، أن يقول له: كن فيكون- قال: ماذا تريد من العطايا؟ قال: أريد الإبل، فدعا الله له فأعطاه الله ناقة فولدت حتى ملأت الواديان، وذهب إلى الأبرص، قال: ماذا تتمنى؟ قال: أريد من الله أن يجمِّل جلدي ويذهب هذا العوار في جسدي لأكون جميلاً، فسأل الله فرد الله عليه جلده الجميل في لحظة، قال: ماذا تريد من المال؟ قال: أريد البقر، قال: فسأل الله أن يعطيه بقرة، فولدت حتى ملأت الوديان، وذهب إلى الأعمى، قال: ماذا تريد؟ قال: أمنيتي أن يرد الله علي بصري لأرى، قال: اللهم رد عليه بصره، فعاد البصر:
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حال
ويقول آخر:
سهرت أعين ونامت عيون في شئون تكون أولا تكون
إن ربا كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غدٍ ما يكون
فرد عليه البصر في لحظة، قال: ماذا تريد؟ قال: الغنم، قال: اللهم ارزقه الغنم، فأعطاه الله شاة فولدت فملأت الوديان، ثم عاد المَلَك فحول الله صورته إلى صورة فقير -ولله الحكمة البالغة- فأتى هذا المَلَك صاحب المقامات الأُوَل، في صورة فقير عليه ثياب بالية.
فذهب إلى الأبرص أو الأقرع وقال: أنا فقير منقطع، انقطعت بي السبل والحبال، فلا مغني إلا الله، أعطني مما عندك، قال هذا الأقرع: الحقوق كثيرة، والمال ورثته كابراً عن كابر، ولا عندي لك شيء، قال: كأنك كنت أقرع قبل؟ قال: لا.
المال ورثته كابراً عن كابر، -يعني ورثته بجدارة- قال: إن كنت كاذباً فصيرك الله إلى ما كنت عليه، فسلب الله نعمه، فعاد إلى حالته الأولى.
وذهب إلى الأبرص، وقال: أنا فقير منقطع فأعطني مما أعطاك الله -أو كما قال- قال: ما عندي شيء، والحقوق كثيرة، قال: كأنك كنت من قبل أبرص فقيراً؟ قال: لا.
ورثت المال كابراً عن كابر، قال: إن كنت كاذباً، فصيرك الله إلى ما كنت عليه، فرده الله القهقرى وعاد إلى حاله، ثم سار إلى الأعمى -وكان الأعمى عاقلاً، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، رأى نعم الواحد الأحد فشكرها:
إذا كان شكري نعمة الله نعمةً فأين يطاق الشكر أم كيف يشكر
إذا كان شكرك نعمة على النعمة، فكيف تشكر نعمة الواحد الأحد.
قال الغزالي في الإحياء: " أتى رجل من الفقراء لينام، فقال: يا رب، أفقرتني وأعطيت فلاناً، سلبتني وأعطيت فلاناً، هذا الفقير مؤمن ولكن ينظر إلى الأموال والذهب، والفضة والدنيا ولم ينظر إلى نعمة الله، فنام تلك الليلة فأتى رجل صالح في المنام فقال له: يا فلان، أتبيعني بصرك بمائة ألف دينار؟ قال: لا.
قال: أتبيعني سمعك بمائة ألف دينار؟ قال: لا، قال: يدك بمائة ألف دينار؟ قال: لا.
قال: رجلك بمائة ألف دينار؟ قال: لا فأخذ يعدد له عضواً عضواً، قال: سبحان الله! لله عندك مئات من الألوف من الدنانير وما شكرته وأنت تمنن عليه أن سلبك بعض المال الذي قد يغويك؟ أو كما قال، فهب من المنام يبكي ويقول: لك الحمد يا رب.
لك الحمد والشكر الذي أنت أهله فخيرك مغمور وفضلك منزل
{{فقال للأعمى: أنا رجل فقير منقطع وليس لي بلاغ إلا الله! ثم ما تعطيني، قال هذا الأعمى الذي عرف الله: أما أنا فقد كنت أعمى فرد الله علي بصري، وقد كنت فقيراً فأغناني الله، فخذ ما شئت واترك ما شئت، والله لا أمنعك اليوم شيئاً أخذته، ولا أحمدك على شيء تركته، قال: أخبرك أن الله رضي عليك وسخط على صاحبيك}.
وأخبركم أن من قدر نعمة الله في شبابه وفي بصره وفي بيته وفي مدخله ومخرجه فقد رضي الله عليه، وأن من تسخط نعمة الله واستخدمها في الفجور، وأصبح عربيداً متمرداً على آيات الله؛ فقد غضب الله عليه، حكمة بالغة وقدرة نافذة فما تغني النذر.
هذه النعم تحتاج إلى شكر، وإلا فالأصل عند أهل العلم أن العبادة لا تكافئ النعم.(343/13)
لا أحد يدخل الجنة بعمله
بل أورد بعضهم في كتب الآثار: أن رجلاً من بني إسرائيل، عبد الله في جزيرة من الجزر، ومعه رمانة، منقطع عن كل شيء -المنقطع لا يعرف الكذب ولا يزني ولا يغش ولا يغتاب؛ فليس عنده إلا حجارة وحطب- فجلس على هذه الجزيرة عنده رمانة يعبد الله خمسمائة عام، فلما توفاه الله، قال: يا عبدي، ألك ذنوب؟ قال: لا.
ما أظن أني أذنبت ولا أسأت ولا عصيتك يا رب! قال: هل تريد تدخل الجنة بعملك أو برحمتي؟ قال: بل بعملي -يعني تكاثر الخمسمائة عام- قال الله عز وجل: يا ملائكتي أحصوا عمله ونعمتي عنده، فأحصوها، فوجدوا أن صلاته وعبادته وشكره في خمسمائة عام لا تعادل إلا نعمة البصر، والبقية هالك فيها، قال: خذوه إلى النار، فصاح وقال: يا رب أدخلني الجنة برحمتك.
فيقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {لن يدخل الجنة أحد بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته} لا يُعرف أحد أبداً عنده يد عند الواحد الأحد، كلنا عنده فقراء ومخطئون، كلنا مسيئون ومقصرون.
يا من تمنن بركعتين اثنتين أو بعشرة ريال دفعتها إلى فقير، أو بقراءة بعض الآيات، أو بعض التسبيحات، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قدموا أنفسهم في سبيل الله، أصحاب محمد أصبحت أجسامهم جراحات، يقول عروة بن الزبير: [[والله إني كنت ألعب في جسم أبي بعدما كبرت من آثار جراحات المعارك في الإسلام]] كان الزبير جسمه مغارات، جسم الزبير جرح هنا وهناك، وفي ظهره وفي رأسه، وفي وجهه من ضربات السيوف في سبيل الله.
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب
رحماك يا رب! لم نقدم للإسلام شيئاً، نريد فقط منا يا جلوس، ويا أمثالكم من الصالحين أن ننزل إلى الشارع الإسلامي، ننزل إلى الشاطئ، ننزل إلى المقهى بحكمة، ننزل إلى مجمع الناس، ليأتي كل واحد منا بعاص واحد إلى المسجد، أنا أسألك بالله أن تذهب وتدل عاصياً أو تأتي به إلى محاضرة، أو إلى درس، أو تهدي له شريطاً أو كتيباً أو كلمة نافعة: {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً، خير لك من حمر النعم} نريد أن ندل الناس على منهج الله؛ لأننا إن سكتنا وداهنا وتركنا العصاة؛ زاد الحال وتحول إلى سوء المنقلب {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [النحل:112] ونعمة الجوارح من أعظم النعم، وعند الترمذي بسند يحسنه بعض العلماء، يقول عليه الصلاة والسلام: {استحيوا من الله حق الحياء، قالوا: يا رسول الله! إنَّا نستحي من الله حق الحياء، قال: ليس ذلك بحق الحياء، حق الحياء: أن تحفظ الرأس وما وعى، والبطن وما حوى، وأن تذكر الموت والبلى}
نظر رجل من الصحابة إلى امرأة جميلة فبكى وذهب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقال: {يا رسول الله! نظرت إلى امرأة فما كفارة ذلك؟ قال صلى الله عليه وسلم: اصبر فإني لا أعلم في ذلك كفارة حتى ينزل عليَّ، فأنزل الله: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114]-وقيل بدل النظرة قبلة- قال: ألي يا رسول الله خاصة، قال: لك ولكل من عمل بعملك إلى يوم القيامة}.
أيها الصحابي الجليل! ليتك تدري أن من الشباب من أطلقها نظرات وفاحشات ومنكرات، سافر بعضهم إلى بلاد الكفر، سافر بعضهم وترك مهبط الوحي إلى بانكوك، هل ليعتمر أو يحج، أو ليطلب العلم؟ بل ليضيع رسالته الخالدة، وليبيع إيمانه وليتحول إلى بهيمة أو دابة، قال تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً} [الفرقان:44] تنَّزل بهم الحال، وساء بهم المنقلب إلى أن أصبح الإنسان يطارد معصيته وفجوره، ويعلن تمرده على الله، فأحدهم خرج من الجزيرة إلى بلاد الغرب، قال له أحد الدعاة: اتق الله، قال: الله في الجزيرة أما هنا فلا سبحان الله! قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة:7] {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [الشعراء:218 - 219] يعلم السر وأخفى.
في كتاب الزهد لـ أحمد: " أن أبا بكر الصديق يقول: [[يا أيها الناس، استحيوا من الله حق الحياء، والله الذي لا إله إلا هو أني لأذهب إلى الخلاء لأقضي حاجتي، فأضع ثوبي على وجهي حياء من الله]].
جزاك الله عن الإسلام مغفرة؛ حياء من الله حتى في هذا الحال! ولذلك يقول مُطرف [[ما غلبهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صدقة ولا صلاة، ولكن بإيمان وقر في صدره]] ويقول عثمان: [[لم أغتسل قائماً منذ أن أسلمت حياء]] وإلا فالغسل قائماً جائز ووارد، لكن يستحي من الله، فتستحي منه الملائكة.
ونريد هذا الحياء أن يتحول إلى مجتمعاتنا وبيوتنا، إلى قلوبنا، مع زوجاتنا وأخواتنا وبناتنا.(343/14)
شكر النعم يكون بأمور
يا مسلماً! يا شاباً! يا شيخاً كبيراً! خذ لك ذرة من الحياء تسعدك في الدنيا والآخرة، الحياء من الواحد، فإذا فعلت ذلك فقد شكرت النعم، وشكر النعم يأتي بأمور:
أولها: إقامة الفرائض في جماعة.
ثانيها: كثرة ذكر الواحد الأحد: فالله كلما ذكر وشكر كلما زاد قال تعالى: {لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيد} [إبراهيم:7] نعوذ بالله من الكفران.
ثالثها: أن تكون داعية مصلحاً وأن تكوني -أيتها المرأة- داعية، توجه الكلمة الطيبة، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ.
تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [إبراهيم:25].
رابعها: بأن تمتنع من المعاصي، بأن تغض الطرف، تتحكم في الأذنين؛ تحفظ سمعك وجوارحك عن المعصية، هذا هو حفظ الواحد الأحد، فإذا علم هذا الشكر وكان؛ فأبشر بالزيادة من الواحد الأحد، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالى جعل درجة الشكر أعظم الدرجات، ولذلك عند أهل السنة، أن درجة الشكر أعظم الدرجات، وتسمى ذخيرة الشاكرين، وقالوا: الطاعم الشاكر، كالصائم الصابر، أو كما قالوا، فإذا شكرت الله فقد زادك وحباك.(343/15)
فوائد الشكر
فوائد الشكر ثلاث:
1 - رضا الواحد الأحد، إذا رضى الله عنك أسعدك في الدارين.
2 - كفاية السؤال في الآخرة (سؤال التوبيخ) أما سؤال التقرير فلا بد منه.
قال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ * كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ * ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر:1 - 8] قال بعض العلماء: والله لتسألن عن الماء البارد، فكيف بمن أخذ الدور والأموال، وكفر بنعم الله؟ رأينا بعض الناس يملك من الدنيا أموراً لا يعلمها إلا الله، باستطاعته أن يدخل الجنة بشيء يسير من هذا المال.
وهو جار للمسجد يسمع الآذان يطرق ذهنه وأذنه بحي على الصلاة وحي على الفلاح، ويتقلب على فراشه كالبهيمة، حسيبه الله، ما عرف طريق قلبه ولا زاد روحه، عرف طريق البطن، أما طريق الجنة فما عرفه، ارتكس على وجهه والعياذ بالله.
3 - ومن فوائد الشكر كذلك: يدعى لك بخير، فإن الشاكرين يدعى لهم ممن يحسنون إليهم في ظهر الغيب، ومما يكتسب العبد دعاء الإخوة والخلان.
يا أيها المسلمون! إن علينا قضية كبرى وهي أن نستلهم هذا الشكر، شكر النعم، وأن نحتفظ به، وأن ننظر في القرى من حولنا كيف غضب الله عليهم، فجعلهم أثراً بعد عين، حول أمنهم إلى رعب، واستقرارهم إلى فزع، وشبعهم إلى جوع، وحول نهارهم إلى ليل، فلنحافظ على النعم، ولنشكر الواحد الأحد، ولننطلق داعين، لا يكفي أن تكون ملتزماً في نفسك حتى تدعو إخوانك أينما تسير، داعية في المقهى أو على الشاطئ أو في السوق؛ لأنك تحمل الخير للعالمين، فإذا لم تفعل فقد كتمت، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ.
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:160] {نظر الله امرأ سمع مني مقالة فوعاها فبلغها كما سمعها؛ فرب مبلغ أوعى من سامع} لكن دعوة بلين، دعوة بلا عنف؛ نحن ما أتينا لنكسر رءوس الناس، بل لنهدي قلوبهم، قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] كلمة طيبة، هدية، بسمة حانية، عطف، معانقة حارة تقود العصاة إلى المسجد، ومن المسجد إلى الجنة.
وكلمة أخيرة إلى النساء:
سلام من الله عليكن أيها النساء! دائماً النساء شقائق الرجال، لا بد أن يكون للنساء نصيب من الكلام، علَّ سامعة أن تسمع، وعلَّ داعية أن تفقه كثيراً، وعل معرضة أن تعود إلى الله.
إن القضايا التي تتكرر في مواضيع النساء هي قضايا التبرج دائماً وأبداً، وقد عظم بنا الحال حتى قال بعض الناس: والله لقد رأيت من المناظر ما أفزعني في هذه الشواطئ حتى ظننت أنه سوف ينزل بنا خسف أو قذف -نعوذ بالله من الخذلان- فحذار حذار أن يذهب مسلم أو مسلمة فيعرض قريبته، فتكون عرضة لأنظار الذين أعرضوا عن منهج الله!
والأمر الثاني: مجالس النساء، تشغل ربما بالغيبة والبعد عن الله والكلام الذي لا ينفع، فلتشغل بطاعة الواحد الأحد أو ما يقربهن من الله.
الأمر الثالث: المرأة داعية، فلا بد أن تدعو أخواتها بالهاتف، وبالكلمة والشريط، وبالكتيب؛ علَّ الله أن ينفع بها، وأن يزيدها توفيقاً وهداية.
الأمر الرابع: غرس لا إله إلا الله في قلوب الأطفال، وطاعة الزوج في طاعة الله، وغض البصر، وحفظ النفس؛ حافظات للغيب بما حفظ الله.
وشكراً لكم، وأسأل الله أن يجمعني بكم في دار الكرامة، وأن يغفر لنا ولكم ذنوبنا، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(343/16)
الأسئلة(343/17)
واجبنا مع التبرج في المجتمع
السؤال
إن التبرج كثر هذه الأيام على الشواطئ، ويحصل فيها من العرى والاختلاط الشيء الكثير، والرقص والغناء، فنرجو توجيه نصيحة عامة، وتذكير الإخوة بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مثل هذه الظروف وفق الله الجميع!
الجواب
نعم سلف في المحاضرة شيء من هذا، تفسخ في بعض النواحي بعضُ الناس هداهم الله كأنهم ما سمعوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، كأنهم ما قرءوا القرآن، كأنهم ما عرفوا أن هناك رباً يحلل ويحرم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، خرجوا حتى على أبسط القيم، امرأة تتكشف! امرأة تسبح في الشاطئ أمام الناس! امرأة تجلس وتشيش وتدخن وهي على كرسي بين الرجال! امرأة ترقص وتغني وتنظر إلى الأجانب!
بعضهم والله ما أدري أوافقه أو لا أوافقه، يقول: إنه وقعت هنا أمور ما وقعت في باريس ولا وقعت في واشنطن! وهذا قاله بعض الناس الذين رأوا وأبصروا وهم من الثقات العقلاء.
فيا أخوتي في الله! ماذا ننتظر؟ نحن بين يدي ثلاثة أمور واحتمالات: إما أن نسكت ونأتي إلى المسجد هنا ونقول: حسبنا الله ونعم الوكيل، نسأل الله أن يكفينا شرهم، وهذه كلمة أكل عليها الدهر وشرب، هذه قالها رجل من بني إسرائيل فخسف به قبل العصاة، لأنه لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر، قال تعالى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ.
كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:79].
والاحتمال الثاني: وهو أن نخرج ونضارب هؤلاء ونكسر أدواتهم، وأن نسب ونشتم وهذا ليس بصحيح: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] ولم يبعث الرسول صلى الله عليه وسلم بالمشعاب ولا بالهراوة ولا بالكرباج، وإنما بُعث بالبسمة الحانية والرضا {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
والاحتمال الثالث: وهو الصحيح أن ننزل إلى هؤلاء وهم إخواننا وأخواتنا وقريباتنا، وهذا مجتمعنا على الشواطئ، ننزل إليهم بحب ونصلهم بشفقة، لأمور: أن نبلغ دعوة الله، والأمر الثاني: نقول معذرة إليكم لئلا يأخذنا الله سواء، الأمر الثالث: هو شفقة بهم، ورحمة لهم، شارب الخمر يشرب الخمر والكأس بيده! فإذا ذكرته بلا إله إلا الله تحركت الفطرة في قلبه، فطرة الله التي فطر الناس عليها، الزاني وهو يزني، تحدثه وترسل عليه حرارة الإيمان فيحيا ويحيا قلبه ويعود إلى الله الواحد الأحد، ولكن من يوصل هذه الدعوة؟ من يحيي لا إله إلا الله؟ الإحجام ليس بصحيح.
الأمر بالمعروف والاحتساب، ليس عندنا في الإسلام أن الهيئة هي المسئولة وحدها، الهيئة مكلفة تنسيقاً، لكن كل مسلم داعية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} وقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران:110] لكن بلا عنف، ليكن أمرك بالمعروف بالمعروف ونهيك عن المنكر بلا منكر، بكلمة طيبة، فإن استمع فبها ونعمت وإلا فلا، فقد أعذرت وأنذرت وبلغت، إني أدعوكم من هذا المكان إلى أن يذهب كل واحد منكم إلى أن يستنقذ رجلاً أو يهدي أسرة، أو يكسب اثنين؛ فإنهم في ميزان الحسنات يوم القيامة والله يقول: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33].(343/18)
عتاب من أهل رابغ
السؤال
هديه من إخواننا في رابغ.
المشاركة: يقولون:
قف لنا في الطريق إن لم تزرنا وقفة في الطريق نصف الزيارة
الجواب
وبيني وبينهم إن شاء الله بعض الشجون، وبعض الشئون وأقول لأهل رابغ:
يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدم
إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا أن لا تفارقهم فالراحلون هم
وسبب عتابهم أنني وصلت إلى خليص ولم أزرهم، فليغضبوا على أهل خليص ولا يلوموني وليلوموا أنفسهم إن كانوا صادقين.(343/19)
الحياء والمجاملة
السؤال
هل هناك فرق بين الحياء وبين المجاملة؟
الجواب
هذا الأخ أتى بكلمة ربما تكون مبتذلة عند بعض العلماء؛ لأن علماء السنة يأتون بجمل كأنها من جمل القرآن، يقولون: مداهنة ومداراة، وهو يأتي بحياء ويأتي بمجاملة وأقول: أنا أشرح هذا سواء أراده السائل أم لم يرده، للفائدة يقول أهل العلم:
المداراة والمداهنة أمران مختلفان:
المدارة: هي أن تدفع شيئاً من الدنيا أو تبذل شيئاً من الدنيا من أجل أن يبقى لك الدين.
والمداهنة: أن تدفع شيئاً من الدين من أجل أن يبقى لك شيء من الدنيا.
والأدلة على المداراة ما في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان جالساً في بيته، وأتى عيينة بن حصن وهو فزاري من بني بدر، وهي أسرة شاهقة في التاريخ، هم الذين يقول فيهم حاتم الطائي:
إن كنت كارهة معيشتنا هاتي فحلي في بني بدر
وأتى عيينة هذا وراءه آلاف من الناس، لو آذاه صلى الله عليه وسلم بكلمة انجرحت مشاعره وذهب فأفسد عليه القبائل وردهم عن الإسلام، وكان عيينة سيئاً كما في السير، استأذن الرسول عليه الصلاة والسلام والحديث عن عائشة: {فقال صلى الله عليه وسلم: من، قال: عيينة بن حصن، فقال رسول الله: ائذنوا له بئس أخو العشيرة، فأذنوا له فدخل، فلما دخل، هش محمد صلى الله عليه وسلم وعانقه وأجلسه وحياه، فأكرمه وانبسط له، فلما خرج، قالت عائشة: يا رسول الله! قلت: كيت وكيت، فلما دخل انبسطت له، قال: يا عائشة! إن من شر الناس من تركه الناس اتقاء فحشه}
البخاري علق أثراً في الصحيح فقال: وقال أبو الدرداء: [[إنا لنبتسم في وجوه أقوام، وإن قلوبنا لتلعنهم]] من أجل ماذا؟ من أجل الدين والرسالة، بعض الفسقة إن لم تلن له في الخطاب يضيع عليك رسالتك وإيمانك.
والعامة يقولون: أضع من مالي ولا يرمي خيالي، وهذا من المداراة لا من المداهنة، وقد قال الله: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] موسى يقول لفرعون: يا أبا مرة! -مرر الله وجهه في النار- فرعون كنيته أبو مرة كما في تفسير ابن كثير عن أبي أيوب، وما يضرك أن تلين بالخطاب، ما يضرك أن تأتي وتقول لمجرم: أرى عليك آثار الطاعة وهي آثار الخيبة، أو تقول: وجهك المشرق هذا ينبئ أن وراءك مصدراً من الخير الله أعلم به، من هذه الكلمات، هذه مداراة، أما المداهنة فهي طلب الدنيا بالدين، أن تذهب لتبذل دينك من أجل أخذ دنيا من الناس، تجامل وتكذب على الله وعلى رسوله وعلى المؤمنين من أجل الدنيا، تذهب إلى فاجر تقول: أنت علاّمة الزمن!! وبك يحفظ الله البلاد والعباد، وأنت مجدد العصر وهذا القرن، ورأيتك البارحة بجانب الرسول عليه الصلاة والسلام وأنت ما رأيت في المنام شيئاً! حتى تحصل على دنيا، فأنت مفلس في هذا، وقد أخطأت وهذه مداهنة.(343/20)
خطر الخمور والمخدرات
السؤال
في عصرنا الحاضر، انتشر داء المخدرات والخمور وراجت عند كثير من الناس فنرجو التنبيه لهذا الخطر الفتاك، وحث المسلمين لمحاربتهم ووفقكم الله
الجواب
تعرفون أن هناك كلاماً كثيراً ومنشورات ولقاءات وندوات ومحاضرات عن المخدرات، وهذا أمر معلوم لديكم، حتى قال بعض الناس المهلوسين: أخذت أكبر من حجمها، ولم تأخذ إلا أقل بكثير من حجمها، والمخدرات ما هي إلا سبب من أسباب كفران النعم، يوم جحد المرء الإيمان وأعرض عن المسجد وقع في المخدرات، شاب لا يصلي الفجر، أتتحرى منه أن يحجم عن المخدرات؟ أعرف بعض الإخوة؛ دخلت أنا وإياهم بعض السجون ووجدت في سجن واحد سبعة وعشرين شاباً، لكن اهتدوا بعد ما دخلوا السجن، كلهم مجموعون على أنهم ما كانوا يصلون الفجر جماعة في المسجد وإنما أقول الفجر؛ لأن في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {من صلى الفجر في جماعة فهو في ذمة الله، فالله الله، لا يطلبنكم الله من ذمته بشيء فإنه من طلبه أدركه ومن أدركه كبه على وجهه في النار>/ وإني أقول: ليس السجن ولا السوط كفيلاً بردع هؤلاء، ولا بد من إيمان ليقتنعوا، ولا بد من وصول كلمات طيبة إلى قلوبهم حتى يهديهم الله سواء السبيل، وأسأل الله أن يردهم إليه رداً كريماً جميلاً، قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران:135].(343/21)
محلات تدليك النساء
السؤال
انتشرت هذه الأيام أماكن خاصة بتدليك النساء وعمل ما يسمى بالمساج، مما يجعل المرأة تخلع ثيابها في ذلك المحل، نرجو توجيه كلمة بهذا الخصوص؟
الجواب
قد أتت أمور أصبح الإنسان يستحي أن يتكلم بها في المجالس الخاصة فكيف بالعامة! تدليك النساء والمساج وهذه الأمور، وما عليك لو كانت في بيت أهلها، لكن تذهب إلى بعض الأماكن لتدلك جسمها، في المستشفيات في بعض الأماكن، ماذا يقول الإنسان! حرام، كلمة حرام أصغر! كلمة حرام لا تغطي! وأظن المسلم الذي في قلبه غيرة يقف لها بالمرصاد، التدليك معناه أنها بلغت درجة البهيمة والعياذ بالله، وعرض الزينة وعرض الجمال على المتبذلين من الناس، النفس تحبط، النفس تشتهي جمالاً موقراً أتى به الإسلام، جمالاً محشماً محجباً، ولذلك بعض الزائغين يقول: لا تحجبوا المرأة هي مرأة، وإذا ملئت منها العيون فلن تأكلها.
قلنا له: قاتلك الله، أتريد أن تتحول النساء والبنات إلى سلع بأيدي كل مشترٍ؟! عندنا الفتاه أجمل بكثير من الذهب والفضة، الفتاة عندنا درة في صدف، وشمس في غمامة، كنانة ريحان في باقة، لا نريد أن يخرج الجمال يتبذل هكذا، أما أن تشرب وتمص وتقبل وتمسج وتدلك، فما عدنا نحبها أبداً، مهما أتت.
وبعض النساء وإن تابت فإنها بماضيها قد كلَّت القلوب.
ماذا أقول؟! أقول: إنهن قد سمعن البيان، ومسئولية النساء أن يبلغن هذا، الدعوة في صفوف الرجال واردة، لكن في صفوف النساء كأنها ضعيفة بها حمَّى، فما عليهن إلا أن ينقلن هذا الكلام وأمثاله، وأن تقرأ ما ينفع من كتيبات، وأن تعرف حكم الله في ذلك، ولعلَّ القلوب أن تعود، وأنا أعرف أن المرأة إذا حافظت على الصلوات الخمس، وتقيدت بالحجاب؛ فسوف تنتهي هذه الجروح في وجهها، جروح ووصمة عار، في وجه المرأة المسلمة، هذا الكلام وصمة عار أن نبثه في أرض الرسالات، يصبح هذا الكلام لدور الدعارة في باريس وإلا في الخفايا في نيويورك وأمثالها، أما هنا فلا، هنا طهر وعفاف، هنا جمال مصون، هنا حشمة وحجاب.(343/22)
حكم المعازف والغناء
السؤال
دار نقاش حول تحريم المعازف والغناء الماجن، فكانت مكَلِّمتها تحتج بما بثه بعض الدعاة في هذه الأيام، من جواز سماع الغناء حتى وصل الحال إلى أنها تقول: واجهت الموت مرتين، وعندما كانت في غرفة العمليات أتت تحت تأثير مخدر كانت تردد إحدى الأغنيات الغربية، فنرجو توجيه نصيحة لمثل هذا؟
الجواب
لا يعاد الكلام، وقد جمعت فتاوى أهل العلم الذين تكلموا في الغناء في عنوان (رسالة للمغنين والمغنيات) وذكرت فتاوى أهل العلم بل نقل الشوكاني إجماع العلماء من أهل السنة على تحريم الغناء، ونقل الآجرَّي إجماع أهل العلم على تحريم الغناء، وقال ابن مسعود: [[والله الذي لا إله إلا هو، والله الذي لا إله إلا هو، والله الذي لا إله إلا هو، إن لهو الحديث في القرآن هو الغناء]] وقال مجاهد: هو الغناء، وقال مالك: لا يستمع الغناء عندنا إلا الفساق، واتفق أهل المذاهب الأربعة على تحريمه، وقال الشافعي: خلفت في بغداد شيئاً يدعى التغبير تركة الصوفية هو أضر من الخمر، وذكرت كلام ابن تيمية في (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وفتوى ابن القيم التي قال فيها: [[الغناء عصارة الزنا، وباب اللواط، ورقية العاشق للمعشوق، وهو باب من أبواب الفاحشة]] ثم فتوى سماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز، والإفتاء بتحريمه عند أهل العلم سلفاً وخلفاً، ثم فتوى العلامة محمد ناصر الدين الألباني، وبعدها ذكرت أضرار الغناء منها كما قال عقبة بن نافع لأبنائه: إياكم والغناء فإنه طريق إلى الفاحشة، ومنها أنه ينسي القرآن، ومنها أنه يقطع الحبل بين العبد وبين الله، ومنها أنه ينسى ذكر الله، ومنها أن صاحبه يحرم الغناء المباح في الجنة الذي ذكره ابن القيم، ومنها أنه يدعو للجريمة بشكل شديد جداً، ومنها أنه قسوة للقلب.
أخوتي في الله! أما هذه الفتوى فأنا أسال من أفتى بها أمام الله عز وجل، ثم أمامكم:
أولاً: ما هو دليلك أيها العلامة فيما أفتيت به، ويطالعنا يقول الحديث ضعيف، قلت الحديث في صحيح البخاري سنده كالشمس، وأنت لست بمحدث.
أوردها سعد وسعد مشتمل ما هكذا تورد يا سعد الإبل
الذي يقول هذا القول -وأنا لا أغتاب أحداً- لكن أقول من هذا المكان، طالب في أولى من أصول الدين أحسن منه في الحديث، وأقوى منه في التخريج، ونسبته في الأحاديث أقوى منه، ضعَّف سبعة أحاديث في صحيح البخاري وأربعة في صحيح مسلم وصحح أحاديث موضوعة شهد العلماء أنها موضوعة، بل قال: أتى بشروط خمسة في قبول الرواية ثم لم يعمل بشرط منها، وقال في قاعدة له: يقبل الحديث إذا وافق معناه العقل ولو كان سنده ضعيفاً، ويرد الحديث إذا خالف معناه العقل ولو كان سنده صحيحاً.
ثانياً: من وافقك على هذه الفتوى ولو صحابي، وأنا أتحدَّى وهذه كتب التفسير لـ ابن جرير وابن كثير، والكتب الستة المسانيد والمعاجم وكتب الفقهاء التابعين، الفقهاء السبعة، وتابعي التابعين، كلهم مجمعون على تحريم الغناء، لا يعرف بل ذكر الذهبي في ترجمة ابن الطاهر المقدسي أنه زل زلة شنيعة يوم قال: بإباحة الغناء، وأنه سقط على وجهه، وابن حزم الظاهري يقول به؛ لأنه ضعف حديث البخاري.
قال: البخاري ما سمع الحديث من هشام بن عمار، مع العلم أن ابن حزم لو رأى الغناء هذا كبر أربع تكبيرات وصاح وقال: حرام، حرام، حرام.
الغناء عند السلف كان بدفوف وتنك، لكن الغناء هنا مركب، خمر يدوخ العقول، يجعل الإنسان لا يدري أين هو، يضيع إيمانه، فلا تغتروا بمن أفتى بفتيا يسأله الله عنها: {وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ} [النحل:116] ولو عدتم إلى شريط (رسالة إلى المغنين والمغنيات) لوجدتم الكلام بالتفصيل، وسبعة أحاديث، وما يقارب ثمان آيات، ونقولات من كتب عشرة من العلماء عل الله أن ينفع به.(343/23)
علاج قسوة القلوب
السؤال يقول: القلوب إذا قست بسبب حب الدنيا، فما هو الأمر الذي يلينها؟
الجواب
ذكر الله عز وجل قسوة القلوب في مواضع من القرآن، أذكر ثلاثة مواضع:
1 - {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة:74].
2 - قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} [المائدة:13].
3 - وقال تعالى: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد:16] ولـ ابن القيم كلام جيد في ذلك: تقسو القلوب أعظم قسوة وذلك بالكفر كترك الصلاة.
الأمر الثاني: المعاصي تقسي القلب حتى يكون كالحجر.
الأمر الثالث: كثرة المباحات من نوم وكلام بغير ذكر الله وخلطة، ويلين القلوب الصلوات الخمس واعتزال الغناء، وذكر الله عز وجل، والصحبة الصالحة، وكثرة الاستغفار، والتقليل من الضحك والمزاح، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام: {لا تكثر الضحك فإن كثرة الضحك تميت القلب} أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وصلى الله على سيدنا محمد آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.(343/24)
حرب طاحنة بين السنة والبدعة
في ثنايا هذا الدرس: ذكر مسار البدعة، وكيف واجهها الإسلام، وكيف حذر منها النبي صلى الله عليه وسلم، وتوضيح أنواع البدع، ومواقف للعلماء وعلى رأسهم النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والأئمة من بعدهم في التصدي لأهل البدع، ولو اقتضى الأمر السجن أو ما هو أكبر منه.(344/1)
مسار البدعة
الحمد لله رب العالمين، الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون، الحمد لله فاطر السماوات والأرض جاعل الملائكة أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، يزيد في الخلق ما يشاء إن الله على كل شيء قدير، الحمد لله حمداً حمداً، والشكر لله شكراً شكراً، والصلاة والسلام على معلم الخير، وهادي البشر، ما اتصلت أذن بخبر وعين بنظر، وما تألق ورق على شجر، وما همل مطر وانهمر.
وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيها الأبرار: أيها الأخيار! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، عنوان هذه المحاضرة (حرب طاحنة بين السنة والبدعة) وهي حرب ضروس وجدت منذ أن خلق الإنسان، حرب بين الخير والشر، والهدى والضلال، والحق والباطل، وهذه الحرب نتكلم عنها منذ فجر النبوة وسوف نتكلم عن:
- مسار البدعة وكيف واجهها علماء الإسلام؟ وكيف انتصروا عليها في أكثر من موقف؟
- وما هي أسباب انتشار البدعة؟
- وما هي أسباب الانتصار على البدع؟
- ثم نعرض إلى بعض الوقائع والمقولات التي عاشها علماء الإسلام منذ فجر الدعوة، وعلى رأسهم وقدوتهم رسول الهدى صلى الله عليه وسلم.
- ثم نعرج على بعض العناوين ومنها:
- التحذير من البدع.
- صراع البدعة مع السنة.
- الخوارج وموقفهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
- الجدال الذي كان ثمرته التعزير.
- المبتدع مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
- علي بن أبي طالب أمير المؤمنين يندد بالبدعة ويلاحق ابن سبأ في كل مكان.
- عمارة بن رؤيبة وموقفه من البدعة.
- أحد الصحابة يتهم بشر بن مروان بالبدعة على المنبر.
- الحسن البصري يتبرأ من واصل بن عطاء المعتزلي.
- خالد القسري يذبح الجعد بن درهم المبتدع كذبح الشاة يوم عيد الأضحى.
- الإمام مالك يتكلم عن السنة، ويعارض البدعة، ويندد بها في مسجد الرسول عليه الصلاة والسلام.
- الإمام أحمد يقود الحلف السني الشهير ضد الحلف المبتدع الصغير الحقير، ومن وإلى المأمون الخليفة العباسي المبتدع.
- أحمد بن نصر الخزاعي يذبح شهيداً في سبيل الله.
- ابن تيمية يتصدَّى للبدع ويحاربها بقلمه السيال، ولسانه المعطاء، وبفكره وعطائه وتأليفه، وينزل للبدع في الميدان، ثم تعلن النتيجة لصالحه.
- الإمام محمد بن عبد الوهاب يؤسس الدولة السنية التي قامت على الكتاب والسنة، وينصرها بالسيف والقلم، وهو مسئول عن فترته، ولا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها، ونحن نسأل عن هذه الفترة ولا يسأل عنها محمد بن عبد الوهاب.
ثم الخلافة العثمانية وموقفها من البدع.
- ثم نعرج على القضايا العصرية وعلى بعض الأمور بدون أن نتعرض لأشخاص ولا لحكومات ولا لهيئات، فإن موقفنا هنا أن نبين الإسلام، ولا نتعرض لأحد مهما كان إلا أن يقدح في الإسلام؛ حينها نبين خطأه وظلمه وضلاله، وهذه أمانة الله عز وجل على طلبة العلم والدعاة.(344/2)
البدعة في اللغة
البدعة في اللغة: تدل على أمور، منها: الاختراع، والإنشاء، والإبداع، يقول: أبدعت الشيء أي: اخترعته، وقد ذكر الله عز وجل ذلك في القرآن، فقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد:27] أي: النصارى الجهلة الضلال عبدوا الله، لكن عبدوه بجهل، فأخذوا لأنفسهم طقوساً وأحداثاً وأرقاماً ما أنزل الله بها من سلطان؛ فوقعوا في الضلال والبدعة والارتباك.(344/3)
أدلة تحريم الابتداع في الدين
قال تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد:27] وقال تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف:3].
فنحن أمة نتبع ولا نبتدع، أمة نقتدي ولا ننتج من أنفسنا أموراً، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات:1] الشريعة تتلقى من السماء ولا نتدخل فيها إلا باستنباط وفقه في النصوص، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [الأحزاب:21] وقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر:8].
قال بعض المفسرين: هؤلاء المبتدعة زين الله لهم سوء أعمالهم فرأوها حسنة، وزين لهم الشيطان المسلك والسبيل، فرأوا البدعة حسنة.(344/4)
موقف السلف الصالح من البدع
قال سفيان الثوري: [[البدعة أحب إلى إبليس من المعصية]] علق ابن تيمية على هذا المقال بقوله: لأن البدعة قليل من يتوب منها، أما المعصية فكثير من يتوب منها؛ ولأن المبتدع يرى أنه محق ويرى أنه على صراط مستقيم وأنه مهتدٍ، فلا داعي لأن يتوب وهو على صراط سوي.
قال عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين من حديث عائشة مرفوعاً وهذا الحديث عمدة من عمد الدين، وقاعدة قوية، وصخرة تتكسر عليها رءوس المبتدعة قال صلى الله عليه وسلم: {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} وفي لفظ: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد} لكن تعالوا إلى كلام السلف في البدعة، قال بعض السلف في البدعة: لا تجالسوا مبتدعاً ولا تؤاكلوه ولا تشاربوه، فإنه أعدى من الجرباء.
وقال ميمون بن مهران: ثلاث لا تسلم لنفسك فيها انقياد:
الأولى: لا تخلو بامرأة ولو أن تقول: إني أعلِّمها القرآن، أو أعظها، فإنه قد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما}.
والمسألة الثانية: لا تقبل على السلطان ولو أن تعظه، فإنك لا تدري ماذا تفعل، أي: تتنازل عن دينك.
والمسألة الثالثة: لا تستمع لصاحب بدعة، فإنك لا تدري ماذا يقذف في قلبك من بدعته.
فالأهواء أسرع إلى أهل البدع، وهي السم الزعاف، وهي أعدى من الجرب للأمة إن لم يتداركها الله برحمته تبارك وتعالى.(344/5)
أسباب البدعة
لماذا يبتدع المبتدع بدعته؟
وعند الإجابة على هذا السؤال سوف نتعرض إلى:
- بدع العقائد.
-بدع العبادات.
-بدع الآداب والسلوك.
ما هي الأسباب التي تجعل كثيراً من الناس يبتدعون في دين الله وهو الشريعة كاملة، قال سبحانه: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50]؟
الجواب
لا يبتدع مبتدع إلا لأحد أسباب ثلاثة:(344/6)
السبب الأول: الجهل بالأثر
ليس هناك معصية أعظم من الجهل، فإذا وجد الجهل في أمة فمعنى ذلك: أنها قد سحقت وأزيل مجدها، ودكت عظمتها، واستولى عليها العدو الباطن والظاهر من كل جانب، والجهل تبعية وخرافة ورجعية وتأخر، وهو عند أصحابه طاغوت من الطواغيت.
أتى عبد الحميد بن باديس العالم الجزائري الكبير، وأراد أن يطرد الفرنسيين من بلاده، ومن تراب وطنه، فأتى إلى الشعب الجزائري فوجده جاهلاً، فقال: كيف تريدون أن تطردوا الفرنسيين بأناس جهلة؟! فلما عَلَّم الشعب الجزائري عشرين سنة تقريباً، بدأ الزحف، فما مضت سنوات إلا وقد مُزق جيش فرنسا تمزيقاً تاماً على تراب الجزائر.
ولذلك فإن الجهل بالأثر -أي: بالكتاب والسنة- هو سبب كبير من أسباب البدعة، وإذا رأيت الإنسان يعيش وهو لا يتصل بالقرآن والسنة مباشرة، ولا تكن مادته ومكتبته السنة والقرآن، ولا يكون حديثه في المجالس ودروسه وتلقيه وإشراقاته من الكتاب والسنة -لا أعني في ذلك: أنه لا ينصرف إلى تخصص غير تخصص الكتاب والسنة، لكن ليكن محوره الكتاب والسنة- إذا رأيت ذلك فاعرف أن البدعة منه قريبة، وأنه أحد شخصين:
إما مبتدع سوف يكون منظراً كبيراً للمبتدعة، وإما جاهل يقلد من رأى، إن رأى سُنياً قلَّده، وإن رأى خارجياً قلَّده، أو مرجئاً، أو قدرياً، فهو يقلد كل إنسان!
يوم يمان إذا لاقيت ذا يمن وإن لقيت معدياً فعدناني
هذا عمران بن حطان يقول: أنا رجل داهية ألعب على الرجال، إذا جلست مع اليمني قلت: أنا يمني، وإن جلست مع العدناني، قلت: أنا عدناني، هذا الذي يعيش على هامش الأحداث، الذي لا يتصل بالعلم.(344/7)
السبب الثاني: الغلو
ولا يوجد الغلو في أمة إلا وزحفت إلى الابتداع مباشرة، والغلو ليس مطلوباً في الإسلام، قال تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} [المائدة:77] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {هلك المتنطعون، هلك المتنطعون} -وفي رواية- {المتفيهقون والمتشدقون} هؤلاء الذين يحكحكون في الدين، أو يتعمقون عمقاً ليس من السنة، وسوف أبين ذلك؛ لأن هذه الكلمة استخدمت على مستويين اثنين:
أناس فجرة -والعياذ بالله- دخلوا على أهل الخير والصلاح من هذا الباب، يهاجمونهم بالتعمق والتطرف، وأنهم يأخذون الدين بقشوره وأوراقه وجذوره، وقد يكون سبباً صحيحاً؛ لأن هناك أناس وجدوا في الساحة تعمقوا وتنطعوا في دين الله، ودين الله وسط بين الغالي والجافي، من يصعد برأسه حتى يصل إلى السطح ثم يريد أن يخرج من البيت، ومن يريد أن يهبط ثم رسخ في الأرض ويرسخ في التراب {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} [البقرة:143] وسوف أبين ما هو الغلو في المعتقد:
الغلو في المعتقد هو كما فعلت بعض الطوائف كبعض أهل الرفض الذين غلو في علي رضي الله عنه حتى ادعوا له الألوهية.
وغلت الخوارج في العبادات حتى غلبتها على الفهم والفقه في الدين، وأخرجت المسلمين عن الإسلام، وكفرت الناس بالمعاصي.
وغلت المرجئة في باب الإيمان حتى قالت: من آمن بقلبه كفاه ذلك عن العمل.
وغلت القدرية وقالت: لا قدر، ولم يكتب الله عز وجل قدراً إلى غير ذلك من الطوائف.(344/8)
السبب الثالث: اتباع المتشابه
في النصوص القرآنية والسنة المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام: نصوص تحتمل التأويل، تحتمل هذا وذاك، تحتمل الاستنباط وغيره، قال سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران:7].
والمحكم في آيات القرآن كثير، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً.
أو ما لا يدرك علمه، فعلماء الإسلام وأهل السنة، يقولون: آمنا به ووكلنا علمه إلى عالمه، أما المحكم: فنؤمن به ونعمل به، والمتشابه نؤمن به ونكل علمه إلى الله.
لكن أهل البدع يأخذون المتشابه، فيدخلون من هذا المدخل؛ لأنه يحتمل وجوهاً، وسوف نضرب على هذا أمثلة.(344/9)
واقعة الخوارج
نستمع الآن إلى أمثلة من تاريخ الإسلام، وأنت بإمكانك أن تقيس الأحداث والوقائع والأسماء على هذه النوازع.
هل تعلمون أعدل من رسول عليه الصلاة والسلام في البشر؟ هل تعلمون أكرم منه في البشر؟ هل تعلمون أنصف منه في الحكم؟
الجواب
لا يوجد أحد والله
أتى يوزع الغنائم بين الناس؛ لأنه القاسم والله المعطي، فلا يوزع من نفسه ولا يسبقه الهوى؛ لأنه أخوف الناس لله، أتى يعطي هذا ويعطي هذا، فأتى رجل من الخوارج.
والخوارج لهم سمات منها:(344/10)
بعض سمات الخوارج
أولها: أنهم يغلبون العبادة على العلم كالنصارى، فهم جهلة.
ثانيها: يأخذون بظاهر القرآن والسنة، ولا يأخذون بما خرج عن القرآن من السنة، أو ما كان زائداً من القرآن عن السنة.
ثالثها: أنهم يكفرون أصحاب الكبائر، ويخرجون أهل المعاصي من الإسلام، ويستحلون قتال أهل القبلة، ويقتلون المسلمين، هؤلاء هم الخوارج.
جلس عليه الصلاة والسلام يوزع الغنائم، فأعطى هذا مائة ناقة؛ لأنه يريد أن يتألفهم للإسلام، فيعطي مشايخ القبائل ورءوس الناس من مائة مائة؛ لأن هذا الرجل إذا أسلم كان فيه نصر للإسلام، فأتى خارجي من الخوارج، وبين عينيه كركبة البعير من كثرة السجود، قال: اعدل يا محمد! سبحان الله! هذه الكلمة تملأ الفم: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً} [مريم:90] قال صلى الله عليه وسلم: {خبتَ وخسرتَ -وفي لفظ- خبتَ وخسرتُ إن لم أعدل} أي: إن كنت أنا أظلم فقد خبت في الدنيا وخسرتَ، وحاشاه! فهو أعدل الناس.
فقام عمر رضي الله عنه وأرضاه، وقال: {يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، قال عليه الصلاة والسلام: لا يا عمر! لئلا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه} وفي لفظ: {لا يا عمر! إنه يخرج من ضئضئ هذا أناس تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وصيامكم إلى صيامهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية} وفي لفظ لـ مسلم: {لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد}.
فأتوا وكان الموفق للانتصار عليهم هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه، حضر معركة النهروان، وخرجوا مع الأمة يصلون الليل، ويصومون النهار، ومنهم من يقرأ القرآن ويختمه في يومه وليلته لكن لا يفقهون، فناداهم علي إلى الطاعة، وإلى الدخول في خلافة الإسلام وفي الإمرة ولكنهم أبوا إلا الفقه الأعوج.
مروا برجل نصراني عنده نخل مزرعة، فأخذ رجل منهم رطبةً واحدة من رطبه، فقالوا له: آستأذنت النصراني؟ قال: لا والله.
قالوا: عد إليه ولا تأكل حتى تستأذن منه.(344/11)
قتال علي بن أبي طالب الخوارج
مروا بصحابي من صحابة الرسول عليه الصلاة والسلام، اسمه عبد الله بن حبيب من الأتقياء الزهاد على نهر دجلة، فقالوا: يا عبد الله ممن أنت؟ قال: أنا من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.
قالوا: سمعت منه شيئاً؟ قال: سمعت منه صلى الله عليه وسلم أنه قال لي: {يا عبد الله! تكون فتنه، فكن عبد الله المقتول، ولا تكن عبد الله القاتل} فأخذوا امرأته وهي حامل، ففقئوا بطنها بالخنجر فإذا هي وجنينها في الأرض!! ثم اجتمعوا على الصحابي فذبحوه على النهر.
فوصل الخبر إلى أمير المؤمنين علي رضي الله عنه وأرضاه، قال: [[الله المستعان! اذهب يا بن عباس إليهم، علَّ الله أن يهدي بك منهم نفراً كثيراً]] فلبس ابن عباس لباساً جميلاً وتطيب؛ لأن الله جميل يحب الجمال، وهو من أتقى الناس، فلما رأوه مقبلاً قالوا: من هذا؟ كأنه البدر، إنه ابن عباس ابن عم الرسول عليه الصلاة والسلام، قال: أنا ابن عباس، قالوا: ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، قال: الله أعلم حيث يجعل رسالته، فقالوا: يا بن عباس! كيف تلبس هذا اللباس، قال: هذا حلال أتجمل به، أأنا أعرف بالسنة أم أنتم؟ قالوا: أنت.
فأخذ يفاوضهم، فعاد منهم ما يقارب أربعة آلاف، وقيل: ما يقارب ألفين، ورفض البقية العودة إلى دائرة أهل السنة، فاستعان علي بن أبي طالب بالله، وخرج بجيشه المسلم، ووافقهم في النهروان واقتتلوا قتالاً ذريعاً، وما قتل من أهل السنة إلا ثلاثة, وقُتل منهم أربعه آلاف.
فقال علي رضي الله عنه: ابحثوا عن رجل وصفه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، مخدج، ناتئ الجبهة، مغرورق العينين، مقطوع اليد اليسرى عليها كثدي المرأة، وعليها شعرات، فهذا منهم.
فبحثوا في القتلى، قالوا: ما وجدنا، قال علي: والله ما كذبت ولا كذبت، وإنه معهم.
فبحثوا ومع الغروب وجدوه في آخر القتلى، فرفعوه؛ فإذا هو كالوصف الذي وصفه صلَّى الله عليه وسلم، فسجد علي وقال: الحمد لله رب العالمين.(344/12)
خيوط الخوارج في هذا العصر
هذا الخط الخارجي الابتداعي ظل في العالم الإسلامي قروناً وحقباً، وهو يعتمد في تصوره على أمور:
أولها: طرح السنة، وهي مسألة لا يزال كثير من الناس يقول بها اليوم، كما ينادي بها رجل عميل مخرف في أمريكا اسمه رشاد خليفة، وهذا الرجل له هناك مسجد كبير في ولاية متشجن، وهذا الرجل يقدم امرأته لتصلي بالرجال، والذين وراءها ضلال مثلها.
فرد عليه العلماء وأرسلوا له كلاماً، فقال: أنا لا أعترف إلا بالقرآن، والله سوف يرسل رسلاً مصلحين -يريد أن يمهد لنفسه ليدعي النبوة- وقال: من يمنع المرأة أن تصلي بالناس، بل المرأة أفضل من كثير من علماء الناس، وهذا الضال لا يزال ينشر منشورات وهو على النفس الخارجي في ترك السنة، وكذلك نشأ بعض الناس في الشرق الأوسط، وأنكروا سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وادعوا أنها ليست بثابتة، ورددت عليهم بكتب موجودة في الساحة، وهذا نفس خارجي.
ويقول أحد العملاء من هؤلاء الضلال الفجرة، وهو في التلفاز يشرب كأس الماء في نهار رمضان قال: إن محمداً رجل بادية، وإنه جاء بتعاليم من البدو والأعراب ينشرها بين الناس إلى آخر ما قال!! وهذا نفس خارجي، لكنه زاد على الخوارج عدم توقير الإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وتوفي عليه الصلاة والسلام، والصحابة لا زالوا في ضميمة من الهدي المستقيم، يشعرون بحلاوة العبادة والاستمرار على القوة والتكاتف على طاعة الله تحت مظلة القرآن والسنة، وأتى أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه، فما كانت حربه ابتداعية بل كانت تمرداً ضد الحكومة الإسلامية، أولئك الثوار أعلنوا تمردهم على الإسلام وما كانوا إلا فريقين:
فريق قال: قد انتهى الإسلام بموته صلى الله عليه وسلم، ويقول شاعرهم:
رضينا بحكم رسول الله إذ كان بيننا فما بالنا نرضى بحكم أبي بكر
أيملكها بكر إذا مات بعده فتلك لعمر الله قاصمة الظهر
والفريق الثاني قالوا: لا زكاة في الإسلام، انتهت الزكاة بموته صلى الله عليه وسلم، فأعلن أبو بكر الحرب عليهم، ودمرهم تدميراً، وأخذهم بالسيف، وقادهم، فمنهم من قتلهم، ومنهم أخذوا أسارى حتى أذعنوا.(344/13)
قصة صبيغ بن عسل مع عمر بن الخطاب
جاء عمر رضي الله عنه وأرضاه فوقف للناس كالحصن.
قد كنت أعدى أعاديها فصرت لها بفضل ربك حصناً من أعاديها
يقول لـ أبي موسى: [[إنك سوف تذهب إلى أهل الكوفة، فلا تشغلهم بفتياك عن قراءة القرآن، فإنك سوف تسمع لهم دوياً كدوي النحل بالقرآن]] يأتي أبو هريرة فيحدث حديثاً طويلاً، فيقوم عمر ويقول: [[والله إما تركت الحديث يا أبا هريرة! وإلا فوالذي نفسي بيده لألحقنك بأرض القردة، أرض الدوس -يعني بلاد زهران - فسكت]].
يأتي أبو موسى فيطرق عليه الباب، فيقول عمر: من؟ فلا يسمع إلا الطرق، من؟ فلا يسمع إلا الطرق، فرجع أبو موسى لأنه لم يسمع الإذن بالدخول، فلحقه عمر، وقال: [[تعال، لماذا لم تدخل؟ فقال: أمرنا صلى الله عليه وسلم إذا استأذنا ثلاثاً، فلم يؤذن لنا أن نرجع.
فقال عمر: والذي نفسي بيده لتأتيني بشاهد على هذا الحديث أو لأوجعنك ضرباً]] واقفٌ كالحصن وكالجبل ضد كل ابتداع في اللفظ والأخلاق والسلوك، فذهب أبو موسى وهو يرتجف ويرتعد إلى مجلس الأنصار، فشكا عليهم الحال، فأرسلوا معه أصغرهم، فشهد له بذلك فمرَّت سُنَّة.
وأتاه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين! قال: نعم.
قال: في الجيش -جيش الإسلام الذي يزحف إلى القادسية - رجل يقول: كيف تجمعون بين هذه الآيات، يقول الله عز وجل: (وَالذَّارِيَاتِ ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وِقْراً * فَالْجَارِيَاتِ يُسْراً} [الذاريات:1 - 3] ويقول الله عز وجل: {وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً} [المرسلات:1] ويقول عز وجل: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقاً} [النازعات:1]؟!
قال عمر: أهو موجود في الجيش؟ قال: نعم، قال: عليَّ به؟ ثم دعا سعد بن أبي وقاص، وقال: يا سعد! -والذي نفسي بيده- إن أفلت هذا الرجل ليكون لي ولك شأن.
فذهبوا إلى الرجل، وأتوا به إلى عمر -وفي هذه الفترة جهز عمر عراجين النخل، وهي: عصي لدان، لا يضرب بها إنسان إلا رأى رشده، أو إنسان موسوس إلا خرجت الوسوسة من ذهنه، أو إنسان مصروع إلا خرج الجانُّ من قلبه وفؤاده، فرشها عمر بالماء وتركها، ثم قال عمر: عليَّ بالرجل.
فأُدخل، فقال للرجل: من أنا؟ قال: أنت أمير المؤمنين.
قال: أمسكوه، فأمسكوه بأيديه وأرجله؛ لأن هذا علاجه لا فتيا ولا مناقشة، فدبغه ظهراً لبطن.
كل بطاح من الناس له يوم بطوح لتموتن وإن عمرت ما عمر نوح
فلما بطحه ظهراً لبطن حتى أغمي عليه، فرشوه بالماء؛ فاستفاق -أصبحنا وأصبح الملك لله- فأخذه فبطحه حتى أصبحت دماؤه في الأرض، ثم استيقظ، قال عمر: أعرفتني؟ قال: أنت أمير المؤمنين!!
فقال: يا أمير المؤمنين! إن كنت تريد قتلي فاقتلني قتلاً جميلاً، وإن كنت تريد علاجي فقد شُفيت -والحمد لله- قال عمر: اذهب ولا تكلم أحداً، ولا يكلمك أحد أبداً.
فكان لا يسلم على أحد ولا يسلم عليه أحد، حتى كُتب إلى عمر أن الرجل قد صلح واستقام، فقال عمر: كلموه.
بهذا الأسلوب منع عمر قضية التكلم في كتاب الله عز وجل، وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمنع الكلام الغير مسئول والتمحل والابتداع لأنه يريد أن يقيم الأمة على كتاب وسنة.(344/14)
موقف السلف الصالح من أهل البدع(344/15)
علي بن أبي طالب يندد بالبدعة ويلاحق ابن سبأ
توفي عمر وأتى عثمان، وأخذت الصابئة وأفراخ المبتدعة من كل مكان، ويهود اليمن وعلى رأسهم عبد الله بن سبأ يهاجرون، لكن هجرة من اللعنة إلى اللعنة، ومن الغضب إلى الغضب، وأخذوا يبثون سمومهم، توفي عثمان رضي الله عنه، وقام علي بن أبي طالب في حرب ضروس لا تعرف الهوادة، يريد أن يقيم الأمة على الكتاب والسنة {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [البقرة:134].
جاءوا لـ علي بن أبي طالب فقالوا: إن ابن سبأ يقول: إنك إله من دون الله، قال: سبحان الله! أقال هذا؟! قالوا: نعم، قال: أله أتباع؟ قالوا: فلان وفلان، فأخذ علي رضي الله عنه يحفر حُفراً، وخدوداً في الأرض، أشعلها بالنار ودعا جنوده وأصحابه ليسقطوا في هذا المكان الملاحدة الزنادقة، حتى يقول علي وهو يسل السيف:
لما رأيت الأمر أمراً منكرا أججت ناري ودعوت قنبرا
وقنبر هو خادمه الذي كان يرافقه، يقول علي: رأيت الأمر أمراً فوق الطاقة، فأججت ناري ودعوت قنبراً، ففر ابن سبأ، وخرج إلى غير عودة، ولكن ترك في الأمة رجساً وفسقاً وخيانة إلى اليوم.(344/16)
عمارة بن رؤيبة وموقفه من البدعة
ثم كان من المواقف للسلف الصالح كما في صحيح مسلم أن يأتي بعض الناس فيزيدون شيئاً لم يأتِ به النبي صلى الله عليه وسلم، لا نقول كما يقول بعض الناس إذا قلنا لهم: هذه بدعة، قالوا: زيادة خير، من أين كانت زيادة خير؟! لو كانت زيادة خير لأتى بها النبي صلى الله عليه وسلم، وشيء لم يأتِ من بضاعته ودراهم ولا تخرج من كيسه؛ فهي مغشوشة مبهرجة، مزخرفة ليست أصلية.
أتى بشر بن مروان -وهو أخو عبد الملك - إلى العراق واستولى عليها، يقول الشاعر فيه:
قد استوى بشر على العراق من غير سيف أو دم مهراق
فصعد يوم الجمعة ورفع يديه على المنبر في غير استسقاء، ورفع اليدين من الخطيب بدعة في غير دعاء الاستسقاء؛ لأنه لم يأتِ بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فدخل الصحابي عمارة بن رؤيبة فرآه، فقال: [[مال هاتين الكفين الخبيثتين ترتفعان على المنبر، والله لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب بنا على المنبر فما يرفع يديه]] لكن هذا النفي العام يخصصه قول أنس يوم استسقى النبي صلى الله عليه وسلم من على المنبر، كما في حديث الأعرابي الذي دخل من نحو دار القضاء، وقال: {يا رسول الله! جاع العيال، وهلك المال، وتقطعت السبل؛ فادع الله أن يغيثنا.
فرفع صلى الله عليه وسلم يديه ودعا}.
إذاً لا يجوز للخطيب أن يرفع يديه إلا في الاستسقاء، وإن رفعها في غير الاستسقاء فقد ابتدع في دين الله.
وللفائدة: ما هو موقف المأمومين يوم الجمعة إذا دعا الخطيب، وقال: اللهم صلِّ على رسولك محمد، أو اللهم أصلح إمام المسلمين، أو اللهم اجمع كلمة المسلمين؟!
الصحيح في هذا: أن يتوقفوا عن رفع الأيدي؛ لأن رفعها أقرب إلى البدعة لأنه لم يأتِ فيه نص فيما أعلم، وما عملها السلف، ولا يُعمل بمثل هذا إلا بدليل عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، وإتباع ذلك بالتأمين -أيضاً- يلحق بهذه المسألة، لأننا -بحد علمنا القاصر ما وجدنا ما يدل من السنة- أن هناك دليلاً يخول لنا أن نفعل هذا، وهذه من المسائل المشهورة، وحاجة الأمة إليها حاجة ماسة، فكيف تخفى على طلبة العلم والمبتدئين من طلبة العلم.
إذاً فالأصل هو التوقف في هذه المسائل حتى يرد دليل من المعصوم صلى الله عليه وسلم.
وللفائدة فإن من المسائل التي تلحق بذلك ما ذكره الإمام الشاطبي صاحب الموافقات:
قال: كنت خطيباً! فأنكر عليَّ الناس بعض الأمور التي كنت أفعلها؛ لأنهم تعودوا السير على البدع، من بعض الأمور التي يتوهم الناس أنها من السنة، ولا بأس بها أحياناً، لكن المداومة عليها بدعة، كأن يقول: وارض اللهم عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، فبعضهم يقول: هذه لا بد منها في الخطبة، وإذا تركتها فالخطبة باطلة، ومن لم يفعل ذلك فقد ابتدع، فله أن يفعلها أحياناً ويتركها أحياناً، ومن يفعلها دائماً معتقداً أنها من السنة فقد ابتدع، ومن ذلك أن يحافظ على أدعية مخصصة في الخطبة الثانية لا يتجاوزها، وأنا أتحدث عن البدع التي تنتشر في أوساطنا وإلا -لا نقول هذا تعصباً محضاً- في أوساطنا البدع قلت والحمد لله؛ لأن السنة منتشرة، ولأن دعوة الإمام محمد بن عبد الوهاب لا زالت حية في كثير من الأماكن، ولكثرة طلبة العلم، لكن في كثير من البلاد يرى الإنسان عشرات من البدع.
ومن البدع التي توجد: أنه عندما يقول الإمام لمن هو موجود: (استووا) فإنهم يقولون: (استوينا لله وأطعنا) وهذا لم يرد في السنة، من قال لك: استوينا بالله، أو توكلنا على الله، صحيح أنها دعاء، لكنها لم ترد.
رأى سعيد بن المسيب -رحمه الله- رجلاً يصلي قبل صلاة الفجر ست ركعات أو أربع ركعات، والسنة ركعتان، قال سعيد: [[خالفت السنة، قال الرجل: والله ما خالفت السنة لأني أريد الخير، والله لا يعذبني لأني أصلي له، فقال له سعيد بن المسيب: والله ليعذبنك الله، لا يعذبك للصلاة لكن يعذبك لأنك خالفت السنة]].
قيل لأحد علماء السلف: من هم أهل السنة؟
قال: أهل السنة هم الذين ليس لهم اسم إلا أهل السنة.
بعض الناس إذا قرأ الإمام: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] قال: " اللهم اهدنا " وإذا قرأ (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] قال: " استعنا بالله " لماذا تدخل هذا الكلام؟ من أعطاك هذا الكلام؟
هذه شريعة لا تقبل الاجتهادات، خاصة في الصلوات، وسوف يمر بنا أمثلة إن شاء الله.
المقصود أن هذا الرجل عندما رفع يديه أنكر عليه الصحابي الشهير ليدافع عن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.(344/17)
موقف الحسن البصري من واصل بن عطاء المعتزلي
الحسن البصري وواصل بن عطاء: الحسن البصري من أئمة أهل السنة والجماعة وهو من الذين لهم قدم صدق في الإسلام.
جلس في البصرة يُعلِّم الناس، ومن معتقد أهل السنة والجماعة أن الناس قسمان: مسلم وكافر، وهناك المنافق، والفاسق نفاقاً وفسقاً أصغر داخل في الإسلام عند أهل السنة والجماعة، لأن الكبيرة عند أهل السنة والجماعة لا تخرج مرتكبها من الإسلام، فشارب الخمر لا يخرج من الإسلام، لكننا نخاف عليه العذاب، وإن لم يتداركه الله برحمته هلك، وكذلك السارق لا يخرج من الإسلام ولو أنه صاحب كبيرة، والزاني وهو مؤمن لا يخرج من الإسلام ولو أنه صاحب كبيرة.
قال الحسن البصري [[الفاسق مؤمن في الأصل]] وقال واصل بن عطاء: " الفاسق ليس بكافر ولا مؤمن، ولكنه في منزلة بين المنزلتين " فانفصل عن مجلس الحسن البصري وكوَّن مدرسة الاعتزال.
وأكبر ذنوب الاعتزال: أنهم قدموا عقولهم على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولذلك رد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية بكتاب العظيم درء تعارض العقل والنقل، فأتى بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم، فجزاه الله خيراً، وبيَّض الله وجهه في تلك الردود، وحبذا لطلبة العلم أن يقرءوا ولو مقدمة الكتاب ليتصور العمق والأصالة في الرد على المبتدعة من كلام ابن تيمية.
فـ المعتزلة لهم سمات منها:
أنهم قدموا العقل على النقل، وهذه أكبر ذنوبهم وخطاياهم، والمعتزلة فرقة ضالة مبتدعة نفت الصفات وأثبتت الأسماء، ومنهم -انتبهوا له واغسلوا أيديكم من مقالاته، والاستفادة من لغوياته وأدبياته- الزمخشري صاحب الكشاف.
هذا الرجل ضليع في اللغة، بحر في الأدب، بارع في النحو، لكنه متورط إلى أذنيه في الاعتزال، يدافع عن مدرسة الاعتزال، ويتهم أهل السنة، فيقول في قصيدة آثمة كاذبة خاطئة:
لجماعة سموا هواهم سنة الجماعة حُمر اللعين الموكفة
ورد عليه أهل السنة بقصائد عظيمة.
وكتابه الكشاف يُنتبه له، فقد بدأ بالاعتزال من المقدمة الأولى من الكتاب، لكن يستفاد منه في براعته في النحو، واللغة، ودلالته في إيجاد علم البيان والبديع، لكنه معتزلي.(344/18)
موقف خالد القسري من الجعد بن درهم
خالد القسري والجعد بن درهم:
الجعد بن درهم أسس مدرسة نفي الأسماء والصفات، وهي أقرب إلى الإلحاد في دين الله عز وجل، ويقول بعض الناظرين في العقائد: إنها أساس لـ مدرسة الحلول والاتحاد.
يقول الجعد: إن الله لم يكلم موسى، سبحان الله! يقول تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] قال الجعد بن درهم: " وددت أني أحك آية في كتاب الله بدمي" قالوا: ما هي، قال:" {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] ".
رآه بعض أهل العلم بعد أن توفي في صورة كلب ممسوخ، أتي به يوم عيد الأضحى -وهو الصحيح- يقول: "لم يتخذ الله إبراهيم خليلاً، ولم يكلم الله موسى تكليماً " قال له خالد القسري -حاكم العراق -: تب إلى الله، فحفظ مبدأه ورفض أن يتوب، قال: " سأذبحك اليوم بيدي إن لم تتب"، قال: " لن أتراجع عن مبدئي أبداً " -انظر إلى الصلابة قوة أهل الباطل على باطلهم، وفشل بعض أهل الحق عن حقهم، مبتدع ضال، يعارض أهل السنة والجماعة ويعارض الملايين منهم، والحاكم ضده والوزراء والأمراء، والجيش والعامة والأطفال، وهو يقول: " لا "- وفي الأخير خطب خالد القسري بالناس، ثم نزل وقال: " يا أيها الناس! ضحوا تقبل الله منكم فإني مضحٍ بـ الجعد بن درهم " فنزل إليه في أصل المنبر فذبحه.
تقبل الله منا ومنك، والبدنة عن سبعة، قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [الحج:36] قال ابن القيم:
ولذاك ضحى خالد بـ الجعد في يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة لله درك من أخي قربان
ذبحه ورفع جثمانه، ووري التراب، وسكنت وفترت البدعة، لكنها نشأت فيما بعد، وأججها الخليفة المأمون العباسي.(344/19)
موقف الإمام أحمد من فتنة خلق القرآن(344/20)
موقف الإمام أحمد مع المأمون
المأمون العباسي داهية من الدهاة، وطالب علم من العلماء، لكنَّ علمه مشوب بالبدعة، نشأ على أساتذة من أهل البدعة في خراسان وما جاور خراسان، وأتى بغداد ليأخذ الحكم من الأمين والأمين قرشي، أقرب إلى السنة من المأمون، والمأمون أقرب إلى تصريف الأمور من الأمين لأن الأمين صاحب غناء ومجون وسفه، ولكنه من أهل السنة الذين يرجى لهم رحمة الله عز وجل.
أمه زبيدة قرشية، وذاك أمه مولاة من السبي أعجمية، فكتب لهم هارون الرشيد كتاباً، وجعل الأمر بينهم، وجعل الخليفة الأول الأمين، وبعده المأمون، فلما تولى الأمين، وسوست له نفسه خلع أخيه المأمون، وأخذ الكتاب المعلق في الكعبة ومزقه، فدخل ذاك واستولى على بغداد، وبدأ ينشر مذهب الاعتزال، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن الله لن يغفل عن المأمون فيما أدخله في بلاد المسلمين من كتب الفلاسفة.
قال المأمون: من ترجم كتاباً من كتب اليونان وزنت له الكتاب المترجم ذهباً وفضة، وأنشأ دار الحكمة وملأها بالألوف المؤلفة من الكتب، وكان له يوم مع المفسرين، ويوم مع المحدثين، ويوم مع الأدباء، ويوم مع الفرضيين، ويوم مع الفلاسفة، ويوم مع أهل علم الكلام، وكان من أخطب الناس، وأسس (دار الحكمة) لينشر ضلاله، في كيسه سم زعاف وعقارب، وفي الأخير بدأ يبث القول بأن القرآن مخلوق -جل الله وتعالى عما يقولون علواً كبيراً- بل كلامه صفة من صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا معتقد أهل السنة والجماعة، يتكلم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بما يشاء متى شاء، قال تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء:164] وقال سبحانه: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6] فبدأ يبث هذا المذهب وفي الأخير انسحق الكثير أمام هذا الزحف، لأن المأمون بيده السلطة، وبيده السيف والسوط، وعنده الحبس والسجن، وعنده القتل والإبادة، فأظهر الله الإمام أحمد بن حنبل، حياك الله يا أبا عبد الله! وحيا الله اللموع والإشراق، وحيا الله العظمة والقوة.
من تلظي لموعه كاد يعمى كاد من شهرة اسمه لا يسمى
عرضوا عليه الأكياس من الذهب والفضة ليسكت، قالوا له: " لا تتكلم ونعطيك كل شيء؟ قال: لا، قالوا: نوليك ولاية الوزراء وتكون تحت يديك، تعزل من شئت وتولي من شئت؟ قال: لا، قالوا: أنت عالم الدنيا، ولك ما شئت؟ قال: لا، قالوا: إذاً نقتلك؟ قال: القتل أهون، قالوا: نحبسك؟ قال: الحبس أهون، قالوا: الجلد؟ قال: الجلد أهون.
لاطفوني هددتهم هددوني بالمنايا لاطفت حتى أحسا
أركبوني نزلت أركب عزمي أنزلوني ركبت بالحق نفسا
أطردُ الموت مقدماً فيولي والمنايا أجتاحها وهي نعسى
لوحوا بالكنوز راموا محالاً وأروني تلك الدنانير ملسا
كلها لا أريد فكوا عناني أطلقوا مهجتي فرأسي أقسى
رجل فقير يحفظ ألف ألف حديث، رجل فقير يتكلم بالحكمة، رجل فقير إذا رئي ذُكر الله عز وجل، يدخل السوق وهو نحيل الجسم، منحنٍ من ضعفه وهزاله، وعليه بردة بقيت عليه سنوات لكنه جميل المنهج والمظهر، طيبة رائحته تفوح بالسوق، فإذا رآه أهل السوق باعة الزبيب والتمر والفستق والحمبص، رفعوا أيديهم يقولون: لا إله إلا الله، لا إله إلا الله.
استدعي إلى الخلافة، فذهب ولكن وهو في الطريق مات المأمون، وهذا أول انتصار.(344/21)
موقف الإمام أحمد مع المعتصم
لما مات المأمون تولى الخلافة بعده المعتصم الخليفة العسكري الرهيب الفولاذ، الذي كان من أقوى الناس في التاريخ.
يقول أهل التاريخ: كان ينصب له أوتاد في الأرض، ثم يربط رجليه بالأوتاد، ويأتي بالفرس ويقفز من على الأرض على الفرس، لأنه مدرب منذ نشأته على الفروسية، فيقفز فيقتلع الربط، أو يقطع الخيوط، فإذا هو على ظهر الفرس، هو صاحب عمورية وهي من حسناته، وهو القائد الذي زحف بتسعين ألفاً، يقول أبو تمام:
تسعون ألفاً كآساد الشرى نضجت جلودهم قبل نضج التين والعنب
وهنا أذكر القصة باختصار رغم أنها مكرره:
كرر العلم يا جميل المحيا وتدبره فالمكرر أحلى
امرأة في عمورية في بلاد الروم، بينها وبين المعتصم فيافي وقفار، لعب عليها رومي وضربها، وقيل: شبك ثوبها بإزارها، فقامت فانكشفت عورتها؛ فقامت وصاحت: وامعتصماه! فتضاحك أهل الروم، وقالوا: انتظري المعتصم حتى يأتي على فرسه الأبلق ينصرك، فسمعها مسلم، فركب البحر، ووصل إلى المعتصم وهو في سامرا، وهي عاصمة بجانب بغداد وكانت تقع على شق من نهر دجلة ونهر الفرات وكان في قلبها المعتصم.
فدخل الرجل عليه، وقال: عندي رسالة؟ قال: ما هي؟ وكان المعتصم جالس مع أمرائه وعلمائه ووزرائه، قال: رأيت امرأة أهينت، وقالت: "وامعتصماه " فقفز من على سريره، قال: والذي لا إله إلا هو لا يغشى رأسي ماء من جنابة حتى أدوس أرضهم بالخيل، وأحرق مدنهم وقصورهم، وكان إذا حلف حلف، وإذا أقسم أقسم، ثم استنفر الناس يوم الجمعة، وقال: من تخلف وهو قادر فاضربوا رأسه بالسيف، وأما المفتي للجيش فهو محمد بن الحسن الشيباني، وقواد الجيش فلان وفلان وفلان، وعليكم أن تصوموا هذه الأيام ونحن متوكلون على الله عز وجل، وأكثروا من التوبة والاستغفار، وجاء الخبر إلى بلاد الروم فقامت قيامتهم، وأخذوا يتحصنون بالمتاريس والدروع، وينصبون الكمائن، ويسدون خطوط الرجعة، وينزلون الكتائب تتدرب يوماً بعد يوم؛ لكن قال تعالى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} [الحج:18] وقال سبحانه: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال:17] زحف ووصل إلى بلاد الروم، واستقبلته أول مدينة فأحرقها عن بكرة أبيها، قال: لا تهاجموا كل مدينة، ولكن أحرقوها إحراقاً، فأخذت تلتهب فأدخل الرعب في قلوبهم، حتى قال للمنجمين الخرافيين المتخلفين: أأذهب هذا الشهر أم الذي يليه؟ فقال بعض المنجمين: نخاف إذا ذهبت هذه السنة -لأن بعضهم أعاجم يخافون، لا يريدون أن يذهب إلى الروم- ألا تنتصر فنخاف أن تفشل، قال: والله الذي لا إله إلا هو إني متوكل على الله، فزحف، فلما انتصر؛ قام أبو تمام الشاعر، وقال:
أين الرواية أم أين العلوم وما صاغوه من دجل فيها ومن كذب
رواية وأحاديث مطلسمة ليست بنبع إذا عدت ولا غرب
فالنصر في شهب الأرماح لامعة بين الخميسين لا بالسبعة الشهب
يقول: النصر في الرماح والسيوف ليست بالسبعة؛ لأن المنجمين يعدون السبعة الشهب.
فلما قاتل انتصر وإذا بالمدن تنهزم أمامه حتى وصل إلى عمورية، هذه العاصمة، ثم قال لقاداتهم: انزلوا إلينا فنزلوا، فأخذ قائد منهم يقتل الواحد من المسلمين تلو الواحد حتى قتل سبعة، وفي الأخير قال المعتصم: كيف يقتلنا؟! فخرج له الخليفة المعتصم فتناوله فقطع رأسه حتى كأنه وليس خلق له رأس، ثم أخذ يزحف حتى استولى على المدينة، وقال: أين المرأة؟ فبحث عنها وأُتي بها، قال: أين الرجل؟ قالوا: لا نعرفه، قال: لتخرجنه أو لندوسنكم دوساً، فأتوا بالرجل، وقدموه له.
فقال للمرأة: هذا لك رقيق، وأنا المعتصم، وهذا فرسي الأبلق، قالت: قد أعتقته لوجه الله، وجزاك الله خيراً عن الإسلام والمسلمين، قال أبو ريشة عن فلسطين التي فيها كم من امرأة وطفل يقولون صباح مساء: وامعتصماه، لكن الله الناصر.
رب وامعتصماه انطلقت ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها لم تلامس نخوة المعتصم
ألإسرائيل تعلو راية في حمى المهد وظل الحرم
أو ما كنت إذا البغي اعتدى موجة من لهب أو من دم
هذا المعتصم لا يعرف في العلم شيئاً، يعرف السيف، وكسر الرءوس، وضرب الأكتاف.
قال ذات يوم: عليَّ بـ أحمد بن حنبل، فخرج الإمام أحمد بن حنبل من داره في برد الشتاء وركب على فرس، رجل هزيل أنهكته العبادة والدموع في الليل، وخشية الله ومناجاته، وتلاوة كتابه، قال الإمام أحمد: [[والله ركبوا عليَّ من الحديد ما كان يعادلني وزناً]] أي: لو وزن الحديد والإمام أحمد بن حنبل لكان الحديد أكثر، جعلوه في يديه وفي عنقه وفي قدميه، ماذا فعل؟ أسرق أموال المسلمين؟! أسفك دماء المسلمين؟! لا.
لكنه وقف ليقود السنة في وجه البدعة، قال: ذهبت فكدت أسقط عن الفرس، وكان يقول الإمام أحمد: يا حافظ! يا حافظ! الله الحافظ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، قال: فأدخلت السجن في المحبس، فما دريت أوجهني الله للوجهة -أظنها القبلة- قال: والتمست فوجدت في الظلام ماء فتوضأت، انظر! يريد أن يصلي في الليل، لو كان بعض الناس في مثل هذا الموطن لترك المغرب والعشاء والعيد والتراويح، وقال: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أصلي زيادة؟! لكن الإمام أحمد توضأ وأخذ يصلي إلى الفجر.
ويوم طلع الفجر يقول للسجان: أطلع الفجر؟ قال: نعم، فأخذ يتسحر من سواق عنده -حب شعير مطحون- كان يأخذ حفنة ويجعله في الماء ثم يخوضه ويأكله وفي الصباح قدموا له الإفطار، والمعتصم يعرف أنه الإمام أحمد ويعرف مكانته، يقول المعتصم: والله لا أفطر ولا أتغدى ولا أتعشى، إلا بعد الإمام أحمد، فيمر بالموائد، ويقال للإمام أحمد: تفضل! فيقول: لا آكل لكم شيئاً، فيذهبون إلى المعتصم ويخبرونه، فيقول: اتركوه ما دام عرضتم عليه الأمر، ومكث ستة أشهر وهو في السجن.
وفي الأخير أحضره المعتصم فقال: يا أمير المؤمنين! ائتني بآية أو حديث، ائتني بأثر، فما وجد شيئاً.
وقاد هذه البدعة أحمد بن أبي دؤاد فهو أحمد أهل البدعة وأحمدنا من أهل السنة:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم
ففاوضوه، وفي الأخير جُلِدَ جلداً عنيفاً، وقد ذكر الذهبي في بعض الغرائب التي نقلها ابن الجوزي أنه كان عليه ثيابه، وسأل الله ألا يتكشف، فما تكشف أبداً، وكانوا يقولون: كأنما أمسكت عليه ثيابه، وجُلِدَ وأغمي عليه، قال الإمام أحمد: ما نفعني الله إلا بكلمة عيار -سارق- في السجن، قال لي: يا أحمد! أخذوني في السرقة، وفي أمور النهب، وسجنت سبع مرات، وجلدوني أكثر من خمسة عشر ألف سوط، وأنت على الحق فاصبر.
فـ أحمد يجلد لتنتصر لا إله إلا الله والإسلام، وفي الأخير حاولوا معه فرفض، قالوا: قل: كلمة، قال: ولا أقول كلمة.
وكان الذين ساسوا له العذاب ثلاثة وزراء:
أحمد بن أبي دؤاد، وأحمد الزيات، ورجل آخر اسمه: ابن هرمة فدعا على الثلاثة، أما أحمد بن أبي دؤاد فدعا عليه وقال: اللهم عذبه في جسده، والإمام أحمد دعوته مستجابة، ودعا على ابن الزيات اللهم خذه أخذ عزيز مقتدر، وقال للثالث: اللهم امحقه.
فأما أحمد بن أبي دؤاد: فشل نصفه، ويبس نصفه، حتى كان يقول للناس: أما نصفي فوالله لو وقع عليه ذباب كأن القيامة قامت، وأما النصف الآخر: فوالله لو قطع بالمناشير أو قرض بالمقاريض ما أحسست به أبداً.
وأما أحمد الزيات، فقد أخذ فجعل في فرن من جمر، وضربت على رأسه المسامير حتى مات.
وأما الثالث: فأخذ وطرح للفيلة، وقيل: للأسود فأكلته وجعل شذر مذر.(344/22)
موقف الإمام أحمد مع المتوكل
وأتى المتوكل الخليفة السني رحمه الله، فأعطى الإمام أحمد الذهب فرفض الإمام أحمد: وقال لا أريد درهماً أبداً، وانتصرت السنة بموقفه العظيم، فجزاه الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، هذا هو الإمام أحمد، هذا هو الأمة الذي كان قانتاً لله، وما كان من المشركين، شاكراً لأنعمه اجتباه وهداه وجعله من الصالحين.
هذا الإمام أحمد بن حنبل وفتنة القول بخلق القرآن، فالقرآن ليس من خلق الله بل هو من صفاته، يتكلم الله بما شاء متى شاء.(344/23)
الإمام مالك يندد بالبدعة
كان الإمام مالك يُدرس السنة في مسجده، ويأبى الإمام مالك البدعة -لا يريد أي بدعة- يتحفظ في كل شيء؛ لأنه لا زيادة في الدين، فدين الله كامل قال سبحانه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً} [المائدة:3] وكان الإمام مالك رجلاً مهاباً كالسلطان، يخاف منه الناس ولا يستطيعون الكلام معه ولا المفاوضة.
هارون الرشيد الخليفة العباسي الذي يقف في بغداد في القصر ويقول للسحابة: " أمطري حيث شئتِ فإن خراجك سوف يأتيني" يدخل على الإمام مالك في المدينة في بيته، فيأتي أطفال الخليفة: الأمين والمأمون فيرون الإمام مالك فيهربون! قال هارون الرشيد: " أتدري يا أبا عبد الله! لماذا يهرب أبنائي؟ قال: " لا أدري.
قال: هيبةً منك والله ".
قال أبو جعفر المنصور لوزرائه: ما هي عجائب الدنيا؟
قال بعضهم: الحدائق المعلقة، وقال البعض الآخر: حوطة دمشق.
قال: عجائب الدنيا هي: عقل الإمام مالك.
أتى يدرس في المسجد، فدخل رجل فقال: " يا أبا عبد الله! -يسأل الإمام مالك - {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] كيف استوى؟! " فنكس الإمام مالك رأسه؛ لأنه لم يعرف هذا السؤال من ذي قبل، ولم يكن معهوداً إلا التلقي وعدم الأسئلة البدعية، حتى تصبب العرق من على جبينه، ثم قال: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة، والإيمان به واجب، أخرجوا هذا المبتدع ".
فقام التلاميذ فسحبوه بأيديه وأرجله حتى وضعوه في بقيع الغرقد؛ لأنه مبتدع.
وهذا جواب أهل الإسلام ضد من يريد أن يبتدع ولا يدخل معه في حوار، بل يتوقف على السنة والأثر.
ثم استمر الحال على ذلك، والبدعة مرة تخبو، ومرة تنشط، وسبب نشوئها حينما يجهل الناس بالأثر، حينما تعطل الصحاح والأسانيد والسنن، إذا رأيت أمة لا يدرَّس فيهم القرآن والسنة، فاعلم أن البدعة سوف تخترقهم، ولو كانوا مثقفين؛ لأن الثقافة شيء، والعلم شيء آخر، وسوف أبين ما هي الأسباب التي تطرد بها البدعة.(344/24)
أحمد بن نصر الخزاعي وموقفه من أهل البدع
أتى الواثق بعد المعتصم، وأصر على الابتداع بالقول بخلق القرآن، وفي الأخير أتى أحمد بن نصر الخزاعي وأراد أن يقلب الدولة العباسية عن بكرة أبيها، عالم جليل سني، جمع الناس فاكتشف، فأتي به وكان من أزهد وأعبد الناس، فدخل على الواثق فقال الواثق: عُدْ عن كفارتك؟ قال: لا أعود؛ لأنه على الحق، فقام الواثق فأخذ الخنجر، وقال: والله إني لأحتسب عند الله أجري في ذبحك، فذبح هذا العالم الجليل، فهو العالم الشهيد أحمد بن نصر الخزاعي.(344/25)
ابن تيمية يتصدى للبدع ويحاربها
ثم جاء ابن تيمية رحمه الله في أواخر القرن السادس وأوائل القرن السابع، وهذا الرجل أيقظ الله به الهمم، وأصلح الله به الشأن، وهو رجل لا كالرجال، هو عظيم من العظماء، ولا نغلو فيه، لكننا نتقرب إلى الله بحبه، أوتي أموراً قل أن تجتمع في الإنسان، منها ذكاء خارق وعبقرية فياضة مشرقة مطلقة، يقول: أقرأ المجلد الكامل مرة، فينتقش في ذهني حفظاً، تعجم عليه المسألة فيستغفر الله ألف مرة فيفتحها الله عليه.
قرأ كتب الفلاسفة ففهمها ورد عليها، وكان يؤلف المذكرة أو الكتاب من بين صلاة الظهر إلى العصر، فيقرأها الناس سنَةً فلا يفهمونها.
كان عمره ما يقارب الثلاثة والستين سنة، لم يتزوج ولو أن الزواج أفضل، قال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] لكن شغل ليله ونهاره وأوقاته في خدمة الإسلام.
أما ليله فجعله لله عز وجل، من بعد صلاة العشاء إلى صلاة الفجر وهو بين تلاوة وتسبيح، ونوم قليل، وتهليل وقراءة قرآن.
أما نهاره فكان بين أمور، يجلس بعد صلاة الفجر يذكر الله حتى يتعالى النهار، فيتنفل صلاة الضحى، ثم يتوزع في الحلقات يدرس الناس، ما بين تفسير، وفقه، وحديث، وعلوم أخرى، ثم ينزل إلى السوق، فيأمر الناس بالمعروف، وينهاهم عن المنكر، فيسأل عن الأيتام والأرمل والمساكين، ثم ينطلق إلى (المارستان) وهو مستشفى الأمراض العقلية، فيسلم عليهم ويدعو لهم ويرقيهم، ثم يذهب إلى مستشفى المرضى -الأمراض العضوية- هناك حيث وضع السلاجقة، فيسلم عليهم ويدعو لهم، وربما وقف عليهم وبكى، ثم يعود ويمر بالمقبرة فيعود ويسلم ويزور أياماً بعد أيام.
كان إذا مر سلم عليه الناس؛ ودعا لهم، ودعوا له.
يقول البزار أحد تلاميذه: مررت بـ ابن تيمية فسأله فقير فلم يجد شيئاً فخلع له أحد ثوبيه، وكان عنده ثوبان، قال: ومررنا مرة أخرى فلم يجد ابن تيمية شيئاً إلا ثوباً واحداً، ولم يجد شيئاً غيره، فأخذ عمامته، وشقها نصفين، وأعطى الفقير نصفها.
كان يفسر القرآن كالبحر، مكث في سورة نوح ثلاثين سنة يفسرها، أخبرنا بعض طلبة العلم الثقات أنه يوجد في ألمانيا في مدينة بون تفسير لـ ابن تيمية يبلغ خمسمائة مجلد، فإن وصل فإنه العجب العجاب.
يطوي رجله ليرد على ثمانية أبيات ليهودي، فيرد عليها بما يقارب المائتين والثمانين بيتاً في جلسة واحدة.
يذكر الله فتكاد القلوب تنخلع من قوة ذكره، أوتي صحة في الجسم، وبراعة في القتال، قاتل التتار وكان يأخذ السيف ويضرب به، فكان فلال السيف وكسر السيف له دوي وحنين على رءوس الناس، هو رجل عملاق، مجاهد ومفتي ومعلم ومربي ومدرس وآمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر ومتصدق؛ رحم الله تلك العظام.
واجهته بدعة الاعتزال، فأتى عليها بمجموعة من القواعد فسحقها.
وأما بدعة الأشاعرة فقد أخذوا شيخ الإسلام وأخذهم حتى سجنه الأشاعرة، لكنه انتصر عليهم بمؤلفاته، ولو أن الأشاعرة أقرب الناس إلى السنة من غيرهم.
أتى إلى غلاة الصوفية فنازلهم وشكاهم إلى السلطان حتى جلدهم السلطان بالخيزران، ثم ألف كتباً واستتابهم، وقصَّ شعورهم بالمقص حتى نصر الله الإسلام على يديه.
طارد النصيرية في جبال كسروان، ودخل بالجيش عليهم حتى هدم بيوتهم على رءوسهم، وقال: حكمي فيهم أن يُصب السم في آبارهم، وأن تحرق أشجارهم، وأن تهدم بيوتهم.
أتى التتار فزحفوا من جنوب الصين ومن شرقها، ومن سيبيريا، فتصدى لهم وأفطر الناس في نهار رمضان ووافاهم في معركة شقحب، وأخذ يقول: والله لننتصرن اليوم، والله لننتصرن اليوم، فقال له بعض الأمراء: قل: إن شاء الله، فقال: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، فكان كما قال.
قال ابن كثير: وما أتى وقت العصر إلا وقد خرجت النساء والأطفال في دمشق يتباكون؛ لأن هذا سيل جارف إذا دخل دمشق فعل بها كما فعل بـ بغداد فسوف يحطمها ويعدمها تماماً، قال: فأخذ النساء والأطفال يخرجون على أسقف المنازل يتباكون، وسيوف أهل الإسلام مع ابن تيمية تلمع ولها صريف على رءوس الناس، وخنين ودوي وانكسار على رءوسهم، وما أتت صلاة العصر إلا وابن تيمية والأبطال يلاحقون التتار، وكانوا ألوفاً مؤلفه، يلاحقونهم تحت الشجر، ويذبحونهم ذبحاً.
وابن تيمية لا يستوفى بمحاضرة ولا محاضرات، حتى إن كتباً في الأسواق موجودة كتبها أعداء الإسلام من الفرنسيين، والأمريكان والإنجليز يقولون: ابن تيمية أيضاً، ويسأل أحدهم ويقول: ليس في الإسلام معجزة بعد القرون الثلاثة غير ابن تيمية! رحم الله ذاك الرجل.
استمر على هذا وله مدرسة فكرية منظرة، ومعه الذهبي وابن كثير والمزي وابن مفلح، وهذه الطائفة من أهل الحديث استمرت.(344/26)
الإمام محمد بن عبد الوهاب والدولة العثمانية
ثم أتت البدع تجوب وتنتشر في الجزيرة العربية، فقيض الله محمد بن عبد الوهاب رحمه الله، فهو شيخ الإسلام، وهو تلميذ لكتب ابن تيمية حتى يقول أحد المستشرقين: مع ابن تيمية ألغام في الأرض فجر بعضها محمد بن عبد الوهاب، وبقي بعضها لم يفجر حتى اليوم.
وكانت رسالة محمد بن عبد الوهاب على شقين: شق علمي تدريسي تنظيري منهجي للناس، وشق عامري ميداني بالسيف.
وكان ناصره العالم السني محمد بن سعود، وهذه الجهود تحسب له، والمحسن نقول له: أحسنت، والمسيء نقول له: أسأت، وقام على دحض البدع، وكان من عواملهم: تعليم وتفهيم الناس، وبث الأمهات في الناس، وتعليم كتب ابن تيمية وابن القيم في المساجد، وفي المهاجر والقرى، حتى وصلت دعوته إلى الهند وزنجبار وغرب إفريقيا {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} [الأحزاب:69].
ومن الخصوم الذين قاموا عليه: الدولة العثمانية، وهذه الخلافة خيرها -إن شاء الله- أكثر من شرها، ولها حسنات، ولكنها أخفقت في هذا الجانب يوم أن سمحت للبدع أن تنتشر، بل وجد من حكامها خرافيون، ونحن نقول الحقيقة والتاريخ، والإنسان عليه أن يتلقى الحقيقة.
نحن نقول: إن هذه الخلافة أمسكت على ضميمة المسلمين، وجمعت شملهم، وجاهدت في سبيل الله، ورفعت لا إله إلا الله، وردت اليهود عن فلسطين في فترة السلطان عبد الحميد، وقاتلت روسيا في سيبيريا وغيرها، ولكنها أخفقت يوم أن سمحت للرأي الفكري الابتداعي أن ينتشر في بلاد المسلمين، وكانت بعض الكتب التي استهزأت بـ أهل السنة، وبـ السلف الصالح والمحدثين كانت تطبعها الدولة العثمانية، وتولي هؤلاء العلماء القضاء والمدارس والمظالم، فكان هذا جانباً مخفقاً ومظلماً في الخلافة العثمانية.(344/27)
ثلاث قضايا مهمة
بدأ في الساحة الكثير من الدعاة ومن الجماعات، منهم محسن مصيب له أجران، ومحسن مخطئ له أجر واحد، وصاحب هوى يريد هواه ظالم لنفسه.
والأمة الآن تعيش في خير وشر، وإرباك وهدوء، والمباشرات الآن في الساحة الإسلامية في تخوف ومحاذير تتوقف على ثلاثة أمور:
في الساحة الإسلامية صحوة واتجاه إلى الله وبالخصوص في الشباب المسلم.
والقضية الأولى أن هذه الصحوة يخاف عليها من ثلاثة أمور:
أولاً: من قلة العلم الشرعي بأن يستقيم الشباب على الحماس والهيجان، ولا يكون عندهم علم شرعي، ولا حديث ولا تفسير ولا فقه وهذا خوف.
ثانياً: من تمزق واضطراب وانتماءات كل يحمل على الآخر، وهذا يورث العداء والضغينة والبغض والحسد، ولا حل إلا بالعودة إلى الإخاء: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران:103].
ثالثاً: من أن يكون الفكر مقدماً على الروح، أو يأخذ مساحة الروح، فلا يكون هناك نوافل، ولا أوراد ولا أذكار، ولا كثرة صلاة، فتقسو القلوب، وقسوتها داء عضال، فحلها كثرة النوافل، وكثرة قراءة القرآن.
ويخاف كذلك من التسرع في الفتيا بين الشباب، وأن هناك مداً ابتداعياً يريد أن يسيطر على العالم وأنتم تعرفونه، ولكن حله أن ينزل علماء الإسلام، وفقهاء السنة ودعاتهم، فيدرسون القرآن، وكتب السنة، كـ الصحيحين والمسانيد، حينها ينتصر الإسلام، وتنتصر السنة.
القضية الثانية: قضية توحيد المصير القادم في الكتاب والسنة.
القضية الثالثة: التحذير من المبتدعة والمبتدعين بالخطابة والصحف، وسائر وسائل الإعلام، بالدروس والندوات، ونشر الفكر الإسلامي السني في البوادي والقرى؛ حينها ينتشر الإسلام ويعم الخير.(344/28)
الأسئلة(344/29)
حكم التنفل قبل الجمعة
السؤال
هل كثرة الصلاة يوم الجمعة قبل صعود الإمام على المنبر من البدع؛ لأننا نلاحظ بعض الناس يكثر من الصلاة في ذلك الوقت، وبعضهم يقول: إني لا أكثر الصلاة في ذلك الوقت إلا لزيادة النشاط وطرد النعاس؟
الجواب
أولاً: ليس هناك سنة راتبة قبل صلاة الجمعة؛ فالسنن الرواتب في الإسلام عشر ركعات، لحديث ابن عمر في الصحيحين قال: {حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر ركعات: ركعتين قبل الظهر، وركعتين بعدها، وركعتين بعد المغرب، وركعتين بعد العشاء وركعتين قبل الفجر} هذه هي السنن الرواتب، وليس قبل الجمعة سنة راتبة.
لكن من أتى إلى المسجد وأراد أن يتنفل فله ذلك، له أن يصلي إلى أن يدخل الإمام، وليس الوقت وقت نهي والحمد لله، ولو أنه قبل صلاة الظهر وقت زوال، ولكن لا يشمل الجمعة، كما قال ابن تيمية وابن القيم، بل عليه أن يصلي حتى يدخل الإمام ما استطاع، يصلي ركعتين أو أربعاً أو ستاً، أو ثماناً، أو عشراً قدر طاقته، وقد فعل ذلك الكثير من السلف، لكن لا يقل: إنها سنه من السنن، بل هو وقت مطلق للتنفل والحمد لله.(344/30)
كتبٌ تكشف البدعة
السؤال
ما هي الكتب التي تساعد على كشف البدع في الدين؟
الجواب
أعظم الكتب التي تساعد على كشف البدع والخرافات والدجل هو: كتاب الله عز وجل؛ فهو شفاء لما في الصدور، ثم كتب السنة، كـ صحيح البخاري، وصحيح مسلم، وسنن الترمذي، وأبي داود، وابن ماجة، ومسند أحمد وغيرها من كتب أهل العلم.
وهناك كتب فريدة، مثل: كتاب الاعتصام وكتاب الموافقات كلاهما للشاطبي، فهذه التي تحضرني مع بعض الرسائل في هذا الباب، كرسالة لـ ابن الظاهري في السنة، ورسالة لـ ابن بطة الحنبلي في السنة، حققها أحد الأساتذة في جامعة أم القرى، وغيرها من الرسائل لكن هذا هو أهم ما يقال.(344/31)
جزاء مرتكب البدعة
السؤال
كثرت البدع فما جزاء من يفعلها عمداً؟
الجواب
إذا فعلها عمداً فهو فاسق، وبعض المبتدعة كافر ببدعته؛ لأن من البدع بدع مكفرة ومنها مفسقة، فمن أنكر أمراً معلوماً من الدين بالضرورة فهو كافر، ومن أتى بمكفر كأن يقول: إن القرآن ناقص أو يعتقد ذلك، أو يتبرأ من الشيخين أبي بكر وعمر، أو يلعن الصحابة، ويعتقد أنهم ابتعدوا عن الإسلام فهذا كافر، وأما بعض البدع فمفسقة في الإسلام، مثل أن يعتقد أن علياً أفضل من عمر وعثمان، فهذه بدعة مفسقة، لا مكفرة.
وأما من يفعلها جهلاً فيبصر بها؛ لأنه ليس معذوراً بالجهل، وعليه أن يتعلم.(344/32)
البدعة كلها محرمة
السؤال
هل للبدع أقسام؟
الجواب
بعض الناس يقول: إن البدع فيها واجب، ومندوب، ومحرم، وهذا ليس بصحيح، وهو تقسيم خاطئ.
وقد قسمه بعض الناس في الرسائل؛ كصاحب رسالة دكتوراه موجود له كتاب في البدعة، وقد قسم هذه التقسيمات الخمسة، وليس بصحيح، بل البدعة كلها محرمة، وهذا مثل سؤال بعض الإخوة، يقول: هل فيها مكروه أو محرم {من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد} كما في الحديث: {من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد}.(344/33)
طاعة الوالدين
السؤال
أبي يمنعني من حضور الدروس بحجة حفظ القرآن في المسجد بعد صلاة المغرب ومعي إخواني أيضاً، فهل أطيعه؟
الجواب
أبوك يدعوك لطاعة، لكن حبذا أن أباك وفَّق بين الأمرين، بحيث يجعل حفظ القرآن في وقت لا تفوتك فيه المحاضرة والدرس لتحصل على خيرين، خير التلاوة والحفظ، وخير الدروس ومجالس العلم، ففيها حفوف الملائكة، وتنزل الرحمة، وغشيان السكينة، فحبذا أن تطيعه بالتي هي أحسن، حتى يحصل لك الخير علّ الله عز وجل أن يتقبل منا ومنك، أما إذا رفض، فعليك أن تطيعه وتحفظ معه القرآن، ولو أنه أجاز لك الخروج ثم بدلك بوقت آخر كان أحسن وأنفع.(344/34)
مدى صحة حديث: (المؤمن واه راقع)
السؤال
ما مدى صحة الحديث القائل: {المؤمن واه راقع}؟
الجواب
هذا الحديث أتى عن علي رضي الله عنه بلفظ آخر: {أنه يوهن ويرقع} معناه أنه يذنب ويستغفر، يخطئ ويعود، وهذا الحديث أورده العجلوني وقال أسانيده ضعاف، وبعض أهل العلم حسنه، لكن الذي أعرفه الآن أنه ضعيف لكن يحتاج إلى أن نسأل ما هي علة الضعف فيه؟ فكتاب العجلوني كشف الخفاء ينبيك عن هذا.(344/35)
مدى صحة حديث: (يا عائش)
السؤال
ما مدى صحة الحديث القائل: {يا عائش! -يعني عائشة - إني حبك -يعني: الرسول صلى الله عليه وسلم- في قلبي كالعروة الوثقى لا انفصام لها}؟
الجواب
هذا الحديث لا يصح عن معلم الخير صلى الله عليه وسلم، وهو حديث باطل موضوع، وهو ليس من لفظه، وفيه ركاكة ومثل هذا لا يستشهد به، ولا يورد للناس، بل يجنب الناس الأحاديث الموضوعة، والأحاديث الموضوعة كثيرة؛ لأسباب، وسوف يكون هناك دروس لهذه الأسباب، وسوف يكون هناك سلسلة للأحاديث الموضوعة في الإسلام؛ ليتبين الناس كثيراً من هذه الأحاديث الموضوعة، وحبذا أن يكون لطالب العلم الكثير من كتب الموضوعات، ككتاب الموضوعات لـ ابن الجوزي واللآلئ المصنوعة للسيوطي والفوائد المجموعة للشوكاني، وتمييز الطيب من الخبيث لـ ابن الديبع، وكشف الخفاء للعجلوني هذه الكتب يستطيع أن يكشف عنها في لحظات عن الحديث، أما هذا الحديث فلا يصح.(344/36)
حكم الصلاة خلف من لا يُجوِّد القرآن
السؤال
هل يجوز الصلاة خلف من لا يجيد أحكام التجويد مع أنه لا يلحن ولا يخطئ في القراءة؟
الجواب
نعم.
يجوز الصلاة خلف من لا يجيد التجويد وبشرط ألا يلحن في النحو، وفي اللغة العربية، وألا ينصب المرفوع ويرفع المنصوب، فالصلاة تجوز وراءه، وهذا أمر معلوم، ولو أنه كان لا يجوز لبينت هذه المسألة لشهرتها، فيصلى وراءه خاصة إذا كان عالماً جليلاً محدثاً سنياً، عنده فقه في الدين، فيصلي وراءه، ولكن إذا وجد من لا يجود ومن يجود فيقدم المجود؛ لأنه أحسن وأمكن في القرآن، وبعض أهل العلم يقولون: التجويد واجب، وهذه اسألوا عنها الشيخ عبيد الله الأفغاني ومن أحال إلى مليء فليحتل.(344/37)
حكم الاستهزاء بالحديث النبوي
السؤال
ما الحكم فيمن قيل له: (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أورد حديثاً) فقال: دعونا من هذا الهراء أو الدجل؟
الجواب
يُستبان منه، فإن قال هذه الكلمة بعقله وتمكنه ومعرفته وعمده فهو زنديق ملحد، حده السيف الأبتر الأبيض، تقص رقبته من تحت أذنيه بأربعة أصابع، واغسل يديك منه، ولا تصلي عليه، فهذا هو الدجل، ففي سير أعلام النبلاء، قيل للإمام أحمد: إن رجلاً يسب أهل الحديث، قال: زنديق زنديق، والزنديق معناه: الملحد، وهذا عليه أن يتوب ويراجع حسابه مع الله عز وجل، فقد أصبح على شفا حفرة من النار، نسأل الله العافية.(344/38)
ضعف حديث: (من علمني حرفاً صرت له عبداً)
السؤال
هل هذا حديث: من علمني حرفاً صرت له عبداً؟
الجواب
لا يصح هذا عن المعصوم عليه الصلاة والسلام، وليس بحديث، ولكنه مثلٌ من الأمثلة التي اشتهرت على ألسن الناس، مثل (المعدة بيت الداء والحمية رأس كل دواء) فهذا ليس بحديث، بل هذا من كلام الحارث بن كلدة طبيب العرب، كما قال صاحب كشف الخفاء.
ومما اشتهر على ألسنة الناس: (قيدوا العلم بالكتابة) وهذا من كلام عبد الله بن عمر، وقيل: من كلام أنس وهو الصحيح، وليس من كلامه صلى الله عليه وسلم.
ومما اشتهر على ألسنة الناس: (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً) وليس هذا من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هذا من كلام عمرو بن العاص، وقيل: من كلام عبد الله ابنه إلخ(344/39)
الدعاء بعد التشهد الأوسط
السؤال
إذا انتهى المأموم في التشهد الأول وبقي الأمام فهل يبدأ في التشهد الثاني ويدعو الله؟
الجواب
الأحسن له أن يكون له ذلك؛ لأن بعض العلماء يقول: يتشهد التشهد الثاني، فعلى كلٍ الأحوط له أن يفعل إذا تأخر ولا يسكت، لأنه ليس هناك سكوت، ولأن الكلام بالذكر الذي ورد في الصلاة أفضل من السكوت.(344/40)
أماكن رفع اليدين في الصلاة
السؤال
ما هي الأماكن التي ترفع فيها الأيدي في الصلاة؟
الجواب
صح في صحيح البخاري، وسنن أبي داود ومسند أحمد، والحديث صحيح: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في أربعة مواضع في الصلاة: إذا ابتدأ تكبيرة الإحرام، وإذا أراد أن يركع، وإذا رفع من الركوع، وإذا قام من التشهد} هذه أربع حالات في السنة، وخالف فيها بعض الناس وقال الأحناف في رواية عنهم، ونسبت لـ أبي حنيفة رحمه الله: أنه لا يرفع إلا مرة واحدة، واستدل بحديث ضعيف، يقول الصحابي فيه: {فرفع صلى الله عليه وسلم مرة عند تكبيرة الإحرام ثم لم يعد إلى ذلك} وهذا الحديث ضعيف، واستدل ابن المبارك على الإمام أبي حنيفة بحديث أبي هريرة وابن عمر: {أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرفع إذا بدأ في الصلاة، وإذا أراد أن يركع، وإذا أراد أن يرفع} وفي رواية صحيحة كما أسلفت {وإذا قام من التشهد للركعة}.
أبو حنيفة صلى معه عبد الله بن المبارك فكبر أبو حنيفة وهو الإمام وكبر عبد الله بن المبارك ورفع يديه، فأراد أن يركع فرفع ابن المبارك يديه، ورفع أبو حنيفة من الركوع، فرفع ابن المبارك يديه، فلما سلَّم قال أبو حنيفة لـ ابن المبارك: "والله لقد خشيت أن تطير من جانبي " يعني: من كثرة ما رفع يديه -أي: أجنحة- قال ابن المبارك -والحق مع ابن المبارك -: " لو أردت أن أطير لطرت من أول مرة " أي: مع تكبيرة الإحرام، ولكن ما طرنا في التكبيرة الأولى، وهذا مأجور له أجر واحد، وهذا مصيب له أجران؛ لأن كلاً منهم أراد خيراً.
في العيدين والاستسقاء: التكبيرات ترفع الأيدي فيها؛ لأن عموم رفع الأيدي في التكبير يشمل هذا، وأهل العلم وجدوا نصوصاً في هذا، والإمام أحمد ألحقها بحديث ابن عمر، لما سئل هل في الجنازة يرفع يديه؟ قال: على حديث ابن عمر أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما افتتح رفع، فالرفع وارد مع كل تكبير، إلا ما لم يرد فيه الرفع مثل السجود، وفي بعض الهيئات وبعض الركوعات التي لم يرد فيها الأثر، أما هذه التي ذكرت فيرفع فيها الأيدي.
وفي الوتر إذا رفع يقول: سمع الله لمن حمده، وفي الدعاء لا بأس أن يرفع يديه، وقد ورد الحديث في مستدرك الحاكم وأشار إليه ابن القيم في زاد المعاد، وفي سنن الترمذي وهذا الحديث يضعفه ابن حجر قليلاً ويصححه أهل العلم، أن الرسول عليه الصلاة والسلام علم الحسن أن يدعو بدعاء القنوت في الوتر، والدعاء يكون برفع الأيدي، والمسح هو الذي فيه خلاف بين أهل العلم، لكن الصحيح ألا يمسح في الصلاة، أما خارج الصلاة فيمسح تارة، ويترك تارة مع العلم أن الحديث حسن، حتى خارج الصلاة لحديث ابن عباس، وحديث عمر في سنن الترمذي أوردها صاحب جامع الأصول، وحسَّن أسانيدها المخرج.
فالمقصود أن من مسح خارج الصلاة ليس عليه شيء، لكن لو تركها لضعف الأحاديث فنعم ما فعل، أما داخل الصلاة فاختار ابن تيمية ألا يمسح وجهه بيديه إذا انتهى من الدعاء مع الإمام؛ لأنه لم يرد فيها حديث صحيح، أما خارج الصلاة فيمسح تارة، ويترك تارة، مع العلم أن من العلماء من حسن هذا الحديث، وتجدونه في المجلد السابع أو الثامن من جامع الأصول في أدعيته صلى الله عليه وسلم أو نحو ذلك.(344/41)
الزيادة في الدعاء الثابت
السؤال
هل من البدعة قول الرجل بعد الرفع من الركوع: ربنا ولك الحمد والشكر، أي: هل كلمة الشكر بدعة؟
الجواب
نعم.
كلمة الشكر هنا بدعة، فيما أعرف؛ لأنها لم ترد في السنة، والإنسان لا يزيد كأن يقول: (الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً، الله أكبر أستغفر الله، الله أكبر توكلنا على الله) نعم يتوكل على الله، لكن هذه الشريعة تلقيت من الرسول صلى الله عليه وسلم فلا يزيد فيها كلاماً وعند قوله: (استووا) قولهم: استوينا واعتدلنا.
وإذا قال: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6] يقول: اللهم اهدنا وتولنا.
وإذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] يقول: استعنا بالله.
هذه كلها من البدع؛ لأن الزيادة معناها النقصان، وسوف تكون على الضد، وتعكس المقاصد على صاحبها.(344/42)
جواز التداوي بالطيب
السؤال
ما حكم من وضع نوعاً من الطعام على الوجه بغرض علاج البشَرة؟
الجواب
الأطعمة إذا كانت حلالاً فلا بأس إذا أشار الطبيب المسلم بهذا، أو علم بالتجربة أنها من الدواء فلا بأس بالتداوي بها، وطلب النفع من الله بواسطة هذه العلاجات كعسل أو غيره، أما المحرمة فلا يجوز، كالخمر وما يدخل في الخمر، والعلاج به؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام، قال له رجل كما في السنن: {يا رسول الله! إني أصنع الخمر للدواء.
قال: إنها داء وليست بدواء} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها} فالعسل فيه دواء وغيره من الحبوب أو الأطعمة أو الأشربة فما عليك إلا أن تستخدمه، وكثير من هذه العقاقير مركبة من الحبوب والسيلان، كلها من الأطعمة والأشربة، فتستخدمه إذا كان لعلاج أو كان غير ذلك، والحمد لله.(344/43)
حكم لبس الخاتم
السؤال
ما حكم لبس الخاتم، هل هو سنة أم لا؟
الجواب
لبس صلى الله عليه وسلم الخاتم في يمناه وفي يسراه، ولكن هل هو سنة؟ وهل لابد من لبسه؟ أورد ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط المستقيم، أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الخاتم إلا لذي سلطان، لكن الصحيح أنه يلبس، ولبسه كثير من الصحابة ولم يكونوا سلاطين، فيلبس الخاتم، لكن لا يكون من ذهب، ولا من حديد، حتى النحاس، ولكن يكون من فضة، فهو أحسن ما يكون، ومن لبسه على أنه لا بد من لبسه، فهذا خطأ بل يلبسه لأنه وارد.(344/44)
أقسام البدعة
السؤال
ما هي أقسام البدعة؟
الجواب
البدعة قسمت بحسب الاعتبارات إلى أقسام عديدة منها:
بدعة فعليه، وتركية، وقوليه، وعملية، واعتقاديه، وحسنة، وسيئة، ونسبية، ومكفرة، ومفسقة، وكبرى، وصغرى، كل هذه التقسيمات واردة.
لكن البدعة الإضافية: ما كان أصلها سنة هذا مفهوم عند بعض أهل العلم، أي: لها شيء من السنة لكن أضيف شيء من البدعة إليها، مثل: الجلوس بعد صلاة الفجر، والذكر إلى ما بعد طلوع الشمس هذا سنة، لكن إذا ركب على ذلك بدعة وأضاف عليها شيئاً من البدع، كأن يقول: سنة أن يتحلق الناس بعد صلاة الفجر، ووردت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ويداوم عليها، فقد أضاف.
من أهل العلم من قال: إن البدعة الإضافية ما تضاف إلى بدعة أخرى فتصير مركبة، كأن يأتي بعد الصلاة ويستقبل -على سبيل المثال- مكاناً من الأمكنة، ويقول: هذا من السنة، ويضيف إلى ذلك نشيداً ويقول: هذا من السنة، فأضاف بدعتين.
ومن البدع أيضاً أن يأتي بعد الصلاة بمسبحة -المسبحة فيها كلام آخر- دائماً، ويزيد على ذلك فيقول: (هو هو) ولا يقول: سبحان الله، والحمد لله، كما يفعل غلاة الصوفية أتباع ابن عربي، فهذا ركب البدعة من بدعة بسيطة وبسيطة فأصبحت بدعة مركبة، هذا ما يعرف عنه.
أما البدعة التركية: فتعتبر نقصاً عند العلماء من السنة، مثلاً أن الإنسان إذا سلم أن يستغفر، ويهلل، ويكبر فيتركه دائماً، ويقول: ليست من السنة، فهذا ابتدع في هذا.
ومن السنة أن يرفع يديه كما أسلفنا، وهو يعلم أنه وردت أحاديث في هذا ويتركها عمداً فهذه بدعة تركية، وقس ما شئت من الأمثلة على هذا.(344/45)
حكم إسبال الثياب
السؤال
ما حكم إسبال الثياب؟ وما معنى قوله صلى الله عليه وسلم: {لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء}؟
الجواب
لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء، الصحيح في هذا أنه على قسمين: يقول ابن تيمية: النظر كالكلام، ينظر متى شاء ويتكلم متى شاء، والصحيح في هذا أنه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى ينظر حقيقة لا تأويلاً، وربما قلت: لا يرحمهم، مثل ما ورد عند بعض أهل السنة أنه سبب للرحمة، والله إذا نظر إلى عبد رحمه، لكنه لم يجعل النظر بمعنى الرحمة؛ لأن هذا تأويل وخلاف ظاهر النص، فإن فهم مني هذا أو قلته فأنا أقول الآن: النظر صفة من صفاته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى كالكلام، ينظر الله متى شاء، ويعرض عمن شاء سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فهذا هو الصحيح، وللفائدة وردت الأحاديث في إسبال الإزار مثل حديث يقول: {ما أسفل من الكعب فهو في النار} وحديث آخر صحيح: {لا ينظر الله إلى من جر ثوبه خيلاء} فيقال: التفصيل في المسألة: أن من جر ثوبه خيلاء فعقوبته عقوبتان: لا ينظر الله إليه، وما أسفل من الكعب ففي النار.
وأما من جر ثوبه وليس خيلاء فعقوبته أن ما أسفل من الكعبين ففي النار، لكنه لا يشمله وعيد أنه لا ينظر الله إليه فليتنبه إلى هذه المسألة.(344/46)
تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة
السؤال
هل يصح تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة؟
الجواب
أخطأ من قسَّم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة سيئة، واغتروا بقول عمر: [[نعمة البدعة هذه]] لما رأى الصحابة يصلون التراويح، وما قصده إلا البدعة في اللغة، وإلا فلها أصل في السنة، فليست ببدعة بل سنة وردت عنه صلى الله عليه وسلم، فليس في البدع بدعة صحيحة ولا بدعة حسنة.(344/47)
صحة حديث: (من نظر إلى امرأة …)
السؤال
ما هو صحة هذا الحديث: {من نظر إلى امرأة فأحصى عظامها فليتبوأ مقعده من النار}؟
الجواب
ليس هذا بحديث، بل هو من الأحاديث الموضوعة على الرسول صلى الله عليه وسلم، لا يباع ولا يشترى.(344/48)
حكم وصف الإنسان بالدابة
السؤال
ما حكم وصف الإنسان بالدابة -بالحمار- مثلاً أو الثور أو الأسد؟
الجواب
تختلف هذه الأوصاف، إن كان هذا الحيوان مما كانت العرب تنسب إليه، مثل قولهم: فلان أسد فيصفونه في الشجاعة كالأسد، فهذا أمر نسبي، فإن شاء الله ليس فيه ضرر، وإن كان من الحيوانات البهيمية التي يوصف بها الإنسان سباً، وشتماً، فلا يجوز إلا للفاسق أو الكافر، ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:175 - 176] ويقول: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة:6].
لكن بعض الناس لجهله يظن أنه إذا وصف صديقه بالحمار قد أجاد فيقول: هو في الصبر كالحمار، وفي الصراع كالثور، مثل ما فعل علي بن الجهم الشاعر العباسي مع الخليفة المتوكل عندما دخل داره في بغداد إذ أنشد قصيدة يقول فيها مادحاً للخليفة:
أنت كالكلب في حفاظك للود وكالتيس في قراع الخطوب
فأراد الناس أن يبطشوا به أرضاً، فقال: دعوه، هذا رجل نشأ في البادية لم ير إلا التيس والكلب، وأتى يمدحنا، لكن أنزلوه في الرصافة عند النهر عله يرى الجمال والطبيعة فيتحدث بعد سنة، فأنزلوه فرأى النهر ورأى القصور ورأى الحدائق الغناء، فأتى بعد سنة فقال:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبت الهوى من حيث أدري ولا أدري
ثم قال: أما رأيتم؛ لأنه عاش مع التيس والكلب، فالناس يأخذون بمقاصدهم لا بكلماتهم، والله الحافظ.(344/49)
حديث الأربعين عالماً
السؤال
هل ورد حديث أن الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى جعل أربعين عالماً، وكلما مات عالم أبدل الله عالماً غيره، وأن الأمة يرحمون بهم؟
الجواب
أحاديث الأربعين باطلة، ولو أن بعضهم يحسن حديث الأبدال الأربعين -لكن لا أتدخل في الأبدال- لكن حديث الأقطاب والأغواث هذا كذب، وأن في الدنيا أربعين كلما مات أبدل منهم واحداً، لا يصح مرفوعاً إليه صلى الله عليه وسلم.(344/50)
حكم التصدق للميت
السؤال
هل يصل ثواب الصدقة إلى الميت؟
الجواب
إذا تصدق على الميت وهو مسلم من مسلم نفعت عنه ووصلت بإذن الله قال عليه الصلاة والسلام: {إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له}.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.(344/51)
باقة ورد إلى فتاة الإسلام
جمال المرأة، وحسن المرأة، وروعة المرأة ليس في ذهبها وثيابها، إنما جمالها وحسنها وروعتها في تقواها لربها، فَنِعْمَ الجمال جمال التقوى.
ونعم النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين، فالمرأة داعية بخلقها وبكلمتها اللينة، ولها عبرة بنساء سبقنها كفاطمة وعائشة وأسماء، والحذر الحذر! من أن تسمع المرأة لدعاة التخريب، والحذر الحذر! ان تنهمك بمغرياتها، بل عليها أن تعمل لآخرتها، هذا جزء من باقة الورد، والتكملة أروع وأبهى.(345/1)
موقف المرأة المسلمة من الإيمان
الحمد لله، والصلاة على رسول الله، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أيتها الأخوات المسلمات! سلام الله عليكن ورحمته وبركاته، وأسعد الله مساءكن بكل خير ويمن وبركة.
وإنها لفرصة سعيدة أن تسمع المسلمة دعوة الله، وكلام الله، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [التوبة:109].
أيتها الأم! أيتها الأخت! يا صانعة الأجيال! ويا أم شباب الإسلام والأبطال! ويا أم القواد والعلماء والزعماء! إنك مسئولة أمام الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى عن دورك في الحياة، لماذا خلقت؟ ولماذا وجدت؟ ولماذا سرت على وجه الأرض؟ والرسول -عليه الصلاة والسلام- هو الذي أتى بمهمة المرأة في الحياة، فجعلها أماً وزوجة وأختاً ومعلمة ومربية وراعية وحافظة.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيّب الأعراقِ
الأم نبت إن تعاهده الحيا بالريِّ أوْرق أيما إيراقِ
إذا عُلم هذا! فإنني سوف أتحدث في هذه المحاضرة بعنوان: (باقة ورد إلى فتاة الإسلام) وباقة الورد إنما هي محبة في الله عز وجل، أنثرها على رءوسكن، وعلى رأس كل امرأة مسلمة تريد الله والدار الآخرة، وهي مسائل:
أولاً:
ما هو موقف المرأة المسلمة من الإيمان؟ وكيف تكون مؤمنة؟
إن الله عز وجل خاطب الناس بأوامر ونواهي، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالى بعد أن ذكر الصالحين الأبرار وذكر الفسقة الأشرار: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} [آل عمران:195] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [الأحزاب:35] الآيات، فالله عز وجل ذكر المرأة المسلمة الصالحة القانتة الحافظة للغيب بما حفظ الله -سُبحَانَهُ وَتَعَالى- وأتى رسولنا صلى الله عليه وسلم فتحدث إلى المرأة المسلمة وحدد لها دورها في الحياة، وأوصى بها خيراً؛ لأنه يعلم أنها شقيقة الرجل، وأنها هي التي تقوم على المثل، وتربي الأطفال والعلماء والأدباء والشهداء.
يقول صلى الله عليه وسلم يوم الحج الأكبر: {الله الله في النساء؛ فإنهن عوان عندكم} ويقول صلى الله عليه وسلم: {استوصوا بالنساء خيراً} وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي} فصلَّى الله على معلم الخير.(345/2)
أسماء بنت عميس وطلبها الاستزادة من الإيمان
جاء في صحيح البخاري أن امرأة مجيدة، علَّمها النبي صلى الله عليه وسلم ورباَّها، فرضعت القرآن، وتعلمت الإيمان، وخافت الواحد الديان، وهي أسماء بنت عميس، أتت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فقالت: {يا رسول الله! غلبنا عليك الرجال، يحجون معك، ويجاهدون معك، ويصلون معك، فاجعل لنا يوماً من نفسك} وقد بوب الإمام البخاري لذلك: (باب: هل يجعل العالم للنساء يوماً من نفسه؟) فأعطاهن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين، وما أدراك ما يوم الإثنين؟ يوم يجتمع فيه صلى الله عليه وسلم بالنساء، فيربيهن ويعلمهن ويجلس معهنَّ.(345/3)
إيمان فاطمة ابنة النبي صلى الله عليه وسلم
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة مهداة، عاش أباً فرزق أربعاً من البنات كالنجوم، حافظات للغيب بما حفظ الله، أربعاً من البنات عايشن القرآن والإيمان، وطاعة الواحد الديان، فاطمة، وأم كلثوم، وزينب، ورقية.
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً ودعهن، وإذا أتى من سفر بدأ بهنَّ، كان رحمة مهداة عليه الصلاة والسلام، يأتي إلى فاطمة ابنته صلى الله عليه وسلم في الليل الدامس فيزورها ويقول لها ولـ علي {ألا تصليان؟! ألا أدلكما على خير لكما من خادم؟! تسبحان الله ثلاثاً وثلاثين، وتحمدان الله ثلاثاً وثلاثين، وتكبران الله أربعاً وثلاثين} لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم ابنته فاطمة على تقوى الله، على التسبيح والعبادة والتحميد، وعلى الاتصال بالحي القيوم، وكل من لم يجد الله فقد فَقَدَ كل شيء، ومن وجد الله فقد وجد كل شيء.
إن الذهب والفضة والحلي، والقصور والفلل، والخدم والملابس -والله- لا تساوي شيئاً، بل تكون مع المعصية لعنة وغضباً وسخطة منه سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، أما مع التقوى فحيَّا الله الفقر، ومع طاعة الله عز وجل حيا الله المسكنة.
يقول محمد إقبال في فاطمة بنت الرسول عليه الصلاة والسلام:
هي بنت من؟ هي أم من؟ هي زوج من؟ من ذا يساوي في الأنام علاها
أما أبوها فهو أشرف مرسل جبريل بالتوحيد قد ربَّاها
وعلي زوج لا تسل عنه سوى سيف غدا بيمينه سيَّافا
عاشت في بيت النبوة، فرضعت الإيمان والإسلام، ولدت على لا إله إلا الله، وتربت عليها، وأنبتت أبناءها، وربت جيلها على لا إله إلا الله.
فأنت -أيتها الأخت المسلمة- تطالبين بالإيمان، املئي قلبك بالإيمان، فوالله لقد تحلَّى كثير من النساء بالذهب والفضة، وفقدوا الفضيلة والعفاف، وغض البصر والإيمان، ففقدن كل شيء، فقدن رضا الله ومحبته وستره، ثم فقدن الحياة الرغيدة؛ لأنه لا أمن ولا استقرار للمسلم ولا المسلمة إلا بهذا الدين {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} [طه:124 - 126].(345/4)
إيمان آسية يصمد أمام فرعون
امرأة فرعون آسية رضي الله عنها وأرضاها عرفت لا إله إلا الله، وآمنت بالله، فملأت قلبها بالإيمان، وأطاعت الرحمن، وزوجها دجَّال فاجر كافر، انحرف ودُهْدِه على وجهه في النار، تقول امرأته في نجاء حبيب، وفي دعاء عجيب: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم:11] قال ابن القيم: انظر إليها طلبت الجار قبل الدار" جوار الواحد الأحد، سكنها: جنة عرضها السماوات والأرض، ملت قصور فرعون؛ لأنها قصور ملعونة، ودار ملعونة، ورجل ملعون، وأرادت جوار الله -عز وجل- فسجَّل اسمها في الخالدين، وذكرها في العارفين، وبقي اسمها في العالمين يدوي في كتاب رب العالمين تبارك وتعالى.
فيا أختي المسلمة! أما لك قدوة في امرأة الرجل الطاغية الدجال المجرم، يوم عاشت في بيت الكفر؛ فآمنت بالله الواحد الأحد، فصلبها وعذَّبها.
قال بعض المفسرين: "سمَّر أياديها بالجدار فما وجدت ألماً، وجاءت الملائكة تظللها بالأجنحة".
سلام على تلك المرأة المؤمنة، سلام عليها يوم عرفت الله، وغضت طرفها عن محارم الله، وحصَّنت فرجها عن المعصية التي تغضب الله تبارك وتعالى.(345/5)
إيمان أم سليم والمهر العظيم
وأم سليم امرأة من الأنصار، أم أنس بن مالك رضي الله عنه، لما أتى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة؛ بحثت عن هدية تهديها إلى أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، فما وجدت إلا ابنها وحبيبها، وفلذة كبدها، فغسلته ولبسته وطيبته وذهبت به وكان عمره عشر سنوات، وقالت: {يا رسول الله أنس ابني أحب الناس إليَّ أهديه لك؛ يخدمك طيلة الحياة، فادع الله له فقال عليه الصلاة والسلام: اللهم أطل عمره، وكثِّر ماله وولده، واغفر ذنبه} فتقبل الله دعوة محمد صلى الله عليه وسلم، والشاهد من هذا: أن هذه المرأة المؤمنة التي كان مهرها في الإسلام أعظم مهر ليس كمهور اليوم، فقد أصبحت المرأة تعرض في الأسواق، وأصبحت سلعة تباع وتشترى في الأسواق، وفي المضاربة والأسهم.
هل كان مهرها قطعة أرض أو سيارة؟ لا، بل مهرها أغلى من الدنيا وما فيها، إن مهرها هو الإسلام.
تقدم لها أبو طلحة وهو مشرك يريد أن يتزوجها، قالت: [[أنت مشرك وأنا مسلمة والله لا أتزوج بك حتى تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله]] وسجد لله، فتزوجته، فكان مهرها الإسلام، والإسلام ثمنها، قالوا: ما سمعنا بمهر في الجاهلية ولا في الإسلام أعظم من مهر أم سليم رضي الله عنها وأرضاها.
وأدخلت على أبي طلحة الإيمان فحثته على قيام الليل، وعلى الزهد والعبادة، فرزقها الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى تسعة أبناء كلهم حفظوا القرآن، فالله خيرٌ حافظاً وهو أرحم الراحمين.(345/6)
إيمان الخنساء وموقفها العظيم
والخنساء ربت أربعة من أبنائها على طاعة الله، حفظتهم القرآن، وعلَّمتهم السنة، وقادتهم إلى المسجد، فلما أتت معركة القادسية ذهبت بأبنائها الأربعة، وقالت لهم: [[البسوا أكفانكم فاغتسلوا ولبسوا أكفانهم، وأوصتهم وقالت: يا أبنائي! والله ما خدعت أباكم، ولا غررت خالكم، إذا حضرتم المعركة فتيمموا أبطالها، ويمموا وطيسها، وقاتلوا في سبيل الله، علَّ الله أن يقر عيني بشهادتكم في سبيله]] وبالفعل حضروا؛ لأنهم تربوا على الإيمان، وهذا فعل المرأة الصالحة التي تربي أبناءها على القرآن، وعلى طاعة الواحد الأحد، وتربي بناتها على الحجاب، وعلى أداء الصلاة، وعلى خشية الله ومراقبته، وعلى التأسي بسيرة محمد صلى الله عليه وسلم لا كما يفعل بعض النساء -هداهن الله وسامحهن- يوم تربي ابنها وابنتها على الأغنية الساقطة الهابطة الماجنة السخيفة، أو على المجلة الخليعة.
ما هذا الدين؟! وما هذه العبادة؟! وما هذا الاتصال؟! وما هذه المراقبة؟! أينقصنا غناء ومجون؟! أينقصنا معصية من المعاصي التي كثرت في بيوتنا؟!
ولما حضر أبناء الخنساء الأربعة المعركة قتلوا في سبيل الله فبشروا الخنساء، فتبسمت، وقالت: الحمد لله الذي أقر عيني بقتلهم في سبيل الله.
فيا أختي المسلمة! حاجتنا إلى الإيمان شديدة، فإن أحوج ما نحتاج إليه أن ندخل الإيمان بيوتنا، والإيمان يكمل في الصلوات الخمس للأبناء والبنات، وأن نلاحقهن بالتربية، وأن نرضعهن مع اللبن لا إله إلا الله محمد رسول الله.
الأم مدرسة إذا أعددتها أعددت شعباً طيب الأعراق
الأم جامعة كبرى يوم تصلح الأم؛ يصلح الله بها الجيل، ويربى بها الأخيار والأبرار، ويوم تفسد؛ يفسد بها المجتمع ويأتي هذا الاعوجاج الخطير الذي نعيشه في مجتمعاتنا.
فيا أمة الله! أسألك بالله أن تتقي الله في هذا الجيل، وأن تتقي الله في بيت المسلمين، وأن تتقي الله في دين رب العالمين، وفي رسالة محمد سيد المرسلين.
يا أمة الله! الحجاب الحجاب، سترك بيتك وطاعة ربك.
يا أمة الله! اتقي الله في الأبناء والبنات.
يا أمة الله! اتقي الله في الزوج، إنك المؤثرة العظيمة، والرائدة يوم تربين في تقوى الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وتربين في طاعته؛ حينها يرضى الله عنك، ويملأ قلبك وبيتك رضا، وسكينة، وطمأنينة.(345/7)
حقوق الزوج وحقوق الزوجة
ثم اعلمي -أختي المسلمة- أن هناك قضية لا بد من تدارسها ولا بد من الإلمام بها:
أولها: حقوق الزوج وحقوق الزوجة، فهذه الحقوق سنها رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، وذكر الله أصولها في القرآن، فأما حقوق الزوج: فطاعته في طاعة الله، وإرضاؤه في إرضاء الله عز وجل، وحفظه بالغيب يوم يسافر ويوم يغيب عن البيت، حفظه في السمع والبصر، وحفظه في الفرج وما استحفظ الله عز وجل، وإن أمانة الله على المرأة أمانة عظيمة قال سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب:72] الإنسان ظلوم جهول فما هي أمانة المرأة يا ترى؟
أمانتها أن تحفظ زوجها إذا غاب من بيتها، فتتقي الله في غيابه قال سبحانه: {حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء:34] ومن حفظه ألَّا تتطلع بعينها للأجانب، ولا تنظر للمحرمات، قال تعالى: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} [النور:31]
وعيناك إن أبدت إليك معايباً لقوم فقل يا عين للناس أعين
فأسألكن بالله ما هو موقف هذه المرأة يوم العرض الأكبر؟ هذه المرأة التي تجوب الأسواق، وتنزل إلى الباعة، وتخالط الخياطين وتجلس مع الباعة والمشترين بالأعراض، الذين باعوا الذمم، واشتروا أعراض الناس فبئس ما يشترون! اشتروا بآيات الله ثمناً قليلاً، واشتروا بدين الله رخصاً ومحقاً في سوق البوار، وتلك المرأة يوم باعت عرضها إنما باعت دينها قبل ذلك، وسوف يحشرها الله في يوم الحشر الأكبر {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88 - 89] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة:18] الأجساد عارية، والتاريخ عارٍ، والضمائر والسجلات عارية، كل شيء مكشوف، فقولي لي بالله ماذا تقول المرأة؟ ماذا تقول التي خانت زوجها فخرجت مع السائق والخياط والبائع والمشتري وكل رعديد وفاجر وكل بائع ذمم؟! ماذا تقول لله عز وجل؟
أختاه: إن الفجرة كثر، إنهم يجوبون الأسواق يبحثون عن السلع، إنهم يريدون المرأة ليفتكوا بها، فأسألك بالله أن تتقي الله في زوجك، وقبل ذلك أن تراقبي ربك.
وإذا خلوت بريبة في ظلمةٍ والنفس داعية إلى الطغيان
فاستحي من نظر الإله وقل لها إن الذي خلق الظلام يراني
من ناحية أخرى! اعلمي -أيتها الأخت المسلمة- أن جمال المرأة وروعتها وحسنها هو في تقواها لله -والله- لا في ذهبها ولا في ثيابها، ولا في حليها ولا في بيتها، وإنما الجمال كل الجمال في أن تتقي الله، وتغض طرفها، وتحفظ ما استحفظها الله عليه تبارك وتعالى، حينها تعيش الأمن والسكينة.
وأما حق الزوجة على زوجها، فأن يتقي الله فيها، فهي ضعيفة لطيفة تريد الحنان، والرحمة والبر، وإنما أقول ذلك؛ لأنه سوف يسمع صوتي الرجال، وسوف يهتدون أو يتأثرون أو يستفيدون -بإذن الله- فوصيتي إلى أولئك الرجال: أن يتقوا الله في أمهات الأجيال والأبطال، أمهات العلماء والأدباء، والزعماء والشهداء.
رحمة وحناناً، ورقة ومحافظة، ونفقة وكسوة وتعاهداً، كما قاله صلى الله عليه وسلم في الموقف الأكبر، يوم أعلن حقوق المرأة وحقوق الإنسان.(345/8)
احذري دعاة التحرر
لقد وجد في الساحة من ينادي بتحرر المرأة، ما هو تحرر المرأة التي يريدونه؟
إن معنى تحرر المرأة عندهم: أن تخرج سافرة متبرجة، ومعنى تحرر المرأة عندهم: أن تبيع عرضها من كل مشترٍ، وتبيع قيمها وأخلاقها وسلوكها، وأن تفتك بعرضها أمام الباعة من الفجرة والمتمردين على أمر الله، فهذا -والله- خيانة عظمى لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
إن تحرر المرأة دينها، وأصالتها، وحجابها، وسترها.
إذاً فالسفور جريمة لا تغتفر، ومن ينادي بنزع الحجاب إنما ينادي بهدم سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وينادي بهدم القيم التي أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فيا أختي المسلمة! إياك إياك أن تسمعي لهذا الناعق الشرير! وحذارِ حذارِ أن تصغي بسمعك إلى هذا المارد الجبار! إنه يريد أن يقضي على ديننا، وكرامتنا، وأعراض أخواتنا وأمهاتنا، وبناتنا وزوجاتنا {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [التوبة:30].(345/9)
مجالس المرأة وما يدار فيها
ما هي مجالس المرأة؟ وماذا ينبغي أن يدار في مجالس المرأة؟ والذي ينبغي ويلاحظ على كثير من النساء قبل ذلك هو: كثرة الغيبة والنميمة والزور، إلا من عصم الله، ولسان المرأة -إلا من رحم ربك- سريع في قذف الأعراض، ولذلك يقول صلى الله عليه وسلم للنساء في يوم العيد: {تصدقن! فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقالت امرأة: يا رسول الله! ما بالنا أكثر أهل النار؟ قال: تكثرن اللعن، والله ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن} فوصيتي -يا أختي المسلمة- أن تتقي الله في مجالسك، وأن تعرفي من تجالسين، فإنه كما يوجد في الرجال أخيار فإنه كذلك يوجد في النساء خيرات وشريرات، وفيهن مغتابات ومزورات وسافلات وحقيرات.
فاتقي الله، وأحبي الصالحات، واعمري وقتك بذكر الله، وبتلاوة القرآن، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ماذا يدار في المجلس؟ {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [المؤمنون:115 - 116] هل أدخلت الكتاب الإسلامي بيتك؟
أم هل أدخلت الشريط الإسلامي في دويرتك؟
هل استمعت إلى الدعوة والتلاوة والمحاضرة والدرس؟
هل سبحت الله كثيراً؟
هل هدى الله على يدك امرأة مسلمة أو فتاة مؤمنة فكانت ميزان حسناتك عند الله؟(345/10)
حرص المرأة على طلب العلم
أريد التنبيه على قضية الحرص على العلم الشرعي كما قال تعالى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد:19] وقال سبحانه: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة:11] وقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] وقال سبحانه: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] وقال عز من قائل: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [آل عمران:18].
العلم! ما هو العلم الذي يُنادى به الرجال والنساء؟ إنه علم الشريعة، الذي يدلكِ على الله عز وجل، وعلى طريق الجنة، وعلى الحياة الأبدية السرمدية في جنة عرضها السماوات والأرض، العلم الذي يدلكِ على حسن الصلاة والصيام والحج، وعلى مخافة الله ومراقبته وتقواه، فنحن بحاجة إلى علمٍ شرعي ننادي به المرأة، لا علم الفضلات، والحواشي، ولا العلم المضيع للعمر، إنما علم يدلك على تقوى الله عز وجل كيف تربين أبناءك؟ وكيف تتقين الله وتحرصين على حفظ الوقت؟
لقد عاش الرسول صلى الله عليه وسلم معلماً للمرأة ومفقهاً لها، وكانت المرأة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم تأتي فتسأله عن أمر دينها، قالت عائشة: [[نِعمَ النساء نساء الأنصار، لم يمنعهن الحياء أن يتفقهن في الدين]] الحياء لا يمنع المرأة المسلمة أن تسأل عن أمر دينها، فتسأل العلماء والدعاة وطلبة العلم لتكون على بصيرة، وتتعلم كتاب الله وتجلس في مجالس الخير، لتحفظ سور القرآن، وتلم إلماماً مجملاً بالفقه الإسلامي لتعبد الله على بصيرة قال سبحانه: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام:122].(345/11)
إياك وهذه المغريات
إن هناك بعض المغريات طرحت في الساحة الإسلامية، وفتكت بالمرأة المسلمة فتكاً ذريعاً، وظل بسببها كثير من الفتيات، هداهن الله سواء السبيل.(345/12)
الأغنية الماجنة ذريعة الجريمة
إن الأغنية الماجنة التي انتشرت في أوساط الناس والتي كانت ذريعة إلى ارتكاب الجريمة والفاحشة والزنا، لأن أهل العلم يقولون: الغناء بريد الزنا، وعقوبات الغناء أربع عقوبات:
العقوبة الأولى: قسوة القلب وإعراضه عن ذكر الله عز وجل، فلا تجد رجلاً أو امرأة تدمن استماع الغناء إلا وقلبه أو قلبها قاسٍ لا يستفيق كما قال تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [المائدة:13].
العقوبة الثانية: أن يجد العبد وحشة بينه وبين الله، لا يجد رقة ولا حباً ولا خشوعاً، لأنه قطع الصلة بينه وبين الله.
السماع الشرعي: القرآن، والسماع الإبليسي: الغناء، فمن استعاض بالقرآن الغناء فلا عوضه الله، ومن استكفى بالغناء فلا أغناه الله، ومن استشفى بالغناء فلا شفاه الله.
العقوبة الثالثة: أنه يُحْرَمُ في الجنة من سماع الغناء، وفي الجنة غناء يجعله الله للمتقين وللأبرار الصالحين، ولذلك جاء عند الإمام أحمد في المسند عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إن في الجنة جواريَ يغنين، يقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا} وقال ابن عباس في غناء أهل الجنة ونظم هذا القول ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
يا خيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
فحذار حذار من الأغنية، وحذار حذار من السماع لها.
العقوبة الرابعة: ومما تورثه الأغنية كذلك أنها تحبب الفاحشة والجريمة، وقد قال كثير من أهل العلم والفضلاء والنبلاء ممن لهم خبرة وسبر واستقراء للمجتمعات: "إن أكثر من يقع في جريمة الزنا هم: الذين يستمعون الغناء من الرجال والنساء" فالله الله في مقاطعة هذا الغناء الماجن؛ فإنه -والله- محرم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان:6] ويقول عليه الصلاة والسلام كما عند البخاري عن أبي مالك الأشعري: {ليكونن أقوام من أمتي يستحلون الحر والحرير، والخمر والمعازف} وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إني نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نعمة -وفي لفظ: صوت عند نغمة- وصوت عند مصيبة}.(345/13)
المجلة الخليعة الآثمة والفيديو الهدام
ثم المجلة الخليعة التي راجت كمجلة "سيدتهم" والمجلات الأخرى التي لها أسماء لا أريد استعراضها فقد يفهمها من عاشها، ونسأل الله أن يتوب على من وقع في هذا الذنب الخطير، ولا فائدة لمن لم يعرفها؛ فإن معرفة الشر يكفي فيه الجزء.
إن هذه المجلات هدمت جيلنا، وأظلمت قلوب شبابنا، وخربت بيوتنا، وصرفت هممنا عن طريق ربنا وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
ثم مما وجد كذلك الفيديو الهدام، وما أحدثه في البيوت من إرباك، وضلالات، وسخافات، وما أحدثه من جرائم ومشكلات، فوصيتي بتقوى الله، ثم اجتناب هذا الجهاز إلا بما ينفع ويفيد في الدار الآخرة.
فهذه الأطروحات أحببت التنبيه عليها.(345/14)
خروج المرأة من بيتها بلا استئذان
مما عرض من أسئلة واستفسارات واستقراءات لأحوال كثير من النساء وجد أن في المجتمعات بعض النساء اللاتي يخرجن بلا استئذان من أزواجهن؛ متبرجات متحليات سافرات متجملات متطيبات يجلن بالأسواق، ويلهن من الله، أما علمن أن الله يراهن حين يقمن وتقلبهن في الساجدين؟ أما علمن أن الله يراقبهن؟ أما علمن أن لهن رباً سبحانه وتعالى سوف يحاسبهن يوم العرض الأكبر، نسأل الله لنا ولكن التوفيق والهداية، هذا أمر يلاحظ فاجتنبنه.(345/15)
العزوف عن الزواج عند المرأة
ثم إن هناك من المسائل التي ينبغي التنبيه عليها: أن بعض النساء أو الشابات أو الفتيات قد جمحن، ورفضن الزواج بحجج واهية، منها: مواصلة الدراسة.
ومنها: أنها لا تريد الإضرار بضرائر قبلها وشريكات.
ومنها: أنها تريد أن تختار زوجاً فيه مواصفات قد لا توجد في الناس، تريده مثلاً: زاهداً، عالماً، عابداً، حافظاً، قائماً لليل، مجاهداً، زعيماً، ولتنتظر هذه حتى يخلق إنسان بهذه المواصفات وقد لا يأتي، حتى الخضر -عليه السلام- قد لا تجتمع فيه هذه المواصفات وهذا أمر مربك.
ولو ذهب الرجل يشترط زوجة عاقلة، زاهدة، أديبة، عالمة، حافظة، ما وجد إلا من الحور العين، لا استنقاصاً في نسائنا وأخواتنا وبناتنا ففيهن الخير.
سامحن بالقليل من غير عذل ربما أقنع القليل وأرضى
فكما رضي الزوج بما يعرض بالسوق، فلترضى هي كذلك بما يعرض، فإن الله خلق لكل شيء شيئاً، وخلق لكل ضد ضداً، حتى الحديد سطا عليه مبرد.
إذا علم هذا فوصيتي لبنات الإسلام أن يعلمن أن الزواج حفظ ورعاية وحياة، وامرأة بلا زوج ما كأنها تعيش الحياة إلا ناقصة، ورجل بلا امرأة لا يذوق عيش الحياة، ولا طموحها، ولا حبها، ولذلك يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] الحب والحنان والعطف لا يأتي إلا بالزواج، بل أثر عنه صلى الله عليه وسلم في حديث لا يثبت أنه قال: {مسكين مسكين مسكين! قالوا: من يا رسول الله؟ قال: رجل بلا امرأة، مسكينة مسكينة مسكينة! قالوا: من يا رسول الله؟ قال: امرأة بلا زوج} ومن سنة الله في الحياة أن هيأ المرأة لتكون زوجة، وهيأ الرجل ليكون زوجاً، وما علمنا الصدوف عن الزواج إلا عند غلاة الصوفية يعيش أحدهم بلا زوجة وتراه يتمدح ويقول أمام الناس: ما تزوجت!
وتقول الصوفية الغالية: ما عرفت الزواج، من أين هذا؟ والرسول صلى الله عليه وسلم تزوج وسمع عن أحد الناس يتبتل يقول: ما أريد الزواج، فقال صلى الله عليه وسلم: {إني أتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني}.
وأما مواصلة الدراسة فهذا ليس بعذر، إذا أخذت المرأة قدراً يكفيها من العلم فلا بأس أن تتزوج، وإذا أرادت أن تواصل مع زوجها، فلا بأس بشرط ألا تعطلها هذه الدراسة عن حقوق الزوج، هذه أمور ينبه عليها ويتقى الله فيها.
فيا أيتها المسلمة! بادري إلى الزواج إذا تقدم الكفء المؤمن، يقول عليه الصلاة والسلام كما عند الترمذي فيما صح عنه: {إذا أتاكم من ترضون دينه وأمانته فزوجوه، وإن لم تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير}
إذا تقدم الرجل الصالح العابد الزاهد، الذي يرضى خلقة ودينه فلا يتأخر، وأظن أن الله يعاقب كثيراً من البنات بسبب رفضهن ألا يجدن زوجاً أبداً، يوم ترفض الرجل الصالح وتريد مواصفات خاصة يعاقبها سُبحَانَهُ وَتَعَالى، فلا تجد زوجاً حتى لو أعلنت في الصحف، فإنها لا تجد!!
وجد -الآن- في بعض المجتمعات أن بعض النساء -وقد رأيت بعضهن فعلاً- تعرض في الصحيفة أنها تريد زوجاً، حملت شهادة الدكتوراة، وتولت منصباً، فكانت طبيبة، أخذت مرفهات وملابس الحياة ومطاعمها، لكنها ما وجدت الزوج والحياة الزوجية، فأخذت تعلن في الصحف أنها تريد زوجاً، وفي الأخير لم تجد زوجاً؛ لأنها رفضت في شبيبتها، ولم تأخذ الفأل الذي تقدم لها، هذه أمور أحب التنبيه عليها ولو أنها من باب الذكرى فليست بغائبة عن الأذهان.(345/16)
المرأة والإسراف
أخواتي في الله عز وجل! اعلمن أن الإسراف ظاهرة شائعة عند كثير من النساء إلا من رحم ربي، إسراف في الملابس، وفي الأطعمة والأشربة، وإسراف في أثاث البيت، تريد أن تكون في كل حفلة بزي جديد ولبس جديد، أين الدين؟! وأين تقوى الله؟ وأين مراقبة الله عز وجل؟ أين مال الزوج الذي يغطي هذه التكاليف؟! بل وجد من بعض النساء الجاهلات السفيهات أنها تلزم زوجها في كل مناسبة وفي كل حفل وزواج بحلي جديد ولباس جديد، حينها يفتقر ويملق، ويغضب عليها، وتنقطع العلاقة بين الزوج والزوجة، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً} [الإسراء:27] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان:67] فالاقتصاد الاقتصاد! واعلمن أن جمال المرأة في عفافها وزهدها، وفي طاعة ربها ورضا زوجها.
فقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {إذا صلّتْ المرأة خمسها، وصامت شهرها، وأطاعت زوجها، دخلت جنة ربها} فهنيئاً لك يا أم الأبطال! ويا أم العلماء والشهداء! هنيئاً لك الصلاة، وهنيئاً لك تقوى الله، وهنيئاً لك القرآن!
إنها دعوة من القلب، وباقة ورد إلى فتاة الإسلام، أُهديها ثانية وثالثة علَّها أن تجد آذاناً صاغية، وقلوباً واعية، وعلَّها تجد من يستمع لها ويعمل بها.
لقد جاءت الذكرى، ولقد وصلت، فهل من مستجيب؟ وهل من سامع؟ وهل من عالم؟ وهل من داعية مسلمة؟
بارك الله فيكن وجمعكن في مستقر الرحمة {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55] يوم يتقبل الله منا أحسن ما عملنا ويتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.(345/17)
الأسئلة
نجيب على ما استطعنا منها والله المستعان.(345/18)
الوجه سر جمال المرأة
السؤال
انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة تهاون بعض النساء في الحجاب، حيث أصبحنا نرى المرأة حين تركب السيارة مع زوجها ترفع الحجاب، فيراها الرجال من مسافة ليست بالبعيدة، فما توجيهكم لهؤلاء النسوة علَّهن أن يستفقن ويتبن؟
الجواب
سلف في غضون الكلمة التحدث عن الحجاب، وأمره سُبحَانَهُ وَتَعَالَى بارتداء الحجاب وغض البصر، والحجاب يكون للوجه والكفين، وأما الدعوة العقيمة، والناعق الشرير الذي يوجد في المجتمعات، فإنه يقول: لا حجاب في الوجه!!!
فأي زينة تستر إذا لم يستر الوجه، أيستر القفا أو بطن الرجل أم ماذا؟ إذا لم يُستر الوجه ويُغطى فإن المسألة تصبح فوضى، هذه فتوى جاءت من واشنطن أو لندن، أما فتوى محمد صلى الله عليه وسلم فيرى أن الوجه هو سر جمال المرأة.
ولذلك فإن شعراء العرب لم يتغنوا إلا بجمال وجه المرأة، لم يتغنوا برءوس أصابعها، ولا بطول أرجلها، ولا بقفاها، بل بوجهها، يقول أحدهم:
والله لا حدثتها لو أنها كالبدر أو كالشمس أو ك المكتفي
إذا علم ذلك! فقد سلف الحديث عن الحجاب، أما حجاب التمييع والاستعراض، حجاب الدجل الخفيف الذي تبرق العينان من تحته، ويشخص الوجه، فهذا كذب، هذا مثل الفجر الكاذب الذي يجعل الناس يصومون، وهو فجر كاذب ليس بصادق، أما الفجر الصادق والحجاب الصادق فهو الذي يُغطِّي محاسن الوجه، ويغطي العينين، ولا يدخل في الحجاب البراقع، فإنها ليست من الحجاب، بل قال بعض أهل العلم: إنه أفتن للمرأة.
أما أن تخرج عيناها مسمومتين ناظرتين من تحت البراقع؛ فهذا ليس بحجاب بل هو تمويه.(345/19)
ثلاث وصايا للمرأة المسلمة
السؤال
ما الذي توصي به المرأة المسلمة في بيتها؟
الجواب
المرأة المسلمة -في العموم- لن تُقصِّر في الطبخ، والفرش، والحلي والزهور، والموائد، والمشهيات والمرطبات، والمسهرات، والعطورات، كل هذا موجود -والحمد لله- إنما القصور كل القصور، في تربية الجيل، وفي حقوق الزوج، وفي تقوى الله في البيت، لذلك أوصيها بثلاث وصايا:
أولاها: تقوى الله في البيت، بأن تجعل البيت بيتاً إسلامياً قرآنياً، يعيش على السنة والحديث، بيتاً يُربَّى فيه الأجيال، ويخرج منه طلبة العلم والعلماء.
ثانيها: أن تتقي الله في زوجها، فتكرمه، وتحترمه، وتطيعه في طاعة الله، وتحفظه بظهر الغيب في ماله وفي عرضها.
ثالثها: أوصيها أن تكون داعية في بيتها، تستقبل المؤمنات، وتنثر عليهن الآيات، وتقودهن إلى رضا رب الأرض والسماوات، وتضعيف الحسنات واجتناب السيئات.
تكون داعية تنطلق إلى جارتها وهي تحمل الدعوة الإسلامية، فتحمل آية أو حديثاً أو سيرة أو قصة، أو كتيباً أو شريطاً إسلامياً، تدعوها إلى ترك الغيبة والنميمة والسفور وما في حكم ذلك والله ولي التوفيق.(345/20)
حكم اقتناء مجلات الأزياء
السؤال
ما موقف المرأة أمام مجلات الأزياء؟
الجواب
هذه من الشكوى والمرض المزمن، إذا كانت هذه المجلات الموجودة، في الأسواق، في السوبر ماركت، أو في غيرها من المجامع، أو المكتبات اللاهية اللاغية، مجلات تحمل الأزياء، وتحمل الفتاة العارية، فهي شر مستطير، حتى إنه وجد من النساء من أخذت هذه المجلة إلى بيتها بحجة أنها سوف تجعل هذا مقاساً لزيها، ولفستانها، ولثوبها، ولقميصها، وهذا شر مستطير، معناه: تربية الأبناء على النظر إلى هذا الفحش والعري الذي يُغضب الله والملائكة تخرج من البيت، فالملائكة لا تدخل بيتاً فيه صورة، فكيف إذا كانت عارية، فإن الله يغضب وتُنزع البركة.
وإن هذه المرأة تكون سبباً في الجريمة والزنا وانتشار الفاحشة في المجتمعات، وأنها تعين على تسهيل الجريمة الكبرى، وتساعد الشباب المراهقين من الرجال على التقحم في المعصية، يوم يرى صباحاً ومساءً هذه الصورة العارية.
لماذا تعرض هذه اللحوم؟ ولماذا تقدم صورة امرأة من الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر أو ليس في قلوبهم إيمان؟! فلتتقي الله المرأة في هذه المجلات؛ فتقاطعها، وتهجرها، وتضيق عليها، وتندد بها، وتحاول أن تحاصرها بالكلمة والتنديد والاستنكار.(345/21)
رفقاً بالقوارير
السؤال
نسمع من أدعياء تحرير المرأة: أن المرأة لا بد لها أن تخرج للعمل وتتوظف، ونحن نقول: إن كان الرجال يصنعون في المصانع ويعملون في المعامل، فإن المرأة هي صانعة الرجال، ومربية الأجيال، ولكن -وللأسف- فكثير من النساء لا تفقه هذا الدور، ولا تقوم على تربية أبنائها التربية الإسلامية، فهل من نصيحة في هذا الموضوع؟
الجواب
هذه السائلة سألت وأجابت، وهو سؤال عبارة عن محاضرة مصغرة!
أما قولها: إن المرأة مربية الرجال؟ فصدقت وما أتى بـ خالد بن الوليد إلا امرأة، وما أتى بـ أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحسان، ومعاذ، وسعد بن معاذ إلا امرأة، فاتحو الدنيا علماء المعمورة شهداء الإسلام هم أبناء النساء، فحيا الله المرأة يوم تخرج الرجال، وتُربِّي الأبطال، وتُعلِّم العلماء والأدباء، وتنجب الشهداء، ولا حيَّاها الله يوم تكون سافرة في الأسواق، خادمة في الأماكن والمطاعم والفنادق وفي كل مكان تلمحها العيون، وتتبذلها الأيدي، وتنتهكها القيم، ما هذه الحياة؟!
الإسلام جعل المرأة درة مصونة ولم يجعلها منشفة للأيدي، أو وردة تشم وتعك في كل مكان، بل جعلها درة مصونة محمية عن العيون، محببة إلى النفوس، كالشمس تنظر ولكنها لا تنال، هذه هي المرأة في الإسلام، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: {رفقاً بالقوارير} رفقاً بهن في العمل والخدمة، ورفقاً بهن في كل شئون الحياة، هي امرأة ضعيفة لا تصلح إلا للبيت، عاطفة جياشة تصلح لتربية الأبناء، وتصلح أن تكون وراء الستار، تكون درة في صدف، أما أن تصارع العمال في المصانع، وتتحدث مع كل عامل رعديد وكل فاجر؛ فهذا ليس بصحيح.
الآن الاستقراءات التي في الساحة مثل ما يكتب كريسي مريسون الأمريكي عن المرأة، وكتابة كارنيجي الأمريكي الآخر المجرم؛ الذي ينظر إلى المرأة أنها لا بد لها أن تشارك الرجل، فنسألهم: متى شاركت المرأة الرجل في العالم؟ شاركت المرأة الرجل في العالم بعد الحرب العالمية الثانية يوم سحق الرجال، واحتاج الأمريكان إلى النساء، فزجوا بهن في المصانع، فأصبحت تهرول الفتاة الصباح كالعامل أو كالحمار، تهرول إلى مصنعها ولا تعود إلا في الظهيرة، وقد قسا قلبها وضاع عرضها، وذهب جمالها وعفافها.
شاركت في الصين في عهد ينج شاركت في الحروب، وحملت السلاح وما كان لها أن تحمل السلاح، والرسول صلى الله عليه وسلم أخبر أنها لا تقاتل، وأنها ضعيفة ومسكينة، كل الناس يعرفون ذلك حتى أن لينين الخبيث الملحد الملعون يعرف أن المرأة لا تنفع، ولذلك أراد انتزاعها من المصنع في موسكو ولكنها دخلت المصنع، فأراد دعاة تحرير المرأة أو تخريب المرأة في الشرق أن ينحوا بالمرأة منحا أمريكا، والصين، وموسكو وهذا خطأ {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة:50].(345/22)
التحاق المرأة بمدارس التحفيظ
السؤال
مدارس تحفيظ القرآن الكريم الخاصة بالنساء كثيرة -ولله الحمد- فهل من نصيحة تُوجه للأخوات في استثمار أوقات فراغهن بذلك من الالتحاق بهذه المدارس مع المسلمات؟
الجواب
نعم.
دعوة طيبة مجيدة وحارة ومخلصة، وأتضامن مع صاحبة هذه الدعوة جزاها الله خيراً، وهل بيت المرأة إلا في الدراسة والتعليم؟ وهل بيتها إلا في جلوسها مع أخواتها في حفظ كتاب الله عز وجل؟ أما قصص عجائز نيسابور، وخدمة البربر، وفلانة فعلت، وفلانة طلقت وتزوجت، وفلانة صنعت وفعلت ومرضت، فهذه قد انتهت، وعفا عليها الزمن، نعم! هي تناسب عجائز نيسابور كما أسلفت، وليست من رسالة محمد صلى الله عليه وسلم.
كل دقيقة تمر على المرأة لا بد أن تستثمرها في حفظ القرآن، يوجد في مجتمعاتنا كثير من العجائز تحفظ من القصص ما لا نهاية لها ولا بداية، وهي قصص خيالية لا أساس لها من الصحة، فلو وجهت هذه الطاقة في حفظ كتاب الله وحفظ الأحاديث والسيرة المطهرة لكان أجدى وأروع، وأنفع وأحسن، بارك الله في الجهود.
ولا زلت أكرر أن هذه المجالس لا بد أن تنتشر، ولا بد من حافظات واعيات مدرسات ينشرن الفضيلة وينشرن العلم في البيوت، ويكن قدوة صالحة، لأن دعاة تخريب المرأة يقولون: إن المرأة أصبحت عندكم جاهلة أمية، نحن نقول: لا، عندنا المرأة الآن عالمة، وعندنا عالمات فقيهات زاهدات، ينادين بالدعوة والإصلاح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.(345/23)
الدعوة عامة للرجال والنساء
السؤال
هل على المرأة من دعوة أم هي خاصة بالرجال؟ وهل يلزم من الدعوة أن تبلغ المرأة درجة من العلم أم يكفي ما تعلمته؟
الجواب
أولاً المرأة داعية في النساء ليس في الرجال، فلا يلزمها أن تتصل بالتلفون بالناس صباح مساء تدعوهم إلى طاعة الله، حنانيك بيتك، وطاعتك، وأخواتك، وأبناء جنسك، أما الفتيان والرجال فلهم دعاة قد كفوك الأمر، فأنت ميدانك أخواتك وقريباتك في دعوتهن إلى الله، فإنهن يستمعن منك، ويتقين الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إذا سمعن الكلام الطيب، والمرأة تؤثر في المرأة، والمرأة تسمع من المرأة؛ لأن المرأة تعيش آمال المرأة، وطموحها وإيمانها، فعليكِ أن تكوني داعية، ولا يلزم من المرأة دائماً أن تكون محاضرة، أو خطيبة، لها أن تستصحب كتيباً أو شريطاً إسلامياً، أو تحفظ كلمة أو تؤثر بعملها.
أما قول السائلة: هل يلزم من الداعية أن تبلغ منزلة من العلم؟ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: {بلغوا عني ولو آية} حدها آية واحدة، أما أن نقول: لابد أن تكون كالفقيهة فاطمة بنت أحمد أو زينب بنت سعيد بن المسيب أو فلانة أو فلانة فلا، لا يوجد هذا، إلا نادراً، لكن عليها تبلغ ما معها، إن حفظت الفاتحة، فتبلغ الفاتحة، وإذا أجادت التحيات فعليها أن تعلم التحيات {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ} [البقرة:60] ولعل الله يدخل المرأة المسلمة بتعليمها الفاتحة الجنة ببنات جنسها وأخواتها وعماتها وقريباتها، هذا أمر لا يفوت.(345/24)
حكم مخالطة المرأة للأجنبي
السؤال
يوجد تساهل عند بعض النساء في مرافقة بعض السائقين الأجانب والركوب معهم، فما هو حكم ذلك؟
الجواب
السائقون سواء، كل السائقين أجانب، سواء أكانوا سعوديين، أو فلبينيين، أو كوريين، أو من أي مكان كانوا، والخطأ كل الخطأ أن تركب معه وحدها، وأن تمشي معه بلا محرم، معنى ذلك: أنها هتكت ستر الله واستوجبت غضبه ولعنته، ووصيتي للأخت المسلمة أن تتقي الله في عرضها.
ومن هذه الظاهرة أنها -مثلاً- تذهب إلى صلاة الفريضة أو التراويح فترافق السائق، لقد اكتسبت من الوزر، والإثم، والذنب أعظم مما تحصل من الأجر في صلاة التراويح، فما هذا الفقه؟! ترافق سائقاً لا تدري عن دينه وأمانته، قد يكون زنديقاً أو مجوسياً أو ماسونياً عميلاً، هذا رجل ليس بمحرم لها فلتتقي الله في ذلك.(345/25)
دعوة المرأة زوجها في بيتها
السؤال
يرفض زوجي وأولادي الامتناع عندما أمنعهم من سماع الأغاني، وتحدث مشاكل بيننا، كذلك هل أتخلص من أشرطة الغناء التي في المنزل مع احتمال حدوث مشاكل بيني وبين زوجي؟
الجواب
الدعوة تكون بالحكمة قال تعالى: {فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه:44] قال سبحانه: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159] وقال: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل:125] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} [يوسف:108] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت:33] ويقول عن دعوة النبي صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة:128] ويقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في رسوله في رقته ودعوته وحبه، يقول: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4].
فيا أختي! لا تبدئين بمجابهة من أول الطريق، لكن خذي الأمر بليونة يوماً بعد يوم، وكلمة بعد كلمة، علَّ الله أن يهدي، وعلَّ القلوب أن تلين، وعلَّ الأمور أن تتضح، وأدخلي الشريط الإسلامي والكتاب الإسلامي، أشرطة القرآن، والمحاضرات، والدروس، هذا الذي ينفع، فإنها سوف تكون بديلاً بإذن الله.(345/26)
حكم المحادثة الهاتفية مع المخطوبة
السؤال
ما حكم المحادثات الهاتفية بين الخطيب وخطيبته وهو لم يعقد عليها بعد؟
الجواب
أما في حدود استفسار من بعض الأسئلة للضرورة فلا بأس أن يسألها ولو قبل العقد، بشرط ألا يكون هناك ريبة ولا تهمة، يسألها -مثلاً- في بعض الأمور التي يتفق عليها هو وإياها، مكالمة واحدة فلا بأس، كالحياة الزوجية بينهما، ومواصلة الدراسة، واكتشاف رأيها في بعض الأمور المعيشية، وأما غيرها من المكالمات فلا تجوز قبل العقد، إنما مكالمة للضرورة من باب النظر الذي رخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما رخص فيه لحكمة، وكذلك المكالمة.
وقد كان السلف يكلمون النساء من وراء حجاب، والله تعالى يقول: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً} [الأحزاب:32] فمعنى ذلك: أن تتكلم، لكن لا بخشونة، ولا بميوعة فيطمع الفاجر فيها.
وأخيراً: سلام الله عليكن، وأسعد الله أوقاتكن، وإلى لقاء ومجلس آخر، ومسيرة أخرى إلى جنة عرضها السماوات والأرض.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(345/27)
الرجل الممتاز
من هو هذا الرجل الممتاز؟
إنه عمر بن الخطاب تلك الشخصية العظيمة، وكم هي عظيمة مواقف عمر بن الخطاب.
من يبلغ منزلته في عدله، وذكائه، وخشيته لله وقوته، وحبه للمصطفى صلى الله عليه وسلم، وإخلاصه، وصدقه(346/1)
شائعة تطليق النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته،،
معنا في هذا الدرس جلسة طيبة بإذن الله، ومجلس مبارك بعون الله مع أصحاب رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، مع الذين فتحوا الدنيا، مع الذين بذلوا دماءهم وأموالهم رخيصة في سبيل الله، واشتروا رضوان الله وجنة عرضها السماوات والأرض بكلمة لا إله إلا الله، مع الذين صدقوا الله فصدقهم الله سُبحَانَهُ وَتَعَالى {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} [الفتح:18].
اتفق الشيخان واللفظ للبخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سافرت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه يحدث بالقصة مكة، فبينما نحن في الطريق عدل رضي الله عنه وأرضاه يقضي حاجته، فقال: اتبعني بماء أتوضأ به، قال: فحملت إداوة ولحقته، فلما انتهى من قضاء حاجته أخذت أصب عليه ثم سألته قلت: يا أمير المؤمنين!! من هما المرأتان اللتان أنزل الله فيهما: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4]
قال عمر: عجباً لك يا بن عباس!
قال الزهري: كره عمر سؤال ابن عباس وكره أن يكتم العلم الذي أعطاه الله إياه.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: ثم اندفع عمر رضي الله عنه وأرضاه وقال: لما قدمنا المدينة مهاجرين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نزلت في عوالي المدينة عند رجل من الأنصار؛ وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يؤاخي بين المهاجرين الأنصار.
قال عمر: فنزلت في العوالي عند أخٍ لي من الأنصار، فكنت أتناوب وإياه النزول إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة.
أي: هذا ينزل ليلة وهذا ليلة وهكذا
لأنهم كانوا يكدحون وسوف يأتي مجمل الحديث، قال: فنزل صاحبي في الليلة التي بقيت فيها، وكنا نتحدث أن غسان -قبيلة من القبائل العربية بـ الشام - تريد أن تغزو المدينة، قال: فقدم صاحبي علي في الليل فطرق الباب طرقاً شديداً، وضربه ضرباً، فقلت: ماذا حدث؟
قال: حدث أمر عظيم.
قال عمر: أغزت غسان المدينة المنورة؟
قال صاحبي: لا، أمر عظيم.
قلت: ما هو؟
قال: طلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه.
فقال عمر: الله أكبر.
ثم قال: ويحاً لـ حفصة، أما نهيتها عن معاندته صلى الله عليه وسلم حتى وقع ما وقع، ولكن عمر كان صبوراً وحازماً وكان صارماً رضي الله عنه كالجبل.
قال عمر: فأخذت علي ثيابي، ثم أخذت حذائي فلبستها فنزلت فصليت الصبح.
انظر ما أحسن سياق القصة! وما أحسن هذا التصرف الحكيم من عمر رضي الله عنه وأرضاه! لم يأتِ وسط الليل يسأل الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن تركه حتى صلى الصبح.
قال: ثم أتيت مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فوجدت الناس يبكون حول المنبر؛ وذلك لأنهم سمعوا بالخبر، وهم يعيشون أحداث الرسول عليه الصلاة والسلام وقضاياه.
قال: فقلت للناس: أطلق الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه؟ قالوا: لا ندري.(346/2)
عمر يستأذن للدخول على النبي صلى الله عليه وسلم
قال: فذهبت إلى حفصة في بيتها فدخلت عليها فوجدتها تبكي.
فقد أتاها الخبر ولكن ما تثبتت منه فقلت: أطلقك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: لا أدري.
قلت: أين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قالت: هو في المشربة قال: فانطلقت فإذا على المشربة غلام أسود يحرس رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: استأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فذهب فاستأذن فلم يأذن؛ فرجع الغلام فقلت: أستأذنت لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
قال: نعم، حدثته أنك بالباب فلم يرد علي كلاماً.
قال: فذهبت إلى المسجد وغلبني ما أجده في صدري فعدت فقلت للغلام: استأذن لي؛ فاستأذن مرة ثانية فلم يأذن له.
قلت للغلام: أستأذنت لي؟ قال: نعم، ولكنه لم يرد عليَّ جواباً.
قال: فذهبت إلى المسجد.
انظر إلى هذا الصابر والجبل العظيم والعملاق، سوف يتحدث في مناظرة شفوية حارة مع الرسول صلى الله عليه وسلم عن السبب، وما هو الداعي، وسوف يكون من صف الرسول صلى الله عليه وسلم لا من صف ابنته؛ لأن بعض الناس إذا طلقت ابنته؛ قام معها ظالمة كانت أو مظلومة، شاكية أو مشكوة، والله يقول: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] يعني حفصة وعائشة.
كأنه يقول: لا تنخدعا، لا تظنا أن أبا بكر وعمر سوف يكونا في صفيكما؛ بل سيكونا مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال: فرجعت مرة ثالثة، وقلت للغلام: استأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فاستأذن فقال: دعه يدخل.
قال عمر: فتسلقت درجة المشربة -درجة من عود منحوتة تصل إلى المشربة- قال: فدخلت إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع وقد أثر الحصير في جنبه -لأنه لم يكن بينه وبين الحصير الذي هو من خصف النخل وطاء ولا غطاء- قال: فلما رآني صلى الله عليه وسلم تربع في مجلسه، فعرفت الغضب في وجهه، فجلس صلى الله عليه وسلم؛ لأنه كان حساساً، وكان يتأثر بالمثيرات فتظهر في وجهه صلى الله عليه وسلم.
كان المنكر يظهر في وجهه، وكان سيما البشريات تظهر في وجهه، تقول عائشة: [[إذا سر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأسارير وجهه كانت تبرق كالعارض البارق]] أي: كالبرق إذا عرض، ولذلك قالت: كنت أتذكر قول أبي كاهل يوم قال:
وإذا أستسر ترى أسرة وجهه برقت كبرق العارض المتهلل(346/3)
عمر يتأكد من الخبر
قال عمر: فتربع في مجلسه، فأراد عمر أن يدخل بالدعابة إلى قلب الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يتكلم معه.
بماذا يدخل من المزح حتى يتبسم صلى الله عليه وسلم؟ اسمع ماذا يقول فاروق الإسلام أبو حفص، الذي دكَّ دولة الباطل وإمبراطورية كسرى وقيصر، والذي كان كما يقول الأول:
يا من يرى عمراً تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقاً من خوفه وملوك الروم تخشاه
قال: يا رسول الله! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم.
قال: لو رأيتنا كنا رجالاً -يقصد قريشاً- تخافنا النساء ونحن في بكة، فقدمنا إلى أناس في المدينة فوجدنا نساءهم تخيفهم، فأصبحنا نخاف النساء، لو رأيت بنت زيد -يقصد عاتكة زوجته- تطلبني النفقة يا رسول الله -رجل مهاجر فقير مسكين ليس عنده ما يتغدى منه ويتعشى، وهي تطلب الحلي الذهب والفضة- تطلبني النفقة يا رسول الله وتغاضبني؛ فتبسم صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: أضحك الله سنك يا رسول الله، ثم جلس.
كان ذلك الكلام توطئة، فلما تبسَّم صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه.
انظر إلى الحكمة! وإلى الدخول إلى قلوب العظماء والزعماء والقادة!
فلما جلس قال: فنظرت فإذا أثر الحصير في جنبه صلى الله عليه وسلم.
قال: فلمحت المشربة، والله ما رأيت شيئاً يرد البصر إلا شيئاً من شعير كان معلقاً في جانب البيت، فدمعت عيناي.
من قال من المؤرخين: إن عين عمر سوف تدمع لولا الإسلام؟
ومن قال: إن قلبه سوف يرق لولا (لا إله إلا الله)
ومن قال: إن روحه سوف تلين برهة من الدهر لولا عظمة هذا الدين، كان لا يعرف الدمعة من الرحمة، ولا يعرف اللين، ولا المسامحة، إنه رجل عملاق؛ ولذلك جعلته قريش السفير لها مع قبائل العرب، فهو الواجهة العظمى التي لا تلين، وكان الناس يخافونه.
لكن لما دخلت لا إله إلا الله في هذا القلب الكبير؛ أصبح يتأثر تأثراً عظيماً، من يصدق أنه يصعد المنبر يوم الجمعة، فينقطع صوته من البكاء على المنبر؟!
ومن يصدق أنه يرى الأثر الذي يثير الخشية فيبكي؟!
فلما رأى حفنة الشعير ورأى الحصير يؤثر في جنب المصطفى صلى الله عليه وسلم، يا عجباً ألا يجد اللحم!
ألا يجد الخبز!
ألا يجد اللذائذ والطبيات، والفواكه والخضروات!!
فلماذا يجدها كسرى وقيصر؟!
وتدمع عيناه رضي الله عنه؛ فيلتفت صلى الله عليه وسلم ويقول: ما لك يـ ابن الخطاب؟
فقال عمر: يتنبأ بالأحداث، وأنه سوف يدكدك بقدميه تلك الدولتين الظالمتين- قال: يا رسول الله كسرى وقيصر وهما ما هما -أي: أعداء الله- وهما في العيش الرغيد، وأنت رسول الله وأحب الناس إلى الله، وأنت في هذا الحال! فجلس صلى الله عليه وسلم مستوفزاً، وقال: أفي شك أنت يـ ابن الخطاب؟ أي: أفي شك من عدل الله؟ أو في شك من ميزان الله في الأرض؟ أوفي شك من رسالة الله؟ أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أما ترضى أن تكون لنا الآخرة ولهم الدنيا، أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم.(346/4)
النبي صلى الله عليه وسلم ينفي هذه الشائعة
ثم أتى عمر فقال: يا رسول الله أطلقت نساءك؟ قال: لا.
قال عمر: الله أكبر!
ارتاح وهدأ باله وارتاح ضميره؛ لأنه لا يريد أن يخسر بنته من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويريد أن يأتي يوم القيامة وصهره ورحيمه هو رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، ويريد إذا دخل الجنة أن يزور رحيمه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم
فخرج عمر رضي الله عنه إلى الناس وبشرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطلق نساءه، وإنما حلف ألا يدخل عليهن شهراً كاملاً، فلما انقضت تسعة وعشرون يوماً؛ نزل صلى الله عليه وسلم فطاف على نسائه، وبدأ بـ عائشة فقالت عائشة: يا رسول الله، بقي ليلة، الشهر ثلاثون يوماً، قال صلى الله عليه وسلم: لا، الشهر تسعة وعشرون يوماً.
ولذلك يقول: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا وهكذا} يعني أمة ذكية بليغة، عبقريتها مستوحاة من الصحراء، فنحن لا نعرف الجبر ولا الهندسة ولا نعرف الجمع ولا الطرح وإنما نحسب هكذا، ثم نزل صلى الله عليه وسلم وقد آلى من نسائه ثم عاد.
هذا مجمل الحديث أو نحو هذا أو شبه هذا، ونستغفر الله إن زدنا أو نقصنا، لكن هذا الحديث أو نحوه هو الذي أورده البخاري ومسلم وغيرهما من أصحاب السنن والمسانيد.(346/5)
من فوائد حديث هجر النبي صلى الله عليه وسلم لزوجاته
وفي هذا الحديث مسائل:(346/6)
الحرص على طلب العلم
حرص ابن عباس على طلب العلم؛ ولذلك قال عنه ابن تيمية: أما ابن عباس فعلمه كالبحر {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4] لكنه لقي أعلم منه وهو عمر بن الخطاب فأصبح ذرة صادفت جبلاً، فأعلم الناس في هذه الأمة أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي، ولذلك طرح سؤال في كتاب المنطق لـ ابن تيمية المجلد التاسع يقول: يدعي بعض المتأخرين أنهم لكثرة معلوماتهم في أصول الفقه وعلم المنطق وعلم المساحة والفلسفة وعلم الكلام، يظنون أنهم أعلم من أبي بكر وعمر! هذا وسواس ورد إلى بعض الناس، لأن أبا بكر وعمر ما كانا يعرفان المنطق، ولا علم الكلام ولا الفلسفة، فأتى ابن تيمية يرد برد قوي جازم قال: كذب أفراخ الفلسفة وأفراخ علم الكلام وأفراخ النصارى واليهود، بل أعلم الناس وأتقاهم وأخشاهم وأصدقهم -وكلاماً نحو هذا- أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي فـ أبو بكر، وعمر من أعلم الناس.
فلما أتى ابن عباس وسافر مع عمر أخذها فرصة أن يتعلم من هذا الرجل الملهم، والبحر الخضم، الذي تنساح وتنداح الفوائد من على لسانه ومن جنباته كالدرر من البحر، أو كمكنوزات الجواهر من كنوزها.(346/7)
فضل عمر رضي الله عنه وكراماته
عمر رضي الله عنه فاق الناس بعلمين اثنين: علم النظر وعلم الإلهام، علم النظر: هو الحاصل المحصل بالتحصيل، والأسئلة من الرسول صلى الله عليه وسلم.
والعلم الآخر: علم الإلهام الذي ألهمه الله عز وجل، فإنه يقول عليه الصلاة والسلام فيما صح عنه: {لو كان بعدي نبي لكان عمر بن الخطاب} وفي لفظ آخر: {لو بعث بعدي نبي لبعث عمر بن الخطاب} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إن يكن منكم محدثون فإنه عمر بن الخطاب} وقال علي رضي الله عنه وأرضاه: [[كنا نتحدث أن السكينة تنطق على لسان عمر]] وقال ابن عمر رضي الله عنهما: [[ما كنا نبعد أن السكنية كانت تنطق على لسان عمر رضي الله عنه وأرضاه]] والسبب:-
أولاً: الإخلاص والصدق مع الله قال الله: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت:69]
فلما علم الله صدقه وإخلاصه وإنابته وعبوديته؛ رزقه الله الإلهام فكان يفيض عليه العلم فيضاً.
وفي صحيح البخاري قال صلى الله عليه وسلم: {رأيت البارحة كأني أتيت بقدح من لبن فشربت منه، حتى رأيت الري يدخل في أظفاري قال: ثم أعطيت فضلتي عمر بن الخطاب، قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: العلم} ويقول في حديث آخر في البخاري: {رأيت في المنام الناس يعرضون علي وعليهم قمص منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما دون ذلك، وعرض علي عمر بن الخطاب وعليه قميص يجره في الأرض قالوا: ما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: الدين} فكان من أعظم الناس ديناً وعلماً.
رجل ملهم كان يتحدث بالكلام فيأتي كما يتحدث بإذن الله، ينطق والسكينة عليه، يقول مثلاً: ليت الله أنزل لنا في الخمر شيئاً شافياً، فأنزل الله في الخمر شيئاً، ويقول: لو حجبت نساءك يا رسول الله، وبعدها بأيام ينزل الحجاب، ويقول: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى في الحرم، فأنزل الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} [البقرة:125].
أصبح إنساناً يتحرك بنور من الله عز وجل، يخطب المسلمين يوم الجمعة والصفوف وراءه، وعظماء الإسلام وقواده وزعماؤه بين يديه، وفجأة يقطع الخطبة مباشرة وينادي في المسجد: يا ساريةُ الجبل، يا ساريةُ الجبل، يا سارية الجبل.
فينزل وينتهي من الصلاة فيقول الصحابة: ما لك يا أمير المؤمنين، ماذا حدث؟ قال: كشف الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى لي فرأيت سارية -قائد من القواد أرسله في جنوب إيران ليقاتل أعداء الله عز وجل- فأحاط به الأعداء من كل جانب وقت صلاة الجمعة وعمر على المنبر في المدينة، فكشف الله الغطاء لـ عمر كرامة من كرامات الأولياء، فرأى سارية وهو يحاصر من كل جانب فيناديه عمر ويقول: التجئ بعد الله بالجبل.
فيسمع سارية صوت عمر وهمسات عمر ونداء عمر، فيأتي ويلتجئ بإذن الله إلى الجبل فيعصمه الله ذاك اليوم! فيأتي سارية بعد أن انتصر فقال له المسلمون: أحدث لكم شيء؟ قال: كدنا نهلك في يوم كذا يوم الجمعة، فسمعت صوت عمر الذي لا أنكره وهو يقول: يا سارية الجبل؛ فالتجأت إلى الجبل فعصمني الله.
هذا سند صحيح رواه صاحب تاريخ داريا.
فـ عمر رضي الله عنه يكشف الله له؛ لأنه صادق مع الله، وقد علم الله سريرته، وعلم أنه يريد الخير لهذا الدين، وهو يتكلم من اعتزازٍ قوة؛ فأعطاه الله القوة والاعتزاز؛ ولذلك فالمهزوم في داخل نفسه لا يمكن أن تستفيد منه شيئاً؛ الذي لا يعتز بالإسلام، ولا يعتز بالسنة، ولا بالاستقامة إنسان مهزوم، فاشل في الحياة، فكيف تطلب الماء من الظمآن؟! وكيف تطلب الشبع من الجائع؟! هذا إنسان ولو صلى وصام لكن لا يعتز بالإسلام، لا يعتز بالرسالة الخالدة.
عجباً الأمريكي يعتز بـ النصرانية المحرفة، واليهودي ابن القرد والخنزير يعتز بـ اليهودية المحرفة، والشيوعي البلشفي يعتز بـ الشيوعية، والمسلم الذي بعثه الله للناس كما بعث رسوله صلى الله عليه وسلم في أمة رائدة خالدة خاتمة لا يعتز بالإسلام! كيف لا نعتز بهذا الدين كما اعتز به عمر رضي الله عنه وأرضاه، وصلى الله وسلم على صاحب الدعوة وعلى آله وصحبه.
يأتي عمر ليفتح بيت المقدس فيلبسه بعض الصحابة بعض اللباس الجميل حتى يظهر أمام الأحبار والرهبان بمظهر جميل، ويستعرض الصحابة القواد، وتستعرض الجيوش أمامه والخيول والفرسان، فيخلع لباسه ويلبس بردته الممزقة التي فيها أربع عشرة رقعة، ويأخذ عصاه ويقول للجيوش: [[انصرفوا عني، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله]].
نحن قوم بنينا ثقافتنا وحضارتنا ودولتنا ومعرفتنا من (لا إله إلا الله) أي: لولا (لا إله إلا الله) ما كانت لنا حضارة ولا ثقافة ولا معرفة، فالآن تريدون أن نتزين للناس ونتجمل بالأرض، فلما علم الله أنه يريد نصرة هذا الدين عزه عزاً ما بعده عز، ولذلك يذكر في كل مجلس، وفي كل دولة، وكل مقاطعة، وإقليم، وعرفه الناس كافة مؤمنهم وكافرهم، ويهوديهم ونصرانيهم وشيوعيهم: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة:4].(346/8)
سبب قلة مرويات عمر مع وفور علمه
فـ ابن عباس سأل عمر عن هذا، فأخبره عمر رضي الله عنه.
ولسائل أن يقول: كيف تقول أن عمر أعلم من ابن عباس وأحاديث ابن عباس أضعاف مضاعفة على أحاديث عمر؟ أقول: نعم.
أحاديث ابن عباس من ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف حديث، ولـ عمر ما يقارب من سبعمائة حديث أو نحو هذا في السنن والمسانيد التي جمعت فكيف يكون أعلم؟
والسؤال الثاني: كيف تقول: إن عمر أعلم من ابن عباس، وابن عباس تكلم في جل آيات التفسير وعمر لم يتكلم إلا في آيات معدودة؟
و
الجواب
أن يقال إن عمر أعلم بلا شك، لكن شغله عن الرواية الخلافة والإدارة والسياسة، كان رجلاً إدارياً من الدرجة الأولى، والعجيب أنه قد كتب عن حياته كتاب إنجليزيون وفرنسيون وأمريكان؛ ألفوا في سياسته وإدارته وعلم الاجتماع عنده وعلم العمران؛ لأنه رجل فذ، هو الذي دون الدواوين وجند الجيوش، وأسس الأسس، وسن للدولة الإسلامية على سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم معالم خالدة، فشغل بهذا الأمر فأصبحت روايته قليلة، فهذا من جانب.
ومسألة الحرص على طلب العلم من أعظم خصال المؤمن، وإذا رأيت المؤمن يحرص على طلب العلم والتفقه في الدين، فاعلم أن الله أراد به خيراً قال صلى الله عليه وسلم: {من يرد الله به خيراً يفقه في الدين} متفق عليه.
والذي لا يريد الله به خيراً لا يفقهه في الدين، يعيش هملاً سواء استفاد أم لم يستفد، عرف شيئاً من القرآن أم لم يعرف، تدبر السنة أم لم يتدبرها، حصل على فائدة أم لم يحصل عليها، فالأمر عنده سيان، فإرادة الله للعبد الخيّر هو أن يفقهه في الدين.(346/9)
الرحلة في طلب العلم
موسى عليه السلام؛ رسول المناظرة وأستاذ العقيدة الذي وقف في أعظم المواقف مع فرعون، يقف في بني إسرائيل خطيباً فينطق بالحكمة، ويسمعون الموعظة الحسنة وهي تنساب على لسانه فيقول بنو إسرائيل: أتعلم يا موسى أن الله خلق أعلم منك؟ فيقول: لا.
وصدق عليه السلام، هو نبي وعنده رسالة، والتوراة كتبها الله بيده وأعطاها موسى، فهو لا يعلم أعلم منه؛ فأوحى الله إليه أن عبدي الخضر بأرض كذا هو أعلم منك.
قالوا: في العلم الباطن أما علم الظاهر فأنت أعلم.
لماذا؟ ليتواضع أولاً- وهو متواضع عليه السلام- والأمر الثاني: ليطلب العلم ويحرص عليه.
وقد عقد البخاري في كتاب العلم باب (الرحلة في طلب العلم) ثم أتى برحلة موسى إلى الخضر عليهما السلام، فارتحل وطلب العلم، وانظر إلى قول موسى لفتاه وهو يقدم له السمك وقت الغداء بعد أن تعب وارتاح وبدأ يتأوه وعرقه يتصبب وهو يقول: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62]
يعني: تعبنا في هذا السفر، ولذلك يقول: {أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً} [الكهف:60]
يقول: سوف أسافر في طلب العلم أياماً أو سنوات حتى أصل، فلما وصل إلى الخضر عليه السلام بدأ معه، وموسى فيه جرأة وشجاعة وصراحة، وكان عمر بن الخطاب يشبه موسى عليه السلام، وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: {أما أنت يا عمر فأشبهت موسى عليه السلام} فهو صريح.
ولذلك لما ركب مع الخضر في السفينة ركب كالتلميذ، لكن الخضر اشترط عليه ألا يتكلم في القضايا، يعني: يصبر قليلاً ولا يناقشه في الأسئلة، لكن لما خرب ذاك السفينة قفز موسى عليه السلام قال: {أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا} [الكهف:71] التلميذ يقول للشيخ: {لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً} [الكهف:74].
ثم لما قتل الغلام قال: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف:74] وقبل سامحه الخضر يقول له أول مرة: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:72]
وبعدها يقول: {أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} [الكهف:75] فزاد (لك) هنا تأكيداً له.
وفي الثالثة جاءا جائعين ساهرين متعبين فينزلان في قرية، فيسألان أهل القرية أن يضيفوهما ببعض الطعام، فرفضوا، شد الله على قلوبهم البخل، نظر في الجيران فلم يجد جاراً ولا أخاً ولا صاحباً، فلما تركوهم ذهب الخضر وقال لموسى: تعال نبني هذا الجدار.
قال: سبحان الله! قوم لم يضيفونا وتريد أن تبني جدارهم؟! ركبنا مع صاحب السفينة وتخرق السفينة وكان أولى بالمعروف، ومررنا بغلام من الصبيان فقتلته، والآن هؤلاء طردونا وتريد أن تبني جدارهم؟! فقال الخضر قبل أن يتكلم: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف:78] لا أتحمل إلى هذا المستوى، يعني: أنا في جدال وفي نقاش حتى هذه اللحظة، أنا أريد تلميذاً لا يسأل؛ ولذلك غلاة الصوفية يقولون: لا يفلح التلميذ إذا قال لشيخه: لماذا تفعل كذا أو لماذا تقول كذا.
قال الذهبي: [[والله يفلح ثم يفلح والسلام]] يفلح عشرين مرة، لأن هذا الدين ليس إلغاءً للعقل كـ النصرانية بل لك أن تناقش ولكن بأدب، ولكن أن تقول للأستاذ ولو كان من أساتذة الدنيا وعلماء المعمورة، ولو كان أمامك أحمد بن حنبل أو مالك أو ابن تيمية تقول: لماذا تأتي بهذه المسألة وما هو دليلك؛ لأن المعصوم هو محمد صلى الله عليه وسلم.
فقال الخضر: {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:78] لكن قبل أن تذهب سوف أعطيك الحكم؛ لأن هذه فائدة الرحلة، وإلا لو قال له: لا أخبرك بشيء ذهب موسى يعلم بني إسرائيل ويقول لهم: خرب السفينة وقتل الغلام وبنى جداراً بلا أجرة!(346/10)
استطراد
وذكر في الآيات أربع إرادات قال: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79]
انظر هنا كيف قال: (فأردت) ولم يقل (فأردنا) وسوف يأتي (فأردنا) وسوف يأتي (فأراد ربك) وسوف يأتي في الجدار (فأراد أن ينقض) هذه أربع إرادات، لكن هنا في الضمير قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف:79] بضمير المتكلم، {وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْما * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ} [الكهف:80 - 82] ولم يقل (فأردت) مثل الأول ولم يقل (فأردنا) {فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً} [الكهف:82].
الآن نعود إلى الإرادة الأولى قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا} [الكهف:79] الذي أمره أن يعيب السفينة هو الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فليس من الأدب أن يقول: فأردنا أو أراد ربك أن أخرب السفينة والله هو الذي قدر الخير والشر -هذا معتقد أهل السنة والجماعة لكننا نتأدب مع الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى في ذكر الشرور والخراب، فلا نقول: إن الله الذي فعل كذا وكذا من باب التأدب؛ لأن خراب السفينة ظاهر عند الناس أحاله على نفسه تأدباً مع الله، وهذا من الوقار والخشية.
قال: {فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبا}) [الكهف:79] فإذا رآها فسدت لا يأخذها وإذا رآها تكسرت لا يأخذها، لا يأخذ إلا شيئاً صحيحاً، ولا يأخذ إلا آخر موديل، فإذا رآها مكسرة الأخشاب قال: ردوها على اليتامى.
فهذا من الحكمة.
{وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً} [الكهف:80 - 81] جمع هنا الضمير لأن في قتل الغلام خراباً ظاهراً ومصلحة باطنة، فالمصلحة الباطنة أن الله يبدلهما خيراً منه، والمفسدة الظاهرة: قتل نفس معصومة، فكأنه يقول: إن كان هناك شيء من الخراب؛ فهو من جانبي وأما الصلاح فهو لله عز وجل فجمع الضمير.
ولما أتى إلى الجدار قال: {يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} [الكهف:77] والعرب تنسب الإرادة من باب المجاز أو غيره على قول من قال: أن في القرآن مجازاً، وابن تيمية يقول: ليس في القرآن مجاز.
والعرب تنسب الإرادة أحياناً إلى الجماد، يقول الله عز وجل في سورة يوسف: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف:82] والقرية لا تُسأل، لكن من عادة العرب أنهم يمرون على الأطلال فيقول الشاعر إذا مر على الأطلال:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل بسقط اللوى بين الدخول فحوملِ
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها لما نسجتها من جنوب وشمألِ
وذاك يقول:
وقفت على الأطلال أسألها هل في المحبة والأوطان أحباب
فعلى تلك اللغة كان الله يسأل أهل القرية.
ولما أتى إلى الأخير قال: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ} [الكهف:82] لأنها مصلحة ليس فيها مفسدة، أناس لم يضيفوك؛ فبنيت لهم الجدار فلا فساد، بل صلاح محض، فكانت الحكمة لله، ولذلك انظر إلى تلطف الجن عندما أتوا ليأخذوا الأخبار وقت نزول الوحي، أرصدهم الله عز وجل بالشهب والأجرام السماوية حين تغيرت الأرض والسماء لمبعث الرسالة، فذهبوا يلتمسون الوحي؛ فوجدوا أن السموات قد أغلقت بالحرس، كلما أتى واحد منهم ضرب بشهاب في قفاه وقتله، فأخذوا يتجمعون خائفين ثم أخذوا يقولون: {وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] (أريد) وما قالوا (أراد) فبنوا الفعل (أريد) للمجهول تأدباً مع الله، ولما أتوا إلى الخير قالوا: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً} [الجن:10] فأظهروا الفاعل هنا، وإبراهيم عليه السلام يقول: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ * وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ * وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء:78 - 80] وإلا فالصحيح أن الله هو الذي أمرضه، ولكن ما قال: والذي يمرضني ويشفين، ولكن قال: إذا مرضت أنا تأدباً مع الله عز وجل.
والله عز وجل ما طلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أمراً أن يتزود منه إلا العلم فقال له: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه:114] ولذلك فمن الصحابة من سافر شهراً كاملاً في طلب حديث واحدٍ، كـ جابر بن عبد الله الذي سافر شهراً كاملاً لطلب حديث من مصر، وسعيد بن المسيب سافر ثلاثة أيام لطلب حديث واحد، أما نحن والحمد لله ففي بيوتنا مئات الألوف من الأحاديث والمسانيد والمعجمات والمستخرجات، ولكن قلّت الهمم في القراءة، الإمام أحمد يطوف الدنيا أربعين سنة ويجمع أربعين ألف حديث، وهي مطبوعة ومحققة ومجلدة وموضحة في أدراجنا، فمن يقرأ ومن يستنبط ومن يفهم؟(346/11)
جوانب من عظمة عمر(346/12)
علمه
علم عمر رضي الله عنه، وقد سبق أن قلنا: إن علمه نظري استنباطي وإلهامي، فهو محدث من الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، وهذا بسبب إخلاصه وإنابته إلى الله عز وجل.
وكان من مواصفات علم الصحابة أنه كان قليلاً لكنه مبارك، وكلام المتأخرين أكثر من علمهم، الآن إذا سألت شيخاً في مسألة أعطاك محاضرة! بينما لو تسأل عمر بن الخطاب مسألة لقال: نعم أو لا.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يفتي بسطر أو بسطرين، ويخطب يوم الجمعة ما يقارب ست دقائق -كما حسبها بعض الناس الآن- أما نحن فإننا نحتاج إلى إفهام الناس وتفهيم أنفسنا أوقاتاً طويلة، وإلا لو وقف الخطيب الآن ست دقائق ما استطاع أن يكمل مقدمة الخطبة أن يقول: الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، نفعني الله وإياكم بالآيات والذكر الحكيم.
ومن الفائدة العطرة، والموعظة البليغة: ألا ضرر ولا ضرار، ولا يطلب من الخطيب أو من الواعظ أن يأخذ الناس على حسابه فلا يطلقهم إلا لصلاة العصر! لماذا؟ أخذ عليهم صكاً شرعياً أن يبقوا في مسجده حتى يقطع ظهورهم بالكلام، ولا يطلب منه كذلك أن يأخذ دقائق فلا يوفي الكلام حقه، فكن بين بين.(346/13)
هيبة عمر رضي الله عنه
رغم جلالة ابن عباس ومكانتة في الإسلام؛ فإنه كان يهاب عمر، وكان كبار الصحابة يهابون عمر بن الخطاب، ومن عادة الناس أنك إذا خالطت الإنسان كأبيك وأخيك ومعلمك دائماً أن تقل هيبته، لكن عمر بخلاف ذلك، يخالطه الصحابة دائماً في مجالسهم وفي منتدياتهم ومجتمعاتهم وما يزداد مع ذلك إلا هيبة، رضي الله عنه وأرضاه.
من مواصفات شخصيته أنها كانت قوية جداً، كان فيه شدة لكن في الحق، يقول ابن كثير: ما كان يضحك ولا يمزح، عمر في خلافته لا يضحك ولا يمزح أبداًَ، صارم كالسيف؛ ولذلك أرهب الله به أعداء الله من الإنس والجن، حتى الجن كانوا يخافون منه، وثبت في الحديث أنه صارع جنياً فصرعه على الأرض، قال عمر: [[كيف أنت في الجن؟ قال: لقد علم الجن أني من أقواهم]] لكن واجه رجلاً قوياً فصرعه.
وعمر حتى من حيث تكوينه الجسمي كان من أقوى وأعتى الناس، كان إذا مشى كأنه راكب على فرس.
وبعض الأمور والطرائف وضعها بعض أهل السير وما أظنها تثبت، لكن يذكر أن حلاقاً كان يحلق رأس عمر فعطس عمر فأغمي على الحلاق حتى رش بالماء، فكيف إذا تكلم عمر أو نهره!
وأنا سمعت من بعض الدعاة المفكرين يذكر في خطبته يقول: لما دفن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه في القبر أيقظه المنكر والنكير -الفتان- ليسألاه، فلما استيقظ بدأ بهما وقال: من ربكما؟ من نبيكما؟ ما دينكما؟ لقوته رضي الله عنه وأرضاه.
فيذكر عن عمر رضي الله عنه وتركب عليه مثل هذه الدعابات؛ لأنه كان من القوة بمكان لا يعلمه إلا الله عز وجل.
تصور أن الهرمزان رسول إمبراطورية كسرى جاء يفاوض عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فيأتي في حشم وحاشية، يلبس الحرير والديباج، ومعه من الأكسية والذهب والفضة ما يريد أن يرعب به الأمة العربية، والبدوي إذا رأى شيئاً من ذهب ربما يصرع، أو رأى شيئاًَ من الفضة يغمى عليه؛ لأنهم لا يعرفون الفضة ولا الذهب، دائماً مع الغنم والإبل، ودائماً مع الخيام والثياب والسيوف المثلمة والرماح، في حياة بدائية.
أما أولئك فأهل حضارة، ولذلك هم يعدون الآن مثل أمريكا وروسيا، أنزلهم الله في النار جميعاً: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:38].
فالمقصود أن الهرمزان اختاره الملك فقد كان ذكياً وصاحب هيبة، فدخل المدينة بالموكب، فأتى يسأل الناس: أين قصر الخليفة؟ عمر هذا الذي دوخ الدنيا، أخذت نساء فارس يسقطن الحمل من هيبته وهو في المدينة جالس على عباءته المرقعة وخبز الشعير أمامه والزيت معه، ليس عنده من الحرس ولا من الهيلمان والقصور شيء.
فيقول الهرمزان: أين قصر الخليفة؟ قال الصحابة: ليس له قصر.
قال: أين مجلس الشورى الذي يجتمع بالناس فيه؟ قالوا: ليس له مجلس شورى، بل في المسجد.
قال: دلوني على المسجد.
وأخذ يذهب معهم ويظن أنه سيلقى ناطحات سحاب أو قصوراً مثل قصور كسرى مطلية بالذهب.
فأخذ يسأل قالوا: في المسجد، فمر في سكك المدينة، وتخيل قرية صغيرة، بيوت الطين منها مبنية، طرقها متلاصقة ومتواضعة، حتى إذا مددت يدك لحقت السقف في كل بيت، لكن من هنا انبعثت (لا إله إلا الله) ومن هنا أتت حضارة الإنسان، ومن هنا رفعت راية لا إله إلا الله، ومن هنا أعيدت معالم البشرية مرة ثانية، ومن هنا خرج أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وحسان والزبير وطلحة وزعماء الإسلام وأدباؤه وشعراؤه وعلماؤه.
فذهب إلى المسجد والناس وراءه، منظر عجيب! من هذا الذي يلبس هذا اللباس، والشمس تلمح مع الحرير والديباج والفضة، كلما ذهب في حارة ذهبوا معه في الطريق.
فدخل في المسجد والتفت وقال: أين عمر بن الخطاب؟ قالوا: ما وجدناه.
خليفة الدولة الإسلامية لا يوجد ويبحث عنه بالملاقيط؟! قالوا: ما وجدناه.
في الأخير، قال رجل: أبشركم، وجدت عمر بن الخطاب.
قالوا: أين؟
قال: نائم تحت شجرة في ضاحية من ضواحي المدينة، فذهب الهرمزان وذهب وراءه الناس، وأتوا إلى عمر رضي الله عنه في آخر نومه قبل صلاة الظهر، فوقف على رأسه، وكان أهل فارس أهل عقول ودهاء؛ ولذلك يقول عمر: [[إن لأهل فارس عقولاً ملكوا بها الدنيا]].
انظر ما استهزأ بـ عمر، ولا سخر، ولا قال: هذا ملك وخليفة المسلمين في هذا الزي المقطع؟! لا، أخذ يرتعد، فيقول له الناس: ما لك؟ فيقول للترجمان وهو يشير إلى عمر: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، ولذلك حافظ إبراهيم شاعر وادي النيل في محفل في القاهرة حضره ألوف مؤلفة أتى بهذه الكلمات: حكمت فعدلت فأمنت فنمت، يقول حافظ إبراهيم في أول القصيدة:
حسبي وحسب في حين أرويها أني إلى ساحة الفاروق أهديها
يا رب هب لي بياناً أستعين به على حقوق ديون نام قاضيها
إلى أن يقول:
قل للملوك تنحوا عن مراتبكم فقد أتى آخذ الدنيا ومعطيها
إلى أن يقول:
وراع صاحب كسرى أن رأى عمراً بين الرعية عطلاً وهو راعيها
يقول: ذهل واندهش صاحب كسرى لما أتى وعمر وهو صاحب الرعية عطلاً أي: أنه جالس بلا حلي وعليه ثوب ممزق.
رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
لبسها من أول الخلافة إلى آخر الخلافة، ما خلعها إلا ولبس الأكفان بعدها، كان يرقعها كل يوم، تنشق من هنا فيرقعها من هنا والذهب والفضة تحت يديه! لكن أولئك قوم اختارهم الله للآخرة، قال:
رآه مستغرقاً في نومه فرأى فيه الجلالة في أسمى معانيها
فوق الثرى تحت ظل الدوح مشتملاً ببردة كاد طول العهد يبليها
فقال قولة حق أصبحت مثلاً وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم فنمت نوم قرير العين هانيها
وقام عمر رضي الله عنه وأرضاه وفاوضه، وما يزداد هذا إلا رعباً وخوفاً، أنزل الله الخوف والرعب فيه فهو يرتعد بجانب عمر، وقد كانت قوة الأرض مع أولئك؛ لكن قوة (لا إله إلا الله) مع عمر، فـ عمر بلا شك كان من أهيب الناس، الرسول صلى الله عليه وسلم يجلس مع النساء؛ لأنه معلم ومربِ ولين وحكيم، وقد كان عمر حسنة من حسناته صلى الله عليه وسلم، بل هو ورقة من شجرته، فلو كان الرسول صلى الله عليه وسلم مثل عمر في القوة والصرامة ما تعلم الناس كثيراً، ولا جلس معه الأطفال، ولا سألته النساء، لكن النبي هو معلم البشرية، فهو لين، يقول الله عز وجل: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] ويقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
{فجلس مع النساء، وأخذ بعض النساء يتمازحن في مجلسه صلى الله عليه وسلم، فلا إله إلا الله ما أبره! ولا إله إلا الله ما أرحمه وما أحلمه! ولكن فجأة جاء عمر بن الخطاب، فسمع النساء جلبة عمر فأخذن يتسابقن إلى الحجاب بعضهن تركب بعضاً! ودخل عمر، فقال: يا عدوات أنفسكن -وهذا في الصحيح- كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحق أن تهبن منه (أو كما قال رضي الله عنه) لكن ردت امرأة عاقلة، قالت من وراء الحجاب: أنت فظ غليظ القلب ورسول الله صلى الله عليه وسلم رحيم لين} أو كما قالت.
فهو صارم رضي الله عنه، فأخزى الله الشياطين من الجن والإنس بصرامته؛ لأنه لو كان ليناً وكان أبو بكر ليناً ما صلح اللين مع اللين، أبو بكر تولى بعد الرسول صلى الله عليه وسلم مباشرة في مرحلة تستحق اللين سنتين وستة أشهر، لكن تمردت بعض القبائل وتمردت بعض الشعوب وبعض الدول، فأتى هذا الداهية العملاق يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {رأيت في المنام كأن أبا بكر أخذ الدلو فدلى دلوين أو ثلاثة وفي نزعه ضعف والله يغفر له، ثم أخذها ابن الخطاب فاستحالت، فما رأيت عبقرياً يفري فريه} أو كما قال.(346/14)
فوائد في الحديث تتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم(346/15)
التشديد في كتمان العلم
عمر كره مسألة ابن عباس رضي الله عنهما ولكنه لم يكتم العلم، يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة:159 - 160] ومن اعتقد أن الصحابة قد كتموا شيئاً من العلم أو أنهم سكتوا على شيء من العلم الذي تحتاجه الأمة؛ فغضب الله عليه وله من الله ما يستحقه، بل بلغ الرسول صلى الله عليه وسلم الرسالة فصيحة ناصعة بليغة مطبقة لكل شئون الحياة قليلها وكثيرها، وبعض فرق المبتدعة تقول: الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخبرنا بالأسماء والصفات، أخبرنا بالوضوء والحيض، وأخبرنا بالصلاة والصيام والزكاة والحج، أما الأسماء والصفات فما أخبرنا، هذه خيانة منهم، بل هذا من أعظم المطالب وقد أخبرنا صلى الله عليه وسلم بكل دقيقة وجليلة ومن أعظمها الأسماء والصفات؛ فقد بينها بياناً شافياً.(346/16)
سبب نزول الآية وكيف تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أزواجه
في آية: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم:4] ينتقل بنا القرآن إلى بيت الرسول صلى الله عليه وسلم لنعيش مع الأب المربي الحاني في بيته، رسول الهداية وأستاذ البشرية ومعلم الإنسانية، وهو يعيش مع المرأة زوجاً، فالقرآن يتابع الرسول صلى الله عليه وسلم في كل شأن من شئون الحياة، يتابعه قائداً عملاقاً، وإدارياً بارعاً، وخطيباً مصقعاً، ومفتياً فطناً، ويتابعه مجاهداً وقائداً، ويتابعه مربياً في البيت ومعلماً، فتعالوا مع القرآن في لمحة من اللمحات وفي سورة من السور والرسول صلى الله عليه وسلم في البيت مع زوجاته.
سبب نزول هذه الآية عند كثير من أهل العلم: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذهب إلى زوجته زينب بنت جحش، فقدمت له عسلاً فأكل العسل، سمعت عائشة وهي ضرة لـ زينب بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل عسلاً عند زينب فأخذتها الغيرة، فذهبت إلى حفصة وطرقت عليها بيتها.
حفصة بنت عمر وعائشة بنت أبي بكر يتظاهران أي: تقومان صفاً واحداً في مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم فقوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} [التحريم:4] أي: تعاونا عليه، فإن الله هو عونه وجبريل وصالح المؤمنين، فالله معه في حزبه، فقالت عائشة لـ حفصة: [[سمعنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أكل عسلاً عند زنيب، فإذا دخل عندك فقولي: يا رسول الله إني أشم منك ريح مغافير]] والمغافير نبت رائحته ليست بذاك، تأكله النحل ثم تأتي منه العسل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يصعب عليه أن يوجد منه رائحة، كل شيء يتحمل منه إلا الرائحة، رائحته دائماً مسك، حتى إذا مر من الشارع يعلم الناس أنه مر ولو لم يروه، وكان عرقه يتصبب مسكاً أذفر من أغلى المسك، وكان الأعراب يوم حجه يأخذون كفه صلى الله عليه وسلم فيرسل كفه للحجيج فيأخذون كفه فيمسحون على وجوههم، فيبقى الأعرابي سنة كاملة أو أكثر يجد ريح المسك، ويقول أحدهم: {صافحت الرسول صلى الله عليه وسلم فوالله ما زالت أثر الرائحة إلى اليوم في يدي} كل العرق الذي يتصبب منه والآثار مسك أذفر، ولذلك ما كان يأكل الثوم والبصل، يقول لـ أبي أيوب وقد قدم له من أحد الأنصار هدية (ثوم وبصل) قال: {كل يا رسول الله.
قال: لا.
وقال لـ أبي أيوب: كل.
قال: لا، لم تأكل يا رسول الله.
قال: كل فإني أناجي من لا تناجي.
يناجي الملائكة: جبريل وميكائيل وإسرافيل، يتكلم معهم، فأكله أبو أيوب}.
فدخل صلى الله عليه وسلم على عائشة، فقالت: يا رسول الله إني أجد منك ريح مغافير، أظن أن نحله أكل العرفط (وهو شجر آخر) فسكت صلى الله عليه وسلم، فذهب إلى حفصة فقامت حفصة وقالت: يا رسول الله أجد منك رائحة مغافير، أظن أن نحله أكل العرفط؛ فحلف صلى الله عليه وسلم ألا يأكل العسل بعدها، ما دام أن العسل يسبب هذه الرائحة التي لا تليق فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1] شيء أحله الله لك من فوق سبع سماوات، اتركهن فالله هو مولاك وجبريل وصالح المؤمنين.
وسبب آخر وكأنه الصحيح عند بعض أهل العلم، وقد أورده ابن جرير وابن كثير أن الرسول صلى الله عليه وسلم دخل في بيت حفصة وقيل في بيت عائشة بجاريته مارية القبطية وهي ما زالت جارية، ثم خرج صلى الله عليه وسلم، فكبر عند حفصة كيف يدخل بها في بيتها، فذهبت إلى عائشة فأخبرتها، فقامت عائشة واتحدت مع حفصة ضد الرسول صلى الله عليه وسلم، فحرم صلى الله عليه وسلم عليه مارية القبطية فقال الله له: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم:1].
إذاً هذا الخير هو السبب فجعل الله له كفارة من أيمانه، وقال الله للنساء: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ * عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم:4 - 5] أي: وهل لا يوجد في الدنيا نساء إلا أنتن؟! انظر إلى التهديد والوعيد.
فلما سمعن الخطاب أخذن يتباكين وأتين إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تعلن كل واحدة منهن التوبة، والله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى يقول: {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم:3] وهذا سبب من الأسباب، وهو الصحيح إن شاء الله.(346/17)
حياة النبي صلى الله عليه وسلم قدوة لكل مسلم
الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته كان يصارع الأحداث التي لا يسلم منها أحد، ولذلك لا يتعاظم أحدكم أن يعيش مع أهله في البيت قضية اختلاف أو طلب نفقة أو جدل، فالرسول صلى الله عليه وسلم عاش هذه الأحداث، ليكون أسوة لكل مسلم، إن كنت راعي غنم فالرسول صلى الله عليه وسلم كان راعي غنم، وإن كنت تاجراً فالرسول صلى الله عليه وسلم كان تاجراً، وإن كنت معلماً فالرسول صلى الله عليه وسلم كان معلماً، وإن كنت إدارياً فالرسول صلى الله عليه وسلم كان إدارياً، ومفتياً فهو مفتي، أو خطيباً فقد كان خطيباً، وكل صورة تمر بالإنسان سوف يجد في الرسول صلى الله عليه وسلم لها ما يناسبها، ولذلك كان بالإمكان أن يستغني صلى الله عليه وسلم عن الزواج وعن مراعاة الأهل، والقيام مع المرأة والأخذ والعطاء، وتضييع الوقت في الكلام والجدل؛ لكن الله أراد منه أن يكون إنساناً يعيش أحداث الأمة، ويعيش آلامها وآمالها، ويكون رباً للأسرة عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك يقول الله له: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} [الرعد:38] فكان يحمل الأطفال صلى الله عليه وسلم.
أفضل من خلق الله يأتي في صلاة العصر يحمل أمامة بنت بنته، فإذا سجد وضعها في الأرض وإذا قام حملها، والآن بعض الناس يأنف أن يحمل طفلته أمام الناس حتى في الشارع، ويتكبر أن يأتي بها في المجالس، يقول: ما هي هذه الأطفال؟ (هذه غلابة) كما يقولون: غلبونا وضيعوا أوقاتنا؛ لكن محمداً صلى الله عليه وسلم كان يحمل الأطفال.
تأتي المرأة السائلة وطفلها بين يديها، فيأخذ الطفل صلى الله عليه وسلم إلى حضنه، أي خلق هذا؟! ولذلك يقول الله من فوق سبع سماوات: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] وهو حقاً عظيم ما سمع الناس بمثله! يبول الطفل على ثيابه صلى الله عليه وسلم -كما في صحيح مسلم - فيأتي بماء ويتبعه به، فانظر كيف يعيش هذه الأحداث، فغسله لهذا الأمر سنة، وأخذه للطفل سنة، وإفتاؤه لوالدته سنة، فكلامه وفعله وحركاته وسكناته سنة يقتدى به صلى الله عليه وسلم إلا ما خصه الدليل هذا في بيته.
كان في بيته كما تقول عائشة: {ضحاكاً بساماً} إذا دخل ملأ البيت سكينة وارتياحاً، وسروراً وحبوراً ودعابة، وكان يقطع مع نسائه اللحم، يمسك اللحم وهي تقطع بالسكين، أو يأخذ ويقطع وهي تمسك اللحم، وهو شفيع الأولين والآخرين يوم القيامة، والذي جاء برسالة سوف تبقى أبد الدهر، كل قائد من قواد المسلمين حسنة من حسناته، وكل عالم من علماء المسلمين حسنة من حسناته، كان يخصف النعل صلى الله عليه وسلم، ويرقع الثوب، ويكنس البيت ويكون في الخدمة، وما يزيده الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى إلا شرفاً ومكرمةً.(346/18)
ما قال الأعداء في النبي صلى الله عليه وسلم
يقول المستشرق كريسي موريسون: لقد كان محمدٌ عجباً، يصلح مشاكل العالم وهو يشرب القهوة في بيته في المدينة.
كتاب عظماء العالم المترجم فيه مائة عظيم، أخذوا عظماء الصين، وعظماء العرب واليونان، وعظماء الأمريكان والفرنسيين والإنجليز فكانت المرتبة الأولى -والحق ما شهدت به الأعداء- لمحمد صلى الله عليه وسلم، والثاني: عيسى عليه السلام، والثالث مكتشف الكهرباء أديسون، والرابع عمر بن الخطاب، وأخذوا مكتشفين آخرين وأجمعوا على الكتاب، ولذلك صدر الكتاب هذا من هيئة الأمم، فنحن نستشهد ونقول: الحمد لله ما دام أنهم قالوا إن الرسول صلى الله عليه وسلم أول عظيم فهو فضل من الله(346/19)
جواز احتجاب صاحب السلطان لمصلحة
للمرء أن يمنع الزيارة عن بيته حين تحصل مشاغل أو ظروف، وهذا لأهل المسئوليات، للمسئول في الدائرة أو في المؤسسة أو في شركة أن يمنع الزوار في فترة من الفترات للمصلحة، لكن أن يبقى بابه مغلقاً من أول الدوام إلى آخر الدوام فهذا خطأ وباطل، وهذا ظلم، أو من لايدوام ثم يقول للحارس أو الفراش: لا تجعل أحداً يدخل عليَّ ثم يخرج من الباب الآخر، وكل ما أتى مسكين أو صاحب حاجة قال: لا، عنده شغل، هو مرهق بالأعمال والمعاملات (وهو في بيته) فأما في فترة من الفترات فلا بأس بها لأمر؛ لاجتماع، لسر، فكان صلى الله عليه وسلم يأخذ حاجباً على بابه للمصلحة.
مالك بن أنس، وهو إمام دار الهجرة في عهده كان على بابه حجاب رضي الله عنه وأرضاه، فللمصلحة لا بأس، يأذن لمن شاء ويدخل من شاء، والعرب كما قال ابن قتيبة: يتفاءلون ويتشاءمون بالحاجب عند الباب، إذا رأوا الحاجب يتبسم وفيه الخير استبشروا خيراً، وإذا رأوه غضبان استبشروا شراً، فهذا أمر الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، ولذلك قالوا: إن المغيرة بن شعبة جعل حاجباً على بابه وقال: لا يدخل أحد علي اليوم.
فوقف الحاجب وأدخل جماعة من الناس، قال: أما قلت لك: لا تدخل أحداً؟ قال: هؤلاء أرحامي وأصهاري وجيراني.
قال: صدقت والله، إنك حافظ للود، والله إن الكلب إذا فعلت له معروفاً يحفظ ودك فأنت الحاجب.
هذا حفظ الود في الناس، فالعدل العدل في مثل هذه الأمور، إذا كلف الإنسان بمسئولية ينبغي أن يعدل بين الناس، وله أن يود بعض الناس لشفاعة ولمنزلة أو لأمر؛ بشرط ألا يأخذ هذا من حق هذا، ولا يجور هذا على هذا.(346/20)
ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من شظف العيش
الله عز وجل جعل نعيمه وقرة عينه وسروره وحبوره في الآخرة، فلم يعطه الدنيا حتى لا يأخذ من ثمرته في الآخرة، بل ادخر الله له النعيم المقيم في الآخرة عليه الصلاة والسلام، فعاش شظف العيش، يسكن في بيت من طين ويعيش هذا ليكون قدوة للناس، وإلا فمن وسع الله عليه فعليه أن يتوسع كما فعل بعض الصحابة، ومن استعان بنعمة الله على طاعته فهو مأجور، وهذا غني شاكر، وذاك فقير صابر، وأكرمهما عند الله أتقاهما.(346/21)
فوائد مستنبطة من الحديث(346/22)
تعجيل الطيبات للكفار في الدنيا
لا يجمع الله على الكافرين نارين ولا خزيين ولا لعنتين ولا غضبين في الدنيا والآخرة، على الأقل يأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم، فالله أعطاهم في الدنيا النعيم، من اللحوم والطيبات يتنعمون كما تأكل الكلاب والثيران والحمير، ثم يأتون يوم القيامة وليس لهم عند الله من خلاق.
لكن المؤمن قد يتمتع في الطيبات في الدنيا وفي الآخرة كذلك قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [المائدة:93] وقال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الأعراف:32] هذا لحزب الله وجند الله، فمن رزقه الله نعيماً؛ فالله الله أن يستخدمه في طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، لبساً، مالاً، مسكناً، مركوباً جيداً، وأن يسخره في خدمة هذا الدين وفي طاعته سُبحَانَهُ وَتَعَالَى.
أما الكفار فلو سكنوا القصور من ذهب ومن فضة؛ فوالله إن مأواهم نار تلظى يقول سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ * وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُون * وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف:31 - 35] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود:15 - 16] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً * كُلّاً نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء:18 - 21] فسبحان من فضل الناس بالأعمال! وسبحان من أعطى بعض الناس جنته في الدنيا؛ ليخزيه خزياً ما بعده خزي في الآخرة! فنعوذ بالله أن يكون نعيمنا وإياكم في الدنيا ثم لا يكون لنا في الآخرة من خلاق.(346/23)
الشهر قد يكون تسعة وعشرين يوماً
والشاهد فيه: {نحن أمة أمية لا نكتب ولا نحسب} أي: لا نسير على علم الفلك وعلم الهيئة، إنما علمنا بالرؤية ولا نتكلف الأمور، وعلمنا نظري بحت مسهل مقرب، وليس استقرائياً معقداً، ولذلك لا توجد أي آية في القرآن تشكل عليك إلا في النادر، والحديث النبوي سهل، وإنما عقد العلم في القرون المتأخرة، أتوا فجمعوا الكلمات فشروحها فأعجموها وألجموها، ثم أتوا بالحواشي على المتون فزادوها غباء على غباء، ثم جاءوا بالحواشي على الحواشي فأظلموا، فيأتي الإنسان يقرأ في بعض الكتب فإذا هي طلاسم.
لكن افتح رياض الصالحين، أو صحيح البخاري واقرأ: {إنما الأعمال بالنيات} فيفهمها كل الناس حتى العجائز، تقرأ القرآن {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر:18] من الذي لا يفهم هذا؟! تقرأ قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْأِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية:17 - 20] فإذا هو مفهوم، ولكن مع سهولة القرآن ويسره فهو أعمق ما يكون، وفيه علم الأولين والآخرين، الأصالة والعمق في القرآن، والله ثم والله إن الإنسان ليشده حتى يقف مندهشاً مذهولاً إذا قرأ لمثل ابن تيمية وهو يتكلم عن القرآن، يأتي بأمور لا تخطر لك على بال، وربما تخطر لك لكن لا تخطر لي أنا، وما فكرت فيها في حياتي، يقول مثلاً: إن آيات الربوبية يوم يتكلم عنها بدليل المناظرة الربانية يتكلم فيها موسى مع فرعون، لكن الأدلة الاستقرائية في الألوهية يتكلم بها إبراهيم مع قومه، ثم يأتي بقواعد منضبطة في القرآن قال: الله إذا أتى بهذا ختم بهذا، شيء يذهل العقول! فسبحان من أنزل هذا الكتاب!(346/24)
كفارة اليمين
يقول الله للرسول صلى الله عليه وسلم: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم:2] فما هي تحلة اليمين؟ الرسول صلى الله عليه وسلم حلف وآلى من نسائه، وبعد أن آلى كفر فما هي كفارة اليمين؟ الإيلاء له كفارة، لكن كفارة اليمين يوم حلف الرسول صلى الله عليه وسلم ألا يأكل العسل، كفارة يمين: إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو عتق رقبة أو صيام ثلاثة أيام، فإذا علم هذا؛ فمن حلف منكم على طعام أو حرم طعاماً أو حرم شيئاً من الحلال؛ فعليه أن يكفر كفارة يمين، ويلحق بذلك لفظ "الحرام" هذا مستخدم خاصة في هذا الإقليم وهذه المنطقة، إنسان يريد أن يغديه أحد الناس أو يعشيه فيحرم، فهي على طرف لسانه أعظم من "والله" ثم يحرم نفسه وأهله هذه الذبيحة فماذا يفعل لكي يكفر؟ يأكل ثم يكفر كفارة يمين ويستغفر الله ولا يعود لمثل هذا.(346/25)
العلم الخشية
أعظم ثمرة في الإسلام للعلم وللمعرفة وللثقافة وللاطلاع: خشية الله عز وجل، فالذي لا يخشى الله عز وجل؛ فليس لعلمه ولا لثقافته ولا لاطلاعه نفع ولا فائدة، وإنما يزيده كثرة العلم عمى وضلالة كما زاد اليهود والنصارى، فالذي لا يستفيد من علمه ولا من تحصيله واطلاعه، ولا من ثقافته ومعرفته، ولا من شهادته خشية لله عز وجل فكأنه يتأخر، وكأنه ينقطع من حبل الله عز وجل، وكأنه نقض الميثاق مع الله عز وجل، ولذلك يقول جل ذكره: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] فالذي لا يخشى الله ليس بعالم ولو كان يحفظ نصوص الدنيا، ولذلك يوجد منافقون في هذه الأمة يحفظون القرآن كالماء، كما ذكر ذلك ابن تيمية وغيره.
يوجد من المستشرقين الكفرة من يحفظ القرآن، حفظوا القرآن ليعرفوا الثقافة الشرقية ويردوا على رسالة الإسلام، ويوجد بعض الفسقة والفجار يحفظون القرآن والحديث؛ لكن أثر الخشية المطلوب ليس فيهم؛ لأنهم لا يريدون الاستقامة، ويوجد في أهل الصلاح وفي أهل الخير وولاية الله عز وجل من الذين هم السابقون الأبرار من لا يحفظ إلا سوراً من القرآن، ولذلك يذكر ابن القيم: أن حفظ القرآن هو العمل به، وهو أعظم مدلول للحفظ ولو لم تحفظ نصوصه، وأن أعظم تضييع له هو تضييع العمل به، لأن ابن مسعود رضي الله عنه يقول كما في الموطأ: [[إنكم في زمان كثير فقهاؤه، قليل خطباؤه، كثير من يعطي، قليل من يسأل، يحفظون حدود القرآن ويضيعون حروفه، وسوف يأتي زمان كثير خطباؤه، قليل فقهاؤه، كثير من يسأل، قليل من يعطي، يحفظون حروف القرآن ويضيعون حدوده]].
ولذلك تجد من بعض الناشئة من يحفظ كثيراً من القرآن أو كل القرآن ولا يصلي مع الناس في المسجد، وتجد منهم من يحفظ كثيراً من القرآن ويعق والديه، ويقطع رحمه، ويلعن ويشتم، ويتعدى حدود الله، ويقترف المعاصي والذنوب بلا حدود ولا انتهاء، فثمرة العلم هي الخشية.
وإنما قلت هذا لأن أعظم ما يجعلنا نسوق قصص السلف الصالح سلام الله عليهم أننا نأخذ منهم أنهم عملوا بعلمهم، وقصصهم بلسم للقلوب ودواء وشفاء بإذن الله وراحة، مثل عمر وابن عباس يوم ذكرناهما رضي الله عنهما، العامل الكبير الذي يقدمهم على كثير من الناس هو الخشية لله عز وجل وليس كثرة العلم.
تصور عمر بن الخطاب يوم يظلم عليه الليل وهو في الليل الدامس فيأتي رضي الله عنه وأرضاه -كما تقول عاتكة بنت زيد: [[فلا ينام الليل، يأخذ عنده تور من ماء فيغسل وجهه كلما ضمه النوم كالطائر، ثم يهلل ويكبر حتى ينتصف الليل فيقوم يصلي ويبكي حتى الصباح، فتقول له زوجته: يا أمير المؤمنين لو ارتحت! أفي النهار مكدود متعوب وفي الليل مكدود متعوب؟ قال: لو نمت النهار لضاعت رعيتي ولو نمت الليل لضاعت نفسي]]
عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع سورة الصافات من أبي بن كعب وهو يقرأ على الناس: {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُولُونَ * مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات:25 - 26] فيهوي على وجهه حتى يحمل من المسجد ويبقى شهراً كاملاً، يقول ابن كثير: فيزار في البيت.
يقول عطاء: [[والله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت ابن عباس جفناه كالشراكين الباليين من كثرة البكاء، ولقد رأيته ليلة من الليالي يصلي من صلاة العشاء إلى الفجر وهو يبكي ويردد قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} [النساء:123]]
فأعظم ما نستفيد منه في هذه الجلسات ومن الدراسة والمحاضرات ومن الاطلاع في الكتب الخشية، وإلا فوالله لو كان الأمر فقط بزيادة معلومات فلقد غلبتنا أمم كثيرة عندهم ثقافات ويقرأون من الكتب أكثر مما نقرأ، ولذلك تجد بعض الأمم كالأمريكان يقرأون الساعات الطويلة، العجوز منهم يركب الحافلة والطائرة والقطار وهو يقرأ كتاباً في يده، ينتظر زميله وهو يقرأ كأنه يعد للجنة بينما هو يعد للنار ويهوي في النار على وجهه، ونحن أمة الرسالة والمعرفة والتي أراد الله أن نكون أمة الخشية والإنابة ليس هناك إلا من رحم ربك سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، فالذي ندعو أنفسنا وإياكم إليه أن تكون ثمرة هذا الجلوس والتراجم والأحاديث والندوات والدروس خشية لله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى، واتصال به، وزيادة في العمل الصالح وتوبة من السيئات وإنابة إليه.
أسأل الله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى أن يثبتني وإياكم على الحق، وأن يهدينا وإياكم سواء السبيل، وأن يتولانا وإياكم في الدارين، وأن يحسن عاقبتنا في الأمور كلها، ربنا تقبل منا أحسن ما عملنا، وتجاوز عن سيئاتنا في أصحاب الجنة وعد الصدق الذي كانوا يوعدون.
وصلِّ اللهم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(346/26)
الممتاز في مناقب ابن باز
في هذا الدرس بعض صفات العلامة ابن باز، وبديعات مناقبه، وغزارة علمه، وعليات أخلاقه وسماته، وأعماله ومجالاته، مروراً بالتعريف بشخصه ونشأته وطلبه للعلم، خالصاً من ذلك أن شخص الإمام ابن باز يتمثل فيه شخصية الرجل العالم بدينه، العارف بأحول عصره ومصره، الشفيق على أمته، القريب منهم، فحقاً إنه لبقية السلف فلا زالت رحمات الله عليه وابلة ونفحاته إليه واصلة.(347/1)
تعريف بالإمام ابن باز
الحمد لله رب العالمين، ولي الصالحين، ولا عدوان إلا على الظالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وسيد المتقين، وعلى آله وصحبه والتابعين.
عنوان هذه المحاضرة: الممتاز في مناقب ابن باز " وكانت آخر محاضرة بعنوان أبو بكر في عصر الذرة، رضي الله عنه وأرضاه.(347/2)
أسباب اختيار موضوع التعريف بابن باز
وأنطلق في هذه المحاضرة" الممتاز في مناقب الشيخ/ ابن باز " من خمس قواعد:
القاعدة الأولى: قاعدة {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} [الزمر:9] فنثبت الليلة فضل أهل العلم، ومالهم من مكانة بما ورثوه من معلم الخير عليه الصلاة والسلام.
القاعدة الثانية: قاعدة {فَاسْأَلوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:43] لنرد الأمة إلى علمائها وإلى مثقفيها ومفكريها.
القاعدة الثالثة: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر:28] ونثبت للناس أنهم أقرب الناس إلى الله إذا عرفوا الكتاب والسنة، وكلما ازداد الإنسان علماً ازداد من الله قرباً.
القاعدة الرابعة: العلماء ورثة الأنبياء، فإذا هم الذين يحملون ميراث محمد عليه الصلاة والسلام، ويبلغونه للناس، وهم أمناء على رسالته، وعلى ميراثه وعلى تركته عليه الصلاة والسلام.
القاعدة الخامسة: قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ} [العنكبوت:43] فإذا هم أهل الفقه والاستنباط، وأهل الفهم الدقيق لمعاني (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام).
وقد يسأل سائل -وقد حدث هذا السؤال قبل المحاضرة-: ما الفائدة أن تخبرنا بسيرة شيخ شهير وخطير وكبير عرفناه وعرفه الأطفال والنساء والكبار؟
قلت: الفائدة من ذلك ثلاثة أشياء:
أولاً: نحن نعيش فترة حرجة يجب علينا أن نلتف فيها حول علمائنا، وأن نعرف قدرهم ومكانتهم، ومن أئمتهم سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن عبد الله بن باز.
ثانياً: توثيق الصلة بين الجيل وبين العلماء فجيل بلا علماء جيل ضائع متهور طائش، وعلماء بلا جيل لا مكانة لهم، فإذا التقى العلماء والجيل كونوا مسيرة خالدة وصحوة مباركة، وهي المقصودة بإذن الله.
ثالثاً: الذب عن أعراض الصالحين، فأنا أحتسبها هذه الليلة
لترم بي المنايا حيث شاءت إذا لم ترم بي في الحفرتين
أحتسب ذلك ذباً عن الشيخ وعن عرضه؛ لما سمعت من بعض المتعجلين الذين ما أوتوا بصيرة ولا تقوى إذ وقعوا فيه، ومعنى ذلك: أن نضرب على الدماغ مباشرة، وألا يبقى لعلمائنا مكانة فأنا محتسب أجرها على الله، عل الله أن يكتبها في الحسنات.
وسوف أبحر بكم هذه الليلة مع ربان العلم والحكمة، وأستاذه سماحة الشيخ؛ لنعرف؛ لا عرفان من يعرف مجملاً من حياته، ولا أين ولد ومتى ولد، وماذا يأكل وماذا يشرب فهذا تاريخ الأموات، لكني سوف أتحدث هذه الليلة عن تاريخ الأحياء.
ومن الأسباب التي دعتني لهذه المحاضرة: ألا يقول قائل: ذهب العلماء والصالحون، ولم يبق في الناس بركة فنقول: لا.
بل بقي فيهم خير، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام عند أحمد وغيره أنه قال: {أمتي كالسيل لا يدرى الخير في أوله، أو في آخره} فلا زال فينا علماء وأدباء وشهداء وشعراء وصالحون وأخيار، فهي أمة معطاءة تنتج كل حين ما دامت متمسكة بكتاب الله عز وجل وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام.(347/3)
نسب الشيخ وأسرته
كنية الشيخ: أبو عبد الله وهي كنية المحدثين، وكان البخاري والشافعي ومالك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل كلهم أبو عبد الله.
واسمه: عبد العزيز بن عبد الله بن عبد الرحمن بن باز؛ أحد الثلة المتقدمة في العلم بالشرع الإسلامي المنزل على خاتم الرسل عليهم الصلاة والسلام، والممثل في شخصه الكريم مشيخة الإسلام في هذا العصر، والذي وصف بإمام أهل السنة في هذه الفترة؛ المحدث الأثري الفقيه النابغة، مفتي الديار أثابه الله وحفظه.
ولد في الرياض عاصمة المملكة، في اليوم الثاني عشر من ذي الحجة عام ثلاثين وثلاثمائة وألف للهجرة، في أسرة في مجموعها صلاح، ويغلب على بعضها الاشتغال بالزراعة، وبعضها بالحرف، وبعضها علماء.
هم القوم يروون المكارم عن أبٍ وجدٍ كريمٍ سيدٍ وابن سيد
وهزتهم يوم الندى أريحية كأن شربوا من طعم صهباء صرخد
ومن أسرته -حفظه الله- الشيخ/ عبد المحسن بن أحمد آل باز؛ تولى القضاء بـ الحلوة، والإرشاد في هجرة الأرطاوية في قبيلة مطير، ومنهم الشيخ المبارك/ ابن عبد المحسن؛ تولى القضاء في بلدان كثيرة كـ الطائف وبيشة وحريملة والحلوة.(347/4)
نشأته وطلبه للعلم
نشأ الشيخ على رسالة الرسول عليه الصلاة والسلام، ورضع ثدي النبوة على لا إله إلا الله، وأشرقت نفسه على رسالة الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب مجدد التوحيد في الجزيرة وفي كثير من أنحاء العالم الإسلامي، فأخذ العلم أولاً على يد المشيخة، فحفظ كتاب الله عز وجل، وأتاه عمى العينين فازداد قلبه بصيرة، وما ضره عمى عينيه بل زاد حفظاً وورعاً وعلماً يقول أحد الشعراء العرب وقد عمي صغيراً:
عميت صغيراً والذكاء من العمى فجئت همام القلب جم المشاعر
وأنزلت في قلبي سواد محاجري فما خفت في الدنيا سواد المخاطر
يقول: السواد الذي في عيني أنزلته في قلبي
واستفاد الشيخ من العمى أموراً أربعةً:
أولها: الأجر والمثوبة من الله إن شاء الله ففي صحيح البخاري في الحديث القدسي أن الله يقول: {من ابتليته بحبيبتيه فصبر عوضته عنهما الجنة} والمقصود بالحبيبتين: العينين، وكانوا يقولون لـ يزيد بن هارون الواسطي -وهو سيد المحدثين، وقد سئل عنه ابن تيمية فقال: هو أشهر من أن يذكر، وأكبر من أن يتكلم فيه- قيل له: أين العينان الجميلتان؟ قال: أذهبهما -والله- بكاء الأسحار.
ثانيها: الذكاء المفرط فالشيخ حافظ العصر في علم الحديث، واسأله في حديث عند الستة أو عند غيرهم؛ فستجده في الغالب مذياعاً فصيحاً يستحضر سنده ومن تكلم فيه ورجاله وشرحه.
فأتوني من أهل العيون المبصرة من يكون كالشيخ في علمه
وابن اللبون إذا ما شد في قرنٍ لم يستطع صولة البزل القناعيس
عذرت البزل إن هي قارعتني فما بالي وبال ابن اللبون
ثالثها: استفاد الشيخ من عمى عينيه إغفاله مباهج الدنيا وفتنتها وزينتها، فزهد وجمع قلبه على الدار الآخرة، وعلى التواضع والاستكانة لله، ولم يتشتت قلبه.
رابعها: استفاد من مركب النقص في العينين أن ألح على نفسه وحطم نفسه بالجد والمثابرة حتى أصبح من العلماء، وهذه قضية معروفة، ومن قرأ منكم كتاب" دع القلق وابدأ الحياة " لـ دايل كارنيجي وهو يتحدث عن ماذا فعل من أصيبوا بعاهات في الدنيا، وكيف أنتجوا؛ أخبرك أن مكتشف علم كذا وكذا كان أصم، ومكتشف علم كذا كان أعمى، ولك أن تراجع الفصل الثالث عشر في هذا الكتاب.
واستمر الشيخ يطلب العلم بعد أن فقد عينيه، ولكن قلبه يزداد نوراً، وعوضه الله بذكاء في القلب يقول أحد الشعراء:
رأيتك أعمى العين صار ضياؤها بقلبك حتى صرت فجراً مبلجاً
فصار سواد العين في القلب فاغتدى ينظم من نور الشريعة منهجاً
وقيل لـ ابن عباس -عالم الدنيا- وقد عمي: أحسن الله عزاءك في عينيك.
إن يأخذ الله من عيني نورهما ففي فؤادي وقلبي منهما نور
عقلي ذكي وقلبي غير ذي عوج وفي فمي صارم كالسيف مشهور
وقد تقلى الشيخ علومه على يد مشايخ فضلاء، ومن أبرز مشايخه -حفظه الله ورعاه- الشيخ/ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ؛ من الأسرة العامرة الموجهة الخيرة، والشيخ/ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ قاضي الرياض، والشيخ/ سعد بن حمد بن عتيق قاضي الرياض؛ العز بن عبد السلام في هذا العصر، والشيخ/ حمد بن فارس وكيل بيت المال في الرياض، والشيخ/ سعد وقاص البخاري؛ من علماء مكة أخذ عنه التجويد، وسماحة الشيخ العظيم الجليل/ محمد بن إبراهيم آل الشيخ؛ المفتي الأجل، لازمه عشر سنوات، واستفاد منه فوائد باهرة.
هؤلاء مشيخة الشيخ، وتستمر الحال بالشيخ، فلا يفتر ليل نهار يبحث عن العلم ويطلبه من مظانه، وفي حياته درس على أن الإنسان بإمكانه مع الفقر والعمى والعوز -إذا صدق مع الله- أن يحصل علماً، وأن يستفيد إذا صدق قلبه {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت:69].
يقول الشوكاني عالم اليمن: كنت في أثناء الطلب متهاوناً، فقرأت أبياتاً للشريف الرضى يمدح فيها الهمة العالية، فزادتني همة يقول الشريف الرضى متحدثاً عن نفسه:
أقسمت أن أوردها مرةً وقاحةً تحت غلامٍ وقاح
إما فتىً نال المنى فاشتفى أو فارس زار الردى فاستراح
وقد قلت في بيتين على بيتي الشريف الرضى:
إذا سألت الله في كل ما أملته نلت المنى والفلاح
بهمةٍ تخرج ماء الصفا وعزمةٍ ما شابها قول آح
ومما يذكر في الهمم والإصرار والجد والمثابرة: أن عنترة بن شداد كان يغلب الفرسان، وكان يبطح الأبطال، وكان يذبح الكماة فقيل له: كيف تصبر؟ كيف تكون مقداماً؟ فقال للقائل: أعطني إصبعك فأعطاه إصبعه، فأخذها في فمه، وأعطاه عنترة إصبعه فوضعها في فمه، ثم قال: عض إصبعي وأعض إصبعك، والصابر منا من يثبت.
فعض هذا وعض هذا، فقال ذلك: آه، فانطلقت إصبع عنترة، فقال: بهذا غلبت الناس.
قال الله: {إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء:104] وقال: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ} [آل عمران:140].
سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ولكننا كنا على الموت أصبرا
والذي يريد أن يحصِّل عليه أن يقرأ سيرة الشيخ وأنا أعلم أن من السلف الصالح من هو أعلم بكثير، لكن علينا أن ننظر إلى رجل حي بين أظهرنا يمثل العلم في القمة، وقد حصل عليه مع فقر وعوز، والكتب ليست متوفرة، والطباعة كانت ضعيفة، ووسائل التنقل ما كانت بذاك، والرجل أعمى؛ ومع ذلك حصَّل وحصَّل حتى وصل إلى ما وصل إليه فأين الشباب؟ مع أن العلم متوفر، والطباعة سهلة، والمجلدات كثيرة، والجامعات مفتوحة، والأساتذة كثر، والعلماء متوفرون، وفي الثقافة غزارة فأين من يطلب العلم؟
خرج القفال الشاشي، وفي الطريق أراد أن يطلب العلم وعمره أربعين سنة فنحن نطلب العلم في الأربعين وفي الخمسين وفي الستين، وعلينا ألا نصدِّق كانت ولا ديكارت الذين قالوا: لا.
العلم في الصغر فحسب يقول البخاري في الصحيح في كتاب العلم: وتعلم أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام في الكبر فنتعلم ولو كنا كباراً.
ذهب القفال وعمره أربعون، فقال: كيف أطلب العلم؟ ومتى أحفظ؟ ومتى أفهم؟ ومتى أعلم الناس؟ فرجع، فمر بصاحب سانية يسوق على البقر، وكان هذا الحبل يقطع الصخر من كثرة ما مر، فقال:
اطلب ولا تضجر من مطلبٍ فآفة الطالب أن يضجرا
أما ترى الحبل بطول المدى على صليب الصخر قد أثرا
واستمر يطلب العلم وأصبح إماماً شافعياً من جهابذة الدنيا.
فلا بد من الطموح والهمة العالية، واستعذاب المنايا، والمخاطرة بالنفس؛ حتى تصل إلى المطلوب وإلى الهدف السامي.
حفظ الشيخ -جزاه الله خيراً- القرآن، وتعلم كتب العقيدة على مذهب السلف الصالح، وهو الذي يمثل الآن من العلماء الوجهة الصحيحة لمذهب أهل السنة والجماعة في الأسماء والصفات وفي مجمل وتفاصيل المعتقد، وأكب الشيخ على كتب شيخ الإسلام/ ابن تيمية وابن القيم وفيهما النفع الكثير، وهي تغذي طالب العلم غذاءً هائلاً، وهي تختصر المسافات، وفيها بركة من رجلين خطيرين عبقريين أثريا المكتبة الإسلامية والثقافة المؤمنة.
وكان الشيخ يعتمد على كتب الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب، وينثرها في محاضراته وخطبه وكلامه، ويدعو إلى المنهج السديد.(347/5)
الأعمال التي تولاها ابن باز وأخلاقه ومكانته(347/6)
أعماله
أما أعمال الشيخ فألخصها في هذا الموجز:
- ولي القضاء في منطقة الخرج مدة أربعة عشر عاماً من عام (1357 - 1371هـ).
- عمل في التدريس في معهد الرياض العلمي، وفي كلية الشريعة في الرياض، إلى عام (1380هـ).
- عين نائباً لرئيس الجامعة الإسلامية بـ المدينة المنورة إلى عام (1390هـ).
- عين رئيساً للجامعة الإسلامية بعد وفاة رئيسها، رحمه الله.
- عين في منصب الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد برتبة وزير، ولا يزال في هذا العمل إلى الوقت الحالي، حفظه الله ورعاه وبارك فيه.
وأما أعماله التي يشغلها الآن فهي:
- رئيس هيئة كبار العلماء، وهو عالم المسلمين اليوم رئيس اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
- رئيس المجلس التأسيسي لرابطة العالم الإسلامي.
- رئيس المجمع الفقهي الإسلامي بـ مكة المكرمة.
- رئيس المجلس الأعلى العالمي للمساجد بـ مكة المكرمة.
- عضو المجلس الأعلى للجامعة الإسلامية في المدينة المنورة.
- عضو الهيئة العليا للدعوة الإسلامية في المملكة.
إلى جانب الكثير من الأعمال الخيرة في جميع أنحاء العالم.
ومن أحسن من ترجم له: المجذوب في كتاب" علماء ومفكرون عرفتهم " وترجم له الأخوان النبيلان: فهد البدراني وفهد البراك، لكنهما -أثابهما الله- أوجزا كثيراً في سيرة العلماء إيجازاً فيه ما فيه، ولكنهما أجادا في إبراز هؤلاء العلماء، فجزاهما الله خيراً وحفظهما الله.
عمل الشيخ قاضياً في الخرج، فكان الأب المعلم، وكان القريب من قلوب الناس، وكان يجلس بعد الدوام للناس، فيعلمهم في الحديث النبوي والعقيدة، فيأتيه العامي فيتعلم منه الخلق والسماحة، ويجلس معه الأطفال، ويقضي حوائج الناس، وكان كريماً منذ صغره، كان بيته مضيافاً على قلة ذات اليد، ولكن الله بارك في نفقته لكرمه ولصدق نيته وإخلاصه، ولما انتقل من الخرج، بكى عليه الناس، وأكثروا من الهلع على انتقاله وفقدوه، أثابه الله وبارك في وقته.
ثم انتقل الشيخ وعمل في التدريس من أجل إشاعة العلم، ورأى أن القضاء قد يحبسه عن ذلك، فذهب إلى معهد الرياض، وكلية الشريعة، فكان يلقي الدروس ارتجالاً لحافظته القوية، وكان محبباً للطلاب.(347/7)
مميزاته
وكان الشيخ -كما تعرفون- واسع الحلم، لا يكاد يغضب، بل سجيته السهولة والرضا واليسر، فكان الأب القريب من طلبته، الذي يعرف متطلباتهم ويقرب منهم، وهذه خاصية يفتقدها كثير من الناس، وهي المؤهلة -بإذن الله- للعالم وللداعية ولطالب العلم أن يؤثر في بيئته {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
وإن من أعظم ما يميز الشيخ: الحلم وقد رأيناه وجلسنا معه كثيراً، وأخبرنا محبوه وتلاميذه بحلمه الواسع، فهو قليلاً ما يغضب، وإذا غضب، كتم أنفاسه ولم يتكلم.
ولا يجرح المشاعر أبداً، وهو كمر النسيم على القلوب؛ ولذلك جعل الله له محبة في القلوب، وهو لا يشهِّر بالطوائف، ولا ينال من الأشخاص، ولا يتهكم الناس، ويحفظ للناس قدرهم وللهيئات قدرها، لأنه رضع من ميراث نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وتعلم في جامعته الغراء التي أخرجت أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وأبياًَ ومعاذ بن جبل وأمثالهم.
وحين انتقل الشيخ إلى الجامعة الإسلامية كان مثلاً أعلى في حسن الإدارة، وبعد توفيق الله نعزو كثيراً من نجاح الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة إلى سيرة الشيخ الجليلة وإلى عطاياه السمحة، وإلى ملاحظاته الكيِّسة الفطنة وقد كان الشيخ يحضر في إدارة الجامعة ويجتمع بالأساتذة في وقت الفسح، ويوجههم التوجيه السليم، ويدعوهم من منطلق رسالته العلمية إلى الحكمة، وإلى اللين في التعامل، وإلى الاهتمام في التحصيل العلمي، وكان لا يفوت من وقته دقيقة إلا في الخير وكان الشيخ يمر على الطلبة في الفصول، فيسلم عليهم، ويسمع ما عندهم، ويفيض في الحديث معهم، وربما ألقى بعض المحاضرات، وكان يفتح مكتبه للطلبة وهذه ميزة يفتقدها كثير من المسئولين والموظفين؛ فتراهم يغلقون الأبواب في وجوه المسلمين من ذوي الحاجات.
وأما الشيخ فقد كان يفتح مكتبه، ويستقبل المعاريض، ويسمع من الناس، ويأخذ ويعطي معهم حتى يقضي حاجتهم، وقد صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من ولي من أمر أمتي شيئاً فاحتجب دون حاجتهم وخلتهم احتجب الله يوم القيامة دون حاجته وخلته}.
فكان الشيخ يرى أنه ليس من الحكمة أن يغلق بابه؛ بل يفتحه للطلبة وللموظفين ولمن يأتي من الزائرين والضيوف، فكان يمتلئ بالناس، ويحاورهم الشيخ فيما ينفع، وقد رتب أوقاته بما هو حسن وجميل.
وذكر المجذوب أن أحد العلماء علق على محاضرة للشيخ كان عنوانها" الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب " وقد ألقاها الشيخ عبد العزيز بن باز وعلق هذا المعلق فقال: وفي العقائد كان الشيخ ابن باز مثل الاعتدال، لا هو من أولئك المتطرفين الذين يطلقون عبارات الشرك على كل صغيرة وكبيرة، ولا هو من المتساهلين الذين يغضون النظر عن صغار الأمور، بل إنه لينبه على الصغيرة والكبيرة ويضع كل شيء في موضعه، وهي الوسطية التي كسبها علماء السنة وسطية في الفكر وفي العلم، ووسطية في إلقاء الأحكام، ووسطية في الأخلاق والسلوك لا إفراط ولا تفريط.(347/8)
مكانته في العالم الإسلامي
أما مكانته في العالم الإسلامي، فقد حظي الشيخ بحب العالم الإسلامي، وحمل حبه في جوانحه، وسار الشيخ مثلاً للعالم الذي يمثل العلم في طول العالم الإسلامي وعرضه، ولا أقولها من باب التعصب ولا العاطفة، فلقد رأيت فيما يقارب إحدى عشرة ولاية في الولايات المتحدة الأمريكية في المراكز والمدارس الإسلامية، وفي الأكاديمية والمساجد أن الثقة عندهم هو الشيخ عبد العزيز بن باز، وله ممثلون في كل ولاية -في الغالب- يمثلون فكره وفتواه ودعوته، وإذا أتت الفتيا منه قبلوها، على حد قول القائل:
إذا قالت حذامِ فصدقوها فإن القول ما قالت حذامِ
وأخبرنا كثير من الدعاة ممن ذهب إلى آسيا وأفريقيا أن الشيخ يلقى احتراماً واسعاً، وفتواه تقبل في العموم الغالب، ويقدر ويجل من عموم الناس بحمله للعلم الشرعي، وقربه من القلوب، وعدم جرحه للمشاعر، ولما أكسبه الله من القبول والقبول بيد الله وليس بيد أحد من الناس، فالشيخ لم يؤت هذه المكانة على كسب الناس في منصبه، فالناس يعرفون ابن باز أعظم من عرفانهم لمنصبه، ولا أوتيها من أسرته فإن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولكن من علمه وتقواه وإخلاصه، وفي الصحيح: {إن الله إذا أحب عبداً نادى جبريل: إني أحب فلاناً فأحبَّه؛ فيحبه، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحب فلاناً فأحبوه، فيحبونه، ثم يوضع له القبول في الأرض} وبالعكس من أبغضه الله حتى أن الناس ليشربون مع الماء قبول بعض الناس، ويشربون مع الماء بغض بعض الناس، ونعوذ بالله أن تبغضنا قلوب الناس، فأنتم شهداء الله في أرضه.
وأثر الشيخ في العالم الإسلامي ينطلق من أمور:
أولاً: أنه في بلاد الحرمين مهبط الوحي، ومسرى الرسالة، وفيها منارة التوحيد، ومنها الخلفاء الراشدون، وعلى أرضها نزلت لا إله إلا الله.
ثانياً: أن علمه موثوق؛ إذ هو يمثل علم السلف الصالح أهل السنة والجماعة.
ثالثاً: للشيخ قبول أعطاه الله عز وجل.
رابعاً: الشيخ معطاء يستقبل الوفود، ويقضي حوائجهم، ويراجع مسائلهم، وقد سمعت من بعض المشايخ أن الشيخ في بعض المجالس يذكر له الجهاد الأفغاني وما يصيب المجاهدين من برد هناك وجوع، فتدمع عيونه.
إذا اشتبكت دموعٌ في خدودٍ تبين من بكى ممن تباكى
قد استشفيت من داءٍ بداءٍ فأقتل ما أعلك ما شفاك
وقال أحدهم: وعرض للشيخ مرة مجزرة الفلبين التي صرع على يد الطغاة هناك ألوف المسلمين، فبكى الشيخ حتى اهتز من كثرة البكاء.
وبيت الشيخ -كما تعرفون- في الرياض بفلله مفتوح للضيافة، ومن الغرباء من ينام هناك الأيام الطويلة، وقد رأينا ذلك عياناً لا نقلاً، من يأتي فيجلس على مائدة الشيخ، وسوف أتكلم عنه في فصل:" كرم الشيخ".
والشيخ ملم بأحوال العالم الإسلامي؛ إذ تأتيه البرقيات والرسائل والملحقات والنشرات والكتب والمجلات والصحف، وقد دخلت عليه مرة من المرات فوجدت عنده أحد النواب الرؤساء الأفارقة، والمترجم عنده يترجم، وهو يتكلم عن بلاده وعن وضع الإسلام هناك، وأخبره الشيخ بالوسائل المجدية في نشر الدين، ولما انتهى وإذا بزمرة من الناس ما يقارب العشرة من جاليات غير مسلمة يعلنون إسلامهم بين يدي الشيخ.(347/9)
تواضع الشيخ وقضاؤه لحوائج الناس
فهو لا يفرغ من فتوى، أو كتابة شفاعة، أو تعليم، أو إصلاح بين الناس، أو اتصال، أو مساعدة إنسان، أو وقوف مع محتاج وهذا والله هو العمر المبارك، ولعلك إذا داومت معه من الصباح لا تأتي في الظهر إلا وقد أنهى مئات المعاملات.
فحقاً إنه بقية السلف، والحديث عن هذا الشيخ الجليل يذكرنا بالصنف الأصلي والطراز الجميل من أمثال: البخاري ومسلم وأحمد وابن تيمية وابن القيم، فهو يحمل قربى السجية السمحة، ويحمل العلم الوقاد، ويحمل معه السكينة والتواضع، ويروى في الحديث وفي سنده نظر: {تعلموا العلم وتعلموا له السكينة والوقار، وتواضعوا لمن تتعلمون منه، ولا تكونوا جبابرة العلماء} والشيخ يمثل قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً} [الفرقان:63].
ومن تواضع الشيخ: أنه يجيب الدعوة، وكثيراً ما يذهب مع تلاميذه يجيب دعوتهم في بيوتهم , وإلا فالشيخ -كما تعرفون- أعظم من الزعماء، فيجلس معهم، ويزور بعض العزاب، ويتغدى معهم، ويسمع أغراضهم ويوقفه الإنسان في الشمس فيقف معه، وكم رأيناه من مرة عند باب السيارة إذا فتحت يقف للناس في الشمس، ويحاول محبوه أن يدخلوه سيارته، ولكنه يرفض حتى يسمع ويفتي وحتى يقضي حوائج الناس، حتى تظن أنه لا يعرف إلا إياك، أو أنه لا يعرفه إلا أنت.
يقول أحد الشعراء، ويستحقها الشيخ/ عبد العزيز:
يا من له ألف خلٍ من عاشقٍ وصديق
أراك خليت للناس منزلاً في الطريق
فالشيخ له ألوف مؤلفة من الأحباب والأصدقاء, ومن سماحته -وأنتم تعرفون ذلك- أنه إذا دخل عليه ضيوف في المكتب، قال: من أنتم؟ أخبرونا بأسمائكم فيبدأ باليمين أخذاً بالسنة، لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم، لما أتاه وفد عبد القيس: {من القوم؟ أو من الوفد؟ قالوا: من ربيعة.
قال: مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى}.
وعند الترمذي بسند فيه ضعف: {إذا عرف أحدكم أخاه، فليسأله عن اسمه وعن نسبه، فإنه واصل المودة}.
والشيخ إذا جلست عنده سألك عن اسمك وعن نسبك ومن أي قبيلة ومن أي بلد، وهل أتاكم أمطار، وكيف أحوال الصالحين في تلك البلدة.
أحادث ضيفي قبل إنزال رحله ويخصب عندي والمكان جديب
وما الخصب للأضياف أن يكثر القرى ولكنما وجه الكريم خصيب
ويستمر الشيخ على هذا الحال النادر صابراً محتسباً يعيش قضايا الأمة الإسلامية، ولعل من أعظم المعالم البارزة في حياته الشخصية ما ترونه في أيام منى أيام الحج يوم يفتح خيمته، فتنهال الأمة عليه ألوف مؤلفة كالسيل وكالغمام، يستفتونه ويقبلون رأسه، ويدعون له ويدعو لهم، ويجلسون معه في سكينة، فإذا حضر غداؤه مد سفرته وأحضر الناس على غدائه، وأكل معهم.
رفع الله منزلته.(347/10)
كرمه
وأما كرم الشيخ فحدث ولا حرج، وأنا لا أقول هذا من دافع العصبية والعاطفة، لكني أقول: لا أعرف في هذا العصر أكرم منه، وقد سماه بعض محبيه حاتم الطائي في هذا العصر، وهو لا يمسك قليلاً ولا كثيراً، وربما مرت عليه بعض الأشهر وقد استدان على راتبه لكثرة ما ينفق ويعطي.
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
وكرمه يتمثل في أمور:
أولاً: عطاؤه المستمر للفقراء والمحتاجين والمساكين فهو لا يرد طالباً، وقد حدثنا بعض طلبة العلم الثقات: أن أحد المجاهدين وفد على الشيخ مرة من المرات، وما وجد الشيخ إلا غرضاً مهماً له فباعه وأعطاه قيمته في سبيل الله عز وجل.
ثانياً: أنه ما يدنو وحده على طعام، ولا يعرف أن يكون وحيداً، وإنما إذا حضر طعامه أحضر الناس على طعامه دائماً، وسفرته طويلة، ويحضر طلبة العلم والمفكرون والأدباء والعامة والفقراء والمساكين والمسئولون، فيحيي الجميع ويرحب بهم، وهذا أمر معلوم لا يحتاج أن أثبته لكم، لأن كثيراً منكم رأى ذلك.
يقول حاتم الطائي لامرأته:
إذا ما صنعتي الزاد فالتمسي له أكيلاً فإني لست آكله وحدي
أخا سفرٍ أو جار بيتٍ فإنني أخاف مذمات الحوادث من بعدي
وحاتم الطائي من حائل، وقد مات جاهلياً وثنيا، يقول لأمرته: إذا صنعت الطعام وأحضرتيه، فلن أتقدم ولن أغسل يدي ولن آكل حتى تأتي بفقير يأكل معي.
وقالوا: كان إبراهيم عليه السلام من أكرم الناس، فإذا قدموا له الطعام قال لخدمه ومواليه: من أتى منكم بضيف فهو حر لوجه الله، فكيف سيكون حرص المولى أن يأتي بضيف ليتحرر؟! وقد ذكر الله كرم إبراهيم عليه السلام، فقال: {فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات:26] راغ من الكرم سريعاً، وأتى بعجل سمين، أي: تبيع وهو ولد البقرة، فذبحه، وسمين أي: أنه اختار الأجود، ولم يأخذ نحيفاً لا يساوي ثلاثين ريالاً.
وقال في سورة هود: (حنيذ) فلم يطبخه طبخاً، بل حنَّذه وقدمه مشوياً، وهذا غاية الكرم، (فقربه إليهم) ولم يقل: قربهم إليه، وقال: (ألا تأكلون) وهذه شيمة الكريم الرحيم القريب المستأنس بالناس.
يقول عروة بن ورد وهو شاعر جاهلي:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
أوزع جسمي في جسوم كثيرةٍ وأحسو قراح الماء والماء بارد
ويقول عبد الملك بن مروان لوزرائه: من تريدون أن أباكم؟ أي: هل منكم من يريد أن أباه غير أبيه؟ قال كلٌ: لا.
ما أريد إلا أبي.
قال: أما أنا فأريد أن أبي عروة بن الورد، لأنه يقول:
أتهزأ مني أن سمنت وأن ترى بوجهي شحوب الحق والحق جاهد
معنى البيتين: كيف تضحك مني لأني نحيل وأنت سمين؟ وما ذاك إلا لأني أوزع جسمي وطعامي، فغدائي وعشائي في بطون المساكين والفقراء، وأنت تأكل وحدك وتغلق الباب، وتقول: أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق.
وهذه شيمة البخلاء؛ أنهم يوصدون أبوابهم ويغلقون النوافذ ويكتمون البوابات حتى لا يخرج الدخان، ويكتمون قدر الضغط حتى لا يوصوص على المارة فيقول:
أوزع جسمي في جسوم كثيرةٍ وأحسو قراح الماء والماء بارد
يقول: أشرب الماء والضيوف يأكلون الطعام.
وبهذه الخلائق الرضية استجيب للشيخ في دعوته للآخرين، وأثر أثراً عظيماً، وأصبح تلاميذه مئات، وأصبح له الأثر لا في الرياض وحدها، ولا في المملكة بذاتها، ولا في العالم العربي، ولكن في العالم كل العالم، وأصبح الناس كلمةً موحدةً وإجماعاً، أو شبه إجماع على حبه وعلى أنه من البقية الباقية من علماء السلف الصالح.(347/11)
برنامجه اليومي
عمل اليوم والليلة في حياة الشيخ وبرنامجه اليومي:
يبدأ الشيخ بصلاة الفجر، وغالباً هو الذي يصلي بالناس، ثم يذكر الأذكار الموروثة عن معلم الخير عليه الصلاة والسلام، وشيء عرفته منه، وعرفته من تلاميذه ومن محبيه وهو: أنه لا يترك بعد الأذكار أن يقول مائة مرة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير وغالباً ما يكون عنده درس من الفجر إلى طلوع الشمس، وأعظم ما يدرس الشيخ (كتاب فتح الباري وفتاوى ابن تيمية وبلوغ المرام والكتب الستة والطحاوية ونحوها من العلوم) فإذا انتهى الشيخ صلى ركعتين وعاد إلى بيته وأفطر إفطاراً سهلاً ميسراً، وربما ارتاح قليلاً؛ إذ هو يصارع الحوادث وعنده من الهموم والأشغال والمشاغل ما الله به عليم، ويرتحل الشيخ إلى مكتبه، وهو دائماً -كما تعرفون- حريص على هذا؛ لينهي أوامر المسلمين، ويسهل مشكلاتهم سهل الله عليه يوم العرض الأكبر.
ويبدأ دوام الشيخ الرسمي قرابة الساعة التاسعة من ضحى كل يوم، فإذا وافى مقر الرئاسة وجد المراجعين يملئون الأمكنة المعدة لهم بانتظاره، فيحييهم ويسلم عليهم ويستقبلهم ويصافحهم ويعانق منهم القادم، ثم يأخذ مجلسه وإلى جانبيه كاتبان، وهذا أمر معلوم، عنده في اليمين كاتب وفي اليسار كاتب.
لعظمك في النفوس تبيت ترعى بحفاظٍ وحراسٍ ثقاتِ
ويأخذ هذا كثيراً من وقت الشيخ، ويرد على المكالمة التي ما تنقطع من القارات الخمس، وإن شئت قلت: الست، فتلفونه نوعان: تلفون داخلي يرد عليه الشيخ، وتلفون خارجي تتصل به الهيئات والجامعات والمؤسسات من أنحاء العالم، ويفتيهم ويرد عليهم الواحد تلو الآخر، وربما صودفت الفتوى عشر مرات، أو صودفت المكالمة عشر مرات، فجزأها الشيخ وانتظر الأول فالأول.
ويبدأ الشيخ في استعراض المعاملات، وعنده الكتبة الذين يهمس في آذانهم بما يمكن أن يكتب وبما يمكن أن يوجه لما فيه المصلحة، ويستحضر الشيخ النية عند كل فتوى وكل معاملة لتنفعه في الآخرة {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] ثم يصلي صلاة الظهر، ويعود إلى عمله الذي ينتهي في الثانية والنصف يومياً، ويرتحل وقد سبقه ضيوفه في البيت فيتغدى معهم غداءً جماعياً، ثم تدار -هكذا أنقل من المجذوب - تدار القهوة والشاي والطيب وحسن الحديث الذي لا يفارق محيا الشيخ، ثم يرتحل مع ضيوفه ليصلي العصر، وربما ألقى كلمة بعد صلاة العصر، ويعود بعد الصلاة وهذا الوقت غال، فالدقائق محسوبة {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} [المؤمنون:115].
دقات قلب المرء قائلةً له إن الحياة دقائقٌ وثواني
فارفع لنفسك قبل موتك ذكرها فالذكر للإنسان عمر ثاني
وربما استراح الشيخ بعد صلاة العصر لما يلقى من أعمال شاقة، ومن إعياء كثير ومن كبر السن، فهو يصارع الآن أكثر من الثمانين، وربما طعن في الثانية أو الثالثة والثمانين يقيناً، فهو مولود عام (1330هـ) ومع ذلك يزداد عمره بركة {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء:71] وهو من أئمة هذا الدين، وقد بارك الله في عمره لاتباعه السنة، ولإخلاصه وصدقه، ولنفعه للناس.
ثم يصلي صلاة المغرب، ثم يعود إلى المنزل للقراءة والنظر في شئون الناس حتى وقت العشاء، وبعد أداء الصلاة يتناول مع الحضور طعام العشاء، ولا ينتهي مجلسه من الزوار والرواد، ولا يزال بين قراءة وإملاء وحديث نافع حتى وقت متأخر، وقلما يتاح له الإخلاد إلى النوم قبل منتصف الليل، وربما ينام الشيخ بين الحادية عشرة إلى الثانية عشرة؛ من أجل أن يستغل هذه الأمور في أعمال الناس، ثم ينام الشيخ ويستيقظ قبل الفجر بوقت طويل فيتهجد {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} [الإسراء:79].
يقول بعض الفضلاء: رأيت أثر قيام الليل في وجه سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز فيقوم يصلي ويدعو، وربما غلبه البكاء في صلاة الليل لخشيته ولتقواه، ثم يأتي لصلاة الفجر، ونراه ينتقل من بيته بواسطة سيارة حتى يصل إلى الجامع الكبير فيصلي بالناس، وعلى قراءته خشوع وسكينة، ثم يعود إلى برنامجه اليومي.
وهناك بعض الأمور كحضور المؤتمرات، وبعض المهمات العلمية التي يقضيها الشيخ قد تغير من هذا البرنامج قليلاً.(347/12)
الشورى في حياة الشيخ
وصف الله المؤمنين بأنهم يتشاورون، فقال سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى:38] وقال لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} [آل عمران:159] ولقد أخذ بذلك سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز، فأخذ يشاور محبيه وطلابه وإخوانه في القضايا، وهذا من تواضعه وقربه من القلوب، فلا يبدأ بقضية إلا بعد أن يشاور، فإذا عزم توكل على الله- عز وجل- وأمضى ما عنده، وكان لا يفض في كثير من المسائل خاصة العلمية إلا بعد أن يشاور أصحاب الفضيلة العلماء، ويراجعهم متثبتاً ورعاً صادقاً.(347/13)
الشيخ والفتاوى
نحن نعلم أن أعظم المفتين الآن هو سماحته، وهو يفتي بالدليل (قال الله وقال رسوله عليه الصلاة والسلام) وهو أثري النزعة، وقد ذكر عنه أنه يأخذ بأصول أحمد بن حنبل، ولكنه قد يخرج عن المذهب الحنبلي إذا خالف الدليل، فهو يستمسك بالأثر كتاباً وسنةً، ويفتي بما وافق الكتاب والسنة مستدلاً على فتواه، ومن لاحظ الشيخ يسمع منه الفينة بعد الأخرى (قال الله قال رسوله صلى الله عليه وسلم) ويخرج الحديث ويصححه ويضعفه.(347/14)
الشيخ محدثاً وفقيهاً
وأكبر ميزة للشيخ/ عبد العزيز أنه محدث، بل هو محدث العصر، ولا أعلم أحفظ منه للمتون، ولو أن بعض العلماء قد يتفوق في علم الرجال وعلم الجرح والتعديل، أو التخريج، لكن الشيخ يستحضر المتون، وهو فقيه؛ جد فقيه يستنبط من النص ويستشرب من النصوص، وينثر علمه على الناس بسهولة ويسر.
ومما يميز سماحة الشيخ أنه لا يتكلف في الحديث، ولا يتكلف في الفتوى، ولا يتنطع في الكلام، ولا يتعمق في المسائل، وهو مذهب أهل السنة والجماعة أنهم لا يتنطعون، ولا يتعمقون، ولا يتكلفون، وإنما يرسل الكلام على سجيته، فيجعل الله له قبولاً في قلوب الناس لصدقه ولبركة أنفاسه ولطيب نواياه غفر الله له ورفع درجته.
وفقه الشيخ من السنة مباشرة، وهو أشبه ما يكون بمدرسة ابن تيمية وابن القيم، فليسوا بالفقهاء الذين أهملوا النصوص، وليسوا بأهل الظاهر الذين أهملوا كلام أهل العلم وأخذوا بظواهر النصوص، لكنهم يأخذون من النصوص الفقه الجميل الموافق لقواعد الشريعة، وإن أُعدموا ذلك رجعوا إلى كبار علماء السنة، فأخذوا منهم ما يستفيدون.(347/15)
مواقف للشيخ ابن باز ومواهبه الفذة(347/16)
شجاعة الشيخ في قول الحق
إن من أعظم ما يميز العالم أن يقول كلمة الحق صادعةً قويةً بحكمة، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول لـ أبي ذر كما روى ابن حبان: {قل الحق ولو كان مراً} والعالم يوم تسلب منه ميزة قول الحق يصبح ضعيفاً وجباناً لا أثر له، ولا يستفاد من طالب العلم أن يحفظ الصحيحين والكتب الستة، ثم لا يقول كلمة الحق، ولا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر.
وقد تجلت شجاعة الشيخ في كثير، فبينما هو الرجل السمح السهل القريب الحليم المحب للفقراء؛ سرعان ما ينقلب أسداً لا يرده عن إقامة أمر الله شيء إذا علم بظلم يقع على المسلمين، أو عدوان يقع على شريعة الله عز وجل في الأرض.
ومن أعظم مواقف الشيخ موقفه مع الأستاذ/ سيد قطب رحمه الله؛ فقد قتل هذا الأستاذ المفكر العبقري الفذ ظلماً وعدواناً وطغياناً، فقام الشيخ وغضب لذلك، وقد ارتج العالم الإسلامي لمقتل سيد قطب، وأثر أن سيد قطب لما قرب ليشنق شنقاً وإعداماً تبسم، فقال أحد الشعراء:
يا شهيداً رفع الله به جبهة الحق على طول المدى
سوف تبقى في الحنايا علماً قائداً للجيل رمزاً للفدا
ما بكينا أنت قد علمتنا بسمة المؤمن في وجه الردى
فغضب الشيخ وأزبد وأرعد تلك الأيام، وأرسل خطاباً، يقول مترجم الشيخ: عندما أصدرت محكمة البغي والعدوان قرارها بإعدام سيد قطب وإخوانه، اعترى الشيخ ما يعتري كل مؤمن من الغم في مثل هذه النازلة، وتأثر الشيخ تأثراً عظيماً، وكلف الشيخ أحد محبيه بصياغة البرقية المناسبة لهذا الموقف، حتى يشهد الله أنه غضب وأنه تعامل مع إخوانه، وأنه قام في ذلك قال: وصيغت البرقية، فزاد الشيخ في آخر البرقية: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93].
وأنا أذكر في الصغر ارتجاج العالم الإسلامي، والمذياع يعلن إعدام ذاك الهمام البطل، صاحب في ظلال القرآن، الذي تعرفونه غفر الله له وجمعنا به في الجنة.
وقد رأيت للشيخ خطابات لبعض الزعماء ينكر عليهم أشد النكير عدم تحكيمهم لشرع الله، ورأيت له كتاباً لبعض الزعماء في بعض البلاد الإسلامية ينكر عليه تهجمه على السنة المطهرة وعلى صاحبها عليه الصلاة والسلام.
فالشيخ يقول كلمة الحق، ويتشجع في الإدلاء بها، ولا تأخذه في الله لومة لائم، ونعرف من سيرته صدقه مع الله وتحمسه وتمعر وجهه إذا انتهكت محارم الله عز وجل.(347/17)
الشيخ خطيباً
ربما قال قائل: وهل الشيخ يجيد الخطابة؟ والذي يسمع الشيخ ويسمع محاضراته يدرك أن الرجل لا يتكلف الكلام؛ إذ أنه لما فقد بصره ركز على ذهنه وعلى ذاكرته، فكان يرتب الألفاظ والمعاني ويرتب المسائل، وإذا بدأ في محاضرة من ساعتين لا تجده يدخل في مسألة قبل مسألة، بل يوردها سهلة ميسرة يبنيها باباً باباً؛ مستدلاً بالكتاب والسنة وأقوال أهل العلم، ولا يجرح المشاعر، ولا يأتي بكلمة غليظة، ومما يميز الشيخ أنه بعيد عن التقعر، وهو: طلب وحشي الكلام الذي لا يفهمه الناس، وهذا يأخذه بعض الناس رياء وسمعة ليقال: واعظ.
أما الشيخ فقد كان يبتعد عن التقعر في الكلام، بل يأتي بالكلام المعهود السهل القريب الذي يفهمه الناس، ولكن بأسلوبه السهل الممتع رفع الله منزلته.
ومن خصائصه الخطابية: قدرته على ترتيب أفكاره حتى لا تتشتت، وضبطه لعواطفه حتى لا تغلب عقله، ثم سلامة أسلوبه الذي لا يكاد يعتريه اللحن في صغير من القول أو كبير.
وأخيراً: تحرره من كل أثر للتكلف، أو التملق، أو التنطع، أو التعمق، كما سلف.(347/18)
منهج الشيخ في البحث
والشيخ واسع المعرفة يحب الحوار الهادئ، ولا يغضب من الجدل الحق، ويرحب بالأفكار المدعومة بالدليل، ويتراجع عن قوله إذا كان على خلاف الدليل، ويرحب بالأقوال، ولا يتعمد تخطئة الناس، بل يرى أن الخلاف في المسائل كما يرى شيخ الإسلام/ ابن تيمية على قسمين:
1) خلاف التضاد.
2) خلاف التنوع.
فأما خلاف التنوع فالمسألة فيها سعة؛ لأن كلاهما على حق، وقد اختلف الأئمة، والشيخ يعول كثيراً على الدليل من الكتاب والسنة، وقد عرضت للشيخ مسألة دوران الأرض حول الشمس، يقول المترجم: وسئل الشيخ عن رأيه في دوران الأرض، وأصر على أن الأرض لا تدور، ورُد على الشيخ بقوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) [يس:40] فقال الشيخ: إن الأرض في كلا الموضعين من كتاب الله مذكورة على بعد من السبح، أي: أنها لا تسبح مع الأفلاك ولا أدري هل رجع الشيخ عن رأيه هذا أم لا، وليس معنى ذلك أن الشيخ معصوم، وهذه قضية أسديها للشباب وطلبة العلم، وهو أمر تعلمونه وهو أن العالم لا يشترط فيه أن يكون معصوماً، فقد يفتي فتوى تكون خطأً، وقد يهم في مسألة، وقد يسهو والله يغفر له.
وفي الصحيح: {إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد} وقد عذر ابن تيمية الأئمة في كتابه الجليل" رفع الملام عن الأئمة الأعلام " وذكر أسباب اختلافهم، وبين أنهم معذورون في اختلافهم، ومنهم وعلى طريقتهم سماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز.
وله أقوال يوافق فيها شيخ الإسلام ابن تيمية في مسائل الطلاق، مثل: طلاق الثلاث بلفظ واحد أنها لا تقع إلا واحدة، والطلاق إذا قصد به اليمين والمنع والخطر بقصد اليمين، ففيه كفارة اليمين، وهذه مسائل يسندها الدليل وهي الراجحة، وعليها فتوى ابن تيمية وابن القيم وابن عبد البر وأمثالهم من أهل العلم.(347/19)
الشيخ والنشاط العلمي
للشيخ مؤلفات كثيرة، ولكنه ما تفرغ للتأليف، وإنما يرى أن تعليم الناس وقضاء حوائجهم وفتواهم قد تكون أهم، في عصر كثرت فيه المؤلفات والمجلدات.
أما مؤلفات الشيخ فمنها: الفوائد الجلية في المباحث الفرضية، والشيخ فرضي من الدرجة الأولى، وعالم في الفرائض.
ومنها: " التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة " وأنا أعتبر هذا الكتاب أحسن كتاب للشيخ، ويرى هو أنه أحسن كتاب له.
ثالثاً: " التحذير من البدع ".
رابعاً: " رسالتان موجزتان في الزكاة والصيام ".
خامساً: " العقيدة الصحيحة وما يضادها ".
سادساً: " وجوب العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم وكفر من أنكرها ".
سابعاً: " الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة ".
ثامناً: " وجوب تحكيم شرع الله ونبذ ما خالفه ".
تاسعاً: " حكم السفور والحجاب ونكاح الشغار ".
عاشراً: " نقد القومية العربية ".
حادي عشر: " الجواب المفيد في حكم التصوير ".
ثاني عشر: " الشيخ محمد بن عبد الوهاب دعوته وسيرته ".
إلى غير ذلك من الرسائل التي تصل إلى العشرات، ولو فرغت الأشرطة المسجلة من محاضرات الشيخ وفتاويه وكلماته وخطبه، لبلغت المجلدات، وأرى الدكتور/ الشويعر قد مضى في هذا المشروع، نسأل الله أن يعينه وأن يتمم له الخير.
ولا يقتصر نشاط الشيخ في التأليف؛ بل هو مهتم بإلقاء المحاضرات في العامة ويرتاح لذلك، ودائماً يشحذ همم طلبة العلم ويدعوهم إلى كثرة المحاضرات وإلى تنوير الطلبة، ويدعو إلى أن يجتهد الطلاب في تعليم الناس، والشيخ مما يميزه أنه داعية عامة، عالم عامة مثل علماء السلف؛ يجلس مع العامة ويعلمهم ويربيهم، وأنا أرى أن العلم القليل المبارك الذي يستفاد منه، خير من الكثير المتخصص الذي نفعه قليل، وبعض الناس قد يتشاغل بجزئيات العلم ونوافله ويترك أصول العلم وتعليمها للناس، فيفقد كثيراً من بركة العلم.(347/20)
مجالات الشيخ العلمية
الشيخ مفتِ، وأعظم ما يميزه الفتاوى، فهو مفتي البلاد كما تعرفون، وقد سدد الله فتواه لتقواه، وأحياناً إذا أشكلت عليه المسألة طلب من السائل أن ينتظر، وربما قال في هدوء وتواضع وشجاعة: لا أدري يسأل عن كثير من المسائل، ويقول: لا أدري وهي سيرة السلف الصالح فإنهم لا يقتحمون بجهل، وكان ابن سيرين يقول: لا أدري وقال علي: [[من أغفل كلمة لا أدري أصيبت مقاتله]] وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه يجمع الصحابة لبعض المسائل، واعتذر الإمام مالك من عشرات المسائل لم يعرفها فمن حكمة الشيخ أنه يعتذر -أحياناً- عن بعض المسائل حتى يبحثها بحثاً وافياً.
وقد قلت: مما يميز الشيخ أنه يقيم الدليل وهذه ميزة المفتي، وأما الكلام المطروح الإنشائي فإنه لا يميز المثقف عن العالم عن السامع المقلد للمسألة.
وميزة العالم أن يستحضر الدليل ووجه الدلالة، ويستنبط منه، ويعرف الدليل صحة وضعفاً ناسخاً ومنسوخاً مطلقاً ومقيداً عاماً وخاصاً، وهذه كلها يحملها الشيخ.(347/21)
أدوات الشيخ العلمية
الشيخ -فيما أعلم- نحوي يجيد اللغة العربية الفصحى، ويشرحها ويمليها على طلابه ويبدع فيها -بارك الله فيه- والشيخ فرضي ماهر، وأما في الحديث فهو محدث جهبذ، يعرف الرجال، وقد سألته قبل أربع سنوات عن حجاج بن أرطأة، فقال: ضعيف ومدلس، وغيره من الرجال فهو يحفظ مئات بل آلاف الرجال في ذهنه، فإذا سألته عن الرجل أخبرك به وبما قيل فيه، وهو مغرم بعلم الرجال، يطالع كثيراً في" تهذيب التهذيب " لـ ابن حجر، وكتابه المفضل فيما أعلم " فتح الباري "، وقد قرأه مرات من وقت الطلب إلى الآن، وهو الذي تولى الإشراف على إخراجه للناس، وقد مكث فيه ابن حجر يؤلفه مع المقدمة اثنين وثلاثين سنة، ولو كان في العصر معجزة لكان هذا الكتاب، وهو من أبدع ما رأينا في المكتبات، ومن ركز عليه من طلبة العلم وعرف ما فيه وفهمه؛ فهو عالمٌ حقاً إن شاء الله.
والشيخ يحفظ -فيما أعلم- بلوغ المرام وكثيراً من المتون، كـ ألفية ابن مالك، وبعض كتب ابن حجر المختصرة، وكتب الشيخ/ محمد بن عبد الوهاب، فعنده مختصرات يحفظها ويكررها، مع حفظه للقرآن، وحدثنا بعض الطلبة: أنه سمَّع للشيخ قبل سنوات في بعض السور، قال: فما أخطأ في حرف واحد، فهو يحفظ القرآن ويقرؤه قائماً وقاعداً وعلى جنبه، وفي سيارته وفي مكتبه، لأنه لا يرى بعينيه كما تعرفون، ولكنه يستحضر كتاب الله، وما سمعت -والله- من العلماء الأحياء أسرع استحضاراً للدليل من كتاب الله عز وجل من سماحة الشيخ/ عبد العزيز.
أنا أعرف من يستحضر الأبيات والقصص والأحاديث، أما الآيات فما أعرف مثل سماحته فيما أعلم.(347/22)
مشهد لا ينسى
يذكرون في سيرة الشيخ أنه لما ودع من الرياض ليذهب إلى منصبه الجديد في المدينة؛ قام أهل الرياض بعد صلاة العصر وألقوا كلمة واحتشدوا عليه وودعوه وبكوا بكاءً عظيماً، وقام الشيخ فودعهم، ولكن غلبه البكاء، وسمع بكاء الشيخ -كما ينقل المجذوب
ولما التقينا للوداع عشيةً سفكنا دموعاً واستثرنا مآقيا
وقفنا وفي العذال منا ملامةٌ وكنا نرى أن ليس بعد تلاقيا
فودعوه وبكوا عليه، ومن يعاشر الشيخ ويماشيه ويمكث معه فترة لا يطيق فراقه، وهذه هي ميزة المسلم الذي لا يؤذي، المتواضع المحب لا يستطاع فراقه، ولذلك كل من صحبه وجد فيه الخير، قال المجذوب: وكنت فيمن حضر وذكر تأثره وبكاءه، قال: وقلت بيتين بتلك المناسبة لما ودعوه في الجامع الكبير وبكوا وبكى الشيخ:
بكينا وفاءً لامرئٍ قل أن يُرى له في الدعاة العاملين نظير
فخلوا ملامي إن ألح بي البكا فإن فراق الصالحين عسير
والشيخ يُمدح من كثير من الناس، وقد مدحه كبار الناس وصغارهم وشعراؤهم وأدباؤهم وعلماؤهم، يقول تقي الدين الهلالي محدث المغرب -وقد توفي من سنوات رحمه الله- في قصيدة عامرة طويلة تقارب الستين بيتاً:
خليلي عوجا بي لنغتنم الأجرا على آل بازٍ إنهم بالثنا أحرى
وزهدك في الدنيا لو أن ابن أدهم رآه رأى فيه المشقة والعسرا
ولـ أبي هلالة الشاعر الكبير قصيدة هائلة مبدعة رنانة في سماحة الشيخ وللمجذوب قصيدة بديعة من أبياتها:
روى عنك أهل الفضل كل فضيلةٍ فقلنا حديث الحب ضربٌ من الوهم
فلما تلاقينا وجدناك فوق ما سمعنا به في العلم والأدب الجم
فلم أر بازاً قط من قبل شيخنا يصيد فلا يؤذي المصيد ولا يدمي
والباز هو الصقر، والشيخ اسمه ابن باز.
ولي فيه قصيدة تقارب خمسين بيتاً، من أبياتها:
قاسمتك الحب من ينبوعه الصافي فقمت أنشد أشواقي وألطافي
لا أبتغي الأجر إلا من كريم عطا فهو الغفور لزلاتي وإسرافي
عفواً لك الله قد أحببت طلعتكم لأنها ذكرتني سير أسلافي
يا دمع حسبك بخلاً لا تجود لمن أجرى الدموع كمثل الوابل السافي
يا شيخ يكفيك أن الناس قد شغلوا بالمغريات وأنت الثابت الوافي
أغراهم المال والدنيا تجاذبهم ما بين منتعلٍ منهم ومن حافي
مجالس اللغو ذكراهم وروضتهم أكل اللحوم كأكل الأغطف العافي
وأنت جالست أهل العلم فانتظمت لك المعالي ولم تولع بإرجاف
بين الصحيحين تغدو في خمائلها كما غدا الطلُّ في إشراقه الضافي
تشفي بفتياك جهلاً مطبقاً وترى من دقة الفهم دراً غير أصداف
ومنها:
أراك كالضوء تجري في محاجرنا فلا تراك عيون الأغلف الجافي
كالشدو تملك أشواقي وتأسرها بنغمة الوحي من طه ومن قاف
ما أنصفتكَ القوافي وهي عاجزة وعذرها أنها في عصر أنصاف
يكفي محياك أن القلب يعمره من حبكم والدي أضعاف أضعافِ
يفديك من جعل الدنيا رسالته من كل أشكاله تفدى بآلاف
والشيخ محبوب إلينا، نحبه في الله، ونتقرب إلى الله بحبه، والحمد لله رب العالمين.(347/23)
الأسئلة(347/24)
محاولة تشويه صورة الشيخ
السؤال
لماذا يطعن بعض الملحدين والضالين في فضيلة الشيخ ويحاولون تشويه صورته؟
الجواب
سنة الله عز وجل في الصالحين قال الله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31] {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان:20] وأكرم الناس وأجلهم وأشرفهم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك قالوا: ساحر، وكاهن، ومجنون، وافتروا عليه.(347/25)
البيع في المساجد
السؤال
أرجو أن توجه نداءً سريعاً إلى الإخوة الذين يبيعون المساويك داخل المسجد بالخروج؟
الجواب
أرجو من الإخوة الذي يبيعون المساويك داخل المسجد أن يخرجوا من المسجد وينسحبوا بدون قيد ولا شرط، ولهم خمس دقائق فترة الانسحاب، لأن المسجد ليس للبيع والشراء، يقول صلى الله عليه وسلم في الصحيح: {من رأيتموه يبيع في المسجد، فقولوا: لا أربح الله تجارتك، فإن المساجد لم تبن لهذا}.(347/26)
كلمة عن سيد قطب
السؤال
أرجو أن تفيدنا بكلمة عن الشيخ الأستاذ سيد قطب؟
الجواب
هو صاحب الظلال، نسأل الله أن يجعله شهيداً، وهو ممن نشر الفكر الإسلامي العامر في كتبه ورسائله وفي دعواته، والرجل يظهر منه الصدق والإخلاص في كلامه، وهو رجل بصر الواقع وعرفه ودرس الثقافة الغربية والشرقية ما يقارب أربعين سنة، ثم جاء يكتب عن من فهم عميق، وهو أكثر من أثر على الغربيين في نسف حضارتهم بقلمه، لأنه يكتب من واقع القوة -رحمه الله- وقد رأيت له مقالة نقلها الخالدي وهو يرى الحضارة الغربية، قال: والله لقد تحقق في الغرب قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام:110] وفي الظلال ثروة، على أن فيه بعض الملاحظات التي لا يخلو منها بشر، فنسأل الله أن يتغمده بالرحمة، وأن يجمعنا به في دار الكرامة، وله كتب كثيرة منها" معالم في الطريق " وهو من أقوى كتبه على الإطلاق، و" الإسلام والعدالة الاجتماعية "، و" هذا الدين "، و" المستقبل لهذا الدين "، و" مقومات الحضارة " وغيرها من الرسائل.(347/27)
الاختلاف سنة كونية
السؤال
لماذا يختلف الشيخ مع بعض العلماء في الفتاوى؟
الجواب
الاختلاف رحمة واسعة، والإجماع حجة قاطعة، والاختلاف في الفرعيات من عهد الصحابة رضوان الله عليهم، ولم يعنف أحدهم على الآخر، والاختلاف في الفرعيات موجود، وهذه من سعة الدين، فـ أبو حنيفة يخالف مالكاً في بعض المسائل، وأحمد يخالف مالكاً لما رأوه من الدليل، وكما ذكر ابن تيمية أن لهم أعذاراً أربعة:
الأول: أنه قد يبلغ الدليل أحدهم ولا يبلغ الآخر.
الثاني: أن يصح عنده الدليل ولا يصح عند الآخر.
الثالث: أن يكون منسوخاً عنده وثابتاً عند الآخر.
الرابع: أن يفهم منه ما لا يفهم الآخر.
وأما أصول العلم فإن العلماء مجمعون عليها، والحمد لله.(347/28)
كثرة أعمال الشيخ
السؤال
لماذا لا يزورنا الشيخ/ عبد العزيز بن باز في أبها؟
الجواب
الشيخ أمور العالم الإسلامي على رأسه، وهو لا يستطيع أن ينتقل من مكان إلى مكان إلا بمهمات، وأما الدعاة المحتسبون فكثير، وهم يقومون بالنيابة عن الشيخ في إلقاء الدروس العلمية، والشيخ دائماً -حفظه الله- يدعو، وكم حرضنا وحرض كثيراً من الإخوة طلبة العلم بالإكثار من المحاضرات والدعوة وتبليغ دين الله، فغفر الله له.(347/29)
جمع الشويعر لفتاوى الشيخ
السؤال
هل هناك كتاب يجمع فتاوى الشيخ؟
الجواب
له رسائل كثيرة، لكن بدأ الدكتور الشويعر يجمع فتاوى الشيخ وكلماته في كتب، وأظنه قد أخرج منها ثلاثة أجزاء.(347/30)
أهل جيزان
السؤال
كيف وجدت أهل جيزان؟
الجواب
وجدت فيهم ما يرفع الرأس، ويثلج الصدر، بل شيء ما أستطيع أن أتحدث عنه، ولكن اسألوا عنهم الركبان.
أسائل عنهم كل غادٍ ورائحٍ وأومي إلى أوطانهم وأسلم
أما والذي شق القلوب وأوجد الـ ـمحبة فيها حيث لا تتصرم
لأنتم على بعد الديار وقربها أحبتنا إن غبتم أو حضرتم(347/31)
تعريف بمحاضرة: (أبو ذر في عصر الكمبيوتر)
السؤال
ما عنوان المحاضرة المقبلة يوم السبت؟
الجواب
عنوان المحاضرة المقبلة إن شاء الله: " أبو ذر في عصر الكمبيوتر"، وسوف أتحدث فيها عن علاقة أبي ذر بالكمبيوتر، وهي ثلاث علاقات:
أولاً: سوف أتحدث عن أبي ذر مع البروستريك التي أتى بها جرباتشوف، لأن كارل ماركس أتى ببعض نظرياته، وظنوا أن أبا ذر يوافقهم في ذلك في قضية الانفتاح في عالم المال، وألفوا رسالة في موسكو في عهد برجنيف تتكلم عن أبي ذر، وصوروه بلحيته وبعكازه وعليه عمامة، وقالوا: وافقنا في مبدأ الماركسية وشيوع المال، وسوف أورد هذا.
الأمر الثاني: هل جرباتشوف لما عارض برجنيف واستالين ولينين وماركس في قضية البروستريكا (أي: الانفتاح) هل يعارض أبا ذر؟ ومن المصيب والمخطئ؟.
الأمر الثالث: ما الذي استفدناه من الكمبيوتر بعد أن مات أبو ذر؟ وهل نقص على أبي ذر شيء من معالم الحياة ومعالم التقنية والعطاء في الدنيا يوم لم يكن عنده كمبيوتر أم لا؟.
وإنما جعلت الكمبيوتر رمزاً سوف أشرحه، إلى قضايا أخرى تنتظرنا إن شاء الله محققة بإذن الباري، فتكون يوم (28/ 5/1411هـ) في هذا الجامع بعد صلاة المغرب، ويوجد مكان خاص بالنساء، وخاصة أنه يهم النساء أن يسمعن عن الكمبيوتر شيئاً.
وهناك درس مساء الجمعة في" مسند الإمام أحمد " لطلبة العلم بعد صلاة المغرب، مساء كل يوم جمعة، يجدر بالإخوة حضوره لعموم الفائدة.(347/32)
سبب اختيار ابن باز للترجمة
السؤال
عندنا علماء كثير، فلماذا ميزت الشيخ/ عبد العزيز بن باز؟
الجواب
لأنه أكبر علمائنا، ولأسباب ذكرتها في أول المحاضرة، وإلا فكلهم فضلاء وكلهم أخيار، والذب عنه ذبٌ عن غيره، والله الموفق إلى سواء السبيل.(347/33)
نصيحة لمن يتأخر عن المحاضرات
السؤال
يلاحظ في الناس التأخر عن المحاضرات العامة المفيدة؟
الجواب
عليك أن تبلغ ما استطعت، ونحن نحبذ أن يحضروا علَّ الله أن ينفع، وأن ينصر بهم الحق، وأن يوضح بهم، فإنهم لا يخلون في هذا المجلس من أربع فوائد:
1 - رحمة من الله عامة.
2 - وتنزل السكينة.
3 - وحفوف الملائكة.
4 - ويذكرهم سُبحَانَهُ وَتَعَالَى فيمن عنده ورب مجلس واحد يغفر به سبعون مجلساً من مجالس اللغو، وربما سعادة الإنسان تبدأ من هذه الجلسة، وعلى المسلم إذا حضر مجالس الخير والمحاضرات أن يستدعي إخوانه وأصدقاءه وجيرانه حتى يدعوهم إلى الخير كما قال صلى الله عليه وسلم: {من دل على هدى، فله مثل أجر فاعله} ثم إن وقت المغرب والعشاء مستهلك، لكن من يحضر هنا يحصل على الفوائد التي ذكرت وأعظم منها، وما عند الله خيرٌ وأبقى.(347/34)
أبناء الشيخ
السؤال
هل يوجد لسماحة الشيخ/ عبد العزيز بن باز أبناء؟
الجواب
نعم، له أبناء كبار، منهم: ابنه الكبير عبد الله ومنهم: أحمد طالب علم في كلية الشريعة وغيرهم والشيخ مبارك ونحن أبناؤه، وكل شاب يحمل لا إله إلا الله من أبناء الشيخ، والشيخ له تلاميذ جهابذة من طلبة العلم الأخيار الدعاة، منهم الشيخ/ عبد العزيز المشعل، والشيخ الفاضل العلامة/ عبد العزيز الراجحي، والشيخ/ عمر العيد، وكثير من طلبة العلم الأخيار حفظهم الله ونفع بهم الأمة.(347/35)
اهتمام الشيخ بمشاكل الناس
السؤال
من ميزات سماحة الشيخ أنه إذا بُلغ عن مشكلة مع أنها لا تخصه يقول: سنعمل على حل هذه المشكلة والله المستعان نرجو شرح هذه العبارة؟
الجواب
يقصد الشيخ أنه سوف يبذل جهده وشفاعته وطاقته، والشيخ دائماً يبذل جاهه للناس ويشفع ويقدم رسائله ووصاياه، ويقوم مع الفقير والمسكين، وهذه ميزة علماء السنة؛ أنهم لا يجلسون تحت المكيفات ويغلقون الأبواب ويتركون الجيل، ولا يقضون حوائج الناس، لا.
بل العالم يتواضع، ويجلس مع الكبير والصغير، ويقضي حوائج الأمة والفقراء، ويسأل عن أحوال الناس، وقد حدثت عن الشيخ: أنه كان إذا مرض أحد الكبار من العوام اتصل به في الهاتف وسأل عن أحواله وربما زاره، وقال لي بعض طلبة العلم: كان الشيخ ساكناً في بيت له قديم وحوله جيران، فلما انتقل الشيخ إلى بيته الجديد في حي آخر كان يزور جيرانه هناك الفينة بعد الفينة، ويتفقد أحوالهم ويسأل عنهم باستمرار، وهذه ميزة العلم الشرعي الذي وفق له الشيخ.(347/36)
الشيخ والشعر
السؤال
هل يقول الشيخ الشعر؟
الجواب
ذكر المجذوب: أنه في أول حياته كان يقول الأبيات الشعرية الجميلة، ولكنه اهتم بالعلم وترك الشعر جانباً، فالشيخ عنده ملكة في الشعر والقصائد، وهو يستمع لها ويثني على من قالها إذا أصاب الحق.(347/37)
الطريق إلى ما وصل إليه الشيخ
السؤال
كيف نصل إلى ما وصل إليه الشيخ؟
الجواب
ليس هناك حاجب يحجبك أن تصل إلى مثل ما وصل إليه وأحسن وأكثر؛ إذا صدقت وبذلت وتعلمت ودعوت الله كثيراً، فسوف تصل بإذن الله.
والحمد لله رب العالمين.(347/38)
حديث أم زرع
ما أعظم خلق النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأزواجه صلى الله عليه وسلم، وما أعظم لغة العرب وما أجملها!
ففي حديث أم زرع تجد العجب العجاب من الوصف، إحدى عشرة امرأة، كل واحدة تصف أخلاق زوجها، والنبي يسمع عائشة وهي تذكر كلام هؤلاء النسوة، وفي آخر المطاف يعلق النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة فيها منهج لكيفية معاملاته لنسائه وقد آتاه الله جوامع الكلم فقال: (كنت لك كأبي زرع لأم زرع) تصفح هذه المادة؛ لترى قصة أبي زرع وأم زرع.(348/1)
نص حديث أم زرع
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أمَّا بَعْد:
فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته
معنا في هذه الليلة ومع صحيح البخاري حديث عجيب غريب، وهو ندوة حوار بين إحدى عشرة امرأة، اجتمعن يوماً من الدهر وتعاقدن وتعاهدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، وتكلمت كل امرأة منهن بمعاملتها مع زوجها ومعاملة زوجها معها، وفي يوم من الأيام جلس رسول الهدى صلى الله عليه وسلم مع عائشة رضي الله عنها وأرضاها مداعباً ومؤانساً ومحدثاً، فقصت عليه خبر النسوة، عليه أفضل الصلاة والسلام.
فلنستمع إلى هذا الحديث الذي رواه البخاري في (باب حسن المعاشرة مع الأهل).
قال رحمه الله تعالى: حدثنا سليمان بن عبد الرحمن وعلي بن حجر قالا: أخبرنا عيسى بن يونس قال: حدثنا هشام بن عروة عن عبد الله بن عروة عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: {جلس إحدى عشرة امرأة، فتعاهدن وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً، قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى، ولا سمين فينتقل.
قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره، إن أذكره أذكر عجره وبجره.
قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق، إن أَنْطِق أُطَلَّق، وإن أسكت أُعلَّق.
قالت الرابعة: زوجي كلَيْلِ تهامة، لا حَرَّ ولا قَرَّ ولا مخافة ولا سآمة.
قالت الخامسة: زوجي إن دخل فَهِدَ، وإن خرج أَسِدَ، ولا يسأل عما عهد.
قالت السادسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث.
وقالت السابعة: زوجي غياياء أو عياياء، طباقاء، كل داءٍ له داء، شجَّكِ أو فلَّكِ أو جمع كلاًّ لكِ.
قالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب، والريح ريح زرنب.
قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد، طويل النجاد، عظيم الرماد، قريب البيت من الناد.
قالت العاشرة: زوجي مالك وما مالك؟! مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر، أيقن أنهن هوالك.
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع فما أبو زرع؟ أناس من حلي أذني، وملأ من شحم عضدي، وبجحني فبجحت إلي نفسي وجدني في أهل غنيمة بشق، فجعلني في أهل صهيل وأطيط، ودائس ومنق، فعنده أقول فلا أقبح، وأرقد فأتصبّح، وأشرب فأتقنّح.
أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟ عكومها رداح، وبيتها فساح.
ابن أبي زرع فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة، ويشبعه ذراع الجفرة.
بنت أبي زرع فما بنت أبي زرع؟ طوع أبيها، وطوع أمها، وملء كسائها، وغيظ جارتها.
جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثاً، ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً، ولا تملأ بيتنا تعشيشاً قالت: فخرج أبو زرع ذات يوم والأوطاب تمخض، فلقي امرأة معها ولدان لها كالفهدين، يلعبان من تحت خصرها برمانتين، فطلقني ونكحها، فنكحت بعده رجلاً سرياً، ركب شرياً، وأخذ خَطِياً، وأراح علي نعماً ثرياً، وأعطاني من كل رائحة زوجاً، وقال: كلي أم زرع وميري أهلك، فلو جمعت كل شيء أعطانيه، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع.
قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع}.
هذا الحديث من أعقد وأغرب الأحاديث في كتب السنة، وقد شرحه ما يقارب عشرة من العلماء، كل شرح في مجلد، وأعظم من شرحه القاضي عياض، قاضي المغرب وعالمها، وابن حجر شرحه فيما يقارب ثلاثين صفحة وهو حديث عجيب، فيه أكثر من خمس وعشرين فائدة، سوف تمر بنا بإذنه سُبحَانَهُ وَتَعَالى، والآن نأتي إلى الشرح.(348/2)
عائشة تتكلم والنبي صلى الله عليه وسلم ينصت
يقول البخاري: (باب حسن المعاشرة مع الأهل) يقول: كيف يكون المسلم مع أهله في حسن المعاشرة، وفي وطء الكنف ولين الجانب وفي السهولة كيف يكون؟ ثم يأتي بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم مع عائشة، ويظهر لنا أن الرسول عليه الصلاة والسلام مع كثرة أشغاله وأعماله وارتباطاته وما يأتيه من نوائب، بل أمور الأمة تدار على كفه عليه أفضل الصلاة والسلام، وأحداث الأمة وجهادها وإدارتها وقيادتها؛ ومع ذلك وجد وقتاً يستمع إلى مثل هذا الكلام، وهذا من لين جانبه وحلمه ومن بره عليه أفضل الصلاة والسلام، كما قال تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
ثم أتى البخاري يتكلم بهذه القصة العجيبة الرسول عليه الصلاة والسلام كان يحب عائشة أكثر من سائر نسائه، وكانت عائشة مع ذلك بنت أبيها، فـ أبو بكر أحفظ الناس وأفصحهم وأصفحهم يحفظ السير والأنساب والأخبار والأشعار، وإذا تكلم أبو بكر في مجلسٍ من مجالس العرب سكتوا جميعاً، فأتت ابنته عائشة تشبهه، ومن يشابه أبه فما ظلم.
تلك العصا من هذه العُصية لا تلد الحية إلا حية
فكان عليه الصلاة والسلام يأنس لحديث عائشة، ويسألها عن أخبار الناس؛ لأنها -كما قال الزهري: كانت تحفظ ثمانية عشر ألف بيت شعر، وكانت تحفظ أخبار العرب، وما وقع أيام العرب وقصص العرب، وفي غدوة من الغدوات جلس عليه الصلاة والسلام مستريحاً هادئ البال مطمئن النفس، فأخذ يداعب ويمازح زوجته المبرأة الطاهرة الصديقة بنت الصديق، فأخذت تقول: يا رسول الله! جلس نسوة تلف بهم الدهر وهؤلاء النساء قال أبو محمد بن حزم الظاهري: هن من خثعم، وهي من قبائل الجنوب الشهيرة في التاريخ، ومن هذه القبيلة الخثعمي الذي يقول:
ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد لقد زادني مسراك وجداً على وجدي
ومنها الشنفرى الأزدي صاحب لامية العرب، وكثير من الأخيار والشعراء.
فقال أبو محمد بن حزم، قال: هن من خثعم وقال بعضهم: هن من اليمن.
ولا يهمنا أن يَكُنَّ من اليمن أو من غطفان أو من خثعم أو مدغشقر، إنما الفائدة أنهن جلسن فاسمع الكلام.
فتقول عائشة والرسول ينصت، معلم الخير ومربي الإنسانية ينصت إلى الكلام، وفي الأخير سوف يعلق عليه الصلاة والسلام بكلام.
قالت تخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم: {جلس إحدى عشرة امرأة فتعاقدن وتعاهدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً} إحدى عشرة امرأة خلا لهن الجو
خلا لك الجو فبيضي واصفري ونقري ما شئت أن تنقري
خرجن من البيوت واجتمعن، قال أهل العلم كما قال ابن حجر: إذا اجتمع النساء فأكثر حديثهن في الرجال، وإذا اجتمع الرجال فأكثر حديثهم في المعاش.
أي: في الدخل والكسب والراتب والتقاعد والزيادات والعلاوات، وربما يخلطون كلاماً من كلام النساء، أي: يتحدثوا في النساء، لكن هذا في النادر، أما إذا اجتمعت اثنتان من النساء المتزوجات، فأكثر كلامهن في الرجال، ماذا فعل زوجها وماذا صنع؟ أخلاقه معاملته زياراته صلته.(348/3)
صفة زوج الأولى
قالت: فتعاهدن عهداً بالله ألا تكذب الواحدة على أخواتها في هذا الأمر {وتعاقدن ألا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئاً}.(348/4)
زوج الأولى سيئ الخلق وبخيل
{قالت الأولى: زوجي لحم جمل غث على رأس جبل وعر، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل} وصمته وصدعته في رأسه؛ لأنها عاهدتهن أن تخبرهن، فوصفته بأقبح الأوصاف، لحم الجمل يقولون: من أردأ اللحوم، ويقولون: إنه يدمي القلوب، ومن داوم عليه أثر عليه مرضاً، وهو من أقسى لحوم الحيوانات على الإطلاق، وحذر كثير من الأطباء من المداومة عليه فتقول: زوجها لحم جمل، وليتها قالت: لحم جمل وسكتت ولكنها قالت: لحم جمل غث، أي: هزيل ضعيف، جمل منحور معقور ليس فيه خير، فهو لحم جمل، ومع ذلك فهو غث هزيل، قيل: إنها تعني أنه سيئ الخلق وليس بكريم.
والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: {لا يجتمع في المؤمن خصلتان: سوء الخلق والبخل} ربما تجد بعض الناس من المؤمنين سيئ الخلق لكنه كريم اليد، وتجد بعض المؤمنين بخيلاً، لكنه حسن الخلق، أما أن يجتمع بخل وسوء خلق فلا يكون ذلك في المؤمن، فهي تقول: لحم جمل غث.(348/5)
زوج الأولى أيضاً يصعب نيل الشيء منه
وتقول: {(على رأس جبل)} وهذا وعورة خلقه، فليت هذا اللحم الذي فيه بعض الخُلق قريب منا، لكنه على رأس جبل، أي أنه لا يتحقق الطلب منه إلا بعد شق الأنفس، إذا طلبت منه شيئاً تظل تراجعه وتمدحه بمحاضرات وتدعو له في أدبار الصلوات، وتبكي بين يديه حتى يأتي بهذا الطلب، فطلبه كلحم الجمل الغث على رأس الجبل.
{قالت: (لا سهل فيرتقى)} أي: ليس الجبل سهلاً فنرتقي ونأخذ هذا الغث، وليس اللحم سميناً حتى ننقله وهذا من أبلغ الأوصاف، وهذا يسمى اللف والنشر عند أهل العلم، فهي قد لفت الكلام ثم نشرته، كما قال الحفاظ وقد سئل ابن تيمية عن الفلسفة وعلم المنطق فقال: (علم المنطق والفلسفة لحم جمل غث على رأس جبل، لا سهل فيرتقى ولا سمين فينتقل) وهذا من أحسن ما يستشهد به في مثل هذه المواضع، فإذا سئلت عن علم من العلوم لا ينفع ولا يفيد ولا يقدم شيئاً فوصفه هذا، وذلك مثل بعض العلوم العصرية التي لا تنفعك في الدنيا ولا في الآخرة، مثل علم الفلسفة، علم الكلام، وعلم المنطق لحم جمل غث على رأس جبل، لا الجبل سهل فيرتقى فيه ويؤخذ اللحم، وليس اللحم مع صعوبة الجبل يستحق الحمل.
إذاً الأولى ذمت زوجها باللف والنشر، أوجزت ثم نشرت خبره؛ لأنها عاهدتهم ألا تكتم، فهو من أسوأ الرجال خلقاً نعوذ بالله من ذلك، وسوف تأتي فائدة هذا الكلام في آخر الدرس.(348/6)
الثانية زوجها كثير العيوب
{قالت الثانية: زوجي لا أبث خبره} تقول: السكوت أحسن، أي: لا أريد أن أخبركم بأشياء، لكن اسمعوا مني موجزاً فهو أشر مما أتكلم به عنه، فالرجل فوق ما أتكلم، وأنا لا أستطيع أن أصف السوء الذي فيه من كثرة سوئه وفحشه {لا أبث خبره، إني أخاف ألا أذره} لا أترك شيئاً، أخاف إذا بدأت في الكلام ألا أسكت حتى غروب الشمس مما فيه من القبائح والمعايب، لكن السكوت أحسن.(348/7)
معنى عجره وبجره
{إن أذكره أذكر عجره وبجره} العجر: عروق في البطن، والبجر: عروق في الظهر، ومعنى الكلام العجر والبجر: الهموم والأحزان والعيوب والقبائح.
تقول: فيه عجر وبجر، فهو على الهموم والأحزان، ويورث الإنسان هموماً وأحزاناً، أي أنه يأتي بالحمى الشوكية.
علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما قُتِل طلحة في معركة الجمل بكى كثيراً وقال: [[اللهم إني أشكو إليك عجري وبجري]] وهذا في خطبته المشهورة الصحيحة، ومعناه: يا رب أشكو إليك همومي وأحزاني وما جرى لي، وما عندي من المصائب والكوارث؛ لأنه فقد الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم ماتت زوجته فاطمة، وفقد أبا بكر وعمر وعثمان، ثم قتل الصحابة ثم اختلفت الأمة بين يديه، ثم أتت عليه الخوارج وتكالبت عليه الدنيا من كل مكان، فقال: [[اللهم إني أشكو إليك عجري وبجري]] ويعلق ابن كثير على هذا الكلام فيقول: عجيب يختلفون على أبي الحسن علي بن أبي طالب وهو أخشى أهل الأرض، وأعلم أهل الأرض، وأزهد أهل الأرض في عهده، يقول: لا يعطونه الخلافة، ويختلفون عليه وهو في عهده أخشى أهل الأرض وأزهد أهل الأرض فالشاهد أنه ضاقت به أيامه ولياليه رضي الله عنه فقال: [[اللهم إني أشكو إليك عجري وبجري]] أي: دسائسي وغلائلي وهمومي وأحزاني ويقال: إنه سأل الله الشهادة فوفقه الله للشهادة.
فتقول المرأة: أنا لا أتكلم في هذا الرجل يكفي أني أعطيتكم موجزاً، والأحسن أني لا أتكلم؛ لأن الكلام لا يفي، وسوف آخذ عليكم الوقت لو تكلمت فيه.(348/8)
الثالثة تصف زوجها بأوصاف عجيبة
{قالت الثالثة: زوجي العَشَنَّق}(348/9)
من أوصافه العَشَنَّق
العَشَنَّق: قيل: هو الطويل المفرط في الطول، والعرب تقول: الطويل المفرط في الطول فيه خبل وهبل.
واسمحوا لي إذا كان هناك أناس طوال، لكن أنا أنقل الشرح، فإنه يوجد من الناس من هو طويل وعنده عقل، لكنه نادر، لكن ليس عندنا طوال مثل (العَشَنَّق) فإن العَشَنَّق هو: الطويل المفرط في الطول، قال ابن حجر: والسبب هو لبعد دماغه عن قلبه.
فلبعد المسافة لم يصبح هناك اتصال في التيار، فإن العرق ينقطع أحياناً، فلا يكون هناك توصيل بين العقل والقلب، فيفقد عقله أحياناً، هذا الطويل المفرط في الطول.
وقيل: إنه سيئ الخلق، شرس الأخلاق، فإذا سلمت عليه أقام الدنيا وأقعدها، فهو يغضب مما لا يُغضب منه، قال أهل العلم والأدب: (من غضب بما ليس بمغضب فهو أحمق) فتقول: إنه أحمق، كريه المنظر، شرس الخلق (عشنق) وأنا أميل إلى هذا؛ لكي لا يتأثر من فيه طول.(348/10)
إن أَنْطِق أُطَلَّق
{قالت: زوجي العشنق، إن أَنْطِق أُطَلَّق} أي: إذا تكلمت فالطلاق جاهز على طرف اللسان، فهو لا يتعب ويبحث عن الطلاق أو يسأل نفسه، ولكن هو لا يرد إلا بالطلاق.(348/11)
إن أسكت أُعَلَّق
تقول: {وإن أسكت أعلق} أي: وإن أسكت عن الكلام معه فأنا معلقة.
كما قال سبحانه: {فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] والمعلقة: هي التي ليست مطلقة فتعرف طريقها، ولا عندها زوج يحفظها، إنما هي في البيت متزوجة، لكنها منتسبة وليست منتظمة في الزواج، فهي معلقة في البيت، وإذا تكلمت فالطلاق جاهز ولقد وصفته بأبلغ الأوصاف وذلك من جهة المعنى، وإلا فهي أقبح الأوصاف إرادةً وقصداً.(348/12)
وقفة مع زوج الرابعة
{قالت الرابعة: زوجي كَلَيْلِ تهامة لا حَرَّ ولا قَرّ ولا مخافة ولا سآمة}.(348/13)
زوجها كليل تهامة
تقول: أما زوجها فمثل ليل تهامة، من ألطف الأجواء، يقولون: لشدة وهج النهار وحرارته يهدأ الليل في تهامة، فيكون من أحسن الليالي، وهو أحسن من ليالي الحجاز، فيهب فيه النسيم العليل، وتبرد فيه الأكناف، وتتوطأ فيه الأردان، فهو بهدوئه وصلاحه وخيره وقربه وتواضعه مثل ليل تهامة، (لا حر ولا قر) ليس بشديد الحر، وليس بقر أي: ليس ببارد، فهو ليس بالبارد البليد، وليس بالحار؛ فإن بعض الناس يبلغ به إلى أن يتبلد حسه فلا يغضب أبداً ويقول: هذا حلم.(348/14)
الوسطية في الأخلاق من الصفات الحسنة
يقول الشافعي: (من استغضب فلم يغضب فهو حمار) أي: أنه يرى المحرمات تنتهك فيقول: الحمد لله الذي رزقني هذا الحلم الواسع، اللهم زدنا من الحلم.
وهذا -والعياذ بالله- يسمى دياثة، أن يرى محارم الله في بيته تنتهك، ويرى حدود الله تتعدى، ويرى الحرمات تقطع، وهو لا يغضب!! ورجل آخر يغضب بدون سبب، فهو أحمق فذاك يبلغ به التبلد إلى الغباء، وهذا يبلغ به درجة الغضب إلى الحمق، لكن هذا وسط، يغضب في موطن الغضب ويرضى في موطن الرضا.
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا مضر كوضع السيف في موضع الندى
(لا حر ولا قر) القر: شدة البرد، يقول علي رضي الله عنه وهو يخطب في أهل العراق: [[يا أشباه الرجال ولا رجال، أحلام الأطفال وعقول ربات الحجال إن قلت: انفروا في الحر، قلتم: حر، وإن قلت: انفروا في البرد، قلتم: قر، فإلى متى حر وقر؟!]] وهو يعلن النفير للجهاد، فالحر شدة الحر، والقر شدة البرد.(348/15)
وصف الخامسة لزوجها
{قالت الخامسة: زوجي إذا دخل فِهِدَ، وإذا خرج أَسِدَ، ولا يسأل عما عَهِد} فَهِدَ: مشتق من الفهد، والفهد حيوان معروف أصغر من الأسد وقد احتار كثير من أهل العلم في وصف الخامسة لزوجها.
ولا تقولوا: هذا الكلام ماذا نستفيد منه، فقد استمعه سيد الخلق عليه الصلاة والسلام، وأشرف الخلق، وأكرم من مشى على الأرض.
تقول: زوجها (إذا دخل فهد) إذا دخل فهو يشبه الفهد، كأنه فهد، قيل: إما أنها تسبه أو تمدحه، فإن سبته قالت: كثير النوم مثل الفهد، أي: لا يستفاد منه، يقدم له العشاء وهو ينعس، فتقول: كثير النوم وكثير الاستغراق في النعاس، يقول الجاحظ: أكثر الحيوانات نوماً الفهد فإنه ينام أكثر مما يستيقظ، وإذا تعب قليلاً ألقى رأسه وأتاه النوم، حتى ربما تأتي عليه الفئران وتعتدي على رأسه وهو لا يشعر.(348/16)
مواصفات الفهد
وهو حيوان له مواصفات:
منها: أنه أسرع الحيوانات على الإطلاق ولا يدركه أحد إلا أن يشاء الله ومنها: أنه منتن الرائحة، ومنها: أنه يصارع بجدارة، حتى أنه ربما أدرك الأسد وقاتله، وهو صغير الجسم، فإن كانت تسبه فمعنى ذلك أنه كثير النوم، وإن كانت تمدحه فلأن الفهد يمتاز عن سائر الحيوانات بالحياء وبالخجل، والعجيب أنهم ذكروا أن الفهد إذا رأى المرأة صدف عنها، وقالوا: إذا رأى المرأة كاشفة عن وجهها غض بصره حياء وهذا يذكره الجاحظ وغيره من العلماء، ويقولون: إنه هو والنمر وهذه الفصائل تغض عن المرأة ولا تعدو عليها لكرمها، فكأنها تصف زوجها بأنه كريم الجانب، وهذا على المدح.(348/17)
وقفة مع الأسد
(وإذا خرج أسد) أي: كالأسد في شجاعته، وأشجع الحيوانات بالإجماع هو الأسد، والله قد ذكره في القرآن في سورة المدثر في قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر:51] وقسورة: هو الأسد، والأسد له تسعة وتسعون اسماً منها: الهزبر، والليث، والغضنفر، وقسورة، وغير ذلك، وهو ملك الحيوانات.
يذكر عن علي بن أبي طالب أنه قال لما قتل عثمان: [[أكلتُ يوم أكل الثور الأبيض، قالوا: وما أصل الثور الأبيض يا أمير المؤمنين؟ قال: كان هناك ثلاثة ثيران، أبيض وأحمر وأسود، فأتى الأسد، فاجتمع على الثيران يريد أكلها، فاجتمعت عليه فناطحته حتى شرد، فأتى الأسد بحكمة فنادى الثور الأسود وقال: تعال، ثم قال له: إن هذا الثور الأبيض عدو لكم أراه دائماً يزاحمكم على المرعى، ألا تريد قتله؟ قال: نعم.
قال: تعال معي، فنزل الثور الأبيض إلى الوادي، فهجم الثور الأسود والأسد على الأبيض فقتلوه، ثم أتى إلى الثور الأسود وقال: والأحمر كذلك نغص عليك حياتك، تعال نقتله قال: نقتله فاجتمعوا فقتلوه، فقال الأسد: بقيت أنت يا عدو الله، فأكله]] فيقول علي رضي الله عنه لذكائه وفطنته ودهائه: أكلت يوم أكل الثور الأبيض.
يقول: إن الناس يظنون أنني أريد قتل عثمان رضي الله عنه وأرضاه، حتى كان يقول على المنبر: [[لعن الله من قتل عثمان، لعن الله من أشار بقتل عثمان لعن الله من رضي بقتل عثمان.
ويقول رضي الله عنه وأرضاه: كيف أنا أشاور وأمالئ؟!]] لأن الخوارج والنواصب اتهموه بأنه مالأ، فقال كيف أمالئ وقتلي سوف يكون بسبب قتل عثمان، وسوف يقتلونني، فهذا مثل قصة الثور الأبيض.(348/18)
طرفة من كتاب كليلة ودمنة
ومما ذكر صاحب كتاب كليلة ودمنة وهذه نوردها وهي مثل الوردة تشم ولا تؤكل يقول: ذهب الثعلب يبحث عن صيد؛ لأنه جائع، فاجتمع الأسد بالحيوانات اجتماعاً طارئاً، فاجتمعوا فلما جلسوا قال: أين الثعلب؟ أين أبو معاوية؟ -والثعلب اسمه: أبو معاوية- فقال الذئب -والذئب نمام حرش عليه- قال: ذهب وعصاك، وقد أخبرته أنك تريدنا فأبى فقال: سوف يأتي عدو الله -أو كما قال- فلما أتى قال: أين أنت؟ وكشر في وجهه، فقال: سمعت أنك مريض -وقد كان الأسد مريضاً- فذهبت أبحث لك عن علاج -وقد سمع أن الذي نم عليه الذئب- قال: أين وجدت علاجي؟ قال: وجدت علاجك في خصية الذئب قال: عليَّ بالذئب، تعال يا أبا حُصين- والذئب اسمه: أبو حُصين فاقترب فأخذ خصيته بكفه، فنزل الذئب ودماؤه تثعب، فقال الذئب للثعلب: لماذا تفعل هكذا؟ قال: لتتعلم كيف تجلس عند الملوك.
وهذه فيها عبرة، والذي كتب كليلة ودمنة من الحكماء، وكتبها حتى يعرف الناس شر النميمة، ونقل الكلام، فإنه {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر:43].(348/19)
زوج الخامسة لا يسأل عما عهد
تقول: (ولا يَسأل عما عَهِد) فهي تمدحه وتقول: نحن في خير وفي نعيم لا يسأل لماذا أكلنا كثيراً، ولا لماذا صرفنا هذا، ولا لماذا لبسنا كثيراً فإن الكريم من الرجال لا يَسأل عن المصروفات عنها من كرمه.(348/20)
زوج السادسة كثير الأكل والشرب
{قالت السادسة: زوجي إن أكل لف، وإن شرب اشتف، وإن اضطجع التف، ولا يولج الكف ليعلم البث} فهي تصف زوجها بالنهمة في الأكل، والعرب تعيب ذلك، فهي تقول: أكل الطعام عليها، الغداء والعشاء والفطور، ولم يبقِ لها شيئاً، تقول: إذا أكل لف ما يعرف الأكل بالأصابع، والسنة الأكل بثلاثة أصابع قبل وجود الملاعق، فلما اكتشفت الملاعق في هذا القرن جاز أن يؤكل بالملاعق، فكان الصحابة يأكلون بثلاث، لكن هذا فيما يقبل الأكل بالثلاث، أما الأرز وما يدخل في حكمها فلك أن تأكل بالأربع والخمس.
فهو إن أكل لف أي: يلف الأكل لفاً، ويقولون: يجمعه جمعاً (وإن شرب اشتف) أي: يبتلعه حتى يجرجر نحره كأنه ثور وما يمصه مصاً، ونحن نؤمر في السنة أن نمص الماء مصاً، لا نبتلعه بلعاً حتى يجرجر؛ لأن هذا يؤذي الحلق.
(وإن اضطجع التف) تقول: من وحشته أنه إذا اضطجع أخذ فراشاً وحده، ولا يقترب من زوجته، فهو شرس الخلق لا يُقترب منه (ولا يولج الكف) الكف معروف، (ليعلم البث) تقول: أمرض كثيراً وتصيبني الحمى لكن ليس عنده لطف، ومن لطف الرجل مع أهله، مع أخته أو مع زوجته أن يقترب -كما كان يفعل صلى الله عليه وسلم- ويضع يده على كتفها أو على رأسها أو على كفها ويرى حرارتها، وهذا من اللطف والأنس، بل إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا وجد بعض أصحابه ربما شبك أصابعه بأصابعه أنساً له، وربما داعبهم فضرب في صدورهم، وربما أخذ أحدهم يمازح بكتفه وبعنقه عليه الصلاة والسلام.
فهذه المرأة تقول: هذا ليس عنده من اللطف شيء يأكل الأكل علينا، ويشرب الشراب علينا، ويبتعد بنومه، ولا يمرِّضنا ولا يسأل عنا.(348/21)
كثرة الأكل
وكثرة الأكل أمر موجود، وقد يكون جبلة، وقد يأتي بالكسب والتدريب والرياضة، فإن بعضهم يبدأ قليل الأكل ثم يفتح الله عليه ويهديه، فيصبح من أكثر الناس أكلاً، ولذلك روى ابن قتيبة وابن عبد ربه وابن كثير وابن جرير
عن p=1000258> عمرو بن معد يكرب الزبيدي أنه كان من أكثر الناس أكلاً، وهو الذي يذكره أبو تمام في قوله:
إقدام عمرو في سماحة حاتم في حلم أحنف في ذكاء إياس(348/22)
صفات زوج السابعة
{قالت السابعة: زوجي غياياء أو عياياء، طباقاء، كل داء له داء، شَجَّكِ أو فَلَّكِ أو جمع كلاً لكِ}.(348/23)
زوجها عياياء
هذه السابعة تصف زوجها وتقول: (غياياء) وفي لفظ: (عياياء) فإن كان اللفظ (غياياء) فإن معناه: أنه بلغ منتهى الغي، أي: أنه بلغ منتهى الفجور، فهو فاجر إلى آخر درجة وهذه صيغة مبالغة استخدمت بهذا اللفظ، فهو غاوٍ أدركه الغي ولم يهتد ولم يسدد في أموره.
وإن كان اللفظ (عياياء) فهو بمعنى: عيي، والعييُّ هو البليد الغبي الذي لا يفقه شيئاً، فهو عييُّ غبي بليد ثقيل النفس لا يفهم، قلبه مكتم عليه.(348/24)
معنى طباقاء
(طباقاء) الطباقاء: هو الذي طبق على ذهنه الجهل من أخمص قدميه إلى مشاش رأسه، فقد أصبح مطبقاً عليه بالجهل والغباء والتخلف وفساد الذهن.
(كل داء له داء) أي: أن كل وصف قبيح فألحقه به؛ فإنه يتصف به، فكل ما تعلم في الناس من مقت أومن معيبة، أو قبيحة؛ فهو في هذا الرجل.
والله عز وجل هو الذي خلق وقسم؛ وفي بعض الآثار "أن الله لما خلق آدم جمع طينته من كل بقاع الأرض" من الجبال والسهول والأودية، فأسهل الناس خلقاً من السهل، وأناس من الوعر، وأناس من التربة الطيبة، وأناس من السباخ، فأتت أخلاقهم هكذا، فنسأل الله حسن الخلق، ونسأل الله استقامة الدين، ونسأل الله التسديد في الأمور.(348/25)
معنى قولها: شجك أو فلك
{شَجَّكِ أو فَلَّكِ أو جمع كلاً لك} شجك أي: لا يضرب إلا ويشج، فإذا ضرب كسر شيئاً من العظام، فهو لا يعرف المهادنة (أو فلك) قيل: الشج في الجلد والفل في العظم، وبعض أهل اللغة -كما قال ابن حجر - عكس ذلك، وقال: الشج في العظم والفل في الجلد فهي تقول: هو لا يعرف المهادنة دائماً، فإذا ضرب إما أن يجرح وإما أن يكسر شيئاً إما أن يكسر السن أو يجرح اليد أو يكسر الإصبع؛ فهو لجهله ولسوء خلقه يفعل ذلك (أو جمع كلاً لك) وفي بعض المرات يفتح الله عليه فيجمع الشج والفل، يجرح ويكسر مرة يكسر، ومرة يجرح، ولكن في بعض الأوقات يجرح ويكسر.(348/26)
الثامنة زوجها لطيف الخلق طيب الرائحة
{قالت الثامنة: زوجي المس مس أرنب والريح ريح زرنب} تقول: لطيف الخلق مثل شعر الأرنب، دعوب قريب من النفوس!(348/27)
الزرنب شجر طيب الرائحة
والزرنب شجر طيب الرائحة ينبت في نجد، واستشهدوا على ذلك بقول الأول:
بأبي أنت وفوك الأشنب كأنما ذر عليه الزرنب
امرأة تمدح زوجها وتقول: أفديك بأبي وأفدي فمك الأشنب، أي: المليح والرقيق الأسنان، (كأنما ذر عليه الزرنب) وهو نبت طيب الرائحة.
قالت: والريح ريح زرنب.
أي: أنه من مسكه وطيبه مثل الزرنب، وهذا مطلوب في الرجل؛ أن يكون طيب الرائحة؛ لأن المرأة تطلب من الرجل كما يطلب هو منها، فلا يقترب منها إلا طيب الفم، طيب الرائحة، طيب الخلق ومن حقوق المرأة أن يكون الزوج طيب الرائحة.(348/28)
التاسعة تصف زوجها بالكرم
{قالت التاسعة: زوجي رفيع العماد} رفيع العماد، تقول: عماد البيت، أنه من كرمه وسؤدده يرفع بيته ويبنيه على شرفات الطرق، لا يذهب وينزوي في الحارات ويختفي، وإذا سألوه عن بيته قال: إذا أخذت الشارع إلى اليمين، لف إلى اليسار، فإذا أخذت اليسار لف إلى اليمين، فإذا فعلت ذلك لف لليسار حتى يضيع الذي يستدل، أما الكرماء فإن بيوتهم مشهورة، ولذلك يقول الأول:
ولست بحلَّال التلاع مخافة ولكن متى ما يسترفد القوم أرفد
فهو يمدح نفسه يقول: أنا ما أنزوي في المزابل وفي القمائم وفي آخر الحارات، أنا بيتي كأنه علم في رأسه نار، قالت: رفيع العماد أي: بيته مشهور، ولذلك ذكروا عن إبراهيم عليه السلام أن بيته كان باليفاع، أي بالصحراء وكان له قصر له بابان، يقول: من يدخل من هنا يتغدى ويخرج من هنا، فلكرمه كان دائماً يقول لعبيده ورقيقه: من يأتي منكم اليوم بضيف فهو حر لوجه الله، يقول ابن الجوزي في صيد الخاطر -وسوف تجدونه في باب الصوفية - يقول: عجباً للصوفية يقولون: حرام جمع المال! وإبراهيم عليه السلام اختلطت مواشيه وإبله وبقره وغنمه بإبل لوط عليهما السلام حتى انتقل بعضهم من بعض من كثرة المواشي.(348/29)
المحلِّق وقصته مع الأعشى
المُحَلِّق: رجل من أبخل العرب، وكان ساكناً في قرية مغموصة ما يمر عليه أحد، وكان له سبع من البنات، فما تقدم لهن أحد من الناس، فذهب واستشار الناس، فقالوا: نرى أن تنقل بخيمتك وسط الصحراء حتى يراك الناس، وأن تدعو لك شاعراً من الشعراء، وتذبح له ناقة وتكرمه وتكسوه، فسوف يمدحك بالكرم، وإذا سمع العرب بالكرم، فلا تمسي بناتك عندك أبداً، فأتى هذا المحلِّق البخيل، فنقل خيمته وبناته وزوجته وسكن في الصحراء ورفع خيمته، ودعا الأعشى شاعر نجد p=1000008> الأعشى الذي مات قرب منفوحة، وقد أراد أن يسلم لكن طبع الله على قلبه فكفر، وقد مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقيه أبو سفيان فقال: إلى أين تذهب؟ قال: أذهب إلى محمد عليه الصلاة والسلام.
قال: ماذا فعلت؟ قال: أعددت قصيدة.
قال: أسمعني.
فقال:
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا وعادك ما عاد السليم مسهدا
وما ذاك من عشق النساء وإنما تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
شباب وشيب وافتقار وثروة فلله هذا الدهر كيف ترددا
وقد كان من أفحل وأكبر الشعراء على الإطلاق، وهو من أصحاب المعلقات يقول:
فآليت لا أرثي لها من كلالة ولا من وجى حتى تزور محمدا
يخاطب الناقة ويقول: حلفت أن أجعل الناقة تكل وتدأب في الأرض حتى تزور محمداً صلى الله عليه وسلم.
متى ما تناخي عند باب ابن هاشم تراحي وتلقي من فواضله يدا
نبي يرى مالا يرون وذكره أغار لعمري في البلاد وأنجدا
إلى أن يقول: -وهما من أعظم الأبيات في الإسلام-:
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على ألا تكون كمثله وأنك لم ترصد لما كان أرصدا
قال أبو سفيان: فما تطمع أن يعطيك؟ قال: مائة ناقة لا أنقص عنها ناقة واحدة، قال: خذ مائة ناقة وعد فأخذ مائة ناقة وعاد، وركب واحدة منها فسقط عنها فلوت عنقه وكسرته ودقته فمات كافراً.
فهذا المحلِّق دعا الأعشى وعزمه وضيفه، فلما عشاه وكساه وأعطاه شيئاً من المال، قام الأعشى، وعرف المحلق أنه سوف يمدحه، فقال: في قصيدة له يمدح هذا المحلق أبخل العرب:
لعمري لقد لاحت عيون كثيرة إلى ضوء نار باليفاع تحرق
تبيت لمقرورين يصطليانها وبات على النار الندى والمحلق
فيقولون ما مرت سبعة أيام إلا وتزوجت بناته من أشراف العرب.(348/30)
من صفات زوج التاسعة أنه طويل النجاد
قالت: (طويل النجاد) النجاد قيل: هو ممسك السيف، وقيل: خباء السيف وقيل: غمده، فهو من شجاعته طويل النجاد، وهو طويل الجسم كذلك (عظيم الرماد) عظيم الرماد معناه: أنه كريم، وليس معناه أن عنده كيراً، ولكنه من كثرة ما يحرق ويطبخ كان من أعظم الناس رماداً (قريب البيت من الناد) أي: أن بيته في متناول اليد فإذا سألت عنه وجدته قريباً من الناس.(348/31)
العاشرة تصف زوجها بقمة الكرم
{قالت العاشرة: زوجي مالك! وما مالك؟ مالك خير من ذلك، له إبل كثيرات المبارك، قليلات المسارح، إذا سمعن صوت المزهر أيقن أنهن هوالك} تمدح زوجها بالكرم، وتقول: له إبل كثيرة، وإذا أتاه الضيف حرك السكين فتعرف الإبل أنهن هوالك، فتمد الناقة عنقها، وتتهيأ على الأرض لتنحر، فهو قد تعود على ذلك.
تعود بسط الكف حتى لو انه أراد انقباضاً لم تطعه أنامله
هو البحر من أي النواحي أتيته فلجته المعروف والجود ساحله
ولو لم يكن في كفه غير روحه لجاد بها فليتق الله سائله
تقول: من كرمه أن عنده نوقاً كثيرة وإبلاً، فما يأتي الضيف إلا ويحرك المزهر قيل: المزهر الآلة التي تنحر بها الإبل، وقيل: عود يجمع به الإبل، ولكن كأنه -والله أعلم- آلة نحر للإبل.
(قليلات المسارح) أي: لا يسرح إبله إلى المرعى، بل هي جاهزة، بجانب البيت حتى يأتي الضيوف فينحرهن لهم، وأما البخيل فإنه يسرحها إلى المرعى، والكريم يجهزها للضيوف، ومن عادة العرب.(348/32)
قصة أم زرع
والآن مع أم زرع وسوف تتكلم كثيراً.(348/33)
صفات أبي زرع
قالت الحادية عشرة: زوجي أبو زرع - اسمه أبو زرع - فما أبو زرع؟ ما أدراك ما أبو زرع؟ - أناس من حلي أذني إما أنه أناس، أي: أعطاها وحلاها في أذنيها، أو أنه آنس: من الأنس واللطافة والرقة والشفافية، فهو في الحسن كحلي الأذن (وملأ من شحم عضدي) أي: أنه أعطاها من النعم حتى امتلأت، أو أنه ملأ في قلبها من شحم العضدين (وبجَّحني فبجحت إلي نفسي) أي: شرفني فتشرفت، وجعلني أفخر فافتخرت، وأراحني فارتحت وجدني في أهل غنيمة بشق تقول: إن أهلي كانوا أهل غنم وضأن وأهل الضأن قليل دخلهم، ليسوا كأهل الإبل والبقر والخيول، فكانت ترعاهن في واد صغير (فجعلني في أهل صهيل) أي: أهل خيل؛ لأن الصهيل صوت الخيل، (وأطيط) قيل: صوت الإبل وقيل: غيره، (ودائس ومنقٍ) وقد تحير ابن حجر في اللفظ، فمرة ينقل عن أهل العلم قولهم: أن منق من النقنقة وهي نقنقة الدجاج، فيكون المعنى: فأصبح عندها دجاج، ورد بأن العرب لا تتمدح بالدجاج، فهل تقول: أحد الناس فتح الله عليه، وأغناه غناء ظاهراً وباطناً وعنده ثلاثون دجاجة؟! فلا يُمتدح بالدجاج.
فيقول: لا يمكن أن يمدح بالدجاج، ولكنها تصف الحالة هذه وتقول: هناك أصوات من كثرة الحيوان التي عنده.
تقول: (فعنده أقول فلا أقبح) تقول: عند زوجي أتكلم بطلاقة, والزوج الذي هو سمح الجانب تتكلم المرأة عنده بما فتح الله عليها، أما المعقد الشرس، فإنها لا تتكلم إلا كلمات فتقول: أقول فلا أقبح, أي: أتكلم بما فتح الله عليّ فلا يردني ولا يكسحني ولا ينهرني.
تقول: (وأرقد فأتصبح) الصُبحة عند العرب في النوم، هي النوم بعد صلاة الفجر, والعرب عندهم للنوم هيلولة وفيلولة وغيلولة وقيلولة, فالهيلولة: بعد صلاة الفجر, وهي مستقبحة عند العرب, والفيلولة: عند الضحى, والقيلولة: بعد صلاة الظهر أو قبلها، وعند السلف أنها قبلها، والغيلولة: بعد صلاة العصر.
إن نومات الضحى تورث الفتى خبالاً ونومات العُصَيْر جنون
ولم يصح في النهي عن النوم بعد العصر حديث, وكل ما ورد فيه فهو باطل أو موضوع, قاله ابن القيم وغيره من أهل العلم, فالأحاديث التي ركبت كحديث {من نام بعد صلاة العصر فجن فلا يلومن إلا نفسه} ليس بصحيح, بل لك إذا فترت أو جهدت أو تكلفت أكبر من طاقتك أن تنام بعد العصر ولا بأس، لتستعين بهذا على طاعة الله, وكذلك لم يصح في النهي عن النوم بعد الفجر حديث, لكن هناك أحاديث منها حديث أبي صخر الغامدي في المسند وغيره بأسانيد صحيحة: {بارك الله لأمتي في بكورها} أما كلام الغزالي في الإحياء وقوله: إن الأرض تبكي إذا نام طالب العلم بعد الفجر فمن أين؟ {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام:148] {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة:111] لا سند ولا رأس ولا ذنب.
فتقول هذه المرأة: من سعادتي عند زوجي أنام حتى في الصباح، فليس عندنا أشغال ولا أعمال والصبوح عند العرب: هو الشرب في أول النهار، وقيل: شرب اللبن, والغبوق: شرب اللبن في آخر النهار وهذه امرأة كسلانة، والعرب يمدحون الكسولة لكن هذا لا يخبر به تقول: (وأشرب فأتقنح) أي: أشرب حتى أرتوي، ثم أزيد وأزيد من كثرة الشراب، لبناً وماء ونبيذاً، وذكر ابن حجر أنه خمر، وقد يكون هذا لأنهن جاهليات، لم يعرفن تحريم الخمر فهي تروى وتزيد على الري, من كثرة ما عنده من الخير.(348/34)
صفة أهل أبي زرع
ثم بدأت تسرد أهله واحداً واحداً لكثرة سعادتها مع أبي زرع، تقول:
{أم أبي زرع فما أم أبي زرع؟ عكومها رداح} أي: أنها من كثرة النعيم ممتلئة الجسم، فيها شحم ولحم، والعكوم: هو مجامع البطن, (ورداح) أي: متينة سمينة , {(وبيتها فساح)} حتى أم أبي زرع لها بيت واسع (ابن أبي زرع) -من زوجة غيرها- فما ابن أبي زرع؟ مضجعه كمسل شطبة)} تقول: المنام الذي ينامه من صغر جسمه ونحافته ورشاقته ولأنه حر، كأنه سلة السيف, أي: لا ينام إلا في مكان صغير مثل سلة السيف (ويشبعه ذراع الجفرة)} الجفرة: هو ولد الماعز، وقيل: ولد الضأن إذا مر عليه أربعة أشهر أو ستة أشهر, فتقول: أن ذراع الجفرة يكفيه من قلة أكله؛ لاشتغاله بالمهمات من الأمور (بنت أبي زرع طوع أبيها وطوع أمها) من امرأة غيرها {فما بنت أبي زرع؟ (طوع أبيها وطوع أمها}) ما شاء الله تطيع أباها وأمها (وملء كسائها) أي: أنها في نعمة (وغيظ جارتها)} يحسدنها جاراتها من جمالها, ولذلك يقول عمر بن أبي ربيعة:
زعموها سألت جاراتها وتعرت ذات يومٍ تبترد
أكما ينعتني تبصرنني عمركن الله أم لا يقتصد
تقول هذه المرأة لجاراتها: بالله عليكن هل أنا حسناء مثل ما يصفني هذا الشاعر، أم أنه يبالغ في الوصف.
فتضاحكن وقد قلن لها حسن في كل عين من تود
حسداً حملنه في شأنها وقديماً كان في الناس الحسد
ويقول الأول:
حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصوم
كضرائر الحسناء قلن لوجهها حسداً وبغياً إنه لدميم
وقيل:
وترى الشريف مجرماً في قومه ولم يكتسب جرماً وعرضه مشتوم
وهذا من الحسد الذي وضعه الله في القلوب التي ما آمنت ولم يملأها الإيمان.
قالت: {(وغيظ جارتها)} قيل: غير وخير وغيظ، أي: أنهم يغارون منها لجمالها وحسنها.
(جارية أبي زرع، فما جارية أبي زرع؟ لا تبث حديثنا تبثيثاً) لا تنشر الخبر، بل هي ساكتة صامتة حافظة للسر (ولا تنقث ميرتنا تنقيثاً) أي لا تضيع مالنا، (ولا تملأ بيتنا تعشيشاً) أي: لا تجمع في البيت الزبالات، وقطع الأوراق والقراطيس، ولكنها نظيفة، وتضع كل شيء في مكانه، وهذا من أدبها وسلوكها وسمتها.(348/35)
أبو زرع يطلق أم زرع
وقالت: (فخرج أبو زرع ذات يوم والأوطاب تمخض) الأوطاب: الأسقية التي يوضع فيها اللبن، فهم أهل لبن، ومن كثرة لبنهم ودسمهم وما عندهم من زبد أنهم يمخضونها.
قالت: {} هذا آخر المطاف، طلق أم زرع هذه ونكح تلك.(348/36)
أم زرع تنكح زوجاً آخر
قالت: {(فنكحت بعده رجلاً سرياً)} أي: من أشراف الناس، من السراة.
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم ولا سراة إذا جهالهم سادوا
ولذلك قوله سُبحَانَهُ وَتَعَالَى: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم:24] قيل: شريفاً من الأشراف، وسيداًَ من السادات، وقيل: صغيراً طفلاً {(ركب شرياً)} ركب فرساً سريع العدو، والشري هو الذي يبلغ الغاية في الشيء، {(وأخذ خطِّياً)} الخطي هو: الرماح تأتي من بلد الخط وهو بلد في البحرين يقول زهير بن أبي سلمى:
وهل ينبت الخطي إلا وشيجه وتغرس إلا في مغارسها النخل
(وأراح علي نعماً ثرياً) أي ملأ بيتي من الإبل والبقر والغنم، (وأعطاني من كل رائحة زوجاً): أي: من كل شيء؛ من الإبل والبقر والغنم، (وقال: كلي أم زرع وميري أهلك) حتى أهلك في البيت أرسلي لهم من هذا المال.(348/37)
أم زرع تحن إلى زوجها الأول
(قالت: فلو جمعت كل شيء أعطانيه، ما بلغ أصغر آنية أبي زرع) تقول: مع أن هذا الأخير أسدى إليَّ كل هذا، أسدى، لكن لو جمعت كل شيء أعطانيه في أصغر الآنية التي كان يعطيني فيها أبو زرع، ما بلغت شيئاً، فقلبها معلق بالأول، قالت عائشة رضي الله عنها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {كنت لك كـ أبي زرع لـ أم زرع}.(348/38)
فوائد الحديث
في الحديث فوائد:(348/39)
حسن العشرة
أولها: حسن عشرة المرء لأهله، بالتألف والمحادثة بالأمور المباحة ما لم يفض ذلك إلى حرام، وهذا واجب الرجل؛ أن يكون له حديث تأنيس ومداعبة مع أهله، فلا يكون الأمر جداً في كل حين، ولكن ساعة وساعة، بشرط ألا يصل ذلك إلى محرم، كتضييع صلاة أو تفويت فائدة، أو ضياع وقت طويل؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام أخذ وقتاً في سماع هذا الكلام، وهو أعبد الناس لله، وأخشى الناس لله، وأعرف الناس بحقوق الله تبارك وتعالى.(348/40)
المزاح مع الأهل
الثانية: المزاح أحياناً وبسط النفس به، ومداعبة الرجل أهله وإعلامه بمحبته لها، ما لم يؤد ذلك إلى مفسدة تترتب عليه من تجنيها عليه وإعراضها عنه يقول بعض العلماء: لا بأس بالمزح والمداعبة مع الأهل، ولا بأس أن يخبر الرجل أهله أنه يحبها، بشرط ألا يؤدي ذلك إلى أن تتكبر عليه؛ لأن بعض النساء من نقص عقلها إذا أخبرتها أنك تحبها، تجنت عليك وقاطعتك وأخذت أي شيء لتغضبك به؛ لترى كيف تتلمظ عليها وكيف تتحسر عليها، فيقول بعض أهل العلم: ليكن بين الرجل وزوجته، كشعرة معاوية، إن سحبها الناس أرخاها، وإن أرخوهاجذبها أو كما قال، فلا تظهر لها كثرة الحب، فتتجنى عليك وتتكبر عليك، وترى أن لها الفضل؛ لأن بعض النساء إذا مدحتها وقلت: بارك الله فيك، ما أحسنك! ظنت أن الفضل لها، وأنك ما فعلت شيئاً وأنها كاملة الأوصاف، وأنك لا تستحقها.(348/41)
الفخر بالتقوى
الثالثة: منع الفخر بالمال، وبيان جواز ذكر الفضل بأمور الدين فإن هؤلاء النساء افتخرن بأمور، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن الفخر بالتقوى وبالدين، وأن أحسن الأوصاف حسن الخلق بعد الدين.(348/42)
تذكير المرأة بحسن العشرة
الرابعة: إخبار الرجل أهله بصورة حاله معها، وتذكيرها بذلك لاسيما عند وجود ما طبعن عليه من كفر الإحسان فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول لـ عائشة: {أنا لك كـ أبي زرع لـ أم زرع} فيقول: أنا طيب معك، وتعاملي معك حسن كـ أبي زرع لـ أم زرع، فإن هذه المرأة الحادية عشرة أحسن النساء عشرة مع زوجها، ففيه أنه لا بأس أن يذكر الرجل امرأته بما فعل بها، كأن يقول: فعلت بكم كذا وأعطيتكم كذا، ومنحتكم كذا وأسديت لكم كذا؛ لأن المرأة مجبولة على النكران وعلى الجحود {لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت منك معروفاً قط} فلا بأس بالرجل أن يذكرها؛ لأنها قد تنسى وتجحد وتنكر.(348/43)
ذكر المرأة لإحسان زوجها
الخامسة: فيه ذكر المرأة إحسان زوجها فإن المرأة العاقلة الرشيدة المؤمنة التي تخاف الله من أدبها أن تحسن ذكر زوجها عند الناس، وأن إذا سألوها عن زوجها تقول: فيه خير وهو صاحب دين واستقامة، وجزاه الله خيراً؛ ليكون أرفع لها عند الله تبارك وتعالى، وأرفع لذكرها، وأعظم لأجرها.(348/44)
إكرام الرجل بعض نسائه
السادسة: فيه إكرام الرجل بعض نسائه في حضور ضرائرها، بما يخصها به من قول أو فعل يؤخذ هذا من أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أكرم عائشة كثيراً، ولاطفها أكثر من بعض جاراتها وضرائرها عليه الصلاة والسلام، وربما أتحفها بشيء، وهذا لا يقدح في عدله عليه الصلاة والسلام، فهو أعدل الناس، وأقرب الناس، وأنصف الناس.(348/45)
تحدث الرجل مع زوجته في غير نوبتها
السابعة: فيه جواز تحدث الرجل مع زوجته في غير نوبتها وهذا للذين عندهم أكثر من واحدة، فيجوز له أن يتحدث مع الزوجة في نوبة الأخرى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يمر على التسع مروراً، في يوم إحداهن، فيحادثنه ثم يذهب إلى التي هو في يومها ويجلس عندها.(348/46)
الحديث عن الأمم الخالية
الثامنة: فيه الحديث عن الأمم الخالية، وضرب الأمثال بها للاعتبار فلا بأس أن تتحدث أنت والناس بأخبار أجدادنا، والقبائل التي سلفت وما وقع من أخبارهم؛ لأن فيها عبراً وتجارب، ولأن فيها قصصاً، ويستفاد منها.
مصائب قوم عند قوم فوائد
قال جابر بن سمرة: {كان صلى الله عليه وسلم يجلس معنا بعد صلاة الفجر، فنتحدث عن أخبار الجاهلية، ونضحك وهو يبتسم عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم} فلا يأتي أحد ويقول: هذا حرام، تحدثنا عن الصحابة وإلا اسكت لا.
المجال واسع، إذا لم يكن فيها أمر محرم، ولا غيبة ولا نميمة، ولا زور، فلا بأس بالحديث.(348/47)
جواز الانبساط
التاسعة: جواز الانبساط بذكر طرف الأخبار ومستطابات النوادر، تنشيطاً للنفوس وهذا خلاف ما ذهب إليه غلاة العباد وغلاة الصوفية، فإنهم لا يرون هذا، يقولون: هذا ضياع للوقت.
فإذا تحدث الرجل مع أهله أو مع ضيوفه في أمور مباحة فلا بأس، فالرسول صلى الله عليه وسلم تحدث في هذه القضايا واستمع إليها، فلا بأس أن تتحدث مع الناس في الأشعار والأمطار والأخبار، وما وقع في وديانهم من الحوادث، وهذا من البسط ومن تشجيع النفس على العبادة، لأن النفس إذا بقيت دائماً على الشدة، كلت من العبادة، ولم تقبل عليها، فالإنسان مثل الذي يتحدث في الدرس، ثم يذهب إلى الناس فيحدثهم، ثم ينتقل معهم في مكان، ودائماً يواصل عليهم الحديث، فتمل قلوبهم وتسأم أرواحهم، وتنقفل وتغلق.(348/48)
حث النساء على الوفاء
العاشرة: فيه حث النساء على الوفاء لبعولتهن، وقصر الطرف عليهم والشكر لجميلهم وهذا أدب أدبنا الله به، ويوجه للنساء أن يتقين الله عز وجل في أزواجهن، فيذكرن جميلهم وما لهم من أيادي، ولا تعدد السيئات وتترك الحسنات؛ لأن المعصوم هو محمد عليه الصلاة والسلام، والمرأة التي تبحث عن زوج كامل الدين، وكامل الأخلاق، وكامل التعامل، وكامل المروءة امرأة جاهلة؛ لأننا نحن العباد ما كملنا مع الله، فكيف يكمل الإنسان مع النساء؟! وكيف ومن لك بأخيك كله؟!
إذا كنت في كل الأمور معاتباً صديقك لم تلق الذي لا تعاتبه
ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه
فنحن برحمة الله عز وجل ولا يكمل أحد.
فالمقصود: أن على المرأة أن تتقي الله، وأن تغض وتسامح وتعفو عن نقص زوجها وتذكر الجميل فيه، فقد يكون بخيلاً، لكن تتذكر أنه يحافظ على الصلوات الخمس، فتذكره بالصلوات الخمس والمحافظة عليها.(348/49)
ذكر المرأة محاسن زوجها ومساوئه
الحادية عشرة: ذكر المرأة زوجها بما تعرفه من حسن وسوء، ولا بأس إذا اضطرت إلى ذلك أن تصفه بحسن أو سوء إذا كان لمصلحة، إما بالسؤال عنه، وإما ابتداء من تلقاء نفسها.(348/50)
من ضوابط الغيبة
الثانية عشرة: وفيه أن ذكر المرء بما فيه من العيب جائز إذا قصد التنفير عن ذلك الفعل؛ بشرط ألا يسمى ولا يكون غيبة.
فنقول: كيف جاز لهؤلاء النسوة أن يجلسن ويغتبن أزواجهن؟ قيل: لأنهن في الجاهلية، وما عندهم أن الغيبة حرام، والنميمة حرام، وإسبال الثوب حرام الجاهلية تركب رءوسهم، فهم لا يعرفون الحلال من الحرام، فمن هذا القبيل -بارك الله فيكم- ما توقفنا عند الغيبة، أما في الإسلام فلا يجوز للمرأة أن تغتاب زوجها- كما قال الحافظ ابن حجر - إلا لمصلحة، كأن تشتكي عند القاضي أو الحاكم، فيقول لها الحاكم: ماذا تنقمين على زوجك؟ فتقول: إنه بخيل، أو سيئ الخلق أو مقاطع أو لا يأتينا إلا غروراً في البيت، ومن هذا القبيل.
ولذلك جاءت هند زوجة أبي سفيان إلى الرسول عليه الصلاة والسلام وقالت: {يا رسول الله! أبو سفيان رجل شحيح، ألا آخذ من ماله؟ قال: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف} فهذه شكته وبينت عيبه للحاجة، فيجوز للمرأة إذا أتت حاجة أن تشكوه عند القاضي والحاكم إذا رأت أن في هذا مصلحة، وليس من الغيبة، أما لغير حاجة فلا يجوز وهو غيبة.(348/51)
تعدد النساء
الثالثة عشرة: قال الحافظ: وفيه تقوية لمن كرهن نكاح من كان له زوجة، لما ظهر من اعتراف أم زرع بإكرام الزوج الثاني بقدر طاقته.
يقول الحافظ: فيه تشجيع للنساء، لمن كره منهن نكاح من كان له زوجة؛ لما ظهر من اعتراف أم زرع بإكرام زوجها الثاني، فلا تتهيب المرأة من الزواج على زوجة قبلها، فإنه قد يكرمها أحسن ممن ليس له زوجة وليس معنى ذلك أن الرجل الذي ليس عنده زوجه يكرمها دائماً، بل قد يهينها، وليس معناه أن من عنده زوجة، سوف يهينها، لا بل قد يكرمها قال: ففيه تشجيع للنساء ألا تحرص الواحدة على ألا يكون قبلها زوجة، لكن تحرص على رجل الخير والدين والاستقامة وحسن الخلق؛ لأنها قد تسعد معه ولو كان معه ثلاث نساء أسعد مما لو كانت مع زوج ليس له إلا هي، فالمسألة مسألة دين وتعامل وخلق.(348/52)
الحب يستر الإساءة
وفيه أن الحب يستر الإساءة؛ لأن أبا زرع مع إساءته لها بتطليقها، لم يمنعها ذلك من المبالغة في وصفه إلى أن بلغت حد الإفراط والغلو.
يقول الحافظ: إن الحب يستر كل شيء، وحبك الشيء يعمي ويصم، فهذه المرأة تحب الزوج الأول ومع ذلك طلقها، وأحبها الثاني لكنها تمدح الأول، ومع أنه أساء إليها بالطلاق لكن قلبها معلق به يقول أبو تمام:
كم منزل في الأرض يعشقه الفتى وحنينه أبداً لأول منزل
ويقول أحد الشعراء:
وعين الرضا عن كل عيب كليلة كما أن عيب السخط تبدي المساويا
يقول: إنك إذا رضيت عن إنسان رأيت سيئاته حسنات، ورأيته كامل الأوصاف، حتى تجد بعض الناس يصف صديقه وأنت لم تره فيقول: ولي من الأولياء، لا إله إلا الله! تتذكر أولياء الله إذا رأيت وجهه ثم يحسبه وينسبه حتى كأنه يصف أبا بكر الصديق، فإذا رأيته، فما هو بذاك الوصف الذي وصفه، لكنه أحبه، وتجد بعض الناس إذا أبغض إنساناً فإنه يدخل عليه بالمداخل، يقول: فيه كذا وكذا، ويتتبع السقطات والعثرات، فإذا رأيته وإذا هو أعظم وأكبر مما قيل فيه، فحب الشيء يعمي ويصم.(348/53)
وصف محاسن النساء للرجل إذا كان مأموناً
الرابعة عشرة: فيه جواز وصف النساء ومحاسنهن للرجل.(348/54)
جواز السجع
الخامسة عشرة: فيه جواز السجع إذا كان بغير تكلف والسجع هو أن تنهي الكلمات بحرف واحد متسق، وهو جميل في الكلام، لكن إذا خرج إلى حد الكلفة فهو مذموم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم تشاكست عنده امرأتان، فقام رجل من غطفان فقال: {كيف أغرم من لا نطق ولا استهل، ومن لا شرب ولا أكل، فمثل ذلك يطل! فقال عليه الصلاة والسلام: أسجع كسجع الكهان؟} لأنه تكلف، وإلا ففي القرآن سجع لكنه جميل وغير متكلف، وفي كلامه صلى الله عليه وسلم بعض السجع، ولكنه جميل وحبيب إلى النفوس، وغير متكلف.(348/55)
من أحكام الطلاق
السادسة عشر: فيه أن الطلاق لا يقع بالمشابهة وقد ذكرها الحافظ ابن حجر وقال: فيه أن الكناية في الطلاق لا تقع إلا مع مصاحبة النية منه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: {أنا كـ أبي زرع} وأبو زرع طلقها، ولكن لا يشبهه من كل جانب، ومن الأحاديث يؤخذ أن المشبه لا يقتضي أن يكون كالمشبه به، فقد يخالفه في بعض الشيء، وتقول محمد كالأسد في الشجاعة، لكنه ليس كالأسد في براثنه ومخالبه وجلده، وعينيه، وهذا أمر معلوم.(348/56)
جواز مدح الرجل في وجهه
السابعة عشرة: فيه مدح الرجل في وجهه، إ ذا علم أن ذلك لا يفسده.
ومسائل الحديث كثيرة، وقد شرحه القاضي عياض في كتاب كبير، ويقول الحافظ: استقصيت من شرحه وهم يقاربون العشرة من أهل العلم، وإنما شرحته؛ لما فيه من الحكم والفوائد؛ ولما فيه من اللطائف والأنس؛ ولأنه قد يعرض لبعض طلبة العلم، وفيه بعض الكلمات الغريبة التي تحتاج إلى مراعاة وإلى مراجعة.(348/57)
رسالة من فنان تائب
ختاماً: نقرأ عليكم بعض ما أفادنا به بعض العائدين والتائبين إلى الحي القيوم، الذين أبصروا الحق وأرشدهم الله سواء السبيل، فإن الله يهدي من يشاء إلى سواء السبيل، وهي بشرى لهذا المسلم أن الله سدده وهداه، واستثمر عمره إن شاء الله فيما يقربه من الله، وعاد عبداً لله عز وجل، بعد أن كان مع المطبلين والمطبلات والمغنين والمغنيات، والماجنين والماجنات، أصبح الآن من عداد الذين يريدون الله والدار الآخرة.
يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أنا شاعر كنت أحضر العرضات والطرب، وكنت آخذ على ذلك أجراً من ألفين إلى خمسة آلاف في الحفلة الواحدة، واستمررت على هذا سنين طوال، ولي أشرطة كاسيت مغناة بصوتي مصحوبة بآلة العود، والحمد لله تركت ذلك لوجه الله -أبدلك الله في الجنة خيراً منه- من مدة سنين وتبت إلى الله الواحد الأحد، فأرجو إجابتي على أسئلتي الآتية أثابكم الله:
أولاً: هل المبالغ التي أخذت من هذه الحفلات حلال أم حرام؟
ثانياً: إذا لم أستطع القضاء على الأشرطة فما هو الحل؟
ثالثاً: هل العرضات وقصائدها حرام؟(348/58)
التصرف في أموال الغناء بعد التوبة منه
الجواب
أولاً: نحييك باسمي ومن بالمسجد جميعاً، وندعو الله لك التوفيق والهداية، وأن يبدلك في الجنة خيراً مما تركته في الدنيا، فإن من ترك شيئاً لله أبدله الله خيراً منه في الآخرة، ولذلك في مسند الإمام أحمد: أن من ترك الغناء في الدنيا عوضه الله عز وجل بسماع غناء الحور العين في الجنة، ينشدن ويقلن: نحن الناعمات فلا نبأس، نحن الخالدات فلا نبيد، طوبى لمن كنا له وكان لنا، قال ابن القيم:
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
هذا غناء أهل الجنة أن الله يرسل ريحاً رطبة هينة سهلة لينة على أغصان الجنة -نسأل الله تلك الأمكنة- فتهز الأغصان فتتلألأ، وتصطك الأغصان، فتحدث صوتاً عجيباً، آخذاً بالقلوب، فيعوضه الله عز وجل من ترك الغناء في الدنيا.
قال ابن عباس ويرسل ربنا ريحاً تهز ذوائب الأغصان
فتثير أصواتاً تلذ لمسمع الإنسان كالنغمات بالأوزان
ياخيبة الآذان لا تتعوضي بلذاذة الأوتار والعيدان
فأنت -إن شاء الله- ممن يستمع الغناء الطيب، يوم تبت إلى الله وأنبت وراجعت حسابك مع الواحد الأحد.
أما: هل المبالغ التي أخذتها حلال أم حرام؟ فهذه المبالغ أولاً: يطلب منك أن تصرفها في مصارف الخير، وأن تتوب إلى الله عز وجل منها؛ لأنك أخذتها من أموال غير مشروعة، وهي أموال أقل قصاراها وأحكامها الكراهة والشبهة، فأنت تتقي الله ما استطعت، لا نقول لك احسب كل ريال دخل عليك وخرج، لكن تصدق بقدر المستطاع، عل الله أن يغفر لك مازل أو ما أكلت أو ما لبست، أما أن نقول لك: احسب كل حفل وكل ما حضرت وأخرج، فهذا شاق، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وعفا الله عما سلف، فنسأل الله أن يعفو عنك، لكن أنصحك بكثرة الصدقة، وإن كان عندك رصيد فاجعله في ميزان حسناتك عند الله، إما في مسجد، وإما للمجاهدين, وإما للفقراء، وإما أن تجعله في عين أو مشروع خير لينفع المسلمين، أو تتصدق به، وأما أن يلزمك الكل فلا، عفا الله عما سلف، واتقوا الله ما استطعتم، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها.
وأما إذا لم تستطع القضاء على الأشرطة فما هو الحل؟ الحل مادام أن عندك موهبة شعرية، فعليك أن تكثر من الاستغفار والذكر أكثر من كل الناس؛ لأن الله ذكر الشعراء في القرآن، فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [الشعراء:227] فذكر الله الذكر هنا لأنهم أكثر الناس كلاماً، ونشيداً وقصائد، فأمرهم بكثرة الذكر، فأكثر من الاستغفار لكثرة قصائدك وأشعارك، حتى يكافئ هذا هذا {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود:114] وما دام أن الموهبة عندك، فأنا أدلك على نظم القصائد الإسلامية التي تمدح فيها الإسلام، وتذكر الناس بالعودة إلى الله، والتوبة إلى الواحد الأحد , وتذكرهم بالقبر والحوض والميزان، وتنظم في العقائد والأخلاق، وتمدح أهل الدين والاستقامة، وتذم أهل الفسق والفجور، حتى تكون داعية من دعاة الإسلام، بشرط ألا يطغى عليك الشعر حتى يأخذ أوقاتك، وبشرط ألا يصاحب شعرك عود أو وتر أو ناي، أو دف أو طبل، بل تكن شاعراً تنظم هكذا في المجالس بلا آلة موسيقى، وتكون موجهاً، ويكون لك -إن شاء الله- لسان صدق عند الله، من الذين يحشرون تحت علم حسان بن ثابت شاعر الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما: هل العرضات وقصائدها حرام؟ فهذا يسأل فيه أهل الفتيا من أهل العلم، ويحال إلى هيئة كبار العلماء؛ لأنها مسائل عصرية اجتهادية، (وولِّ حارها من تولى قارها) فأنت تسألهم، وعليك أن تنقذ نفسك، وهذه الأمور فأنت لا تُسأل عنها، لكن عليك أن تنقذ نفسك، ويحال هذا السؤال إلى كبار العلماء ليفتوا عنه.
وصلى الله وسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.(348/59)
الشباب طموح ومعاناة
بدأ الدرس بقصيدة ترحيبية للشيخ: سلمان العودة، رحب فيها بالشيخ عائض القرني ثم بدأ الشيخ عائض محاضرته بمقدمة شعرية، ذكر بعدها عناصر المحاضرة، ثم بدأ في تفصيل المحاضرة فتكلم حول الشباب والفطرة، ثم بين أن المعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة، وتكلم بعد ذلك عن صور المعاناة عند الشباب لمصادرة الحريات وتحجيم دور الشباب في الحياة، وعن حيرة الشباب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي، معرجاً بعد ذلك إلى ذكر بعض صور الطموحات عند الشباب المسلم.
ثم ختم المحاضرة بذكر بعض الاقتراحات العاجلة، وقام بعد ذلك الشيخ سلمان العودة بالتعليق على المحاضرة بكلام قيم نفيس وختم كلامه بالدعاء.(349/1)
ترحيب بفضيلة الشيخ عائض القرني
الحمد لله على نعمة الإسلام, وكفى بها نعمة, والحمد لله عند كل نعمة، والحمد لله حمداً طيباً كثيراً مباركاً فيه, كما يحب ربنا ويرضاه, والصلاة والسلام على نبينا محمد أفضل نبي وأشرفه وأزكاه.
ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، تحية من عند الله مباركة طيبة.
أيها الإخوة الأحباب! باسمكم جميعا نحيي شيخنا وضيفنا وحبيبنا، أبا عبد الله الشيخ: عائض بن عبد الله القرني من كل قلب يمتلئ بالحب، وكل عينين تشعان بالصدق, وكل لسان ينطق بالحق, نقول: أهلاً بـ أبي عبد الله ترحب به عرانين نجد وبطاحها، وجبال عسير وقممها, أهلاً بـ أبي عبد الله من كل الشباب الذي امتلأت قلوبهم حبّاً لك, كما امتلأ قلبك نصحاً لهم وحباً.
يا أبا عبد الله! تحييك نجد والقصيم كلها, من كل الشباب الذين آمنوا بالله رباً وبمحمد نبياً وبالإسلام ديناً, تحييك نجد كلما هبت صباها, وفاح شذاها, وتقلب صباحها ومساها, أهلا بك يا أبا عبد الله كلما نبست شفة أو رفت عين أو خفق قلب بحب.
يا أبا عبد الله إن جميع الشباب الذين يغص بهم هذا المجمع المبارك, جاءت لتعلن بلسان حالها ومقالها أنها جموع محمد صلى الله عليه وسلم, وأنهم أهل الحق الذي تصدع أنت بكلمته, وأنهم أتباع محمد الذي تشدو أنت بدعوته, وأن الطريق والصراط المستقيم قد اتسع لشباب علت هممهم، وسمت اهتماماتهم, وأصبح الذي يستهويهم صوت الكلمة الصادقة, والدعوة الناصحة, والرأي السديد.
أيها الإخوة! أدعكم مع سبح شعري، معانيه في قلوبكم جميعاً, ولكن الذي رسم كلماته هو شيخنا الشيخ سلمان بن فهد العودة , رسم هذه الكلمات معبراً عما في قلوبنا كلنا من حب, وشرفني يوم أن أمرني بإلقائها:
احملوني إلى الحبيب وروحوا واطرحوني ببابه واستريحوا
أنا من هيح الغرام شجاه وبراه الهيام والتبريح
يا أبا عبد الله كم من محب ناله من هواك ضر جريح
فسلام عليك من حيث تغدو وسلام عليك حيث تروح
وسلام عليك في كل صمت وسلام عليك حين تبوح
وسلام أنى حللت يوافيك كما الظل في مداه الفسيح
ذلك الحزن في الوجوه بكاء من مآسٍ تغدو بنا وتروح
فـ فلسطين طعنة وأنين وقتيل ونازف وجريح
وقلوب قد أنهكتها الرزايا فعليها من الرزايا موح
وبلاد الأفغان أنّات حزن وثكالى على ثكالى تنوح
ويهز الدنيا نداء صريخ تحت أقدام قاتليه طريح
وعلى كل بقعة ذكر اسم الله فيها مصائبٌ وقروح
يا أبا عبد الله ما حشر الأشباح إلا روح أبي سبوح
هزه الشوق للمجالس نشوى بعبير من الجنان يفوح
وبلحن من الكلام ندي فيه سر من السماء وروح
فلأنت الشباب يهتز عطراً ومعاناته وأنت الطموح
رافضاً زخرف الحياة جمالاً باهتاً لم ينده التسبيح
أما الآن فأدعو أسماعكم لتتعطر بهتافات أبي عبد الله وكلماته، فليتفضل مشكورا مأجوراً.(349/2)
قصيدة شعرية للشيخ عائض القرني
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم صلّ وسلم على حامل لواء العز في بني لؤي, وصاحب الطود المنيف في بني عبد مناف بن قصي, صاحب الغرة التحجيل, المؤيد بجبريل, المعلم الجليل، المذكور في التوراة والإنجيل, صلى الله عليه وسلم كلما تضوع مسك وفاح, وكلما ترنم حمام وصاح, وكلما شدا بلبل وناح.
هذي جراحي وهذا كله وصبي وهذه دمعتي سالت على تعبِ
يكفيك يا قلب أنا في القصيم غدت قلوبنا تنسج الأفراح في طربِ
يا ماسح الدمع عن عيني ذكرتكم والهم ينتابني والهول يعصف بي
فيا فمي اليوم قبل كل ناصية شماء واقصد بها الرحمن واحتسب
بريدة الحق ما زالت محجبة وصانها الله من باغ ومغتصبِ
أمطر عنيزة دمع الحب يحمله روادها من صميم السادة العرب
في الرس ترسو المعالي وهي راسخة وفي البكيرية الغراء كل أبي
يا بن البدائع أبدع ما أردت على نهج الرسول ونهج الثلة النجب
يا مذنب الأوفياء الله يحفظكم من زاركم مذنباً في دينه يتب
هل أخبروك عن الخبرى وما فعلت أجيالها حاملو الأقلام والقضب
قصدي عيون الجوى يا عين فاغتنمي يا صاحب العين لا تأس على الحجب
شمس الشماسية البيضاء معتقة بالبر والخير لم تكسف ولم تغب
أرض الأشاوس ما دانت لمضطهد جوراً وما صافحت كفاً لمنتهب
ولا استناخت لجبار على رغم لو كان من يزن نسلاً ومن كرب
أنوف أبطالها مرفوعة أبداً إذا أنوف خصوم الحق في الترب
صلى على أرضها روح الفدى وسقى ترابها معصرات المزن في السحب
وذاد عنها دعاة الخير ما برحت ترمي الشياطين عنها الدهر بالشهب
أيها الناس! إن الذي يأتي ليحدثكم كالذي يروض الأسود, أو كالذي يسحب الحبل على شفرات السيوف.
أيها الإخوة! يوم أن أتيت إليكم قال لي قلبي: إنك تأتي قوماً أهل كتاب وسنة, فليكن أول ما تخبرهم عنه أنك تحبهم في الله, فأشهد الله في هذه الليلة, وأشهد ملائكته وأشهد حملة العرش, وأشهد المسلمين, أني أحبكم في الله, ولسان الحال يقول: {وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف:88].
كان لي نية قبل فترة أن أتشرف بزيارة هذا المعلم, وهذا المكان، لأشارككم فرصة عودة دروس الشيخ الفاضل العالم المسدد سلمان بن فهد العودة , ونعيش هذه الأمنية الغالية، ولكني جئت الليلة معتذراً وشاكراً ومعانقاً ومسلّماً.(349/3)
موجز المحاضرة
عنوان المحاضرة "الشباب معاناة وطموح" ولها عناصر:
الشباب والفطرة، المعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة، معاناة الخيرين أبد الدهر، رسولنا صلى الله عليه وسلم بين حرب الإيذاء والإغراء, من صور المعاناة عند الشباب، مصادرات الحريات في حياة الجيل, وفصله عن ماضيه المجيد, تحجيم دوره في الحياة ومكانته في التأثير، حيرته أمام ركام هائل من الغثاء الفكري والعقدي والسلوكي، إدانته باتباع السنة واتهامه باعتناق الملة، قلة المربين والعلماء الربانيين.
أما من صور الطموحات فتطلعه أن يكون العالم الرباني، الذي يعيد للعلم مكانته, سعيه إلى أن يكون المجاهد الذي ينصر الله به دينه، حرصه على إعادة الأمة إلى صدارتها وإمامتها, هدايته الناس إلى الله تبارك وتعالى, تطهيره الأرض من الدخيل الكافر, وإعادة الكمال الإنساني إلى أمة الخلافة.
تلكم عناصرها، وفي الحقيقة إنني كتبت المحاضرة لجلالة الموقف, وكنت أرتجل في غالب الأوقات، لكن لما علمت أني سوف أفد إلى مدينة العلم والدعوة، والقضاة والمشيخة, آثرت أن أكتب
كالبحر يمطره السحاب وما له فضل عليه لأنه من مائه
شباب محمد صلى الله عليه وسلم أخاطبهم هذه الليلة, شباب المساجد، شباب القداسة, شباب المبادئ، شباب التوحيد.(349/4)
الشباب والفطرة
قال تعالى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} [الروم:30] على ماذا فطر هذا الإنسان؟ على لا إله إلا الله محمد رسول الله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف:172] فنطقوا، قال الرازي والغزالي: شهادة حال, وقال الجمهور: شهادة مقال.
ولد المولود وفي قلبه مكتوب لا إله إلا الله، وفي دمه تجري لا إله إلا الله، وفي عروقه تسبح لا إله إلا الله.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: لكل مسلم ميلادان اثنان:
الميلاد الأول: يوم ولدته أمه.
والميلاد الثاني: يوم اهتدى وتاب.
ومن يولد الميلاد الثاني فلن ينفعه الميلاد الأول، لأن الميلاد الأول من جنس ميلاد الحيوانات والعجماوات والبهائم والطيور والزواحف, وقال كذلك شيخ الإسلام في مختصر الفتاوى: ولكل مسلم أبوان؛ الأب الأول أبوه الجثماني والأب الثاني محمد صلى الله عليه وسلم فهو أبوه الروحاني، قال وفي قراءة أُبي: (وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم) فالرسول صلى الله عليه وسلم أبٌ للشبيبة المهتدية السالكة إلى الله.
وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه} سقط رأسه على التوحيد, وانبعث على التوحيد, ولكن التربية والغزو الفكري والأيادي العميلة, ومرتزقة الفكر أرادوا أن يلحد أو ينحرف أو يفسق في دين الله, وجزاء الذين يغيرون فطرة الله أن يغير الله أفئدتهم وأبصارهم، ولذلك قال سبحانه وتعالى: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام:110] قالوا: (أول مرة): يوم الميلاد, وقيل: يوم الدعوة, وهذه الآية تتحقق في أسمى كمالها في انهيار الشيوعية اليوم، فهي تنسحق ويخرج العراة الجائعون من بيوتهم، يدوسون بجزماتهم صور لينين واستالين.
لما رأت أختها بالأمس قد خربت كان الخراب لها أعدى من الجرب
رمى بك الله جنبيها فحطمها ولو رمى بك غير الله لم يصب
لقد قلب الله فطرهم, ولقد قلب الله أنظمتهم, ولقد دس الله أنوفهم في الوحل, فرئيس يأتي ليسحب صورة رئيس ويلعنها ويدوسها, {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف:38].
ولكني لا أفيض، وقد أردت أن أفيض, ولكني سوف أترك هذه الإفاضة لفضيلة الشيخ عبد الوهاب بن ناصر الطريري غداً مع محاضرة (موسكو تحطم أصنامها).
{وقد نهى صلى الله عليه وسلم عن تلقي الركبان} {وأن يبيع حاضر لباد} وأن تلقى السلع قبل أن يهبط بها إلى الأسواق, فأعط القوس باريها، والكلمة خطيبها، منتظراً منه بحثاً في هذه الجزئية، التي نعيشها بدمائنا وقلوبنا.(349/5)
المعاناة في حياة الجيل سبيلٌ وسنة
والمعاناة في حياة الجيل سبيل وسنة, والله خلق الإنسان في كبد, {إِنَّا خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} [الانسان:2] قالوا: بالدعوة, وقيل: بالتكليف, بل هو مبتلى حتى في طعامه وشرابه, والفاسق مبتلى في معصيته, وشارب الخمر مبتلى بكأسه, وضارب العود مبتلى بعوده, والفنان مبتلى بفنه, والزنديق مبتلى بزندقته, والمؤمن مبتلى برسالته ومبادئه التي يحملها للناس, {لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد:4] فهو في مشقة وفي ورطة, لا يخرجه من هذه الورطة إلا {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات:50] ولا يكون المخرج إلا محمداً عليه الصلاة والسلام، لأنه يخرجهم من الظلمات إلى النور, ولأنه ربان سفينة النجاة، من ركب فيها نجا, ومن تخلف عنها هلك.
{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ} [الانشقاق:6] فهو عامل، الغني كادح, ومدير القرار كادح, ومنتج الجرم كادح, ومقترف الفاحشة كادح, ومرسل الكلمة البناءة كادح, ولكنه يعود إلى الله, وكما قال البوشنجي وهو يتكلم عن الدنيا، وهو أحد العلماء المحدثين:
أتينا كارهين لها ولما عشقناها خرجنا كارهينا
وما بالعيش سلوتنا ولكن مرار العيش فرقة من لقينا
يقول: أتينا نكره الدنيا غاضبين على الدنيا, لا نريد الدنيا، فلما تعلقنا بها أتانا الموت تعلقنا بالدنيا, كما قال الأول:
ولدتك أمك يابن آدم باكياً والناس حولك يضحكون سرورا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضاحكاً مسروراً
وهذه هي المعاناة الكبرى, وهي العامة لكل البشر لمؤمنهم ولكافرهم، ولمهتديهم وضالهم.(349/6)
معاناة الخيرين
أما معاناة الخيرين فهي معاناة خاصة, وهو أمر ومثوبة, وهو تكليف وواجب, ولقد عانى في الطريق كل صالح وكل خير, طريق شاق ومتعب, وطريق مضن، بل العجيب أن رواد الحق ودعاة الباطل في طريقهم إلى مبادئهم يضحون, هذا يضحي وذاك يضحي، سجن ابن تيمية وسجن لينين , كل من أجل مبدئه، وقتل أبو جهل وقتل حمزة، كل من أجل مبدئه, وجلد أحمد وجلد كارل ماركس في بلجيكا , كل من أجل مبدئه: {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} [الشعراء:227] طريق ناح فيه نوح، وذبح فيه الذبيح, واغتيل زكريا, وضرج عمر بدمه في المحراب, وذبح عثمان , وفصل رأس علي , وجلدت ظهور الأئمة ولكن:
جزى الله الطريق إليك خيراً وإنا قد تعبنا في الطريق
فكم بتنا على الأجهاد يوماً نراعي النجم من أجل الصديق
إنها طريق شاقة، ولكنها أجر ومثوبة, نوح يصارع الطوفان, وإبراهيم -عليه السلام- يحارب بالنار, وموسى يفتن فتونا, ورسولنا صلى الله عليه وسلم يتلقى الكربات.(349/7)
بين حرب الإغراء والإيذاء
رسولنا صلى الله عليه وسلم بين حرب الإغراء والإيذاء، وهما حربان يتعرض لها الداعية دائماً, فأيهما غلبته سقط وهزم وسحق، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم نجح نجاحاً باهراً، وانتصر انتصاراً مبيناً في كلا الحربين.
اسمع إلى حرب الإغراء، وأول ما يمارس الطغاة والظلمة حرب الإغراء, إنهم يقدمون الدينار، ويقدمون الجائزة والسيارة الفخمة, إنهم يشترون الضمائر ليبتاعوا بها المبادئ, تعرض صلى الله عليه وسلم لهذا، وأول ما تعرض له الفتاة الجميلة, تعرض على محمد صلى الله عليه وسلم يقول له الوليد: إن كنت تريد زوجة زوجناك أجمل فتاة في مكة , وكانت الزوجة الجميلة طموحاً وهدفاً للعرب في الجاهلية, ولذلك يقول قائلهم عن الفتاة:
أخبروها إذا أتيتم حماها أنني ذبت في الغرام فداها
ويقول جميل:
يقولون جاهد يا جميل بغزوة وأي جهاد غيرهن أريد
ومجنون ليلى وهو يدعو الله عند مقام إبراهيم, ينسى دعواته ويلتفت إلى تلك الفتاة الجميلة التي سلبت عقله:
أتوب إليك يا رحمن مما جنت نفسي فقد كثرت ذنوب
وأما عن هوى ليلى وتركي زيارتها فإني لا أتوب
هذه عروبة أبي جهل وأبي لهب المنفصلة عن لا إله إلا الله، محمد رسول الله, لكن ماذا قال عليه الصلاة والسلام؟ قال: لا، فطموحاته أعظم.
عرض عليه الملك، ليتولى ملكاً على العرب العرباء, وليقود الجزيرة العربية , ولكن الملك مجرداً من الدين أمنية البسطاء, ومبلغ علم الوضعاء, ولذلك جعلته العروبة قبل الإسلام من أقصى أمانيها؛ يقول امرؤ القيس:
بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنا لاحقان بقيصرا
فقلت له لا تبك عينك إنما نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا
إما ملك أو موت.
وقال -المهلوس الآخر- المتنبي:
ولا تحسبن المجد زقاً وقينةً فما المجد إلا السيف والفتكة البكر
وتضريب أعناق الملوك وأن ترى لك الهبوات السود والعسكر المجر
وتركك في الدنيا دويا كأنما تداول سمع المرء أنمله العشر
هذه هي أمانيهم, وهذه طموحاتهم.
وعرضت عليه الدنيا صلى الله عليه وسلم، فقال له الوليد: وإن كنت تريد مالاً جمعنا لك مالاً لتكون أغنى أهل مكة , ولكن ماذا فعل صلى الله عليه وسلم؟ قال فيما يروى عنه: {والذي نفسي بيده لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركنه أو أهلك دونه}.
لله در مبادئك وطموحاتك وهمتك وعزيمتك!
البدر والشمس في كفيك لو نزلت ما أطفأت فيك ضوء النور والنار
أنت اليتيم ولكن فيك ملحمة يذوب في ساحها مليون جبار
في كفه شعلة تهدي وفي دمه عقيدة تتحدى كل جبار
يا فاضح الظلم فارت هاهنا وهنا فضائح أين منها زندك الواري
ومحمد صلى الله عليه وسلم ينتصر، فلما انتصر على الإغراء, تعرضوا له بالإيذاء، وهي المدرسة الأخرى وهو الأسلوب الآخر, السب والشتم: "ساحر وكاهن وشاعر ومجنون وكاذب" يصلي عند المقام صلى الله عليه وسلم، فيضعون السلى على رأسه، فيقوم يحتحت السلى ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
يذهب إلى الطائف جائعاً ظامئاً متعباً ساهراً, فيرد من الطائف بالتكذيب، ويرمى بالحجارة فتسيل أقدامه, ويقول: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون} يتعرض للإيذاء في عرضه، في عائشة الطاهرة, فيصبر ويتحمل, تباع أملاكه في مكة , تصادر كرامته, يؤذى ويشهر به في القبائل, ولسان حاله ومقاله: {اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون}.
يأتيه ملك الجبال فيقول: ائذن لي أن أطبق على أهل مكة الأخشبين, فيقول: {لا.
إني أرجو الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً}.
وبالفعل أخرج الله من صلب أبي جهل عكرمة , ومن صلب الوليد خالداً , فنشروا الدين في ثلاثة أرباع الكرة الأرضية.
ويتعرض صلى الله عليه وسلم لمحاولة الاغتيال, ولكن يتصل بالله، ويعتز به ويستنصر به، فينصره الله نصراً مؤكداً؛ يرتجف في الغار, حوله خمسون شاباً تقطر دماؤهم حقداً وموتاً, يرتعد ويرتجف أبو بكر ويخاف, ويقول: يا رسول الله! لو نظر أحدهم إلى موطن قدميه لرآنا, فيتبسم صلى الله عليه وسلم, من الذي يتبسم في وهج العاصفة؟! هو وحده صلى الله عليه وسلم.
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
قال: {يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ لا تحزن إن الله معنا} وانتصر وحقق أعظم الطموحات التي ما حققها مصلح في تاريخ مسيرة الإنسان وعبر القرون والأديان إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.(349/8)
من صور المعاناة عند الشباب(349/9)
الاستهزاء والسخرية
تمر المعاناة بهذا الجيل الذي يريد أن يرث رسالة الرسول صلى الله عليه وسلم، ويبلغها للناس، فإذا هو الجيل الذي يمر به الاستهزاء والسخرية في أول درس له، ومدرسة الاستهزاء والسخرية قديمة تعرض لها صلى الله عليه وسلم وأصحابه، يذهب بهم إلى تبوك , ليرفع لا إله إلا الله، وليطرد الغازي عن شمال الجزيرة , ومعه في الجيش مستهزئون منافقون, قالوا: ما رأينا كقرائنا هؤلاء أرغب بطوناً، ولا أجبن أفئدة عند اللقاء, ومن هو الجبان؟! ومن الذي يتخلف عن الصف؟ أمحمد صلى الله عليه وسلم جبان؟! أمحمد صلى الله عليه وسلم الذي يخوض المعارك بنفسه, والذي يضرب الكتائب بسيفه, والذي يقول علي وهو من أشجع الناس: {كنا إذا اشتد الهول، واحمرت الحدق، وحمي الوطيس, اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم, فيكون أقربنا إلى القوم}؟!
أنت الشجاع إذا لقيت كتيبة أدبت في هول الردى أبطالها
وإذا وعدت وفيت فيما قلته لا من يكذب فعلها أقوالها
هذا محمد صلى الله عليه وسلم يستدعيهم في الصباح ليحاكم هؤلاء، أعداء الرسالة والصحوة والمنهج, ما لكم؟ فيقولون: نخوض ونلعب في أعراض الصالحين, فقال الله تعالى: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65 - 66] وهذه المدرسة تجرب حظها اليوم في مسيرة الصحوة, فتستهزئ باللحية والثوب القصير والسواك واتباع الرسالة وصلاة الجماعة والأذان والقرآن.
أحدهم يذكر في جريدة الحياة عن شباب الصحوة أنهم يعتقدون أن من قرأ آية الكرسي على الطائرة ( F15) سقطت, وهذا لا يقوله أحد, والكرامات نقرها, لكن حنانيك!! أبشباب الصحوة تستهزئ؟! أبالشباب الذين لو ذهبت أنت إلى بورتلاند تتزلج على الثلج, ذهبوا إلى أفغانستان يتزلجون تحت الدبابات؟! أبشباب الصحوة تستهزئ، الذين إذا ذهبت إلى الخمارات ذهبوا إلى المساجد لإقامة الصلوات؟! أبشباب الصحوة الذين إذا تلوت أنت المجلة الخليعة تتملاها, تلوا هم كتاب الله وقرءوا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!
وإذا تكون ملمة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13] إذا قيل التزموا كما التزم الشباب الخيرون, قالوا: كيف نلتزم كما التزم المتطرفون الأصوليون الفضوليون, قال سبحانه وتعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ * وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة:13 - 14] أما في مجالس أهل العلم والفضل فيتظاهرون بالدين ورعاية الملة وحماية الشريعة, وأما في مجالسهم فيهدمون الإسلام بالمعاول: , {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة:15 - 16] وهي مدرسة: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:29 - 30] وهي مدرسة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} [الفرقان:31].
ويراني كالشجى في حلقه عسراً منزعه ما ينتزع
فاجراً يخطر ما لم يرني فإذا أسمعته صوتي انقمع
قد كفاني الله ما في نفسه وإذا يكفك شيئاً لم يضع
غاظه أني حنيف مسلم وهو في اللذات واللهو تبع
أتريدون سقوطي بعدما لمع الشيب برأسي وسطع
لكن لمع نور محمد عليه الصلاة والسلام, وسطع ضياؤه في قلوب الموحدين, وليسوا بضارين كيداً والله معنا يوم نعتمد عليه.(349/10)
مصادرة الحريات
من صور المعاناة مصادرة حرية الجيل وفصله عن ماضيه المجيد, فصوت الداعية مبحوح, ورأي الرشيد مذبوح, ومتمزق الفكر يغدو ويروح.
من صور المصادرة: أن يتهم الناصح في نيته, ويشكك في مقاصد أهل الخير وأهل الفضل, وإلا فمبدأ المؤمن النصح, لا يريد الغش لله ولا لرسوله ولا للمؤمنين.
أتى أبو سفيان إلى علي في الليل يطرق عليه بابه, قال: يا علي أتريد الخلافة من أبي بكر؟ لأملأن عليك المدينة فتيانا مرداً وخيلاً جرداً لتأخذ الخلافة من بنى تيم إليك, وهذا منطق الجاهلية؛ قال علي: [[يا أبا سفيان إن المؤمنين نصحة, وإن المنافقين غششة]] فالناصحون لا يتهمون، وإنما يريدون أن يحفظ الله بتضحيتهم البلاد والعباد, وأن يحجب غير الملتزم والمستقيم عن ميادين الإبداع, وأن يؤمم عليه مجال التأثير, وأن يعد طارئاً على المألوف, وارداً على السائد المتعارف عليه، حادثاً بأفكاره، وأن يترك الميدان لغيره والكلمة لسواه.
إذا عيَّر الطائي بالبخل مادرٌ وعير قساً بالفهاهة باقل
وقال الدجى للشمس أنت كسيفة وقال السهى للبدر وجهك حائل
فيا موت زر إن الحياة ذميمة ويا نفس جدي إن دهرك هازل
يريدون المشاركة لهؤلاء الأخيار، فيجدونها في أضيق نطاق، بينما يجد أهل الهوايات الأبواب المفتوحة، والصدور المشروحة, وأهل الهوايات أصبحوا نجوماً، وباعة المبادئ أعلاماً، وأشباه السائمة رموزاً, فشياطين الإنس يجولون في صدور أولئك, ويحولون بين الشباب هؤلاء وبين ما يريدون من الخير, ويدغدغون الغرائز، أما هؤلاء الثلة الممتازة التي تريد رفع لا إله إلا الله محمد رسول الله, فيسخرون بدينهم وبنبيهم, ويتلاعبون بمصادر عزتهم, فأصواتهم ومجلاتهم وإشاراتهم ولافتاتهم وأغانيهم وكتبهم وجرائدهم وأشرطتهم في كل بيت, وفي المعمل والعيادة والدكان والجامعة والسوق, ثم يقال للداعية: احذر أن تسيء الأدب, أو تجرح المشاعر, أو تغضب الآخرين, أو تنكر عليهم.(349/11)
تحجيم دور الشباب في الحياة ومكانه في التأثير
وأما تحجيم دوره في الحياة, ومكانه في التأثير, فهو ينظر إلى إسلامه وهو يزوى ويركن عن الحياة, هذا الدين الذي أنزله الله عز وجل منقذاً للبشرية ورحمة للكون, وينظر الشاب إلى قرآنه وهو معزول عن حياة الناس, في جماعة تحفيظ القرآن, في القراءة على الموتى، في رؤية المشروع, في افتتاح الندوات فحسب, لكن أن يصدر القرآن ويورد هذه الأمة وأن يقودها إلى معالم الخير, وأن يرشدها في الحياة فلا, القرآن الذي أنزله الله وقال فيه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [إبراهيم:1] إليك يا محمد, إليك يا حامل المبادئ, إليك يا منقذ الإنسان بإذن الله, إليك يا صاحب النور, لماذا؟ لتقرأه في المسجد, لترقى به الصرعى فحسب, لتتفتح به الندوات أم {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [إبراهيم:1] ويقول الله في كتابه: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلونَ} [الزخرف:44].
قال مجاهد: شرف لك ولقومك.
إي والله إنه الشرف العظيم, أين دستوري ودستورك قبل الرسالة؟ أين تاريخي وتاريخك؟ أين شريعتي وشريعتك؟ إنه القرآن والسنة.
هذا الشاب يمتعض ويغضب، ويثور ويفور دمه, يوم يرى هذا القرآن يُنَحَّى عن حياة الناس, والله عز وجل يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام:162] هذا الشاب في نظرهم لا يصلح أن يكون من أساطين الأدب لأنه ملتحٍ, ولا من رواد الفكر لأنه قصير الثوب, ولا من أهل القرار لأنه يحافظ على صلاة الجماعة.(349/12)
حيرة الشباب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي
ثم يحتار هذا الشاب أمام الركام الهائل من الغثاء العقدي والفكري والسلوكي.
والأصل في توجه المسلم تجريد المنهج الرباني من الدخن، وتصفيته من الشوائب, ذهب عمر إلى مدراس لليهود، فوجد صحيفة هناك من التوارة ملقاة فاستبشر بها, وظن أنه سوف يضيف لثقافة الرسول صلى الله عليه وسلم ثقافة جديدة, ولشريعته منهجاً آخر, وأتى بالصحيفة يحملها ويبشر بها رسولنا عليه الصلاة والسلام, فَتَمَعَّر وجهه صلى الله عليه وسلم، وغضب, وقال فيما رواه النسائي بسند صحيح: {أمتهوكون فيها يـ ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده لقد أتيت بها بيضاء، والذي نفسي بيده لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي} أي لو كان موسى صاحب تلك الرسالة وصاحب تلك التوارة حياً, لكان تلميذاً من تلاميذي، وطالباً من طلابي؛ ومع ذلك تذهب لتأتينا بثقافة جديدة؟!
شعوبك في شرق البلاد وغربها كأصحاب كهف في عميق سبات
بأيمانهم نوران ذكر وسنة فما بالهم في حالك الظلمات
وينزل الصحابة ويرون شجرة ذات أنواط, تشبه شجرة المشركين ذات أنواط, يعلقون عليها الأسلحة, بل يطلبون من الرسول صلى الله عليه وسلم شجرة ذات أنواط, تشابه تلك, فقال صلى الله عليه وسلم: {الله أكبر! إنها السنن، قلتم كما قال قوم موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة} فأنكر عليهم صلى الله عليه وسلم حتى المشابهة في هذا الشكل الخارجي, لما يؤدي إليه من المشابهة في المضامين والمقاصد, فالمسلم يتميز حتى في ثيابه, وفي لباسه, وفي منهجه, وفي فكره, وفي أدبه.
ذكر ابن إسحاق في السيرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم أرسل عثمان يصالح المشركين يوم الحديبية، فلما رأى المشركون عثمان قصير الثياب إلى منتصف الساق، علمه شيخه وأستاذه أن السنة تقصير الثوب, والمشركون يجرون الإزار ويسحبون الثياب, يقول النابغة يمدحهم:
رقاق النعال طيب حجزاتهم يحيون بالريحان يوم السباسب
فقال المشركون: قد صبأ عثمان , قد صبأ عثمان , لأنهم رأوا ثيابه قصيرة، لأن شيخه أتى بثياب قصيرة, فقلده واتبعه، واستن بسنته رضي الله عنه وأرضاه, وصلى الله على المعلم وسلم.
يدخل عمر المسجد وهذا في التاريخ أيضاً, فيجد قاصاً يقص على الناس, لكن أمن القرآن؟ لا.
أمن السنة؟ لا.
وعندنا القصص وعندنا الأدب, وعندنا الإبداع, وعندنا الروعة, وعندنا المنهج المتكامل, قال عمر: من هذا؟ قالوا: قاص, قال: يقص ماذا؟ قالوا: يقص علينا من كتاب " دانيال؛ وعمر عنده عصا نسيها في البيت, فعاد فأخذها وأتى إلى الرجل فشق الصفوف إليه وضربه على رأسه, وقال: [[يا عدو الله يقول الله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يوسف: 3] وتقص علينا من كتاب دانيال]] , مثل من يذهب الآن ويترك صحيح البخاري ومسلم ليخبرنا عن قصة بائعة الخبز, ووردة المفترية, وخلف الكواليس، ومحمود عنقاوي.(349/13)
إدانة الشباب باتباع السنة واتهامه باعتناق الملة
هل سمعتم عن أحدٍ يخجل أن يحمل ملة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته؟ لقد أحوج المنافقون شباب الإلتزام إلى أن يخجل بعضهم من اتباع سنة الرسول صلى الله عليه وسلم, حتى يقول الأول:
إذا محاسني اللاتي أدل بها كانت ذنوبي فقل لي كيف أعتذر
إذا كان اتباعنا لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم, وسجودنا لله عز وجل, وانتهاجنا نهجه إدانة واتهاماً، فكيف نعتذر للناس؟ ولذلك يقول منطق الجاهلية: لو كان خيراً ما سبقونا إليه، أبناء الفقراء يسبقوننا إلى المساجد والهداية وإلى الالتزام والسنة, عرفنا الإسلام قبلهم, ونحن أهل الإسلام الأصيل, ولكن هو منطق واحد, كما قال تعالى مخبراً عنهم: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء:111] {أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا} [الأنعام:53] لماذا اصطفاهم الله؟
لقد أُحْرِج صراحة كثير من الشباب بسبب اتباعهم سنة النبي صلى الله عليه وسلم, ووجدوا من التعليقات المريرة المرة ما لم يجده العصاة, وهاهم العصاة يتبجحون ويسرحون ويمرحون, لا يعلق على الحالق بحلق لحيته, ولا على المسبل بإسبال ثوبه ولا على شارب الخمر بشرب خمره, ولا على حامل العود بضرب عوده, ولا على هاوي المجلة الخليعة بمجلته, وإنما يعلق على أولياء الله، لأنهم اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنها معاناة جعلت ضعيفي الإيمان من شباب الصحوة يتنازلون عن الكثير من السنن, بل ويجد أحدهم الحرج في أن يحمل السنة، وربك يقول: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [النساء:65] كيف يجدون طعم الإيمان وهم يخجلون من اتباعك؟! وقد صرح بعضهم في تصريحات رسمية أنه لولا أسرته لربى لحيته, ولولا أن أباه يضغط عليه لترك الغناء, ولولا أن أمه تحاربه لحضر دروس العلم والمحاضرات, فسبحان الذي يغير ولا يتغير ويبدل ولا يتبدل!(349/14)
قلة المربين والربانيين
ومما يعاني منه الشباب قلة المربين والعلماء الربانيين، فقد أصبحوا أندر من الذهب, وأعز من الكبريت الأحمر.
وقد كانوا إذا عدوا قليلاً فقد صاروا أقل من القليل
وأصبح الآن يذكر في المدن عالمٌ واحد, ممن يحمل الشريعة، ويؤتمن على الميثاق، وعلى الكلمة الحقة, وأصبح كما قال بعض الفضلاء: لو جمعنا الدعاة في البلاد في منطقة واحدة أو في مدينة, ما غطوا حاجتها, وأصبحت بعض المدن لا تقام فيها المحاضرة في السنة إلا مرة أو مرتين, وأصبح هناك فقر مدقع في الدروس العلمية, بينما تمطر الأمة بوابل من الغثاء صباح مساء, فالصحف والمجلات والوسائل كلها ترغي وتزبد بما لا ينفع.
ولكن مع قلة المربين والدعاة فإننا نرى جهد أعداء الله كما قال الله؛ والله يقول: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد:17] ولو أنه تصرف الأموال, وتهيأ الوسائل, وتدرس البرامج, ولكن لا يهمك أمرهم {فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ} [الأنفال:36] ويبقى الحق منتصراً مع قلة وسائله وقلة ما يلمع أو يزخرف أو يوجه.
أصبح كثير من العلماء يشتغل بالنفع اللازم من نوافل المستحبات والزهد والورع, لكنه عند ابن تيمية وأحمد بن حنبل والعز بن عبد السلام ورع بارد؛ ورع والأمة تغرف؟! ورع والأمة تصادر كرامتها وحريتها؟! ورع والأمة تفصل من لا إله إلا الله؟! ورع والأمة تحول عن القبلة؟! ورع والأمة توصل بحبال إلى الغازي المستعمر؟! أي ورع هذا؟! وصنف آخر يتشاغل بفضول العلم، وتوليد المسائل، وتفريع الفرعيات على حساب الأولويات والمهمات, فلا ينزل للجيل ولا يقود المسيرة, ولا يوجه الطاقات, ولا يعظ, ولا يأمر, ولا ينهى, فأي علم هذا وأي فائدة؟!
المكتبات تغرق بوابل من التأليفات في الجزئيات حتى أُلِّفَ في مسألة المسبحة ما يقارب خمسة كتب مجلدات.
ولكن من يسبح بهذه الأمة إلى شاطئ الأمان؟ إنهم رواد محمد صلى الله عليه وسلم الذين يعلمون الناس, كما قال تعالى: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} [آل عمران:79] قيل: الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره, وقيل: هو الذي يكون إماما في الخير ويعلم ويربي بفعله.
وقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} [السجدة:24] هل قال: في بيوتهم أو زوايا مساجدهم؟ لا بل قال: {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة:24] يقول عليه الصلاة والسلام {لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم}.
إن القلة القليلة التي تتبوأ مكان الصدارة تحتاج إلى من يرفدها ويعينها من القاعدين الآخرين، الذين رضوا بالجلوس في بيوتهم، وأفتاهم الشيطان ببعض الفتاوى التي لا تصلح في هذا الزمن, بل هو زمن الصراع العالمي والجهاد وأن تبدو ببضاعتك، وأن تنشر بزك, وأن تكون مرفوع الرأس.(349/15)
صورٌ من الطموح(349/16)
طموح إلى الربانية
ويتطلع كل واحد من الشباب -وهذا طموح- إلى أن يكون هو العالم الرباني، وسوف يحصل ذلك متى كان هناك استعداد وتوفيق ونية لتعلم العلم الشرعي، ورغبة في التحصيل, وصبر على صعوبة الطريق, وفراغ القلب والوقت من الشواغل, مع ذكاء وفطنة.
إن الإسلام يعترف بالعلماء ليصدر الناس عن رأيهم، لكن ذلك حين يكون العالم وارثاً لمحمد صلى الله عليه وسلم, حين يقول كلمة الحق ولا يكتم: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة:159] {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} [آل عمران:187].
إن الذي يشتري بدعوته منصباً, أو سيارة فخمة, أو فيلا بديعة, أو وظيفة مغرية, ثم يترك هذا المبدأ ولا يبينه للناس, لهو الخاسر في آخر الطريق, وهو المنكوب صراحة, وهو المفلس.(349/17)
طموحٌ إلى الجهاد
ويتطلع الشباب إلى أن يكون الواحد منهم مجاهداً في سبيل الله, وليس الجهاد فحسب في أفغانستان , بل في كل مكان, جهاد الكلمة والموعظة والخطبة والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, وتربية البيت, والتحصيل العلمي, وتربية النفس على طاعة الله عز وجل, وكلٌ منا في قلبه أفغانستان , وكل في قريته أو مدينته أفغانستان , وهى من الجهاد أيضاً، ولكن نعطيها حجمها من الاهتمام, لئلا نترك الثغرات الأخرى، التى فتحت علينا وتولى أصحابها, وكانوا على المسلحة بالسيوف في الأنقاب, يطردون كل مسيح دجال يريد أن يدخل هذا النقب.
سقطت راية الجهاد -كما قالوا- بعد صلاح الدين وتخلفت الأمة الإسلامية لتعيش في آخر الركب, وصارت تستورد ولا تصدِّر، وتوجَّه ولا توجِّه، وتُقَاد ولا تقُود.(349/18)
طموحٌ إلى قيادة البشرية
والشاب الآن يطمح لأمته التي يقرأ عنها في التاريخ أن تقود البشرية، أصبحت حجتنا الآن أن نغسل العار عن وجوهنا, وأن نقدم للشباب كل جمعة عمر بن الخطاب:
لو أسمعوا عمر الفاروق نسبتهم وأخبروه الرزايا أنكر النسبا
أبواب أجدادنا منحوتة ذهباً وذي هياكلنا قد أصبحت خشبا
من زمزم قد سقينا الناس قاطبة وجيلنا اليوم من أعدائنا شرباً
إذا أردنا أن نعتذر قلنا: منا صلاح الدين , وعمر بن عبد العزيز.
إذا فخرت بآباء لهم شرف نعم صدقت ولكن بئسما ولدوا
فلماذا لم يجعل كل منا نفسه عمر بن الخطاب ولو مصغراً, وصلاح الدين ولو نبذة منه, أو نسخة مكررة؟ وما ذلك على الله بعزيز.
وينتظر الشاب إلى أن يكون الداعية إلى منهج الله عز وجل ضد دعاة الباطل, وحملة الرذيلة، والمطالبة منا أن نراغمهم في الميدان، ونلاحقهم في كل معترك.
فالداعية الشاب الملتزم يجرع أعداء الله غصصاً لا تنتهى، وخطيب الدعاة ضد خطيب أولئك, وصحفينا ضد صحفيهم, وأديبنا ضد أديبهم, وكاتبنا ضد كاتبهم, ومفكرنا ضد مفكرهم.
فإذا {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد:4] وعندنا ولله الحمد في شباب الصحوة من التخصصات والمواهب والاستعدادات ما يغطي كل جانب, ولكنها ما استثيرت وما وجهت وما وضعت في أماكنها, عندنا مئات الشعراء والحمد لله -إن بني عمك فيهم رماح- وعندنا ومئات الخطباء, ومئات الدعاة, ومئات الوعاظ, ومئات الشعراء:
أتركبون فإن الركب شيمتنا أو تنزلون فإنا معشرٌ نُزُلُ
إن شئتم فلنا في الهند ضاحكة أو شئتم الطعن فالأرماح ترتجل
ويريد الشاب من طموحاته أن يكون الآمر الناهي, الذي يتمعر وجهه كل يوم مرات عديدة, إذا رأى الإسلام يُمَرَّغ في التراب, ويمرغ على الأرصفة, ويمرغ في الحوانيت, ويمرغ في الجامعات, ويمرغ في المنتديات, ويمرغ في النوادي, فيلتهب هذا الشاب، ويفور دمه، لأن دينه ومبدأه يمرغ في التراب, ويُزْبِد ويُرْعِد إذا رأى المنكر أمامه يهدد منهج الله ويضايق أولياءه.
إن هذا الجيل إن شاء الله لا يريد أن يكرر مأساة بنى إسرائيل الذين تركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, فقال الله عنهم: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المائدة:78 - 79].
يقول الحبيب لحبيبه: قل الحق ولو كان مراً؛ يقول صلى الله عليه وسلم لـ أبي ذر: {قل الحق ولو كان مراً} رواه ابن حبان، والحق مر يذهب بالرءوس, والحق مر يأخذ النفوس, والحق مر يسيل الدماء, لكن قل الحق ولو كان مراً, ما هي ميزتنا أمام الأمم؟ أننا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، ونؤمن بالله, فإن تخلينا عن هذه الميزة سقطنا من عين الله ثم من عيون الأمم.
والشعوب الإسلامية الآن ترك أكثر أبنائها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بفعل الاستعمار, بل أصبح الأمر والنهي دخيلاً على الأمة، وأصبح مستغرباً, وأُذِيْبَ وأُنْهِيَ حتى أصبح الآن متلاشياً قليلاً ضعيفاً.(349/19)
طموح إلى دخول الجنة
أيها الإخوة الفضلاء! ومن طموحات هؤلاء الشباب دخول الجنة، نسأل الله لنا ولكم الجنة، وهى أعظم ما بشر الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه، خلافاً لـ أهل التصوف الكاذبين, الذين يرون أن هناك مطلباً أعلى من دخول الجنة, ويرون أنهم لا يعملون للجنة, وأن العامل لا ينبغي أن يعمل من أجل الجنة, يقولون: أجير السوء إذا أعطاه سيده أجرة عمل, وإلا لم يعمل، ويقول أحدهم: والله ما عبدت الله طمعاً في جنته، ولا خوفاً من ناره, ولكن ليرضى عني, وقال أحدهم: وهو يقرأ قوله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران: {مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ} [آل عمران:152] والله يخاطب أهل أحد , من يريد الدنيا هم أهل الغنائم, ومن يريد الآخرة هم الشهداء الذين تركوا الغنائم, فصفق بيديه هذا الصوفي وقال: الله أكبر! فأين الذين يريدون الله؟! يعني ما من الصحابة أحد يريدون الله، وهو فقط في صومعته وفي جهله وفي تخلفه يريد الله.
الرسول صلى الله عليه وسلم صراحة مني الصحابة بالجنة, قال له الأنصار: يا رسول الله على ماذا تبايعنا؟ قال: على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم, وأطفالكم, وأموالكم, قال ابن رواحة: يا رسول الله؛ فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: لكم الجنة, فقام من مجلسه وقال: ربح البيع والله لا نقيل ولا نستقيل.
قال ابن القيم معلقاً: والبيعان بالخيار إن لم يفترقا، فإذا تفرقا وجب البيع.
طولب ابن رواحة بالبينة: ما هي بينتك؟ وأنت قد خرجت من مجلس العقد, وقد سمعت من رب العالمين: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّه} [التوبة:111] فطولب بالبينة فتقدم في غزوة مؤتة , وأخذ الصحابة يقولون: رويدك يـ ابن رواحة! فيقول:
أقسمت يا نفس لتنزلنه
لتنزلن أو لتكرهنه
إن أقبل الناس وشدوا الرنة
مالي أراك تكرهين الجنة
هل أنت إلا نطفة في شنة
ثم باعها من الله, والله اشترى، وذهبت روحه إلى الحي القيوم: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:26 - 29].
وقال ابن هشام في السيرة، وابن كثير وغيرهما: وقف النبي صلى الله عليه وسلم يعلن الحرب يوم الجمعة على أبي سفيان لأنه هدد أمن المدينة , واجتاح أطرافها، وأراد دخولها قبل المعركة بيوم أو يومين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس: ماذا ترون أين نقاتلهم؟ قال كبار الصحابة: في المدينة، يقول اللواء الركن/ محمود شيت خطاب: وهو الرأي السديد؛ فإن حرب المدن دائماً في صالح المدافع على المهاجم؛ وأقر صلى الله عليه وسلم ذلك، وخرج ثلة من أصحابه من الشباب من آخر المسجد يكبرون وينشدون:
نحن الذين بايعوا محمدا على الجهاد ما بقينا أبدا
ويقول عمرو بن سالم: {يا رسول الله اخرج بنا إلى أحد , لا تمنعني دخول الجنة, والله لأدخلن الجنة, فيقول صلى الله عليه وسلم: بم تدخل الجنة؟ قال: بخصلتين: بأني أحب الله ورسوله, ولا أفر يوم الزحف, قال: {إن تصدق الله يصدقك}.
وخرج بهم صلى الله عليه وسلم، فقدموا التضحيات الهائلة، التي لم يروها تاريخ، ولم تحفظ في كتاب, إلا في كتاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولم تروَ في قصة، ولم يسمع بها دهر, إنها والله تضحيات تقيم شعر الرأس، وتجعل الدم مواراً في الجسم, تضحيات لا تنسى أبداً.
يمد سيفه صلى الله عليه وسلم قبل المعركة فيقول: {من يأخذ هذا السيف؟ فرفعوا أياديهم قال: بحقه فنزلت الأيادي إلا يد أبي دجانة، قال: ما حقه يا رسول الله؟ قال: أن تضرب به في الأعداء حتى ينحني} اسمع الشرط.
عهد أبي حفص الذي تبقى إن على أهل اللواء حقاً
أن تخضب الصعدة أو تندقا
قال: أنا آخذه يا رسول الله, فأخذه وأخرج عصابة الموت الحمراء, وهي تترجم (خطر ممنوع الاقتراب) وقال الأنصار: أخرج أبو دجانة عصابة الموت, فحان الموت, وأخذ أبو دجانة يقول:
أنا الذي عاهدني خليلي ونحن بالسفح لدى النخيل
ألا أقوم الدهر في الكيول أضرب بسيف الله والرسول
ففلق به هام المشركين, وتقدم قتادة بن النعمان ليعلن من نفسه الصدق مع الله عز وجل, فضربت عينه ونزلت حتى تعلقت بعرق في خده -كما قال ابن القيم في زاد المعاد، وغيره من أهل العلم- وأتى بعينه يعرضها على الرسول صلى الله عليه وسلم, بالله هل بعد هذه التضحية تضحيات؟ فيردها صلى الله عليه وسلم إلى مكانها، فتكون أجمل من الأولى, ويفتخر ابنه ويقول عند عمر بن عبد العزيز:
أنا ابن الذي سالت على الخد عينه فردت بكف المصطفى أحسن الرد
فصارت على خير لأول حالها فيا حسنما كف ويا حسنما خد
ويتقدم حنظلة، ويقتل وهو جنب، ويغسل بين السماء والأرض في صحاف الذهب بماء المزن.
أملاك ربى بماء المزن قد غسلوا جثمان حنظلة والروح تختطف
وكلم الله من أوس شهيدهم من غير ترجمة زيحت له السجف
سعد وسلمان والقعقاع قد عبروا إياك نعبد من سلسالها رشفوا(349/20)
طموح إلى رضا الله
ومن طموحات هذا الجيل أن يرضى ربه عنه, ورضا الله غاية الغايات, وأهم المقاصد، وهى ما يطمح إليه العبد المؤمن في الحياة, فنسأله سبحانه بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يرضى عنا وعنكم، والمسلم دائماً في كل صباح يقول: "رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً " صلى الله عليه وسلم, ولابد أن يحقق هذا في عمله وعبادته وسلوكه وأخلاقه, ولابد أن يجعل هذا الميثاق نصب عينيه، في كل دقيقة ولحظة من لحظات اليوم, ولا يقدم على رضا الله رضا أحد من البشر مهما كان, ولا يقدم على الخوف من غضب الله غضب أحد من البشر مهما كان أبداً؛ فإنه قد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: {من أرضى الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس، ومن أسخط الناس برضا الله رضي الله عنه وأرضى عنه الناس} فالواجب على المسلم وعلى هذا الجيل أن يحرص على رضا الله عز وجل, وأن يردد دائماً بقوله وبعمله:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذى بينى وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين وكل الذى فوق التراب تراب(349/21)
اقتراحات عاجلة
وهذه غاية الغايات كما قلت، وقبل أن أختتم كلامي هذه اقتراحات عاجلة, من أخ إلى إخوانه، ومن زميل إلى زملائه، ومن صديق إلى أصدقائه, منها:
أن يصنف الفضلاء حسب مواهبهم واستعداداتهم للذود عن الملة, وحراسة حياض الشريعة, وحماية دار الإسلام, ما بين عالم وداعية وواعظ وآمر وكاتب وأديب وصحفي, ثم يقف كل منا على ثغرة فلا يغادرها حتى يقضى نحبه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [الأحزاب:23].
الثاني: أن ينتقل كل منا من مرحلة تواكل المسئولية، والتبرؤ من التبعات, إلى التأثير والمشاركة, وإلى ميادين العطاء, وإلى نشر ميثاق محمد صلى الله عليه وسلم بكل ما أوتي الداعية من قوة.
الثالث: أن يهيأ في كل حي درس في الشريعة لأحد المؤهلين، يجيد مخاطبة العامة وتربية الناس, وهذا يقترحه صاحب إحياء علوم الدين , وهو من أحسن ما يكون.
الرابع: أن ننطلق جميعا مُشَرِّقين ومُغَرِّبين, نرفع الجهل عن الناس، ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر, فندخل البوادي والقرى والأرياف, داعين إلى منهج الله.
وقال غيري من الفضلاء: يعلم الله أنه يوجد من أهل المبادئ الضالة والأنظمة الظالمة من يضحي لمبدئه أعظم مما يضحي الموحد لتوحيده, والمسلم لإسلامه.
الخامس: أن نتخلى عن عقدة الخوف, أتدرون ما هي عقدة الخوف؟ إنها العقدة التى تصل إلى حد أن يخرج الإنسان من الملة وهو لا يشعر, وقد جعل الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله من نواقض لا إله إلا الله شرك الخوف, ونعرف أنه ليس في الحضور ولا في غيرهم من شباب الصحوة وأهل الإسلام من يعبد نجماً أو شجراً أو حجراً, ولكن منهم من يشرك شرك الخوف حتى يخرج من الملة, يخاف من البشر أكثر من خوفه من رب البشر, ويخاف من الناس أكثر من خوفه من رب الناس, والله يقول: {فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ} [آل عمران:175] ويقول: {وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة:40].
قرأت لأحد شعراء النبط ومعذرة في هذا, ولكني عجبت من قوته وجلده, وهو يعلن مبدأه في بيتين من الشعر وهو يخاطب بها بعض الظلمة, يقول:
أنا يا ترى مثلك يا ظالم، لا تظن الأرض وهي معك
وقوة الأرض أنها معك سوف تغلبنى، فأنا حملت مبادئى ومعي الله:
أنا يا ترى مثلك يحب العلا شجعان يراهم بروحه ما يخاف الشمالية
أنا بعت روحي من محمد ولد عدنان قبضت الثمن والله يشهد على النية
وما دام وصلنا إلى النبط، فمعذرة! فأنا سوف أختم كلامي ببعض الأبيات من الشعر النبطي بلهجة أهل الجنوب.
يا جميل الوصف بالله ما زرت القصيم ديرة فيها البطولات رمز أبطالها
العقيدة والمروات والدين العظيم زلزلت منها ديار الوفى زلزالها
من جنوب المملكة جيت والمنصىكريم عند ما تحيا الجزيرة بذا نبلى لها
وأكرر شكري لكم ودعائي, وأسأل الله أن يحشرنا وإياكم في مقعد صدق عند مليك مقتدر, وأن يجمعنا بالصالحين من عباده.
وأشكر أهل الفضل الذين شرفونى بالحضور، وتواضعوا للسماع مني، كالشيخ رئيس المحاكم عبد الرحمن العجلان، والمشايخ عموماً كالشيخ/ حمود العقلا , وغيره من الدعاة والخطباء وأهل الفضل, فشكر الله لهم ذلك، وما بقي من وقت فأتركه لفضيلة الداعية المسدد سلمان بن فهد العودة ومع الشيخ يقدمه لكم ثم يدلف إليكم.
كلمة المقدم:
إنا والله يا أبا عبد الله أعجز أن نكافيك أو نجازيك، يوم أسعدت بمقدمك, وآنست بطلعتك, وبعثت في القلوب بكلمتك من المعاني العظيمة ما أنعشها وأحياها وزكاها, فقد لامست بحديثك عن المعاناة جروحاً والله في القلوب راعفة, وحركت بحديثك عن الطموح همماً إلى المعالي سامية, لا نملك أن نكافيك ولا أن نجازيك، ولكننا ندعو لك ونسأل الله أن يجيب, نسأل الله أن يكتب لك ما احتسبت, نسأل الله جل جلاله أن يبارك في عمرك وينسأ في أجلك, ويجزيك عن رسالة محمد صلى الله عليه وسلم خير ما جزى داعياً عن دعوته, نسأل الله جل جلاله أن يسعد قلبك, ويقر عينك بعز الإسلام وظهور المسلمين.
أما الآن فمع كلمة شيخنا، الموعودين نحن بها، فليتفضل شيخنا أبو معاذ ليعقب بما تيسر والله يحفظه ويرعاه.(349/22)
استهداف شباب هذه الأمة
كلمة الشيخ سلمان العودة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على خاتم النبيين، وآله وأصحابه أجمعين.
أحبتي الكرام! كم هو محرج لي أن أجلس في هذا المجلس بين يدي مشايخي، كالشيخ عبد الرحمن والشيخ حمود والشيخ محمد بن صالح المنصور , وبقية المشايخ الذين حضروا إلى هذا المجلس المبارك، وهم كانوا أحق بهذا المجلس مني وأولى بالحديث مني.
أيها الأحبة الكرام: ليس لي حديث بعد هذا الكلام الطيب العذب, الذي تفضل به لنا الشيخ عائض بن عبد الله القرني، جزاه الله تعالى عنا خيراً, وبارك الله تعالى في أوقاته وفي جهوده.
أحبتي الكرام: شباب هذه الأمة اليوم كما هو ظاهر مستهدفون بحملة شرسة، تعمل على مسخ اهتماماتهم, وتوجيه تطلعاتهم إلى قضايا ثانوية, وإلى قضايا دونية, أصبح طموح الشاب وأصبحت البطولات التي تتراقص في ذهنه, وأصبحت المثل التي ينمناها ويتطلع إليها, ليست هي البطولات التي تحفظ لهذه الأمة تاريخها, وترفع هذه الأمة إلى مكانتها، وإنما تعلقت قلوب كثير من الشباب باهتمامات دنيوية, وطموحات عادية؛ بل أصبحت تطلعات كثير منهم لا أقول دنيوية وعادية فحسب، بل ربما ضد ما فيه مصلحة الإسلام والمسلمين.
أي فائدة تجنيها هذه الأمة المنكوبة المكلومة من سفور المرأة وتبرجها وتعريها؟!
وأي مصلحة تجتنيها وتكسبها من انشغالها بإعداد عجول آدمية لا يملكون إلا القوة في أيديهم وسواعدهم وأقدامهم فحسب, ولكن لا يملكون قلوباً قوية, ولا يملكون نفوساً أبية؟!
وأي فائدة تكسبها الأمة من الأصوات الصداحة التى لا تتغنى بالقرآن, وإنما تتغنى بحب فلانة وفلان؟!
إن الأمة اليوم ليس ما ينقصها هو المغني أو اللاعب, وإنما ينقصها الشاب الذى يحمل قلباً يتنزى من جراح المسلمين في كل مكان, والشاب الذى روحه تتطلع إلى نصرة الإسلام على يديه, والشاب الذي يملك نفساً تحترق لهموم المسلمين, والفتاة التي يهمها أن تكون قعيدة بيتها لتربي لنا أبطالاً، ليعيدوا لنا أمجاد السابقين.
كما تحدث فضيلة الشيخ عائض , أصبحنا اليوم نتكئ على تاريخنا كثيراً، فخطيبنا ومتحدثنا ومحاضرنا وفي مجالسنا لا يملك إلا أن يعدد مآثر سابقينا, فيقول: فلان فعل وفلان فعل.
وقد قيل:
كن ابن من شئت واكتسب أدباًً يغنيك محموده عن النسب
إن الفتى من يقول هأنذا ليس الفتى من يقول كان أبى
هذه الأمة أصبحت تجتر تاريخها, لأنها عقمت في حاضرها, فلم تجد من البطولات، ولم تجد من ألوان العظمة, ولم تجد من الجد والاجتهاد, ما تتحدث به في واقعها, ولهذا انكفأت على تاريخها تقلب صفحاته, كما ينكفئ التاجر إذا أفلس على أوراقه القديمة السابقة، لعله يجد ديوناً هنا أو ديونا هناك.
أصبحنا نتحدث عن ماضينا، ولا نتحدث عن حاضرنا, لا أقول: نتحدث عن ماضينا أكثر مما نتحدث حاضرنا, بل نتحدث عن ماضينا ولا نتحدث عن حاضرنا.
وأفلح عدونا فعلاً في إغراقنا بألوان من الهموم والمشاغل، من خلال غزو مُرَكَّز قامت به أجهزة الزور العالمية التي دخلت كل بيت وكل عقل وكل قلب وكل روح, فغيرت من نفسية الإنسان المسلم.
أصبح المسلم يعاني مسخاً منذ أن يستيقظ إلى أن ينام, ومنذ أن يولد ويكتب في دفتر التابعية إلى أن يدفن ويكتب في دفتر الوفيات.
يعاني مسخاً وتشويهاً وتغييراً لعقليته ولروحه ولإيمانه، لا يكاد يصمد له إلا الأقلون.
ولعلنا نعرف كم يصدر يومياً من المجلات والجرائد، ومن الكتب ومن الدواوين، ومن القصائد ومن القصص ومن المسلسلات!! وكم يوجه إلى عقل الشاب المسلم اليوم من ألوان التسلط التي تمسخ عقله وتغير فكره.
وكم تواجه الفتاة وهي في عقر دارها, حتى وهي في مدرستها, حتى وهي معزولة عن عالم الرجال, كم تواجه من ألوان التغيير والتضليل، التي جعلت كثيراً من الناس -كما تحدث الشيخ عائض حفظه الله- تنقطع صلتهم بماضيهم, وتنبتر صلتهم بتاريخهم, وتقل رابطتهم بإيمانهم, حتى أنك لا تجد منهم من يهتم بهذه الأمة, ولا من يعيش مشاعرها، وربما أصبح كثير منهم يعرفون من تاريخ أبطال الغرب وفنانيه ومخترعيه وصُنَّاعه ما لا يعرفون عن أبطالهم ولا عن تاريخهم، وربما استطاع كثير من هؤلاء -وقد رأيت هذا بعيني- أن يقرأ أغنية من أولها إلى آخرها, لكن ربما لو طلبت منه أن يقرأ سورة من كتاب الله عز وجل لعجز، ولو قرأ منها آيات لقرأها مكسرة مهشمة، يخطئ فيها في السطر الواحد مرات, أي مسخ أكثر من هذا؟!
والواقع أيها الأحبة أن الكثير لا يدركون ذلك, لماذا لا ندركه؟ لأن الكثيرين منا بحمد الله يعيشون في أجواء طيبة، وبين أوساط قوم صالحين, هذا يحفظ القرآن, وهذا يتلو كتاب الله, وهذا يتعلم السنة, وهذا يحضر مجالس الذكر, لكنْ هناك قسم آخر كبير جداً من المجتمع، لا علاقة لنا به, ولا ندرى ماذا يدور فيه, ولا عم يتحدثون, ولا ما هى اهتماماتهم وطموحاتهم, ولا ما هي معاناتهم, وكثير من هؤلاء قد مسخت عقولهم, وغيرت أفئدتهم, حتى أصبحت صلتهم بدينهم وواقعهم أبعد ما تكون, وأصبحت قلوبهم مع عدوهم وإن كانت أثوابهم أثوابنا, ولغتهم لغتنا, وربما كانت أسماؤهم اسماءنا, وهم من عوائلنا وأسرنا، لكن كثيرون منهم قد ذهب بهم الغرب كل مذهب, وغير عقولهم وأفئدتهم, وقلبهم فيما يحب ويشتهي, حتى إن الواحد منهم لا يحس بأدنى حسرة على هذا الواقع المرير الذى تعيشه أمة المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها, وهو يرى أمم الغرب والشرق تبلغ قمة المجد في دنياها، في تقدمها، وفي صناعتها، وفي علومها التى كان يجب أن تكون في أيدي المسلمين, فلا يعنيهم من أمر ذلك شيء.
بل إن الغرب نفسه أصبح يصدر إلينا التعاسة والفساد، والتوافه من الأمور، ويحتفظ لنفسه وأبنائه ولفتياته بالتقدم والعلم, ففي الوقت الذي يشغل الغرب فيه شبابه ذكوراً وإناثاً بالأمور النافعة, ويشغلهم بالأمور المفيدة على الأقل في دنياهم، أصبح الغرب يصدر إلينا من توافه البضائع، من المجلة الهابطة, ومن الأغنية المنحطة, ومن الأفلام الفاسدة, ومن البرامج الرديئة, أشياء وأشياء, وإن كان من أولادهم من ينشغل بها إلا أن منهم أيضاً من ينشغل بجلائل الأمور ومعاليها.
ونحن نعلم أنه حتى في مجال المرأة أصبحت جيوش كثير من أمم الكفر تجند النساء, لماذا تجند النساء؟ لخدمة عقائدهم ومبادئهم, نحن نربأ بأزواجنا وأخواتنا وبناتنا وأمهاتنا وقريباتنا عن ذلك؛ لأننا نعتبرهن درراً مصونة، تحفظ في بيوتها، ويقول الله تعالى لهن: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب:33] نحن نربأ ببناتنا ونسائنا وبأخواتنا المؤمنات عن مثل هذه المواقع.
لكننا نقول: إنها لعبة واضحة ومكشوفة, إن الغرب في الوقت الذي يجند حتى صاحبات السواعد الرخوة للدفاع عن مصالحه في أنحاء العالم, فإنه يصدر إلى شبابنا -وليس إلى فتياتنا فقط- ألوان الفساد والتعاسة, وألوان الانحراف والانحطاط, وها هو البث المباشر أصبحوا يهددوننا به صباح مساء, حتى يخترقوا بيوتنا وأخلاقنا وعقولنا وقلوبنا وأرواحنا, ويجعلوا شبابنا يعيشون في حالة لا يعلمها إلا الله.(349/23)
الأمة الإسلامية بحاجة إلى صحوة
أيها الأحبة: الأمة الإسلامية بحاجة إلى صحوة, وينبغي أن ندرك أنه إذا اجتمع في مسجد مثل هذا الجمع الطيب بالألوف, فإنه يوجد أعداد كبيرة من الشباب هم بأمس الحاجة إلى اليد الحانية، التي تأخذ بأيديهم إلى المسجد, وتربطهم بالله عز وجل, وتدعوهم إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وتتطلف معهم حتى تسوقهم سوقاً رفيقاً غير عنيف إلى مجالات الخير, ومجالات البر ومجالات الإحسان.
وإننا نعتبر أن مثل هذه المجالس -كما نعتبر مجالس العلم التي يحييها علماؤنا في كل مكان, ودروس تحفيظ القرآن, والدور الذي تقوم به المجالات الخيرية- نعتبر أنها نوع من المقاومة والكفاح، لا يقل عن ذلك الذي يحمل سيفه ويواجه العدو في ميدان المعركة, بل نحن نواجه عدواً أشرس وأعظم، لأن الذي يواجه العدو في ميدان المعركة قد حدد عدوه، وعرفه على وجه التحديد, وعرف جهته, وقد وجد في الواقع ما يثير حماسه ويلهبه, حتى أن كثيراً ممن يكون فيهم خوف وجبن إذا ذهبوا إلى ميادين القتال، وسمعوا أزيز الطائرات، وسمعوا طلقات المدافع، زال عنهم الخوف, وأصبحوا شجعاناً ينطلق الواحد منهم لا يلوي على شيء، وهو يتمنى أن يموت في سبيل الله, وهذا أمر مشاهد مجرب, الداعية يواجه عدواً مستتراً عدواً منافقاً عدواً يتظاهر بالود, يتظاهر بالخير, يتظاهر بمحبة الطيبين والخيرين، وأنه يريد الخير لهؤلاء الناس, ثم يدس السم الناقع، وإن من أصعب الأمور مواجهة أمثال هؤلاء، لأن الكثيرين تفتر حماستهم وتقل اندفاعاتهم نحو هذه المجاهدة, التي هي من أوجب المجاهدات في هذا الوقت, وما هذه الكلمات النيرات التي تقدم بها أخي الشيخ عائض حفظه الله وسدده ووفقه وجزاه عنا خيراً, إلا نبراس لهذا الطريق، فنحن أصبحنا اليوم أيها الإخوة مطالبين -حتى من كان منا عنده معصية، أو عنده بعض التقصير- مطالبين بأن ننقذ أنفسنا وننقذ بيوتنا.
من هو الذي يرضى أن يكون بيته مقتحما؟! من هو الذي يرضى أن يكون عدوه في قعر بيته يصل إلى أخته وإلى أخيه وإلى قرينته بل إلى زوجته في بعض الأحيان؟! والله إننا نعرف من أوضاع البيوت ومن أوضاع الشباب ومن أوضاع الفتيات ما يندى له الجبين, وندرك أن الشاعر كان على حق حين صاح منذ سنوات طوال وهو يقول:
مؤامرة تدور على الشباب ليعرض عن معانقة الحراب
مؤامرة تدور بكل بيت لتجعله ركاماًَ من تراب
هذا الشاب الذى تلتهب القوة الجسمانية في بدنه, ثم يرى على مرأى منه ومسمع صور الرذيلة، التي تصدر لنا من الشرق والغرب, وصور المرأة الجميلة، والأغنية الهابطة, ما هو الذي يعصمه من كل هذا؟! صحيح أن الإيمان يعظ قدراً من الناس، لكن كثيرين تضعف قوتهم, ويتأخرون ويستجيبون لمثل هذه النوازع الشهوانية, ويظل الشيطان يجرهم جراً من منحدر إلى منحدر, ومن درج إلى درج, حتى لا يصحو الواحد منهم إلا وهو في الحضيض، وقد أصبح مدمناً للمشاهدة, مدمناً للسماع, مدمناً للمخدرات, مدمناً لأي لون من ألوان الفساد, ويصعب عليه أن يتخلص من ذلك إلا بجهد جهيد.
فيا أيها الإخوة! ينبغى أن يعلن كل فرد منا -إن صح التعبير- حالة الطوارئ على نفسه وفي بيته, ويكون يقظاً مدركاً للمسئولية التى ألقيت على عاتقه، وأن يؤدي دوره في منزله, وفي زملائه، وفي حيه، وفي كل مجال يكون فيه على أحسن ما يكون أداء الدور.
وإذا لم تنفع اليوم -أيها الأخ- دينك وأمتك، فمتى يكون ذلك؟!
نحن على ثقة وعلى يقين من وعد الله ورسوله صلى الله عليه وسلم بأن هذا الدين منصور, والله الذي لا إله إلا غيره -وأقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً- إن هذا الدين منصور ولكن بسواعدنا؛ فإن الله كما يقول عن نفسه: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة:21] {وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات:173] فنصر هذا الدين إنما يكون بسواعد المؤمنين, وبجهادهم وبصبرهم وببلائهم وبدعوتهم إلى الله تعالى, لو شاء الله تعالى لأنزل ملائكة في الأرض يخلفون، وعن دين الله تعالى يذبون ويكافحون، ولكنه أراد أن يبلو بعضنا ببعض، ويختبر بعضنا ببعض, فلنكن من المجاهدين في سبيل الله, ولو بالكلمة الطيبة, ولو بالنصيحة الهادئة, ولو ببذل جهد بسيط في هذا السبيل.
فنحن نحتاج منك إلى أقل القليل من الجهد، وأقل القليل إذا أضيف إلى غيره؛ فإن الله تعالى يبارك فيه, خاصة إذا توافرت مع ذلك النية الصادقة, والخلق الحسن، والبسمة تكسو وجهك, وحب الخير للناس, لا تريد علواً في الأرض ولا فساداً, ولا تريد أن تمارس على الناس هيمنة أو تسلطاً أو أمراً أو نهياً, وإنما قصدك أن يهتدي الناس إلى دين الله وإن لم تعرف وإن لم تذكر، وإن لم يستجب لك الناس في شخصك, لكن يهمك أن يستجيبوا لدينك ولدعوتك حتى ولو كنت تحت أطباق الثرى.(349/24)
خاتمة
وأختم هذه الجلسة المباركة بالدعاء، أن يوفقنا الله جميعا لما يحبه ويرضاه, ويجعلنا جميعاً هداة مهتدين، غير ضالين ولا مضلين, وأن ينفع بنا دينه وينصر كلمته، ويعلي بنا سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم, وأن يرزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا, إنه على كل شيء قدير، وأدعو الله للشيخ عائض القرني أن يوفقه الله لما يحبه ويرضاه, وأن يملأ الله قلبه إيماناً وسعادة, إنه على كل شيء قدير.(349/25)
حكم قول: (سقط من عين الله)
السؤال
هذا يسأل قد سمعتك تكرر لفظة (سقط من عين الله) فهل هذه العبارة تليق بالله جل وعلا أم لا؟ وهل فيها تشبيه أم تمثيل أم لا؟ هذا للتنبيه، وأَعْلَمُ أنك قلتها بدون قصد.
الجواب
في الحقيقة لا أدري من المقصود، أنا أم الشيخ عائض، ولكن سأجيبك بعد أن أستسمح الشيخ في ذلك.
أنا أعتقد أن العبارة هذه ليس فيها شيء, وقد وردت في بعض الآثار على كل حال, والمقصود بها أن الإنسان إذا فعل معصية أو قصر في واجب, فكما ورد في بعض الأحاديث الصحيحة أن الله تعالى يعرض عنه, وما أشبه ذلك ولا يكون له عند الله المنزلة, ولا شك أن منزلة العبد عند ربه تكون بقدر إخلاصه وعمله وتقواه, فهذا هو المقصود, وهو مقصود صحيح، واللفظ ليس فيه شيء في حدود علمي, وإن كان فيه شيء، فحبذا أن ينبهنا مشايخنا إلى ذلك.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد, وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
سبحانك وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
والحمد لله رب العالمين.(349/26)
لا تحزن
هذه رسالة لكل مهموم ومغموم ومحزون، فيها دراسة جادة تعنى بمعالجة الجانب المأساوي في حياة البشر، من حيث الهم والغم، والاضطراب والقلق، والحيرة والكآبة، وفقد الثقة والإحباط.
هذه الرسالة حل لمشاكل العصر على نور الكتاب والسنة، والفطرة السوية، والتجارب الراشدة، والأمثال الحية.(350/1)
رسالة إلى كل مهموم ومغموم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
وبعد:
فعنوان هذه المحاضرة: (لا تحزن!)
وهي رسالة لكل مهموم ومغموم ومحزون، تقول له: لا تحزن.
وهي خطاب لكل مصاب ومبتلى، وكل من سحقته المشقة والعناء، تقول له: لا تحزن!
وهي نداء لكل من أحدقت به المصائب، وأحاطت به النكبات، وخنقته الأزمات، تقول له: لا تحزن!
وهي دعوة لمن فقد ابنه وفُجع بثمرة فؤاده، وأصيب بفصيله من أهل الدنيا، ونُعي إليه حبيبُه، تقول له: لا تحزن!
وهي أمل لكل من أثقلته الديون، وعضَّه الفقر، وأمضته الحاجة، وأحاطت به البأساء، تقول له: لا تحزن!
وهي مواساة لمن أقعده المرض، ونغص عيشه السقم، وأقض مضجعه الألم، وشرد نومه اليأس، تقول له: لا تحزن!
وهي عزاء لمن أُوصِدت عليه الأبواب، ولمن ذاق مرارة الغربة، واحتسى كأس الفراق، وشرب علقم الإحباط، تقول له: لا تحزن!
وهي سلوة لمن أشرف على الانتحار، ومل الحياة، وسئم العيش، وعاف البقاء، تقول له: لا تحزن!
عناصر المحاضرة:-
- إن مع العسر يسراً.
- فكِّر واشكُر.
- ما مضى فات.
- يومك يومك.
- اترك المستقبل حتى يأتي.
- كيف تواجه النقد الآثم؟
- لا تنتظر شكراً من أحد.
- الإحسان إلى الغير انشراح للصدر.
- اطرد الفراغ بالعمل.
- قضاءٌ وقدر.
- اصنع من الليمون شراباً حلواً.
{- أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:62].
- العِوَض من الله.
- الإيمان هو الحياة.
- اجنِ العسل ولا تكسر الخلية.
{- أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28].
- {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النساء:54].
- اقْبَل الحياةَ كما هي.
- تَعَزَّ بأهل البلاء.
- الصلاة الصلاة.
- {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173].
- {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} [الأنعام:11].
- {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف:18].
- وقفات.
وهذه هي التفاصيل:(350/2)
(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)
يا إنسانُ! بعد الجوع شبع، وبعد الظمأ رِي، وبعد السهر نوم، وبعد المرض عافية، وبعد الفقر غنى، وبعد السجن حرية، سوف يصل الغائب، ويهتدي الضال، ويُفك العاني، وينقشع الظلام: {فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ} [المائدة:52].
بشر الليل بصبح صادق يطارده على رءوس الجبال ومسارب الأودية، بشر المهموم بفرج مفاجئ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر، بشر المنكوب بلطف خفي وكف حانية وادعة.
إذا رأيت الصحراء تمتد وتمتد فاعلم أن وراءها رياض خضراء وارفة الظلال، وإذا رأيت الحبل يشتد ويشتد فاعلم أنه سوف ينقطع.
مع الدمعة بسمة، ومع الخوف أمن، ومع الفزع سكينة، النار لا تحرق إبراهيم التوحيد؛ لأن الرعاية الربانية فتحت نافذة: {بَرْداً وَسَلاماً} [الأنبياء:69].
البحر لا يغرق كليم الرحمن؛ لأن الصوت القوي الصادق نطق بـ {كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62].
المعصوم في الغار بشر صاحبه بأنه وحده سبحانه معنا، فنزل الأمن والفتح والسكينة.
إن عبيد ساعاتهم الراهنة وأرقاء ظروفهم القاتمة لا يرون إلا النكد والضيق والتعاسة؛ لأنهم لا ينظرون إلا إلى جدار الغرفة وباب الدار فحسب، ألا فليمدوا أبصارهم وراء الحُجب، ألا فليطلقوا أعنة أفكارهم إلى ما وراء الأسوار، ألا فليحسنوا الظن بالعزيز الغفار.
إذاً فلا تضِقْ ذرعاً فمن المحال دوام الحال، وأفضل العبادة: انتظار الفرج، الأيام دُوَل، والدهر قُلَّب، والليالي حُبالَى، والغيب مستور، والحكيم كل يوم هو في شأن، ولعل الله يحدث بعد ذلك أمراً: {وإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} [الشرح:6].
دع المقادير تجري في أعنتها ولا تبيتن إلا خالي البالِ
ما بين غمضة عين وانتباهتها يغير الله من حال إلى حالِ
وانظر إلى يونس بن متَّى عليه السلام في ظلمات ثلاث، لا أهل، ولا ولد، ولا صاحب، ولا حبيب، ولا قريب، إلا الله الواحد الأحد، فهتف بالكلمة الصادقة المؤثرة النافعة: {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء:87] فجاء الفرج.
ويعقوب عليه السلام يقول لأبنائه: {وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف:87].
فلا يأس والله يُدعَى، ولا قنوط والله يُرجَى، ولا خيبة والله يُعبَد، ولا إحباط والله يُؤمَن، جل في علاه، فإذا سألتَ فاسأل الله، وإذا استعنتَ فاستعن بالله، وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {واعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسراً}.
انظر إلى أخبار الأمم وقصص الدول، كيف غلب الله على أمره جل في علاه؛ لأنه الفعال لما يريد، فجاء باليُسر بعد العسر سبحانه، وفي حديثٍ حسن: {ولن يغلب عسرٌ يسرين}.
المنصور بن أبي عامر -الملك الأندلسي- حكم بقتل عالم من العلماء، وأعطى السياف ورقة، أراد أن يَكتب فيها: يُقتَل، فكتب: يُطلَق، فردَّها السياف إليه، فشطبها وكتبها: يُطلَق، فردها إليه، فشطبها وكتبها: يطلق، يريد أن يُقتَل، فلما كتب يُطلَق، تعجب واحتار، وقال: والله إنه لأمر الله جل في علاه، والله ما أردتُ إلا قتله، وإنه ليُطلَق على رغم أنفي، فأطلقه: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن:29].
سَهِرَت أعين ونامت عيونُ في شئونٍ تكون أو لا تكون
إن رباً كفاك ما كان بالأمسِ سيكفيك في غدٍ ما يكونُ(350/3)
فكِّر واشكُر
المعنى: أن تذكر نعم الله عليك، فإذا هي تغمرك من فوقك، ومن تحت قدميك: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم:34] صحة في بدن، أمن في وطن، غذاء وكساء، هواء وماء، لديك الدنيا وأنت لا تشعر، تملك الحياة وأنت لا تعلم: {وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20] عندك عينان، ولسان وشفتان، ويدان ورجلان، وأمن في أوطان: {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن:13] هل هي مسألة سهلة أن تمشي على قدميك وقد بُتِرَت أقدام؟! وأن تعتمد على ساقيك وقد قطعت سوق؟! أحقير أن تنام ملء عينيك وقد أطار الألم نوم الكثير؟! وأن تملأ معدتك من الطعام الشهي وأن تكرع من الماء البارد وهناك من عُكِّر عليه الطعام، ونغِّص عليه المنام بأمراض وأسقام؟!
تفكر في سمعك، وقد عوفيت من الصمم، تأمل في نظرك وقد سلمت من العمى، انظر إلى جلدك وقد نجوت من البرص والجذام، المح عقلك وقد أُنعِم عليك بحضوره، ولم تُفْجَع بالجنون والذهول.
أتريد في بصرك وحده كـ جبل أحد ذهباً؟! أتحب بيع سمعك بوزن ثهلان فضة؟! هل تشتري قصور الزهراء بلسانك فتكون أبكم؟! هل تقايض بيديك مقابل عقود اللؤلؤ والياقوت لتكون أقطع؟! إنك في نعم عميمة، وأفضال جسيمة، وآيات عظيمة؛ ولكنك لا تدري، تعيش مهموماً مغموماً حزيناً كئيباً، وعندك الخبز الدافئ، والماء البارد، والنوم الهانئ، والعافية الوارفة، تتفكر في المفقود ولا تشكر الموجود؟! تنزعج من خسارة مالية، وعندك مفتاح السعادة، وقناطير مقنطرة من الخير والمواهب والنعم والأشياء، فكِّر واشكُر! {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:21].
فكِّر في نفسك، وأهلك، وبيتك، وعملك، وعافيتك، وأصدقائك، والدنيا من حولك، {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا} [النحل:83].
صح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {من أصبح آمناً في سربه، معافىً في بدنه، عنده قوت يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها}.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: {ارضَ بما قسم الله لك تكن أغنى الناس}.
خذ القناعة من دنياك وارض بها لو لم يكن لك إلا راحة البدن
وانظر لمن ملك الدنيا بأجمعها هل سار منها بغير الطيب والكفنِ
ويقول أبو العتاهية:
رغيفُ خبز يابسٍ تأكله في زاويه
وكوز ماء بارد تشربه من صافيه
وغرفة خالية نفسك فيها راضيه
ومصحف تدرسه مستنداً لساريه
خير من السكنى بظـ ـلات القصور العاليه
من بعد هذا كله تُصلى بنار حاميه(350/4)
ما مضى فات
تذكرُ الماضي والتفاعل معه واستحضاره والحزن لمآسيه، قنوطٌ وجنونٌ، وقتلٌ للإرادة، وتبديد للحياة الحاضرة، إن ملف الماضي عند العقلاء يُطوَى ولا يُروَى، يُغلَق عليه أبداً في زنزانة النسيان، يُقيَّد بحبال قوية في سجن الإهمال، فلا يَخْرُج أبداً، ويُوصَد عليه فلا يرى النور؛ لأنه مضى وانتهى، لا الحزن يعيده، لا الهم يصلحه، لا الغم يصححه، لا الكَدَر يحييه؛ لأنه عدم؛ لا تَعِشْ في كابوس الماضي وتحت مظلة الفائت، انقذ نفسك من شبح الماضي؛ أتريد أن ترد النهر إلى مصبه! والشمس إلى مطلعها! والطفل إلى بطن أمه! واللبن إلى الثدي! والدمعة إلى العين؟!
إن تفاعلك مع الماضي وقلقك منه، واحتراقك بناره، وانطراحك على أعتابه، وضع مأساوي رهيب مخيف مفزع.
القراءة في دفتر الماضي ضياع للحاضر، وتمزيق للجهد، ونسف للساعة الراهنة، ذكر الله الأمم وما فعلت، ثم قال: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} [البقرة:134] وقال لأوليائه: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد:23] انتهى الأمر، قضيت المسألة لا طائل من تشريح جثة الزمان، وإعادة عجلة التاريخ.
إن الذي يعود للماضي كالذي يطحن الطحين وهو مطحون أصلاً، وكالذي ينشر نشارة الخشب، وقديماً قالوا لمن يبكي على الماضي: (لا تخرجوا الأموات من قبورهم).
وقد ذكر من يتحدث على ألسنة البهائم، أنهم قالوا للحمار: لم لا تجتر؟ قال: أكره الكذب.
إن بلاءنا أننا نعجز عن حاضرنا، ونشتغل بماضينا، نهمل قصورنا الجميلة، ونندب أطلالنا البالية، ولئن اجتمعت الإنس والجن على إعادة ما مضى لما استطاعوا؛ لأن هذا هو المحال بعينه.
إن الناس لا ينظرون إلى الوراء ولا يلتفتون إلى الخلف؛ لأن الريح تتجه إلى الأمام، والماء ينحدر إلى الأمام، والقافلة تسير إلى الأمام، فلا تخالف سنة الحياة.(350/5)
يومك!! يومك
اسمع إلى الأثر الثابت: [[إذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح]] اليوم فحسب ستعيش، فلا أمس الذي ذهب بخيره وشره، ولا الغد الذي لم يأتِ إلى الآن، اليوم الذي أظلتك شمسُه، وأدركك نهاره هو يومك فحسب، عمرك يوم واحد.
ما مضى فات والمؤمل غيب ولك الساعة التي أنت فيها
فاجعل في خلدك العيش لهذا اليوم، وكأنك ولدت فيه وتموت فيه، حينها لا تتأثر حياتك بين هاجس الماضي وهمه وغمه، وبين توقع المستقبل وشبحه المخيف وزحفه المرعب.
لليوم فقط اصرف تركيزك واهتمامك، لليوم فقط وجه إبداعك وكدك وجهدك، وفي هذا اليوم لا بد أن تقدم صلاة خاشعة، وتلاوة متدبرة، واطلاعاً بتأمل، وإبداعاً برُقي، وذكراً بحضور، واتزاناً في الأمور، وحسناً بخلق، ورضاً بالمقسوم، واهتماماً بالمظهر، واعتناءً بالجسم، ونفعاً للآخرين.
لليوم هذا الذي أنت فيه تعيش فتقسم ساعاته، وتجعل من دقائقه سنوات، ومن ثوانيه شهور، تزرع فيه الخير، تسدي فيه الجميل، تستغفر فيه من الذنب، تذكر فيه الرب، تتهيأ للرحيل، تعيش هذا اليوم فرحاً وسروراً، وأمناً وسكينة، ترضى فيه برزقك، بزوجتك، بأطفالك، بوظيفتك، ببيتك، بعملك، بمستواك، {فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراف:144].
تعيش هذا اليوم بلا حزن ولا انزعاج، ولا سُخط ولا حقد ولا حسد.
إن عليك أن تكتب على لوح قلبك عبارة واحدة، تجعلها أيضاً على مكتبك، تقول العبارة: (يومك يومك).
إذا أكلت خبزاً حاراً شهياً هذا اليوم، فهل يضرك خبز الأمس الجاف الرديء؟! أو خبز غدٍ الغائب المنتظَر، إذا شربت ماءً عذباً زلالاً هذا اليوم؛ فلِمَ تحزن من ماء أمس المالح الأُجاج، أو تهتم لماء غد الآسن الحار؟!
إنك لو صدقت مع نفسك بإرادة فولاذية صارمة عارمة حاسمة حازمة جازمة؛ لأخضعتها لنظرية: لَن أَعيش إلاَّ هذا اليوم، حينها تستغل كل لحظة في هذا اليوم في بناء كيانك وتنمية مواهبك وتزكية عملك فتقول: لليوم فقط أهذب ألفاظي، فلا أنطق هذواً أو فُحشاً أو سباً أو غيبة.
لليوم فقط سوف أرتب بيتي ومكتبتي، فلا ارتباك ولا بعثرة، إنما هو نظام ورتابة.
لليوم فقط سوف أعيش فأعتني بنظافة جسمي وتحسين مظهري، والاهتمام بهندامي، والاتزان في مشيتي وكلامي وحركاتي.
لليوم فقط سأعيش فأجتهد في طاعة ربي، وتأدية صلاتي على أكمل وجه، والتزوُّد بالنوافل، وتعاهد مصحفي، والنظر في كتبي، وحفظ فائدة، ومطالعة كتاب نافع.
لليوم فقط سأعيش، فأغرس في قلبي الفضيلة، وأجتث منه شجرة الشر بغصونها الشائكة، مِن كِبْر وعُجْب ورياء وحسد وحقد وغِل وسوء ظن.
لليوم فقط سوف أعيش فأنفع الآخرين، وأسدي الجميل إلى الغير، أعود مريضاً، أشيِّع جنازة، أدل حيراناً، أطعم جائعاً، أفرج عن مكروب، أقف مع مظلوم، أدفع لضعيف، أواسي منكوباً، أكرم عالماً، أرحم صغيراً، أجل كبيراً.
لليوم فقط سأعيش.
فيا ماضٍ ذهب وانتهى! اغرب كشمسك، فلن أبكي عليك، ولن تراني أقف لأتذكرك لحظة؛ لأنك تركتنا وهجرتنا ورحلت عنا، ولن تعود إلينا أبد الآبدين.
ويا مستقبل! أنت في عالم الغيب، فلن أتعامل مع الأحلام، ولن أبيع نفسي مع الأوهام، ولن أتعجل ميلاد مفقود؛ لأن غداً لا شيء؛ لأنه لم يُخلق؛ ولأنه لم يكن شيئاً مذكوراً.
يومك يومك! أيها الإنسان! أروع كلمة في قاموس السعادة لمن أراد الحياة في أبهى صورها، وأجمل حللها.(350/6)
اترك المستقبل حتى يأتي
{أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل:1] لا تستبق الأحداث، أتريد إجهاض الحمل قبل إتمامه؟! وقطع الثمرة قبل النضج؟! إن غداً مفقود لا حقيقة له، ليس له وجود، ولا طعم، ولا لون، ولا رائحة، فلماذا نفتن أنفسنا به، ونتوجس من مصائبه، ونهتم لحوادثه، ونتوقع كوارثه، ولا ندري هل يُحال بيننا وبينه أو نلقاه؟ فإذا هو سرور ونور وحبور، المهم أنه في عالم الغيب، لم يصل إلى الأرض بعد، إن علينا ألا نعبر جسراً حتى نأتيه، ومن يدري؟ لعلنا نقف قبل وصول الجسر، أو لعل الجسر ينقطع بنا، وربما وصلنا الجسر ومررنا بسلام.
لعمرك ما تدري الضوارب بالحصى ولا زاجرات الطير ما الله صانعُ
لا يعلم الغيب إلا الله، فانتظر موعودك مع الحياة، وكن سعيداً بيومك.
إن إعطاء الذهن مساحةً أوسع للتفكير في المستقبل وفتح كتاب الغيب ثم الاكتواء بالمزعجات المتوقعة ممقوت شرعاً؛ لأنه طول أمل، ومذموم عقلاً؛ لأنه مصارعة للظل.
إن كثيراً من هذا العالم يتوقع في مستقبله الجوع والعري والمرض والفقر والمصائب، وهذا كله من مقررات مدارس إبليس: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً} [البقرة:268] كثيرون هم الذين يبكون؛ لأنهم سوف يجوعون غداً، وسوف يمرضون بعد سنة، وسوف ينتهي العالم بعد مائة عام، إن الذي عمره في يد غيره لا ينبغي له أن يراهن على العدم، والذي لا يدري متى يموت، لا يجوز له الاشتغال بشيء مفقود لا حقيقة له.
اترك غداً حتى يأتيك، لا تسأل عن أخباره، لا تنتظر زحوفه؛ لأنك مشغول باليوم.
وإن تعجب، فعجب هؤلاء الذي يقترضون الهَمَّ نقداً ليقضوه نسيئة في يوم لم تشرق شمسُه، ولم يرَ نوره، فحذارِ من طول الأمل!(350/7)
كيف تواجه النقد الآثم
الرقعاء السخفاء الحمقى السافهون سبوا الخالق الرازق جل في علاه، شتموا الواحد الذي ذهب بالجمال والكمال والجلال، لا إله إلا هو! فماذا نتوقع أنا وأنت ونحن أهل الحيف والخطأ؛ إنك سوف تواجه في حياتك حرباً ضروساً لا هوادة فيها من النقد الآثم المر، ومن التحطيم المدروس المخصوص، ومن الإهانة المتعمدة، ما دام أنك تعطي، وتبني وتؤثر، وتسطع وتلمع وتبدع، ولن يسكت هؤلاء عنك حتى تتخذ نفقاً في الأرض أو سلماً في السماء فتفر من هؤلاء، أما وأنت بين أظهرهم فانتظر منهم ما يسوؤك، ويبكي عينك، ويدمي مقلتك، ويقض مضجعك.
إن الجالس على الأرض لا يسقط، والناس لا يرفسون كلباً ميتاً؛ لكنهم يغضبون عليك؛ لأنك فُقْتَهم صلاحاً أو علماً أو أدباً أو مالاً أو بياناً أو جهداً، فأنت عندهم مذنب لا توبة لك حتى تترك مواهبك، ونعم الله عليك، وتنخلع من كل صفات الحمد، وتنسلخ من كل معاني النبل، وتبقى بليداً غبياً صفراً محطماً مكدوداً، هذا ما يريدون بالضبط.
إذاً: فاصمد لكلام هؤلاء، إذاً: (فاثبت أُحُد) واصبر على نقدهم وتشويههم وتجريحهم وتحقيرهم، وكن كالصخرة الصامدة المهيبة تتكسر عليها حبات البرد، لتثبت وجودها وتعلن صمودها، وقدرتها على البقاء.
إنك إن أصغيت لكلام هؤلاء وتفاعلت به حققت أمنيتهم الغالية في تعكير حياتك وتكدير عمرك، ألا فاصفح الصفح الجميل، ألا فاعرض عنهم وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ.
إن نقدهم السخيف ترجمة محترمة لك، وبقدر وزنك يكون النقد الآثم المفتَعَل.
إنك لن تستطيع أن تغلق أفواه البشر، ولن تستطيع أن تعقد ألسنتهم؛ لكنك تستطيع أن تدفن نقدَهم وتجنيهم بتجافيك لهم وإهمالك لشأنهم، واطراحك لأقوالهم: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ} [آل عمران:119].
وكِلْمَةِ حاسد من غير جُرْم سمعتُ فقلت مُرِّي فانفُذِيني
وعابوها عليَّ ولم تعبني ولم يندى لها أبداً جبيني
حسدوا الفتى إن لمن ينالوا سعيه فالناس أعداء له وخصومُ
كضرائر الحسناء قُلْنَ لوجهها حسداً وبغياً إنه لدميمُ
...
وشكوتَ من ظلم الوشاة ولم تَجد ذا سؤدد إلا أُصيبَ بِحُقَّدِ
لا زلت سِبْط الكرام مُحَقَّداً والتافه المسكين غير مُحَقَّدِ
إنك تستطيع أن تصب في أفواه هؤلاء خَرْدلاًَ بزيادة فضائلك، وتربية محاسنك، وتقويم اعوجاجك.
إن كنت تريد أن تكون مقبولاً عند الجميع، محبوباً لدى الكل، سليماً من العيوب عند العالم، فقد طلبت مستحيلاً، وأمَّلت أملاً بعيداً، ألا يكفيك أن الواحد جل في علاه، القهار تباركت أسماؤه، الكامل تقدست آلاؤه، يقول: {يسبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، ويشتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما سبه إياي -تعالى الله في عليائه- فإنه يسب الدهر وأنا الدهر أقلب الليل والنهار، وأما شتمه إياي فإنه يقول: إني اتخذت صاحبة وولداً وأنا الله لم أتخذ صاحبة ولا ولداً} وهذا هو الله جل في علاه، ورسولنا صلى الله عليه وسلم، عندما بلغ الكمال البشري سُبَّ وشُتِمَ وهُجِيَ وقيل له: ساحر، وشاعر، وكاهن، وكذاب، ومجنون، فنزل عليه: {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ} [الحجر:85] {فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً} [المعارج:5].(350/8)
لا تنتظر شكراً من أحد
خلق الله العباد ليذكروه، ورزق الله الخليقة ليشكروه، فعبد الكثير غيره، وشكر الغالب سواه؛ لأن طبيعة الجحود والنكران والجفاء وكفران النعم غالبة على النفوس، فلا تصدم إذا وجدت هؤلاء قد كفروا جميلك، وأحرقوا إحسانك، ونسوا معروفك، بل ربما ناصبوك العداء، ورموك بمنجنيق الحقد الدفين، لا لشيء إلا لأنك أحسنت إليهم: {وَمَا نَقَمُوا إِلّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} [التوبة:74].
وطالع سجل العالم المشهود، فإذا في فصوله قصة أبٍ ربى ابنه وغذَّاه، وكساه وأطعمه وسقاه، وأدَّبه وعلَّمه، سهر لينام، جاع ليشبع، تعب ليرتاح، فلما طَرَّ شارب هذا الابن وقوي ساعده؛ أصبح لوالده كالكلب العقور، استخفافاً، وخسة، وازدراءً، ومقتاً، وعقوقاً صارخاً، وعذاباً وبيلاً، وبغياً أثيماً.
وربيتُه حتى إذا ما تركتُه أخا القوم واستغنى عن المسح شاربُه
تغمط حقي ظالماً ولوى يدي لوى يده الله الذي هو غالبه
ألا فليهدأ الذين احترقت أوراق جميلهم عند منكوسي الفِطَر، ومحطَّمي الإرادات، وليهنئوا بعظم المثوبة عند من لا تنفد خزائنه.
إن هذا الخطاب الحار لا يدعوك لترك الجميل، وعدم الإحسان للغير، وإنما يوطنك على انتظار الجحود والتنكر لهذا الجميل والإحسان، فلا تبتئس بما كانوا يصنعون.
اعمل الخير لوجه الله؛ لأنك الفائز على كل حال، ثم لا يضرك غمط من غمطك، ولا جحود من جحدك، واحمد الله لأنك المحسن وهو المسيء، {واليد العليا خير من اليد السفلى} {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً} [الإنسان:9] وانظر إلى أبي بكر رضي الله عنه، دفع أمواله ووقته ودموعه ودمه وأعتق الرقاب، وساوى السلاح في سبيل الله، ثم لَمَّا أراد أن يُثامَن قال: [[والله لا أطلب الثمن إلا من الله]] فقال الله لـ أبي بكر: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21] فيا له من ثواب عظيم!
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه لا يذهب العرف بين الله والناسِِ
وانظر إلى الأنصار، دفعوا أراضيهم، بذلوا نفوسهم، قدموا أرواحهم، استبسلوا بدمائهم، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يُثامِنَهم بمكان هذا الجنة.
وقد ذهل كثير من العقلاء من جبلَّة الجحود عند الغوغاء، وكأنهم ما سمعوا الوحي الجليل وهو ينعي على الصنف عتوه وتمرده: {مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} [يونس:12] لا تفجأ إذا أهديت بليداً قلماً فكتب به هجاءك، أو منحت جافياً عصاً يتوكأ عليها ويهش بها على غنمه فشج بها رأسك، هذا هو الأصل عند هذه البشرية المحنطة في كفن الجحود مع باريها جل في علاه، فكيف بها معي ومعك؟!
أعلِّمه الرماية كل يوم فلما اشتد ساعده رماني
وكم علَّمته نَظْم القوافي فلما قال قافية هجاني(350/9)
الإحسان إلى الغير انشراح للصدر
الجميل كاسْمِه، والمعروف كرَسْمِه، والخير كطعمه، أول المستفيدين من إحسان الناس هم المتفضلون بهذا الإسعاد، يجنون ثمرته عاجلاً في نفوسهم، وأخلاقهم، وضمائرهم، فيجدون الانشراح، ويحسون بالانبساط، ويعيشون الهدوء، ويلمسون السكينة.
فإذا طاف بك طائف من همٍّ، أو أَلَمَّ بك غم فامنح غيرك معروفاً، واسْدِ له جميلاً، تجد الفرج والراحة.
اعط محروماً، انصر مظلوماً، انقذ مكروباً، أطعم جائعاً، عُدْ مريضاً، واسِ منكوباً، تجد السعادة تغمرك من بين يديك ومن خلفك.
إن فعل الخير كالمسك ينفع حامله وبائعه ومشتريه، وعوائد الخير النفسية عقاقير مباركة تصرف في صيدلية الذين عُمرت قلوبهم بالبر والإحسان.
إن توزيع البسمات المشرقة على فقراء الأخلاق صدقة جارية في عالم القيم: {ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق} وإن عبوس الوجه إعلان حرب ضروس على الآخرين، لا يعلم قيامها إلا علام الغيوب.
شربة ماء من كف بغي لكلب عقور؛ أثمرت دخول جنة عرضها السماوات والأرض؛ لأن صاحب الثواب غفور، شكور، يحب العفو، محسن، غني، حميد.
يا من تهددهم كوابيس الشقاء! يا من ترهبهم أحلام الفناء! يا من يزلزلهم الفزع! يا من يهزهم القلق والخوف! هلموا إلى بستان المعروف، تشاغلوا بالغير عطاءً وضيافة ومواساة وإعانة وخدمة، وستجدون السعادة طعماً ولوناً وذوقاً: {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى * إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل:19 - 21].(350/10)
اطرد الفراغ بالعمل
{وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105].
الفارغون في الحياة هم أهل الأراجيف والشائعات، هم أهل أحلام اليقظة؛ لأن أذهانهم موزعة: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ} [التوبة:87].
إن أخطر حالات الذهن يوم يفرغ صاحبه من العمل فيبقى كالسيارة المسرعة في انحدار بلا سائق، تجنح ذات اليمين وذات الشمال، ويوم تجد في حياتك فراغاً فتهيأ حينها لِلْهَم والغم والفزع؛ لأن هذا الفراغ يسحب لك ملفات الماضي والحاضر والمستقبل من أدراج الحياة، سيجعلك في أمر مريج، ونصيحتي لك ولنفسي أن تقوم بأعمال مثمرة بدلاً من هذا الاسترخاء القاتل؛ لأنه وأد خفي، وانتحار بكبسول مسكِّن.
إن الفراغ أشبه بالتعذيب البطيء الذي يمارَس في سجون الصين؛ بوضع السجين تحت أنبوب يقطر كل دقيقة قطرة، وفي فترات انتظار هذه القطرات يُصاب السجين بالجنون.
الراحة غفلة، والفراغ لص محترف، وعقلك فريسة ممزقة لهذه الحروب الوهمية.
إذاً: قم الآن، صلِّ، اقرأ، سبح، طالع، اكتب، رتِّب، أبدع، اعمل، تحرك، انفع غيرك؛ حتى تقضي على الفراغ، وإِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ.
اذبح الفراغ بسكين العمل، ويضمن لك أطباء العالم (50 %) من السعادة مقابل هذا الإجراء الطارئ فحسب، انظر إلى الفلاحين والخبازين والبنائين، يغردون بالأناشيد كالعصافير في سعادة وراحة، وأنت على فراشك تمسح دموعك، وتضطرب مكانك كأنك ملدوغ.(350/11)
قضاءٌ وقدر
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:22] فليعلم مَن جَهِل، وليدرِ مَن غفل، جف القلم، رُفعت الصحف، قُضي الأمر، كتبت المقادير: {لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة:51] {عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا} [الأعراف:89] {حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران:173] {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر:44].
دعها سماوية تجري على قدر لا تفسدنها برأي منك منكوس
سهرت أعين ونامت عيونٌ في شئون تكون أو لا تكونُ
إن رباً كفاك ما كان بالأمس سيكفيك في غدٍ ما يكونُ
واسمع إلى العامي ذي الفطرة الصحيحة يقول:
لا تِشْتِكِ يا واحداً باتْ مهمومْ تَرى الفرح عندِ اقترابِ الحزام
وانْ كان عِيْنَك خالفتْ لذة النومْ إنتَ تنام وخالقك ما ينام
{ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك}.
إن هذه العقيدة إذا رسخت في نفسك، وقرَّت في ضميرك، صارت البلية عطية، والمحنة منحة، وكل الوقائع جوائز وأوسمة، و {مَن يرد الله به خيراً يُصِبْ مِنْه} فلا يصبك قلق من مرض، أو موت ابن، أو خسارة مالية، أو احتراق بيت، فإن الباري قد قدَّر، والقضاء قد حلَّ، والاختيار هكذا، والخيرة لله، والأجر حصل، والذنب غُفر.
هنيئاً لأهل المصائب صبرهم ورضاهم عن الآخِذ المعطي القابض الباسط، {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء:23] ولن تهدأ أعصابك، ولن تسكن بلابل نفسك، ولن تذهب وساوس صدرك حتى تؤمن بالقضاء والقدر، جف القلم بما أنت لاقٍ، فلا تذهب نفسك حسرات، لا تظن أن بوسعك إيقاف الجدار أن ينهار، وحبس الماء أن ينسكب، ومنع الريح أن تهب، وحفظ الزجاج أن ينكسر، هذا ليس بصحيح، على رغمي ورغمك سوف يقع المقدور، وينفذ القضاء، ويحل المكتوب {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29].
استسلم للقدر قبل أن تطوَّق بجيش السخط والتذمر والعويل، اعترف بالقضاء قبل أن يداهمك سيل الندم.
إذاً: فليهدأ بالك إذا فعلت الأسباب، وبذلت الحيَل، ثم وقع ما كنت تحذر، فهذا هو الذي كان ينبغي أن يقع: {ولا تقل: لو أني فعلتُ كذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل}.
واسمع إلى الجوائز وإلى الأوسمة وإلى الأُعطيات للصابرين المحتسبين: صح عنه عليه الصلاة والسلام أن الله يقول: {ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قبضتُ صفيه من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة}.
وقال سبحانه في الحديث القدسي الصحيح: {من ابتليتُه بحبيبتيه -أي: بعينيه- فصبر عوَّضتُه عنهما الجنة}.
وصح عنه عليه الصلاة والسلام عن ربه أنه قال: {إذا قبض ابن العبد المؤمن قال الله لملائكته وهو أعلم: قبضتم ابن عبدي المؤمن؟ قالوا: نعم.
قال: قبضتم ثمرة فؤاده؟ قالوا: نعم.
قال: فماذا قال عبدي؟ قالوا: حمدك واسترجع، قال: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة، وسموه بيت الحمد}.
وانظر إلى الأولياء كيف يصبرون على المقدور: هذا عروة بن الزبير يسافر سفراً طويلاً من المدينة إلى الشام، عروة الذي كان كان يختم القرآن كل أربعة أيام، عروة الذي يقوم ثلث الليل، عروة الذي كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، عروة البحر الذي قال عنه الزهري: لا تكدره الدِّلاء.
سافر إلى الشام؛ ولكنه كان سفراً بعيداً شاقاً حتى إنه قال بعد السفر: {لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَباً} [الكهف:62] سافر معه ابنه محمد، وذهب إلى هناك، ونزل في بيت، وأصابته الآكلة في رجله، فوصلت قدمه، فأرادوا بتر القدم فصبر، فسرت إلى الساق فأرادوا بتر الساق فصبر، فسرت إلى الفخذ، فقرر الأطباء بتر فخذه، وقدموا له كأساً من الخمر وهو الولي العالم الصادق الزاهد، فقال: [[أأشرب خمراً؟ قيل له: ليذهب عقلك؛ لئلا تجد ألماً، قال: والله لا أشربها، كيف أُذهب عقلاً منحنيه ربي؟! كيف أرتكب محرماً؟! ولكن إذا دخلتُ في صلاتي، فسوف أنسى ألمي، فاقطعوا رجلي]] فكبَّر واسترسل في صلاته، وسافرت روحه إلى الملكوت العليا، كما قال الأول:
إذا كان حب الهائمين من الورى بسلمى وليلى يسلب اللب والعقلا
فماذا عسى أن يصنع الهائم الذي سرى قلبه شوقاً إلى العالَم الأعلى
وبتروا رجله، وأغمي عليه، واستفاق ليقول أول كلمة، وينبس بأول جملة، فيقول: [[اللهم لك الحمد، إن كنتَ أخذتَ فقد أعطيتَ، وإن كنتَ ابتليتَ فقد عافيتَ]] قال له الناس: أحسن الله عزاءك في رجلك، وأحسن الله عزاءك في ابنك محمد؛ فإنه بينما كانت تُقطع رجلُك ذهب إلى اسطبل الخيل فرَفَسَتْهُ فرس فمات، فعاد مرة ثانية ليبعث رسالة حارة إلى الحي القيوم المتفضل سبحانه ليقول: [[اللهم لك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد إذا رضيتَ، ولك الحمد بعد الرضا، أعطيتني أربعة أعضاء وأخذتَ عضواً، وأعطيتني أربعة أبناء وأخذتَ ابناً، فأنت المتفضل صاحب الجميل]].
والمرأة السوداء، صح الحديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أتى وإذا هي تَصْرَع وتمرض وتتكشَّف، يعيث بها المرض، ويزلزلها ويقلقها، تضطرب منه، فقال صلى الله عليه وسلم وهو يَعرض عليها الخيار، وهي أمة سوداء؛ لكنها مؤمنة بالله، مسلمة بالقضاء والقدر: {إن شئتِ دعوتُ الله لكِ فكافاكِ، وإن شئتِ صبرتِ واحتسبتِ ولك الجنة، قالت: بل أصبر وأحتسب، لكن ادعُ الله لي ألا أتكشَّف} قال عطاء: [[من أراد أن ينظر إلى امرأة من أهل الجنة فلينظر إلى هذه المرأة السوداء]].(350/12)
اصنع من الليمون شراباً حلواً
الذكي الأريب يحول الخسائر إلى أرباح، والجاهل الرعديد يجعل المصيبة مصيبتين.
طُرد الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة فأقام في المدينة دولة.
سُجن الإمام أحمد فصار إمام السنة، وحُبس ابن تيمية فصار علم الأمة، وُضع السرخسي في قعر بئر معطلة فأخرج ثلاثين مجلداً في الفقه، أقعد ابن الأثير فصنف أربعين مصنفاً، نُفي ابن الجوزي فتعلم القراءات، أصابت الحمى مالك بن الريب فصار شاعر الدنيا، ومات أبناء أبي ذؤيب الهذلي فرثاهم بإلياذة أنصت لها الدهر، وذهُل منها الجمهور، وصفق لها التاريخ.
إذا داهمتك داهية فانظر في الجانب المشرق منها، وإذا ناولك أحدهم كوب ليمون، فأضف إليه حفنة من سكر، وإذا أهدى لك أحدهم ثعباناً فخذ جلده الثمين واترك باقيه، وإذا لدغتك عقرب فاعلم أنه مصل واقٍ ومناعة حصينة ضد سم الحيات.
تكيف في ظرفك القاسي لتخرج لنا منه زهراً وورداً وياسميناً: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ} [البقرة:216].
سجنت فرنسا قبل ثورتها العارمة شاعرَين مجَيدَين، متفائلاً ومتشائماً، فأخرجا رأسيهما من نافذة السجن.
فأما المتفائل فنظر نظرة في النجوم فضحك، وأما المتشائم فنظر في الطين فبكى.
انظر إلى الوجه الآخر للمأساة؛ لأن الشر المحض ليس موجوداً أصلاً، بل هناك خير ومكسب وفتح وأجر.(350/13)